الاستخفاف بالدین

هوية الکتاب

سلسلة: لنكن لهم زيناً

الحلقة الأُولىٰ

الاستخفاف بالدِّين

تأليف

الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي

تقديم

معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية

الطبعة الأُولىٰ: 1440ه_

العدد: 1000 نسخة

جميع الحقوق محفوظة للمعهد

ص: 1

اشارة

سلسلة: لنكن لهم زيناً

الحلقة الأُولىٰ

الاستخفاف بالدِّين

تأليف

الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي

تقديم

معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية

الطبعة الأُولىٰ: 1440ه_

العدد: 1000 نسخة

جميع الحقوق محفوظة للمعهد

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدِّمة المعهد:

لا يخفىٰ ما للأخلاق من أهمّية كبرىٰ في حياة الإنسان، فبها يستطيع أن يتواصل مع الآخرين إيجاباً وسلباً، ولا شكَّ أنَّ المعرفة تتدخَّل في هذا الجانب من الحياة لتضفي عليه أُطُراً واضحة للتعامل المنهجي مع الآخر.

فبالمعرفة وتطبيقها يستطيع المرء أن يشقَّ طريقه في هذه الحياة، ليكون عنص_راً مؤثِّراً في المجموعة، بحيث يفتقده الناس إذا غاب، ويستأنسون به إذا حضر.

من هنا، نجد النصوص الدينية تُؤكِّد علىٰ ضرورة أن يعمل المرء علىٰ أن يزيد من معارفه العلمية، بش_رط أن تكون ضمن الحدود الإنسانية والدِّينية، وأن يجعل من سلوكه لوحة مرسومة تُترجِم تلك المعارف الإنسانية والدِّينية.

من هنا، كان معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية أحد المؤسَّسات العلمية التي تهدف إلىٰ نش_ر المعارف الإلهيَّة، وإيصالها إلىٰ أكبر عدد ممكن من المتلهِّفين لارتشاف تلك المعارف.

وللتعريف العامِّ بالمعهد ونشاطاته نذكر النقاط التالية:

أوَّلاً: أنَّ المعهد مؤسَّسة علمية حوزوية تُدِّرس المناهج الدِّينية المعَدَّة لطُلّاب الحوزة العلمية في النجف الأشرف.

ص: 3

ثانياً: أنَّ الموادَّ الدراسية تُعَدُّ علىٰ أيدي أساتذة متخصِّصين، وتُدرَّسُ من قِبَل أساتذة أكْفاء في حوزة النجف الأشرف.

ثالثاً: الدراسة في المعهد عن طريق الانترنيت وليست مباشرة، وهي لمدَّة ثلاث سنوات، والسنة الرابعة تطبيقية عملية.

رابعاً: أنَّ المعهد يساهم في نش_ر وترويج المعارف الإسلاميَّة وعلوم آل البيت (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) ووصولها إلىٰ أوسع شريحة ممكنة من المجتمع، وذلك من خلال توفير المواقع والتطبيقات الإلكترونية التي يقوم بإنتاجها كادر متخصِّص من المبرمجين والمصمِّمين في مجال برمجة وتصميم المواقع الإلكترونية والتطبيقات علىٰ أجهزة الحاسوب والهواتف الذكيَّة.

خامساً: بالنظر للحاجة الفعلية في مجال التبليغ الإسلامي النسوي فقد أخذ المعهد علىٰ عاتقه تأسيس جامعة متخصِّصة في هذا المجال، فتمَّ إنشاء جامعة أُمِّ البنين (عَلَيْهِا اَلسَّلاَمُ) الإلكترونية لتلبية حاجة المجتمع وملء الفراغ في الساحة الإسلاميَّة لإعداد مبلِّغات رساليّات قادرات علىٰ إيصال الخطاب الإسلامي بطريقة علمية بعيدة عن الارتجال في العمل التبليغي.

سادساً: أنَّ المعهد لم يُهمِل الجانب الإعلامي، فبادر إلىٰ إنشاء مركز القمر للإعلام الرقمي، الذي يعمل علىٰ تقوية المحتوىٰ الإيجابي علىٰ شبكة الانترنيت ووسائل الإعلام الاجتماعي، حيث يكون هذا المحتوى موجَّهاً لإيصال فكر أهل البيت (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) وتوجيهات المرجعية الدِّينية العليا إلىٰ نطاق واسع من الش_رائح المجتمعية المختلفة وبأحدث تقنيات الإنتاج الرقمي وبأساليب خطابية تناسب المتلقّي العصري.

ص: 4

سابعاً: أنَّ المعهد يقوم بطباعة ونش_ر الإنتاج الفكري والعلمي لطلبة العلم، ضمن سلسلة من الإصدارات - صدر منها إلىٰ الآن ستَّة

كُتُب في مختلف العناوين العقائدية والفقهية والأخلاقية - التي تهدف إلىٰ ترسيخ العقيدة والفكر والأخلاق، بأُسلوب بعيد عن التعقيد، يستقي معلوماته من مدرسة أهل البيت (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) الموروثة.

وبين يديك عزيزي القارئ، سلسلة من الكُتُب الأخلاقية، التي كتبها مؤلِّفها سماحة الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي، بأُسلوب واضح، تُمثِّل خُطُوات عملية لتنشئة جيل يتمحور سلوكه حول مرجعية القرآن الكريم وسُنَّة الرسول الأكرم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وأهل بيته الطاهرين (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ).

نسأل الله (عزوجل) أن يجعل عملنا في عينه، وأن يتقبَّله بقبوله الحسن، إنَّه سميع مجيب.

إدارة المعهد

ص: 5

ص: 6

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة المؤلِّف:

عندما نطالع مفردات الحياة، نجد أنَّ هناك سُنَناً تدير دفَّتها بكلِّ انضباط ودقَّة، فالشمس تخطو بخُطُوات ثابتة في مدارها منذ آلاف السنين، تتناوب مع القمر في الإطلال علىٰ وجه الأرض، وانضباطهما في مداريهما جعل علماء الفلك يتنبَّؤون بمستقبل أيّام سيرهما، فحدَّدوا مواعيد غروب الشمس وشروقها ومواعيد الكسوف والخسوف بكلِّ دقَّة، وما استطاعوا أن يجزموا بتلك المواعيد لو كانت الشمس أو القمر غير منضبطين في سيرهما وخُطُواتهما.

قال تعالىٰ: «وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ 38 وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّىٰ عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ 39 لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ 40» (يس: 38 - 40).

ألق ببص_رك إلىٰ سرب من الطيور التي تُحلِّق في السماء، أو إلىٰ مجموعة من النمل التي تعمل بكلِّ جدٍّ وجهد، أو إلىٰ خلية نحل تلعق الرحيق من الأزهار، أو إلىٰ مجموعة من الأسماك التي تغوص البحار، ستجد أنَّها تنضبط وفق أوامر (غريزية فطرية) تمام الانضباط، وأيُّ استخفاف بالخطَّة المرسومة يعني شذوذاً عن المجموعة، وخروجاً عن ربقتها.

ص: 7

لاحظ أنَّ بذرة معيَّنة إذا وُفِّرت لها الظروف الملائمة فإنَّها ستشقُّ الأرض لتمدَّ عنقها رويداً رويداً، لتُعطي ثمرة من نفس الصنف الذي أُخذِتْ منه، وما رأينا في سالف الأيّام بذرة ليمون أثمرت تمرةً، ولا بذرة تفّاحة أنتجت شوكة!

بل حتَّىٰ (الزلازل) و(البراكين) تتحرَّك ضمن قانون منضبط، وإن كان يصعب التنبُّؤ به.

والنتيجة: أنَّ (الانضباط) و(الدقَّة في التنفيذ) عناصر تتحكَّم في مفردات الكون.

الملاحظة المهمَّة هنا: هو أنَّ الانضباط و(عدم الاستخفاف) لا يُمثِّل قانوناً في التكوين فقط، وإنَّما هو من أهمّ عناصر (النجاح) في هذه الحياة، فمن دون انضباط لن تحصل علىٰ ساعة تعدُّ لك الثواني بكلِّ دقَّة، ومن دونه لن تحصل علىٰ مركبة فضائية تشقُّ طريقها إلىٰ (القمر) مثلاً من دون أن تخطئ ولو بسنتمتر واحد، فإنَّ الخطأ الضئيل هذا سيُؤدّي إلىٰ كارثة وفشل محتَّم.

ومن دون دقَّة وانضباط (البوصلة) البحرية لن يصل بك المركب إلىٰ برِّ الأمان، ولو حصل استخفاف وتهاون بربط الأجهزة الكهربائية بدقَّة لانتهت الشركات المصنِّعة إلىٰ أجهزة فاشلة وسمعة رديئة.

وأيُّ مؤسَّسة - علمية أو ثقافية أو اقتصادية أو سياسية - لن تحصد النجاح من دون انضباط ودقَّة، فالدائرة التي تعيش الاستخفاف بالقانون والتهاون بتطبيقه لن يلتزم أفرادها بأدنىٰ درجات الالتزام بالنظام، ولن تجني سوىٰ الفشل.

فعالم التكوين وعالم النجاح الدنيوي رهينان بالانضباط وعدم الاستخفاف.

ص: 8

وإذا نظرنا إلىٰ الش_رائع التي أنزلها الله تعالىٰ للبش_ر، والتي نعلم بأنَّه تعالىٰ إنَّما أنزلها لمصلحة البش_ر أنفسهم، وإلَّا فهو تعالىٰ غنيٌّ مطلق، قال تعالىٰ: «يا أَي_ُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَىٰ اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ 15» (فاطر: 15).

وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «إِنَّ اللهَ سُبْحَانَه وَتَعَالَىٰ خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيًّا عَنْ طَاعَتِهِمْ، آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لأَنَّه لَا تَضُ_رُّه مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاه، وَلَا تَنْفَعُه طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَه»(1)).

إذا نظرنا إلىٰ تلك الش_رائع، نجد أنَّ من أهمّ شروط (الفلاح) المترتِّب عليها في الآخرة، هو شرط (الانضباط) و(الدقَّة في تنفيذ المعارف)، وعدم الاستخفاف بها.

فالش_ريعة حالها حال (التكوين) و(النجاح) لا بدَّ فيها من الانضباط التامِّ، علىٰ مستوىٰ النظرية وعلىٰ مستوىٰ التطبيق، أو قل: علىٰ مستوىٰ الاعتراف القلبي والاعتقاد، وعلىٰ مستوى السلوك العملي المترجِم لذلك الاعتقاد.

إنَّ أيَّ (استخفاف) في الش_ريعة يعني انفلات عقد النظام القانوني لها، وبالتالي عدم الوصول إلىٰ النتيجة المرجوَّة منها، ولذا ذمَّ القرآن الكريم الاستخفاف وعدم الانضباط في التزام الدِّين عندما أدان بشدَّة التعامل الانتقائي معه، فقال تعالىٰ: «ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارىٰ تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ

ص: 9


1- نهج البلاغة (ج 2/ ص 160).

مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلىٰ أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ 85» (البقرة: 85).

وقال تعالىٰ: «وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَىٰ الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ 72 وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدىٰ هُدَىٰ اللهِ أَنْ يُؤْتىٰ أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ 73» (آل عمران: 72 و73).

وقال تعالىٰ: «إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ 77» (آل عمران: 77).

وغيرها من الآيات الكريمات في هذا المجال.

فما هو الاستخفاف بالدِّين؟

وكيف نُكيِّفه مع النصوص الدِّينية التي نصَّت علىٰ أنَّ الدِّين هو دين يسر وسهولة؟

وما هي أسباب الاستخفاف؟

وكيف العلاج منه؟

هذا ما تحاول أن تجيب عنه هذه الأوراقُ، عبر استعراض أربع عش_رة مفردة من مفردات الاستخفاف التي تدخل في مختلف المجالات الحياتية التي لها تأثير في النجاح الدنيوي والفلاح الأُخروي.

سلسلة: لنكن لهم زيناً.

تهدف هذه السلسلة من الكُتُب إلىٰ التذكير بض_رورة أن يكون

ص: 10

الفرد منّا - نحن شيعة أهل البيت (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) - جعفرياً في كيانه(1) بحيث يوحي للناظر إليه بأنَّه جعفري بمعنىٰ الكلمة ولو لم يتكلَّم بلسانه، فهذا المعنىٰ هو ما أراد أهل البيت (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) أن نكون عليه.

فقد روي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال لأبي أُسامة زيد الشحّام: «اقرأ علىٰ من ترىٰ أنَّه يطيعني منهم ويأخذ بقولي السلام، وأُوصيكم بتقوىٰ الله (عزوجل) والورع في دينكم والاجتهاد لله...، إنَّ الرجل منكم إذا ورع في دينه وصَدَق الحديث وأدّىٰ الأمانة وحسَّن خُلُقَه مع الناس قيل: هذا جعفري، فيس_رّني ذلك ويدخلُ عليَّ منه الس_رور، وقيل: هذا أدب جعفر، وإذا كان علىٰ غير ذلك دخل عليَّ بلاؤه وعارُه وقيل: هذا أدب جعفر...»(2).

فهي خُطُوات عملية ليكون كلُّ واحدٍ منّا (جعفرياً) بمعنىٰ الكلمة.

سلسلةٌ تتضمَّن عدَّة كُتُب، الأوَّل منها هو ما بين يديك، وستتلوه بقيَّتها إن شاء الله تعالىٰ.

في هذا الكتاب ستجد - عزيزي القارئ - أربع عش_رة مفردة تدخل في مختلف مجالات الحياة، وعرضاً إجمالياً مختص_راً، وآخر تفصيلياً عن خطر وأثر الاستخفاف بكلِّ واحدة منها، وتوضيحاً للطُرُق التي يمكن سلوكها للتخلُّص من آثار الاستخفاف بها.

ص: 11


1- ولا يعني هذا أنَّ الاستفادة منها خاصٌّ بشيعة أهل البيت (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ)، فإنَّها كلمات مستوحاة من كلماتهم (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ)، وكلماتهم نافعة للإنسانية جمعاء، الأمر الذي عبَّر عنه الإمام الرضا (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) بقوله: «إنَّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتَّبعونا». (معاني الأخبار للشيخ الصدوق: ص 180)، ولكن شيعتهم هم أوَّل المسؤولين عن تنفيذ هذه التعليمات كما هو واضح.
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 636/ باب ما يجب من المعاشرة/ ح 5).

أسأل الله تعالىٰ أن يجعلها في خير وإلىٰ خير، وأن يجعلنا ممَّن يعملون علىٰ أن يكونوا كما أراد أهل البيت (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ)، إنَّه سميع مجيب.

حسين عبد الرضا الأسدي

النجف الأشرف

الأحد، الأوَّل من ذي القعدة 1439ه_

الخامس عشر من تموز 2018م

ص: 12

عن الرضا، عن آبائه، عن عليٍّ (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ)، قال:

«سمعت رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) يقول: إنّي أخاف عليكم استخفافاً بالدِّين».

عيون أخبار الرضا (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) للصدوق (ج 1/ ص 46/ ح 140)

وقال الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ):

«وإيّاكم والتهاون بأمر الله (عزوجل)، فإنَّه من تهاون بأمر الله أهانه الله يوم القيامة».

ثواب الأعمال للصدوق (ص 203)

* * *

ص: 13

ص: 14

الإهداء

إلىٰ الطاهرَين المطهَّرَين..

إلىٰ منبعيّ الفضل والكرم... والإيمان..

إلىٰ مَنْ ظَلَمَهما بعضُ قوم_ِهما - لا خَلاق لهم - فرمَوهما بالكفر!

إلىٰ أَبَوي اليتيم العظيم..

عبد الله.. وآمنة..

إلىٰ والديك يا رسول الله..

أُهدي هذه الكلمات..

فخُذْها بيدك..

وبلِّغْهُما عنّي السلام..

واقبل بضاعتنا المزجاة..

ولْيَقْبَلاها هما..

* * *

ص: 15

ص: 16

مدخل:

اشارة

الإيمان بين النظرية والتطبيق

ص: 17

ص: 18

من الأُمور التي باتت اليوم من الواضحات، هو أنَّ أيَّ عملية بناء - عمراني أو فكري أو اجتماعي أو أُسري أو غيرها - فإنَّها تكون مسبوقة بعملية نظرية، تُمثِّل الأساس الذي سيقوم عليه التنفيذ.

أنت عندما تريد أن تبني بيتاً فلا بدَّ قبل ذلك أن ترسم خريطة كاملة له علىٰ الورق، وتأخذ بالحسبان كلَّ سنتمتر واحد من مساحته لتستفيد منها في بيتك.

وأنت عندما تريد أن تفتتح مش_روعاً تجارياً فلا بدَّ أن تجلس أوَّلاً وتُخطِّط له تخطيطاً نظرياً شاملاً، يشمل المكان والزمان ونوع التجارة ومقدار رأس المال المطلوب والأرباح المتوقَّعة إلىٰ جانب الخسائر الممكنة والمشاكل التي تعيق العمل والعلاقات النافعة فيه، وهكذا.

وهكذا لو أردتَ الزواج لا بدَّ أن تُخطِّط له تخطيطاً دقيقاً، فتنظر من تختار، ومن أيِّ أُسرة، ومواصفاتها المطلوبة، وملائمة وضعها الاجتماعي لوضعك الاجتماعي، وهي تفعل نفس الشيء بالنسبة إليك.

إذن، كلُّ مشروع في الحياة لا بدَّ أن يسبقه تخطيط نظري شامل.

وقد أجرىٰ الله تعالىٰ هذه السُّنَّة في رسالاته، ولذلك تجد أنَّ القرآن الكريم أوَّل ما نزل منه من سُوَر وآيات في مكَّة المكرَّمة كان أكثرها - كما يقول علماء علوم القرآن(1) - ناظراً إلىٰ البناء العامِّ للإسلام، أي إلىٰ تش_ريع العبادات والواجبات والمحرَّمات، ممَّا يمكن أن نُسمّيه

ص: 19


1- قالوا هذا في أحد الآراء في التفرقة بين الآيات والسُّوَر المكّية والمدنية.

بالإجراءات النظرية لبناء المسلم، وبعد أن تمَّ هذا البناء الروحي أخذت الآيات - في المدينة المنوَّرة - منحىٰ آخر من الخطاب، كان موجَّهاً لبناء دولة الإسلام بصورة عملية، فحثَّت علىٰ الإجراءات العملية لذلك، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد بالأموال والأنفس وكلِّ المتعلّقات، وضرورة مقاومة الش_رك والكفر، وضرورة بناء الدولة الإسلاميَّة...

إنَّه الجانب العملي بعد أن تمَّ الجانب النظري.

الملاحظة المهمَّة هنا:

هي أنَّ تنفيذ أيِّ مش_روع تنفيذاً عملياً لا بدَّ أن يكون متطابقاً تماماً مع النظرية المقترحة، وأيُّ خطأٍ في التطبيق فإنَّه سيُؤدّي إلىٰ خلل في المش_روع رأساً، فربَّم_ا ينهدم البيت، وربَّم_ا يخس_ر المش_روع التجاري، وربَّم_ا يفشل الزواج وينتهي بالطلاق أو يستمرُّ بالمشاكل...، وهذه أيضاً من سُنَن الحياة.

ومن المشاريع المهمَّة في حياة الإنسان العاقل هو مش_روعه مع ربِّه وخالقه ومدبِّر أُموره، إنَّه مش_روع (الدِّين) الذي يُعتَبر من أهمّ المشاريع الحياتية، فإنَّ (حُبَّ الدِّين) يُعتَبر ممَّا فُطِرَ عليه الإنسان، حيث (إنَّ علماء النفس يعتقدون بأنَّ للنفس الإنسانية أبعاداً أربعة يكون كلُّ بُعد منها مبدأ لآثار خاصَّة، هي: حُبُّ وروح الاستطلاع واستكشاف الحقائق..، وحُبُّ الخير، والنزوع إلىٰ البرِّ والمعروف..، وعشق الإنسان وعلاقته بالجمال..، والشعور الدِّيني الذي يتأجَّج لدىٰ الشباب في سنِّ البلوغ، فيدعو الإنسان إلىٰ الاعتقاد بأنَّ وراء هذا العالم عالماً آخر يستمدُّ هذا العالم وجوده منه، وأنَّ الإنسان بكلِّ خصوصياته متعلّق بذلك العالم ويستمدُّ منه.

ص: 20

وهذا البُعد الرابع الذي اكتشفه علماء النفس في العص_ر الأخير وأيَّدوه بالاختبارات المتنوِّعة ممَّا ركَّز عليه الذِّكر الحكيم قبل قرون وأشار إليه في آياته المباركات...)(1).

إنَّ علماء الآثار والتنقيب قد لاحظوا بأنَّ أيَّ مدينة أو قرية يكتشفون آثارها فإنَّه من الممكن أن لا يجدوا فيها ح_مّاماً عامًّا، أو مدرسة أو ساحة قتال أو لعب أو ما شابه، ولكن أن لا يجدوا معبداً فهذا ما لم يقع. وهذا يشير إلىٰ أنَّ الإنسان لا يستطيع أن يعيش بدون هذا الاعتقاد - اعتقاد وجود الدِّين -.

وإذا رجعت إلىٰ القرآن الكريم فإنَّك تجده يشير، بل ويُص_رِّح بهذه الحقيقة, ذلك عندما اعتبر أنَّ التديُّن هي (فطرة الله التي فطر الناس عليها) حيث يقول تعالىٰ: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ 30» (الروم: 30).

وهذا المش_روع لا بدَّ أن تسبقه نظرية، خلاصتها معرفة ما يريده الباري منّا وما لا يريده، حتَّىٰ يتمسَّك المسلم بالأوَّل وينتهي عن الثاني في مقام التطبيق.

وقد وفّ_َر الباري جلَّ وعلا هذه النظرية، وأوصلها إلينا بصورة واضحة جليَّة لا تقبل التشكيك، فأرسل الرُّسُل، ونصَّب الأوصياء، وأنزل الكُتُب، فتوفَّرت بذلك النظرية الكاملة القابلة للتطبيق.

يقول جلَّ وعلا: «وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ 10» (البلد: 10).

«إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً 3» (الإنسان: 3).

ص: 21


1- الإلهيّات للشيخ جعفر السبحاني (ج 1/ ص 11 - 13).

وورد عن أبي جعفر (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «خطب رسول الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) في حجَّة الوداع فقال: يا أيُّها الناس، والله ما من شيء يُقرِّبكم من الجنَّة ويباعدكم من النار إلَّا وقد أمرتكم به، وما من شيء يُقرِّبكم من النار ويباعدكم من الجنَّة إلَّا وقد نهيتكم عنه...»(1).

وعن حمّاد بن أبي أُسامة، قال: كنت عند أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) وعنده رجل من المغيرية، فسُئِلَ عن شيء من السُّنَن، فقال: «ما من شيء يحتاج إليه وِلْدُ آدم إلَّا وقد خرجت فيه السُّنَّة من الله ومن رسوله، ولولا ذلك ما احتجَّ».

فقال المغيري: وبِمَ احتجَّ؟

فقال أبو عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «قوله: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» [المائدة: 3«، فلو لم يُكمِل سُنَّته وفرائضه وما يحتاج إليه الناس ما احتجَّ به»(2).

وعن محمّد بن حكيم، ع_ن أبي الحسن (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «أتاهم رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بما يس_تغنون به في عهده، وما يكتفون به من بعده: كتاب الله وسُنَّة نبيِّه»(3).

ولذلك تجد أنَّه لا اختلاف ولا تناقض في أحكام الإسلام، لأنَّها نابعة من عين صافية، أكملت النظرية علىٰ أتمّ وجه.

ورد عن الحسن بن ظريف، قال: سمعت أبا عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يقول: «ما رأيت عليًّا (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) قض_ىٰ قضاءً إلَّا وجدت له أصلاً في السُّنَّة»، قال:

ص: 22


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 74).
2- بصائر الدرجات لمحمّد بن الحسن الصفّار (ص 537 و538/ باب 18/ ح 50).
3- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 1/ ص 270/ باب 38/ ح 361).

«وكان عليٌّ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يقول: لو اختصم إليَّ رجلان فقضيت بينهما ثمّ مكثا أحوالاً كثيرة ثمّ أتياني في ذلك الأمر لقضيت بينهما قضاءً واحداً، لأنَّ القضاء لا يحول ولا يزول أبداً»(1).

إذن، النظرية تامَّة، وهي من الأُمور التي أت_مَّها الباري جلَّ وعلا ورُسُله وأوصياؤه من جهتهم، وبقي بعد هذا علينا - نحن المسلمين - أن نُطبِّق تلك النظرية بحذافيرها، ولا نتهاون بش_يء منها، ولا نستخفَّ بالقليل منها أو الكثير، وهو ما يريده منّا الدِّين ]خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ» (مريم: 12)، وإلَّا كنّا من الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض.

ولكنْ مع ذلك، نجد أزماننا مملوءة بأُناس ابتعدوا عن الدِّين وانحرفوا عنه، ومالوا إلىٰ طُرُق بعيدة. وهنا، يحقُّ لأيِّ مسلم أن يتساءل: إذا كان الله تعالىٰ قد بيَّن الدِّين بأوضح ما يكون البيان، وإذا كان هذا البيان قد وصل إلىٰ الناس عموماً، ولا أقلَّ إلىٰ المسلمين عموماً، فما بالنا نرىٰ هذا الانحراف والابتعاد عن الدِّين؟

في الحقيقة، هناك أسباب كثيرة كانت وراء ذلك، وقد سطرها الباحثون في هذا الجانب، وقد أوغلوا في البحث عنها، حتَّىٰ وجدوا جذور هذه الحالة تمتدُّ لتصل إلىٰ دور الكنيسة في تشويه صورة الدِّين وسلوك أربابها المنحرف الذي أدّىٰ إلىٰ اعتقاد الناس بأنَّ الدِّين وسيلة يُخدَع بها السُّ_ذَّج من الناس، وغاصوا في بحور الروايات ليجدوا بذرات الانحراف كامنة في الكِبْر والحسد وحُبِّ الأنا والهوىٰ، وي_مدُّها الشيطان بالوقود...

ص: 23


1- أمالي الشيخ الطوسي (ص 64 / ح 94/3).

وهذا كلُّه صحيح، ولكنْ عندما ننظر بعين واقعية للمجتمع اليوم، فلربَّما نجد أنَّ كمًّا لا يُستهان به قد ابتعد عن الدِّين لتلك الأسباب، ولكن نجد هناك سبباً عامًّا شمل الجميع، سبَّب ابتعادهم عن تطبيق الدِّين، ذلك السبب هو (التهاون والاستخفاف) بأوامر الدِّين عموماً.

وسيكون البحث - إن شاء الله تعالىٰ - منصبًّا علىٰ ذكر بعضٍ مهمٍّ من مصاديق ذلك الاستخفاف والتهاون، من الأُمور التي نعيشها يومياً ويبتلي بها الجميع، وسنرىٰ مدىٰ ضراوة الاستخفاف بها في هدم دين المرء أو ابتعاده عن دينه.

الدِّين بين التيسير وعدم التهاون:

من المعروف أنَّ دين الإسلام هو دين يُس_ر لا دينَ عُس_ر، إنَّه الدِّين الذي أعلن صادحاً: «يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْ_رَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْ_رَ» (البقرة: 185).

وأعلن: «ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ» (المائدة: 6).

«وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» (الحجّ: 78).

عن ابن القدّاح، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «جاءت امرأة عثمان بن مظعون إلىٰ النبيِّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، فقالت: يا رسول الله، إنَّ عثمان يصوم النهار ويقوم الليل. فخرج رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) مغضباً يحمل نعليه، حتَّىٰ جاء إلىٰ عثمان، فوجده يُصلّي، فانص_رف عثمان حين رأىٰ رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، فقال له: يا عثمان، لم يُرسِلني الله بالرهبانية ولكن بعثني بالحنيفية السمحة، أصوم وأُصلّي وألمس أهلي، فمن أحبَّ فطرتي فليستنَّ بسُنَّتي، ومن سُنَّتي النكاح»(1).

ص: 24


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 494/ باب كراهية الرهبانية وترك الباه/ ح 1).

والذي يُراد أن يُقال هنا هو:

إنَّه لا بدَّ من ملاحظة الفرق بين هذا المعنىٰ (التيسير في الدِّين) وبين (الاستخفاف والتهاون بأمر الدِّين)، فإنَّ التيسير في الدِّين جاء في مفردات معيَّنة، وكلُّها جاءت بأمر سماوي، كما سنرىٰ بعد قليل إن شاء الله تعالىٰ. أي إنَّ نفس التيسير هو بأمر من الدِّين، أمَّا المقصود من التهاون والاستخفاف بالدِّين فهو الاستخفاف بأمر إلهي، أي عدم الأخذ به بحدوده المرسومة رغم العلم المسبق بها، أو غضُّ النظر عن واجبات أَمَر الدِّين بها، وأين هذا من ذاك؟!

من مفردات اليُسر في الدِّين:

هناك مفردات كثيرة تُمثِّل اليُس_ر في الدِّين، منها مفردات فقهية، ومنها مفردات أخلاقية.

فمن المفردات الفقهية هي:

المفردة الأُولىٰ: أنَّ الله تعالىٰ كلَّف البش_ر ما يُطيقون، ولم يُكلِّفْهم ما لا يطيقون، بل الواقع هو أنَّ الله تعالىٰ كلَّف البشر بأقلّ ممَّا يُطيقون.

قال تعالىٰ: «لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها» (البقرة: 233)، وقال تعالىٰ: «لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» (البقرة: 286)، وقال تعالىٰ: «لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» (الأنعام: 152).

المفردة الثانية: أنَّه تعالىٰ أمر بأوامر، وجعل لها بدائل عند توجُّه حرج أو ضرر من الأُولىٰ. وهذا ما يُسمّىٰ بالأحكام الأوَّلية والثانوية، فمثلاً أوجب الوضوء بالماء، ولكنَّه جوَّز التيمُّم عند الحرج أو الض_رر في استعمال الماء. وأوجب الصيام، ولكنَّه سمح للمسافر والمريض والشيخ الكبير والحامل المُقرب التي تخاف علىٰ نفسها أو حملها بالإفطار.

ص: 25

وأوجب الصلاة من وقوف، ولكنَّه أباح الصلاة للعاجز جالساً أو حتَّىٰ مضطجعاً، وغيرها من المفردات الكثيرة في هذا المجال.

المفردة الثالثة: أنَّه تعالىٰ حرَّم المحرَّمات، ولكنَّه جعل لبعضها أمداً تنتهي عنده، فحرَّم الخمر والميتة ولحم الخنزير، وحرم الكذب، وحرم الغيبة، وهكذا، ولكن في أحوال خاصَّة جوَّز ارتكاب هذه المحرَّمات، فالمضطرُّ - غير العادي ولا الباغي - يجوز له أكل الميتة وشرب الخمر بقدر الض_رورة، والكذب يجوز لإنقاذ النفس أو المؤمن، والغيبة تجوز عند التظلُّم والشكاية، وعند السؤال عن عفاف امرأة أو رجل للتزويج، وهكذا. (وهو أيضاً يدخل تحت عنوان الحكم الأوَّلي والثانوي).

نعم، تُستثنىٰ بعض المحرَّمات التي لا إذن في مخالفتها، وهي الدماء والفروج، فلا تقيَّة فيها.

ومن المفردات الأخلاقية:

المفردة الأُولىٰ: أنَّ الله تعالىٰ لم يحاسب الإنسان علىٰ:

أوَّلاً: الآلات التي وهبها الله تعالىٰ للإنسان، وبها أطاعه وأرضاه، يقول الإمام زين العابدين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) في دعاء الشكر: «وَلَمْ تَحْمِلْه عَلَىٰ المُنَاقَشَاتِ فِي الآلَاتِ الَّتِي تَسَبَّبَ بِاسْتِعْمَالِهَا إِلَىٰ مَغْفِرَتِكَ، وَلَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ بِه لَذَهَبَ بِجَمِيعِ مَا كَدَحَ لَه وَجُمْلَةِ مَا سَعَىٰ فِيه جَزَاءً لِلصُّغْرَىٰ مِنْ أَيَادِيكَ وَمِنَنِكَ، وَلَبَقِيَ رَهِيناً بَيْنَ يَدَيْكَ بِسَائِرِ نِعَمِكَ، فَمَتَىٰ كَانَ يَسْتَحِقُّ شَيْئاً مِنْ ثَوَابِكَ؟...»(1).

ثانياً: ولم يحاسبه علىٰ الرزق الحلال الذي به يقوىٰ المرء علىٰ الطاعة، كما يقول مولانا الإمام السجّاد (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) في نفس الدعاء: «... ثُمَّ لَمْ تَسُمْه الْقِصَاصَ فِيمَا أَكَلَ مِنْ رِزْقِكَ الَّذِي يَقْوَىٰ بِه عَلَىٰ طَاعَتِكَ».

ص: 26


1- الصحيفة السجّادية (ص 164/ الدعاء 37).

ثالثاً: ولم يحاسبه علىٰ الأُمور التي ألجأه تعالىٰ إليها من ضروريات الحياة، إذا اكتسبها المرء من حلال، وهي الزوجة والبيت والطعام والملبس.

يقول الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «ثلاثة أشياء لا يُحاسَب العبد المؤمن عليهنَّ: طعام يأكله، وثوب يلبسه، وزوجة صالحة تعاونه ويحصن بها فرجه»(1).

ويقول الإمام الباقر (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «ثلاث لا يُسئَل عنها العبد: خرقة يواري بها عورته، وكس_رة يسدُّ بها جوعته، وبيت يكنُّه من الحرِّ والبرد»(2).

رابعاً: ولم يحاسبه علىٰ نيَّة السوء إذا لم يصدر منه العمل السيِّئ، فعن ابن بُكير، عن أحدهما (عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ)، قال: «إنَّ آدم (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) قال: يا ربِّ سلَّطْتَ عليَّ الشيطان وأجريته منّي مجرىٰ الدم، فاجعل لي شيئاً، فقال:

يا آدم، جعلتُ لك أنَّ من همَّ من ذرّيتك بسيِّئة لم تُكتَب عليه، فأن عملها كُتِبَت عليه سيِّئة. ومن همَّ منهم بحسنة، فإن لم يعملها كُتِبَت له حسنة، فإن هو عملها كُتِبَت له عشراً.

قال: يا ربِّ زدني، قال: جعلتُ لك أنَّ من عمل منهم سيِّئة ثمّ استغفر له، غفرت له.

قال: يا ربِّ زدني، قال: جعلت لهم التوبة - أو قال: بسطت لهم التوبة - حتَّىٰ تبلغ النفس هذه، قال: يا ربِّ حسبي»(3).

ص: 27


1- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 2/ ص 399).
2- تفسير نور الثقلين للشيخ الحويزي (ج 5/ ص 665).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 440).

وعن سليمان بن مهران، عن جعفر بن محمّد (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «إذا همَّ العبد بحسنة كُتِبَت له حسنة، فإذا عملها كُتِبَت له عش_ر حسنات. وإذا همَّ بسيِّئة لم تُكتَب عليه، فإذا عملها أُجِّل تسع ساعات، فإن ندم عليها واستغفر وتاب لم تُكتَب عليه، وإن لم يندم ولم يتب منها كُتِبَت عليه سيِّئة واحدة»(1).

مع ملاحظة كراهة نفس نيَّة السوء، فعن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «اجتمع الحواريون إلىٰ عيسىٰ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، فقالوا له: يا معلِّم الخير أرشدنا، فقال لهم: إنَّ موسىٰ كليم الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أمركم أن لا تحلفوا بالله تبارك وتعالىٰ كاذبين، وأنا آمركم أن لا تحلفوا بالله كاذبين ولا صادقين، قالوا: يا روح الله زدنا، فقال: إنَّ موسىٰ نبيَّ الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أمركم أن لا تزنوا، وأنا آمركم أن لا تُحدِّثوا أنفسكم بالزنا فضلاً عن أن تزنوا، فإنَّ من حدَّث نفسه بالزنا كان كمن أوقد في بيت مزوّق فأفسد التزاويقَ الدخانُ وإن لم يحترق البيت»(2).

المفردة الثانية: أنَّ الله تعالىٰ كتب علىٰ نفسه الرحمة بإعطاء ومضاعفة الثواب في عدَّة أحوال، منها:

أوَّلاً: عند نيَّة الخير وأن لم يصدر الفعل، (كما في الحديث المتقدِّم قبل قليل)، وكما ورد عن السكوني، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: قال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «نيَّة المؤمن خير من عمله»(3).

بمعنىٰ أنَّ نيَّة العبد هي من عمله الخيّ_ِر، (فتكون كلمة (خير)

ص: 28


1- الخصال للشيخ الصدوق (ص 418/ باب يُؤجَّل المذنب تسع ساعات/ ح 11).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 542/ باب الزاني/ ح 7).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 84/ باب النيَّة/ ح 2).

مصدراً لا أفعل تفضيل). أو بمعنىٰ أنَّ نيَّة الخير أفضل من نفس العمل،(فتكون كلمة (خير) أفعل تفضيل)، وذلك لأنَّ العمل قد يُبتلىٰ ببعض الأُمور التي تُبطِله، كالرياء والعُجب، وقد لا يُوفَّق العبد للعمل، بينما النيَّة سالمة من هذه الأُمور.

وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «إنَّ العبد المؤمن الفقير ليقول: يا ربِّ ارزقني حتَّىٰ أفعل كذا وكذا من البرِّ ووجوه الخير، فإذا علم الله (عزوجل) ذلك منه بصدق نيَّة كتب الله له من الأجر مثل ما يكتب له لو عمله، إنَّ الله واسع كريم»(1).

وعنه(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «من أتىٰ فراشه وهو ينوي أن يقوم يُصلّي من الليل فغلبته عيناه حتَّىٰ أصبح كُتِبَ له ما نوىٰ، وكان نومه صدقة عليه من ربِّه»(2).

ثانياً: أنَّ الله تعالىٰ جعل ثواب بعض الأعمال مستمرًّا إلىٰ يوم القيامة، فعن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلَّا ثلاث خصال: صدقةٌ أجراها في حياته فهي تجري بعد موته، وسُنَّةُ هدىٰ سنَّها فهي يُعْمَل بها بعد موته، أو ولدٌ صالح يدعو له»(3).

وعن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «ستَّةٌ تلحق المؤمن بعد وفاته: ولدٌ يستغفر له، ومصحفٌ يُخلِفه، وغرسٌ يغرسه، وقليبٌ يحفره، وصدقةٌ يُجريها، وسُنَّةٌ يُؤخَذ بها من بعده»(4).

ص: 29


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 85/ باب النيَّة/ ح3).
2- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 7/ ص 783).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 7/ ص 56/ باب ما يلحق الميِّت بعد موته/ ح 1).
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 7/ ص 56/ باب ما يلحق الميِّت بعد موته/ ح 5).

وروي عن النبيِّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أنَّه قال: «إذا مات المؤمن انقطع عمله إلَّا من ثلاث: صدقة جارية، أو علمٍ يُنتَفع به، أو ولد صالح يدعو له»(1).

ثالثاً: أنَّ الله تعالىٰ أعطىٰ الثواب علىٰ من عمل عملاً رجاء أن يكون مطلوباً وإن لم يكن كذلك، فعن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «من سمع شيئاً من الثواب علىٰ شيء فصنعه كان له وإن لم يكن علىٰ ما بلغه»(2).

رابعاً: وضاعف كثيراً ثواب بعض الأعمال، كالعبادة ليلة القدر، وكتذكُّر عطش الحسين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) عند شرب الماء، وكحفظ حديثين يُعمَل بهما، وكقضاء حاجة المؤمن، وغيرها كثير.

عن العزرمي، عن أبيه، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «من اشتكىٰ ليلةً فقَبِلها بقبولها وأدّىٰ إلىٰ الله شكرَها كانت كعبادة ستّين سنة»، قال العزرمي: قال أبي: فقلت له: ما قبولها؟ قال: «يصبر عليها، ولا يُخبِر بما كان فيها، فإذا أصبح حمد الله علىٰ ما كان»(3).

وعن داود الرِّقّي، قال: كنت عند أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) إذا استسقىٰ الماء، فلمَّا شربه رأيته قد استعبر واغرورقت عيناه بدموعه، ثمّ قال لي: «يا داود، لعن الله قاتل الحسين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، وما من عبد شرب الماء فذكر الحسينَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) و أهلَ بيته ولعن قاتله إلَّا كتب الله (عزوجل) له مائة ألف حسنة، وحطَّ عنه مائة ألف سيِّئة، ورفع له مائة ألف درجة، وكأنّ_َما أعتق مائة ألف نسمة، وحشره الله (عزوجل) يوم القيامة ثلج الفؤاد»(4).

ص: 30


1- عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي (ج 2/ ص 53/ ح 139)؛ وبحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 2/ ص 22).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 87).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 3/ ص 116).
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 391).

وروي عن الرسول الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «من تعلَّم حديثين اثنين ينفع بهما نفسه أو يُعلِّمهما غيره فينتفع بهما كان خيراً من عبادة ستّين سنة»(1).

خامساً: وجعل التوبة ماحيةً للذنوب مهما كثرت، إذا كانت التوبة خالصة صادقة، فعن معاوية بن وهب قال: خرجنا إلىٰ مكَّة ومعنا شيخٌ متألِّهٌ متعبِّدٌ، لا يعرف هذا الأمر، يُتِمُّ الصلاة في الطريق، ومعه ابن أخ له مسلم، فمرض الشيخ، فقلت لابن أخيه: لو عرضت هذا الأمر علىٰ عمِّك، لعلَّ الله أن يُخلِّصه، فقال كلُّهم: دعوا الشيخ حتَّىٰ يموت علىٰ حاله فإنَّه حسن الهيأة، فلم يصبر ابن أخيه حتَّىٰ قال له: يا عمّ، إنَّ الناس ارتدُّوا بعد رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) إلَّا نفراً يسيراً، وكان لعليِّ بن أبي طالب (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) من الطاعة ما كان لرسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، وكان بعد رسول الله الحقُّ والطاعة له، قال: فتنفَّس الشيخ وشهق وقال: أنا علىٰ هذا، وخرجت نفسه، فدخلنا علىٰ أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، فعرض عليُّ بن الس_ري هذا الكلام علىٰ أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، فقال: «هو رجل من أهل الجنَّة»، قال له عليُّ بن الس_ري: إنَّه لم يعرف شيئاً من هذا غير ساعته تلك، قال: «فتريدون منه ماذا؟ قد دخل والله الجنَّة»(2).

سادساً: أنَّه تعالىٰ أمر بأن تُؤجَّل كتابة السيِّئة لعلَّ العبد المؤمن يتوب، فعن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أنَّه قال: «صاحبُ اليمين أميرٌ علىٰ صاحب الشمال، فإذا عمل العبد سيِّئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: لا

ص: 31


1- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 10/ ص 163 و164/ ح 28849)؛ وبحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 2/ ص 152).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 440 و441).

تعجل وأنظِرْه سبعَ ساعات، فإن مضت سبعُ ساعات ولم يستغفر قال: اكتب، فما أقلّ حياء هذا العبد»(1).

وطبعاً هذا الأمر خاصٌّ بالمؤمن فقط ولا يشمل غيره، كما ورد هذا المعنىٰ في رواية عن ابن صدقة، عن الإمام جعفر الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «أتىٰ أبي (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) الحسنُ البص_ري، وقال: يا أبا جعفر، بلغني عنك أنَّك قلت: ما من عبدٍ يذنب ذنباً إلَّا أجَّله الله سبع ساعات، فإن هو تاب منه واستغفر لم يكتب عليه، فقال له أبي: ليس هكذا قلت، ولكنّي قلت: ما من عبد مؤمن يُذنِب ذنباً، وكذلك كان قولي»(2).

والخلاصة:

أنَّ هناك فرقاً بين الاستخفاف بالدِّين وبين ما ورد من التسهيلات الش_رعية من الله (عزوجل) للمؤمن. وهذه الأوراق يُراد لها أن تُسلِّط الأضواء علىٰ بعض المفردات الحياتية التي تهاون بها الكثير من الناس، سواء علىٰ المستوىٰ الش_رعي أو التربوي أو الاجتماعي، وبيان آثارها السلبية، وما يمكن أن يُستفاد منه من الخطوات العملية لدفع هذا الاستخفاف والرجوع إلىٰ الطريق القويم.

ونذكر هنا بعض تلك المفردات، فنقول: ...

* * *

ص: 32


1- أمالي الشيخ الطوسي (ص 207/ ح 355 /5)؛ ووسائل الشيعة للحرِّ العاملي (ج16/ ص 70).
2- قرب الإسناد للحميري القمّي (ص 2/ ح 4)؛ وبحار الأنوار للعلَّامة المجلس_ي (ج68/ ص 247).

المفردة الأولى:

اشارة

الاستخفاف والتهاون

بأصول الدِّين

· الخطر: «بُنْيانَهُ عَلىٰ شَفا جُرُفٍ هارٍ».

· الأثر: يميلون مع كلِّ ريح.

· التوصية: أوَّل الدِّين معرفته.

ص: 33

ص: 34

من الواضح أنَّ الدِّين الإسلامي يحتوي علىٰ خطوط رئيسية ثلاثة: أُصول الدِّين، وفروعه، والأخلاق والآداب العامَّة.

ومن الواضح أنَّ الأهمَّ من هذه الخطوط هو خطُّ أُصول الدِّين، ذلك أنَّها تُمثِّل الأساس الذي يبتني عليه الخطّان الأخيران.

وبالتالي، فحتَّىٰ يتمَّ التعامل مع الدِّين بصورة منهجية علىٰ المؤمن أن يبدأ بالخطِّ الأوَّل فيُشيِّده أقوىٰ ما يمكنه، ثمّ ينتقل بعده إلىٰ البناء فوق ذلك الأساس الذي تُمثِّله فروع الدِّين، ومن بعدها سيكون سلوكه جميلاً متوافقاً مع الأُسس المنهجية الصحيحة للدِّين.

وحتَّىٰ تتَّضح الصورة نذكر النقاط التالية:

النقطة الأولى: أوَّل الدِّين معرفته:

تُؤكِّد العديد من كلمات المعصومين (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) علىٰ أنَّ أوَّل خطوة منهجية في طريق التديُّن الصحيح هي خطوة تأسيس المعرفة بالله تعالىٰ، تلك المعرفة التي تختزل كلَّ أُصول الدِّين في بوتقتها، فإنَّك إذا آمنت بالله تعالىٰ وبصفاته بالدليل العلمي اليقيني، ستعرف بعدها أنَّ الله تعالىٰ هو مظهر للكمال والجمال المطلقين، الأمر الذي يعني امتناع أن يتَّصف جلَّ وعلا بأيِّ صفة تُخِلُّ بالكمال أو تُوهِم النقص في الذات المقدَّسة، فلا جهل في ساحته، ولا عجز في فعله، ولا موت يُفنيه. بالإضافة إلىٰ اتِّصاف أفعاله بالحكمة، فهو تعالىٰ لا يضع الش_يء إلَّا في موضعه المناسب. نعم، قد لا نكتشف الحكمة من فعل ما، ولكنْ بالتالي حيث

ص: 35

إنَّنا نعتقد جزماً بأنَّه تعالىٰ محض الكمال فلا يصدر منه ما لا يتوافق مع الحكمة. وهو أحد تفسيرات قوله تعالىٰ: «لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ 23» (الأنبياء: 23)، فإنَّه إذا كان حكيماً في كلِّ أفعاله فلا داعي للسؤال عنها ما دمنا نجزم بالحكمة فيها. وهو ما روي أنَّ جابراً سأل أبا جعفر (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): يا ابن رسول الله، وكيف لا يُسئل عمَّا يفعل؟ قال: «لأنَّه لا يفعل إلَّا ما كان حكمةً وصواباً...»(1).

ولا جور في حُكمه، فلا يخاف المرء من جوره جلَّ وعلا، إنَّما الخوف كلُّ الخوف من عدله، فإنَّ الله تعالىٰ لو أراد أن يتعامل معنا وفق العدل لأنتج ما قاله جلَّ وعلا: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلىٰ ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّىٰ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً 45» (فاطر: 45).

وقال تعالىٰ: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّىٰ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ 61» (النحل: 61).

وفي دعاء الإمام الحسين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يوم عرفة: «وَأَنَّكَ الحَكَمُ العَدْلُ الَّذِي لَا يَجُورُ، وَعَدْلُكَ مُهْلِكِي، وَمِنْ كُلِّ عَدْلِكَ مَهْرَبِي، فَأن تُعَذِّبْنِي فَبِذُنُوبِي يا إِلهِي بَعْدَ حُجَّتِكَ عَلَيَّ، وَأن تَعْفُ عَنِّي فَبِحِلْمِكَ وَجُودِكَ وَكَرَمِكَ»(2).

وستعرف أيضاً أنَّ الله تعالىٰ ومن باب اللطف والجود والكرم لم يترك البش_ر عبثاً، ولم يهملهم من دون أن يُوضِّح لهم طريق النجاة في

ص: 36


1- التوحيد للشيخ الصدوق (ص 397/ باب الأطفال وعدل الله (عزوجل) فيهم/ ح 13).
2- إقبال الأعمال لابن طاووس (ج 2/ ص 83 و84).

الدنيا والآخرة، فأرسل آلاف الأنبياء، ونصَّب الأوصياء، وأنزل الكُتُب، ووعد وأوعد، ولم يترك أمراً غامضاً إلَّا وقد جعل له مصابيح تنيره وتزيل عنه الغموض، إلىٰ الحدِّ الذي وصل إلىٰ ما قاله الرسول الأكرم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «يا أيُّها الناس، والله ما من شيء يُقرِّبكم من الجنَّة ويباعدكم من النار إلَّا وقد أمرتكم به، وما من شيء يُقرِّبكم من النار ويباعدكم من الجنَّة إلَّا وقد نهيتكم عنه»(1).

وبالتالي فقد تمَّت الحجَّة علىٰ العبد، ولا حجَّة له في تقصيره، كيف، وقد روي عن الإمام جعفر بن محمّد (عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ) وقد سُئِلَ عن قوله تعالىٰ: «فَلِلّٰهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ» (الأنعام: 149)، فقال: «إنَّ الله تعالىٰ يقول للعبد يوم القيامة: عبدي أكنت عالماً؟ فإن قال: نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال: كنتُ جاهلاً، قال له: أفلا تعلَّمت حتَّىٰ تعمل؟ فيخصمه، وذلك الحجَّة البالغة»(2)؟!

وهكذا نجد أنَّ معرفة الله تعالىٰ تدخل في جميع مفردات الدِّين، ومنه نعرف السرَّ في كون معرفته جلَّ وعلا أوَّل الدِّين.

النقطة الثانية: معرفة الله بين وبين!

هناك مفارقة معروفة في مسألة معرفة الله تعالىٰ، فبينما نجد الروايات الش_ريفة تُص_رِّح بعدم قدرة، وباستحالة تعرُّف الإنسان علىٰ ذات الله تعالىٰ، كما يقول الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «إيّاكم والتفكُّر في الله، فإنَّ التفكُّر في الله لا يزيد إلَّا تيهاً، إنَّ الله (عزوجل) لا تُدركه الإبصار، ولا يُوصَف بمقدار»(3).

ص: 37


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 74/ باب الطاعة والتقوىٰ/ ح 2).
2- أمالي الشيخ المفيد (ص 227 و228).
3- أمالي الشيخ الصدوق (ص 503/ ح 690/3).

ويقول الإمام الجواد (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «أوهام القلوب أدقُّ من أبصار العيون، أنت قد تُدرك بوهمك السِّند والهند والبلدان التي لم تدخلها ولا تُدركها ببصرك، فأوهام القلوب لا تُدركه، فكيف أبصار العيون؟!»(1).

ولكن في الوقت نفسه تُؤكِّد الروايات الش_ريفة علىٰ ضرورة معرفة الله تعالىٰ، وعلىٰ أنَّ معرفته جلَّ وعلا أوَّل الدِّين كما تقدَّم، وتُفرِّع علىٰ معرفته جلَّ وعلا الكثير من الآثار والثمرات.

فكيف التوفيق؟

إنَّ التوفيق يكون بالتالي:

أنَّ الروايات الناهية هي تنهىٰ عن الخوض في نفس حقيقة الله تعالىٰ ومعرفة كُنه ذاته، فهذا هو المستحيل علىٰ الإنسان، فإنَّ الله تعالىٰ لا محدود والإنسان محدود، والفاصلة بين المحدود واللّامحدود هي لا محدودة.

أمَّا الروايات التي أخذت علىٰ الإنسان أن يعرف الله تعالىٰ، فهي تقصد التالي:

أوَّلاً: معرفة الدليل علىٰ وجوده جلَّ وعلا:

والأدلَّة علىٰ وجوده تعالىٰ أشهر من نار علىٰ علم، وأوضح من الأمس، وأبين من الشمس، وهي بعدد أنفاس الخلائق كما قيل. وهي متعدِّدة ومتنوِّعة، فمنها الفلسفية، ومنها الكلامية، ومنها الطبيعية. وهي أيس_رها وأوضحها، ولا تحتاج إلىٰ كثير عناء، فهي تأتي إلىٰ الأُمور الطبيعية في الحياة لتستدلَّ بها علىٰ وجود الله تعالىٰ.

وقد روي أنَّه سُئِلَ أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) عن إثبات الصانع، فقال:

ص: 38


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 1/ ص 99/ باب في إبطال الرؤية/ ح 11).

«البعرة تدلُّ علىٰ البعير، والروثة تدلُّ علىٰ الحمير، وآثار القدم تدلُّ علىٰ المسير، فهيكل علوي بهذه اللطافة ومركز سفلي بهذه الكثافة كيف لا يدلّان علىٰ اللطيف الخبير؟!»(1).

ويُقال: إنَّه كان هناك فيلسوف لديه ألف دليل علىٰ نفي وجود الله، وأخذ علىٰ عاتقه أن يذهب ويناقش أحد العلماء، وفي الطريق مرَّ علىٰ فلّاح، فسأله: أين بيت العالم (فلان)؟ قال الفلّاح: ما تريد منه؟ أجاب الفيلسوف: لديَّ ألف دليل علىٰ عدم وجود الله. فردَّ عليه الفلّاح قائلاً: لا داعي لأن تذهب إلىٰ العالم، فأنا أُجيبك، عندي دليل واحد علىٰ وجود الله ينسف أدلَّتك الألف! أرضي الزراعية هذه، فأنا أفتح الماء هنا وأقطعه هناك فإن أهملتها ساعة واحدة مات الزرع، فأرض بمقدار دونم واحد إذا لم يكن لها ربٌّ تموت، وهذا العالم بأسره تنتظم أُموره بلا ربِّ؟! إنَّه المستحيل بعينه!

فهذا هو نفس دليل (النظام)، لكن الرجل صاغه بعبارته.

ومن اللطائف التي تُنقَل عن الشيخ أبي الحسن عليِّ بن ميثم البحراني أنَّه دخل علىٰ الحسن بن سهل وإلىٰ جانبه ملحد قد عظَّمه والناس حوله، فقال: لقد رأيت ببابك عجباً، قال: وما هو؟ قال: رأيت سفينة تعبر بالناس من جانب إلىٰ جانب بلا ملّاح ولا ماصر، قال: فقال له صاحبه الملحد وكان بحض_رته: إنَّ هذا - أصلحك الله - لمجنون، قال: فقلت: وكيف ذاك؟ قال: خشب جماد لا حيلة له ولا قوَّة ولا حياة فيه ولا عمل كيف يعبر بالناس؟ قال: فقال أبو الحسن: فأيُّهما أعجب هذا أو هذا الماء الذي يجري علىٰ وجه الأرض يمنة ويس_رة بلا روح ولا

ص: 39


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 3/ ص 55).

حيلة ولا قوىٰ، وهذا النبات الذي يخرج من الأرض، والمطر الذي ينزل من السماء، تزعم أنت أنَّه لا مدبِّر لهذا كلِّه، وتنكر أن تكون سفينة تُحرَّك بلا مدبِّر وتعبر بالناس؟! قال: فبهت الملحد(1).

ثانياً: معرفة صفاته الكمالية والجلالية، وأفعاله الحكيمة:

أي معرفة أنَّ الله تعالىٰ متَّصف بكلِّ صفات الكمال، وهو تعالىٰ يجلُّ عن أيِّ صفة من صفات النقص، فهو الكمال المطلق، وهو الغنيُّ المطلق، وهذا الأمر أيضاً واضح للعيان.

وأُحِبُّ أن أُلفت النظر إلىٰ أنَّه ينبغي علىٰ المسلم أن يتخلَّق بأخلاق الله تعالىٰ، بمعنىٰ أن يعمل علىٰ أن يتَّصف بصفاته الكمالية، وأن يتَّخذها منهجاً عملياً في حياته، فينظر إلىٰ الصفات التي وصف الله تعالىٰ بها نفسه فيعمل علىٰ الاتِّصاف بها هو.

فمن كلام للإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «... فتأدَّبوا أيُّها النفر بآداب الله (عزوجل) للمؤمنين»(2).

وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «من تأدَّب بآداب الله (عزوجل) أدّاه إلىٰ الفلاح الدائم»(3).

وعنه (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «ومن لم يصلح علىٰ أدب الله لم يصلح علىٰ أدب نفسه»(4).

وروي أنَّ جبرئيل (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) هبط إلىٰ رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، فقال: «يا رسول الله، إنَّ الله (عزوجل) يقرأ عليك السلام، ويقول لك: اقرأ: «لا تَمُدَّنَّ

ص: 40


1- الفصول المختارة للشيخ المفيد (ص 76).
2- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 353).
3- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 89/ ص 214).
4- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 463).

عَيْنَيْكَ إِلىٰ ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ» [الحجر: 88]، فأمر (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) منادياً ينادي: من لم يتأدَّب بأدب الله تقطَّعت نفسه علىٰ الدنيا حسرات»(1).

وبعبارة واضحة: أنَّ ملاك حسن الأخلاق وفضائل الملكات هو وجود مثلها أو ما يناسبها في صفات الله تعالىٰ، مثلاً الله كريم يُحِبُّ الكرم، فالكرم من الملكات الفاضلة. وحليم يُحِبُّ الحلم. والجود حسنٌ لأنَّ الله جواد...

وبالجملة: هو الموجود الكامل الجامع لجميع الكمالات المنزَّه من جميع النقائص، وتحصيل كلِّ كمال تشبه بالخالق تعالىٰ. وما يُسلَب عنه كالجسمية والمحسوسية والمكان والزمان والتركيب وأمثال ذلك من صفات النقص، ويجب الترفُّع عنها علىٰ الإنسان بقدر استطاعته، وهو معنىٰ التقرُّب إلىٰ الله وجعله غاية للعبادات(2).

ومعه، ينبغي علىٰ المؤمن أن يكون رحيماً بالناس ليرحمه الله تعالىٰ، وينبغي عليه أن يكون ودوداً معهم، وينبغي أن يكون صبوراً، شكوراً، عزيزاً، جليلاً...، إلىٰ آخر الصفات الكمالية له جلَّ وعلا.

ويدخل ضمن هذه المعرفة معرفة أنَّ أفعال الله تعالىٰ كلَّها حكيمة ولا لغو ولا عبث فيها، ولذلك أرسل الأنبياء ونصَّب الأوصياء، لأجل هداية الناس وتزكيتهم...

تنبيه:

العلم المختصُّ بإثبات وجوده تعالىٰ وصفاته جلَّ وعلا هو علم

ص: 41


1- فقه الرضا لعليِّ بن بابويه (ص 364).
2- شرح أُصول الكافي لمولىٰ محمّد صالح المازندراني (ج 8/ هامش ص 347).

الكلام، فينبغي للمؤمن أن يأخذ من هذا العلم ما أمكنه، خصوصاً في هذا الزمن حيث سهل كثيراً أخذ العلم من خلال برامج الإنترنيت المتوفِّرة.

ثالثاً: معرفته السلوكية - إذا صحَّ التعبير -:

بمعنىٰ المعرفة التي أرادها الله تعالىٰ منّا اتِّجاهه، والتي تأتي بعد التسليم بوجوده وبربوبيته جلَّ وعلا، وتكون دافعة للإنسان علىٰ اتِّخاذ سلوك معيَّن في الحياة، هذه المعرفة هي التي تجعل الإنسان ملتزماً بأوامر الله تعالىٰ ومنتهياً عن نواهيه.

إنَّ هذه المعرفة المطلوبة قد حدَّدتها الروايات الش_ريفة بأوضح بيان، فعن جابر، قال: سمعت أبا جعفر (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يقول: «إنَّما يعرف الله (عزوجل) ويعبده من عرف الله وعرف إمامه منّا أهل البيت، ومن لا يعرف الله (عزوجل) ولا يعرف الإمام منّا أهل البيت فإنَّما يعرف ويعبد غير الله، هكذا والله ضُلّالاً»(1).

وعن أبي حمزة الثمالي، قال: قال أبو جعفر (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «يا أبا حمزة، إنَّما يعبد الله من عرف الله، وأمَّا من لا يعرف الله كأنَّما يعبد غيره، هكذا ضالّاً»، قلت: أصلحك الله وما معرفة الله؟ قال: «يُصدِّق الله، ويُصدِّق محمّداً رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) في موالاة عليٍّ، والائتمام به وبأئمَّة الهدىٰ من بعده، والبراءة إلىٰ الله من عدوِّهم، وكذلك عرفان الله...»(2).

ص: 42


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 1/ ص 181/ باب معرفة الإمام والردّ إليه/ ح 4).
2- تفسير العيّاشي (ج 2/ ص 116)؛ وبحار الأنوار للعلَّامة المجلس_ي (ج 27/ ص 57 و58). وذكر الشيخ بياناً لهذه الحديث قال فيه: (قوله: هكذا، كأنَّه (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أشار إلىٰ الخلف أو إلىٰ اليمين والشمال، أي حاد عن الطريق الموصِل إلىٰ النجاة، فلا يزيده كثرة العمل إلَّا بُعداً عن المقصود كمن ضلَّ عن الطريق...).

إذن، معرفة الله تعالىٰ تتضمَّن الاعتراف بمن أرسل، وبمن نصَّب خليفة لمن أرسل، وموالاتهم، ومعاداة أعدائهم، وهذه من الأُصول الثابتة لدينا، والتي ثبت الدليل عليها في محلِّه.

النقطة الثالثة: ثغرات معرفية:

عندما نتابع أنفسنا نجد أنَّ الكثير منّا يؤمن بالأُصول العامَّة للدِّين، وهو ملتزم بها نوعاً ما، ولكن هناك بعض الثغرات المريرة التي لا بدَّ أن يلتفت إليها المؤمن، وأن لا يستخفَّ بها، وأن يعمل علىٰ تقوية نفسه فيها، وعلىٰ سدِّ ما انفتح من تلك الثغرات، ومنها التالي:

الثغرة الأُولىٰ:

الإيمان عن تقليد أعمىٰ، بمعنىٰ أنَّنا نشأنا في بيئة شيعية فانتهجنا التشيُّع في حياتنا، والله وحده العالم أنَّنا لو نشأنا في بيئة يهودية أو مسيحية ماذا سنكون؟!

ما يُراد التنبيه عليه هنا هو: أنَّنا حيث منَّ الله تعالىٰ علينا بأن وُلِدْنا في بيئة مؤمنة فعلينا أن لا نكتفي بإيماننا الموروث - وإن كان حقًّا -، بل علينا أن نبحث عن الأساسات القويَّة التي ابتنىٰ عليها إيمان آبائنا.

علينا أن نبحث عن كلِّ عقيدة من عقائدنا ونعرف الدليل القطعي علىٰ حقّانيتها.

والأمر قد يكون صعباً، ولكنَّه ممكن علىٰ كلِّ حالٍ، وإنَّما يحتاج إلىٰ بذل جهد متوسِّط، بأن يجعل المؤمن من همِّه أن يتعرَّف علىٰ عقائده يومياً ولو بمعدّل ربع ساعة فقط، ولن يطول به الزمن حتَّىٰ يرىٰ نفسه أنَّه صار عارفاً بدينه وأُصوله، وبمرتبة تسمح له بالافتخار بابتناء عقيدته علىٰ تلك الأُسس العلمية واليقينية المتينة.

إنَّ الدِّين الحقَّ يريد منّا قوَّةً في اليقين، بحيث يكون المؤمن أصلب من

ص: 43

جبل، فقد روي أنَّه قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) لكميل بن زياد: «الناس ثلاثة: فعالم ربّاني، ومتعلِّم علىٰ سبيل نجاة، وهمج رعاع، أتباع كلِّ ناعق يميلون مع كلِّ ريح، لم يستضيؤوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلىٰ ركن وثيق»(1).

ملاحظة مهمَّة جدًّا:

نحن نعلم أنَّه يُشتَرط في أُصول الدِّين الوصول إلىٰ الجزم واليقين فيها من خلال الدليل القطعي الذي لا يقبل الشكَّ، ولكن تواجهنا هنا عدَّة إشكاليات:

أوَّلاً: أنَّ تحصيل اليقين بكلِّ مسألة مسألة من أُصول الدِّين يحتاج إلىٰ تخصُّص، وبالتالي فهو يحتاج إلىٰ تفرُّغ يفتقر إليه الكثير من الناس.

ثانياً: أنَّ هناك العديد من المسائل العقائدية هي صعبة جدًّا علىٰ إدراك العامَّة من الناس، وبالتالي يصعب عليهم كثيراً الخوض في تفاصيلها.

ثالثاً: أنَّ أكثر الناس اليوم يُقلِّدون علماءهم في أُصول الدِّين، وهذا واقع لا يقبل الشكَّ.

والجواب عن هذه الإشكاليات بالتالي:

أوَّلاً: علينا أن نُسلِّم أنَّ علم أُصول الدِّين هو من العلوم الدقيقة والتي تحتاج إلىٰ تخصُّص، فهذا ما لا يمكن إنكاره، وبالتالي فمن الخطأ المنهجي والمعرفي أن يأتي غير المتخصِّص ليدسَّ أنفه في دهاليز هذا العلم الدقيق.

ثانياً: هناك بعض المسائل العقائدية التي تحتاج إلىٰ تخصُّص من نوع عالٍ، كمسائل القضاء والقدر مثلاً، وهذه ينبغي للمؤمن أن لا يدخل في تفاصيلها إلَّا بعد أن يخوض شوطاً طويلاً في التعرُّف علىٰ المسائل العقائدية ومعرفة أدلَّتها التفصيلية. ويكفي منه أن يتعبَّد بها، أي أن يؤمن بها كما أمره أهل البيت (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) ولو من دون معرفة الدليل عليها.

ص: 44


1- نهج البلاغة (ج 4/ ص 35 و36).

ثالثاً: يمكننا الخروج عن التقليد المذموم في أُصول الدِّين من خلال معرفة الأساسات التي كانت وراء العقيدة، بمعنىٰ أنَّه يمكن للمؤمن أن يسأل العالم أو المتخصِّص في أُصول الدِّين عن مسائله العقائدية، وعن الدليل الذي كان وراءها، ويمكنه أن يستمع الدليل ويفهمه من موقعه هو ومستواه العلمي، وبالتالي لا يكون تقليده للعالم في تلك المسألة العقدية تقليداً أعمىٰ، أي من دون معرفة الدليل، بل سيكون تقليداً منكشف الوجه والدليل، وهو مقبول إلىٰ حدٍّ ما في أُصول الدِّين.

الثغرة الثانية:

عدم الاهتمام بالبحث عن أُصول الدِّين، خصوصاً الخلافية منها، كمسائل الإمامة، والاكتفاء بالثقافة الانتقائية أو السطحية جدًّا، وجعل التدقيق فيها أمراً هامشياً.

إنَّ عدم الاهتمام بهذا الأمر الدِّيني يستلزم عادةً فراغ الذهن عن أدلَّة العقيدة، وبالتالي قد تهتزُّ تلك العقيدة عند أوَّل ريح تهب، وعند أوَّل اختبار فعلي لها. هذا فضلاً عن إفرازها وهناً في محاولة إثبات العقيدة إلىٰ الآخر من أجل هدايته إلىٰ الحقِّ، وقد تُفرز تقهقراً تلقائياً من أيِّ نقاش يدور حول العقيدة مع الطرف الآخر.

وحتَّىٰ نخرج من هذا الواقع المؤلم علينا أن نضع في الحسبان أنَّ معركتنا الحقيقية مع الأطراف الأُخرىٰ هي معركة أُصول وأساسات، وبالتالي فهي معركة وجود. وأنَّ كلَّ واحدٍ منّا مطالَب بأن يكون جندياً في صفِّ المدافعين عن المبدأ، كلٌّ من موقعه. وإن لم يستطع أحدنا أن يعمل شيئاً حيال هذا الوضع فعليه أن يستعين بالمتخصِّص في هذا المجال، ولا يبقىٰ علىٰ التلِّ متفرِّجاً فقط.

ومنه نعرف القيمة الحقيقية للعلماء الأكارم الذين وقفوا أنفسهم

ص: 45

علىٰ الخطِّ الأوَّل للصدِّ ضدَّ العدوِّ، فلولاهم لاقتحمنا العدوُّ منذ أمد بعيد، ولكنّا اليوم في هاوية الابتعاد عن الدِّين الحقِّ، فلنعرف قيمة علمائنا، ولا نَبخسْهم حقَّهم، ولنتذكَّر قول إمامنا الهادي (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) فيهم:

«لولا من يبقىٰ بعد غيبة قائمكم (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) من العلماء الداعين إليه، والدالّين عليه، والذابّين عن دينه بحُجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلَّا ارتدَّ عن دين الله، ولكنَّهم الذين يُمسِكون أزمَّة قلوب ضعفاء الشيعة، كما يمسك صاحب السفينة سُكّانها، أُولئك هم الأفضلون عند الله (عزوجل)»(1).

الثغرة الثالثة:

عدم الاهتمام بفكر الأبناء، وتركهم عرضةً للشبهات التي تنخر في عقل الشابِّ الفارغ. ولا شكَّ أنَّ تقصير الآباء في تعليم أبنائهم العقيدةَ وفق أُسس علمية رصينة له دخل في انحرافاتهم العقائدية في المستقبل، لذا روي عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «بادروا أولادكم [أحداثكم] بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة(2)»(3).

وعن أبي عبد الله جعفر بن محمّد (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «لا يزال العبد المؤمن يُورِّث أهل بيته العلم والأدب الصالح حتَّىٰ يُدخِلهم الجنَّة جميعاً،

ص: 46


1- الاحتجاج للشيخ الطبرسي (ج 2/ ص 260).
2- أي علِّموهم في شرخ شبابهم، بل في أوائل إدراكهم وبلوغهم التمييز من الحديث ما يهتدون به إلىٰ معرفة الأئمَّة (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) والتشيُّع قبل أن يغويهم المخالفون ويُدخلوهم في ضلالتهم، فيعس_ر بعد ذلك صرفهم عن ذلك، والمرجئة في مقابلة الشيعة من الإرجاء بمعنىٰ التأخير لتأخيرهم عليًّا (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) عن مرتبته. وقد يُطلَق في مقابلة الوعيدية إلَّا أنَّ الأوَّل هو المراد هنا. (هامش المصدر).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 47/ باب تأديب الولد/ ح 5).

حتَّىٰ لا يفقد منهم صغيراً ولا كبيراً ولا خادماً ولا جاراً، ولا يزال العبد العاصي يُورِّث أهل بيته الأدب السيِّئ حتَّىٰ يُدخِلهم النار جميعاً، حتَّىٰ لا يفقد فيها من أهل بيته صغيراً ولا كبيراً ولا خادماً ولا جاراً»(1).

وينبغي أن لا نغفل العوامل الخارجية الأُخرىٰ التي تُؤثِّر علىٰ أبنائنا، من رفقة ومدرسة وبيئة، فعلىٰ الأبوين أن يعملا علىٰ توفير المناسب من كلِّ تلك الظروف لتنشئة أولادهم وفق المعايير الصحيحة للإيمان، وبالتالي النجاة.

* * *

ص: 47


1- دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي (ج 1/ ص 82).

ص: 48

المفردة الثانية:

اشارة

الاستخفاف والتهاون

بالمراقبة الإلهيَّة

· الخطر: «يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ».

· الأثر: «نَسُوا اللهَ فَأنساهُمْ أنفُسَهُمْ».

· التوصية: «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ».

ص: 49

ص: 50

تقدَّم أنَّ واحدة من المفردات التي يلزم علىٰ المؤمن التزامها في ما يتعلَّق بمعرفة الله تعالىٰ هي مفردة المعرفة السلوكية، وهنا نريد القول:

إنَّ ترجمة هذه المعرفة إلىٰ سلوك عملي يحتاج إلىٰ صفة أُخرىٰ لا بدَّ أن يعيشها الفرد المؤمن، حتَّىٰ تتحوَّل إلىٰ منهج لحياته، وحتَّىٰ يُترجمها إلىٰ سلوك عملي يلتزمه علىٰ الدوام.

وتلك الصفة التي لا بدَّ من الإيمان العملي بها هي صفة (المراقبة الإلهيَّة).

وحتَّىٰ تتَّضح الصورة نذكر عدَّة نقاط:

النقطة الأولى: معنى الاهتمام بالمراقبة الإلهيَّة:

معنىٰ ذلك:

هو أن يكون المؤمن علىٰ معرفة تامَّة بأنَّ الله تعالىٰ مُطَّلع علىٰ الإنسان، ومراقب له في كلِّ أحواله وحركاته وسكناته. وأنَّه تعالىٰ لا يغيب عنه مثقال حبَّة في السماوات فضلاً عن الأرض، قال تعالىٰ: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأنسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ 16 إِذْ يَتَلَقَّىٰ الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ 17 ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ 18» (ق: 16 - 18).

وقال تعالىٰ: «يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضىٰ مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً108» (النساء: 108).

ص: 51

وقال تعالىٰ: «يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ 19» (غافر: 19).

وقال تعالىٰ: «أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرىٰ 14» (العلق: 14).

وقال تعالىٰ: «هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوىٰ عَلَىٰ الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ 4» (الحديد: 4).

يقول الشاعر سعدي الشيرازي(1):

قد نغلق الباب علىٰ نفسنا *** كيلا ترىٰ عيوبَنا الأعينُ

وليس يجدي غلقُه عند مَنْ *** يعلم ما نُخفي وما نُعْلِنُ

وبعد هذه المعرفة النظرية لا بدَّ علىٰ المؤمن أن يُترجمها إلىٰ سلوك عملي يعكس معرفته بالله تعالىٰ وخشيته منه، وسيكون عنده حينئذٍ إحساس بمعنىٰ: «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ»، ويُطبِّق ذلك الإحساس في سلوكه، تماماً كما كان يعيش أهل البيت (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) والصالحون من هذه الأُمَّة هذه المعاني.

ولا يكفي في هذه المعرفة أن يحشو الفرد ذهنه بآيات وأحاديث ومعلومات عن هذه الصفة، ولا يكفي أن يكتبها في دفتر مذكِّراته، ولا أن يسطرها بماء الذهب، ولا أن يُحدِّث بها في كلِّ مقعدٍ. إنَّما المهمُّ فيها هو الالتزام العملي بها، وأن يعيش الفرد حالة المراقبة الإلهيَّة في فعله وقوله ونظره وسمعه ولسانه وجميع ما يصدر منه وما يرد إليه.

هكذا يستفيد الإنسان من هذه الصفة، وهكذا يكون عارفاً بالله تعالىٰ.

ص: 52


1- ديوان روضة الورد (ص 118).

النقطة الثانية: م_ؤشِّرات المراقبة:

حتَّىٰ يكون المرء علىٰ بيِّنة من أمره، وحتَّىٰ لا يخدع نفسه، وحتَّىٰ لا يكون من الذين يخالف فعلُهم قولَهم، ذكرت الروايات الش_ريفة مؤشِّرات واضحة لمن يعيش أو يريد أن يعيش المراقبة الإلهيَّة عن جِدٍّ.

عن أبي حمزة، قال: قال أبو عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «من عرف الله خاف الله، ومن خاف الله سخت نفسه عن الدنيا»(1).

وعن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «من عرف الله وعظَّمه منع فاه من الكلام(2)، وبطنه من الطعام، وعفىٰ(3) نفسه بالصيام والقيام»، قالوا: بآبائنا وأُمَّهاتنا يا رسول الله، هؤلاء أولياء الله؟ قال: «إنَّ أولياء الله سكتوا فكان سكوتهم ذِكراً، ونظروا فكان نظرهم عبرةً، ونطقوا فكان نطقهم حكمةً، ومشوا فكان مشيهم بين الناس بركةً، لولا الآجال التي قد كتب الله عليهم لم تقرّ أرواحهم في أجسادهم خوفاً من العذاب، وشوقاً إلىٰ الثواب»(4).

ص: 53


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 68/ باب الخوف والرجاء/ ح 4).
2- أي من فضوله. وكذا الطعام، فإنَّ الإكثار منه يورث الثقل عن العبادة. ويحتمل أن يكون كناية عن الصوم. (من المصدر).
3- أي جعلها صافية خالصة، أو جعلها مندرسة ذليلة خاضعة... والأظهر ما في المجالس وغيره وأكثر نسخ الكتاب (عنّا) بالعين المهملة والنون المشدَّدة، أي أتعب. والعناء بالفتح والمدِّ النصب. (من المصدر).
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 237/ باب المؤمن وعلاماته وصفاته/ ح 25). وفي بحار الأنوار للعلَّامة المجلس_ي (ج 66/ ص 288 - 294)، قال 1 نقلاً عن الشيخ البهائي 1: (قد اشتمل هذا الحديث علىٰ المهمِّ من سمات العارفين وصفات الأولياء الكاملين. فأوَّلها: الصمت وحفظ اللسان الذي هو باب النجاة. [ وثانيها: الجوع، وهو مفتاح الخيرات. وثالثها: إتعاب النفس في العبادة بصيام النهار وقيام الليل، وهذه الصفة ربَّما توهَّم بعض الناس استغناء العارف عنها وعدم حاجته إليها بعد الوصول، وهو وهم باطل، إذ لو استغنىٰ عنها أحد لاستغنىٰ عنها سيِّد المرسَلين وأشرف الواصلين، وقد كان (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يقوم في الصلاة إلىٰ أن ورمت قدماه، وكان أمير المؤمنين عليٌّ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) الذي إليه ينتهي سلسلة أهل العرفان يُصلّي كلَّ ليلة ألف ركعة، وهكذا شأن جميع الأولياء والعارفين، كما هو في التواريخ مسطور، وعلىٰ الألسنة مشهور. ورابعها: الفكر، وفي الحديث: «تفكُّر ساعة خير من عبادة ستّين سنة»، قال بعض الأكابر: إنَّما كان الفكر أفضل لأنَّه عمل القلب، وهو أفضل من الجوارح، فعمله أشرف من عملها. ألَا ترىٰ إلىٰ قوله تعالىٰ: «أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي» [طه: 14]؟ فجعل الصلاة وسيلةً إلىٰ ذِكر القلب، والمقصود أشرف من الوسيلة. وخامسها: الذِّكر، والمراد به الذِّكر اللساني، وقد اختاروا له كلمة التوحيد لاختصاصها بمزايا ليس هذا محلُّ ذكرها. وسادسها: نظر الاعتبار، كما قال سبحانه: ]فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ[ [الحشر: 2]. وسابعها: النطق بالحكمة، والمراد بها ما تضمَّن صلاح النشأتين أو صلاح النشأة الأُخرىٰ من العلوم والمعارف، أمَّا ما تضمَّن صلاح الحال في الدنيا فقط فليس من الحكمة في شيء. وثامنها: وصول بركتهم إلىٰ الناس. وتاسعها وعاشرها: الخوف والرجاء... وهذه الصفات العش_ر إذا اعتبرتها وجدتها أُمَّهات صفات السائرين إلىٰ الله تعالىٰ يسَّ_ر الله لنا الاتِّصاف بها بمنِّه وكرمه).

إنَّ خلاصة علامة تفعيل المراقبة الإلهيَّة هو الخوف من الله تعالىٰ وخشيته، هذا الخوف وتلك الخشية التي يتفرَّع عليها سخاء النفس عن الدنيا، وإذا سخت النفس عن الدنيا سيثمر ما ذكره رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) مِنْ مَنْع الفم من الكلام في اللغو والباطل، وحَصْ_ره بالحقِّ، ومَنْع البطن من الحرام والشبهات، وتعويد النفس الصيام والقيام.... إلىٰ آخر ما ذكره الرسول الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) في حديثه.

ص: 54

هذا الخوف من الله تعالىٰ سيثمر فيما يثمر أنَّ الله تعالىٰ سيهب لك هيبةً في نفوس الموجودات، كما روي عن الهيثم بن واقد، قال: سمعت أبا عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يقول: «من خاف الله أخاف الله منه كلَّ شيء، ومن لم يخف الله أخافه الله من كلِّ شيء»(1).

ويقول الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «إنَّ المؤمن يخشع له كلُّ شيء، ويهابه كلُّ شيء»، ثمّ قال: «إذا كان مخلصاً لله أخاف الله منه كلَّ شيء، حتَّىٰ هوام الأرض وسباعها وطير السماء»(2).

النقطة الثالثة: تفرُّعات المراقبة الإلهيَّة:

أن يعيش الفرد المراقبة الإلهيَّة، هذا يعني أنَّه يعيش في حياته تحت ما يشبه كاميرا المراقبة المستمرَّة، ولكنَّها من النوع الذي لا يُصوِّر الظاهر فقط، وإنَّما يُصوِّر الباطن أيضاً، بل هي تستنسخ نفس العمل وتحفظه في كتاب لا يضلُّ أبداً.

هذه المراقبة، وحتَّىٰ يعيشها الفرد، عليه أن يعرف تفرُّعاتها، وهي عديدة، نذكر منها:

التفرُّع الأوَّل: مراقبة المؤمن لنفسه:

وتعني أن يلاحظ المؤمن نفسه وأعماله بعد أن كان قد عاهد الله تعالىٰ أن لا يعبد غيره، ولا يستعين بغيره عندما يقول يومياً في صلواته: ]إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ 5[ (الفاتحة: 5)، فيراقب نفسه هل تتوكَّل علىٰ غير الله تعالىٰ؟ وهل تتناسىٰ وجود الله تعالىٰ؟ وهل تعمل بما يُرضي الله تعالىٰ أو بما يُسخِطه؟

ص: 55


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 68/ باب الخوف والرجاء/ ح 3).
2- صفات الشيعة للشيخ الصدوق (ص 36).

فأنت في كلِّ حركةٍ وكلِّ نَفَسٍ وكلِّ تص_رُّفٍ لا تخلو إمَّا أن تكون قد عملت بما يُرضي الله تعالىٰ، أو بما يُسخِطه. وتأتي أهمّية المراقبة هنا لتأخذ بيد المؤمن إلىٰ ما يُرضي الله تعالىٰ ويُبعِده عن سخطه.

وهذا الأمر أكَّدت عليه الروايات الش_ريفة كثيراً. وربَّما عبَّرت عنه بالمحاسبة، والحقيقة أنَّ المحاسبة هي نتيجة طبيعية لمراقبة المرء لنفسه. وربَّما عبَّرت عنه بعض الروايات الأُخرىٰ بعرض الأعمال علىٰ القرآن الكريم.

عن النبيِّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتجهَّزوا للعرض الأكبر»(1).

ونُقِلَ عن أحد الأشخاص يقال له: (توبة بن صمة) أنَّه كان يحاسب نفسه في أكثر أوقات الليل والنهار، وفي أحد الأيّام حاسب نفسه عن ما مض_ىٰ من أيّام عمره، وكان قد مض_ىٰ من عمره ستّون سنة. فحسب أيّامها فرأىٰ أنَّها تصير [حوالي] (واحداً وعش_رين ألفاً وخمسمائة يوم). فقال: الويل لي إذا لاقيت مالكاً بواحد وعش_رين ألفاً وخمسمائة ذنب! فعندما قال ذلك أُغمي عليه، ومات في إغمائه ذلك(2).

أسباب الاستخفاف في هذا التفرُّع:

إنَّ الاستخفاف هنا يكون بأن ينسىٰ المرء ربَّه، وذلك سيُنتِج نتيجة حتمية خطرة جدًّا هي: نسيان النفس. وتتحقَّق هذه النتيجة الخطرة لعدَّة أسباب مردُّها إلىٰ: نسيان الأهمّ والانشغال بغير المهمِّ.

وأهمُّ تلك الأسباب هي التالي:

ص: 56


1- وسائل الشيعة للحرِّ العاملي (ج 16/ ص 99/ ح 21082/9).
2- منازل الآخرة والمطالب الفاخرة للشيخ عبّاس القمّي (ص 223).

السبب الأوَّل: اتِّخاذ الدِّين لهواً ولعباً:

وعدم الانضباط وفق قوانينه، بل التعامل معه تعاملاً انتقائياً، فيأخذ منه ما يصبُّ في مصلحته الشخصية الدنيوية، ويرفض ما دونه. الأمر الذي يعني الاغترار بالدنيا والانشغال عن الآخرة، فهذا سيؤدّي إلىٰ أنَّ الله تعالىٰ يتعامل معهم يوم القيامة معاملة المنس_يِّ الذي لا يتذكَّره أحد، بسبب فسقهم في الحياة من خلال ذلك التعامل الانتقائي.

قال تعالىٰ: ]الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ (1) كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ 51[ (الأعراف: 51)(2).

ولذلك يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «فَإِنَّه وَاللهِ الْجِدُّ لَا اللَّعِبُ، وَالْحَقُّ لَا الْكَذِبُ، وَمَا هُوَ إِلَّا المَوْتُ أَسْمَعَ دَاعِيه، وَأَعْجَلَ حَادِيه، فَلَا يَغُرَّنَّكَ سَوَادُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ، فَقَدْ رَأَيْتَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِمَّنْ جَمَعَ المَالَ وَحَذِرَ الإِقْلَالَ وَأَمِنَ الْعَوَاقِبَ طُولَ أَمَلٍ وَاسْتِبْعَادَ أَجَلٍ، كَيْفَ نَزَلَ بِه

ص: 57


1- في تفسير عليِّ بن إبراهيم القمّي (ج 1/ ص 235): (فاليوم ننساهم) أي نتركهم، والنسيان منه (عزوجل) هو الترك.
2- في تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي (ج 4/ ص 265): «الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً» أي أعدُّوا دينهم الذي أمرهم الله تعالىٰ به لللهو واللعب، دون التديُّن به. وقيل: معناه: اتَّخذوا دينهم الذي كان يلزمهم التديُّن به والتجنُّب من محظوراته لعباً ولهواً، فحرَّموا ما شاؤوا، واستحلُّوا ما شاؤوا بشهواتهم. «وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا» أي اغترُّوا بها وبطول البقاء فيها، فكأنَّ الدنيا غرَّتهم. «فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ 51» أي نتركهم في العذاب كما تركوا التأهُّب والعمل للقاء هذا اليوم. عن ابن عبّاس والحسن ومجاهد. وقيل: معناه: نعاملهم معاملة المنس_يِّ في النار، فلا نُجيب لهم دعوة، ولا نرحم لهم عبرة، كما تركوا الاستدلال حتَّىٰ نسوا العلم، وتعرَّضوا للنسيان. عن الجُبّائي.

المَوْتُ فَأَزْعَجَه عَنْ وَطَنِه، وَأَخَذَه مِنْ مَأْمَنِه، مَحْمُولًا عَلَىٰ أَعْوَادِ المَنَايَا، يَتَعَاطَىٰ بِه الرِّجَالُ الرِّجَالَ، حَمْلًا عَلَىٰ المَنَاكِبِ، وَإِمْسَاكاً بِالأَنَامِلِ»(1).

السبب الثاني: عدم النهي عن المنكر والباطل:

فإنَّ الله تعالىٰ قد أخذ علىٰ العارفين بالحقِّ وبالباطل أن ينهوا عن الباطل إذا وقع، وأن لا يقفوا متفرِّجين عليه، خوفاً من أن يتحوَّل من فعل شخص_ي إلىٰ ظاهرة تسود المجتمع. وبالتالي سيؤدّي ذلك إلىٰ نسيان المراقبة الإلهيَّة، والتعامل مع الكون عموماً معاملة المنقطع عن ربِّه، الذي لا علاقة لربِّه به. الأمر الذي يعني فوضىٰ معرفية تعقبها فوضىٰ سلوكية.

قال تعالىٰ: «فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ 165» (الأعراف: 165).

وقد روي عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) في تفسير هذه الآية أنَّه قال: «كانوا ثلاثة أصناف: صنف ائتمروا وأَمَروا فنجوا، وصنف ائتمروا ولم يأمروا فمُسخوا ذرًّا، وصنف لم يأتمروا ولم يأمروا فهلكوا»(2).

ص: 58


1- نهج البلاغة (ج 2/ ص 14 و15).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 8/ ص 158/ ح 151). وفي شرح أُصول الكافي للمولىٰ محمّد صالح المازندراني (ج 12/ ص 177 و178) ما نصُّه: (قوله: «فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ»: لعلَّ المراد بالنسيان لازمه، وهو ترك ما يوجب الثواب وفعل ما يوجب العقاب، لشباهتهم بالناس في ذلك. «صنف ائتمروا»: أي قبلوا الأمر والنهي وامتثلوا، «وأمروا» بالمعروف «ونهوا» عن المنكر، «فنجوا» من العقوبة الدنيوية والأُخروية. «وصنف ائتمروا ولم يأمروا فمُسخوا ذرًّا»، للمداهنة والمساهلة مع أهل المعاصي في السكوت عمَّا رأوا منهم من المنكرات، فمن شاهد معصية ولم ينه عنها فهو عاص أيضاً، وربَّما ساقه ذلك إلىٰ فعل منكر والمشاركة مع أهله، وعلىٰ التقديرين يستحقُّ العقوبة. ويُفهَم منه أنَّ الأمر بالمعروف عند قيام بعض به لا يسقط عن غيره إذا لم يأتمر العاصي، بل وجب عليه أيضاً، فلعلَّه يأتمر بتظاهرهم وتعاونهم).

السبب الثالث: النفاق:

قال تعالىٰ: «الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ 67» (التوبة: 67).

فهذا هو حال المنافقين، «يعني نسوا الله في دار الدنيا، لم يعملوا بطاعته، فنسيهم في الآخرة، أي: لم يجعل لهم في ثوابه شيئاً، فصاروا منسيِّين من الخير»(1).

والنتيجة من كلِّ ذلك هي:

أنَّ المرء سينسىٰ نفسه تماماً، فينسىٰ لماذا خلقه الله تعالىٰ، وما هو الهدف الذي أوجده الله تعالىٰ من أجله في هذه الحياة، وسينسىٰ بذلك آخرته، بل سينسىٰ حتَّىٰ خالقه جلَّ وعلا، وبالتالي سيكون الخاسر الوحيد هو المرء نفسه لا غير. قال تعالىٰ: «وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ 19» (الحشر: 19).

والنقطة الجديرة بالملاحظة:

أنَّ القرآن الكريم يعلن هنا - بص_راحة - أنَّ الغفلة عن الله تُسبِّب الغفلة عن الذات. ودليل ذلك واضح أيضاً، لأنَّ نسيان الله يؤدّي من جهة إلىٰ انغماس الإنسان في اللذّات المادّية والشهوات الحيوانية، وينسىٰ خالقه، وبالتالي يغفل عن ادِّخار ما ينبغي له في يوم القيامة.

ومن جهة أُخرىٰ فإنَّ نسيان الله ونسيان صفاته المقدَّسة، وأنَّه سبحانه هو الموجود المطلق والعالم اللامتناهي، والغنيُّ اللّامحدود، وكلُّ

ص: 59


1- التوحيد للشيخ الصدوق (ص 259).

ما سواه مرتبط به ومحتاج لذاته المقدَّسة، كلُّ ذلك يُسبِّب أن يتصوَّر نفسه مستقلًّا ومستغنياً عن المبدأ.

وأساساً فإنَّ النسيان - في حدِّ ذاته - من أكبر مظاهر تعاسة الإنسان وشقائه، لأنَّ قيمة الإنسان في قابلياته ولياقاته الذاتية وطبيعة خلقه التي تميزه عن الكثير من المخلوقات، وإذا نسيها فهذا يعني نسيان إنسانيته، وفي مثل هذه الحالة يسقط الإنسان في وحل الحيوانية، ويصبح همُّه الأكل والش_رب والنوم والشهوات. وهذه كلُّها عامل أساس للفسق والفجور، بل إنَّ نسيان الذات هو من أسوأ مصاديق الفسق والخروج عن طاعة الله، ولهذا يقول سبحانه: «وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ 19» (الحشر: 19)(1).

التفرُّع الثاني: مراقبة المؤمن لأُسرته:

وهنا تأتي المرتبة الثانية للمراقبة، وهي أنَّ المؤمن وبعد أن يراقب نفسه ويقودها بعقله إلىٰ ما يرضي الله تعالىٰ، يتوجَّب عليه أن يراقب من هو مسؤول عنهم غداً يوم القيامة. فالأب مسؤول عن متابعة أولاده وزوجته، بمعنىٰ أن يتابع أعمالهم العبادية ليُصحِّح الخاطئ منها، ويتابع تص_رُّفاتهم الخاطئة ليُصحِّحها، فيتابع أولاده ومَنْ يصادقون، ويراقب التلفاز فيمنع القنوات التي تدعو إلىٰ الانحراف أو الهمجية أو اللّاهدفية وما شابه، ويراقب حتَّىٰ اتِّصالات الأولاد الهاتفية!

طبعاً لا يعني هذا أن يتحوَّل الأب إلىٰ جاسوس علىٰ عائلته، وإنَّما مهمَّته المراقبة العلنية بحيث يفهم أفراد الأُسرة أنَّ وراءهم من يتابعهم، وهو أبوهم.

ص: 60


1- تفسير الأمثل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي (ج 18/ ص 212).

والخلاصة:

أن يقوم الأب بمهمَّة الأنبياء (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) داخل أُسرته، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما يستلزمه ذلك من التربية الصالحة.

روي أنَّ رجلاً سأل العالم - أي الإمام الكاظم (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) - عن قول الله (عزوجل): «قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ» [التحريم: 6«، قال (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «يأمرهم بما أمرهم الله وينهاهم عمَّا نهيهم الله، فإن أطاعوا كان قد وقيهم، وإن عصوه كان قد قضىٰ ما عليه»(1).

وعن أبي بصير، قال: سألت أبا عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) عن قول الله (عزوجل): ]قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ»، قلت: هذه نفس_ي أقيها، فكيف أقي أهلي؟ قال (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «تأمرهم بما أمرهم الله به وتنهاهم عمَّا نهاهم الله عنه، فإن أطاعوك كنت وقيتهم، وإن عصوك فكنت قد قضيت ما عليك»(2).

إنَّ الاستخفاف يتحقَّق هنا بأن يهمل الرجل أهل بيته، فلا يُعلِّمهم دينهم، ولا يُحذِّرهم من أخطار الانحراف، ولا يهتمُّ بأُمورهم الأخلاقية، إلىٰ الحدِّ الذي قد نجد البعض من الآباء مَنْ يتعامل مع بيته معاملة الفندق الذي ينزل فيه لراحة بدنه وإشباع بطنه، ولا يهمُّه بعد ذلك كيف يكون عليه الفندق أو أهل الفندق!

التفرُّع الثالث: المراقبة الاجتماعية:

وتعني فيما تعنيه: أن يكون المؤمن حريصاً علىٰ مصلحة المسلمين العامَّة، فيعمل علىٰ مراقبة الأوضاع العامَّة وإبداء النصيحة كلَّما حض_ر

ص: 61


1- فقه الرضا لعليِّ بن بابويه (ص 375).
2- كتاب الزهد لحسين بن سعيد الكوفي (ص 17/ ح 36).

وقتها وكلَّما سنحت الفرصة، وهو ما تُعبِّر عنه الروايات بالاهتمام بأُمور المسلمين.

فعن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «من أصبح لا يهتمُّ بأُمور المسلمين فليس بمسلم»(1).

وعن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «عليك بالنصح لله في خلقه، فلن تلقاه بعمل أفضل منه»(2).

وعن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «الخلق عِيال الله، فأحبُّ الخلق إلىٰ الله من نفع عيال الله، وأدخل علىٰ أهل بيت سروراً»(3).

ص: 62


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 163/ باب الاهتمام بأُمور المسلمين والنصيحة لهم ونفعهم/ ح 1)؛ ونقله العلَّامة المجلس_ي في بحار الأنوار (ج 71/ ص 337)، وفيه: (بيان: «من أصبح» أي دخل في الصباح «لا يهتمُّ بأُمور المسلمين» أي لا يعزم علىٰ القيام بها، ولا يقوم بها مع القدرة عليه. في الصحاح: أهمَّني الأمر إذا أقلقك وحزنك، والمهمُّ الأمر الشديد، والاهتمام الاغتمام، واهتمَّ له بأمره. وفي المصباح: اهتمَّ الرجل بالأمر قام به. «فليس بمسلم» أي كامل الإسلام، ولا يستحقُّ هذا الاسم. وإن كان المراد عدم الاهتمام بش_يء من أُمورهم لا يبعد سلب الاسم حقيقةً، لأنَّ من جملتها إعانة الإمام ونص_رته ومتابعته، وإعلان الدِّين وعدم إعانة الكفّار علىٰ المسلمين. وعلىٰ التقادير المراد بالأُمور أعمُّ من الأُمور الدنيوية والأُخروية. ولو لم يقدر علىٰ بعضها فالعزم التقديري عليه حسنة يُثاب عليها...).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 163/ باب الاهتمام بأُمور المسلمين والنصيحة لهم ونفعهم/ ح 3)؛ ونقله أيضاً العلَّامة المجلس_ي في بحار الأنوار (ج 71/ ص 338)، وفيه: (توضيح: النصح لله في خلقه الخلوص في طاعة الله فيما أمر به في حقِّ خلقه من إعانتهم وهدايتهم، وكفِّ الأذىٰ عنهم، وترك الغشِّ معهم. أو المراد النصح للخلق خالصاً لله. «فلن تلقاه» أي عند الموت أو في القيامة «بعمل» أي مع عمل).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 163/ باب الاهتمام بأُمور المسلمين والنصيحة لهم ونفعهم/ ح 7)؛ ونقله أيضاً العلَّامة المجلس_ي في بحار الأنوار (ج 71/ ص 339)، وفيه: [ (بيان: «الخلق عيال الله» العِيال - بالكس_ر - جمع عيل، كجياد وجيد، وهم من يمونهم الإنسان ويقوم بمصالحهم، فاستُعير لفظ العِيال للخلق بالنسبة إلىٰ الخالق فإنَّه خالقهم، والمدبِّر لأُمورهم، والمقدِّر لأحوالهم، والضامن لأرزاقهم. «فأحبُّ الخلق إلىٰ الله» أي أرفعهم منزلةً عنده وأكثرهم ثواباً «من نفع عِيال الله» بنعمة أو بدفع مض_رَّة أو إرشاد وهداية أو تعليم أو قضاء حاجة وغير ذلك من منافع الدِّين والدنيا. وفيه إشعار بحسن هذا الفعل، فإنَّه تكفَّل ما ضمن الله لهم من أُمورهم. وإدخال الس_رور علىٰ أهل بيت إمَّا المراد به منفعة خاصَّة تعمُّ الرجل وأهل بيته وعشائره، أو تنبيه علىٰ أنَّ كلَّ منفعة توصله إلىٰ أحد من المؤمنين يصير سبباً لإدخال الس_رور علىٰ جماعة من أهل بيته).

وعنه(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «من ردَّ علىٰ قوم من المسلمين عادية ماء أو نار أوجبت له الجنَّة»(1).

والاستخفاف هنا يكون بترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسيأتي الكلام تفصيلاً فيها في المفردة الثالثة عشرة إن شاء الله تعالىٰ.

* * *

ص: 63


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 55/ باب بدون عنوان/ ح 3)؛ وبحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 71/ ص 340).

ص: 64

المفردة الثالثة:

اشارة

الاستخفاف والتهاون

بوساوس النفس الأمّارة بالسوء

· الخطر: ضياع النفس.

· الأثر: تزيين العمل السيِّئ.

· التوصية: «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ».

ص: 65

ص: 66

حتَّىٰ يتَّضح الحال في هذه المفردة نذكر عدَّة خطوات:

الخطوة الأولى: النفس بين المدح والذمِّ:

كثيراً ما نسمع الأفواه تخطب والألسن تذيع بض_رورة محاربة النفس ومعاداتها وعدم الثقة بها وعدم إعطائها ما تشتهي. وكثيراً ما نحفظ الأحاديث التي تُص_رِّح بهذا المعنىٰ، قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «أعدىٰ عدوّك نفسك التي بين جنبيك»(1).

وفي الوقت نفسه نقرأ في الأحاديث الش_ريفة أنَّ هذه النفس الإنسانية هي من الكرامة بحيث إنَّها أقرب شيء إلىٰ الله تعالىٰ.

وطبعاً ليس في هذا أيُّ مفارقة، بل هي حقيقة واقعية معاشة، فإنَّ النفس طُبعت وجُبلت علىٰ أنَّ لها إمكانية التلوُّن بألوان متعدِّدة، أي إنَّها من نوع الموجود (المشكّك) ذي المراتب المتعدِّدة المختلفة، تكون في لون ومرتبة منها خبيثة و(أمّارة بالسوء)، وفي لون آخر تكون طيِّبة و(مطمئنَّة)، وقد تكون بين بين و(لوّامة).

والأحاديث التي ذمَّت فقد ذمَّت الأُولىٰ منها، يقول الإمام عليٌّ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «النفس الأمّارة المسوِّلة تتملَّق تملُّق المنافق، وتتصنَّع بشيمة الصديق الموافق، حتَّىٰ إذا خدعت وتمكَّنت تسلَّطت تسلُّط العدوِّ، وتحكَّمت تحكُّم العتوِّ، فأوردت موارد السوء»(2).

ص: 67


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 67/ ص 64).
2- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 64 و65).

والتي مدحت فقد مدحت الثانية منها، يقول الإمام عليٌّ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «إنَّ النفس لجوهرة نفيسة، من صانها رفعها ومن ابتذلها وضعها»(1).

ويقول (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «ليس علىٰ وجه الأرض أكرم علىٰ الله سبحانه من النفس المطيعة لأمره»(2).

والتي حذَّرت قصدت الأخيرة منها، فإنَّها بين بين. يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «إنَّ نفسك لخدوع، إن تثق بها يقتدك الشيطان إلىٰ ارتكاب المحارم»(3).

ويقول (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «كن أوثق ما تكون بنفسك، أحذر ما تكون من خداعها»(4).

إذن، نعرف من هذا: أنَّ كلَّ واحدٍ منّا له نفس واحدة في كلِّ آنٍ، ولكنَّها تختلف من وقت وظرف لآخر، فقد تكون في وقت ما وتحت ظروف خاصَّة أمّارة بالسوء، وقد تكون في وقت آخر وتحت ظرف آخر مطمئنَّة، وقد تكون لوّامة.

والمطلوب من الإنسان في هذه الحياة أن يعرف نفسه، وأن يتعاهدها، ليضعها في موضعها المناسب. فإنَّ «النفوس طلقة، لكن أيدي العقول تمسك أعنَّتها عن النحوس»، كما يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)(5).

والمهمُّ أن ينتبه الإنسان إلىٰ أنَّ كثيراً من تص_رُّفاته قد تنبع من نفسه الأمّارة بالسوء، وكلُّ الذنوب والأخطاء هي صادرة من هذه النفس.

ص: 68


1- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 141).
2- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 412).
3- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 151).
4- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 392).
5- موسوعة العقائد الإسلاميَّة للشيخ محمّد الريشهري (ج 1/ ص 320/ ح 793).

والأدهىٰ في هذه الحال هو أنَّ الإنسان عادةً ما يدافع عن نفسه ويُبرِّر لها أفعالها مهما كانت. لذا كان لزاماً علىٰ الإنسان أن ينتبه لنفسه هذه، وأن يحاربها أشدّ حرب، وأن يستمرَّ في ذلك حتَّىٰ يُحوِّلها إلىٰ بداية الخير، بأن يجعلها لوّامة، «تلوم علىٰ الخير والش_رِّ، تقول: لو فعلت كذا وكذا، وتندم علىٰ ما فات وتلوم عليه»(1). ويستمرَّ حتَّىٰ يوصلها إلىٰ مرتبة الاطمئنان، فلا يكون منها حينئذٍ إلَّا الخير، وستكون حينذاك مباركة نفّاعة أينما حلَّت.

وهذه التحوُّلات كلُّها بيد الإنسان نفسه، كما يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «الرجل حيث اختار لنفسه، إن صانها ارتفعت، وإن ابتذلها اتَّضعت»(2)، و«المرء حيث وضع نفسه برياضته وطاعته، فإن نزَّهها تنزَّهت، وإن دنَّسها تدنَّست»(3).

الخطوة الثانية: مشاكل الإنسان هي بسبب نفسه الأمّارة:

هل تعلم أنَّ أكثر مشاكل الإنسان - إن لم تكن كلّها - هي بسبب نفسه الأمّارة بالسوء؟!

وهذه حقيقة يذكرها القرآن الكريم، والتجربة أكبر برهان.

القرآن يشير إلىٰ أنَّ هذه النفس توسوس للإنسان: «وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ» (ق: 16)، فالنفس إذن توسوس للإنسان، وهذه الوسوسة تؤدّي بالمرء إلىٰ الحضيض.

ويذكر القرآن الكريم نماذج لأفعال هذه النفس، وكيف أنَّها

ص: 69


1- ورد هذا المعنىٰ عن ابن عبّاس كما في: الدُّرِّ المنثور لجلال الدِّين السيوطي (ج 6/ ص 287).
2- ميزان الحكمة للشيخ محمّد الريشهري (ج 4/ ص 3327).
3- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 57).

أودت بأُناس كثير، فمثلاً امرأة العزيز التي ما كانت تفتقر إلىٰ أيِّ شيء، ولكن نفسها كانت تقول لها: (يوسف شابٌّ قويٌّ جميلٌ، يملكه زوجك، هو ملكك، استغلّيه كيف أردتِ)، وكيف أنَّ النبيَّ يوسف (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) مَلَكَ نفسه وجعلها مطمئنَّة. ولكن بعد مرور سنين اتَّهمت نفسها: «وَما أُبَرِّئُ نَفْسِ_ي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي» (يوسف: 53)، فالسبب في الجريمة هي نفسها، فرغم كلّ ما عندها لكنَّها سقطت لأنَّها لم تملك نفسها وتركتها تطيش في جهلها.

قارون، كان فقيراً مدقعاً، رُزِقَ بطريقة وبأُخرىٰ مالاً كثيراً، بحيث كانت «مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ» (القَصص: 76)، وكان الكثير من بني إسرائيل يتمنّىٰ أن يكون له مثل ما أُوتي قارون، ولكنَّه اتَّبع هواه وأردته نفسه، وادَّعىٰ أنَّه إنَّما أُوتي كلَّ ذلك علىٰ علم عنده، فكان عاقبته أن خُسِفَ به وبداره الأرض، وصار عِظة لغيره، كلُّ ذلك بسبب نفسه.

(إبليس مشكلته لم تأتِ لقلَّة معلوماته، وبالعكس فهو في هذا الجانب كان متفوِّقاً، وكان عالماً كبيراً يعلم أشياء لا نعلمها نحن ولم نطَّلع عليها، ولكن من أين أُدين؟

«قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ 12» (الأعراف: 12)، مقتله كان التكبُّر، والتكبُّر حالة نفسية وليست عقلية، لذلك لم يستطع أن يستفيد من علمه وعقله. وكثير من الذين انحرفوا وكثير من الذين شقوا، المشكلة التي كانت عندهم ليست مشكلة قلَّة العلم والمعرفة، وإنَّما هي مرض النفس...)(1).

ص: 70


1- معرفة النفس للشيخ حسن الصفّار (ص 12).

(وكم في التاريخ من أفراد ومن تجمُّعات كانوا ضحايا وقرابين لانخداعهم واغترارهم بنفوسهم الأمّارة بالسوء، وقتلىٰ الخوارج في واقعة النهروان، والذين يقارب عددهم أربعة آلاف شخص، هم نموذج واضح لهذه الحقيقة، فقد كانوا من أنصار الإمام عليٍّ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) ومن أصحابه، ولكنَّهم في لحظة غفلة وضلال استحوذ عليهم الشيطان، وأسلموا قيادهم للنفس الأمّارة بالسوء!

يقول الإمام عليٌّ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) وقد مرَّ بقتلىٰ الخوارج يوم النهروان(1): «بُؤْساً لَكُمْ، لَقَدْ ضَرَّكُمْ مَنْ غَرَّكُمْ»، فقيل له: من غرَّهم يا أمير المؤمنين؟ فقال: «الشَّيْطَانُ المُضِلُّ، وَالأَنْفُسُ الأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ غَرَّتْهُمْ بِالأَمَانِيِّ، وَفَسَحَتْ لَهُمْ بِالمَعَاصِي، وَوَعَدَتْهُمُ الإِظْهَارَ، فَاقْتَحَمَتْ بِهِمُ النَّارَ»)(2).

قابيل، إنَّما قتل أخاه لأنَّه اتَّبع هوىٰ نفسه: «فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ 30» (المائدة: 30).

السامري، صاحب نبيِّ الله موسىٰ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، والذي أضلَّ الناس المؤمنين بتوجيههم لعبادة عجل صنعه من الحُلي، يقول تعالىٰ: «قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ 95 قالَ بَصُ_رْتُ بِما لَمْ يَبْصُ_رُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِ_ي 96» (طه: 95 و96).

وإخوة نبيِّ الله يوسف (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) إنَّما قاموا تجاهه بتلك الجريمة النكراء، حيث ألقوه في قاع الجُبِّ، وهو ذلك الصغير الوديع المتفرِّد في جماله وحسنه، إنَّما صنعوا ذلك لانحراف نفس_ي أصابهم، يقول تعالىٰ

ص: 71


1- نهج البلاغة (ج 4/ ص 77).
2- معرفة النفس للشيخ حسن الصفّار (ص 22).

علىٰ لسان أبيهم يعقوب (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلىٰ ما تَصِفُونَ 18» (يوسف: 18).

ربَّما تجد شخصاً ذا منصب رفيع، ومرتَّب كبير، وليس يعوزه شيء من أُمور الدنيا، ولكنَّه مع ذلك يطلب (الرشوة)، أو يقع في مستنقع الرذيلة من محرَّمات شنيعة وبذيئة.

ربَّما تجد امرأة ملكت من الجمال الش_يء الكثير، ولكنَّها ابتذلته بعرضه علىٰ كلِّ من هبَّ ودبَّ من دون مقابل، اتِّباعاً لنفسها وظنّها بأنَّها عندما تعرض جمالها وتفتن به شابًّا أهوج فإنَّها تكون ناجحة في حياتها!

أحد الرؤساء الغربيين رغم ما كان عنده من منصب وثقافة معلوماتية - حتَّىٰ إنَّه كان قد أخذ دورات ضخمة في علم البرمجة اللغوية العصبية NLP - عند كبار المدرِّبين، ولكنَّه وقع في الفضيحة التي مهَّدت الطريق لأعدائه أن يوقعوا به، بسبب نفسه.

نعم، هذه هي النفس، تورد مطيعها موارد الهلكة. لذلك كان لزاماً علينا التعرُّف عليها، ومعالجتها بالطُّرُق المناسبة.

الخطوة الثالثة: لماذا هذا السقوط؟

قد يتساءل البعض ويقول: أوَليس الله تعالىٰ حكيماً لا يفعل العبث، ولا يُعطي إلَّا ما هو خير؟

أليس الله تعالىٰ هو خالق النفس وواهبها للإنسان؟

فإذا كان كذلك، فلماذا كانت النفس أمّارة؟

هل كونها أمّارة هو من أصل خلقتها ومن طبيعتها، أو أنَّه أمر عارض عليها؟

ص: 72

الحقيقة أنَّ القرآن الكريم يشير في بعض الآيات إلىٰ أنَّ كون النفس أمّارة بالسوء، وكونها غير صالحة، هذا أمر عارض عليها، وإلَّا فإنَّ الله تعالىٰ عندما خلق النفس جعلها علىٰ الفطرة الإلهيَّة تقيَّة نقيَّة.

يقول تعالىٰ: «وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها 7 فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها 8 قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها 9 وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها 10» (الشمس: 7 - 10).

قالوا: إنَّ الدَّسَّ بمعنىٰ إخفاء شيء في شيء، فالإنسان عندما يرتطم بالمعاصي فإنَّه سيُخفي نفسه الصالحة النقيَّة بينها، وبالتالي سيطغىٰ عليها الأمر بالسوء. وفي هذا إشارة إلىٰ نقاوة النفس في أصل خلقتها، وأنَّها إنَّما تكون أمّارة بالسوء بسبب ظروف عارضة تحيط بالمرء.

أمَّا لماذا هذا السقوط؟

ولماذا تتحوَّل النفس النقيَّة إلىٰ أمّارة بالسوء؟

فهذا له أسباب عديدة، وقبل أن نذكر بعض تلك الأسباب لا بدَّ من إلفات النظر إلىٰ أنَّ تلك الأسباب ليست عللاً تامَّة لتحوُّل النفس إلىٰ أمّارة بالسوء، وإنَّما هي مقتضيات لذلك. وهذا يعني أنَّه ما زال الإنسان قادراً علىٰ التمرُّد علىٰ تلك الأسباب وتجاوز أثرها وعدم الانخراط تحت مقتضياتها، وبالتالي فلا يجوز أن تكون تلك الأسباب مثبِّطات للمرء عن إصلاح نفسه، بل علىٰ العكس، ربَّما نجد شخصاً يجعل من تلك الأسباب مقوّيات لنفسه، فهو في خضمِّ تلك الأسباب ولكنَّه يتمرَّد عليها، فتكون نفسه أقوىٰ بكثير من نفس أُخرىٰ لم ترتطم بتلك الأسباب.

أمَّا تلك الأسباب فهي عديدة، نذكر منها:

السبب الأوَّل: التربية غير الصحيحة:

كثير من الناس ينفق الكثير من الوقت لأجل أن يُتقِن تخصُّصه

ص: 73

الذي يعيش من ورائه، وكثير منّا يعمل جاهداً علىٰ أن يُتقِن القيادة قبل أن يشتري سيّارة، وكثير منّا يُتقِن أُسس البيت الذي يريد أن يسكنه، وهذه أُمور جيِّدة ومطلوبة، ولكن القليل منّا من يُجهِد نفسه من أجل إتقان قواعد التربية الصحيحة!

لقد نشأ الكثير من الناس تحت ظروف تربوية عائلية إن لم نقل: إنَّها متدنّية، فهي أقلّ من المستوىٰ المطلوب، وبالتالي فإنَّه قد يعيش الكثير مؤمنين ببعض الأوهام الخزعبلات التي تُؤثِّر سلباً علىٰ النفس.

قد ينشأ فرد ما في بيت لا يرىٰ حرجاً في النظرة المحرَّمة، ولا يرىٰ بأساً بمجالسة النساء للرجال والاختلاط فيما بينهم، قد يرىٰ أباه يش_رب مسكراً، وقد يرىٰ أُمَّه علىٰ خيانة، وقد يرىٰ أخاه الكبير علىٰ سرقة، وقد يرىٰ أُخته علىٰ كذبة...، هذه السلوكيات التي يتربّىٰ عليها الفرد ستترسَّب في داخل قعر نفسه، حتَّىٰ إذا ما كبر تحوَّلت تلك المعلومات إلىٰ سلوك عملي يقود المرء فيه نفسه نحو الهاوية، وحينئذٍ ستتأثَّر النفس بتلك الأحداث وتكون (أمّارة بالسوء).

إنَّ كثيراً من الأهالي يغرسون في أذهان أولادهم ثقافات سقيمة، مملوءة بالخرافات والانحرافات، وهذا لا شكَّ له أثر في تحوُّل النفس في مستقبل الأيّام إلىٰ أمّارة بالسوء.

السبب الثاني: القدوة السيِّئة:

إنَّ الإنسان عندما يبدأ رحلته في هذه الدنيا فإنَّه سيواجه الكثير من الناس في حياته، وسيتأثَّر بالكثير منهم، وسيعتبر العديد منهم قدوات يقتدي بهم، لأنَّه تأثَّر بهم لسبب وآخر، فإذا كانت تلك القدوات علىٰ خطٍّ غير صحيح، لا شكَّ أنَّ سلوكيات من يقتدي بهم ستكون كذلك.

ص: 74

وأوضح صور من يقتدي بهم المرء في حياته هم: الأب، المعلِّم، الصديق، الممثِّل المفضَّل، لاعب كرة القدم المميَّز...

إنَّ الفرد يتأثَّر بنوعية ألفاظ أبيه، وبتص_رُّفات معلِّمه، وبسلوكيات صديقه. إنَّه سيحاول أن يتشبَّه بالممثِّل المفضَّل لديه، في ملبسه، نبرة كلامه، وربَّما حاول أن يجعل من حياته صورة مصغَّرة لفيلم شاهده أو مسلسل أُعجب به. وأمَّا لاعب كرة القدم، فتأثُّر الشباب به أشهر من نار علىٰ علم!

السبب الثالث: ضغوط العصر:

إنَّنا اليوم نعيش حالة من الكبت والانحلال في آنٍ واحدٍ، إنَّنا نعيش حالة الكبت الدِّيني، فالكثير من الناس - خصوصاً الشباب والفتيات - صاروا اليوم يعيشون حالة الكبت الدِّيني، بمعنىٰ أنَّ الكثير منهم صار يستحيي أن يظهر بمظهر المتديِّن، لأنَّه سيُنبَز بألقاب لا يُحبِّذها: الرجعي، والإسلامي، والمتخلِّف، والمعقَّد...، حتَّىٰ صار حديث «القابض علىٰ دينه كالقابض علىٰ جمرة»(1) مترجِماً لواقع هؤلاء.

في المقابل، نحن نعيش في عص_رٍ صار الانحلال الخُلُقي سمته العامَّة، إنَّك لا تجد في كثير من المجتمعات من يعترض علىٰ ألفاظ بذيئة تصدر من شابٍّ في شارع، ولا تجد من يلوم امرأة تمش_ي متبرِّجة بشكل يجعل الشابَّ الناظر إليها يقع في مصيدتها شاء أو أبىٰ. الأمر الذي أدّىٰ إلىٰ أن يكون التمسُّك بالمعتقدات الدِّينية والأوَّليات الإنسانية أمراً صعباً

ص: 75


1- في مكارم الأخلاق للشيخ الطبرسي (ص 450) في حديث الرسول الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) مع ابن مسعود: «يا ابن مسعود، يأتي علىٰ الناس زمان الصابر فيه علىٰ دينه مثل القابض علىٰ الجمر بكفِّه، فإن كان في ذلك الزمان ذئباً، وإلَّا أكلته الذئاب».

جدًّا. فإذا عرفنا أنَّ من سلبيات الإنسان أنَّه يعمل علىٰ أن لا يخالف الجمع، وأنَّه يتأثَّر بالعقل الجمعي، وأنَّه يستوحش أن ينفرد في طريق لوحده، حينئذٍ يتبيَّن لدينا سبب من أسباب انحراف النفس، وحينها ينادي المرء: (حش_ر مع الناس عيد)، ليكون إمَّعةً معهم، يقول ما يقولون، ويلبس ما يلبسون، وربَّما أكل ما يأكلون.

السبب الرابع: الشيطان:

وهذا من الواضحات، فكما هو معلوم فإنَّ آيات بداية الخلقة تُحدِّثنا عن كيفية تكبُّر الشيطان عن طاعة الله تعالىٰ، وكيف أنَّه اعتبر نفسه أفضل من أبينا آدم (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، لأنَّه مخلوق من نار وآدم (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) من طين، وكيف طرده الله تعالىٰ من ساحة القدس، وكيف توعَّد هو بإضلال بني آدم وأنَّه سيقعد لهم بكلِّ مرصد ويترصَّد بهم علىٰ الص_راط المستقيم. وهذا يعني أنَّ الكثير من المشاكل مع النفس وانحرافاتها جاءت بسبب تلبيس إبليس ووسوساته.

وينبغي الالتفات في هذا الصدد إلىٰ الملاحظات التالية:

أوَّلاً: أنَّ إبليس لا يقصد أي إنسان في هذه الحياة، وإنَّما يقصد الصالحين منهم، إذ إنَّه لا يحتاج إلىٰ أن يُتعِب نفسه مع إنسان منحرف من أساسه، وإنَّما يصبُّ جهده علىٰ إضلال إنسان مستقيم. ومن هنا يمكننا أن نجيب عن سؤال تتداوله الألسن، وهو أنَّه لماذا نرىٰ الصدق والسماحة والسلام والمحبَّة والتعاون عند اليهود والمسيح والمنحرفين عن خطِّ أهل البيت (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) ولا نجدها في أتباع أهل البيت (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ)؟

فنقول: لو سلَّمنا هذه المسألة - وإن كان الواقع يُص_رِّح بعدم صدقها في الطرفين علىٰ نحو تامٍّ -، فالجواب أضحىٰ واضحاً، إذ إنَّ

ص: 76

أتباع أهل البيت (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) هم الفرقة الوحيدة التي ركبت سفينة النجاة في بحر الدنيا المتلاطم، فلذلك صبَّ إبليس كلَّ جهوده علىٰ إضلالهم، فجعلهم يقعون مرّات ومرّات، ممَّا سبَّب بعض تلك الصفات السلبية في نفوسهم.

وإلىٰ هذا المعنىٰ يشير الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) في وصيَّته لعبد الله بن جندب بقوله: «يا عبد الله، لقد نصب إبليس حبائله في دار الغرور، فما يقصد فيها إلَّا أولياءنا»(1).

ثانياً: ليس لإبليس طريقة معيَّنة في إغواء المؤمنين، بل له طُرُق متعدِّدة ومتجدِّدة مع الزمن، وتختلف في الشدَّة والضعف بحسب قوَّة إيمان الفرد، يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) لكميل بن زياد: «يا كميل، إنَّ لهم [أي للشياطين« خداعاً وشقاشق وزخاريف ووساوس وخيلاء، علىٰ كلِّ أحد قدر منزلته في الطاعة والمعصية، فبحسب ذلك يستولون عليه بالغلبة»(2).

فقد يستعمل الدِّين ضدَّ المؤمن، كما لو أوقع المؤمن في الرياء بعبادته أو العُجب بها.

وقد يستعمل نقطة ضعف الإنسان عندما يكتشفها فيه، والإنسان قد تكون نقطة ضعفه المال، أو المنصب، أو النساء، أو غيرها.

وقد يُلبس عليه الحقَّ بالباطل، فيُزيِّن له الباطل ويُحسِّنه في عينيه، وهو ما حذَّر منه القرآن الكريم بقوله: ]وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ 42» (البقرة: 42).

ص: 77


1- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 301).
2- مصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) للميرجهاني (ج 1/ ص 120 و121).

ويقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ، وَأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ، يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اللهِ، وَيَتَوَلَّىٰ عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالًا عَلَىٰ غَيْرِ دِينِ اللهِ، فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَىٰ المُرْتَادِينَ، وَلَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ انْقَطَعَتْ عَنْه أَلْسُنُ المُعَانِدِينَ، وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ ومِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ، فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَىٰ أَوْلِيَائِه ويَنْجُو الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللهِ الْحُسْنىٰ»(1).

ورد عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «ل_مَّا نزلت هذه الآية: «وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِ_رُّوا عَلىٰ ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ 135» [آل عمران: 135] صعد إبليس جبلاً بمكَّة يقال له: ثور، فص_رخ بأعلىٰ صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه، فقالوا: يا سيِّدنا، لِ_مَ دعوتنا؟ قال: نزلت هذه الآية، فمَنْ لها؟ فقام عفريت من الشياطين فقال: أنا لها بكذا وكذا، قال: لستَ لها، فقام آخر فقال مثل ذلك، فقال: لستَ لها، فقال الوسواس الخنّاس: أنا لها، قال: بماذا؟ قال: أعدهم وأُمنّيهم حتَّىٰ يواقعوا الخطيئة، فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الاستغفار، فقال: أنت لها، فوكَّله بها إلىٰ يوم القيامة»(2).

وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «جاء إبليس إلىٰ عيسىٰ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) فقال: أليس تزعم أنَّك تُحيي الموتىٰ؟ قال عيسىٰ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): بلىٰ، قال إبليس: فاطرح نفسك من فوق الحائط، فقال عيسىٰ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): ويلك، إنَّ العبد لا يُجرِّب ربَّه»(3).

ص: 78


1- نهج البلاغة (ج 1/ ص 99 و100).
2- أمالي الشيخ الصدوق (ص 551 / ح 736/5).
3- قَصص الأنبياء للراوندي (ص 268/ الباب 18/ ح 340).

ثالثاً: لا يعني هذا أنَّ لإبليس القدرة المطلقة في السيطرة علىٰ الإنسان بحيث يسلب اختياره، حتَّىٰ يرمي بعض المنحرفين اللوم علىٰ تلبيس إبليس في محاولةٍ منهم لتبرير موقفهم الخاطئ أو المنحرف. كلَّا، بل يبقىٰ للإنسان كامل الإرادة والاختيار، وليس لإبليس سوىٰ الوسوسة. وهذا ما سيعترف به إبليس نفسه يوم القيامة عندما يرىٰ الموازين الحقَّ، يقول تعالىٰ في محكم كتابه الكريم: ]وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِ_يَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْ_رِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْ_رِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ 22[ (إبراهيم: 22).

فالشيطان لم يُخفِ عداوته لنا، ونحن علىٰ علم بها، ولم يكن له علينا سلطان، ولم يُقدِّم لنا طلباً تحريرياً، ولم يُجبرنا علىٰ شيء، بل فقط قدَّم دعوة، ولذلك سيرمي اللوم علىٰ أنفسنا: «فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ».

رابعاً: وعلينا أن لا ننسىٰ أنَّ ديننا أعطانا بعض الأُمور اللازمة لدفع وسوسة الشيطان والتخلُّص من مكائده، فعلينا بالتزامها حتَّىٰ لا نضيع تحت ضغوط إبليس وخُدَعه.

يقول رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «ألَا أُخبركم بش_يء إن أنتم فعلتموه تباعد الشيطان منكم تباعد المش_رق من المغرب؟»، قالوا: بلىٰ، قال: «الصوم يُسوِّد وجهه، والصدقة تكس_ر ظهره، والحُبُّ في الله والموازرة علىٰ العمل الصالح يقطعان دابره، والاستغفار يقطع وتينه»(1).

ص: 79


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 4/ ص 62/ باب ما جاء في فضل الصوم والصائم/ ح 2).

الخطوة الرابعة: كيف تُنمّي نفسك؟

وهنا نذكر عدَّة أُمور نافعة في تنمية النفس وتقويتها ضدَّ وساوس الشيطان، وينبغي علىٰ المؤمن أن لا يتهاون ولا يستخفَّ بها ما أُوتي إلىٰ ذلك سبيلاً.

الأمر الأوَّل: تابع نفسك:

عليك أن تص_رف قدراً معتدًّا به لمتابعة نفسك، والتعرُّف علىٰ طبائعها (أنت تنام لمصلحة جسدك قدراً معيَّناً من الساعات، وأنت تدرس وتتعلَّم وتقرأ لصالح عقلك كذا ساعة، فكم من الوقت تص_رف من أجل نفسك؟ من أجل التفتيش والتنقيب عن الرواسب والأوساخ التي تترامىٰ في زوايا نفسك من هنا وهناك؟ ومن أجل معالجتها وحمايتها ووقايتها كم تصرف من الوقت من أجل ذلك؟

علينا أن نصرف جزءاً كبيراً من الوقت علىٰ هذا الجانب، لأنَّه ما لم نص_رف وقتاً في هذا الجانب فإنَّ أوقاتنا الأُخرىٰ ستضيع هباءً، لأنَّ عقولنا مهما صارت ضخمة فهي فريسة وضحيَّة لأنفسنا الأمّارة بالسوء)(1).

وفي هذا المجال ذكر علماء الأخلاق العملية أنَّ أفضل طريقة لمتابعة النفس مركَّبة من ثلاث خطوات:

الأُولىٰ: المشارطة:

وهي عبارة عن (وقفة مع النفس تهدف إلىٰ تهيئتها ليوم جديد)(2)، فعلىٰ المؤمن أن يجلس مع نفسه جلسة الرئيس والمرؤوس، أو جلسة

ص: 80


1- معرفة النفس للشيخ حسن الصفّار (ص 14).
2- البرنامج اليومي في محاسبة النفس للسيِّد عبد الله الغريفي (ص 22).

الرفيق والصديق، وأن يُحدِّثها بكلِّ صراحة ويقول: أيَّتها النفس، عليكِ اليوم أن تلتزمي رضا الله تعالىٰ في كلِّ حركاتكِ وسكناتكِ، وعلىٰ جميع المستويات الشخصية والأُسرية والاجتماعية، الثقافية والسياسية، الروحية والبدنية، لا أُريد منكِ إلَّا ما يُرضي الله تعالىٰ، فقط اليوم.

وهكذا في اليوم الثاني يُكرِّر لها ما قاله أمس، حتَّىٰ يصبح هذا المبدأ أمراً معاشاً له في كلِّ يوم.

وهذه هي الخطوة الأُولىٰ في متابعة النفس، وهي تُهيِّئ للخطوتين التاليتين.

الثانية: المراقبة:

وهي بمعنىٰ ممارسة دور الرعاية والإشراف والمتابعة العملية للبرنامج الذي اشترطته علىٰ نفسك عند الصباح.

إنَّها تعني (الرصد العملي الدائم لحركة البرنامج اليومي، ورصد البرنامج يعني المتابعة لكلِّ الممارسات والسلوكيات الصادرة عن الإنسان)(1).

فبعد أن تنتهي من المشارطة مع النفس، سيبدأ يومك الحافل بالأحداث، وستخوض الحياة في لُجَجها، ستدخل السوق، وستجلس إلىٰ رفيق، وستحدث مشكلة في البيت أو العمل، وسيسألك شخص عن مالك، وآخر عن صحَّتك، وثالث عن مسألة فقهية، ستنهمك في عملك وتُركِّز عليه، سيشغلك ولدك المريض، وصديقك المحتاج، وربَّما سيشتمك صعلوك، وربَّما سيأتيك الدائن يطالب بدينه...

في خضمِّ هذه الأحداث سيكون من المحتمل جدًّا أن يغفل المرء

ص: 81


1- البرنامج اليومي في محاسبة النفس للسيِّد عبد الله الغريفي (ص 31).

عن شرطه مع نفسه، وربَّما سيتخلّىٰ عن بعض مبادئه! فربَّما غشَّ في معاملة، وربَّما آذىٰ زوجته، وربَّما آذت زوجها، وربَّما كذب علىٰ الدائن بأنَّه لا مال له، وربَّما غمص حقًّا خاصًّا أو عامًّا، وربَّما وربَّما...

ولذلك احتاج الإنسان الذي يريد أن يُنمّي نفسه إلىٰ أن يراقبها ويراقب تص_رُّفاتها، ويعمل علىٰ أن لا يغفل أبداً عن شرط اشترطه عليها، وليس معنىٰ هذا أن تكون كشُ_رطي واقف علىٰ باب النفس، وإنَّما كناصح أمين لا يراوغ ولا يخادع، عليك أن تكون صريحاً مع نفسك عندما تراقبها، أيَّتها النفس، هل نسيت ما اشترطت علىٰ نفسكِ صباحاً؟ هل أنت أيُّها الإنسان بهذه الدرجة من الضعف بحيث لا تستطيع أن تصدق مع نفسك في شرط اشترطته عليها ولو ليوم واحد؟! هل يصحُّ من الإنسان الكيِّس العاقل أن يخالف عملُه قولَه، وأن يخدع نفسه، فيأخذ علىٰ نفسه أن يلتزم تصرُّفاً ما ثمّ يخالفه؟!

عليك أن تراقب قلبك، فلا تدعه يغفل عن ذكر الله تعالىٰ وطيب الخاطر لحظة واحدة.

وعليك أن تراقب لسانك، لا تدعه ينبس ببنت شفة في ضلال أو باطل.

عليك أن تراقب عينيك، فإنَّهما أوَّل ما يخون من الإنسان.

وعليك أن تراقب أُذُنيك، لا تَدعْهما يُدخِلان إلىٰ قلبك الباطل والحرام.

وحتَّىٰ تُنمّي هذه الخطوة عليك أن تتذكَّر المراقبة الإلهيَّة الدائمة لك، وأن تستفيد من عيشك مع المراقبة الإلهيَّة في مراقبتك لنفسك.

يقول تعالىٰ: «أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ» (البقرة: 235).

ويقول تعالىٰ: «وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّ_رَّ وَأَخْفىٰ 7» (طه: 7).

ص: 82

ويقول تعالىٰ: «يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ 19» (غافر: 19).

ويقول تعالىٰ: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ 16 إِذْ يَتَلَقَّىٰ الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ 17 ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ 18» (ق: 16 - 18).

الثالثة: المحاسبة:

وبعد أن ينتهي يومك الحافل، عليك أن تجلس جلسة أُخرىٰ مع النفس، وتسترجع شريط الأحداث التي جرت عليك اليوم، ثمّ تبدأ المحاكمة، فتشكر النفس وتحمد الله تعالىٰ إذا ما رأيت انسجاماً مع الش_رط وموافقة مع الحقِّ، وتُقرِّع نفسك وتُؤنِّبها إذا ما رأيت مخالفة للقانون ومعصية للحقِّ.

اختر وقتاً مناسباً، صفِّ ذهنك، وركِّز تفكيرك، أخلِ قلبك من مشاكل وهموم الحياة، توجَّه إلىٰ ربِّك، وتذكَّر قبرك، ثمّ ابدأ بتذكُّر مجريات الأحداث، وحاسب نفسك. وتذكَّر أنَّك إذا نمت ربَّما تموت، ولا ينفع المندم آنذاك.

وهذه الخطوة هي أكثر ما ركَّزت عليه الروايات الش_ريفة، يقول رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) في وصيَّته لأبي ذرٍّ: «يا أبا ذرٍّ، لا يكون الرجل من المتَّقين حتَّىٰ يحاسب نفسه أشدَّ من محاسبة الش_ريك شريكه، فيعلم من أين مطعمه ومن أين مشربه ومن أين ملبسه، أمن حِلٍّ ذلك أم من حرام. يا أبا ذرٍّ، من لم يبالِ من أين اكتسب المال لم يبالِ الله (عزوجل) من أين أدخله النار»(1).

ص: 83


1- مكارم الأخلاق للشيخ الطبرسي (ص 468)؛ وبحار الأنوار للعلَّامة المجلس_ي (ج74/ ص 86).

وقال رجل: يا أمير المؤمنين، وكيف يحاسب الرجل نفسه؟ قال: «إذا أصبح ثمّ أمسىٰ رجع إلىٰ نفسه وقال: يا نفس، إنَّ هذا يوم مض_ىٰ عليك لا يعود إليك أبداً، والله سائلك عنه فيما أفنيتِه، فما الذي عملتِ فيه؟ أذكرتِ الله أم حمدتيه؟ أقضيتِ حقَّ أخ مؤمن؟ أنفَّستِ عنه كربته؟ أحفظتيه بظهر الغيب في أهله وولده؟ أحفظتيه بعد الموت في مُخلِّفيه؟ أكففتِ عن غيبة أخ مؤمن بفضل جاهكِ؟ أأعنتِ مسلماً؟ ما الذي صنعتِ فيه؟ فيذكر ما كان منه، فإن ذكر أنَّه جرىٰ منه خيرٌ حمد الله (عزوجل) وكبَّره علىٰ توفيقه، وإن ذكر معصية أو تقصيراً استغفر الله (عزوجل) وعزم علىٰ ترك معاودته...»(1).

الأمر الثاني: ارحم نفسك:

عليك أن لا تقسو علىٰ نفسك كثيراً، ولا تُحمِّلها ما لا طاقة لها به، بل عليك أن ترأف بها في الوقت الذي لا تدع لها مجالاً للخطأ، وبعبارة صريحة: عليك أن تعمل علىٰ صنع موازنة دقيقة بين حقوق وواجبات النفس، فللنفس حقوق، وعليها واجبات، وأنت حتَّىٰ تنجح لا بدَّ أن تُحدِث موازنة بين تلك وتلك. يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «إِنَّ لِلْقُلُوبِ إِقْبَالًا وَإِدْبَاراً، فَإِذَا أَقْبَلَتْ فَاحْمِلُوهَا عَلَىٰ النَّوَافِلِ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاقْتَصِ_رُوا بِهَا عَلَىٰ الْفَرَائِضِ»(2).

ويقول (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «إنَّ للقلوب إقبالاً وإدباراً ونشاطاً وفتوراً، فإذا أقبلت بص_رت وفهمت، وإذا أدبرت كلَّت وملَّت، فخذوها عند إقبالها ونشاطها، واتركوها عند إدبارها وفتورها»(3).

ص: 84


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 67/ ص 70).
2- نهج البلاغة (ج 4/ ص 74).
3- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 75/ ص 353 و354).

الأمر الثالث: قوِّ نفسك:

أمام النفس المطمئنَّة تحدّيات كبيرة وكثيرة، وعليك أن تساعدها في مواجهة تلك التحدّيات حتَّىٰ الانتصار. إنَّ النفس أشبه ببطّارية شحن، كلَّما استعملتها أكثر كلَّما احتاجت إلىٰ شحن أكثر. إنَّ النفس بحاجة ماسَّة إلىٰ شحن مستمرٍّ، هذا الشحن الذي يُقوّيها أمام التحدّيات المنتظَرة.

وهناك أُمور كثيرة تُقوّي نفسك بها، نذكر لك منها:

1 - الدعاء: فإنَّه «ترس(1) المؤمن»(2)، و«فيه شفاء من كلِّ داء»(3)، وهو «سلاح الأنبياء»(4).

2 - الإعطاء: فإنَّ قوت الأجساد الطعام، وقوت الأرواح الإطعام، كما روي عن الإمام عليٍّ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)(5).

3 - ألقها في الصعاب وراقبها، يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «إذا هبت أمراً فقع فيه، فإنَّ شدَّة توقّيه أعظم ممَّا تخاف منه»(6).

ص: 85


1- الترس: صفحة من الفولاذ تُحمَل للوقاية من السيف ونحوه. (هامش المصدر).
2- في الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 468/ باب أنَّ الدعاء سلاح المؤمن/ ح 4): عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) قال: قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «الدعاء ترس المؤمن، ومتىٰ تكثر قرع الباب يُفتَح لك».
3- في الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 470/ باب أنَّ الدعاء شفاء من كلِّ داء/ ح 1): عن علاء بن كامل، قال: قال لي أبو عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «عليك بالدعاء فإنَّه شفاء من كلِّ داء».
4- في الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 468/ باب أنَّ الدعاء سلاح المؤمن/ ح 5): عن الرضا (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه كان يقول لأصحابه: «عليكم بسلاح الأنبياء»، فقيل: وما سلاح الأنبياء؟ قال: «الدعاء».
5- مشكاة الأنوار لعليٍّ الطبرسي (ص 561).
6- نهج البلاغة (ج 4/ ص 42).

4 - ضع نفسك في مكانها المناسب، ولا تنزل بها إلىٰ أقلّ من قدرها.

عن النبيِّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أنَّه قال لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) في وصيَّته له: «يا عليُّ، ثمانية إن أُهينوا فلا يلوموا إلَّا أنفسهم: الذاهب إلىٰ مائدة لم يدع إليها، والمتأمِّر علىٰ ربِّ البيت، وطالب الخير من أعدائه، وطالب الفضل من اللئام، والداخل بين اثنين في سرٍّ لهم لم يُدخِلاه فيه، والمستخفِّ بالسلطان، والجالس في مجلس ليس له بأهل، والمقبل بالحديث علىٰ من لا يسمع منه»(1).

وقال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «مَنْ وَضَعَ نَفْسَه مَوَاضِعَ التُّهَمَةِ فَلَا يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِه الظَّنَّ»(2).

5 - الصلاة، عن جابر الجعفي، قال: سمعت أبا عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يقول: «لو كان علىٰ باب أحدكم نهر فاغتسل منه كلَّ يوم خمس مرّات هل كان يبقىٰ علىٰ جسده من الدَّرَن شيء؟ إنَّما مَثَل الصلاة مَثَل النهر الذي يُنقّي كلَّما صلّىٰ صلاة كان كفّارة لذنوبه إلَّا ذنب أخرجه من الايمان مقيم عليه»(3).

6 - أبعدها عمَّا يُضعِفها، يقول رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «أربع يُمِتْنَ القلب: الذنب علىٰ الذنب، وكثرة مناقشة النساء - يعني محادثتهنَّ -، ومماراة الأحمق، تقول ويقول ولا يرجع إلىٰ خير [أبداً]، ومجالسة الموتىٰ»، فقيل له: يا رسول الله، وما الموتىٰ؟ قال: «كلُّ غنيٍّ مترفٍ»(4).

ص: 86


1- الخصال للشيخ الصدوق (ص 410).
2- نهج البلاغة (ج 4/ ص 41).
3- الأُصول الستَّة عشر لعدَّة محدِّثين (ص 73).
4- الخصال للشيخ الصدوق (ص 228).

وعنه(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) - في مواعظه لأبي ذرٍّ -: «إيّاك وكثرة الضحك، فإنَّه يُميت القلب»(1).

وقال الإمام عليٌّ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «مَنْ قَلَّ وَرَعُه مَاتَ قَلْبُه، وَمَنْ مَاتَ قَلْبُه دَخَلَ النَّارَ»(2).

7 - أكثِر من ذكر الله تعالىٰ، فإن «مداومة الذِّكر قوت الأرواح ومفتاح الصلاح»، كما يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)(3).

8 - اقرأ الكُتُب الأخلاقية، واحض_ر مجالس الوعظ والإرشاد، وزُرْ القبور من الفينة والأُخرىٰ، ولا تنسَ حضورك اليومي إلىٰ المسجد، فلا تبتعد عن الأجواء الإيمانية أبداً.

* * *

ص: 87


1- الخصال للشيخ الصدوق (ص 526).
2- نهج البلاغة (ج 4/ ص 81).
3- عيون الِحكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 487).

ص: 88

المفردة الرابعة:

اشارة

الاستخفاف والتهاون

بإزالة الحُجُب

· الخطر: ]فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ[.

· الأثر: «عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ».

· التوصية: «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَىٰ اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ».

ص: 89

ص: 90

الحجاب لغةً: الستر، وحجاب الجوف: ما يُحتَجب بين الفؤاد وسائره، وحَجَبه أي مَنَعَه عن الدخول، والإخوة يحجبون الأُمَّ عن الثلث، والمحجوب: الضرير(1).

إنَّ هذا المعنىٰ اللغوي هو المقصود عند علماء الأخلاق عندما يقولون: إنَّ هناك حُجُباً تمنع الإنسان من الوصول إلىٰ الحقِّ.

وحتَّىٰ تتبيَّن المسألة أكثر نذكر عدَّة نقاط:

النقطة الأولى:

لا شكَّ أنَّ الإنسان موجود مُكرَّم من الله تعالىٰ أيَّما تكريم، وتكريمه له مفردات عديدة، تبدأ بالعقل، وتسخير كلِّ شيء له، وجعله مخاطَباً بالتكليف الإلهي الذي هو في الحقيقة تش_ريف لا تكليف، وغيرها.

وكون الإنسان مُكرَّماً عند الله تعالىٰ له جنبتان:

الجنبة الأُولىٰ: لا إرادية، وهي ما كان من الله تعالىٰ من كرامات، كما تقدَّم.

الجنبة الثانية: إرادية، وهي الكرامات التي يحصل عليها الإنسان عندما يبذل جهده لتحصيلها، ككرامة التقوىٰ والعلم والإيمان والعمل الصالح والجهاد في سبيل الله تعالىٰ.

ص: 91


1- الصحاح للجوهري (ج 1/ ص 107/ مادَّة حجب).

قال تعالىٰ مبيِّناً تكريم الإنسان الاختياري الإرادي:

«إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ 13» (الحجرات: 13).

«يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 11» (المجادلة: 11).

«لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّ_رَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَىٰ الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنىٰ وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَىٰ الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً 95» (النساء: 95).

وخلاصة التكريم الإرادي هو: التزام الإنسان بما رسمته له يد السماء من منهج منضبط يقوده نحو الكمال، وقد يُطلِق عليه علماء الأخلاق بالسير والسلوك نحو الله تعالىٰ.

النقطة الثانية:

لم يكن طريق التكامل طريقاً سهلاً ويسيراً، وإنَّما هو طريق ذات الشوكة، يملأه الخطر، وتحفُّه المكاره، وإن رغب الإنسان في أعماقه أن لا يكون كذلك، قال تعالىٰ: «وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَىٰ الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ 7» (الأنفال: 7).

وأكثر ما يحتاج فيه الإنسان هو الحذر جيِّداً من الأعداء، الذين يبحثون منه عن غِرَّته.

لذا احتاج الإنسان إلىٰ منهج منضبط، يُوجِّه له سلوكه بكلِّ دقَّة نحو برِّ الأمان، ومن دون ذلك المنهج فلا ضامن لاتِّجاه بوصلة الإنسان

ص: 92

نحو الوجهة الصحيحة، لأنَّ انحرافها ولو بدرجة ضئيلة وارد جدًّا، وأثره سيكون كارثياً علىٰ الإنسان، فيما لو اكتشف بعد فوات الأوان أنَّه كان يسير نحو الحفرة المظلمة ولو من دون شعور! وحينها قد يكون التصحيح صعباً جدًّا إن لم يكن مستحيلاً. خصوصاً إذا فات الأوان وانتهت فترة الاختبار.

النقطة الثالثة:

إنَّ الأخطار - أو قل: الحُجُب - التي تقف حائلاً دون وصول الإنسان إلىٰ وجهته الصحيحة، والموانع التي تقف أمام انفتاح الإنسان علىٰ عالم الحقيقة، وتعمل علىٰ إبقائه في عالم الوهم والخيال، وأن يُكرِّس جهده من أجل إعمار دار الفناء ولو بخراب الأُخرىٰ، لهي أخطار كثيرة.

والملاحظة الملفتة للنظر هنا: أنَّ تلك الأخطار تتميَّز بعدَّة مميِّزات، تجعل منها أخطاراً فعلية، ومنها:

الميزة الأُولىٰ: أنَّها من النوع (القنوع) في بداية أمرها، فهي تكتفي بأن تُلقي بنفسها في أعماق تربة النفس، من دون أن يظهر منها أيُّ أثر، ومن دون أن تشقَّ أرض النفس لتمدَّ فروعها المتشابكة عالياً، بل هي تكتفي أن تمدَّ جذورها اللّامرئية في داخل النفس، وأن تبقىٰ علىٰ ذلك سنوات طوال! حتَّىٰ إذا ما وجدت الفرصة المناسبة للظهور شقَّت طريقها معتمدة علىٰ جذورها المترسِّخة في نفس الغافل، فتعمل حينها علىٰ نش_ر فروعها بس_رعة خاطفة، وعلىٰ إظهار آثارها بكلِّ قوَّة، حتَّىٰ تصل إلىٰ حدِّ التحكُّم بالسلوك الخارجي للإنسان.

قد يطلب الإنسان العلم، فتأتي صفات (الغرور) و (حسد العلماء) و (التكبُّر) لترمي نفسها في أحضانه من دون أن يشعر، وقد لا

ص: 93

يظهر أثر هذه السموم إلَّا بعد أن يحصل ذلك الشخص علىٰ كمٍّ كبير من العلم، فتجد تلك الصفات فرصة للظهور، فتُلقي في نفسه أنَّه العالم الذي لم يأتِ أحد قبله، ولن يأتي أحد بعده، فيعمل علىٰ تسقيط العلماء ليبرز هو، ويعمل علىٰ الإتيان بالجديد ولو بض_رب الض_رورات والأساسات المذهبية مثلاً، وقد يصل به الحدُّ - إذا لم يستطع الصعود علىٰ أكتاف الصعاليك - إلىٰ أن يترك دينه وحقَّه، ليذهب إلىٰ أحضان الرذيلة.

والأمثلة علىٰ ذلك أكثر من أن تُحص_ىٰ، ولا شكَّ أنَّ منها أمثلة معاصرة كما لا يخفىٰ.

الميزة الثانية: ليس لتلك الأخطار لون واحد ولا نمط واحد، بل إنَّها تتَّخذ أشكالاً متنوِّعة وكثيرة، بل قد يصل بها الأمر إلىٰ أن تتلبَّس لباس الصالحين، وتتس_ربل سروال الزاهدين، حتَّىٰ إذا ما وجدت غفلة من العقل كشفت عن أنيابها، فغرزتها في مَقاتله، فيتحوَّل الإنسان إلىٰ أُلعوبة بيدها، ليكون أردأ من الحيوان، بل أخسأ من الحجارة.

ولذلك قسَّم علماء الأخلاق تلك الحُجُب إلىٰ (نورانية) و(ظلمانية)، كما سيتَّضح إن شاء الله تعالىٰ.

وقد روي عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «إنَّ الشيطان يدير ابن آدم في كلِّ شيء، فإذا أعياه جثم له عند المال فأخذ برقبته»(1).

ص: 94


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 315/ باب حُبّ الدنيا والحرص عليها/ ح 4)، وجاء في هامش المصدر: («يدير ابن آدم» يبعثه علىٰ ارتكاب كلِّ ضلالة ومعصية، أو يكون معه ويلازمه عند عروض كلِّ شبهة أو شهوة لعلَّه يُضلّه أو يُزلّه. وقوله: «إذا أعياه» أي لم يقبل منه ابن آدم حتَّىٰ أعياه يترصَّد الشيطان له واختفىٰ عند المال. وجثم له جثماً وجثوماً: لزم مكانه ولم يبرح).

وعنه (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «جاء إبليس إلىٰ عيسىٰ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) فقال: أليس تزعم أنَّك تُحيي الموتىٰ؟ قال عيسىٰ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): بلىٰ، قال إبليس: فاطرح نفسك من فوق الحائط! فقال عيسىٰ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): ويلك، إنَّ العبد لا يُجرِّب ربَّه»(1).

لذلك تُعبِّر بعض الروايات الش_ريفة أنَّ للشيطان حبائل، أي إنَّ له طُرُقاً متكثِّرة لا طريقة واحدة، فقد روي في وصيَّة الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) لعبد الله بن جندب أن قال له: «يا عبد الله، لقد نصب إبليس حبائله في دار الغرور، فما يقصد فيها إلَّا أولياءنا»(2).

الميزة الثالثة: أنَّ لتلك الحُجُب والموانع أعواناً كُثُر، منهم أعوان من خارج نفس الإنسان، ومنهم: الشيطان، الأموال، رفقاء السوء، التربية المنحرفة، الجوُّ الملوَّث.

ومنهم أعوان من داخل النفس، ومنهم: الشهوات والغرائز، والنفس في مرتبة كونها أمّارة بالسوء، وميلان النفس نحو الانفلات واللّامسؤولية.

وبالتالي، فالمعركة ليست سهلة كما تقدَّم، وهي تحتاج إلىٰ مواجهة مباشرة مع النفس وأعوانها من الداخل والخارج، وإلىٰ عمل مستمرٍّ وجهاد مرير، إلىٰ أن ترجع الروح لبارئها. الأمر الذي عبَّر عنه القرآن بض_رورة الاستمرار بالعبادة إلىٰ أن يصل المرء إلىٰ (الموت)، قال تعالىٰ: «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ 99» (الحجر 99)، حيث أجمع المفسِّرون علىٰ تفسير اليقين بالموت.

الميزة الرابعة: أنَّ تلك الحُجُب والموانع تعمل بطريقة (خطوة - خطوة)،

ص: 95


1- قَصص الأنبياء للراوندي (ص 268/ ح 340).
2- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 301).

أي بالتدريج والتقسيط (المريح)! الأمر الذي عبَّر عنه القرآن الكريم بقوله عزَّ من قائل: «يا أَي_ُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ 168» (البقرة: 168).

وقال تعالىٰ: «يا أَي_ُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ 208» (البقرة: 208).

وقال تعالىٰ: «كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ 142» (الأنعام: 142).

وقال تعالىٰ: «يا أَي_ُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» (النور: 21).

إنَّ المستفاد من هذه الآيات أمران - هنا -:

الأوَّل: أنَّ للشيطان طُرُقاً متعدِّدة للإيقاع بابن آدم، كأكل الحرام، والحروب المدمِّرة، والعمل بالفحشاء والمنكر، وغيرها. ولذلك حذَّر منها القرآن في هذه الآيات، ودعا إلىٰ أكل الحلال، وإلىٰ الدخول في السلم، وإلىٰ الابتعاد عن الفحشاء والمنكر...

الثاني: أنَّ الشيطان يعمل بالتدريج والخطوات كما اتَّضح.

كما وقد أشارت بعض الروايات الش_ريفة إلىٰ مفردات من تلك الخطوات، نذكر منها التالي:

أوَّلاً: تقلُّبات القلب بين المدِّ والجزر، بين الإقبال والإدبار، فإنَّ الشيطان قد يكتفي بهذه التقلُّبات في بداية الأمر، ليستغلَّ ضعفاً في حالة إدبار، ليرمي شباكه ويُحكِم غلقها علىٰ صيده، ولكن المؤمن عليه أن يلتفت إلىٰ هذه المصيدة، وأن يعمل علىٰ استغلال فترات القوَّة لديه ليكون من أهل الإيمان.

ص: 96

عن سلام بن المستنير، قال: كنت عند أبي جعفر (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، فدخل عليه حمران بن أعين وسأله عن أشياء، فلمَّا هَمَّ حمران بالقيام قال لأبي جعفر (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): أُخبرك - أطال الله بقاءك لنا وأمتعنا بك - أنّا نأتيك، فما نخرج من عندك حتَّىٰ ترقَّ قلوبنا وتسلوا أنفسنا عن الدنيا، ويهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال، ثمّ نخرج من عندك فإذا صرنا مع الناس والتجّار أحببنا الدنيا، قال: فقال أبو جعفر (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «إنَّما هي القلوب، مرَّة تصعب ومرَّة تسهل».

ثمّ قال أبو جعفر (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «أمَا إنَّ أصحاب محمّد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ قالوا: يا رسول الله، نخاف علينا النفاق!»، قال: «فقال: ولِ_مَ تخافون ذلك؟ قالوا: إذا كنا عندك فذكَّرتنا ورغَّبتنا، وجلنا ونسينا الدنيا وزهدنا، حتَّىٰ كأنّا نعاين الآخرة والجنَّة والنار ونحن عندك، فإذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت وشممنا الأولاد ورأينا العيال والأهل، يكاد أن نحول عن الحال التي كنّا عليها عندك، وحتَّىٰ كأنّا لم نكن علىٰ شيء، أفتخاف علينا أن يكون ذلك نفاقاً؟ فقال لهم رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): كلَّا، إنَّ هذه خطوات الشيطان فيُرغِّبكم في الدنيا، والله لو تدومون علىٰ الحالة التي وصفتم أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة ومشيتم علىٰ الماء، ولولا أنَّكم تذنبون فتستغفرون الله لخلق الله خلقاً حتَّىٰ يذنبوا ثمّ يستغفروا الله فيغفر [الله« لهم. إنَّ المؤمن مفتن توّاب، أمَا سمعت قول الله (عزوجل): «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ 222» »البقرة: 222«، وقال: ]وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ» [هود: 3]؟»(1).

ثانياً: قد يحلف المرء علىٰ أمر مرجوح وربَّما مبغوض، ويبقىٰ يُرتِّب عليه الأثر ما بقي، وهو بهذا يُلزم نفسه بشيء لا ملزِم له به.

ص: 97


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 423 و424/ باب في تنقُّل أحوال القلب/ ح 1).

روي عن محمّد بن مسلم، عن أحدهما (عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ)، أنَّه سُئِلَ عن امرأة جعلت مالها هدياً، وكلَّ مملوك لها حُرًّا، إن كلَّمت أُختها أبداً! قال: «تُكلِّمها وليس هذا بشيء، إنَّما هذا وأشباهه من خطوات الشيطان»(1).

وعن عبد الرحمن بن أبي عبد الله، قال: سألت أبا عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) عن رجل حلف أن ينحر ولده؟ فقال: «ذلك من خطوات الشيطان»(2).

وروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ): «إنَّ من خطوات الشيطان الحلف بالطلاق، والنذور في المعاصي، وكلَّ يمين بغير الله تعالىٰ»(3).

ثالثاً: قد ينحرف المرء عمَّا أراده الله تعالىٰ من ولاية أهل البيت (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) والدخول في ولاية غيرهم، فيكون قد اتَّبع خطوات الشيطان.

هذا أمر أشارت إليه العديد من الروايات محذِّرةً منه، فقد روي عن أبي جعفر (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) في قول الله (عزوجل): ]يا أَي_ُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ 208[ [البقرة: 208]، قال: «في ولايتنا»(4).

وفي رواية ثانية عن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يقول في تفسير الآية المتقدِّمة: «أتدري ما السلم؟»، قال: قلت: أنت أعلم،

ص: 98


1- النوادر لأحمد بن عيسىٰ الأشعري (ص 26/ باب ما لا يلزم من النذر والأيمان ولا تجب فيه الكفّارة/ ح 16).
2- النوادر لأحمد بن عيسىٰ الأشعري (ص 33/ باب ما لا يلزم من النذر والأيمان ولا تجب فيه الكفّارة/ ح 36).
3- تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي (ج 1/ ص 468).
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 1/ ص 417/ باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية/ح 29).

قال: «ولاية عليٍّ والأئمَّة الأوصياء من بعده»، قال: «وخطوات الشيطان والله ولاية فلان وفلان»(1).

وفي رواية ثالثة عن أبي جعفر (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «السلم هم آل محمّد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، أَمَرَ الله بالدخول فيه»(2).

وفي رواية رابعة عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) في قوله: ]وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ[، قال: «هي ولاية الثاني والأوَّل»(3).

وباختصار، فإنَّ كلَّ ما خالف القرآن الكريم فهو من خطوات الشيطان(4).

النقطة الرابعة:

تقدَّمت الإشارة إلىٰ أنَّ الحُجُب منها ظلمانية ومنها نورانية، فما معنىٰ هذا؟

أمَّا الحُجُب الظلمانية فربَّما أمرها واضح، فهي أمثال: الغيبة، والنميمة، والتكبُّر، وحُبُّ الشهرة، والأنانية، والنظر المحرَّم، وعقوق الوالدِّين، واللقمة الحرام، و...

وكونها حُجُباً وموانع من الكمال لا يحتاج إلىٰ بيان.

وهذه الحُجُب هي ما تجعلنا نبتعد عن الحقِّ جلَّ وعلا، وهي ما تُؤدّي إلىٰ خلق حاجز بيننا وبين الله تعالىٰ. وإلىٰ هذا المعنىٰ يشير الإمام

ص: 99


1- تفسير العيّاشي (ج 1/ ص 102/ ح 294).
2- تفسير العيّاشي (ج 1/ ص 102/ ح 296).
3- تفسير العيّاشي (ج 1/ ص 102/ ح 299).
4- في الدُّرِّ المنثور لجلال الدِّين السيوطي (ج 1/ ص 167): عن ابن عبّاس، قال: (ما خالف القرآن فهو من خطوات الشيطان).

زين العابدين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) في دعائه في سحر كلِّ ليلة من شهر رمضان: «وَأنَّ الرَّاحِلَ إِلَيْكَ قَرِيبُ المَسافَةِ، وَأَنَّكَ لَا تَحْتَجِبُ عَنْ خَلْقِكَ إِلَّا أَنْ تَحْجُبَهُمُ الأَعْمالُ دُوَنَكَ...»(1).

ولكن ما معنىٰ أن تكون الحُجُب نورانية؟

الظاهر - والله العالم - أنَّه يُقصَد منها معنيان:

المعنىٰ الأوَّل: الكمال اللّامتناهي!

ولكي يتَّضح معناه نقول:

نحن نعرف من خلال الواقع الذي أثبته علم الكلام بالدليل أنَّ الإنسان موجود تميَّز بالمحدودية والنقص والحاجة والفقر، في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، في أصل وجوده وفي استمرار وجوده، وهو ما يُعبَّر عنه فلسفياً بأنَّه موجود ممكن.

أمَّا الله تعالىٰ، فقد امتاز وتميَّز بكونه موجوداً واجب الوجود، أي إنَّه موجود غنيٌّ بالإطلاق، في ذاته وصفاته وأفعاله، في أصل وجوده وفي استمرار وجوده.

وهذا يعني أنَّ الإنسان موجود محدود، أي إنَّه متناهي.

وأنَّ الله (عزوجل) هو موجود لا محدود، أي إنَّه لا متناهي.

قد قالوا: إنَّ الفاصلة بين المحدود واللّامحدود هي فاصلة غير محدودة.

وبالتالي، فإنَّ اللّاتناهي قد حجب الإنسان عن معرفة حقيقة الله تبارك وتعالىٰ.

وبعبارة أُخرىٰ: إنَّ كون الله (عزوجل) لا متناهياً من حيث الوجود،

ص: 100


1- الصحيفة السجّادية/ أبطحي (ص 215).

وقف حاجباً ومانعاً من إمكان إدراك كُنه حقيقته من قِبَل الموجود المتناهي المحجوب بحُجُب الزمان والمكان والحاجة والإمكان.

ومن هنا، جاءت بعض الروايات الش_ريفة التي نهت الإنسان عن الخوض في البحث عن معرفة كُنه الحقيقة الإلهيَّة، لأنَّه بحث لا جدوىٰ منه سوىٰ التيه والضلال، إذ هو بحث في غير الممكن، وهو أبعد من صيد الهواء في شبك.

ومن هنا روي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «إيّاكم والتفكُّر في الله، فإنَّ التفكُّر في الله لا يزيد إلَّا تيهاً، إنَّ الله (عزوجل) لا تُدركه الأبصار، ولا يُوصَف بمقدار»(1).

ويقول الإمام الجواد (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «أوهام القلوب أدقُّ من أبصار العيون، أنت قد تُدرك بوهمك السند والهند والبلدان التي لم تدخلها ولا تُدركها ببصرك، فأوهام القلوب لا تُدركه، فكيف أبصار العيون؟!»(2).

إذن، اللّاتناهي الوجودي عند الله (عزوجل) في الوقت الذي هو يُمثِّل كمالاً ونوراً له جلَّ وعلا، هو يُمثِّل حاجباً يمنع الإنسان من معرفة الحقيقة الإلهيَّة.

المعنىٰ الثاني: الصالحات من دون شروط قبولها:

تقدَّم أنَّ الحُجُب تتَّخذ أنماطاً متعدِّدة، ونحن نعرف أنَّ الله تعالىٰ قد فتح نوافذ للكمال، ولكنَّه لم يجعلها نوافذ مطلقة ومن دون شروط، بل هي نوافذ لمن يُحسِن كيفية الوصول إليها من الطريق الذي رسمه الباري جلَّ وعلا، ومهما كان هناك من شروط، فإنَّ أهم شرط فيها هو (الإخلاص)، أي جَعْل الهدف من

ص: 101


1- أمالي الشيخ الصدوق (ص 503/ ح 690/3).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 1/ ص 99/ باب في إبطال الرؤية/ ح 11).

العمل إلهيًّا علىٰ غرار «إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً 9» (الإنسان: 9).

فالإخلاص إذن هو أوَّل وأهمّ خطوات الولوج إلىٰ ساحة القدس الإلهي والكمال الوجودي.

فعن رسول الله الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) في وصيَّته لابن مسعود: «يا ابن مسعود، إذا عملت عملاً فاعمل لله خالصاً، لأنَّه لا يقبل من عباده الأعمالَ إلَّا ما كان خالصاً، فإنَّه يقول: «وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزىٰ 19 إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلىٰ 20 وَلَسَوْفَ يَرْضىٰ 21» [الليل: 19 - 21]»(1).

ونُسِبَ لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) قوله: «ليست الصلاة قيامك وقعودك، إنَّما الصلاة إخلاصك، وأن تريد بها الله وحده»(2).

وعن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «قال الله تبارك وتعالىٰ: أنا خير شريك، من أشرك بي في عمله لن أقبله إلَّا ما كان لي خالصاً»(3).

من هذا نفهم: أنَّ أيَّ عمل كان الله تعالىٰ قد جعله نافذة للكمال إذا لم يلتزم المرء فيه الإخلاصَ فإنَّه سيتحوَّل إلىٰ حجاب عن الكمال!

فالصلاة، والجهاد في سبيل الله تعالىٰ، والعلم، والجاه، وغيرها، إذا لم يُفَعِّلْها المرء بإخلاص كانت وبالاً عليه.

ومن هنا روي عن أبي جعفر (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «ما بين الحقِّ والباطل إلَّا قلَّة العقل»، قيل: وكيف ذلك يا بن رسول الله؟ قال: «إنَّ العبد

ص: 102


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 74/ ص 103).
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج 1/ ص 325).
3- تفسير العيّاشي (ج 2/ ص 353/ح 94).

يعمل العمل الذي هو لله رضاً فيريد به غير الله ، فلو أنَّه أخلص لله لجاءه الذي يريد في أسرع من ذلك»(1).

وعن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «من أراد الله بالقليل من عمله أظهر الله له أكثر ممَّا أراده به، ومن أراد الناس بالكثير من عمله في تعب من بدنه وسهر من ليله أبىٰ الله إلَّا أن يُقلِّله في عين من سمعه»(2).

النقطة الخامسة: التوصيات:

إذا تبيَّن كلُّ هذا نقول:

كم منّا عمل علىٰ أن يتخلَّص من القيود والحُجُب المانعة من الكمال؟!

كم منّا عمل علىٰ أن يتخلَّص من الذنوب كما يعمل علىٰ أن يتخلَّص من الأمراض التي تصيب بدنه؟

كم منّا بذل من وقته وجهده علىٰ تزكية نفسه بمقدار عُش_ر معشار عمله علىٰ كسب رزقه؟!

أعتقد أنَّ هناك الكثير من الناس - وأنا منهم - قد استخفُّوا بهذا الأمر، وهو استخفافٌ يُنذِر بخطر شديد جدًّا علينا أن نعمل بجدٍّ واجتهاد للتخلُّص من آثاره.

وفي هذا المجال عدَّة توصيات:

أوَّلاً: لا شكَّ أنَّنا لا نستطيع الهرب من المعركة، فالبحر وراءنا، والعدوُّ أمامنا، فلا مناص من المواجهة.

ص: 103


1- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 1/ ص 254/ باب الإخلاص/ ح 280).
2- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 1/ ص 255/ باب الإخلاص/ ح 284).

وحيث إنَّ الإنسان منغمسٌ في النقص والحاجة، فهو محتاج إلىٰ من يعينه، بش_رط أن يكون المُعين قويًّا لا ضعيفاً مثله، وليس هو إلَّا الباري جلَّ وعلا، فهو نعم المُعين، بل لا معين غيره.

وقد روي عن الإمام أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «وَأَكْثِرِ الِاسْتِعَانَةَ بِاللهِ يَكْفِكَ مَا أَهَمَّكَ، وَيُعِنْكَ عَلَىٰ مَا يُنْزِلُ بِكَ إِنْ شَاءَ الله»(1).

ثانياً: أنَّ خير ما ينفع في الاستعانة بالله تعالىٰ هو الدعاء، ذلك الباب الذي فتحه الباري جلَّ وعلا لعباده ولم يغلقه عليهم، قال تعالىٰ: ]قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ[ (الفرقان: 77).

ولذلك يُركِّز الإمام الحسين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) في دعائه علىٰ طلب العون من الله تعالىٰ وعدم الإيكال إلىٰ نفسه، فقال (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) في دعاء عرفة:

«... وَإِلىٰ غَيْرِكَ فَلا تَكِلْني، إِلىٰ مَنْ تَكِلُني، إِلَىٰ الْقَريبِ يَقْطَعُني، أَمْ إِلَىٰ الْبَعيدِ يَتَهَجَّمُني، أَمْ إِلَىٰ المُسْتَضْعِفينَ لي، وَأَنْتَ رَبّي وَمَليكُ أَمْري، أَشْكُوا إِلَيْكَ غُرْبَتي، وَبُعْدَ دَارِي، وَهَواني عَلىٰ مَنْ مَلَّكْتَهُ أَمْري. اللّهُمَّ فَلا تُحْلِلْ بي غَضَبَكَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ غَضِبْتَ عَلَىٰ فَلَا أُبالي سِواكَ، غَيْرَ أَنَّ عافِيَتَكَ أَوْسَعُ لي...»(2).

ثالثاً: علينا أن لا نخدع أنفسنا بعمل علىٰ أنَّه مخلص وهو ليس كذلك، فإنَّ النفس الأمّارة تعمل علىٰ تزيين العمل السيِّئ وجعله حسناً في نظر الإنسان، يعينها في ذلك الشيطان، قال تعالىٰ: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَ_رِينَ أَعْمالاً 103 الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً 104» (الكهف: 103 و104).

ص: 104


1- نهج البلاغة (ج 3/ ص 59).
2- إقبال الأعمال لابن طاووس (ج 2/ ص 79).

ومن هنا روي أنَّ رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) سُئِلَ: فيما النجاة غداً؟ فقال: «إنَّما النجاة في أن لا تخادعوا الله فيخدعكم ، فإنَّه من يخادع الله يخدعه، ويخلع منه الإيمان، ونفسه يخدع لو يشعر»، فقيل له: وكيف يخادع الله؟ قال: «يعمل بما أمره الله ثمّ يريد به غيره، فاتَّقوا الله واجتنبوا الرياء، فإنَّه شرك بالله، إنَّ المرائي يُدعىٰ يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر، حبط عملك وبطل أجرك، ولا خلاق لك اليوم، فالتمس أجرك ممَّن كنت تعمل له»(1).

والمفردة الخامسة التالية ستنفع كثيراً في هذا المجال إن شاء الله تعالىٰ.

* * *

ص: 105


1- أمالي الشيخ الصدوق (ص 677 و678/ح 921/23).

ص: 106

المفردة الخامسة:

اشارة

الاستخفاف والتهاون

بالذنوب

· الخطر: الذنبُ الصغير.

· الأثر: الجرأة والاستدراج.

· التوصية: تعطَّرْ بالاستغفار؛ لا تفضَحْكَ روائحُ الذنوبِ.

ص: 107

ص: 108

إنَّ من أشدِّ ما يقع فيه بعض الناس في قضيَّة الذنوب هو استخفافهم بها، وتقسيمها - عملياً وإن لم يقولوه بألسنتهم - إلىٰ ذنوب تستحقُّ أن يُبتَعد عنها ويتأمَّلَ الإنسان في عواقبها ويندمَ عليها لو فعلها ويتوبَ منها، وإلىٰ ذنوب ليست كذلك، باعتبارها أُموراً هيِّنة ولا تستحقُّ التفكير فيها.

من المؤكَّد أنَّك سمعتَ من يغتاب الناس أمامك أو يكذب، فنصحتَه ونهيتَه عن هذه الذنوب، ومن المؤكَّد أيضاً أنَّك واجهت واحداً أو اثنين منهم وهو يقول لك:

أنا أتكلَّم الحقَّ!

أنا لستُ أوَّل من أخذ الغيبة!

إنَّ الله تعالىٰ رحيم غفور!

إنَّ هذه هيِّنة!

وتلك كذبة بيضاء!

ولا تُصعِّبها علينا!

وإنَّ الله تعالىٰ أعظم من أن يحاسبنا علىٰ هذه الصغار!

الناس يقتلون ويزنون وينهبون وأنا لا أفعل شيئاً سوىٰ الكلام بلساني!

وما حجم هذه الكذبة أو تلك الغيبة!

إلىٰ غير ذلك من التبريرات الواهية، وكلُّها تشير إلىٰ اعتقاد مكنون في داخل الإنسان مفاده: أنَّ ما فعلته وإن كان ذنباً ولكنَّه لا يستحقُّ الكثير.

ص: 109

والحال أنَّ الروايات الش_ريفة اعتبرت هذا التفكير من الأُمور التي تجعل من الذنب عظيماً مهما كان صغيراً، ولقد حذَّرت من هذا التفكير كثيراً.

يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «أعظم الذنوب عند الله سبحانه ذنبٌ صَغُرَ عند صاحبه»(1).

ويقول (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «أشدُّ الذنوب عند الله سبحانه ذنبٌ استهان به راكبُه»(2).

ويقول (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «أَشَدُّ الذُّنُوبِ مَا اسْتَخَفَّ بِهَا صَاحِبُه»(3).

ويقول الإمام الباقر (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «من الذنوب التي لا تُغفَر قولُ الرجل: يا ليتني لا أُؤاخذ إلَّا بهذا»(4).

والخطر في هذه الصغائر يكمن في التالي:

أوَّلاً: أنَّ هذه (الصغائر) في الحقيقة (كبائر) عندما ننظر إلىٰ عظمة المُتجرّىٰ عليه، يقول رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا تنظروا إلىٰ صِغَر الذنب، ولكن انظروا إلىٰ من اجترأتم»(5).

ثانياً: أنَّ هذه (الصغائر) لا تُنسىٰ، بل تُحفَظ، لأنَّ لها مطالباً، ويُؤتىٰ بها في مكان لا يس_رُّك أن تراها فيه، حيث يكون المرء أحوج ما يكون إلىٰ أيِّ حسنة، وأحوج ما يكون بعيداً عن أيِّ سيِّئة.

ص: 110


1- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 112).
2- المصدر السابق.
3- نهج البلاغة (ج 4/ ص 110).
4- الخصال للشيخ الصدوق (ص 24).
5- أوائل المقالات للشيخ المفيد (ص 334)؛ وبحار الأنوار للعلَّامة المجلس_ي (ج 74/ ص 168).

عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «لا يغرَّنَّك الناس من نفسك، فإنَّ الأجر يصل إليك دونهم. ولا تقطع عنك النهار بكذا وكذا، فإنَّ معك من يحفظ عليك. ولا تستقلَّ قليل الخير، فإنَّك تراه غداً بحيث يس_رُّك. ولا تستقلَّ قليل الش_رِّ، فإنَّك تراه غداً بحيث يسوؤك. وأحسِن فإنّي لم أرَ شيئاً أشدّ طلباً ولا أسرع دَرَكاً من حسنةٍ لذنبٍ قديمٍ، إنَّ الله تبارك وتعالىٰ يقول: «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرىٰ لِلذَّاكِرِينَ 114» [هود: 114]».

وعن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «يا بن مسعود، لا تُحقِّرَنَّ ذنباً ولا تُصغِّرَنَّه، واجتنب الكبائر، فإنَّ العبد إذا نظر يوم القيامة إلىٰ ذنوبه دمعت عيناه قيحاً ودماً، يقول الله تعالىٰ: ]يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَ_راً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ 30[ [آل عمران: 30]»(1).

ويقول الإمام الباقر (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «اتَّقوا المحقَّرات من الذنوب، فإنَّ لها طالباً، يقول أحدكم: أُذنِبُ وأستغفر، إنَّ الله (عزوجل) يقول: ]إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتىٰ وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ 12[ [يس: 12]، وقال (عزوجل): ]يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ 16[ [لقمان: 16]»(2).

ثالثاً: أنَّ هذه (الصغائر) ستكون طريقاً إلىٰ الكبائر، بل ربَّما كانت

ص: 111


1- مكارم الأخلاق للشيخ الطبرسي (ص 452)؛ ومستدرك الوسائل للميرزا النوري (ج 11/ ص 350).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 270 و271/ باب الذنوب/ ح 10).

هي كبائر عندما تتجمَّع والمرء غافل عنها، روي عن الإمام الكاظم (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «إنَّ المسيح (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) قال للحواريين: إنَّ صغار الذنوب ومحقَّراتها من مكائد إبليس، يُحقِّرها لكم، ويُصغِّرُها في أعينكم، فتجتمع وتكثر، فتحيط بكم»(1).

وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «إنَّ رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) نزل بأرض قرعاء فقال لأصحابه: ائتوا بحطب، فقالوا: يا رسول الله نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب، قال: فليأتِ كلُّ إنسان بما قدر عليه، فجاؤوا به حتَّىٰ رموا بين يديه بعضه علىٰ بعض، فقال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): هكذا تجتمع الذنوب، ثمّ قال: إيّاكم والمحقَّرات من الذنوب، فإنَّ لكلِّ شيء طالباً، ألَا وإنَّ طالبها يكتب ]ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ 12[ [يس: 12]»(2).

رابعاً: أنَّ هذه (الصغائر) ربَّما توافق سخط الله تعالىٰ، فإنَّه تعالىٰ أخفىٰ سخطه في معصيته علىٰ نحو الإهمال، أي من دون تعيين. وفي ذلك يقول الإمام عليٌّ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «إنَّ الله أخفىٰ سخطه في معصيته، فلا تستصغرنَّ شيئاً من معصيته، فربَّما وافق سخطه وأنت لا تعلم»(3).

خامساً: أنَّ الآثار السيِّئة المترتِّبة علىٰ الذنوب لم يُؤخَذ فيها كون الذنب كبيراً أو صغيراً، فالروايات الش_ريفة تذكر تلك الآثار من دون تعيين الذنب وكونه صغيراً أو كبيراً، وهذا يعني احتمالية ترتُّب تلك الآثار حتَّىٰ علىٰ الذنب الصغير.

ص: 112


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 1/ ص 145 و146).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 288/ باب استصغار الذنب/ ح 3).
3- الخصال للشيخ الصدوق (ص 209 و210).

فانظر إلىٰ الروايات التالية لتعرف صدق هذا بنفسك:

عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «للمؤمن اثنان وسبعون ستراً، فإذا أذنب ذنباً انهتك عنه ستر، فإن تاب ردَّه الله إليه وسبعة معه، فإن أبىٰ إلَّا قُدُماً قُدُماً في المعاصي تُهتَك عنه أستاره، فإن تاب ردَّها الله إليه ومع كلِّ ستر منها سبعة أستار، فإن أبىٰ إلَّا قُدُماً قُدُماً في المعاصي تهتَّكت عنه أستاره، وبقي بلا ستر، وأوحىٰ الله تعالىٰ إلىٰ ملائكته أن استروا عبدي بأجنحتكم، فإنَّ بني آدم يُعيِّرون ولا يُغيِّرون وأنا أُغيِّر ولا أُعيِّر، فإن أبىٰ إلَّا قُدُماً قُدُماً في المعاصي شَكَت الملائكة إلىٰ ربِّها ورفعت أجنحتها وقالت: يا ربِّ، إنَّ عبدك هذا قد أقدمنا ممَّا يأتي الفواحش ما ظهر منها وما بطن، قال: فيقول الله تعالىٰ لهم: كفُّوا أجنحتكم. فلو عمل بخطيئة في سواد الليل أو في ضوء النهار أو في مفازة أو قعر بحر لأجراها الله تعالىٰ علىٰ ألسنة الناس، فسلوا الله تعالىٰ أن لا يهتك أستاركم»(1).

وعن الإمام الباقر (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «ما من سنة أقلُّ مطراً من سنة، ولكن الله (عزوجل) يضعه حيث يشاء، إنَّ الله (عزوجل) إذا عمل قومٌ بالمعاصي صرفَ عنهم ما كان قدَّره لهم من المطر في تلك السنة إلىٰ غيرهم، وإلىٰ الفيافي والبحار والجبال، وإنَّ الله ليُعذِّب الجُعْل في جُحرها بحبس المطر عن الأرض التي هي بمحلَّتها لخطايا من بحض_رتها، وقد جعل الله لها السبيل إلىٰ مسلك سوىٰ محلَّة أهل المعاصي»(2).

وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب انمحت، وإن زاد زادت، حتَّىٰ تغلبَ علىٰ قلبه فلا يفلح بعدها أبداً»(3).

ص: 113


1- النوادر لفضل الله الراوندي (ص 97).
2- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 1/ ص 116 و117).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 271/ باب الذنوب/ ح 13).

وعنه (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «إنَّ الرجل يذنب الذنب فيحرم صلاة الليل، وإنَّ العمل السيِّئ أسرع في صاحبه من السكّين في اللحم»(1).

سادساً: هذا كلُّه فضلاً عن أنَّ نفس التهاون بالذنب - مع الاعتراف بأنَّه ذنب ومخالفة لله تعالىٰ ومعصية له - يكشف عن حقارة في النفس، وتطاول علىٰ سيِّدها، وظلم لمولاها بتجاوز حدوده، وهذا وحده كافٍ عقلاً وشرعاً لإنزال العقاب علىٰ المعتدي.

ولهذا كلِّه وغيره علينا أن نحذر من صغار الذنوب بالمقدار الذي نحذر من كبارها، ولنتذكَّر ما قاله الإمام الحسن العسكري (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) للبهلول، حيث نقل ابن حجر في الصواعق أنَّه وقع لبهلول مع الإمام العسكري (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه رآه وهو صبيٌّ يبكي والصبيان يلعبون، فظنَّ أنَّه يتحسَّ_ر علىٰ ما في أيديهم، فقال: أشتري لك ما تلعب به؟ فقال: «يا قليل العقل، ما للعب خُلِقنا»، فقال له: فلماذا خُلِقنا؟ قال: «للعلم والعبادة»، فقال له: من أين لك ذلك؟ قال: «من قول الله (عزوجل): ]أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ 115[ [المؤمنون: 115]»، ثمّ سأله أن يعظه، فوعظه بأبيات، ثمّ خرَّ الحسن [(عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)] مغشيًّا عليه، فلمَّا أفاق قال له: ما نزل بك وأنت صغير لا ذنب لك؟ فقال: «إليك عنّي يا بهلول، إنّي رأيت والدتي تُوقِد النار بالحطب الكبار فلا تتَّقد إلَّا بالصغار، وإنّي أخشىٰ أن أكون من صغار حطب جهنَّم»(2).

فهل بعد هذا يصحُّ أن نتهاون بذنب ولو كان صغيراً؟!

ص: 114


1- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 1/ ص 115).
2- الصواعق المحرقة لابن حجر (ص 207).

وأصلاً هل يمكن أن نُسمّي ذنباً صغيراً رغم أنَّه مهما صغر في أعيننا فإنَّه يحكي عن جرأة ووقاحة مع المولىٰ الخالق جلَّ وعلا؟!

علينا أن نتذكَّر أنَّه «لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار»(1).

كيف تكبر الصغيرة؟

قد يُقسِّم البعض الذنوب إلىٰ صغائر وكبائر، وهو ما قد يوجد عليه شاهد من هنا وهناك، ولكن حتَّىٰ لو صحَّ هذا التقسيم فمع ذلك يلزم الحذر من الصغائر، لأنَّها يمكن أن تنقلب وتصير من الكبائر، وموجبات ذلك أُمور عديدة، نذكر منها:

أوَّلاً: استصغار الذنب:

إنَّ استصغار الذنب والنظر إليه علىٰ أنَّه لا يستحقُّ الكثير منّا يدلُّ في الحقيقة علىٰ شدَّة الأُلفة به، وهذا ما يوجب تأثُّر القلب سلباً، وعندئذٍ سيجرُّه هذا الاستصغار إلىٰ استمراء ذنب آخر، وهكذا إلىٰ أن يجرَّه ذلك إلىٰ ارتكاب الذنوب كبيرها وصغيرها من دون أن يكون في قلبه ندم أو لوم علىٰ ارتكابه.

عن أبي أُسامة زيد الشحّام، قال: قال أبو عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «اتَّقوا المحقَّرات من الذنوب، فإنَّها لا تُغفَر»، قلت: وما المحقَّرات؟ قال: «الرجل يذنب الذنب فيقول: طوبىٰ لي لو لم يكن لي غير ذلك»(2).

وعن سماعة، قال: سمعت أبا الحسن (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يقول: «لا تستكثروا

ص: 115


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 288/ باب الإصرار علىٰ الذنب/ ح 1)، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 287/ باب استصغار الذنب/ ح 1).

كثيراً، وخافوا الله في السرِّ حتَّىٰ تُعطوا من أنفسكم النَّصَف»(1).

وقال الإمام الباقر (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «من الذنوب التي لا تُغفَر قول الرجل: يا ليتني لا أُؤاخذ إلَّا بهذا»(2).

وقال (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «لا تستصغرنَّ سيِّئة تعمل بها، فإنَّك تراها حيث تسوؤك»(3).

وقال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «إنَّ إبليس رضي منكم بالمحقَّرات، والذنب الذي لا يُغفَر قول الرجل: لا أُؤاخذ بهذا الذنب، استصغاراً له»(4).

ثانياً: الإصرار علىٰ الذنب:

عندما يخطئ الإنسان فخطؤه يُعبِّر ربَّما عن حالة طبيعية، نتيجة عدم عصمته، وتتابع محاولات إبليس إيقاعَه في الخطأ، وضعف نفسه في كثير من الأحايين، ولكن عندما يُصِ_رُّ علىٰ ارتكاب الخطأ رغم علمه به، فهذا ما لا يُعبِّر عن حالة طبيعية، بل هي حالة من التيبُّس والجمود اللّاإنساني واللّاعقلاني.

وهذه الحالة هي حالة اجتماعية منتش_رة في العديد من الأفراد، وفي نفس الوقت هي حالة مارسها البعض حتَّىٰ مع التزامه بالش_ريعة، فتجده لعناده يرضىٰ بالمخالفة رغم علمه بخطئه، الأمر الذي يُسمّىٰ بالإصرار علىٰ الذنب، الذي هو من موجبات تضخيم الذنب ولو كان

ص: 116


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 287 و288/ باب استصغار الذنب/ ح 2).
2- الخصال للشيخ الصدوق (ص 24).
3- بحار الأنوار للعلَّامة المجلس_ي (ج 70/ ص 356)؛ ووسائل الشيعة للحرِّ العاملي (ج 15/ ص 312).
4- النوادر لفضل الله الراوندي (ص 129).

صغيراً، لأنَّه يكشف عن صفة سيِّئة بذيئة داخل النفس لا ترضىٰ بالاعتراف بالخطأ ولا بتصحيحه.

وهو ما حكاه القرآن الكريم بقوله: ]وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ 14[ (النمل: 14).

وقد صرَّحت الروايات الش_ريفة بأنَّ هذه الحالة توجب أن يتمَّ التعامل مع الذنب علىٰ أنَّه من الذنوب الكبيرة حتَّىٰ ولو كان من الصغائر.

عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار»(1).

وعن جابر، عن أبي جعفر (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) في قول الله (عزوجل): ]وَلَمْ يُصِ_رُّوا عَلىٰ ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ 135[ [آل عمران: 135]، قال: «الإصرار هو أن يذنب الذنب فلا يستغفر الله، ولا يُحدِّث نفسه بتوبة، فذلك الإصرار»(2).

وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «إذا عظَّمت الذنب فقد عظَّمت الله، فإذا صغَّرته فقد صغَّرت حقَّ الله تعالىٰ، لأنَّ حقَّه في الصغير والكبير، وما من ذنب عظيم عظَّمته إلَّا صَغُر عند الله تعالىٰ، ولا من صغير صغَّرته إلَّا عَظُم عند الله (عزوجل)»(3).

وقال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) لأبي ذرٍّ: «يا أبا ذرٍّ، لا تنظر إلىٰ صِغَر الخطيئة، ولكن انظر إلىٰ من عصيت»(4).

ص: 117


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 288/ باب الإصرار علىٰ الذنب/ ح 1).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 288/ باب الإصرار علىٰ الذنب/ ح 2).
3- مستدرك الوسائل للميرزا النوري (ج 11/ ص 347).
4- أمالي الشيخ الطوسي (ص 528).

ثالثاً: المجاهرة بالذنب:

من طبيعة الإنسان أنَّه يُحِبُّ دوماً أن يظهر أمام الناس بمظهر لائق علىٰ مستوىٰ الهندام أو علىٰ مستوىٰ الأخلاق، فتجده يعمل علىٰ تصنُّع الخُلُق الحسن، وعلىٰ أن يظهر أمام الناس بمظهر الحكيم الهادئ المسامح العفوّ الكريم السخيّ...، وقد تجد شخصاً بهذا المظهر، ولكنَّه في بيته جبّار ظالم مستبدٌّ!

وعلىٰ كلِّ حالٍ، لا أحد يرضىٰ بأن يُنقَص من قدره أمام الناس، وهذه حالة جيِّدة في كثير من الأحيان.

وحتَّىٰ في مسألة الالتزام بالدِّين تجد بعض الناس يُظهِرون التديُّن والالتزام حتَّىٰ وإن كانوا في داخلهم علىٰ غير هذه الحال، وهي حالة تُعبِّر عن احترام للذات أمام المجتمع، وعسىٰ هذه الحالة أن تجرَّ المتصنِّع بالدِّين إلىٰ أن يلتزمه ظاهراً وباطناً. وعلىٰ كلِّ حالٍ، هي حالة إيجابية من جهة معيَّنة، وإن كانت هناك حالة سلبية تلابسها (والتي قد تصل إلىٰ حدِّ النفاق!).

وواحدة من ترجمات هذه الحالة هي أن يتصنَّع الإنسان التديُّن أمام الناس، وأن لا يقترب من الذنب أمامهم!

أنا لا أُريد أن امتدح هذه الحالة بقدر ما أُريد بيانها، لأنَّه وكما تقدَّم الآن ربَّما تُعبِّر هذه الحالة عن النفاق المذموم، ولكن بالتالي هي طبيعة عاش عليها الكثير من الناس، وهذا يعني أنَّ عكس الحالة هذه، بأن يقوم الفرد بالتجاهر بارتكابه المعاصي غاضًّا طرفه، بل مستخفًّا بكلِّ من ينظر إليه، فهذه حالة من الوقاحة الاجتماعية فضلاً عن الشرعية.

في الحقيقة إنَّ هذا منه خيانة لستر الله الذي أسدله عليه، وتحريك لرغبة السامعين لذلك الذنب، فهما جنايتان انضمَّتا إلىٰ جنايته، فإن

ص: 118

أُضيف إليه حَمْلُ ودَفْعُ الغير علىٰ ارتكاب ذلك الفعل كانت أربع جنايات، وفي الحديث(1): كلُّ الناس معافىٰ إلَّا المجاهرين، يبيت أحدكم علىٰ ذنب قد ستره الله عليه فيصبح ويكشف ستر الله ويُتحدَّث به، وذلك لأنَّ من صفاته ستر القبيح(2).

ولذلك ورد ترغيب العاصي وحثُّه علىٰ الاستتار من معصيته وعدم فضح نفسه عند الناس، بل وحتَّىٰ عند الحاكم أيضاً، فعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) - في حديث الزاني الذي أقرَّ أربع مرّات - أنَّه قال لقنبر: «احتفظ به»، ثمّ غضب وقال: «ما أقبح بالرجل منكم أن يأتي بعض هذه الفواحش فيفضح نفسه علىٰ رؤوس الملأ؟! أفلا تاب في بيته، فوَالله لتوبته فيما بينه وبين الله أفضل من إقامتي عليه الحدَّ»(3).

وقال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «من أتىٰ من هذه القاذورات شيئاً فليستره بستر الله، فإنَّ من أبدىٰ لنا صفحته أقمنا عليه حدَّ الله»(4).

وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «إيّاك والمجاهرة بالفجور، فإنَّه من أشدِّ المآثم»(5).

ص: 119


1- ونصُّ الحديث كما في صحيح مسلم (ج 8/ ص 224 و225)؛ وصحيح البخاري (ج 7/ ص 89)؛ وكنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 4/ ص 239/ ح 10337): عن رسول الله (صلّىٰ الله عليه [وآله] وسلَّم) يقول: «كلُّ أُمَّتي معافاة إلَّا المجاهرين، وإنَّ من الإجهار أن يعمل العبد بالليل عملاً ثمّ يصبح قد ستره ربُّه، فيقول: يا فلان، قد عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربُّه فيبيت يستره ربُّه، ويصبح يكشف ستر الله عنه!».
2- نقله السيِّد نعمة الله الجزائري في نور الأنوار في شرح الصحيفة السجّادية (ص 137).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 7/ ص 188/ باب آخر من صفة الرجم/ ح 3).
4- المبسوط للشيخ الطوسي (ج 8/ ص 40).
5- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 95).

وعن الأصبغ بن نباتة، قال: أتىٰ رجلٌ أميرَ المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) فقال: يا أميرالمؤمنين، إنّي زنيت فطهِّرني، فأعرض أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) بوجهه عنه، ثمّ قال له: اجلس، فأقبل عليٌّ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) علىٰ القوم فقال: «أيعجز أحدكم إذا قارف هذه السيِّئة أن يستر علىٰ نفسه كما ستر الله عليه؟...»(1).

رابعاً: الابتهاج بالذنب والسرور به:

بمعنىٰ الافتخار والفرح به عندما يصدر، مع المعرفة التامَّة بكونه مخالفة للخالق جلَّ وعلا، فإنَّه علامة الرضا بالذنب، والإصرار عليه، وربَّما يكون إظهار الس_رور به ذنباً آخر، لأنَّه يكشف عن الاستهزاء بالأمر الإلهي وتناسيه بالمرَّة.

ص: 120


1- من لا يحض_ره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 4/ ص 31 و32)، وتمام الرواية: ... فقام الرجل فقال: يا أمير المؤمنين، إنّي زنيت فطهِّرني، فقال: «وما دعاك إلىٰ ما قلتَ؟»، قال: طلب الطهارة، قال: «وأيُّ الطهارة أفضل من التوبة؟»، ثمّ أقبل علىٰ أصحابه يُحدِّثهم، فقام الرجل، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّي زنيت فطهِّرني، فقال له: «أتقرأ شيئاً من القرآن؟»، قال: نعم، فقال: «اقرأ»، فقرأ، فأصاب، فقال له: «أتعرف ما يلزمك من حقوق الله (عزوجل) في صلاتك وزكاتك؟»، فقال: نعم، فسأله، فأصاب، فقال له: «هل بك من مرض يعروك أو تجد وجعاً في رأسك أو شيئاً في بدنك أو غمًّا في صدرك؟»، فقال: يا أمير المؤمنين لا، فقال: «ويحك اذهب حتَّىٰ نسأل عنك في الس_رِّ كما سألناك في العلانية، فإن لم تعد إلينا لم نطلبك»، قال: فسأل عنه، فأُخبر أنَّه سالم الحال، وأنَّه ليس هناك شيء يُدخِل عليه به الظنَّ، قال: ثمّ عاد الرجل إليه، فقال له: يا أمير المؤمنين، إنّي زنيت فطهِّرني، فقال له: «لو إنَّك لم تأتِنا لم نطلبك، ولسنا بتاركيك إذا لزمك حكم الله (عزوجل)»، ثمّ قال: «يا معش_ر الناس، إنَّه يجزي من حض_ر منكم رجمه عمَّن غاب، فنشدت الله رجلاً منكم يحض_ر غداً لما تلثَّم بعمامته حتَّىٰ لا يعرف بعضكم بعضاً، وأتوني بغلس حتَّىٰ لا ينظر بعضكم بعضاً، فإنّا لا ننظر في وجه رجل ونحن نرجمه بالحجارة»، قال: فغدا الناس كما أمرهم قبل أسفار الصبح، فاقبل عليٌّ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) عليهم، ثمّ قال: «نشدت الله رجلاً منكم لله عليه مثل هذا الحقِّ أن يأخذ لله به، فإنَّه لا يأخذ لله (عزوجل) بحقٍّ من يطلبه الله بمثله»، قال: فانص_رف والله قوم ما ندري من هم حتَّىٰ الساعة، ثمّ رماه بأربعة أحجار، ورماه الناس.

قال الإمام زين العابدين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «إيّاك والابتهاج بالذنب، فإنَّ الابتهاج به أعظم من ركوبه»(1).

خامساً: ذنب العالم الذي يُقتدىٰ به:

قد يُذنِب شخص عادي أي ليس بعالم، عندها سيتوجَّه النقد إليه بشخصه لو اطَّلع البعض علىٰ ذنبه، ولكن قد يُذنِب شخصٌ له من المعرفة الش_يء الكثير، وبالتالي يحكي ذنبه عن مخالفة صريحة لا تقبل التشكيك، لفرض أنَّه عالم، وسيتمُّ التعامل مع ذنبه حينئذٍ تعاملاً يختلف عن التعامل مع غيره من المذنبين، وهذا واقع لا يقبل الإنكار، ولكن لماذا؟

ذلك لأنَّه قد يموت العالم ويبقىٰ شرُّه.

وزلَّة العالم ربَّما تكون مدعاة وتشجيعاً لغيره بالذنب.

وقد يفهم البعض أنَّ الدِّين يخدع البسطاء من الناس، لأنَّه يأمرهم بالاستقامة، ولكن القائمين عليه من أمثال هذا العالم يخالف الناس إلىٰ ما ينهاهم عنه!

وكلُّ ذلك له من الآثار السلبية علىٰ الفرد والمجتمع ما لا يمكن غضُّ الطرف عنه.

عن حفص بن غياث، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «يا حفص، يُغفَر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يُغفَر للعالم ذنب واحد»(2) .

ص: 121


1- كشف الغمَّة لابن أبي الفتح الإربلي (ج 2/ ص 320)؛ وبحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 75/ ص 159).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 1/ ص 47/ باب لزوم الحجَّة علىٰ العالم وتشديد الأمر عليه/ ح 1).

وقال أبو عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «قال عيسىٰ بن مريم (علىٰ نبيِّنا وآله وعليه السلام): ويلٌ للعلماء السوء كيف تلظّىٰ عليهم النار»(1).

وعن جميل بن درّاج، قال: سمعت أبا عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يقول: «إذا بلغت النفس هاهنا - وأشار بيده إلىٰ حلقه - لم يكن للعالم توبة»، ثمّ قرأ: «]إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَىٰ اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ[ [النساء: 17]»(2).

وقال الإمام عليٌّ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «قصم ظهري عالمٌ متهتِّك، وجاهلٌ متنسِّك، فالجاهل يغشُّ الناس بتنسُّكه، والعالم يُنفِّرهم بتهتُّكه»(3).

سادساً: التهاون بستر الله عليه:

من الرحمة الإلهيَّة غير المتناهية علىٰ بني البش_ر هو أنَّه (عزوجل) رغم اطِّلاعه علىٰ ما يفعله الناس من ذنوب ومعاصٍ، ولكنَّه جلَّ وعلا أخذ علىٰ نفسه أن يستر عليهم ولا يفضحهم بذنوبهم في الدنيا. وهذه الحالة تفرض علىٰ الإنسان الاستحياء من الله تعالىٰ في كلِّ حركة وسكون، ولكن الذي يجري من البعض هو أنَّه يستغلُّ هذه (الفرصة) ويعمل ما يشاء مغترًّا بالستر الإلهي عليه.

علىٰ المذنب أن يحذر من ستر الله تعالىٰ عليه ذنبَه وعدمِ فضحه بين الناس، فلعلَّ ستره عليه لا لكرامة له عليه، بل لعلَّه من باب الاستدراج.

عن حفص بن غياث، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «كم من مغرور

ص: 122


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 1/ ص 47/ باب لزوم الحجَّة علىٰ العالم وتشديد الأمر عليه/ ح 2).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 1/ ص 47/ باب لزوم الحجَّة علىٰ العالم وتشديد الأمر عليه/ ح 3).
3- نهج البلاغة/ الخطبة 32 و193.

بما قد أنعم الله عليه، وكم من مستدرَج بستر الله عليه، وكم من مفتون بثناء الناس عليه»(1).

إنَّ الستر الإلهي علىٰ المذنبين كان من باب المنَّة غير اللازمة علىٰ الله تعالىٰ، وبالتالي لو لم يمنّ الله تعالىٰ علىٰ أحد المذنبين فلا يُعَدُّ هذا خرقاً لاتِّفاق مسبق أو ظلماً أو عبثاً، ومعه فعلىٰ المذنب أن يتصوَّر حاله لو فضحه الله تعالىٰ بذنبه بين أهله وجيرانه معارفه، وعليه أن يُردِّد دعاء الإمام السجّاد (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «... أَيْ رَبِّ، جَلِّلْنِي بِسِتْرِكَ، وَاعْفُ عَنْ تَوْبِيخِي بِكَرَمِ وَجْهِكَ، فَلَوِ اطَّلَعَ اليَوْمَ عَلىٰ ذَنْبِي غَيْرُكَ مَا فَعَلْتُهُ، وَلَوْ خِفْتُ تَعْجِيلَ العُقُوبَةِ لاجْتَنَبْتُهُ، لَا لأَنَّكَ أَهْوَنُ النَّاظِرِينَ وَأَخَفُّ المُطَّلِعِينَ عَلَيَّ، بَلْ لأَنَّكَ يَا رَبِّ خَيْرُ السَّاتِرِينَ، وَأَحْكَمُ الحاكِمِينَ، وَأَكْرَمُ الاَكْرَمِينَ، سَتَّارُ العُيُوبِ، غَفَّارُ الذُّنُوبِ، عَلَامُ الغُيُوبِ، تَسْتُرُ الذَّنْبَ بِكَرَمِكَ، وَتُؤَخِّرُ العُقُوبَةَ بِحِلْمِكَ، فَلَكَ الحَمْدُ عَلىٰ حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ، وَعَلىٰ عَفْوِكَ بَعْدَ قَدْرَتِكَ...»(2).

* * *

ص: 123


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 452/ باب الاستدراج/ ح 4).
2- مصباح المتهجِّد للشيخ الطوسي (ص 584/ من دعاء أبي حمزة الثمالي للإمام زين العابدين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)).

ص: 124

المفردة السادسة:

اشارة

الاستخفاف والتهاون

بحقوق الجسم

· الخطر: ]فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً[.

· الأثر: «لَا يُوَفَّقُ قَاتِلُ المُؤْمِنِ مُتَعَمِّداً لِلتَّوْبَةِ».

· التوصية: «وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً».

ص: 125

ص: 126

إنَّ لبدنك عليك حقًّا:

هكذا قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) لعاصم(1) عندما رآه قد ابتعد عن لذائذ الحياة المحلَّلة.

وهكذا يُعلِّمنا أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) مبدأ الإسلام في التوازن المطلوب بين حقوق الروح وحقوق البدن.

أصبح من الواضحات أنَّ الإنسان كائن ذو بُعدين، بُعد مجرَّد وهو الروح، وآخر مادّي هو البدن أو الجسم. وقد اختلفت الحضارات في إعطاء حقِّ كلٍّ منهما، فبينما أفرطت حضارة في حقِّ الروح وفرَّطت في حقِّ البدن، عكست الأمر حضارة أُخرىٰ، ولكن الإسلام وازن بين البُعدين كأروع ما يكون التوازن.

ص: 127


1- في نهج البلاغة (ج 2/ ص 187و188): من كلام له (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) بالبص_رة وقد دخل علىٰ العلاء بن زياد الحارثي وهو من أصحابه يعوده، فلمَّا رأىٰ سعة داره قال: «مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِسِعَةِ هَذِه الدَّارِ فِي الدُّنْيَا وَأَنْتَ إِلَيْهَا فِي الآخِرَةِ كُنْتَ أَحْوَجَ، وبَلَىٰ إِنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الآخِرَةَ، تَقْرِي فِيهَا الضَّيْفَ، وَتَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ، وَتُطْلِعُ مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا، فَإِذا أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الآخِرَةَ»، فقال له العلاء: يا أمير المؤمنين، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد، قال: «وَمَا لَه؟»، قال: لبس العباءة، وتخلّىٰ عن الدنيا. قال: «عَلَيَّ بِهِ»، فلمَّا جاء قال: «يَا عُدَيَّ نَفْسِه لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكَ الْخَبِيثُ، أَمَا رَحِمْتَ أَهْلَكَ وَوَلَدَكَ؟ أَتَرَىٰ الله أَحَلَّ لَكَ الطَّيِّبَاتِ وَهُوَ يَكْرَه أَنْ تَأْخُذَهَا؟ أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَىٰ اللهِ مِنْ ذَلِكَ»، قال: يا أمير المؤمنين، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك، قال: «وَيْحَكَ إِنِّي لَسْتُ كَأَنْتَ، إِنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَىٰ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ كَيْلَا يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُه».

إنَّ الإسلام لا يرىٰ الرهبنة مبدأً صحيحاً في الحياة، كما لا يرىٰ المادّية الغربية كذلك، وإنَّما هو دين وازن بين بُعديّ الإنسان، فأعطىٰ حقوقاً وألقىٰ واجبات علىٰ الروح، وكذلك علىٰ البدن، وبذلك حفظ حقَّ كلٍّ من البُعدين، ليعيش الإنسان سعادة في الحياة تسبق سعادة الآخرة.

أمَّا حقُّ الروح فيتلخَّص في تخليصها من الشوائب، وجعلها تسير في الخطِّ المرسوم لها للوصول إلىٰ الهدف من خلقة الإنسان، وهو الوصول إلىٰ أعلىٰ وأرقىٰ كمال ممكن له. وقد تقدَّم ما ينفع في المفردة الثالثة.

وأمَّا حقُّ البدن - وهو محلُّ كلامنا هنا - فأنت لا ترىٰ ديناً أو قانوناً يُعطي للبدن والجسم ما أعطاه الإسلام له من حقوق. وأنت حتَّىٰ تنجح في حياتك - الدنيا والآخرة - عليك أن تتعرَّف علىٰ حقوق بدنك وبدن غيرك، وأن تراعي تلك الحقوق، ولا تستخفَّ بها.

وحتَّىٰ تتَّضح الصورة بجلاء نُنقِّط البحث ضمن النقاط التالية:

النقطة الأولى: حقوق البدن في عالم الأرحام:

لا تجد قانوناً في الدنيا يضمن الحقوق للموجودات كافَّة كما تجده في القانون الإسلامي، فهو يحفظ جميع الحقوق للجميع وبدون استثناء، وهذا ما تجده في آيات القرآن وكلمات المعصومين (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ)، يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «اتَّقُوا اللهَ فِي عِبَادِه وَبِلَادِه، فَإِنَّكُمْ مَسْئُولُونَ حَتَّىٰ عَنِ الْبِقَاعِ وَالْبَهَائِمِ»(1).

من هنا تجد العلماء قد أسَّسوا قاعدة عامَّة تمَّت استفادتها من مجمل النصوص الدِّينية، تقول: إنَّ لله تعالىٰ حكماً في كلِّ واقعة، فلا تخلو واقعة في الدنيا إلَّا ولله تعالىٰ فيها حكم شرعي.

ص: 128


1- نهج البلاغة (ج 2/ ص 80).

ومن هذا القبيل تجد الروايات الإسلاميَّة قد التفتت إلىٰ حقوق الجنين الش_رعية وهو في بطن أُمِّه، ونذكر هذه الحقوق الش_رعية لنتعرَّف علىٰ مسؤوليتنا - نحن الآباء -، وهنا عدَّة أحكام نذكرها تباعاً:

الحكم الأوَّل:

إنَّ الأصل الأوَّلي هو عدم جواز إسقاط وإجهاض الجنين من أوَّل لحظة انعقاد النطفة، أي إذا اتَّحدت نطفة الرجل مع بويضة المرأة فلا يجوز إسقاط هذه النطفة الملقَّحة بأيِّ شكل من الأشكال، ولأيِّ سبب من الأسباب.

ومن هنا ذكر الفقهاء أنَّ (اللولب) الذي تضعه بعض النساء لمنع الحمل - علىٰ فرض جواز وضعه لض_رورة وما شابه - فإنَّه إن كان يعزل نطفة الرجل عن بيضة المرأة ويمنع من أصل الاتِّحاد فلا بأس به، لأنَّه لا يقتل النطفة الملقَّحة، بل يمنع من أصل الاتِّحاد، وإن كان اللولب يقتل البيضة الملقَّحة - أي بعد أن تتَّحد نطفة الرجل مع بويضة المرأة يأتي اللولب ليقتل تلك البيضة الملقَّحة - فلا يجوز وضعه حينئذٍ (علىٰ الأحوط لزوماً)(1).

الحكم الثاني:

إنَّ عدم جواز الإسقاط شامل للأب وللأُمِّ وللسبب، فلا يجوز

ص: 129


1- في منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني (ج 1/ مستحدثات المسائل/ أحكام تحديد النسل/ مسألة 71): (يجوز للمرأة استعمال اللولب المانع من الحمل ونحوه من الموانع بالش_رط المتقدِّم [والش_رط هو: أن لا يلحق بها ضرراً بليغاً]، ولكن إذا توقَّف وضعه في الرَّحِم علىٰ أن يباشر ذلك غير الزوج كالطبيبة وتنظر أو تلمس من دون حائل ما يحرم كشفه لها اختياراً كالعورة لزم الاقتصار في ذلك علىٰ مورد الض_رورة، كما إذا كان الحمل مض_رًّا بالمرأة أو موجباً لوقوعها في حرج شديد لا يُتحمَّل عادةً ولم يكن يتيسَّ_ر لها المنع منه ببعض طُرُقه الأُخرىٰ أو كانت ضررية أو حرجية عليها كذلك. هذا إذا لم يثبت لها أنَّ استعمال اللولب يستتبع تلف البويضة بعد تخصيبها، وإلَّا فالأحوط لزوماً الاجتناب عنه مطلقاً).

للممرِّضة مثلاً أن تزرق الأُمَّ إبرة لإسقاط الجنين، وإن كان هذا بطلب وموافقة الأب والأُمِّ. وتتحمَّل الممرِّضة في مثل هذه الحالة دية الجنين - بالمقدار الذي سنعرفه إن شاء الله تعالىٰ -.

الحكم الثالث:

وقد ذكرت الكُتُب الفقهية(1) - تبعاً للروايات - الدية الش_رعية للجنين في مراحله الحياتية، وهي كالتالي:

ص: 130


1- في منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني (ج 1/ مستحدثات المسائل/ أحكام تحديد النسل/ مسألة 73): (لا يجوز إسقاط الحمل وإن كان بويضة مخصَّبة بالحويمن، إلَّا فيما إذا خافت الأُمُّ الض_رر علىٰ نفسها من استمرار وجوده، أو كان موجباً لوقوعها في حرج شديد لا يُتحمَّل عادةً، فإنَّه يجوز لها عند ذلك إسقاطه ما لم تلجه الروح، وأمَّا بعد ولوج الروح فيه فلا يجوز الإسقاط مطلقاً حتَّىٰ في حالة الض_رر والحرج علىٰ الأحوط لزوماً. وإذا أسقطت الأُمُّ حملها وجبت عليها ديته لأبيه أو لغيره من ورثته، وإن أسقطه الأب فعليه ديته لأُمِّه، وإن أسقطه غيرهما كالطبيبة لزمته الدية لهما وإن كان الإسقاط بطلبهما. هذا إذا كان الحمل من حلال، وإنْ كان من الزنا من الطرفين فتكون الدية للإمام (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ). ويكفي في دية الحمل بعد ولوج الروح فيه دفع خمسة آلاف ومائتين وخمسين مثقالاً من الفضَّة إن كان ذَكَراً، ونصف ذلك إن كانت أُنثىٰ، سواء كان موته بعد خروجه حيًّا أو في بطن أُمِّه علىٰ الأحوط لزوماً. ويكفي في ديته قبل ولوج الروح فيه دفع مائة وخمسة مثاقيل من الفضَّة إن كانت نطفة، ومائتين وعش_رة مثاقيل إن كانت علقة، وثلاثمائة وخمسة عش_ر مثقالاً إن كانت مضغة، وأربعمائة وعش_رين مثقالاً إن كانت قد نبتت له العظام، وخمسمائة وخمسة وعشرين مثقالاً إنْ كان تامَّ الأعضاء والجوارح. ولا فرق في ذلك بين الذَّكَر والأُنثىٰ - علىٰ الأحوط لزوماً -، وكذلك يجب علىٰ مباشر الإسقاط الكفّارة، وهي في الإسقاط عمداً الاستغفار بدلاً عن عتق الرقبة علىٰ الأحوط لزوماً، وصوم شهرين متتابعين وإطعام ستّين مسكيناً لكلِّ مسكين مُدٌّ من الطعام. وفي الإسقاط خطأً صوم شهرين متتابعين. فإنْ لم يتمكَّن فإطعام ستّين مسكيناً كذلك. ولا فرق في وجوب الكفّارة بالإسقاط بين ولوج الروح وعدمه علىٰ الأحوط لزوماً).

أوَّلاً: يكفي في دية الحمل بعد ولوج الروح فيه دفع خمسة آلاف ومائتين وخمسين مثقالاً من الفضَّة إن كان ذَكَراً، ونصف ذلك إن كانت أُنثىٰ، سواء كان موته بعد خروجه حيًّا أو في بطن أُمِّه علىٰ الأحوط لزوماً.

ثانياً: يكفي في ديته قبل ولوج الروح فيه دفع:

1 - مائة وخمسة مثاقيل من الفضَّة إن كانت نطفة.

2 - مائتين وعشرة مثاقيل إن كانت علقة.

3 - ثلاثمائة وخمسة عشر مثقالاً إن كانت مضغة.

4 - أربعمائة وعشرين مثقالاً إن كانت قد نبتت له العظام.

5 - وخمسمائة وخمسة وعشرين مثقالاً إن كان تامُّ الأعضاء والجوارح.

والدية طبعاً تجب علىٰ الذي يباشر بقتل الجنين، فلو أسقطته الأُمُّ وجب عليها أن تدفع الدية إلىٰ الأب، ولو أسقطه الأب وجب عليه دفعها إلىٰ الأُمِّ، ولو أسقطته الطبيبة التي تزرق الحامل إبرة معدَّة لذلك مثلاً وجب عليها أن تدفع الدية إلىٰ الأبوين، حتَّىٰ لو كان ذلك بطلب من الأب أو الأُمِّ أو من كليهما.

نعم، باعتبار أنَّ الدية هي حقٌّ للأب والأُمِّ، فيمكنهما أن يُسقطاها عن المباشر أيًّا كان(1).

ص: 131


1- في منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني (ج 1/ مستحدثات المسائل/ أحكام تحديد النسل/ مسألة 73): (... وإذا أسقطت الأُمُّ حملها وجبت عليها ديته لأبيه أو لغيره من ورثته، وإن أسقطه الأب فعليه ديته لأُمِّه، وإن أسقطه غيرهما - كالطبيبة - لزمته الدية لهما وإن كان الإسقاط بطلبهما).

الحكم الرابع:

وإنَّما يجوز الإسقاط - وبالتالي تسقط الدية - فيما إذا كان هناك مسوِّغ شرعي يُجوِّز الإسقاط، كما إذا تعرَّضت حياة الأُمِّ للخطر لو بقي الحمل، فحياة الأُمِّ أهمُّ من حياة الجنين. ولكن علىٰ تفصيل بين ولوج الروح وعدم ولوجها، وخلاصته التالي:

يجوز للمرأة إسقاط جنينها بشرطين(1):

الش_رط الأوَّل: أن تخاف المرأة الض_رر علىٰ نفسها من استمرار وجود الجنين، أو كان موجباً لوقوعها في الحرج الشديد الذي لا يُتحمَّل عادةً.

الش_رط الثاني: أن لا تلجه الروح، أمَّا إذا ولجته الروح فلا يجوز إسقاطه حتَّىٰ في حالة الضرر علىٰ الأحوط لزوماً.

ص: 132


1- في منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني (ج 1/ مستحدثات المسائل/ أحكام تحديد النسل/ مسألة 73): (لا يجوز إسقاط الحمل وإن كان بويضة مخصَّبة بالحويمن إلَّا فيما إذا خافت الأُمُّ الض_رر علىٰ نفسها من استمرار وجوده، أو كان موجباً لوقوعها في حرج شديد لا يُتحمَّل عادةً، فإنَّه يجوز لها عندئذٍ إسقاطه ما لم تلجه الروح، وأمَّا بعد ولوج الروح فيه فلا يجوز الإسقاط مطلقاً حتَّىٰ في حالة الض_رر والحرج علىٰ الأحوط لزوماً، وإذا أسقطت الأُمُّ حملها وجبت عليها ديته لأبيه أو لغيره من ورثته، وإن أسقطه الأب فعليه ديته لأُمِّه، وإن أسقطه غيرهما - كالطبيبة - لزمته الدية لهما وإن كان الإسقاط بطلبهما. هذا إذا كان الحمل من حلال، وإنْ كان من الزنا من الطرفين فتكون الدية للإمام (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)). وفي منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني (ج 3/ مسألة 384): (لا يجوز إسقاط الحمل وإن كان من سفاح إلَّا فيما إذا خافت الأُمُّ الض_رر علىٰ نفسها من استمرار وجوده أو كان يتسبَّب في وقوعها في حرج بالغ لا يُتحمَّل عادةً، فإنَّه يجوز لها حينئذٍ إسقاطه ما لم تلجه الروح، وأمَّا بعد ولوج الروح فيه فلا يجوز الإسقاط حتَّىٰ في حالتي الض_رر والحرج علىٰ الأحوط لزوماً، وإذا أسقطت الأُمُّ حملها وجبت عليها ديته، وكذا لو أسقطه الأب أو شخص ثالث كالطبيب...).

تنبيهات:

التنبيه الأوَّل:

إنَّ هذا التفصيل نفسه يُقال حتَّىٰ لو كان الحمل من سفاح (والعياذ بالله)، وحتَّىٰ لو كان الجنين مشوَّهاً (لا سمح الله)(1).

التنبيه الثاني:

تبيَّن ممَّا تقدَّم أنَّ الذي يقدم علىٰ إسقاط جنين من دون عذر شرعي فلقد قتل إنساناً، فيترتَّب عليه ما يترتَّب علىٰ من قتل نفساً بغير نفس ولا حقٍّ. فتجب عليه - بالإضافة إلىٰ الدية كما تقدَّم - كفّارة القتل، وهي بالتفصيل التالي:

إذا كان الإسقاط عمداً، فالأحوط وجوباً الاستغفار بدلاً عن عتق الرقبة، ويجب أيضاً صوم شهرين متتابعين، وإطعام ستّين مسكيناً، لكلِّ مسكين مُدٌّ من الطعام.

وأمَّا إذا كان الإسقاط خطأً فيجب صوم شهرين متتابعين، فإن لم يتمكَّن من الصوم فعليه أن يُطعم ستّين مسكيناً، لكلِّ مسكين مُدٌّ من الطعام(2).

ص: 133


1- في الفتاوىٰ الميسَّ_رة للسيِّد السيستاني (ص 432) ورد السؤال والجواب التالي: (في الآونة الأخيرة وبفضل الوسائل العلمية الحديثة يمكن استعلام وضع الجنين وما إذا كان مصاباً بعاهة خَلقية أم لا، فإذا ثبت علمياً كونه مشوَّهاً ومصاباً بعاهات أو عاهة واحدة، فهل يجوز إسقاطه؟ تشوه الجنين ليس بمجرَّده مسوِّغاً لإسقاطه، نعم إذا كان بقاؤه في رحم الأُمِّ ضررياً علىٰ صحَّتها أو حرجياً عليها بحدٍّ لا يُتحمَّل عادةً جاز لها إسقاطه، وذلك قبل ولوج الروح فيه، وأمَّا بعده فلا يجوز الإسقاط مطلقاً).
2- منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني (ج 1/ مستحدثات المسائل/ أحكام تحديد النسل/ مسألة 73).

فيلزم أن ينتبه الجميع لهذا الأمر، ولا يستخفُّوا به أبداً، فإنَّ عاقبته وخيمة جدًّا، فقد روي عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أنَّه قال: «أَوَّلُ مَا يَحْكُمُ اللهُ فِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الدِّمَاءُ، فَيُوقِفُ ابْنَيْ آدَمَ فَيَفْصِلُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمَا مِنْ أَصْحَابِ الدِّمَاءِ، حَتَّىٰ لَا يَبْقَىٰ مِنْهُمْ أَحَدٌ، ثُمَّ النَّاسَ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَ المَقْتُولُ بِقَاتِلِهِ فَيَتَشَخَّبَ فِي دَمِهِ وَجْهُهُ فَيَقُولَ: هَذَا قَتَلَنِي. فَيَقُولُ: أنتَ قَتَلْتَهُ؟ فَلَا يَسْتَطِيعُ أن يَكْتُمَ اللهَ حَدِيثاً»(1).

وعن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «لَا يَزَالُ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَماً حَرَاماً»، وقال: «لَا يُوَفَّقُ قَاتِلُ المُؤْمِنِ مُتَعَمِّداً لِلتَّوْبَةِ»(2).

إذن، فما أعظم ذنب من تجرَّأ علىٰ الزهراء(عَلَيْهِا اَلسَّلاَمُ) وتسبَّب في إسقاط جنينها!

التنبيه الثالث:

حكم السقط من حيث الغَسل والدفن(3):

إذا أسقط الجنين فهنا:

أوَّلاً: إن تمَّت له أربعة أشهر جرىٰ عليه حكم الإنسان الكامل، فيُغسَّل ويُحنَّط ويُكفَّن ويُدفَن. نعم، لا تجب الصلاة عليه، لأنَّها لا تجب علىٰ الصغير إلَّا إذا عقل الصلاة.

ثانياً: إذا كان عمر السقط أقلَّ من أربعة أشهر، فحينئذٍ:

أ - إذا لم يكن الجنين مستوي الخلقة، فالأحوط وجوباً أن يُلَفَّ بخرقة ويُدفَن، من دون حاجة إلىٰ تغسيل وتكفين.

ص: 134


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 7/ ص 271/ باب القتل/ ح 2).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 7/ ص 272/ باب القتل/ ح 7).
3- منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني (ج 1/ مسألة 330): (السقط إذا تمَّ له أربعة أشهر غُسِّل وحُنِّط وكُفِّن ولم يُصَلَّ عليه، وإذا كان لدون ذلك لُفَّ بخرقة علىٰ الأحوط وجوباً ودُفِنَ، لكن لو كان مستوي الخلقة حينئذٍ فالأحوط لزوماً جريان حكم الأربعة أشهر عليه).

ب - إذا كان الجنين مستوي الخلقة، فالأحوط لزوماً جريان حكم ما تمَّ له أربعة أشهر، وهو المتقدِّم في (أوَّلاً)، فيُغسَّل ويُحنَّط ويُكفَّن ويُدفَن.

ملاحظة:

وممَّا يلحق بحقِّ البدن في عالم الأرحام هي قضيَّة الطعام الذي تأكله الأُمُّ، والذي سيأخذ قسماً منه جنينها في رحمها، وقد حثَّت بعض النصوص الدِّينية علىٰ إطعام الحوامل بعض الأنواع من الأطعمة، وعلَّلت ذلك بأنَّ الفائدة ستعود إلىٰ الجنين، في إشارة منها إلىٰ أنَّ الغذاء المادّي الذي سيأخذه الجنين من خلال دم الأُمِّ سيكون له تأثير علىٰ أخلاق الجنين أو علىٰ بنيته الجسدية، فعن محمّد بن مسلم، قال: قال أبو عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) ونظر إلىٰ غلام جميل: «ينبغي أن يكون أبو هذا الغلام أكل السفرجل»(1).

قال صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ: «اسقوا نساءكم الحوامل اللُّبان(2)، فإنَّها تزيد في عقل الصبيِّ»(3).

وقال صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ: «ما من امرأة حاملة أكلت البطّيخ إلَّا يكون مولودها حسن الوجه والخلق»(4).

وقال صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ: «أطعموا المرأة في شهرها الذي تلد فيه التمر، فإنَّ ولدها يكون حليماً نقيًّا»(5).

ص: 135


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 22/ باب ما يُستَحبُّ أن تُطعَم الحبلىٰ والنفساء/ ح 2).
2- اللُّبان بتشديد اللّام وضمِّها: الكندر، وهو علك يُمضَع. (مجمع البحرين: ج 6/ ص 306).
3- مكارم الأخلاق للشيخ الطبرسي (ص 194).
4- مستدرك الوسائل للميرزا النوري (ج 15/ ص 214 / باب نوادر ما يتعلَّق بأبواب أحكام الأولاد/ ح 18038/14).
5- مستدرك الوسائل للميرزا النوري (ج 16/ ص 384/ باب استحباب أكل التمر البرني واختياره علىٰ غيره/ ح 20260/2).

النقطة الثانية: حقُّ الحياة للبدن:

بمعنىٰ أنَّ الإسلام ضمن للمسلم أن لا يُعتدىٰ علىٰ بدنه بأيِّ نوع من أنواع الاعتداء، سواء الاعتداء الذي يقطع الصلة بين الروح والبدن - القتل والموت - أو الاعتداء الذي يؤذي البدن، من قطع عضو أو ضربه وما شابه.

وحتَّىٰ يحفظ الإسلام هذا الحقَّ فقد شرَّع أحكاماً متعلِّقة بهذا الجانب، فحرَّم القتل واعتبره من الجرائم العظيمة: ]مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً[ (المائدة: 32)، وحرَّم حتَّىٰ الض_رب، ورتَّب عقوبات علىٰ تجاوز هذه الحدود، فمن قتل متعمِّداً تخيَّر أهل المقتول بين قتله أو الدية، وإن قتله خاطئاً فعليه أن يؤدّي ديته إلىٰ أهل المقتول، وإن ضربه أو قطع عضواً منه فقد رتَّبت الشريعة ديات وحدَّدت مقدارها - كما هو مسطور في الكُتُب الفقهية -.

مع ملاحظة أنَّ جَعْل تلك العقوبات والغرامات يعني أنَّها عقوبة دنيوية حتَّىٰ لا تتحوَّل الحياة إلىٰ غابة صراع، وحتَّىٰ تنقطع الفتنة، «وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 179» (البقرة: 179)، وأمَّا العقوبة الإلهيَّة بارتكاب المحرَّم وتجاوز الحدِّ الإلهي، فهذا موكول إلىٰ يوم القيامة.

النقطة الثالثة: الصحَّة البدنية:

اهتمَّ الإسلام كثيراً بالصحَّة البدنية، وشرَّع في ذلك عدَّة أُمور:

الأمر الأوَّل:

حثَّ الإسلام علىٰ التزام نظام غذائي ووقائي شامل، حتَّىٰ يحافظ علىٰ صحَّة البدن، ولأجل ذلك حثَّ علىٰ التزام عدَّة أُمور، نذكر منها:

ص: 136

أوَّلاً: أحلَّ للمسلم أن يأكل الطيِّبات التي تنفعه في بناء بدنه بناءً صحّياً متوازناً.

فقد روي أنَّه قال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «اللحم واللبن يُنبتان اللحم ويشدّان العظام، واللحم يزيد في السمع والبص_ر، واللحم بالبيض يزيد في الباءة»(1).

وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «أطعموا صبيانكم الرمّان فإنَّه أسرع لألسنتهم»(2)، وفي رواية الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «فإنَّه أسرع لشبابهم»(3).

ثانياً: حرَّم عليه أكل الطعام الذي يؤذي البدن، كالميتة والدم ولحم الكلب والخنزير وشرب الخمر والنجس...

ثالثاً: السواك، فعن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «في السواك اثنتا عش_رة خصلة: هو من السُّنَّة، ومطهِّرة للفم، ومجلاة للبص_ر، ويُرضي الربَّ، ويُذهِب بالبلغم، ويزيد في الحفظ، ويُبيِّض الأسنان، ويضاعف الحسنات، ويُذهِب بالحُفَر، ويشدُّ اللثَّة، ويُشهّي الطعام، وتفرح به الملائكة»(4).

الأمر الثاني:

حثَّ الإسلام علىٰ التزام بعض السلوكيات التي تُؤثِّر إيجاباً علىٰ صحَّة البدن، ومنها:

ص: 137


1- دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي (ج 2/ ص 145/ ح 511).
2- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 63/ ص 155).
3- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 2/ ص 546/ ح 760).
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 495 و496/ باب السواك/ ح 6).

1 - لبس الحذاء الجيِّد.

2 - تخفيف الرداء حتَّىٰ لا يثقل كاهل المتن بحمله.

3 - عرض النفس علىٰ الخلاء حتَّىٰ لا تنشغل الأعضاء الداخلية بالعمل وحفظ الفضلات.

4 - تجويد المضغ.

5 - عدم التملّي إلىٰ الحدِّ الذي يؤذي البطن.

فعن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «من أراد البقاء ولا بقاء فليباكر الغداء، وليُجوِّد الحذاء، وليُخفِّف الرداء، وليُقِلَّ مجامعة النساء»، قيل: يا رسول الله، وما خفَّة الرداء؟ قال: «قلَّة الدَّين»(1).

وعن الأصبغ بن نباتة، قال: قال أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) للحسن ابنه (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «يا بُنَيَّ، ألَا أُعلِّمك أربع خصال تستغني بها عن الطبِّ؟»، فقال: «بلىٰ يا أمير المؤمنين»، قال: «لا تجلس علىٰ الطعام إلَّا وأنت جائع، ولا تقم عن الطعام إلَّا وأنت تشتهيه، وجوِّد المضغ، وإذا نمت فاعرض نفسك علىٰ الخلاء. فإذا استعملت هذا استغنيت عن الطبِّ»(2).

الأمر الثالث:

حثَّ الإسلام علىٰ ضرورة اللياقة البدنية، لما فيها من أثر يساعد علىٰ قوَّة البدن، فحثَّ علىٰ الرياضة عموماً، كالسباحة والرماية وركوب الخيل والمصارعة، وما شابه.

قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): قال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «علِّموا أولادكم السباحة والرماية»(3).

ص: 138


1- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 3/ ص 555/ ح 4902).
2- الخصال للشيخ الصدوق (ص 228 و229).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 47/ باب تأديب الولد/ ح 4).

قال أبو هريرة وابن عبّاس والحارث الهمداني وأبو ذرٍّ والصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) : «إنَّه اصطرع الحسن والحسين بين يدي رسول الله، فقال: إيه حسن خذ حسيناً، فقالت فاطمة: يا رسول الله أتستنهض الكبير علىٰ الصغير؟ فقال: هذا جبرئيل يقول للحسين: إيهاً حسين خذ حسناً»(1).

إنَّ المقصود من حثِّ الأحاديث علىٰ هذه الأنواع من الرياضة هي تنمية الجسم وتقويته، وهذا يعكس اهتمام الإسلام بهذا الجانب، ولذلك ورد أنَّ المؤمن القويَّ خير من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير(2).

هذا فضلاً عن نهي الش_ريعة عن بعض التص_رُّفات التي تُؤثِّر سلباً علىٰ اللياقة البدنية، وبالتالي ستُضعِف البدن، ومن أهمِّ تلك الأُمور هي البدانة التي تتسبَّب عن البطنة وكثرة الأكل، فقد روي عن النبيِّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «إيّاكم والبطنة، فإنَّها مفسدة للبدن، ومورثة للسقم، ومكسلة عن العبادة»(3).

وعن عمرو بن إبراهيم، قال: سمعت أبا الحسن - الإمام الكاظم (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) - يقول: «لو أنَّ الناس قصدوا في الطعام لاستقامت أبدانهم»(4).

وعن حفص بن غياث، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «ظهر إبليس

ص: 139


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 3/ ص 162 و163).
2- الحديث عامّي، وممَّن راوه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (ج 12/ ص 218)، وقد علَّق عليه في الشيخ الطريحي في مجمع البحرين (ج 3/ ص 572) بقوله: (القويُّ الذي قوي في إيمانه، بأن يكون له قوَّة وعزيمة وقريحة في أُمور الآخرة ليكون أكثر جهاداً أو صبراً علىٰ الأذىٰ والمشاقِّ في الله وأرغب في العبادات).
3- الدعوات لقطب الدِّين الراوندي (ص 74/ ح 172).
4- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 2/ ص 439 و440/ باب الاقتصاد في الأكل ومقداره/ ح 296).

ليحيىٰ بن زكريا (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) وإذا عليه معاليق من كلِّ شيء، فقال له يحيىٰ: ما هذه المعاليق يا إبليس؟ فقال: هذه الشهوات التي أصبتها من ابن آدم، قال: فهل لي منها شيء؟ قال: ربَّما شبعت فثقَّلَتْكَ عن الصلاة والذِّكر، قال يحيىٰ: لله عليَّ أن لا أملأ بطني من طعام أبداً. وقال إبليس: لله عليَّ أن لا أنصح مسلماً أبداً!».

ثمّ قال أبو عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «يا حفص، لله علىٰ جعفر وآل جعفر أن لا يملؤوا بطونهم من طعام أبداً، ولله علىٰ جعفر وآل جعفر أن لا يعملوا للدنيا أبداً»(1).

النقطة الرابعة: التخفيفات الفقهية:

في الوقت الذي شرَّع الله تعالىٰ العبادات علىٰ المسلم، والتي يتعلَّق العديد منها بالبدن، فقد رخَّص له أن يترك بعضها أو يتنازل إلىٰ رتبة أقلّ من المطلوب الأوَّلي إذا كانت ممارسة تلك العبادة تُؤثِّر سلباً علىٰ البدن والصحَّة الجسدية. ولذلك جوَّز الإفطار لمن يتض_رَّر به، والتيمُّم لمن يتض_رَّر من استعمال الماء، والصلاة جالساً أو مضطجعاً حسب المكنة، وأباح له أكل بعض المحرَّمات إذا خاف الهلاك...، وقد تقدَّم تمام الكلام فيه في موضوع (مفردات اليُسر في الدِّين) فراجع.

النقطة الخامسة: حرمة بعض الأفعال:

وفي الوقت الذي خلق الله تعالىٰ الطيِّبات للمسلم، فقد حرَّم عليه بعض الأفعال التي ربَّما يعتقد الإنسان أنَّها من الطيِّبات، ولكنَّها حيث

ص: 140


1- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 2/ ص 439 و440/ باب الاقتصاد في الأكل ومقداره/ ح 297).

فقد حرمت عليه، كالزنا واللواط ووطئ الحائض...، الأُمور التي أكَّد العلم الحديث علىٰ ضررها البالغ علىٰ الإنسان.

قال تعالىٰ: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىٰ فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ 222» (البقرة: 222).

وقال تعالىٰ: «وَلا تَقْرَبُوا الزِّنىٰ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً 32» (الإسراء: 32).

النقطة السادسة: حقوق البدن بعد الموت:

لم يكتفِ الإسلام بإعطاء حقوق للبدن أثناء الحياة، بل جعل له حقوقاً حتَّىٰ بعد الموت، فلا يجوز التمثيل بالجُثَّة، ولا يجوز تش_ريحها(1)،

ص: 141


1- في جواب استفتاء لسماحة السيِّد السيستاني: (لا يجوز تش_ريح بدن الميِّت المسلم لمجرَّد معرفة سبب الوفاة، ولكن لو توقَّف عليه الحصول علىٰ الاختصاص الطبّي في حقل معيَّن، وعلم طالب الطبِّ أنَّ حصوله علىٰ هذا الاختصاص ممَّا يتوقَّف عليه انقاذ نفس محترمة في المستقبل، جاز له ذلك بمقدار الضرورة). وفي جواب استفتاء آخر: (لا يجوز لوليِّ الميِّت المسلم أن يسمح بتش_ريح جسد الميِّت للغرض المذكور ونحوه، ويلزمه الممانعة منه مع الإمكان. نعم، إذا توقَّفت عليه مصلحة مهمَّة توازي مفسدته الأوَّلية أو تترجَّح عليها، جاز). (https://www.sistani.org/arabic/qa/). وفي منهاج الصالحين (ج 1/ أحكام التشريح وأحكام الترقيع) جاءت المسائل التالية: (مسألة 55: لا يجوز تش_ريح بدن الميِّت المسلم، فلو فعل ذلك لزمته الدية علىٰ تفصيل مذكور في كتاب الديات. Z [ مسألة 56: يجوز تش_ريح بدن الميِّت الكافر بأقسامه إذا لم يكن محقون الدم في حال حياته، وإلَّا - كما لو كان ذمّيًّا - فالأحوط لزوماً الاجتناب عن تش_ريح بدنه. نعم، إذا كان ذلك جائزاً في شريعته - مطلقاً، أو مع إذنه في حال الحياة، أو إذن وليِّه بعد الوفاة - فلا بأس به حينئذٍ، وأمَّا المشكوك كونه محقون الدم في حال الحياة فيجوز تش_ريح بدنه إذا لم تكن أمارة علىٰ كونه كذلك. مسألة 57: لو توقَّف حفظ حياة مسلم علىٰ التش_ريح ولم يمكن تش_ريح الكافر غير محقون الدم أو مشكوك الحال جاز تش_ريح غيره من الكفّار، وإن لم يمكن ذلك أيضاً جاز تش_ريح المسلم، ولا يجوز تش_ريح المسلم لغرض التعلُّم ونحوه ما لم تتوقَّف عليه إنقاذ حياة مسلم أو من بحكمه ولو في المستقبل). وفي منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني/ أحكام الترقيع، جاءت المسائل التالية: (مسألة 58: إذا توقَّف حفظ حياة المسلم علىٰ قطع عضو من أعضاء الميِّت المسلم - كالقلب والكلية - لإلحاقه ببدنه جاز القطع، ولكن تثبت الدية علىٰ القاطع علىٰ الأحوط لزوماً، وإذا أُلحق ببدن الحيِّ ترتَّبت عليه بعد الإلحاق أحكام بدن الحيِّ، نظراً إلىٰ أنَّه أصبح جزءاً منه. مسألة 59: لا يجوز قطع عضو من أعضاء الميِّت المسلم لإلحاقه ببدن الحيِّ فيما إذا لم تتوقَّف عليه حياته وإن كان في حاجة ماسَّة إليه كما في العين ونحوها من الأعضاء، ولو قُطِعَ فعلىٰ القاطع الدية، ويجب دفن المقطوع، ولا يجوز إلحاقه ببدن الحيِّ، ولكن إذا تمَّ الإلحاق وحلَّت فيه الحياة لم يجب قطعه بعد ذلك. مسألة 60: إذا أوصىٰ بقطع بعض أعضائه بعد وفاته ليُلحَق ببدن الحيِّ من غير أن تتوقَّف حياة الحيِّ علىٰ ذلك، ففي نفوذ وصيَّته وجواز القطع حينئذٍ إشكال - وإن لم تجب الدية علىٰ القاطع -، فلا يترك مراعاة مقتضىٰ الاحتياط في ذلك. مسألة 61: المقصود بالميِّت في الموارد المتقدِّمة هو من توقَّفت رئتاه وقلبه عن العمل توقُّفاً نهائياً لا رجعة فيه، وأمَّا الميِّت دماغياً مع استمرار رئتيه وقلبه في وظائفهما وإن كان ذلك عن طريق تركيب أجهزة الإنعاش الصناعية فلا يُعَدُّ ميِّتاً، ويحرم قطع عضو منه لإلحاقه ببدن الحيِّ مطلقاً. مسألة 62: لا يجوز قطع جزء من إنسان حيٍّ لإلحاقه بجسم غيره إذا كان قطعُه يُلحِقُ به ضرراً بليغاً كما في قلع العين وقطع اليد وما شاكلها، وأمَّا إذا لم يُلحِق به الض_رر البليغ - كما في قطع قطعة من الجلد أو جزء من النخاع أو إحدىٰ الكليتين لمن لديه كلية أُخرىٰ سليمة - فلا بأس به مع رضا صاحبه إذا لم يكن قاصراً لصغر أو جنون وإلَّا لم يجز مطلقاً، وكما يجوز القطع في الصورة المذكورة يجوز أخذ المال بازاء الجزء المقطوع. Z [ مسألة 63: يجوز التبرُّع بالدم للمرضىٰ المحتاجين إليه كما يجوز أخذ العوض عليه. مسألة 64: يجوز قطع عضو من بدن الميِّت الكافر غير محقون الدم أو مشكوك الحال لإلحاقه ببدن المسلم، وتترتَّب عليه بعد الإلحاق وحلول الحياة فيه أحكام بدن المسلم لصيرورته جزءاً منه، ويجوز أيضاً إلحاق بعض أعضاء الحيوان - كقلبه - ببدن المسلم وإن كان الحيوان نجس العين كالخنزير ويصبح بعد الإلحاق وحلول الحياة فيه جزءاً من بدن المسلم وتلحقه أحكامه).

ولا أخذ شيء من أعضاء الميِّت المسلم ولا بيعه حتَّىٰ من قِبَل ورثة الميِّت، إلَّا إذا توقَّفت عليه حياة مسلم آخر، فإنَّ البدن ليس من الحقوق ولا الأموال التي تورث.

ويجب مواراتها في التراب بحيث لا تصل إليها الحيوانات، ولا تشيع رائحتها الكريهة فتهتك حرمة الميِّت، وأَمَرَ بتعجيل تجهيز الجنازة ودفنها بسرعة(1).

* * *

ص: 142


1- قال المحقِّق النراقي 1 في مستند الشيعة (ج 3/ ص 77 و78): (... تعجيل تجهيزه إن عُلِمَ موته، بالإجماع المحقَّق، والمحكي في المعتبر والتذكرة والنهاية واللوامع وغيرها، والمستفيضة كرواية جابر: «لا ألفينَّ رجلاً له ميِّت ليلاً فانتظر به الصبح، ولا رجلاً مات له ميِّت نهاراً فانتظر به الليل، لا تنتظروا بموتاكم طلوع الشمس ولا غروبها، عجِّلوا بهم إلىٰ مضاجعهم...» الحديث. ورواية السكوني: «إذا مات الميِّت أوَّل النهار فلا يقيل إلَّا في قبره». وفي خبر عيص: «إذا مات الميِّت فخذ في جهازه وعجِّله». وفي مرسَلة الصدوق: «كرامة الميِّت تعجيله». بل يُقدَّم تجهيزه علىٰ الصلاة المكتوبة ما لم يضيق وقتها، لخبر جابر: إذا حض_رت الصلاة علىٰ الجنازة في وقت مكتوبة فبأيِّها أبدأ، فقال: «عجِّل بالميِّت إلىٰ قبره إلَّا أن يخاف فوت وقت الفريضة...»).

ولا أخذ شيء من أعضاء الميِّت المسلم ولا بيعه حتَّىٰ من قِبَل ورثة الميِّت، إلَّا إذا توقَّفت عليه حياة مسلم آخر، فإنَّ البدن ليس من الحقوق ولا الأموال التي تورث.

ويجب مواراتها في التراب بحيث لا تصل إليها الحيوانات، ولا تشيع رائحتها الكريهة فتهتك حرمة الميِّت، وأَمَرَ بتعجيل تجهيز الجنازة ودفنها بسرعة(1).

* * *

ص: 143


1- قال المحقِّق النراقي 1 في مستند الشيعة (ج 3/ ص 77 و78): (... تعجيل تجهيزه إن عُلِمَ موته، بالإجماع المحقَّق، والمحكي في المعتبر والتذكرة والنهاية واللوامع وغيرها، والمستفيضة كرواية جابر: «لا ألفينَّ رجلاً له ميِّت ليلاً فانتظر به الصبح، ولا رجلاً مات له ميِّت نهاراً فانتظر به الليل، لا تنتظروا بموتاكم طلوع الشمس ولا غروبها، عجِّلوا بهم إلىٰ مضاجعهم...» الحديث. ورواية السكوني: «إذا مات الميِّت أوَّل النهار فلا يقيل إلَّا في قبره». وفي خبر عيص: «إذا مات الميِّت فخذ في جهازه وعجِّله». وفي مرسَلة الصدوق: «كرامة الميِّت تعجيله». بل يُقدَّم تجهيزه علىٰ الصلاة المكتوبة ما لم يضيق وقتها، لخبر جابر: إذا حض_رت الصلاة علىٰ الجنازة في وقت مكتوبة فبأيِّها أبدأ، فقال: «عجِّل بالميِّت إلىٰ قبره إلَّا أن يخاف فوت وقت الفريضة...»).

ص: 144

المفردة السابعة:

اشارة

الاستخفاف والتهاون

بالفتوى

· الخطر: الافتاء بغير علم.

· الأثر: الضلال والإضلال.

· التوصية: لا تجعلْ رقبتك للناس جسراً.

ص: 145

ص: 146

يقض_ي العقل بض_رورة الرجوع في كلِّ فنٍّ واختصاص إلىٰ أهل الخبرة والتخصُّص فيه، فإنَّهم الأدرىٰ به، ويعرفون خفاياه ومخارجه الصحيحة، وهذا الأمر قد دعا إليه الدِّين أيضاً.

قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «وَاجْعَلْ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ خَدَمِكَ عَمَلاً تَأْخُذُه بِه، فَإِنَّه أَحْرَىٰ أَلَّا يَتَوَاكَلُوا فِي خِدْمَتِكَ»(1).

هل تعرف أنَّ عدد نفوس الهند يصل إلىٰ أكثر من مليار وربع المليار إنسان؟! وهل تعلم أنَّهم إلىٰ الآن من الشعوب التي تُعتَبر متخلِّفة؟! وإلىٰ اليوم يعيش الكثير منهم الفقر المدقع.

ولكن هل تعلم أنَّ عدد اليابانيين لا يتجاوز ال_ (130) مليوناً فقط؟! وأنَّ بلادهم عبارة عن جزر متناثرة في البحر! وأنَّ أراضيهم هي أراضٍ بركانية تهزُّها البراكين والزلازل بين الفينة والأُخرىٰ! ولا أعتقد أنَّك لا تعلم إلىٰ أين وصلت بهم عجلة التقدُّم.

ما هو السبب في ذلك؟

ربَّما هناك الكثير من الأسباب، ولكن الأمر المتيقَّن هو أنَّ اليابانيين اعتمدوا علىٰ نظام التخصُّص في العمل، بينما بقي الهنود - والكثير غيرهم - يعملون كلًّا علىٰ حِدَة!

لقد ثبت علمياً في باب السياسة الاقتصادية أنَّ للتخصُّص في العمل أهمّية عظيمة في زيادة الإنتاج، بل وجودته، باعتبار أنَّه سيكون

ص: 147


1- نهج البلاغة (ص 405/ ح 31).

لكلِّ فرد عمل خاصٌّ، ربَّما يكون صغيراً في حجمه ولكنَّه سيُتقِنه بمرور الزمن أشدّ الإتقان، وسيكون هو المسؤول عن جودته وأناقته و...، وسوف لن يتواكل علىٰ غيره من أجل إتمام عمله الخاصِّ، لأنَّ غيره أيضاً له عمله الخاصّ.

ليس هذا فقط، بل إنَّ الكون كلَّه قائم علىٰ نظام التخصُّص في العمل، يقول تعالىٰ: «وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ 38 وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّىٰ عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ 39 لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ 40» (يس: 38 - 40).

ليس هذا فقط، بل (لقد قسَّم الله تعالىٰ أعضاء الجسم حسب التخصُّص، فالعين تؤدّي دور إبصار الأشياء، والأُذُن تؤدّي دور التقاط الأصوات، واللسان يؤدّي دور إخراج الكلام، ولا نجد أحد الأعضاء يؤدّي دور عضو آخر بأيِّ شكل من الأشكال، فالعين لن تسمع حتَّىٰ ولو أُصيب السمع بالخلل، والأُذُن لن تبص_ر حتَّىٰ مع إصابة العين بالعمىٰ، وهكذا...

ومع وجود تناسق كامل بينها، إلَّا أنَّ لكلِّ عضو مجال تركيزه الخاصّ به الذي لا يتجاوزه.

وكما في الجسم كذلك في المجتمع حينما يتمُّ التركيز، فيمارس كلُّ شخص دوره المحدَّد ويؤدّيه بشكل جيِّد، يتمُّ له الرقيُّ والتقدُّم...

لقد قال المرحوم الشيخ البهائي - الذي يُعَدُّ من عباقرة العلوم -: (غلبت كلَّ ذي فنون، وغلبني ذو فنٍّ واحدٍ).

فذو الفنون لا يستطيع التركيز ولذلك فهو يفشل، أمَّا ذو الفنِّ الواحد فإنَّه ينجح بسبب قوَّة تركيزه.

ص: 148

ألَا ترىٰ أنَّ أشعَّة الشمس حينما يتمُّ تركيزها عبر المكبِّر علىٰ شيء قابل للاشتعال كيف تؤدّي إلىٰ احتراقه، بينما هي عاجزة عن ذلك بدون التركيز مهما طال الزمن!

وهكذا الأمر بالنسبة إليك، فأنت إذا ركَّزت قواك فسوف تحرز النجاح فيما تستهدفه، ومن دون ذلك فمن المستبعَد إحراز أيِّ نجاح...)(1).

وعلىٰ كلِّ حالٍ (إنَّ لكلِّ عضو من أعضاء العبد (تكليفاً) مستقلًّا...، فعلىٰ من يريد القيام بحقوق عبودية الحقِّ المتعال، أن (يعلم) أوَّلاً وظائف العبودية في كلِّ عضو من أعضائه، فهو كمن يريد أن يعمل عند مولىٰ مجازي في الدنيا، فعليه أن يستفهمه من أوَّل الأمر، فيما يجب عليه فعله وتركه، وإلَّا قصَّ_ر - ولو من دون قصد - في وظائف العبودية. ومن بعد استيعاب هذه المعرفة عليه أن (يُعطي) كلَّ عضو حقَّه في العبادة، ولو قصَّ_ر في بعضها لكان وجوده وجوداً غير متوازن، كعبد فيه شركاء متشاكسون، والحقُّ خير الش_ركاء، إذ يُسلِّم المال المشترك إلىٰ باقي الش_ركاء، فهو الغنيُّ عن الخالص فكيف بالمشترك؟! وقد ورد عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «فليس من جوارحه جارحة إلَّا وقد وُكِّلت من الإيمان بغير ما وُكِّلت به أُختها»(2))(3).

ولأجل ضرورة التخصُّص تجد أنَّ إحدىٰ أهمّ ميزات مدرسة الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) هي ميزة التخصُّص العلمي، ففي الفقه أربعة من

ص: 149


1- فنون النجاح للسيِّد هادي المدرِّسي (ص 92 و93).
2- تفسير العيّاشي (ج 1/ ص 156).
3- الومضات للشيخ حبيب الكاظمي/ الومضة رقم 532.

أعظم أصحابه (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، هم: زرارة بن أعين، وأبو بصير ليث المرادي، ومحمّد بن مسلم، وبُريد بن معاوية العجلي.

وفي علم الكلام هشام بن الحكم، ومؤمن الطاق (وهو محمّد بن عليِّ بن النعمان بن أبي طريفة البجلي).

وفي علم الأحياء والحيوان والتشريح المفضَّل بن عمر.

وفي علم الكيمياء جابر بن حيّان، وهكذا.

إذن، لا نقاش في ضرورة التخصُّص العلمي، وثمراته تشهد بض_رورته، والناس في حياتهم سلَّموا بهذا المبدأ، وسيَّروا عليه حياتهم، فتجدهم يرجعون إلىٰ البنّاء في مجال البناء، ولا يهبُّون إلىٰ الطبيب فيه، لأنَّه سيكون أمراً مضحكاً للثكلىٰ، وهكذا في مجال الزراعة والطبِّ والاقتصاد والتجارات وتصليح المكائن الميكانيكية وغيرها من المجالات.

هذا، ولكنَّ الواقع يشهد أنَّ الناس - أو علىٰ الأقلّ إنَّ قسماً منهم - يعيشون مفارقة في هذا الجانب، ففي الوقت الذي يعتقدون بض_رورة الرجوع إلىٰ أهل التخصُّص في كلِّ فنٍّ، ويعملون علىٰ هذا الاعتقاد في حياتهم اليومية، إلَّا أنَّهم وفي الكثير من الأحيان يخالفون هذا الأمر في قضيَّة (الفتوىٰ).

لاحظ عندما تثار مسألة فقهية، ستجد العديد من جلسائك يُدلي بدلوه، وكلٌّ يدَّعي وصلاً بليلىٰ، وما يذكرونه ليس مبتنياً علىٰ قراءة مسبقة، أو علىٰ معلومة مخزونة، وإنَّما هو مجرَّد تخمينات واحتمالات واعتقادات شخصية واستحسانات وقياسات وما شابه.

ص: 150

والأنكىٰ من ذلك أنَّ كلَّ واحدٍ منهم يعمل علىٰ إثبات قوله والدفاع عنه وتخطئة الآخر.

إنَّها حالة يبتلي بها الكثير من الناس، إنَّهم يتهاونون في قضيَّة (الافتاء) و(إعطاء الحكم الش_رعي)، وقليلاً ما تجد شخصاً يتورَّع ويقول: (لا أعلم، لنرجع إلىٰ أهل الاختصاص في هذا المجال).

وحتَّىٰ لو كان الكثير يرجعون إلىٰ ذوي الاختصاص في هذا المجال، ولكنَّك لو دخلت فيما بينهم لوجدت أنَّ رجوعهم إلىٰ أهل الاختصاص كان بعد مشاحنة طويلة من إعطاء الفتاوىٰ والآراء في هذه المسألة، أو أنَّ رجوعهم كان من باب ترتُّب بعض الآثار المادّية أو غيرها علىٰ الحكم الشرعي الصحيح.

وستجد الكثيرين يسألون عن الحكم الش_رعي لمسألة كانوا قد فعلوها لأيّام عديدة أو ربَّما لسنين، ولصدفة من غير ميعاد بدا للرجل أن يسأل عن حكم هذا الفعل الذي كان ولا يزال يفعله، أو عن معاملة أكل الدهر عليها وشرب.

وستجد الكثيرين يعتبرون سؤال المتخصِّص في هذه المسألة من نافلة القول ومن سقط الزمان، وسوف لن تجد في العديد من الناس من يُتعِب نفسه في تحصيل الحكم الش_رعي من منبعه إلَّا كالملح في الطعام، وهو أقلُّه!

أنا لا أُريد أن أنقد هذه الحالة بقدر ما أُريد أن أُنبِّه علىٰ خطورتها، فإنَّ الروايات الش_ريفة حذَّرت جدًّا من خطورة هذه الحالة، وألزمت الرجوع إلىٰ أهل الاختصاص وإلىٰ (أُولي العلم منهم) و(الراسخين فيه) ومن نصَّبوهم في مجال الفتوىٰ.

ص: 151

تعليمات أهل البيت في هذا المجال:

نستطيع أن نستكشف أمرين مهمَّين، اتَّخَذَهما أهل البيت (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) للحيلولة دون التهاون بالفتوىٰ، هما:

الأمر الأوَّل:

دفع أتباعهم إلىٰ التفقُّه في الدِّين، وحفظ الأحاديث، وعدم التس_رُّع في إلقاء الفتوىٰ.

(والتفقُّه في الدِّين عبارة عن تحصيل البصيرة في المسائل الدِّينية، علمية كانت أو عملية، باطنية أو ظاهرية، متعلّقة بالعبادات أو المعاملات، فرضاً معرفتها أو العمل بها أو سُنَّة أو أدباً)(1).

عن مفضَّل بن عمر، قال: سمعت أبا عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يقول: «عليكم بالتفقُّه في دين الله، ولا تكونوا أعراباً، فإنَّه من لم يتفقَّه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة، ولم يُزكِّ له عملاً»(2).

وقال (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «تفقَّهوا في الدِّين، فإنَّ من لم يتفقَّه منكم في الدِّين فهو أعرابي، إنَّ الله (عزوجل) يقول في كتابه: «لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ 122» [التوبة: 122]»(3).

وعن محمّد بن مسلم، قال: قال أبو عبد الله وأبو جعفر (عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ): «لو أتيتُ بشابٍّ من شباب الشيعة لا يتفقَّه لأدَّبته»(4).

ص: 152


1- الحقُّ المبين للفيض الكاشاني (ص 2).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 1/ ص 31/ باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه/ ح 7).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 1/ ص 31/ باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه/ ح 6).
4- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 1/ ص 228/ ح 161).

وعن إسحاق بن عمّار، قال: سمعت أبا عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يقول: «ليت السياط علىٰ رؤوس أصحابي حتَّىٰ يتفقَّهوا في الحلال والحرام»(1).

الأمر الثاني:

التحذير من الآثار الوخيمة للإفتاء بغير علم، فإنَّ الروايات الشريفة رتَّبت الكثير من الآثار الخطرة علىٰ الإفتاء بغير علم، منها:

أوَّلاً: أنَّه سبب من أسباب الهلاك:

فعن مفضَّل بن يزيد، قال: قال لي أبو عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «أنهاك عن خصلتين فيهما هلاك الرجال: أنهاك أن تَدين الله بالباطل، وتُفتي الناس بما لا تعلم»(2).

ثانياً: أنَّه سبب للعنة والطرد عن القرب الإلهي:

عن أبي عبيدة الحذّاء، عن أبي جعفر (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «من أفتىٰ الناس بغير علم ولا هدىٰ لعنته ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه»(3).

ثالثاً: أنَّه علامة مضادَّة الله تعالىٰ:

عن مسعدة بن صدقة، قال: قال أبو جعفر (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «من أفتىٰ الناس برأيه فقد دان الله بما لا يعلم، ومن دان الله بما لا يعلم فقد ضادَّ الله حيث أحلَّ وحرَّم فيما لا يعلم»(4).

رابعاً: أنَّه سبب للإفساد أكثر من الإصلاح:

روي عن النبيِّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «من أفتىٰ الناس بغير علم كان ما يُفسِده من الدِّين أكثر ممَّا يُصلِحه»(5).

ص: 153


1- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 1/ ص 229/ ح 165).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 1/ ص 42/ باب النهي عن القول بغير علم/ ح 1).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 1/ ص 42/ باب النهي عن القول بغير علم/ ح 3).
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 1/ ص 57 و58/ باب البدع والرأي والمقائيس/ ح 17).
5- مسند الرضا (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) لداود بن سليمان الغازي (ص 78)؛ وبحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 2/ ص 121).

خامساً: أنَّ الفتوىٰ تجعل الرقبة جسراً لعبور الغير عليها:

عن عنوان البص_ري، عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «سَلْ العلماء ما جهلت، وإيّاك أن تسألهم تعنُّتاً وتجربةً، وإيّاك أن تعمل برأيك شيئاً، وخذ بالاحتياط في جميع أُمورك ما تجد إليه سبيلاً، واهرب من الفتيا هربك من الأسد، ولا تجعل رقبتك عتبةً للناس»(1).

سادساً: أنَّها سبب للضمان الأُخروي:

عن عبد الرحمن بن الحجّاج، قال: كان أبو عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) قاعداً في حلقة ربيعة الرأي، فجاء أعرابي، فسأل ربيعة الرأي عن مسألة، فأجابه، فلمَّا سكت قال له الأعرابي: أهو في عنقك؟ فسكت عنه ربيعة ولم يرد عليه شيئاً، فأعاد المسألة عليه، فأجابه بمثل ذلك، فقال له الأعرابي: أهو في عنقك؟ فسكت ربيعة، فقال أبو عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «هو في عنقه، قال أو لم يقل، وكلُّ مفتٍ ضامن»(2).

وغيرها من الآثار الخطرة التي رتَّبتها الروايات الش_ريفة علىٰ الإفتاء بغير علم.

الإفتاء بغير علم علامة الانحراف عن خطِّ أهل البيت:

لقد كان الإفتاء بغير علم علامة الانحراف عن خطِّ أهل البيت (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ)، فهذا (عمر بن الخطّاب) يُفتي بغير علم علىٰ رؤوس الأشهاد حتَّىٰ فضحته امرأة، والأخبار في ذلك كثيرة، قال ابن أبي الحديد:

ص: 154


1- مشكاة الأنوار لعليٍّ الطبرسي (ص 564)؛ ووسائل الشيعة للحرِّ العاملي (ج 27/ ص 172 و173).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 7/ ص 409/ باب أنَّ المفتي ضامن/ ح 1).

(... وكان عمر يُفتي كثيراً بالحكم ثمّ ينقضه ويُفتي بضدِّه وخلافه، قض_ىٰ في الجدِّ مع الإخوة قضايا كثيرة مختلفة، ثمّ خاف من الحكم في هذه المسألة، فقال: من أراد أن يتقحَّم جراثيم جهنَّم فليقل في الجدِّ برأيه.

وقال مرَّة: لا يبلغني أنَّ امرأة تجاوز صداقها صداق نساء النبيِّ إلَّا ارتجعت ذلك منها، فقالت له امرأة: ما جعل الله لك ذلك، إنَّه تعالىٰ قال: ]وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً 20[ [النساء: 20]، فقال: كلُّ النساء أفقه من عمر حتَّىٰ ربّات الحجال! ألَا تعجبون من إمام أخطأ وامرأة أصابت، فاضَلَت إمامكم ففضلته!

ومرَّ يوماً بشابٍّ من فتيان الأنصار وهو ظمآن، فاستسقاه، فجدح له ماءً بعسل، فلم يش_ربه، وقال: إنَّ الله تعالىٰ يقول: ]أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا[ [الأحقاف: 20]، فقال له الفتىٰ: يا أمير، إنَّها ليست لك ولا لأحد من هذه القبيلة، اقرأ ما قبلها: ]وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَىٰ النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا[، فقال عمر: كلُّ الناس أفقه من عمر!

وقيل: إنَّ عمر كان يعس بالليل، فسمع صوت رجل وامرأة في بيت، فارتاب، فتسوَّر الحائط، فوجد امرأة ورجلاً، وعندهما زقُّ خمر، فقال: يا عدوَّ الله، أكنت ترىٰ أنَّ الله يسترك وأنت علىٰ معصيته! قال: يا أمير، إن كنت أخطأتُ في واحدة فقد أخطأتَ في ثلاث، قال الله تعالىٰ: «وَلا تَجَسَّسُوا» [الحجرات: 12]، وقد تجسَّستَ. وقال: ]وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها[ [البقرة: 189]، وقد تسوَّرتَ. وقال: ]فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا[ [النور: 61]، وما سلَّمتَ!

ص: 155

وقال: متعتان كانتا علىٰ عهد رسول الله وأنا محرِّمهما، ومعاقب عليهما: متعة النساء، ومتعة الحجِّ)(1).

ملاحظة:

من التهاون بالفتوىٰ هو عدم الاستجابة لها، كأن يأتي الحكم الش_رعي بحرمة حلق اللحية(2)، أو بعدم جواز ضرب الزوجة والأولاد، أو بمفطريَّة كذا أو عدم مفطريته، أو بلزوم دفع المال الفلاني، أو بعدم جواز البناء بالكيفية الفلانية، أو عدم جواز لبس كذا ملابس، أو غيرها ممَّا يتعارض مع مصلحة شخص أو لا يستسيغه آخر أو لا يرىٰ عقله فاهماً وموافقاً له، وما شابه.

إنَّه استخفاف بالفتوىٰ وتهاون بها، وهو من الخطورة بمكان، فقد روي عن عمر بن حنظلة، قال: سألت أبا عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث...، فكيف يصنعان؟ قال: «ينظران إلىٰ من كان منكم ممَّن قد روىٰ حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حَكَماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حَكَمَ بحكمنا فلم يقبله منه فإنَّما استخفَّ بحكم الله وعلينا ردَّ، والرادُّ علينا الرادُّ علىٰ الله، وهو علىٰ حدِّ الشرك بالله»(3).

* * *

ص: 156


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج 1/ ص 181 و182).
2- علىٰ الأحوط وجوباً.
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 1/ ص 67/ باب اختلاف الحديث/ ح 10).

المفردة الثامنة:

اشارة

ص: 157

ص: 158

الدعوة إلى كتابة الحقوق:

جرت سيرة البش_ر علىٰ العمل علىٰ المحافظة علىٰ حقوقهم المادّية والمعنوية، وعدم تضييعها، ولذلك تجدهم يكتبون، ويُثبِّتون، ويُشهِدون، ويتقاضون، ويقيمون الدعاوىٰ، ويترافعون عند القاضي، من أجل استرجاع حقٍّ قد أُخِذَ منهم.

وهذا أمر لا بأس به، والقرآن الكريم أرشد إلىٰ ضرورته، قال تعالىٰ: ]يا أَي_ُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّىٰ فَاكْتُبُوهُ... وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلىٰ أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنىٰ أَلَّا تَرْتابُوا...[ (البقرة: 282).

بل إنَّها الطريقة التي اتَّخذها الباري جلَّ وعلا مع عباده، فهو يستوثق عليهم كلَّ ما يصدر عنهم حتَّىٰ لا يُنكِرها منكِر، فيقول لهم يوم القيامة: «هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 29» (الجاثية: 29).

ليس هذا فحسب، بل إنَّ الروايات ذكرت أنَّ من لا يستوثق علىٰ ماله بوثيقة وما شابه فهو من الذين لا يُستجاب دعاؤهم، لأنَّه خالف الطريقة المتَّبعة لحفظ الحقوق، فعن جعفر بن إبراهيم، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «أربعة لا يُستجاب لهم دعوة: الرجل جالس في بيته يقول: اللّهمّ ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالطلب؟! ورجل كانت له امرأة فدعا عليها، فيقال له: ألم أجعل أمرها إليك؟! ورجل كان له مال فأفسده

ص: 159

فيقول: اللّهمّ ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالاقتصاد؟! ألم آمرك بالإصلاح؟!»، ثمّ قال: ««وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْ_رِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً 67» [الفرقان: 67]، ورجل كان له مال فأدانه بغير بيِّنة، فيقال له: ألم آمرك بالشهادة؟!»(1).

ولذلك، فإنَّ من لا يلتزم هذه الوصيَّة وهذه السيرة فلا أجر له لو فُقِدَ ماله، كما نصَّت علىٰ ذلك رواية عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «من ذهب حقُّه علىٰ غير بيِّنة لم يُؤجَر»(2).

إذن، هي دعوة صادقة إلىٰ أن نستوثق علىٰ حقوقنا ونستشهد عليها، قبل أن تزلَّ قدم بعد ثبوتها، وقبل أن تنقلب المودّات إلىٰ عداوات، وقبل أن نقع في المصيدة، ولات حين مندمِ(3).

المؤمن لا يخون:

ولكن مع ذلك كلِّه، لو كان لأحد حقٌّ علىٰ آخر، فينبغي لمن عليه الحقّ أن يؤدّيه إلىٰ صاحبه ولو لم تكن له عليه وثيقة، فإنَّه مقتض_ىٰ الإيمان بأنَّ الله تعالىٰ مطَّلع علىٰ الأُمور، وأنَّه هو الحاكم والشاهد، ومقتضىٰ الإيمان الذي يعني في ما يعنيه أنَّ الناس تأمن من جانبه في جميع أحوالها.

بل إنَّه مقتض_ىٰ العقل ولو من دون شريعة من السماء، فكلُّ عاقل يحكم بلزوم إرجاع الحقوق إلىٰ أهلها، وعدم جواز أخذها من دون حقٍّ.

ص: 160


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 511/ باب من لا تُستجاب دعوته/ ح 2).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 298/ باب من أدان ماله بغير بيِّنة/ ح 3).
3- قطاف شهر رمضان للمؤلِّف (ص 38).

عن أبي تمامة، قال: قلت لأبي جعفر الثاني (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): إنّي أُريد أن ألزم مكَّة أو المدينة وعليَّ دَين، فما تقول؟ فقال: «ارجع فأدِّهْ إلىٰ مؤدّي دَينك، وانظر أن تلقىٰ الله تعالىٰ وليس عليك دَين، إنَّ المؤمن لا يخون»(1).

واقع مُرٌّ:

ولكن الواقع اليوم يحكي لنا حكاياتٍ مُرَّةً في الحلق، لا يستسيغها مؤمن، ولا يتقبَّلها عاقل!

إنَّها حكايات عن أُناس جعلوا من غمط الحقوق ديدنهم.

وعن أُناس استخفُّوا بحقوق الآخرين وأموالهم إلىٰ الحدِّ الذي يقف فيه المؤمن خائفاً من متاهة الغاب!

وحتَّىٰ تتَّضح الصورة نذكر هنا بعضاً من حالات غمط الحقوق أو التهاون في أدائها، نسأل الله تعالىٰ أن يُبعِد المؤمنين عن الابتلاء بها:

الحالة الأولى: إنكار أو مطل الدَّين(2):

لا شكَّ في استحباب أن يُقرِض المؤمن أخاه المحتاج، بل ورد أنَّه أكثر ثواباً من الصدقة(3)، وهذا لا نقاش فيه. ولكن البعض مع الأسف عمل علىٰ إيقاف هذه الحالة الإيجابية، وعلىٰ قطعها بصورة وبأُخرىٰ.

ص: 161


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 94/ باب الدَّين/ ح 9).
2- راجع: قطاف شهر رمضان للمؤلِّف (ص 47).
3- عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: قال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «الصدقة بعش_رة والقرض بثمانية عشر». (الكافي للشيخ الكليني: ج 4/ ص 10/ باب الصدقة علىٰ القرابة/ ح 3). وفي رواية أُخرىٰ عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «مكتوب علىٰ باب الجنَّة: الصدقة بعش_رة والقرض بثمانية عشر». (الكافي للشيخ الكليني: ج 4/ ص 33/ باب القرض/ ح 1).

إنَّ إنكار الدَّين أو المطل في أدائه من الحالات التي انتش_رت هذه الأيّام مع كلِّ الأسف، فما أكثر الدعاوىٰ التي تُرفَع في هذا المجال.

إنَّ الدِّين يوجب أداء الدَّين إذا لم يكن محدَّداً أو كان محدَّداً وحلَّ أجله، ولا يسمَح بالتأخير في أدائه إلَّا عند الض_رورة، كما لو كان المدين معس_راً، فأمر القرآن الكريم الدائن بالتيسير عليه: ]وَإِنْ كانَ ذُو عُسْ_رَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلىٰ مَيْسَ_رَةٍ[ (البقرة: 280).

أمَّا إذا كان قادراً علىٰ أدائه ولم يؤدِّه، فهو ظلم ما بعده ظلم(1).

إنَّ هذه الحالة في الوقت الذي تُعتَبر من المحرَّمات، هي داعية إلىٰ قطع سبيل معروف الإقراض، وهي مدعاة للكثير من المشاكل بين الناس. هذا إذا تناسينا قضيَّة مهمَّة، وهي أنَّ الذي يُنكِر أو يُمطِّل بالدَّين سوف يُراق ماء وجهه ويقلُّ احترامه بين الناس ولا تبقىٰ له عند الناس أيُّ ثقة.

إذن، علينا عندما نقترض أن ننويَ من البداية أداءه، فإنَّ ذلك وسيلة للتوفيق إلىٰ أدائه، كما روي ذلك عن الحسن بن عليِّ بن رباط، قال: سمعت أبا عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يقول: «من كان عليه دَين فينوي قضاءه كان معه من الله (عزوجل) حافظان يعينانه علىٰ الأداء عن أمانته، فإن قص_رت نيَّته عن الأداء قصرا عنه من المعونة بقدر ما قصر من نيَّته»(2).

وأن لا ننوي المطل من البداية، فإنَّ ذلك ظلم للمسلمين، حيث إنَّ رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) يقول: «مطل المسلم الموسر ظلم للمسلمين»(3).

ص: 162


1- منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني (ج 2/ مسألة 1001): (مماطلة الدائن مع القدرة علىٰ الأداء حرام، بل يجب نيَّة القضاء مع عدم القدرة عليه أيضاً بأن يكون من قصده الأداء عند التمكُّن منه).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 95/ باب قضاء الدَّين/ ح 1).
3- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي (ج 6/ ص 226/ ح 541/1).

وهو نوع من أنواع الس_رقة، حيث روىٰ أبو خديجة، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «أيُّما رجل أتىٰ رجلاً فاستقرض منه مالاً وفي نيَّته ألَّا يؤدّيه، فذلك اللصُّ العادي»(1).

وعن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «من استدان دَيناً فلم ينوِ قضاه كان بمنزلة السارق»(2).

وأن لا نتهاون في أدائه، فلعلَّ الموت يسبقنا فنكون في خطر، فقد روي عن بشّار، عن أبي جعفر (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «أوَّل قطرة من دم الشهيد كفّارة لذنوبه إلَّا الدَّين، فإنَّ كفّارته قضاؤه»(3).

الحالة الثانية: الغضُّ ع_ن الأموال القليلة:

ليس من عادة الإنسان أن ينسىٰ المبالغ الكبيرة - كان الحقُّ له أو عليه - وهذه حالة صحّية، ولكن البعض يعيش حالة مرَضية وللأسف، وهي أنَّه يتغاضىٰ عن بعض المبالغ القليلة، كما لو اشترىٰ أحدهم شيئاً وبقي عليه مبلغ قليل، أو إذا أخذ أحدهم من صاحبه مبلغاً حقيراً، حتَّىٰ لو كان يساوي قيمة علبة ثقاب.

إنَّ هذا المبلغ ربَّما لا تكون له قيمة عند الناس، أو له قيمة حقيرة، بحيث لو طالب به صاحبه لَعَابَه بعض الناس، ولكنَّه بالتالي مبلغ مالي، له حساب في السوق المالية، والله تعالىٰ من الدقَّة في العدل بحيث لا يتغاضىٰ عن مثل هذا المبلغ، أو يعفو الذي له الحقّ.

ص: 163


1- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 3/ ص 183/ ح 3689).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 99/ باب الرجل يأخذ الدَّين وهو لا ينوي قضاءه/ ح 2).
3- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 3/ ص 183/ ح 3688).

قال تعالىٰ: «وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفىٰ بِنا حاسِبِينَ 47» (الأنبياء: 47).

وقال تعالىٰ: «إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ 16» (لقمان: 16).

وعن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يقول: «من أكل مال أخيه ظلماً ولم يَرُدّه إليه، أَكَلَ جذوة من النار يوم القيامة»(1).

وعن خالد بن نجيح، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «إذا كان يوم القيامة دُفِعَ إلىٰ الإنسان كتابُه، ثمّ قيل له: اقرأ»، قلت: فيعرف ما فيه؟ فقال: «إنَّ الله يُذكِّره، فما من لحظة ولا كلمة ولا نقل قدم ولا شيء فعله إلَّا ذَكَره، كأنَّه فعله تلك الساعة، فلذلك قالوا: «يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها» [الكهف: 49]»(2).

فعلينا أن لا نغفل عن هذه الحالة، فإمَّا أن نؤدّي الحقَّ إلىٰ أصحابه، أو نطلب براءة الذمَّة منهم، وحبَّذا لو كان ديدن المؤمن أن يطلب براءة الذمَّة من كلِّ من يعرفه، فلعلَّ هناك شيئاً قليلاً كان بذمَّته وهو ناسٍ له، فببراءة الذمَّة يسقط ذلك الحقَّ، وينجو المؤمن من الحساب.

ملاحظتان:

الملاحظة الأُولىٰ:

يدخل في هذه النقطة مسألة (اللُّقَطة)، وهي مسألة يبتلي بها الكثير

ص: 164


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 333/ باب الظلم/ ح 15).
2- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 7/ ص 315).

من الناس، خصوصاً مثل سائقي سيّارات الأُجرة أو من يعمل في السوق وغيرهم، فلا بدَّ من ملاحظة أحكامها وعدم إهمالها، والحال أنَّنا نجد الكثير من الناس يأخذون اللُّقَطة من دون أن يسألوا عن حكمها، أو أنَّهم يسألون عن حكمها بعد أن يتصرَّفوا بها تصرُّفاً غير شرعي.

وخلاصة أحكام اللُّقَطة(1)، هي:

أوَّلاً: إذا لم تكن اللُّقَطة ذات علامة مميَّزة يمكن تعريفها والوصول إلىٰ مالكها من خلالها، جاز تملُّكها وإن زادت قيمتها علىٰ الدرهم الفضّي(2)، وإن كان الأحوط استحباباً التصدُّق بها عن صاحبها.

ثانياً: وإذا كان لها علامة كذلك، وكانت قيمتها أقلّ من الدرهم، لم يجب تعريفها والفحص عن مالكها، والأحوط وجوباً التصدُّق بها عن مالكها.

ثالثاً: وإذا كان لها علامة كذلك، وكانت قيمتها أكثر من الدرهم وجب التعريف بها لمدَّة سنة كاملة، فإن ظفر بمالكها فبها، وإلَّا تخيَّر بين حفظها عنده - كأمانة - وبين أن يتصدَّق بها عن مالكها، والأحوط وجوباً عدم تملُّكها.

رابعاً: يسقط وجوب التعريف إذا خاف الشخص علىٰ نفسه من التهمة، وإذا اطمأنَّ بعدم الفائدة من تعريفها، كما لو أحرز أنَّ صاحبها سافر إلىٰ مكان بعيد غير معروف.

وهناك أحكام أُخرىٰ أكثر تفصيلاً تُراجَع في مظانِّها.

ص: 165


1- منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني (ج 2/ كتاب اللُّقَطة/ أحكام اللُّقَطة/ المسألة 767 و768 و769 و772 و774).
2- المراد من الدرهم ما يساوي (12.6) حمُّصة من الفضَّة المسكوكة، ويمكن سؤال أهل الاختصاص من الصاغة لمعرفة القيمة، فإنَّها تختلف من مكان إلىٰ آخر ومن زمان إلىٰ آخر.

الملاحظة الثانية:

إنَّ الاستقصاء في ملاحظة الأموال حتَّىٰ القليلة إنَّما هو في ما إذا كان الحقُّ لغيرك، فإذا كان المال القليل لغيرك فعليك أن تستقص_ي في قضائه وردِّه إلىٰ أصحابه، أمَّا إذا كان الحقُّ لك، فالروايات الش_ريفة قد أمرت تأدُّباً بأن يغضَّ المرء عنها، وأن يكون سهلاً متسامحاً في استقصاء حقِّه مهما كان، وهو ما يشبه الأمر بانتظار المعس_ر حتَّىٰ يُغنيه الله تعالىٰ من فضله.

إذن، عليك بالاستقصاء في أداء الحقوق لغيرك، أمَّا أنت، فعليك أن تكون متسامحاً في استقصاء حقِّك، فهكذا هو المؤمن.

قال تعالىٰ في صفات المؤمنين: ]وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ 21[ (الرعد: 21).

عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال لبعض شيعته: «ما بال أخيك يشكوك؟»، فقال: يشكوني أن استقصيتُ عليه حقّي؟! فجلس (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) مغضباً ثمّ قال: «كأنَّك إذا استقصيت عليه حقَّك لم تسئ! أرأيتك ما حكىٰ الله عن قوم يخافون سوء الحساب، أخافوا أن يجور الله عليهم؟! لا، ولكنْ خافوا الاستقصاء، فسمّاه الله سوء الحساب، فمن استقص_ىٰ فقد أساء»(1)­.

الحالة الثالثة: التقصير في أداء الحقوق المالية اللازمة:

من السُّنَن التي جعلها الله تعالىٰ في هذا الكون هو أنَّه لم يجعل الناس علىٰ درجة واحدة في الغنىٰ والفقر، والأسباب في ذلك كثيرة، مثل

ص: 166


1- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 372).

ما قاله (عزوجل): «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ 165» (الأنعام: 165).

وما قاله عزَّ من قائل: «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ 32» (الزخرف: 32).

وما ورد عن أبان بن تغلب، عن أبي جعفر (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «ل_مَّا أُسري ب النبيِّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) قال: يا ربِّ، ما حال المؤمن عندك؟ قال: يا محمّد...، وإنَّ من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلَّا الغنىٰ، ولو صرفته إلىٰ غير ذلك لهلك، وإنَّ من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلَّا الفقر، ولو صرفته إلىٰ غير ذلك لهلك»(1).

وعلىٰ كلِّ حالٍ، هذه سُنَّة الحياة، وهي واقع معاش.

وفي الوقت الذي سنَّ الله تعالىٰ هذه السُّنَّة أوجب في مقابلها حقًّا للفقير علىٰ الغنيِّ، حتَّىٰ يحصل التوازن المطلوب في الحياة، بأن يُخرج قسماً من ماله الذي رزقه الله تعالىٰ ويُعطيه عن طيب نفس للفقير، ليس من باب المنَّة، بل هو حقٌّ له أوجبه الله تعالىٰ له في مال الغنيِّ، وتتلخَّص هذه الحقوق بالخُمُس والزكاة وزكاة الفطرة.

فعن أبي بصير، قال: كنّا عند أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) ومعنا بعض أصحاب الأموال، فذكروا الزكاة، فقال أبو عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «إنَّ الزكاة

ص: 167


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 352/ باب من آذىٰ المسلمين واحتقرهم/ ح 8).

ليس يُحمَد بها صاحبها، وإنَّما هو شيء ظاهر إنَّما حَقَنَ بها دَمَه، وسُمّي بها مسلماً، ولو لم يُؤدِّها لم تُقبَل له صلاة»(1).

إنَّ هذا المقدار من المال أوجبه الله تعالىٰ، لأنَّه تعالىٰ علم أنَّه لا يُؤثِّر علىٰ الغنيِّ، فلا يسلبه غناه، ولو أخرج كلُّ غنيٍّ ما عليه لما بقي فقير، فعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «إنَّ الله فرض للفقراء في مال الأغنياء ما يسعهم، ولو علم أنَّ ذلك لا يسعهم لزادهم»(2).

وبالتالي فعندما نجد فقيراً جائعاً أو معوزاً، نعلم آنذاك أنَّه إنَّما جاع لأجل أنَّ غنيًّا ما قد حبس عنه حقَّه ولم يُخرجه له، وبالتالي سيُسئل ذلك الغنيُّ في يوم لا يجوز عبدٌ الصراطَ فيه بمظلمة.

عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «إنَّ الله فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقيرٌ إلَّا بما منع غنيٌّ، والله تعالىٰ سائلهم عن ذلك»(3).

قيل: مرَّ أحدهم علىٰ رجل يتلوّىٰ من ألمٍ في بطنه بسبب ألم الجوع، ثمّ مرَّ علىٰ آخر يتلوّىٰ من ألم في بطنه بسبب التخمة، فقال: لو أعطىٰ هذا فضل طعامه لذاك لما تألَّم الاثنان.

هذا فضلاً عن أنَّ الروايات حثَّت المؤمن علىٰ أن يُخرج من ماله بعض الصدقات من غير الصدقات الواجبة، من باب أنَّها مصاديق

ص: 168


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 3/ ص 499/ باب فرض الزكاة وما يجب في المال من حقوق/ ح 9).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 3/ ص 496/ باب فرض الزكاة وما يجب في المال من حقوق/ ح 1).
3- روضة الواعظين للفتّال النيسابوري (ص 454)؛ ووسائل الشيعة للحرِّ العاملي (ج 9/ ص 29).

للإحسان الذي أوصىٰ به القرآن الكريم، كإكرام الضيف وصلة الرحم وإعطاء المساكين والقرض والإعارة وغيرها.

فقد ورد عن أبي بصير، قال: كنّا عند أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)ومعنا بعض أصحاب الأموال، فذكروا الزكاة فقال أبو عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ):

«إنَّ الزكاة ليس يُحمَد بها صاحبها، وإنَّما هو شيء ظاهر، إنَّما حَقَنَ بها دَمَه، وسُمّي بها مسلماً، ولو لم يُؤدِّها لم تُقبَل له صلاة، وإنَّ عليكم في أموالكم غير الزكاة».

فقلت: أصلحك الله وما علينا في أموالنا غير الزكاة؟

فقال: «سبحان الله، أمَا تسمع الله (عزوجل) يقول في كتابه: «وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ 24 لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ 25» [المعارج: 24 و25]؟».

قال: قلت: ماذا الحقُّ المعلوم الذي علينا؟

قال: «هو الش_يء يعمله الرجل في ماله يُعطيه في اليوم أو في الجمعة أو في الشهر قلَّ أو كثر، غير أنَّه يدوم عليه. وقوله (عزوجل): ]وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ 7[ [الماعون: 7]»، قال: «هو القرض يُقرضه، والمعروف يصطنعه، ومتاع البيت يُعيره، ومنه الزكاة».

فقلت له: إنَّ لنا جيراناً إذا أعرناهم متاعاً كس_روه وأفسدوه، فعلينا جناح أن نمنعهم؟

فقال: «لا، ليس عليكم جناح أن تمنعوهم إذا كانوا كذلك».

قال: قلت له: ]وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً 8[ [الإنسان: 8]؟

قال: «ليس من الزكاة».

قلت: قوله (عزوجل): ]الَّذِينَ ينفقونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً[ [البقرة: 274]؟

ص: 169

قال: «ليس من الزكاة».

قال: فقلت: قوله (عزوجل): ]إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ[ [البقرة: 271]؟

قال: «ليس من الزكاة، وصلتك قرابتك ليس من الزكاة»(1).

ولكن رغم هذا كلّه نجد سواداً عظيماً من الناس قد ابتعدوا عن هذا الأمر وتهاونوا في أدائه، وبرَّروا لأنفسهم معصية هذا الأمر بأعذار واهية، كقول أحدهم: لماذا أنا أعمل وأتعب وأُعطي ذاك الجالس في بيته من دون تعب.

أو قول آخر: أنا فقير وأنا أستحقُّ أن أُعطىٰ.

أو قول ثالث: إنَّ الله غير محتاج إلىٰ أموالي.

أو قول رابع: لِ_مَ لا يرزقه الله ويُعطيه؟

قيل: إنَّ رجلاً فقيراً جاء لغنيٍّ واستعطاه، فقال له الغنيُّ: الله يُعطيك. فقال الفقير: ذهبت إلىٰ الله وهو الذي أرسلني إليك!

وروي في سبب نزول قوله تعالىٰ: ]وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ 75 فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ 76 فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ 77[ (التوبة: 75 - 77)، أنَّها نزلت في ثعلبة بن حاطب وكان من الأنصار، قال للنبيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ: ادعُ الله أن يرزقني مالاً، فقال: «يا ثعلبة، قليلٌ تؤدّي شكره خير من كثير لا تُطيقه، أمالك في رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أُسوة؟ والذي نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معي ذهباً وفضَّةً لسارت».

ص: 170


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 3/ ص 499/ باب فرض الزكاة وما يجب في المال من حقوق/ ح 9).

ثمّ أتاه بعد ذلك فقال: يا رسول الله، ادعُ الله أن يرزقني مالاً، والذي بعثك بالحقِّ لَئِنْ رزقني الله مالاً لأُعطينَّ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فقال صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ: «اللّهمّ ارزق ثعلبة مالاً».

قال: فاتَّخذ غنماً، فنمت كما ينمي الدود، فضاقت عليه المدينة، فتنحّىٰ عنها، فنزل وادياً من أوديتها، ثمّ كثرت نموًّا حتَّىٰ تباعد من المدينة، فاشتغل بذلك عن الجمعة والجماعة، وبعث رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) المصدِّق ليأخذ الصدقة، فأبىٰ وبخل، وقال: ما هذه إلَّا أُخت الجزية، فقال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة»، فأنزل الله الآيات(1).

الحالة الرابعة: أكل مهور النساء:

إنَّ الله تعالىٰ فرض علىٰ الرجل أن لا يستحلَّ فرج امرأة إلَّا بأن يؤدّي لها مهراً معيَّناً يتَّفقان عليه، فعن أبي الصباح الكناني، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «... لا يصلح نكاح إلَّا بمهر»(2).

وهذا حقٌّ لها من الله تعالىٰ، ولا يجوز لأحد أن يأكله عليها أو أن يأخذه منها إلَّا عن طيب خاطرها ورضاها التامِّ.

ولكن نجد أنَّ بعض الناس يتهاون ويستخفُّ بهذا الأمر، فيغصب مهر المرأة، والحال أنَّ الروايات اعتبرت أنَّ من ينوي أن لا يُمهر المرأة فهو بمنزلة السارق، فكيف بمن يفعل ذلك(3)؟

ص: 171


1- تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي (ج 5/ ص 93 و94)؛ وبحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 22/ ص 40).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 384/ باب المرأة تهب نفسها للرجل/ ح 2 و3).
3- مع الالتفات إلىٰ ما ورد في منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني (ج 3/ مسألة 299): (إذا تزوَّج امرأة علىٰ مهر معيَّن وكان من نيَّته أن لا يدفعه إليها صحَّ العقد ووجب عليه دفع المهر).

عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «من أمهر مهراً ثمّ لا ينوي قضاءه، كان بمنزلة السارق»(1).

ولهذا الغصب صور:

1 - أن يأخذ الأب قسماً من مهرها رغماً عنها، بحجَّة أنَّه يأخذه مقابل أنَّه ربّاها، أو لمجرَّد أنَّه أبوها فله الحقُّ في ذلك(2)!

2 - أنَّ الزوج لا يُعطيها حقَّها كاملاً في المهر، ويتحقَّق هذا الأمر عادةً في ما يُسمّىٰ بالمهر الغائب، وأعتقد أنَّ كثيراً من الأزواج قد غفلوا عن لزوم أداء هذا المهر الغائب، وربَّما هم لا يُعطونه لغفلتهم لا معصيةً

ص: 172


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 383/ باب من يمهر المهر ولا ينوي قضاه/ ح 1).
2- مع الالتفات إلىٰ ما ورد في منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني (ج 3/ مسألة 300): (إذا أشرك أباها مثلاً في المهر بأن جعل مقداراً من المهر لها ومقداراً منه لأبيها، أو جعل مهرها عش_رين مثلاً علىٰ أن تكون عش_رة منها لأبيها، سقط ما سمّاه للأب فلا يستحقُّ شيئاً. ولو لم يش_ركه في المهر ولكن اشترط عليها أن تعطيه شيئاً من مهرها صحَّ، وكذا لو جعل له شيئاً زائداً علىٰ مهرها لش_رطها عليه ذلك، وأمَّا لو كان شرطاً ابتدائياً من الزوج له فلا يصحُّ). وفي (مسألة 301): (ما تعارف في بعض البلاد من أنَّه يأخذ بعض أقارب البنت كأبيها أو أُمِّها أو أُختها من الزوج شيئاً - وهو المسمّىٰ في لسان بعض ب_ (شير بها) - ليس جزءاً من المهر، بل هو شيء آخر يُؤخَذ زائداً علىٰ المهر، وحكمه أنَّه إن كان إعطاؤه وأخذه بعنوان الجُعالة بإزاء عمل مباح - كما إذا أعطىٰ شيئاً للأخ لأن يتوسَّط في البين ويُرضي أُخته ويسعىٰ في رفع بعض الموانع - فلا إشكال في جوازه وحلّيته، بل في استحقاق القريب له وعدم سلطنة الزوج علىٰ استرجاعه بعد إعطائه، وإن لم يكن بعنوان الجُعالة فإن كان إعطاء الزوج للقريب بطيب نفس منه وإن كان لأجل جلب خاطره وإرضائه سواء أكان رضاه في نفسه مقصوداً له أم لتوقُّف رضا البنت علىٰ رضاه جاز أخذه للقريب لكن يجوز للزوج استرجاعه ما دام قائماً بعينه، وأمَّا مع عدم رضا الزوج وكون إعطائه من جهة استخلاص البنت حيث إنَّ القريب مانع من تمشية الأمر مع رضاها بالتزويج بما بذل لها من المهر فيحرم أخذه وأكله، ويجوز للزوج الرجوع فيه باقياً كان أو تالفاً).

منهم. والملاحظ أنَّ هذا الحقَّ لا تُطالِب به المرأة عادةً إلَّا في حال حدوث نوع من النزاع أدّىٰ إلىٰ الطلاق والعياذ بالله.

3 - أن يُطلِّق الرجل المرأة قبل أن يدخل بها، فلا يُعطيها نصف المهر المتَّفق عليه، فإنَّ من طلَّق المرأة قبل الدخول بها وجب عليه إعطاؤها نصف المهر(1).

إنَّ خطأ الصورة الأُولىٰ ممَّا لا يحتاج إلىٰ بيان.

وأمَّا الصورة الثانية، فلأنَّ الغالب في حصولها هو الغفلة، فينبغي التنبيه عليها، وينبغي للزوج أن يُعطي هذا المهر الغائب أو المؤجَّل إلىٰ زوجته، إذا حلَّ أجله وكان ميسوراً.

نعم إذا أسقطته له فهذا شأنها، حيث إنَّ لها أن تُسقِط حقَّها عن طيب نفس.

وهكذا الكلام في الصورة الثالثة، فإنَّه قد يقع نتيجة الغفلة، فينبغي التنبيه عليه، كما أنَّه يجوز للمرأة أن تُسقِط حقَّها.

ولنتذكَّر ما روي عن السكوني، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: قال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «إنَّ الله يغفر كلَّ ذنب يوم القيامة إلَّا مهر امرأة، ومن اغتصب أجيراً أجره، ومن باع حرًّا»(2).

ص: 173


1- جاء في منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني (ج 3/ مسألة 309): (إذا طلَّق قبل الدخول سقط نصف المهر المسمّىٰ وبقي نصفه، فإن كان دَيناً عليه ولم يكن قد دفعه برئت ذمَّته من نصفه، وإن كان عيناً صارت مشتركة بينه وبينها، ولو كان دفعه إليها استعاد نصفه إن كان باقياً، وإن كان تالفاً استعاد نصف مثله إن كان مثلياً ونصف قيمته إن كان قيمياً، وفي حكم التلف نقله إلىٰ الغير بناقل لازم، وأمَّا لو كان انتقاله منها إلىٰ الغير بناقل جائز - كالبيع بخيار - تخيَّرت بين الرجوع ودفع نصف العين، وبين دفع بدل النصف، وإن كان الأحوط استحباباً هو الأوَّل فيما إذا أراد الزوج عين ماله).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 382/ باب نوادر في المهر/ ح 17).

الحالة الخامسة: الاستخفاف بالنفقات الواجبة:

أوجب الله جلَّ وعلا نفقات بعض الناس علىٰ بعض آخر، والكثير يلتزم هذا الأمر من باب الفطرة أو العرف الاجتماعي العامّ أو غيرها، ولكن نجد بعض الناس - وإن كانوا بحمد الله تعالىٰ أقلّ من الملح في الطعام - يبخلون علىٰ زوجاتهم أو آبائهم أو أولادهم في نفقاتهم الواجبة.

وحتَّىٰ نكون علىٰ بصيرة من أمرنا، وحتَّىٰ لا نقع فريسة الاستخفاف والتهاون بهذا الأمر، علينا أن نعرف التالي:

قال تعالىٰ: «وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ 10» (المنافقون: 10).

النفقات منها مستحبَّة ومنها واجبة، فالمستحبة غير محدَّدة بشخص أو بمقدار، وإن كان الأقربون أولىٰ بها.

وأمَّا الواجبة فخلاصتها - وفق رأي السيِّد السيستاني (دام ظلُّه)(1) -، فهي:

أوَّلاً: الزوجة:

أ - وجوب النفقة عليها مشروط ب__:

1 - أن تكون الزوجة دائمة.

2 - لا نفقة للناشز، وهي التي تمتنع من فراش الزوجية، لا لعذر شرعي.

3 - لا نفقة للصغيرة غير المدخول بها غير القابلة للاستمتاع بها من قِبَل

ص: 174


1- راجع تفاصيل هذه الأحكام في منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني (ج 3/ الفصل الرابع عشر في النفقات).

زوجها، خصوصاً إذا كان الزوج صغيراً أيضاً، ولا للزوجة في فترة الخطوبة - وإن عقد عليها شرعاً - إذا كان المتعارف هو عدم النفقة.

ب - المطلَّقة، إذا كانت رجعية فتجب نفقتها فترة العدَّة، وإن كانت بائنة فإن كانت حاملاً وجبت نفقتها إلىٰ أن تضع حملها، وإلَّا لم تجب.

ج - ومعنىٰ النفقة هنا هو ما يقيم ظهر الزوجة، ويشمل:

1 - المسكن، والمرأة لا تملك مسكن زوجها.

2 - اللباس، وهي تملكه، فلها أن تتصرَّف به كيفما شاءت.

3 - المأكل، وهنا تملك مقدار حاجتها لكلِّ يوم بيومه لا أكثر.

4 - تستحقُّ عليه نفقات التنظيف - كالحمّام إذا احتاجت إليه -، والأدوية الضرورية، ومصاريف الولادة.

5 - أثاث البيت، ولكنَّها لا تملكه.

د - لا يجوز للزوجة أن تطالب بنفقة أُسبوع أو شهر مستقبلاً، ولكن يجوز لها أن تُسقِط نفقتها الحاضرة والمستقبلية فضلاً عن الماضية.

ه_ - تقدير النفقة عرفي، أي كلُّ شخص بحسبه.

و - النفقة واجبة حتَّىٰ إذا كانت الزوجة غنيَّة.

ثانياً: القرابة، أي الآباء والأبناء

(1):

ص: 175


1- في منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني (ج 3/ مسألة 440): (يثبت للأبوين حقُّ الإنفاق علىٰ ابنهما، كما يثبت للولد - ذَكَراً كان أو أُنثىٰ - حقُّ الإنفاق علىٰ أبيه، والمشهور بين الفقهاء (رضوان الله تعالىٰ عليهم) ثبوت حقِّ الإنفاق للأبوين علىٰ بنتهما كما يثبت علىٰ ابنهما، وأنَّه مع فقد الولد أو إعساره يثبت حقُّ الإنفاق لهما علىٰ أولاد أولادها، أي أبناء الأبناء والبنات وبناتهم الأقرب فالأقرب. وأيضاً المشهور بين الفقهاء (رضوان الله تعالىٰ عليهم) ثبوت حقِّ الإنفاق للولد مع فقد الأب أو إعساره علىٰ جدِّه لأبيه وإن علا الأقرب فالأقرب، ومع فقده أو إعساره فعلىٰ أُمِّه، ومع فقدها أو إعسارها فعلىٰ أبيها وأُمِّها وأبي أبيها وأُمِّ أبيها وأبي أُمِّها وأُمِّ أُمِّها وهكذا الأقرب فالأقرب. Z [ وفي حكم آباء الأُمِّ وأُمَّهاتها أُمُّ الأب وكلُّ من تقرَّب إلىٰ الأب بالأُمِّ كأبي أُمِّ الأب وأُمِّ أُمِّ الأب وأُمِّ أبي الأب وهكذا، فتجب عليهم نفقة الولد مع فقد آبائه وأُمِّه مع مراعاة الأقرب فالأقرب إليه، وأنَّه إذا اجتمع من في الأُصول ومن في الفروع يثبت حقُّ الإنفاق علىٰ الأقرب فالأقرب. وما ذكروه لا يخلو عن إشكال وإن كان أحوط لزوماً. ولا يثبت حقُّ الإنفاق لغير العمودين من الإخوة والأخوات والأعمام والعمّات والأخوال والخالات وغيرهم.

أ - وهذه مش_روطة بغنىٰ الأب وفقر الولد، (سواء كان الولد ذَكَراً أو أُنثىٰ)، أي أن يكون الأب مثلاً قادراً علىٰ الإنفاق علىٰ أولاده -وإن لم يكن غنيًّا -، وهكذا يجب علىٰ الابن (الذَّكَر) أن ينفق علىٰ أبويه.

فلو كان الأب غنيًّا، فلا تجب علىٰ الولد نفقته، وهكذا العكس.

والمقصود من النفقة الواجبة هنا هو ما يحتاج إليه من الأُمور الضرورية من طعام وإدام وكسوة وفراش وغطاء ومسكن ونحو ذلك.

ب - النفقة علىٰ القريب مش_روطة بالقدرة علىٰ النفقة علىٰ النفس والزوجة الدائمة، فإن زاد وجبت نفقة الأقارب.

ج - لا تجب النفقة علىٰ الإخوة، ولا علىٰ زوجة الأب، ولا علىٰ زوجة الابن، ولا علىٰ الخال، ولا الخالة، ولا العمِّ، ولا العمَّة. نعم، يجب أن ينفق الأب علىٰ أولاد الأولاد عند فقد أبيهم علىٰ الأحوط وجوباً، ومع فقد الجد، فتجب نفقتهم علىٰ جدَّتهم علىٰ الأحوط وجوباً.

ثالثاً: المملوك:

فيجب الإنفاق علىٰ الحيوان المملوك أو بيعه أو هبته أو ذبحه، فلا يجوز حبس الحيوان - مملوكاً أو لا - حتَّىٰ يموت.

رابعاً: الاضطرار:

إذا اضطرَّ شخص إلىٰ طعام غيره لإنقاذ نفسه من الهلاك أو ما يدانيه، وكان المالك حاضراً، ولم يكن مضطرًّا إليه، وجب عليه بذله له.

ص: 176

نعم، له الحقُّ بالمطالبة بالعوض فيما إذا كان المضطرُّ عاجزاً الآن.

ولو كان كلٌّ من الطرفين مضطرًّا لم يجب علىٰ المالك الإيثار، ولكنَّه يجوز له ذلك في بعض الموارد.

وإذا توقَّفت صيانة الدِّين وأحكامه ونواميس المسلمين علىٰ بذل شخص، وجب عليه ذلك، ولا يجوز له المطالبة بعوض. وإذا توقَّف الدِّين علىٰ بذل النفس وجب.

فذلكة تفصيلية للنفقات المتبادلة:

وخلاصة هذه الأحكام - وفق فتاوىٰ السيِّد السيستاني (دام ظلُّه) -، هي:

1 - يجب علىٰ الولد الذَّكَر أن ينفق علىٰ أبويه، إذا كان يتمكَّن من ذلك وهما فقيران للأُمور الض_رورية كما تقدَّم، وكذا علىٰ البنت علىٰ الأحوط وجوباً...، ويجب علىٰ الأب أن ينفق علىٰ أولاده - ذكوراً وإناثاً -، بل وأولاد أولاده، بنفس الشرط المشار إليه.

2 - معنىٰ الفقر هنا - في باب النفقات - هو عدم الوجدان الفعلي لما يحتاج إليه في معيشته فعلاً، كالطعام والإدام والكسوة والفراش، بحسب حاله زماناً ومكاناً.

3 - إنَّما يجب الإنفاق علىٰ الأبوين أو الأولاد بعد أن يكون قادراً علىٰ توفير النفقة لنفسه أوَّلاً ولزوجته الدائمة ثانياً، فإذا كان قادراً علىٰ ذلك فهو غنيٌّ شرعاً - هنا في هذا الموضوع أي النفقات - وإن كان لا يملك قوت سنته.

ص: 177

4 - ليس من الواجب تزويج الولد أو الوالد، وإن كان هو الأحوط استحباباً، خصوصاً تزويج الوالد (الأب) مع حاجته إلىٰ الزواج وعدم قدرته علىٰ نفقاته(1).

5 - وليس من الواجب دفع ديونه أو كفّاراته أو فديته أو أرش جنايته.

6 - ولا تجب النفقة علىٰ الإخوة والأخوات، ولا الأعمام والعمّات، ولا الأخوال والخالات، ولا تجب علىٰ الأب أن ينفق علىٰ زوجة ولده، كما لا يجب علىٰ الولد أن ينفق علىٰ غير أُمِّه من زوجات أبيه.

7 - من وجبت عليه نفقة غيره وجب عليه الاكتساب اللائق بشأنه لتوفير النفقات الواجبة عليه، فإن لم يجد العمل اللائق أمكنه الأخذ من الحقوق الش_رعية، ويمكنه أيضاً أن يستدين مبلغ النفقة إذا كان قادراً علىٰ وفائه، فإن لم يتمكَّن من الأخذ من الحقوق الش_رعية ولم يمكنه وفاء الدَّين، فهو فقير شرعي، فلا تجب عليه نفقة غير نفسه وزوجته.

8 - يمكن للولد أن يُسقِط نفقة نفسه عن أبيه للزمن الحاضر دون نفقة المستقبل، وهكذا الأب يمكنه إسقاط نفقته عن ولده للزمن الحاضر دون المستقبل.

ولو عص_ىٰ الولد ولم ينفق علىٰ أبويه حتَّىٰ فات وقت النفقة، فلا

ص: 178


1- ورد الحثُّ الأكيد علىٰ مسألة تزويج الولد مع القدرة عليه، بل اعتُبِرَ عدمه من الذنوب، ولكنَّه محمول علىٰ غير الوجوب، فقد ورد: «من بلغ ولده النكاح وعنده ما ينكحه فلم ينكحه ثمّ أحدث حَدَثاً فالإثم عليه». (كنز العُمّال للمتَّقي الهندي: ج 16/ ص 442/ ح 45337).

يجب عليه تدارك تلك النفقة. نعم، هو عاصٍ لأنَّه لم ينفق عليهما في زمن وجوبها، فينبغي له أن يتحلَّل منهما. وهكذا لو عص_ىٰ الوالد ولم ينفق علىٰ ولده حتَّىٰ فات زمان النفقة(1).

9 - وهنا تفصيل مفيد:

الشخص إمَّا أن يملك قوته الفعلي، أو لا.

فإن كان يملك قوته الفعلي، فلا يجب علىٰ أبيه أو ولده أن ينفق عليه.

وإن كان لا يملك قوته الفعلي، فهنا:

أوَّلاً: إذا كان يمكنه أن يحصل علىٰ قوته الفعلي بالاستعطاء والسؤال:

أ - إذا استعطىٰ، فلا يجب علىٰ أبيه أو ولده(2) أن ينفقا عليه(3).

ب - وإذا لم يستعْطِ، فيجب علىٰ أبيه أو ولده أن ينفق عليه.

ثانياً: إذا كان يمكنه تحصيل نفقته بالأخذ من الحقوق الشرعية:

ص: 179


1- وهذا بخلاف نفقة الزوجة، فإنَّه يجوز لها أن تُسقِطها سواء كانت للحاضر أو المستقبل، وإذا عص_ىٰ الزوج ولم ينفق عليها في زمن ماض، وجب عليه قضاؤها، أي إنَّ نفقتها تبقىٰ ديناً في ذمَّته.
2- بنفس الشرط السابق، أي إذا كان الأب أو الولد غنيًّا.
3- المال الذي يأخذه المستعطي حلال عليه حتَّىٰ إذا كان غنيًّا، لأنَّك عندما تُعطي المستعطي فقد ملَّكته المال، فيجوز له أن يتص_رَّف به. نعم، لو قال لك بأنَّه فقير ولم يكن كذلك، فقد ارتكب محرَّماً بالكذب، ولكن مع ذلك يجوز له التص_رُّف بالمال، لأنَّه أخذه وأنت راضٍ. ولا ينبغي أن يُفهَم أنَّ هذا تشجيع للاستعطاء، كلَّا، لأنَّ من أكثر ما يُبعِد الإنسان عن حقيقة ولاية أهل البيت (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) هو الاستعطاء من غير حاجة، فقد ورد عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «ما كان في شيعتنا فلا يكون فيهم ثلاثة أشياء: لا يكون فيهم من يسأل بكفِّه، ولا يكون فيهم بخيل، ولا يكون فيهم من يُؤتىٰ في دُبُره». (الخصال للشيخ الصدوق: ص 131).

أ - إن أخذ منها، فلا تجب نفقته علىٰ أحد.

ب - وإن لم يأخذ، وجبت نفقته علىٰ أبيه أو ولده الغنيِّ.

ثالثاً: إذا كان يمكنه تحصيل قوته بالاقتراض:

أ - إن كان في الاقتراض حرج ومشقَّة عليه، أو احتمل احتمالاً معتدًّا به بأنَّه لا يمكنه وفاؤه، حينئذٍ يجب علىٰ أبيه أو ولده أن ينفقا عليه.

ب - إذا لم يكن في الاقتراض حرج عليه، وأمكنه وفاؤه، فلا تجب نفقته علىٰ أحد، بل يُعتَبر غنيًّا، فيجب عليه أن يقترض وينفق علىٰ نفسه.

رابعاً: إذا كان يمكنه تحصيل نفقته بالاكتساب:

أ - إذا لم يكن متعلِّماً فعلاً لصنعة أو حرفة، وإنَّما كان بإمكانه أن يتعلَّمها، ولكن لم يتعلَّمها فعلاً، فتجب نفقته علىٰ أبيه أو ولده.

ب - إذا كان يمكنه الاكتساب، لكن بما يشقُّ ويصعب عليه، فتجب نفقته عليهما كذلك.

ج - إذا كان يمكنه الاكتساب، لكنَّه لا يناسب شأنه، فإن عمل بذلك واكتسب فلا تجب نفقته عليهما، وإن لم يكتسب وجبت نفقته عليهما.

د - إذا كان يمكنه الاكتساب بما يناسب شأنه وبما لا يشقُّ عليه، أو كان كسوباً وترك الاكتساب:

- إذا كان ترك الاكتساب لطلب الراحة، فلا تجب نفقته علىٰ أحد.

- وإذا كان ذلك لا لأجل طلب الراحة، وإنَّما تركه لأمر مهمٍّ - سواء كان الأمر المهمُّ دنيوياً أو أُخروياً كطلب العلم الواجب - وجبت نفقته علىٰ أبيه أو ولده.

- ولكن مع ذلك، إذا فاته زمان الاكتساب ولو باختياره فاحتاج إلىٰ نفقة يوم أو يومين، وجبت تلك النفقة علىٰ أبيه أو ولده.

ص: 180

الحالة السادسة: التهاون بأداء الغرامات الشرعية:

كثيراً ما تحدث بعض النزاعات والمناوشات التي يترتَّب عليها غرامة شرعية، ولكن سواد الناس غافلون عن هذه الحقيقة، فقد تضرب صديقك، وقد تضرب زوجتك، وقد تضرب ولدك، وقد تض_رب تلميذك، وقد تض_رب غيرهم، وفي حالات عديدة يصل حدُّ الض_رب إلىٰ استحقاق المض_روب دية شرعية - مقدَّرة ومنصوص عليها في الكُتُب المخصَّصة لذلك -.

وقد تحدث مشكلة بين شخصين فيضرب أحدهما الآخر، وقد يكس_ر أحدهم سلعة غيره، وقد يكسر ولدك زجاج بيت جارك أو سيّارته، وقد وقد...

وكلُّ هذه الحالات يترتَّب عليها أداء غرامة شرعية أو حقٍّ مالي لصاحب الحقِّ.

ولكن الغفلة أو العمد قد يحولان دون أداء الحقِّ الشرعي في ذلك.

إنَّ اللازم علينا أحد أمرين:

أ - أن نؤدّي الحقَّ الشرعي كما هو مقرَّر في محلِّه.

ب - أو أن نستحصل رضا صاحب الحقِّ (بأن يُبرأك الذمَّة عن حقِّه ويُسقِطه عنك)، وهذا إنَّما يصحُّ لو كان صاحب الحقِّ بالغاً رشيداً، وإلَّا لو كان غير بالغ فيجب أداء الحقِّ لوليِّه ليص_رفه في صالح الطفل - كما سيأتي بيان ذلك في المفردة التالية إن شاء الله تعالىٰ -.

ملاحظة: إذا أتلف صبيٌّ مال غيره ضمنه ولو بعد بلوغه:

قال السيِّد الخوئي 1: (إتلاف الصبيِّ مال غيره سبب للضمان

ص: 181

جزماً، ولكنَّه لا يستتبع الحكم الإلزامي إلَّا بعد بلوغه، وإذا بلغ توجَّه عليه التكليف ووجب عليه الخروج عن عهدته، لأنَّه وقتئذٍ يصدق عليه أنَّه أتلف مال غيره، كما يتوجَّه عليه عندئذٍ وجوب الاغتسال مع تحقُّق الجنابة منه قبل البلوغ)(1).

وقال 1: (حُكمُنا بضمان الصبيِّ للعلم بأنَّ مال المسلم لا يذهب هدراً، ولإطلاق ما دلَّ علىٰ أنَّ من أتلف مال غيره فهو له ضامن)(2).

الحالة السابعة: التهاون بحقِّ ورثة الميِّت في ديته:

لا أحد يستطيع إنكار دور العشائر وشيوخها في حلِّ النزاعات بين أفراد المجتمع، خصوصاً في المناطق التي يكون للعشيرة فيها كلمة

ص: 182


1- مصباح الفقاهة للسيِّد الخوئي (ج 2/ ص 537 و538).
2- كتاب الطهارة للسيِّد الخوئي (ج 8/ شرح ص 380). وقد جاء في موقع استفتاءات سماحة السيِّد السيستاني بعض الأسئلة النافعة في المقام، نذكر منها التالي: (السؤال: ما حكم من سرقه شيئاً وهو صغير السنِّ؟ الجواب: يضمن ما سرقه إلىٰ أن يثق برضا صاحبه بتصرُّفه. السؤال: امرأة سرقت في طفولتها عندما كان عمرها (٦) أو (٨) سنوات، وعندما كبرت تابت وندمت، ولكنَّها لا تستطيع إرجاع الحاجة إلىٰ أصحابها، فإذا أرادت التصدُّق بقيمتها هل تُخرج قيمتها السابقة أم الحالية؟ الجواب: إذا كانت مثليَّة فعليها مثلها، وإن كانت قيميَّة فعليها قيمتها في يوم التلف، ولكن لا يجدي التصدُّق مع إمكان إيصال الحاجة أو بدلها إلىٰ أصحابها بأيِّ صورة ممكنة. السؤال: ما حكم من سرق وهو صغير في العمر؟ الجواب: إذا كان واثقاً برضا المس_روق منه الآن فلا شيء عليه، وإلَّا فهو ضامن بردِّه أو بدله عليه ولو بإلقائه في بيته).

مسموعة، وهكذا دور الوجهاء والشخصيات في أيِّ مجتمع، وهم مشكورون علىٰ جهودهم في ذلك.

ولكن مع الأسف في بعض الأحيان يحدث أن يحابي شيخ العشيرة أو الوجيه في حقِّ غيره، ويُسقِط ما ليس له، ويهب ما لا يملك، وهم بذلك يُفسِدون أكثر ممَّا يُصلِحون.

والحال أنَّ اللازم في ذلك هو:

أ - إذا كان صاحب الحقِّ بالغاً رشيداً، فلا بدَّ من الاتِّفاق بين الوجيه وبينه في كيفية التعامل في حقِّه بإسقاط أو هبة أو غيرها حسب الاتِّفاق.

ب - إذا كان صاحب الحقِّ غير بالغ - كما لو قُتِلَ الأب فاستحقَّ أولاده الدية علىٰ القاتل -، فلا بدَّ أن يكون حقُّهم الش_رعي وحصَّتهم من الدية في معزل عن المحاباة والمحسوبيات، بل يكون حقُّهم الش_رعي خارج إطار النقاش.

* * *

ص: 183

ص: 184

المفردة التاسعة:

اشارة

الاستخفاف والتهاون

بأحكام الأولاد

· الخطر: الإغماض عن حقوق الأولاد.

· الأثر: ربَّما العقوق، وربَّما الحياة غير المستقرَّة، وربَّما النار.

· التوصية: أعينوا أولادكم علىٰ برِّكم.

ص: 185

ص: 186

كثيراً ما يغفل الناس عن أحكام الأطفال وما لهم وما عليهم وكيفية التص_رُّف بأموالهم وغيرها من الأحكام، وهي أحكام كثيرة، بعضها فقهية نتركها لمحلِّها في أبواب الفقه المتفرِّقة، وبعضها أخلاقية وسنحاول تسليط الضوء عليها هنا.

الحقوق الأخلاقية للأولاد:

وهي كثيرة أيضاً، نذكر بعضاً مهمًّا منها:

أ - اختيار الأُمِّ المناسبة لأطفال المستقبل

(1):

كيف تكون الأُمُّ يكون الولد، فهي المربّية الحقيقية للولد، لأنَّ الأب يقض_ي أغلب نهاره خارج البيت في ترتيب أُمور المعيشة، ومواصلة العلاقات الاجتماعية، والجلوس مع الأصدقاء، وقد يقض_ي أيّاماً عديدة وهو لا يرىٰ أولاده.

أمَّا الأُمُّ، فهي المدرسة الأُولىٰ للأطفال، وجليستهم، ومربّيتهم، فكيف تكون سيكون أولادك. لذلك لزم علىٰ الأب في أوَّل حقٍّ من حقوق أولاده أن يختار لهم الأُمَّ العفيفة العاقلة المؤدَّبة.

وهو ما نصَّت عليه الروايات الش_ريفة، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «اختاروا لنطفكم، فإنَّ الخال أحد الضجيعين»(2).

ص: 187


1- راجع: قطاف شهر رمضان للمؤلِّف (ص 15).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 332/ باب اختيار الزوجة/ ح 2).

وقال: «قام رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) خطيباً، فقال: أيُّها الناس، إيّاكم وخض_راء الدمن، قيل: يا رسول الله، وما خض_راء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء»(1).

وعن سعد بن عمر الجلّاب، قال: قال لي أبو عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «إنَّ الله تعالىٰ خلق الجنَّة طاهرة مطهَّرة، فلا يدخلها إلَّا من طابت ولادته»، وقال أبو عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «طوبىٰ لمن كانت أُمُّه عفيفة»(2).

فعلىٰ كلِّ شابٍّ أن يكون واعياً لهذه الحقيقة، وليضع في فكره أنَّ اختياره لفتاة لا بدَّ أن يكون وفق حسابات دقيقة من حيث الدِّين والأخلاق والأدب والمستوىٰ الثقافي المتناسب مع مستواه الثقافي والفكري، حتَّىٰ يتمكَّن من التواصل معها، وبالتالي يتمكَّن معها من بناء أُسرة نموذجية وأولاد يشقُّون أمواج الحياة بثبات.

وعلىٰ المرأة أن لا تنسىٰ، أنَّ عليها أيضاً أن تختار الرجل المناسب ليكون أباً لها ولأولادها!

ب - العمل علىٰ أن تكون مرضعة ولدك وحاضنته هي أُمَّه:

فإنَّ اللبن يُمثِّل الغذاء الروحي والمادّي لولدك، وهو - كما نصَّت الروايات - يُعدي، بمعنىٰ أنَّه ينقل الأخلاق والعواطف والرغبات من المرضعة إلىٰ المرتضع، وربَّما نقل حتَّىٰ الصفات الجسدية، فقد ينقل مرضاً ما إليه. لذا، عليك أن تختار الأُمَّ لرضاعة ولدك.

فعن الحسين بن علوان، عن جعفر، عن أبيه أنَّ عليًّا (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) كان

ص: 188


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 332/ باب اختيار الزوجة/ ح 4).
2- علل الشرائع للشيخ الصدوق (ج 2/ ص 564/ باب 363/ ح 1).

يقول: «تخيَّروا للرضاع كما تتخيَّرون للنكاح، فإنَّ الرضاع يُغيِّر الطباع»(1).

وعن طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «ما من لبن يرضع به الصبيُّ أعظم بركةً عليه من لبن أُمِّه»(2).

طبعاً، في العديد من مجتمعاتنا الإسلاميَّة يُطبَّق هذا الخُلُق من باب العادة وربَّما العاطفة الجيّاشة، وهو أمر جيِّد، ولكن في العديد من بلداننا الإسلاميَّة أيضاً أخذ هذا الخُلُق يندثر بحجج أُستورِدت من الغرب، فلكي تحافظ المرأة علىٰ رشاقة جسمها وجعله كغصن البان، أخذت تُعطي ولدها للمربّية الهندية - وربَّما الهندوسية -.

والكثير من الأُمَّهات تُفضِّل إرضاع ولدها الحليب الصناعي للسبب السابق.

وربَّما اعتذرت بعض النسوة بأنَّ حضانتها لولدها ستُشغِلها عن عملها، وأنَّها تحتاج إلىٰ وقت لا تملكه.

وهذا من التقصير في حقِّ الولد، وفي الوقت ذاته تضييع للثواب العظيم الذي وعد الدِّين المرأةَ به جزاءً لها علىٰ إرضاعها ولدها.

عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّ رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) قال: «أيُّما امرأة رفعت من بيت زوجها شيئاً من موضع إلىٰ موضع تريد به صلاحاً نظر الله (عزوجل) إليها، ومن نظر الله إليه لم يُعذِّبْه».

فقالت أُمُّ سَلَمة رضي الله عنها: ذهب الرجال بكلِّ خير، فأيُّ شيء للنساء

ص: 189


1- قرب الإسناد للحميري القمّي (ص 93/ ح 312)؛ ووسائل الشيعة للحرِّ العاملي (ج 21/ ص 468).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 40/ باب الرضاع/ ح 1).

المساكين؟ فقال صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ: «بلىٰ، إذا حملت المرأة كانت بمنزلة الصائم القائم المجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، فإذا وضعت كان لها من الأجر ما لا تدري ما هو لعظمه، فإذا أرضعت كان لها بكلِّ مصَّة كعِدْلِ عتق محرَّر من ولد إسماعيل، فإذا فرغت من رضاعه ضرب مَلَك علىٰ جنبها وقال: استأنفي العمل فقد غُفِرَ لكِ»(1).

ج - اختيار الاسم الجميل لولدك:

فسيحمل ولدك هذا الاسم معه طوال عمره، وسيُعرَف به، وسيكون أحبَّ الأسماء إليه، وربَّما أبغضها، وستُكنّىٰ أنت به، ويحمله أحفادك من بعدك، فانظر كيف ستختار اسم ولدك.

ومن المفروض تربوياً أن تُسمّي ولدك قبل أن يُولَد، فهو من حقوقه أيضاً.

وقد كان الناس سابقاً يُسمّون أولادهم بأسماء غريبة، بل في بعض الأحيان يُسمّون أولادهم بأسماء حيوانات مصغَّرة، أو بأسماء بعض أدوات الحراثة أو المنزل، أو بأدوات القتل وما شابه، بل بعضها غير مفهومة المعنىٰ اليوم، وقد تضحكون كثيراً لو سمعتموه!

وأمَّا اليوم، فنجد عند الكثير من الشباب حديثي الزواج توجُّهاً نحو التسمية بأسماء غربية، أو غريبة، أو بأسماء غير مفهومة المعنىٰ، أو بأسماء بعض الممثِّلين أو الممثِّلات، بل رأيتُ البعض قد أسمىٰ أولاده بأسماء قادة غربيين لم يعرفهم الناس والتاريخ إلَّا بقتل البش_ر من دون رحمة!

طبعاً لم نُعدَم - أمسِ ولا اليومَ - من يُسمّون أولادهم بالأسماء

ص: 190


1- أمالي الشيخ الصدوق (ص 496 و497/ ح 687/7).

الحسنة والمستملحة، ولكن بالتالي هناك استخفاف في التسمية عند البعض، لذا اقتضىٰ التنويه.

وقد أشبعت أدبيات روايات أهل البيت (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) هذا الجانب تماماً، وأعطته أهمّية قصوىٰ في مجال حقوق الأولاد.

روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «سمُّوا أولادكم قبل أن يُولَدوا، فإن لم تدروا أذكر أم أُنثىٰ فسمّوهم بالأسماء التي تكون للذَّكَر والأُنثىٰ، فإنَّ أسقاطكم إذا لَقَوكم في القيامة ولم تُسمّوهم يقول السقط لأبيه: ألَا سمَّيتني؟!»، وقد سمّىٰ رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) محسناً قبل أن يُولَد(1).

وعن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: قال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «استحسنوا أسماءكم، فإنَّكم تُدعَون بها يوم القيامة، قم يا فلان بن فلان إلىٰ نورك، وقم يا فلان بن فلان لا نور لك»(2).

وعن جابر: أراد أبو جعفر (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) الركوب إلىٰ بعض شيعته ليعوده، فقال: «يا جابر ألحقني»، فتبعته، فلمَّا انتهىٰ إلىٰ باب الدار خرج علينا ابنٌ له صغير، فقال له أبو جعفر (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «ما اسمك؟»، قال: محمّد، قال: «بِمَ تُكنّىٰ؟»، قال: بعليٍّ، فقال أبو جعفر (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «لقد احتظرت من الشيطان احتضاراً شديداً، إنَّ الشيطان إذا سمع منادياً ينادي: يا محمّد أو يا عليُّ ذاب كما يذوب الرصاص، حتَّىٰ إذا سمع منادياً ينادي باسم عدوٍّ من أعدائنا اهتزَّ واختال»(3).

وعن يعقوب الس_رّاج، قال: دخلت علىٰ أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) وهو

ص: 191


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 18/ باب الأسماء والكنىٰ/ ح 2).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 18/ باب الأسماء والكنىٰ/ ح 10).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 20/ باب الأسماء والكنىٰ/ ح 12).

واقف علىٰ رأس أبي الحسن موسىٰ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) وهو في المهد يسارّه طويلاً، فجلست حتَّىٰ فرغ، فقمت إليه، فقال: «ادن من مولاك فسلِّمْ»، فدنوت منه، فسلَّمت، فردَّ عليَّ بكلام فصيح، ثمّ قال لي: «اذهب فغيِّر اسم ابنتك التي سمَّيتَها أمس، فإنَّه اسم يبغضه الله»، وكانت وُلِدَت لي ابنة فسمَّيتُها بالحميراء، فقال أبو عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «انته إلىٰ أمره ترشد»، فغيَّرتُ اسمها(1).

د - تعليم الولد:

فمن مسؤوليتك أن تُعلِّمه القراءة والكتابة والقرآن الكريم، والفرائض الواجبة عليه، وإذا لم تُعلِّمْه أنت فمن سيُعلِّمُه؟!

واحذر، فإنَّ المدارس هذه الأيّام قد اشتملت علىٰ أنواع عديدة من المفاسد، فعليك باختيار المدرسة الجيِّدة وإن بذلت في سبيلها المال.

عن الحلبي، عن أبي عبد الله، عن أبيه (عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ)، قال: «إنّا نأمر صبياننا بالصلاة إذا كانوا بني خمس سنين، فمُرُوا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين. ونحن نأمر صبياننا بالصوم إذا كانوا بني سبع سنين، بما أطاقوا من صيام اليوم، إن كان إلىٰ نصف النهار أو أكثر من ذلك أو أقلّ، فإذا غلبهم العطش والغرث أفطروا حتَّىٰ يتعوَّدوا الصوم ويُطيقوه، فمُرُوا صبيانكم إذا كانوا بني تسع سنين بالصوم ما استطاعوا من صيام اليوم، فإذا غلبهم العطش أفطروا»(2).

وروي عن النبيِّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أنَّه نظر إلىٰ بعض الأطفال فقال: «ويلٌ

ص: 192


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 1/ ص 310/ باب الإشارة والنصّ علىٰ أبي الحسن موسىٰ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)/ ح 11).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 3/ ص 409/ باب صلاة الصبيان ومتىٰ يُؤخَذون بها/ ح 1).

لأولاد آخر الزمان من آبائهم!»، فقيل: يا رسول الله، من آبائهم المش_ركين؟ فقال: «لا، من آبائهم المؤمنين! لا يُعلِّمونهم شيئاً من الفرائض، وإذا تعلَّموا أولادهم منعوهم، ورضوا عنهم بعرضٍ يسير من الدنيا، فأنا منهم بريء وهم منّي براء»(1).

ه_ - العدل معهم، وبيان المبرِّرات المقنعة عند اختلاف التعامل مع بعضهم:

فالأبُ حاكم في البيت، والأُمُّ وزيرته، وعليهما أن يتوخَّيا العدل والقسط والعطف في تعاملهما مع رعاياهما، وإذا لزم الأمر معاملة بعضٍ منهم بنوع من الاهتمام أكثر من غيره، فليُبرَّرْ ذلك ببيان واضح وبقرارٍ رسمي معلَن، فقد يكون أحدهم مريضاً فيحتاج إلىٰ رعاية أكثر، وقد يحتاج آخر إلىٰ رعاية أكثر لأنَّ دراسته أصبحت أصعب، وقد يمرُّ أحدهم بظرفٍ ما يوجب علىٰ الأبوين الاهتمام به أكثر، وقد يتَّصف بعضهم بصفات تُرغِم الأبوين علىٰ معاملته بصورة تختلف عن غيره من إخوته.

فليكن ذلك، ولكنْ ليُوعَد الجميع بنفس التعامل عند توفُّر المبرِّر ذاته، وعليهما أن يحافظا علىٰ وعودهما مع أولادهما، حتَّىٰ تؤتي التربية ثمرتها.

عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أنَّه قال: «إنَّ الله تعالىٰ يُحِبُّ أن تعدلوا بين أولادكم حتَّىٰ في القُبَل»(2).

ص: 193


1- مستدرك الوسائل للميرزا النوري (ج 15/ ص 164/ باب استحباب ترك الصبيِّ سبع سنين.../ ح 17871/1)، عن جامع الأخبار.
2- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 16/ ص 445/ ح 45350).

وروي أنَّه نظر رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) إلىٰ رجل له ابنان فقبَّل أحدهما وترك الآخر، فقال له (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «فهلَّا واسيت بينهما»(1).

وروي عنه(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «ساووا بين أولادكم في العطيَّة، فلو كنت مفضِّلاً أحداً لفضَّلت النساء»(2).

و - اللعب مع الطفل والتصابي له:

فلا شكَّ أنَّ أغلىٰ شيء عند الطفل وكنزه الذي لا يبادله بملئ الدنيا ذهباً هو اللعب، ولكن مع من يلعب؟

ربَّما سيجد صبيًّا مثله يلعب معه، وربَّما سيلعب لوحده، ولكنَّه لا يظهر ضحكه وسروره الحقيقي إلَّا عندما يلعب معه أبوه أو تلاعبه أُمُّه، والتجربة أكبر برهان. فعليك بذلك، ولا تكن قاسي القلب مع فلذات كبدك. وقوِّ علاقتك بهم مبتدءاً ذلك باللعب.

قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «من كان عنده صبيٌّ فليتصابَ له»(3).

وعن أبي هريرة، قال: أبص_رت عيناي وسمعت أُذُناي رسول الله (صلّىٰ الله عليه [وآله] وسلَّم) وهو آخذ بكفّي حسين وقدماه علىٰ قدمي رسول الله (صلّىٰ الله عليه [وآله] وسلَّم) وهو يقول: «ترقَّ، عين بقَّة»، قال: فرقىٰ الغلام حتَّىٰ وضع قدميه علىٰ صدر رسول الله (صلّىٰ الله عليه [وآله] وسلَّم)، ثمّ قال له رسول الله (صلّىٰ الله عليه [وآله] وسلَّم): «افتح فاك»، ثمّ قبَّله، ثمّ قال: «اللّهمّ إنّي أُحِبُّه فأحبَّه»(4).

ص: 194


1- من لا يحض_ره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 3/ ص 483/ ح 4704)؛ ورواه العلَّامة المجلسي في بحار الأنوار (ج 71/ ص 84) عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) باختلاف يسير.
2- الجامع الصغير لجلال الدِّين السيوطي (ج 2/ ص 40/ ح 4632).
3- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 3/ ص 483 و484/ ح 4707).
4- ذخائر العقبىٰ لأحمد بن عبد الله الطبري (ص 122).

ح - تحمُّل مشاقَّ التربية:

فالولد لا يخرج متعلِّماً، ولا يعرف (الأتكيت) مع الضيوف، ولا يحسن أن يضع كأس الماء في مكانه، ولا أن يلبس ملابسه بصورة صحيحة. ولذلك سيعبث ويعبث، وستزهق نفوس الأبوين من كثرة الأخطاء، وربَّما سيمرض فيمرض الأبوان معه، وربَّما احتاج الأولاد إلىٰ مصارف إضافية تجهد كاهل الوالد، وربَّما احتاجوا إلىٰ رعاية تنهك قوىٰ الأُمِّ. كلُّ ذلك لا بدَّ أن يكون بالحسبان، وأن يحتسب الأبوان ذلك عند الله تبارك وتعالىٰ.

عن محمّد بن مسلم، قال: كنت جالساً عند أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) إذ دخل يونس بن يعقوب، فرأيته يئنُّ، فقال له أبو عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «ما لي أراك تئنُّ؟»، قال: طفل لي تأذَّيت به الليل أجمع، فقال له أبو عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «يا يونس، حدَّثني أبي محمّد بن عليٍّ، عن آبائه (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ)، عن جدّي رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أنَّ جبرئيل نزل عليه ورسول الله وعليٌّ (صلوات الله عليهما) يئنّان، فقال جبرئيل (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): يا حبيب الله، ما لي أراك تئنُّ؟ فقال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): طفلان لنا تأذَّينا ببكائهما، فقال جبرئيل: مَهْ، يا محمّد فإنَّه سيبعث لهؤلاء القوم شيعة إذا بكىٰ أحدهم فبكاؤه لا إله إلَّا الله إلىٰ أن يأتي عليه سبع سنين، فإذا جاز السبع فبكاؤه استغفار لوالديه إلىٰ أن يأتي علىٰ الحدِّ، فإذا جاز الحدَّ فما أتىٰ من حسنة فلوالديه وما أتىٰ من سيِّئة فلا عليهما»(1).

* * *

ص: 195


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 52 و53/ باب النوادر/ ح 5).

ص: 196

المفردة العاشرة:

الاستخفاف والتهاون

بأعراض الناس

· الخطر: هتك أعراض الناس وسُمعتهم.

· الأثر: الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة.

· التوصية: اكره لغيرك ما تكرهه لنفسك.

ص: 197

ص: 198

في الإسلام ليس هناك ما يُسمّىٰ بالحُرّية المطلقة، بل المرء إذا كان مسلماً فإنَّ حُرّيته مقيَّدة بالقيود والحدود التي حدَّها الله تبارك وتعالىٰ له، ومن يتجاوز هذه الحدود يكن في مقام مواجهة الله تعالىٰ بالمعصية والجرأة، بل سيكون علىٰ غير خطِّ الإنسانية، حيث نعلم أنَّ الله تعالىٰ إنَّما شرَّع الأحكام من واجبات ومحرَّمات آخذاً بنظر الاعتبار المصلحة الإنسانية الراجعة للبش_ر لا له جلَّ وعلا، قال عزَّ من قائل: ] يا أَي_ُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَىٰ اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ 15[ (فاطر: 15).

ويقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «إِنَّ اللهَ سُبْحَانَه وَتَعَالَىٰ خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيًّا عَنْ طَاعَتِهِمْ، آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لأَنَّه لَا تَضُ_رُّه مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاه، وَلَا تَنْفَعُه طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَه»(1).

ومن الحدود التي حدَّها الله تبارك وتعالىٰ هو حدُّ (حرمة المسلم)، فللمسلم حرمته في دمه وماله وعِرضه وسمعته وجميع ما يرجع إليه، فلا يجوز التعدّي أبداً علىٰ هذه الحرمة، بل إنَّ الله تعالىٰ أوعد من يفعل ذلك بالخزي في الحياة الدنيا والعذاب في الآخرة، كما سنرىٰ ذلك إن شاء الله تعالىٰ بعد قليل.

ولكن - وأبعد الله (لكن) التي يندر أن يخلو منها كلام -، ولكن نجد أنَّ هتك أعراض الناس صار ظاهرة عند كثير من الناس والمجتمعات، وهذه الظاهرة عمَّت وشملت عدَّة حالات، ولا أُريد أن

ص: 199


1- نهج البلاغة (ج 2/ ص 160).

أذكر الحالات التي يستقبحها حتَّىٰ الفاسق كالزنا والعياذ بالله، وإنَّما أذكر بعض الحالات التي كثيراً ما تُبرَّر وتُصحَّح، وقد يعتبرها البعض نجاحاً في عمل أو ظاهرةً إنسانية ربَّما، وهذه بعض تلك الحالات:

الحالة الأُولىٰ: هتك السمعة بالغيبة والاسترسال في الذمِّ وإبراز العيوب من دون مبرِّر، فإنَّ ذلك من هتك العورة المحرَّمة كما نصَّت علىٰ ذلك الروايات الشريفة.

نعم، استُثنيت حالة السؤال عن عفَّة امرأة للزواج منها(1).

الحالة الثانية: التجسُّس علىٰ أعراض الناس ومتابعة النساء في خروجهنَّ أو سرقة صور النساء من الموبايل وما شابه.

الحالة الثالثة: هتك المرأة بوصف جمالها ومحاسنها من زوجة أمام زوجها، أو من شخص اطَّلع عليها بصورة غير رسمية.

الحالة الرابعة: الاطِّلاع علىٰ بيوت الجيران، أو الجلوس في الطُّرُقات مع عدم غضِّ البصر ومتابعة النساء بالنظر.

الحالة الخامسة: قذف المحصنات، كمن يرمي أُمَّ رجل أو أُخته بالزنا والعياذ بالله، وقد يكون ذلك الرمي مزاحاً، وقد يكون في عراك، وقد يكون بين الأطفال علىٰ مسمع من الكبار، وهي حالات وإن كانت ليست كثيرة إن شاء الله تعالىٰ، ولكنَّها علىٰ قلَّتها تُمثِّل حالة مرضية مزرية وخطرة.

هذه بعض الحالات التي يبتلي بها الناس، وعلينا أن نُحذِّر أنفسنا

ص: 200


1- حيث ذكر الفقهاء ذلك من مستثنيات حرمة الغيبة. وقد جاء في منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني (ج 1/ ص 17 و18): (فتجوز الغيبة بقصد النصح، كما لو استشاره شخص في تزويج امرأة، فيجوز نصحه وإن استلزم إظهار عيبها، بل يجوز ذلك ابتداءً بدون استشارة إذا علم بترتُّب مفسدة عظيمة علىٰ ترك النصيحة).

ومن نستطيع أن نُحذِّره من هذه الحالات، فإنَّها حالات أوعد الله عليها العذاب.

وحتَّىٰ تكتمل الصورة أنقل هنا بعض الروايات المتعلِّقة بتلك الحالات.

روي أنَّه قال النبيُّ عيسىٰ (علىٰ نبيِّنا وآله وعليه السلام) لأصحابه: «أرأيتم لو أنَّ أحداً مرَّ بأخيه فرأىٰ ثوبه قد انكشف عن عورته، أكان كاشفاً عنها أم يردُّ علىٰ ما انكشف منها؟».

قالوا: بل يردُّ علىٰ ما انكشف منها.

قال: «كلَّا، بل تكشفون عنها!».

فعرفوا أنَّه مثل ضربه لهم، فقالوا: يا روح الله، وكيف ذاك؟

قال: «ذاك الرجل منكم يطَّلع علىٰ العورة من أخيه فلا يسترها. بحقٍّ أقول لكم: أُعلِّمكم لتعلموا ولا أُعلِّمكم لتعجبوا بأنفسكم، إنَّكم لن تنالوا ما تريدون إلَّا بترك ما تشتهون، ولن تظفروا بما تأملون إلَّا بالصبر علىٰ ما تكرهون، إيّاكم والنظرة فإنَّها تزرع في القلوب الشهوة، وكفىٰ بها لصاحبها فتنة، طوبىٰ لمن جعل بص_ره في قلبه ولم يجعل بص_ره في نظر عينه، لا تنظروا في عيوب الناس كالأرباب وانظروا في عيوبهم كهيأة عبيد الناس، إنَّما الناس رجلان: مبتلىٰ ومعافىٰ، فارحموا المبتلىٰ، واحمدوا الله علىٰ العافية»(1).

وعن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «عورة المؤمن علىٰ المؤمن حرام»، وقال: «من أطلع علىٰ مؤمن في منزله فعيناه مباحتان

ص: 201


1- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 305)؛ وبحار الأنوار للعلَّامة المجلس_ي (ج14/ ص 305 و306).

للمؤمن في تلك الحال، ومن دمَّر علىٰ مؤمن في منزلة بغير إذنه فدمه مباح للمؤمن في تلك الحال، ومن جحد نبيًّا مرسَلاً نبوَّتَه وكذَّبه فدمه مباح»(1).

وروي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «من أطلع في دار قوم رُجِمَ، فإن تنحّىٰ فلا شيء عليه، فإن وقف فعليه أن يُرجَم، فإن أعماه أو أصمَّه فلا دية له»(2).

وروي عنه (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «من أطلع من مؤمن علىٰ ذنب أو سيِّئة فأفشىٰ ذلك عليه ولم يكتمها ولم يستغفر الله له، كان عند الله كعاملها وعليه وزر ذلك الذي أفشاه عليه، وكان مغفوراً لعاملها، وكان عقابه ما أفشىٰ عليه في الدنيا مستور عليه في الآخرة، ثمّ يجد الله أكرم من أن يُثنّي عليه عقاباً في الآخرة»(3).

وعن مفضَّل بن عمر، قال: قال لي أبو عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «من روىٰ علىٰ مؤمن رواية يريد بها شينه وهدم مروءته ليسقط من أعين الناس أخرجه الله من ولايته إلىٰ ولاية الشيطان فلا يقبله الشيطان»(4).

ص: 202


1- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 4/ ص 104/ ح 5192).
2- فقه الرضا لعليِّ بن بابويه (ص 310 / باب النوادر في الحدود)؛ وبحار الأنوار للعلَّامة المجلس_ي (ج 76/ ص 279). وقال السيِّد الخوئي 1 في منهاج الصالحين (ج 3/ كتاب الحدود/ مسألة 299): (من اطَّلع علىٰ قوم في دارهم لينظر عوراتهم فلهم زجره، فلو توقَّف علىٰ أن يفقأوا عينيه أو يجرحوه فلا دية عليهم. نعم، لو كان المطَّلع محرماً لنساء صاحب المنزل ولم تكن النساء عاريات لم يجز جرحه ولا فقء عينيه).
3- الاختصاص للشيخ المفيد (ص 32).
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 358/ باب الرواية علىٰ المؤمن/ ح 1).

وروي عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «من أطلع في بيت جاره فنظر إلىٰ عورة رجل أو شعر امرأة أو شيء من جسدها كان حقيقاً علىٰ الله أن يُدخِله النار مع المنافقين الذين كانوا يتبحَّثون عورات المسلمين في الدنيا، ولم يخرج من الدنيا حتَّىٰ يفضحه الله ويُبدي عوراته للناظرين في الآخرة»(1).

وروي أنَّه قال أبو بصير للإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): الرجل تمرُّ به المرأة فينظر إلىٰ خلفها؟ قال: «أيس_رُّ أحدكم أن يُنظَر إلىٰ أهله وذات قرابته؟»، قلت: لا، قال: «فارض للناس ما ترضاه لنفسك»(2).

وعن أبي أُمامة، قال: إنَّ فتىً شابًّا أتىٰ النبيَّ (صلّىٰ الله عليه [وآله] وسلَّم)، فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه، فزجروه، وقالوا: مَهْ، مَهْ. فقال: «ادنه»، فدنا منه قريباً، قال: فجلس، قال: «أتُحِبُّه لأُمِّك؟»، قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يُحِبُّونه لأُمَّهاتهم»، قال: «أفتُحِبُّه لابنتك؟»، قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يُحِبُّونه لبناتهم»، قال: «أفتُحِبُّه لأُختك؟»، قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يُحِبُّونه لأخواتهم»، قال: «أفتُحِبُّه لعمَّتك؟»، قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يُحِبُّونه لعمّاتهم»، قال: «أفتُحِبُّه لخالتك؟»، قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يُحِبُّونه لخالاتهم»، قال: فوضع يده عليه وقال: «اللّهمّ اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصِّن فرجه»، فلم يكن بعد ذلك الفتىٰ يلتفت إلىٰ شيء(3).

ص: 203


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 101/ ص 37 و38).
2- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 4/ ص 19/ ح 4972).
3- مسند أحمد بن حنبل (ج 5/ ص 256 و257).

وروي أنَّ رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) قال يوماً لأصحابه: «إيّاكم والجلوس علىٰ الطُّرُقات، فإن أبيتم إلَّا المجالس فأعطوا الطريق حقَّه»، قالوا: وما حقُّ الطريق؟ قال: «غضُّ البص_ر، وكفُّ الأذىٰ، وردُّ السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر»(1).

وعن عمرو بن نعمان الجعفي، قال: كان لأبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) صديق لا يكاد يفارقه إذا ذهب مكاناً، فبينما هو يمش_ي معه في الحذائين ومعه غلام له سندي يمش_ي خلفهما إذا التفت الرجل يريد غلامه ثلاث مرّات فلم يرَه، فلمَّا نظر في الرابعة قال: يا ابن الفاعلة، أين كنت؟ قال: فرفع أبو عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يده فصَّك بها جبهة نفسه، ثمّ قال: «سبحان الله تقذف أُمَّه، قد كنت أرىٰ أنَّ لك ورعاً، فإذا ليس لك ورع»، فقال: جُعلت فداك إنَّ أُمَّه سندية مش_ركة، فقال: «أمَا علمت أنَّ لكلِّ أُمَّة نكاحاً؟ تنحَّ عنّي»، قال: فما رأيته يمش_ي معه حتَّىٰ فرَّق الموت بينهما. وفي رواية أُخرىٰ: «إنَّ لكلِّ أُمَّة نكاحاً يحتجزون به من الزنا»(2).

وعن سماعة، قال: سألت أبا عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) عن الرجل يقذف الرجل بالزنىٰ فيعفو عنه ويجعله من ذلك في حلِّ، ثمّ إنَّه بعد يبدو له في أن يُقدِّمه حتَّىٰ يجلده، قال: فقال: «ليس له حدٌّ بعد العفو»، فقلت له: أرأيت إن هو قال: يا ابن الزانية، فعفا عنه وترك ذلك لله؟ فقال: «إن كانت أُمُّه حيَّة فليس له أن يعفو، العفو إلىٰ أُمِّه متىٰ شاءت أخذت بحقِّها»، قال: «فإن كانت أُمُّه قد ماتت فإنَّه وليُّ أمرها يجوز عفوه»(3).

ص: 204


1- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 9/ ص 146).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 324/ باب البذاءة/ ح 5).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 7/ ص 252/ باب العفو عن الحدود/ ح 6).

وهنا ينبغي الالتفات إلىٰ أمرين - بعد الالتفات إلىٰ أنَّ كلَّ واحدٍ من البشر معرَّض للخطأ والوقوع فيما وقع به غيره -:

الأمر الأوَّل: أنَّ الذي يطَّلع علىٰ عيب - بقصد أو بدون قصد - ويستره، فإنَّ الله تعالىٰ سيجازيه أيّما جزاء. وقد رتَّبت الروايات الش_ريفة الآثار الإيجابية العظيمة علىٰ ذلك، مثل: أنَّ ثواب ذلك ثواب إحياء موؤودة، وأنَّ الله تعالىٰ سيبادله بستر عيوبه.

عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «من ستر علىٰ مؤمن فاحشة (وفي رواية: خزية) فكأنَّما أحيا موؤودة (من قبرها)»(1).

وعنه(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «من علم من أخيه سيِّئة فسترها، ستر الله عليه يوم القيامة»(2).

الأمر الثاني: وفي المقابل أوعد الله تعالىٰ من يتتبَّع عيوب الناس ويعمل علىٰ فضحهم بالخزي والعذاب، فإنَّ تتبُّع عورات المؤمنين يعقبه التالي:

1 - الحرمان من مودّات القلوب، قال الإمام عليٌّ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «من تتبَّع خفيّات العيوب حرمه الله مودّات القلوب»(3).

2 - إنَّ الله تعالىٰ سيفضحه كما يفضح هو الناس، فعن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «من كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتَّىٰ يفضحه بها في بيته...»(4).

ص: 205


1- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 3/ ص 249 /ح 6388).
2- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 3/ ص 250/ ح 6391).
3- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 436).
4- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 3/ ص 248/ ح 6381).

وعن الإمام عليٍّ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «من بحث عن أسرار غيره أظهر الله أسراره، ومن تتبَّع عورات الناس كشف الله عورته»(1).

3 - أنَّ ذلك ربَّما يرجع علىٰ الفرد نفسه، فإنَّ القاعدة الفيزيائية التي تقول: (لكلِّ فعل ردُّ فعل مساوٍ له بالقوَّة ومعاكس له بالاتِّجاه)، ربَّما تجري هنا، فعن حمّاد بن عثمان، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «ما يأمن الذين ينظرون في أدبار النساء أن يبتلوا بذلك في نسائهم»(2).

وفي رواية إبراهيم بن أبي البلاد، قال: كانت امرأة علىٰ عهد داود (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يأتيها رجل يستكرهها علىٰ نفسها، فألقىٰ الله (عزوجل) في قلبها، فقالت له: إنَّك لا تأتيني مرَّة إلَّا وعند أهلك من يأتيهم، قال: فذهب إلىٰ أهله فوجد عند أهله رجلاً، فأتىٰ به داود (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، فقال: يا نبيَّ الله، أتىٰ إليَّ ما لم يؤتَ إلىٰ أحد، قال: «وما ذاك؟»، قال: وجدت هذا الرجل عند أهلي، فأوحىٰ الله تعالىٰ إلىٰ داود (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) قل له: «كما تَدين تُدان»(3).

وعن الفضل بن أبي قرة، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «ل_مَّا أقام العالم الجدار أوحىٰ الله إلىٰ موسىٰ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): إنّي مجازي الأبناء بسعي الآباء إن خير فخير وإن شرٌّ فش_رٌّ، لا تزنوا فتزني نساؤكم، ومن وطئ فراش امرئ مسلم وُطِئَ فراشه، كما تَدين تُدان»(4).

وعن عبد الحميد، عن أبي إبراهيم (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: قال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «تزوَّجوا إلىٰ آل فلان فإنَّهم عفوا فعفت نساؤهم، ولا تُزوِّجوا إلىٰ آل

ص: 206


1- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 436).
2- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 4/ ص 19/ ح 4973).
3- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 4/ ص 21 و22/ ح 4986).
4- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 1/ ص 107/ عقاب الزاني/ ح 94).

فلان فإنَّهم بغوا فبغت نساؤهم»، وقال: «مكتوب في التوراة: أنا الله قاتل القاتلين ومفقر الزانين. أيُّها الناس، لا تزنوا فتزني نساؤكم، كما تَدين تُدان»(1).

* * *

ص: 207


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 554/ باب أنَّ من عَفَّ عن حرم الناس عُفَّ عن حرمه/ ح 4).

ص: 208

المفردة الحادية عشرة:

اشارة

الاستخفاف والتهاون

بالعفاف

· الخطر: انفراط عقد الثقة.

· الأثر: ضياع النفس والأهل.

· التوصية: احبس جوارحك إلَّا من حلال.

ص: 209

ص: 210

هناك صفات تختصُّ بالرجال، وهناك صفات تختصُّ بالنساء، وهناك صفات مشتركة بينهما. فهناك صفات تكون لائقة بالرجل، وإذا اتَّصفت بها المرأة تكون غير لائقة بها، وهناك صفات بعكس ذلك، قال أمير البلاغة والبيان (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «خِيَارُ خِصَالِ النِّسَاءِ شِرَارُ خِصَالِ الرِّجَالِ: الزَّهْوُ والْجُبْنُ والْبُخْلُ، فَإِذَا كَانَتِ المَرْأَةُ مَزْهُوَّةً لَمْ تُمَكِّنْ مِنْ نَفْسِهَا، وَإِذَا كَانَتْ بَخِيلَةً حَفِظَتْ مَالَهَا وَمَالَ بَعْلِهَا، وَإِذَا كَانَتْ جَبَانَةً فَرِقَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَعْرِضُ لَهَا»(1).

وهناك صفات تكون لائقة بالاثنين معاً، وسيحكي عدم الاتِّصاف بها من الاثنين معاً عن نقص أخلاقي، وما أكثر هذه الصفات، كالصدق والبرِّ بالوالدِّين وأداء الحقوق وغيرها.

ففي أيِّ خانة نضع صفة (العفَّة) و(العفاف)؟

يعتقد كثير من سواد الناس أنَّها صفة خاصَّة بالنساء، فالنساء هنَّ من يجب أن يكنَّ عفيفات، وربَّما ينكرون هذا الادِّعاء بألسنتهم، ولكن السلوك العملي شاهد صدق علىٰ اعتقادهم ذاك، وهذا له شواهد كثيرة، ربَّما يكون ذكر بعضها مؤلماً للقلب.

لو أنَّ امرأة ضحكت بصوت عالٍ وبقهقهة ملفتة للنظر في سوق عامٍّ، سينتقدها الكثير من الناس، وسيعتبرونها قد تعدَّت وتجاوزت حدود العفَّة، ولا يرون ذلك أبداً من الرجل.

ص: 211


1- نهج البلاغة (ص 509 و510/ ح 234).

انظر لو أنَّ امرأة خرجت من دون حجاب وقد برز بعض شعرها، سيعتبرها المجتمع المسلم مخترقة لحجاب العفَّة، بينما لو خرج رجل بملابس قصيرة بحيث يظهر أكثر ظهره لو انحنىٰ قليلاً، وبحيث تظهر سيقانه إلىٰ الركب، وبحيث يظهر القسم الأكبر من صدره...، إنَّه لا بأس بكلِّ ذلك، لأنَّه رجل.

والشواهد من هذا القبيل كثيرة.

ولكن الحقيقة في الإسلام غير ذلك.

إنَّ العفاف صفة مشتركة بين الرجال والنساء، فكما هو مطلوب من النساء أن يكنَّ عفيفات، كذلك مطلوب من الرجال أن يكونوا عفيفين.

والخلاصة:

أنَّ العفاف يعني الشرف، والشرف مطلوب من الاثنين معاً(1).

ولذلك لم يُفرِّق القرآن بينهما من هذه الناحية. نعم، لا ننكر أنَّ متطلِّبات العفَّة في المرأة أشدّ منها في الرجل، ولكن بالتالي فإنَّ العفاف مطلوب من الاثنين بالحدود التي رسمها الشارع المقدَّس.

قال تعالىٰ: ]قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكىٰ لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ 30 وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْ_رِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلىٰ جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ

ص: 212


1- قطاف شهر رمضان للمؤلِّف (ص 16).

أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأَرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلىٰ عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْ_رِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَىٰ اللهِ جَمِيعاً أَي_ُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 31[ (النور: 30 و31).

عن سعد الإسكاف، عن أبي جعفر (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «استقبل شابٌّ من الأنصار امرأة بالمدينة، وكان النساء يتقنعْنَ خلف آذانهنَّ، فنظر إليها وهي مقبلة، فلمَّا جازت نظر إليها ودخل في زقاق قد سمّاه ببني فلان، فجعل ينظر خلفها، واعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشقَّ وجهه، فلمَّا مضت المرأة فإذا الدماء تسيل علىٰ صدره وثوبه! فقال: والله لآتينَّ رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) ولأُخبرنَّه، قال: فأتاه، فلمَّا رآه رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) قال له: ما هذا؟ فأخبره، فهبط جبرئيل (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) بهذه الآية: « قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكىٰ لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ 30» [النور: 30]»(1).

وهذه الصفة هي أيضاً ممَّا نجد تهاوناً مؤسفاً فيها، ففي كثير من الحالات نجد السلوك مناوئاً للعفَّة وبعيداً عنها، والناس - علىٰ الأقلِّ بعض منهم - تهاونوا في تلك الحالات حتَّىٰ كأنَّ العفَّة لم تكن مطلوبة منهم أبداً، ولمعرفة حقيقة هذه الحال نلفت الأنظار إلىٰ جهات العفَّة.

جهات العفَّة:

تتوزَّع العفَّة - في كلٍّ من الرجل والمرأة - علىٰ جهات متعدِّدة، نذكر منها:

ص: 213


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 521/ باب ما يحلُّ النظر إليه من المرأة/ ح 5).

الجهة الأُولىٰ: عفَّة اليد:

ويُقصَد منها أن يكون المسلم - وسنُعبِّر بالمسلم ليعمَّ المرأة والرجل - عفيفاً في ما يقع تحت يده من أموال وأمانات وودائع وغيرها، فلا يأخذ شيئاً إلَّا من حِلِّه، ويحافظ علىٰ الودائع والأمانات بقدر طاقته، ويتعامل مع شيء استعاره كما يتعامل مع أمواله من دون تعدٍّ ولا تفريط، ولا يسرق مالاً قلَّ أو كثر.

ولكن اليوم نجد خرقاً لهذه العفَّة بشكل مريع!

فأخٌ أكبر متسلِّط يمنع أخواته - وربَّما حتَّىٰ إخوته - من إرث أبيهم.

أخٌ مجرم يمنع زوجة أخيه من إرثها من زوجها.

أمين يخون.

بائع يبخس في الميزان.

غنيٌّ يرتشي.

مسؤول مقصِّر في أداء ما عليه.

موظَّف يحتال في سرقة وقت العمل.

وغيرها كثير.

إنَّها العفَّة الميِّتة، والقلب المنكوس، وراء الابتعاد عن عفَّة اليد.

الجهة الثانية: عفَّة اللسان:

راعني يوماً طفلٌ اشتكىٰ لأبيه أنَّ آخر ضَرَبَه، وما راعني الض_رب، إنَّما راعني لسان ذلك الأب وهو يُنزِل الشتائم والفحش من الكلام كالوابل علىٰ هشيم في يوم عاصف علىٰ أهل ذلك الطفل - أُؤكِّد الطفل - الذي ضرب ابنه.

قلت في نفس_ي: إذا كان هذا الرجل بهذا السقط من الألفاظ في

ص: 214

الشارع، فكيف يكون وهو في بيته؟ وكيف سيكون ولده وزوجته وابنته في ألسنتهم؟!

كثير من الناس تناسوا هذه الجهة من العفَّة، فتجد شباباً ومن أجل أن يُضحِك بعضهم بعضاً يأتون بطرائف مملوءة بالفحش من القول، وقد تصل الجرأة إلىٰ تأليف بعض منها علىٰ الخالق جلَّ وعلا أو علىٰ أنبيائه والعلماء.

إنَّك ربَّما تجد بعضاً من أصناف الناس صار إلقاء الفحش علىٰ الأُخت أو العِرض عموماً من ألفاظهم العادية المستملحة.

ربَّما نجد بعض الآباء وهم يستمتعون بكلام فاحش يصدر من أطفالهم، معتبرين ذلك لا ضير فيه ما دام قد صَدَرَ من طفل.

ليس هذا فقط، بل نجد كثيراً من الناس يتقبَّلون (الغيبة) و(النميمة) بقبول حسن!

والحال أنَّ الكلمة لها أثر خطر جدًّا، فالإسلام الذي به يُحصَن الدم والمال والفرج هي كلمة، والكفر الذي يبيح تلك الأُمور كلمة أيضاً.

إنَّ الكلمة هي التي تكشف عن حجم الإنسان، (تَكَلَّمُوا تُعْرَفُوا، فَإِنَّ المَرْءَ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِه»(1).

والكلمة هي رسول العقل، «يُستَدلُّ علىٰ عقل الرجل بحسن مقاله»(2).

والكلمة تجعل صاحبها أميراً علىٰ قومه، ولكن في الوقت نفسه فالكلمة ربَّما أهلكت إنساناً.

ص: 215


1- نهج البلاغة (ج 4/ ص 93).
2- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 550).

عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «من علم لسانه أمَّره قومه، المرء يعثر برجله فيبرىٰ، ويعثر بلسانه فيقطع رأسه، احفظ لسانك فإنَّ الكلمة أسيرة في وثاق الرجل، فإن أطلقها صار أسيراً في وثاقها»(1).

وربَّما سقطت بصاحبها في نار جهنَّم، وربَّما قطعت رزقاً، وربَّما سلبت نعمة. لذلك، وجب حبس اللسان وسجنه إلَّا عن خير.

عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: قال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «يُعذِّبُ الله اللسان بعذاب لا يُعذِّب به شيئاً من الجوارح! فيقول: أي ربِّ، عذَّبتني بعذاب لم تُعذِّب به شيئاً؟ فيقال له: خرجتْ منك كلمة فبلغت مشارق الأرض ومغاربها، فسُفِكَ بها الدم الحرام وانتُهِبَ بها المال الحرام وانتُهِكَ بها الفرج الحرام، وعزَّتي وجلالي لأُعذِّبَنَّك بعذاب لا أُعذِّب به شيئاً من جوارحك»(2)، ولذلك وجب أن يكون الإنسان عفيفاً في لسانه.

يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) في وصيَّته لولده محمّد بن الحنفية: «... ما خلق الله (عزوجل) شيئا أحسن من الكلام ولا أقبح منه، بالكلام ابيضَّت الوجوه، وبالكلام اسودَّت الوجوه، واعلم أنَّ الكلام في وثاقك ما لم تتكلَّم به، فإذا تكلَّمت به صرت في وثاقه، فاخزن لسانك كما تخزن ذهبك ووَرِقَك، فإنَّ اللسان كلب عقور فإن أنت خلَّيته عقر، ورُبَّ كلمة سلبت نعمة...»(3).

ويقول (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «احبس لسانك قبل أن يُطيل حبسَك ويُردي نفسَك، فلا شيء أولىٰ بطول سجن من لسان يعدل عن الصواب ويتسرَّع إلىٰ الجواب»(4).

ص: 216


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 68/ ص 293).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 115/ باب الصمت وحفظ اللسان/ ح 16).
3- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 4/ ص 387 و388/ ح 5834).
4- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 81).

ملاحظة:

من عفَّة اللسان هو عدم التعميم في الحكم، فكثيراً ما نجد أُناساً يُعمِّمون الأحكام علىٰ بعض الأصناف من الناس أو علىٰ بعض الشعوب، فتجد شخصاً يقول: (كلُّ أعضاء البرلمان سارقون)، أو آخر يقول: (الشعب الفلاني كلُّهم أغبياء)، وثالث يقول: (العشيرة الفلانية كلُّها همج رعاع).

والحال أنَّ هذا الحكم فيه ظلم كبير لكثير من الأفراد، وليكن الحكم علىٰ نحو الجزئية، التي تصدق ولو بفرد واحد، أو يكون الحكم علىٰ الأكثرية مع التأكُّد من صحَّة إطلاقه علىٰ الأكثرية، تماماً كما فعل القرآن الكريم: ]وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ 103[ (يوسف: 103).

الجهة الثالثة: عفَّة الفرج:

كثيرة هي غرائز الإنسان التي بها عاش علىٰ هذه الأرض، وهي مختلفة من حيث القوَّة والضعف، وكونها ضرورية جدًّا أو بين بين. ولكن ليس هناك أهمّ ولا أخطر ولا أقوىٰ من الغريزة الجنسية لديه، فهي عندما تبدأ بالظهور عند الإنسان فإنَّها تجرُّ معها الكثير من التغيُّرات الفسيولوجية والنفسية، بل والعقلية عليه. ولو لم تُقيَّد من البداية وتُكبَّل فإنَّها ستكون أشبه بسيّارة بلا مكابح تنزل من جبل وسائقها يضغط دوّاسة البنزين بكلِّ قوَّته!

وقد تساهل بعض الناس في تقييدها وكبحها، إن في أنفسهم أو في مَنْ هم مسؤولون عنهم، فتجد الأب يسمح لولده بالخروج إلىٰ أماكن الريبة، ولا يعارض أن تلبس ابنته ملابس زاهية وملفتة للأنظار، وقد يتسامح البعض في مقاربة أهله علىٰ مسمع - وربَّما منظر - من أولاده بحجَّة أنَّهم صغار، وغيرها من التصرُّفات.

ص: 217

لا بدَّ علىٰ الفرد العفيف أن يُهيِّئ المصدّات القويَّة والترسانات الضخمة التي تقي من مصارع التهتُّك، والتي تحفظ للمؤمن عفَّته، خصوصاً وإنَّنا في زمن صار كثير من الناس يعتبر العفيف متخلِّفاً، والعفيفة معقَّدة ومريضة نفسياً، وأنَّ العفَّة علامة فارقة تستدعي العرض علىٰ طبيب نفس_ي يعالج العفيف حتَّىٰ يتمكَّن من أن يزيل تلك الصفة منه، ليستوي مع أبناء جلدته، ويكون معهم سواءً وإمَّعة.

وحتَّىٰ نكون علىٰ بيِّنة من أمرنا، نُلفِت النظر إلىٰ أنَّ هذه التهيئة المطلوبة في هذه الجهة من العفَّة تعني التالي:

1 - الابتعاد عن الفاحشة الممقوتة، قال تعالىٰ: « وَلا تَقْرَبُوا الزِّنىٰ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً 32» (الإسراء: 32).

2 - الابتعاد عن مهيِّجات تلك الفاحشة، والمهيِّجات والدواعي لها عديدة، نذكر منها:

أوَّلاً: النظرة المحرَّمة:

لا يغرُّك ما تسمع من أنَّ النظرة الأُولىٰ لك والثانية عليك، فليس هكذا تُؤكَل الكتف، فإنَّ معنىٰ النظرة الأُولىٰ هي النظرة غير المقصودة أو التي قُصِدَ منها شيء غير الريبة والتلذُّذ، وإلَّا فهي محرَّمة(1).

ص: 218


1- في فقه الحضارة (ص 185 و186): (ما المقصود بالقول المأثور: (النظرة الأُولىٰ لك والثانية عليك)؟ وهل يجوز إطالة النظرة الأُولىٰ للمرأة والتمعُّن بها بحجَّة أنَّها لا زالت نظرة أُولىٰ جائزة كما يدَّعي البعض؟ ج - الظاهر أنَّ المقصود بالقول المذكور هو التفريق بين النظرتين من حيث الأُولىٰ اتِّفاقية عابرة فتكون بريئة، ولا يُقصَد بها التلذُّذ الشهوي، بخلاف الثانية فإنَّها تكون مقصودة وهادفة طبعاً، فتقترن بنوع من التلذُّذ، وبذلك تكون خسارة. ومن هنا ورد في بعض النصوص عن أبي عبد الله الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «النظرة بعد النظرة تزرع في القلب الشهوة، وكفىٰ بها لصاحبها فتنة». Z [ وكيفما كان، فمن الواضح أنَّ القول المذكور ليس في مقام تحديد النظر السائغ علىٰ أساس العدد بحيث يعني تجويز النظرة الأُولىٰ وإن كانت هادفة وغير بريئة في أوَّل حدوثها، أو انقلبت إلىٰ ذلك في حالة بقائها واستمرارها، لأنَّ الناظر لا تطاوعه نفسه من غمض النظر عن المنظور إليها. وتحريم النظرة الثانية وإن كانت للحظة واحدة بلا تلذُّذ أصلاً).

روي عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «النظر سهم من سهام إبليس مسموم، وكم من نظرة أورثت حسرة طويلة»(1).

وروي أنَّه قال عيسىٰ بن مريم (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «إيّاكم والنظرة فإنَّها تزرع في القلب الشهوة، وكفىٰ بها لصاحبها فتنة»(2).

وعن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «اشتدَّ غضب الله علىٰ امرأة ذات بعل ملأت عينها من غير زوجها أو ذي محرم منها، فإنَّها إن فعلت ذلك أحبط الله كلَّ عمل عملته، فإن أوطأت فراش غيره كان حقًّا علىٰ الله تعالىٰ أن يُحرقها بالنار بعد أن يُعذِّبها في قبرها»(3).

وينبغي الالتفات إلىٰ عدم جواز نظر المرأة إلىٰ ما لا يتعارف كشفه عند الرجال (علىٰ الأحوط وجوباً)(4)، فنُنبِّه علىٰ حرمة مشاهدة المرأة لما يُسمّىٰ بالمصارعة الحُرَّة، حيث يظهر كلُّ جسم الرجل إلَّا العورة بالمعنىٰ

ص: 219


1- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 1/ ص 109 و110/ باب عقاب النظر إلىٰ النساء/ ح 101).
2- المصدر السابق؛ وتحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 305).
3- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق (ص 286 و287).
4- في منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني (ج 3/ مسألة 15): (يحرم علىٰ المرأة النظر إلىٰ بدن الرجل الأجنبي بتلذُّذ شهوي أو مع الريبة، بل الأحوط لزوماً أن لا تنظر إلىٰ غير ما جرت السيرة علىٰ عدم الالتزام بستره كالرأس واليدين والقدمين ونحوها وإن كان بلا تلذُّذ شهوي ولا ريبة، وأمَّا نظرها إلىٰ هذه المواضع من بدنه من دون ريبة ولا تلذُّذ شهوي فهو جائز، وإن كان الأحوط استحباباً تركه أيضاً).

الأخصِّ. وهكذا بعض الألعاب الرياضية التي يكشف فيها اللاعب عن الأعضاء التي يحرم احتياطاً علىٰ المرأة مشاهدتها.

ومن هذا المنطلق ينبغي تنبيه الرجال أن يحترموا مشاعر المرأة وحرمتها، فلا يمشِ أخو الزوج أمام زوجة أخيه بالس_روال الداخلي أو بقميص يُظهِر صدره وكتفيه.

ثانياً: المصافحة المحرَّمة:

بعض المجتمعات والأفراد اعتبروا مصافحة المرأة علامة علىٰ التحضُّ_ر والانفتاح الثقافي وعدم التعقيد النفس_ي، والحال أنَّ أيَّ أمر فيه تجاوز علىٰ الحدود الش_رعية فهو في قعر التخلُّف وعند نهاية ركب الثقافة.

عن سماعة بن مهران، قال: سألت أبا عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) عن مصافحة الرجل المرأة، قال: «لا يحلُّ للرجل أن يصافح المرأة إلَّا امرأة يحرم عليه أن يتزوَّجها: أُختاً أو بنتاً أو عمَّةً أو خالةً أو ابنة أُخت أو نحوها، فأمَّا المرأة التي يحلُّ له أن يتزوَّجها فلا يصافِحْها إلَّا من وراء الثوب، ولا يغمِزْ كفَّها»(1).

ثالثاً: المزاح المحرَّم:

وهذا المثير، كثيراً ما يقع بين الذَّكَر والأُنثىٰ ويقوم باستثارة دفائن النفس الأمّارة بالسوء من حيث لا يشعران، وهو أمر تعارف عند كثير من شرائح المجتمع، سواء في السوق أو في دائرة العمل بين الموظَّفين أو في الجامعات المختلطة وغيرها، فبنت لا تمازح رجلاً تُعتَبر معقَّدة، ورجل يرنو بعفَّته عن مزاح أُنثىٰ خارج عن طبيعة البش_ر، هكذا صارت الأحكام مقلوبة، والموازين مختلَّة.

ص: 220


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 525/ باب مصافحة النساء/ ح 1).

عن الحسين بن المختار، عن أبي بصير، قال: كنت أُقرئ امرأة كنت أُعلِّمها القرآن، فمازحتها بش_يء، فقدمت علىٰ أبي جعفر (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، فقال لي: «أيّ شيء قلت للمرأة؟»، فغطَّيت وجهي، فقال: «لا تعودنَّ إليها»(1).

رابعاً: الخلوة بالأجنبية:

والخلوة تعني أن ينفرد رجلٌ بامرأة ليست من محارمه، في مكان من دون أن يكون معهما ثالث. وهذا الأمر من شأنه أن يُولِّد في النفس أحاسيس غير محمودة، ومن شأنه أن يُحدِث ما لا تُحمَد عقباه، لذلك حرَّمه الشارع المقدس - إذا لم يأمنا علىٰ نفسيهما من الحرام - ليقطع فرصة الشيطان في إغواء المؤمنين. نعم يجوز ذلك (مع اليقين أو الاطمئنان بعدم الوقوع في الحرام)(2).

عن مسمع أبي سيار، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «فيما أخذ رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) من البيعة علىٰ النساء أن ... لا يَقْعُدْنَ مع الرجال في الخلاء»(3).

وروي أنَّ رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) نهىٰ عن محادثة النساء - يعني غير ذوات المحارم -، وقال: «لا يخلونَّ رجل بامرأة، فما من رجلٍ خلا بامرأة إلَّا كان الشيطان ثالثهما»(4).

خامساً: وصف محاسن المرأة:

للمرأة كيانها المستقلُّ في الإسلام، وحرمتها محفوظة في الإسلام

ص: 221


1- اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي (ج 1/ ص 404/ ح 295)؛ ووسائل الشيعة للحرِّ العاملي (ج 20/ ص 198).
2- استفتاء من موقع السيِّد السيستاني (https://www.sistani.org/arabic/qa/).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 519/ باب التستُّر/ ح 6).
4- دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي (ج 2/ ص 214/ ح 788)؛ وجامع أحاديث الشيعة للسيِّد البروجردي (ج 20/ ص 309).

كأشدّ ما تكون الحرمة، ولذلك عاقب الإسلام من يرمي امرأة بفاحشة من دون بيِّنة شرعية، بأن جلده ثمانين جلدة وحَكَمَ عليه بالفسق.

ومن حرمتها في الإسلام هو عدم جواز وصف الرجل محاسنها وجمالها أمام الرجال، فإنَّ ذلك هتكاً لها، وهو أمر محرَّم. وهو يجرُّ إلىٰ الحرام، وما لا يرتضيه العقل ولا الشرع.

فقد روي عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) في ما خطبه بالمسلمين قبل وفاته: «... من وصف امرأة لرجل وذكر جمالها له فافتتن بها الرجل فأصاب منها فاحشة لم يخرج من الدنيا حتَّىٰ يغضب الله عليه، ومن غضب الله عليه غضبت عليه السماوات السبع والأرضون السبع، وكان عليه من الوزر مثل الذي أصابها...»(1).

سادساً: تزيُّن المرأة لغير زوجها بعطر وما شابه:

كثيراً ما تقع النساء في هذا الخطأ، وكثيراً ما يسمح الأب أو الأخ أو حتَّىٰ الزوج به لنسائهم، بحجَّة أنَّه من التجمُّل أو النظافة أو الثقافة، والحال أنَّ هذا الأمر من شأنه أن يُوقِع الشابَّ في الريبة المحرَّمة، وقد يستثير فيه ما كان كامناً من غرائز فتّاكة، فضلاً عن أنَّه يكشف عن ضعف في شخصية تلك المرأة التي تريد أن تُبرز جمالها أو تبثَّ عطرها بين رجال لا تعرف منهم سوىٰ أنَّهم يسترقون النظرات المريبة منها!

عن سعد بن أبي عمرو الجلاب، قال: قال أبو عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «أيُّما امرأة باتت وزوجها عليها ساخط في حقٍّ لم تُقبَل منها صلاة حتَّىٰ يرضىٰ عنها، وأيُّما امرأة تطيَّبت لغير زوجها لم تُقبَل منها صلاة حتَّىٰ تغتسل من طيبها كغُسلها من جنابتها»(2).

ص: 222


1- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق (ص 286)؛ وجامع أحاديث الشيعة للسيِّد البروجردي (ج 20/ ص 300).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 507/ باب حقّ الزوج علىٰ المرأة/ ح 2).

وعن الإمام جعفر بن محمّد، عن آبائه (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) - في حديث المناهي -، قال: «نهىٰ رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أن تخرج المرأة من بيتها بغير إذن زوجها، فإن خرجت لعنها كلُّ مَلَك في السماء وكلُّ شيء تمرُّ عليه من الجنِّ والإنس حتَّىٰ ترجع إلىٰ بيتها، ونهي أن تتزيَّن لغير زوجها، فإن فعلت كان حقًّا علىٰ الله أن يُحرقها بالنار»(1).

سابعاً: مقاربة الأهل علىٰ منظر ومسمع من الأطفال:

إنَّ الأطفال وإن كانوا لا يملكون القدرة الكافية للتعبير عمَّا يرونه وعمَّا في داخلهم، ولكنَّهم يملكون من الذاكرة ما يحتفظون بها بما يسمعونه ويرونه طول حياتهم، وربَّما سيتحوَّل مخزونهم الذهني إلىٰ سلوك عملي في المستقبل، وبالتالي علىٰ الأبوين أن يتعاملا مع هذه الخصّيصة في الأطفال بحذر شديد، ومن ذلك الحذر من أن يحصل التقارب علىٰ منظر ومسمع من الأطفال وإن كانوا صغاراً، ومن هنا حَكَمَ الفقهاء بكراهة ذلك.

عن ابن راشد، عن أبيه، قال: سمعت أبا عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يقول: «لا يجامع الرجل امرأته ولا جاريته وفي البيت صبيٌّ، فإنَّ ذلك ممَّا يورث الزنا»(2).

وعن عبد الله بن الحسين بن زيد، عن أبيه، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «قال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): والذي نفس_ي بيده لو أنَّ رجلاً غش_ي امرأته وفي البيت

ص: 223


1- من لا يحض_ره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 4/ ص 6/ باب ذكر جُمَل من مناهي النبيِّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)/ ح 1/4968).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 499 و500/ باب كراهية أن يواقع الرجل أهله وفي البيت صبيٌّ/ ح 1).

صبيٌّ مستيقظ يراهما ويسمع كلامهما ونفسهما ما أفلح أبداً، إذا كان غلاماً كان زانياً أو جاريةً كانت زانية. وكان عليُّ بن الحسين (عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ) إذا أراد أن يغشىٰ أهله أغلق الباب وأرخىٰ الستور وأخرج الخدم»(1).

ثامناً: بعض السلوكيات التي يمكن أن تُهيِّج الرجل أو المرأة:

كالسلام علىٰ الشابّات ابتداءً، والمبيت قريباً من امرأة ليست محرمة، والجلوس في مجلس المرأة قبل أن يبرد، وتقبيل الرجل الفتاة الصغيرة، أو تقبيل الولد الصغير المرأة، وغيرها.

عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «كان رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) يُسلِّم علىٰ النساء ويرددْنَ عليه، وكان أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يُسلِّم علىٰ النساء، وكان يكره أن يُسلِّم علىٰ الشابَّة منهنَّ، ويقول: أتخوَّف أن يعجبني صوتها(2) فيدخل عليَّ أكثر ممَّا طلبت من الأجر»(3).

وعن أبي جميلة، عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ)، قالا: «ما من أحد إلَّا وهو يصيب حظًّا من الزنا، فزنا العينين النظر، وزنا الفم القبلة، وزنا اليدين اللمس، صدَّق الفرج ذلك أم كذَّب»(4).

عن موسىٰ بن إبراهيم، عن موسىٰ بن جعفر، عن آبائه (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ)، عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يبت في موضع يسمع نفس امرأة ليست له بمحرم»(5).

ص: 224


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 500/ باب كراهية أن يواقع الرجل أهله وفي البيت صبيٌّ/ ح 2).
2- واضح جدًّا أنَّ هذا منه (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) من باب: (إيّاك أعني واسمعي يا جارة).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 535/ باب التسليم علىٰ النساء/ ح 3).
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 559/ باب نوادر/ ح 38).
5- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 3/ ص 437 / ح 4510).

وعن السكوني، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: قال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «إذا جلست المرأة مجلساً فقامت عنه فلا يجلس في مجلسها رجل حتَّىٰ يبرد»(1).

وروي أنَّه كان أبو الحسن الماضي (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) عند محمّد بن إبراهيم والي مكَّة وهو زوج فاطمة بنت أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، وكانت لمحمّد بن إبراهيم بنت يُلبِسها الثياب وتجيء إلىٰ الرجل فيأخذها ويضمُّها إليه، فلمَّا تناهت إلىٰ أبي الحسن (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أمسكها بيديه ممدودتين، وقال: «إذا أتت علىٰ الجارية ستّ سنين لم يجز أن يُقبِّلها رجل ليست هي بمحرم له ولا يضمُّها إليه»(2).

وقال أبو عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «إذا بلغت الجارية ستّ سنين فلا يُقبِّلها الغلام، والغلام لا يُقبِّل المرأة إذا جاز سبع سنين»(3).

ملاحظة: عفَّة المظهر:

يدخل تحت هذه الجهة من العفَّة عفَّة المظهر الخارجي عموماً، فقصَّة الشعر لا بدَّ أن تكون بكيفية موافقة للمروءة، وليس فيها تشبُّهٌ بالغرب، ولا غريبة بحيث تكون ملفتة للنظر.

وعلىٰ الرجل أن لا يضع علىٰ وجهه المساحيق الخاصَّة بالنساء!

والمرأة لا تضع تلك المساحيق لأجل أن تظهر جميلة أمام الرجال الأجانب، فإنَّ المفروض أن يكون الهدف الرئيس_ي لتجمّل المرأة هو تجمّلها لزوجها فقط، ولا تكون كسيّارة الأُجرة يُقلِّبها كلُّ من هبَّ ودبَّ.

ص: 225


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 564).
2- وسائل الشيعة للحرِّ العاملي (ج 20/ ص 230 و231).
3- وسائل الشيعة للحرِّ العاملي (ج 20/ ص 230).

ويدخل تحته أيضاً عفَّة الملابس، فينبغي أن تكون الملابس لائقة ومتناسبة مع العرف الإسلامي، ولا تكون مكشوفة، إن في الرجل وإن في المرأة، ولا أن تكون بحيث يكون لابسها متشبِّهاً بالغرب الكافر، ولا تكون منافية للمروءة، ولا تكون ملابس شهرة.

عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «أُتي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بصبيٍّ يدعو له وله قَنازع(1)، فأبىٰ أن يدعو له، وأمر بحلق رأسه، وأمر رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بحلق شعر البطن»(2).

وعن السكوني، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «أوحىٰ الله (عزوجل) إلىٰ نبيٍّ من أنبيائه: قل للمؤمنين: لا تلبسوا لباس أعدائي، ولا تطعموا طعام أعدائي، ولا تسلكوا مسالك أعدائي؛ فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي»(3).

ولذلك حَكَمَ الفقهاء بأنَّه (يحرم لبس لباس الشهرة، وهو اللباس الذي يُظهِر المؤمن في شنعة وقباحة وفظاعة عند الناس، لحرمة هتك المؤمن نفسه وإذلاله إيّاها)(4).

* * *

ص: 226


1- في هامش مستدرك الوسائل للميرزا النوري (ج 1/ هامش ص 440): (وهي أن يُحلَق الرأس إلَّا قليلاً ويُترَك وسط الرأس. (مجمع البحرين: ج 4/ ص 379)).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 40/ باب كراهية القَنازع/ ح 3).
3- علل الشرائع للشيخ الصدوق (ج 2/ ص 348/ باب 57/ ح 6).
4- موقع السيِّد السيستاني (https://www.sistani.org/arabic/qa/).

المفردة الثانية عشرة:

اشارة

الاستخفاف والتهاون

بالكذب

· الخطر: فقدان الثقة بين الناس.

· الأثر: فتح أبواب الشرور.

· التوصية: كن صادقاً مع ربِّك ونفسك لتكون صادقاً مع الناس.

ص: 227

ص: 228

كثيرة هي الصفات التي يجب أن تتوفَّر في المؤمن، والتي تكشف عن إيمانه ودرجته الكمالية، وقد سطرتها الآيات الكريمة والروايات الش_ريفة. وفي المقابل، هناك العديد من الصفات التي تُخرج المرء عن صفة الإيمان، أو تزاحم الإيمان وتُبعِده ولو قليلاً عن الإنسان.

هناك صفات لها القابلية علىٰ أن تزيل الإيمان بمقدار وقوعها، ثمّ إذا زالت رجع الإيمان، فعن صباح بن سيابة، قال: كنت عند أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) فقال له محمّد بن عبده: يزني الزاني وهو مؤمن؟ قال: «لا، إذا كان علىٰ بطنها سُلِبَ الإيمان منه، فإذا قام رُدَّ عليه»، قلت: فإنَّه أراد أن يعود؟ قال: «ما أكثر ما يهمُّ أن يعود ثمّ لا يعود»(1).

وعن ابن بُكير، قال: قلت لأبي جعفر (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) في قول رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «إذا زنىٰ الرجل فارقه روح الإيمان»؟ قال: «هو قوله: «وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ» [المجادلة: 22]، ذاك الذي يفارقه»(2).

ولكن الروايات الش_ريفة تُحذِّر جدًّا من صفة لها قابلية علىٰ هدم الإيمان من أساسه، وهي تُخرج الفرد عن الإيمان، وربَّما لا يعود إليه إلَّا بشقِّ الأنفس، تلك هي الصفة التي اعتبرتها الروايات شرٌّ من مفتاح الش_رور الذي هو: (شرب الخمر)، وهي التي إذا صدرت من العبد تباعد عنه المَلَك مسيرة ميل من نُتن ما جاء به، وهي باب من أبواب

ص: 229


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 281/ باب الكبائر/ ح 13).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 280/ باب الكبائر/ ح 11).

النفاق، وهي شعبة من الخيانة، وهي صفة تُنقِص الرزق وتورث الفقر، وتؤدّي إلىٰ النفاق، وتُسبِّب النسيان، إنَّها صفة (الكذب).

روي أنَّه قال رجل للنبيِّ الأكرم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): المؤمن يزني؟ قال: «قد يكون ذلك»، قال: المؤمن يس_رق؟ قال صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ: «قد يكون ذلك»، قال: يا رسول الله، المؤمن يكذب؟ قال: «لا، قال الله تعالىٰ: ]إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ[ [النحل: 105]»(1).

إنَّها صفة لو تركها العبد لانغلقت عليه كلُّ أبواب المعاصي والش_رور، فقد روي أنَّه أتىٰ رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) رجل فقال: إنّي رجل لا أُصلي وأنا أزني وأكذب، فمن أيِّ شيء أتوب؟ قال: «من الكذب»، فاستقبله، فعهد أن لا يكذب، فلما انص_رف وأراد الزنا، فقال في نفسه: إن قال لي رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): هل زنيت بعدما عاهدت؟ فإن قلت: لا كذبت، وإن قلت: نعم يض_ربني الحدَّ. ثمّ أراد أن يتوانىٰ في الصلاة فقال: إن سألني رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) منها، فإن قلت: صلَّيت كذبت، وإن قلت: لا يعاقبني، فتاب من الثلاثة(2).

وهي أيضاً صفة تهاون الناس فيها، وبنىٰ كثير منهم حياته الأُسرية أو التجارية أو الوظيفية عليها، حتَّىٰ نجد أنَّ الأب يكذب علىٰ ولده، فيعده ولا يفي له، والمرأة تكذب علىٰ زوجها، فتخرج من دون إذنه، والبائع يحلف كاذباً، وطالب الحاجة يكذب ويكذب حتَّىٰ يصل إلىٰ مبتغاه...

ص: 230


1- الدعوات لقطب الدِّين الراوندي (ص 118/ ح 275).
2- مستدرك الوسائل للميرزا النوري (ج 9/ ص 89/ باب تحريم الكذب/ ح 10304/28)؛ وجامع أحاديث الشيعة للسيِّد البروجردي (ج 13/ ص 566).

إنَّها حالات يعيشها كثير من الناس، وحتَّىٰ تكون الصورة واضحة نذكر بعضاً من الصُّوَر البشعة للكذب ضمن النقاط التالية، لنكون علىٰ بيِّنة منها، ونعمل علىٰ اجتنابها بعون الله تعالىٰ وتوفيقه:

النقطة الأولى: الكذب بالإخبار:

فمثلاً تسأله عن حالته المادّية فيقول: أنا لا أملك حتَّىٰ قوت يومي!

أو تسأله: هل أنت في البيت؟ فيقول لك: أنا في القطب الشمالي!

وثالث تسأله عن حاجة تريد أن تستعيرها منه فيحلف لك أنَّها كُسِرَت!

ورابع يحلف أنَّه اشترىٰ سلعته بكذا مبلغ وهو لم يربح عليها إلَّا دريهمات قليلة!

وخامس وسادس وعاشر وألف...

أنا متأكِّد أنَّ الكثير منّا قد واجه مثل هذه الحالات أو غيرها، وهي حالات متفشِّية في المجتمع، ولا نجد من ينهىٰ عنها إلَّا كمطر الصحراء في القيظ.

علىٰ المرء أن يكون حذراً من الكذب في إخباره، فإنَّه يمحق الدِّين.

عن أمير المؤمنين عليٍّ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «إنَّ الكذب يهدي إلىٰ الفجور، والفجور يهدي إلىٰ النار، وما يزال أحدكم يكذب حتَّىٰ يقال: كذب وفجر، وما يزال أحدكم يكذب حتَّىٰ لا يبقىٰ في قلبه موضع إبرة صدق، فيُسمّىٰ عند الله كذّاباً»(1).

ص: 231


1- أمالي الشيخ الصدوق (ص 505/ ح 696/9).

النقطة الثانية: خُلف الوعد:

عادة سيِّئة، يمقتها الجميع, ولكن قد يبتلي بها الكثير مع الأسف.

هناك رجل يخرج صباحاً إلىٰ عمله، سيتعلَّق به ولده يريده أن يأخذه معه، فيعده بأنَّه إذا بقي سيجلب له كرة قدم أو لعبة يُحِبُّها، ويرجع الولد بخُفَّي حُنين! فلا يرىٰ من أبيه إلَّا الكذب وخُلف الوعد.

قد يعد رجل صاحبه بأنَّه سيزوره في بيته إذا وصل إلىٰ المدينة التي يسكنها، ولكنَّه سيمرُّ علىٰ بيته وكأنَّ شيئاً لم يكن.

المرأة وحتَّىٰ تُسكت ولدها تقول له: دعني أنم قليلاً وعندما أس_تيقظ سأُعطيك حلوىٰ! وتنام وتستيقظ، والولد يغفو علىٰ زيف الوعود المداف في عسل الكلام!

عن عبد الله بن عامر أنَّه قال: أتانا رسول الله (صلّىٰ الله عليه [وآله] وسلَّم) في بيتنا وأنا صبيٌّ، قال: فذهبت أخرج لألعب، فقالت أُمّي: يا عبد الله، تعالَ أُعطك. فقال رسول الله (صلّىٰ الله عليه [وآله] وسلَّم): «وما أردتِ أن تُعطيه؟»، قالت: أُعطيه تمراً، قال: فقال رسول الله (صلّىٰ الله عليه [وآله] وسلَّم): «أمَا إنَّك لو لم تفعلي كُتِبَت عليكِ كذبة»(1).

وعن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: قال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «أحبُّوا الصبيان وارحموهم، وإذا وعدتموهم شيئاً ففوا لهم، فإنَّهم لا يدرون إلَّا أنَّكم ترزقونهم»(2).

وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «المنع الجميل أحسن من الوعد الطويل».

ص: 232


1- مسند أحمد بن حنبل (ج 3/ ص 447).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 49/ باب برّ الأولاد/ ح 3).

وعنه (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «ملاك الوعد إنجازه».

وعنه (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «لا تعد بما تعجز عن الوفاء به».

وعنه (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «لا تعدنَّ عِدة لا تثق من نفسك بإنجازها»(1).

النقطة الثالثة: اليمين الغموس:

فُسِّر اليمين الغموس بتفسيرين:

الأوَّل: اليمين الكاذبة في مقام فصل الدعوىٰ(2).

الثاني: القسم كاذباً علىٰ شيء مض_ىٰ أو الإخبار بش_يء في الحال، كأن يقول: والله لقد فعلت كذا، مع أنَّه لم يفعله، أو يقول: أُقسم بالله أنَّ المال الفلاني هو لي، مع أنَّه يعلم أنه ليس ماله. وقد سُمّي هذا القسم في الروايات باليمين الغموس، أي اليمين التي تأخذ صاحبها إلىٰ جهنَّم، وتُسمّىٰ أيضاً: اليمين الكاذبة، واليمين الحالقة، فكما أنَّ الشفرة تقتلع الشعر عن البدن، فهذا القسم يقتلع الدِّين عن صاحبه(3).

قد يأخذ المرء شيئاً ليس له بيمين كاذبة، وقد يتخلَّص من موقف

ص: 233


1- موسوعة أحاديث أهل البيت (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) للشيخ هادي النجفي (ج 12/ ص 202 و203/ ح 15286 - 15289).
2- منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني (ج 3/ مسألة 683)، وتكملة المسألة: (ويُستثنىٰ منها اليمين الكاذبة التي يقصد بها الشخص دفع الظلم عنه أو عن سائر المؤمنين، بل قد تجب فيما إذا كان الظالم يُهدِّد نفسه أو عِرضه أو نفس مؤمن آخر أو عِرضه، ولكن إذا كان ملتفتاً إلىٰ إمكان التورية وكان عارفاً بها ومتيسِّ_رة له فالأحوط وجوباً أن يُورّي في كلامه بأن يقصد بالكلام معنىٰ غير معناه الظاهر بدون قرينة موضِّحة لقصده، فمثلاً إذا حاول الظالم الاعتداء علىٰ مؤمن فسأله عن مكانه وأين هو؟ يقول: (ما رايته)، فيما إذا كان قد رآه قبل ساعة ويقصد به أنَّه لم يرَه منذ دقائق).
3- الذنوب الكبيرة للسيِّد عبد الحسين دستغيب (ج 1/ ص 261).

محرج بها، وقد يُمرِّر خديعة علىٰ مغفَّل بها، وقد يُثبِّت قوله من دون دليل بها، ولكنَّه لا يعلم أنَّه بذلك يخسر دينه وإيمانه!

روي عن النبيِّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أنَّه قال: «من حلف علىٰ يمين وهو يعلم أنَّه كاذب فقد بارز الله بالمحاربة، وإنَّ اليمين الكاذبة تذر الديار بلاقع من أهلها، وتورث الفقر في العقب، وإنَّه لا يعرف عظمة الله من يحلف به كاذباً»(1).

روي أنَّه اختصم امرؤ القيس ورجل من حض_رموت إلىٰ رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) في أرض فقال: «ألك بيِّنة؟»، قال: لا، قال: «فيمينه؟»، قال: إذاً والله يذهب بأرضي! قال: «إن ذهب بأرضك بيمينه، كان ممَّن لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يُزكّيه وله عذاب أليم»، قال: ففزع الرجل وردَّها إليه(2).

فابتعد عن اليمين، صادقه وكاذبه، فإنَّ الله تعالىٰ يقول: ]وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ[ (البقرة: 224).

هذا وقد ورد الثواب العظيم علىٰ ترك اليمين حتَّىٰ إذا أمكن استنقاذ الحقِّ به وهو صادق فيه، فقد روي عن أبي بصير، قال: حدَّثني أبو جعفر (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) «أنَّ أباه كان تحته امرأة من الخوارج أظنُّها كانت من بني حنيفة، فقال له مولىٰ له: يا ابن رسول الله، إنَّ عندك امرأة تتبرَّأ من جدِّك، قال: فعقر، فعلمت أنَّه طالقها، فادَّعت عليه صداقها، فجاءت به إلىٰ أمير المدينة تستعديه عليه، فقالت: لي عليه صداقي أربعمائة دينار، فقال الوالي: ألكِ بيِّنة؟ فقالت: لا، ولكن خذ يمينه. فقال والي المدينة: يا

ص: 234


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 101/ ص 283).
2- أمالي الشيخ الطوسي (ص 358/ ح 744/84).

عليُّ، إمَّا أن تحلف وإمَّا أن تعطيها. فقال لي: يا بُنَيَّ، قم فأعطها أربعمائة دينار، فقلت: يا أبه جُعلت فداك ألستَ محقًّا؟ فقال: بلىٰ يا بُنَيَّ، ولكنّي أجللت الله أن أحلف به يمين صبر»(1).

وهكذا ورد الفضل علىٰ من يترك استحلاف غريمه إذا علم أنَّه يحلف ولو كاذباً، فقد روي عن النبيِّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «من قدَّم غريماً إلىٰ السلطان يستحلفه، وهو يعلم أنَّه يحلف، ثمّ تركه تعظيماً لله (عزوجل)، لم يرضَ الله له بمنزلة يوم القيامة إلَّا منزلة إبراهيم خليل الرحمن (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)»(2).

النقطة الرابعة: الكذبة البيضاء أو الكذيبة

(3):

يشتهي البعض أن يُقسِّم الكذب إلىٰ كذب أبيض وآخر أسود، وأنَّ الكذبة البيضاء لا ضير فيها، وقد يُقسِّمه إلىٰ كذب وكُذيبة، والكُذيبة لا ضير فيها، مستنداً في ذلك إلىٰ أنَّ بعض الكلمات التي تصدر كذباً ليس وراءها ضرر، أو أنَّه كذب عفواً ومن دون قصد، أو أنَّه تعود الكذب في حالة ما، وما شابه هذه الأعذار. ويدخل ضمن هذا السياق ما يُسمّىٰ ب_ (كذبة نيسان)، التي يُروِّج لها الإعلام كلَّ عام، ومن دون مبرِّر عقلائي سوىٰ تقليد الغرب في تلك الكذبة!

ولكنَّه تقسيم تبرُّعي لا تشهد له آية ولا رواية، وعموم أدلَّة تحريم الكذب يشمل ما يُسمّىٰ بالكذبة البيضاء أو الكُذيبة.

روي عن أسماء بنت عميس أنَّها قالت: كنت صاحبة عائشة التي هيَّأتها وأدخلتها علىٰ رسول الله (صلّىٰ الله عليه [وآله] وسلَّم) ومعي

ص: 235


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 7/ ص 435/ باب كراهية اليمين/ ح 5).
2- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق (ص 130).
3- قطاف شهر رمضان للمؤلِّف (ص 60).

نسوة، قالت: فوَالله ما وجدنا عنده قرىٰ إلَّا قدحاً من لبن، قالت: فش_رب ثمّ ناوله عائشة، فاستحيت الجارية، فقلنا: لا تردّي يدَّ رسول الله (صلّىٰ الله عليه [وآله] وسلَّم) خذي منه، فأخذته علىٰ حياء، فش_ربت منه، ثمّ قال: «ناولي صواحبكِ»، فقلنا: لا نشتهيه، فقال: «لا تجمعنَّ جوعاً وكذباً»، قالت: فقلت: يا رسول الله، إن قالت إحدانا لش_يء تشتهيه: لا أشتهيه يُعَدُّ ذلك كذّاباً؟ قال: «إنَّ الكذب ليُكتَب كذباً حتَّىٰ تُكتَب الكُذيبة كُذيبة»(1).

وعن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه أتاه مولىٰ له فسلَّم عليه ومعه ابنه إسماعيل فسلَّم عليه وجلس، فلمَّا انص_رف أبو عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) انص_رف معه الرجل، فلمَّا انتهىٰ أبو عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) إلىٰ باب داره دخل وترك الرجل، وقال له ابنه إسماعيل: يا أبه، ألَا كنت عرضت عليه الدخول؟ فقال: «لم يكن من شأني إدخاله»، قال: فهو لم يكن يدخل، قال: «يا بُنَيَّ، إنّي أكره أن يكتبني الله عرّاضاً»(2).

ملحق: موارد جواز الكذب:

ينبغي أن نُنبِّه هنا إلىٰ أنَّ الكذب وإن كان قبيحاً، ولكن الإسلام جوَّز للمرء أن يكذب في حالات خاصَّة، تكون عاقبة الكذب فيها خيراً لا شرًّا. وهذه الحالات هي: (دفع الض_رر عن نفسه أو عن المؤمن، بل يجوز الحلف كاذباً، ويجوز الكذب أيضاً للإصلاح بين المؤمنين، والأحوط وجوباً الاقتصار فيها علىٰ صورة عدم تيسُّر التورية)(3).

ص: 236


1- مسند أحمد بن حنبل (ج 6/ ص 438).
2- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 2/ ص 417/ ح 180).
3- موقع استفتاءات السيِّد السيستاني (https://www.sistani.org/arabic/qa/).

روي عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) في حديث أنَّه قال: «والكذب كلُّه إثم، إلَّا ما نفعتَ به مؤمناً، أو دفعتَ به عن دِين»(1).

وروي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «الكذب مذموم إلَّا في أمرين: دفع شرِّ الظلمة، وإصلاح ذات البين»(2).

* * *

ص: 237


1- مستدرك الوسائل للميرزا النوري (ج 9/ ص 95 و96/ باب جواز الكذب في الإصلاح.../ ح 10322/7).
2- مستدرك الوسائل للميرزا النوري (ج 9/ ص 95 و96/ باب جواز الكذب في الإصلاح.../ ح 10323/8).

ص: 238

المفردة الثالثة عشرة:

اشارة

الاستخفاف والتهاون

بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

· الخطر: الانفلات الفردي والاجتماعي.

· الأثر: ولاية الأشرار، وعدم استجابة الدعاء.

· التوصية: إنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يُنقِصان من رزق ولا يُدنِيان من أجل.

ص: 239

ص: 240

متعدِّدة هي الركائز التي استند إليها الإسلام، والتي جعلت منه الدِّين الخاتم، وجعلت المسلمين خير الأُمَم، ولكن مهما عظمت تلك الركائز فلا أعظم من ركيزة ومبدأ (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، إذ اعتبره القرآن الكريم مبدأً مقدَّماً علىٰ مبدأ (الإيمان)، قال تعالىٰ: ]كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ[ (آل عمران: 110).

كيف لا، وإنَّما الطريق إلىٰ الإيمان هو الأم_ر بالمعروف والنهي عن المنكر؟!

وهل بدأ الإسلام إلَّا به، «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ 214» (الشعراء: 214)؟

وهل نُشِ_رَ الإسلام إلَّا به، «أُمرت أن أُقاتل الناس حتَّىٰ يقولوا: لا إله إلَّا الله، فإذا قالوها فقد حرم عليَّ دماؤهم وأموالهم»(1).

وقال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «وَمَا أَعْمَالُ الْبِرِّ كُلُّهَا والْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ عِنْدَ الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنْ المُنْكَرِ إِلَّا كَنَفْثَةٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ، وَإِنَّ الأَمْرَ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ لَا يُقَرِّبَانِ مِنْ أَجَلٍ، وَلَا يَنْقُصَانِ مِنْ رِزْقٍ، وَأَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّه كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ إِمَامٍ جَائِرٍ»(2).

ص: 241


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلس_ي (ج 65/ ص 242): عن عليٍّ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: قال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)...
2- نهج البلاغة (ج 4/ ص 89 و90.

وروي عنه (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أنَّه قال: «قوام الش_ريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقام الحدود»(1).

ه___ذا، ولكن اليوم - وربَّما منذ الأمس - نجد أنَّ الكثير من الناس تركوا هذا المبدأ وكأنَّه لم يُولَد، فتجد أنَّ كثيراً من الحالات تمرُّ علىٰ المرء وهي تستدعي منه موقفاً للأمر بالمعروف أو للنهي عن المنكر، ولكن لا مجيب.

هل امتنعت عن تقبيل زوجة عمِّك أو زوجة خالك رغم أنَّها تعتبرك كابنها وسيُحزنها عدم تقبيلك وسوف يعتبرونك آنذاك (معقَّداً)؟!

هل أخذ أحدهم عندك غيبة فلم تنهه عن الغيبة باعتبار أنَّه صديقك وأنت خجول؟!

هل صعدت في سيّارة أحدهم وكان أن جاملك وأخذ منك أُجرة قليلة وسامحك في الباقي وقد فتح الراديو أو المسجَّل علىٰ أُغنية أو موسيقىٰ محرَّمة فاستحييت أن تقول له: أطفئ المذياع؟!

هل جاءك ضيف عزيز قد اشتقت إلىٰ رؤيته، وكان قد جلب معه الهدايا للأطفال، ولم ينسَ زوجتك بثوب جميل، ولم يدعك تنتظر كثيراً حتَّىٰ أخرج لك هديتك الخاصَّة، وأثناء ما أنت منشغل بغمرة الس_رور وبهجة الهدايا وإذا ب_ (هاتفه المحمول) يرنُّ هاتفاً بصوت أحد المغنّين أو المغنّيات؟! فماذا فعلت حينها؟

وهل مررتَ يوماً في شارع فرأيت صِبْية متوحِّشين قد اجتمعوا علىٰ افتراس صبيٍّ وديع لا يستطيع أن يدفع الضيم عن نفسه، وكانت

ص: 242


1- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 370).

نص_رته متوقِّفة علىٰ أن تتنازل قليلاً عن هيبتك ووقارك وربَّما سيسقط بعض ردائك أو ربَّما ستضطرُّ إلىٰ التخلّي عن منظرك الجذّاب ولربَّما تعرَّض حذاؤك للأوساخ رغم أنَّك قد قمت بتلميعه قبل قليل؟! ماذا فعلتَ حينها؟!

وهل وهل وهل...

إنَّها حالات لا تُعَدُّ، ويصعب إحصاؤها، تُوجِب علينا إقامة هذا المبدأ. ولكن - وللأسف - مات هذا المبدأ في قلوب الكثيرين إلَّا من قليلٍ منهم.

خطر ترك هذه الفريضة:

ربَّما يسهل علىٰ البعض التهاون بهذه الفريضة، وربَّما ينام ليله مطمئنًّا مرتاح البال بأنَّه لم يؤذِ أحداً في يومه السابق أو حياته كلِّها، ولا يهمُّه أنَّه ترك أمراً إلهيًّا، والحال أنَّ ترك هذا المبدأ له آثار وخيمة علىٰ الفرد والمجتمع، وقد ذكرت الروايات الش_ريفة عدَّة آثار سلبية علىٰ تركه، ويكفي أنَّ تركه هو مبدأ كلِّ الويلات علىٰ المجتمع، فقد روي عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله (صلّىٰ الله عليه [وآله] وسلَّم): «إنَّ أوَّل ما دخل النقص علىٰ بني إسرائيل كان الرجل يلقىٰ الرجل فيقول: يا هذا اتَّق الله ودع ما تصنع فإنَّه لا يحلُّ لك، ثمّ يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلمَّا فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض...»(1).

ومن تلك الآثار هي التالي:

ص: 243


1- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 3/ ص 67/ ح 5527)؛ وسنن أبي داود (ج 2/ ص 322).

1 - تسلُّط الأشرار.

2 - عدم استجابة الدعاء.

3 - نزول العذاب واللعن الإلهي.

4 - اختلاف القلوب وعدم انسجامها.

5 - ذهاب البركة.

يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «لَا تَتْرُكُوا الأَمْرَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ فَيُوَلَّىٰ عَلَيْكُمْ شِرَارُكُمْ ثُمَّ تَدْعُونَ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ...»(1).

وروي عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا علىٰ البرِّ، فإذا لم يفعلوا ذلك نُزِعَت منهم البركات، وسُلِّط بعضهم علىٰ بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء»(2).

وعنه(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «ولقد أوحىٰ الله فيما مض_ىٰ قبلكم إلىٰ جبرئيل، وأمره أن يخسف ببلد يشتمل علىٰ الكفّار والفجّار! فقال جبرئيل: يا ربِّ، أخسف بهم إلَّا بفلان الزاهد؟ ليعرف ماذا يأمر الله به. فقال الله (عزوجل): بل اخسف بفلان قبلهم، فسأل ربَّه، فقال: يا ربِّ، عرِّفني لِ_مَ ذلك وهو زاهد عابد؟ قال: مكَّنت له وأقدرته، فهو لا يأمر بالمعروف، ولا ينهىٰ عن المنكر، وكان يتوفَّر علىٰ حبِّهم في غضبي لهم»، فقالوا: يا رسول الله، وكيف بنا ونحن لا نقدر علىٰ إنكار ما نشاهده من منكر؟ فقال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهُنَّ عن المنكر، أو ليعُمَّنَّكم

ص: 244


1- نهج البلاغة (ج 3/ ص 77).
2- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي (ج 6/ ص 181/ باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر/ ح 373/22).

عقاب الله»، ثمّ قال: «من رأىٰ منكم منكراً فليُنكره بيده إن استطاع، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، فحسبُه أن يعلم اللهُ من قلبه أنَّه لذلك كاره»(1).

اعتذارات واهية:

واضح أنَّ الدِّين الإسلامي عندما أمر بإقامة هذه الفريضة فإنَّه جعلها ضمن إطار محدَّد إذا توفَّر وجب إقامتها، وهو ما ذكره الفقهاء في رسائلهم العملية في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(2).

ص: 245


1- التفسير المنسوب للإمام العسكري (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) (ص 480/ في ذمِّ ترك الأمر بالمعروف/ ح307).
2- لإتمام الفائدة أنقل هنا ما جاء في منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني (ج 1/ ص 464 - 466)، ونصُّه: (يُشتَرط في وجوب الأمر بالمعروف الواجب، وفي النهي عن المنكر أُمور: الأوَّل: معرفة المعروف والمنكر ولو إجمالاً، فلا يجب الأمر بالمعروف علىٰ الجاهل بالمعروف، كما لا يجب النهي عن المنكر علىٰ الجاهل بالمنكر، نعم، قد يجب التعلُّم مقدّمة للأمر بالأوَّل والنهي عن الثاني. الثاني: احتمال ائتمار المأمور بالمعروف بالأمر، وانتهاء المنهي عن المنكر بالنهي، فإذا لم يحتمل ذلك وعلم أنَّه لا يبالي بالأمر أو النهي ولا يكترث بهما، فالمشهور بين الفقهاء (رضوان الله تعالى عليهم) أنَّه لا يجب عليه شيء تجاهه، ولكن لا يُترَك الاحتياط بإظهار الكراهة فعلاً أو قولاً ولو مع عدم احتمال الارتداع به. الثالث: أن يكون تارك المعروف أو فاعل المنكر بصدد الاستمرار في ترك المعروف وارتكاب المنكر، فإذا كانت أمارة علىٰ ارتداع العاصي عن عصيانه لم يجب شيء، بل لا يجب بمجرَّد احتمال ذلك احتمالاً معتدًّا به، فمن ترك واجباً أو فعل حراماً واحتمل كونه منص_رفاً عنه أو نادماً عليه لم يجب شيء تجاهه. ولو عرف من الشخص عزمه علىٰ ارتكاب المنكر أو ترك المعروف ولو لمرَّة واحدة، وجب أمره أو نهيه قبل ذلك. Z [ الرابع: أن يكون المعروف والمنكر منجَّزاً في حقِّ الفاعل، فإن كان معذوراً في فعله المنكر أو تركه المعروف لاعتقاد أنَّ ما فعله مباح وليس بحرام، أو أنَّ ما تركه ليس بواجب، وكان معذوراً في ذلك للاشتباه في الموضوع أو الحكم اجتهاداً أو تقليداً لم يجب شيء تجاهه، وكذا إذا لم يكن معذوراً في فعله في بعض الموارد كما إذا عجز عن الجمع بين امتثال تكليفين بسوء اختياره وصرف قدرته في امتثال الأهمّ منهما، فإنَّه لا يكون معذوراً في ترك المهمِّ وإن كانت وظيفته عقلاً الإتيان بالأهمِّ انتخاباً لأخفِّ القبيحين بل والمحرَّمين. هذا ولو كان المنكر ممَّا لا يرضىٰ الشارع بوجوده مطلقاً كالإفساد في الأرض وقتل النفس المحترمة ونحو ذلك فلا بدَّ من الردع عنه ولو لم يكن المباشر مكلَّفاً فضلاً عمَّا إذا كان جاهلاً بالموضوع أو بالحكم. الخامس: أن لا يلزم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضرر علىٰ الآمر في نفسه أو عِرضه أو ماله بالمقدار المعتدِّ به، وكذا لا يلزم منه وقوعه في حرج لا يتحمَّله عادة، فإذا لزم الض_رر أو الحرج لم يجب عليه ذلك إلَّا إذا أحرز كونه بمثابة من الأهمّية عند الشارع المقدَّس يهون دونه تحمُّل الض_رر أو الحرج. ولا فرق فيما ذُكِرَ بين العلم بلزوم الض_رر أو الظنِّ به أو الاحتمال المعتدِّ به عند العقلاء الموجب لصدق الخوف. وإذا كان في الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر خوف الإضرار ببعض المسلمين في نفسه أو عِرضه أو ماله المعتدِّ به سقط وجوبه، نعم إذا كان المعروف والمنكر من الأُمور المهمَّة شرعاً فلا بدَّ من الموازنة بين الجانبين بلحاظ قوَّة الاحتمال وأهمّية المحتمل، فربَّما لا يُحكَم بسقوط الوجوب به.

ولكن ربَّما تمسَّك بعضٌ من الناس ببعض الأعذار التي توهَّموا أنَّها تُبيح لهم ترك هذه الفريضة، وهي في الحقيقة ليست كذلك، نذكر منها عذرين يدوران علىٰ ألسنة البعض:

العذر الأوَّل(1): أنَّ تغيير الآخر أمر مستحيل، خصوصاً إذا تعوَّد أمراً ما.

في يوم من الأيّام بعث الرسولُ الأكرم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أميرَ المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) إلىٰ

ص: 246


1- راجع: الهدىٰ والضلال في القرآن الكريم للمؤلِّف (ص 118 - 124)، ونقلته هنا أيضاً لأهمّيته.

اليمن، فقال له آنذاك: «يا عليُّ، لا تقاتلن أحداً حتَّىٰ تدعوه، وأيم الله، لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك ممَّا طلعت عليه الشمس وغربت، ولك ولاؤه يا عليُّ»(1).

لا يحتاج أحد بعد سماع هذا الحديث والأحاديث السابقة أن يتساءل عن عظمة ثواب هداية الناس، ولكن المشكلة تكمن في دعوىٰ، يُطبِّل لها البعض بأفعالهم وأقوالهم، إذ يقولون: إنَّ الأخلاق والطباع والعقائد غير قابلة للتغيير، فمن كانت ذاته ملوَّثة في الأصل يكون مجبولاً علىٰ الشرِّ، فهو يُولَد شرّيراً ويبقىٰ شرّيراً، ولسان حاله يقول:

إذا كان

الطباعُ طباعَ سوءٍ

فلا أدبٌ يفيدُ

ولا أديبُ(2)

وأنت إذا تأمَّلت في هذه المقولة لوجدتها تدعو بص_راحة إلىٰ توقيف وإلغاء مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلىٰ إلغاء مبدأ التناصح بين المؤمنين، وتدعو إلىٰ مبدأ (عيسىٰ بدينه وموسىٰ بدينه) كما يُعبِّر العرف العامُّ!

وهذه الدعوة تلغي أهمَّ هدف من أهداف البعثات السماوية للأنبياء والمرسَلين، وهي هداية الناس المنحرفين وإرجاعهم إلىٰ طريق القويم.

أدلَّة إمكان التغيير:

وعلىٰ كلِّ حالٍ فهذه الشبهة باطلة، وهناك الكثير من الأدلَّة علىٰ إمكانية التغيير، نذكر منها:

ص: 247


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 28/ باب وصيَّة رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ).../ ح 4).
2- راجع: المستطرف في كلِّ فنٍّ مستظرف للأبشيهي (ج 1/ ص 345).

1 - لقد بات واضحاً أنَّ الإنسان استطاع بطريقة وبأُخرىٰ ترويض الحيوانات الوحشية لتطيع أوامره ولتؤدّي أعمالاً هي غاية في الأُلفة والسلام، بحيث إنَّها بعيدة جدًّا عن التص_رُّفات التي جُبِلَت عليها تلك الحيوانات.

أفهل الحيوان عديم العقل أفضل حالاً من الإنسان صاحب جوهرة العقل الملكوتية؟!

وأكثر من ذلك، نجد الإنسان قد عالج بعض النباتات المثمرة بعملية تُسمّىٰ علمياً بالتطعيم، لينتج شجرة من نوع جديد تُعطي ثمراً يختلف عن ثمرة الشجرة الأصل! أفلا يكون قادراً علىٰ تغيير الإنسان من الأسوأ إلىٰ الأحسن؟!

2 - إنَّ التاريخ والواقع شاهدان علىٰ أنَّ كثيراً من الأفراد الذين كانوا لا يرعون إلّاً ولا ذمَّةً، عتاة مردة، لا يعيرون للأخلاق أيَّ أهمّية، وإذا بهم وعلىٰ إثر حادث ما تنقلب أحوالهم ليكونوا من الزُهّاد والعُبّاد، وليس بعيداً عنك قصَّة بش_ر الحافي، ولا توبة الفضيل بن عياض، ولا أوبة مالك بن دينار.

وقَصص التوّابين أكثر من أن يُذكر لها شاهد واحد.

وهذا إن دلَّ علىٰ شيء، فإنَّما يدلُّ علىٰ إمكانية تغيير الأخلاق، إذ الوقوع أدلُّ دليل علىٰ الإمكان.

3 - إنَّ من أهمِّ أهداف الأنبياء هي تزكية أخلاق الناس وهدايتهم، ولو كانت الأخلاق لا تتغيَّر، فهل تتوقَّع من الله تعالىٰ - وهو الحكيم - أن يُرسِل الأنبياء عبثاً لتغيير أخلاق الناس؟! حاشا وكلَّا.

وما حال العرب قبل مجيء النبيِّ الأكرم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وتغيُّره إلىٰ ما بعد

ص: 248

مجيئه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ إلَّا دليل علىٰ ذلك. وما ألطف ما تكلَّم به جعفر بن أبي طالب (رضوان الله تعالىٰ عليه) مع مَلِك الحبشة في ذلك، حيث قال له:

(أيُّها الملك، كنّا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونس_يء الجوار، يأكل القويُّ منّا الضعيفَ، فكنّا علىٰ ذلك حتَّىٰ بعث الله إلينا رسولاً منّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلىٰ الله لنُوحِّده ونعبده، ونخلع ما كنّا نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفِّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نُش_رك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام...، فصدَّقناه، وآمنا به، واتَّبعناه علىٰ ما جاء به، فعبدنا الله وحده فلم نُش_رك به شيئاً، وحرَّمنا ما حرَّم علينا، وأحللنا ما أحلَّ لنا)(1).

وهذا ما بيَّنته الزهراء (عَلَيْهِا اَلسَّلاَمُ) في خطبتها حيث قالت: «... وكنتم علىٰ شفا حفرة من النار، مذقة(2) الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تش_ربون الطرق(3)، وتقتاتون القدَّ(4)، أذلَّة خاسئين، تخافون أن يتخطَّفكم الناس من حولكم...»(5).

4 - هناك الكثير من الآيات القرآنية الدالَّة علىٰ أنَّ الإنسان قادر علىٰ تغيير خصاله واختيار الأخلاق الحسنة، يقول تعالىٰ: ]وَنَفْسٍ وَما

ص: 249


1- مسند أحمد بن حنبل (ج 1/ ص 202).
2- المذقة: اللبن الممزوج بالماء، كناية عن سهولة شربه.
3- الطرق: الماء الذي خوَّضته الإبل وبركت فيه.
4- القدُّ: قطعة جلد غير مدبوغة.
5- الاحتجاج للطبرسي (ج 1/ 135 و136).

سَوَّاها 7 فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها 8 قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها 9 وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها 10[ (الشمس: 7 - 10).

(... فالتعبير بكلمة «دَسَّاها» والتي هي في الأصل بمعنىٰ خلط الش_يء بش_يء آخر غير مرغوب فيه من غير جنسه، مثل دسِّ الحنطة بالتراب، يُبيِّن لنا أنَّ الطبيعة الإنسانية مجبولة علىٰ الصفاء والنقاوة والتقوىٰ، والتلويث والرذائل تعرض عليها من الخارج وتنفذ إليها، والاثنان قابلان للتغيير والتبدُّل...)(1).

5 - الروايات الكثيرة الدالَّة علىٰ إمكانية تغيير الأخلاق، كقول النبيِّ الأكرم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «إنَّما بُعثت لأُتمِّم مكارم الأخلاق»(2)، وقوله لجرير بن عبد الله: «إنَّك امرؤٌ قد أحسن الله خَلْقك فأحسن خُلُقك»(3).

العذر الثاني: أنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يُسبِّب في حالات كثيرة إحراج الآخر وإدخال الحزن علىٰ قلبه، وقد يُؤدّي إلىٰ قطع العلاقات الاجتماعية والتنفُّر من القائم به، فإنَّ الناس يبغضون الذي يُنغِّص عليهم عيشتهم، وهو يُعتَبر تدخُّلاً في الأُمور الشخصية، وهو ما لا يرضاه أيُّ أحد، والإسلام لا يرضىٰ بذلك.

عجباً، ما أكثر من يحفظ شيئاً وتغيب عنه أشياء كثيرة.

ومتىٰ كان تصحيح مسار الآخر إحراجاً له؟!

ومتىٰ كان العمل علىٰ بناء الآخر هدماً للعلاقة معه؟!

ومتىٰ كان إرشاد التائه تدخُّلاً في أُموره الشخصية غير المسموح به؟!

ص: 250


1- الأخلاق في القرآن للشيخ ناصر مكارم الشيرازي (ج 1/ ص 25).
2- مكارم الأخلاق للطبرسي (ص 8)؛ وبحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 16/ ص 210).
3- تنبيه الخواطر (مجموعة ورّام) (ص 98).

إنَّ الإسلام لم يغفل عن الحالة النفسية المقابل، بل أمر الفرد الآمر بالمعروف أن يتقصّ_ىٰ الطُّرُق المناسبة واللبقة مع المقابل، وأدبيات الأحاديث الش_ريفة ذكرت عدَّة أُطر لا بدَّ أن تُؤطَّر بها تلك الفريضة، كأُطُر أخلاقية تزيد من احتمالية التأثير، وتُقلِّل من نسبة المقاومة السلبية للموعظة، وأهمُّ تلك الأُطُر هي:

أوَّلاً: الرفق بالآخر

(1):

إنَّ من أهمِّ الصفات الأخلاقية التي ينبغي للمؤمن أن يلتزم بها هي صفة الرفق، تلك الصفة التي تجذب الآخر رغم أنَّك تقرعه علىٰ خطئه لكن برفق، وتلك التي تجعل حتَّىٰ العدوّ يعترف لك بالفضيلة إذا كنت رفيقاً به في ساعة العسرة.

إنَّها من أهمّ الصفات التي علينا التزامها إذا ما أردنا أن نعظ غيرنا بموعظة، أو ننهاه عن خطأ يمارسه، أو عن سلوك سلبي يقوم به.

تخيَّل لو رأيت شخصاً لم يقم للصلاة، وجئت له وقلت له: يا كافر، يا فاجر، أنت من كلاب جهنَّم، أنت أشبه باليهود والنصارىٰ، أنت أنجس من الخنزير...

يا لله، لا أستطيع أن أتصوَّر ردَّة الفعل التي سيواجهك بها، وأعتقد أنَّه سيرحمك كثيراً إذا اكتفىٰ منك بض_ربة كفٍّ مضمومة الأصابع كوكزة موسىٰ للقبطي!

ولكن تخيَّل معي لو جئت له وقلت: أنت تعلم يا أخي أنَّ الصلاة عمود الدِّين، إن قُبِلَت قُبِلَ ما سواها وإن رُدَّت رُدَّ ما سواها، وهي قربان كلِّ تقي، وأنا أتوسَّم فيك خيراً كثيراً، وأرىٰ ملامح التقىٰ بادية

ص: 251


1- راجع: قطاف شهر رمضان للمؤلِّف (ص 66).

علىٰ وجهك، فهلَّا قمت معي لنُصلّي هذه الركيعات التي ستجيئك نوراً يضيء لك قبرك، والتي ستعبر بك الصراط كالبرق الخاطف...

أنا متأكد أنَّه حتَّىٰ لو لم يقم ليُصلّي معك، فإنَّه سيردُّ عليك ردًّا رفيقاً، وستبقىٰ كلماتك ناقوساً يدقُّ في قلبه، وستبقىٰ محترماً وكبيراً في عينه، وسيُظهِر لك الاحترام في أيِّ مكان يراك فيه.

إذن، كما أنَّ من المهمِّ أمر الآخر بالمعروف، كذلك هو مهمُّ الأُسلوب المناسب الذي تتَّخذه معه.

عن عبد العزيز القراطيس_ي، قال: قال لي أبو عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «يا عبد العزيز، إنَّ الإيمان عش_ر درجات بمنزلة السُّلَّم يُصعَد منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولنَّ صاحب الاثنين لصاحب الواحد: لست علىٰ شيء، حتَّىٰ ينتهي إلىٰ العاشر، فلا تُسقِط من هو دونك فيُسقِطك من هو فوقك، وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق، ولا تحملنَّ عليه ما لا يطيق فتكسره، فإنَّ من كسر مؤمناً فعليه جبره»(1).

وفي رواية أُخرىٰ: «... وكان سلمان في العاشرة، وأبو ذرٍّ في التاسعة، والمقداد في الثامنة. يا عبد العزيز، لا تُسقِط من هو دونك فيُسقِطك من هو فوقك، إذا رأيت الذي هو دونك فقدرت أن ترفعه إلىٰ درجتك رفعاً رفيقاً فافعل، ولا تحملنَّ عليه ما لا يطيقه فتكس_ره، فإنَّه من كس_ر مؤمناً فعليه جبره، لأنَّك إذا ذهبت تحمل الفصيل حمل البازل(2) فسخته»(3).

ص: 252


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 45/ باب آخر من درجات الإيمان/ ح 2).
2- الفصيل ولد الناقة أو البقر إذا فُصِلَ عن اللبن، والبازل من الإبل الذي تمَّ ثماني سنين ودخل في التاسعة. (من المصدر).
3- الخصال للشيخ الصدوق (ص 448/ ح 49).

نعم، لا نُنكر أنَّ الإسلام أمرنا أن نلقىٰ أصحاب المعاصي بوجوه مكفهرَّة، ولكن من الواضح جدًّا أنَّ المقصود من لا يأتمر بمعروف ولا يتناه عن منكر بالتجربة والشواهد المتكرِّرة، وإلَّا هل يُعقَل أنَّ الإسلام يريد منّا هذا الأُسلوب مع كلِّ أحدٍ رأيناه علىٰ خطأ حتَّىٰ إذا كان يسمع الكلام ويتَّعظ منه؟!

ولذلك كان من أهمِّ صفات رسولنا الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) هي الرفق، يقول تعالىٰ: «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَىٰ اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ 159» (آل عمران: 159).

ولنتذكَّر: نحن نُحِبُّ أن يعاملنا الله تعالىٰ برفق، فلنتعامل بالرفق مع خلق الله (عزوجل).

وأنَّ الرسول الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) يقول: «إنَّ الرفق لم يُوضَع علىٰ شيء إلَّا زانه، ولا نُزِعَ من شيء إلَّا شانه»(1).

ثانياً: تحيُّن الظرف الملائم:

إنَّ الظروف المختلفة التي تمرُّ بالإنسان لا تجعله علىٰ حال واحدة من حيث التلقّي، فقد يمرُّ به ظرف يجعله يُحِبُّ أن يسمع من الآخر بكلِّ رحابة صدر، ولكنَّه قد يمرُّ بظرف يجعله يصيح حتَّىٰ بمن يُلقي التحيَّة عليه.

حتَّىٰ في الدعاء، هناك أوقات مناسبة للإجابة، وهناك ظروف إذا هيَّأها الفرد فربَّما يكون أقرب إلىٰ الإجابة، عندما يكون متوجِّهاً بقلبه وبروحه إلىٰ ربِّه، فهذا نبيُّ الله موسىٰ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) بعد تعب المسير وخوف

ص: 253


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 119/ باب الرفق/ ح 6).

الهرب ونصب السقي لابنتي شعيب، يستظلُّ بظلِّ شجرة ليُوفِّر لنفسه ظرفاً ملائماً ليدعو ربَّه، يقول تعالىٰ: «فَسَقىٰ لَهُما ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَىٰ الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ 24» (القَصص: 24).

والإسلام أخذ هذه القضيَّة بعين الاعتبار في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فحتَّىٰ يكون لكلامك وقع في قلب الآخر، وحتَّىٰ يقرب احتمال جني الثمرة من قولك، عليك أن تتحيَّن الظرف الملائم للإدلاء بالنصيحة والموعظة.

فعن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أنَّه قال: «إنّي لأتخوَّلكم بالموعظة تخوُّلاً، مخافة السأمة عليكم»(1).

وعن قيس بن أبي حازم، عن أبيه: رآني (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وهو يخطب وأنا في الشمس، فأمرني فحوَّلت إلىٰ الظلِّ(2).

وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «لا تتكلَّمَنَّ إذا لم تجد للكلام موقعاً»(3).

وعنه (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «كن كالطبيب الرفيق، الذي يضع الدواء بحيث ينفع»(4).

ثالثاً: الكناية أبلغ من التصريح

ثالثاً: الكناية أبلغ من التصريح(5):

كرامة الإنسان محفوظة في الإسلام في كلِّ الحالات، فلا ينبغي

ص: 254


1- أمالي الشيخ الطوسي (ص 491/ ح 1077/46).
2- مسند أحمد بن حنبل (ج 4/ ص 262)، نقله عنه الشيخ محمّد الريشهري في التبليغ في الكتاب والسُّنَّة (ص 172).
3- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 522).
4- مصباح الش_ريعة المنسوب للإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) (ص 21)، نقله عنه الشيخ محمّد الريشهري في التبليغ في الكتاب والسُّنَّة (ص 173).
5- قطاف شهر رمضان للمؤلِّف (ص 68).

لمؤمن أن يُذِلَّ آخر أبداً، ولذلك فمن المبادئ الأخلاقية لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو اتِّخاذ طريق الكناية ما وجدت إليه سبيلاً، فإنَّه في الوقت الذي يحفظ كرامة الآخر سيكون أكثر وقعاً في قلبه، وسوف لن تخس_ر مكانتك في قلبه، ممَّا يعني زيادة قوَّة احتمال تأثيرك فيه.

روي أنَّه كان (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) إذا بلغه عن الرجل الش_يء لم يقل: ما بال فلان يقول؟ ولكن يقول: «ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟»(1).

ففي الوقت الذي يخالفون فيه أمر رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) فإنَّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ يُنبِّههم علىٰ خطئهم لكن بأُسلوب كنائي لطيف.

عن خوات بن جبير، قال: نزلنا مع رسول الله (صلّىٰ الله عليه [وآله] وسلَّم) مر الظهران، قال: فخرجت من خبائي، فإذا أنا بنسوة يتحدَّثن، فأعجبنني، فرجعت، فاستخرجت عيبتي، فاستخرجت منها حلَّة، فلبستها وجئت، فجلست معهنَّ، وخرج رسول الله (صلّىٰ الله عليه [وآله] وسلَّم) من قبَّته، فقال: «أبا عبد الله، ما يُجلِسك معهنَّ؟»، فلمَّا رأيت رسول الله (صلّىٰ الله عليه [وآله] وسلَّم) هبته واختلطت، قلت: يا رسول الله، جمل لي شرد، فأنا أبتغي له قيداً، فمض_ىٰ...، وتوضَّأ، فأقبل والماء يسيل من لحيته علىٰ صدره - أو قال: يقطر من لحيته علىٰ صدره -، فقال: «أبا عبد الله، ما فعل شراد جملك؟»، ثمّ ارتحلنا، فجعل لا يلحقني في المسير إلَّا قال: «السلام عليك أبا عبد الله، ما فعل شراد ذلك الجمل؟»، فلمَّا رأيت ذلك تعجَّلت إلىٰ المدينة واجتنبت المسجد والمجالسة إلىٰ النبيِّ (صلّىٰ الله عليه [وآله] وسلَّم)، فلمَّا طال

ص: 255


1- سنن أبي داود (ج 2/ ص 434/ ح 4788).

ذلك تحيَّنت ساعة خلوة المسجد، فأتيت المسجد، فقمت أُصلّي، وخرج رسول الله (صلّىٰ الله عليه [وآله] وسلَّم) من بعض حجره فجأةً، فصلّىٰ ركعتين خفيفتين، وطوَّلت رجاءً أن يذهب ويدعني، فقال: «المريض أبا عبد الله، ما شئت أن تُطوِّل فلست قائماً حتَّىٰ تنص_رف»، فقلت في نفس_ي: والله لأعتذرنَّ إلىٰ رسول الله (صلّىٰ الله عليه [وآله] وسلَّم) ولأُبرِّئَنَّ صدره. فلمَّا قال: «السلام عليك أبا عبد الله، ما فعل شراد ذلك الجمل؟»، فقلت: والذي بعثك بالحقِّ، ما شرد ذلك الجمل منذ أسلم، فقال: «رحمك الله» ثلاثاً، ثمّ لم يعد لشيء ممَّا كان(1).

وعن عبد الله بن أبي بكر، قال: قمت إلىٰ متوضَّأ لي، فسمعت جارية لجارٍ لي تُغنّي وتض_رب، فبقيت ساعة أسمع، قال: ثمّ خرجت، فل_مَّا أن كان الليل دخلت علىٰ أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، فحين استقبلني قال: «الغناء اجتنبوا، الغناء اجتنبوا، الغناء اجتنبوا، اجتنبوا قول الزور»، قال: فما زال يقول: «الغناء اجتنبوا، الغناء اجتنبوا»، قال: فضاق بي المجلس وعلمت أنَّه يعنيني...(2).

* * *

ص: 256


1- المعجم الكبير للطبراني (ج 4/ ص 203 و204).
2- أمالي الشيخ الطوسي (ص 720 و721/ ح 1519/3).

المفردة الرابعة عشرة:

اشارة

الاستخفاف والتهاون

بالوقت

· الخطر: خسران رأس مال الإنسان.

· الأثر: اللّاهدفية، والتشويش والتعب المستمرّ.

· التوصية: إنَّما أنت عدد أيّام، فكلُّ يوم يمض_ي عليك يمض_ي ببعضك.

ص: 257

ص: 258

هل تعلم؟

إذا عمَّر شخص ما ستّين سنة - وهو المعدّل الطبيعي للأعمار -، فتقسيم عمره كالتالي(1):

1 - خمس سنوات طفولة.

2 - إذا درس بجدٍّ ومن دون رسوب ولا غياب إلىٰ أن تخرَّج من الجامعة، سيكون قد قضىٰ سنتين ونصف في المدرسة.

3 - إذا بدأ العمل بعمر الاثنين والعش_رين، واشتغل بجدٍّ واجتهاد بتواصل ودون انقطاع ودون إجازات مرضية لثمان ساعات في اليوم، يكون قد قضىٰ سبع سنوات ونصف من عمره في العمل.

4 - وإن كان يقض_ي ساعة واحدة علىٰ التلفزيون يكون قد قض_ىٰ عليه سنتين كاملتين من عمره.

5 - وإذا كان ينام ثمان ساعات يومياً، فهو يقض_ي عش_رين سنة من عمره في النوم!

6 - ساعة علىٰ الانترنت تعني سنتين كاملتين من عمره.

7 - في المعدّل يقض_ي الإنسان نصف ساعة يومياً في الحمّام بين قضاء الحاجة وبين الاستحمام، ممَّا يعني سنة وربع من عمره في الحمّام.

8 - معدّل المكث في السيّارة ساعة يومياً علىٰ الأقلّ، ممَّا يعني سنتين كاملتين في السيّارة. هذا في الدول والمُدُن غير المزدحمة.

ص: 259


1- برنامج (خواطر) لأحمد الشقيري/ الموسم الثالث/ الحلقة الخاصَّة بالوقت.

9 - الانتظار عند الحلّاق والطبيب، وزيارة المريض، والأُمور الاجتماعية الأُخرىٰ ستأخذ من حياته سبع سنوات تقريباً.

10 - الصلاة لا تأخذ من يومه سوىٰ نصف ساعة بالمعدّل، ممَّا يعني سنة واحدة فقط في الصلاة.

11 - الأكل يأخذ ساعة يومياً بالمعدَّل، ممَّا يعني سنتين كاملتين من عمره.

12 - الجوّال والاتِّصالات الأُخرىٰ تأخذ نصف ساعة يومياً ممَّا يعني سنة كاملة من عمره.

13 - زيارة الأصدقاء والمزاح وغيرها من الأُمور ستأخذ ساعة يومياً، ممَّا يعني سنتين كاملتين من عمره.

14 - إذا كان له إجازة شهر واحد في السنة، فهذا يعني أربع سنوات ونصف من عمره.

كثيراً ما نسمع الشكاوىٰ المستمرَّة من السواد الأعظم للناس بأنَّهم لا يملكون الوقت الكافي، وكثيراً ما نرىٰ أُناساً حياتهم مضطربة ومشوَّشة، وعادةً ما نرىٰ المتذمِّرين من الزمن.

هناك الكثير من الناس لا يجد وقتاً ليجلس فيه مع أفراد عائلته، ليلاطف زوجته، ويلاعب ابنه، ويضاحك ابنته، ويعطف علىٰ أبويه.

إنَّ صلة الرحم ماتت في النفوس يوم فقد الناس الوقت الكافي لها في زحمة المشاغل التي لا تنتهي.

إنَّ قراءة الكُتُب والمطالعات الثقافية صارت من سقط الزمان.

إنَّ الخروج مع العائلة في سفرة ترفيهية لمنطقة أثرية أو لحديقة غنّ_اء أو لمكان عبادة صارت ترفاً محرَّماً وضياعاً للعمر.

ص: 260

بل نجد الكثير منهم لا يجد وقتاً ليُصلّي صلاة جعفر الطيّار ولو مرَّةً واحدةً في حياته!

ولو سألت بعضاً من الناس: متىٰ كانت آخر مرَّة ختمت بها القرآن الكريم؟ لقال لك: وهل ختمته في حياتي مرَّة؟! هذا إذا كان قد قرأ ولو بعضاً من القرآن!

إنَّه لا يجد الوقت المناسب ليُصلّي الصلاة في وقتها، فضلاً عن أنَّه لم يُعِر لتعلُّم مسائله الفقهية الابتلائية أيَّ أهمّية، ولم يُعطِه أيَّ جزء من وقته!

فلماذا حصل ذلك كلُّه؟

كلُّ ذلك لأنَّ الوقت غير كافٍ، وأنا مشغول علىٰ طول الخطِّ، ولا أجد وقتاً لتلك الأُمور التي يعتبر العديد منها من الترُّهات.

والمفارقة هنا، أنَّنا نجد الكثير من الناس يشكون من وقت الفراغ الذي يحيط بهم!

فكثير منهم يقضي النهار يذرع الشوارع.

وآخرون يقضون ساعات طويلة سارحي البال من دون هدف.

والعديد منهم يقضون الساعات الطوال جالسين يتناقلون الأحاديث اللّامسؤولة، والتي لا تُسمن ولا تُغني من جوع.

لقد صارت الغيبة والنميمة فاكهة الكثير من المجالس.

لقد صار الكثير من الشباب البطّالين يقضون الساعات الطوال في قاعات الألعاب السخيفة، خاسرين بذلك وقتهم وجهدهم ومالهم، وربَّما سمعتهم.

ويأتي الطرفان - من لا يملك الوقت الكافي، ومن يعيش ما

ص: 261

يُسمّىٰ بوقت الفراغ - ليلقوا اللوم علىٰ الزمان الفاسد، الذي تغيَّر، وهجم علىٰ الناس وشتَّتهم...، إنَّه الزمن، فسد فأفسد الناس، وتغيَّر فتغيَّروا، وتلوَّن فتلوَّنوا، وضاع فضاعوا.

فهل هذا الأمر صحيح؟

إنَّ كلَّ عاقل - وبأدنىٰ تأمُّل - يرىٰ أنَّ الزمن ما هو إلَّا دقائق وثواني وساعات وأيّام وشهور وليل ونهار، وهذه الحقيقة كانت وما زالت علىٰ حالها، فالساعة ستُّون دقيقة، والدقيقة ستُّون ثانية، مذ خلق الله الكون وإلىٰ اليوم. والشتاء بارد، والصيف حارٌّ، مذ كان الشتاء شتاءً والصيف صيفاً.

إنَّه هو هو، لم يتغيَّر ولم يتلوَّن، وليس من شأنه أن يفسد هو أو يُفسِد غيره، وإنَّما هو مجرَّد وعاء لما يقع فيه، فأيُّ شيء يقع فيه فهو يقع من دون أن يتغيَّر نفس الزمن.

إذن، أين الخلل؟

عن الريّان بن الصلت، قال: أنشدني الرضا (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) لعبد المطَّلب:

يعيب الناس كلُّهم

زمانا

وما لزماننا

عيب سوانا

نعيب زماننا والعيب

فينا

ولو نطق الزمان

بنا هجانا

وإن الذئب يترك

لحم ذئب

ويأكل بعضنا

بعضاً عيانا

لبسنا للخداع

مسوك طيب

فويل للغريب

إذا أتانا(1)

وروي عن أبي موسىٰ الأشعري، قال: قال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا

ص: 262


1- عيون أخبار الرضا (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) للشيخ الصدوق (ج 1/ ص 190)؛ وبحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 49/ ص 111).

تسبُّوا الدنيا فنعمت مطيَّة المؤمن، فعليها يَبْلُغ الخير، وبها ينجو من الش_رِّ، إنَّه إذا قال العبد: لعن الله الدنيا، قالت الدنيا: لعن الله أعصانا لربِّه».

فأخذ الشريف الرضي ; هذا المعنىٰ فنظمه بيتاً:

يقولون الزمان به فساد *** فهم فسدوا وما فسد الزمان(1)

يقول أبو جعفر الشيباني: أتانا يوماً أبو مياس الشاعر، ونحن في جماعة، فقال: ما أنتم وما تذكرون؟ قلنا: نذكر الزمان وفساده (أي يعتبرون الزمان هو الفاسد وهو المسؤول عن الفساد)، قال: كلَّا! إنَّما الزمن وعاء، وما أُلقي فيه من خير أو من شرٍّ كان علىٰ حاله، ثمّ أنشأ يقول:

أرىٰ حُللاً تُصان علىٰ رجالٍ *** وأعراضاً تُهان ولا تُصَانُ

يقولون الزمان به فسادٌ *** وهم فسدوا وما فسد الزمانُ(2)

وهذه هي الحقيقة.

فالذي تغيَّر، والذي لا يجد وقتاً كافياً، والذي يعيش وقت فراغ أو ضياع، إنَّما هو الإنسان، وليس للزمن أيُّ دخل في ذلك.

ولكن، ما هو السبب الذي جعل الناس صنفين: صنفاً لا يجد وقتاً ليحكَّ رأسه، وصنفاً يعيش فراغاً لا متناهياً؟

إنَّ السبب هو:

عدم إدارة الوقت بصورة صحيحة.

ص: 263


1- أعلام الدِّين في صفات المؤمنين للديلمي (ص 335).
2- وقتك حياتك للسيِّد محمّد العلوي (ص 16 و17).

إنَّه التهاون في التعامل مع الوقت بصورة صحيحة.

ففي الوقت الذي تاه الصنف الأوَّل في زحمة العمل اللّامتناهي، لم يستغلّ الصنف الثاني وقت فراغه في أُمور نافعة لدنياه أو آخرته.

لقد تهاون الكثير من الناس بمسألة الوقت، ولم يعيروه أيَّ أهمّية، ولذلك ضاع الصنفان المتقدِّمان، وبقي من أدار وقته بصورة صحيحة يعيش السعادة والراحة - ولو النسبية وبالقياس إلىٰ الصنفين الأوَّلين -، فهو إلىٰ جانب عمله في كسب عيشه المستمرّ، لم يغفل عن عباداته في أوقاتها المناسبة، وتجده قريباً من عائلته، واصلاً لرحمه، مسافراً في نزهة محلَّلة، قاضياً وقتاً كافياً مع أصدقائه.

وليس عنده وقت فراغ بمعنىٰ الكلمة، لأنَّه في الحقيقة لا وجود لوقت الفراغ في الحياة، إنَّما هناك وقت ضائع، ولكن المدير الجيِّد للوقت يستغلُّ كلَّ لحظات حياته، فما أن ينتهي من عمل حتَّىٰ يبدأ بعمل آخر، حتَّىٰ ولو كان ذلك العمل الآخر هو النوم! لأنَّه لا ينام إلَّا إذا احتاج إليه.

ولمن يسأل عن حياة المدير الناجح للوقت، فله أن يطالع الكلمات التالية ضمن نقطتين فقط:

النقطة الأولى: المدير الناجح للوقت يُقسِّم وقته بصورة صحيحة:

فهو هادف في حياته، فليس عنده لهوٌ باطل، وليس عنده لغوٌ من دون هدف عنده، فالحياة عنده مخلوقة لهدف، وقد أخذ علىٰ نفسه أن يصل إلىٰ الهدف، مهما كانت الظروف.

فهو ناجح، وعندما لم يجد الظرف الملائم لنجاحه، قام هو بصنعه.

ص: 264

ولذلك، قام هو بتقسيم أوقات يومه بصورة دقيقة وممنهجة، أخذ فيها الأوقات الخاصَّة بالعمل، ولم ينسَ وقت العبادة، ولم يهمل وقت العائلة، ولا أعرض عن أصدقائه، ولا كَبَتَ نفسه عن اللذائذ المحلَّلة.

وحتَّىٰ تنجح في ذاك، عليك أن تأخذ بنظر الاعتبار الحاجات الضرورية وغير الضرورية في حياتك، وتُقسِّم وقتك من خلالها.

والحمد لله، فقد رفدتنا الروايات الش_ريفة بمبادئ مهمَّة في هذا المجال، أغنتنا عن تجشُّم الدخول في علوم الإدارة والتنمية - التي ينبغي مطالعتها علىٰ الأقلّ -، فإنَّ ما ذكرته هذه العلوم هو موجود في تراثنا الحديثي.

وعلىٰ كلِّ حالٍ ينبغي أن يلاحظ المرء في تقسيمه لوقته العلاقات التالية:

أوَّلاً: ملاحظة العلاقة مع الدِّين:

فيُلاحِظ أوقات العبادة التي حدَّدها الش_رع، فإنَّ لها الأولوية في حياة المسلم.

فنظِّم عملك بحيث لا يفوتك وقت فضيلة صلاة، وإن اضطررت فبحيث لا يفوت وقتها، وهكذا.

علىٰ المسلم أن يُنظِّم عمله بما يتوافق مع صوم شهر رمضان مثلاً، فإذا كان ممَّن لا يقوىٰ علىٰ الصوم مع العمل، فعليه أن يدَّخر ما يكفيه أيّام الصوم(1).

ص: 265


1- في جواب استفتاء لسماحة السيِّد السيستاني جاء فيه: (من يمنعه الصيام من ممارسة عمله الذي يرتزق منه كأن يُسبِّب له ضعفاً لا يطيق معه العمل، أو يُعرِّضه لعطش لا يطيق معه الإمساك عن شرب الماء أو لغير ذلك. ففي هذه الحالة إذا كان بإمكانه تبديل عمله أو التوقُّف عنه مع الاعتماد في رزقه في أيّام التوقُّف علىٰ مال موفَّر أو دَين أو نحو ذلك وجب عليه الصيام، وإلَّا سقط عنه وجوبه، ولكن الأحوط وجوباً - في هذه الصورة - أن يقتص_ر في الأكل والش_رب علىٰ الحدِّ الأدنىٰ الذي يفرضه عليه عمله ويدفع به الحرج والمشقَّة عن نفسه، ويجب عليه أن يقض_ي ما يفوته من الصوم بعد ذلك إن تيسَّر له). (https://www.sistani.org/arabic/qa/).

وهكذا عليه أن يُعطي للتفقُّه في الدِّين أهمّية لا تقلُّ عن طلب الرزق، ويكفي في هذا أن يأخذ علىٰ نفسه أن يتعلَّم مسألة فقهية واحدة يومياً علىٰ الأقلّ، بقراءة أو سؤال وما شابه.

كذلك عليه أن لا ينسىٰ أن يُخصِّص وقتاً لقراءة القرآن، ولو خمسين آية علىٰ الأقلّ يومياً، فالقرآن عهد الله وميثاقه إلىٰ المسلم، فينبغي علىٰ المسلم أن يقرأ في عهده يومياً(1). وحبَّذا لو جعل آخر كلامه في يومه هو قراءة القرآن(2).

وينبغي أن لا ينسىٰ الصلاة، فإنَّها قربان كلِّ تقي، ولا أعني الصلاة اليومية، بل أعني الصلوات المستحبَّة التي رتَّبت عليها الروايات الش_ريفة الأجر العظيم، فعلىٰ المسلم أن يُجهِد نفسه أن يُصلّي تلك الصلوات ولو مرَّة واحدة في عمره لكلِّ صلاة واردة.

ثانياً: ملاحظة العلاقة مع الأُسرة

ثانياً: ملاحظة العلاقة مع الأُسرة(3):

تخصيص جزء من وقت الفراغ لقضائه مع الأُسرة، فالأُسرة مؤسَّسة تربوية، فيها تتمُّ تنمية طُرُق التفكير والتعبير، وفيها يُكتَسب الدِّين، واللغة، والتقاليد، والعادات، وطريقة الكلام. فلا بدَّ أن يشعر

ص: 266


1- في الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 609/ باب في قراءته/ ح 1): عن حريز، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «القرآن عهد الله إلىٰ خلقه فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده وأن يقرأ منه في كلِّ يوم خمسين آية».
2- في الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 611/ باب ثواب قراءة القرآن/ ح 2): عن الفضيل بن يسار، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «ما يمنع التاجر منكم المشغول في سوقه إذا رجع إلىٰ منزله أن لا ينام حتَّىٰ يقرأ سورة من القرآن، فتُكتَب له مكان كلِّ آية يقرؤها عشر حسنات، ويُمحىٰ عنه عشر سيِّئات».
3- الهدىٰ والضلال في القرآن الكريم للمؤلِّف (ص81 و82).

الجميع بروح التعاون والتآلف، ويساعد علىٰ ذلك أن يقضوا معاً أوقات فراغهم بشكل منظَّم، وأن يشمل ذلك مختلف الأنشطة التي يُحِبُّها الأبناء ويُفضِّلونها من أنشطة رياضية وفنّية وألعاب ومسابقات ثقافية، ويكون ذلك كالتالي:

- استغلال فترة الغذاء وتجمُّع الأُسرة وتبادل الأحاديث والمواقف التي تعرَّض لها الأب والأُمُّ، وشرح طريقة تص_رُّف كلٍّ منهما تجاه كلِّ موقفٍ.

- الاستفادة من المسافات الطويلة التي يقطعها أفراد الأُسرة معاً في السيّارة بس_رد قَصص شيِّقة من الواقع تش_رح تجارب الآخرين، وكذلك بالاستماع للأشرطة المفيدة.

-

اصطحاب الأُسرة لزيارة المعالم الأثرية والثقافية.

- اقتناء مكتبة تضمُّ المراجع المختلفة وبعض الكُتُب النافعة.

- اقتناء أُسطوانات الكمبيوتر التي تضمُّ القيم والمعلومات المفيدة.

-

قراءة القرآن بالمنزل وتعليمه أهل بيتك، فعن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «من علَّم ولداً له القرآن، قلَّده الله قلادة يعجب منها الأوَّلون والآخرون يوم القيامة»(1).

ثالثاً: ملاحظة العلاقة مع المجتمع:

فالإنسان كائن اجتماعي، عليه أن يختلط بالناس، ولكن في حدود رسمها العقل والش_رع، فاجعل قسماً من وقتك لتجلس مع أصدقائك، تؤانسهم ويؤانسونك، وتقوّي علاقتك بهم، وتتواصل معهم، تسأل عن مريضهم فتعوده، وعن محتاجهم فتساعده، وعن غائبهم فتفتقده، لكن

ص: 267


1- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 1/ ص 533/ ح 2386).

عليك بالحذر في نفس الوقت أن تجعل هذه العلاقة تسلب جُلَّ وقتك، أو في أُمور تافهة وغير نافعة، أو علىٰ حساب راحتك وراحة عائلتك.

عليك أن تُعْلِمَ أصدقاءك بالأوقات المناسبة التي بإمكانك أن تجالسهم بها، وأن تُعْلِمَهم بأوقات عملك الخاصِّ الذي لا تُحِبُّ أن يزعجك به أحد.

وعلىٰ كلِّ حال، كن ضنيناً بوقتك في هذه الحال، وتذكَّر ما قاله الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) لعنوان البص_ري عندما أكمل نصيحته له: «قم عنّي يا أبا عبد الله، فقد نصحت لك، ولا تُفسِد عليَّ وردي، فإنّي امرؤ ضنين بنفسي»(1).

رابعاً: ملاحظة العلاقة مع العمل:

أنت مسؤول عن نفسك وعائلتك، فعليك أن تعمل حتَّىٰ تسدَّ احتياجاتك المالية، ولا تكن كلّاً علىٰ غيرك، فيكون غيرك أعبد منك عند الله تعالىٰ، وأوجه منك عند المجتمع، وأقوىٰ شخصيةً منك في نفسك.

ولكن عليك أن تحاول أن تختار العمل المناسب لك، من حيث المكان والزمان والتخصُّص.

وحتَّىٰ تنجح في هذا الجانب عليك أن تعمل علىٰ تطوير نفسك باستمرار، عليك أن تُحِبَّ عملك، وأن تخلص فيه، وأن تُتقِنه، حتَّىٰ يؤتي عملك ثماره.

عليك بتعلُّم المهارات الجديدة، التي من شأنها أن تقض_ي علىٰ وقت الفراغ من جانب، وتزيد من إبداع الشخص ومدخوله المادّي من جانب آخر.

ص: 268


1- مشكاة الأنوار لعليٍّ الطبرسي (ص 564 و565).

فيمكن للفرد أن يتعلَّم قراءة القرآن الكريم وأحكامه، أو علوم الحاسوب المتنوِّعة، أو فنَّ التصوير، أو السياقة، أو الحدادة، أو النجارة.

ويمكن للمرأة أن تتعلَّم الحياكة والخياطة، يمكنها أن تأخذ كتاباً لتتعلَّم طبخ أنواع جديدة من الأكل.

يمكن لنا أن نتعلَّم أُسلوب الإسعافات الأوَّلية، أو أن نتعلَّم لغة جديدة، أو ندرس في معهد ما، يمكن للمرء أن يُطوِّر نفسه في ألف فرع وفرع من فروع الحياة، وبذا يمكنه أن يملأ وقته بالنافع المفيد. وليتذكَّر أنَّ: «قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُه »(1)، وليضع نصب عينيه أنَّ: التمرين يُؤدّي إلىٰ الكمال.

خامساً: ملاحظة العلاقة مع النفس:

فبعد ملاحظة كلِّ تلك العلاقات، عليك أن تلاحظ نفسك - روحك وبدنك - فهي أحبُّ الأنفس إليك، فعليك أن تُعطيها حقَّها، فتُعطي للجسد راحته، وتُعطي للنفس راحتها. وراحة النفس تكون بملاحظة العلاقة الأُولىٰ المتقدِّمة، وراحة الجسد تتمثَّل بإعطائه الوقت الكافي للراحة، حتَّىٰ يقوىٰ علىٰ مداراة تلك العلاقات المهمَّة التي تحيط به.

فعليك أن تُعطي جسمك القدر الكافي من النوم، فهو أفضل راحة له، وعليك أن تُعطيه حقَّه من الطعام، فتتخيَّر الأطعمة الغنيَّة بالفوائد، وتبتعد عن الأكلات التي تمنع أكلات كثيرة، حاول أن تُبقي جسمك بمستوىٰ بعيد عن خطر التعرُّض لأمراض الضغط والسُّكري.

ابتعد عن العادات السيِّئة في الطعام، كالأكل بش_راهة، وأكل اللحوم بصورة مستمرَّة.

ص: 269


1- نهج البلاغة (ص 482/ ح 81)، وعلَّق الش_ريف الرضي ; علىٰ هذه الكلمة بقوله: (وهذه الكلمة التي لا تُصاب لها قيمة، ولا تُوزَن بها حكمة، ولا تُقرَن إليها كلمة).

عليك أن تتناول الخضروات والفواكه بصورة مستمرَّة.

وحاول قدر الإمكان الابتعاد عن المعلَّبات الصناعية والمش_روبات الغازية، وابتعد عن التدخين فهو يهدم الجسم هدماً.

عليك أن تقض_ي بعض الوقت في الترفيه والترويح، (بش_رط خلوِّه من المفاسد والمحرَّمات، ومن الإسراف والتبذير، والحذر من أن يأخذ الترفيه كلَّ الوقت، بل لا بدَّ أن يُحدَّد له وقتٌ لا يزيد ولا ينقص إلَّا بمقدار الض_رورة. ويمكن إعطاء قائمة متنوِّعة من أساليب الترويح عن النفس، منها التالي:

أ - الترويح الرياضي، ككرة القدم، وألعاب القوىٰ، وفنِّ الاسترخاء، والتنفُّس الصحيح للأُوكسجين، والسباحة، والرماية، والسياقة، وركوب الخيل، وغيرها. يقول رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «علِّموا أولادكم السباحة والرماية»(1).

ب - الترويح الفنّي، كممارسة هواية الرسم، والخطِّ، والنقش، والتخريم، والأشغال اليدوية من حياكة، وتطريز، وصناعة الورد، وتزيين البيوت.

ج - الترويح الاجتماعي، كالتزاور الذي حثَّ الإسلام عليه كثيراً، ومنه المراسلة والمهاتفة وإحياء مناسبات عيد الميلاد والزواج، وغيرها ممَّا له أثر في تقوية أواصر المحبَّة، وفي نفس الوقت يملأ بعضاً من وقت الفراغ.

د - الترويح السياحي، كزيارة المراقد المقدَّسة والمناطق الأثرية والتاريخية والسياحية، ممَّا له فوائد نفسية وثقافية وبدنية.

ص: 270


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 47/ باب تأديب الولد/ ح 4).

وفي كلِّ أنواع الترويح ينبغي اصطحاب الأهل من زوجة وأطفال ووالدين مهما أمكن، ليكون الترويح شاملاً لأفراد العائلة عموماً، ممَّا يرجع بالفائدة للعائلة عموماً)(1).

الملاحظة المهمَّة هنا:

أنَّ إعطاء هذه العلاقة حقَّها المش_روع يُقوّي الإنسان ويُعينه علىٰ إعطاء العلاقات السابقة حقوقها، فهي علاقة تعين علىٰ تلك العلاقات.

روايات تقسيم الوقت:

وبعد هذه الملاحظات، لنقرأ معاً بعض الروايات الواردة في تقسيم الوقت بصورة ناجحة.

عن محمّد بن مروان، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قال: «إنَّ في حكمة آل داود: ينبغي للمسلم العاقل أن لا يرىٰ ظاعناً إلَّا في ثلاث: مرمَّة لمعاش، أو تزوُّد لمعاد، أو لذَّة في غير ذات محرَّم. وينبغي للمسلم العاقل أن يكون له ساعة يفض_ي بها إلىٰ عمله فيما بينه وبين الله (عزوجل)، وساعة يلاقي إخوانه الذين يفاوضهم ويفاوضونه في أمر آخرته، وساعة يخلي بين نفسه ولذّاتها في غير محرَّم، فإنَّها عون علىٰ تلك الساعتين»(2).

وفي المسائل التي سأل عنها أبو ذرٍّ الغفاري ; رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، قال: قلت: يا رسول الله، فما كانت صُحُف إبراهيم؟ قال: «كانت أمثالاً كلَّها، وكان فيها: أيُّها المَلِك المبتلىٰ المغرور إنّي لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلىٰ بعض ولكن بعثتك لتردَّ عنّي دعوة المظلوم، فإنّي لا أردُّها

ص: 271


1- الهدىٰ والضلال في القرآن الكريم للمؤلِّف (ص 82 و83).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 87/ باب إصلاح المال وتقدير المعيشة/ ح 1).

وإن كانت من كافر، وعلىٰ العاقل ما لم يكن مغلوباً علىٰ عقله أن يكون له ساعات: ساعة يناجي فيها ربَّه (عزوجل)، وساعة يحاسب نفسه، وساعة يتفكَّر فيما صنع الله (عزوجل) إليه، وساعة يخلو فيها بحظِّ نفسه من الحلال، فإنَّ هذه الساعة عون لتلك الساعات واستجمام للقلوب، وتوزيع (وتفريغ) لها...(1)».

وعن

رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «ينبغي للعاقل إذا كان عاقلاً أن يكون له أربع ساعات من النهار: ساعة يناجي فيها ربَّه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يأتي أهل العلم الذين يُبصِّ_رونه أمر دينه وينصحونه، وساعة يخلي بين نفسه ولذَّتها من أمر الدنيا فيما يحلُّ ويجمل»(2).

وقال الإمام الكاظم (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): «اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات: ساعة لمناجاة الله، وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الإخوان والثقات الذين يُعرِّفونكم عيوبكم ويُخلِصون لكم في الباطن، وساعة تخلون فيها للذّاتكم في غير محرَّم، وبهذه الساعة تقدرون علىٰ الثلاث ساعات. لا تُحدِّثوا أنفسكم بفقر ولا بطول عمر، فإنَّه من حدَّث نفسه بالفقر بخل، ومن حدَّثها بطول العمر يحرص، اجعلوا لأنفسكم حظًّا من الدنيا بإعطائها ما تشتهي من الحلال وما لا يثلم المروَّة وما لا سرف فيه. واستعينوا بذلك علىٰ أُمور الدِّين، فإنَّه روي: ليس منّا من ترك دنياه لدينه أو ترك دينه لدنياه»(3).

ص: 272


1- الخصال للشيخ الصدوق (ص 525).
2- روضة الواعظين للفتّال النيسابوري (ص 4)، ونقله أيضاً الشيخ محمّد الريشهري في العقل والجهل في الكتاب والسُّنَّة (ص 158).
3- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 409 و410).

النقطة الثانية: المدير الناجح للوقت، ليس عنده وقت ضائع:

كثيراً ما كنت أسأل الشباب: ماذا يعني وقت الفراغ؟ فكانوا يذكرون مصاديق لما يعتقدون أنَّه وقت فراغ، ولكن الحقيقة أنَّ ما كانوا يذكرونه من أمثلة لا تُمثِّل وقت فراغ، إذ إنَّه لا فراغ في الحقيقة. نعم، ما ذكروه - وهو الواقع - يُمثِّل أوقاتاً ضائعة، لم يستفد منها المرء لا لدنياه ولا لآخرته.

وأمثلة الأوقات الضائعة كثيرة جدًّا، نذكر منها:

1 - أوقات الانتظار، كانتظار دورك عند طبيب الأسنان، أو في الدوائر الرسمية، أو في المطار، أو عند الحلّاق، أو عند انتظار أن يُكمِل الميكانيكي تصليح سيّارتك، وكانتظار إشارة المرور، وحتَّىٰ انتظار أن يجيئك النادل بالطعام عندما تُقرِّر الأكل في مطعم.

2 - اللعب غير المبرمج، فاللعب مطلوب وضروري خصوصاً للأطفال، ولكن في بعض الأحيان يتحوَّل وقت اللعب إلىٰ وقت ضائع، كالجلوس ساعات طويلة عند ألعاب الكمبيوتر وألعاب البلي ستيشن، وكقضاء أوقات طويلة في لعب كرة القدم، أو الجلوس في النوادي والمقاهي الرياضية لفترات طويلة، وغيرها كثير.

3 - الاجتماعات الفارغة، فأنت لا بدَّ أن تجلس مع أصدقائك، ولكن عادةً ما تكون الأحاديث غير مسؤولة ولاهية، قد يتكلَّم الأصدقاء لساعات طويلة ولكن لا فائدة يرجونها سوىٰ قضاء - والأصحّ هدر وقتل - الوقت.

وهكذا يجلس الرجل مع ضيفه لأوقات طويلة، وربَّما قضوا جُلَّ وقتهم في (الصفنات).

ص: 273

4 - المشي غير المبرَّر، فكثيراً ما تجد بعض الشباب وبحجَّة رياضة المش_ي يقضون أوقات كثيرة في (قياس مسافات الشوارع) وأنظارهم تتساقط علىٰ أشياء من دون فكر.

5 - أوقات السفر، فمثلاً قد تقود السيّارة أنت لمسافات طويلة، أو قد تسافر لمسافات طويلة، وقد يكون السفر لمسافة قليلة تقض_ي فيه ربع ساعة مثلاً، هناك أُناس يسافرون بواسطة البواخر ليخوضوا غمار البحار لأيّام عديدة، وعادةً ما يقض_ي المرء السفر من دون فائدة، فتجد عيونه تنظر بلا اعتبار، وسمعه غير مشغول إلَّا بصوت حفيف الهواء وضجيج مكائن وسيلة النقل، أو يقضيها - في أفضل الحالات - نائماً، أو غيرها من الأُمور التي لا ترجع بفائدة للمرء - إذا استثنينا النوم فقد يرجع بالراحة للمرء -.

6 - الاتِّصالات الهاتفية، وهذه الأُخرىٰ قد تأخذ منك وقتاً كثيراً من دون أن تشعر، ولا أقصد كلَّ الاتِّصالات، بل إنَّ كثيراً منها يأخذ وقتاً أكثر من الوقت اللازم، وهكذا قد يتَّصل عليك شخص في وقت راحتك، أو في وقت انهماكك بعمل مهمٍّ، والحال أنَّ الاتِّصالات غير المبرَّرة تأخذ وقتك وجهدك ومالك.

7 - مشاهدة التلفاز، وهذا أيضاً من أكبر مضيعات الوقت في العص_ر الراهن. لا مانع أن يشاهد أحدهم التلفاز، كأن يشاهد مباراة كرة قدم، أو فيلماً ما، أو برنامجاً ما، لا مانع منه، وقد لا يكون في ذلك مضيعة للوقت، ولكنّي أُلفت النظر إلىٰ حالات يضيع فيها الوقت باعتراف الجميع.

فمثلاً قد يكون أحد ما قد شاهد فيلماً عش_رين مرَّة! إنَّه حفظ كلَّ

ص: 274

أحداثه، ولكنَّه مع ذلك يشاهده للمرَّة الواحدة والعش_رين! وقد يجلس بعضهم يشاهد مباراة كرة قدم لساعة متأخِّرة من الليل، رغم أنَّ امتحانات نهاية السنة تبدأ غداً، أو رغم أنَّه سيخرج للعمل باكراً، أو رغم أنَّه مريض ومحتاج إلىٰ النوم ليرتاح، إنَّه يُضيِّع وقته وجهده وراحته من دون مبرِّر.

هناك الكثير من البرامج التي لا تُسمِن ولا تُغني من جوع، ولم يُقصَد منها حين إنتاجها إلَّا إشغال الناس عن المهمِّ من عمرهم، عليك أن تنتبه لمثل هذه البرامج، وعليك أن تُميِّز، فكم هناك من أفلام أُنتجت من نسج الخيال، وكم هناك من مسلسلات بُذِلَ فيها ملايين الدولارات، وليس فيها إلَّا العنف، والهمجية باسم الحُرّية، وإطلاق العنان للغرائز، وتبرير الجريمة والسلوك المنحرف، وغيرها كثير.

لاحظ، هل بإمكانك أن تغلق التلفاز ليوم كامل؟! ولو مرَّة واحدة في الشهر!

جرِّب ذلك، وسترىٰ كيف سيعمُّ الهدوء البيت ذلك اليوم، من ضجيج التلفاز الذي صارت أدمغتنا مشوَّشة بسببه!

جرِّب، وسترىٰ الفرق، أعدك بذلك.

8 - في بعض الأحيان، يقوم الإنسان بعمل ما، وكان باستطاعته أن يستغلَّ نفس وقت العمل بأداء عمل آخر مفيد، ولكنَّه لا يستغلُّ ذلك، فمثلاً قد تقضي المرأة وقتاً طويلاً كلَّ يوم في مطبخها، وهي بذلك تُؤدّي عملاً عظيماً عندما يأكل من يدها أفراد عائلتها، ولكن كان لها أن تستغلَّ ساعات الطبخ بعمل آخر مفيد لها، كما لو كانت قد وضعت جهاز راديو قريباً منها لتستمع إلىٰ برامج مفيدة، أو كان بإمكانها أن

ص: 275

تجري اتِّصالاً هاتفياً أثناء الطبخ، فلا يأخذ وقتاً آخر من وقتها، أو غيرها من الأُمور.

هل تعلم كم تقض_ي من وقتك في بيت الأدب (بيت الخلاء)؟ ربَّما تقض_ي كلَّ يوم خمس دقائق علىٰ أقلّ التقديرات، أنت تقوم بعمل مهمٍّ لجسمك، ولكن هل تعلم أنَّ بإمكانك أن تستغلَّ هذه الدقائق في عمل مفيد! لا تستغرب، فقد نقل بعضهم أنَّهم في اليابان قد وضعوا مكتبة تحوي كُتيِّبات صغيرة لمن يجلس في بيت الأدب، فله أن يستغلَّ هذه الدقائق في قراءة صفحتين أو ثلاثة من كُتيِّب! وقد نقل أحدهم ممَّن نجحوا في إدارة وقتهم أنَّه كثيراً ما استطاع أن يقرأ الكُتُب خلال فترات قضاء الحاجة.

لاحظ، أنَّ هناك أوقاتاً صغيرة في حجمها، نحن نغفلها ولا نلتفت إليها، ولكنَّها لو جُمِعَت لكانت وقتاً كبيراً سيتحسَّ_ر المرء في يوم ما علىٰ هدره من دون مبرِّر(1).

ولكن المدير الناجح للوقت، كان ملتفتاً إلىٰ كلِّ هذه الأوقات الضائعة، وعمل منذ زمن طويل في استغلال تلك اللحظات الكثيرة جدًّا.

ولك أن تسأل: كيف ذاك؟

فأُجيبك:

- إنَّه طالما اصطحب معه كُتيِّب جيب، واستغلَّ أوقات الانتظار في قراءته.

- ولم ينسَ أبداً أن يحمل معه قلماً ودفتر ملاحظات، ليكتب فكرة

ص: 276


1- قطاف شهر رمضان للمؤلِّف (ص 70).

جميلة وردت إلىٰ خاطره، أو معلومة مفيدة شاهدها وهو يمش_ي، أو عنوان صديق مهمٍّ.

- ولطالما استغلَّ تلك الأوقات في تلاوة القرآن الكريم، حيث كان يحمل معه علىٰ الدوام نسخة من المصحف صغيرة الحجم، أو كان قد أدخل المصحف الرقمي في هاتفه الذكي.

وإلَّا، فقد كان يستغلُّ تلك الأوقات في ترديد كلمة الإخلاص (لا إله إلَّا الله) ألف مرَّة!

- وإن تعب شغل فكره في المفيد، فكان يضع رأسه علىٰ وسادته في بيته، أو علىٰ كرسي السيّارة، ويأخذ يُفكِّر في النِّعَم التي أنعمها الله تعالىٰ عليه، وكيف كان وكيف أصبح، وكثيراً ما كان يُفكِّر في قدرة الله تعالىٰ، وكيف خلق الخلق ورزقهم علىٰ كثرتهم، وأحصاهم وأحص_ىٰ أنفاسهم وأفكارهم، فيخشع قلبه لذكر ربِّه ويخبت له، وكثيراً ما كان يشكر الله تعالىٰ علىٰ نِعَمه، ويستغفره من ذنوبه التي صدرت منه.

أو كان يُفكِّر في مش_روع لدنياه أو آخرته، وكان يُفكِّر في طريقة ما ليصالح بها صديقه الذي اختلف معه في مسألة تجارية أو غيرها.

وكان إذا قاد سيّارته يستغلُّ وقته في استماع الأشرطة المفيدة، فكان يستمع إلىٰ الكثير من المحاضرات ضمن تخصُّصه، وكان إذا ملَّ عقله منها غيَّر الش_ريط ليستمع تلاوة القرآن وينعش بها روحه، أو يستمع لشيء محلَّل تأنس به نفسُهُ.

وكان إذا جلس مع عائلته فتح المواضيع المفيدة معهم، فبعد أن يضاحك الصغار ويُبدي احترامه للكبار، يسأل عن مشاكلهم وما واجهوه اليوم من أُمور الحياة المختلفة، فكان ينصح هذا ويعظ ذاك، وكان يقصُّ عليهم قصَّة جميلة فيها عبرة وتجربة.

ص: 277

وهكذا تستطيع أنت أن تتنبَّأ بما كان يعمله أيّ واحد منّا لو كان مديراً ناجحاً للوقت.

قد يكون ما ذكرته هنا مثالياً عند بعض، وقد يكون من نسج الخيال في تصوُّر بعض آخر، ولكن لكلِّ أحدٍ أن يعمل علىٰ استغلال أوقاته بالطريقة المناسبة التي يراها، وأقول: المهمُّ أن تستغلَّ وقتك ولا تُضيِّعه، استغله في أيِّ شيء، حتَّىٰ لو كان النوم، لكن بش_رط أن تكون محتاجاً له من دون أن تخدع نفسك.

وأقول لك: لا تُضيِّع عمرك في ما لا ينفعك غداً في الدنيا.

ولا تُضيِّعه في ما لا ينفعك في قبرك.

ولا تُشغِل نفسك بالفضول من الكلام والنظر والاستماع لكلِّ شيء من دون اعتبار.

واعمل بالأهمِّ قبل المهمِّ.

واعلم أنَّ ما فاتك من عمرك لا يعود لك أبداً، ومهما حاولت أن تسترجع لحظة واحدة من عمرك فلن تستطيع، ولو بذلتَ في ذلك كلَّ أموال الدنيا.

وإن أبيت، فتذكَّر معي هذه الكلمات التي صدرت من أهل بيت العصمة، والتي بيَّنوا من خلالها أهمّية كلِّ لحظة من لحظات عمر الإنسان، وأنَّه عندما تضيع أيُّ لحظة منها فإنَّ المرء سيندم في وقت لا ينفع فيه الندم.

عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ):

«إنَّه لن يستقبل أحدكم يوماً من عمره إلَّا بفراق آخر من أجله»(1).

ص: 278


1- تنبيه الخواطر (مجموعة ورّام) (ج 2/ ص 537).

«إنَّما أنت عدد أيّام، فكلُّ يوم يمض_ي عليك يمض_ي ببعضك، فخفِّض في الطلب وأجمل في المكتسب»(1).

«إنَّ الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما، ويأخذان منك فخذ منهما»(2).

«مَا أَسْرَعَ السَّاعَاتِ فِي الْيَوْمِ، وَأَسْرَعَ الأَيَّامَ فِي الشَّهْرِ، وَأَسْرَعَ الشُّهُورَ فِي السَّنَةِ، وَأَسْرَعَ السِّنِينَ فِي الْعُمُرِ!»(3).

«الساعات تخترم الأعمار، وتُدني من البوار»(4).

وعن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «يُفتَح للعبد يوم القيامة علىٰ كلِّ يوم من أيّام عمره أربعة وعشرون خزانة عدد ساعات الليل والنهار:

فخزانة يجدها مملوءة نوراً وسروراً، فيناله عند مشاهدتها من الفرح والس_رور ما لو وُزِّع علىٰ أهل النار لأدهشهم عن الإحساس بألم النار، وهي الساعة التي أطاع فيها ربَّه.

ثمّ يُفتَح له خزانة أُخرىٰ، فيراها مظلمة منتنة مفزعة، فيناله عند مشاهدتها من الفزع والجزع ما لو قُسِّم علىٰ أهل الجنَّة لنغَّص عليهم نعيمها، وهي الساعة التي عصىٰ فيها ربَّه.

ثمّ يُفتَح له خزانة أُخرىٰ، فيراها فارغة ليس فيها ما يس_رُّه ولا ما يسوؤه، وهي الساعة التي نام فيها أو اشتغل فيها بش_يء من مباحات الدنيا، فيناله من الغبن والأسف علىٰ فواتها - حيث كان متمكِّناً من أن

ص: 279


1- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 178).
2- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 144).
3- نهج البلاغة (ج 2/ ص 128).
4- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 62).

يملأها حسنات - ما لا يُوصَف، ومن هذا قوله تعالىٰ: ]ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ[ [التغابن: 9]»(1).

* * *

ص: 280


1- عدَّة الداعي لابن فهد الحلّي (ص 103).

المصادر والمراجع

1 - القرآن الكريم.

2 - الاحتجاج: الطبرسي/ تحقيق: محمّد باقر الخرسان/ دار النعمان/ 1386ه_.

3 - الاختصاص: الشيخ المفيد/ ط 2/ 1414ه_/ دار المفيد/ بيروت.

4 - اختيار معرفة الرجال: الشيخ الطوسي/ مطبعة بعثت/ مؤسَّسة آل البيت (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ)/ 1404ه_/ قم.

5 - الأخلاق في القرآن: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي/

6 - الأُصول الستَّة عش_ر: عدَّة محدِّثين/ تحقيق: ضياء الدين المحمودي/ ط 1/ 1423ه_/ دار الحديث.

7 - أعلام الدِّين في صفات المؤمنين: الحسن بن محمّد الديلمي/ مؤسَّسة آل البيت (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ)/ قم.

8 - إقبال الأعمال: ابن طاووس/ تحقيق: جواد القيّومي/ ط 1/ 1414ه_/ مكتب الإعلام الإسلامي.

9 - الإلهيّات: الشيخ جعفر السبحاني/ ط 1/ 1409ه_/ الدار الإسلاميَّة للطباعة والنش_ر/ بيروت.

10 - الأمالي: الشيخ الصدوق/ تحقيق: قسم الدراسات/ ط 1/ 1417ه_/ مؤسَّسة البعثة.

ص: 281

11 - الأمالي: الشيخ الطوسي/ تحقيق: مؤسَّسة البعثة/ ط 1/ 1414ه_/ دار الثقافة/ قم.

12 - الأمالي: الشيخ المفيد/ تحقيق: الأُستادولي، عليّ أكبر الغفّاري/ ط 2/ 1414ه_/ دار المفيد/ بيروت.

13 - أوائل المقالات: الشيخ المفيد/ تحقيق: الشيخ إبراهيم الأنصاري/ ط 2/ 1414ه_/ دار المفيد للطباعة والنش_ر والتوزيع/ بيروت.

14 - بحار الأنوار: العلَّامة المجلس_ي/ ط 2 المصحَّحة/ 1403ه_/ مؤسَّسة الوفاء/ بيروت.

15 - برنامج (خواطر): أحمد الشقيري/ الموسم الثالث/ الحلقة الخاصَّة بالوقت.

16 - البرنامج اليومي في محاسبة النفس: السيِّد عبد الله الغريفي/المعارف للمطبوعات/ط 1/ 1429ه_/2008م.

17 - بصائر الدرجات: محمّد بن الحسن الصفّار/ تحقيق: كوچه باغي/ 1404ه_/ مطبعة الأحمدي/ منشورات الأعلمي/ طهران.

18 - تاريخ بغداد: الخطيب البغدادي/ تحقيق: مصطفىٰ عبد القادر عطا/ ط 1/ 1417ه_/ دار الكُتُب العلمية/ بيروت.

19 - التبليغ في الكتاب والسُّنَّة: الشيخ محمّد الريشهري/ ط 1/ 1379ه_/ دار الحديث/ مطبعة ستاره/ قم.

20 - تحف العقول: ابن شعبة الحرّاني/ تحقيق: عليّ أكبر الغفّاري/ ط 2/ 1404ه_/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.

21 - تفسير الإمام العسكري (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): المنسوب إلىٰ الإمام العسكري (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)/ ط1 محقَّقة/ 1409ه_/ مدرسة الإمام المهدي (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)/ قم.

ص: 282

22 - تفسير الأمثل: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي.

23 - تفسير العيّاشي: العيّاشي/ تحقيق: هاشم الرسولي المحلّاتي/ المكتبة العلمية الإسلاميَّة/ طهران.

24 - تفسير القمّي: عليُّ بن إبراهيم القمّي/ تحقيق: طيِّب الجزائري/ ط 3/ 1404ه_/ مؤسَّسة دار الكتاب/ قم.

25 - تفسير مجمع البيان: الطبرسي/ تحقيق: لجنة من العلماء/ ط 1/ 1415ه_/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.

26 - تفسير نور الثقلين: الحويزي/ تحقيق: هاشم الرسولي المحلاتي/ ط 4/ 1412ه_/ مؤسَّسة إسماعيليان/ قم.

27 - تنبيه الخواطر (مجموعة ورّام): ورّام بن أبي فراس المالكي الأشتري/ ط 2/ 1368ش/ مطبعة حيدري/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.

28 - تهذيب الأحكام: الشيخ الطوسي/ تحقيق: حسن الخرسان/ ط 3/ 1364ش/ مطبعة خورشيد/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.

29 - التوحيد: الشيخ الصدوق/ تحقيق: هاشم الحسيني الطهراني/ جماعة المدرِّسين/ قم.

30 - ثواب الأعمال: الشيخ الصدوق/ تحقيق: محمّد مهدي الخرسان/ ط 2/ 1368ش/ مطبعة أمير/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

31 - جامع أحاديث الشيعة: السيِّد البروجردي/ 1399ه_/ المطبعة العلمية/ قم.

32 - الجامع الصغير: السيوطي/ ط 1/ 1401ه_/ دار الفكر/ بيروت.

33 - الحقُّ المبين: الفيض الكاشاني/ تصحيح: مير جلال الدِّين الحسيني الأرموي/ سازمان چاپ دانشگاه.

ص: 283

34 - الخصال: الشيخ الصدوق/ تحقيق: عليّ أكبر الغفّاري/ 1403ه_/ جماعة المدرِّسين/ قم.

35 - الدُّرُّ المنثور: جلال الدِّين السيوطي/ دار المعرفة/ بيروت.

36 - دعائم الإسلام: القاضي النعمان المغربي/ تحقيق: آصف فيض_ي/ 1383ه_/ دار المعارف/ القاهرة.

37 - الدعوات: قطب الدِّين الراوندي/ ط 1/ 1407ه_/ مطبعة أمير/ مؤسَّسة الإمام المهدي (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)/ قم.

38 - ديوان روضة الورد (گلستان): سعدي الشيرازي/ ترجمة: محمّد الفراتي/ مطبعة فجر الإسلام/ط 1/ 1425 ه_/ المش_رق للثقافة والنشر.

39 - ذخائر العقبىٰ: أحمد بن عبد الله الطبري/ 1356ه_/ مكتبة القدسي/ القاهرة.

40 - الذنوب الكبيرة: السيِّد عبد الحسين دستغيب/ تعريب: عليّ محمّد زين/ ط 1/ 1421ه_/ دار البلاغة للطباعة والنشر والتوزيع.

41 - روضة الواعظين: الفتّال النيسابوري/ تحقيق: محمّد مهدي الخرسان/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

42 - سنن أبي داود: ابن الأشعث السجستاني/ تحقيق: محمّد اللحّام/ ط 1/ 1410ه_/ دار الفكر/ بيروت.

43 - شرح أصول الكافي: المازندراني/ تحقيق: الشعراني/ ط 1/ 1421ه_/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.

44 - شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد/ تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم/ ط 1/ 1378ه_/ دار إحياء الكُتُب العربية/ بيروت.

45 - الصحاح : الجوهري/ تحقيق: أحمد عبد الغفور العطّار/ ط 4/ 1407ه_/ دار العلم للملايين/ بيروت.

ص: 284

46 - صحيح البخاري: البخاري/ 1401ه_/ دار الفكر/ بيروت.

47 - صحيح مسلم: مسلم النيسابوري/ دار الفكر/ بيروت.

48 - الصحيفة السجّادية: تحقيق: محمّد باقر الأبطحي/ ط1/ 1411ه_/ مطبعة نمونه/ مؤسَّسة الإمام المهدي (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، مؤسَّسة الأنصاريان/ قم.

49 - صفات الشيعة: الشيخ الصدوق/ كانون انتشارات عابدي/ طهران.

50 - الصواعق المحرقة: ابن حجر الهيتمي/ ط 1/ 1997م/ مؤسَّسة الرسالة/ بيروت.

51 - عدَّة الداعي: ابن فهد الحلّي/ تحقيق: أحمد الموحِّدي القمّي/ مكتبة وجداني/ قم.

52 - علل الش_رائع: الشيخ الصدوق/ تحقيق: محمّد صادق بحر العلوم/ 1385ه_/ منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها/ النجف الأشرف.

53 - عوالي اللئالي: ابن أبي جمهور الأحسائي/ تحقيق: مجتبىٰ العراقي/ ط 1/ 1403ه_/ مطبعة سيِّد الشهداء/ قم.

54 - عيون أخبار الرضا (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): الشيخ الصدوق/ ت حسين الأعلمي/ 1404ه_/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.

55 - عيون الحِكَم والمواعظ: عليّ الليثي الواسطي/ تحقيق: حسين البيرجندي/ ط 1/ دار الحديث.

56 - الفتاوىٰ الميسَّ_رة للسيِّد السيستاني: محمّد تقي الحكيم/ ط 3/ 1417ه_/ مطبعة الفائق الملوَّنة.

57 - الفصول المختارة: الشيخ المفيد/ ط 2/ 1414ه_/ دار المفيد/ بيروت.

ص: 285

58 - فقه الحضارة: السيِّد السيستاني/ دار المؤرِّخ العربي/ بيروت.

59 - فقه الرضا: عليُّ بن بابويه/ ط 1/ 1406ه_/ المؤتمر العالمي للإمام الرضا/ مشهد.

60 - فنون النجاح: السيِّد هادي المدرِّسي/ دار العربية للعلوم/ مؤسَّسة أحمد للمطبوعات/ ط 3/ 2007م/بيروت.

61 - قرب الإسناد: الحميري القمّي/ ط 1/ 1413ه_/ مطبعة مهر/ مؤسَّسة آل البيت (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ)/ قم.

62 - قَصص الأنبياء: قطب الدِّين الراوندي/ تحقيق: غلام رضا عرفانيان/ ط 1/ 1418ه_/ الهادي.

63 - قطاف شهر رمضان: الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي/ تقديم: معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية/ ط 1/ 1438ه_.

64 - الكافي: الشيخ الكليني/ تحقيق: عليّ أكبر الغفّاري/ ط 5/ 1363ش/ مطبعة حيدري/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.

65 - كتاب الزهد: حسين بن سعيد الكوفي/ 1399ه_/ مطبعة العلمية/ قم.

66 - كتاب الطهارة: السيِّد الخوئي/ ط 2/ مطبعة بهرام/ مؤسَّسة آل البيت (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ)/ قم.

67 - كشف الغمَّة: ابن أبي الفتح الإربلي/ ط 2/ 1405ه_/ دار الأضواء/ بيروت.

68 - كنز العمّال: المتَّقي الهندي/ تحقيق: بكري حيّاني/ 1409ه_/ مؤسَّسة الرسالة/ بيروت.

69 - المبسوط: الشيخ الطوسي/ تحقيق: محمّد تقي الكشفي/ 1387ه_/ المكتبة المرتضوية لإحياء آثار الجعفرية/ طهران.

ص: 286

70 - مجمع البحرين: الشيخ الطريحي/ ت أحمد الحسيني/ ط 2/

1408ه_/ مكتب نشر الثقافة الإسلاميَّة.

71 - المحاسن: البرقي/ تحقيق: جلال الدين الحسيني المحدِّث/ 1370ه_/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.

72 - مستدرك الوسائل: الميرزا النوري/ ط 1 المحقَّقة/ 1408ه_/ مؤسَّسة آل البيت (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ)/بيروت.

73 - المستطرف في كلِّ فنٍّ مستظرف: الأبشيهي/ دار ومكتبة الهلال.

74 - مستند الشيعة: المحقِّق النراقي/ ط 1/ 1415ه_/ مؤسَّسة آل البيت (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ)/ مطبعة ستارة/ قم.

75 - مسند أحمد: أحمد بن حنبل/ دار الصادر/ بيروت.

76 - مسند الرضا (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): داود بن سليمان الغازي/ تحقيق: محمّد جواد الحسيني الجلالي/ ط 1/ 1418ه_/ مكتب الإعلام الإسلامي.

77 - مشكاة الأنوار: عليّ الطبرسي/ تحقيق مهدي هوشمند/ ط 1/ 1418ه_/ دار الحديث.

78 - مصباح البلاغة: حسن الميرجهاني الطباطبائي/ 1388ه_.

79 - مصباح الش_ريعة: المنسوب للإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)/ ط 1/ 1400ه_/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.

80 - مصباح الفقاهة: السيِّد الخوئي/ ط 1 المحقَّقة/ مطبعة العلمية/ مكتبة الداوري/ قم.

81 - مصباح المتهجِّد: الشيخ الطوسي/ ط 1/ 1411ه_/ مؤسَّسة فقه الشيعة/ بيروت.

82 - معاني الأخبار: الشيخ الصدوق/ تحقيق: عليّ أكبر الغفّاري/ 1379ه_/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.

ص: 287

83 - المعجم الكبير: الطبراني/ تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي/ ط 2

مزيَّدة ومنقَّحة/ دار إحياء التراث العربي.

84 - معرفة النفس: الشيخ حسن الصفّار.

85 - مكارم الأخلاق: الشيخ الطبرسي/ ط 6/ 1392ه_/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

86 - من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق/ تحقيق: عليّ أكبر الغفّاري/ ط 2/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.

87 - منازل الآخرة: الشيخ عبّاس القمّي/ تحقيق: ياسين الموسوي/ ط 1/ 1419ه_/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.

88 - مناقب آل أبي طالب: ابن شهر آشوب/ تحقيق: لجنة من أساتذة النجف/ 1376ه_/ المكتبة الحيدرية/ النجف.

89 - منهاج الصالحين: السيِّد الخوئي/ ط 28/ 1410ه_/ مط مهر/ قم.

90 - منهاج الصالحين: السيِّد السيستاني/ طبعة مصحَّحة ومنقَّحة/ 1439ه_.

91 - موسوعة أحاديث أهل البيت (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ): الشيخ هادي النجفي/ ط 1/ 1423ه_/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.

92 - موسوعة العقائد الإسلاميَّة: الشيخ محمّد الريشهري/ ط 1/ 1425ه_/ دار الحديث للطباعة والنشر/ بيروت.

93 - ميزان الحكمة: محمّد الريشهري/ ط 1/ دار الحديث.

94 - نهج البلاغة: الش_ريف الرضي/ شرح محمّد عبده/ ط1/ 1412ه_/ مط النهضة/ دار الذخائر/ قم.

ص: 288

95 - النوادر: أحمد بن عيسىٰ الأشعري/ ط 1/ 1408ه_/ مطبعة

أمير/ مدرسة الإمام المهدي (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)/ قم.

96 - النوادر: فضل الله الراوندي/ تحقيق: سعيد رضا عليّ عسكري/ ط 1/ مؤسَّسة دار الحديث الثقافية/ قم.

97 - نور الأنوار في شرح الصحيفة السجّادية: السيِّد نعمة الله الجزائري/ الناشر: آسيانا/ مطبعة أميران/ ط 1/ 1427ه_/ قم.

98 - الهدىٰ والضلال في القرآن الكريم: الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي/ تقديم: معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية/ ط 1/ 1438ه_.

99 - وسائل الشيعة: الحرُّ العاملي/ ط 2/ 1414ه_/ مطبعة مهر/ مؤسَّسة آل البيت (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ)/ قم.

100 - وقتك حياتك: السيِّد محمّد العلوي/ ط 2/ 1421ه_/ دار العلوم/ بيروت.

101 - الومضات: الشيخ حبيب الكاظمي/ شبكة السراج في الطريق إلىٰ الله/ ط 3/ 2006م.

* * *

ص: 289

ص: 290

الفهرس

مقدِّمة المعهد... 3

مقدّمة المؤلِّف... 7

الإهداء... 15

مدخل: الإيمان بين النظرية والتطبيق... 17

الدِّين بين التيسير وعدم التهاون... 24

من مفردات اليُسر في الدِّين... 25

المفردة الأُولىٰ: الاستخفاف والتهاون بأُصول الدِّين...33

النقطة الأُولىٰ: أوَّل الدِّين معرفته... 35

النقطة الثانية: معرفة الله بين وبين!... 37

النقطة الثالثة: ثغرات معرفية... 43

المفردة الثانية: الاستخفاف والتهاون بالمراقبة الإلهيَّة... 49

النقطة الأُولىٰ: معنىٰ الاهتمام بالمراقبة الإلهيَّة... 51

النقطة الثانية: م_ؤشِّرات المراقبة... 53

النقطة الثالثة: تفرُّعات المراقبة الإلهيَّة... 55

التفرُّع الأوَّل: مراقبة المؤمن لنفسه... 55

أسباب الاستخفاف في هذا التفرُّع... 56

السبب الأوَّل: اتِّخاذ الدِّين لهواً ولعباً ...57

السبب الثاني: عدم النهي عن المنكر والباطل... 58

ص: 291

السبب الثالث: النفاق... 59

التفرُّع الثاني: مراقبة المؤمن لأُسرته... 60

التفرُّع الثالث: المراقبة الاجتماعية. 61

المفردة الثالثة: الاستخفاف والتهاون بوساوس النفس الأمّارة بالسوء... 65

الخطوة الأُولىٰ: النفس بين المدح والذمِّ... 67

الخطوة الثانية: مشاكل الإنسان هي بسبب نفسه الأمّارة... 69

الخطوة الثالثة: لماذا هذا السقوط؟... 72

السبب الأوَّل: التربية غير الصحيحة... 73

السبب الثاني: القدوة السيِّئة... 74

السبب الثالث: ضغوط العصر... 75

السبب الرابع: الشيطان... 76

الخطوة الرابعة: كيف تُنمّي نفسك؟... 80

الأمر الأوَّل: تابع نفسك... 80

الأُولىٰ: المشارطة... 80

الثانية: المراقبة... 81

الثالثة: المحاسبة... 83

الأمر الثاني: ارحم نفسك... 84

الأمر الثالث: قوِّ نفسك... 85

المفردة الرابعة: الاستخفاف والتهاون بإزالة الحُجُب... 89

النقطة الأُولىٰ... 91

النقطة الثانية... 92

النقطة الثالثة... 93

ص: 292

النقطة الرابعة... 99

المعنىٰ الأوَّل: الكمال اللّامتناهي!... 100

المعنىٰ الثاني: الصالحات من دون شروط قبولها... 101

النقطة الخامسة: التوصيات... 103

المفردة الخامسة: الاستخفاف والتهاون بالذنوب... 107

كيف تكبر الصغيرة؟... 115

أوَّلاً: استصغار الذنب... 115

ثانياً: الإصرار علىٰ الذنب... 116

ثالثاً: المجاهرة بالذنب... 118

رابعاً: الابتهاج بالذنب والسرور به... 120

خامساً: ذنب العالم الذي يُقتدىٰ به... 121

سادساً: التهاون بستر الله عليه... 122

المفردة السادسة: الاستخفاف والتهاون بحقوق الجسم... 125

إنَّ لبدنك عليك حقًّا.. 127

النقطة الأُولىٰ: حقوق البدن في عالم الأرحام... 128

الحكم الأوَّل... 129

الحكم الثاني... 129

الحكم الثالث... 130

الحكم الرابع... 132

تنبيهات... 133

التنبيه الأوَّل... 133

التنبيه الثاني... 133

ص: 293

التنبيه الثالث: حكم السقط من حيث الغَسل والدفن... 134

ملاحظة... 135

النقطة الثانية: حقُّ الحياة للبدن... 136

النقطة الثالثة: الصحَّة البدنية... 136

الأمر الأوَّل... 136

الأمر الثاني... 137

الأمر الثالث... 138

النقطة الرابعة: التخفيفات الفقهية... 140

النقطة الخامسة: حرمة بعض الأفعال... 141

النقطة السادسة: حقوق البدن بعد الموت... 141

المفردة السابعة: الاستخفاف والتهاون بالفتوىٰ... 145

تعليمات أهل البيت (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) في هذا المجال... 152

الأمر الأوَّل... 152

الأمر الثاني... 153

أوَّلاً: أنَّه سبب من أسباب الهلاك... 153

ثانياً: أنَّه سبب للعنة والطرد عن القرب الإلهي... 153

ثالثاً: أنَّه علامة مضادَّة الله تعالىٰ... 153

رابعاً: أنَّه سبب للإفساد أكثر من الإصلاح... 153

خامساً: أنَّ الفتوىٰ تجعل الرقبة جسراً لعبور الغير عليها... 154

سادساً: أنَّها سبب للضمان الأُخروي... 154

الإفتاء بغير علم علامة الانحراف عن خطِّ أهل البيت (عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ)... 154

ملاحظة... 156

ص: 294

المفردة الثامنة: الاستخفاف والتهاون بأموال الناس... 157

الدعوة إلىٰ كتابة الحقوق... 159

المؤمن لا يخون... 160

واقع مُرٌّ... 161

الحالة الأُولىٰ: إنكار أو مطل الدَّين... 161

الحالة الثانية: الغضُّ ع_ن الأموال القليلة... 163

ملاحظتان... 164

الملاحظة الأُولىٰ... 164

الملاحظة الثانية... 166

الحالة الثالثة: التقصير في أداء الحقوق المالية اللازمة... 166

الحالة الرابعة: أكل مهور النساء... 171

الحالة الخامسة: الاستخفاف بالنفقات الواجبة...174

أوَّلاً: الزوجة... 175

ثانياً: القرابة، أي الآباء والأبناء... 175

ثالثاً: المملوك... 177

رابعاً: الاضطرار... 177

فذلكة تفصيلية للنفقات المتبادلة... 177

الحالة السادسة: التهاون بأداء الغرامات الشرعية... 181

الحالة السابعة: التهاون بحقِّ ورثة الميِّت في ديته... 183

المفردة التاسعة: الاستخفاف والتهاون بأحكام الأولاد... 185

الحقوق الأخلاقية للأولاد... 187

أ - اختيار الأُمِّ المناسبة لأطفال المستقبل... 187

ص: 295

ب - العمل علىٰ أن تكون مرضعة ولدك وحاضنته هي أُمَّه... 188

ج - اختيار الاسم الجميل لولدك... 190

د - تعليم الولد... 192

ه_ - العدل معهم، وبيان المبرِّرات المقنعة عند اختلاف التعامل مع بعضهم... 193

و - اللعب مع الطفل والتصابي له... 194

ح - تحمُّل مشاقَّ التربية... 195

المفردة العاشرة: الاستخفاف والتهاون بأعراض الناس... 197

المفردة الحادية عشرة: الاستخفاف والتهاون بالعفاف... 209

جهات العفَّة... 213

الجهة الأُولىٰ: عفَّة اليد... 214

الجهة الثانية: عفَّة اللسان... 214

ملاحظة... 217

الجهة الثالثة: عفَّة الفرج... 217

أوَّلاً: النظرة المحرَّمة... 218

ثانياً: المصافحة المحرَّمة... 220

ثالثاً: المزاح المحرَّم... 220

رابعاً: الخلوة بالأجنبية... 221

خامساً: وصف محاسن المرأة... 221

سادساً: تزيُّن المرأة لغير زوجها بعطر وما شابه... 222

سابعاً: مقاربة الأهل علىٰ منظر ومسمع من الأطفال... 223

ثامناً: بعض السلوكيات التي يمكن أن تُهيِّج الرجل أو المرأة... 224

ص: 296

ملاحظة: عفَّة المظهر... 225

المفردة الثانية عشرة: الاستخفاف والتهاون بالكذب... 227

النقطة الأُولىٰ: الكذب بالإخبار... 231

النقطة الثانية: خُلف الوعد.. 232

النقطة الثالثة: اليمين الغموس... 233

النقطة الرابعة: الكذبة البيضاء أو الكذيبة... 235

ملحق: موارد جواز الكذب... 236

المفردة الثالثة عشرة: الاستخفاف والتهاون بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... 239

خطر ترك هذه الفريضة... 243

اعتذارات واهية... 245

أدلَّة إمكان التغيير... 247

أوَّلاً: الرفق بالآخر... 251

ثانياً: تحيُّن الظرف الملائم... 253

ثالثاً: الكناية أبلغ من التصريح... 254

المفردة الرابعة عشرة: الاستخفاف والتهاون بالوقت... 257

هل تعلم؟... 259

النقطة الأُولىٰ: المدير الناجح للوقت يُقسِّم وقته بصورة صحيحة... 264

أوَّلاً: ملاحظة العلاقة مع الدِّين... 265

ثانياً: ملاحظة العلاقة مع الأُسرة... 266

ثالثاً: ملاحظة العلاقة مع المجتمع... 267

رابعاً: ملاحظة العلاقة مع العمل... 268

ص: 297

خامساً: ملاحظة العلاقة مع النفس... 269

روايات تقسيم الوقت... 271

النقطة الثانية: المدير الناجح للوقت، ليس عنده وقت ضائع... 273

المصادر والمراجع... 281

الفهرس... 291

ص: 298

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.