الأسرار الإلهية و الفيوضات الربانية بحوث عرفانية - أخلاقية - عقائدية

هویة الکتاب

الأسرار الإلهية و الفيوضات الربانية

من فکر السید عبد الأعلی السبزواري

إبراهیم سرور

دار المتقین

وصف المنشئ: عبدالأعلى سبزواري؛ جامع: ابراهیم سرور

لسان: العربية

المواضيع: سير و سلوک، فيض، فيض الهی، سير و سلوک عرفانی، عرفان، اسرار

المبدعون: سبزواري، عبدالاعلي، 1288-1372 (سرشناسه)

سرور، ابراهيم (جامع)

الناشر: دار المتقین

المتبرع الدیجیتالي : مركز خدمة مدرسة إصفهان

محرر: محمدحسین دادخواه

ص: 1

اشارة

الأسرار الإلهية

و الفيوضات الربانية

بحوث عرفانية - أخلاقية - عقائدية

ص: 2

الأسرار الإلهية

و الفيوضات الربانية

بحوث عرفانية - أخلاقية - عقائدية

من مواهب السيد عبد الأعلى السبزواري

إعداد

السيد إبراهيم سرور

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 4

مقدمة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه و الحمد حقه كما يستحقه حمداً كثيراً، و أعوذ به من شرِّ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، و أعوذ به من شر الشيطان الذي يزيدني ذنباً إلى ذنبي، و أحترز به من كل سلطان جائر و عدو قاهر، و أصلي و أسلم على غياث الأمة و شفيعها يوم المحشر المبعوث رحمة للعالمين أبي القاسم أبي الزهراء محمد بن عبد اللّه و على آله الطاهرين لا سيما بقية اللّه في الأرضين الحجة المهدي المنتظر، مکَّن له اللّه في الأرض خير تمكين و دفع عنه كل المحن و الابتلاءات بمحمد و آله الطاهرين و بعد:

هناك الكثير من المسائل التي تطرق إليها السيد المقدس السبزواري و البحوث المتنوعة التي دأب على الاستلهام منها كل رائد المطالب الحق و الحقيقة، و لا سيما تلك التي تربي النفوس و تنوّر العقول و تثقف الإنسان لتصيره بعد ذلك إنساناً ملكوتياً عالماً بتلك القضايا التي تخفى على الكثيرين ممّن لم يخوضوا هذا الغمار و المعترك

ص: 5

اللامتناهي، و نحن التائقون إلى الإفاضة و الإزدياد منها ما دمنا على وجه البسيطة لا نزال نواجه كل العوائق التي تحول دون بلوغ تلك المقاصد العليا التي لا تنال إلا بالصبر و الثبات، و ذلك لأن الصبر يحتاج إلى صبر و هذا هو طريق العلم الإلهي الذي لا بد لنا من السير الحثيث و الجاد للوصول إلى بعض نفحاته «إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها و لا تعرضوا عنها»، و لقد جاء هذا الكتاب لتغذية هذا الجانب من حياة الإنسان ولكي ينمّي له المدارك العلمية و العملية على حد سواء.

و نحن انطلاقاً من هذا المبدأ عملنا جاهدين و بما رزقنا اللّه تعالی على نشر أهم تلك المطالب و البحوث التي تنمي الفكر و الروح، نعم إن هذه الواردات القلبية التي صحبت السيد المقدس تعطينا الكثير الكثير من الأسرار و الفيوضات الغيبية التي لا نتوقعها لكن علينا أن نكون من أهل ذلك السلوك الذي يربطنا بشكل أو بآخر بعالم الحقيقة، هذا و أسأل اللّه تبارك و تعالى أن يشملنا بالنسمات التي تهب بين الفينة و الأخرى حتى نكون من أهل المعرفة في الدنيا و الآخرة و آخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين و صلى اللّه على سيدنا محمد و على آله الطيبين الطاهرين.

إبراهيم سرور 15/ 3/ 2010م

ص: 6

بعض المقامات لأصحاب السير و السلوك

يمكن أن تتضمن الآيات الشريفة(1) إشارات لأصحاب السير و أرباب السلوك، لأنّهم حرّموا على أنفسهم الدنيا و زخارفها، بل الموقنين منهم العاشقين إلى اللقاء و المشتاقين للحق حرّموا على أنفسهم نعيم الآخرة أيضاً، كما عن علي أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة و السلام) في كثير من دعواته الشريفة و كلماته الحكيمة، و عن نبيّنا الأعظم صلی اللّه علیه و آله و سلم: «الدنيا حرام على أهل الآخرة و الآخرة حرام على أهل الدنيا، و هما حرامان على أهل اللّه تبارك و تعالی»، فسألوا بلسان الحال أو الاستعداد من الطيب الطيّبات، و في الحديث: «إن اللّه طيّب لا يقبل إلّا الطيّب». فأوحى إلى حبيبه و نبيّه: قل للسالكين و المشتاقين و المؤمنين من عبادي الطالبين للحقّ «أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ» من طرق الوصول إلى ساحة كبريائه، مطيّباً بجذبات الحق و نفحات الشهود، لا

ص: 7


1- (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5))

من كل مأكول - و مشروب أو ملبوس أو مقول أو معقول - فإنّها لا تليق بمقامهم و إن كانت لوجه اللّه تعالى، إذ لو لم تكن كذلك فقد لوّثت و خبثت، و مع ذلك أن المشتاقين للحقيقة و الموقنين باللقاء و العارفين بالحقّ لا يهتمون بالمظاهر، بل هي محرّمة عليهم، لأنّها من شؤون الدنيا التي لا تحلّ لهم إلّا بمقدار الاضطرار، كما تقدّم عن الصادق عليه السلام، فلا حظّ لهم فيها و إنّما حظوظهم في الكمالات التي أهمّها أخلاق اللّه تعالى المنزّهة عن النقائص و الشبهات، فإنّ أهل العرفان و السير و السلوك لا يتفكرون إلّا في عظمة الذات، و لا يسيرون إلّا في ميادين الأنوار، فالدلائل عندهم مدلولات، و الغيب شهادات، فأعيانهم في هذه الدنيا مشهودة و أرواحهم عنها مخلوعة، و هي تسير في أفلاك العظمة (بل تصاحب بعضها الأرواح القدسية و الملائكة البررة)، و هي تيقّنت بعد المشاهدة بتوحيد الذات و الفعل، و تهلّلت عن إخلاص بعدما ظهرت الحقيقة، و سبّحت بعدما رأت العجائب في الخلق و في النفس، و حمدت بعدما أفاض اللّه تعالى عليها من النِّعَم، فهم للحق واجدون و للخلق مشاهدون، فبارك اللّه تعالى في عُمرهم، و تجلّى على قلوبهم، لأنّهم ساروا على نهج محمد صلی اللّه علیه و آله و سلم و اقتدوا بخلفائه المعصومين عليهم السلام، و نبذوا الدنيا لأهلها، و توكّلوا على خالقهم في الأشياء كلها، و في الآنات جميعها، و تواضعوا للعلم و الحقيقة، فاكتسبوا أيضاً من الخلائق التي خضعت لخالقها و أشرقت بكلمة «كُنْ فَيَكُونُ» أسمى صفاتها، و أعرضوا عن ذمامها و علّموا غيرهم بمختلف درجاتهم و طبقاتهم، و تحمّلوا عناء التعلّم من الذين لم ينالوا

ص: 8

شرف العزّ و العرفان إلّا لأجل سعادتهم، تقرّباً لوجهه الكريم و بثّاً لما أنعم من الفضائل عليهم بإذن منه جلّ شأنه، و لذا عطف عزّ و جلّ على الطيّبات «وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ»، أي: کاسبة لها لياقة الكسب و الخروج عن ظلمات الجهل، «مُكَلِّبِينَ» مسلطين على مخالفة الهوى، مشددين على هداية الناس «تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ» ترشدون الفئة الضالّة إلى طرق التوحيد، و تأدبونهن بآداب الشريعة التي فيها السعادة و ارتياح النفس ممّا ألهمكم اللّه تعالى، لأنّ العلم إمّا إلهام رباني أو مكتسب عقلائي، فهما منحة منه جلّ شأنه «فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ» بالتوجه و استيعاب الضمير بأخذ العبرة و الدلالة في عجائب خليقته، و بما منح اللّه من الألطاف المنتشرة على ما سواه، «وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ» فتوجهوا إليه لأنّه أخرجکم من ظلمات الجهل إلى نور العلم، و رزقكم من أنواع الطيّبات، و باسمه أشرقت الكائنات و تجلّت، فلا اسم أشرف و أعزّ و أكرم من اسمه، فهو السموّ الواقعي المنحصر به، و هو اللائق بالذكر على جميع الأشياء دون غيره، و به تنكشف المهمات، و تقضي الحاجات، و به يدخل المؤمن الجنة، و بنسيانه يدخل المنافق النار، و «وَاتَّقُوا اللَّهَ» في جميع الشؤون و تمام الحالات، لأنّها السبيل الوحيد النيل السعادة و كسب الفضائل، و بها يبتعد الشيطان و يرغم أنفه، و هي البذرة للوصول إلى المعالي «إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ» في أقرب ما يمكن من الزمان و المكان، لإحاطته التامة على كلّ ما جلّ و دق، فيحاسبكم على نواياكم، فكيف أعمالكم و أفعالكم «الْيَوْمَ» تقیید إحلال الطيّبات - بعد ذكرها مطلقة، و بمعناها الوسيع كما مرّ - باليوم

ص: 9

الأجل بيان أمر واقعي و حقيقة منوطة به، و هي أنّ حليّة الطيّبات موقوفة على الولاية، و لولاها لما طابت و إن كانت طيّبة من كسب اليد، و الوجه الحلال إلّا أنّها بحسب الظاهر لأجل حفظ النظام لا للكمّل من الإيمان، فالمراد من اليوم الزمان الخاصّ الذي تجلّى فيه سبحانه و تعالى بإكمال دينه و تنفيذ ولايته على لسان حبيبه صلی اللّه علیه و آله و سلم، و «أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ» من الأخلاق الجميلة و الصفات الحميدة، و الأفعال الحسنة، و العلوم النبيلة و السبل المستقيمة، فإنّ جميعها حلّ للمؤمن الملتزم بما أنزله اللّه تعالى، لأنّه مثال للطيّبات لما اقتبسه من الأنبياء و الأولياء علیهم السلام، و لذا قال تعالى: «وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ» بتنویر قلوبكم بنور العلم و المعرفة بالعروج من حضيض البهيمة إلى أوج العظمة من الكمال، بالاقتداء بالأنبياء و الأولياء، «وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ» لأن المعارف الإلهيّة النازلة على قلب أشرف من في الورى لا اختصاص لها بأحد، فللجميع الفوز من هذا المنبع، و النيل من هذا المشرب بعد عناء كسب الأهليّة. نعم للنبي الكريم صلی اللّه علیه و آله و سلم الاختصاص بالمقام المحمود و بالمشرب المحبوب: «أبيت عند ربي يطعمني و يسقيني لا يشاركه فيه ملك مقرب و لا نبي مرسل»، فعلّهم يهتدون إلى الحقّ و يميزون الخبيث من الطيب بطعامكم و علومكم، «وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ» أي: اللاتي أحصنّ أنفسهن عمّا لا ينبغي، و إنّها الخواص من هذه الأمة، و هي طائفة أدركت حقائق الدين، و كشفت أسرار القرآن المبين، و وصلت إلى قمّة الإيمان و أعلى مراتب اليقين، حلّ لكم أن

ص: 10

تقتبسوا منهن و تركنوا إليهن، سواء كانوا من المؤمنين أم المؤمنات لما حصنت نفوسهم بإطاعة اللّه تعالى و مخالفة الشيطان، «وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ» و هي الحقائق في الكتب المنزّلة على السالفة التي أحصنت من كلّ سوء، فإنّها كلّها لكم، بها تبلغون الكمال المنشود، «إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» ببذل الوجود بعد مخالفة الهوى، فإنّها مهور هذه الأبكار و الحقائق «غَيْرَ مُسَافِحِينَ» بتصرّف الهوى و التعدّي بالانحراف عن الشرع، «وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ» بأن لا يلتفت إلى غير اللّه تعالى و لا يتخذ الدنيا مارباً و من فيها صاحباً، بل يكون هو جلّ شأنه الصاحب، و الناصر، و المعين، و الحافظ و لا غيره «وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ» لأنّه انحرف عن الصراط المستقيم، و بعد عن الحقّ القويم، «وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ» لأنّه غبن نفسه بالميل عن الطيبات إلى الخبائث و النزول إلى الهاوية بمتابعة الهوى و الشيطان الذي هو على جانب النقيض من المؤمنين المخلصين، و العرفاء الموقنین، و السالكين إلى اللّه تعالى الذين ليس في قلوبهم سواه عزّ و جلّ و لم تتّجه نفوسهم الغيره جلّ شأنه، و تفانوا في اللّه جلّت عظمته، فأفاض سبحانه و تعالى عليهم ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر كما في القدسيات.

و إن لم أر لهذه البحوث العرفانيّة إقبالاً عملياً إلّا من أخصّ الخواص، لأنّ غيرهم توجّهوا للمظاهر و تركوا الحقائق، و أخذوا بالقشور و رفضوا اللباب، فإليه جلّت عظمته المشتكى من مكائد الشيطان، و قال شاعرهم:

ص: 11

تَرکتُ هَویٰ سُعدىٰ و ليلىٰ بمعزلٍ *** و صرتُ إلى علياء أول منزل

فنادَتْنيَ الأكوان من كلّ جانبٍ *** ألا أيّها الساعي رُوَيْدك فامهلِ

غَزلتُ لهم غزلاً رقيقاً فلم أجد *** لغزلي نسّاجاً فكسّرت مِغزلي(1)

ص: 12


1- مواهب الرحمن، ج10، ص392 - 395.

بعض مقامات أهل السير و السلوك

ظاهر الآية المباركة(1) و إن كان خطاباً للمؤمنين بإبلاغهم تکالیف توجب رقيّ نفوسهم و تنویر قلوبهم، ولكن يحتمل أن يكون باطنها عتاباً لأهل السير و السلوك الذين يطلبون الحقّ و يسعون للوصول إلى الحقيقة بهجر الدنيا لنيل رضاه تعالى، فناداهم ربّهم جلّ شأنه بقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) أي: الدنيا بأسرها، ففي كثير من الروايات التعبير عن الدنيا بالميتة، فعن جعفر بن محمد الصادق عليه أفضل الصلاة و السلام: «و اللّه لقد نزلت الدنيا منزلة الميتة متى اضطررت إليها أكلت»، فحرّمت الدنيا على الطالبين للحقّ و السالكين إلى ساحة قربه، «وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ» كذلك حرّمت عليهم الصفات التي توجب البُعد عن الأخلاق السامية كالحرص و القسوة، بل حرّمت عليهم جميع ألوان الدنيا و متغيّراتها حتّى الحلال منها فكيف بالحرام. «وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ

ص: 13


1- «يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)»

بِهِ» و أيضاً حرّمت عليهم كل فعل رفع صوت النفس بالأمر به، لأنّ صوتها لغير اللّه تعالى، «وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ» و كذلك حرّم عليهم اختناق فطرته الداعية إلى اللّه العظيم بمخالب الأطماع، أو خنق نفوسهم بإخراج أنوارها الكائنة فيها بالرياء و الإسماع، أو بضرب جرح الصدر المنشرح بالإسلام و المهيّأ للحضور عند صاحب القلب و خالقه العلّام، «وَالْمُتَرَدِّيَةُ» فحرّم عليهم أن يردوا أنفسهم من أعلى العليين إلى أسفل السافلین باتّباع الشهوات و التعلّق بالماديات، «وَالنَّطِيحَةُ» أي: حرّم عليهم التناطح مع الأقران بالتفاخر و المماراة بالعلم و الزهد - حتّى في السير و السلوك - بين الأخوان، «وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ» فحرّم عليهم القرب عن كل ظالم الذين يتهاوشون على جيفة الدنيا تهاوش الكلاب، «وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ» كما حرّم عليهم تقرب نفوسهم لبيوت الأوثان، و هي المظاهر الموجبة للصدّ عن معرفة اللّه تعالى بالتوغّل فيما يوجب البعد عن ساحة قربه بمعاشرة غير الأولياء الأخبار و الأبرار، «وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ» فلا تكونوا متردّدين متفائلين غير متوكلين على اللّه تعالی بفتح قلوبكم لسهام الشيطان.

فإذا خلصتم من هذه الدواهي، و تركتم هذه القبائح، و خرجتم من هذه الظلمات لكون «ذَلِكُمْ فِسْقٌ» أي: أنّ جميعها مهالك و ظلمات توجب إماتة القلب، و إخماد الفطرة، و العذاب الأليم، لأنّه يوجب الخروج عن طاعة اللّه تعالى ف_«الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا» لتحلية نفوسكم بالفيوضات الإلهيّة بعد التخلية عن المكائد الشيطانيّة، و يأسهم عن

ص: 14

إضلالكم لعدم تأثير الدنيا في نفوسكم مهما تزيّنت و تلوّنت، لحصول المقصود بعدما خلصتم أنفسكم من تلك الظلمات، فعادت ليلكم نهاراً و نهاركم أنواراً «مِنْ دِينِكُمْ» لأنّه المنهج الوحيد للرقي إلى المراتب العالية، و الوصول إلى المقامات السامية و الفوز بالسعادة الأبديّة، «فَلَا تَخْشَوْهُمْ» لأنّكم بلغتم المرحلة التي لا تؤثّر فيكم مكائد الشيطان و مصائده، و نلتم المقام الذي قاله رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم لبلال: «ما فعلت یا بلال سمعت دقّة نعليك قبل دخولي الجنّة»، «وَاخْشَوْنِ» لأن الكمال و التكامل منه تعالى و أنّ كيده متين و بطشه شدید، و لولا إمداده لانعدمت الكائنات و زالت السماوات و فنيت الموجودات، «الْيَوْمَ» و هو يوم ظهور الحقّ و كشف الحقيقة، «أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» فإنّ كمال الدين كان في الأزل موجوداً ولكن أنعمت عليكم بالتوفيق لاستعدادكم بالتديّن به، و به تنكشف الحجب و ترتفع الأستار بعد صفاء نفوسكم و حياة قلوبكم، «وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي» التي أنعمت بها عليكم من التوفيقات و التأييدات و إظهار دينكم على الأديان كلها في الظاهر و الحقيقة بالولاية، «وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا» حتى تستكملوا به نفوسكم و تسلكوا به إلى اللّه تعالى بالخروج عن الوجود المجازي بالوصول إلى الوجود الحقيقي، فإنّ ابتغاء رضاءه من أسمى الكمالات، و إنّ الإسلام هو دينه إلى الأبد. «فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ» بالالتفات إلى الدنيا مضطراً إليها في غاية الاضطرار، «غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ» غير مائل إليها قلباً و غير متجاوز عن قدر الضرورة مع حفظ الحقّ و الحقيقة الَّتي نزلت في

ص: 15

قلبكم، و المعرفة التي أفاضها اللّه تعالی علیکم، «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لما ابتلى من الالتفات إلى غيره تعالى المضطر إليه، «رَحِيمٌ» يهديهم إلى الحقّ بإقامة الدين و السير في الصراط المستقيم بعد الاستغفار و طلب الاستعانة من العزيز القهّار، و من اللّه الاعتصام.(1)

ص: 16


1- مواهب الرحمن، ج10، ص349 - 351.

بعض الرموز و الإشارات للسالكين

الآيات الشريفة(1) تتضمن إشارات و رموزاً للسالكين يعرفونها بقوة حدسهم و صائب فكرهم و النور الذي أودعه اللّه تعالى في قلوبهم و منها يستفيدون كيفية المخاطبة مع خالقهم العزيز و يتعلمون أدب المحاورة معه عز و جل فإن له أثراً كبيراً و عظيماً بل هو الشرط في دخولهم في هذا الحريم و هو المحاورة مع اللّه تعالى و الأنس به عز و جل بل في الأدب معه تتجلى حقيقة العبد، و الأدب المبحوث عنه في كتب الأخلاق و ما ورد فيه في كتب الدعاء إنما هو هيئة حسنة، و الصفة الخاصة التي يتلبس بها الداعي أو الشخص لملاقات شخص عظيم بلا فرق بين أن تكون في المنظر أو اللباس أو الأفعال و الأقوال فتختص بما إذا كان الفعل محبوباً في حد نفسه فلا تشمل الممنوعات شرعاً و تشمل جميع الأفعال الاختيارية الحسنة و هذا مما اتفق عليه العقلاء و إن

ص: 17


1- «وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)»

اختلفت المجتمعات في مصاديقها فالأدب محبوب بذاته تدعو إليه الفطرة و يتعاملها العقلاء و يستحسنونه مطلقاً و اختلافهم في المصادیق و الإفراد لا يضر بأصل حسنه بحيث يكون أدب كل مجتمع حاكياً عما عليه من العادات و التقاليد و الأخلاق. إلا أن في الإسلام آداباً خاصة تنبيء عن حقائق متأصلة و هي عامة تشمل جميع مظاهر الحياة و تدل على كمال الإسلام و رقيه عن جميع ما يكون مبتذلاً، و لما كانت دعوة الإسلام إلى التوحيد و تطبيقه في الاعتقاد و العمل به في جميع وجوه الحياة الدنيوية فكان الأدب في الإسلام موظفة في هذا السبيل بحيث يرجع العبد في تطبيقه للأدب إلى جعل نفسه عبدة خاضعاً للّه تعالی تظهر سمات العبودية على جميع جهات وجوده و أطواره ظاهراً و باطناً فكل من اشتد تأدبه مع اللّه تعالی کانت سمات العبودية عليه أظهر و لا ريب أن الأنبياء و الأولياء و الصالحين من عباده لهم الحظ الأوفر و هم الأساس المتين في العبودية فيكون أدبهم مع اللّه تعالى أشد و أظهر و أعمق و لذا صاروا مربين و معلمين لأممهم بهم يقتدي في عنوان العبودية و مظاهرها و يتعلم منهم سمات الأدب لأنهم علموا و عملوا بما علموه فصاروا مظاهر قدوة لغيرهم و تأثرت نفوسهم القدسية فصاروا مظاهر العبودية لخالقهم و تهذبت بالتعاليم الربانية و اشتغلوا بالطاعة لبارئهم فتأثرت النفوس المستعدة بهم فكانوا مربين حقيقيين و انقادت النفوس إليهم و من المستحيل أن ينقاد شخص لآخر في العظة و النصيحة، و الواعظ لم يعمل بما يعظ به غيره و هذا أمر فطري مرکوز في النفوس لقد أرشد إلى هذه الفطرة قوله تعالى: «أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ

ص: 18

أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» (یونس: 35).

و قد أكد الإسلام على العمل و لم يكتف بالقوانين العامة و الكليات العقلية ما لم تنطبق على المجالات العملية و لذا كان المربي في الإسلام قدوة حسنة في العلم و العمل و فيه شروط معينة لا يمكن أن يكون مربية ما لم يكن متصفا بما يصفه للمتعلم و متلبسا بما يريد أن يخلعه على غيره.

و يمكن تقسيم الأدب إلى أقسام متعددة كالأدب العملي المنطبق على العمل و الأدب القولي الذي يتحقق في القول الذي يحكي طبيعة نفس المتكلم و يدور فيها من كفر أو نفاق أو إيمان فإن في الكلام الصادر من كل متکلم جهتين متميزتين الدلالة الوضعية التي تلازم جهة الصلاح غالبا، و الدلالات الالتزامية التي تدل على ما يكمن في النفس من الصفات و لا يمكن أن يعرفها إلا من كان على بصيرة من الأمر، و قد قال تعالى في وصف المنافقين «وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ» (محمد:30)، و إذ تتبعنا كلامه عز و جل في ما يحكي عن حالات الأنبياء و الرسل علیهم السلام يتضح ما يتجلى فيها من غاية الأدب الإلهي في جميع حالاتهم مع اللّه تعالى أو مع الخلق و هي شواهد صدق على حسن تأدبهم و إن بنفسها تعليماّ عملياّ لغيرهم ممن يريد الأسوة الحسنة و قد قال تعالى في حق أنبيائه الكرام «أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ» (الأنعام:90)، و لا ريب أن الهداية المأمور بالاقتداء إنما هي

ص: 19

الهداية إلى التوحيد و نبذ الشرك و قد ذكرنا أنه لا بد من أن تظهر في الأعمال و الأقوال و الاعتقاد و تكون حاكية عن الاعتقاد الخالص الذي يتجسم في العمل فكان كل واحد منهما حاكياً و مرآة للتوحيد التام.

و من هنا ترى أنهم في أدبهم العام في حياتهم العملية أنهم على خضوع و خشوع للّه عز و جل فتراهم سجداً و بكيّاً و لا شبهه إنهما من أقوى مظاهر التوحيد و استيلاء صفة العبودية على جميع مشاعرهم و نفوسهم القدسية فلا يفترق عندهم الحال بين الخلوة مع اللّه العزيز المتعال أو مع خلقه، فهم في جميع الأحوال على أدب إلهي مع اللّه و مع الناس جميعا و جميع أطوارهم على نهج واحد، و هذا الأدب إن كان انفرادياً لكل رسول و نبي ولكنهم لم يخرجوا عن المجتمع فهم من أفراده و لهم أدب خاص و هم المسمى بالأدب الاجتماعي و قد جمعهما اللّه تعالى في آيات متعددة في القرآن الكريم. قال عز و جل: «يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)» (المؤمنون:51، 52). فقد أمرهم عز و جل بالأكل من الطيبات و التصرف فيها و التنزه عن الخبائث التي تتنفر منها الطباع و إتيان العمل الصالح الذي يجعل الإنسان من الصالحين و ما ينبغي أن يكون صالحاً لأن يقدمه إلى رب العزة و الجلال، و هذا الأدب مما يتعلق بالأفراد منهم (صلوات اللّه عليهم أجمعين).

و أما الأدب الذي يتعلق بالناس بينهم بأن يكونوا أمة واحدة لا

ص: 20

اختلاف فيها بلا فرق بين الرسول و المرسل إليهم و أن يجتمعوا على عبادة الرب و يتفقوا على كلمة التقوى و بذلك ينقطع دابر الفرقة و الاختلاف بينهم فيتحقق مجتمع توحيدي لا اختلاف بين أفراده الذين اتفقوا على عبادة اللّه الواحد الأحد و قد سرى الأدب الإلهي بين الأفراد في جميع أحوالهم و أطوارهم فلا تتعدى السعادة عنهم حينئذ أبداً. و الآيات في ذلك كثيرة.

و أما أدب الدعاء الذي امتاز الأنبياء و المرسلون به فقد بلغ أعلى مراتبه و أقصى درجات العبودية و الخلوص و الإخلاص فيه، و قد حکی عز و جل جملة منها في كتابه الكريم و لا نريد أن ندخل في تفاصيل أدب كل رسول كما حكاه عز و جل في كتابه الكريم و ما ورد في السنة الشريفة، إلا أننا نذكر ما يتعلق بعيسى ابن مريم عليه السلام و حالاته مع الرب العظيم و قد تجلى فيه الأدب الإلهي على مظاهر وجوده الشريف، و ندع غيره في المواضع المناسبة إن شاء اللّه تعالی.

فالآيات الكريمة التي وردت في هذه السورة المباركة قد بينت كثيرة من الوجوه من حياته الشريفة و الانقطاعية مع اللّه عز و جل و ما تضمنته أفعاله و أقواله من الأدب الجليل العميق الظاهر عليه سمات العبودية المحضة الدالة على غاية الخضوع و الخشوع إلى اللّه المتعال و حسن تأدبه معه و قد تقدم في قصة المائدة إذ قال عز و جل حكاية عنه «قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ».

ص: 21

فإنه عليه السلام استعمل في كلامه ما يدل على غاية خضوعه و خشوعه لخالقه العظيم بعد مواجهته لسؤال الحواريين عنه في نزول المائدة و ما تضمن سؤالهم من الجفاء بظاهره و ما لا يوافق الأدب العبودي و إن كان أصل قصدهم معروفاً عنده، مضافة إلى أن طلبهم كان اقتراحاً منهم لآية جديدة مع آياته الكثيرة الباهرة الواضحة التي استوعبت أغلب مجالات حياتهم المادية و أحاطت بهم من كل جهة و قد عددها عز و جل قبل قصة المائدة تسجيلاً عليهم لإتمام الحجة عليهم و رفع كل ريب و شك فكان اختيارهم لآية جديدة يعود نفعها لأنفسهم يشبه اللعب بالآيات و هم منزهون عنه كما قال عليه السلام عند الاستخبار عن نواياهم «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» فأظهروا منوياتهم فاستجاب لطلبهم و دعا اللّه تعالی بدعاء ذي أدب رفيع و أدرج فيه اقتراحهم بما يناسب مقام العظمة و الكبرياء و نحن نذكر السمات المشتركة في أدب الأنبياء أولاً ثم نذكر الأدب الخاص به (عليه الصلاة و السلام) من جميع الآيات الواردة في شأنه.

الأول: إظهار العبودية المحضة الشاملة لجميع مظاهر وجودهم المبارك قال تعالى حكاية عنه «قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ». و من لوازم مثل هذه العبودية السمع و الطاعة فقالوا (سمعنا و أطعنا) لا كغيرهم إذ قالوا (سمعنا و عصينا).

الثاني: إبطال شأنهم مقابل معدن الكبرياء و العظمة فقال «مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ» فقد عرفت أنه لم يجعل لنفسه مرتبه حتى

ص: 22

ينفي القول عن نفسه بل نفاه بنفي لازمه و هذا من الأدب العبودي المتصف به هو و سائر الأنبياء العظام، و من لوازم هذا النوع أن الأنبياء كلهم لم يتمنوا على اللّه بإيمانهم و طاعتهم شيئاً بل كانت طاعتهم عبادتهم عبادة الأحرار كما وصفها أمير المؤمنين عليه السلام بأنه «وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك» و في الآيات الكريمة ما فيه الإشارة إلى ذلك فقال حكاية عنهم (غفرانك ربنا) بخلاف غيرهم فإن عبادتهم تختلف و قد حکی عز و جل عن اليهود حيث قالوا «سَيُغْفَرُ لَنَا».

الثالث: تنزيه ساحة الكبرياء و العظمة عن كل ما يتوهم النقص فيه كما قال عيسی عليه السلام «سبحانك ربنا».

الرابع: اشتمال كلامهم على منتهى الثناء و الابتهال بأبلغ بیان و أحسن وجه كما عرفت في آخر آیات هذه السورة و غيرها، و قال تعالى حكاية عن داود و سليمان عليهما السلام «وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)» (النمل: 15). الخامس: تصدير دعواتهم المباركة بكلمة الرب كما قال عیسی علیه السلام: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً» الدال على حضوره عز و جل و مراعاة خلقه و تربيتهم لهم كما في دعوات إبراهيم المباركة «ربي إني أسكنت» و كذا غيره من الأنبياء و المرسلين.

السادس: إن جميع أحوالهم و ألفاظهم تشتمل على ما يوافق أدب الحضور فكأن كل واحد منهم حاضر لدى جنابه عز و جل كما ذكرنا في قوله: «وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ».

ص: 23

السابع: اشتمال دعواته المباركة على ما يرجع إلى الصالح العام،

قال عليه السلام: «إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)» و قد عرفت أنه كان هذا الدعاء منه بأسلوب إيكال الأمر إليه عز و جل حتى لا يدخل في ضمن الدعاء للكافرين المرغوب عنه و استعمل من الأسماء العظام بما يناسب المقام و هم قد ألهموا علم الأسماء فيعلمون كيف يستعملون أسمائه المقدسة التي لها آثار خاصة، و قد قال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: «ربي ارزق أهله من الثمرات» و قال أيضا: «ربي اغفر لي و لوالدي و لجميع المؤمنين» إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، و في دعوات نبينا الأعظم ما يبهر العقول.

الثامن: أنهم إذا أرادوا حاجة لأنفسهم أشركوا معهم غيرهم ليعم النفع و قد عرفت دعاء إبراهيم «ربي اغفر لي و لوالدي و لجميع المؤمنين» و في دعاء عيسی عليه السلام «وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ».

التاسع: أنهم إذا أرادوا من اللّه شيئاً بما يرجع على أممهم عند المخالفة و الإمساك عن طاعتهم فلم يبق بعد الجهد الأكيد في التبليغ أن يرجعوا إلى اللّه تعالى بعد إتمام الحجة عليهم و نفاذ كل الوسائل في هدايتهم لم يستعملوا الألفاظ الصريحة بل هم يکنون في دعواتهم فقد حکی عز و جل عن موسى بن عمران عندما أمر قومه بالدخول إلى القرية «إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا» فقال موسى: «رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي» فقد کنی عن الإمساك عن أمرهم و تبليغهم ما

ص: 24

أمره ربهم مرة أخرى بعد تلك المواجهة العنيفة منهم، و من ذلك أيضاً دعاء شعيب على قومه إذ قال: «رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ» (الأعراف: 89)، فإنه استنجاز منه للوعد الإلهي بعد اليأس من نجاح دعوته فيهم نعم ورد في قصة نوح عليه السلام التصريح بطلب العذاب لكنه بين السبب في ذلك، فكان من أدب دعائهم بالشر أن تذكر الأمور التي يبعث إلى الدعاء بالکناية بخلاف الدعاء بالخير فإن التصريح بالأسباب أدعی في المطلوب كما في دعاء موسى علسه السلام حيث قال تعالى حكاية عنه «لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ» عند دعائه على فرعون و لم يأت بتفاصيل أخرى بخلاف الدعاء في طلب الخير فقد حكى عز و جل دعاء عيسى في نزول المائدة التي ذكر فيها التفاصيل فراجع.

العاشر: أنهم كانوا يراعون منتهى الأدب مع قومهم و هو يرجع إلى التبليغ العملي الذي يضاهي التبليغ القولي، و في القرآن الكريم الشيء الكثير.

قال تعالى حكاية عن نوح في المحاورة التي جرت بينه و بين قومه «قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)» (هود: 32 - 34)، فهي محاورة عجيبة تعج بالأدب الجميل و الثناء و التبليغ مع اللّه تعالى و الأدب اللطيف الذي يقبله مع طغاة قومه، و لذا كان نوح عليه السلام أول الأنبياء الذي فتح باب

ص: 25

الاحتجاج في الدعوة إلى التوحيد و يعثر المتمعّن في محاوراتهم على الطائف دقيقة.

و من فروع هذا الأدب الرفيع أنهم لم يستعملوا في كلماتهم و أقوالهم ما يسوء المخاطبين و إن كانوا من العتاة و الجهلة و الجبابرة و لم يخاطبوهم بكلمات نابية تدل على الإهانة و الازدراء و الشتم، و قد نال منهم المخالفون بشتى أنواع السب و الشتم و الاستهزاء و السخرية ولكنهم لم يجابهوهم إلا بالتي هي أحسن، قال تعالى حكاية عن عاد قوم هود «إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54)»«مِنْ دُونِهِ» (هود: 54، 55). و قال تعالى حكاية عن فرعون: «قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)»«قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25)»«قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)» (الشعراء: 23 - 28) و قال تعالى حكاية عن قوم خاتم الأنبياء «وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)» (الفرقان: 8، 9)، و غير ذلك من الآيات التي تحكي عن الأمم في محاوراتهم و محاججتهم مع أنبيائهم المشتملة على أنواع الإهانة و الشتم. و كان من أدبهم أنهم ينزلون أنفسهم منزلة آحاد الناس يكلمون كل طبقة منهم على قدر معرفة و منزلته من الفهم و قد قال: «إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم» و من أدبهم أنهم كانوا يتحملون أنواع الأذى في سبيل هداية الخلق

ص: 26

وإرشادهم إلى الحق فليس لهم هم إلا التبليغ و الإرشاد فهم تلبسوا بالحق و تنزهوا عن الباطل بكل أنحائه و لأجل ذلك إنهم كانوا متصفین بصراحة القول و صدق اللهجة و إن كان في بعض الموارد لا يقتضي ذلك كما هو الحال في المجتمعات غير الدينية التي تتبع سنة المداهنة و التساهل و الأدب الكاذب و لهذا الأدب الاجتماعي وجوه مختلفة تجلت في معاشرتهم مع الناس بجميع طبقاتهم الفقير و الغني و الحاكم و المحكوم و العبد و المولی، و الرجل و المرأة و الصغير و الكبير فقد كانوا مثالاً للحق بكل معنى الكلمة هذا بالنسبة إلى أدب الأنبياء الذين تأدبوا بالأدب الإلهي بجميع أنحائه و أطواره.

و أما عيسى عليه السلام فهو لم يخرج عن تلك الصفات المشتركة بينه و بين سائر الأنبياء و المرسلين فقد كان في غاية الأدب و منتهى الحسن في الصفات و التأدب مع اللّه تعالى إلا أنه اختص بالأدب الخاص لنفي ما ادعاه قومه فيه من الألوهية فاشتملت كلماته المباركة على التنزه و العبودية و إسناد أموره إلى اللّه تعالى و إلقاء شأنه أبداً مع خالقه العظيم.(1)

ص: 27


1- مواهب الرحمن، ج12، ص684.

لطائف عرفانية

يمكن أن تكون الآيات الشريفة(1) إشارة إلى معاني عرفانية، تتشوّق النفوس إليها و تنشط الأرواح بها و تزيل التعب عنها و تتوجّه إلى خالقها و تستعين منه، و لعلّ الآية المباركة: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»إشارة إلى عهود العشّاق المنقطعين عن ما سواه، و العاكفين على أبواب فيضه و رحمته، فعقدوا معه جلّ شأنه على بذل وجودهم لنیل مقصودهم - و هو رضاه - و تحمّلوا ألم الفراق و عذابه لأجل لقاء جماله، و صبروا على المكاره حتّى يتقرّبوا إليه بالشوق إلى دنوّه، فأنت الذي وهبت لهم من فيضك قدر ما يستحقّون، و أنعمت عليهم من آلائك قدر ما يتأهّلون باختيارهم، و جعلت في قلوبهم شوق لقائك، فهم منك، و إليك، و لك، و معك تعاهدوا و تعاقدوا «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ» [التوبة، الآية: 111]، و قال تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ» [البقرة، الآية: 207].

ص: 28


1- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)».

أو إشارة إلى أن ما تفضّل به على الإنسان و وهب له أعضاء يستخدمها في حياته، فكلّ عضو - نعمة و هبة - له عقد معه جلّ شأنه بأن لا يصرفه في معاصيه و نواهيه، فلا بدّ من الوفاء بهذه العقود التي عقدت معه تعالى، و يدلّ عليها روايات كثيرة ذكرها علماء الأخلاق في كتبهم.

أو إشارة إلى ما بذلوا من الجهد في هداية خلقك، و مهّدوا السبيل لهم للفوز إلى القرب من حضرة جمالك، و تعاقدوا ببذل أغلى و أعلى ما عندهم بقبولك بالدخول مع عبادك.

أو إشارة إلى إماتة الإنسيّة للنيل إلى المقامات العالية و العقد على مخالفة الهوى و طرد الشيطان، لتلقّي أنوارك.

و كيف ما كان، فمن أوفى بعهوده و دام على عقوده و صبر على بلائه و نجح في امتحانه، فقد فاز بمقصوده و تلقته السعادة، و تمثلته الإنسانيّة، و دخل الجنة بعدما أزلفت له.

و لعلّ المراد من قوله جلّ شأنه: «أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ» أحلّ ذبح بهيمة النفس التي هي كالأنعام بل أضلّ سبيلاً، و قتل الأهواء الشريرة حتى تنكشف الحقائق و تزيل الأوهام، فعن علي عليه السلام: «المؤمن ينظر بنور اللّه»، لأنّه من اللّه تعالى و إلى اللّه تعالى، و هو في نور اللّه و يرى بنور اللّه، إن عرف اللّه و أزال الحجب بينه و بين اللّه تعالى، و هذه الأنوار غير محدودة، كما تقدم في أحد مباحثنا السابقة، ولكن الاستعداد و اللياقة بل الأهليّة لها دخل فيها.

ص: 29

و لعلّ الاستثناء في قوله تعالى: «إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ» يشير إلى الخلص من عباده، و هم النفوس المطمئنة الثابتة التي فازت بالقرب إلى ساحة جماله، و تشرّفت بالخطاب الأبدي الربوبي، فسمعت بأذن نقية داعية قوله تعالى: «ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)»، لأنّها أُحرمت بالتنفّر عن الدنيا و ما فيها و توجّهت إلى كعبة الوصال بتلبية الشوق، و تمسّكت بعرى العشق لحضرة الجمال، و آنست مع الطائفين حول بیت الحقيقة و الأمان، و أوت إلى الركن خوفاً من الأغيار، و تجرّدت عن ما سواه، و انفردت عن كلّ محبوب و مطلوب بالتوجّه إلى المقام، و لذلك كلّه يرى في كلّ شيء جماله جلّت عظمته كما عن سيد العرفاء و إمام الموحّدین علیه السلام.

و لا شكّ «إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ» بترقي النفوس اللائقة و بذبح النفس إن اتّصفت بصفات البهيمة، و رعت في مراتع الحيوانات السفليّة، و رفثت كما ترفث الحيوانات البريّة، و تشبّهت بالحيوانات السبعیّة حتى تنال طعمة من المآكل الدنيّة.

«مَا يُرِيدُ» كما يشاء و يريد، فإنّه رؤوف کریم يحب أن يرى آثار نعمه على عباده، و في الحديث: «إن اللّه جميل و يحب الجمال»، الأعمّ من الظاهري و المعنوي، و لا يحبّ القيود و السلاسل «و يبغض العبد القاذورة». أي: الصفات الذميمة المتوطنة في النفس أو الأوساخ الظاهرة على الجسد.

و لعلّ المراد من قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ

ص: 30

اللَّهِ» لا تقطعوا السبل عمّن أراد وجهه تعالى، لأنّ الجهة عظيم لا السالك شريف - إلّا إذا كان مؤمناً - فإن القلوب تتسارع إلى الفضائل إن انكشفت لها الحقائق و تؤمن باللّه العظيم و ملائكته و رسله، لأنّ العبرة بالخاتمة، فلا تتهاونوا بحُرمات اللّه تعالی بصدّ السير للسالك إلى المنازل و الصعود من المواقف الدنيّة إلى التجرّد للقائه تعالی.

كما أنّ بعض النفوس المؤمنة تشرّفت بالقرب لساحته جلّ شأنه و فازت بنيل رضاه بالإفاضة عليها، كذلك بعض الأمكنة أشرق عليه نور ربّه جلّ شأنه فتشرّف و سمى على غيره، و كذا بعض الأزمنة فضّل على غيره لتجلّيه تعالى فيه، و هو تعالی فضل الأشهر و الأيام و الأوقات و الأمكنة بعضها على بعض، كما فضّل الرسل و الأمم بعضها على بعض، لتتسارع النفوس المستعدّة لشوق اللقاء بعد تطهيرها عن الرذائل و الأغيار، ثمّ التحلية بصفات الأخيار، فقال تعالى: «وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ»، أي: لا تستحلّوا المآثم فيه و قدّموا التخلية بإزالة الصفات الذميمة حتى تنالوا شرف التحلية فيه، فإن للزمان و المكان و الصاحب و الأستاذ الدخل الكبير في تأثير النفس للإيصال إلى المقصود بها، و في تحلية النفوس فيها.

و لا تمنعوا قوماً أرادوا التشرّف إلى كعبة الآمال و ساقوا الهدي للقربان لأجل التوصل لما يوجب الغفران من الآثام، حيث قال تعالى: «وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ»، أي: لا تحلّوا الهدي الذي يريد صاحبه التقرب به، و لا القلائد التي أسعرت بالشدّ لفكّ الشدّة.

ص: 31

و لعلّ المراد من قوله تعالى: «وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ» أنّ كل مخلوق من حيث إضافته إلى خالقه جلّ شأنه حسن، مع قطع النظر عن کونه سعيداً أو شقياً، لأنّه تعالى خلقه بيديه و من روحه و هو على صورته كما في بعض الأخبار، و إن لم يرضى المولي بكفره - فإحسانه الخلقه لا لكفره - و إذا قصد بيت الأمن و الأمان و أراد التوجّه إليه بالمقام، فلا تصدّوه عنه علّه يتحلّى بمكارم الأخلاق و محاسن الأفعال و يتشرّف بهدي الإسلام، لأنّهم كسائر العباد «يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا» من التجارة في العاجلة أو الرضوان في الآخرة حسب زعمهم، و اللّه يهدي لرضوانه من يشاء حسب لیاقته و شأنه، فلا يجوز تحقيرهم بمنعهم عن الوصول إلى حرم الأمان، إلا إذا خبثت ضمائرهم، فخرجت عن قابلية الصلاح و الإصلاح، فحينئذ لا يؤم البيت الحرام.

و يحتمل أن يكون المراد من قوله تعالى: «وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا» الوصول إلى مرحلة التطهير بتمييز الحقّ عن الباطل بالعيان، لأنّه إذا حلّيت النفوس بعد التخلية و قربت إلى ساحة جماله بأداء شعائره، و رقّت الأرواح حتّى وصلت إلى شهود أنواره، و خلت للأجسام النظر إلى صفاته و الأخذ من ریاض بهجته و بهائه، و استعدّت القلوب بعد ترويض النفوس و تزكيتها للمقام الرفيع، فحينئذٍ نالت مرحلة: «كُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا»، فأحاط التعظیم بها من كل جانب و شاهدت ما شاهدت و ميّزت الخبيث من الطيب، و ذاقت النفس طعم الحبّ و ألم الفراق، و قال بعض العرفاء: لامحبّة إلّا بأصولٍ *** و لا وصول إلّا غالي

ص: 32

و لا شراب إلّا مختوم *** و لا مقام إلّا عالي

و لعلّ المراد من قوله تعالى: «وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا» أن لا يصدّكم عن السير نحو الكمال بالوصول إلى مقام التسليم و الرضا بعد الخلع بالبعد عن مساويء نفوسكم التي هي الأغيار في جنوبكم، أو لا تمنعكم الصفات الذميمة في غيركم - الذين هم في زيّ الصادقين و عملهم عمل المعرضين - عن إصلاح سرائركم و تنویر قلوبكم و النيل بالأحبّة و الفوز بمقام الخلّة بالتحلّي بصفات الغرّة، و قال شاعرهم:

أمّا الخيام فإنّها كخيامهم *** و أرى نساء الحي غير نسائها

لا و الذي حجّت قريشٌ بيتَهُ *** مستقبلين الركن من بطحائها

ما أبصرت عيني خيام قبيلة *** إلّا بكيت أحبّتي بفنائها

قال تعالى: «لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ» [سورة الأحزاب، الآية: 8]، فإذا سأل الصادقين عن صدقهم أ يترك المدّعين من غير سؤال؟! فإنّ البعد عن الحقّ و الحقيقة، و النيل من العزّ بذلّ العبوديّة بالأهواء ظلم و اعتداء، لأن الادّعاء أعمّ من الواقع و الحقيقة، فلا تحملنّكم الصفات الذميمة على الاعتداء بالهبوط عن رفيع المقام و أسمى المنزلة أشرف الملكات الّتي هيّأها اللّه تعالى لكم.

و إنّ المراد من قوله تعالی: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ» أن كلّ ما يشغل القلب عن ما سواه و يمنع عن الوصول إلى الحقّ و الحقيقة، فدفعه إعانة على البرّ، و لا يمكن دفع ذلك إلّا بواسطة الشرع المبين. و أنّ تمكين حبّ الدنيا في النفس، و تكدير

ص: 33

الروح بعد صفائها، و تسويد القلوب بعد جلائها هي من الإعانة على الإثم، «وَاتَّقُوا اللَّهَ» في جميع الحالات، و في كلّ الأمور و عند كلّ مقام، و منزلة ف_«إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» فاتّقوه حتى تنجوا من عقابه الشديد و عذابه المديد، فمن عقابه عدم الوصول إلى تلك المنازل، و من عذابه عدم نيل رضاه، و عدم الظفر بالحقّ و الحقيقة. و اللّه العاصم من الزلل و الخطا.(1)

ص: 34


1- مواهب الرحمن، ج10، 287.

طريق الكمال الإنساني

الإنسان المتخلق بأخلاق اللّه تعالى يكون مظهراً من صفات لطف الحقّ، و لذا يكون قبوله قبول الحقّ، و ردّه ردّ الحقّ، و لعنه لعن الحقّ، و یکون دعاؤه دعاء الحقّ و كذا صلاته، فإذا صلّوا على أحد كان صلاتهم صلاة الحقّ، قال تعالى مخاطباً لنبيّه علیه السلام: «إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ» [سورة التوبة، الآية: 103]، و قال تعالى: «قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)» [سورة الأنعام، الآية: 162]، و قال تعالى: «هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ» [سورة الأحزاب، الآية: 43].

و هذا الكمال لا يتحقّق في الإنسان المؤمن إلّا بالمعرفة الكاملة و الإفاقة عن الغفلة، و في الآيات المباركة المتقدّمة تلميح إلى ما يصل به المؤمن بالرقي في تلك المراتب، حتّى يصل إلى مقام القرب لديه جلّت عظمته، فقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إيماناً حقيقياً، فيكون الخطاب مع الذين قالوا: «بلى» عندما تجلی بقوله جلّ شأنه: «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ» في يوم الميثاق، فعاينوا ثمّ: «قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا» [سورة الأعراف، الآية: 172]، و هم الأولياء، أي: أهل الصف الأوّل - كما هو المصطلح عند العرفاء -.

ص: 35

و أهل الصف الثاني آمنوا إذ شاهدوا، فمرتبتهم و إن كانت راقية ولكنها دون مرتبة الصف الأوّل، كما هو واضح و هم الخواص.

و أهل الصف الثالث آمنوا بعدما سمعوا الخطاب سماع فهم و رواية، و هم المرتبة النازلة عن المرتبتين، و هم المسلمون و عوام المؤمنين.

و أهل الصف الرابع آمنوا تقليداً لا تحقيقاً، لأنّهم ما عاينوا، و لا شاهدوا، و لا سمعوا، فكانوا بعيدين عن الخطاب الحقّ فلم يسمعوه، و إنّما انتظروا و لم يؤمنوا حتّى سمعوا جواب أهل الصفوف، و كان سماعهم سماع قهر و نكاية، و هم المنافقون المذنبون.

و أهل الصف الخامس و هم اعترفوا ثمّ أنكروا، لقربهم إلى الشيطان و بعدهم عن الرحمن، و هم الكافرون.

و أهل الصفوف آمنوا في ذلك العالم - بالعيان أو المشاهدة، أو السماع، أو التقليد - كذلك آمنوا في هذا العالم حسب ذلك الإيمان، كما سيأتي في قوله تعالى: «وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا».

و لعلّ المراد من قوله تعالى: «إِذَا قُمْتُمْ» من نوم الغفلة، و خرجتم من ظلمات الجهالة، و انتبهتم من رقدة الفرقة و من عتاب الأحبّة، «إِلَى الصَّلَاةِ» التي بها تصفي النفوس من لوث الأشباح، و هي المعراج للرجوع إلى مقام القرب، و إنّها أرق و أصفى من المناجاة مع الرّب:

ص: 36

و لقد خلوت مع الحبيب و بيننا *** سرّ أرقّ من النسيم إذا سری

و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلی اللّه علیه و آله و سلم: «إنّ العبد إذا قام إلى الصلاة رفع اللّه الحجاب بينه و بينه و واجهه بوجهه، و قامت الملائكة يصلّون بصلاته»، فإذا تمّت التصفية، و استخفّت الروح و رفع الحجاب، فحينئذٍ «وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ»، و قبل ذلك كله «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ»، التي توجهتم بها إلى الأغيار و دنوتم بها إلى الشيطان، بماء التوبة و الاستغفار، «وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ»، فاغسلوا أيديكم عن الدنيا كلّها حتّى عن الصديق الموافق و الرفيق المرافق، و في الأثر: «إنّ المؤمن إذا توضأ للصلاة تباعدت عنه الشياطين خوفاً منه». و توجّهوا إلى بارئكم، و خالقكم، و رازقکم، «وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ» ببذل نفوسكم و فنائها حتى تشرق عليها شوارق الأنوار، «وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ» اغسلوا أرجلكم عن تراب الأنانيّة و طين الشهوة إلى أن يحصل لكم شرف حضور القلب بكعب مقام الخلّة، «وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا» بالالتفات و التوجّه إلى الحجب الماديّة بالسير في الملذّات النفسانيّة، «فَاطَّهَّرُوا» النفوس عن المعاصي، و القلوب عن رؤية الأغيار، بذلّ العبودية للّه تعالى و مخالفة الهوى، ففي الأثر: «إن سلمان الفارسي سافر في زيارة بعض الأصحاب من العراق إلى الشام راجلاً و عليه كساء غليظ غير مضموم، فقيل له: أشهرت نفسك؟ فقال: الخير خير الآخرة، و إنّما أنا عبد ألبس كما يلبس العبد، فإذا أعتقت لبست حلّة لا تبلى حواشيها»، فلا بدّ بطهارة الأرواح عن الاسترواح من غيره، و إن کنتم مرضى بمرض حب الدنيا و طلب الجاه، و النيل إلى المقام في متابعة الهوى و السير في زوايا

ص: 37

الأوهام بالاستیناس مع الأغيار، «أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ» في قضاء حاجة ماديّة و شهوة شيطانيّة، «أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ» بتحصیل لذّة من اللذّات بالبيع من الأشباح أو شراء ما يوجب الاستیناس بغيره جل و علا، «فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً» للطهارة عن الأدناس بالبعد عن الحقائق، و لم يهدكم أحد إلى التوبة و الاستغفار من ضعف نفوسكم، «فَتَيَمَّمُوا» بالتمعّك في تراب أقدام الأنبياء، فإنّه طهور للذنوب العظام و سبيل للدخول في نعم الرحمن، فإنّ الجنّة تجرّ أهلها، قال صلی اللّه علیه و آله و سلم: «عجب ربّك من قوم يساقون إلى الجنة بالسلاسل»، فلا تيئسوا من رحمته و فيوضاته، «صَعِيدًا طَيِّبًا» فإن إخلاصهم للّه تبارك و تعالى يوجب خلاصكم و نجواهم معه جلّ شأنه سبب لنجاتكم، و في الأثر: «من صلّی خلف مغفور، غفر اللّه له»، فطهّروا نفوسكم بالاقتداء بهم، «فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ» من غبار نعالهم و شمّروا لخدمتهم، ففي الحديث قال لبلال صلی اللّه علیه و آله و سلم: «ما صنعت یا بلال؟! سمعت دقّة نعليك قبل دخولي الجنّة، فقال: ما عملت عملاً أرجى عندي من أني لم أتطهّر طهوراً في ساعة من ليل أو نهار إلّا صلّيت بذلك الطهور»، فسيروا على نهجهم و تمسّكوا بهم، «وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ» أي: اعتصموا بقوّة لهم، لأنهم حبل اللّه الأعظم، بهم ينور اللّه تعالى قلوب العباد، و بهم يخرجون الناس من الظلمات و ترفع الحجب المهلكات، «مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ»، لأنه تعالى يحبّ خلقه فلا يريد لهم الذلّة بالضيق في الحجاب، «وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ» أي: ينقيكم من الشرك بالرقي إلى المقام الرفيع، بالنيل إلى الإخلاص و الفوز بالجزاء، قال تعالى: «فَلَا

ص: 38

تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)»، و الوصول إلى ساحة القرب بالوصال: «وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ» بكسر أنوار الهواية و الاستقرار في الجنّة العالية، «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» بعد هدایتكم للنعم الإلهية و الأنوار الربانيّة و الهبات السماويّة، فاذكروا تلك النعم و اشكروه حتى يزيدكم من فضله، «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ»، فلا تنسوا آلائه تعالی علیکم، و ما منّ علیکم بختم النبوّة في أشرف الكائنات و فخر الموجودات، و بالولاية لسيّد الأوصياء الذي اصطفاه لحبّه و اجتباه الحضرته، « وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ» في ظهر آدم و عالم الميثاق، أو الميثاق الذي أخذه نبيّنا الأعظم صلی اللّه علیه و آله و سلم حین بایعه المسلمون، فعن أبي ذر رضوان اللّه تعالى عليه قال: «بايعني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم خمساً و أوثقني سبعاً و أشهد اللّه عليّ سبعاً أن لا أخاف في اللّه لومة لائم»، فهو (رضوان اللّه علیه) رفض الدنيا و هاجر إلى ربّه بعدما مدّ يد البيعة مع رسول اللّه؟ و دافع عن الحقّ و الولاية بوحده، حتّى عاش وحده زاهداً و مات وحده شهيداً، و هاجر إلى ربّه مظلوماً، فسلام اللّه تعالی عليه حين أسلم و حين قام و قعد و حين رجع إلى ربه مطمئناً و فاز بما وعد اللّه تعالى له على لسان النبي الأمين «إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا»، لأنه أخرجکم من ظلمة العدم إلى نور الوجود، فسمعتم قول ربّكم حيث قال تعالى: «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ»، و أطعتم حيث قلتم «بلی» حسب اختلاف تأهّلكم، «وَاتَّقُوا اللَّهَ» في نقض میثاقه و نسيان نعم، «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ»، لأنه يعلم الأسرار و الخفايا و ما يكن في الصدور، فأوفوا بعهوده و لا تنقضوها، و اتّقوه في جذب الأخلاق المرضية، و ابتغاء

ص: 39

الوسيلة إليه بفناء الناسوتيّة في بقاء اللاهوتيّة و تخلّص العبد من ظلمة الأوصاف الناشئة من الزلات النفسانيّة، بالجهاد في سبيل اللّه تعالی الاضمحلال الأنانيّة.

اللهم اجعلنا ممن سبقت له العناية، و أفضتَ عليه توفيق العبادة، و تفضّلتَ عليه بالرقيّ إلى المقامات العالية، إنك سميع مجيب.(1)

ص: 40


1- م.ن، ج11، ص53 - 57.

قابلية الإنسان و استعداده

خلق اللّه تعالى الإنسان كالمرآة للحقائق الواقعية و المعارف المعنوية، بل هو كالمرآة لصفات جلاله و جماله.

الحقّ في كثرة الأعيان إذ ظهرا *** و وجهه الأحديّ الذات ما کثرا

لكن ما شاهد الأعيان شاء يرى *** وجه الحقيقة في مرآة إنسان

هذا إذا كان الإنسان منقطعاً إلى اللّه تعالى و منقاداً له من كلِّ جهة، و أما غيره فلا يليق به هذا المقام، بل قد يكون كالأنعام.

فإذا كان للإنسان الاستعداد لأن يحكي حقائق الممکنات مما مضى و ما هو موجود و ما هو آت، فيجب أن يعتني بنفسه و يرعاها نهاية الرعاية و لا يسقطها عن الاعتبار، و إلا تلحقها المهانة و الصغار، لأنّها السبب الموصل إلى كلِّ مطلوب، و الرابط بين أهل الأرض و الغيب المحجوب، فأيّ مكرمة للّه على خلقه أعظم من هذه المكرمة، و أي موهبة له تعالى في عوالمه أفضل من هذه الموهبة، و من فعل ما يوجب درن هذه المرآة فقد جنى على نفسه و أضاع ما أُعدَّ له من النعم الباقيات، قال تعالى: «فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» [سورة التوبة، الآية: 70].

ص: 41

الحجب الظلمانية التي تمنع النفس من الاستكمال

الحجب التي تحيط بالإنسان كثيرة فإذا تراكمت بسبب الغفلة عن إزالتها تصير ظلمات بعضها فوق بعض، تشتمل على جملة من عيوب النفس و بعض الرذائل التي تمنع النفوس من الدرج في الكمال، بل إن بعضاً منها من المهلكات التي توقع النفس في الهاوية فتخرجه عن طور الإنسانية إلى أسوأ دركات البهيمية و تجعلها في مصاف الحيوانات الرديئة كالقردة و الخنازير، و قد نُهِيَ المؤمنون عن اتخاذهم أولياء لأن النفس تتأثر بأفعالهم و تنكدر بأقوالهم و يسلب منها التوفيق برؤيتهم:

فللنفس من جلاسها كل نسبة *** و من خلة للقلب تلك الطبائع

و يكفي أن النظر إلى تارك الصلاة يسلب التوفيق فكيف باتخاذهم أولياء فذلك الهلاك للنفس، و من أهم المهلكات الاستهزاء بدين اللّه عز و جل و اتخاذه لعباً فإنه يوجب شقاء القلب و ينبیء عن سفالة النفس و دخولها في سلك البهائم التي لا شأن لها إلا اللعب و لذا مسخوا بالقردة التي لها المناسبة مع تلك المعصية الدنيئة فقد جبلت نفوسهم على حجب العقل و حرمان النفس من التمتع بأنواره و الاستفادة من

ص: 42

إرشاداته فكان الخطاب الربوبي لهم بأنهم قوم لا يعقلون لأنهم استهزءوا و لعبوا و وصلوا إلى حد الهزء بأهم شعيرة فطرية و أعظم رابط بين المخلوق و خالقه و هي الصلاة التي اجتمع فيها التقرب و الخضوع و الخشوع لدى الرب العظيم و أن بها يستنزل الرحمة و النور الذي إذا قذف في القلب انخرق كل حجاب بينه و بين خالقها، و في الحديث عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم: (إن النور إذا دخل القلب انشرح له الصدر و انفسح) انظر إلى هؤلاء الكفار كيف استهزءوا بأحكام اللّه فحجبوا عن النور الإلهي و وقعوا في ظلام النفس الأمارة و تاهوا فيها و كان السبب في ذلك سلبهم العقل و انزواء الفكر فيهم فصاروا قردة و خنازير يرتعون في زخارف هذه الدنيا فأحبوها و انخرطوا في حب النفس فلا يشعرون ما يحصل بأنفسهم فاتصفوا بأسوأ الصفات فكانوا أهل حرص و شهوة و قلت غيرتهم على الحق و انقادوا إلى كل باطل و خضعوا إلى كل ما سوى اللّه فأوجب طغيانهم فحجبوا بأنفسهم عن الحق فأنكروا أهله الذين غلب عليهم شهود الحق و كوشفوا بسر الوحدانية و استغرقوا في الحقائق العيانية و انقطعوا عن الشعور بأنفسهم و غابوا عن سواه بالكلية، و من المهلكات أيضاً المسارعة في الآثام و الأقدام على جميع الرذائل لاعتياد أنفسهم عليها و تدربهم فيها فصارت ملكات في نفوسهم و استوعبت مظاهر وجودهم فكانوا في رذائل و صفات في جميع قواهم النطقية و الغضبية و الشهوية فأكلوا السحت و تعاطوا العدوان و نطقوا بالزور و البهتان و كانوا أهل الفسوق و العصيان فأبعدهم اللّه من رحمته و انقطع الأمل في تهذيبهم فمتى كانوا أهل خلة و وصال:

ص: 43

فلا ترض بغير اللّه حباً *** و كن أبداً بعشق و اشتياق

ترى الأمر المغيب ذا عيان *** و تخطی بالوصال و بالتلاق

و إنما ذكر عز و جل تلك الرذائل و الصفات السيئة ليجتنب المؤمن منها و يبتعد عن من اتصف بها فإنها حجب و حرمان و لا يمكن للنفس التحلية بالمكارم إلا بالتخلية من تلك الرذائل.

ثم كان الأدهى و الأعظم مداراة المذنبين و ترك التعرض لهم مع العلم بما يفعلونه من القبائح و الآثام فإن في ذلك مفسدة للدين و الدنيا و هدم الآخرة و الأولى فإن ترك المذنب على ذنبه إماتة للنفس التي لها نحو تعلق بالباریء و إفشاء الذنب في المجتمع إماتة له فلا يرتقي في الكمال و أما العالم الذي ترك التعرض للمذنبين و أهمل إرشاد الخاسرين فقد تحمل هو قسطاً من الإثم و انتهج سبيل الغواية و الضلال و كان ضالاً و مضلاً فصار صنيعه الإفساد فهو أعظم الخاسرين و أشد المتحسرين يوم الحسرة فقد كفر بما أنعم اللّه عليه من نعمة العلم و لم يؤد ما عليه من الوظيفة فتحمل إثم المرتكبين و انتشر الفساد و الخسران بسببه فيا له من الخسارة العظمى و لذا ورد أنه يُغْفَرُ للجاهل سبعون ذنب قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد.(1)

ص: 44


1- مواهب الرحمن، ج12، ص 122.

مقام الولاية و عظيم أثرها في التشريع و التكوين

مقام الولاية من أجل المقامات و أعظمها فهي قطب رجى التكوين و التشريع و هي الحبل الممدود بين اللّه تعالی و جميع مخلوقاته و العروة الوثقى التي من اعتصم بها نجا من مهالك النفس و تمكن من تكميلها و هي التي لا ينالها إلا ذو حظ عظيم و لأجل أهميتها لم يذكرها عز و جل في هذه الآية الشريفة إلا بعد تقديم أمور و تمهید مقدمات لها مدخلية في تحقق هذا المقام فإنه أولاً نهی عن اتخاذ الكافرين الذين يصدون عن دين اللّه أولياء و شدد الأمر فيه و اعتبر أن من يتخذهم أولياء يكون من الكافرين الظالمين ثم بين أن من يخالف أحكام اللّه و منها تشريع الولاية يكون من المرتدين الراجعين عن دينه ثم ذكر أن هؤلاء المرتدين لم يكونوا موضع أمانته و مؤهلين لحفظ دين اللّه و أحكام طاعته في الأرض فسوف يأتي اللّه بقوم متصفين بأوصاف حقيقية كمالية تنبیء عن صفاء باطنهم و شدة انقطاعهم إلى اللّه و أنهم في جهاد مرير مستمر في سبيل اللّه فهم الذين اختارهم لأن يكونوا أولياؤه ثم بعد ذلك بين أن أمر الولاية من صميم التشريع و علته المبقية و يجب إبلاغها إلى الناس و إلا فلا يكون تبليغ للرسالة ثم بعد التبليغ يبين عز و جل أنه بها أكمل

ص: 45

الدين و أتم النعمة التي أرادها للناس. فكان التبليغ في مراحل لتثبيت هذا الأمر العظيم و لعله لأجل ذلك طلبوا من الرسول الكريم صلی اللّه علیه و آله و سلم تفسير الولاية و بيان خصوصياتها كما تقدم في الحديث.

و في الولاية تظهر حقيقة الدين و يتبين واقع الطاعة و يتجلى العرفان و الانقطاع إلى الواحد الأحد و عندها تنتهي مقام الاصطفاء و الخلة و جميع المقامات فهي العلة الفاعلة و العلة الغائية و قلما تجتمع في أمر العلتان و بالجملة هي آخر قوس الصعود (لا فرق بينك و بينهم إلا أنهم عبادك و خلقك فتقها و رتقها بيدك بدؤها منك و عودها إليك) و هي سر اللّه في العالمين فوق ما يتعلقه الممكن في حدوده الإمكانية و لذا لم يبين سبحانه و تعالى من حدود هذه الجوهرة الفريدة و السر المستتر إلا ما يتقبله أفهام المستعدين و هي الانقطاع إليه عز و جل و كمال الخضوع له تعالى لفناء ذواتهم المقدسة و التجرد عن العلائق و تزكية النفوس و ترقيتها من حال إلى حال أفضل مع مالهم من الكمال فهم في حال الركوع و الخضوع دائماً و لعل إعطاء الزكاة في حال الركوع للإشارة إلى استمرار اتصالهم بهذه الدار لأنهم سبل الهداية و أبواب اللّه في أرضه و إلا فلمحض فناؤهم خرجوا عن طور البشرية و هي و النبوة من منبع واحد، و لذا قال سيد الأنبياء صلی اللّه علیه و آله و سلم (خلقت أنا و علي من نور واحد).

و قد ظهر هذا النور في مر الدهور و كان له تجليات حتى تجلى في مظهر سيد الأنبياء فكانت النبوة و في مظهر سيد الأوصياء فكانت الإمامة فهي امتداد للنبوة ولكنهما حقيقة من الحقائق الإلهية لا يمكن درکها إلا بفيض رباني إلا أن يكون المانع التحديدات الإمكانية فالعاجز عن

ص: 46

الوصول يتشبث بالقشور و يترك النور و يوسم نفسه بالقصور إلا من أدركته بارقة إلهية و منحة ربانية فانكشف له الظلام و استعد للدخول في الحمى فعرف حق الولاية و اعترف بالإمامة و جعل لنفسه إماماً يقتدي به لينجيه من المهالك و يرتقي في سلم الكمال هذه هي الإمامة فلا يمكن إنكارها إلا ممن ينكرها بإنكار الجحود و يوصد على نفسه أبواب الصعود و يفتح أبواب الهبوط أعاذنا اللّه منها(1).

ص: 47


1- ن.م، ج12، ص91.

الهجرة

اشارة

الهجرة و هي الانتقال و الرحيل سواء كان من الوطن إلى غيره أو من حال إلى غيرها. و إنّها من أكمل الصفات الحسنة و أجلّها إن كانت ناشئة من الحبّ الحقيقي الواقعي للّه سبحانه و تعالى و الانقطاع إليه جلّ شأنه، و بها يحصل الودّ و الحبّ له عزّ و جلّ، و منه تعالى لعبده.

بل أنّ الهجرة من الفناء في ذاته جلّت عظمته، لأنّ بها يخرج الإنسان عن ذلّ ما توطّن فيه من الصفات الذميمة و يبعد عن المعاصي - التي تحصل عن الأهواء الشيطانيّة - كالكبر و الحسد و البطر و الجهل و غيرها.

و بالهجرة يفوز الإنسان و ينال الكمالات بأنواعها و أقسامها الظاهريّة و المعنوية، فعن نبينا الأعظم صلی اللّه علیه و آله و سلم: «مَن كانت هجرته إلى اللّه و رسوله فهجرته إلى اللّه و رسوله، و من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوّجها فهجرته إلى ما هاجر إليه».

و بالهجرة يرتقي الإنسان عن حدود البشريّة في طلب حضرت الربوبيّة إلى منتهى السعادة بصفاء القلب و تزكيته و العروج إليه جلّت عظمته، لأنّ البقاء و السكون فيها الذين لا يرضاهما تعالی من آثار الحجب و البُعد عن ذاته المقدّسة و القرب من الشيطان.

ص: 48

و بها يستغني المهاجر عن ما سواه تعالى، و يذوق لذّة العبوديّة للّه جلّ شأنه، و ينال شرفها بالخضوع الحقيقي له عزّ و جلّ. فالهجرة الواقعيّة من أسمى الصفات الكريمة و أجلّ الكمالات الواقعيّة و أرفع المنازل العظيمة، و أشرف الحقائق بل هي غاية السير و السلوك إليه عزّ و جلّ، لأنّها مبايعة اللّه تعالى مع عبده بالهجرة إليه عزّ و جلّ.

أقسام الهجرة:

للهجرة أقسام مختلفة تنشأ من علو الهمّة التي هي تختلف باختلاف الأشخاص و مراتب الإيمان و منازل الأوطان:

الأوّل: الهجرة من الوطن إلى غيره لنيل الدنيا، فإنّ هجرته إلى ما هاجر إليه، كما تقدّم عن نبيّنا الأعظم صلی اللّه علیه و آله و سلم، و لا شرف فيها، بل في التعبير بها تسامح، و الآيات الشريفة و السنّة المباركة بمعزل عنها.

الثاني: الهجرة بترك الأوطان و البُعد عن الإخوان لنيل الكمال المنشود في رضائه تعالى بصحبة عالم عامل أو حكيم عارف أو معلّم مشفق. و لها مرتبة من الشرف، و قد يحصل بها الرقي إلى المنازل الرفيعة و الدرجات الساميّة، و تسمّى بهجرة الأخيار.

الثالث: الهجرة من وطن الملك بالسعي في ترك جميع الحظوظ

النفسانيّة للوصول إلى عالم الملكوت. أو من وطن المعصية إلى شرف الطاعة و السكون فيه بمعرفة الحقّ و تجليه له، و هي من أكملها و أعلاها و تسمّى بهجرة الخواص، و بها يبلغ المقصود و يخضع له ما في عالم المشهود لخضوعه الواقعي له عزّ و جلّ، فعن نبيّنا الأعظم صلی اللّه علیه و آله و سلم: «مَن

ص: 49

انقطع إلى اللّه كفاه كلّ مؤنة و رزقه من حيث لا يحتسب»، و قد تقدّم في التفسير مكرّراً أنّ الرزق أعمّ من الإفاضات الظاهريّة و المعنويّة.

الرابع: الهجرة من وطن الغفلة إلى شرف اليقظة، أي: من وطن الحسّ إلى وطن المعني بمكاشفة الأفعال و مشاهدة الصفات في ترك إقبال الخلق و العزل عن طلب الكرامة فيهم، و لا ينال هذا القسم إلّا من امتحن اللّه قلبه بالإيمان.

و بهذه الهجرة ينال العبد أسمى صفات العبوديّة و أجلّها، و هي كما عن الصادق عليه السلام: «العبوديّة جوهرة كنهها الربوبيّة»، و بها يستغني عن ما سواه تعالى و لا يعظم غيره عزّ و جلّ، فعن نبيّنا الأعظم صلی اللّه علیه و آله و سلم: «مَن كانت الآخرة نيّته جمع اللّه عليه أمره و جعل غناه في قلبه و أتته الدنيا، و هي صاغرة»، و قال تعالى: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ»، و تسمّى هذه الهجرة بهجرة الأبرار.

الخامس: الهجرة من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح، أي من الأكوان إلى المكوّن، و هي تختصّ بأخص الخواص، و تسمى بهجرة المقرّبين و من أجلّها الإسراء و المعراج: «وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)» سورة النجم، الآية: 42].

و الجامع بين الأقسام الرحيل من علم اليقين إلى عين اليقين، و منه إلى حقّ اليقين، أو من الشهود إلى المعرفة و منها إلى المعاينة. فمن هاجر من هذه المواطن قاصداً بهجرته الوصول إلى حضرة المحبوب بنيل رضاه، فقد بلغ أقصى مراتب السعادة و أشرف منازل الكرامة.

ص: 50

أسباب الهجرة:

تنشأ الهجرة النفسانيّة و عروج القلب إلى المشاهدة بتجاوز حدود البشرية من أسباب عديدة، أهمّها المحبّة للّه تعالى، و الغنی به جلّت عظمته، و الصدق في العبوديّة - بالاستسلام لما يورد عليه و الاستعانة منه جلّ شأنه - و اليقين في أحكام الربوبيّة، بتزكية النفس و مخالفة هواها، «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)» [سورة الشمس، الآية: 9]، و لكلّ من هذه الأمور مراتب و درجات و حدود، و لولا قول نبينا الأعظم صلی اللّه علیه و آله و سلم: المؤمن مُلجم»، لكان لغور البحث فيها مجال.

آثار الهجرة:

لكلّ من أقسام الهجرة آثار تختلف حسب الهجرة التي هاجرها المهاجر، بهجران الصفات الرذيلة و تبديل الأخلاق الفاسدة بالحسنة و ترك الحظوظ النفسانيّة و قهر الهوى بالمقامات العالية، فقد ينقّى الأثر بالرقي إلى مكارم الأخلاق، و الوصول إلى أقصى مراتب الكمال بسعادة الدارين، و نيل رضاه عزّ و جلّ، و يبلغ القصد بالشهود بشرف العبودية في السير و السلوك حتى لا يحتاج إلى دليل و برهان في إثبات صفات الجمال و الجلال، تبعاً للهجرة الموصلة إلى المطلوب، بل قد ينال من الحياة الأبدية في هذه النشأة، كما ورد في شأن بعض الخواص من أصحاب الصادق عليه السلام.

و لو مات المهاجر قبل أن يصل إلى مراده و مسعاه، فله نصيب مَن بلغ إلى ذلك المقام، ففي الأثر: «أنّ المؤمن إذا مات و لم يحفظ

ص: 51

القرآن، أمر حفظته أن يعلموه في قبره حتى يبعثه اللّه يوم القيامة مع أهله»، و قد ثبت في محلّه أن الرقي في عالم البرزخ موجود لأهله. و أما قوله تعالى: «وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى» [سورة الإسراء، الآية: 72]، إنما هو بالنسبة لمَن لا معرفة له أصلاً، لا من انكشف عنه الغطاء بالهجرة و ارتفع العمى و الحجاب بالسير و السلوك إلى حضرة الربوبيّة في رضاه تعالی برؤية آثاره و صفاته جلّت عظمته. و أما قوله صلی اللّه علیه و آله و سلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله»، هذا بالنسبة إلى أعماله الخارجيّة و أمّا بحسب فضله تعالى فلا يتصوّر فيه حد حتى ينقطع، و المهاجر الحقيقي كان من نیته دوام الهجرة و التوطّن في المقامات العالية، و لأجل ذلك أضاف جزاءه إلى نفسه الأقدس بقوله تعالى: «فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ»، و يدلّ على ما ذكرنا قوله تعالى في القدسیات: «لا يسعني أرضي و لا سمائي، و إنما يسعني قلب عبدي المؤمن».

موانع الهجرة:

و هي العوائق الموجودة في النفس، المستندة إلى الأهواء الشريرة المتوطّنة في النفس البشرية الحاصلة من الوساوس الشيطانيّة، كالتخويف بالموت أو الفوت أو المحبّة لما سواه تعالى من الأهل و المال و الجاه، فهذه حجب شيطانيّة تمنع عن الهجرة بالسير و السلوك، و تحجب عن مشاهدة التجلّيات و هو جمال الحقّ، فحسن الأعمال نتائج حسن الأحوال من صلاح القلب و التوجّه إلى اللّه، و بذلك تصلح

ص: 52

الهجرة و الرحيل، «وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ»، أي: بيت بشريته بترك الدنيا و قمع الهوى «مُهَاجِرًا» إلى التقرّب به جل شأنه بمبايعة رسوله، «ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ» قبل وصوله إلى مطلوبه و مسعاه، «فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ»، أي: بذمّة کرمه و فضله و رحمته فيبلغه إلى أقصى مقاصده إن كان المانع أجله، «فإنّ نية المؤمن خير من عمله»، و «يحشر الناس على نيّاتهم»، هذا إذا لم يأت بما یوجب بطلان الهجرة و البعد عن تشرّف الوصلة بالتقرب إليه، «وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا» للذنوب خصوصاً ذنب أنانيّة الوجود، «رَحِيمًا» بتجلّي صفة جوده حتى يبلغ العبد إلى كمال مقصوده و مسعى غايته بمنّه و جوده و كرمه.(1)

ص: 53


1- م.ن، ج9، ص196 - 200.

الفيوضات الإلهية

العطايا الإلهية و الفيوضات الصادرة من المبدأ جلّ شأنه لعالم الإمكان ليست قابلة للتحديد، لأنّها مفاضة من المبدأ الذي لا يمكن تحديده - لا ذاتاً و لا صفة - و إنّما التحديد في المتعلق، و هو الاستعداد أو القابلية، كما تقدّم ذلك في المباحث السابقة.

و من تلك الفيوضات المعارف بجميع أنواعها، و الهداية بتمام أقسامها - کالهداية من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، و من ظلمة الغفلة إلى نور اليقظة، و من ظلمة الحسّ إلى نور المعنى، و من ظلمة الكون إلى نور المكوّن.

و الإنسان الذي هو أشرف مخلوقات اللّه تعالی له شرفيّة النيل لهذه الفيوضات و العطايا و الهبات أكثر من غيره، و لو اتّصف بالإيمان فله أسماها و أجلّها و إن كان إيمانه منبثقاً عن الفطرة الكائنة فيه، قال تعالى: «فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» [سورة البقرة، الآية: 213]، و قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)» [سورة الأعراف، الآية: 96]، و قال تعالى: «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا

ص: 54

يَحْتَسِبُ» [سورة الطلاق، الآية: 2-3]، و تقدّم مكرّراً أن التقوى لها مراتب، منها الإيمان باللّه العظيم، و أنّ الرزق أعمّ من المادي و المعنوي الشامل للمعارف و الإشراقات و المكاشفات، التي هي أنوار التوجّه و أنوار المواجهة، و قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا» [سورة الأنفال، الآية: 29]، و الفرقان الذي هو تنویر القلب و الإشراق عليه من الغيب للتمييز بين الحقّ و الباطل، يتوقف على القابلية و الاستعداد، و هو الإيمان باللّه تعالى الملازم للتقوى، و له مبرز خارجي و هو العمل الصالح، و قال تعالى: «وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا» [سورة النور، الآية: 21]، أي: و لولا فضل اللّه عليكم لما نمت نفس بالخيرات و البركات، بل أنّها ترسبت و بقيت في حال السكون و النزول إلى الهاوية.

بل أنّ شراء الحقّ سبحانه و تعالى من المؤمنين أموالهم و أنفسهم بأن لهم الجنّة، كان بالعاجل لا بالآجل، فإنه عزّ اسمه جل أن يعامل العبد نقداً و يجازيه نسيئةً، و ليس ذلك من شأن الكريم فكيف بأكرم الأكرمين، فإن المولى الغني جلت عظمته لو اشترى شيئاً من أحد نجزه نقداً و زاد في إحسانه و رفده، قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ» [سورة التوبة، الآية: 111]، فعوّض المؤمنين في هذه الدنيا جنة المعارف بأقسامها و زادهم جنّة الزخارف و ادّخر لهم ما يليق بشأنهم و يمنحهم لهم في دار الآخرة.

و الجنّات الممنوحة في هذه الدنيا لمن تمّ عنده رسم العبودية و لو

ص: 55

بأدنى مرتبتها و حسب لیاقتها، في غاية البهجة و كمال اللّذة ومنتهی السعادة و أسماها ما يلي:

منها: جنّة المعرفة، و هي من أعلى مراتب الجنان و أكملها، قال بعض العرفاء المتألّهين: «في الدنيا جنة من دخلها لم يشتق إلى جنّة الآخرة و لا إلى شيء، و لم يستوحش أبداً. قيل: و ما هي؟ قال: معرفة اللّه»، و لها مراتب و درجات تشرق بمقتضى اللياقة و الاستعداد، و بها تتمّ كل نقصان. و كلّ قبيح إن نسبت لحسنه *** أتتك معاني الحسن فيه تسارع

يكمل نقصان القبيح جماله *** فما تم نقصان و لا ثم باشع

و منها جنّة المقامات التي نالها الأنبياء و الأولياء في هذه الدنيا، كمقام الحبيبيّة الذي اختص به نبيّنا الأعظم صلی اللّه علیه و آله و سلم، و هو فائق على جميع المقامات و الجنّات، و يحصل هذا المقام باصطفاء النفس و جعلها تحت اختيار المحبوب، بحيث لو لم يكن المحبوب لم يتحقّق الاصطفاء و لم يتشرّف بمقام الحبيبيّة، و يصل إلى منزلة: «فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى» [سورة الأنفال، الآية: 17]، و قوله تعالی: «إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» [سورة الفتح، الآية: 10]، و قوله صلی اللّه علیه و آله و سلم: «أبيت عند ربّي فيطعمني ربي و يسقيني».

و ذكر بعضهم أنّ مقام الخلّة التي نالها إبراهيم علیه السلام يساوي مقام الحبيبيّة من جميع الجوانب، ولكن التأمّل التام و سياق الآيات المباركة يدلّ على أن مقام الاصطفاء و الحبيبية فائق على مقام الخلّة بمراتب

ص: 56

كثيرة، لأنّ مقام الحبيبية بعد مقام الاصطفاء و جعل النفس تحت اختیار المحبوب بالمرّة - كما مرّ - و مقام الخلّة لم يصل إلى هذه الدرجة فمقام الاصطفاء يشمل مقام الخلّة و زيادة، بخلاف العكس فلخاتم الأنبياء - الذي له مقام الحبيبيّة - منزلة عظيمة لم يصل لها أحد من الأنبياء.

و منها: مقام الخلّة التي اختصت بإبراهيم علیه السلام من بين سائر أنبياء اللّه تعالى، و هي منزلة عظمى لا ينالها أحد إلّا بعد طي مراحل كثيرة منها مرحلة العبودية، و التسليم، و الخلوص، و فناء النفس فيه عزّ و جلّ - و في بعض الروايات كان جنّة إبراهيم علیه السلام في هذه الدنيا هي النار بعد السلام -. و قد اجتاز إبراهيم علیه السلام هذه المراحل بأحسن وجه حتّى نال جنة الخلّة أيضاً في هذه الدنيا، و خصّه اللّه تعالی بها دون غيره من الأنبياء علیهم السلام، فعرف بأنه خليل الرحمن، قال تعالى:«وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ» [سورة البقرة، الآية: 123].

و بعد الإحاطة بما ذكرناه لا نحتاج إلى صرف لفظ الخليل عن ظاهره، لما ذكروه من أنه تعالى منزّه عن المعنى الحقيقي، فإنّ الخلة الحقيقية شيء لا يدركها إلّا العارف باللّه تعالى و من وصل إلى هذه المرتبة، و سيأتي في الموضع المناسب بيان أنّ الصفات التي تطلق على المخلوقين إذا لم يستلزم من إطلاقها على اللّه محال، تطلق عليه عزّ و جلّ لكن بالمرتبة الكاملة و المعنى الأتمّ، كالخلّة و الحب و نحوهما.

و كيف كان، فقد ظهر فساد ما ذكره بعض النصارى في المقام

ص: 57

- كما تقدم في البحث الروائي - بأنه إذا جاز إطلاق الخليل على إنسان تشریفاً، فلم لم يجز إطلاق الابن على آخر كذلك. فإن إطلاق الخلّة على إنسان لم یکن تشريفاً بل كان حقيقياً و لا يستلزم منه محال، بخلاف إطلاق الابن فإنّه يستلزم الجنسيّة و اللّه تعالى منزّه عنها، لما يترتّب عليها من الفساد فافهم.

و لمقام الخلة آثار عظيمة، منها: استجابة الدعاء، فإنه ليس معنی الخلّة الحقيقيّة إلا استجابة دعاء الخليل من خليله، و قد كانت دعوات خلیل الرحمن التي ذكرها عزّ و جلّ في القرآن الكريم كلها مستجابة.

و منها: أن الخليل لا يرى لنفسه شيئاً في مقابل مخلوقات اللّه تعالی و عباده، بل يجعل نفسه مظهراً يرى فيها سائر مخلوقات اللّه تعالى، و لذا ترى أنّ إبراهيم خليل الرحمن علیه السلام لا يدعو في دعواته الكريمة إلّا لأهل الإيمان مطلقاً، كما حكاها عزّ و جلّ في كتابه العزيز، قال تعالى: محكياً عنه: «رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)» [سورة إبراهيم، الآية: 41].

و منها: ما جعله اللّه أبا الأنبياء لما له علیه السلام عند اللّه تعالی شان عظيم و جاه رفيع.

و منها: أمر الناس باتّباع ملته علیه السلام، كما تقدم في سورة البقرة.

و من الجنّات الممنوحة للمؤمنين في هذه الدنيا جنّة المؤانسة بأقسامها - مؤانسة ذكر، و مؤانسة قرب، و مؤانسة شهود - و تحصل هذه الجنة بالتوجه إليه بالإخلاص و الذكر بتمام أقسامها، كما مر في أحد

ص: 58

مباحثنا العرفانيّة، قال تعالى: «أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» [سورة الرعد، الآية: 28]، و لها مراتب و منازل.

و منها: جنّة الخشوع، و لا تحصل هذه الجنة إلا من استكمل عنده نعمة الهيبة و المعرفة و فاز بجنّة اللقا، قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)» [سورة الإسراء، الآية: 107 - 109]، و لها مراتب، فمنها الخضوع و الخشية و غيرها.

و منها: لذّة المناجاة و التملّق عند بابه، فهي من الجنات التي أظهرها اللّه تعالى في هذه الدنيا و لا يعرفها إلّا أهلها من الأولياء و الصالحين.

و منها: جنّة الرغبة و الرهبة - كما تقدّم البحث عنهما - إلى غير ذلك من الصفات الحسنة التي توجب رقي النفس و راحتها و تصل إلى مرتبة يستوحش صاحبها من الدنيا و أهلها و يأنس باللّه تعالى و بأوليائه، كما حصل لهمام عند خطبة الإمام علي علیه السلام، و لعل قوله تعالی: «وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)» [سورة النساء، الآية: 124] الأعم من الجنة في الآخرة و الجنة في الدنيا من الصفات الحسنة و الحالات الصالحة التي تختص بالأبرار و تكون مشابهة لحالات المؤمن في جنة الآخرة، قال تعالى: «وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا» [سورة البقرة، الآية: 25]،

ص: 59

و للبحث مجال واسع، نسأل اللّه تعالى أن يوفقنا له بعد رفع هذه المصائب التي حلّت بهذه الأُمّة بحق محمد و آله الطاهرین.(1)

ص: 60


1- ن.م، ج9، ص331 - 336.

في لزوم إزالة الحجب لتلقي الفيوضات الإلهية

السلوك إلى اللّه تعالى له عقبات و حجب لا بد من رفعها و إزالتها لتستعد النفس لتلقي الفيوضات الربوبية و أول درجات السالکین تخلية النفس من رذائل الصفات و من أهمها الارتداد الذي هو الرجوع من اللّه إلى النفس البهيمية و الركون إلى الشهوات و هو من أهم الحجب الظلمانية التي تطفأ نور العقل الذي به يتغلب على النفس و يرشدها إلى ما فيه سعادتها و كيف لا يكون كذل فإن فيه جماع رذائل الصفات ففيه حب الذات و إيثارها على خالقها، و فيه ترجیح ما سواه عزّ و جلّ و فيه تولي أعداء اللّه الذين هم حجب ظلمانية و عوائق في طريق الاستكمال، و فيه المبارزة مع الرب بإذلال المؤمن و إعزاز الكافر، و فيه فقدان الطمأنينة في النفس و الثقة باللّه تعالى و بالآخرة هو حب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة، و لا ريب أن كل واحد من تلك الأمور هي حجب تستتبع ظلمات بعضها فوق بعض حتى تصل إلى درجة لم يكد يقدر أن يصلح نفسه فيكون بقاء مثل هذا الذنب العظيم مضراً لنفسه، و موجباً لقسوة القلوب و الانهماك في الذنوب، و الغفلة عن اللّه و البعد عن حضرته ولكن لا يشعرون و حينئذ فسدوا و أفسدوا و لا يقوم المجتمع

ص: 61

المشتمل منهم بالمهمة التي أرادها اللّه عز و جل له فإذا لم يرجع عن غفلته و يصلح شأنه فإن اللّه يبدله بآخرين لهم نفوس قدسية و حالات انقطاعية إلى اللّه عز و جل يصلحون لأن يكونوا مرشدين لغيرهم فقد أفنوا ذواتهم الشريفة في حب اللّه و وصلوا إلى حد اليقين فهم في اللّه و باللّه و إلى اللّه و استبدلوا بتلك الحجب و الظلمات أنواراً أشرقت على نفوسهم فأفيضت منهم على غيرهم فلم يصدر منهم إلا الخير المحض فصاروا أعلاماً لهدايته و أبواباً لرحمته و سبلاً للسالكين إلى مرضاته و أمناء اللّه على خلقه و مناراً يقتدي بهم الصالحون من خلقه و ليس لهم غرض في حياتهم الكريمة إلا إيصال الخلق إلى اللّه و كيف تأخذهم في اللّه لومة لائم فهم على خير و لم يصدر منهم إلا الخير عندهم الخلق مظاهر صفاته العليا، فلم يخطر في بالهم إلا الحضور في ساحة قربه و لم يكن لهم شغل شاغل إلا التقرب إليه و الطاعة له عز و جل و بالجملة فإنه بقدر عظم الخسران الحاصل من الارتداد و الرجوع عنه تعالى تكون السعادة في الفناء و الحضور لدى جنابه فإن البديل إنما يقوم مقام ما أراده اللّه من خلقه و استغني عن المبدل عنه لخلوه عن ما يوجب القرب لديه - أعاذنا اللّه تعالى منه. و هذا سر إلهي من أسرار العصيان و الطغيان و الرجوع عن اللّه، اللهم ألهمنا التوفيق و املأ قلوبنا حباً لك و شوقاً إليك و ارزقنا الجهاد في سبيلك و تصفية نفوسنا من العلائق السيئة كلها، و خلصنا من شوب التعلق بغيرك حتى لا نؤثر إلا رضاك، و هم لم يصلوا إلى هذه الدرجات و لم يحصلوا على تلك الفضائل من الصفات إلا بطي مراحل في سيرهم و سلوكهم إلى اللّه عز و جل، ففي

ص: 62

البداية خليت نفوسهم من الرذائل و آثروا الرجوع إلى اللّه و استقاموا على ذلك حتى استعدت لتلقي الفيض فأحبهم اللّه و قربهم إليه و أحبوه فتعلقت به فكانوا مظاهر رحمته كما أحبوا المؤمنين لأنهم من مظاهر رحمته ولكنهم كانوا قهارين على الكفرة الذين طردوا من ساحته فاتصفوا بصفاته و تفانوا في الصفات ثم لم يرجعوا عن الجهاد و الحركة من الصفات إلى الذات فتفانوا في الذات و لم يشغلهم عنها شيء فلم تأخذهم في اللّه لومة لائم إذاً لا إرادة للمؤمن إلا بما أراده اللّه تعالى فلا يريد إلا الخير، و البحث نفیس و له تتمة تأتي إن شاء اللّه تعالى.(1)

ص: 63


1- ن.م، ج12، ص34.

الحجب و الموانع من نيل الأسرار الربانية

الحجب و الموانع في طريق الوصول إلى معرفة الباري عز و جل كثيرة و هي مختلفة كمية و كيفية فبعضها تتعلق بالقول و بعضها تتعلق بالأعمال و الأفعال و الجوارح و بعضها تتعلق بالجوانح و القلوب و النيات، لكل واحدة منها آثار وضعية شخصية و نوعية و الآيات الشريفة المتقدمة جمعت بين الأقسام الثلاثة فكانت الآثار عظيمة مهولة لم تتعلق بالأفراد فقط بل شملت النوع فقد ورد في ابتداء الآيات المباركة ذلك الحجاب الذي أسدله اليهود على أنفسهم بالتقول على اللّه تعالی فقد بهتوا بهتاناً عظيماً و اقترفوا إثماً كثيراً حيث قالوا (يد اللّه مغلولة)، و إن كان ذلك لم يصدر عن جميعهم و حتى لو صدر من بعضهم و لم يعتقد بما يقوله فهو إثم عظيم إذ فيه نسبة التجسيم إلى اللّه عز و جل و إبطال قدرته و قيومته على خلقه و لا أظن أن من يعتقد بالألوهية ينكر ذلك عن إلهه فكيف بالواحد الأحد، و لعظمة هذا القول الأثيم غلت أيديهم و استحقوا الحرمان الأبدي من المعنويات و النعم الإلهية و حرموا إلى يوم القيامة من الفيوضات الربانية و الأسرار الإلهية و لعنوا فأبعدوا عن مصدر الرحمة و منبع كل خير، كل ذلك سبب مقالتهم تلك و قد أكد عز

ص: 64

و جل أن هذا القول منهم هو السبب في ذلك، و لا غرو فإن اللسان في الإنسان من أهم أسباب الحرمان، فقد ورد عن نبينا الأعظم صلی اللّه علیه و آله و سلم و قد سئل عن زلات اللسان فقال: (و هل يكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم) و السر في ذلك واضح فإن اللسان مفتاح القلوب و المقال دلیل النوايا و السرائر فلا بد أن يكون في سبيل الخير و زمامه بيد العقل لئلا يخرج عن الاستقامة المطلوبة و يحرّم الإنسان عن كل خير فالآية الشريفة ترشد المؤمن إلى هذه الخصيصة المهمة فلا يغفل عن نفسه و لا يصدر منه ما يستوجب البعد و الحرمان و لذا كان الأنبياء و الحكماء و من كمل إيمانه لا يتكلم إلا بقدر الضرورة، و بعد التفكر و ملاحظة الخصوصيات لئلا يترتب على مقاله أثر سيء، و قد ورد في الدعوات المأثورة الاستعاذة باللّه الكريم من زلات اللسان و هفواته، فيجب أن لا يغفل عن عظيم الأثر المترتب على الأقوال و كفي ما في هذه الآيات الشريفة من التنبيه و الوعظ و بما ورد فيها من الزواجر و الوعد و الوعيد.

و أما ما يتعلق بالأعمال و الأفعال فهو السعي إلى الفساد فإن من اختل فيه القول و ساءت سريرته و نواياه و بعد عن كل خير لا محالة أنه يسعى إلى الفساد و بکمال جهده فقد انسلخ من الصلاح لما عليه من اقتراف الخطايا و الآثام و خرج عن ربقة الإنسان الذي أكرمه اللّه عز و جل و أنعم عليه فجعله هادياً مهدياً إن استمر على فطرته و استقام على الطريقة، و أما إذا عتى عن أمر ربه و طغي في عصیان خالقه و أضل عن سواء السبيل فلم تكن الهداية مبتغاه و لا الطاعة مسعاه لا محالة يكون ضالاً مضلاً فينخرط في الفساد و يسعى فيه، و قد عدّ عز و جل بعض

ص: 65

أنواع الفساد الذي هم عليه الذي فيه الظلم على النوع و إفساد النظام و هو إيقاد نار الحرب التي فيها هلاك الحرث و النسل لعظیم مقالهم و أفعالهم فغلت أيديهم، و استیلاء الحسد على قلوبهم و اكتوائهم بنارها فتعدت بنارها تلك النار فأوقدوها في الحرب لإطفاء نور الهداية و طمس الفطرة بإلقاء الشكوك و الشبهات و رمي الناس في اللهو و الباطل، و الحسد الذي هم عليه لم يكن من ذلك الذي يمكن السيطرة عليه و يكبح جماحه فإن الإنسان إذا توغل في الطغيان و الكفر و لم يكن يريد ما أنزل اللّه عز و جل إلا بعداً عن الخير و الهداية فانقدح فيه نار العدوان و استقر في القلوب البغضاء و الشنان فلم يكن له قلب سليم لينتفع بالمواعظ و ينزجر بالزواجر و كل ما ورد في هذه الآية الشريفة فيها من الترتيب الدقيق في التدرج من الأدنى إلى العظيم و الأعظم و الأدهی و الأمر فلا يغفل الإنسان عن نفسه و يتركها من دون رقابة في الأقوال و الأفعال و لا يصلح النوايا و السرائر فإذا كان كذلك و أدركته التوفيقات الربانية و هذب نفسه بالإيمان و أتقى الموبقات و الآثام و عمل بما أنزل اللّه من الأحكام و منها الولاية التي وردت في روايات المقام و هي روحها فاستعد لتلقي الفيوضات من مالك الملك و الملكوت فمسح عنه أدران الذنوب و أزال حواجب القبول و فاز بالقرب و حلّ في دار الخلد عند مليك مقتدر و أنعم عليه بأنواع النعم فصلح و صلح النظام به، و يستفاد من الآية الشريفة «وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ» أن العمل بما علم يورث الفوز بالسعادة الدنيوية و الأخروية و إن العمل بما أنزله اللّه يستدعي

ص: 66

صلاح نظام العالم و تدل على ذلك جملة من الشواهد العقلية و النقلية، ففي الحديث عن نبينا الأعظم صلی اللّه علیه و آله و سلم (من عمل بما علم أورثه اللّه علم ما لم يعلم) فإن العمل يورث استنزال البركات الإلهية و يستوجب الثبات و الرسوخ في العلم، فالآيات الشريفة من جلائل الآيات في السير و السلوك إلى اللّه عز و جل و قد ابتدأت بسرد بعض الحجب الظلمانية التي تكدر النفس و تحط من درجاتها السامية ولكنها اختتمت بالتحلية بالفضائل و تزكيتها بالكمالات العلم و العمل و عروجها إلى قوس الصمود فكان ختامها مسكاً و في ذلك فليتنافس المتنافسون.(1)

ص: 67


1- ن.م، ج12، ص159.

بعض العادات التي توجب طمس نور الفطرة

الآية الشريفة(1) تحكي عن عادة جاهلية فيها نوع من التصرف في سلطان اللّه عز و جل و إرادته التشريعية، و قد جمعت تلك العادات الذميمة بين الحماقة و الجهل و عدم الاهتداء و الاعتماد على هدى صحيح ليسترشد الإنسان به في جميع أعماله و تصرفاته و قد وصف عز و جل القوم الذين كانوا يفعلون تلك الأمور بأوصاف تدل على هبوط منزلتهم، فهم أسراء بين الجهل و عدم التعقل لما هم فيه و ما تتطلبه إنسانيتهم و التقليد المميت لفطرتهم و المموه لعقولهم فصاروا كالأنعام لا يدركون ما يفعلون في أمثالهم، فطوراً يسيبونها تائهة و أخرى يجعلونها وصيلة و ثالثة تكون حامية و رابعة تكون بحيرة، و هذه كلها صفات ذميمة ترجع إلى تقييد النفس التي شرفها اللّه بكرامته و حباها من عظيم لطفه فإذا جعلت النفس إلى أدنى مستوى لها في الكمال بحيث لا تسمع إلا المخالفات بشق أذنها لها سابت في مراتع الشهوات من دون

ص: 68


1- «مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ».

أن ترى عليها رقيباً و سرحت في الالتذاذ بالمخالفات و ركنت إلى الدنيا فقطعت كل آمالها عن الكمالات و تمنت المزيد من المعاصي و الآثام و وصلت بعضها ببعض فسوفت التوبة و الاستغفار و التهيؤ للاستكمال فلا يكون لها حام يحميها من المزال فوسوس لها الشيطان و ألقى الشبهة بأنه لا معنى للمجاهدات و العمل بالشريعة الغراء و اعتمدت على التقليد فلا اهتدوا لعدم تعقلهم و لا اعتمدوا على ركن وثيق فإن كانت هذه عادة جاهلية واحدة كانت في الأنعام و قد أثرت في النفس التي أراد لها اللّه عز و جل الكمال و الوصول إلى مقام الأنس فما بالك في سائر العادات المهلكة و قد حذر اللّه عز و جل تلك العظيم أثرها في النفس و الحط من منزلتها و يكفي النداء الربوبي لهم بأنهم لا يعقلون و توصیف آباءهم بأنهم لا يعلمون شيئا و لا يهتدون فإن درك الحقيقة و الرجوع إلى النفس التي على قدر معرفتها تكون معرفة الباري عز و جل يحتاج إلى هذين الأمرين العلم و الاهتداء و التعقل لما يفعله و فهم ما يلقى عليه و هما الركيزتان اللتان يعتمد عليهما السالك و العارف و بدونها لا يمكن الوصول إلى الحقيقة مهما حاول فإنه يضيع العمر في طلب المحال.(1)

ص: 69


1- مواهب الرحمن، ج12، ص521.

نعمة الامتحان و الابتلاء

نعم اللّه تعالى على العبد كثيرة لا تعد و لا تحصى منها التكاليف الشرعية التي هي من الكمالات الإنسانية بحد نفسها و منها الامتحانات الإلهية و الابتلاءات الربانية التي تصقل جوهر النفس و تكشف عن حقيقتها فإنه عند الابتلاء يكرم المرء أو يهان و ليست أثقالاً عليها لتئن تحت وطأتها كما يزعم بعض من لا بصيرة له، فإن أمر النفس غریب و هي صعبة المرام لا تسلس لقائدها بسهولة فلا بد من زجرها آناً بعد آن، فلو خليت و طبعها خرجت عن قيادة صاحبها و تخبطت خبط عشواء و أوردته المهالك العظام، و قد قال أمير المؤمنین علیه السلام: (أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك) لأن العدو إذا أكرمته خضع و نسي ما كان عليه من العداوة فصار كأنه ولي حميم بخلاف النفس فكلما أكرمتها تمردت و خرجت عن الطاعة و تمادت في الطغيان فلا بد من زجرها بالزواجر و دوام مراقبتها و تسلم زمامها و لا يمكن للإنسان وحده أن يقوم بهذه المهمة الصعبة و العسيرة جداً لكنها ليست بالمستحيلة لئلا يلزم محذور الجبر الذي ينادي به بعض من لا خبرة له بل هو وسيلة من أعرض عن الكمالات و انهمك في الرذائل و الطغيان، و لقد قامت الشرائع الإلهية خیر قیام بتذليل الصعاب للإنسان فسنت قواعداً و أحكاماً لجميع

ص: 70

مجالات الحياة التي تحنوا إليها النفس و ترغب فيها و تزيد في طغيانها فكانت من أعظم النعم الإلهية، و لما لم يكن أفراد الناس على وتيرة واحدة فأتم عز و جل تلك النعم بالابتلاءات التي هي من أهم الزواجر و الذواكر للنفس الطامحة إلى التبطر في العيش و التمني في البقاء اللذين هما من أهم الموبقات المهلكات و من ذلك يعلم أن الابتلاء سُنَّةٌ من السنين الإلهية التي يرجع خيرها إلى الإنسان نفسه، و قد ورد في الحديث (لم يستكمل إيمان العبد حتى يعلم أن الابتلاء نعمة من ربه).

و قد ذكر عز و جل في الابتلاء الذي له من الأهمية بمكان و يكشف عن ذلك عظمة البيت الحرام و شرفه الكبير و أهميته في التقرب إلى اللّه تعالى، فالمكان و الزمان و الحال كله من الحرام لتحصل حالة الانقطاع و تتجرد النفس عن علاقتها المادية و تحشر إلى اللّه، و في الآيات إشارات لأصحاب السير و السلوك و من يهتم بترويض النفس و من يريد معرفتها و الطالب للحقيقة و الرجوع إلى خالقها، فإن من عرف نفسه فقد عرف ربه، فإن أول قدم يضعه في هذا المقام الإحرام عن زخارف الدنيا و زبرجها و منع النفس عنها، فإنه مما لا بد منه في هذا المجال ذي المسلك الصعب فإن خلع النفس من الموانع و أبعادها عن الغفلة و الركون إلى الدنيا أمر مهم لا يمكن التغاضي عنه، فإذا أراد شخص السير إلى محال قدسه و الإحرام لزيارة كعبة الوصول فإنه يبتلى لا محالة بالمقاصد النفسانية و الصيود الشيطانية فإن على قدر عظمة القصد و الغاية تكون ابتلاءات المسير، و هذه إما أن تكون كامنة في نفس الإنسان مما تناله الأيدي أو هي من الأمور المادية المحيطة به مما تناله الرماح

ص: 71

القاتلة و قد اتفقا على الصد من تكميل النفس بالكمالات و الوقوف أمام مسیرها الاستكمالي و سلوك الطريق المستقيم فلا بد من اجتياز تلك الابتلاءات و زجر النفس عن الاقتراب إلى ما يوجب التنزل إلى الدركات

حتى يصل إلى درجة الشهود و يظهر الغيب المشهود و يكون على خوف شدید مما يجري حوله مما يوجب الصد عن ذكر اللّه تعالى و الغفلة عن النفس و خالقها، و للخوف آثار عجيبة في تهذيبها و لولاه لما أمكن الوصول إلى دار الحبيب و التزود بلقياه، و هو كامن في كل فرد لكن الحجب التي يصنعها الإنسان من أفعاله و عقائده تكون مانعة من تأثيره فيخلد إلى الأرض و ينسی آیات ربه و يصدر ما يصدر منه من الموبقات، و من هنا يظهر سر قوله تعالى: «لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ» فإن الخوف يستتبع الخشية و الهيبة في الحضور و تتجلى الذات و تنصقل النفس و تذوب في الصفات، فما أشد تأثير الخوف في مقام السير و السلوك و لذا ترى أن الأنبياء العظام و الأولياء الكرام كانوا على خوف شديد من جميع الجهات، من النفس التي قد تنبو و تبطل جميع الأعمال و المجاهدات التي مضت عليها برهة من عمرهم، و من الدنيا التي تكون فاتنة خداعة تأتي لحظة يفتتن بها فيخرج عن طور العبودية، و من الأولاد و الأموال التي قال عنها عز و جل: «إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ»، فإذا ذهب الخوف ابتلى بعذاب الحرمان و بعد عن ساحة الرحمن و بقي في ذل الاحتجاب و الهوان و أما إذا تحقق و انتشر على الأعضاء و الجوارح حصلت الهيبة و الخشية ممن يعلم الغيب و تهيأ لقنص الكمالات و استعد لنيل المقامات فيحرم عليه قتل ذلك الصيد في حال التهيؤ إلى الملاقاة

ص: 72

و نیل الدرجات بالإحرام الحقيقي و الابتعاد عن الرذائل و السيئات فكيف يصح في حكم العقل قتل مثل هذا الصيد حينئذ و هو الذي تهيأ من طول المجاهدة و ذاق مرارة الحرمان طوراً من الزمان و ذاب فؤاده من طول الهجران فإذا مشى قاصداً لارتكاب الحظوظ النفسانية و إعطاء النفس هواها فلا بد زجرها و قهر تلك القوة التي ارتكب بها في قتل هذا الصيد من قوى النفس البهيمية بجزاء معين هو مثل ما قتل الذي يتعين بالرجوع إلى من يحكم بذلك ممن وصل إلى درجة اللقاء و اجتاز تلك الحجب و عرف كيفية الوصول و أذن له بإرشاد من يريد السلوك من عينه الحبيب على بابه حاجياً فيقدم له الهدي و يتوب إلى اللّه مما ارتكبه فيفني نفسه حق الفناء و يسترد تلك القوى البهيمية بالصدقة و الصيام الترويضها على القيام بما يريد اللّه عز و جل، و لو عاد إلى ما نهي عنه فينتقم اللّه تعالى منه بإقصائه عن تلك الدرجات و إبعاده عن قربه فيضل حیران تهوي به الريح إلى مكان سحيق فكيف يمكنه الرجوع إلى حمی الحبيب حينئذٍ.

ولكن ليعلم أنه لا يمكن السير و السلوك إلا بعد التزود بالمعرفة و العلوم الحقيقية و المعلم الذي يرشد الإنسان إلى طرق استكماله و من ذلك يصرف أهمية أهل الذكر في الرجوع إليهم و قد أحل اللّه تعالى له صيد البحر و نيل المعارف و الرجوع إلى عالم الحقيقة و التزود من بركاته لمن أراد السفر إلى اللّه تعالى ولكنه محروم و الحالة هذه من العلوم المادية التي هي صيد البر التي تبعد الإنسان عن خالقه العظيم المنان الذي هو مقصد كل عارف مفتون و سالك مجذوب و لا بد من المراقبة و دوام التقوى في هذا السفر المضني المبارك الذي به يتم الحشر إليه عز

ص: 73

و جل أخيراً و يتم البقاء، فلا بد من الاجتهاد في السلوك و طي المراحل و إزالة الموانع و الوقوف عند من جعله اللّه قياماً للعباد و التزود بمظهر جلاله و كبريائه فيتجلى عز و جل له بقدر ما حصل له من الاستعداد و ما فني من نفسه من الأغيار حتى يصل إلى درجة لا يمكن أن ينالها إلا الصِدّيقون المقربون فيحصل فيه الفناء و تموت في أنفسهم جميع الأغيار و يتحقق الموت الحقيقي ولكن في زمن خاص و هو الشهر الحرام الذي يحرم فيه الالتفات إلى مقتضيات النفس و تنعدم فيه صفاتها و يستعد لنيل الواردات التي ترد القلب و ما يحصل له من التجلي و الفناء التي بمنزلة الهدى و تقاد إلى مولاها التي هي القلائد لانقيادها إلى بارئها و أما صاحبها فهو و إن فني في الحب من دون غفلة بل من صعقة الشهود إلا أنه لا يغيب عن بارئها و خالقها فإنه يعلم ما في السموات و ما في الأرض و إن اللّه بكل شيء عليم و أن علمه محيط بكل شيء يعلم ما تصبوا إليه النفوس و مقدار زكاتها و استعدادها و سيرها و سلوكها و التفاتها و يعطي كل واحد بمقدار استعداه و قابليته، و الآيات الشريفة و إن وردت في إحرام الحج و السفر إلى الكعبة بيت اللّه الحرام و قد بين عز و جل فيها ما هو المطلوب في الاستعداد لهذا السفر المبارك بهذا الميدان المادي فما بالك بالسفر المعنوي الحاصل من انتقال النفس من عالم المادة إلى العالم الذي كان مأنوساً فيه فإن الطريق المسلوك فيه أطول و أشد و عورة و أعظم امتحاناً و ابتلاءً لعظم المقصود فيه رزقنا اللّه تعالی التوفيق و الهداية.(1)

ص: 74


1- ن.م، ج12، ص459.

مهلكات النفس و ما يوجب الاطمئنان

الآيات الشريفة(1) تبين مظاهر سخط اللّه تعالى و موجبات لعنه و عذابه لأنها من عمل الشيطان الذي هو مصدر الغواية و الضلال و قد بين عز و جل ما يترتب عليها من الآثار الوصفية التي تعتبر من مهلكات النفس و انحطاطها إلى أدنى الدرجات، و كيف لا تكون كذلك و هي التي تصدر عن ذكر اللّه تعالى الذي تطمئن به قلوب المؤمنين بل هو أمل العارفين و الروح الذي يضفي للموجودات بهاءً و عظمة ربه حياتها، فلا يستغني السالك إلى اللّه تعالی عنه و أن الصد عنه يوجب هلاكه لأن فيهم البعد عن ساحة جلاله، كما أن تلك المهلكات توجب المنع عن الصلاة التي هي قرة عين الأنبياء و المرسلين أو معراج الأولياء و الصالحين و فيها سمو الروح و اتصالها برب العالمين و فناؤها فيه، فلا يكون الصاد عنها إلا عدو استكلب على الإنسان ليحرمه عن ملاقاة الحبيب و الالتذاذ بمناجاته و تكميل النفس بملاقاته و إبعادها بالغفلة التي تحط الإنسان عن

ص: 75


1- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)».

قدرة و تمسخ قلبه، و لعل في إتيان الذكر ثم الصلاة لبيان درجات العارفين و مقامات السالكين فبعضهم اقتصر على ذكر اللّه تعالى الذي هو روح الموجودات و به حياتها و البعض الآخر تعدي عن ذلك و وضع قدمه في ديار الحبيب و تمنی ملاقاته و الحضور لدى جنابه، و كلا المقامين لا بد له من الحب الإلهي ليحق له الدخول في هذا السلك، فإذا كان الخمر و الميسر يسلبان الحب مکن بين القلوب و يبدلانه بالعداوة و البغضاء فينشغل القلب بنيرانها و ينغفل عن ساحته القرب و تحليته بالكمالات كيف لا يترتب عليه الصد عن ذكر اللّه تعالی فیکون ترتب الصد على العداوة و البغضاء من ترتب المقتضى على المقتضي، هذا في سكر الخمر و ثمالتها و الميسر الذي يلهي عن ذكر اللّه، فما بالك بسكر الدنيا الناشىء من حبها الذي هو من أمراض النفس الخطيرة فيسلب لب الإنسان و يفقده صوابه و لحب الدنيا و سكرها مظاهر كثيرة، فقد يحصل من المال أو الجاه و الرياسة، و قد يدخل في أمور دقيقة عند السالكين و العارفين و قد يغفل عنها فتظهر على نواياه أو أقواله و أفعاله فإن لم يعالجها يرجعه إلى أسفل السافلين، و لذا كان الأنبياء و المرسلون يتعوذون باللّه منهما و يتوبون و يستغفرون اللّه مما قد يصدر منهم في أطوار حياتهم المعنوية فإن الأمر دقيق جداً و الإنسان في اختبار و امتحان مستمرین، و كانت سيرة الأئمة الأطهار علیهم السلام في تعاملهم مع الدنيا على حذر شديد و في الحديث عن الإمام الصادق علیه السلام: «و اللّه لقد نزلت الدنيا عندي منزلة الميتة متى اضطررت إليها أكلت» فإن جمالها الفاتن يخلب القلوب و يصد السالك المجذوب.

ص: 76

و قد نقل عن بعض العرفاء في حق منه كان مشغولاً بنفسه و زاهداً عن الدنيا و مفاتنها مدة طويلة لما عرضت عليه القضاء فقبلها قال: إنه كان يضمر حب الدنيا مدة أربعين سنة و هو صحيح فإنه يبقى في مكنون النفس مدة طويلة و يكون صاحبها مشغولاً في جهة أخرى.

و لعل في قوله تعالى: «لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ» إشارة إلى هذا الأمر الدقيق فلا بد من التقوى و الرجوع إلى الإيمان دوماً و الشدة في ذلك بدوام المراقبة أوانه إرشاد إلى مراتب الإيمان و منازل المؤمنين و ليعرف كل واحد منهم منزلته فيقوم بها على الوجه المطلوب ليمكنه التجاوز إلى منزلة أخرى كما ورد عن الصادق عليه السلام (الإيمان حالات و درجات و طبقات و منازل فمنه التام المنتهي تمامه، و منه الناقص البين نقصانه و منه الزائد رجحانه).

و لا تكون منازل الدرجات إلا لأجل اختلاف المؤمنين في الاستعداد لتلقي الفيوضات الإلهية الناشىء من تفاوتهم في الأعمال و صفاء النفس و بعدهم و قربهم من معدن العظمة و الكبرياء، و في الخبر (أن التقوى على ثلاثة أوجه، تقوى في اللّه و هي ترك الحلال فضلاً عن الشبهة، و هي تقوی خاص الخاص و تقوى من اللّه و هي ترك الشبهات فضلاً عن الحرام و هي تقوى الخاص و تقوی من خوف النار و العقاب و هي ترك الحرام و هي التقوى العام، و مثل التقوى كماء يجري في النهر و مثل هذه الطبقات الثلاث في معنى التقوي كأشجار مغروسة على حافة

ص: 77

ذلك النهر من كل لون و جنس و كل شجر منها يمتص الماء من ذلك النهر على قدر جوهره و طبعه و لطافته و كثافته ثم منافع الحلق من تلك الأشجار و الثمار على قدرها و قيمتها، قال اللّه تعالى: «صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ» فالتقوى لطاعات كالماء للأشجار، و مثل طبائع الأشجار في لونها و طعمها مثل مقادير الإيمان، فيكون التغيير و الاختلاف يرجع إلى شيء مستور عن الناس مع كون المادة واحدة و يدل عليه قوله صلی اللّه علیه و آله و سلم: (الناس معادن كمعادن الذهب و الفضة) مع كون مادة الناس و محل تكوينهم إنما هو المني و الرحم و كذلك سائر المخلوقات من الجماد و النبات و الملائكة، فإن منشأ تكوينهم شيء واحد مع الاختلاف العظيم فيما بينهم، فالآية المباركة من جلائل الآيات التي يستفاد منها أبواب كثيرة في العلم و العمل و التقوى و فيها إشادات لطيفة و دقائق ربانية لذوي البصائر في مقاماتهم الرفيعة ليكونوا على حذر مما يوجب صدهم عن ما فيه حياتهم بالآخرة و هلاكهم، كما أنها ترشدهم إلى التزود بالتقوى و بقائهم على مراقبة تامة و تطميعهم في مثل الدرجات العالية و المقامات الرفيعة فيا لها من آية عظيمة في السير و السلوك فلا تغفل عنها و اللّه المستعان.(1)

ص: 78


1- مواهب الرحمن، ج12، ص417.

مراتب الذكر

من أجلّ مقامات العارفین مقام الذكر، بل هو من أعظم مظاهر حبّ الحبيب لمحبوبه، فإن «مَن أحب شيئاً، أكثر من ذكره»، و من علامات الحبيب الاستهتار بذكر حبيبه، و قد قالوا: إنّ المحب إذا صمت هلك، و العارف إذا نطق هلك، لأن الأول مجبول على ذكر الحبيب، و الثاني مأمور بستر الأسرار، و نسب إلى سيد الساجدین علیه السلام:

یا ربّ جوهر علمٍ لو أبوحُ بهِ *** لَقيلَ لي أنتَ ممّن تَعبد الوَثنا

و الذكر - عندهم - على أقسام ثلاثة:

الأول: ذكر اللسان المستمد من القلب.

الثاني: ذكر القلب مع عدم حركة اللسان، ويسمى مناجاة الروح و الاستجماع للمذكور بالكلية، وهذا ذكر الخواص.

الثالث: ذكر السر، و معناه غيبة الذاكر في المذكور - في الجملة - فكأن المذكور يكون هو الذاكر، و هذا ذكر أخصّ الخواص. و مثّلوا لكلّ ذلك بأمثلة مذكورة في محالها، كما بيّنوا لكلّ واحد منها ثمرات و نتائج.

ص: 79

و لو أضفنا إلى ما ذكروه من الأقسام، ذكر عامة الناس الذي يقوم بالجارحة اللسانية فقط من دون استمداد من القلب، تصير الأقسام أربعة، و لعلّهم لم يذكروا هذا القسم لتنرّههم عن مثل هذا الذكر.

ثم إنّ ذكر الذاكر إنما يتقوّم بحبّه للمذكور، و لولاه لم يذكره، و المذكور قد يحبّ الذاكر، قال تعالى: «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(1)، بل حبّه لجميع خلقه مما أثبتته الأدلة العقلية - كما برهن في الفلسفة الإلهية - و النقلية، فيقع التجاذب في البين لكلّ من الحبيبين، و بعد تحقّق مراتب الحضور بينهما كيف يتحقق التخالف؟! لأن ذكر الحاضر من تمام الجهات قبيح، قال الشاعر:

أما ترى الحق قد لاحت شواهده *** و واصل الكلّ من معناه معناکا

و البحث نفسي جداً، لو وجدت لهذا العلم الشريف حملةً.

ص: 80


1- آل عمران، الآية 31.

أهمية التربية

يتضمن قوله تعالى: «كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ» أهم المناهج في تربية الإنسان في استكماله، و مثله في القرآن الكريم كثير.

و قد أشار سبحانه و تعالى إلى بعض الأصول المهمّة في هذا المنهج - كما هو دأبه عزّ و جلّ في القرآن الكريم - فعلى الإنسان الجد و الاجتهاد في التفريع عليها، و تطبيقها على مجالات الحياة.

و لا ريب في أهمية التربية و التعليم و ارتباطهما الوثيق بالإنسان، و دخلهما في جميع جوانب حياته، و بهما يستكمل الفرد و ينال السعادة في الدارين. و لا يمكن لأي فرد من أفراد الإنسان الاستغناء عنهما في أي دور من أدوار حياته، و بهما يقوم النظام الاجتماعي، و لا يوجد أمر آخر يكون له هذا الاتّصال بالواقع الإنساني و تكون له هذه الشمولية، و هما قرين الإنسان منذ أول الخليقة في جميع أدواره، و لا يعقل بالنسبة إليه تعالى إهمال هذا الجانب المهمّ في الإنسان، مع علمه عزّ و جلّ بما يترتب على إهماله من الآثار، و لم يشرّع شريعة إلّا لتهذيب الناس و تكميلهم و إيصال الفرد إلى السعادة.

ص: 81

و منهج التربية و التعليم - كسائر المناهج و العلوم - قد طرأ عليه تغییرات و لم يصل إلى حدّه الفعلي إلّا بفضل جهود العلماء و المربّين، و وضع النظريات العلمية، مما أوجب التغلّب على كثير من الصعاب.

و للتربية و التعليم مناهج متعدّدة، و قد وضعوا في كلّ واحد منها كتباً و رسائل كثيرة جداً.

و أهم تلك المناهج هو: المنهج العقلي، و المنهج المادي، و المنهج التجريبي، و جميع هذه المناهج قاصرة عن الإيصال إلى المطلوب، إلّا المنهج الإسلامي المبيّن في القرآن الكريم و السنّة الشريفة، و السبب في قصورها عدم كفاءتها في رفع المشكلات الإنسانية إلّا في حدود معيّنة وصلت إليها أفكارهم القاصرة، و لذا نرى الاختلاف و التناقض فيها بخلاف المنهج الإسلامي، الذي يصدر عن منبع محیط بكلّ الجهات و في كلّ زمان.

و يمتاز هذا المنهج القرآني عن غيره بوجوه عديدة أهمها:

الأول: أن المنهج التربوي و التعليمي في الإسلام ليس مادياً صرفاً، و لا عقلياً بحتاً، بل هو يشمل الجانبين، و يعطي لكلّ جانب حقه.

الثاني: أنّه يراعي الجانب التطبيقي، و يعطي للعمل أهميته و يهتم بالمربّين و المعلّمين قبل كل شيء، فهو يأمر بالتزكية و إتيان العمل الصالح، و لا يكتفي بالجانب النظري فقط.

الثالث: أنّه يهدف الكمال الإنساني، و يبغي سعادة الفرد و المجتمع، و وضع لكلّ ذلك أسساً و قواعد لا يمكن التخلّي عنها.

ص: 82

الرابع: أنه عامّ يشمل جميع مراحل الإنسان، و جميع جوانب حياته، بل يشمل مرحلة ما بعد الموت أيضاً بحسب الآثار.

الخامس: أنّه مرتب ترتيباً دقيقاً، يبتدىء بالتلاوة ثم التزكية، فالتعليم و طلب الحكمة، و التجاوز عن هذا الترتيب لا يوصل إلى ما يريده الإسلام.

و في القرآن الكريم إشارات إلى كلّ واحد من الأمور المتقدّمة، و في السّنة الشريفة شرح ذلك، و يأتي في الآيات المناسبة التعرّض لها إن شاء اللّه تعالی.

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ».

الآيات متّسقة منتظمة، كلها وردت في سبيل استكمال الإنسان، و لذّة النداء و الخطاب في أوّلها ترفع عن العبد ثقل التكليف.

و قد بيّن سبحانه و تعالى فيها أن الإنسان في طريق استكماله و إشاعة الحقّ و مقارعة الباطل، يقترن أنحاء من البلاء و المحن في الأنفس و الأموال، و لا يمكن التغلب عليها إلّا بالصبر و التوجّه إليه تعالى في كلّ أمر. و قد لطف سبحانه و تعالى على عبيده بما يهوّن

ص: 83

عليهم احتمال المكاره، و يخفّف عنهم عظم المصاب، بما أعدّه سبحانه للصابرين من البشارة العظمى، و لمَن قتل في سبيله الأجر الجزيل.

و لا يسعنا في ذلك إلّا أن نقول بما قاله الإمام زین العابدین علیه السلام في صحيفته: «و لو دلّ مخلوق من نفسه على مثل الذي دللت عليه عبادك منك، كان موصوفاً بالإحسان و منعوتاً بالامتنان و محموداً بكلّ لسان».

فهذه الآيات المباركة تكفي في عظمة الموحي و الموحى إليه و الوحي، لكلّ من كان له سمع أو ألقى السمع و هو شهيد.

قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا».

قد ورد هذا الخطاب في القرآن الكريم في ما يقرب من تسعين مورداً، و فيه من التحبّب و الملاطفة مع عبيده ما لا يخفى، و المنساق من سياقه تلبّس المخاطب بالإيمان في الجملة، و هو يقتضي أن يكون الخطاب مَدَنياً لا مكياً. و تقدّم ما يتعلق به في الآية 104 من هذه السورة، فراجع.

قال تعالى: «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ».

الصبر هنا مقاومة النفس مع ما يرد عليها من المكاره و الأذى، و حذف متعلّقه يفيد العموم - كما هو المعروف في العلوم الأدبية - أي استعينوا بالصبر في جميع أموركم فإنه مفتاح النجاح، و هو في كلّ شيء حسن، و لا يتعلّق بشيء إلّا و صار محبوباً، فهو أُمّ الفضائل و الجامع لجميع جهات استكمال الإنسان، إذا كان الصابر مراعياً لتكاليف المولی.

ص: 84

و الاستعانة بالصبر استعانة بأهم الأسباب المؤدية إلى المطلوب، و أعظم السبل في نيل المقصود، و الحاجة إليه في تأييد الحقّ و مقارعة الباطل و احتمال المصائب، معلوم لكلّ أحد، وآثاره ظاهرة لكلّ فرد، و تقدّم ما يتعلّق به في الآية 45 من هذه السورة.

و أما الاستعانة بالصلاة، فإنها استعانة بأبرز مظاهر العبودية لرب العالمين، و أهم أبواب مناجاته تعالى، و الاستغاثة به عزّ و جلّ، لما تشتمل على عظيم الآثار، فإنها معراج المؤمن، و إنّها تنهى عن الفحشاء و المنكر، و بها يحصل للنفس سكونها و اطمئنانها عن الحوادث الواردة عليها، لأن فيها ارتباط بعالم الغيب المحيط بهذا العالم - و الإنسان خلق من ذلك العالم، و فإذا طابقت سنخية الذات مع العمل يحصل الانقطاع عن العلائق، و يشتد الارتباط مع ربّ الخلائق، فينتظم النظام على الوجه الأصلح.

و في الحديث: «كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم: إذا حزّ به أمر - أي اشتد عليه - فزع إلى الصلاة»، و تقدّم نظير هذه الآية في هذه السورة آية 45، إلّا أن في الأولى مدح سبحانه الصلاة، و في هذه مدح الصبر و بشّر الصابرین.

و الوجه في التكرار، التأكيد على أهمية الصبر و الصلاة في تنفيذ الأمور و تكميل النفوس، و توطينها لاحتمال المكاره و تحصيل السعادة في الدارين.

قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ».

ص: 85

لفظ «مع» يأتي بمعنى الجمع و المصاحبة في الجملة، و يختلف اختلافاً كبيراً بحسب الموارد و الخصوصيات، و يستعمل في الخالق و المخلوق، قال تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ»(1)، و قال تعالى حكاية عن نوح: «وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»(2).

و المعيّة نحو ارتباط حاصل. .

تارة: بين الخالق و المخلوق حدوثاً و بقاءً، قال تعالى: «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ»(3)، و يعبّر عنها بالمعيّة القیّوميّة، و تلازمها المعيّة الزمانية و المكانية، و الجامع ما ذكره علي عليه السلام: «مع كلّ شيء لا بالمجانسة، و غير كلّ شيء لا بالمباينة».

و أما معيّة المخلوق مع خالقه فيعبّر عنها بعبارات مختلفة، أولها العبودية و آخرها الفناء في اللّه تعالى، و نتيجة الجميع البقاء باللّه تعالی.

و أخرى: تحصل من عونه و نصرته و توفيقه، و تسبيب أسباب الخير، و منها معيّته تعالى مع الصابرين و المُتّقين و الأنبياء و الصالحين، فتكون معيّته تعالى لهم من جهتين جهة قيّوميّته تعالى، و جهة فعله و عنايته و نصرته لهم. و هناك معان أخرى للمعيّة تأتي في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالی. قال تعالى: «وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».

ص: 86


1- التوبة، الآية 123.
2- الشعراء، الآية 118.
3- الحديد، الآية 4.

المراد من القول هو الأعم من الاعتقاد و التعبير بالألفاظ، فاستعمل في الجامع.

و القتل إزهاق الروح عن الجسد إذا لوحظ فيه الإضافة إلى الفاعل. و أما إذا لوحظ فيه الإضافة إلى المقتول فيصح التعبير عنه بالموت أيضاً. هذا بحسب الشايع المتعارف و إلّا فيصح إطلاق القتل بالنسبة إلى الجنين الذي لم تتعلق به الروح بعد كما ورد في بعض أحاديث دية الجنين.

كما لا يختص بإزهاق روح الإنسان بل يشمل الحيوان أيضاً قال تعالى: «لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ»(1) و النصوص في هذا الإطلاق مستفيضة من الفريقين.

بل يطلق القتل على إزالة المعارف الحقّة عن النفوس المستعدة أو دفعها عنها. فإنَّ مَن تسبب في جهل الناس بالمعارف الإلهية فقد قتلهم شر قتلة لأنه أزال حياتهم الأبدية السرمدية كما يأتي التفصيل.

و قد ذكر القتل ههنا بهيئة المضارع، و في قوله تعالى: «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا»(2) بهيئة الماضي، و لا فرق بينهما من هذه الجهة، لما ذكرناه من القاعدة الكلية المؤيدة بالدليل العقلي بانسلاخ الأفعال عن الزمان بحسب ذاتها و الخصوصيات الزمانية تستفاد من القرائن الخارجية.

ص: 87


1- المائدة، الآية 2.
2- آل عمران، الآية 169.

و السبيل هو الطريق الذي فيه السهولة، و يستعمل في كلّ ما يتسبب به إلى المطلوب - خيراً كان أو شراً - قال تعالى: «وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا»(1).

و قد ذكرت جملة «سبيل اللّه» في القرآن الكريم ما يزيد على ستين مورداً و هو يدل على سعته و شموله و عظمته و أهميته، و تقدم الفرق بينه و بين الصراط في سورة الحمد عند قوله تعالى: «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ» و قد ذكر في القرآن الكريم و السنّة المقدّسة بعض المصادیق: مثل بذل النفس في إحياء كلمة التوحيد و تأييد الحق و قمع الباطل، و بذل المال للضعفاء، و إفشاء الأخلاق الحسنة بين الناس، و خدمة الوالد، و صلة الأرحام، و إغاثة اللهفان، و عون الضعيف و غير ذلك مما لا حد له و لا حصر، و تقدّم قول: «إن الطرق إلى اللّه بعدد أنفاس الخلائق».

و المراد به في المقام الجهاد لإعلاء التوحيد و نصرة الحق و مقارعة الباطل و قمعه.

و ذكر القتل في سبيل اللّه بعد قوله تعالى: «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ» من باب ذكر أهم الأفراد و أعظم الأمور التي لا بد من الاستعانة بالصبر فيها، يعني إن اللّه تعالى مع كل صابر خصوصاً هذا القسم من الصابرين فإنه آخر درجة التصبر و الاصطبار، فيمنحهم اللّه تعالى المعونة و الأجر الجزيل.

ص: 88


1- الأعراف، الآية 146.

قال تعالى: «أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ».

أي: لا تقولوا: في شأن مَن قتل في سبيل اللّه أنهم أموات مفقودون عن الحسن ذهبوا إلى دار الفناء بل هم أحياء حياة أبدية ولكن لا تشعرون بها، لأن حياتهم في غير هذا العالم المحسوس المدرك بالمشاعر.

و المراد بالحياة هنا الأعم من الحياة في عالم البرزخ و الحياة الحقيقية لأجل إحياء الدين، و الحياة في الذكر و اللسان، نظير ما ورد عن علي عليه السلام: «هلك خزان المال و هم أحياء و العلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة و أمثالهم في القلوب موجودة» و هو من باب ذکر بعض الأفراد الذي لا يبقى لا من باب الحصر.

و قد ذكر المفسرون في معنى الحياة هنا ما لا يرجع إلى محصّل كما يأتي تفصيل الكلام فيها.

ص: 89

أقسام الحياة

الأول: الحياة الدنيوية الظاهرية المتقومة بتدبير النفس في البدن و إعمالها للقوى الظاهرية و الباطنية في الجسم الدنيوي فقط.

الثاني: الحياة الذكری عند الناس بعد ارتحال النفس عن البدن كما في العظماء و الأكابر الذين خلدت أسماؤهم في التاريخ تعظيماً لجهودهم في العلم و الأعمال الخيرية الصادرة منهم في حياتهم.

الثالث: الحياة الأبدية الخالدة التي لا يعلمها إلا اللّه تعالی.

و ظاهر الآية المباركة و النصوص الواردة في حياة المقتول في سبيل اللّه، هو القسم الأخير، لفرض أنه بذل نفسه و نفيسه في سبيل الحي القيوم الأزلي الأبدي، طلباً لرضائه و امتثال أمره، و لا تحديد في هذه الحياة، كما بالنسبة إلى القسمين المتقدّمين. و تتبع هذه الحياة، الحياة بالمعنى الثاني، فما عن بعض المفسّرين من أنّ المراد خصوص القسم الثاني فقط، تخصيص للعموم بدون وجه.

إن قيل: مثل هذه الحياة ثابتة لكلّ فرد من أفراد المؤمنین و معلومة لهم، فلا وجه لتخصيصها بالشهيد.

ص: 90

يقال: إن أصل الحياة بعد الموت و إن كانت ثابتة للمؤمنين و معلومة لهم، لكن المستفاد من مجموع الآيات الشريفة و النصوص الواردة في حياة الشهيد، أن فيها مزايا خاصة فوق أصل الحياة بمراتب كثيرة، كما يدلّ عليها قوله تعالى: «عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»(1).

و الخطاب في الآية عام، لا يختصّ بطائفة خاصة، لا المشافهين و لا غيرهم، لما ثبت في علم الأصول من أن الخطابات الواردة في الشريعة المقدسة - خصوصاً ما ورد منها في القرآن الكريم - من قبيل القضايا الطبيعية الشاملة لجميع الأفراد.

من قال باختصاص الخطاب في المقام و في قوله تعالى: «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»(2) بطائفة خاصة.

لا وجه له، إذ لا دليل عليه، بل هو مخالف لطريقة العرف و العقلاء في محاوراتهم، و لا سيما هذا الخطاب الوارد في مقام الترحّم على العباد، و الترؤّف بهم.

و القتل في سبيل اللّه تعالى هو الشهادة في سبيله تعالى، و الشهيد مشتقٌ منها، إلّا أنّ الأول باعتبار أصل الحدوث، و الثاني باعتبار الثبوت، و الشهيد من أسماء اللّه تعالى، و هو بمعنى الحضور الفعلي بالنسبة إلى جميع ما سواه، و لعلّ إطلاق الشهيد على مَن قتل في سبيل

ص: 91


1- آل عمران، الآية 169.
2- آل عمران، الآية 169.

اللّه تعالى، إنما هو لأجل حضوره لديه عزّ و جلّ متلبّساً بما عاناه من الصعاب و الاضطهاد، أو حضور الملائكة لديه مبشّرین له بأعلى المقامات و أرفع الدرجات التي أُعدت له، و يصحّ الحمل على المعنى العام أي حضوره لديه للانتصار، و حضور الملائكة لديه لبشارته بالجزاء، و المراد من حضوره تعالى هو توجّهه الخاص به.

فالشهادة هي السفر من الخلق إلى الحقّ، و لا تختصّ بخصوص من بذل دمه في سبيل اللّه، بل تشمل كلّ مَن تحمّل الأذية مطلقاً في سبيله عزّ و جلّ، و في جملة من الأحاديث: «المؤمن شهيد و لو مات في فراشه»، إلّا أن للشهيد الذي بذل دمه أحكاماً خاصة، و يأتي تتمة الكلام في الآيات المناسبة.

و الآية تدلُّ على تجرّد النفس، و هو حقّ لا ريب فيه، كما ثبت بالأدلة الكثيرة، و هو المستفاد من الكتب السماوية و القرآن المبين و النصوص المتواترة من السُنّة الشريفة، و يأتي في البحث الفلسفي تفصيل الكلام فيه.

قال تعالى: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ».

مادة: (بَلا) تأتي بمعنى الامتحان و الاختبار، و تقدّم ما يتعلّق بها في قوله تعالى: «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ»(1).

و الشيء من الألفاظ العامّة الشاملة للقليل و الكثير، و الجواهر و الأعراض.

ص: 92


1- البقرة، الآية 124.

و الخوف توقّع المكروه - مظنوناً كان أو معلوماً - بعكس الرجاء، فإنه توقّع المحبوب كذلك.

و المعنى: لنمتحنكم بشيء من الخوف من العدو، أو بشيء من الجوع.

و لم يذكر سبحانه و تعالی متعلق الامتحان و لا مورد الخوف و الجوع، تعميماً للاختبار و الامتحان في كلّ زمان و مكان، و بالنسبة إلى كلِّ شخص.

و لهما مراتب كثيرة يحتمل أن يكون الامتحان بالنسبة إلى كلّ مرتبة بما تقتضيه المصلحة الإلهية.

قال تعالی: «وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ».

النقص يأتي بمعنى الخسران، و هو في مقابل التمام.

و المراد من الأموال الأعمّ من الأعيان و المنافع، و ما يهتم الإنسان بحفظه، فيشمل الحيوان و العبيد و كلّ ما يبذل بإزائه المال.

كما أن المراد بالأنفس كلّ ما يتأثر الإنسان بفقده و ورد النقص عليه - سواء كان من النقص في قوى النفس أو عروض الموت عليها - فيشمل النفس و الأقارب و الأصدقاء.

و الثمرات جمع ثمرة، و هي و إن كانت داخلة في الأموال غالباً، لكن أفردها سبحانه و تعالى لتشمل ما ينبت في الأرض بالطبيعة، مما لا يملك لها فعلاً و ينتفع بها الإنسان، كالمرعى، و جملة كثيرة من النباتات التي لها منافع هامة للإنسان و تكون غذاءً للحيوان.

ص: 93

و يصحّ أن يراد بالثمرات - مضافاً إلى ما ذكرناه - ثمرات القلوب أيضاً، و هي الأولاد، كما يعبّر عنهم بها كثيراً، و في الحديث عن النبي صلی اللّه علیه و آله و سلم: «إذا مات ولد العبد قال اللّه تعالى للملائكة: أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول: أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون: نعم. فيقول اللّه تعالى: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك و استرجع، فيقول اللّه تعالی: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، و سموه بیت الحمد».

و الآية تشير إلى ملازمة ما تقدم من الأمور لدار الدنيا، المعبّر عنها في الفلسفة ب_(دار الكون و الفساد)، كما أنها تفيد بأن الإيمان باللّه تعالى لا يتقضي سعة الرزق و دفع الآلام و رفع المخاوف، بل إن ذلك يجري حسب قانون السببيّة، و ما سنّه اللّه تعالى في عباده، و إنما يجريها حسب المصالح و الحِكَم، و لذا نرى أن المؤمن يرى من البلاء ما لا يراه غيره، ليعلم مقدار صبره، أو يكمل إيمانه بها، و يتهذّب بالأخلاق الفاضلة.

ثم إنّ اختبار الناس من قبله تبارك و تعالى إنما يكون لأجل حكم و مصالح متعددة منها: توطني النفس على المصائب، و تهذيب النفس و تكميلها، و التأدب بمقاومة الحالات، و إتمام الحجّة، و التمييز بين الصابر و غيره، و قوة البصيرة، و صفاء السريرة، و تعلّم اللاحقين من السابقين كيفية مجاهداتهم و استقامتهم في الدين، و ما يترتب على ذلك من البشارة العظمى و الأجر الجزيل كما في ذيل الآية الشريفة.

و لا أثر لهذا الامتحان بالنسبة إلى علمه عزّ و جلّ، فإن الناس قبل الامتحان و بعده في علمه التام الأزلي على حدّ سواء.

ص: 94

و لأجل ذلك لا يختص الاختبار ببعض الأفراد دون بعض، بل يشمل جميع أفراد الإنسان، حتى الأنبياء و الأولياء، بل نقول إن ذلك من سنن الحياة الإنسانية.

نعم، تارة: يكون الامتحان لإتمام الحجّة على نفس الممتحن (بالفتح)، كما مرَّ و هذا هو القسم الشايع.

و أخرى: يكون لأجل إتمام الحجّة على الناس بأن هذا الشخص خرج عن الامتحان و قابل للنبوّة و الإمامة، كما بالنسبة إلى إبراهيم عليه السلام.

و أما بالنسبة إلى سيد الأنبياء، فإنه حاز مرتبة الجمع، و يجلّ عن ذلك، فإنه صلی اللّه علیه و آله و سلم أول الخلق كان كاملاً و مكملاً، و أن «آدم و من دونه تحت لوائه يوم القيامة»، و لو كان عيسی و موسى عليهما السلام حيّین لم يسعهما إلّا اتباعه كما ورد في الحديث، و روى الفريقان أنه قال: «لي مع اللّه حالات لا يسعني فيها ملك مقرّب، و لا نبي مرسل»، و على فرض وقوع الامتحان فإنما يكون لتثبيت علوّ مقامه عند الناس، كما عرفت آنفاً.

قال تعالى: «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ».

أي: و بشر الصابرين على تلك المصائب الذين رضوا بقضاء اللّه تعالى و قدره، و سلموا أمورهم إليه، و لم تصدّهم المحن و المصائب عن شكر اللّه تعالى و لا عن عبادته و طاعته.

و إنما أطلق سبحانه و تعالى البشارة، لعدم إمكان تحديد المبشّر به

ص: 95

بحدّ معين، فإنه يختلف باختلاف مراتب الصبر و الرضا، و المناط هو أهلية الصابر لتحمّل البلاء و المحن، خصوصاً إذا اقترن مع الرضا و التسليم، فإنه يكون حينئذٍ من أعلى الفضائل و أسناها، كما قال عزّ و جلّ.

قال تعالى: «الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ».

مادة (ص و ب) تستعمل في كل ما يصيب الإنسان من الخير و الشر قال تعالى: «إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ»(1)، و قال تعالى: «مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ»(2).

و استعملت المصيبة في كل ما يؤذي الإنسان في نفس، أو مال أو أهل. ولكن اختصت عند العرف بالنائبة فقط، و في نصوص كثيرة أن كل ما يؤذي المؤمن فهو مصيبة حتّى انقطاع شسع نعله، و الشوكة تدخل في بدنه، فتكون المصيبة في الشريعة بمعناها في اللغة من مطلق الإصابة.

و الرجع و العودة بمعني مصير الشيء إلى ما كان عليه أولاً نظير قوله تعالى: «كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ»(3).

ص: 96


1- التوبة، الآية 50.
2- النساء، الآية 79.
3- الأعراف، الآية 29.

أي: إنّ كل ما لنا من الحياة و النِّعَم هو من عند اللّه تعالى و ملك له، فهو اعتراف بالملكية له تعالی ذاتاً و تدبيراً و تسليماً و رضاءً بقضائه و حكمته.

و قول «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ» إقرار بالرجوع إليه تعالى و الجزاء على الأعمال. و فيه تسلية لكل مصاب و مظلوم و توعيد لكل جائر و ظالم.

و المعنى: و بشر الصابرين الذين يقولون: إنّا للّه و إنا إليه راجعون المعبرين بلسان مقالهم عن الإيمان بالقضاء و القدر و التسليم لأمره.

و قوله «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ» إقرار بالمبدأ و المعاد للّه تعالی بالمطابقة، و حيث إنّ مبدأ الكل و مرجعهم يستلزم وحدة الذات و الفعل و إلا لزم الخلف، فهذه الآية تدل على توحيد الذات و توحيد الفعل بالملازمة، و لعظمة هذه الجملة قال نبيّنا الأعظم صلى اللّه عليه و آله و سلم: «أعطيت هذه الأمة شيئاً لم يعطه الأنبياء قبلهم و هو إنا للّه و إنا إليه راجعون».

و الرجوع إلى اللّه تعالى إما غير اختياري أو اختياري، و الأول هو المعاد الذي دلّت عليه جميع الكتب السماوية خصوصاً القرآن الكريم الذي أكد في هذا الموضوع تأكيداً بليغاً. و هو من الموضوعات التي ينبغي التأكيد عليها لأن به يثبت المبدأ و وحدانيته و إذا ثبت المبدأ ثبت المعاد لا محالة.

و أما الثاني أي الرجوع الاختياري إليه عزَّ و جلَّ فهو أن يهيىء الإنسان نفسه للحضور لدى الحي القيوم العالم بالسرائر و الضمائر

ص: 97

حضور مجازاة لما فعل و عمل لا مطلق الحضور إذ الجميع حاضر لديه تعالی بهذا النحو من الحضور.

و بعبارة أخرى: إن هبوط الإنسان من الحل الأرفع الأعلى إلى الحضيض الأسفل لا يوجب أن ينسى الإنسان ما نزل منه و أن يتدنّس بما وقع فيه، و لا بد له من التفكّر بالعروج و الصعود و هذا هو الاسترجاع العملي و لا ينفع مجرد الاسترجاع القولي. و للاسترجاع العملي مراتب كثيرة و مقامات شريفة فصّلها العرفاء في كتبهم العرفانية.

قال تعالى: «أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ».

بيان لبعض مراتب البشارة بعد ذكر الوصف الذي يستحقون به البشارة.

و الصلاة هي التحية، و التزكية، و البركة و الثناء الجميل، و الجمع باعتبار الكثرة و التعدّد من نوع واحد أو أنواع متعددة حسب مراتب المصيبة و شدّتها.

و أما الرحمة فهي مطلق النعمة عاجلها أو آجلها. و إنما أتی بالجنس تعميماً لكل رحمة يكون المورد قابلاً لها في العاجل و هي حسن العزاء و التوفيق للرضا و التسليم بالقضاء، و في الآجل من المغفرة و الأجر الجزيل، فهو تعالی رحیم بهم أي رحمة مما يجدون أثرها في هذه الدنيا و الآخرة.

قال تعالى: «وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ».

ص: 98

الإهتداء إصابة طريق الحق في الدنيا، و الجنَّة في العقبي فهم المستعدون لنيل سعادة الدارين. و لا ريب في تحقق الاهتداء في الإسترجاع القلبي العملي.

و إتيان الجملة الإسمية المعرّفة الطرفين، و التأكيد بضمير المنفصل يؤكّد أن هذه الأوصاف لا تكون إلّا في مَن صبر و سلّم الأمر إلى اللّه تعالی و اعترفوا بأنهم للّه و أنهم إليه راجعون(1).

ص: 99


1- مواهب الرحمن، 164 - 195، ج (2).

بحث عرفاني

كلّ مَن أحب شيئاً و عشقه لا يحلف بمحبوبه و معشوقه إلا نادراً، بل لا يحلف به في الأمور المهملة، و إذا حلف يبرّ بحلفه و لا يحنث و لو أدى إلى بذل النفس و النفيس، و اللّه تعالی أحب الموجودات إلى خلقه، و هو تعالى يطلب من خلقه أن يكونوا عباداً له عزّ و جلّ، يأتمرون بأوامره و ينتهون عن نواهيه، مطيعين له يراقبونه في جميع أمورهم، و تنظيم نظام العبودية يقتضي أن لا يبادروا إلى الحلف به.

كما لا يحلف أحد بمحبوبه فإنّه تعالى المحبوب الحقيقي لكلِّ موجود، و لو حلفوا به فإنّ عبوديتهم له عز و جل تقتضي الوفاء به بكلِّ ما أمكنهم(1).

ص: 100


1- م-ن، ص342 - 351، ج (3).

الدعاء في القرآن

«وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ».

تحريض للدعاء بأسلوب بليغ، يشعر بالعطف و الحنان و المحبّة، و ترغيب الإنسان بالوصول إلى الفيض المطلق و غاية الكمال، و هي الرشاد، و في الآية الشريفة تلميح لبعض شروط الدعاء، التي إذا توفرت تجعل الدعاء مستجاباً، و في تعقيب شهر رمضان بهذا الخطاب فيه من الحثّ على الدعاء في هذا الشهر، و أنّ له اختصاصاً به و القبول فيه، ممّا يخفّف ثقل التكليف بالصوم فيه، و هذا ممّا دلّت عليه السنّة المقدّسة، ففي بعض الأخبار: «مَن فاته الدعاء في شهر رمضان، فلینتظر يوم عرفة، و مَن فاته الدعاء فيه، فلينتظر شهر رمضان المقبل».

قال تعالى: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي».

السؤال: طلب معرفة شيءٍ و استدعاؤها، أو طلب مال.

و في الأول يتعدّى إلى المفعول الثاني بنفسه تارة، و بحرف الجرّ أخرى، تقول: سألته كذا، و سألته عن كذا، قال تعالى: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ

ص: 101

الْأَنْفَالِ»(1)، و قال تعالى: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ»(2)، و قال تعالى: «سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ»(3).

و إذا كان لطلب المال يتعدّى إليه بنفسه أيضاً، و ب_(من) أخرى، قال تعالى: «وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ»(4).

و المعروف أنّ الطلب إذا كان من العالي إلى السافل، فهو أمر، و إذا كان بالعكس فهو سؤال، و إذا كان من المساوي فهو استفهام، و قد ذكرنا في الأصول أنّه لا كلية في ذلك.

و يختلف الدعاء عن السؤال في أنّ الأخير بمنزلة الغاية للأوّل.

و العبد، و العبودية، و العبادة: بمعنى التذلّل و الخضوع، و تقدّم في سورة الحمد ما يتعلّق به.

و للعبد في القرآن دلالات:

الأولى: في مقابل الحرّ، و هو الذي يباع و يشتري كسائر الأمتعة، و له أحكام خاصة في الإسلام، مذكورة في الكتب الفقهية، قال تعالى: «الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى»(5).

الثانية: المخلصون من عباده تعالى، الذين لهم مع اللّه جلّ جلاله

ص: 102


1- الأنفال، الآية 1.
2- البقرة، الآية 189.
3- المعارج، الآية 1.
4- الأحزاب، الآية 53.
5- البقرة، الآية 178.

حالات، و له عزّ و جلّ معهم عنایات، و لهم في القرآن قصص و حكايات، و هم الذين استثناهم الشيطان عن غوايته، فقال تعالى حكاية عنه: «فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ»(1) لأنهم اتّخذوا اللّه تعالی بذاته الأقدس معبوداً لأنفسهم، بتمام عنی العبودية الحقيقية، فاتّخذهم اللّه تعالی عباداً لنفسه، و مدحهم بأبلغ المدائح، و لعلّ أرقَّها قوله تعالى: «وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا»(2).

الرابعة: عبدٌ للّه تعالى، ولكنه يطيع الشيطان و يتّبعه، قال تعالى حكاية عنه: «لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا»(3)، سواء كان مسبوقاً بالكفر ثم آمن كذلك، أم لم يكن، و الجميع عبيده عزّ و جلّ، لكثرة رأفته و عنايته بخلقه، و يدلّ على ذلك قوله تعالى: «نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»(4)، و قوله تعالى: «وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ»(5)، مع أنهم كانوا من سحرة فرعون، فإنّ المنساق من هذه الآيات أن مجرد الإيمان باللّه جلّت عظمته في مقابل الكفر به، يكفي في شمولها له، و هو مقتضى الرحمانية و الرحيمية المطلقة له عزّ و جلّ.

و في الكلام من العناية و اللطف ما لا يخفى.

ص: 103


1- ص، الآية 82 - 83.
2- الفرقان، الآية 63.
3- النساء، الآية 118.
4- الحجر، الآية 49.
5- الشعراء، الآية 52.

قال تعالى: «فَإِنِّي قَرِيبٌ».

القرب معلوم.

و القريب من أسماء اللّه الحسنى - و جميع أسمائه المقدّسة حسنی، و إنّما الوصيف إضافي، لا أن يكون حقيقياً - و هو إما أن يلحظ بالنسبة إلى الذات المقدّسة، قال تعالى: «إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ»(1)، و قال تعالى: «إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ»(2)، و يبيِّن هذا المعنى قوله تعالى: «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ»(3)، و قد فصّل ذلك في الفلسفة تفصيلاً دقيقاً، لعلّنا نشير إليه في ضمن المباحث الآتية.

أو يلحظ بالنسبة إلى رحمته الواسعة، قال تعالى: «إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ»(4).

و يطلق القرب بالنسبة إلى المكان، كقوله تعالى: «فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ»(5)، و هو كثير في القرآن.

و أخرى: بالنسبة إلى الزمان، قال تعالى: «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ»(6).

و ثالثة: بالنسبة إلى الفعل، كالتصرّف و غيره، قال تعالى: «وَلَا

ص: 104


1- هود، الآية 61.
2- سبأ، الآية 50.
3- الحديد، الآية 4.
4- الأعراف، الآية 56.
5- التوبة، الآية 28.
6- الأنبياء، الآية 1.

تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ»(1)، و قال عزّ و جلّ: «وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا»(2)، و قال تعالى: «وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ»(3).

و رابعة: بالنسبة إلى النسب، كقوله تعالى: «أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى»(4)، و قال تعالى: «وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى»(5).

كما يطلق و يراد به القرب المعنوي من طرف الخلق، قال تعالى:

«وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ»(6)، و قال تعالى:

«وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ»(7)، و قال تعالى: «عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ»(8).

و القرب المعنوي: إما من اللّه تعالى بالنسبة إلى خلقه، و يصحّ أن يعبَّر عنه باللطف، و العناية، و الرعاية، و القدرة، و نحو ذلك.

و إما من المخلوق بالنسبة إليه عزّ و جلّ، و هو حالة انقطاع إلى اللّه تبارك و تعالی، بحيث لا يعلم حقيقتها الا المتقرّب إليه جلّت عظمته و العبد المتقرَّب منه، و لا يحيط بها إلّا اللّه عزّ و جلّ، و لكلّ ما ذكرناه مراتب كثيرة.

و المراد بقربه تعالى - في المقام -: القرب باللطف و الرحمة

ص: 105


1- الإسراء، الآية 34.
2- الإسراء، الآية 32.
3- الأنعام، الآية 151.
4- النور، الآية 22.
5- النساء، الآية 36.
6- النساء، الآية 172.
7- آل عمران، الآية 45.
8- المطففين، الآية 28.

و الإجابة، الذي لا حدّ له و لا نهاية، لا أن يكون قرباً زمانياً أو مکانياً، فإنَّه تعالى يجلّ عنهما، و هو محيط بهما بالإحاطة القيّومية الحقيقية.

و ربما يكون القرب فيه من قبيل قرب العلّة الحقيقية من المعلول المحتاج إليها، حدوثاً و بقاءً، و قد ورد في بعض الدعوات المأثورة عن الأئمّة الطاهرين عليهم السلام: «يا جاري اللصيق، یا رکني الوثيق»، كما ورد في بعض مخاطبات اللّه تعالى مع موسی بن عمران: «یا موسى أنا بدّك اللازم».

و كيف كان، و فيه الكناية اللطيفة، فإنّ فيه تمثيلاً لحاله في سهولة إجابة دعائه، و سرعة إنجاح حاجة مَن سأله، بحال مَن قرب مكانه.

قال تعالى: «أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ».

مادة (ج و ب) تأتي بمعنى القطع، و لها استعمالات كثيرة في القرآن بهیئات مختلفة، و الجواب يطلق غالباً في مقابل السؤال.

و السؤال إن كان لطلب المقال، فجوابه المقال، و إن كان لطلب المنال، فيكون جوابه المنال.

و من الأول قوله تعالى: «أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ»(1).

و من الثاني قوله تعالى: «قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا»(2)، أي أعطيتُ سؤلَكما.

ص: 106


1- الأحقاف، الآية 31.
2- يونس، الآية 89.

و الاستجابة: التحرّي و التهيؤ للجواب، يعبَّر بهما عن الإجابة، لعدم الانفكاك بينهما غالباً، لا سيما بالنسبة إلى الغنيّ المطلق و الرحيم بعباده في جميع العوالم.

فهذه المفاهيم الثلاثة: أي: الدعاء، و الإجابة، و الاستجابة، من المفاهيم الإضافية بالنسبة إليه عزّ و جلّ، قال تعالى: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ»(1)، و قال تعالى: «الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ»(2)، و قال تعالى: «لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى»(3).

فالآية الشريفة في المقام تشتمل على علل الحكم، أي: أنّ الدّاعين لكونهم عباد اللّه، فإن اللّه قريب منهم، و قربه إليهم موجب الإجابة دعواتهم، و ذلك أنّ عباده ملك له بالملكية الحقيقية، و هذه هي المقتضية لكونه قريباً منهم على الإطلاق، و الا فإنّ ما سواه تعالی فقير بحدّ ذاته، و إنّما يملك بالملكية الاعتبارية بتمليك الملك الحقيقي للأشياء له، و هو اللّه سبحانه و تعالى، فلو لم يشأ الملكية لم يملك أحد، كما يظهر من قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ»(4).

ثم ذكر سبحانه أنّ استجابة الدعاء منوطة بأمرين:

أحدهما: أن يكون الداعي داعياً بحسب الحقيقة، كما يدلّ عليه

ص: 107


1- غافر، الآية 60.
2- آل عمران، الآية 172.
3- الرعد، الآية 18.
4- فاطر، الآية 15.

قوله تعالى: «إِذَا دَعَانِ»، فلا بد للداعي الذي يدعو لحاجته أن يكون عالماً بحقيقة الدعاء، صادقاً عليه التوجّه إلى اللّه جلّ شأنه، و متوجّهاً إليه صادراً عن معرفة بحكمته و سعة رحمته، دون ما يدور في اللسان مع الغفلة عنه تعالى، و ترشد إلى ذلك الآيات التي تدلّ على استجابة السؤال إذا كان عن فطرة، مثل قوله تعالى: «يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ»(1)، و ذلك لأنّ الاستحقاق كان بحسب الذات، فالسؤال كان عن الفطرة، و من ذلك يظهر السرّ في إطلاق السؤال دون الدعاء على السؤال الصادر عن الفطرة، و إن لم يكن للسان فيه عمل، و هذا بخلاف الدعاء.

و الأمر الثاني ما ذكره تعالى بعد ذلك:

قال تعالى: «فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي».

أي أنّهم إذا أرادوا الإجابة و الاستجابة، و إذا كان اللّه تعالى قريباً منهم، لا يحول بينه و بين دعائهم شيء، فلا بد لهم من الاستجابة فيما دعاهم إليه، و العمل بما أمرهم من الإيمان و العبادات، التي فيها صلاحهم و سعادتهم و رشدهم، و لا بد لهم من الإيمان بما يتّصف به من الصفات الحسنی، و لا بد لهم من المعرفة بأنه قريب يجيب دعوة الداع.

قال تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ».

الرشاد: ضد الغي. أي أنّ الأعمال و الدعاء إذا صدرت عن روح

ص: 108


1- الرحمن، الآية 29.

الإيمان، يكون صاحبها راشداً مهتدياً، و قد تقدّم الوجه في إتيان كلمة (لعلّ) في أمثال المقام.

ص: 109

بحوث المقام

بحث أدبي

الآية الشريفة تشتمل على مضمون رفيع، بأحسن بیان، و أرق أسلوب، و أبلغ خطاب يلقي إلى السامع، و هو يُشعر بالعطف و الحنان، و استقرار النفس بأنّ خالقها قريب منها، يسمع دعاءَ مَن يدعوه بكلّ ما يدعوه، و هي تتضمّن من الأنحاء الأدبية ما يلي:

الالتفات عن خطاب المؤمنين بأحكام الصيام إلى خطاب الرسول صلی اللّه علیه وآله و سلم، و فيه من التذكير لهم بالدعاء و الطاعة، و التنويه بشرف الرسول صلی اللّه علیه وآله و سلم و عظمته.

إلقاء صيغة التكلّم للدلالة على كمال العناية بالدعاء و المدعوِّين.

دلالة قوله تعالى: «عِبَادِي» على كمال الرأفة و الاعتناء بالخلق، و الاهتمام بالأمر، و لو قال: (خلقي أو الإنسان) و ما أشبههما، لما أفاد ذلك.

إتيان الصيغة المؤكّدة في قوله تعالى: «فَإِنِّي قَرِيبٌ» دون الفعل، للدلالة على ثبوتها و دوامها، كما أنّه حذف الواسطة و لم يقل «فقل إني قریب»، ليدلّ على أنّ الإجابة منحصرة فيه تعالی.

ص: 110

إتيان الفعل في قوله تعالى: «أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ»، للدلالة على استمرار الإجابة و تجدّدها.

و يأتي في البحث الدلالي وجه إتيان ضمير المتكِّلم مفرداً.

بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة أمور:

الأول: إتيان ضمير المتكلّم المفرد في قوله تعالى: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي»، للدلالة على مزيد العطف و العناية، و من سنّته جلّ شأنه في القرآن الكريم أنّه إذا كان في مقام إظهار الاقتدار و الكبرياء و الهيمنة، يأتي بضمير الجمع غالباً، مثل قوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ»(1)، و قوله جلّ شأنه: «إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا»(2)، و قوله عزّ و جلّ: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ»(3)، و قوله تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ»(4) و قوله تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ»(5)، و غير ذلك ممّا هو كثير.

و إذا كان في مقام الامتنان و الرأفة و التحنّن و إظهار المعيّة، يأتي بضمير المفرد، قال تعالى: «قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى»(6)،

ص: 111


1- ق، الآية 43.
2- يس، الآية 12.
3- الأحزاب، الآية 72.
4- الدخان، الآية 3.
5- القدر، الآية 1.
6- طه، الآية 46.

و قال تعالى: «إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا»(1)، و في المقام قال تعالى: «فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ»، فهو مشعر بالتوجه و الأُلفة، و تهييج الشوق - كأنّه ممّا يشبه اختلاط المتكلّم مع المخاطبين - ما لا يدركه الإعلام، و يقصر دون بيانه الأعلام.

الثاني: الوجه في إلقاء الخطاب إلى الرسول صلی اللّه علیه وآله و سلم بقوله تعالی: «وَإِذَا سَأَلَكَ»، لأنه صلی اللّه علیه وآله و سلم قائد الأمة و رأسها و رئيسها، بل إنّ ذلك ثبات له بالنسبة إلى جميع الخليقة، للإشارة إلى أنّ الدعاء لا بد من وروده من بابه، و هو خاتم الأنبياء، فإنّه الواسطة في الفيوضات الإلهية، و خاتمة جميع المعارف الربوبية، فهو الخاتم لما سبق، و الفاتح لما استقبل.

و فيه نحو تعليم للناس في أن يسألوا أمهات الأُمور الدينية من النبي صلی اللّه علیه وآله و سلم، أو مَن يتبع طريقه علماً و عملاً، مع أنّ أسرار الحبيب لا يعرفها إلا الحبيب.

الثالث: أنّ شأن العبد بالنسبة إليه عزّ و جلّ هو الدعاء، و قد وعد تعالى الإجابة إن كان الدعاء جامعاً للشرائط، «إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ»(2).

و أما السؤال عن كنهه و ذاته سبحانه و تعالى، فهو مرغوب عنه، إذ لا يدرك الممكن كثيره، و لا ينفع قليله، بل ربما يضر، و لذا ورد النهي

ص: 112


1- طه، الآية 14.
2- آل عمران، الآية 9.

في السنّة عن التعمّق في ذاته تعالى، و يستفاد ذلك من قوله تعالی: «فَإِنِّي قَرِيبٌ»، و لا معنى للسؤال عمّا هو قریب حاضر.

و من العجائب أن أكون مسائلاً *** عن حاضرٍ لا زلت أصحبه معي

الرابع: تکریم الداعي السائل بالإضافة التشريفية المعبودية في قوله تعالى: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي»، و فيه من الأدب ما لا يخفى، و تعليم للعلماء باحترام السائل عن الحق.

الخامس: تضمين الأمر بالدعاء معنى الإجابة في قوله تعالی: «فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي»، فإنّه بشارة باستجابة الدعاء، ثم التأكيد بقوله تعالى: «وَلْيُؤْمِنُوا بِي»، فإنّه سواء كان خاصاً بخصوص هذه الآية، أم عاماً لجميع التشريعات، فإنّه يدل على تحقّق مفاد الآية، و اتباع ذلك بقوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ»، و هو تأكيد آخر، و لبيان أن الدعاء سبب الرشد، الذي هو إصابة الحق و الخير، و إليه يشير قول نبينا الأعظم صلی اللّه علیه وآله و سلم: «إنّ أعجز الناس مَن عجز عن الدعاء، و أبخل الناس مَن بخل عن السلام».

السادس: أن قوله تعالى: «إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي»، يدلّ على شروط استجابة الدعاء، أحدها سيق لبيان الموضوع، و هو قوله تعالی: «إِذَا دَعَانِ»، فإنّه معلوم ممّا قبله، ولكنّه ذكر لأجل التنبيه على أنّه ليس كلّ مَن يدعو اللّه لحاجة هو داعياً للّه بحقيقة الدعاء، لفقد الانقطاع و عدم التوجّه إليه تعالى، فلا يكون هناك مواطاة بين القلب و اللسان، و لا يكون دعاء، بل التبس الأمر على الداعي، فيسأل ما يجهله، أو ما

ص: 113

لا يريده لو انكشف الأمر له، أو يكون سؤال لكن لا من اللّه تعالی وحده، و لذا ورد أن اللّه لا يستجيب دعاءً من قلب لاه، متعلّق بالأسباب المادية، أو الأمور الوهمية، فلم يكن دعاؤه خالصاً لوجه للّه تعالى، فلم يسأله بالحقيقة.

و هذا هو المستفاد من مجموع الآيات الواردة في الدعاء و الأحاديث الشارحة لها.

السابع: أنّ إفراد الضمير في (عنِّي) و(إنِّي)، و (أُجِيبُ)، فيه إشارة إلى أنّ إجابة الدعاء منحصرة به تعالى، و لا دخل لغيره فيها، لأنّه تصرّف من عالَم الملكوت الأعلى في عالَم الملك الأسفل، و لا يليق بذلك غيره عزّ و جلّ.

نعم، الاستشفاع و التوسل بعباد اللّه الصالحين، الذين جعلهم اللّه تعالى واسطة الفيض لديه شيء آخر، لا ربط له بإجابة الدعاء، كما لا يخفی.

مع أنّ الحنان و الرأفة و جذب الداعي إلى مقام القرب يقتضي توحيد الضمير، لئلا يعرض على قلب الداعي هيبة العظمة، فتشغله عمّا يحتاجه من قليل أو كثير.

كما أنّ في تكرار ضمير الأفراد في (عنِّي)، و(إنِّي)، إشارة إلى أنّ المسؤول عنه نفس القريب المجيب و عينه، و لا فرق إلا بالإضافة الاعتبارية. فإنّه إذا أضيف إلى السائل يكون مسؤولاً عنه، و إذا أُضيف إلى نفسه الأقدس يكون قريباً مجيباً، و إن كانت إضافته من صفات فعله

ص: 114

لا من صفات ذاته، و في المقام سرّ آخر، لعلّه يظهر في الآيات المناسبة.

بحث روائي

في الكافي: عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «أفضل العبادة

الدعاء».

و في عدّة الداعي: عن نبيّنا الأعظم صلی اللّه علیه وآله و سلم: «أفضل العبادة الدعاء، و إذا أذن اللّه لعبد في الدعاء فتح له أبواب الرحمة، إنّه لن يهلك مع الدعاء أحد».

أقول: الروايات في فضل الدعاء و آدابه و كيفيته كثيرة متواترة بين المسلمين، يأتي التعرض لبعضها في البحوث الآتية.

في تفسير العياشي: عن ابن أبي يعفور، عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: «فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي»، قال عليه السلام: «یعلمون أنِّي أقدر على أن أعطيهم ما يسألون».

أقول: يريد عليه السلام أنّه ليس المراد بهذا الإيمان الإيمان بأصل التوحيد في مقابل الشرك، بل الإيمان باستجابة الدعاء.

و في المجمع: عن أبي عبد اللّه عليه السلام في قوله تعالى: «وَلْيُؤْمِنُوا بِي»، أي: «و ليتحققوا أني قادر على إعطائهم ما سألوه»، «لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ»، أي: «لعلهم يصيبون الحق، أي يهتدون إليه».

أقول: يظهر وجهه ممّا سبق.

ص: 115

و عن ابن عباس: «قالت اليهود: كيف يسمع ربّنا دعاءنا، و أنت تزعم أنّ بيننا و بين السماء خمسمائة عام، و غلظ كلّ سماء ذلك؟ فنزلت الآية: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ»».

و روي أنّ قوماً قالوا للنبي صلى اللّه عليه و آله و سلم: «أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد ربنا فنناديه؟ فنزلة الآية المباركة».

و روي أنّ سبب نزولها: «أن النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم سمع المسلمين يدعون اللّه بصوت رفيع في غزوة خيبر، فقال لهم النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم، أيها الناس أربعوا على أنفسكم، فإنّكم لا تدعون أصمّاً و لا غائباً، إنّكم تدعون سميعاً قريباً و هو معكم».

أقول: يمكن أن تكون جميع هذه الأخبار معتبرة كلّ بحسب طائفة و قوم، فتختلف باختلاف الجهات.

أما الأول: فبحسب مزاعم اليهود، حيث زعموا أن سمعَ اللّه يكون كسمعنا، يحجب بالحجاب، ولكنّه باطل، لأنّ المراد بسمعه تبارك و تعالى: العلم بالمسموعات، و الإحاطة بها، كما في جملة من الروايات، و لذا لا يشغله سمع عن سمع، لأنّ علمه الإحاطي يشتمل على جميع ما سواه.

أما الثاني: فيكشف عن جهلهم بالحقائق.

و أما الأخير: فهو ناشٍ عن سوء أدبهم، فإنّ الآية المباركة ترشد إلى نبذ بعض العادات السيئة التي كانت سائدة عندهم، فيكون مثل قوله

ص: 116

تعالى: «لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا»(1)، و قال تعالى:«إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ»(2).

بحث علمي

الدعاء من أقوى الأسباب في نجح المطلوب، و أعظمها في نيل المقصود، و من أشدّ روابط القرب إلى المعبود، و لا ينفكّ عنه الإنسان في جميع مراحله و أطواره، و جميع نشآته، سواء بلسان الاستعداد و الفطرة، أم بلسان المقال، و لا يخلو كتاب إلهيّ من الحثّ عليه، و هو العبادة التي أُمرنا بإتيانها،و الراغب عنه عدّ من المستكبرين عن رحمة الرحمن، قال تعالى: «وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ»(3)، و عن السجّاد عليّ بن الحسين علیهما السلام في صحيفته الملَكوتية، بعد ذكر الآية المباركة: «فسمّيتَ دعاءَك عبادةً، و ترکه استکباراً، و توعّدت على تركه دخول جهنم داخرين، فذكروك بمنِّك و شكروك بفضلك، و دعوك بأمرك، و تصدّقوا لك طلباً لمزيدك، و فيها كانت نجاتهم من غضبك و فوزهم برضاك»، و البحث في الدعاء من جهات كثيرة، نذكر في المقام الأهم منها، و يأتي المهم في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالی.

ص: 117


1- النور، الآية 63.
2- الحجرات، الآية 4.
3- غافر، الآية 60.

فضل الدعاء

للدعاء فضل كبير، و قد أُمرنا به في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، و قد عبِّر عنه بالعبادة في الآية الشريفة المتقدّمة، و يكفي في فضلها قوله تعالى: «قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ»(1)، فهو سبب اعتناء اللّه تعالی بخلقه، و قوله تعالى: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي»(2)، فإنّه كفي فضلاً في أنه تعالى بنفسه الأقدس، يجيب دعوة الداع من دون واسطة في البين، و قوله تعالى: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ»(3)، حيث رتّب الاستجابة على الدعاء، و هذا من عظيم الفضل.

و أما السنّة: فقد وردت روايات كثيرة متواترة من الفريقين في فضل الدعاء، و استحبابه مطلقاً:

فعن النبي صلی اللّه علیه و آله و سلم، فيما رواه الفريقان: «الدعاء سلاح المؤمن، و عمود الدين، و نور السماوات و الأرض».

ص: 118


1- الفرقان، الآية 77.
2- البقرة، الآية 186.
3- غافر، الآية 60.

و عن الصادق عليه السلام: «الدعاء يردّ القضاء، بعد ما أُبرم إبراماً».

و عن أبي الحسن موسی بن جعفر عليه السلام: «عليكم بالدعاء، فإنّ الدعاء و الطلب إلى اللّه عزّ و جلّ یرد البلاء و قد قدّر و قضي، فلم يبق إلا إمضاؤه، فإذا دعي اللّه و سئل صَرْفَ البلاء، صَرَفه».

و عن الصادق عليه السلام: «إنّ الدعاء يردّ القضاء المبرم و قد أُبرم إبراماً، فأكثر من الدعاء، فإنه مفتاح كلّ رحمة، و نجاح كلّ حاجة، و لا ينال ما عند اللّه إلا بالدعاء، فإنّه ليس من باب يكثر قرعه إلا أوشك أن يفتح لصاحبه».

و في الكافي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عليكم بالدعاء، فإنّكم لا تتقرّبون بمثله، و لا تتركوا صغيرة لصغرها أن تدعوا بها، إنّ صاحب الصغار هو صاحب الكبار».

و عن الصادق عليه السلام: «إنّ اللّه تبارك و تعالى يعلم ما يريد العبد إذا

دعاه، ولكنه يحبّ أن تبث إليه الحوائج، فإذا دعوت فسمِّ حاجتك».

و في الكافي: عن ميسر عن الصادق عليه السلام: «یا میسر، ادع و لا تقل: إنّ الأمر قد فرغ منه، إنّ عند اللّه عزّ و جلّ منزلة لا تنال إلا بمسألة».

و عن الصادق عليه السلام أيضاً في رواية ابن القداح: «الدعاء كهدف الإجابة، كما أنّ السحاب کهف المطر».

و عن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «الدعاء هو العبادة، التي قال

ص: 119

اللّه: «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ» ادع اللّه عزّ و جلّ، و لا تقل إنّ الأمر قد فُرغ منه.

و عن أمير المؤمنين عليه السلام: «الدعاء تِرس المؤمن، و متى تكثر قَرع الباب يفتح لك».

و عن أبي عبد اللّه عليه السلام في رسالة طويلة إلى أصحابه: «أكثروا من أن تدعوا اللّه، فإنّ اللّه يحبّ من عباده المؤمنين أن يدعوه، و قد وعد عباده المؤمنين الاستجابة، و إليه مصير دعاء المؤمنين يوم القيامة، لهم عملاً يزيدهم في الجنة».

و عن الباقر عليه السلام: «و لا تمل من الدعاء، فإنّه عند اللّه بمكان».

و عن علي عليه السلام: «الدعاء مخ العبادة».

و عن النبي صلی اللّه علیه و آله و سلم: «أفضل العبادة الدعاء، وإذا أذن اللّه لعبد في الدعاء، فتح له أبواب الرحمة، إنّه لن يهلك مع الدعاء أحد».

و عن الرضا عليه السلام: عليكم بسلاح الأنبياء، فقيل: ما سلاح الأنبياء؟ قال عليه السلام: الدعاء».

و عن الصادق عليه السلام: «الدعاء أنفذ من السنان».

و عن العبد الصالح عليه السلام: «الدعاء جُنّة منجية، تردّ البلاء و قد أُبرم إبراماً».

و عن علي عليه السلام: «الدعاء مفاتيح النجاح و مقاليد الفلاح، و خير

ص: 120

الدعاء ما صدر عن صدر نقي و قلب تقي، و في المناجاة سبب النجاة، و بالإخلاص يكون الخلاص، فإذا اشتدّ الفزع فإلى اللّه المفزع».

و قال نبينا الأعظم صلی اللّه علیه و آله و سلم: «ألا أدلُكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم، و يدرّ أرزاقكم؟ قالوا: بلى. قال: تدعون ربکم باللیل و النهار، فإنّ سلاح المؤمن الدعاء».

و عنه صلی اللّه علیه و آله و سلم: «ادفعوا أبواب البلاء بالدعاء»، إلى غير ذلك من الأخبار المذكورة في كتب الفريقين.

ص: 121

حقيقة الدعاء

الدعاء: هو الوسيلة بين العبد و خالقه، و اتّصال من عالَم المُلْك بعالَم المَلكوت، الذي هو من أهم الأسباب الطبيعية الاختيارية الواقعية، لنجح المطلوب و النيل إلى المقصود، فإنّه كما تترتّب المسبّبات على الأسباب المقتضية لها، فإنّ قانون السببيّة الذي جعله اللّه تعالى وسيلة لتحقّق المسبّبات الوجودية من دون أن يكون في البين فيض من الأسباب مستقلّة من دون اللّه تعالى، كذلك فإنّ للإنسان شعوراً باطنياً و حسّاً وجدانياً، أنّ له ملجأ يأوي إليه في حوائجه اليقضيها، و أنّ له سبباً معطياً، لا ينضب معينه، و هو مسبِّب الأسباب، و هو ليس كالأسباب الظاهرية التي يمكن أن يتخلّف عنها أثرها. و هذا الشعور الباطني يكن أن يشتدّ عند فرد، بحيث لا يرى للمسبّبات إلا سبباً واحداً، و ينقطع عن أي سبب دونه، فيعتصم به، و لا يتخلّى عنه، و يتوكّل عليه في كلِّ حوائجه، فتنكشف لديه الأشياء على حقائقها، و يرى زيف الأسباب.

نعم، قد يعرض على هذا الشعور الباطني و الحسّي الوجداني: بعض الظلمات و الأوهام، فيوجب طمس هذا النور الفطري أو خفائه،

ص: 122

تبعاً لشدّة ما يتخيّله و ضعفه، فيتخيّل خلاف ما هو المركوز في فطرته، و هذا لا يختصّ بهذا النور الفطري، بل يشمل جميع ما يتعلّق بالفطرة و الشعور الباطني، و لذا قد يرجع و يفيء إلى فطرته عند تزاحم المشاكل و عدم نفع أي سبب في رفعها، كما ورد في قضية مَن ركب البحر، فانكسرت به السفينة و أيقن بالهلاك، فعند ذلك يدعو مَن ينجيه، قال تعالى: «هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ»(1).

و لا يُستفاد من ذلك أنه حينئذٍ لا يمكن تخلّف المدعو عن الدعاء، إذا كان الأمر كذلك، فإنّ أمر الدعاء و المسبّبات الظاهرية في ذلك سواء، فإنّه كثيراً ما كانت هناك عوامل تثبّط الأسباب و تمنعها عن الأثر، فكذلك في الدعاء، فإنّ هناك موانع كثيرة عن تحقّق المدعو به، قد ندركها، و قد لا ندركها، بل الأمر في الدعاء أشدّ، لفرض أنه ارتباط مع عالم الغيب غير المتناهي الخارج عن الحس، فلا بد أن تكون الأسباب الموصلة إليه أدقّ و أرقّ، و هذا محسوس في عالَم الماديات أيضاً، فإنّ كلّما كان الشيء ألطف و أدقّ، كان السبب الموصل إليه كذلك.

فحقيقة الدعاء هي الشعور الباطني في الإنسان بالصلة و الارتباط

ص: 123


1- يونس، الآية 22.

بعالَم لا مبدأ له و لا نهاية، و لا حدّ و لا غاية لسعة رحمته و قدرته و إحاطته بجميع ما سواه، فوق ما نتعقّل من معنى السعة و الإحاطة و القدرة، يقضي له حوائجه، بحيث يجعل المدعو تحت قدرة الدّاعي جميع وسائل نجح طلباته، فيقع التجاذب بين الموجودات الخارجية و بين قلب هذا الداعي، فيصير موجداً و فاعلاً لما يدعو به، فيتّحد الداعي و الدعوة و المدعو به في بعض المراتب، و لا تحصل هذه المرتبة إلا لمَن انسلخ عن ذاته بالكلية، و فنی في مرضاة الواحدية الأحدية، فلا يرى في الوجود سوى المدعو، سواء كان ذلك ملكة أم حالاً، فيتّحد العاقل و المعقول، كما أثبته بعض أكابر الفلاسفة، و لعلّه المراد من الاسم الذي هو غيب الغيوب و السرّ المحجوب، فروح الدعاء هي ارتباط الداعي مع اللّه عزّ و جلّ بالشرائط المقرّرة المذكورة في محالها.

ما أُورد على الدعاء:

بينّا أن حقيقة الدعاء هي ارتباط خاص بين الإنسان و عالَم لا مبدأ له و لا حدّ، ولكن أُورد على الدعاء إيرادات كثيرة، أهمّها هي:

الأوّل: ما عن الماديين الذين ينكرون الغيب، أي: ما وراء المادة من المبدىء الحي الأزلي، و إنكار ربط الحوادث به، و ارتباط العالَم بالمادة فقد على نحو العلّية التامة، و لذلك أنكروا الدعاء و التوسّل إليه في نيل المطلوب و نجحه.

و یردّه: ما أثبته جميع الفلاسفة من وجود مبدىء غيبي، و أنّ الحوادث جميعها مستندة إليه، و أنّ الشرائع الإلهية قد أثبتت ذلك

ص: 124

بألسنة مختلفة، و تفصيل البحث موکول إلى الفلسفة الإلهية و علم الكلام. و أنّ المادة و الجهد من قبيل المقتضيات، لا العلل التامة، و لذلك لا بد من التوسّل إليه، و الإفاضة منه بعد السّعي و الجد، لتمهيد السبيل للنيل إلى المطلوب.

الثاني: أنّ المبدىء موجود، و أنّه حيّ أزليّ، ولكنّ الحوادث الجزئية الخاصة غير مستندة إليه، بل أصل حدوث العالَم و خلقه في الجملة ينتهي إليه بخلافها، و قد تشعّب عن هذا الرأي مذاهب:

منها: ما عن اليهود كما حكاه اللّه تعالی عنها: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ»(1).

و منها: ما نسب إلى بعض، من أنّ مناط الحاجة الحدوث في الجملة فقط دون البقاء، حتّى قال: «لو جاز على الواجب العدم، لما ضرّ عدمه وجود العالَم».

و هناك مذاهب أخرى قد تعرّضوا لها كلّ في محله، و لذلك أنكروا الدعاء، و قالوا إنّه لا يسمن و لا يغني من جوع.

و یردّه: ما أثبتوه بالأدلة العقلية من أنّ مناط الحاجة الإمكان، و هو حليف ما سوى اللّه تعالى، حدوثاً و بقاءً، في جميع الأزمنة و الأمكنة، و إذا كان كذلك، فلا بد من التوسّل إليه، و الإفاضة منه، لفرض الافتقار إليه في ما سواه تعالی، بلا فرق في تلك المذاهب.

ص: 125


1- المائدة، الآية 64.

الثالث: أنّ الحوادث معلومة عنده جلت عظمته، و لا تغيّر في العلم، فلا تغيّر في الحوادث أيضاً، فلا مجال للدعاء حينئذٍ في الحوادث بعد فرض تعلّق علمه تعالی بها.

و يردّ. . أولاً: أنّ هذا مبنيّ على كون علمه تعالی علّة تامّة منحصرة لمعلوماته عزّ و جلّ، و هو باطل عقلاً و نقلاً، كما ثبت في الفلسفة الإلهية، و سنتعرّض في الآية المناسبة له إن شاء اللّه تعالی.

و ثانياً: العلم تعلّق بها متغيِّراً، فالتغيّر في المعلوم بالعرض، لا في العلم و المعلوم بالذات، إذن لا إشكال في صحّة التوسّل إليه تعالى، و الدعاء للنيل إلى ما هو الصالح.

الرابع: أن الحوادث التي ترد على عالمنا مقدّرة و مقضية أزلاً، و لا تغيّر و لا تبدّل في القضاء و القدر، فلا معنى للدعاء و التوسّل بعد نزول الحادثة، و قد عبِّر عن هذا الإيراد بتعابير مختلفة أخرى.

و يردّه: أن القضاء و القدر من مراتب فعله جلّ شأنه، و ليسا في مرتبة الذات، و فعله تعالى قابل للتغيّر مطلقاً، و قد ورد في بعض الروايات أنّ الدعاء يردّ القضاء و قد أُبرم إبراماً، فيصحّ التوسّل إليه الأجل زوال الحادثة، أو تغيير الحال.

الخامس: أنّ الدعاء من قبيل تحقّق المعلول بلا علّة، و هو محال كما ثبت في محله.

و يرده: أنّ الدعاء لا ينافي قانون العلّية و المعلوليّة، أو سائر

ص: 126

نواميس الطبيعة، بل إنّه يكون سبباً لتحقق المسبب المستند إلى سببه الخاص.

السادس: أن الآيات الشريفة الدالّة على الحثّ على العمل، و نیل الأجر به، تنافي سبل الدعاء، مثل قوله تعالى: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ»(1)، و قوله تعالى: «إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا»(2)، و قوله تعالى: «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى»(3)، و غيرها من الآيات المباركة، فإنّ ظاهرها حصر التأثير في العمل، و أنّ الأجر منحصر فيه.

و يردّه. . أولاً: أنه لا تنافي بين تلك الآيات المباركة و بين ما أمر بالدعاء، مثل قوله تعالى: «ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً»(4)، و قوله تعالى: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ»(5)، لأنّ الدعاء بلا عمل لا أثر له، و إنّه ممّا لا يستجاب، كما يأتي في الروايات.

و ثانياً: أنّ الدعاء بنفسه عمل خاص و توجّه إليه تعالى، فلا تنافي بین ما دلّ على الترغيب بالعمل، و بين أن يأمر بالدعاء.

و هناك دعاوى أُخرى نسبت إلى مَن لم يعتقد بالدعاء، أدلّتها موهونة جداً، أعرضنا عن ذكرها.

ص: 127


1- التوبة، الآية 105.
2- الكهف، الآية 30.
3- النجم، الآيتان 39 - 40.
4- الأعراف، الآية 55.
5- غافر، الآية 60.

الدعاء ارتباط روحي

ذكرنا أنّ حقيقة الدعاء هي الاتصال بمبدىء لا نهاية لعظمته و قدرته و مالكيته و قهّاریته، و التوسّل إليه بالترابط الروحي بين الداعي و المدعو، يلتمس منه الداعي نجح مطلوبه، و قضاء حاجته، فيلهم اللّه تعالى الداعي ما يرشده إلى مطلوبه، فيكون الدعاء ضرباً من التأثير الروحي، و ذلك يتوقف على معرفة اللّه جلّ شأنه رب الأرباب و له السلطان التام، و أنّ جميع الأسباب راجعة إليه عزّ و جلّ، و الإذعان بأنّها الواسطة في التأثير فقط، و أنّ المؤثّر هو اللّه وحده، و إلى ذلك يشير ما ورد عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم: «لو عرفتم اللّه حقّ معرفته، لزالت لدعائكم الجبال».

و الوجه في ذلك واضح، فإنّ الجهل بمقام الربوبية العظمی، و الاعتقاد بقانون السببيّة التامة في الأسباب و المسبّبات الخارجية، يوجب البعد عن ساحة الرحمن، و الإذعان بحقيقة التأثير للأسباب العادية، و ينتهي إلى الغفلة عنه، و يقابل ذلك التوجّه إليه و معرفته تبارك و تعالى، فإنّ مقتضی مالکيته جلّت عظمته لجميع ما سواه، و ربوبيته العظمى لها، و استغناؤه عزّ و جلّ عن الكلّ، و احتياج الكلّ إليه، هو

ص: 128

سؤال الكلّ منه عزّ و جلّ، و دعاؤه له بلسان الحال و الاستعداد، لأنّ مناط السؤال و الدعاء إنّما هو الحاجة، و هي من لوازم الإمكان. و كلّ ممکن، سواء كان من المجردات، أم الماديات بجواهرها و أعراضها، جميعاً داع له، و سائل منه بلسان الافتقار إليه، و الانقهار لديه، و إن لم نفقه سؤال كثير من الممكنات.

نعم، السؤال، و الدعاء القصدي الاختياري، و التوجّه الفعلي من شؤون الإنسان، فإنّ له شأناً و منزلة عنده تعالى، يحبّ السماع إليه، فيلتذ أولياء اللّه تعالى بالدعاء و المناجاة، و يبتهج اللّه جلّت عظمته بذلك ابتهاجاً، لا يحيط به غيره، ففي الحديث: «إنّ اللّه يعلم حاجتك، و ما تريد، ولكن يحبّ أن تبثّ إليه الحوائج، فإذا دعوت فسمّ حاجتك»، و في أخبار كثيرة أنّ اللّه تعالى قد يؤخّر إجابة دعاء عبد، لأن يسمع صوته و تضرّعه، و يعجّل إجابة بعض الدعوات، لأنّه تعالى لا يحبّ سماع صوت داعیه و تضرّعه.

ولكن ذلك لا يوجب إلغاء ناموس العلّية و المعلولية بين الأشياء، بل قد أثبتنا في المباحث السابقة أن هذا القانون حقّ لا ريب فيه، و أنّه أبي اللّه أن يجري الأمور إلا بأسبابها»، إلا أنّ الدليل العقلي أثبت الواسطة لها دون الانحصار، و الدعاء داخل تحت هذا القانون، و أنّه من طرق العلّية للأشياء، و التقريب بين الأسباب و المسبّبات، واقعاً و إن لم ندرکه ظاهراً، و إليه يشير ما ورد عن أمير المؤمنین علیه السلام في وصيته الابنه الحسن علیه السلام: «ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه، بما أذن لك

ص: 129

فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته، و استمطرت شآبيب رحمته، فلا يقنطنك إبطاء إجابته».

ص: 130

شروط الدعاء

للدعاء شروط كثيرة جداً، مذكورة في القرآن الكريم و السنّة المقدّسة، و هي تنقسم إلى شروط الصحّة، فلا يصحّ الدعاء بدونها، و شروط كمال له.

أما شروط الصحة فهي:

الأول: الإيمان باللّه تعالى، قال عزّ و جلّ: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ»(1).

الثاني: الإخلاص في الدعاء و عقد القلب عليه، و حسن الظن بالإجابة، قال تعالى: «فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ»، و قال تعالى: «وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ»(2).

و في الكافي: عن الصادق عليه السلام: «إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربه شيئاً إلا أعطاه، فلييأس من الناس كلّهم، و لا يكون له رجاء إلا

ص: 131


1- البقرة، الآية 186.
2- يونس، الآية 106.

عند اللّه، فإذا علم اللّه ذلك من قلبه لم يسأل اللّه شيئاً إلا أعطاه»، و عن الصادق عليه السلام: «إذا دعوت فأقبل بقلبك، و ظنّ حاجتك بالباب»، و في وصية النبي صلی اللّه علیه و آله و سلم لعلي عليه السلام: «لا يقبل اللّه دعاء قلب ساه».

و في الكافي: عن سليمان بن عمرو، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: إن اللّه عزّ و جلّ لا يستجيب دعاءً بظهر قلب ساه، فإذا دعوتَ فأقبل بقلبك، ثم استيقن بالإجابة».

و في نهج البلاغة عن أمير المؤمنین عليه السلام: «إنّ العطية على قدر

النية».

و في عدّة الدّاعي: عن نبيّنا الأعظم صلى اللّه عليه و آله و سلم قال اللّه:«ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني إلا قطعت أسباب السموات و أسباب الأرض من دونه، فإن سألني لم أعطه، و إن دعاني لم أجبه. و ما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي إلا ضمّنت السموات و الأرض رزقه، فإن دعاني أجبته، و إن سألني أعطيته، و إن استغفرني غفرت له»، و الحديث ظاهر في أنّ إجابة الدعاء منوطة بالإخلاص.

و في الحديث القدسي: «أنا عند ظنِّ عبدي بي، فلا يظن بي إلا خيراً»، و هو ظاهر في أنّ في التردد و اليأس لا تكون إجابة، فلا بد من العزم على السؤال.

و في الحديث عن نبيّنا الأعظم: «ادعوا اللّه و أنتم موقنون بالإجابة»، إلى غير ذلك من الأخبار، و قد تقدّم الوجه في ذلك أيضاً، بأنّ في الإعراض و السهو و الغفلة لا تتحقّق حقيقة الدعاء.

ص: 132

الثالث: اليأس من غير اللّه تعالى، لأنّه ربّ السموات و الأرض، عنده مفاتيح الغيب، يعطي لمَن يريد، و يمنع عمّن يريد، و العلم بأنّه تعالى إنّما يقضي الحوائج حسب المصلحة، فإنّ الإنسان لا يعرف الحقائق و يجهلها، و ربما يسأل ما هو شرّ و أنّ اللّه تعالى يبدّله إلى الخير، و ربما يسأل الخير فيؤخّره، إذ المصلحة في التأخير، ففي نهج البلاغة عن عليٍّ عليه السلام: «و ربما أُخّرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم الأجر السائل، و أجزل العطاء الآمل، و ربما سألت الشيء فلا تؤتاه و أوتيت خيراً منه، عاجلاً أو آجلاً، أو صرف عنك لما هو خير لك، فلربّ أمر قد طلبته فيه هلاك دينك أو أُوتيته، فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله، و ينفي عنك وباله، و المال لا يبقى لك و لا تبقى له».

و عن أبي عبد اللّه عليه السلام: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم: قال اللّه عزّ و جلّ: مَن سألني و هو يعلم أنّي أضرّ و أنفع، استجبت له»، و ذلك لأنّ إجابة دعاء الداعين لا بد أن تكون على طبق الحكمة البالغة و العناية التامة، المحيطة بالحقائق، كلياتها و جزئياتها، لا على طبق مشتهيات الداعين و السائلين، قال تعالى: «وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ»(1). فإنّ الإنسان كثيراً ما يهتم بشيءٍ حتى إذا ما تحقّق وجده ضاراً، أو يكره شيئاً حتّى ما إذا تحقّق وجده نافعاً، و هذا وجداني محسوس لدى كلّ فرد، فالدعاء بما يتخيّله الإنسان أنّه نافع شيء، و ما هو الواقع الذي في

ص: 133


1- البقرة، الآية 216.

علمه تعالي شيء آخر. فإنّ التسرّع في إجابة الدعاء و قضاء الحوائج بلا تأمل في اللوازم و الملزومات و الآثار، نقض في الحكمة، و هو محال بالنسبة إليه تعالی.

نعم، نفس الدعاء و المسألة من سنن العبودية، و لا بد من تحقّقها من العبد، و أما الاستجابة فهي منوطة بالحكمة البالغة و العلم الأزلي.

الرابع: أن يكون المراد خيراً ممكناً، بأن لا يكون من المحالات الذاتية أو العادية، و ممّا لا نفع له؛ أو ممّا يضرّ بحال الآخرين، أو نهی عنه الشارع و نحو ذلك، فإنّ مثل هذا الدعاء ممّا لا يستجاب، وذكل لأن اللّه تعالى: «أبي أن يجري الأمور إلا بأسبابها»، و قد تقدّم في أحد المباحث السابقة أنَّ المستحيلات و إن كانت تحت قدرته تعالى، ولكنّه عزّ و جلّ لم يفعلها، لاستلزامه نقض الحكمة، ففي الحديث عن علي عليه السلام: «اثنوا على اللّه عزّ و جلّ و امدحوه قبل طلب الحوائج، یا صاحب الدعاء لا تسأل ما لا يحل و لا يكون».

و في الكافي: عن أبي الحسن الرضا عليه السلام: «لا تمل من الدعاء، فإنّه من اللّه بمكان، و عليك بالصبر و طلب الحلال، و صلة الرحم»، إلى غير ذلك من الروايات.

الخامس: طيب المكسب و العمل الصالح، ففي الحديث عن الصادق عليه السلام: مَن سرّه أن تستجاب دعوته، فليطب مکسبه»، و في وصية النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم لأبي ذر: «يا أبا ذر، يكفي من الدعاء مع البر ما يكفي الطعام من الملح، يا أبا ذر، مثل الذي يدعوه بغير عمل، كمثل

ص: 134

الذي يرمي بغير وتر، يا أبا ذر، إن اللّه يصلح بصلاح العبد ولده و ولد ولده، و يحفظه في دویرته، و الدور حوله ما دام فيهم».

و عن زرارة عن الصادق عليه السلام: «الداعي بلا عمل، کالرامي بلا وتر».

و في عدّة الدّاعي: «إن اللّه أوحي إلى عيسى: قل لظلمة بني إسرائيل: لا تدعوني و السحت تحت أقدامكم، و الأصنام في بيوتكم، فإنّي آليت أن أُجيب مَن دعاني، و إنّ إجابتين إياهم لعناً عليهم حتى يتفرّقوا».

و في الحديث القدسي: «لا تحجب عنِّي دعوة، إلا دعوة آكل الحرام».

و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم لرجل حين ما قال له: أحبّ أن يستجاب دعائي، فقال صلى اللّه عليه و آله و سلم: «طهّر مأكلك، و لا تدخل بطنك الحرام».

السادس: أداء مظالم الناس و حقوقهم، فقد ورد عن الصادق عليه السلام: قال اللّه عزّ و جلّ: «و عزّتي و جلالي، لا أُجيب دعوة مظلوم دعاني في ظلمة، أو لأحد عنده مثل تلك المظلمة».

و في عدّة الدّاعي: «أوحى اللّه إلى عيسى: قل لظلمة بني إسرائيل: إنّي لا أستجيب لأحد منهم دعوة، و لأحد من خلقي عندهم مظلمة»، و تقدّم في بحث التوبة ما يتعلّق بالمقام.

ص: 135

شروط الكمال للدعاء

تقدّم أنّ من الشروط في الدعاء هي شروط الكمال له، و لا ريب في حسن مراعاتها في هذه الحالة، التي يرغب الداعي استجابة دعواته، و هي كثيرة.

الأول: الطهارة من الحدث و الخبث، لقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ»(1).

الثاني: الدعاء بالمأثور عن المعصومين، لأنّه تكلّم مع اللّه عزّ و جلّ، كما أنّ القرآن تكلّم اللّه مع العبد، فينبغي في الدعاء أن يكون مأثوراً، و مستنداً إلى الشرع، قال تعالى: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ»(2)، و قال عزّ و جلّ: «وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ»(3).

و عن صدر المتألّهین (قدس اللّه نفسه الشريفة): «فكما أنّ أجساد البشر تكرّم بكرامة الروح، فكذلك أصوات الكلام، تكرّم و تشرّف بشرافة الحكمة التي فيها»، فلا بد للدعاء من نزوله من محل أمين،

ص: 136


1- البقرة، الآية 222.
2- فاطر، الآية 10.
3- الحج، الآية 24.

و مهبط شريف، و إرساله من نفوس زكيّة ذكية، حتّى يناسب الخطاب مع العظيم، كما تدلّ عليه روايات كثيرة.

نعم، فرق بين الدعاء و المسألة، فإنّ الأخيرة لا يشترط فيها ذلك، بل يكفي بكلّ ما جرى على اللسان، حتّى يوجّهه تعالى إلى الطريق الصحيح، أو يقضي حوائجه و يحلّ مشاكله، قال زراری للصادق علیه السلام: «علّمني دعاء، فقال علیه السلام: إنّ أفضل الدعاء ما جرى على لسانك»، و المراد به المسألة و طلب الحاجة.

الثالث: أن يكون الدعاء بالأسماء الحسنى و غيرها من أسماء اللّه تعالی، فعن الرضا علیه السلام، عن آبائه عن علي علیه السلام، قال: «قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم: للّه عزّ و جلّ تسعة و تسعون اسماً، مَن دعا اللّه بها استجيب له، و مَن أحصاها دخل الجنّة»، و قال اللّه عزّ و جلّ: «وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا»، و عن الصادق علیه السلام: «و أكثر من أسماء اللّه عزّ و جلّ، فإنّ أسماء اللّه كثيرة».

الرابع: تقديم تمجيد اللّه و الثناء عليه، و الإقرار بالذنب و الاستغفار منه، ففي الكافي: عن الحارث بن المغيرة قال: سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول: إياكم إذا أراد أحدكم أن يسأل من ربّه شيئاً من حوائج الدنيا و الآخرة، حتى يبدأ بالثناء على اللّه عزّ و جلّ، و المدح له، و الصلاة على النبي صلی اللّه علیه و آله و سلم، ثم يسأل اللّه حوائجه».

و عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد اللّه علیه السلام أيضاً: «إنّما هي

ص: 137

المدحة، ثم الثناء، ثم اللإقرار بالذنب، ثم المسألة، إنّه و اللّه ما خرج عبد من ذنب إلا بالإقرار».

و عن علي علیه السلام: «السؤال بعد المدح، فامدحوا اللّه عزّ و جلّ، ثم اسألوا الحوائج، أثنوا على اللّه عزّ و جلّ و امدحوه قبل طلب الحوائج»، و المراد بالثناء و التمجيد، مطلق ما يكون ثناءً و تمجيداً.

الخامس: أن يشتمل على ذکر محمد و آل محمد، لأنّهم وسائط الفيض و وجهاء الخلق، ففي الكافي: عن أبي عبد اللّه علیه السلام: «كل دعاء يدعي اللّه عزّ و جلّ به، محجوب عن السماء حتى يصلّي على محمّد و آل محمد»، و عن هشام بن سالم، عن الصادق علیه السلام: «لا يزال الدعاء محجوباً حتى يصلّي على محمد و آل محمد».

و عن صفوان الجمال، عن أبي عبد اللّه علیه السلام أيضاً: «كلّ دعاء يدعی اللّه عزّ و جلّ به، محجوب عن السماء حتّى يصلّي على محمد و آل محمد».

و عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال: قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم: صلاتكم عليّ إجابة لدعائكم، و زكاة لأعمالكم).

السادس: أن يكون الدعاء بعد الانقطاع إليه عزّ و جلّ، و رقة القلب و البكاء، ففي الكافي: عن أبي بصير، عن الصادق علیه السلام: «إذا رقّ أحدكم فليدعُ، فإنّ القلب لا يرقّ حتّى يخلص».

و عن الصادق علیه السلام: «إذا اقشعر جلدك و دمعت عيناك، فدونك

دونك فقد قصد قصدك».

ص: 138

و عن سعد بن يسار: «قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام: إنِّي أتباکی في

الدعاء و ليس لي بكاء، قال علیه السلام: نعم، و لو مثل رأس الذباب».

و عن عنبسة العابد عن الصادق علیه السلام: «إن لم تكن بكّاءً فتباك».

و قد اعتبر بعض العلماء (رحمهم اللّه تعالى) أنّ بعض مراتب الانقطاع التام إليه عزّ و جلّ إذا كانت الحالة جامعة للشرائط من الاسم الأعظم، و قد جربت ذلك في بعض أسفاري إلى بيت اللّه الحرام بعد انقطاع الرجاء إلا منه.

فكان ما كان ممّا ليست أذكره *** فظنَّ خيراً و لا تسأل عن الخبر

السابع: الدعاء في الأوقات المعيّنة، و هي كثيرة، منها السَحَر و آخر الليل، فعن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم: «خیر وقت دعوتم اللّه الأسحار».

و عن الصادق علیه السلام: «مَن قام من آخر الليل فذكر اللّه تناثرت عنه

خطاياه، فإن قام من آخر الليل فتطهَّر و صلّى ركعتين و حمد اللّه و أثنى عليه و صلّى على النبي صلی اللّه علیه و آله و سلم، لم يسأل اللّه شيئاً إلا أعطاه، إما أن يعطيه الذي يسأله بعينه، و إما أن يدخر له ما هو خير له منه».

و منها: الصباح و المساء، فعن الصادق علیه السلام: «إنّ الدعاء قبل طلوع الشمس و قبل غروبها، سنّة واجبة مع طلوع الشمس و المغرب».

و منها: عند نزول المطر، و زوال الشمس، و هبوب الرياح، و قتل الشهيد، و قراءة القرآن، و الآذان، و ظهور الآيات. ففي الكافي: عن زید الشحام، قال أبو عبد اللّه علیه السلام: «اطلبوا الدعاء في أربع ساعات:

ص: 139

عند هبوب الرياح، و زوال الأفياء، و نزول المطر، و أول قطرة من دم القتيل المؤمن، فإن أبواب السماء تفتح عند هذه الأشياء».

و عن الصادق علیه السلام، عن أمير المؤمنين علیه السلام، قال: «اغتنموا الدعاء عند أربع، عند قراءة القرآن، و عند الآذان، و عند نزول الغيث، و عند القتاء الصفين للشهادة».

و عن أبي جعفر الباقر علي علیه السلام: «كان أبي إذا كانت له إلى اللّه

حاجة، طلبها في هذه الساعة، يعني زوال الشمس».

و عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم: «مَن أدّى للّه مكتوبة، فله في إثرها دعوة مستجابة».

و منها: الأزمنة المتبرّكة، مثل ليلة الجمعة، و ليالي القدر، و شهر رمضان، و شهر رجب، و ليلة النصف من شعبان، و ليلة عرفة و يومها، و العيدين، و غيرها ممّا هو كثير كما في كتب الأدعية.

الثامن: الدعاء في الأمكنة المتبرّكة، مثل الحرم الإلهي المقدّس، و المسجد الحرام، و مسجد النبيّ صلی اللّه علیه و آله و سلم، و عند الأئمة الكرام، أو المساجد الأربعة و غيرها من المساجد.

التاسع: الدعاء بعد تقديم الصدقة و شمّ الطيب، فعن الصادق علیه السلام: «كان أبي إذا طلب الحاجة طلبها عند الزوال، فإذا أراد ذلك قدّم شيئا فتصدّق به، و شمّ من طيب، و راح إلى المسجد و دعا في حاجته بما شاء اللّه».

ص: 140

العاشر: مراعاة الأدب، و تجنّب اللحن في الدعاء، ففي عدّة الداعي عن أبي جعفر الجواد علیه السلام قال: «ما استوى رجلان في حسب و دين قط، إلا كان أفضلهما عند اللّه عزّ و جلّ أأدبهما، قال: قلت: جعلت فداك، قد علمت فضله عند الناس في النادي و المجالس، فما فضله عند اللّه عزّ و جلّ؟ قال: بقراءة القرآن كما أُنزل، و دعائه اللّه عزّ و جلّ من حيث لا يلحن، و ذلك أن الدعاء الملحون لا يصعد إلى اللّه عزّ و جلّ».

و يمكن أن يستفاد ذلك من كراهة اختراع الدعاء من نفس الداعي، فإنّ في الدعوات المأثورة عن نبيّنا الأعظم و الأئمّة الهداة غنىً و كفاية، فهم أعرف بالأدب مع اللّه تعالى، و كيفية التكلّم معه من سائر الرعية، لأنّهم سدنة الملك و عيبة علم اللّه و خزّان وحيه.

الحادي عشر: رفع اليدين حال الدعاء، ففي عدّة الداعي: «إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم كان يرفع يديه إذا ابتهل و دعا، كما يستطعم المسكين».

و عن محمد بن مسلم قال: «سألت أبا جعفر علیه السلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: «فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ». قال علیه السلام: الاستكانة هي

الخضوع و التضرّع رفع اليدين و التضرّع بهما».

و عن الباقر علیه السلام: «ما بسط عبد يده إلى اللّه عزّ و جلّ، إلا استحييى اللّه أن يردّها صفراً، حتى يجعل فيها من فضله و رحمته ما يشاء، فإذا دعا أحدكم فلا يرد يده حتى يمسح بها على رأسه و وجهه»،

ص: 141

و الروايات في رفع اليدين و التبصبص بالأصابع كثيرة، مروية عن الفريقين. و كلّ ذلك من جهة حصول الخضوع و الخشوع للدّاعي، و تقرّبه إلى المدعوّ، لا لأجل أنّه تعالى يختصّ بمكان دون مكان و زمان دون آخر.

الثاني عشر: الدعاء سرّاً، ففي الكافي: عن أبي الحسن الرضا علیه السلام قال: «دعوة العبد سراً، دعوة واحدة تعدل سبعين دعوة علانية»، و الوجه في ذلك لأنّه أحفظ في الإخلاص، و أبعد عن شوائب الرياء.

الثالث عشر: العموم في الدعاء، فإنّه آكد في الاستجابة، ففي الكافي: عن ابن القداح، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال: «قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم: إذا دعا أحدكم، فليعُمَّ، فإنّه أوجب للدعاء».

و عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم: «مَن صلّى بقوم فاختصّ نفسه بالدعاء دونهم، فقد خانهم»، و قد وردت روايات كثيرة على أنّ دعاء المؤمن لأخيه المؤمن مستجاب، و أنّ للداعي مثل ما يدعو لأخيه و أكثره.

الرابع عشر: لبس الداعي خاتم عقيق أو فيروزج، فقد روى ابن بابويه عن الصادق علیه السلام: «ما رفعت كفّ إلى اللّه أحبّ من كفّ فيها عقیق».

و في عدّة الداعي عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال: «قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم: قال اللّه عزّ و جلّ: إنِّي لأستحيي من عبدي، يرفع يده و فيها خاتم فيروزج فأردّها خائبة».

ص: 142

الخامس عشر: أن يكون الدعاء لتكميل النفس، و الحوائج الشرعية و سؤال المغفرة و رضوان اللّه و نِعَمِ الجنة، أي يكون جامعاً للدنيا و الآخرة، بحيث يكون نفعه غير منقطع، و أثره لا يضمحل، و في الدعوات المقدّسة المأثورة من ذلك شيء كثير، منها: ما يسمّى بدعاء الفرج، و هو مذكور في كتب الأدعية.

ثم إنّ الدعاء مطلوب لنفسه، و محبوب لذاته، و لا تختصّ محبوبیته بوقت دون وقت، و لا مكان دون آخر، و لا بلغة دون أخرى، بل هو محبوب في جميع الأحوال و الأوقات و الأمكنة.

نعم، لبعض الأيام و الليالي و الأمكنة المقدّسة، دخل في مراتب فضله، لا في أصل صحته و محبوبيته، و إذا توفرت شروط صحة الدعاء، و شروط كماله، و وقع الدعاء مورد الاستجابة، فإنّه قد يوجب التغيير في العالَم، ممّا يوجب تحيّر ذوي الألباب، و لا ريب في ذلك كما مرّ، فإنّ الدعاء عظيم أثره، لأنّه حضور العبد الذليل لدى المولی الجليل، و توجّه نحو التوحيد الفطري، فلا تغفل عنه، و لا تعرض بوجهك عنه، فإنّ المحروم مَن حرم من الدعاء، و لا تجعل للشيطان على عقلك سبيلاً بشبهاته، فإنّه عدو للإنسان، يحاول أن يجنّب العبد عن الدعاء، لأنّه من أعظم السبل في ردّه، و اللّه الهادي و هو المولى و نعم النصیر.

ص: 143

مراتب السلوك

لا ريب في أنّ أقوى مراتب سلوك السالكين إلى اللّه جلّت عظمته، و أهم مقامات سیرهم و سفرهم، إنّما هو السفر من الخلق إلى الحقّ، أي: التوجّه التام، بحيث ينقطع عمّا سواه تعالى، و هو السير في الحقّ بالحقّ.

و هذا السفر الروحاين يصحّ أن يعبَّر عنه: بأنّه سفر من المحدود من كلّ جهة إلى غير المحدود من جميع الجهات، و عطف و حنان ممّن لا حدّ لرحمته و حنانه و عنايته، إلى ما هو المحتاج على الإطلاق، و هذا السفر، و هذه الرحمة و العطف، يتحقّقان في حقيقة الدعاء مع الإيمان باللّه جلّت عظمته، و بما جاء به نبيّنا الأعظم صلی اللّه علیه و آله و سلم، لأنّ هذه الحقيقة مع ذلك عبارة عن تخلّي النفس عن جميع الرذائل، و طهارة روحية عن جميع الصفات الذميمة و الأهواء الشريرة، و ارتباط روحي مع عالم الغيب.

و إن قلت: إنّها تجلّي الرحمة الرحيمية و الرحمانية بالنسبة إلى الداعين.

أو قلت: إنّها عروج النفوس المستعدّة عند الانقطاع عمّا سوى

ص: 144

رب العالمين إلى أعلى الدرجات التي أُعدت لها، و لذا قال تعالى: «مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ»(1)، و قال الصادق علیه السلام كما تقدّم: «الدعاء مخ العبادة»، و لذا كان الأنبياء و الأوصياء و العلماء العارفون باللّه تعالى، يواظبون عليه أشدّ المواظبة في جميع أحوالهم، حالاً و مقالاً.

و هناك أمور أخرى مهمة مرتبطة بالدعاء، نتعرض لها في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالی.

بقي هنا أمران:

الأول: الفرق بين الدعاء و غيره من الأسباب المؤثّرة، مثل السحر و العين مثلاً، فإنّ الأول - أي الدعاء - تأثير غيبي في عالم الشهادة، كما مرّ، و لما سواه تأثیرات من هذا العالم و فيه، و هي غير مرتبطة بعالم الغيب و الملَكوت أصلاً، بل بعضها منهي عنه شرعاً.

الثاني: أنّ الدعاء إنّما يؤثر بحسب معتقدات الداعي، فربما يكون الدعاء الصادر من الذي لا يعتقد بالمبدأ يؤثر بحسب معتقده، و هو خلاف الواقع، قال تعالى: «وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ»(2)، و تدلّ علیه السنّة المقدّسة، بل التجربة، و يأتي التعرّض لها في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى(3).

ص: 145


1- الفرقان، الآية 77.
2- الرعد، الآية 14.
3- مواهب الرحمن، 47 - 76، ج (3).

مقام التوكل

اشارة

التوكّل: فضيلة من الفضائل السامية و خُلق کریم من مکارم الأخلاق و خصلة حميدة، و منزل شريف من منازل الإيمان، و مقام رفيع من مقامات الموقنین، بل أفضل مقامات الإنسانية الكاملة، به يظهر المؤمن صدق إيمانه و ثبات اعتقاده، و يجتمع فيه كثير من الفضائل و الخصال الحميدة، فهو قرين الصدق و العز و الاستعانة باللّه العظيم و غيرها، و به ينتظم العلم و الحال و العمل. و كفى به فضلاً و منقبة أن اللّه تعالی یحبّ المتوکلین، و هو من أخلاق الأنبياء العظام، و لمكانته السامية فقد أمر به عزّ و جلّ نبيّه الكريم صلی اللّه علیه و آله و سلم بالتحلّي به في عدّة مواطن من كتابه الكريم، و قد ورد في فضل التوكّل و مدحه و الترغيب إليه من الكتاب الكريم و السُنّة الشريفة الشيء الكثير، و نحن نذكر في هذا البحث ما ورد في التوكّل من الفضل، و معنى التوكّل، و حقيقته، و شروطه، و آثاره.

فضل التوكّل:

قد ورد في مدح التوكّل و فضله و الترغيب إليه و الحثّ على التحلّي به في الكتاب الكريم و السنّة الشريفة ما يبهر منه العقول.

ص: 146

التوكّل في الكتاب الكريم:

وردت مادة (وكل) في القرآن المجيد على ما يناهز السبعين موضعاً، و غالب استعمالاتها تدلّ على مدحه و الترغيب إليه، قال تعالى: «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ»(1)، و قال تعالى: «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»(2)، و قال تعالى: «فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ»(3).

و قد ورد قوله تعالى: «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ»(4)، في عدّة مواضع، و كذا قوله تعالى: «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ»(5)، و قال تعالى: «وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ»(6)، و يستفاد منه أن الإيمان منوط بالتوكّل، و قال تعالى: «فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ»(7)، و هذه الآية المباركة تبيّن حقيقة التوكّل على ما ستعرف.

و يستفاد من الآيات الواردة في شأن الأنبياء أن التوكّل كان من سيرتهم، و أنّه فضيلة مشتركة بينهم، قال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام و الذي معه: «رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ»(8)، و قال تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام: «وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ

ص: 147


1- الطلاق، الآية 3.
2- الأنفال، الآية 49.
3- آل عمران، الآية 159.
4- آل عمران، الآية 160.
5- إبراهيم، الآية 12.
6- المائدة، الآية 23.
7- الشورى، الآية 36.
8- الممتحنة، الآية 4.

شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ»(1)، و قال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: «وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ»(2)، و قال تعالى حكاية عن شعیب عليه السلام: «وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ»(3)، و قال تعالى حكاية عن هود عليه السلام: «إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»(4)، و قال تعالى حكاية عن صالح عليه السلام: «إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ»(5)، و قال تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: «إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ»(6)، و قد تحدّث سبحانه و تعالى عن جمع من الرُّسل علیهم السلام و حكي عن شأنهم، و ذكر أن التوكّل من عمدة صفاتهم و من سيرتهم، و هو و الصبر قرينان لديهم، قال تعالى: «قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ»(7).

ص: 148


1- يوسف، الآية 67.
2- يونس، الآيتان 84 - 85.
3- الأعراف، الآية 89.
4- هود، الآية 56.
5- هود، الآية 88.
6- يونس، الآية 71.
7- إبراهيم، الآيتان 11 - 12.

و يكفي من فضله أنّ اللّه تعالى قد أمر به نبيّه الكريم صلی اللّه علیه و آله و سلم في مواضع كثيرة من كتابه الكريم، قال «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا»(1)، و قال تعالى: «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ»(2)، و قال تعالى: «فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ»(3)، و المستفاد من جميع ذلك أن التوكّل فضيلة سامية، و أنّه من أعلى مقامات التوحيد، و هو يدلّ علی کمال إيمان المؤمنين، و لذا كان من صفات الأنبياء الكرام و المؤمنين المخلصين، بل هو توحيد عملي يكشف عن درجة الإيمان و شدّة اعتمادهم على اللّه عزّ و جلّ، قال تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ»(4). و يستفاد منه أن التوكّل أجلى برهان و أحكم علامة على ثبات عقيدة المؤمن و رسوخ التوحيد في قلبه، لأنّه لا يرى لغيره عزّ و جلّ سلطة و شأناً، فهو خاضع له يطلب منه وحده تهيئة الأسباب و تدبيرها، قال تعالى في الشيطان: «إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ»(5)، و سيأتي مزید بیان.

ص: 149


1- النساء، الآية 81.
2- التوبة، الآية 129.
3- آل عمران، الآية 159.
4- الأنفال، الآية 2.
5- النحل، الآية 99.

التوكّل في السنّة الشريفة

وردت أحاديث كثيرة عن نبيّنا الأعظم صلی اللّه علیه و آله و سلم والأئمة الهداة علیهم السلام تدلّ على فضل التوكّل على اللّه، و جميعها - سواء القولية و الفعلية - تحكي سيرتهم التي تدلّ على شدّة اعتمادهم على اللّه تعالى و تفويضهم الأمر إليه وتحريض الناس عليه، ففي الحديث عن النبي صلی اللّه علیه و آله و سلم أنه قال: «مَن انقطع إلى اللّه عزّ و جلّ كفاه اللّه كلّ مؤونة و رزقه من حيث لا يحتسب، و مَن انقطع إلى الدنيا وكّله اللّه إليها».

و قال: «لو أنّكم تتوكّلون على اللّه حقّ توكّله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً و تروح بطاناً».

و قال صلی اللّه علیه و آله و سلم: «مَن سرّه أن يكون أغنى الناس فليكن بما عند اللّه أوثق منه بما في يده».

و روي عن الصادق علیه السلام: «أوحى اللّه تعالى إلى داود: ما اعتصم عبد من عبادي بي من خلقي عرفت ذلك من نيّته، ثم تكيده السماوات و الأرض و مَن فيهن، إلّا جعلت له المخرج من بينهنّ، و ما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلق عرفت ذلك من نيّته إلّا قطعت أسباب السماوات و الأرض من يديه و أسخت الأرض من تحته، و لم أُبال بأي وادٍ هلك».

ص: 150

و عنه علیه السلام: «أن الغنى و العزّ يجولان، فإذا ظفران بموضع التوكّل أوطنا».

و عن الكاظم علیه السلام في قوله تعالى: «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» قال: «التوكّل على اللّه على درجات، منها أن تتوكّل على اللّه في أمورك كلّها، فما فعل بك كنت عنه راضياً، تعلم أنّه لا يألوك خيراً و فضلاً، و تعلم أن الحكم في ذلك له، فتوكّل على اللّه بتفويض ذلك إليه و ثق به و في غيرها».

و قال الصادق علیه السلام: «مَن أعطي ثلاثاً لا يمنع ثلاثاً، من أُعطي الدعاء أُعطي الإجابة، و مَن أُعطي الشكر أُعطي الزيادة، و مَن أُعطي التوكّل أُعطي الكفاية، ثم قال: أتلوت كتاب اللّه عزّ و جلّ: «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ»، و قال: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ»، و قال تعالى: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ»». إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة الدالّة على فضل التوكّل و مدحه و الترغيب إليه، و إنّه خُلق کریم يجب على المؤمن التحلّي به، و يدلّ عليه العقل أيضاً.

معنى التوكّل:

التوكّل مشتق من الوكالة، يقال: وكّل فلان الأمر إلى غيره، أي: فوّضه إليه و اكتفى به لاعتماده عليه أنّه ينجزه و وثق به، و يسمّى المفوّض إليه متّكلاً و متوکّلاً عليه.

و أمّا الوكيل: فإنّه فعيل يأتي بمعنى المفعول - و هو الذي يوكّل الأمر إليه أو موکول إليه الأمر، و يأتي بمعنى الفاعل فيكون بمعنی

ص: 151

الحافظ و الناصر و الرقيب و المطّلع، لأنّه الذي يرعى الأمور و يحفظها و يتعهّدها و ينصر مَن يركن إليه، و منه قوله تعالى: «وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ»(1)، و لأنه هو الذي يتعهّد الأمور التي وکّلت إليه من عباده، و ناصره و حافظه، و الاسم التكلان (بضم التاء).

و إذا رجعنا إلى اللغة نرى أن التوكّل تارة يُطلق و يراد منه التولّي للغير، يقال: توكّلت لفلان، إذا صرت وكيلاً عنه و تولّيت له، و منه الوكالة (بفتح الواو) أو (بالكسر على لغة)، و هي الوكالة المعروفة في الفقه. و يُطلق أخرى و يراد به الاعتماد على الغير و الوثوق به.

و التوكّل على اللّه تعالى هو تفویض الأمر إليه عزّ و جلّ و الاكتفاء به، و يشبه التوكّل التفويض من هذه الجهة، فهما يشتركان في تسليم الأمر إليه عزّ و جلّ، قال تعالى حكاية عن شعیب: «فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ»(2)، أي: أُسلّم الأمور إليه عزّ و جلّ فهو الذي يكفيكها، و في الحديث: أن النبي صلی اللّه علیه و آله و سلم كان يدعو فيقول: «اللهم إنّي أسلمت نفسي و فوّضت أمري إليك».

لكن التوكّل يزيد على التفويض في أنّه يتضمّن طلب النصرة منه، و الوثوق بأنّه ينجزها، و يحفظ مَن يكل إليه أمره، و الرضا بفعل اللّه عزّ و جلّ بعد الاعتراف بالعجز و لقصوره أمام عظمته و كبريائه.

ص: 152


1- آل عمران، الآية 173.
2- غافر، الآية 44.

حقيقة التوكّل

التوكّل على اللّه تعالى هو الاعتماد عليه عزّ و جلّ قلباً و اطمئنان النفس به و الوثوق بأنه لم يهمله، بعد الاعتراف بعجز الإنسان أمام قدرته و علمه و إحاطته و قيموميته، و الاعتقاد بأنّه تعالى هو الفاعل لا غيره، و أن لا ربّ غيره، فيعلم علماً قطيعاً بأنّه لا حول و لا قوة إلّا باللّه، يضع الأشياء في مواضعها بحكمته، و هو القادر على كل شيء في السماوات و الأرض.

و من ذلك يظهر السرّ في ذكره عزّ و جلّ العزّة و الحكمة في قوله تعالى: «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»، لأن الاعتقاد بأنّه حكيم يضع الأشياء في مواضعها، و عزيز قادر لا يمتنع عليه شيء إذا أراد فلا محالة يذعن المؤمن بأنه تعالى ناصره و معينه و هو حسبه و كافيه، ويحصل له الاعتقاد بأن كل ما يسوقه إليه ربّه هو طيّب و کریم و حسن و خير و يعتمد عليه في جميع أموره، و تحصل الثقة باللّه العظيم فيتوكّل عليه عزّ و جلّ.

فالتوكّل إنّما هو ارتباط عالم الشهادة المتناهية من كلّ جهة، بعالم الغيب غير المتناهي كذلك، و لذا نرى أنّه و التوحيد قرينان لا يتحقّق

ص: 153

أحدهما من دون الآخر، فمَن لا توحيد له لا توكّل له، و مَن لا توكّل له لا إيمان له، و يدلّ عليه قوله تعالى: «وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ».

بل يمكن أن يقال بأن التوكّل طريق لمعرفة إيمان المؤمن، بل هو محقّق له، لأنّه لا يرى لغير اللّه تعالى أثراً، فالجميع مسخّر تحت إرادته، و إنّما جعل لها نظاماً معيناً أقام أمور العالم به، فتجري وفق قانون الأسباب و المسبّبات خاضعة له لا تتخلّف عنه، إلا أنّها عاجزة عن أي نفع و ضرر، لأنّها لا تفعل شيئاً إلا بإرادته و مشيئته عزّ و جلّ، و المؤمن يذعن بهذا النظام الذي أقام اللّه تعالى هذا العالم به، و يطلب كلّ شيء عن طريق سببه و يعمل و يكافح على إيجاد الأسباب الظاهرية المنوطة بها المسبّبات و يطلبها وفق ما أمره اللّه تعالى طلباً تكوينياً أو تشريعياً، ولكنّه يعترف بالعجز أمام قدرة اللّه تعالى و يذعن بالجهل أمام المقادير التي قدرّها عزّ و جلّ، و يعلم بأن الأسباب الظاهرية التي عمل لأجلها شيء و المقادير و القضاء و القدر و الأسباب الخفية التي يجهلها شيء آخر، و جميعها خاضعة له عزّ و جلّ، مسخّرة أمام إرادته و مشيئته، و هو عاجز عنها فيوكّل أمره إليه معتقداً بأنّه حسبه و ناصره و معينه.

و من جميع ذلك يعلم بأن التوكّل لا ينافي الأسباب الظاهرية، بل الاعتقاد بها و العمل عليها من جملة أساسيات فضيلة التوكّل. و يدلّ على ذلك قوله تعالى: «فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ»(1).

ص: 154


1- الشورى، الآية 36.

و يستفاد من هذه الآية الشريفة أمران:

الأول: أن الإنسان لا يمكن له التغاضي عن متاع الحياة الدنيا الذي هو من نِعَم اللّه تعالى عليه، فهو الذي يقضي به مآربه و يحقّق مقاصده و يعيش عليه في هذه الحياة الدنيا، و أما ما عند اللّه فهو خير من هذا المتاع القليل في الكمية و الكيفية، و إنّما جعل اللّه هذه الدنيا وسيلة النيل ما هو أعظم منها، و لا يمكن تحصيل هذا المتاع إلّا بأسباب خاصة معروفة يجري عليها نظام هذا العالم، فالتوكّل على اللّه تعالى و الاعتماد على الأسباب الظاهرية قرينان، بل هي من طرق تحصيل التوكّل عليه عزّ و جلّ كما عرفت، و يدلّ عليه قوله صلی اللّه علیه و آله و سلم: «اعقلها ثم توکّل».

الثاني: أن التوكّل من شروط الإيمان الصحيح، بل هو من أعلى مقامات التوحيد، فإنّه التوحيد العملي الذي اعتنى به اللّه تعالى في كتابه الكريم و اهتمّ به الأنبياء و المرسلون، فهو يبيّن الجانب العملي في الإيمان، لأنّ التوكّل وظيفة من وظائف القلب، فإنّ به تطمأن النفس و يسكن القلب، و به يدخل المؤمن تحت الآية المباركة: «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي»(1).

و بالجملة: لما كن هذا العالم متقوّماً بالأسباب و المسبّبات الطولية و العرضية، و لا بد من انتهاء تلك إلى سبب غيبي و ربوبية عظمى لا يعقل فوقها ربوبية و قيمومية كبرى ليس وراءها قيم أصلاً، فيكون الجميع مسخّراً تحت إرادته و مشيئته التامة، فلا الماديات تعوق مشيئته

ص: 155


1- الفجر، الآیات 27 - 30.

و لا التكثّرات تمنع قهّاريته، و لا ريب في تحقّق ما ذكر في هذا النظام الأحسن، و آثار عظمته و إبداعه و وحدانيته ظاهرة في كلّ شيء، و التوحيد عبارة عن الاعتقاد بهذه الحقيقة، و التوكّل هو الاعتماد على مدبّر هذا العالم و خالقه و صانعه، فإن طابق الاعتقاد مع الواقع على ما هو عليه تتجلّى حقيقة التوكّل و إلّا فلا توكّل.

و من ذلك يظهر السر في ما ورد عن الأئمة عليهم السلام: أن قول القائل: لولا أن فلاناً لهلكت، شرك، قيل له عليه السلام: فكيف نقول؟ قال عليه السلام: تقول لولا أن مَنَّ اللّه عليَّ بفلان لهلكت»، كما يظهر السرّ في قوله تعالى: «وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ»(1)، فالتوكّل الحقيقي هو الاعتقاد باستناد الكلّ إليه عزّ و جلّ و انبعاث الجميع منه تعالى، و يستلزم ذلك الاعتقاد بتسبيب الأسباب و السعي في تحصيلها، فإنّ التوكّل بدون ذلك لا ثمرة فيه، بل هو لغو و باطل، فترجع حقيقة التوكّل إلى إرجاع الأمور - لا يتعلق بها عقولنا من تحصيل المقتضيات - إلى اللّه تعالى، لأنّه مسبّب الأسباب و مسهِّل الأمور الصعاب.

و من ذلك كلّه يظهر أن التوكّل عنوان التوحيد و هو داع إليه، فهما متلازمان، و به ينتظم حال الإنسان و علمه و عمله. و بما ذكرناه يرتفع الغموض من حيث أن ملاحظة الأسباب و الاعتماد عليها شرك في التوحيد، و التباعد عنها خلاف طريقة العقل و الشرع، و التوكّل يرفع الغموض و العسر عن ذلك كلّه.

ص: 156


1- يوسف، الآية 106.

شروط التوكّل

للتوكّل على اللّه تعالى شروط لا يتحقّق إلّا بها، تظهر من التمعّن في ما ذكرناه في حقيقة التوكّل، و هي:

الأول: الاعتقاد باللّه تعالى و أنّه الربّ القيوم المدبّر لجميع ما سواه، و أنّه العزيز لا يمنعه شيء، الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها وفق إرادة و علم بجميع الخصوصيات.

الثاني: الاعتقاد بأنّه لا فاعل في هذا العالم إلّا اللّه تعالى، و أن ما سواه مربوب له و مقهور تحت قهّاریته العظمی، فهو الذي يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.

الثالث: الإذعان بأن هذا العالم ينتظم بقانون خاص لا يمكن التخلّف فيه، و أن اللّه تعالى هو الذي جعل هذا القانون، و هو قانون الأسباب و المسبّبات، و لا يمكن فيه التغيير و التبديل و لا التخطّي عنه.

الرابع: تحصيل الأسباب و المعدّات و المقتضيات التي تقع تحت تصرّف الإنسان، و السعي في تهيئتها و إعدادها، و أمّا غيرها من الأمور

ص: 157

الخفية التي لا يعلمها إلا اللّه تعالى، فلا بد من الرجوع فيها إليه تعالی و التضرّع لديه في تحقيقها.

الخامس: حسن الظن باللّه تعالى و استسلام القلب له عزّ و جلّ، و الخضوع لديه في رفع الموانع و العوائق في ترتّب النتيجة على المقدّمات و المسبّب على الأسباب.

السادس: أن يكون التوكّل على مَن يكون قادراً على جميع الأمور و مستجمعاً لجميع الشرائط، و هو ينحصر في اللّه تعالى، قال عزّ و جلّ في عدّة موارد من كتابه الكريم: «وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا»(1)، و قال تعالى محكياً عن المؤمنين: «وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ»(2)، فينحصر التوكّل عليه عزّ و جلّ قال سبحانه: «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا»(3).

السابع: تفویض الأمر إلى اللّه تعالى و توكيله في جميع الأمور و الشؤون، فإنّه القادر على تحقيقها، يضعها وفق حكمته المتعالية، لأنّه العالم بحقائق الأمور و جميع خصوصياتها.

و إذا تحقّقت جميع هذه الشروط تحصل للإنسان راحة نفسية و اطمئنان قلبي، فتحصل له حالة التوكّل عليه عزّ و جلّ و يدخل في زمرة المتوكّلين الذين يحبّهم اللّه تعالى، كما ورد في جملة من الآيات

ص: 158


1- الأحزاب، الآية 3.
2- آل عمران، الآية 173.
3- النساء، الآية 81.

الشريفة، قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ»(1)، و قال عزّ و جلّ:«وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ»(2).

ص: 159


1- آل عمران، الآية 159.
2- المائدة، الآية 23.

درجات التوكّل

للتوكّل درجات و منازل تختلف حسب شدّة اليقين و ضعفه، و حسب كثرة الأمور المتوكّل فيها و قلّتها، و هي:

الأولى: أن يكون المتوكّل على درجة كبيرة من اليقين و الثبات في العقيدة و الخضوع و الطاعة للّه تعالی، بحيث لا يرى شيئاً إلّا يرى اللّه تعالی معه يثق بكرمه و عنايته، و يعبّر بعض علماء الأخلاق عن هذه الدرجة بتوكّل خاص الخاص، و في هذا المنزل يفوّض المتوكّل جميع أموره إلى اللّه تعالى و يرضى بحكمه، فيكون بين يديه تعالی کالميّت الملقى بين يدي الغاسل، و لعل الآية المباركة تشير إلى هذه الدرجة: «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا»(1)، فإن مَن اتقى اللّه تعالی و وثق به عزّ و جلّ و توكّل في جميع أموره عليه عزّ و جلّ، اطمأنت نفسه بأنّ اللّه ناصره و هو حسبه، و هذه المرتبة عزيزة الوجود في الناس و تختصّ بالأنبياء و أولياء اللّه تعالى المخلصين له، و قد حكى اللّه جلّ شأنه عن الأنبياء و المرسلين في كتابه الكريم ما يشهد لذلك.

ص: 160


1- الطلاق، الآيتان 2- 3.

الثانية: أن لا يكون على الدرجة من اليقين و الثبات في العقيدة و الاطمئنان بما قسمه اللّه تعالى لعباده، ولكن يعتمد في أموره على اللّه تبارك و تعالى، يفزع إليه و يعتمد عليه و لا يترك الدعاء و التضرّع في كلّ مسألة و أمر، مثل الصبي الذي يفزع إلى أُمّه و يتعلّق بها و قد فني في أُمّه و لا يرى غيرها، و في هذه الحالة يفنى المتوكّل في الموكّل عليه و لا يلاحظ الواسطة، و يعبّر بعض علماء الأخلاق عن هذه الدرجة بتوكّل الخواص.

و تفترق هذه الدرجة عن الدرجة السابقة في أن المتوكّل في الأولى لا يرى شيئاً إلّا اللّه تعالى قد وثق بكرمه و لطفه و عنايته، فربما يترك الدعاء و المسألة وثوقاً منه به عزّ و جلّ في قضاء الحوائج، كما قال إبراهيم الخليل عليه السلام: «حسبي من سؤالي علمه بحالي»، و في هذه الدرجة لا يترك الدعاء و المسألة و التضرّع، و إلى هذه الدرجة يشير قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ»(1)، فقد توكّلوا في جميع أمورهم عليه عزّ و جلّ و أفنوا جميع حيثياتهم في اللّه تعالى و قد أعرضوا عن غيره.

الثالثة: أن يكون كثير الاعتناء بالأسباب، فيرى للتدبير و الاختيار في تهيئة الأمور الأثر الكبير ولكن لا يترك التوكّل عليه عزّ و جلّ، و هو يعتمد على توكّله و يلتفت إليه دائماً في أموره لا يغضّ النظر عنه، و هذا هو الشغل الصارف عن الموكّل إليه، و لأجل ذلك اختلفت هذه الدرجة عن سابقتها في أن المتوكّلين في الدرجة الثانية يعتمدون على المتوكّل

ص: 161


1- آل عمران، الآية 159.

عليه وحده، كما يعتمد على التضرّع لديه بالدعاء و الابتهاء إليه عزّ و جلّ، و إلى هذه الدرجة يشير قوله تعالى: «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ»(1).

و تختلف أيضاً عن السابقة في أن هذه الحالة قد تدوم أياماً كثيرة أو في جميع الحالات لدى المؤمنين، بينما في الدرجة الثانية لا تدوم إلّا أياماً قليلة.

و قد عبّر بعض العلماء (رحمة اللّه تعالى عليه) عن هذه الدرجة يتوكّل العامي، و ربّما يكون توكّلهم في جميع الأمور و ربما يكون في بعضها.

و بالجملة: أن درجات التوكّل تختلف باختلاف قوة الإيمان باللّه عزّ و جلّ و الاعتقاد به تعالی و تفويض الأمور إليه و التسليم بقضائه و قدره و الرضا بما قسمه على عباده، كما أنّها تختلف باختلاف تفويض جميع الأمور أو بعضها و شدّة الاعتماد على الأسباب و قوّة الاعتقاد بها.

ص: 162


1- آل عمران، الآية 160.

آثار التوكّل

إذا حصل التوكّل على اللّه تعالى فإنّه يخلِّف آثاراً كبيرة على المتوكّل، نحن نذكر بعضاً منها:

الأول: التوكّل يحقّق الإيمان و يزيد فيه و يثبت دعائمه في المؤمن، و يثبّت عقيدة التوحيد في قلبه، قال تعالى: «وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ»(1).

الثاني: التوكّل سبب إلى النصر و الفوز بالمراد، قال تعالى: «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ»(2).

الثالث: التوكّل يفتح أمام صاحبه طريقاً إلى الجنة فيدخل و يُرزَق فيها بغير حساب، قال تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ»(3).

ص: 163


1- المائدة، الآية 23.
2- الطلاق، الآية 3.
3- العنكبوت، الآيتان 58 - 59.

الرابع: أن التوكّل يورث محبّة اللّه تعالى و الرضا الإلهي للمتوكّل، قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ»(1)، و كفى بذلك فخراً.

الخامس: التوكّل يجعل كلّ ما يسوقه اللّه تعالى إلى العبد حسناً طيباً و خيراً.

السادس: التوكّل يورث الاطمئنان في قلب المتوكّل و الراحة في نفسه.

هذا موجز ما أردنا أن نذكره في هذه الفضيلة الكبيرة، و هو غيض من فيض، فإن كلّ ما يقال في هذا الخلق الكريم قليل، و كفى بذلك داعياً في التخلّق بهذه الفضيلة و المسارعة إلى هذا الخير العظيم(2).

ص: 164


1- العنكبوت، الآيتان 58 - 59.
2- مواهب الرحمن، 6 - 26، ج (7).

الإخلاص

الأفعال الصادرة عن الإنسان في حقيقتها - تكون كالأشياء النامية - لها صورة خارجية و روح يمتاز بها عن أفعال سائر الحيوانات، فالإنسان الذي هو أشرف المخلوقات في عالم الإمكان مركّب في واقعه من جسم و روح، و کذا أفعاله لها صورة - و هي عبارة عن ما يتشخّص في الذهن من الكيفيّات، و هذا يعمّ جميع أفعال الحيوانات - و روح يتفرّد بها عن بقية الحيوانات، و هي أمر معنوي يحصل من التوجّه إلى الباري جلّ شأنه و السوق إلى الخالق جلّ عظمته - و لا ربط له بالإرادة - و أثره إفراد القلب له تعالى بارتباطه إلى ساحة كبريائه و التبرّي عن كلّ ما دونه تعالى، و هو الباعث لتحقّق الإضافة إليه تعالى، التي هي السبب لتحقّق الفعل خارجاً، و إذا وجد الفعل بدونها كان مجرّد صورة، كالأفعال التعليمية.

و يعبّر عنه في الكتاب و السنّة بالإخلاص في الأفعال العبادية أو المضافة إليه تعالى، المتفرّد بها الإنسان عن غيره، قال تعالى: «فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ»(1)، و قال تعالى: «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ

ص: 165


1- الزمر، الآية 2.

لَهُ الدِّينَ»(1)، فكما لا قيام للأشباح إلّا بالأرواح و إلّا كانت ميتة ساقطة، كذلك الأعمال العباديّة، فلولا الإخلاص و الروح المعنوي فيها كانت مجرّد شبح و هيكل. مراتب الإخلاص كدرجاتها تختلف حسب درجات الإيمان، كما يأتي.

حقيقة الإخلاص

و هي من الحقائق المحجوبة، و لا تعرف إلّا بالأثر، و لا يمكن وصفها و إن أدركها العرفاء الشامخون فإنّها تشرق على القلب و تنوّر النفس و يتشرف المؤمن بالإخلاص إلى أعلى مراتب الكمال بلذّة ذلّ العبودية لله تعالى، و به يخرق الحجب و يصل إلى معدن العظمة، فعن نبينا الأعظم صلی اللّه علیه و آله و سلم: «أنّه سئل عن الإخلاص فقال صلی اللّه علیه و آله و سلم: حتى اسأل جبرائیل، فلما سأله قال: اسأل ربّ العزّة، فلما سأله قال له: هو سرّ من أسرار أودعه قلب مَن أحببت من عبادي، لا يطلع عليه ملك فيكتبه و لا شيطان فيفسده»، و عن سيد العرفاء أمير المؤمنين عليه السلام: «هو أن تعبد اللّه كأنّك تراه، فحقيقة الإخلاص يدركها الخلّص من عباده، ولكنّها لا توصف، و الإخلاص من أعلى مراتب التفويض.

درجات الإخلاص

كما أنّ للعبودية درجات، و لكلّ منها مراتب، و لكلّ مرتبة منزلة حسب درجات الإيمان و مراتب المعرفة و منازلهما، و أنّ التقرّب لديه

ص: 166


1- البينة، الآية 5.

جلّ شأنه يحصل بجميعها، و أنّ أسمى المراتب و أعلى الدرجات قبوله عزّ اسمه بالعبودية - و إن كان للقبول مراتب أيضاً - فإنّه هو الفوز العظيم، فعن بعض العرفاء: «قيل له بعد وفاته - في الرؤيا -: كيف حالك مع الملكين (النكير و المنكر)؟ فقال: لما قالا لي: مَن ربّك؟ قلت لهما: اسألا ربّي، فإن قال: هو عبدي و أنا ربّه، يكفي، و إلّا فلو قلت: هو ربّي و أنا عبده مراراً لا يفيد بلا قبوله»، كذلك الإخلاص له درجات، و في كلّ منها مراتب، و في كلّ مرتبة أنواع أهمّها و جامعها أقسام ثلاثة: إخلاص العوام، و إخلاص الخواص، و إخلاص أخصّ الخواص، و إن شئت قلت: مطلق الإخلاص، و إخلاص المحبّين، و إخلاص الموحّدین.

و الأول: هو الإخلاص في العبادة لأجل الحظوظ - سواء كانت دنيويّة أم أُخروية - كحفظ البدن و سعة المال و القصور و الحور.

و الثاني: لأجل السعادة الأُخروية و الدخول في الجنة دون الحظوظ الدنيوية.

و الثالث: هو إخراج الحظوظ بالكلية، بل الإخلاص لأجل جنّة الشوق بالقرب له جلّت عظمته: «و فؤادي ليس فيه غيره».

و لكلّ من هذه الأقسام مراتب کما مرّ، و أنّ جميعها حسن إلّا أن أسماها و أعلاها القسم الأخير، و في دعاء كميل: «هب لي صبرت على حرّ نارك، فكيف أصبر على فراقك»، و عن سيد العرفاء المتألّهین الشامخين أمير المؤمنین عليه السلام: «إلهي عبدتك لا خوفاً من نارك و لا

ص: 167

طمعاً لجنّتك، بل رأيتك أهلاً لذلك فعبدتك»، و عن بعض العرفاء المتألهين:

ليس سؤلي من الجنان نعيماً *** غير أنّي أحبّها لأراكا

و لهذا القسم درجات و مراتب، نسأل اللّه العظيم الفوز بمرتبة منها، و لا تنال هذه النعمة الكبرى إلّا لمَن عصمه اللّه تعالى و أمدّه بحقّ اليقين بالتجلّي له، و كشف الأسرار له بإفاضة العلوم عليه، و قرّبه إلى ساحته بخلع الأنداد عنه، و كرّمه بتطهير النفس بمخالفة الهوى و نبذ الأغيار، و شرّفه بالرقي إلى مقام عرفانه بالتوجّه إليه و القرب لديه.

منافيات الإخلاص

الصفات الحميدة تقابلها الحالات السيئة، و تفسدها الصفات المنافية لها، فالشجاعة مثلاً يفسدها الخوف؛ لأنّه ينافيها و لا يمكن الجمع بين المتنافيين في النفس و كذا القناعة ينافيها الحرص و الجشع، كما أنّ الزهد ينافيه طول الأمل، و كذا غيرها من الصفات.

و الإخلاص ينافيه أمور كثيرة؛ لأنّ سبب الإخلاص للّه تعالی المعرفة و الخوف، فإذا زال أحدهما لم يتحقّق الإخلاص. و أهم ما ينافي الإخلاص أمور:

منها: الريا - نستجير باللّه العظيم منه - فعن نبيّنا الأعظم صلی اللّه علیه و آله و سلم عن اللّه تعالى في القدسیات: «أنا أغنى الشركاء، مَن أشرك معي غيري تركته لغيري»، و عنه صلی اللّه علیه و آله و سلم: «أخوف ما أخاف على أُمّتي الشرك الخفي، و هو الريا»، و غيرهما من الروايات، و أنه دقيق جداً، «أدق من

ص: 168

دبيب النمل في صخرة ملساء»، و سببه حبّ الدنيا بأقسامه، و للتخلّص منه طرق كثيرة لا يسع المجال للتعرّض لها.

و منها: العجب بالعمل، فإنّه مناف للإخلاص و قادح في كمال العمل، و قد ورد في ذمّه روايات كثيرة.

و منها: الاستهانة بالعمل - تحقيره - كما دلّت عليه روايات كثيرة.

و منها: الإيكال في الأمور على غيره تعالى، سواء كان على النفس أو غيرها.

و منها: التعمّق في حكمة الأشياء و البحث عن حِكَم الأحكام الشرعية، فإنّه منافٍ للإخلاص، كما دلّ عليه بعض الروايات، فعن نبيّنا الأعظم صلی اللّه علیه و آله و سلم: «إيّاكم و الغلو في الدين»، أي: البحث عن عللها و غوامض متعبّداتها، و عن بعض مشايخنا من أهل العرفان ادّعاء التجربة في ذلك.

و منها: عدم الثقة باللّه العظيم، فإنّ ذلك مناف للإيمان، فكيف بالإخلاص، و إنّه من المعاصي الكبيرة على ما فصّل في محلّه.

و هناك أمور أخرى منافية للإخلاص، ذكرها علماء الأخلاق و مشائخ العرفان في كتبهم و رسائلهم، و مَن شاء فليرجع إليها.

الفرق بين الرضا و الإخلاص

تقدّم أنّ للإخلاص مراتب، أدناها مرتبة الرضا، بل هو كتمهيد له؛ و لذا أنّ الإخلاص يتضمّن الرضا و لا عکس، هذا كلّه في العبيد.

ص: 169

و أمّا رضائه تعالى، فهو عين محبّته، و إنّ محبّته عين إخلاصه، فلا يمكن التفكيك بينهما.

و ممّا ذكرنا يظهر أنّ للرضا مراتب و درجات، و أنّ أسماها هو التفويض، و أنّ أعلى مراتب التفويض الإخلاص، الذي هو مختصّ بالأولياء و الصالحين.

و إنّ الصفات الحسنة المذكورة في الآية المباركة من الصدقة و المعروف، و الإصلاح بين الناس، إذا كانت صادرة لابتغاء مرضاته تعالى و خالصاً لوجهه الكريم، كان ذلك مظهراً من مظاهر أسمائه، و يكون أدوم و أنفع للمجتمع - كما تقدّم - و إلّا فالأمر إضافي(1).

ص: 170


1- مواهب الرحمن، ص271 - 278، ج (9).

التوبة في القرآن

«إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا».

لما ختم سبحانه و تعالى الآيات السابقة بالتوبة، و بيّن أن بها تسقط العقوبة و الحدّ الشرعي، ذکر عزّ و جلّ في هاتين الآيتين الشريفتين حقيقة من الحقائق الإلهيّة التي امتاز بها الإسلام عن سائر الأديان السماوية، فبيّن عزّ و جلّ حكم التوبة و أنّها حقّ من حقوق العبد على خالقه و مربّيه، و قد وصف نفسه بالرحمة و ذكر شروط التوبة و مواردها التي تقبل من الإنسان، و الموارد التي لا تقبل.

كما بيّن عزّ و جلّ أن التوبة إنّما تكون وفق النظام الربوبي المتقن المبني على الحكمة و العلم.

و الآية من الآيات المتعدّدة التي ترغّب العاصين إلى هذه الموهبة الربّانية و تحرّضهم إلى التوبة قبل فوات الأوان. و إنما ذكر عزّ و جلّ هذه الحقيقة ضمن الأحكام الإلهية، لما لها من الأهمية الكبرى في

ص: 171

تربية الإنسان و هدايته إلى السعادة و الكمال، و لا تخلو الآيتان من الارتباط بالآيات الأخرى.

قال تعالى: «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ».

بيان الحقيقة من الحقائق الإلهية التي كشف عنها القرآن الكريم بما لم يكشف عنها كتاب سماوي آخر، فإنّه بيّن حقيقة التوبة و شروطها و مواردها و آدابها و آثارها. و يمكن اعتبارها بحقّ من التعاليم المختصّة بهذا الكتاب العزيز، و أنّها لم تكن بهذه الخصوصية في سائر الشرایع الإلهية، و قد اهتمّ القرآن المجيد بها اهتماماً بليغاً حتى ورد ذكرها فيه بما يزيد على ثمانين مورداً، و سمّيت سورة من سور القرآن المجید باسم التوبة.

و التوبة في نظر الإسلام من الأمور المعدودة التي لها جوانب متعدّدة، فهي عملية تربويّة تربّي الإنسان تربية دينية مبنيّة على الحقيقة دون الوهم و الخيال، كما أنّها عملية إصلاحية، تصلح النفوس الفاسدة و تهذّبها و تزكيها و تصلح المجتمع و تجعله في المسار الصحيح، كما أنّها فضيلة أخلاقية، و هي من أجلّ مكارم الأخلاق. و نحن ذكرنا ما يتعلّق بها في قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»(1)، فراجع الآية الكريمة.

ص: 172


1- البقرة، الآيتان 159 - 160.

و مادة (توب) تدلّ على الرجوع، سواء استعملت بالنسبة إليه عزّ و جلّ أم استعملت بالنسبة إلى العبد، قال تعالى: «ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا»(1)، و توبة اللّه تعالى على العبد هي الرجوع عليه بالرحمة و التوفيق و غفران الذنوب، و توبة العبد هي الرجوع إلى اللّه تعالی بالندامة و الانصراف عن المعصية.

و المستفاد من الآيات الواردة في هذا الموضوع أن توبة العبد محفوفة بتوبتين من اللّه تعالی:

إحداهما: التوفيق لها، لأن العبد محتاج بذاته و هو الفقير إليه عزّ و جلّ، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ»(2)، فإذا وفّقه اللّه تعالى للتوبة، تاب و رجع إليه عزّ و جلّ بالندامة و الانصراف عن المعصية.

الثانية: توبة اللّه تعالى عليه بالقبول و الغفران، فتكون مطهّرة للعبد ممّا أصاب نفسه بسبب المعصية من القذارات و النجاسات المعنويّة، فيحصل بها التقرب إليه عزّ و جلّ.

و (على) في قوله تعالى: «عَلَى اللَّهِ» تفيد اللزوم و الثبوت، و هو يرادف الوجوب، و إنّما وجبت التوبة لأنها من أفراد رحمته التي أوجبها على نفسه، قال تعالى: «كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ»(3)، و استعمال (على) في الوجوب و اللزوم كثير و لا ضير في ذلك.

ص: 173


1- التوبة، الآية 118.
2- فاطر، الآية 15.
3- الأنعام، الآية 54.

إلا ما يقال: من أن استعمال الوجوب بالنسبة إليه عزّ و جلّ أمر مستنكر، بل لا يصلح لأنّه لا سلطة على اللّه تعالی یوجب بها عليه، و لذا ذكر بعض المفسرين أن هذه العبارة و أمثالها التي هي ظاهرة في وجوب بعض الأشياء على اللّه قد جاءت على طريق العرب في التخاطب، و لا يفهم منه إلّا أنّه واقع لا محالة.

و لا يخفى أن ذلك تطويل لا طائل تحته، و ما ذكره أنّما هو تغيير في ظاهر اللّفظ، فلا مانع من إيجاب اللّه تعالى على نفسه أموراً تقتضيها حكمته المتعالية، و قد نطق بها القرآن الكريم و شهد بها العقل السليم من دون أن يكون لغيره سلطة عليه يوجب عليه شيئاً أو يكلّفه بتكليف، فإذا كانت التوبة من مصادیق الرحمة الإلهية التي وعد بها عباده، و اللّه لا يخلف الميعاد، فيجب عليه قبول توبة عباده من هذه الجهة أيضاً.

ثم إن إطلاق الآية الشريفة يشمل جميع أقسام التوبة من الفكر و الشرك و الضلال و أنحاء الفسق و العصيان، إلّا ما يستثنیه سبحانه و تعالى بعد ذلك.

نعم، تختلف أنحاء التوبة، ففي بعض المعاصي تكون بالإيمان باللّه تعالى، و في البعض الآخر تکون بأداء الحقوق، و في ثالث بإيقاع الحدّ، و في رابع باجتناب الكبائر، و في خامس بالطاعة و المواظبة على الصلاة، و قد ذكرنا جميع ذلك في مبحث التوبة، فراجع آية 160 من سورة البقرة.

قال تعالى: «لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ».

ص: 174

(للذين) خبر، و (التوبة) مبتدأ، و (على اللّه) متعلّق بما تعلّق به الخبر، و قيل غير ذلك،و (بجهالة) حال من فاعل (يعملون) و الباء للسببيّة، و (السوء) هو العمل القبيح الذي يسوء فاعله بارتكابه، و هو لا يليق به سواءً كان كفراً أم معصية كبيرة أم صغيرة، و (الذين) عام يشمل المؤمن و الكافر معاً، فالجملة تبيّن حالهما، لأنّهما معاً يعملان السوء. و (العمل) أعمّ من الجوارح أو عمل القلوب. و التعبير به - مع أن الكفر من أعمال القلوب - لبيان أن الكفر سيئة و منشأ للأعمال السيئة.

و الجهالة من الجهل مقابل العلم، و المراد بها إمّا عدم العلم بالموضوع أو الحكم أو هما معاً، قصوراً أو تقصيراً، و في الكلّ لا يتحقّق العصيان حتى يتحقّق موضوع التوبة، لأن مقتضى ما هو المتواتر بین المسلمين عن نبيّنا الأعظم صلی اللّه علیه و آله و سلم: «رفع عن أُمّتي ما لا يعلمون»، عموم الحكم لجميع أفراد عدم العلم. إلّا أن يدعى الانصراف عن مورد التقصير، كما عن جمع من العلماء من تحقّق العصيان في الجهل التقصيري، و هو مقتضى ظاهر بعض الأخبار أيضاً، فلا تكون الجهالة في المقام بهذا المعنى بلا إشكال.

أو المراد بالجهالة في المقام فعل كلّ ما لا ينبغي صدوره عن العاقل المتوجّه إلى نفسه و العارف - ببصيرته - ما فيه صلاحه عن ما يسوؤه، كما في قوله تعالى حكاية عن يوسف علیه السلام: «قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ»(1)، فما يصدر حينئذٍ عن الفرد

ص: 175


1- يوسف، الآية 89.

إنما يكون من داع نفساني غالب على ما تقتضيه القوة العاقلة، فيكون مغلوباً لنفس أمّارة و داعية شهويّة أو غضبيّة، و غواية الشيطان الذي يمني الإنسان بالسوء و حبّ العاجل و التغاضي عن الجزاء، فإن جميع ذلك توجب الغفلة و الوقوع في الجهالة، فيغفل عن وجه قبح الفعل و ذمّه مع كون الفاعل إنّما يفعل عن علم و إرادة، و على هذا تكون الجهالة قيداً توضيحياً، لكلّ معصية تصدر عن الهوى، و غلبة الشهوى و الغضب، فتكون صادرة عن الجهالة، و لذا لو سكنت ثائرة الغضب و خمد لهيب الشهوة و رأى جزاء عمله عاد إلى العلم و زالت الجهالة و ندم على فعلهن و ممّا ذكرنا يظهر السرّ في قوله صلی اللّه علیه و آله و سلم: «کفی بالندم توبة».

هذا إذا لم يكن صدور الذنب عن المكابرة للحقّ و عناد معه، و إلّا فإن ذلك يرجع إلى خبث الذات و رداءة الفطرة، و معهما لا يرجع إلى الحقّ بالتوبة و يستمر على ذلك طول حياته، إلّا إذا لحقته العناية الربّانية فيرجع عن عناده و لجاجته و تلحقه الندامة، و في غير هذه الحالة لا يكون المعاند نادماً، و إن أظهر الندامة فإنّما يكون لحيلة يحتالها لنفسه فراراً عن الجزاء و نحوه، و يدلّ عليه رجوعه إلى غيّه و لجاجته لو ارتفعت الضرورة، كما قال تعالى: «وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ»(1).

و ممّا ذكرنا يظهر أن القيد يمكن أن يكون احترازياً أيضاً، فيكون المراد به أن لا يكون الذنب عن عناد و لجاجة و استعلاء على اللّه تعالى،

ص: 176


1- الأنعام، الآية 28.

و يشهد لذلك عدم تقييد عمل السيّئات بالجهالة في الآية التالية، فإن المنساق منها هو التعمّد و التجبّر على اللّه تعالى، كما يشهد قوله تعالی: «وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ»، فالحالة التي تكون بين الموت و عمل السيّئة على أقسام:

الأول: أن يكون مبادراً إلى التوبة بعد عمل المعصية، فهذا تقبل التوبة منه.

الثاني: أن يكون بانياً على الطغيان و العصيان إلى أن يحضر بعض علامات الموت فيتوب حينئذٍ، و المنساق من الآيات الشريفة عدم قبول التوبة حينئذٍ، قال تعالى: «فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ»(1)، لأنّ التوبة إنّما تقبل في ظرف اختيار العبد و تمشّي القصد الجدّي منه، و هو لا يتحقق في وقت ظهور علامات الموت و ورود الإنسان في الإشراف على أول منازل الآخرة و هو البرزخ، إذ لا اختيار له.

الثالث: ما إذا كان بانياً على التوبة بحسب الفطرة، ولكن تساهل فيها لغلبة الشهوات الدنيوية، حتى إذا حضر بعض علامات الموت التي لا تسلب الاختيار و يتحقّق منه القصد الجدّي في الطاعة و المعصية و يترتّب عليهما الآثار الشرعية و العرفيّة فتاب عن قصد، فحينئذٍ تقبل التوبة إن كانت جامعة للشرائط، كما تقبل وصيته، قال تعالى: «كُتِبَ

ص: 177


1- غافر، الآيتان 84 - 85.

عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ»(1)، و الروايات الدالّة على قبول التوبة حتى إذا بلغت النفس الحلقوم تختصّ بهذه الصورة، فتقبل التوبة لتحقّق موضوعها.

و بالجملة: بعد إرجاع بعض الآيات إلى بعض يستفاد منها أن عدم قبول التوبة إمّا لأجل عدم تحقّق الموضوع، كما في صورة العناد و اللجاج، أو لأجل عدم تحقّق ظرفها و هو الاختيار و القصد للطاعة و المعصية، و نرجو منه جلّت عظمته أن يدخل عباده في قوله عزّ شأنه في القدسیات: «اغفر و لا أُبالي».

و قد ظهر من جميع ذلك أن الاحتمال الأول و هو كون القيد احترازياً، و إن كان أوفق للقواعد، فإن المعروف أن الأصل في القيود أن يكون احترازياً إلّا أن كونه توضيحياً أوفق لسعة رحمته.

قال تعالى: «ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ».

القريب من الأمور الإضافية و له مراتب كثيرة، و قد استفاد العلماء من هذا اللفظ الفورية العرفية في التوبة، و هي في نفسها حسن، لأن العصيان حجاب بين العبد و المعبود و درن للروح، و العقل يحكم بإزالة الدرن و النجاسة عن اللّباس و البدن فضلاً عن الروح، و هذا لا ينافي أن تكون الجملة إشارة إلى المسارعة و عدم

ص: 178


1- البقرة، الآية 180.

التساهل، فيكون المراد من القريب الزمان القريب قبل ظهور الموت و بروز آیات الآخرة، بحيث لا يعدّ تساهلاً في أمر التوبة حتى تفوت الفرصة بحضور علامات الموت.

و بالجملة: المراد من قوله تعالى: «مِنْ قَرِيبٍ» التوبة في عهد قريب من قبل أن تموت الشهوات و تسقط دواعي المعصية، بل تكون في حال صراع النفس مع القوة العاقلة، فترغم النفس الأمّارة و يقلع عن المعصية ندماً، و يرغب في الطاعة شوقاً إلى رضاء اللّه تعالى و طلباً لعفوه و غفرانه، و يؤدّي حقوق الناس و حقوق اللّه سبحانه و تعالى لو كانتا عليه، ففي كلّ وقت صحّ إبراز ما في الضمير و الإرادة الجدّية من القلب تقبل التوبة، كما عرفت آنفاً.

قال تعالى: «فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ».

أولئك اسم الإشارة الموضوع للبعيد، و هو مبتدأ و خبر جملة: «يتوب اللّه عليهم»، و عدّيت التوبة ب_(عليهم) لتضمّنها معنى العطف و الرحمة، أي: أنّه تعالى يعطف عليهم بقبول التوبة و يعود بالرحمة.

و إنّما أشار إليهم بالبعيد إعلاماً بعلوّ قدرهم و تعظيم شأنهم، لأنّهم تابوا على حقيقة التوبة، و التفريع بالفاء المفيدة لسببيّة ما قبلها لما بعدها، و لبيان أن قبول التوبة من مصادیق ذلك الوعد الذي قرّره تعالی في صدر الآية الكريمة.

قال تعالى: «وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا».

أي: أن اللّه تعالی عالم بحقيقة الحال، فيعلم شؤون عباده

ص: 179

و مصالحهم، و يعلم المخلص في توبته، حكيم في أفعاله، قد وضع التوبة وفق نظام محكم، فلا تغرّه ظواهر الأحوال و صريف الأقوال.

و إنّما ذكر هذين الاسمين لبيان أهمية الموضوع و أنّه تابع لعلمه الأتمّ و حكمته المتعالية، يضع التوبة في مواضعها و هو أرحم الراحمين.

قال تعالى: «وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ».

بيان لحال مَن لا تقبل توبتهم، و هم طائفتان:

إحداهما: لأجل عدم تحقّق موضوع التوبة منهم، و هم الذين يعملون السيئات دوماً و لا يتحقّق منهم الندم حتى إذا حضرهم الموت و انتفى أسباب العمل فلا داعي فيهم لعمل السيئات، لانقطاع آمالهم و موت شهواتهم، فلا تقبل توبتهم.

و إنما ترك عزّ و جلّ إعادة اسم الجلالة (على اللّه) لبيان انقطاع العناية الإلهية عنهم، و للإعلام بأن التوبة الصحيحة لا تقع منهم، لنفي موضوعها كما عرفت آنفاً.

و إنّما جمع عزّ و جلّ السيّئات و أفردها في الآية السابقة، و قال: «يَعْمَلُونَ السُّوءَ»، للدلالة على إحصاء سيئاتهم الكثيرة العديدة، و استمرارهم على فعلها و إصرارهم على التكرار، بلا فرق بين أن تكون السيّئة المكرّرة من أنواع مختلفة أو من نوع واحد، فإن التكرار يوجب التعدّد لا محالة.

ص: 180

قال تعالى: «حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ».

أي: حتى إذا حضر الموت برؤية علاماته لاهية قلوبهم، و الجملة تدلّ على استهانتهم بالتوبة و استحقارهم لموجبات الرحمة و المغفرة، فهم يدّعون التوبة حال العجز و لم تتحقّق حقيقتها عندهم، و لم ترغب نفوسهم عن الذنب، فإذا زال عنهم المهلكة عادوا إلى الذنب و رجعوا إلى المخالفة و العصيان، كما يخبر عن ذلك قوله تعالى: «وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا»(1).

قال تعالى: «قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ».

أي: أنّه في حال العجز و اليأس يردّد على لسانه التوبة في تلك الحال فقط، من دون أن يكون ذلك من حاق نفسه.

و الآية تدلّ على تحقّق التوبة اللّسانية مرّة واحدة بلا استمرار عليها، بخلاف الآية السابقة التي دلّت على الاستمرار المستفاد من هيئة المضارع في قوله تعالى: «ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ»، و هذه تؤكد ما ذكرناه آنفاً من أن التوبة منه ليست على الحقيقة، فإنّه التجأ إليها عند مشاهدة سلطان الآخرة و انقطاع أمله عن الدنيا بحضور الموت، و لذا ذكر عزّ و جلّ: «قَالَ إِنِّي»، و لم يقل: (تاب) و نحو ذلك، تحاشياً عن تسمية ما قاله توبة، و نظير ذلك قوله تعالى حكاية عن المجرمين: «وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ»(2).

ص: 181


1- الأنعام، الآية 28.
2- السجدة، الآية 12.

قال تعالى: «وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ».

بيان لحال الطائفة الثانية، و هم الذين يصدر عنهم الذنب عناداً و لجاجاً و استكباراً على اللّه تعالى، فلا توبة لهؤلاء، كما لا توبة لأولئك لأنّهم تمادوا في الكفر فماتوا و هم كافرون، فلم تصدر عنهم السيئات بجهالة، بل عن عناد و لجاج، فإذا مات الإنسان على هذه الحالة لا تنفعه التوبة و لا نجاة له بعد الموت، و قد أكّد القرآن الكريم ذلك في مواضع متعددة، قال تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ»(1).

قال تعالى: «أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا».

أي: أولئك الفريقان قد أعتدنا لهم و هيّانا لهم عذاب أليماً مؤلماً، جزاءً لأعمالهم السيئة التي قدّموها في دار الأعمال. و قد ذكرهم باسم الإشارة للدلالة على بعدهم عن ساحة القرب و العناية الربّانية.

ص: 182


1- البقرة، الآيات 160 - 162.

بحوث المقام

بحث دلالي

يستفاد من الآيات الشريفة أمور:

الأول: يستفاد من الحصر الوارد في قوله تعالى: «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ» أن التوبة من الأمور المختصّة به عزّ و جلّ، و من مظاهر ربوبيّته العظمى، و من مصادیق رحمته الواسعة التي وسعت كلّ شيء، و هو ردّ على كلّ مَن يدّعي أن هذا الأمر يمكن أن يتصدّيه بعض الأفراد، إمّا ولي من أولياء اللّه تعالى، أو الكنيسة كما في الديانة المسيحية التي اعترفت لها غفران الذنوب حتى بلغ من إفراط الكنيسة أنها كانت تبيع صكوك الغفران بعدما كانت التوبة في هذه الديانة من الأمور غير النافعة للإنسان، لأن المسيح علیه السلام فدّى بنفسه لأجل خلاص الإنسان، على ما هو المعروف عندهم.

فالآية الشريفة ردّ على جميع المزاعم، فإنّها صريحة في أن التوبة من شؤون الباري عزّ و جلّ، و أنّها محصورة عليه تبارك و تعالى لا شأن الأحد غيره فيها.

الثاني: تدلّ الآية الشريفة على فضل التوبة، و أنّها من مظاهر

ص: 183

رحمته عزّ و جلّ و فضله العظيم، و قد منَّ بها على عباده، و من المعلوم أنّه لا شيء يوجب رحمته عليه، ولكن لا ينافي ذلك وجوب هذا القسم من الفضل علیه بإيجاب من نفسه على نفسه لا من إيجاب غيره عليه، و قد ذكرنا ما يتعلّق بذلك في مبحث التوبة في سورة البقرة الآية 162.

و أما ما ذكره بعض المفسّرين من أن اللّه تعالی غیر مجبور في قبول التوبة، لأنّ له الأمر و المُلك يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد، و استدلّ على ذلك بقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ»(1)، و قوله تعالى، «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا»(2).

فإنّه يردّ عليه: أن اللّه تعالى قد وعد عباده بقبول التوبة - كما اعترف به هذا المستدلّ - و كلّ وعد منه عزّ و جلّ واجب الوفاء عليه، كما قال في كتابه العزيز: «إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ»(3)، و الآيات الشريفة التي استدلّ بها تدلّ على عدم قبول توبة المتمادي في الكفر، و هذا ما استثناه عزّ و جلّ من القبول في المقام أيضاً كما عرفت.

و كيف، فالآية الشريفة من الآيات التي تعتني بشأن العاصين، و تأمرهم بالتوبة من الشرك و الضلال و السيّئات و المعاصي كلّها.

ص: 184


1- آل عمران، الآية 90.
2- النساء، الآية 137.
3- آل عمران، الآية 9.

و للتوبة آثار عظيمة، فإنّها من سُبل الصلاح و التقوى، و تجلب السعادة و تزيل درن الشقاء و الرذيلة من القلب الذي هو محل الصلاح و الفساد معاً. و تصفي النفوس التي انکدرت بالعصيان، و تزيل الغشاوة عن القلوب، و ترفع الموانع عن طريق سير الإنسان نحو السعادة و الكمال، و تخلّص الناس من بوار الذنب و هلاك المعصية، و هي الوسيلة للفلاح، قال تعالى: «وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»(1).

و من آثار التوبة أيضاً أنّها تجعل قلب المذنب متعلّقاً بالرحمة الإلهية و تبعث روح الرجاء بعد انخماد نور النفس بظلمة الذنب، و تمحو الآثار السيئة التي تترتب على الحياة بسبب العصيان و عمل السيّئات. و الآية المباركة تعدّ البشارة العظمى للمذنبين.

ثم إن للتوبة مظاهر مختلفة كالندم، و الاستغفار، و الانقلاع عن المعصية، و إتيان الطاعة، و التلبّس بالعمل الصالح، و أداء الحقوق، و غير ذلك ممّا ذكره علماء الأخلاق، و تقدّم في مبحث التوبة، و هي تبدّل السيّئات بالحسنات.

الثالث: يستفاد من الآية الشريفة أن التوبة أمر اختياري، فإنّها رجوع إلى اللّه تعالى بعد البُعد عنه بسبب فعل السيئة و إتيان المعصية، بالدخول في سلك الطاعة و العبودية بعد الإعراض عنه عزّ و جلّ، و ذلك لا يتحقّق إلّا في ظرف الاختيار، و كون العبد مخيّراً بين طريقي الصلاح

ص: 185


1- النور، الآية 31.

و السعادة، و الطلاح و الشقاوة، و في غير ذلك فلا توبة له، لما يدلّ عليه ذيل الآية الشريفة.

الرابع: يستفاد من قوله تعالى: «بِجَهَالَةٍ» أن كلّ ذنب يصدر عن جهالة قابل للعفو و الغفران من اللّه تعالى، و بهذا القيد يخرج كلّ ذنب يصدر عن لجاج و عناد مع الحقّ و استكباراً على اللّه تعالى، و قد عرفت في التفسير أن الجهالة في المقام - و في باب الأعمال على العموم - هي الغفلة عن وجه قبح الفعل و فساده، لغلبة الشهوة و استيلاء الهوى، ولكن ذلك لا يسلب نسبة الفعل إلى الفاعل، لأنّه صدر عنه عن علم و إرادة، كما يسمّى الشاب قليل التجربة جاهلاً، لأجل غلبة العواطف و النزوات الشهوانية عليه.

و الخامس: يستفاد من قوله تعالى: «ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ» أن المؤمن إذا صدر عنه الذنب ينبغي أن يبادر إلى التوبة بعده و لا يسوّف في ذلك، فهو في صراع مع النفس الأمّارة، و توبة مستمرة يرجو رحمة ربّه، و هذا ينبیء عن حسن السريرة و شدّة الأمل باللّه تعالى، و لعلّ ما ورد في بعض الروايات: «طوبى لمن كان له تحت كلّ سيئة توبة»، إشارة إلى ذلك، و يستفاد من قوله تعالى: «ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ»، أولويّة التوبة من الذنب من ترك الذنب رأساً، فإن اللّه تعالى مدح التائبين من الذنب و أدخلهم تحت رحمته و قرّبهم إليه. و قال بعض العلماء: إن ترك الذنب مطلقاً أحسن و أولی من ارتكابه ثم التوبة عنه، لأن اللّه تعالی مدح هؤلاء بما لم يرد في غيرهم، و هم المختصّون لمقام العبودية التشريفيّة.

ص: 186

ولكن، يمكن اختيار الأوّل لكثرة ما ورد من الترغيب إلى التوبة كتاباً و سنّة، و قد ورد عن نبيّنا الأعظم صلی اللّه علیه و آله و سلم: «التائب من الذنب كمَن لا ذنب له»، فيصير التائب من الذنب مساوياً له من هذه الجهة، أي: عدم الذنب، و يكون تذلّله ممّا في نفسه عند ربّه لتصوّره لما صدر منه من المعصية موجباً لترجيح هذا المقام بنفسه عند اللّه تبارك و تعالی.

نعم، مَن عصمه اللّه من الزلل کالأنبياء و الأئمة الهداة علیهم السلام و الأولياء، لهم مقام خاص وهبه اللّه تعالى لهم.

و في حديث آخر: «لولا أنّكم تذنبون اللّه ثم تستغفرونه لذهب بكم، ثم يأتي بأقوام يذنبونه ثم يستغفرونه»، و هذا هو المطابق لما هو المتسالم بين أذواق المتألّهين من أن كلّ اسم من أسماء اللّه المقدّسة لا بد له من مظهر خارجي، و من أسمائه جلّت عظمته التوّاب و الغفور، و لا مظهر لذلك إلّا بعد الذنب و التوبة.

مع أن حالة الندامة و الاستحياء من اللّه تعالى من حالات العبد و أحسنها، و لا تتحقق تلك الحالة إلّا بذلك.

السادس: يدلّ قوله تعالى: «فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» على وعد منه عزّ و جلّ للمذنبين بقبول توبتهم، و هو لا يخلف الميعاد. كما أنه يدلّ على أن التوبة الصحيحة الجامعة للشرائط تمحو الذنوب و تزيلها.

السابع: يمكن أن يكون المراد من قوله تعالى: «حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ» موت الأمزجة و القوى، فمَن كانت معاصيه من سنخ أعمال الشهوة الجنسية و وصل إلى سن الأربعين مثلاً و ترك تلك

ص: 187

المعاصي لأجل عوارض عرضت عليه، فلا توبة له حينئذٍ، و كذلك سائر القوى، لأنّه لا توبة بعد انتفاء القدرة على ارتكاب المعاصي، و هذا الاحتمال و إن كان مخالفاً لما استفدناه من الآيات المباركة، ولكنّه احتمال حسن يوجب المسارعة إلى التوبة و الاستعداد لها في حال القدرة.

الثامن: إطلاق الآية الشريفة: «فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ»، يشمل التوبة من الشرك و جميع المعاصي، و يشمل أيضاً المؤمن و الكافر إذا تاب عن كفره، فيكون إسلامه توبة لما صدر عنه في حال كفره، لقوله صلی اللّه علیه و آله و سلم: «الإسلام يجب ما قبله» و أما توبته عن معصية فيها حقّ اللّه في حال كفره، مع بقائه على الكفر فيشكل قبولها.

نعم، إذا كان الذنب من حقوق الناس كالسرقة و إيذاء الناس و نحوهما، فأرضى الناس، سقط هذا الذنب منه لزوال موضوعه، و يمكن أن يستفاد ذلك من مفهوم قوله تعالى: «وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ»، أن توبة الكافرين في حال حياتهم مقبولة، إلّا أن يستظهر ذلك بخصوص إسلامهم.

التاسع: يستفاد من قوله تعالى: «وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ»، أن التوبة من اللّه تعالی تشمل العاصين من المؤمنين إذا استغفر لهم الأحياء و لو بعد مماتهم، بخلاف الكافر المعاند الذي مات على الكفر، بلا فرق بين أقسامه.

ص: 188

بحث روائي

في الكافي: عن جميل بن دراج، قال: سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول: إذا بلغت النفس هاهنا - و أشار بيده إلى حلقه - لم يكن للعالم توبة، ثم قرأ: «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ».

أقول: أراد علیه السلام بالعالم هو اللجوج المستكبر على اللّه تعالى، و إطلاق الآية الشريفة لا ينافي ما ذكرناه سابقاً، و يمكن أن يجمع بذلك بین ما ورد من عدم قبول التوبة حين ظهور علامات الموت، و ما ورد من قبولها حينها، بحمل الأوّل على العالم العامد المستكبر على اللّه تعالی کفرعون و نحوه، و الثاني على غيره.

و في تفسير العياشي: عن أبي عمرو الزبيري، عن الصادق علیه السلام قال: «كل ذنب عمله العبد و إن كان عالماً به فهو جاهل حین خاطر لنفسه في معصية ربّه، و قد قال في ذلك تبارك و تعالى يحكي عن قول يوسف لإخوته: «هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ»، فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية اللّه عزّ و جلّ

أقول: يشهد ذلك على ما قلناه في معنى الجهالة.

و في تفسير العياشي - أيضاً -: عن زرارة، عن أبي جعفر علیه السلام قال: «إذا بلغت النفس هذه - و أهوى بيده إلى حنجرته - لم يكن للعالم توبة، و كانت للجاهل توبة».

أقول: يشهد ذلك على ما جمعنا به بين الروايات آنفاً.

ص: 189

و في الكافي: عن محمّد بن مسلم، عن جعفر علیه السلام قال: «یا محمّد بن مسلم، ذنوب المؤمن إذا تاب عنها مغفورة له، فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة و المغفرة، أما و اللّه أنّها ليست إلّا لأهل الإيمان، قلت: فإن عاد بعد التوبة و الاستغفار في الذنوب و عاد في التوبة؟ فقال: يا محمّد بن مسلم، أ ترى العبد المؤمن يندم على ذنبه فيستغفر اللّه منه و يتوب ثم لا يقبل اللّه توبته؟! قلت: فإن فعل ذلك مراراً، يذنب ثم يتوب و يستغفر؟ فقال: كلّما عاد المؤمن بالاستغفار و التوبة، عاد اللّه تعالى عليه بالمغفرة، و إن اللّه غفور رحيم يقبل التوبة و يعفو عن السيئات، فإيّاك أن تقنط المؤمنين من رحمة اللّه».

أقول: ورد في بعض الروايات إلى سبعين مرة، و يشهد لذلك تحذير الإمام علیه السلام الراوي في ذيل الرواية، و يستفاد ذلك من قوله تعالى: «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»(1)، إذ المراد بالجميع الكثرة العددية، ثم إنّه قد ذكرنا الروايات الواردة في التوبة في مبحث التوبة، فراجع سورة البقرة الآية 160.

ص: 190


1- الزمر، الآية 53.

محبوبية التوبة

التذلّل لدى المعبود الحقيقي الجامع لجميع الكمالات غير المتناهيّة، و الاعتراف بالقصور و التقصير عنده، محبوبان لديه عزّ و جلّ. و العبودية التي هي غاية مقامات العارفين و أولياء اللّه المخلصين، متقوّمة بهما، فإنّه لا ريب في تحقّق الارتباط بين الممكن و الواجب، کالارتباط بين المعلول مع العلّة التامة، و المخلوق مع الخالق، و الأثر مع المؤثّر بلا فرق في ذلك بين المجرّدات و المادّيات و الأملاك و الأفلاك، فإن جميعها متعلّقة بالإرادة الأزلية حدوثاً و بقاءً و بزوالها ينعدم جميع ما سوى اللّه تعالى، و لا يبقى إلّا وجهه الواحد القهّار، ولكن الإنسان يرتبط مع اللّه جل جلاله بارتباطين:

الأول: الارتباط العام القهري، الذي يعمّ جميع الخلق و ما سواه تعالی.

الثاني: الارتباط الاختياري، أي: الطاعة و الامتثال و الانقياد، و هذا هو الأصل و الأساس في علاقة الإنسان مع اللّه عزّ و جلّ، فإذا زال يبقى الارتباط الأول، و هو يعمّ الجميع - الحيوان و الجماد - على حدٍّ سواء.

و الإنسانية إنّما تظهر في الارتباط الثاني، و لا يزول إلّا بالطغيان و العصيان، و حينئذٍ لا بد من التوبة و الرجوع إلى اللّه تعالى ليعود

ص: 191

الارتباط إلى ما كان عليه و تستكمل به الإنسانية، و تزول الشقاوة و تحلّ محلها السعادة الأبدية، إذ القرب من ينبوع الحكمة و العلم و الكمال المطلق يوجب بلوغ الإنسانية إلى الكمال و يتمّ به العقل و الدین، كما أن البعد عنه يوجب زوال ذلك كلّه، فللتوبة الحقيقية دخل في استكمال الإنسانية و الدين و العقل، و يكفي في فضلها أن فيها يتجلّى المبعود الأعظم للتائبين بقوله عزّ و جلّ: «وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»، فالعبد يعترف بما هو مَن زي العبودية، و المعبود يظهر بما هو من شأن الربوبية الواقعية، و لذا ترى أن أحبّ حالات المتعبّدين إلى اللّه تعالى هي حالة الاعتراف بالتقصير، كما هو واضح في الدعوات المأثورة عن الأئمة الأطهار علیهم السلام، لا سيما الصحيفة الملكوتية السجادية على صاحبها و منشئها علیهم السلام، و ليس الاعتراف بالتقصير مع عدم صدور ذلك عنهم كذباً، لأنّهم يعلمون أن تلك الحالة محبوبة للّه عزّ و جلّ و تقرّبهم إليه تعالى، و يعترفون بذلك في جملة من دعواتهم الشريفة، و هذا كاشف عن اشتياقهم إلى هذا المقام من العبودية.

ثم إن ظاهر الآية الشريفة: «وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ»، إنّما هو في الموت الطبيعي الذي هو مسير كلّ ذي حياة، و أما الموت الاختياري الذي هو غاية آمال العارفين و قرّة عين أهل التوقی و اليقين، فهو فوق التوبة بمراتب كثيرة إذا وفّق له وليّ من أولياء اللّه تعالی بشرطه و شروطه(1).

ص: 192


1- مواهب الرحمن، ص331 - 345، ج (7).

الصلاة و تزكية النفس

من أسباب تزكية النفس و رقيّها الصلاة، بل هي من أهمّها و أسماها - لما علم اللّه تعالى من وجود الشره المؤدّي إلى الهلاك و الخسران في الإنسان، جعل الطاعات و العبادات ۔ خصوصاً الصلاة صوناً للنفس و حفظاً لها عن الهلاك و الخسران، بل لرقيّها إلى مراتب الكمال، ففي الحديث: «ما افترض اللّه على خلقه بعد التوحيد شيئاً أحبّ إليه من الصلاة، و لو كان شيء أحبّ إليه من الصلاة تعبّد به ملائكته، فمنهم راكع و ساجد و قائم و قاعد»، فبها يزول الدنس كما في بعض الروايات، و إنّها مطهرة للقلوب من المساوىء و العيوب، و بها تفتح أبواب الغيوب، و بها تطمئن القلوب، و بها ترفع الدرجات، و فيها المناجاة برفع الأستار، و تتسع فيها ميادين الأسرار، و بها تشرق شوارق الأنوار، و بها تزال الحجب و الأستار بالقرب إليه، و بها تصفو المحبّة من کدر الجفاء و يتّصل المحبّ مع حبيبه في محلّ الصفا.

و لقد علم اللّه تعالى ضعف الإنسان و وساوس الشيطان، فقلّل أعدادها و فرض في ليلة المعراج خمس صلوات في خمس أوقات بشفاعة نبيّنا الأعظم صلی اللّه علیه وآله و سلم، و هذا لعوام الخلق، و إلّا فالعارفون من

ص: 193

لخواص: «الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ»(1)، منحهم ديمومة الصلاة من الأزل إلى الأبد، و هذا لا يدرك بالعقول القاصرة المشوبة بالمادة الزائلة، فلا يعقلها إلّا العالمون باللّه تعالی.

و إنّ المقصود و الأثر المطلوب من إقامة الصلاة معنويّاتها، لا مجرّد وجودها و شبحها، فإنّ الإقامة هي الإكمال و الاتقان، يقال: (فلان أقام داره)، أي: أكملها و جعل فيها كلّ ما يحتاج إليه. و إنّ إقامة الصلاة تعديلها من جميع الجهات - بالتوجّه فيها إليه تعالى و التقرّب بها لديه جلّ شأنه و حفظ أركانها و شرائطها حتى تترتّب آثارها - فليس كلّ مصلّ مقيم، و كم من مصل ليس له من صلاته إلّا التعب، و في بعض الأحاديث: «مَن لم تنه صلاته من الفحشاء و المنكر، لم تزده من اللّه إلا بُعداً»، و عن نبيّنا الأعظم صلی اللّه علیه وآله و سلم: «إذا صلّى العبد فلم يتم ركوعها و لا سجودها و لا خشوعها، لُفت كما يلف الثوب الخَلِق ثمّ يضرب بها وجهه»، فالمصلّون كثيرون و المقيمون قليلون و أهل الأشباح كثير و أهل القلوب و أرباب المعرفة قليل.

و التعبيرات الواردة في القرآن الكريم في مدح المصلين أكثرها و أغلبها جاء بلفظ الإقامة أو بمعنى يرجع إليها، قال تعالى: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ»(2)، و قال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: «رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ»(3)، و قال تعالى:

ص: 194


1- المعارج، الآية 23.
2- البقرة، الآية 3.
3- إبراهيم، الآية 40.

«وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ»(1)، و قال تعالى: «وَأَقَامَ الصَّلَاةَ»(2)، و لما ذكر المصلّين بالغفلة قال تعالى: «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ»(3)، و لم يقل سبحانه و تعالى: فويل للمقيمين الصلاة، و في الحديث: «إنّ العبد إذا قام إلى الصلاة رفع اللّه الحجاب بينه و بينه و واجهه بوجهه و قامت الملائكة من لدن منكبه إلى الهوّىّ يصلّون بصلاته»، إلى غير ذلك من الروايات و الأحاديث.

و التوجّه أو الخشوع فيها على مراتب:

الأولى: خشوع، خوف، إذلال و انکسار لعظمته و قهّاریته، و هي للعبّاد الزهّاد.

الثانية: خشوع، تعظيم و هيبة و إجلال، و هي للمتّقين الأبرار.

الثالثة: خشوع، فرح و سرور و إقبال، و هي للمقرّبين العارفین، و يسمّى هذا المقام بقرّة العين، قال تعالى: «فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»(4).

الرابعة: الجمع في مقام الجمع، و هذه تختصّ بالأولياء و المقرّبين، فيها تتمّ التصفية و تظهر المحبّة و تفتح الأبواب و يرتفع الحجاب، فتخرج الروح من ضيق الأشباح إلى فضاء الكمال في عالم الأرواح، أو من ضيق المُلك إلى سعة عالم الملكوت.

ص: 195


1- الحج، الآية 35.
2- التوبة، الآية 18.
3- الماعون، الآيتان 4 - 5.
4- السجدة، الآية 29.

و لا شكّ أن إمداداته و إفاضاته جلّت عظمته غير محدودة بحدّ و لا بزمان معین؛ لصدورهما عن ذات غير المتناهي.

نعم، ترد على العبد حالات خاصة و ظروفاً معيّنة يكون التوجه فيهما إليه أشدّ و أكثر، فلها آثار مخصوصة لنجح المقاصد و إنجاز المطالب، منها حالة الصلاة، خصوصاً عن الانقطاع إليه تعالی کالسفر و الخوف و المرض و غيرها، و لأجل ذلك ورد الاستعانة بها و قالوا: إنّ الصلاة لا تسقط في أي حال؛ لأنّه لا بد للعبد من حفظ الصلة بينه و بين ربّه، و بها تتمّ المحبّة و تحصل المودّة(1).

ص: 196


1- مواهب الرحمن، ص230 - 232، ج (9).

التقوى و تهذيب النفس

«لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا * إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا».

تتضمّن الآيتان الشريفتان على حكم تربوي إصلاحي له الأثر الكبير في تهذيب النفس، و توحيد صفوف المجتمع الإسلامي الذي طالما تمنّى الأعداء تقويضه باستعمال كلّ الأمور و الأساليب في إيجاد ثغرات ينفذون منها في تشتيت كلمتهم، و كان من أهم الأمور التي تفتّت عضد المسلمين و تشلّ قواهم و تهدّد كيانهم، و تقدح الفتنة بينهم، هي الأقوال السيئة التي تؤجّج البغضاء و العصبية، فإنّ ما يصدر من اللسان هو من أهم المؤثّرات في الإنسان، سواء أ كانت إيجابية أم سلبية، و قد ورد في الحديث: «و هل يكب الناس على مناخرهم في النار إلّا حصائد ألسنتهم»، أي: ما يقطعونه من الكلام الذي لا خير فيه.

و الآيتان الشريفتان تعالجان هذا الموضوع من جوانب متعدّدة، فمن جانب تثبت فيه حكماً شرعياً، و هو التحريم بأسلوب لطيف يجعل المؤمن يشعر شعوراً داخلياً بأنّ الأمر مكروه و له مخاطر عديدة على

ص: 197

النفس و المجتمع، فقال عزّ و جلّ: «لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ»، و يكفي للمؤمنين هذا الخطاب الربوبي في إثبات إحساس داخلي متّصل بالحي القيوم بالإئتمار بأوامره و الانتهاء عن نواهيه.

و من جانب آخر يثبت الموضوع السوء من القول و يعتبره من أفراد الظلم الذي تشمئزّ منه النفوس و تنفر منه الطباع و تنكره الفطرة، و تعميمه بحيث يشمل جميع أفراده قولاً كالبهتان و الشتم و السباب، أو عملاً كالهمز، و جميع ما يوجب إثارة الشحناء و البغضاء.

و إنّما خصّ عزّ و جلّ السيء من الأقوال العظيم أثرها في النفوس؛ و لأنّها الوسيلة الوحيدة في تضعيفها، و انتشاء السيء من الأفعال و منها ينفذ الأعداء، ثمّ يعالج الفرد الواقع منه في المجتمع بأسلوب تربوي يحدّ من انتشار أمثاله و يقلّل من تأثيره على الإنسان المظلوم، فأباح له مثل ما ظلم به من سيء القول، و لم يبح له أكثر من ذلك، فقال عزّ و جلّ: «إِلَّا مَنْ ظُلِمَ»، و أعطى الضمان عزّ و جلّ لهذا الحكم فقال عزّ من قائل: «وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا»، فإن اللّه تعالى يسمع أقوال الظالمين فيجازيهم عليها، كما يعلم شكاوي المظلومين و تظلّمهم، فأباح لهم التظلّم بإظهار ما ظلموا به.

و هذا الحكم و إن لوحظ في الجانب التربوي للتحديد من الظلم إلّا أنه لم يكن حاسماً للموقف، فحبّب إليهم الخير و اعتبره عزّ و جلّ هو الأصلح في هذا الموقف الذي لا بدّ من إزالة الشحناء و تطويق الخلاف، و اعتبره حكماً إصلاحياً للنفوس بالترويض على الخير و جعله

ص: 198

مستولياً على جميع مشاعرها، فلا يتقصر على الخير في حالة واحدة، بل من الأفضل تعميمه لجميع الحالات.

و خصّ من أفراد الخير العفو عن السيء كلّها؛ لأنه من صفات الباري عزّ و جلّ، و لأنّه يزيل ما أوجب کدر الصفو بين الأفراد، و يرجع الثقة بينهم، فتضمّنت هاتان الآيتان حكماً تربوياً إصلاحياً، و اشتملتا على خلق کریم نبيل هو من أخلاق اللّه عزّ و جلّ، و قد عرفت في التفسير أنّ هذا الخلق له الأثر العظيم في ما إذا كان عند المقدرة، دون العفو التابع من الذلّة، فإنّه ليس بتلك المثابة و لم يعد أن يكون خلقاً کریماً.

و تعلّق حبّه تعالى بأمر عقلي كقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ»(1)، يدّل على أنّ ذلك لا يختصّ بهذا الدين الحنيف، و إنّما يعمّ جميع الأديان السماوية؛ لأن محبّة المحسنين أمر فطري، و كذا عدم حبّه لشيء تبغضه الفطرة، فيكون قبح الجهر ممّا لا يختصّ بهذا الدين.

و إن قوله تعالى: «إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ» يمكن أن يكون إشارة إلى المراتب في العمل، فمَن كان قادراً على الإبداء و الجهر بأن صان نفسه عن المهالك - كالرياء و العجب و الغرور - يبدي في العمل، و إلّا فيخفي حفظاً عنها و صوناً عن الشوائب و المكائد الشيطانية.

ص: 199


1- البقرة، الآية 195.

بحث روائي

في تفسير العياشي بإسناده عن الصادق عليه السلام في قوله تعالی: «لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ»، قال: «من أضاف قوماً فأساء ضيافتهم، فهو ممّن ظُلم، فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه».

أقول: قريب منه ما في الدرّ المنثور، و معنى الرواية أنّه لا يجوز التعدّي عن ما لاقاه الضعيف من سوء الضيافة، فغاية ما يجوز له أن يقول مثلاً: (لم يحسن ضيافتي، أو أساء في ضيافته)، فإنّ ذلك نوع من الظلم الخُلقي، و من المعلوم أنّ للظلم أنواعاً، و لكلّ نوع مراتب، و في كلّ مرتبة درجات، و الرواية من باب ذكر أحد المصادیق كما هو واضح منها.

و في تفسير العياشي عن أبي الجارود عن الصادق عليه السلام: «الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ» قال: «أن يذكر الرجل بما فيه».

أقول: لا بدّ و أن يقيّد بما لم يكن من المستثنیات.

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: «لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ» قال: «لا يحبّ اللّه أن يجهر الرجل بالظلم و السوء و لا يظلم، إلّا مَن ظُلم، فقد أطلق له أن يعارضه الظلم».

أقول: المراد من ذيل الرواية بما لا يوجب التعدّي عليه أو ينافي الشرع، و إلّا فلا يجوز كما تقدّم، و في بعض الروايات: «إنّ اللّه تعالی جعل لكلّ شيء حدّاً، و جعل على مَن تعدّى الحدّ حدّا».

ص: 200

و في تفسير القمّي في قوله تعالى: «لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ» إن جاءك رجل و قال فيك ما ليس فيك من الخير و الثناء و العمل الصالح، فلا تقبله منه فكذّبه فقد ظلمك».

أقول: إمّا عدم القبول لعدم الحقيقة و نفي الواقع، و إمّا تكذيبه لإرشاده إلى الواقع، و المراد من قوله عليه السلام: «فقد ظلمك»؛ لأنّه قال فيك ما ليس فيك، فإنّه يوجب حبّ الثناء و المحمدة، و يعتبر ذلك عند علماء الأخلاق أُم الفساد و أصل المهلكات؛ لما يستلزم الغرور و صرف النفس عن نيل الكمال و البُعد عن الحقائق و الوقوع في المساوىء و الضلال، و ذلك ظلم کبیر.

و في المجمع: قال في الآية المباركة: «لا يحبّ اللّه الشتم في الانتصار، إلّا مَن ظلم، فلا بأس له أن ينتصر ممّن ظلم بما يجوز الانتصار في الدين».

أقول: الروايات الدالّة على أن اللّه تبارك و تعالى يبغض القول السيء أو الشتم كثيرة جداً، إلّا مَن ظلم بما يجوز في الدين، فلو حصل التعدّي أو ممّا لا يجوز في الدين، فلم يرخّصه الشارع.

و في الدرّ المنثور: «إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم قال: مَن دعا على مَن

ظلمه فقد انتصر».

أقول: ورد في الروايات المستفيضة أنّ دعاء المظلوم لا يرد، و أنّها تخرق الحجب السبع. و قد أخذ المظلوم حقّه ممّا يهبه سبحانه و تعالى له؛ و لذا انتصر.

ص: 201

و في بعض التواريخ يحكي عن ابن السكيت (رضوان اللّه تعالی عليه) معلم أبناء المتوكّل: جلس معه المتوكّل يوماً فجاء المعتز و المؤيد ابنا المتوكّل، فقال له: أيّما أحبّ إليك إبناي، أم الحسن و الحسين عليهما السلام؟ فقال ابن السكيت: و اللّه إنّ قنبر خادم علي عليه السلام خير منك و من ابنيك، فقال المتوكل العباسي: سلوا لسانه من قفاه، ففعلوا فمات، و من العجب أنّه أنشد قبل ذلك للمعتزّ و المؤيد.

يصاب الفتى من عثرة بلسانه *** و ليس يصاب المرء من عثرة الرجل

فعثرته في القول تذهب رأسه *** و عثرته في الرجل تبرأ على مُهل

أقول: لعلّ ابن السكيت رحمه اللّه رأى تكليفه في إظهار الحقيقة و الواقع، و علم أنّ المتوكّل أراد قتله على أي حال استعمل التقيّة أو لم يستعملها، و إلّا كان له الفرار من البلاء بذريعة التقيّة أو بغيرها و لم يتجاهر بعقيدته أو بالواقع؛ لقاعدة تقديم الأهمّ و هو حفظ النفس المؤمنة على غيره و هو المهمّ، أو هيّجه حبّه لأهل البيت عليهم السلام، و كيف كان فرضوان اللّه تعالى عليه.

بحث عرفاني

يمكن أن تكون الآية الشريفة: «لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ».

إشارة إلى ما تعرض على النفس من الحالات التي يتأثر المؤمن بها، كالتحدّث مع النفس في الخواص، سواء أ كان ذلك في العقائد أم في العوائد، و لا فرق في العوائد بين أن تكون نفسية باطنية - كحبّ

ص: 202

الجاه و الرياسة، و طلب الخصوصية، و حبّ المدح، و خوف الفقر و غيرها - أم ظاهرية، مثل كثرة المخاصمة و العتاب و غيرها «إِلَّا مَنْ ظُلِمَ» بداعي البشرية غير الاختيارية كالابتلاء بالاضطرار، و دفع الحرج و غيرهما، فما يعرض على قلب المؤمن من الأوهام التي يتألّم و يتأثّر بها بلا أثر خارجي لتلك الأوهام و يصير المؤمن مظلوماً، فلا عتاب عليه من المحبوب.

أو «لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ» بالخطرات التي تختلج على قلب أخصّ الخواص، فإنها توجب النزول عن سمو مقامهم - كما في بعض الروايات - لأنّ ما تمرّ على قلوبهم لها دخل في حطّ تقرّبهم لديه جلّ شأنه و إن لم يكن كذلك عند الخواص فضلاً عن العوام، فإنّ «حسنات الأبرار سيئات المتقرّبين»، و قال تعالى: «وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ»(1)، «إِلَّا مَنْ ظُلِمَ» بالمنع من التمتع بحضرة قدسه بشهود الجمال بالاشتغال في أمور العباد التي توجب هدايتهم إلى معرفة ربّ الأرباب، و نجاتهم من المهالك و الظلمات.

أو «لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ» بإفشاء أسرار الربوبيّة و إعلام المواهب الألوهية على مَن لا يليق بالتشرّف لساحة قدسه، و ران على قلبه، و تاه في الظلمات فعمى عليه معرفة الخير من الشر «إِلَّا مَنْ ظُلِمَ» بغلبات الأحوال من إظهار شيء من الحجّة و البرهان، لا بإفشاء الأسرار و رفع الحجب.

ص: 203


1- المجادلة، الآية 11.

و على أي حال، «كَانَ اللَّهُ» في الأزل و الأبد «سَمِيعًا» لأقوالكم و «عَلِيمًا» بأحوالكم و مقاماتكم. و «إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا» مما أفاض عليكم من النّعم و الحالات و ما وهب لكم من المكاشفات بترقّي النفوس إلى المقامات و وصلوها إلى أعلى الدرجات، «أَوْ تُخْفُوهُ» حفظاً عن الشوائب و صوناً عن المكائد «أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ» بترك إعلام ما جعل اللّه إظهاره سوءاً، أو تعفوا بما تدعوكم به النفس الأمارة بالسوء بأن لا تتّبعوها أو تصفحوا عن المسيء كما يصفح عنكم الجليل، «فَإِنَّ اللَّهَ» كان في الأزل و الأبد رحيماً، و بمقتضی رحمته كان «عَفُوًّا» عنكم لو اتّصفتم بمظاهر أخلاقه جلّ شأنه، «قَدِيرًا» على كل شيء، فإنه قادر على أن لا يعفو عن أحد و يذلّ عبده برده إلى نفسه و هواه و إيکاله إلى نفسه مع الاختيار و يؤاخذه لكفرانه، فإنّه «لَظَلُومٌ كَفَّارٌ»(1)، ولكن رحمته التي وسعت كل شيء، و محبّته لخلقه و رأفته لهم تقتضيان أن يعفو عن الجميع، فإنّه «يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا»(2)، و يعفو عن المسيء مهما توغّل في الظلمات و بَعُدَ عن ساحة قدس ربّ السموات.

ص: 204


1- إبراهيم، الآية 34.
2- الزمر، الآية 53.

معرفة النفس

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(1).

آية عظيمة في معرفة النفس و الرجوع إليها و تهذيبها بالأخلاق الفاضلة و تكميلها بالكمالات الحقيقية، فيأمر عزّ و جلّ المؤمنين رحمة بهم بأن يكون شغلهم الشاغل لزوم أنفسهم و النظر فيها و رفع نقائصها، و أن يصرفوا همهم في التخلية و التحلية ليتجلى لهم الرب فينبئهم بما عملوا و لا يضرهم عمل الغير و ضلاله إذا لم يكن قابلاً للهداية فلا يمنعكم ضلالهم إذا كنتم على هداية و لا يوحشكم فقدانهم، و قد بيَّن عزّ و جلّ في هذه الآية الكريمة مواقع النفوذ إلى النفس و التسلّط عليها و من ذلك يعلم وجه الارتباط بما سبقها من الآيات التي بيّنت بعض عيوب النفس و العادات السيئة التي كان عليها أهل الضلال، و هي من الأمثال القرآنية التي تضرب بها الأمثال.

قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ».

خطاب لأهل الإيمان لما فيهم من الأهلية للتخاطب معهم، و إن

ص: 205


1- المائدة، الآية 105.

لهم القابلية لمراعاة المضمون و الالتزام بالمقصود. و المراد بقوله «عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ» أي الزموها بالصلاح و التزكية و احفظوها من اقتراف المعاصي و ارتكاب الآثام.

فعليكم من كلم الإغراء و هو اسم فعل أمر، «أَنْفُسَكُمْ» على النصب مفعوله، و قرىء بالرفع فيكون الكلام حينئذ مبتدأ و خبراً أي الازمة عليكم أنفسكم.

قال تعالى: «لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ».

أعظم آية في بيان السلوك الذي يسلكه العارف و ينقطع إليه القاصد و يتحرّاه الميطع الواله، و من المعلوم أن الضلال و الاهتداء إنما هما من صفات الطريق المسلوك و ربما يتصف بهما السالك بالعناية، فلا بد للإنسان أن يسلك طريقاً فإما طريق الهداية و السعادة و العاقبة الحسنی التي بيَّنها عزَ و جلَ في حكم كتابه الكريم، أو طريق الضلال و الغواية و الشقاء و بالآخرة سوء العاقبة التي ذكر تعالی خصوصیاتها فقد قال تعالى: «وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ»(1)، و قال تعالى: «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا»(2).

و لا ريب أن من التزم طريق الاهتداء سواء قلنا بأنه الصراط المستقيم الذي ذكره عزّ و جلّ في الفاتحة و أمرنا بطلب الهداية منه و توفيقنا بسلوكه فتكون طرق الضلال هي السبل المنحرفة التي تتفرّق بنا

ص: 206


1- البلد، الآية 10.
2- الدهر، الآية 4.

عن سبيله، أو قلنا بأن الضلال و الاهتداء وصفان لطريق واحد، فمن لازم متن الطريق يوصله إلى المقصد و الغاية المطلوبة، و إن خرج عن مستواه كان ضلالاً فلا يصل إلى الغاية المنشودة و لا يدرك الكمال و السعادة المطلوبة، فمن لزمه نجا و من تقدّم أو تأخّر ضلّ و غوى.

الآية الشريفة تبين أموراً في هذا المجال:

الأول: أنه لا بد من طريق يسلكه الإنسان في حياته العملية و هناك طريقان طريق الهداية و طريق الضلال و كلاهما يرجعان إلى اللّه تعالى، كما ستعرف. و تأمر المؤمنين بلزوم أنفسهم بحملها على الطاعة و الانقياد إلى خالقها و الاعتناء بشأنها فلا يضيعوها باقتراف المعاصي و الآثام.

الثاني: أنه لا بد من غاية في هذا السفر و هي تختلف بحسب اختلاف أفراد الإنسان و الجميع يرغب في ثواب اللّه و إنما يناله المهتدون السالكون طريق الهداية و يحرم عنه الضالون السالكون طريق الضلال فالكل ينتهي إليه سبحانه و تعالى و عنده الغاية المقصودة إلا أن الطرق مختلفة، فبعضها يوصل الإنسان إلى الفلاح و السعادة، و آخر يضرب عليه الخيبة و الحرمان و يوقعه في الشقاء الأبدي و العناء الدائم، و تدل على ذلك آيات كثيرة، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ»(1)، فإذا كان الجميع سائرين إليه و أن الطرق لا بد أن تنتهي إلى ما عنده ولكن باختلاف الغاية كما عرفت، فلا بد للإنسان أن

ص: 207


1- الانشقاق، الآية 6.

يسعى في معرفة الطرق الموصلة إلى الغاية المنشودة و تمييزها عن غيرها من الطرق التي لا تنتهي إلا إلى الهلاك و البوار، و أن على المؤمن أن يشتغل بنفسه و يصلحها و لا يهمه ضلال غيره و ما هم عليه من المعاصي و الآثام فإنه كفى بنفسه شاغلاً، و قد تقدّم في قوله تعالى: «قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» ما يرشد إلى ذلك فإن العاقل اللبيب إذا رأى كثرة المعاصي و اهتمام الناس بالخيانة و هتك الحرمات يزداد ثباتاً في وجه الباطل و لا يشغله ذلك و إن كثر أفراد عن التمسّك بالحق و إن قلّ طلابه فإن الجميع سيحاسبون و تعطى كل نفس هداها، و قد قال عزّ و جل: «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ»(1).

الثالث: تطمين المؤمنين المشغولين بأنفسهم المشتغلين بإصلاحها و تهذيبها بالوصول إلى الغاية المرضية و أنه لا يصيبهم ضرر من غيرهم الضالين الذين عكفوا على الضلال و ارتكاب الآثام و الصد عن الحق فلا يتأثروا من ضلال هؤلاء و لا يوجب ذلك صرفهم عن أهم أمر في حياة الإنسان العملية و هو إصلاح النفوس.

الرابع: إن الآية الشريفة تدل بالدلالة الالتزامية على نهي المؤمنین من التأثر من ضلال الضالين المعاندين للحق الصادين لأهله فلا يحملهم ذلك على ترك طريق الهداية فينشغلوا بهم و ينسوا أنفسهم

ص: 208


1- البقرة، الآية 134.

و حينئذٍ يصيرون مثلهم ثم يتعذرون بأمور واهية و يتعلّلون بعلل فاسدة، و قد كان لهم في كل زمان أعذاراً، فطوراً كانوا يقولون بما حکی عنهم عزّ و جلّ: «وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا»(1)، و طوراً آخر يقولون إن الذي يبغون صار بالياً و أن المدنية الحاضرة لا تساعد على ذلك، و قد قالوا أموراً أخرى جميعها ترجع إلى النكوص عن الحق و الابتعاد عنه بوجه من الوجوه مع أن العهد الذي أخذ منهم إنما هو الدعوة إلى الحق بما أراده اللّه عزّ و جلّ و ما ورد في الشرع المبين، و إنما يتحقق ذلك بالطرق المتعارفة العادية التي فيها الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الجدال الحسن و غير ذلك من الأسباب المتعارفة، و أما تحقق المسببات فلا بد من إيكال أمرها إلى اللّه تعالى فليس المؤمن مأموراً بأكثر من ذلك و لا يجب عليه إهلاك نفسه في سبيل إنقاذ غيره، كما قال تعالى: «فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا»(2)، و غير ذلك من الآيات التي تنهي المؤمنين عن إيقاع أنفسهم في الحرج و المشقة و الضرر، و من ذلك يعرف أن هذه الآية الكريمة لا تنافي آيات الدعوة إلى الإيمان و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و كيف تكون منافية مع أن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الدعوة إلى اللّه من أهم طرق استكمال النفس و من شؤون الاشتغال بها؟! أ ليس ذلك من أحكام هذا الدين و من أهم أسسه و قواعده و أركانه، و قد قال عزّ و جلّ: «قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ

ص: 209


1- القصص، الآية 57.
2- الكهف، الآية 6.

أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي»(1)، و قال تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» بالشروط المطلوبة فيهما، من دون إيقاع النفس في المهلكة و الضرر فعند ذلك يسقط عنه هذا التكليف.

الخامس: إن الآية الشريفة تدل على أن نفس المؤمن هي الطريق الذي أمر بسلوكه و لزومه و التحفظ عليها أن تكون في طريق الهداية الذي ينتهي به إلى السعادة و الفوز بالفلاح، كما قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ»(2)، و هذه الآيات المباركة تبين كثيراً من الأمور التي تضمنتها الآية التي نحن بصدد تفسيرها و ترفع الإجمال الذي فيها و يستفاد منها أن النفس الإنسانية هي الطريق و قد اجتمعت في النفس الإنسانية علل متعددة و إن فيها يتحد الدال و المدلول و أن المقصد من هذا المسير الاستكمالي هو اللّه تعالى و لا بد من المراقبة التامة و التذكّر المستمر الجميع ما له دخل في هذا المسير، فعلى المؤمن أن يكون دائباً على ذکر به و لا ينساه فإنه المقصد و المرجع، كما عرفت فإن نسيان المقصد و الغاية يوجب نسيان الطريق فيفقد الأهلية للتزوّد بالزاد الذي يهنأ في حياه الأخرى، و من ذلك تعرف سر قوله تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ

ص: 210


1- يوسف، الآية 108.
2- الحشر، الآيات 18 - 20.

أَنْفُسَهُمْ». و لا ريب أن الاشتغال بالنفس لا يوجب نسيان الآخرين و مساعدتهم و معونتهم في أعمال البر كما قال عزّ و جلّ: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ»(1)، فإن المؤمن یری أن سعادة الآخرين من سعادته بل هي من صميم الدين الذي أمر المؤمنين بإقامته و هو يعتبر أن الإحسان إلى الآخرين من الإحسان إلى النفس، قال تعالى: «إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا»(2).

السادس: الآية الشريفة تأمر المؤمنين بلزوم أنفسهم إذا اهتدوا، و من المعلوم أن الاهتداء هو جعل النفس في المسير الاستكمالي الذي يطلبه اللّه تعالى و يرتضيه الشرع المبين، و أن عملية الاهتداء لا بد أن تكون مستمرة تامة صادرة من المؤمن الذي على ذكر و مراقبة النفس كما عرفت و هي تتحقق في الاعتقادات و الأعمال القلبية مع الأفعال الجوارحية، و بعبارة أخرى هو تطبق الأعمال الجوانحية و الجوارحية على الشرع و السير على ذلك مع المراقبة و الذكر، فالنفس هي الطريق و الأعمال هي الزاد، و الغاية و المقصد هو اللّه عزّ و جلّ كما تقدم، و هذا الطریق ضروري لا بد من أن يسلكه الإنسان في حياته مطلقاً مع اختلاف الأطوار التي يمر بها و يشترك في ذلك المؤمن و الكافر سواء كان على التفات أو على غفلة و عمي.

و الآية الشريفة تنبّه المؤمن على ذلك و إن كان أمراً تكوينياً لا بد

ص: 211


1- المائدة، الآية 2.
2- الإسراء، الآية 7.

منه، ليكون على التفات و مراقبة تامة للنفس لئلا تضل فتخرج عن الهداية و تغفل عن ذكر ربها فتكون من المنسيين فيتزوّد من الزاد الذي ينفعها في يوم الجزاء فلا يكون سعيها خائباً فتكون من الخاسرين.

فهذه الآية الشريفة من هذه الجهة لا تخرج عن تلك الآيات التي تدل على أن غاية الإنسان و مستقر أمره من حيث السعادة و الشقاء و الفلاح و الخيبة إنما تكون حسب الزاد الذي يتزوّد به في هذه الدار و ما يقدمه من صالح الأعمال أو طالحها، أو تقوى و فجور كما قال عزّ و جلّ: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا»(1)، و قال تعالى: «قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى»(2)، و غير ذلك من الآيات الواردة في هذا الأمر فهي و إن كانت تبين الجانب الوضعي للأعمال و هو ترتب الجزاء على ما يقدمه الإنسان من أعمال و معتقدات إلا أنها لا تغفل الجانب التكويني من الإنسان فهي تبيّن أن الإنسان هو المخلوق السويّ الذي لا يخرج عن وضع سائر المخلوقات من أنها واقعة تحت التربية الإلهية و إن اللّه تعالى هو القيوم عليها يحيطهم بعنايته و يكلؤهم برعايته و تربيته، فهو الرب العظيم المهيمن عليها لا يفوته

ص: 212


1- الشمس، الآيات 7 - 10.
2- طه، الآيات 123 - 126.

شيء منها، كما قال تعالى: «مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»(1)، و إن جميعها ترجع إليه، قال تعالى: «أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ»(2).

إلا أنه اختص الإنسان من بين سائر المخلوقات بأن عاقبته و مستقبل أمره إنما يكون تحت اختياره، فإما أن تكون الحسنى أو الخيبة و الخسران و ذلك بتزكية النفس أو دسّها بعدما ألهمه اللّه طريق الخير و الصلاح و ما يوجب الشر و الفساد فهو لا يخرج عن هذه الفطرة التكوينية في مسيره و لا يتخطّى عنها، إلا أنه لا بد من التنبّه التام و المراقبة الكاملة للنفس حتى لا تحيد عن الطريق الذي يوصله إلى المقصد العظيم و هو الفلاح الذي يطلبه بفطرته و يجتهد في مسيرته العملية كما عرفت، فهذه الآية الكريمة على إيجازها البليغ تشتمل على حقائق واقعية و مطالب عالية تكفلت بيانها عدة آيات أخرى متفرقة في مواضع أخرى من القرآن الكريم.

قال تعالى: «إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا».

بیان المقصد بعد بيان السالك و المسلوك، و هي حقيقة من الحقائق الواقعية التي لها دخل في الجانب التكويني من الإنسان كما عرفت سابقاً و في الجانب الوضعي التشريعي منه فإن الإنسان بعدما علم أنه في حياته سائر في مسيرة لا بد من أن يقطعها من أول تكوينه إلى أن

ص: 213


1- هود، الآية 56.
2- الشوری، الآية 53.

ينتهي إلى ربه كما قال عزّ و جلّ: «وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى»(1)، و هذا الطريق مما لا مناص للإنسان عن سلوكه و يشترك فيه جميع أفراد الإنسان مطلقاً، و لا ريب أن بيان الطريق و السلوك و السالك يكفي في تعيين المقصد و المنتهى إذ أن كل طريق له بداية و نهاية، لكن ذکر المقصد فيه خصوصية خاصة لا يمكن درکها في بيان تلك الأمور فإن السالك إذا تنبّه إلى حقيقة موقفة من اللّه تعالى و أن له ميزة خاصة لم تكن لسائر المخلوقات حصل له حالة خاصة يشعر فيها أنه منقطع عن ما سواه مما يحيط به و يتوجه إلى بارئها المدبر لها المحيط بها إحاطة علمية قيومية و سائرة تحت ربوبيته العظمى على خلقه و إن هذه الإحاطة التامة التي يشعر بها الفرد المؤمن لكفيلة له بأن ينقطع على ربه و يخلو بنفسه و يخلصها مما يشينها عند ربها و يهذبها و يكملها بما يزينها إذا رجعت إلى اللّه تعالى فلا يغفل عنها لحظة، و لعل هذا هو السر في إتيان المقصد و التوجه إليه بعد قوله تعالى:«عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ»، و عندئذٍ يسطع عليها نورٌ من اللّه بقدر أن يخرج من الظلمات ليدفع به ظلمات الناس المضلين، و ظلمات المعاصي و الآثام كما بين عزّ و جلّ في قوله: «أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا»(2)، و حينئذٍ يدرك تلك الحقيقة الواقعية و تشعر النفس بحقيقتها و تدرك ما عليه و تهجر كل ما يوجب الظلمات و تهاجر أهل الشرك و الكفر و تدخل في مقام العبودية

ص: 214


1- النجم، الآية 42.
2- الأنعام، الآية 122.

و تستعد لدرك مقام التوحيد و تبعّد عنها ما ينافي الوحدانية و تنتهي إلى تکمیل النفس بالكمالات الواقعية و تزيل عنها النقائص بعد أن أشرق عليها النور الرباني و أدركتها العناية الإلهية، و هذه المقامات هي حقائق قد لا يدركها الحس إلا أن النفس تشعر بها بأسبابها الخاصة و كيف يمكن أن تدركها الحواس و قد ركنت إلى المادة و خلدت إلى الأرض و أحبت الدنيا التي هي دار اللعب و اللهو فلا يمكن لها أن تدرك إلا الزخارف المادية التي استوعبت جميع مشاعر الإنسان، و قد قال عزّ و جلّ: «ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ»(1)، لكن الغور في فهم معاني القرآن و الغوص في بحر دقائقه و رموزه يكشف لنا أن وراء ذلك عالماً فسيحاً جداً لا يمكن الوصول إليه و لأدرك حقائقه إلا بالرجوع إلى النفس و لزوم مراعاتها و درك حقائقها و دوام مراقبتها و جعلها في المسلك الذي عيّنه اللّه تعالى و التنبّه التام للمقصد الذي ترد عليه و الوقوف عنده فهناك تظهر الحقائق و تتبين آثارها و يتم التصديق بها و لا يمكن التغاضي عنها و الرجوع إلى غيرها و عندئذٍ يتبين حقيقة قوله تعالى: «إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا» و سر الرجوع إليه عزّ و جلّ.

قال تعالى: «فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ».

وعد و وعيد للفريقين اللذين مرّ ذكرهما في ابتداء الكلام، فهو عزّ و جلّ المرجع الذي يرجع إليه في استخبار حال الفريقين فينبئهم بحالهما

ص: 215


1- النجم، الآية 30.

من الثواب و العقاب بما كانوا يعملونه في الدنيا من أعمال الهداية و الضلال فلا يؤاخذ أحد بعمل غيره عقاباً أو ثواباً.

و مما ذكرنا يظهر أن هذه الآية الكريمة من أعظم الآيات في طريق السير و السلوك و أهمها في بيان أركانه من المسلك و المقصد و الغاية و السالك و قلنا تبين الآية اتحاد المسلك و السالك و اجتمع العلّة المادية و الفاعلية التي هي النفس و إن مضمونها من الحقائق التي لها من العمومية و الحيطة التي تشمل جميع الأفراد و تضم جميع الأزمان فلا يختص بزمان دون آخر، فما ذكره جمع كثير من المفسرين في حصر هذه الآية و أن عصرها لم يأت بعد، أو لم يجيء تأويل لها حتى هذا اليوم، أو أن مضمونها من المغيبات التي لا يظهر تأويلها إلا بعد عصر التنزيل. فإن جميع ذلك لا دليل عليه و إنما هو تجريد للآية عن المعنى المقصود و تأويلها بالرأي و اللّه العالم و هو المسدد للصواب.

ص: 216

بحث الإرادة

من المباحث المهمّة في الفلسفة الإلهية و الحكمة المتعالية مبحث الإرادة، التي لها ارتباط وثيق بمواضيع متعدّدة في جملة من العلوم، و قد شغلت قسطاً وافراً من الكتب الفلسفية و الكلامية و غيرهما، فإنّ بحث الجبر و الاختيار في الإنسان يرتبط بالإرادة، كما يرتبط بالإرادة الإلهية مباحث حدوث العالم و قدمه و اختياره تبارك و تعالى و غير ذلك، و نحن نذكر في هذا البحث تعريف الإرادة، و ما يتعلّق بإرادة الإنسان و إرادته جلّت عظمته، و بيان حقيقتها، و أقسامها، و أسباب فعله عزّ و جلّ، و الفرق بين المشيئة و الإرادة، و ارتباطها بعلمه عزّ و جلّ، ثم مبحث اتحاد الطلب مع الإرادة.

تعريف الإرادة:

الإرادة: من الأمور الوجدانية لكلّ ذي إدراك و شعور - إنساناً كان أو حيواناً - حتى لقد عرّف الحيوان المطلق بأنه جسم نام متحرك بالإرادة، فهي من لوازمه التي لا تنفكّ عنه، بل قد أثبت بعض قدماء الفلاسفة الإرادة في النبات، و لا يبعد ذلك على نحو الجملة و الإجمال كما ستعرف.

ص: 217

و كيف كان، فقد فسّروا الإرادة بوجوه: فمنهم مَن فسّرها بالقصد، و استدلّ بالتبادر.

و منهم مَن فسّرها بالطلب.

و أُشكل عليه بأنّه مبرز للإرادة نفسها.

و منهم مَن فسّرها بالميل الذي يعقب اعتقاد النفع.

و قال بعض المحدّثين: إنّها تصمیم واعٍ على أداء فعل معین، باعتبار أنّ التصميم هي الإرادة النافذة، و الإرادة بلا تصميم نيّة مؤجّلة.

و قال بعضهم: إنّ الإرادة هي الرغبة التي ترافق الفعل إلى أن تبلغ به إلى الغاية.

و الحقّ أن هذه التعاريف لا تخلو من مناقشة واضحة، فإنّ الإرادة غير الميل، بل هو في مقدّماتها، و التصميم إرادة مؤكّدة. ولكن ممّا يسهل الخطب أنّ الإرادة من الأمور الوجدانية التي تتداخل مقدّمات حصولها بعضها مع بعض، بحيث يصعب التمييز بينها، و لأجل ذلك اختلفوا في تعريف الإرادة، فإنّه قد يختلط بينها و بين المقدّمات التي هي الإدراك و توجّه النفس و العزم، أي: التصميم، و تصوّر الغاية الذي به يتميّز الإنسان عن الحيوان، فإنّهما ذوا شهوة كشهوة الطعام و الشهوة التناسلية، و هي تدفع الحيوان و الإنسان إلى الفعل، ولكن الحيوان لا يفعل ذلك متعقّلاً كالإنسان.

ص: 218

إرادة الإنسان:

لا شكّ أن المخلوقات بالنسبة إلى الإرادة على أقسام:

الأول: تلك المخلوقات التي تخلو عن الرغبة و الشهوة كالحيوانات الدنية - كالديدان و الهوام و النباتات - فإنّ هذه تفعل و تسعى إلى الفعل لأجل الحاجة، لا الرغبة و الشهوة، فإنّ تغلغل جذور النبات و تفرّع فروعها في الهواء و اتجاه أوراقها إلى الشمس و نمو أصلها، كلّ ذلك صادر عن حكم الحاجة إلى الغذاء، بل يفعل بمقتضى الطبيعة فيها، نظیر صدور الأفعال الحتميّة الصادرة في الحيوانات العليا، كالتنفّس و النبض و التثاؤب و النوم و نحو ذلك، فهذه كلّها تصدر عن الحاجة و الطبيعة دون الإرادة.

نعم، قد يشتبه الأمر، ففي بعض الحيوانات و النباتات تصدر الأفعال عن رغبة و شهوة ملحّة، و لعل من قال من الفلاسفة: إنّ بعض النباتات فيها الإرادة، كان نظره إلى خصوص هذا الأخير فقط، و إلا ليس كل حيوان فضلاً عن النبات ذا رغبة أو شهوة تتقوّم بها الإرادة.

الثاني: المخلوقات التي لها الإحساس و الشهوة - كالحيوانات - فإنّها تفعل الأفعال بإرشاد الغريزة و الشهوة المجرّدة عن الرغبة و إرشاد العقل و التعقّل، فهي أيضاً لا تكون ذات إرادة إلا إذا صحّ إطلاق الإرادة على المقدّمات، فتكون الحيوانات حينئذٍ كلها ذوات إرادة.

الثالث: المخلوقات التي لها الإحساس و الشهوة و الرغبة و الإدراك كالإنسان، فإنّه يفعل فعله بحثّ من الشهوة و الرغبة و إرشاد من

ص: 219

الإدراك، فهو يفعل و يفهم أنّه يطلبه، بخلاف الحيوان فإنّه يسعى حين تلحّ عليه الحاجة و متى زالت هدأ و سكن، و لا يدرك تلك الحاجة.

و أمّا الإنسان، فهو يفهم و يرغب في السعي و لو كانت الحاجة في حين الفعل منتفية.

ولكن يمكن أن يقال: إنّ من ذهب إلى وجود الإرادة في الحيوان، أراد بها بعض مقدماتها. و من نفي عنها الإرادة إنّما نفى الإرادة الثابتة في الإنسان، و بذلك يمكن أن يجمع بين الآراء و الكلمات.

الرابع: المخلوقات التي لها التعقّل و الإدراك الكامل، فإنّها تفعل عن تعقّل کامل من دون شهوة وقتيّة كالملائكة، فإنّ فيهم الإرادة الكاملة لما يريدون أن يفعلوه في عالمهم.

و من ذلك كلّه يعلم أنّ الإنسان هو الفرد الكامل الذي اجتمعت فيه مقدّمات الإرادة، فهو الحيوان الحسّاس المتحرّك بالإرادة، ولكنّه قد يغفل عن الإرادة، فلا يلتفت إليها حين توجّه نفسه إلى المراد، بل يكون تمام توجّهها إلى نفس المراد فقط.

و إرادة الإنسان مسخّرة تحت إرادة اللّه تعالى القهّارة، و لا استقلال لها بوجه من الوجوه، ففي بعض القدسیات: «يا ابن آدم تريد و أريد، و أتعبك في ماتريد ثم لا يكون إلا ما أريد»، و عن سيد العارفین علیه السلام: «عرفت اللّه بفسخ العزائم و نقض الهمم»، و هذا غير مورد الجبر الباطل؛ لأنّ مورده نفي الإرادة، و المقام من تخلّف المراد عن الإرادة.

ص: 220

حقيقة الإرادة:

عرفنا أنّ الإرادة من الأمور الوجدانيّة التي يعرفها كلّ فاعل مختار، و من له إدراك و شعور، و لها مقدّمات، و تسمّى مقدّمات الفعل أيضاً، و هي: الإدراك، و توجًه النفس، و العزم، و تصوّر الغاية، و القدر و القضاء، و الإرادة هي الجزء الأخير من تلك المقدّمات.

و في الفلسفة الحديثة: إنّ الإرادة خاصيّة مستقلّة عن المؤثّرات و الظروف الخارجيّة، ولكن للفطنة و الحكمة سلطة عليها، التي تصدر الحكم الذي تبلّغه الإرادة إلى القوى الفاعلة، فتكون الإرادة هي الأمر بالعمل أو النهي عنه.

و هذه هي المسألة المعروفة التي ذكروها في علم الأصول، و هي اتحاد الطلب و الإرادة، و سيأتي موجز الكلام فيها.

فالإرادة: جهد نفسي و عملية ذهنيّة يقوم عليها الصمود و رباطة الجأش، بل قال بعض الفلاسفة: إنّه لا إرادة حيث لا استطاعة. و قد ذهب بعض المادّيين إلى أنّ الإرادة ثمرة المعرفة و التجربة و التربية.

و بعبارة أخرى: أنّ الإرادة الإنسانيّة ليست غير ما تمليه قوانین الطبيعة و المجتمع، و هذه طريقتهم في تفسيرهم لكلّ الأمور في هذا العالم.

و ما أبعد مقالة هؤلاء عمّا يقوله بعض الفلاسفة الرواقيين من أنّها أساس المعرفة و السلوك، ولكن لا يمكن إنكار تأثر الإرادة الإنسانيّة بما يحيط بها من البيئة و المجتمع.

ص: 221

و الإرادة هي الدافع الرئيسي و العامل النفساني الأوّل في الفعل الإنساني و ما يصاحبه من الانفعالات. و في الإسلام تعتبر الإرادة من أهمّ مقومات الجزاء، و هي محور الأخلاق و السلوك، و سيأتي في بحث إرادة اللّه تعالى أنّ نظام الكون يتقوّم بإرادته عزّ و جلّ و حينئذٍ يحقّ لنا أن نقول إنّ أساس الكون هي الإرادة، سواء إرادته عزّ و جلّ أم إرادة المخلوق في تنظيم النظام و صدور الأفعال.

و لا بد لكل إرادة من متعلّق و هو المراد، و بها يفترق العمل الإرادي عن اللاإرادي، و تختلف الإرادة حسب اختلاف المتعلّقات، فلا يمكن حصر أقسامها. ولكن ذهب بعض الفلاسفة إلى تقسيم الإرادة إلى أربعة أقسام، التي هي أصول كلّ إرادة، و هي:

إرادة الحياة، و هي الجهد الذي يبذله كلّ فرد للحفاظ على صورة الحياة، و بها يحقق كلّ كائن نموذج نوعه، و هي غريزة من الغرائز التي لا ترتبط بالشعور و الرأي.

إرادة القوة: و هي الصراع لأجل الوجود، الذي يكون الدافع الحقيقي للتطوّر.

إرادة الخير: و هي استعداد الفرد لبذل أفضل ما يطيقه من جهد الفعل الخير، و هذه الإرادة هي التي يقاس بها الإنسان الخيّر عن غيره.

إرادة الاعتقاد: و هي التي تميّز الاعتقاد الصحيح عن الفاسد، و التسليم بمعتقدات و اختيارها لما يترتّب عليها من منافع عمليّة.

هذه هي أقسام الإرادة كما ارتآه بعض الفلاسفة.

ص: 222

ولكن المناقشة في هذا التقسيم واضحة، فإنّ بعضاً منه - کالقسم الأوّل - يرجع إلى الغريزة و الفطرة، و الإرادة بمعزل عنها. و البعض الآخر هو من مجرّد الأمثلة، فلو كان المناط على ذلك لوجب ذكر كلّ ما يتعلّق به الإرادة. و ممّا يهون الخطب أنّه مجرّد اصطلاح منهم، و لا ضير في ذلك.

نعم، الأمر الذي لا يسع لأحد إنكاره هو أن الإرادة قد تضعف و قد تشتدّ حتّى تصل إلى حدّ التصميم و العزيمة، و قد ورد في القرآن الكريم بعض الموارد التي عبّر عنها بأنّها من عزائم الأمور، و هي التي لا بد فيها من إرادة قويّة و حزم و جزم قال تعالى مخاطباً لنبيّه صلی اللّه علیه و آله و سلم: «وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» (سورة آل عمران، الآية 159)، و قال تعالى: «وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» (سورة آل عمران، الآية 186).

إرادة اللّه تعالی

لا ريب و لا إشكال في ثبوت الإرادة له عزّ و جلّ، و قد دلّت الأدلّة الأربعة عليه، فمن القرآن الكريم آيات كثيرة، منها الآيات التي تقدّم تفسيرها، و منها قوله تعالى: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» (سورة البقرة، الآية 185)، و منها قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ» (سورة الحج، الآية 14)، و منها قوله تعالى: «إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (سورة النحل، الآية 40)، و غير ذلك ممّا هو كثير.

ص: 223

و أما السنّة فسيأتي نقل بعضها.

و أما الإجماع، فقد أطبق أرباب الملل و النحل بل جميع العقلاء على ثبوتها له عزّ و جلّ.

و من العقل حكمه البتّي بأن اللّه تعالى عالم حکيم في أفعاله، و هما يقتضيان الفاعليّة بالإرادة و الاختيار، فليس جلّ شأنه من قبيل الفاعل الموجب، و كلّ من كان كذلك لا بد و أن تكون له إرادة؛ و لذا نری وجود بعض الممکنات، و حدوثها في وقت دون آخر، بل نری آثار إرادته في جميع الممکنات، و هذا الدليل يتمّ أيضاً حتى بناء على القول بأن إرادته تعالى إنّما هي الإيجاد و الإحداث، لأنّ العلم و الحكمة من مقتضيات الفاعليّة على وجه الاختيار، و هي الإرادة.

فما ذكره بعض العلماء من أنّ إثبات الإرادة اللّه عزّ و جلّ من جهة النقل دون العقل.

مردود، كما عرفت.

و أمّا السنّة، فقد وردت أخبار كثيرة في شرح كلتا الإرادتين - إرادة الخالق تعالى و إرادة المخلوق - و نحن نورد جملة منها، و نذكر ما يستفاد منها.

ففي الكافي: عن صفوان قال: «قلت لأبي الحسن علیه السلام: أخبرني عن الإرادة من اللّه و من الخلق؟ قال علیه السلام: الإرادة من الخلق الضمير، و ما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، و أمّا من اللّه تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك؛ لأنّه لا يروي، و لا يهم، و لا يتفكّر، و هذه

ص: 224

الصفات منفية عنه، و هي صفات الخلق، فإرادة اللّه الفعل لا غير ذلك، يقول له: كن فيكون، بلا لفظ و لا نطق بلسان و لا همّة، و لا تفكّر، و لا كيف لذلك، كما أنّه لا كيف له».

أقول: ليس علیه السلام في مقام بيان حقيقة الإرادة من حيث هي على نحو الحدّ المنطقي حتّى تكون إرادة الخالق مباينة مع إرادة الخلق من كلّ جهة، و إنّما هو علیه السلام في مقام التمييز بينهما في الجملة؛ لأنّ الإرادة من الخلق كما نراها متقوّمة بالتفكّر و الروية في المبدأ و في الغاية. فالضمير في الخلق عبارة عن مقدّمات الإرادة التي تحصل في القلب، و قوله علیه السلام: «و ما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل»، يمكن أن يستظهر منه أن الإرادة في الخلق هي فعلهم أيضاً، فالفرق بين الإرادتين إنّما هو في المقدّمات لا في نفس الإرادة من حيث هي، و قوله علیه السلام: «فإرادته إحداثه»، أي: أنّ إرادته تعالى إنّما هي نفس الفعل، و هي ما قلناه في إرادة المخلوق، ولكن التفرقة في المقدّمات. و يظهر ذلك بوضوح من نفي هذه المقدّمات عنه عزّ و جلّ، ولكن ذلك لا يستلزم نفي الحكمة و العلم بالنسبة إلى المراد.

و منها: صحيحة سليمان بن جعفر الجعفري، قال: «قال الرضا علیه السلام: المشيئة و الإرادة من صفات الأفعال، فمَن زعم أنّ اللّه لم يزل مریداً شائياً، فليس بموحّد».

أقول: هذا الحديث يدلّ على أنّ الإرادة و المشيئة هي الفعل، و إنّما يفرق بينهما بالجزئيّة و الكليّة، فالإرادة تتعلّق بالجزئيات و المشيئة تتعلّق بالكلّيات.

ص: 225

و أمّا قوله علیه السلام: «فمَن زعم أنّ اللّه لم يزل مریداً شائياً فليس بموحّد»، فلأنّه لو كانت المشيئة و الإرادة في مرتبة الذات و هما يقتضيان المراد - لاستحالة تخلّف الإرادة عن المراد - فحينئذٍ لا بد من القول بالقدم الذاتي للأشياء، فينتفي التوحيد مع أنّهما متجدّدان بالنسبة إلى الخلق في كل عصر و زمان، فيلزم التجدّد في الذات و التغيّر و الحدوث فيها، و كلّها باطل بالضرورة.

و منها: صحيحة ابن أذينة عن الصادق علیه السلام قال: «خلق اللّه المشيئة بنفسها، ثم خلق الأشياء بالمشيئة».

أقول: ذكرنا أنّ المشيئة و الإرادة حقيقة واحدة، و إنّما تختلفان بالكليّة و الجزئيّة، و الحديث يبيّن أنّ المشيئة حادثة، و ليس المراد من خلقها بنفسها كونها موجوداً جوهريّاً خارجيّاً، بل المراد بذلك تقديرها في نظام العالم يدبّر بها المخلوقات.

و منها: رواية أبي سعيد القمّاط عنه علیه السلام أيضاً: خلق اللّه المشيئة قبل الأشياء ثمّ خلق الأشياء بالمشيئة».

أقول: المراد بالقبليّة هي الرتبة الواقعيّة لا الزمانيّة، و هكذا في «ثمّ».

و منها: رواية بكير بن أعين قال: «قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام: علم اللّه و مشيئته مختلفان أو متفقان؟ فقال علیه السلام: العلم ليس هو المشيئة، أ لا ترى إنّك تقول: سأفعل كذا إن شاء اللّه، و لا تقول:

ص: 226

سأفعل كذا إن علم اللّه، فقولك: إن شاء اللّه دليل على أنّه لم يشأ، فإذا شاء كان الذي شاء كما شاء، و علم اللّه السابق المشيئة».

أقول: الحديث يدلّ على أنّ المشيئة منبعثة عن العلم الربوبيّ، فلا يعقل كونهما في مرتبة واحدة، كما هو الأمر في علمنا و مشيئتنا.

و منها: صحيحة محمد بن مسلم عن الصادق علیه السلام قال: «المشيئة محدثة».

أقول: لأنّ كلّ ما كان منبعثاً عن مرتبة الذات محدث لا محالة، و المارد به هو الحدوث الذاتي منه، لا الزماني، و إن تحقّق الثاني في سلسلة المتدرّجات.

و منها: صحيحة عاصم بن حميد عن أبي عبد اللّه الصادق علیه السلام: «قلت: لم يزل اللّه مريداً؟ قال علیه السلام: إنّ المريد لا يكون إلا المراد معه، لم يزل اللّه عالماً قادراً ثم أراد».

أقول: الحديث يفسّر حقيقة إرادته تبارك و تعالى بمقدّماتها، و بيّن أيضاً أنّ من مقدّمات الإرادة العلم و القدرة، فتكون الإرادة منبعثة عنهما، فتكون حادثة و لم يبيّن علیه السلام أنّها الفعل، لأنّه علیه السلام ليس في مقام بيان ذلك.

و منها: حديث الأهليلجة المعروف عن أبي الحسن الرضا علیه السلام قال في جواب الطبيب: «إنّ الإرادة من العباد الضمير و ما يبدو بعد ذلك من الفعل، و أمّا من اللّه عزّ و جلّ، فالإرادة للفعل إحداثه إنّما يقول: كن فيكون، بلا تعب و كيف».

ص: 227

أقول: مرّ بيان هذا الحديث الشريف في حديث صفوان عن أبي الحسن موسی بن جعفر علیه السلام.

و منها: رواية الهاشمي المشتملة على مباحثة الإمام الرضا علیه السلام مع أهل الملل و النحل، قال علیه السلام: «مشيئته و اسمه و صفته، و ما أشبه ذلك، كلّ ذلك محدث مخلوق مدبّر - إلى أن قال علیه السلام -: و اعلم أنّ الإبداع و المشيئة و الإرادة معناها واحد و أسماؤها ثلاثة».

أقول: الحديث يدلّ على ما ذكرناه آنفاً من أنّه لا فرق بين المشيئة و الإرادة، و إنّما جعل علیه السلام الإبداع هي الإرادة و المشيئة؛ لأنّها عبارة عن الفعل و الإحداث، فتكون محدثة. ولكن الفلاسفة فرقّوا بين الإبداع و الخلق، فجعلوا مورد الإبداع خلق الروحانيين، و الخلق أعمّ من ذلك، و هذا لا يرتبط بالمقام.

و منها: رواية عبد الرحيم القصير عن الصادق عليه السلام قال: «كان (عزّ و جلّ) و لا متكّلم، و لا مريد، و لا متحرّك، و لا فاعل جلّ و عزّ ربنا، فجميع هذه الصفات محدثة عند حدوث الفعل منه».

أقول: الحديث يدلّ على أنّ الإرادة هي الفعل، و هي حادثة، و أنّ كلّ ذلك ليس في مرتبة الذات.

و منها: صحيحة يونس عن أبي الحسن الرضا عليه السلام: «قلت: فما معنی شاء؟ قال علیه السلام: ابتدأ الفعل، قلت: فما معنى أراد؟ قال علیه السلام: الثبوت عليه».

أقول: الحديث يدلّ على أنّ الفرق بين المشيئة و الإرادة هو الفرق

ص: 228

بين التقدير و الإيجاد، و يمكن إرجاعه إلى ما قلناه من أنّ الفرق بينهما بالكليّة و الجزئيّة، لأنّ الكلي مقدّم على الجزئي بالإضافة، و يفسّره الحديث الآتي.

و منها: صحيحة ابن إسحاق عن أبي الحسن علیه السلام قال: «أ تدري ما المشيئة؟ فقال: لا، فقال: همّه بالشيء، أو تدري ما أراد؟ قال: إتمامه على المشيئة».

أقول: الحديث ليس في مقام الفرق بين مشيئة اللّه عزّ و جلّ و إرادته تعالى، بل إنّما هو في مقام بیان طبيعة المشيئة و الإرادة بالنسبة إلى الخلق، و إلا فليس له تعالى «همّ» و لا رويّة، كما تقدّم في الحديث، و يمكن أن يستفاد من لفظ «الهمّ» الكليّة، فيكون في مقام بيان الفرق بين مشيئته تعالى و إرادته عزّ و جلّ.

هذه جملة من الأخبار الواردة في هذا الموضوع المهمّ، و الذي اتّفقت عليه جميع هذه الأحاديث أنّها لم تشر إلى أنّ الإرادة من الصفات الذاتيّة أو أنّها عينها، كما هو الأمر في سائر الصفات العليا، فإنّهم علیهم السلام بيّنوا ذلك فيها. فلا ريب و لا إشكال في ثبوت الإرادة له جلّ شأنه عقلاً و نقلاً، بل يعدّ ذلك من الضروريات، كما عرفت.

معنى الإرادة فيه عزّ و جلّ:

ذكرنا في أحد مباحثنا المتقدّمة أنّ العقول تحيّرت في ذاته جلّت عظمته، و في صفاته تعالى مطلقاً، سواء كانت صفات الذات أم صفات

ص: 229

الفعل؛ لأنّ التحيّر في الذات تحيّر في ما هو عين ذاته تبارك و تعالی أيضاً.

و أمّا صفات الفعل، فلأنّها منبعثة عمّا لا يدرك ذاته و صفاته، فلا بد من التحيّر فيها أيضاً.

و الإرادة من الصفات التي هي من أتمّ مظاهر الجلال و الجمال و تجليات الذات قولاً و فعلاً، و لا ريب أنّ الإرادة بالمعنى الذي ذكرناه في إرادة الإنسان لا يمكن اتّصافه عزّ و جلّ بها؛ للزوم كونه محلاً للحوادث، و هو منزّه عنها، إلا إذا قلنا بأنّ الإرادة في الإنسان أيضاً هي فعله - كما هو الحقّ - فيتّحد معنى الإرادتين حينئذٍ.

ولكن قد اختلفت تعبيرات العلماء في إرادة اللّه تعالى، و عمدة الأقوال فيها ثلاثة:

الأوّل: أنّها ابتهاج الذات بالذات، و قد اختاره جميع من محقّقي العلماء، و قال بعض الفلاسفة:

فحيث ذاته أجلّ مدرك *** أتم إدراك لأبهي مدرك

مبتهج بذاته بنهجه *** أقوى و مَن له بشيء بهجة

مبتهج بما یصیر مصدره *** من حيث إنّه يكون أثره

و عن شيخنا المتألّه المحقّق الشيخ محمد حسين الغروي الأصفهاني، قال (قدس سره) في بيان هذا القول: «و من البيّن أنّ مفهوم الإرادة - كما هو مختار الأكابر من المحقّقين - هو الابتهاج و الرضا و ما يقاربهما مفهوماً، و يعبّر عنه بالشوق الأكيد فينا، و السرّ في التعبير عنها

ص: 230

بالشوق فينا، و بصرف الابتهاج و الرضا فيه تعالى إنّما لمكان أننا ناقصون غير تامّين في الفاعليّة، و فاعليّتنا لكلّ شيء بالقوّة، فلذا نحتاج في الخروج من القوّة إلى الفعل إلى أمور زائدة على ذواتنا، من تصوّر الفعل و التصديق بفائدته و الشوق الأكيد، المملية جميعاً للقوّة الفاعلة المحرّكة للعضلات، بخلاف الواجب تعالى، فإنّه لتقدّسه عن شوائب الإمكان و جهات القوّة و النقصان، فاعل و جاعل بنفس ذاته العليمة المريدة، و حيث إنّه صرف الوجود، و صرف الوجود صرف الخير، فهو مبتهج بذاته أتمّ ابتهاج و ذاته مرضية لذاته أتمّ الرضا، و ينبعث من هذا الابتهاج الذاتي - و هي الإرادة الذاتية - ابتهاج في مرحلة الفعل، و هي التي وردت الأخبار عن الأئمة الطاهرين (سلام اللّه تعالى عليهم) بحدوثها»، و بناءً على هذا القول تكون الإرادة صفة تقابل سائر الصفات العليا، فلا ترجع إلى العلم حينئذٍ، فتكون في مرحلة الذات عین ذاته عزّ و جلّ، و في مرتبة الفعل لصدور الإيجاد، فتكون حادثة.

و أشكل عليه: بأنّ الإرادة غير الشوق و الابتهاج عندنا، لما نراه في تناول الأدوية و الأفعال العادية و الجزافيّة و العبثيّة، و أمّا الابتهاج في حقّه تعالى، فهو بريء عنه؛ لأنّه منزّه عن الجسم و الجسمانيّات، إلا أن يراد فيه عزّ و جلّ معنى آخر غير ما نجده في أنفسنا.

و فيه: أنّ الابتهاج حاصل في كلّ فاعل لا محالة، ولكن ابتهاجه عزّ و جلّ مباين مع ابتهاج الخلق، كما في سائر صفاته تعالى، كالسميع و البصير و نحوهما، و لا يضرّ ذلك بأصل ثبوت هذه الصفة.

ص: 231

الثاني: أنّ إرادته عزّ و جلّ علمه بالنظام الأحسن و الأصلح.

و قد ذهب إليه جمع آخر من الحكماء، و على هذا القول ترجع الإرادة إلى العلم، فتكون عین ذاته.

و قال بعض مشائخنا في توجيه هذا القول بما يرجع إلى القول الأوّل: «و الوجه في تعبير الحكماء عن الإرادة الذاتيّة بالعلم بنظام الخير و بالصلاح، أنّهم بصدد ما به يكون الفعل اختيارياً، و هو ليس العلم بلا رضا، و إلا كانت الرطوبة بمجرّد تصوّر الحموضة اختياريّة، و كذلك ليس الرضا بلا علم، و إلا كانت جميع الآثار و المعاليل الموافقة لطبائع مؤثّراتها و عللها اختيارية، بل الاختياري هو الفعل عن شعور و رضا، فمجرّد الملائمة و الرضا المستفادین من نظام الخير و الصلاح التامّ، لا يوجبان الاختياريّة، بل يجب إضافة العلم إليهما، فما يكون به الفعل اختيارياً منه تعالى هو العلم بنظام الخير، لا أنّ الإرادة فيه تعالی بمعنی العلم بنظام الخير».

أقول: و هو توجيه حسن.

الثالث: أن الإرادة هي الإيجاد عن علم و حكمة، و به يمكن الجمع بين الأقوال؛ لأنّ كلّ مَن تأمّل في تعبيرات العلماء على اختلافها، يرى أنّها ترجع إلى شيء واحد، لعدم إمكان قطع النظر عن العلم و الحكمة المتعالية في إرادة اللّه عزّ و جلّ، فمَن نظر إلى أساس المقدّمات أدخل العلم في حدّها، و مَن نظر إلى النتيجة مجرّدة عن المقدّمات حدّها بغير ذلك، فيصحّ أن يقال: إنّ الإرادة هي الإيجاد عن

ص: 232

علم و حكمة متعالية، فالمراد من حيث الإضافة إلى الجاعل يسمّى إيجاداً و إرادة، و من حيث لحاظه في نفسه يسمّى فعلاً.

و هذا المعنى لا يختصّ به عزّ و جلّ، بل يجري في إرادة الإنسان أيضاً، و ممّا يؤكّد ذلك أنّ الأئمة علیهم السلام جعلوا الإرادة من صفات الفعل.

و من ذلك يظهر أنّ جعل الإرادة العلم بالنظام الأحسن ليس المراد به أنّ العلم بنفسه هو المؤثّر التامّ لصدور الأشياء و وجودها، حتّى يلزم المحاذير التي ذكروها في الكتب الفلسفية و الكلاميّة، و إن كان القول بذلك صحيحاً في الجملة، بمعنى المنشأيّة و المصدريّة، كما ذكرنا.

و قد ظهر ممّا تقدّم بطلان ما قيل: من أنّ الإرادة لا ترجع إلى العلم؛ لأنّه يستلزم إمّا إلى إرادة الشرّ و الظلم و الكفر و القبائح؛ لأنّه تعالى يعلمها، أو يلزم أن يكون منشأ التأثير في الممكن الأصلح اعتبارياً محضاً، و لا يرجع إلى نفس العلم لتعلّقه بالمعلومات على حدّ سواء، أو يرجع إلى نفس الأصلح، و هو يرجع إلى كون شيء واحد مؤثّراً و متأثّراً.

و الكلّ باطل؛ لأنّ علمه تعالی إن كان علّة تامّة لحصول المعلوم مطلقاً يلزم ما ذكر، ولكنّه ليس كذلك، بل علمه الأزلي بالأشياء من مجرّد المقتضي، فالعليّة التامّة تتوقّف على أمور كثيرة أخرى، فمَن يقول إن الإرادة هي العلم بالممكن الأصلح، لا يريد أنّ العلم لوحده هو السبب لوجوده، بل العلم مع اختياره عزّ و جلّ و يدلّ على ذلك ما

ص: 233

رواه الكليني عن أبي عبد اللّه علیه السلام: علم اللّه سابق للمشيئة»، حيث يستفاد أنّ العلم بوحده لم يكن المؤثّر من دون المشيئة و الإرادة.

و الحاصل: أنّ الإرادة هي الإيجاد عن علم و حكمة، و هي فعله، فتكون من صفات الأفعال، و لا بد من انبعاث صفات الأفعال عن العلم و الحكمة.

و يمكن رفع الاختلاف من أصله لما تسالموا عليه من أنّ العلل التوليديّة يصحّ انتساب الأثر فيها إلى نفس المعلول و إلى العلّة، كما في قولك: أحرقته النّار فمات، أو مات بالنّار، كما لا فرق بین قولهم علیهم السلام: «الطهور نور»، أو: «الوضوء نور» و أمثال ذلك كثير، و في المقام أنّ الإرادة هي العلّة التي يترتّب عليها المراد، بلا فرق بين إرادة الخالق و إرادة المخلوق، فالإرادة بما هي من شؤون المريد باعثة الصدوق المراد و الفعل.

فمَن نظر إلى المراد جعل الإرادة الفعل، و مَن نظر إلى أنّها لا تحصل إلا بالعلم و الحكمة جعلها منهما، و من نظر إلى توسط الإرادة بين العلم و المراد، جعلها ابتهاجاً و شوقاً، فيرجع الجميع إلى شيء واحد في هذا الموضوع الذي له شؤون مختلفة.

و لعلّ مَن قال من الفلاسفة الأقدمين: إنّ الإرادة في الإنسان هي الفعل. فإن كان نظره إلى ذلك، و هذا هو المرتكز في النفوس، فإنّ الإنسان لا يرى حين إرادته شيئاً إلا المراد فقط، غافلاً عن نفس الإرادة و مقدّماتها، و إن كانت هي منطوية في النفس انطواء الجزء في الكلّ.

ص: 234

أقسام الإرادة:

قسّم الحكماء و الفلاسفة الإرادة إلى إرادة تكوينيّة و إرادة تشريعيّة، و عرّفوا الأولى بأنّها ما تعلّقت بفعل نفس المريد، و الثانية ما تعلّقت بفعل الغير مع سبق إرادته، و هما تتصوّران بالنسبة إلى إرادة اللّه تعالی و إرادة الإنسان معاً.

أمّا بالنسبة إلى إرادته عزّ و جلّ، فقد تقدّم، و قد وردت في القرآن الكريم كلتاهما.

قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (سورة الحجرات، الآية 13). فإنّها إرادة تكوينيّة. و قوله تعالى: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» (سورة الأنفال، الآية 1) و هي إرادة تشريعية.

و أمّا في المخلوق، فمثل قولك: «ذهبت إلى المسجد»، فإنّها إرادة تكوينيّة، و قولك لولدك: «اذهب إلى المسجد»، و هي إرادة تشريعيّة، و في القرآن الكريم القسمان من الإرادة التكوينيّة و التشريعيّة معاً، و السنّة الشريفة حوت الإرادة التشريعيّة و بيّنت خصوصیاتها.

و هذا التقسيم إنّما هو من باب الوصف بحال المتعلّق، و غلا فلا فرق بين ذات الإرادة في الموردين.

ثم إنّ التشريعيّة إن كانت بالنسبة إلى الفعل و لم يستظهر من القرائن الداخليّة أو الخارجيّة الترخيص في الترك، يعبّر عنها بالوجوب، و إلا فهي الندب و الاستحباب، و إن كانت بالنسبة إلى الترك و لم يستظهر

ص: 235

من القرائن الترخيص في الفعل، يعبّر عنها بالحرام، و إلا فهي الكراهة، و بذلك تنتظم الأحكام التكليفيّة، و قد أثبتوا أنّ الأصل في الأشياء الإباحة إلا مع الدليل على الخلاف.

و إرادة اللّه التشريعيّة ليست إلا لتكميل الإنسان، فلو قلنا: بأنّ الإرادة التشريعيّة منه عزّ و جلّ غاية الإرادة التكوينيّة بل أصلها و أساسها، لم يكن به بأس، و عليه الشواهد الكثيرة، و يصحّ العكس أيضاً لشدّة ارتباطهما، فقد ورد في العقل المجرّد سيد الأنبياء أحمد صلی اللّه علیه و آله و سلم: «خلقت الأشياء لأجلك، و خلقتك لأجلي»، و قال اللّه تعالى بالنسبة إلى موسی بن عمران: «وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي» (سورة طه، الآية 41).

و لذا جعل بعض مشائخنا (قدس سرهم) الإرادة التشريعيّة من التكوينيّة؛ لأنّ التشريع من مراتب النظام الأحسن، و هو متين جداً.

و قيل: إنّه لا وجه للإرادة التشريعيّة؛ لأنّ إرادته تعالى إن تعلّقت بفعل الغير يتحقّق لا محالة، فيتحقّق الجبر، و حينئذٍ يكون فعله تعالی لا فعل الغير، فالإرادة التشريعية باطلة.

و فساده واضح؛ لأنّ الإرادة التشريعيّة تتعلّق بما يصدر من العبد مع إرادته و اختياره، فالإرادة تتعلّق بفعله مع تخلل القصد و الاختيار، و أنّه فاعل مختار، و لعلّ تقسيم الإرادة إلى هذين القسمين لبيان الفرق بين متعلّقي الإرادتين(1).

ص: 236


1- مواهب الرحمن، ج8، ص85 - 100.

صفات اللّه التنزيهية

أن صفات اللّه جلّ شأنه تنقسم إلى أقسام عديدة حسب اختلاف الوجوه و الاعتبارات:

فتارة: تنقسم إلى صفات الذات و صفات الفعل.

و أخرى: إلى الصفات العامّة كالخالقيّة، و الخاصّة كالفيوضات الخاصّة على أنواعها و أقسامها.

و ثالثة: تنقسم إلى الصفات الثبوتيّة و الصفات السلبيّة، و في هذا البحث يقع الكلام في القسم الأخير، أي الصفات الثبوتيّة و الصفات السلبيّة، و المراد بالأولى تلك الصفات التي تكون كمالاً للمتّصف بها، و لا يستلزم من نسبتها إليه عزّ و جلّ نقص فيجب حينئذٍ الاتّصاف بها، و هي كثيرة، كالعلم و الحياة و القدرة و نحو ذلك، و تسمّى بالصفات الجماليّة أو الكماليّة.

و المراد بالثانية هي تلك الأمور التي يمتنع ثبوتها لذاته المقدّسة، و تسمّى بالصفات الجلاليّة، أي: يجلّ و ينزّه تعالی عنها، و هي النواقص و لواحق الإمكان و كلّ صفة إذا استلزمت النسبة إليه عزّ و جلّ نقصان و هي كثيرة و قد ورد جملة منها في القرآن الكريم و السنّة الشريفة، مثل

ص: 237

أنّه تعالى ليس بجسم، و لا بمكاني و لا زماني، و لا كيف له، و أنّه ليس بمتحرّك، و لا سكون له، و لا يرى، أي: لا تدركه الأبصار و غير ذلك، كما سيأتي في الموضع المناسب شرح ذلك كلّه. إلا أنّ البحث في المقام يقع في نفي الظلم عنه عزّ و جلّ، كما دلّت عليه الآية التي تقدّم تفسيرها.

و قبل أن نتعرّض لذلك لا بد أن نشير إلى الصفات التنزيهيّة التي تجلّ ذاته الأقدس عن الاتصاف بها؛ للزوم النقص، هي غير البحث الذي أشار إليه الأئمة المعصومون علیهم السلام، و هو أنّ الصفات الكماليّة التي يتّصف بها عزّ و جلّ لا يمكن درکها بحقيقتها و كنهها، و لا يمكن أن يصل عليها عقول البشر، فاللّه تعالی عالم، أي: ليس بجاهل، لأنّ حقيقة علمه عزّ و جلّ لا يمكن درکها و لا تصل إليها فهم الإنسان، فإنّ ذلك في الصفات الكماليّة التي يجب أن يتصف بها الذات المقدّسة، و إلا استلزم النقص بالنسبة إليها، لا الصفات السلبيّة التي يجلّ أن يتصف بها.

ثم إنّه جلّت عظمته منزّه عن الظلم، كما دلّت عليه الأدلّة الكثيرة، فمن الكتاب آيات عديدة، منها قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (سورة يونس، الآية 44)،

و قوله تعالى: «وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا» (سورة الكهف، الآية 49).

و منها: الآية التي تقدّم تفسيرها: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا»، و المستفاد من هذه الآية الشريفة أمور:

ص: 238

الأوّل: أنّ عدم وقوع الظلم منه لا عن نقص في القدرة الأزليّة، بل لأجل أن حكمته اقتضت أن لا يظلم أحداً، و هذا هو معنى العبارة المعروفة: «إنّ اللّه لا يظلم لحكمة، لا لقدرة» كما تقدّم، فإنّ قدرته تامّة كاملة قد تعلّقت بجميع الأشياء حتّى الممتنعات، ولكن الحكمة الإلهيّة اقتضت أن لا يفعل ذلك، و هو لا يفعل شيئاً خلاف الحكمة، فإنّ الذي يقدر على مضاعفة الحسنات لقادر على سلبها عن صاحبها، ولكنّه لا يظلم أحداً.

الثاني: أنّ وقوع الظلم منه يستلزم الجهل، و هو منزّه عنه تعالى، فيرجع نفي الظلم عنه إلى علمه الأتم بحقائق الأشياء، و الظالم يجهلها فيظلم.

الثالث: استغناؤه عن الظلم، فلا غرض له يتعلّق به، و هو منزّه عنه؛ لأنّ اللّه تعالى يضاعف الحسنات و يعطي الأجر العظيم لمَن استحقّه، فهو أجلّ من أن يسلبه عنه.

ثم إنّ نفي الظالم عنه تعالى لا يثبت العدل له جلّت عظمته، بخلاف العكس كما هو واضح(1).

ص: 239


1- م.ن، ص217 - 218، ج8.

جزاء الأعمال

لا شكّ أنّ الجزاء المترتّب على الأعمال - قبيحةً كانت أو صالحة أو الملكات النفسانيّة التي لها أثر في الخارج، أو ما لا تكون كذلك إلا أنّها قابلة للزوال و لم يعالجها آنها، فرسخت في النفس بالاختيار - لا بد و أن يكون مطابقاً لها و يناسبها، و يدلّ على ذلك كثير من الآيات المباركة و السنّة الشريفة، بل قد يكون الاختلاف حسب العامل بما عنده من الدرجات، أو حسب الأزمنة المعيّنة أو حسب الصفات النفسيّة، فلا فرق في ذلك بين العذاب الدنيويّ و الأخرويّ، و أما مسألة الخلود في النّار، فقد أجبنا عنه في أحد مباحثنا السابقة، و يأتي التعرّض لها في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالی.

و الطمس الذي هو نوع من أنواع العذاب الذي يستحقّه المتمرّد أخف من المسخ في الجملة، فإنّ المسخ قلب الشيء أو تبديله إلى أسوء منه، و هو تارة: في العين، أي: مسخ الخلق، كما يمسخ اللّه الإنسان المتمرّد المنهمك في المعصية إلى القرد.

و أخرى: مسخ الخُلُق، و هو يحصل في كلّ زمان و مكان، و ذلك أن يصير الإنسان - نستجير باللّه - متخلّقاً بخُلُق ذميمة فاسدة من أخلاق

ص: 240

بعض الحيوانات، نحو أن يصير في شدّة الحرص کالكلب، و في الشره كالخنزير أو غيرهما من الحيوانات التي لها خُلُق ذممية و صفات سيئة.

بخلاف الطمس الذي هو تغيير في الصورة و الوجه، بمحو محاسنها و زوال تخطيطها من العين و الأنف و الحاجب، و جعل الوجه على هيئة الأدبار، و في المقام لما كانت جماعة من اليهود قد أعرضوا عن الحقّ و متابعته بعد إقامة الحجّة عليهم، فقد طمس اللّه تعالی علی وجوههم و غيّرهم عن تلك الخلقة الأصلية، جزاء لأعمالهم الفاسدة و لإعراضهم عن الواقع الذي علمت به ضمائرهم و نفوسهم.

ثم إنّ الطمس أو المسخ لو وقع على قوم - أو على فرد - لا يمكن رفعهما؛ و ذلك لا لأجل القصور في القدرة، فإنّه تعالى قادر على كلّ شيء وإذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، بل لأنّهما من مظاهر غضبه و الطرد من رحمته و ساحته، و مَن حلّ به غضبه فقد هوى، فالموضوع غير قابل، و لا يكون لائقاً للعود إلى رحمته(1).

ص: 241


1- م.ن، ص259 - 260، ج8.

خلافة الأئمة علیهم السلام

استدلّ الإمامية بقوله تعالى: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ» على الإمامة الأئمة علیهم السلام و خلافتهم بعد الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله و سلم، فقالوا: إنّ الآية المباركة تدلّ على أمور مهمّة:

الأول: عصمة أولي الأمر، حيث قرن طاعتهم بطاعة الرسول صلی اللّه علیه و آله و سلم المطلقة غير المشروطة بشيء، و قد اعترف جمع غفير من الجماعة على هذا الأمر لظاهر الآية الشريفة، لكنّهم اختلفوا في تعیین مصداق أولي الأمر كما عرفت في التفسير، و ذكرنا أنّ المراد من أولي الأمر هم الأئمة المعصومون علیهم السلام.

الثاني: أن أولي الأمر أعلم الأمة بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله و سلم، فإنّ مَن فرض طاعته لا بد أن يكون عالماً بجميع الأحكام و جهات التشريع.

الثالث: أن أولي الأمر هم أفراد من هذه الأمة معلومون، إلا أنّ معرفتهم لا بد أن تكون بنصّ جليّ من النبي صلی اللّه علیه و آله و سلم يبيّن أسماءهم و خصائصهم.

ص: 242

الرابع: أصالة منصب الرسول صلی اللّه علیه و آله و سلم نيابة منصب الإمام علیه السلام و ولي الأمر و خلافته عن الرسول صلی اللّه علیه و آله و سلم.

الخامس: أصالة منصب الرسول صلی اللّه علیه و آله و سلم في وصول الوحي إليه، بخلاف الإمام علیه السلام، فإنّه يعرف الأمور بإلهام ربّاني أو بفهم ثاقب أو بغيرهما، كمصحف فاطمة علیها السلام، أو بكتاب علي علیه السلام.

السادس: أنّ الحاجة التي تدعو إلى الرسول صلی اللّه علیه و آله و سلم عین الحاجة التي تدعو إلى أولي الأمر، فإنّها تتضمّن مصالح مهمّة لا تستقيم حال الأمة بدونها(1).

ص: 243


1- م.ن، ص340 - 341، ج8.

القدر

وجوب اتخاذ الحذر، و هو حكم عقلي - بل أمر فطري - کشف عنه الشرع، و الحذر: هو طريق الاحتياط يعمّ في جميع الأشياء و يختلف حسب متعلّقه، أي المخوف.

و الفرق بينه و بين الكيد، هو أنّ الكيد يحتال الإنسان ليوقع غيره في مكروه، و الحذر هو احتيال الشخص لخروج نفسه عن مكروه، فالتنافي بينهما واضح. فما قيل من أنّه نوع من الكيد، غير صحيح.

و التقديرات من اللّه سبحانه و تعالى لا يرفعها الحذر أصلاً؛ لأنّها کائنة حتّى في ظرف الحذر، بل المقدّرات الإلهيّة غير مربوطة بالظروف التي حصلت باختيار الإنسان بنفسه، كما عن نبيّنا الأعظم: «المقدور كائن و الهم فضل» - و ما قيل: «الحذر لا يغني القدر»، فالتقديرات الإلهيّة كائنة مهما كانت الظروف و الحالات.

إن قلت: لو كان التقدير في الحرب مثلاً الغلبة، فلا فائدة في الحذر، و إن كان مقتضاه المغلوبيّة فلا نفع فيه، فلا فائدة في الحذر على التقديرين.

قلت: الأمر بالحذر لا ينافي التقدير كما مرّ. و إنّ الأوامر

ص: 244

التشريعيّة التي هي في مقام تکمیل العبد، غير مرتبطة بالأمور التكوينيّة التي منها التقديرات، و قد يكون الحذر من مقدّمات الفعل الذي تعلّق القدر به، و قد يكون نفس الحذر أيضاً مقدّراً.

و بالجملة: أنّ القدر هو جریان الأمور وفق نظام معین متين فيه الأسباب و المسبّبات، و اللّه تعالى قدّر أن يكون الفعل واقعاً إذا لم يتّخذ الإنسان الحذر و لم يتهيّأ في دفع الضرر عن نفسه، فيكون الحذر من جملة الأسباب و يكون العمل بالحذر عملاً بنفس القدر، لا أن يكون منافياّ له أو لا نفع فيه، هذا موجز الكلام في المقام(1).

ص: 245


1- م.ن، ص 41، ج8.

التقوى في القرآن و السنة

وردت كلمة التقوى في القرآن و السنّة - بل في الكتب السماويّة - كثيراً، و حثّت عليها الشرائع الإلهيّة و رغبّت إليها. و هي صفة - أو حالة نفسانيّة - تعرض على الإنسان الملتزم بالدين، و قد تزول عنه حسب العوامل النفسيّة و المكائد الشيطانيّة، فهي من الأمور الإضافيّة، تختلف حسب درجات الإيمان و الثقة بالمبدأ عزّ و جلّ.

و هي في اللغة: جعل النفس في وقاية ممّا يخاف. بل جعل نفس الخوف تقوى، من باب تسمية مقتضي الشيء باسم مقتضاه.

و قد عرّفت في الشرع بتعاریف متعدّدة، و لعلّ أسلمها: حفظ النفس عمّا يؤثم. و ذلك بترك المحظور، و يتحقّق باجتناب بعض المباحات، أي التنزّه عن الحلال مخافة الوقوع في الحرام، لما روي: الحلال بيّن و الحرام بيّن، و مَن رتع حول الحمى فحقيق أن يقع فيه»، و غيره من الروايات قال اللّه تعالى: «فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» (سورة الأعراف، الآية 35).

و قيل: إنّها صفة راسخة في النفس توجب الاجتناب عن المآثم و المشتبهات، و هذا التعريف يرجع إلى الأوّل، و إنّما الاختلاف في التعبير.

ص: 246

و قيل: هي الامتناع عن الرديء باجتناب ما يدعو إليه الهوى، و هذا أعمّ ممّا تقدّم.

و كيف كان، فإنّه لا يمكن تحقيق التقوى إلا بترك المشتبهات، فضلاً عن المحرّمات، ففي رواية يونس عن الصادق علیه السلام في قوله تعالى: «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ»: «أرشدنا للزوم الطريق المؤدّي إلى محبّتك و المبلغ إلى جنّتك من أن نتبع أهواءنا فنعطب، و نأخذ بآرائنا فنهلك، فإنّ من اتّبع هواه و أعجب برأيه كان كرجل سمعت غثاء الناس تعظّمه و تصفه، فأحببت لقائه من حيث لا يعرفني، لأنظر مقداره و محلّه، فرأيته في موضع قد أحدقوا به جماعة من غناء العامّة، فوقفت منتبذاً عنهم متغشّياً بلثام، أنظر إليه و إليهم، فما زال يراوغهم حتّى

خالف طريقهم و فارقهم، و لم يقر، فتفرّقت جماعة العامّة عنه الحوائجهم، و تبعته أقتفي أثره، فلم يلبث أن مرّ بخباز بتغفّله فأخذ من دکانه رغيفاً مسارقة، فتعجّبت منه، ثمّ قلت في نفسي: لعلّه معاملة، ثمّ مرّ بعده بصاحب رمّان، فما زال به حتّى تغفّله فأخذ من عنده رمانتین مسارقة، فتعجّبت منه ثمّ قلت في نفسي: لعلّه معاملة، ثمّ أقول: و ما حاجته إذاً إلى المسارقة، ثمّ لم أزل أتّبعه حتّى مرّ بمریض فوضع الرغيفين و الرمّانتين بين يديه و مضى، و تبعته حتّى استقرّ في بقعة من صحراء، فقلت له: يا عبد اللّه لقد لحقت بك و أحببت لقاءك فلقيتك، لكنّي رأيت منك ما شغل قلبي، و إنّ سائلك عنه ليزول به شغل قلبي، قال: ما هو؟ قلت: رأيتك مررت بخباز و سرقت منه رغيفين ثمّ بصاحب الرمّان فسرقت منه رمّانتين، فقال لي: قبل كلّ شيء حدّثني

ص: 247

من أنت؟ قلت: رجل من ولد آدم من أمة محمّد صلی اللّه علیه و آله و سلم، قال: حدّثني ممّن أنت؟ قلت: رجل من أهل بيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم، قال: أين بلدك؟ قلت: المدينة، قال: لعلك جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، قلت: بلى، قال لي: فما ينفعك شرف أصلك مع جهلك بما شرّفت به و تركك علم جدّك و أبيك، لأنّه لا ينكر ما يجب أني حمد و يمدح فاعله، قلت: و ما هو؟ قال: القرآن كتاب اللّه، قلت: و ما الذي جعلت؟ قال: قول اللّه عزّ و جلّ: «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا»، و قال تعالى: «وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا»، و إنّي لما سرقت الرغيفين كانت سيئتين، و لما سرقت الرمانتين كانت سيئتين، فهذه أربع سيئات. فلما تصدّقت بكلّ واحد منها كانت أربعين حسنة، انقص من أربعين حسنة أربع سيئات، بقي ست و ثلاثون. قلت: ثكلتك أمّك، أنت الجاهل بكتاب اللّه، أما سمعت قول اللّه عزّ و جلّ: «إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ»، إنّك لما سرقت رغيفين كانت سيئتين، و لما سرقت الرمانتين كانت سيئتين، و لما دفعتها إلى غيرها من غير رضا صاحبها كنت إنّما أضفت أربع سيئات و لم تضف أربعين حسنة إلى أربع سيئات. فجعل يلاحيني فانصرفت و تركته». و يستفاد من هذه الرواية أنّ القبول مطلقاً يدور مدار التقوى، و لولاها فالأعمال مجرّد صور لم يكن لها لبّ. نعم لكلّ منهما مراتب و درجات، و التقوى هي المسلك المهمّ للوصول إلى ساحة قربه و لاستقرار حبّه تعالى في القلب. و قد ذكر علماء السير و السلوك أنّ مقامات الرقي هي مراتب التقوى، و قسّموها إلى تقوى العوامّ و تقوى الخواصّ، و تقوى

ص: 248

أخصّ الخواصّ. ثمّ إنّ المراد من التقوى في الآية المباركة: «إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ»، هو مجرد التقرّب إليه عزّ و جلّ مع تقريره به، لا التقوى المصطلح، لتناسب ذلك لبدء التشريع و تلائمه مع بثّ النسل، و لم تكمل الحجّة بتمام جهاتها. ولكن تقدّم أنّ للتقرب إليه تعالی مراتب و درجات، و أنّه لم يرد مثل هذا التعبير القرآني إلا في هذه الآية فقط(1).

ص: 249


1- م.ن، ص197 - 199، ج11.

النبيون و الربانيون و الأحبار

یدلّ قوله تعالى: «يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ»، على المنزلة العظيمة التي منحها عزّ و جلّ لهذه الطوائف الثلاث، النبيّين و الربّانيين و الأحبار، فقد جعلهم تعالى حكّام الشرع المبين الذين يحكمون بما أنزل اللّه لبسط العدل بين الناس و إقامة النظام الربّاني فيهم، و إيصالهم إلى الكمال المنشود، كلّ حسب لياقته و استعداده. و المستفاد من الآية الشريفة أنّ الأنبياء هم الأصل في هذا المنصب الجليل، ثمّ يأتي في المرتبة الثانية الربّانيون الذين هم حفظة الشرع المبين ببيان الحقائق و كشف ما أبهم من الشريعة، ثمّ الأحبار الذين هم أمناء اللّه على أحكامه المقدّسة، و لا ريب أنّ تلك لا يمكن أن تنالا إلا إذا توفّرت شروط الولاية و الإمامة، و الآية تبيّن أهمّ تلك الشروط، و هي ثلاثة:

الأوّل: كونهم ربّانيين يدعون إلى اللّه تعالى قولاً و عملاً، و قد تقدّم الكلام في معنى هذه الكلمة في سورة آل عمران. و هي لم ترد في القرآن الكريم إلا في صفات الأنبياء و الأوصياء.

الثاني: العلم الحاصل من تعليم اللّه تعالى لهم خصوصیات

ص: 250

الشريعة و الكتاب، بل الآية الكريمة تدلّ على معنى أدق، لأنّ الحفظ يدلّ على العلم و التحفّظ على ما علم من الضياع و التبديل و التغيير، فيكون أخصّ من مجرّد العلم، فإنّ الأوّل عبارة عن إيجاب الحفظ و رؤيته في المراقبة قولاً و عملاً من كلّ من وجب عليه الحفظ دون الثاني، فإنّه لم ينظر فيه هذه الخصوصية، و لعلّ هذا الفرق أوجب أن يكون هذا الوصف من صفات الأوصياء، كما أنّ هناك فرقاً آخر أيضاً و هو أنّ الاستحفاظ يدلّ على العلم التامّ بخصوصيات الكتاب و ما أنزله اللّه تعالى و التكليف بالحفظ و بیان ما كمن في نفوسهم الطاهرة من العلم، بخلاف مجرّد العلم، و لذا اعتبر في علم المعصوم أن يكون محيطاً بجميع ما تحتاج إليه الأمة من خلال الشريعة حرامها، و العلم بالكتاب و شؤونه. ففي الحديث المروي عن أبي عمر الزبيريّ، المروي في تفسير العياشي عن أبي عبد اللّه علیه السلام: «أنّ ممّا استحقّت به الإمامة العلم المنور - و في نسخة المكتونة - بجميع ما تحتاج إليه الأمّة من حلالها و حرامها، و العلم بكتابها خاصّة و عامّة، و المحكم و المتشابه، و دقائق علمه أو غرائب تأوليه، و ناسخه و منسوخه، قلت: و ما الحجّة بأنّ الإمام لا يكون إلا عالماً بهذه الأشياء الذي ذكرت؟ قال علیه السلام: قول اللّه تعالى فيمن أذن اللّه لهم بالحكومة و جعلهم أهلها: «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ»، فهذه الأئمة دون الأنبياء الذين يربّون الناس بعلمهم، و أما الأحبار فهم العلماء دون الربّانيون، ثمّ أخبر فقال: «بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ»، و لم يقل: بما حملوا

ص: 251

منه»، فإنّه (عليه الصلاة و السلام) يشير إلى معنی دقیق، و هو أنّ علم الأنبياء أعلى مرتبة من علم الأوصياء الذي يختلف عن علم العلماء اللذين حملوا علم الدين بالتعليم و التعلم، و الأوصياء ليسوا كذلك، فإنّهم علموا الكتاب بما وصل إليهم من الأنبياء و ما ألهمهم اللّه تعالى، و لذا كلّفوا بالحفظ و يسألون عنه، نظير قوله تعالى: «لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ» (سورة الأحزاب، الآية 8)، أي: يسألهم عمّا كلّفوا به من الصدق في الأقوال و الأفعال و ما كمن في نفوسهم من صفته.

إن قلت: إنّه قد ذكر عزّ و جلّ الأحبار الذين هم علماء الدين في سياق الربّانيين، فلم لم يشترط فيهم ما اشترط في الأنبياء و الربّانيين من العلم و العصمة.

قلت: إنّه مضافاً إلى عدم الدليل على اشتراطها فيهم، بل وردت الأدلة على عدمه، لأنّ المقتضي للاشتراط في الأنبياء و الأوصياء هو ما أخبر به عزّ و جلّ من صفة الاستحفاظ فيهم و تكليفهم بالحفظ، فإنّهم رسل اللّه تعالى و أمناؤه على الشريعة و مبيّنوا حلالها و حرامها و المكلّفون بحفظها، و احتياج الأمّة إليهم كما عرفت آنفاً، و هذا بخلاف الأحبار و العلماء، فإنهّ و إن أخذ العهد و الميثاق منهم على بيان الأحكام الإلهيّة و حفظها، إلا أنّه مجرّد ثبوت شرعيّ، لا ثبوت حقيقيّ مبني على العلم و العصمة عن الخطأ و الغلط، و الدين الإلهيّ لا يتمّ إلا بالأخير دون الأوّل.

الشرط الثالث: العصمة من الغلط و الخطأ، فإنّ العلم بالمعنی

ص: 252

المزبور في الربّانيين الذي تبتني عليه الشهادة يستدعي العصمة، فإنّها شهادة غير ما هي المتداول عند الناس، و هي شهادة على الشريعة و الكتاب کشهادتهم على الأعمال يوم القيامة، التي تقدّم الكلام فيها بقوله تعالى: «لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا»(سورة البقرة، الآية: 143). و هي شهادة حضور و مراقبة و حفظ، و هي تختص بالأنبياء و الأوصياء، و لا ريب أنّ مثل هذه الشهادة تستلزم العصمة، و إلّا استلزم الخلف، فهي شهادة حقيقية خالية عن الخطأ و الغلط و المعاصي، و يدلّ عليه ما ورد في الحديث المزبور المروي عن تفسير العياشي عن الصادق علیه السلام: «إنّ ممّا استحقّت به الإمامة التطهير و الطهارة من الذنوب و المعاصي الموبقة التي توجب النار».

و ممّا ذكرنا يظهر معنى قوله علیه السلام في الحديث المزبور: «فهذه الأئمة دون الأنبياء الذين يربّون الناس بعلمهم»، فإنّهم أوصياء الأنبياء و الأئمة على الخلق و الحجّة عليهم، لأنّهم علموا بالكتاب حقّ العلم و شهدوا عليه بحقّ الشهادة.

و الآية الشريفة و إن نزلت في الأنبياء و الربانيين و الأئمة من بني إسرائيل، إلّا أن المناط موجود في غيرهم من الأنبياء و الأئمة، لأنّ الاستحفاظ و الشهادة اللذين لا يقوم بهما إلّا الربانيون، يكونان في كلّ كتاب إلهيّ نزل من عند اللّه تعالى يشتمل على المعارف الربوبية و الأحكام الإلهية، و يدلّ على ذلك ما رواه العياشي عن مالك الجهني، عن أبي جعفر علیه السلام في قوله تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى

ص: 253

وَنُورٌ» - إلى قوله تعالى: «بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ». قال علیه السلام: «فينا نزلت». لأنّ القرآن الكريم الذي احتوى من المعارف الإلهية على أسماها، و من الأحكام الشرعية على أكملها»، و من المكارم على أجلاها و أعلاها هو الذي يستدعي لأن يكونوا علیهم السلام المصداق الأكمل لهذه الآية الشريفة(1).

ص: 254


1- م. ن، ج11، ص265 - 268.

مقام الأنبياء و الرسل

الأنبياء - الذين هم أفضل أفراد البشر و أكملهم حسب درجاتهم - كلّهم من مظاهر شؤونه تعالى و أفعاله، و كلّ واحد منهم مظهر لأسمائه الخاصة جلّ شأنه. و فضّل بعضهم على بعض بشرف تقرّبهم إلى حضرته جلّت عظمته - و إن كان جميعهم نالوا التقرّب إليه مكانتهم و ارتباطهم معه تعالی - و لا يتحقّق ذلك التشرّف العظيم إلّا بأداء أمانة الحقّ الملقاة على عواتقهم و تحمّل المشاق في سبيل إعلاء كلمته عزّ اسمه و التكلّف مع المشقّة الشديدة في إبلاغ رسالته، و تحمّل الأذى في سبيل هداية البشر إلى السعادة بعد إنقاذهم من المهالك و القيام بالوساطة بينه تعالى و بين العباد.

و كلّما كانت الأمة بعيدة عن الكمالات و المثُل الإنسانية و الأخلاقية و منغمسة في الشرور و المادیات، كان تعب النبي و تحمّله أشدّ و تقرّبه إلى اللّه أكثر، و لذا ورد في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلی اللّه علیه و آله و سلم: «ما أُوذي نبي مثل ما أوذيت» و لأجله - و لکمالات أخرى - تفوّق صلی اللّه علیه و آله و سلم على جميع الأنبياء و إلّا فإنّ الأنبياء جمعيهم على حدّ سواء في إبلاغ الرسالة قال تعالى: «مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا

ص: 255

رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ» (سورة المائدة، الآية: 70)، و قال تعالى: «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ» (سورة آل عمران، الآية: 144).

و إنما خصّ سبحانه و تعالى كلّ نبي بمعجزة خاصة لتناسب زمانه بها بالتحدّي من أهل عصره و قبولها من أمته؛ لأنّ المعجزات الصادرة عن الأنبياء صلی اللّه علیه و آله و سلم ليست هي إلّا خوارق العادات لإثبات دعوی رسالتهم بطريقة يقتنع بها المدعوون إلى الإيمان، فيؤمنون بشريعتهم مثل إحياء الموتی و شفاء المرضى و غيرهما من معجزات المسيح علیه السلام، فهي ليست إلّا كإلقاء العصا فتصير حيّة تسعى، و نجاة بني إسرائيل من العذاب، و غرق فرعون و غيرها من معجزات موسی علیه السلام التي تناسب عصر كلّ منها.

و كذا معجزات نبيّنا الأعظم صلی اللّه علیه و آله و سلم من تسبيح الحصا بين يديه، و نصرته في الغزوات مع قلّة عدد المسلمين، و تفوّق حجّته على الخصام، و إخباره عن المغيّبات، و عروجه بجسمه الشريف إلى السماء، و البشارة بنبوّته في كتب السماء على لسان الأنبياء علیهم السلام ومعجزته الباقية الخالدية (القرآن) و غيرها ممّا هو كثير.

و أمّا خلق المسيح علیه السلام بلا أب، فإنّه يرجع إلى قدرته تعالی و عزّته، كخلق آدم علیه السلام بلا أب و لا أم، قال تعالى: «إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ»، و لا يكون من المعجزة التي تصدر منه أو تظهر على يديه؛ لأنه لم يكن تحدّ في البين مثل نزول المائدة من السماء

ص: 256

بدعائه، و خلق الطير من الطين، و إبراء الأكمه و الأبرص. بل معجزة في خلقه، و كذا رفعه إلى السماء يرجع إلى قدرته تعالى فيه، فالمسيح إنسان أرضي و سماوي، و قد أخّر هبوطه إلى الأرض بعد رفعه منها حتى يكون شاهداً على حقّانية شريعة محمد صلی اللّه علیه و آله و سلم باقتدائه بمهدي هذه الأمة الذي هو من ولد محمد صلی اللّه علیه و آله و سلم، و يكون لشريعته - بل لجميع الشرائع التي جاء بها الأنبياء - سير استكمالي يصل إلى منتهى الكمال بظهور مهدي هذه الأمة الذي هو من ولد فاطمة البضعة الطاهرة منه صلی اللّه علیه و آله و سلم، فيملأ الأرض قسطاً و عدلاً هذا بالنسبة إلى حياتهم الظاهرية في إبلاغ مهامهم.

و أمّا أرواحهم الشريفة و نفوسهم القدسية، فهي لا شكّ في امتیازها و تفوّقها على سائر النفوس لقربها من العقل الأول كما عن بعض، أو أنها فائضة من الحضرة الإلهية كما عن آخرين(1).

ص: 257


1- م. ن، ج10، ص158 - 159.

عقيدة الإنسان

الإنسان بلحاظ عقیدته لا يخلو عن أقسام ثلاثة بالحصر العقلي، لأنّه إمّا مؤمن باللّه العظيم و نهجه القويم، أو كافر به، أو منافق.

و بتعبير آخر: إمّا في الصراط المستقيم، أو منحرف عنه و في طريق الغواية، و إمّا مزدوج بين الطريقين، و كلّ طائفة تنال جزاءها المختصّ حسب عمله الناشئ عن عقيدته.

و الإيمان باللّه تعالى يحصل باختيار الإنسان، إلا أنّ السعادة الكائنة في الفطرة كجزء المقتضي للاختيار، و أنّ السبب التامّ هو الاختيار، فيختار إمّا السعادة - حسب فطرته - و إمّا الشقاء للانحراف عنها، فينتفي الجبر و شبهه كما ينتفي التفويض، على ما تقدّم في هذه الآيات المباركة و غيرها.

و أمّا الجزاء على الأعمال الصالحة المنبعثة عن العقيدة، فلا شكّ أن المؤمن باللّه تعالى ينال جزاء عمله بالمقامات العالية و الدرجات الرفيعة، إما في هذه الدنيا - كما تقدّم في أحد مباحثنا السابقة و يدلّ عليه قوله تعالى: «وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا» (سورة آل عمران، الآية 145)، - أو في الآخرة من الجنّات و النعم و غيرها ممّا

ص: 258

تشتهي الأنفس و تلذ الأعين، كما أنّ الجزاء على أعماله السيئة يكون كذلك، عقاباً دنيويّاً أو أخرويّاً.

و أمّا بالنسبة إلى أعمال الكافر، فإن كان العمل سيئاً بمقتضی عقيدته، فينال جزاءه السيئ إمّا في هذه الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معاً. و إن كان العمل حسناً و صالحاً ينبئ عن أنّ بعض عقائده يرضى الشارع به، فيجازيه عزّ و جلّ إمّا في هذه الدنيا، أو في عالم البرزخ، أو في عالم الخلود، كما في الروايات الصادرة عن المعصومين علیهم السلام؛ و لقاعدة: «العدل و الإنصاف».

و بتعبير آخر: العمل إن كان مصدره عن عقيدة و ثبات في الرأي ينال جزاءه المناسب له، مؤمناً كان العامل أو كافراً، و أنّ الانحراف في العقيدة لا يوجب التأثير في أصل الجزاء و إن اختلفت کیفیّته.

و أمّا جزاء أعمال المنافق، فالمستفاد من الآيات الشريفة و السنن المطهّرة أنّ أعماله الحسنة لا تفيده أصلاً. لا في هذه الدنيا و لا في الآخرة - لأنّها لم تصدر عن عقيدة راسخة و نهج معترف به، قال تعالی: «مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ»، أي: المنافق لا ينال جزاء المؤمن و لا ينال جزاء الكافر في أعماله الصالحة، فيكون المنافق أسوء حالاً من الكافر، قال تعالى: «إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا»، و لم يرد هذا التعبير أو ما ينزل تلك المنزلة بالنسبة إلى الكفّار و إن كان الكافر يرد جهنّم أيضاً، قال تعالى: «وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا» (سورة الإسراء، الآية 8).

ص: 259

و أمّا قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا» الذي يستفاد منه التسوية في العذاب، فباعتبار أصله لا باعتبار مراتبه و درجاته، فعذاب المنافقين أسوء و أشدّ كما تقدّم في الآية الكريمة السابقة.

إن قلت: مقتضى الآيات المباركة أنّ الجزاء تابع للعمل سواء كان العامل مؤمناً أو كافراً أو منافقاً، قال تعالى: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» (سورة الزلزلة، الآية 7 ۔ 8)، خصوصاً على القول بأنّ الجزاء و الثواب من الآثار الوضعيّة للعمل، و إن كانت تختلف باختلاف العقيدة.

قلت: المراد من العمل في الآية الشريفة العمل الصادر عن عقيدة و إرادة - لا كلّ عمل - و المفروض أنّ المنافق لم يكن له عقيدة؛ لأنّه مذبذب و مزدوج، له صورة العمل و هيكله(1).

ص: 260


1- م.ن، ج10، ص80 - 81.

الولاية الإلهية

الولاية الإلهية التي أثبتها عزّ و جلّ لنفسه و منحها لرسوله الكريم و الذين آمنوا و هم علي و بنوه الكرام (صلوات اللّه عليهم) فثبتت لهم الإمامة و الدلائل و القرائن و الأخبار و شأن نزولها و غير ذلك من الشواهد و الإشارات كلها تشهد و تدل عليه، ولكن مع ذلك ناقش الجمهور في دلالتها و نحن نذكر المهم مما ذكروه في المقام و هو على وجوه:

الأول: إن المراد من الولي الناصر، فإن الولي لفظ مشترك يقال للناصر و المحب و الأولى بالتصرف و المشترك إذا تردد بين معانيه يلزم وجود القرينة للمعنى المطلوب، فلا يكون نصاً على إمامة علي علیه السلام فبطل الاستدلال به.

و فيه: ما عرفت أن لفظ الولي إذا جيء به مفرداً يدل على الولاية التصرفية و هو المتبادر منه و لا نحتاج إلى قرينه بل غيره يحتاج إليها، و على فرض القبول يمكن أن يقال أن الولي مشترك معنی موضوع للقائم بالأمر أي الذي له السلطان على المولى عليه و لو في الجملة فيشمل ولي المرأة و الصبي و الرعية و الصديق و المحب فإن لهما ولاية و سلطاناً في الجملة على صديقه، فالمراد به القائم بأموركم، يضاف إلى ذلك أنه

ص: 261

لو فرض تعدد المعاني و الاشتراك اللفظي فإن القرائن تدل على أن المعنى المناسب في المقام هو الأولى بالتصرف، و قد تقدم في التفسير ما يدل على ذلك، فراجع.

الثاني: إن «الَّذِينَ آمَنُوا» صيغة جمع فلا تصرف إلى الواحد إلا بدلیل و شأن النزول و قول المفسرين لا يقتضي الاختصاص ما لم يبلغ إلى درجة الإجماع.

و فيه: ما عرفت آنفاً أن استعمال صيغة الجمع و إرادة الواحد من الأساليب البلاغية المعروفة و قد نزل القرآن عليها و استعملها فيه لفوائد كثيرة منها تنظيم الفاعل و المتصف بتلك الصفات و الإشارة إلى أنه بمنزلة جميع المؤمنين المصلين المزكين لأنه رئيسهم و عميدهم، و أما شأن النزول فهو و إن لم يكن موجباً للاختصاص كما هو المعروف لكن الروايات الواردة في تفسر الآية الكريمة هي من الكثرة بمكان بحيث تكون موجبة للاختصاص و إلا لم يصح الركون إلى شيء من الروايات كما ذكرنا، فراجع.

و مما ذكرنا يظهر أن قول المفسرين إنما كان مستنداً إلى دلالة الآية الشريفة و السنة فلم يكن جزافاً و من غير دليل. و من كثرة الروايات بل تواترها يمكن دعوى القطع بالاختصاص و لا يقل المقام عن غيره مما لم يصل إلى هذه الدرجة من نقل الروايات و القرائن فلا يصغي إلى قول بعضهم أنه لا نسلم الإجماع على نزولها في الأمير علیه السلام(1) فإنه

ص: 262


1- القائل أبو الثناء الآلوسي في تفسير الآية من (روح المعاني).

إذا لم نقل بذلك ما عرفت من الروايات ففي أي مورد يمكن دعوی الإجماع حينئذ و أما الروايات الآحاد التي نقلها في شأن النزول فلا يمكن لها النهوض في معارضة تلك الكثرة من النصوص على فرض صحتها، فراجع.

الثالث: إن الحصر المستفاد من كلمة (إنما) يكون فيما يحتمل الشركة و التردد و النزاع، و لم يكن وقت نزول هذه الآية تردد و نزاع في الإمامة و ولاية التصرف بل كان في النصرة و المحبة.

و فيه: أن ذلك مبني على كون المراد من (أولياء) في ما سبق من الآيات هي ولاية النصرة و المحبة، و قد عرفت بطلانه، و على فرضه يكون حكم الآية الشريفة خاصاً بها لا يرتبط بما سبق و على فرضه فإن إثبات ولاية التصرف تستدعي المحبة و النصرة دون غيرها، يضاف إلى ذلك أن كلمة (إنما) تفيد الحصر و نفي الأولياء المزعومين و وجوب الموالاة و الإمامة و انحصارهم في من ذكر دون غيرهم، كما تقدم.

الرابع: إن الاستدلال بالآية الكريمة بالتقريب الذي تذكره الإمامية يدل على سلب الإمامة عن الأئمة المتأخرين الاثني عشر (صلوات اللّه عليهم) بعين التقرير الذي نفوا به إمامة المتقدمين و فيه:

أولاً: إن الآية إذ دلت على إمامة علي علیه السلام و أثبتت ولايته الشرعية فهو الحجة في تعيين غيره.

و ثانية: إن الآية بقرينة الآية التي سبقتها تدل على إمامة من توفرت فيه الصفات التي تؤهله للإمامة، و هذا الإشكال إنما نشأ من الغفلة عن

ص: 263

ارتباطها بسابقتها و العجيب أنهم يفسرون الولي في الآيات السابقة و يقطعونها عن أقرب الآيات منها، و قد عرفت فيما سبق أن قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ» يشتمل على جملة من الأوصاف التي يجب أن تتوفر في من يتولى شؤون الأمة، فراجع.

و على هذا فالآية تنفي إمامة غير من عينهم اللّه عزّ و جلّ.

و ثالثاً: إن الأئمة هم معلومون و قد عينهم الرسول الكريم في عدة مقامات و قد نقل أرباب الحديث تلك الروايات، فراجع.

الخامس: إن الآية الكريمة إذا دلت على ولاية الذين آمنوا على زعم الإمامية فإن ولايتهم في زمان الخطاب غير مرادة، لأن ذلك عهد النبوة، و الإمامة نيابة فلا تتصور إلا بعد انتقال النبي صلی اللّه علیه و آله و سلم و إذا لم يكن زمان الخطاب مراداً تعين أن يكون المراد الزمان المتأخر عن زمن الانتقال و لا حد للتأخير فليكن ذلك بالنسبة إلى الأمير علیه السلام بعد مضى زمان الأئمة الثلاثة فلم يحصل مدعي الإمامة.

و فيه: إن ذلك مكابرة واضحة فإن الآية إنما تدل على كون الذين آمنوا هم الأولياء من غير نظر إلى الزمان من قبيل القضايا الحقيقية، و على القبول فإنها تدل على ولايتهم بعد الرسول بلا فصل و تنفي ولاية غيرهم فكيف تثبت بعدهم و هناك إشكالات أخرى في غاية الضعف يظهر الجواب عنها من مطاوي ما ذكرناه في التفسير، و لعمري أنها تأویلات باطلة و تفسير للآية الشريفة بالرأي الذي اتفق المسلمون على بطلانه و حرمته. و لو فتحنا باب مثل هذه التأويلات الفاسدة لا سيما مع

ص: 264

مخالفتها للشواهد و الأخبار لما كانت آية حجة على أمر البته فيا ليتهم صرفوا عمرهم في استخراج كنوز القرآن العظيم فلو تركوا هذه المغالطات لكان للمسلمين شأن غير الذي هم عليه لكن حرموا أنفسهم من الفيوضات و حرموا أعقابهم منها و هذا من الظلم العظيم(1).

ص: 265


1- مواهب الرحمن، ج12، ص87 - 90.

مقام الولاية

إن التبليغ المأمور به فيما إنما تعلق بأمر خاص له شأن كبير في هذا الدين بل له مساس في بقائه، و لو كنا نحن و هذه الآية الكريمة كانت كافية في الدلالة على المقصود و لوجب علينا التفحص في ما أمره به ربه و الأحاديث المتواترة لفظاً و معنىً تعين ذلك و تثبت أن المأمور به هي الولاية الكبرى و الخلافة العظمى و كان ما فعله الرسول الكريم صلی اللّه علیه و آله و سلم بمقتضى الأمر بالتبليغ هو نصب علي علیه السلام ولياً و خليفة يحفظ به هذا الدين القويم و ينصر به أهله، و هذا المقدار کاف في الحجة و إلزام الناس بمضمون الآية الشريفة إلا أن القوم أولوها بتأويلات باطلة و جردوها عن المعنى المقصود و تلاعبوا في دلالتها ثم ناقشوا في الأخبار تارة في سندها، و قد عرفت في البحث الروائي بطلان مناقشتهم و إنها أخبار متواترة عند الفريقين و أخرى في دلالتها و نحن نذكر المهم منها و الجواب عنه.

الأولى: إن الحديث الذي ورد فيه «من کنت مولاه فعلي مولاه» لا يدل على ولاية السلطة التي هي الإمامة أو الخلافة، و لم يستعمل هذا اللفظ في القرآن بهذا المعنى بل المراد بالولاية فيه ولاية النصرة

ص: 266

و المودة التي قال اللّه فيها في كل من المؤمنين و الكافرين «بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ» و معناه من کنت ناصراً و موالياً له فعلی ناصره و مواليه، أو من والاني و نصرني فليوال علياً و ينصره بل إن مفعل بمعنى أفعل لم يذكره أحد من أئمة العربية، و إن الاستعمال على خلافه لجواز أن يقال هو أولى من كذا دون مولی من كذا، و لم يقم دليل على أن المراد بالأولى - على فرض التسليم - التصرف و التدبير، بل يجوز أن يكون في المحبة كما عرفت، فلا يدل الحديث على إمامته، و زاد بعضهم بأنه لو كان المراد بالولاية أولوية التصرف، يلزم اجتماع الولايتين في زمان واحد، إذ لم يقل الرسول صلی اللّه علیه و آله و سلم (بعدي)، و لا يتصور الاجتماع بخلاف ما إذا كان المراد المحبة.

و فيه أولاً: إن المولى في الحديث بانضمام سائر القرآن الحالية و المقالية يدل على أن المراد به الأولى بالتصرف، إذ لا يصح قطع جزء من الحديث عن القرائن الحافة به و الحكم عليه، و لو أمعن النظر في الأحاديث الكثيرة التي ورد فيها هذا المقطع «من کنت مولاه فعلي مولاه» صدراً و ذيلاً و حالاً و محلاً لتبين أن المراد منه الأولى بالتصرف و إلا لحكمنا على كثير منها بالبطلان و الفساد، و يجل فعل النبي صلی اللّه علیه و آله و سلم عنهما و هو المعصوم من كل خطأ و زلّه، فمن تلك القرائن قوله صلی اللّه علیه و آله و سلم: «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم»، فإنه لا معنى لكون المراد فيه المحبة كما هو الظاهر. و منه قوله صلی اللّه علیه و آله و سلم: «اللهم وال من والاه و عاد من عاداه» فإنه ظاهر أيضاً في ذلك و تأويلهما إلى ولاية المحبة خلاف الظاهر من الفقرتين، و منها: ذكر هذه الفقرات في خطبة قد جمعت

ص: 267

كثيراً من التشريعات الخاصة التي تدل على ولاية التصرف و لا وجه لجرد تلك الفقرات عن البقية إلا بدليل و هو مفقود، و منها ذكرها في جمع غفير في يوم هجير على رمضان لم يمكن عليها المسير من شدة الحر فإنه أهم قرينة حالية على أن المراد ما ذكرناه و لا وجه لأن يجمعهم الرسول صلی اللّه علیه و آله و سلم لبيان محبة علي علیه السلام و قد أمروا سابقاً بمودة القربی و محبتهم و غير ذلك من القرائن الكثيرة.

و ثانياً: إن من يفسر المولى بالأولى بالتصرف لم يرد أنه اسم تفضيل حتى يستشكل عليه بأنه يقال هو أولى من كذا و لا يقال: مولی من كذا، بل أراد التفسير بقرينة صدر الحديث «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم» الدال على أن المراد الأولى بالتصرف و تفسيره بالمحبة کم فعله بعض المفسرين خلاف الظاهر، بل يمكن لنا القول بأن المولى يراد مالك الأمر و هو المعنى الحقيقي المستعمل في سائر الموارد، ففي الحديث «أيما امرأة نكحت بغير إذن مولاها» و غير ذلك فيدل على الولاية بغير احتياج إلى التصرف، و كل ما يقال في توجيه دلالة إلا الحديث على ولاية المحبة خلاف المعنى الحقيقي و الاستشهاد ببعض الأمور لإثبات ذلك إنما يكون إجمال الحديث، و المفروض عدمه و ظهوره في الولاية التصرفية.

و ثالثاً: على فرض التنزل، و قلنا بأنه لم يعهد أن يكون المراد من المولى الأولى، فهذا أبو عبيدة الذي هو من أئمة العربية و غيره من اللغويين و المفسرين فسروا المولى بالأولى في قوله تعالى:«مَأْوَاكُمُ

ص: 268

النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ» أي أولی بكم، و إلا يراد عليه بأن أبا عبيدة إنما هو في مقام بیان حاصل المعنى يعني النار الموضع اللائق بكم، فليكن المقام من بیان حاصل المعنى لما ذكرناه من القرائن.

و أما ما قيل: بأن النبي صلی اللّه علیه و آله و سلم قال ذلك عندما شكا بعضهم من علي علیه السلام كما ورد في الحديث المتقدم، فذكر صلی اللّه علیه و آله و سلم مبالغة في طلب موالاته و تلطفاً في الدعوة إليها.

فإنه باطل فإن المبالغة في طلب موالاته يقتضي نصبه علماً و هادياً و إماماً لا أن يرشد إلى محبته فقط التي اقتضتها آيات و أحاديث أخرى. و الآية الكريمة المبحوث عنها و الأحاديث الواردة في شأنها بمعزل عن ولاية المحبة فقط، فصرف اللفظ إليها من الزور الباطل.

الثاني: أنه لو سلم دلالة الحديث على إمامة علي علیه السلام فلا نسلم دلالته على كونها بعد النبي صلی اللّه علیه و آله و سلم بلا فصل حتى تنتفي إمامة غيره ممن تقدمه.

و فيه: أن نصب الولاة و الحكام أمر عادي، فما يقال فيها يقال في الحديث أيضاً، فإن السلطة لا يقول هذا ولي عهدي بلا فصل بل يجري الكلام على ظاهره و يؤخذ به على كونه بعده بلا فصل فإن ذلك هو المتبادر من اللفظ، يضاف إلى ذلك أن ذكر (بعدي) لا يرفع الإشكال، فإن البعدية من الأمور النسبية فإنه يمكن أن يقال أنه أمام بعد الثلاثة.

ثم أنه كيف يسوغ لأحد أن ينصب حاكماً و ولياً و يترك ذکر من يقوم بعده من غيره و هو غير جائز عندهم، فكيف يجوز نسبته إلى

ص: 269

ساحة النبي صلی اللّه علیه و آله و سلم و قد تقدم في قوله تعالى: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ» بعض الكلام، فراجع.

و هناك مناقشات أخرى واهية، بل هي محض مكابرة للحق، و من أراد الإطلاع عليها فليراجع الكتب الكلامية(1).

ص: 270


1- م.ن، ج12، 198 - 201.

بحوث في التوصية و الألوهية

قال تعالى: «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ».

بيان حال طائفة أخرى من أهل الكتاب التي لا تقل عن الطائفة الأولى في قبائح الأقوال و الأفعال و اشتراكها معها في أن الانتساب إلى المسيح و كونهم نصاری لم تنفعهم و ليسوا على شيء بعد کفرهم باللّه إذ أثبتوا له شريكاً فلم يؤمنوا به حق الإيمان و لم يقيموا الإنجيل الذي دعاهم إلى التوحيد، و قد أكد عزّ و جلّ بالقسم كفر القائلين بأن اللّه هو المسيح بن مريم من النصارى، و قد اختلفت مقالتهم في كيفية اشتمال المسيح بن مريم على جوهر الإلوهية، فمنهم من يقول بالحلول و منهم من يقول بالأقانيم على اختلاف وجوهها، و منهم من يقول بالانقلاب، و تقدم تفصيل ذلك في سورة النساء فراجع.

و كيف كان فهم لغوا في نبيهم المسيح بن مريم علیه السلام كغلو اليهود في الكفر به فضاهوهم بذلك، ولكن النصارى كفرت فيه و قالت أن المسيح هو اللّه.

و قد رد تبارك و تعالى تلك المقالة الشنيعة و العقيدة الزائفة بوجوه عديدة.

ص: 271

الوجه الأول: إن المسيح هو ابن مریم فكيف يمكن أن يكون الإله ابن امرأة كلاهما مخلوقان من تراب و اللّه منزه عن مجانسة مخلوقاته.

قوله تعالى: «وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ».

هذا هو الوجه الثاني: و هو الاعتراف فمن يعتقد بإلوهيته بأنه عبد مربوب مثلهم، فقد أمرهم بعبادة اللّه تعالى وحده الذي هو ربه و ربهم، و هذا القول منه علیه السلام لا يزال محفوظاً في بعض الأناجيل المعروفة عندهم كما ستعرف في محله إن شاء اللّه تعالی.

قوله تعالى: «إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ».

هذا هو الوجه الثالث: و هو إخباره (صلوات اللّه عليه) عنه عزّ و جلّ بأن الشرك باللّه يوجب الحرمان عن الجنة و هذه حقيقة واقعية لا تقبل التغيير و التبديل، فإن كل من يشرك باللّه فقد حرم الله عليه الجنة، فلو كان عيسى بن مريم إلهاً لما حرم اللّه الجنة على من اعتقد فيه بأنه إله، فإنها دار الموحدين من عباده.

قوله تعالى: «وَمَأْوَاهُ النَّارُ».

هذا هو الوجه الرابع: و هو أن عيسى بن مريم لو كان إلهاً لأمكن أن ينجي أنصاره و مريديه من النار و قبلت شفاعته فيهم، و في الآية المباركة إشارة إلى بطلان ما يدعونه في المسيح من أنه اختار الصلب

ص: 272

الخلاص النصارى، فهو فدى نفسه عنهم فهم لا يمسون النار و يدخلون الجنة بغير حساب، و تقدم في سورة آل عمران تفصيل ذلك.

قوله تعالى: «وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ».

هذا هو الوجه الخامس: و هو أن الشرك باللّه ظلم. بل ظلم عظیم كما في آية أخرى، و الظالم كذلك ليس له نصير ينصره من عذاب اللّه المعد للمشركين و إتيان الجمع للدلالة على تعدد من يعتقدونه بألوهيته أو الشافعين لهم و لبيان الأولى، فإن الأنصار على كثرتهم لا ينفعون، فنفي الناصر و هو الذي يعتقدون بألوهيته، يكون بالأولى.

فهذه الحجج الخمس مما احتج اللّه تعالى بها عليهم و هي براهین قويمة اعترف الخصم بها و لا يسعه إنكارها. فكانت أتم و أثبت.

قوله تعالى: «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ».

تأكيد آخر على كفر الذين قالوا بأن اللّه تعالى أحد الثلاثة الذين يعبرون عنهم ب_(الأقانيم) و هي الأب و الابن و روح القدس. و قد اختلفت اتجاهات النصارى في هذه المقالة، فقيل بأنها ثلاثة اعتباراً، ولكنها واحد، و هذا هو القول الأول الذي حكاه عزّ و جلّ عنهم «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ».

و قيل: إن الثلاثة كل واحد منها إله و الألوهية مشتركة بينهم كما هو ظاهر قوله تعالى للمسيح علیه السلام «أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ» و مسألة التثليث عندهم معروفة، و لما كان بطلانها واضحاً لا تحتاج إلى إقامة البراهين، إذ لا يمكن تصويرها و تعقلها،

ص: 273

فادعى بعضهم بأنها من المسائل المأثورة من مذاهب السلف عندهم لا تقبل الحل بحسب الموازين العلمية، ولكن المأثور إذا لم يقم عليه الدليل المعتبر فهو باطل و نسبته إلى الشرع جناية أخرى لا تغتفر، و قد تقدم في سورة النساء بعض الكلام فراجع.

قوله تعالى: «وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ».

حقيقة من الحقائق الواقعية التي لا تختص بعالم من العوالم حتى في عالم التصوير و التعقل، فإن الإله لا بد أن يكون إلهاً واحداً و إلا لم يكن إلهاً.

فالآية الشريفة تشتمل على حجة قويمة احتج بها على من قال بالشرك و التثليث و غير ذلك من المعتقدات الفاسدة في الإله و هي أعظم آية في القرآن الكريم التي تثبت التوحيد بكل معنى الكلمة و تشتمل على برهان قویم ففيها دعوىً مع إقامة الحجة عليها، فالإله يجب أن يكون واحداً و هو اللّه تعالى الذي لا يقبل الكثرة، فهو واحد في ذاته و صفاته و هي عین ذاته و لا تقبل التعدد، فهناك تتحد الذات و الصفات و الإضافة فلا تورث إضافة الصفة إلى الذات المقدسة كثرة و تعدداً، فهو كما عرفت إحدى الذات لا يقبل الشركة و التقسيم بأي وجه من الوجوه، لا في العقل و لا في الوهم و لا في الخارج، و قد اشتملت الآية الكريمة على أنحاء من التأكيدات، فإن أسلوب النفي و الإثبات من أعظم الأساليب لتثبيت المطلوب و تأكيده كما هو معلوم، ثم دخول (من) على النفي لتأكيد الاستغراق، ثم إتيان المستثنى (إله واحد) نكرة ليفيد

ص: 274

التنويع و لو كان معرفة مثل (الإله الواحد) لم يفد ذلك في إثبات حقيقة التوحيد، ثم إن الآية الكريمة احتفت من طرفيها بالأدلة و البراهين على نفي الشريك و إثبات الوحدانية الحقة الحقيقية، و سيأتي في البحث العرفاني بعض الكلام إن شاء اللّه تعالی.

و المعنى ليس في الوجود و جنس الإله أبداً إلا إله واحد له من الوحدة لا تقبل التعدد أصلاً لا في الذات و لا في الصفات لا خارجاً و لا فرضاً، و هي حقيقة التوحيد التي أثبتها القرآن الكريم و لم مثل ذلك في أي بحث علمي أو فلسفي مع ما للعلماء من التحقيق و التدقيق، و هذه هي من معاجز الكتاب الإلهي الذي فيه من المعارف الإلهية الدقيقة التي قل من يدركها إلا من ألهمه اللّه تعالى من فيضه الأقدس، و سيأتي مزيد بيان إن شاء اللّه تعالی.

قوله تعالى: «وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

توعيد منه عزّ و جلّ لمن لم يكفوا عن القول بالكفر و التثليث و تهديد لهم بالعذاب الأليم، و هو ظاهر إلا أن الكلام في أن التهدید عام لكافة الذين أشركوا باللّه من النصارى و قالوا بالتثليث أو خاص ببعضهم كما هو مفاد (من) التبعيضية، و الظاهر أن القول بالتثليث لم يكن صادراً عن جميع النصارى، فإن بعضهم كان على التوحيد و لم يقل في المسيح إلا كونه عبداً للّه تعالى و رسوله الذي أرسله للناس، أو أن القول بالتثليث لم يكن عند بعضهم عن اعتقاد بل كان لأجل

ص: 275

التشريف و رفع مقام الأبوة و النبوة، و لذا كانوا يرجعون عنها إذا عرفوا أن التشريف في غير هذه العقيدة، و كيف كان فالمعنى لئن لم ينته النصارى عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم و هم القائلون بالتثليث عذاب أليم و قد نسب القول إلى الجميع باعتبار بعضهم و هو من الأساليب المعروفة المتكررة في القرآن الكريم، و قد ذكروا في المقام بعض الأمور في (من) و غيرها مما لم يقم عليها الدليل، أعرضنا عن ذكرها فراجع.

قوله تعالى: «أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ».

تقرير و توبيخ و يمكن أن يكون الاستفهام للتعجيب من حالهم و إصرارهم على التثليث مع وضوح بطلانه و ما جاءتهم البينات و النذر.

قوله تعالى: «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ».

تحضيض للتوبة و الاستغفار، فإن رحمته واسعة، يغفر لهم و يمنحهم من فضله العميم إن تابوا إلى اللّه و رجعوا عن قولهم بالتثليث.

قوله تعالى: «مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ».

جملة استئنافية مسوقة لبيان الحق، و برهان لبطلان التثليث و كون المسيح رباً و إلهاً، و هو يتضمن أموراً ثلاثة جميعها تدل على نفي الألوهية بجميع مراتبها عنه علیه السلام، فقد ذكر عزّ و جل.

أولاً: ما امتاز به (صلوات اللّه عليه) من الصفات الكمالية، فصار من أفضل أفراد الجنس، ثم ذكر.

ص: 276

ثانياً: الوصف المشترك بينه و بين بني نوعه.

و ثالثاً: بين حاله و حال أمه علیهما السلام، و هذه الأمور مما اعترفت به الأناجيل الموجودة عندهم، فتكون حججاً على كونه علیه السلام عبداً رسولاً و تنفي الألوهية عنه و عن أمه علیهما السلام على اختلاف مذاهبهم في كيفية اتخاذها إلهاً.

فإن بعضهم يقول بإلوهيتها كالمسيح كما يظهر من قوله تعالی: «أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ» (سورة المائدة، الآية 116).

أو كانوا يقدسونها تقديس خضوع لم يكن لبشر مثلها، كما هو المنسوب إلى أهل الكتاب من أنهم اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أرباباً من دون اللّه، و كيف كان فالآية الشريفة تدل على أن المسيح بن مریم قد حضي من أفضل الكمالات و هي الرسالة و كونه مبعوثاً من اللّه فهو مقصور عليها لا يتخطاها إلى ما تزعم النصارى فيه إذ كيف يمكن أن يكون الرسول بمنزلة المرسل في الألوهية و إلا بطلت الرسالة، و ها مما لا تقبله النصارى فإنهم يعتقدون برسالته كما عرفت.

قوله تعالى: «قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ».

برهان آخر و هو أن المسيح لم يكن بدعاً عن سائر الرسل الذين خلوا من قبله فكلهم في عالم الإمكان واحد كانوا بشراً منحهم اللّه تعالی صفة الرسالة و بعثوا إلى أقوامهم ثم أدركهم الموت فالآية الشريفة تؤكد على كون المسيح بشراً يجوز عليه الحياة و الموت كما جاء على سائر الرسل من قبله.

ص: 277

قوله تعالى: «وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ».

برهان ثالث يدل على أنهما اشتملا على أمر ينافي الألوهية، فإن أمه (سلام اللّه علیها) كانت تصدق بكلمات اللّه و آياته و قد نزهت عن التعليق بغير اللّه و بالغت في التصديق به عزّ و جل كما قال تعالى «وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ» و بلغت مرتبة الصديقين، و هي و ابنها كانا يأكلان الطعام بمقتضى الحاجة و الافتقار و إن المسيح عبد و رسول رب العالمين، و هذه كلها تدل على نفي الألوهية بجميع مراتبها عنهما علیهما السلام التي تقوم بالوجود و عدم الافتقار بوجه من الوجوه. و إنما ذکر عزّ و جلّ أكل الطعام و ما يستتبعه من اللوازم لبيان صفة الحاجة و الافتقار التي تلازم جميع المخلوقات و كيف يصير الممكن إلهاً؟!!

قوله تعالى: «انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ».

خطاب لأشرف مخلوقاته و سید أنبيائه (صلوات اللّه عليهم) و منه السائر المخاطبين الذين لهم الأهلية تعجباً من حالهم كيف يدعون لهما الربوبية بعدما تبينت لهم الحقيقة. و قامت الدلائل القطعية على بطلان دعوى الألوهية في المسيح و أمه علیهما السلام.

قوله تعالى: «ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ».

مبالغة في التعجب و شدته كيف أنهم عرفوا الدلائل الواضحة التي لا يعتريها الشك و الريب و أنها بلغت أقصى الغاية في التحقق و الإيضاح.

ثم انظر مدى نكرانهم و إعراضهم، فإن ذلك أعجب منهم إذ كيف

ص: 278

لا تصل إليها عقولهم و إدراكهم مع طول المدة و امتداد الآيات و هم لا يتأثرون بها بل يكذبونها.

قوله تعالى: «قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا».

خطاب آخر و احتجاج جديد بما تمليه فطرتهم في عبادة الرب، فإن عامة الناس إلا من كان له نوع معرفة في عبادة اللّه الواحد الأحد إنما يعبدون الرب و يخضعون له طمعاً في دفع الشر عنهم أو جلب النفع لهم فإذا لم يتمكن المعبود من ذلك فلا وجه لعبادته و الاستفهام للإنكار و المعنى أ تعبدون شيئاً من دون اللّه لا يملك القدرة مثل ما يستطيعه اللّه تعالى من دفع الشر و الضر و إيصال الخير و النفع، فإن ما دون اللّه تعالى لا استطاعة له و لا يملك شيئاً من ضر و لا نفع، فإنه مملوك مربوب، و إن كل ما يستطيعه إنما هو بإقدار من اللّه تعالى عليه لا من عند نفسه، فكيف يمكن أن يتخذ إلهاً معبوداً، فيجب عبادة اللّه الواحد القادر و لا يتعدى إلى غيره فهو العالم بكل ما يحتاج إليه العبد و السميع لدعوته و القادر على إيصاله إلى ما يفيده، و الآية الشريفة تتضمن احتجاجاً آخر على من اتخذ إلهاً من دون اللّه تعالى، و أنه يشترك مع الحجج المتقدمة في أنها من برهان الإمكان و الاحتياج على نفي ألوهية غير اللّه تعالى ولكنها تمتاز عن أخوانها بأمرين:

أحدهما: أنها عامة تشمل جميع ما يعبد من دون اللّه سواء كان من البشر أم من الأوثان و الأصنام كما هو ظاهر كلمة (ما) التي تشمل الجميع.

ص: 279

و الثاني: أنها تشتمل على برهان الإمكان الأشرف الذي هو من البراهين القويمة على وحدانية اللّه تعالى و نفي الشريك عنه عزّ و جلّ، و قد ذكره الحكماء المتألهون و الفلاسفة الشامخون في كتبهم و خلاصته إن كل ما يمكن أن يتصور من الكمالات من صفات الجمال، أو السلوب من صفات الجلال لا بد أن يكون متحققاً في الإله المعبود و إلا لم يكن واجباً بعد تطرق النقص إليه و هو ينحصر في واجب الوجود و هو اللّه تعالى، و ما سواه من دون اللّه يستحيل أن يكون إلهاً معبوداً. و حينئذ يكون الضر و النفع أما من باب المثال لصفات الجلال و الجمال و إنما ذكرة لأجل أهميتهما عند عامة الناس، أو أنهما أول ما تدعو الفطرة إليه في عبادة الإله، أو بحسب وصول غاية مداركم إلى هذين الأمرين. أو لأجل أنهما بالتحليل العقلي يرجعان إلى صفات الجلال و صفات الجمال، كما عرفت.

قوله تعالى: «وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».

أي أتشركون باللّه و الحال أنه هو المحيط بكم إحاطة تامة فهو السميع لأقوالكم المجيب لدعواتكم، العليم بحاجاتكم و سائر أحوالكم فيعلم ما أنتم عليه من الأقوال الباطلة و العقائد الزائفة، و هذه الآية الشريفة بانضمام صدرها تدل على ما ذكرناه من قاعدة الإمكان الأشرف التي استدل بها على إثبات واجب الوجود المتصف بجميع صفات الكمال و المنزل عن السلوب و جميع النقائص، و إنما ذكر هاتين الصفتين (السميع العليم) لملازمتهما لصفات الكمال فإنهما تستلزمان

ص: 280

الحياة و القدرة و الربوبية و القيومية و الإرادة و غيرها، و في إثباتهما له عزّ و جلّ يستلزم إثبات النقص و العجز لغيره و لا يصح عبادة العاجز.

قوله تعالى: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ».

خطاب آخر يبين سبب انحرافهم عن الحق بعد بيان الحجج القويمة و البراهين الدامغة على نفي ألوهية المسيح علیه السلام و غيره ممن يعبد من دون اللّه، و الخطاب لأهل الكتاب لأنهم المبتلون بالغلو على أنحاء مختلفة و خاصة النصارى منهم فيعمل الجميع الذين غلوا في أصول دينهم و فروعه.

أما الأول فقد كان له وجوه مختلفة؛ فتارة يقولون بأن بعض الأنبياء أبناء اللّه تعالى كما حکی تبارك و تعالى عنهم «وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» (سورة التوبة، الآية 30).

و أخرى يعتبرون المسيح إلهاً كما حكى عزّ و جلّ عن النصارى في ما سبق من الآية «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ».

و ثالثه قالوا إن اللّه ثالث ثلاثة كما في قوله تعالى: «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ».

و رابعه اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أرباباً من دون اللّه يعتقدون فيهم

ص: 281

القداسة و النزاهة ما لم يعتقدوا في غيرهم من البشر كما في قوله تعالی: «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» (سورة التوبة، الآية 31).

و خامسه الغلو في اتهام أنبياء اللّه، و نكران الجميل الذي أسدوه إلى أممهم كما اتهمت اليهود المسيح علیه السلام بأنه ولد غير شرعي.

و سادسه الغلو في جعل أنفسهم أبناء اللّه تعالى كما حكى عزّ و جلّ عنهم «وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ» (سورة المائدة، الآية 18).

و أما الغلو في فروع الدين فإنه يتمثل في تحريف الكتب الإلهية لفظاً و معنی و إدخال ما ليس من الدين في الدين مما لم يأذن به اللّه عزّ و جلّ كما حكى عنهم في مواضع مختلفة من القرآن الكريم، و منها إطلاق الأب و الابن على اللّه عزّ و جلّ الممنوع شرعاً و لأنهما مخلوقة.

و مادة (الغلو) تدل على التجاوز عن الحد سواء كان في الدين أو القدرة و المنزلة أو في الماء إذا طفح و الغضب. و لا يكون الغلو إلا بغير الحق، فيكون القيد في قوله تعالى (بغير الحق) للتأكيد و تذكير لازم المعنى لئلا يذهل عنه السامع، كما في قوله تعالى «وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ» و ما ذكر بعض المفسرين من أن الغلو على قسمين غلو بحق و بغير حق و ضرب المثال للأول بالتعمق في المباحث الكلامية فيكون الوصف للتقيد.

ص: 282

كل ذلك مما لا وجه له بل خلاف استعمال اللفظ و لا يسمى الغور في المسائل الكلامية غلوا إذا لم يكن منهياً عنه.

قوله تعالى: «وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا».

الأهواء جمع هوي و هو الباطل الموافق للنفس و سمي به لأنه يهوي بصاحبه إلى النار و إنما ورد بلفظ الجمع تنبيهاً على أن لكل واحد هوى غير هوى الآخر أو باعتبار كثرة الأباطيل التي عمموها بين الناس و أضلوهم بها. ثم إنه بعد أن نهاهم عزّ و جلّ عن الغلو في الدين بجميع مظاهره و وجوهه و أنه غير حق و يجب الاجتناب عنه، نهى عزّ و جلّ في هذه الآية الكريمة عن إتباع الأقوام الذين كانوا السبب في إدخال الغلو في الدين و هم الذين اتخذوهم أرباباً من دون اللّه و اتبعوهم في أمور دينهم و أطاعوهم في آرائهم و بدعهم التي لم ينزل بها اللّه من سلطان، فهم الضالون و المضلون لغيرهم، فإن العقل لم يأذن لأحد أن يتبع غيره في أمور دينه بالتي لم يشرعها اللّه عزّ و جلّ لهم إلا إذا ورد الإذن من صاحب الشرع في الإتباع بحدوده و قيوده المعلومة.

و مما ذكرنا يعلم أن النهي عام يشمل جميع أهل الكتاب الحاضرين منهم وقت الخطاب و غيرهم، كما يشمل عباد الأصنام و الأوثان أيضاً.

قوله تعالى: «وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ».

أي أن الجميع من التابعين و المتبوعين ضلوا عن المحجة البيضاء

ص: 283

و الطريق المستقيم، و خرجوا عن طاعة رب العالمين، و كان هذا الضلال حصيلة ضلالهم و إضلالهم، و تشتمل هذه الآية جميع صور الضلال و منها إنكارهم لنوبة خاتم الأنبياء و تكذيبهم لدينه و ابتعادهم عن الحق، فتكون الآية الشريفة تأكيداً لضلالة الجميع و تعميماً لجميع صوره و وجوهه و بياناً بأن الذي هم عليه ليس من سواء السبيل الذي أمر اللّه تعالی عباده بإتباعه.

ص: 284

بحوث المقام

بحث أدبي

قوله تعالى: «وَقَالَ الْمَسِيحُ» حال من فاعل (قالوا) بتقدير قد لمزيد التقبيح.

و أما قوله تعالى «فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»، أي المنع من دخولها بقهر إلهي نتيجة أفعالهم و أقوالهم و أصل الحرام المنع، فلا تكون من المجاز أو الاستعارة كما زعمه بعض المفسرين متوهماً أنه بمعنى الحرمة التكليفية و لا تكليف ثمة بل استعمل الحرام في معناه الحقيقي و هو المنع.

و أفراد الضمائر في «حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ» و «مَأْوَاهُ» که باعتبار لفظ (من) في «مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ» و الجمع في ما للظالمين من أنصار باعتبار معنی (من).

و «ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ» لا يكون إلا مضافاً كما في رابع أربعة و نحوه، و أجاز النصب بعض القراء و علماء النحو.

و إله في قوله تعالى: «وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ» رفع على البدل من إله على الموضع. و (من) لتأكيد الاستغراق و التعميم.

ص: 285

و قال الكسائي يجوز إتباعه على اللفظ فيجر، و هو لا يجيز زيادة (من) و الحق عدم الزيادة كما ذكرنا مكرراً.

و قد تقدم في التفسير ما يتعلق بهذه الجملة المباركة و قوله تعالی: «لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» قيل أنه جواب قسم محذوف سادّ مسدّ جواب الشرط، و الأكثر مجيء اللازم الموطئة الجواب القسم المحذوف، و قد تحذف اللام و التقدير لئن لم ينتهوا... .

و ما في قوله تعالى: «عَمَّا يَقُولُونَ» موصولة و حذف الضمير العائد.

و إلغاء في «أَفَلَا يَتُوبُونَ» للعطف على مقدر يقتضيه المقام حجزت بین همزة الاستفهام و لا النافية هذه، و الكلمة تفيد الحض و الحث و جملة «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» في موضع الحال و هي مؤكدة.

و (صديقة) للمبالغة و اختلفوا في أنها من الثلاثي المجرد نحو سكير من سكر، و قيل: إنها من صدق مضاعفاً.

و (کیف) في قوله تعالى: «انْظُرْ كَيْفَ» معمول لنبين الجملة في موضع النصب. و (ثم) لإظهار ما بين العجبين من التفاوت أو للتراخي بين العجبين و المراد بيان استمرار زمان بيان الآيات و امتداده أي أنهم مع طول الزمان لا يتأثرون.

و (ما) في قوله تعالى: «قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ» عام يشمل المسيح و الأوثان و الأصنام و كل ما عبد من دون اللّه تعالی أما لأن هذه الحجة أيضاً تقام على الوثنيين و عبدة الأصنام التي لا

ص: 286

شعور لها و لا دخل للمسيح ليعلیه السلام الذي هو من أولي العقل في تمامية الحجة، أو لأن كل محدث من حيث ذاته إنما يدخل في ما لا يشعر، أو لبيان أن المسيح علیه السلام من دون مدد إلهي يكون من هذا الجنس.

و (غير الحق) منصوب على أنه صفة مصدر محذوف أي غلو غير الحق. و ذكرنا ما يتعلق بالتقييد في التفسير، فراجع.

و قيل: إنه منصور على الاستثناء المتصل أو المنفصل ولكنه تبعید للمسافة.

بحث دلالي

تدل الآيات الشريفة على أمور:

الأول: يدل قوله تعالى: «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ» على أن الذين قالوا بهذه المقالة الباطلة و اعتقدوا بهذه العقيدة الزائفة هم من الكفار الذين أنكروا الألوهية رأساً فلا ينفعهم الانتساب إلى النصرانية و كونهم أهل الكتاب، فإن جعل المسيح إلهاً أخرجهم عن ربقة أهل الإيمان و أدرجهم في جماعة الكافرين و إن كان لهم نبي مرسلٌ و كتاب إلهي، و قد تقدم في الآيات السابقة أقسام الكفر.

نعم إن مجرد انتسابهم إلى كتاب إلهي و كونهم أهل الكتاب في القرآن الكريم أوجب ترتب بعض الأحكام الشرعية عليهم فاختلفوا عن المشركين من عبدة الأصنام و الأوثان كما هو مذكور في الكتب الفقهية، و ذكرنا بعضاً منها في سورة النساء و راجع كتابنا مهذب الأحكام.

ص: 287

الثاني: يستفاد من قول المسيح «يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ» أن القول بإلوهيته كان في حياته (صلوات اللّه عليه) و أنكرها أشد إنكار و احتج عليهم بأمور.

أحدها: أن الإله هو اللّه وحده دون غيره و العبادة إنما تكون له.

و ثانيها: إن الإله الذي لا بد من عبادته إنما له من الصفات العليا ما لم تكن في غيره، فهو الرب الذي خلق العباد و أحاط بهم إحاطة تامة و هو ينحصر في اللّه رب العباد جميعهم المسيح و غيرهم، فإن في الربوبية العظمى تظهر قهاریته و كبريائه و عطفه و رحمته و علمه و إرادته و حياته فهو الرب العظيم الذي خلقهم و أفاض عليهم من نعمائه و آلائه و بعث فيهم أنبيائه و رسله و منهم المسيح المبعوث إليهم المربوب له عزّ و جلّ فلا يعقل أن يكون إلهاً.

ثالثها: إن المسيح لا يقدر أن يدخلهم الجنة بعد أن منع اللّه دخولهم جنته و دار كرامته، و كيف يمكن أن يعبد المسيح الذي هو عاجز عن إدخالهم الجنة إذ لم يأذن له اللّه تعالی.

رابعها: إن المسيح لا يمكن أن يصرف عنهم العذاب فلا يدخلون الجنة إذا استحقوا العذاب فقد انتفت عنه أعظم صفة من صفات اللّه تعالى و هي القدرة الكاملة، و هو لا يملك لهم الضرر و النفع و لا يعقل أن يجعل مثل ذلك إلهاً يعبد من دون اللّه و هذا أمر فطري كما سيأتي.

و خامسها: عن الذين قالوا بأن اللّه هو المسيح من الظالمين و ما اللهم من أنصار ينصرونهم أو لم يأذن اللّه تعالى للمسيح أن ينصرهم من

ص: 288

عذاب اللّه، فإذا لم يقدر المسيح الذي اعتقدوا فيه الألوهية نصرتهم فغيره يكون بالأولى.

الثالث: يدل قوله تعالى: «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ» على أن القول بالثليث و التشريك باللّه العظيم مثل القول بأن المسيح هو اللّه كفر، و ظاهر الآية أن هذه المقالة حدثت بعد رفع المسيح علیه السلام و غيابه عنهم أحدثه علماؤهم لأغراض خاصة معلومة ذكر بعضها القرآن الكريم و قد تقدم البحث عن هذه العقيدة في سورة النساء، فراجع.

و كيف كان فإن الاحتجاج عليهم وردها إنما كان من اللّه تعالى لا من المسيح نفسه مثل ما تقدم في قولهم بأن المسيح هو اللّه - تعالى اللّه عما يقولون علواً كبيراً -.

الرابع: يدل قوله تعالى «وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ» على الوحدانية العظمى التي هي من أهم الأغراض التي بعثت الأنبياء و المرسلين لأجل بيانها و تثبيتها و هي من أقدم العقائد و متوغلة في القدم توغل الخلق فيه، و قد أودعها اللّه تعالى في فطرة الخلائق كلها و مرت بمراحل كثيرة و متعددة، فظهرت تارة و انزوت أخرى لأجل شبهات الملحدين و تشکیکات الكافرين حتى وصلت إلى دين الإسلام و شريعة الأنبياء (صلوات اللّه عليهم أجمعين) فتجلت بأحسن صورها و أبهى معانيها و أدق ما يمكن أن يتصور فهيا و بلغت مبلغا لم يصل إليه الفكر الإنساني على مر العصور فتميزت بعرفان زاخر و علم باهر، و اشتملت

ص: 289

الآية الكريمة على هذه الجوهرة الفريدة و مفخرة الكمالات و عنوانها بأحسن أسلوب و أتم برهان و هو أسلوب النفي و الإثبات الذي هو من أتم الأساليب في إثبات المطلوب و نجاحه مع اشتماله على تأكيد الاستغراق بدخول (من) على النفي و إتيان المستثنى بالتنكير المفيد للتنويع فلو جيء به معرفة لم يدفع به قول النصارى و غيرهم القائلين بالتشريك و إن الذات واحدة في عين أنها كثيرة متعددة الصفات ولكن الآية تنفي جميع تلك المزاعم و تثبت الذات الواحدة بالوحدة المطلقة التي لا تتألف منه كثرة و لا تقبل التعدد أبداً لا في الذات و لا في الصفات و لا في الفرض و التوهم و لا في الخارج، و هذه هي حقيقة التوحيد في الإسلام التي يلوح إليه الكتاب الإلهي و كلمات الأئمة المعصومين علیهم السلام و سيأتي مزيد بيان إن شاء اللّه تعالی.

الخامس: يدل قوله تعالى: «وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ» على أن ما اشتملت عليه الآية الشريفة من حقيقة التوحيد، و ما عرفت فيها من لطائف المعاني و دقائق الرموز هي آخر المطاف و المنتهي من كل الأقوال، و يجب الانتهاء إليه و الوقوف عند حده و التجاوز عنه كفر و ليس له عذر بعد ذلك، فإن انتهوا عند هذا الحد و آمنوا به کانوا مؤمنين و إلا كانت النار جزاؤهم و مأواهم و بئس المصير.

السادس: يدل قوله تعالى: «لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» على أن القول بالتثليث من الذنب العظيم الذي يوجب هذا النوع من الجزاء هو مس العذاب المؤلم لأبدانهم و إدراكهم له جزاء نكرانهم

ص: 290

للتوحيد بعد إدراكهم له و معرفتهم به، فينالون بأبدانهم و مشاعرهم من أنواع الأذى و الآلام.

السابع: يستفاد من قوله تعالى: «أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ» إن التوبة عن هذا الذنب إنما تتحقق بالرجوع إلى اللّه و عبادة الواحد الأحد و نفي الشريك عنه و الانقلاع عن ما يقولونه و طلب الغفران منه عزّ و جلّ و اللّه غفور رحيم فلا يكفي مجرد الاستغفار و طلب الخلاص، و في الآية الشريفة إشعار بإصرارهم على ذلك و عدم الانقلاع من هذا القول.

الثامن: يستفاد من قوله تعالى: «مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ» نفي إلوهية المسيح أولاً و كونه أحد الثلاثة لكونه ابن امرأة فهما ممکنان، ثم إنه يموت كما مات الرسل من قبله و إن كان قد شرف بصفة الرسالة فكان داعياً إلى من أرسله و لا يخالفه في شيء.

و كل تلك الصفات هي من صفات سائر أفراد البشر و لا يتميز عن غيره إلا بالرسالة التي هي صفات المخلوقين أيضاً، و الإله لا يتصف بها. ثم نفي إلوهية مرمي و أنها أحد الثلاثة لكونها تتصف بصفة الإمكان كما اتصف ابنها بها و إنهما محتاجان كسائر أفراد جنس الحيوان، ولكنها تتصف بصفة التصديق التي هي من صفات المخلوقين أيضاً فتشرف أحدهما بالرسالة و الآخر بصفة التصديق، و هما و إن كانتا من الكمالات لكنهما لا تجعلان المتصف بهما من الآلهة، و إلا استلزم

ص: 291

الخلف كما هو واضح فتعين أن يكون الإله واحداً و هو اللّه الواحد الأحد، فهذه آیات واضحات لا ريب فيها و لا غموض ولكن العناد و اللجاج منهم يمنعهم عن الإذعان لها فكانوا من المكذبين المؤتفكين الذين سينالهم جزاؤهم. و إنما قدم سبحانه الكمال ما لأفراد جنسهما من نقائص البشرية لئلا توحشهم مفاجأة ذلك.

التاسع: ذكر بعض المفسرين أن المراد من قوله تعالى: «كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ» المعنى الكنائي و هو قضاء الحاجة لأن من أكل الطعام احتاج إلى النفض، فيكون ذكره أمرّ ذوقاً في أفواه مدعي إلوهيتهما لما فيه من البشاعة العرفية و ليس المقصود سوى الرد على النصارى في اعتقادهم الكريه، ولكن المعنى الذي ذكرناه في التفسير أعم لدلالته على اللازم و الملزوم كما عرفت.

العاشر: يستفاد من تكرار الأمر بالنظر في الموردين «انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» لزوم المراقبة و دوام التفكير في الآء اللّه تعالى و نعمائه و آياته و قدم الأمر بالنظر في الكمالات و لزوم التحلية بها لأهمية الموضوع و أنه مع الدوام على ما هم عليه ينتفي موضوع النظر الثاني الذي هو أمر بالتخلية من الرذائل فمع بقائها في النفس و الوصول إلى درجة العناد و اللجاج لا يصير مؤهلاً لتلقي الفيض و النظر في الآيات البينات.

الحادي عشر: يستفاد من قوله تعالى: «قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا» إن الحجة لا بد أن تكون مما یدرکه

ص: 292

الفهم المتعارف و العقل البسيط الساذج فإن الخطاب في الآية الكريمة مع الفطرة في هذا الأمر المهم أن أول ما يدركه الإنسان في اتخاذ الرب لعبادته هو دفع الشر و الضر عنه و جلب النفع إليه، و هذا إنما يملکه اللّه دون غيره المملوكين الذين يفقد فيهم ذلك و فاقد الشيء لا يعطي، فيجب أن يرفض عبادة غير اللّه تعالى. و إنما قدم عزّ و جلّ الضر على النفع جرياً على الطبع لأن الإنسان بحسب طبعه إنما يلتجئ في مقام الضر و فقدان النعم إلى الرب ليدفع عنه ذلك. و أما إذا كانت النعم موجودة عنده و قد تلهى بها و لم يجد في نفسه ألم فراقها فلا يلتفت إليه، فيكون مس الضر أبعث للإنسان إلى الخضوع للرب و عبادته من وجدان النفع کما بينه عزّ و جلّ في غير هذا الموضع، قال تعالى:«وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا» ( سورة الفرقان، الآية 3). و بين ذلك بوضوح في قوله تعالى: «وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا» (سورة الإسراء، الآية 83).

الثاني عشر: يستفاد من قوله تعالى: «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ» أن الغلو في الدين لا يكون حقاً أبداً، و أنه من الضلال و الخروج عن سواء السبيل الذي جعل عزّ و جلّ دينه القيم منه.

الثالث عشر: يستفاد من ذكر كلمة (ما) في قوله تعالى: «قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ». إن ما سوى اللّه تعالى من

ص: 293

دون فيضه و نعمه من الجماد الذي لا يعقل، فإن من كان له من الشعور و العقل لا يملكهما من عند نفسه كسائر ما ينسب إليه من شؤون وجوده، قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ» (سورة الأعراف، الآية 195).

بحث روائي

العياشي عن زرارة قال: كتبت إلى أبي عبد اللّه علیه السلام مع بعض أصحابنا في ما يروي عن النبي صلی اللّه علیه و آله و سلم أنه من أشرك باللّه فقد وجبت له النار، و من لم يشرك باللّه فقد وجبت له الجنة؟ قال صلی اللّه علیه و آله و سلم: «مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» و أما قوله: من لم يشرك باللّه فقد وجبت له الجنة، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام: ههنا النظر هو من لم يعص اللّه».

أقول: ما ذكره علیه السلام موافق للقواعد العامة و الأدلة الكثيرة التي تدل على أن دخول الجنة إنما يكون بالإيمان و العمل الصالح و الطاعة و هي إتيان الواجبات و ترك المعاصي و المحرمات، و إن مجرد الابتعاد عن الشرك لا يوجب الدخول في الجنة إلا مع توفر بقية الشروط.

في تفسير القمي عن أبي جعفر الباقر علیه السلام أما المسيح فعصوه و عظموه في أنفسهم حتى زعموا أنه إله ابن اللّه، و طائفة منهم قالوا ثالث ثلاثة، و طائفة منهم قالوا هو اللّه.

ص: 294

أقول: يستفاد من الحديث أن المسيح علیه السلام كان عارفاً ببعض تلك المقالات الباطلة و ردعهم عنها فعصوه، و أن تلك إنما حدث من الغلو فيه (عليه الصلاة و السلام) فقدسوه و عظموه حتى انتهى الأمر بهم إلى قول بالتأليه فيه بنحو من الأنحاء.

في العيون عن الرضا علیه السلام عن آبائه عن علي علیه السلام في قوله تعالى: «كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ» معناه: أنهما كانا يتغوطان.

أقول: رواه العياشي مرفوعاً. و تقدم أنه من المعنى الكنائي و عرفت الوجه في ذلك.

و في الاحتجاج عن أمير المؤمنين علیه السلام في جواب الزنديق في قوله تعالى «كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ» يعني أن من أكل الطعام كان له ثقل و من كان له ثقل فهو بعيد عما ادعته النصارى لابن مريم.

أقول: إن ما ذكره علیه السلام إنما هو من لوازم الإمكان و الحاجة كما أن التغوط و المعنى الحقيقي للكلمة كلها من ذلك أيضاً أو أن المراد له ثقل خرج عن التجرد و مفارقته للمادة و هو بعيد مما ادعته النصارى لابن مريم من الألوهية.

* * *

ص: 295

ص: 296

الفهرس

مقدمة...5

بعض المقامات لأصحاب السير و السلوك...7

بعض مقامات أهل السير و السلوك...13

بعض الرموز و الإشارات للسالكين...17

الطائف عرفانية...28

طريق الكمال الإنساني...35

قابلية الإنسان و استعداده...41

الحجب الظلمانية التي تمنع النفس من الاستكمال...42

مقام الولاية و عظيم أثرها في التشريع و التكوين...45

الهجرة...48

أقسام الهجرة...49

ص: 297

أسباب الهجرة...51

آثار الهجرة...51

موانع الهجرة...52

الفيوضات الإلهية...54

في لزوم إزالة الحجب لتلقي الفيوضات الإلهية...61

الحجب و الموانع من نيل الأسرار الربانية...64

بعض العادات التي توجب طمس نور الفطرة...68

نعمة الامتحان و الابتلاء...70

مهلكات النفس و ما يوجب الاطمئنان...75

مراتب الذكر...79

أهمية التربية...81

أقسام الحياة...90

بحث عرفاني...100

الدعاء في القرآن...101

بحوث المقام...110

بحث أدبي...110

ص: 298

بحث دلالي...111

بحث روائي...115

بحث علمي...117

فضل الدعاء...118

حقيقة الدعاء...122

ما أُورد على الدعاء...124

الدعاء ارتباط روحي...128

شروط الدعاء...131

شروط الكمال للدعاء...136

مراتب السلوك...144

مقام التوكل...146

فضل التوكّل...146

التوكّل في الكتاب الكريم...147

التوكّل في السنّة الشريفة...150

معنى التوكّل...151

حقيقة التوكّل...153

ص: 299

شروط التوكّل...157

درجات التوكّل...160

آثار التوكّل...163

الإخلاص...165

حقيقة الإخلاص...166

درجات الإخلاص...166

منافيات الإخلاص...168

الفرق بين الرضا و الإخلاص...169

التوبة في القرآن...171

بحوث المقام...183

بحث دلالي...183

بحث روائي...189

محبوبية التوبة...191

الصلاة و تزكية النفس...193

التقوى و تهذيب النفس...197

بحث روائي...200

ص: 300

بحث عرفاني...202

معرفة النفس...205

بحث الإرادة...217

تعريف الإرادة...217

إرادة الإنسان...219

حقيقة الإرادة...221

إرادة اللّه تعالى...223

معنى الإرادة فيه عزّ و جلّ...229

أقسام الإرادة...235

صفات اللّه التنزيهية...237

جزاء الأعمال...240

خلافة الأئمة...242

القدر...244

التقوى في القرآن و السنة...246

النبيون و الربانيون و الأحبار...250

مقام الأنبياء و الرسل...255

ص: 301

عقيدة الإنسان...258

الولاية الإلهية...261

مقام الولاية...266

بحوث في التوصية و الألوهية...271

بحوث المقام...285

بحث أدبي...285

بحث دلالي...287

بحث روائي...294

ص: 302

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.