جعفر الطيار علیه السلام فتى النقاء والعفاف والجهاد ويليه : فاطمة بنت أسد (سلام الله علیها)مثال الإيمان والتضحية والايثار

هویة الکتاب

جعفر الطيار علیه السلام

فتى النقاء والعفاف والجهاد

ويليه :

فاطمة بنت أسد (سلام الله علیها)

مثال الإيمان والتضحية والايثار

المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي(دام ظله)

ص: 1

اشارة

ص: 2

بسمه تعالى

جعفر الطيار (علیه السلام) فتى النقاء والعفاف والجهاد

اشارة

جعفر الطيار (علیه السلام)

فتى النقاء والعفاف والجهاد(1)

بمناسبة يوم الفتوة نستذكر جوانب من السيرة العطرة لأحد عظماء الفتوة في الإسلام قلّما يذكر في المجالس؛ لنستلهم منه دروس العفاف والاستقامة والجهاد في سبيل الله تعالى ونصرة قادة الإسلام، ولندخل السرور على قلب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وأمير

ص: 3


1- تحقيق كتبه سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي بمناسبة انطلاق يوم الفتوة حيث دعا سماحته في خطبتي عيد الفطر 1440 ه الموافق 5/ 6/ 2019 إلى تعيين يومٍ للفتوة واختار له الخامس عشر من شوّال يوم نادى وحي السماء: (لا فتى إلا عليّ) وقد لخّص سماحته هذا البحث بحديث مع جمع من الشباب الفاعلين يوم 11/شوال/1440 الموافق 15/ 6/ 2019 وفي مجلس بحثه الشريف يوم 4/ ذ. ق./1440 الموافق 8/ 7/ 2019.

المؤمنين وفاطمة الزهراء (صلوات الله عليهما) لحبّهم إياه وبقدر حزنهم عليه.إنه جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم و أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم فهو وإخوته أول من اجتمعت لهم ولادة هاشم من جهة الأم والأب، وكان (جعفر أكبر من علي علیه السلام بعشر سنين وكان عقيل - والد سفير الإمام الحسين مسلم - أكبر من جعفر بعشر سنين وكان طالب أكبر من عقيل بعشر سنين)(1).

وروى البلاذري بسنده عن الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) رواية تذكر فروقاً في العمر بينهم أقل من ذلك(2)، ولم تذكر بعضها ولداً باسم طالب ولا ذكر له

ص: 4


1- مقاتل الطالبيين، لأبي الفرج الأصفهاني: 3، الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر المطبوع بهامش الإصابة: 1/ 210.
2- أنساب الأشراف، أحمد بن يحيى البلاذري (ت279 ه): 40.

في التأريخ، وربما توهّمه بعضهم من جهة كنية أبي طالب.

نشأته الطاهرة

ولد ونشأ في بيت طهر وعفاف و إيمان وتوحيد قبل الإسلام وهو بيت أبي طالب سيد قريش وحامي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وكافله وناصره، وفاطمة بنت أسد المضحّية المجاهدة(1)، لذلك عفّت نفسه منذ صباه عما كان يمارسه أهل الجاهلية من فواحش وعبادة للأوثان وهي حالة نادرة في ذلك المجتمع الجاهلي الغارق في الفسق والفجور.

وقد أشاد النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بهذه الفضيلة لجعفر بعد

ص: 5


1- سنلحق بالكتاب كلمة ألقاها سماحة المرجع اليعقوبي سابقاً عن فاطمة بنت أسد ونُشرت في موسوعة خطاب المرحلة: 2/ 5672.

ذلك وأراد إشهارها بين المسلمين ليعرفوا فضله وسمو بيته الطاهر حتى لا ينافسهم من لا يدانيهم في هذه المرتبة، فقد روي عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) (قال: أوحى الله تعالى إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) إني شكرت لجعفر بن أبي طالب أربع خصال، فدعاه النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) فأخبره، فقال: لولا أن الله تبارك وتعالى أخبرك ما أخبرتُك، ما شربت خمراً قط، لأني علمت أني إن شربتها زال عقلي، وما كذبت قط، لأن الكذب ينقص المروة، وما زنيت قط لأني خفت أني إذا عملت عُمل بي، وما عبدت صنماً قط لأني علمت أنه لا يضر ولا ينفع، قال: فضرب النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) على عاتقه وقال: حق لله تعالى أن يجعل لك جناحين تطير بهما مع الملائكة

ص: 6

في الجنة)(1).فالخصال الحميدة الراسخة في قلب الإنسان ونفسه يحبّها الله تعالى ويشكرها لعبده ويجازيه عليها.

سبقه الى الاسلام

ولذا كان من الطبيعي أن يسارع إلى الإيمان بالنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) حينما بعث بالنبوة لم يسبقه إلا علي و خديجة صلوات الله عليهما وأبو طالب الذي كان يخفي إسلامه، وكان ذلك في الأيام الأولى من دعوته السرية التي استمرت ثلاث سنوات على ما روي قبل الصدع بها، وكان جعفر يومئذ في العشرين من عمره، روى في البحار عن علي بن إبراهيم صاحب التفسير عن بدء بعث النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) إلى أن قال: (فلما أتى لذلك – أي

ص: 7


1- علل الشرائع: 2/ 558.

البعثة والتحاق علي وخديجة – أيام دخل أبو طالب إلى منزل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ومعه جعفر، فنظر إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وعلي بجنبه يصليان، فقال لجعفر: يا جعفر صِلْ جناح ابن عمك(1)، فوقف جعفر بن أبي طالب من الجانب الآخر)(2). ورواه الشيخ الصدوق في الأمالي بسنده عن الإمام الصادق (علیه السلام) وفيه (فلما أحسَّه – أي التحاق جعفر

ص: 8


1- وهي تعني أن يقف إلى يسار رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ليكمل وقوف أخيه علي إلى يمينه، أو تعني نصرته وتقويته كما في قول أمير المؤمنين (علیه السلام): (صِل عشيرتك فإنهم جناحك الذي به تطير) (نهج البلاغة:3/ 57).
2- بحار الأنوار: 18/ 184، ح14. ورواه من العامة في كنز العمال :13/ 146ح36917 وفيه (فلما قضى النبي صلاته التفت الى جعفر فقال: اما إن الله قد وصلك بجناحين تطير بهما في الجنة كما وصلت جناح ابن عمك).

به – تقدمهما وانصرف أبو طالب مسروراً وهو يقول:

إن علياً وجعفراً ثقتي *** عند ملم الزمان والكربِ

والله لا أخذل النبي ولا *** يخذله من بنيَّ ذو حسبِ

لا تخذلا وانصرا ابن عمكما *** أخي لأمي من بينهم وأبي

قال: فكانت أول جماعة جمعت ذلك اليوم)(1).

فليس صحيحاً ما ذكره ابن هشام في سيرته(2) وابن حجر في الإصابة عن ابن إسحاق أنه ((أسلم بعد

ص: 9


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 304 وأورده المجلسي في بحار الأنوار، وقال: ((روى السيد في الطرائف عن أبي هلال العسكري من كتاب الأوائل مثله)) (بحار الأنوار: 35/ 68، ح2 عن الطرائف: 87).
2- السيرة النبوية لابن هشام: 1/ 233.

خمسة وعشرين رجلاً وقيل بعد واحد وثلاثين))(1) وذكر ابن هشام أسماءهم.

ص: 10


1- الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر العسقلاني (ت 852 ه): 1/ 237.

هجرته إلى الحبشة وإسلام ملكها على يديه

خرج على رأس المسلمين الأوائل من مكة في رحلة محفوفة بالمخاطر والمشقة مهاجرين عبر البحر الأحمر إلى الحبشة (اثيوبيا اليوم) ولم تذكر المصادر كيفية خروجهم وقريش المستكبرة العنيدة تتربص بأصحاب النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وتلاحقهم بالتعذيب والتنكيل ليرجعوا عن دينه حتى استشهد والدا عمار بن ياسر تحت التعذيب ولا تسمح قريش بخروج هذا الجمع من ابنائها عن سلطتها ويخشون من افسادهم للعلاقة بينهم وبين ملك الحبشة.

وعلى أي حال فربما كان خروجهم بحماية من ابي طالب او خرجوا سراً متخفّين الواحد والاثنين ثم

ص: 11

اجتمعوا في مكان ليعبروا البحر، وكان مع جعفر (علیه السلام) امرأته أسماء بنت عميس الخثعمية. روى ابن هشام عن ابن إسحاق قال: ((فلما رأى رسول الله (صلى الله عليه - وآله - وسلم) ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، لمكانه من الله ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه. فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه - وآله - وسلم) إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة،

ص: 12

وفراراً إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة كانت في الإسلام))(1). وقال: ((فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه - وآله - وسلم) قد آمنوا واطمأنوا بأرض الحبشة، وأنهم قد أصابوا بها داراً وقراراً، ائتمروا بينهم أن يبعثوا فيهم منهم رجلين من قريش جلدين إلى النجاشي، فيردهم عليهم، ليفتنوهم في دينهم، ويخرجوهم من دارهم التي اطمأنوا بها وأمنوا فيها، فبعثوا عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص بن وائل، وجمعوا لهما هدايا للنجاشي ولبطارقته، ثم بعثوها إليه فيهم))(2).

ص: 13


1- السيرة النبوية لابن هشام: 1/ 280.
2- المصدر السابق: 1/ 288.

ونفّذ الرجلان ما أرسلا به وطلبا من النجاشي رد المهاجرين إلى بلدهم وتسليمهم إلى قريش، وروت لنا أم المؤمنين أم سلمة ما جرت من أحداث وكانت مع زوجها أبي سلمة في المهاجرين، وكان المتحدث باسم المهاجرين والمبيّن للدين الجديد جعفر بن أبي طالب (علیه السلام)، قالت أم سلمة: (فأرسل النجاشيّ إلى أصحاب رسول الله (صلى الله عليه - وآله - وسلم) فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائناً في ذلك ما هو كائن. فلما جاؤوا - وقد دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله - سألهم فقال لهم: ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في ديني، ولا في دين أحد من

ص: 14

هذه الملل؟ قالت: فكان الذي كلّمه جعفر بن أبي طالب (رضوان الله عليه)، فقال له: أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوى منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام -. قالت -أي أم سلمة: فعدّد عليه أمور الإسلام – فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من

ص: 15

الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً، وحرّمنا ما حرّم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن إلا نظلم عندك أيها الملك. قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأه عليّ، قالت: فقرأ عليه صدراً من {كهيعص} -أي سورة مريم. قالت: فبكى والله النجاشي حتى أخضلّت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال (لهم) النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من

ص: 16

مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون)(1). ومن هذه الكلمات نعلم أن جعفراً قد أُشرِب بالإيمان في قلبه ووعى أحكام الإسلام وكان بعضها لم يشرَّع بعدُ -كالصوم الذي وجب في المدينة فمن المحتمل أن يكون جعفر من خاصة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وأهل بيته الذين كانوا يعملون بتمام الشريعة قبل تكليف عامة الناس بها، أو أنه (علیه السلام) أدرك هذه الأحكام بفطرته السليمة ونقاوته وإن لم ينزل بها تشريع، او انها من الحنيفية التي كان يتعبد بها على دين إبراهيم (علیه السلام) قبل ان يبعث النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بالإسلام.

وبذلك استحق أن يكون سفيراً للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وداعياً

ص: 17


1- نفس المصدر: 1/ 290.

إلى الإسلام، وقد أجرى الله تعالى الخير على يديه حيث أسلم النجاشي ملك الحبشة ببركة جهوده(1).بقي في الحبشة سنين طويلة قد تصل إلى خمس عشرة سنة ولم يحضر وفاة والده أبي طالب سيد البطحاء وناصر رسول الله وحاميه في مكة قبل الهجرة بثلاث سنين بعد محنة الحصار في الشِعب بين الجبال، ولا وفاة أمه فاطمة بنت أسد التي قال فيها رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لمّا أبلغه ولدها علي (علیه السلام) بوفاتها: (رحم الله أمك يا علي، أما إنها إن كانت لك أماً فقد كانت لي أماً)(2) وصلى عليها صلاة لم يصلها على أحد قبلها، وقد توفيت في المدينة بعد الهجرة.

ص: 18


1- الإصابة في تمييز الصحابة: 1/ 237.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 78/ 350 عن أمالي الصدوق: 180.

هل حضر جعفر (علیه السلام) زواج أخيه علي (علیه السلام)

ذكرت الروايات من كتب الفريقين ان أسماء بنت عميس زوج جعفر بن ابي طالب حضرت زواج امير المؤمنين وفاطمة (صلوات الله عليهما) وهي التي هيأت فاطمة وزفّتها الى زوجها بحضور رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وان النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) امر النساء بالخروج فخرجن الا أسماء فسالها عن السبب قالت ((فداك ابي وامي ان الفتاة اذا زُفّت الى زوجها تحتاج الى امرأة تتعهدها وتقوم بحوائجها فاقمت هاهنا لأقضي حوائج فاطمة (عليها السلام) ، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) (يا أسماء قضى الله لك حوائج الدنيا والاخرة) ، (1) وفي رواية أخرى ان النبي

ص: 19


1- كشف الغمة: 1/ 363 فصل في تزويج علي وفاطمة(عليهما السلام).

(صلی الله علیه و آله و سلم) استثناها من الامر بالانصراف وقال لها (كما انت على رسلك من انت؟ قالت: انا التي احرس ابنتك ان الفتاة ليلة يبنى بها لابد لها من امرأة تكون قريبة منها ان عرضت لها حاجة او ارادت شيئا افضت بذلك اليها، قال النبي (صلی الله علیه و آله و سلم): فاني اسال الله ان يحرسك من بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك من الشيطان الرجيم)(1)وروت أسماء للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) السبب مفصلاً فقالت: ((حضرت وفاة خديجة (عليها السلام) فبكت، فقلت: أتبكين وأنت سيدة نساء العالمين، وأنت زوجة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) مبشرة على لسانه بالجنة، فقالت: ما لهذا بكيت، ولكن المرأة ليلة زفافها لا بد لها من امرأة تفضي إليها بسرها،

ص: 20


1- كفاية الطالب في مناقب امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) الحافظ الكنجي / 304

وتستعين بها على حوائجها وفاطمة حديثة عهد بصبي وأخاف أن لا يكون لها من يتولى أمرها حينئذ فقلت:يا سيدتي لك [علي] عهد الله إن بقيت إلى ذلك الوقت أن أقوم مقامك في هذا الامر فلما كانت تلك الليلة وجاء النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أمر النساء فخرجن وبقيت، فلما أراد الخروج رأى سوادي فقال: من أنت؟ فقلت: أسماء بنت عميس، فقال: ألم آمرك أن تخرجي؟ فقلت: بلى يا رسول الله فداك أبي وأمي، وما قصدت خلافك، ولكني أعطيت خديجة عهدا - وحدثته - فبكى، فقال: بالله لهذا وقفت؟ فقلت: نعم والله فدعا لي) (1)

ص: 21


1- بحار الأنوار: ج 43 / 138عن كشف الغمة: 1/ 365

قال ابن شهر آشوب في المناقب ((وباتت عندها أسماء بنت عميس اسبوعاً بوصية خديجة فدعا لها النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في دنياها وآخرتها)).وهنا يرد اشكال سجله عدد من المؤرخين والكتاب في سيرة اهل البيت (عليهم السلام).

حاصله: ان زواج امير المؤمنين (عليه السلام) كان بعد معركة بدر مباشرة والمشهور انه في ذي الحجة من السنة الثانية للهجرة، وكانت أسماء يومئذٍ في الحبشة مع زوجها جعفر وعادا الى المدينة في السنة السابعة فكيف تصح هذه الرواية، ومن البعيد ان تكون تركت جعفر هناك وعادت الى المدينة لانها بقيت معه هناك وولدت له أولاد هناك وعادت معه، واذا قبلنا بحضورها زواج امير المؤمنين (عليه السلام) فلابد ان نقبل بحضور جعفر (عليه السلام) أيضاً.

ص: 22

بل صرحت بعض المصادر بوجود جعفر (عليه السلام) في المناسبة كالذي أورده ابن شهر اشوب في المناقب عن ابن مردويه قال ((فمكث علي تسعة وعشرين ليلة -- أي بعد اجراء الخطوبة والعقد في شوال -- فقال له جعفر وعقيل: سله ان يدخل عليك أهلك)) (1) وان جعفر كان مع علي حمزة وعقيل في موكب الزفاف. وممن أورد الاشكال محمد بن يوسف الكنجي الشافعي ثم قال ((قال محمد بن يوسف هكذا رواه ابن بطة وهو حسن عال، وذكر أسماء بنت عميس في هذا الحديث غير صحيح، لان أسماء هذه امرأة جعفر بن أبي طالب تزوجها بعده أبو بكر فولدت له محمدا، فلما مات أبو بكر تزوجها علي بن أبي طالب (عليه السلام) وإن

ص: 23


1- مناقب آل أي طالب : 3/ 353 فصل في تزويجهما (صلوات الله عليها)

أسماء التي حضرت في عرس فاطمة (عليها السلام) إنما هي أسماء بنت يزيد ابن السكن الأنصاري، وأسماء بنت عميس كان مع زوجها جعفر بالحبشة، وقدم بها يوم فتح خيبر سنة سبع، وكان زواج فاطمة (عليها السلام) بعد وقعة بدر، بأيام يسيرة فصح بهذا أن أسماء المذكورة في هذا الحديث إنما هي بنت يزيد ولها أحاديث عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)) . (1)

لكن السيد محسن الأمين (قدس) ناقش في هذا التوجيه وقال ((واشتباه أسماء بنت عميس بأسماء بنت يزيد ممكن بان يكون الراوي ذكر أسماء فتبادر إلى الأذهان بنت عميس لشهرتها الا ان آخر الحديث ينافي ذلك لان فيه انها حضرت وفاة خديجة وخديجة

ص: 24


1- بحار الانوار: 43/ 134 ح 32 عن كفاية الطالب : 307 باب 82 ملخصاً

توفيت بمكة قبل الهجرة وأسماء بنت يزيد أنصارية من أهل المدينة ولم تكن بمكة حتى تحضر وفاة خديجة مع أن هذا ان رفع الاشكال في أسماء لم يرفعه في جعفر الذي كرر مرتين ذكره واحتمل في كشف الغمة أن تكون التي شهدت الزفاف سلمى بنت عميس أخت أسماء وزوجة حمزة وأن يكون بعض الرواة اشتبه بأسماء لشهرتها ، (1) وهذا أيضا ان رفع الاشكال في أسماء لا يرفعه في جعفر الا ان يقال لما حصل الاشتباه في أسماء حصل الاشتباه في جعفر فجعل موضع حمزة والله أعلم)). (2)

أقول: يمكن ان نفسَّر ورود ذكر أسماء بنت عميس وزوجها جعفر في الروايات بما ذكروه من الاشتباه على

ص: 25


1- وجعل بعضهم ما يؤيد ذلك شهود سلمى وفاة خديجة (عليها السلام)
2- اعيان الشيعة: 1/ 380

ان مناقشته السيد الأمين يمكن ردّها اذا استظهرنا كون هجرة جعفر وأسماء الى الحبشة كانت قبل وفاة خديجة(عليها السلام) اما اذا صحّت وصية خديجة لأسماء فنحتمل ان النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ارسل الى جعفر وأسماء في الحبشة ان يأتوا على نحو السرعة ليحضروا زواج علي وفاطمة وتُنفّذ وصية خديجة (عليها السلام) لان النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) كان يحب كل ما تحبه خديجة ويحرص على تنفيذ كل ما اوصت به كما تشهد به الروايات وهذه الوصية فيها إدخال للسرور على قلب خديجة وهي في اعلى عليين فما كان ليفوّتها النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) فأمر جعفر ان يأتي بأسماء الى المدينة ولو بمقدار حضور هذه المناسبة ولا مانع من ذلك فالطريق من الحبشة إلى المدينة عبر البحر لم يكن فيه مشقة وقد فعل المسلمون المهاجرون

ص: 26

الى الحبشة ما هو اخطر من ذلك حيث وصلهم خبر ان قريش قد آمنت بالنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) واستقرت الأوضاع في مكة فعاد جمع منهم إلى مكة (ومنهم أبو سلمة وزوجته أم سلمة وابنهما) فلما وصولوا قريباً من مكة عرفوا كذب الخبر فمنهم من رجع الى حبشة ومنهم من دخل مكة وبقى فيها الى ان هاجر مع المسلمين الى المدينة (ومنهم أبو سلمة الذي استشهد بعد معركة أحد من جرح أصابه فيها) فعودة جعفر وامرأته إلى المدينة وارد جداً لكنه لم يحظ بضجة إعلامية لأن مهمته لم تنته بعد كما حصل له عند رجوعه النهائي في السنة السابعة من الهجرة.

ص: 27

عودته إلى المدينة وسرور النبي البالغ به

ورجع إلى المدينة في أوائل السنة السابعة من الهجرة واختط له النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) داراً إلى جنب المسجد(1)، وكان قدومه متزامناً مع انتصار النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) على اليهود في خيبر وفتح حصونهم على يدي أخيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام)، وفي رواية حذيفة بن اليمان قال: ((قدم جعفر رحمه الله والنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بأرض خيبر فأتاه بالفرع من الغالية والقطيفة، فقال النبي (صلی الله علیه و آله و سلم): (لأدفعن هذه القطيفة إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله)(2) فدفعها

ص: 28


1- الاستيعاب في معرفة الأصحاب، لابن عبد البر يوسف بن عبد الله القرطبي (ت 463ه): 1/ 210.
2- بحار الأنوار: 21/ 19 عن المجالس والأخبار: 36 وفيه عن القاموس ((فرع كل شيء أعلاه، ومن القوم: شريفهم، والمال الطائل المعدّ))

إلى علي (علیه السلام) .. إلى آخر الرواية)).وفرح النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بقدومه أشد الفرح فقد روى زرارة عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: (ولما افتتح رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) خيبر أتاه البشير بقدوم جعفر بن أبي طالب وأصحابه من الحبشة إلى المدينة، فقال (صلی الله علیه و آله و سلم): ما أدري بأيهما أنا أسَرّ، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر)(1).

وعن سفيان الثوري، عن أبي الزبير، عن جابر قال: (لما قدم جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة تلقاه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فلما نظر جعفر إلى رسول الله

ص: 29


1- التهذيب للشيخ الطوسي: 3/ 186.

(صلی الله علیه و آله و سلم) حجل(1)، فقبل رسول الله بين عينيه). وروى زرارة، عن أبي جعفر الباقر علیه السلام (أن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لما استقبل جعفراً التزمه ثم قبل بين عينيه، قال: وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بعث قبل أن يسير إلى خيبر عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي عظيم الحبشة ودعاه إلى الإسلام فأسلم، وكان أمر عمرواً أن يتقدم بجعفر وأصحابه، فجهز النجاشي جعفراً وأصحابه بجهاز حسن، وأمر لهم بكسوة وحملهم في سفينتين)(2).

ص: 30


1- الحجل أن يمشي بخطوات متقاربة كالمقيد أدباً وهيبة لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وقيل في معناه أن يرفع رجلاً ويقفز على الأخرى من الفرح، وقد يكون بالرجلين إلا أنه قفْزٌ، ورد التصريح بالمعنى الاول في رواية كنز العمال قال (حجل اعظاماً منه لرسول الله)(كنز العمال :13/ 145، ح36908).
2- بحار الأنوار: 21/ 23 عن إعلام الورى بأعلام الهدى: 107109.

وروى الشيخ الصدوق في الخصال والعيون بإسناده عن أبي محمد العسكري، عن آبائه، عن علي قال: (إن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لمّا جاءه جعفر بن أبي طالب من الحبشة قام إليه واستقبله اثنتي عشرة خطوة، وقبل ما بين عينيه وبكى، وقال: لا أدري بأيهما أنا أشد سروراً؛ بقدومك يا جعفر أم بفتح الله على أخيك خيبر؟ وبكى فرحاً برؤيته)(1).

ص: 31


1- بحار الأنوار: 21/ 24 عن الخصال: 2/ 82، عيون أخبار الرضا: 140.

صلاة جعفر: هدية أهل الكمالات المعنوية

وقدّم له النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) هدية معنوية جليلة بهذه المناسبة وهي الصلاة المعروفة بصلاة جعفر الطّيار التي يصفها العرفاء بأنها الإكسير الأعظم لنيل الكمالات المعنوية، وهي من مختصات أهل الولاية التي حباهم الله تعالى بها، فكانت صدقة جارية لجعفر يأتيه مثل ثواب من أقامها إلى يوم القيامة فجزاه الله خير جزاء المحسنين وأحسن مثواه.

وقد وردت عشرات الأحاديث في فضلها وثواب أدائها وكيفيتها، روى الكليني بسند صحيح عن أبي بصير عن الإمام الصادق قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لجعفر: يا جعفر ألا أمنحك ألا أعطيك ألا أحبوك فقال له جعفر: بلى يا رسول الله، قال: فظن الناس أنه يعطيه

ص: 32

ذهباً أو فضة، فتشرف الناس لذلك، فقال له: إني أعطيك شيئاً إن أنت صنعته في كل يوم كان خيراً لك من الدنيا وما فيها وإن صنعته بين يومين غفر لك ما بينهما أو كل جمعة أو كل شهر أو كل سنة غفر لك ما بينهما، تصلي أربع ركعات تبتدئ فتقرأ وتقول إذا فرغت: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، تقول ذلك خمس عشرة مرة بعد القراءة فإذا ركعت قلته عشر مرات فإذا رفعت رأسك من الركوع قلته عشر مرات فإذا سجدت قلته عشر مرات فإذا رفعت رأسك من السجود فقل بين السجدتين عشر مرات فإذا سجدت الثانية فقل عشر مرات فإذا رفعت رأسك من السجدة الثانية قلت عشر مرات وأنت قاعد قبل أن تقوم فذلك خمس وسبعون تسبيحة في كل ركعة ثلاثمائة تسبيحة في أربع ركعات ألف ومائتا تسبيحة و تهليلة

ص: 33

وتكبيرة وتحميدة إن شئت صليتها بالنهار وإن شئت صليتها بالليل)(1). أقول: وهي أربع ركعات كل اثنتين على حدة بتشهّد وتسليم، ويؤتى بها في أي وقت وأفضل أوقاتها صدر النهار من يوم الجمعة ويستحب أداؤها عند زيارة المعصومين فهي هدية مناسبة لهم سلام الله عليهم أجمعين.

وفي رواية إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي الحسن (علیه السلام) (تقرأ في الأولى إذا زلزلت، وفي الثانية والعاديات، وفي الثالثة إذا جاء نصر الله، وفي الرابعة بقل هو الله أحد. قلت: فما ثوابها؟ قال: لو كان عليه مثل

ص: 34


1- الكافي: 3/ 465، ح 1، وسائل الشيعة: 8/ 49، أبواب صلاة جعفر، باب 1، ح1.

رمل عالج(1) ذنوباً غفر (الله) له، ثم نظر إليّ فقال: إنما ذلك لك ولأصحابك)(2).

ص: 35


1- عالج منطقة رملية شاسعة في جزيرة العرب يضرب المثل لوصف الكثرة، راجع مجمع البحرين: 2/ 319، العلامة فخر الدين بن محمد الطريحي.
2- التهذيب: 3/ 187، ح 423، وسائل الشيعة: 8/ 54، أبواب صلاة جعفر، باب 2، ح3.

قيادته الجيش إلى معركة مؤتة وشهادته:

ولم يلبث في المدينة طويلاً حيث أمّره النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في جمادى من السنة الثامنة للهجرة على جيش وأرسله إلى قتال الروم في بلاد الشام انتقاماً لقتل رسوله إليهم، وفي رواية أبان بن عثمان عن الصادق (علیه السلام) (أنه استعمل عليهم جعفراً فإن قُتل فزيد - بن حارثة - فإن قتل فعبد الله بن رواحة)(1) وهذا الترتيب في القيادة هو المشهور لدى الشيعة واختلف معهم رواة العامة وأشار ابن أبي الحديد في شرح النهج إلى هذا الاختلاف ومال إلى ما عليه الشيعة، قال في شرح غزاة مؤتة: ((اتفق المحدثون على أن زيد بن حارثة كان هو

ص: 36


1- بحار الأنوار: 21/ 55، ح 8 عن إعلام الورى بأعلام الهدى: 110112، ط. 2.

الأمير الأول، وأنكر الشيعة ذلك وقالوا: كان جعفر بن أبي طالب هو الأمير الأول فإن قتل فزيد بن حارثة، فإن قتل فعبد الله بن رواحة، ورووا في ذلك روايات، وقد وجدت في الأشعار التي ذكرها محمد بن إسحاق في كتاب المغازي ما يشهد لقولهم))(1).أقول: سيأتي في القصائد التي قالها الصحابة في رثاء جعفر ما يدل على ما ذهب إليه الشيعة.

وروي عن ابن شهاب الزهري قال: ((لما قدم جعفر بن أبي طالب من بلاد الحبشة بعثه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) إلى مؤتة واستعمل على الجيش معه زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة فمضى الناس معهم حتى كانوا بنحو البلقاء فلقيهم جموع هرقل من الروم والعرب

ص: 37


1- شرح نهج البلاغة: 15/ 62.

فانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها: مؤتة ليعسكروا فيها فالتقى الناس عندها، واقتتلوا قتالاً شديداً))(1) حتى استشهدوا وكانت الحرب غير متكافئة فالمسلمون ثلاثة آلاف والروم ومن والاهم من القبائل العربية تجاوزا مائة ألف وروي أنهم مائتا ألف وفي الاستيعاب عن ابن عمر انه قال وجدنا ما بين صدر جعفر بن أبي طالب ومنكبيه وما أقبل منه تسعين جراحة ما بين ضربه بالسيف وطعنة بالرمح.وقد أقدم على الشهادة باطمئنان وتسليم تام لم يرقَ إليه حتى رفيقاه في القيادة وهما من أجلاء الصحابة؛ فقد روى ابن عبد البر بسنده عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قال: (مُثل لي جعفر وزيد وابن رواحة في خيمة من دُرّ،

ص: 38


1- بحار الأنوار: 21/ 51 عن أمالي ابن الشيخ: 8788.

كل منهم على سرير، فرأيت زيداً وابن رواحة في أعناقهما صدود ورأيت جعفراً مستقيماً ليس فيه صدود، قال: فسألت أو قيل لي: إنهما حينما غشيهما الموت أعرضا أو كأنهما صدّا بوجوههما وأما جعفر فلم يفعل))(1).وروى ابن إسحاق وابن هشام في سيرته أن جعفراً أنشد حين نزل إلى المعركة:

يا حبذا الجنة واقترابها *** طيّبة وباردٌ شرابها(2)

وأنه قاتل قتالاً شديداً، حتى قطعت يده اليمنى فأخذ الراية بيده اليسرى وقاتل إلى أن قطعت اليسرى أيضاً فاعتنق الراية وضمها إلى صدره حتى قُتل، ووجد

ص: 39


1- الاستيعاب في معرفة الأصحاب المطبوع بهامش الإصابة: 1/ 212.
2- السيرة النبوية لابن هشام: 3/ 833.

به نيف وسبعون وقيل نيف وثمانون ما بين طعنة وضربة ورمية(1).وقد كشف للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) عن أرض المعركة وكان ينقل لأصحابه أحداثها، قال جابر: (فلما كان اليوم الذي وقع فيه حربهم صلى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بنا الفجر ثم صعد المنبر فقال: قد التقى إخوانكم مع المشركين للمحاربة، فأقبل يحدثنا بكرّات بعضهم على بعض إلى أن قال: قُتل زيد بن حارثة وسقطت الراية، ثم قال: قد أخذها جعفر بن أبي طالب وتقدم للحرب بها، ثم قال: قد قُطعت يده وقد أخذ الراية بيده الأخرى، ثم قال: قُطعت يده الأخرى وقد أخذ الراية في صدره، ثم قال: قتل جعفر بن أبي طالب وسقطت الراية، ثم أخذها عبد

ص: 40


1- نقلها السيد الأمين في أعيان الشيعة: ج4، في ترجمته لجعفر بن أبي طالب.

الله بن رواحة وقد قتل من المشركين كذا وقتل من المسلمين كذا فلان وفلان، إلى أن ذكر جميع من قتل من المسلمين بأسمائهم، ثم قال: قتل عبد الله بن رواحة، وأخذ الراية خالد بن الوليد فانصرف المسلمون، ثم نزل عن المنبر وصار إلى دار جعفر فدعا عبد الله بن جعفر فأقعده في حجره، وجعل يمسح على رأسه، فقالت والدته أسماء بنت عميس: يا رسول الله إنك لتمسح على رأسه كأنه يتيم، قال: قد استشهد جعفر في هذا اليوم، ودمعت عينا رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وقال: قطعت يداه قبل أن يستشهد وقد أبدله الله من يديه جناحين من زمرد أخضر فهو الآن يطير بهما في الجنة مع الملائكة كيف يشاء)(1).

ص: 41


1- بحار الأنوار: 21/ 53 عن الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي: 8788.

وروى الكليني في الكافي والبرقي في المحاسن بسندهما عن الإمام الصادق عن أبيه (علیه السلام) قال : (لما كان يوم مؤتة كان جعفر على فرسه فلما التقوا نزل عن فرسه فعرقبها(1) - أي قطع عرقوبها وهو عصب غليظ فوق العقب - بالسيف وكان أول من عرقب في الإسلام)(2).وروى في المحاسن عن العباس بن موسى بن جعفر قال: (سألت أبي عن المأتم؟ - فقال: إن رسول الله

ص: 42


1- لعل هذا يكشف عن أن جعفراً عرف أن المعركة ستكون الغلبة فيها للروم فلم يشأ أن يغنم الروم تلك الفرس فتستعمل لحرب الله ورسوله فقطع هذا العصب من رجلها لكي لا تصلح للحرب بعدها. والله العالم وقد ورد عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بنفس السند السابق: (إذا حرنت على أحدكم دابة -يعني أقامت في أرض العدو أو في سبيل الله فليذبحها ولا يعرقبها).
2- الكافي: 5/ 49، المحاسن: 2/ 634.

(صلی الله علیه و آله و سلم) لما انتهى إليه قتل جعفر بن أبي طالب دخل على أسماء بنت عميس امرأة جعفر، فقال: أين بني؟ - فدعت بهم وهم ثلاثة، عبد الله، وعون، ومحمد، فمسح رسول الله رؤوسهم، فقالت: إنك تمسح رؤوسهم كأنهم أيتام؟ - فتعجب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) من عقلها فقال: يا أسماء ألم تعلمي أن جعفراً (رضي الله عنه) استشهد فبكت فقال لها رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): لا تبكى فإن جبرئيل (علیه السلام) أخبرني أن له جناحين في الجنة من ياقوت أحمر، فقالت: يا رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لو جمعت الناس وأخبرتهم بفضل جعفر لا ينسى فضله، فعجب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) من عقلها، ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): ابعثوا إلى أهل جعفر طعاماً، فجرت السنة)(1).

ص: 43


1- بحار الأنوار: 21/ 55، ح6، عن المحاسن: 2/ 420.

وينبغي التنويه هنا الى ان معركة مؤته وملابساتها من مفاصل الكتابة عن السيرة النبوية التي يجب مراجعتها والتحقيق فيها إذ ان تفاصيلها نقلت بواسطة رواة لا يوثق بهم، مثلاً تذكر الروايات ان جيش المسلمين انهزم من المعركة بعد استشهاد القادة وتسلّم خالد ابن الوليد قيادتهم ولما عادوا الى المدينة قاطعهم أهلها حتى افراد عوائلهم لولا ان النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) دافع عن موقفّهم، بينما تشير ملابسات المعركة الى ان قادة المسلمين دفنوا جثث القادة والشهداء وتمكنوا من إحصاء جراحات جعفر وهذا يعني انهم كانوا موجودين في ساحة المعركة ولم ينهزموا ويتركوا جثث قتلاهم كما هو شأن المنهزم.فيحتمل ان القائد قسَّم الجيش اكثر من فرقة بإمرة القادة الثلاث وان بعض هذه الفرق انهزمت مع خالد

ص: 44

بعد مقتل قائدها وتركت الفرقة الأخرى بقيادة جعفر تقاتل وحدها علما بانه كان يوجد في الجيش من اقترح عدم خوض المعارك قبل حصول المواجهة لعدم تكافؤا العدد والرجوع الى المدينة.او ان مؤتة شهدت اكثر من معركة انتصر المسلمون في بعضها او أي احتمال اخر ولعل خيانة حصلت من بعض قطعات الجيش لذا يستغرب بعض المؤرخين من استشهاد جميع القادة وسلامة الجنود الا القليل منهم (1)

ص: 45


1- وجد دانييل بيترسون ، أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة بريغهام يونغ ، أن نسبة الإصابات بين القادة مرتفعة بشكل مثير للريبة مقارنة بالخسائر التي تكبدها الجنود العاديون. [في كتابه محمد رسول الرب، 2007، ص142] ويسجل ديفيد باورز [في كتابه: محمد ليس أبا أحد من رجالكم، 2009، ص 80] استاذ دراسات الشرق الأدنى في كورنيل هذا الاستغراب فيما يتعلق بالخسائر الفادحة التي سجلها المؤرخون المسلمون. ويشكك عدد من المؤرخين المعاصرين بالرقم الكبير للجيش البيزنطي [منهم جون هولدن في كتابه: القوة والسياسة في سوريا القديمة، 2010، ص 188، وفرانسس بيتر 1994 في كتابه: محمد و الإسلام الأصيل، 231، ووف. بول في كتابه: موسوعة الإسلام، 1993، ص 756]. وبحسب والتر أميل كايجي في كتابه: التوسع الإسلامي والانهيار البيزنطي في شمال إفريقيا، 2010، ص 99] وهو أستاذ التاريخ البيزنطي في جامعة شيكاغو، فإن حجم الجيش البيزنطي بأكمله خلال القرن السابع قد يصل إلى 100000 ، وربما حتى نصف هذا العدد. ومنغير المرجح أن يكون عدد القوات البيزنطية في مؤتة اكثر من 10000، وقاله سابقا في كتاب آخر اله عام 1992. يعني أن جيش البيزنطيين الرومان في جميع مملكتهم كان 100 ألف.(الناشر)

فالامر يحتاج الى تحقيق وتحليل وجمع الشواهد والقرائن والله العالم .

ص: 46

حزن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وأهل بيته وأصحابه عليه

روي في الكافي عن أبان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (بينما رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في المسجد إذ خفض له كل رفيع ورُفع له كل خفيض -أي سُطحت الأرض له (صلی الله علیه و آله و سلم) وطويت حتى نظر إلى جعفر علیه السلام يقاتل الكفار قال: فقتل، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): قُتل جعفر، وأخذه المغص في بطنه)(1).

وروى الشيخ الصدوق عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (إن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) حين جاءته وفاة جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة كان إذا دخل بيته كثر بكاؤه عليهما جداً، ويقول: كانا يحدّثاني ويؤنساني فذهباً

ص: 47


1- الكافي: 8/ 376. الظاهر أن الضمير في (أخذه) للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، حزناً على مقتل جعفر.

جميعاً)(1).وفي الاستيعاب أيضاً أنه لما أتى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) نعي جعفر أتى امرأته أسماء بنت عميس فعزاها في زوجها جعفر ودخلت فاطمة وهي تبكي وتقول وا عمّاه فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) على مثل جعفر فلتبك البواكي).

وروي عن عبد الله بن جعفر أنه قال: (أنا أحفظ حين دخل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) على أمي فنعى لها أبي: فأنظر إليه وهو يمسح على رأسي ورأس أخي وعيناه تهراقان الدموع حتى تقطر لحيته، ثم قال: اللهم إن جعفراً قد قدم إليك إلى أحسن الثواب فأخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحداً من عبادك في ذريته. ثم قال: يا أسماء ألا أبشرك؟ قالت: بلى بأبي وأمي يا

ص: 48


1- من لا يحضره الفقيه: 1/ 57.

رسول الله، قال: إن الله جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة. قالت: فأعلم الناس ذلك، فقام رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وأخذ بيدي يمسح بيده رأسي حتى رقي إلى المنبر، وأجلسني أمامه على الدرجة السفلى والحزن يُعرف عليه، فقال: إن المرء كثير بأخيه وابن عمه(1)، ألا إن جعفراً قد استشهد، وجعل له جناحان يطير بهما في الجنة، ثم نزل (صلی الله علیه و آله و سلم) ودخل بيته، وأدخلني معه، وأمر بطعام يصنع لأجلي، وأرسل إلى أخي فتغدينا عنده غداء طيباً مباركاً، وأقمنا ثلاثة أيام في بيته ندور معه كلما صار في بيت إحدى نسائه ثم رجعنا إلى بيتنا فأتانا رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وأنا أساوم شاة أخٍ لي، فقال: اللهم بارك له في صفقته، قال عبد الله: فما بعت شيئاً ولا

ص: 49


1- أي عزيز بهما فيعبَّر عن العزة بالكثرة وعن الذلة بالقلة.

اشتريت شيئاً إلا بورك لي فيه)(1).قال الصادق علیه السلام: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لفاطمة: اذهبي فابكي على ابن عمك فإن لم تدعي(2) بثكل فما قلت فقد صدقت)(3).

وقد أتم رضوان الله تعالى عليه الأربعين من عمره حين استشهد.

وقال كعب بن مالك قصيدة يرثي جعفراً وشهداء مؤتة حين بلغهم الخبر منها:

ص: 50


1- البحار: 21/ 57. عن إعلام الورى للشيخ الطبرسي: 6465.
2- أي فإن لم تنطقي بالثكل وتقولي وا ثكلاه المعبّر عن الجزع، فكل ما تذكرين من الحزن والألم وتعدّدين من الفضائل فإنك صادقة فيه لأن جعفراً علیه السلام يستحق ذلك؛ وهو دليل على أنه كان مجمعاً للفضائل.
3- البحار: 21/ 57. ولعل العبارة (فإن لم تدعي بثكل فيما قلت فقد صدقت).

صلى الإله عليهمُ من فتية *** وسقى عظامهم الغمام المسبلُ

ساروا أمام المسلمين كأنهم *** طود يقودهم الهزبر المشبل

إذ يهتدون بجعفر ولوائه *** قدام أولهم ونعم الأول

حتى تقوضت الصفوف وجعفر *** حيث التقى جمع الغواة مجدّلُ

قوم بهم نصر الإلهُ عباده *** وعليهم نزل الكتاب المنزل

وبهديهم رضي الإله لخلقه *** وبجدهم نصر النبي المرسل

بيض الوجوه ترى بطون أكفهم *** تندى إذا اغبرّ الزمان الممحل

ص: 51

فتغير القمر المنير لفقده *** والشمس قد كسفت وكادت تأفل(1)

أقول: القصيدة صريحة بأن جعفراً كان هو القائد الأول للجيش كما يذهب إليه الشيعة خلافاً لمشهور العامة.

ومما قال حسان بن ثابت في رثائهم:

فلا يبعدنَّ الله قتلى تتابعوا

بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفرُ *** وزيد وعبد الله حين تتابعوا

جميعاً، وأسباب المنية تخطرُ *** غداة مضوا بالمؤمنين يقودهم

ص: 52


1- نقل الأبيات الشيخ الطوسي في الأمالي: 142، وابن أبي الحديد في شرح النهج: 15/ 63، وأبي الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين: 8 على اختلاف في المفردات.

إلى الموت ميمون النقيبة أزهرُ *** أغرٌّ كضوء البدر من آل هاشم

أبيٌّ إذا سِيم الظلامة مجسرُ *** فطاعنَ حتى مال غير موسد

لمعترك فيه قناً متكسرُ *** فصار مع المستشهدين ثوابه

جنان وملتفّ الحدائق أخضرُ *** وكنا نرى في جعفر من محمد

وفاءً وأمراً حازماً حين يأمرُ *** فما زال في الإسلام من آل هاشم

دعائم عزٍّ لا يزلن ومفخرُ *** همُ جبل الإسلام والناس حولهم

رضام إلى طود يروق ويقهرُ *** بهاليلُ منهم جعفر وابن أمه

ص: 53

عليٌ، ومنهم أحمدُ المتخيَّرُ *** وحمزة والعباس منهم، ومنهم

عقيل، وماء العود من حيث يعصرُ *** بهم تفرج اللاواء في كل مأزقٍ

عماس إذا ما ضاق بالناس مصدرُ *** هم أولياء الله أنزل حكمه

عليهم، وفيهم ذو الكتاب المطهرُ(1)

ص: 54


1- سيرة ابن هشام: 4/ 18.

فضله وعظيم منزلته

روى الفريقان في فضله وعظيم عند الله و عند رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أحاديث كثيرة، وقد تقدّم بعضها من مصادرنا حيث شكره الله تعالى على استقامته وحسن سيرته وأبان النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) للمسلمين فضله وعلوّ منزلته.

وهو ممن نزلت في فضله آيات قرآنية، منها قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا..}(1) (الحج : 39) وقوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً}(2) (النساء: 69).

ص: 55


1- راجع بحار الأنوار: 22/ 278 و 282، ح30، 40 عن تفسير القمي وفرات بن إبراهيم.
2- أصول الكافي: 1/ 450.

ومنها قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} (الأحزاب : 23).روى الشيخ الصدوق في الخصال حديثاً طويلاً عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (ولقد كنت عاهدت الله عز وجل ورسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) أنا وعمي حمزة وأخي جعفر، وابن عمي عبيدة على أمر وفينا به لله عز وجل ولرسوله، فتقدمني أصحابي وتخلفت بعدهم لما أراد الله عز وجل فأنزل الله فينا {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً} حمزة وجعفر وعبيدة، وأنا والله المنتظر)(1).

وروى الشيخ الكليني في الكافي بسنده عن أصبغ

ص: 56


1- الخصال: 376، ح58. ط. جماعة المدرسين.

بن نباتة قال: (رأيت أمير المؤمنين علیه السلام يوم افتتح البصرة وركب بغلة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) (ثم) قال: أيها الناس ألا أخبركم بخير الخلق يوم يجمعهم الله؟، فقام إليه أبو أيوب الأنصاري فقال: بلى يا أمير المؤمنين حدثنا فإنك كنت تشهد ونغيب، فقال: إن خير الخلق يوم يجمعهم الله سبعة من ولد عبد المطلب لا ينكر فضلهم إلا كافر ولا يجحد به إلا جاحد، فقام عمار بن ياسر - رحمه الله - فقال، يا أمير المؤمنين سمّهم لنا لنعرفهم، فقال: إن خير الخلق يوم يجمعهم الله: الرسل وإن أفضل الرسل محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) وإن أفضل كل أمة بعد نبيها وصيّ نبيّها حتى يدركه نبي، ألا وإن أفضل الأوصياء وصيّ محمد عليه وآله السلام، ألا وإن أفضل الخلق بعد الأوصياء الشهداء، ألا وإن أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب، وجعفر بن أبي طالب له

ص: 57

جناحان خضيبان يطير بهما في الجنة، لم ينحل أحد من هذه الأمة جناحان غيره، شيء كرم الله به محمداً (صلی الله علیه و آله و سلم) وشرّفه والسبطان الحسن والحسين والمهدي ، يجعله الله من شاء منا أهل البيت، ثم تلا هذه الآية {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيماً} (النساء:6970))(1).وروى في الكافي بسنده عن يوسف بن ابي سعيد قال: كنت عند أبي عبد الله (علیه السلام) ذات يوم فقال لي: إذا كان يوم القيامة وجمع الله تبارك وتعالى الخلائق كان نوح (صلى الله عليه) أول من يدعا به، فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقال له: من يشهد لك؟ فيقول: محمد بن عبد الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، قال: فيخرج نوح (صلى الله عليه) فيتخطى الناس حتى يجئ إلى محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) وهو على كثيب المسك ومعه علي (علیه السلام) وهو قول الله عز وجل: " فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا " فيقول نوح لمحمد (صلی الله علیه و آله و سلم): يا محمد إن الله تبارك وتعالى سألني:

ص: 58


1- الكافي: 1/ 450، ح 34.

هل بلغت؟ فقلت: نعم، فقال: من يشهد لك؟ فقلت: محمد، فيقول: يا جعفر ويا حمزة اذهبا واشهدا له أنه قد بلغ، فقال أبو عبد الله (علیه السلام): فجعفر وحمزة هما الشاهدان للأنبياء (علیه السلام) بما بلغوا، فقلت: جعلت فداك فعلي (علیه السلام) أين هو؟ فقال: هو أعظم منزلة من ذلك (1).

ص: 59


1- الكافي : 8/ 267ح/392، بحار الأنوار : ج 7 /ص 282.

وروى أيضاً في موضع آخر (أن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) كان في بعض مغازيه فمر به ركب وهو يصلي فوقفوا على أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وسائلوهم عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ودعوا وأثنوا وقالوا: لولا أنا عجال لانتظرنا رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فأقرؤه منا السلام، ومضوا فأقبل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) مغضباً ثم قال لهم: يقف عليكم الركب ويسألونكم عني ويبلغوني السلام ولا تعرضون عليهم الغداء!، ليعزّ على قوم فيهم خليلي جعفر أن يجوزوه حتى يتغدوا عنده)(1).وورد في غيبة النعماني بسنده عن أبان بن عثمان قال: (قال أبو عبد الله جعفر بن محمد علیه السلام: بينا رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ذات يوم في البقيع حتى أقبل علي علیه السلام

ص: 60


1- الكافي: 6/ 275، ح1.

فسأل عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فقيل إنه بالبقيع، فأتاه علي علیه السلام فسلّم عليه فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): اجلس فأجلسه عن يمينه، ثم جاء جعفر بن أبي طالب فسأل عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فقيل له: هو بالبقيع فأتاه فسلم عليه فأجلسه عن يساره، ثم جاء العباس فسأل عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فقيل له: هو بالبقيع فأتاه فسلم عليه فأجلسه أمامه، ثم التفت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) إلى علي علیه السلام فقال: ألا أبشرك؟ ألا أخبرك يا علي، فقال: بلى يا رسول الله، فقال: كان جبرئيل علیه السلام عندي آنفاً وأخبرني أن القائم الذي يخرج في أخر الزمان فيملأ الأرض عدلاً (كما مُلئت ظلماً وجوراً) من ذريتك من ولد الحسين، فقال علي: يا رسول الله ما أصابنا خير قط من الله إلا على يديك، ثم التفت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) إلى جعفر بن أبي طالب فقال: يا جعفر ألا أبشرك؟ ألا

ص: 61

أخبرك؟ قال: بلى يا رسول الله، فقال: كان جبرئيل عندي آنفاً فأخبرني أن الذي يدفعها (أي الراية) إلى القائم هو من ذريتك، أتدري من هو؟ قال: لا، قال: ذاك الذي وجهه كالدينار (كالبدر ل خ)، وأسنانه كالمنشار، وسيفه كحريق النار، يدخل الجند ذليلاً، ويخرج منه عزيزاً، يكتنفه جبرئيل وميكائيل، ثم التفت إلى العباس فقال: يا عم النبي ألا أخبرك بما أخبرني به جبرئيل علیه السلام؟ فقال: بلى يا رسول الله، قال: قال لي جبرئيل: ويل لذريتك من ولد العباس، فقال: يا رسول الله أفلا أجتنب النساء؟ فقال له: (قد) فرغ الله مما هو كائن)(1).وكان النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) يعدّه من أهل بيته فقد روى والد الشيخ الصدوق قال: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) نظر

ص: 62


1- كتاب الغيبة لمحمد بن إبراهيم النعماني: 253، باب 14، ح1.

إلى ولدي أمير المؤمنين الحسن والحسين (صلوات الله عليهما) وبنات جعفر بن أبي طالب صلوات الله عليه فقال: (بنونا لبناتنا وبناتنا لبنينا)(1)، أقول : لم تذكر المصادر وجود بنات لجعفر وهذا لا يؤثر فمحل كلامنا حديث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وقد تزوّج عبد الله بن جعفر العقيلة زينب بنت أمير المؤمنين (علیه السلام)، وتزوّج محمد بن جعفر أم كلثوم بنت أمير المؤمنين (علیه السلام) بحسب رواية الواقدي(2).وكان لجعفر منزلة كبيرة في قلب أخيه أمير المؤمنين وفي كتاب كتبه (علیه السلام) إلى معاوية: (إن قوماً استشهدوا في سبيل الله من المهاجرين، ولكلٍ فضل

ص: 63


1- بحار الأنوار: 103/ 373 عن فقه الرضا: 355.
2- الإصابة في تمييز الصحابة: 3/ 372 رقم الترجمة (7764).

حتى إذا استشهد شهيدنا قيل: سيد الشهداء، وخصّه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه، أوَلا ترى أن قوماً قطعت أيديهم في سبيل الله ولكل فضل، حتى إذا فُعل بواحدنا كما فعل بواحدهم قيل: الطيار في الجنة وذو الجناحين)(1) وذكر ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة عن الشعبي قال: (سمعت عبد الله بن جعفر يقول: كنت إذا سألت عمي علياً شيئاً فمنعني أقول له: بحق جعفر فيعطيني)(2).

وروي في تفسير فرات الكوفي عن الامام الباقر (علیه السلام) حديث في ذكر اهل البيت (علیه السلام) وجعفر ذوا

ص: 64


1- نهج البلاغة: 2/ 32.
2- بحار الأنوار: 21/ 64 عن شرح نهج البلاغة: 3/ 4247.

الجناحين والقبلتين والهجرتين والبيعتين من الشجرة المباركة)(1).وعن امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (علیه السلام) قال (إذا جمع الله الأولين والآخرين كان أفضلهم سبعة منا بني عبد المطلب) الى ان قال وحمزة سيد الشهداء، وجعفر ذو الجناحين يطير مع الملائكة، لم ينحله شهيدا قط قبله رحمة الله عليهم أجمعين)(2).

والروايات في فضله كثيرة من مصادر العامة ايضا، ففي صحيح البخاري و سنن الترمذي أن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)

ص: 65


1- بحار الأنوار : ج 23 /ص 246 عن تفسير فرات بن إبراهيم : 395397/ ح527.
2- بحار الأنوار : ج 24 / 32 عن تفسير فرات بن إبراهيم : 113/ ح 114.

قال له: (أشبهت خلقي وخلقي)(1)، ورواه في الاستيعاب بسنده عن علي (علیه السلام) أن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) قال لجعفر: (أشبهت خلقي وخلقي يا جعفر).وكان الصحابة يعرفون ذلك فقد روى أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين بسنده عن أبي هريرة قال: (ما ركب أحد المطايا ولا ركب الكور ولا انتعل ولا احتذى النعال أحد بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أفضل من جعفر بن أبي طالب).

وكان جعفر (علیه السلام) معروفاً بحبّه للمساكين وضعفاء الناس فيغدق عليهم من عطائه ويجلس إليهم ويحدّثهم ويحدثّونه -روى ذلك ابن ماجة في سننه عن أبي

ص: 66


1- صحيح البخاري، كتاب 62: فضائل الصحابة، باب 10، ح 3708، سنن الترمذي: ح 3765، كنز العمال: 13/ 145 ح36905 وفي الإصابة وغيرها.

هريرة ورواه المتقي الهندي عن سند بلال(1).وقال أبو هريرة أيضاً (كان أخير الناس للمسلمين جعفر بن أبي طالب كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته حتى إن كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء فنشقّها فنلعق ما فيها)(2)، وروى ابن ماجة في سننه وابن حجر في الإصابة أن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) كان يكنّيه أبا المساكين.

وسمّاه النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ومن معه بأهل الهجرتين لأنهم هاجروا إلى الحبشة وإلى المدينة، روى ذلك مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري قال: (دخلت أسماء بنت عميس -زوج جعفر وهي ممن قدم معنا على

ص: 67


1- كنز العمال: 13/ 145ح36905.
2- صحيح البخاري، الموضع السابق.

حفصة زوجة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) زائرة وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر إليه فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس، قال عمر: الحبشية هذه البحرية هذه؟ فقالت أسماء: نعم، فقال عمر: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم منكم، فغضبت وقالت كلمة: كذبت يا عمر كلا والله كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم وكنا في دار أو في أرض البعداء البغضاء في الحبشة وذلك في الله وفي رسوله وأيم الله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم ونحن كنا نؤذى ونخاف وسأذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأسأله، ووالله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد

ص: 68

على ذلك، قال: فلما جاءت النبي (صلى الله عليه - وآله وسلم) قالت: يا نبي الله إن عمر قال كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم: ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان، قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتوني إرسالاً يسألوني عن هذا الحديث ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم، قال أبو بردة: فقالت أسماء فلقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث مني)(1).

ص: 69


1- صحيح مسلم: 7/ 172، السنن الكبرى للنسائي: 5/ 104، فتح الباري: 7/ 145، مسند أبي يعلى: 13/ 304، كتاب فضائل الصحابة، باب 41، ح 2503

زوجه وأولاده وولاؤهم لأهل البيت (علیه السلام)

تزوج في مكة قبل الهجرة أسماء بنت عميس الخثعمية و هاجرت معه إلى الحبشة، وهي امرأة جليلة واعية ذات بصيرة سبقت إلى الإسلام مع زوجها جعفر، أثنى عليها رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وعلى رجحان عقلها، روي أنه (لما رجعت أسماء بنت عميس من الحبشة، مع زوجها جعفر بن أبي طالب علیه السلام، دخلت على نساء رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فقالت: هل نزل فينا شيء من القرآن؟ قلن: لا. فأتت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فقالت: يا رسول الله، إن النساء لفي خيبة وخسار. فقال (صلی الله علیه و آله و سلم): ومم ذلك؟ قالت: لأنهن لا يُذكرن بخير، كما يذكر الرجال. فأنزل الله تعالى هذه الآية. {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ

ص: 70

وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً})(1).وكانت مقرّبة للصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (سلام الله علیها) وملازمة لها خصوصاً أيام محنتها وهي التي تولّت مداراتها في مرضها وكانت حاضرة عند وفاتها بحسب ما تذكره الروايات رغم أنها كانت زوجة لأبي بكر يومئذٍ.

وأسماء هي أم أولاد جعفر جميعاً، وتزوجها بعد شهادته أبو بكر فولدت منه محمد بن أبي بكر الذي

ص: 71


1- مجمع البيان: 8/ 353358، بحار الأنوار: 22/ 176.

قال فيه أمير المؤمنين (علیه السلام): (فلقد كان إليّ حبيباً وكان لي ربيباً)(1)، واستشهد في مصر حيث ولاه أمير المؤمنين (علیه السلام) عليها.وبعد وفاة أبي بكر تزوج أمير المؤمنين (علیه السلام) من أسماء وولدت له يحيى بن علي.

والمعروفون من أولاد جعفر (رضوان الله عليه) ثلاثة وُلدوا كلهم في أرض الهجرة، وهم:

1 عبد الله بن جعفر زوج العقيلة زينب وهو من أجواد قريش وأسيادهم، روى عبد الله حادثة استشهاد أبيه جعفر (علیه السلام) وتعزية النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) لأمه إلى أن

ص: 72


1- نهج البلاغة: 1/ 117، الخطبة (68)، وروى بمعناه المجلسي في البحار: 33/ 566 عن المدائني: (قيل لعلي علیه السلام: لقد جزعت على محمد بن أبي بكر جزعاً شديداً يا أمير المؤمنين! فقال: وما يمنعني؛ إنه كان لي ربيباً وكان لبنيّ أخاً وكنت له والداً أعده ولداً).

قال: ((فأتانا رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وأنا أساوم شاة أخ لي، فقال: اللهم بارك له في صفقته) قال عبد الله: فما بعت شيئاً ولا اشتريت شيئاً إلا بورك لي فيه))(1). شارك مع عمه أمير المؤمنين (علیه السلام) في معاركه وكان من امراء الجيش في صفين، استشهد له ولدان مع الإمام الحسين (علیه السلام) في كربلاء، توفي سنة ثمانين عن عمر ناهزها فتكون ولادته في السنة الأولى من الهجرة، وقد سارت الركبان بأخبار كرمه وسخائه (راجع الإصابة مثلاً) وفي ذلك يقول عبد الله بن قيس الرقيات:

وما كنت إلا كالأغرّ ابن جعفرٍ *** رأى المال لا يبقى فأبقى له ذكرا(2)

ص: 73


1- بحار الأنوار: 21/ 57 عن إعلام الورى بأعلام الهدى: 110112.
2- الإصابة: 2/ 290، رقم الترجمة: 4591.

2 محمد بن جعفر وفي الإصابة أنه أول من سمّي محمداً في الإسلام من المهاجرين أثنى عليه أمير المؤمنين (علیه السلام) ووصفه بأنه يأبى أن يعصى الله تبارك وتعالى فقد روى الكشي في رجاله بسنده عن الإمام الرضا (علیه السلام) قال: (كان أمير المؤمنين (علیه السلام) يقول: إن المحامدة تأبى أن يعصى الله عز وجل، قلت ومن المحامدة؟ قال: محمد بن جعفر ومحمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة وهو ابن عتبة بن ربيعة وهو ابن خال معاوية)(1).

أقول: وكلهم استشهد على يد معاوية.

وقد روى أبو الفرج الأصفهاني أن محمداً كانت معه راية أمير المؤمنين التي تسمى الجموح في معركة

ص: 74


1- رجال الكشي: 47 في ترجمة محمد بن أبي حذيفة.

صفين واستشهد فيها(1)، وفي الاستيعاب والإصابة عن الواقدي أنه استشهد بتستر مع أخيه عون.3 عون بن جعفر، وفي الاستيعاب أنه استشهد في تستر أيام خلافة عمر، وقال في عمدة الطالب أنه قتل بالطف مع الحسين علیه السلام(2).

أقول: المعروف والمشهور أن عون الشهيد في كربلاء هو ابن عبد الله بن جعفر.

هؤلاء الثلاثة هم المعروفون من ولد جعفر وذكر ابن عنبة في عمدة الطالب أن لجعفر ثمانية بنين ولم يتأكد لنا ذلك فإن الروايات التي تذكر شهادة جعفر (علیه السلام) وتعزية النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) لأسرته تذكر هؤلاء

ص: 75


1- مقاتل الطالبيين: 11.
2- عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب، أحمد بن علي الحسيني المعروف بابن عنبة (ت 828 ه): 1/ 107، الأصل الثاني.

الثلاثة فقط، فقد روى ابن عبد البر في الاستيعاب وابن عنبة في عمدة الطالب هذه الحادثة عن عبد الله بن جعفر وقال: ((ثم أخذ بيد محمد وقال: هذا شبيه عمنا أبي طالب وقال لعون: هذا شبيه أبيه خلقاً وخُلقاً، وأخذ بيدي فأمالها وقال: اللهم احفظ جعفراً في أهله)(1).وقال أبو نصر البخاري: ((كل جعفري في الدنيا فمن ولد عبد الله بن جعفر إذ لم يصحّ لجعفر عقب إلا من عبد الله بن جعفر، والذين ينتسبون إلى عون

ص: 76


1- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/ 44 رقم الترجمة 6107، عمدة الطالب: 1/ 108 وأورد في الهامش مصادر الرواية: مسند أحمد: 1/ 204، فضائل الصحابة للنسائي: 1819، البداية والنهاية: 4/ 284، تأريخ مدينة دمشق: 27/ 255 ذيل الحديث 5807 سير أعلام النبلاء: 3/ 458.

ومحمد ابني جعفر لم يصح نسبهم أصلاً))(1).أقول: تراه لم يذكر أحداً غير الثلاثة. وهكذا المصادر الأخرى كالإصابة وغيره.

وعُرف هذا البيت بموالاته أهل البيت (علیه السلام) وكثر فيه الشهداء دفاعاً عن المظلومين ومقارعة الظلم والطغيان وضمّ كتاب مقاتل الطالبيين أسماء الكثير منهم.

واشتهر من أحفاد جعفر: أبو هاشم الجعفري داود بن القاسم وكان عالماً جليل القدر عظيم المنزلة عند الأئمة الذين عاصرهم وهم الإمام الرضا والجواد والهادي والعسكري (علیه السلام).

ومنهم أبو سليمان الجعفري: جعفر بن إبراهيم بن

ص: 77


1- سر السلسلة العلوية لأبي نصر البخاري (توفي 357 ببغداد): 2526.

محمد بن علي بن عبدالله بن جعفر، عدّه الشيخ الطوسي من أصحاب الامامين الصادق والكاظم(علیه السلام).

ص: 78

نصرة آل جعفر للإمام الحسين (علیه السلام)

كان ذكر جعفر حاضراً في كربلاء فقد افتخر الإمام الحسين (علیه السلام) به وقال في مقام الاحتجاج على الجيش المعادي: (فأنشدكم الله هل تعلمون أن جعفر الطيار في الجنة عمي؟ قالوا اللهم نعم)(1).

وجدّد أبو الفضل العباس بن أمير المؤمنين (علیه السلام) ذكر عمّه جعفر بقطع يديه روي عن الإمام السجاد علي بن الحسين (علیه السلام) أنه قال في حديث: (رحم الله العباس فلقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه حتى قطعت يداه فأبدله الله عز وجل بهما جناحين، يطير بهما مع الملائكة في الجنة كما جعل لجعفر بن أبي طالب، وإن للعباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع

ص: 79


1- الأمالي للصدوق: 222، ح 239، بحار الأنوار: 44/ 318.

الشهداء يوم القيامة)(1).واستشهد اثنان من أولاد عبد الله بن جعفر بين يدي الإمام الحسين (علیه السلام) وهما(2):

1 عون: وفي مقاتل الطالبيين أن أمه العقيلة زينب (سلام الله علیها) وخالفه الأكثر وورد السلام عليه في زيارة الناحية المقدسة (السلام على عون بن عبد الله بن جعفر الطيار في الجنان، حليف الإيمان، و منازل الأقران، الناصح للرحمن، التالي للمثاني والقرآن)(3).

وكان يرتجز أثناء القتال ويقول:

إن تنكروني فأنا ابن جعفرْ *** شهيد صدق في الجنان أزهرْ

ص: 80


1- أمالي الصدوق: 277، الخصال: 1/ 37.
2- الصحيح من مقتل الإمام الحسين (علیه السلام) للريشهري: 866.
3- نفس المصدر: 1428.

يطير فيها بجناح أخضر*** كفى بهذا شرفاً في معشرْ

2 محمد: وأمه الخوصاء، وورد السلام عليه في زيارة الناحية (السلام على محمد بن عبد الله بن جعفر ألشاهد مكان أبيه والتالي لأخيه وواقيه ببدنه).

وكان يرتجز ويقول:

أشكو إلى الله من العدوانِ

فعال قوم في الردى عميانِ

قد بدّلوا معالم القرآن

ومحكم التنزيل والتبيانِ

وأظهروا الكفر مع الطغيانِ

وكان عبد الله بن جعفر يأسى لعدم تمكنه من الشهادة بين يدي الإمام الحسين (علیه السلام) ويجد السلوة في أنه قدّم ولديه شهيدين وأن زوجه العقيلة زينب

ص: 81

كان لها الدور العظيم في إنجاز ما خرج الإمام الحسين (علیه السلام) من أجله.وفي تأريخ الطبري (لما بلغ عبد الله بن جعفر بن أبي طالب مقتل ابنيه مع الحسين دخل عليه بعض مواليه والناس يعزونه فقال أبو السلاسل مولى عبد الله: هذا ما لقينا ودخل علينا من الحسين، قال فحذفه عبد الله بن جعفر بنعله ثم قال: يا ابن اللخناء أللحسين تقول هذا! والله لو شهدته لأحببت أن لا أفارقه حتى أقتل معه، والله إنه لمما يُسخّي بنفسي عنهما ويهون عليّ المصاب بهما أنهما أصيبا مع أخي وابن عمى مواسيين له صابرين معه، ثم أقبل على جلسائه فقال: الحمد لله، عزّ علي مصرع الحسين، إن لا أكن آست حسيناً بيدي فقد

ص: 82

آساه ولدي)(1).وكل الهاشميين الذين استشهدوا في كربلاء هم من ذرية أبي طالب وفاطمة بنت أسد ومن أولاد علي وأخويه جعفر وعقيل، وقال الشاعر في ذلك:

تسعةٌ منهمُ لصلب عليٍّ وثمان لجعفرٍ وعقيلِ

وفي الرواية أنه ذكر عند الإمام الباقر (علیه السلام) قتل الحسين وأهل بيته فقال: (قتلوا سبعة عشر إنساناً كلهم ارتكض من بطن فاطمة بنت أسد)(2).

ص: 83


1- تاريخ الطبري: 4/ 357. ورواه الشيخ المفيد في الإرشاد: 232233.
2- مثير الأحزان لابن نما الحلي (ت 645 ه): 89.

المرقد الطاهر للشهيد جعفر الطيار (علیه السلام)

يقع مرقده الشريف حيث استشهد في بلدة مؤته وهي اليوم ضمن لواء المزار الجنوبي في محافظة الكرك وتبعد عن مدينة الكرك مسافة 12 كم وتبتعد 140 كم جنوب العاصمة الأردنية عمان، وفيها أولى جامعات جنوب الأردن والتي اطلق عليها اسم جامعة مؤته . (1)

وعلى مرقد مزار ومسجد عامر يقصده الزوار من بقاع الأرض ولا نعلم الرواية التي استند اليها محمد حسين هيكل حتى قال فيما حكي عنه ((وفي رواية أن جثة جعفر حملت إلى المدينة ودفنت بعد ثلاثة أيام

ص: 84


1- أخذت المعلومات من موسوعة ويكيبيديا

من وصول خالد بن الوليد والجيش اليها))(1) .روى المرحوم الشيخ محمد حسين حرز الدين في هامش كتاب جده مراقد المعارف عن المحقق المرحوم السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم قال ((حدثني الشريف الجليل الأديب السيد عبد الجبار الوردي الكاظمي في يوم السبت 10/جمادي الأول/ 1386 في دمشق الشام ان الشريف عبدالله من أهل عمان والمحامي في المحكمة الشرعية، حدَّثه في قرية اريحا سنة 1383 أنه في سنة 1942 ذهب مع الشريف عبدالله بن الحسين ملك الأردن لتعمير قبر جعفر الطيار في مؤته فلما وصلوا إلى القبر وجدوه مهدوماً فنزل الشريف عبدالله المحامي في المحكمة الشرعية إلى القبر وحده بأمر الشريف الأمير عبدالله فرأى بدن جعفر الطيار بهيئته وثيابه وعليه الدم طرياً والسيف في عنقه،

ص: 85


1- حياة محمد: 378

لم يتغير من بدنه شيء فكأنه ميت من يومه وكان الشريف المحامي يحلف بالإيمان المغلظة مراراً أنه وجدوه كذلك. فعمّر الأمير عبدالله بن الملك حسين القبر وبنى المسجد الذي عليه الآن، وعَّمر أيضاً قبري زيد بن حارثة وعبدالله بن رواحه على بعد أمتار منه وبهذه المناسبة نظم السيد عبدالجبار الوردي بيتين في حق جعفر ذي الجناحين:

وشهيد بأرض مؤتة حي *** جعفر والشهيد ليس يموت

هو باقٍ قد ضمّه كل قلب *** حيث ما ضم جعفراً تابوت(1)

ص: 86


1- مراقد المعارف: 1/ 225

فاطمة بنت أسد (سلام الله علیها) مثال الإيمان والتضحية والايثار

فاطمة بنت أسد (سلام الله علیها)

مثال الإيمان والتضحية والايثار(1)

ص: 87


1- ألقيت على حشد كبير من طلبة الحوزة الشريفة ممن يحضرون درس (كفاية الاصول) وغيرهم في مسجد الأس الشريف (رواق ابي طالب اليوم) بمناسبة ميلاد أمير المؤمنين (علیه السلام) في 13/رجب / 1422ه، الموافق 1/ 10/ 2001م.

ص: 88

بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله كما هو أهله وصلى على محمد وآله الطاهرين...

كما تحدثنا في ذكرى ولادة الزهراء (سلام الله عليها) عن الوالدة، كذلك في هذه المناسبة المباركة التي هي مولد أمير المؤمنين (علیه السلام) نذكر الوالدة العظيمة فاطمة بنت أسد بن هاشم، خصوصاً وإنه لم يعرف يوم وفاتها أو ولادتها حتى يحتفل بذكراها، فلنخصص جزءاً من الاحتفالات في هذا اليوم لها باعتباره يوماً من أيامها لما حصل لها في هذا اليوم من المنقبة والفضيلة.

وهاتان المرأتان أعني خديجة وفاطمة بنت أسد (علیه السلام) تشتركان في عدة نقاط:

الأولى: رعايتهما الواسعة لحامل الرسالة (صلی الله علیه و آله و سلم) مما

ص: 89

أوجب صدور كلمات رقيقة وجليلة منه (صلی الله علیه و آله و سلم) فيهما.الثانية : طهارتها وتنزيهها من شرك الجاهلية و رذائلها الاخلاقية فكلاهما مقصودتان في شهادة الامام الصادق (علیه السلام) لجده الامام الحسين (علیه السلام) حينما وقف يزوره بالزيارة المعروفة ب((وارث)) وفيها يقول (علیه السلام) (أَشْهَدُ أَنَّكَ كُنْتَ نُوراً فِي الاَْصْلاَبِ الشَّامِخَةِ، وَالاَْرْحَامِ الْمُطَهَّرَةِ، لَم تُنَجِّسْكَ الْجَاهِلِيَّةُ بِأَنْجَاسِهَا، وَلَمْ تُلْبِسْكَ مِنْ مُدْلَهِمَّات ثِيَابِهَا)

وهما خديجة وفاطمة بنت اسد اصل من عناهما الامام السجاد (علیه السلام) في خطبته في الشام امام يزيد الطاغية (أنا ابن عديمات العيوب انا ابن نقيات الجيوب)

الثالثة: تقصير المسلمين في معرفة هاتين المرأتين، وغاية ما يعرف عنهما اسمهما وبعض النتف البسيطة

ص: 90

عن سيرتهما المباركة لا أكثر، فكتاب الإصابة المكرّس لسير الصحابة كتب أقل من نصف صفحة في سيرة فاطمة، بينما ملأ صفحات لغيرها ممن هنّ أقل شأناً منها ولا سابقة لهنّ في الإسلام. وكتاب الأعلام للزركلي الذي دوّن أسماء من هبّ ودب لم يذكر لها اسماً ولا حتى في المستدرك.

وإن كانت مظلومية فاطمة بنت أسد أكبر من خديجة، والجهل بها أكثر لذنب حُسب عليها، وهو أنها أم علي بن أبي طالب (علیه السلام) الذي حادّته قريش ونابذته وشتمته على المنابر سبعين عاماً، فكيف يمجّدون أمه، ويشاركها بهذا الذنب زوجها حامي النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وناصره أبو طالب بن عبد المطلب سيد الأبطح، الذي قالت فيه أخت عمرو بن عبد ود العامري فارس قريش بعد أن بلغها قتله، قالت: ومن الذي تجرأ

ص: 91

على أخي وقتله؟ قيل لها: علي بن أبي طالب، فارتاحت عندئذ وسكنت وقالت أبيات من الشعر، نأخذ هذين البيتين محل الشاهد:

لو كان قاتل عمر غير قاتله *** لكنتُ أبكي عليه دائم الأبدِ

لكن قاتله من لا يعاب به *** قد كان يدعى أبوه بيضة البلدِ

ونحن حينما نعرض سيرة هاتين المرأتين (خديجة وفاطمة بنت أسد)، خصوصاً إذا لم نكتفِ بالسرد التاريخي وإنما نبين بعض الدروس والعبر المستفادة منهما، فإننا سنغني ثقافة المرأة المسلمة بالشيء الكثير، لأن مكتبة المرأة تبدو فقيرة بمعالم شخصية المرأة المسلمة كما يريدها الإسلام، فمن هي أم أمير المؤمنين (علیه السلام)؟.

ص: 92

هي فاطمة بنت أسد بن هاشم وزوجها أبو طالب بن عبد المطلب بن هاشم، فأولادهما أول من ولد من هاشميين(1)، وهم أربعة، أكبرهم طالب ولم يعرف تاريخيا ولا عقب له(2) ثم عقيل ثم جعفر ثم علي (علیه السلام)، وبين كل واحد وآخر عشر سنين(3)، فيكون

ص: 93


1- بعض المصادر قالت أن علي بن أبي طالب هو أول من ولد من هاشميين والصحيح أن إخوته سبقوه بهذا اللقب لأنه أصغرهم والمهم أنه (علیه السلام) وإخوته سبقوا كل أحد بهذا العنوان، لذا لا بد من تأويل هذا الكلام الموجود في تهذيب الأحكام –والذي تجده في الكافي، كتاب الحجة باب مولد أمير المؤمنين (علیه السلام). ولعله أراد بالأول نسبة إلى غير أولاد أبي طالب فيكون: الكلام شاملاً له ولإخوته وليس بالنسبة إلى إخوته.
2- ممن ذكر ذلك ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة :1/ 16 وحكاه في بحار الانوار:35/ 8 عن الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ومناقب الخوارزمي
3- مقاتل الطالبيين ص3

أولهم (وهو طالب) أكبر من آخرهم (وهو علي (علیه السلام)) بثلاثين سنة، وهو نفس الفرق في العمر بين رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وأمير المؤمنين علي (علیه السلام) فيكون رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بالعمر بقدر طالب الابن الأكبر لأبي طالب(1).وقد كانت مؤمنة بالله وموحدة له قبل الإسلام على دين أبيها إبراهيم (علیه السلام) وملته، وبذلك نعتقد نحن الإمامية، فإن سلسلة آباء وأمهات المعصومين (علیه السلام) كلهم إلى آدم (علیه السلام) مؤمنون موحدون، فإنهم لم ينتقلوا إلى صلب مشرك ولا رحم مشركة قط.

ويشهد لذلك ما ورد في حديث ولادتها لأمير المؤمنين (علیه السلام) – وكان ذلك قبل البعثة طبعاً - عن

ص: 94


1- هذا الحساب نحتاجه لأمر ما سيأتي إن شاء الله تعالى.

الصادق (علیه السلام) عن آبائه (علیه السلام) قال: كان العباس بن عبد المطلب ويزيد بن قعنب جالسين ما بين فريق بني هاشم إلى فريق عبد العزى بأزاء بيت الله الحرام، إذ أتت فاطمة بنت أسد بن هاشم، وكانت حاملاً بأمير المؤمنين (علیه السلام) لتسعة أشهر، وكان يوم التمام، فوقعت بأزاء بيت الله الحرام، وقد أخذها الطلق فرمت بطرفها نحو السماء وقالت: أي ربّ، إني مؤمنة بك وبما جاء من عندك وبكل نبي من أنبيائك وبكل كتاب أنزلته، وإني مصدقة بكلام جدي إبراهيم الخليل (علیه السلام)، فإنه بنى بيتك العتيق (وهذا شاهد على إيمانها في الجاهلية)، فأسألك بحق هذا البيت ومن بناه، وهذا المولود الذي في أحشائي الذي يكلمني ويؤنسني بحديثه وأنا موقنة أنه إحدى آياتك ودلائلك، لما يسرت عليّ ولادتي. قال العباس بن عبد المطلب ويزيد بن قعنب: فلما

ص: 95

تكلمت فاطمة بنت أسد ودعت بهذا الدعاء رأينا البيت قد انفتح من ظهره ودخلت فاطمة فيه وغابت عن أبصارنا، ثم عادت الفتحة والتصقت.. إلى أن خرجت وبين يديها أمير المؤمنين علي (علیه السلام)، وكانت طيلة مكثها في داخل الكعبة تأكل من ثمار الجنة وتشرب من أنهارها بحسب ما أفادته الروايات، في ذلك يقول جدي الشيخ اليعقوبي(1):

قمر بدا مِن أُفُق مكّة يشرقُ *** فأضاءَ مغربها به والمشرقُ

وتهلّل البيت الحرامُ بطلعةٍ *** منها يلوحُ سنا الهدى يتألقُ

ص: 96


1- نشرت في مجلة الإيمان التي كان يصدرها والدي الشيخ موسى اليعقوبي (رحمه الله) في النجف: العدد3 – 4 من السنة الأولى سنة 1964 ص192.

وضعته وسط البيت أمٌّ لم تزل *** تقتات من ثمر الجنان وتُرزقُ

ولعبد الباقي العمري (رحمه الله) في ميلاده (علیه السلام):

أنت العلي الذي فوق العلى رُفعا *** ببطن مكة وسط البيت إذ وضعا

سمّتك أمك بنت الليث حيدرة *** أكرم بلبوة ليث أنجبت سبعا

وقد بقي أثر الشق شاهداً للأجيال على أثر هذه الفضيلة، وإن حاول الحساد إخفاءها بكسوة الكعبة وترميم الشق ونحوه لكي لا يسأل عنه من يراه فتنتشر هذه الفضيلة.

وهذا هو الإخفاء المادي، وهناك إخفاء بشكل آخر، إذ حاولوا أيضا نسبتها (الولادة في الكعبة) إلى غير علي (علیه السلام)، فجاؤوا بإفك ينزه عنه بيت الله الحرام،

ص: 97

فرووا عن مصعب بن عبد الله (وهؤلاء الزبيريون معروفون بحقدهم على أهل البيت (علیه السلام)) أن أم حكيم بن حزام (أحد الصحابة الذين أسلموا متأخراً)، وهي فاختة بنت زهير بن أسد بن عبد العزى كانت ولدت حكيماً في الكعبة وهي حامل، فضربها المخاض وهي في جوف الكعبة فولدت فيها، فحملت في نطع وغسل ما كان تحتها من الثياب عند حوض زمزم، ولم يولد قبله ولا بعده في الكعبة أحد.فالراوي الحاقد لم يكتفِ بالتزوير، وإنما أيضا ينفيها عن علي بن أبي طالب (علیه السلام)، ذكره الحاكم في المستدرك، وعلق عليه الحاكم قال: وهِم مصعب الراوي في الحرف الأخير، فقد تواترت الأخبار أن فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) في جوف الكعبة.

ص: 98

وتجد في كتاب الغدير للأميني روايات هذه المنقبة ومصادرها المتواترة من كتب العامة والخاصة ومن خلدها في شعره.وهذه المنقبة وإن كانت تذكر لوليد الكعبة أمير المؤمنين (علیه السلام) وهو لها أهل – فهو (علیه السلام) ولد في بيت الله الحرام واستشهد في بيت الله الحرام وسجل هذه الفضيلة كثير من الشعراء منهم المرحوم جدي الشيخ محمد علي اليعقوبي، إذ يقول:

بأول بيت جاء لله ساجداً *** وفاز بلقياه برابع مسجدِ

إلا أننا ينبغي أن لا نغفل الطرف الآخر بها – فالكرامة ليست فقط للمولود وإنما للوالدة أيضاً، هذا الذي جعلنا نذكر هذه المرأة في مثل هذه المناسبة – وهي الوالدة الطاهرة الكريمة – فإن الله سبحانه وتعالى

ص: 99

أذن لها في أن تلد داخل الكعبة المشرفة - على الله تعالى جليلة القدر.وممن سجل هذه اللفتة – ذكر الوالدة وليس فقط المولود - العلامة الجليل المرحوم السيد إسماعيل الشيرازي – ابن عم المرجع السيد الشيرازي الذي كان في سامراء صاحب فتوى التتن المشهورة ووالد المرحوم السيد الهادي الشيرازي أحد مراجع التقليد في النجف توفي سنة 1962م، في قصيدته الميلادية التي ألقاها في حفل مهيب بين يدي السيد المجدد العظيم الشيرازي وجمع غفير من العلماء والأدباء في مدينة سامراء، عندما كانت يوم ذاك عاصمة العلم وكعبة الوفاد عندما انتقل إليها المجدد، وقد نقل إن السيد الشيرازي نفسه شغف بالقصيدة وأفتتن بها لما ألقيت، فقام وقعد واضعاً يديه على رأسه وهو يقول: إي والله ...

ص: 100

إي والله، وأنا أذكر هنا بعض المقاطع منها لأحيي ذكرى هذه المرأة الجليلة ومولودها العظيم:

رغد العيش فزده رغدا *** بسلاف منك تشفي سقمي

*****

آنست نفسي من الكعبة نور *** مثلما آنس موسى نار طور

يوم غشّى الملأ الأعلى سرور *** شرع السمع نداء كندا

شاطئ الوادي طوى من حرم

****

ولدت شمس الضحى بدر التمام *** فانجلت عنا دياجير الظلام

نادِ: يا بشراكمُ هذا غلام *** وجهه فلقة بدرٍ يهتدى

بسنا أنواره في الظلمِ

ص: 101

*****

هذه فاطمة بنت أسد *** أقبلت تحملُ لاهوت الأبد

فاسجدوا ذلاً له فيمن سجد *** فله الأملاكُ خرّت سجّدا

إذ تجلّى نورهُ في آدمِ

*****

هل درت أم العلى ما وضعت *** أم درت ثدي الهدى ما أرضعت

أم درت كف النهى ما رفعت *** أم درى رب الحجى ما ولدا

جلَّ معناه فلمّا يعلمِ (1)

*****

ص: 102


1- توجد القصيدة في مقدمة كتاب المكاسب التي كتبها السيد محمد كلانتر (رحمه الله) ج1/ 136 وما بعده.

هذه هي فاطمة بنت أسد، اختارها الله تبارك وتعالى لتحتضن وترعى أعظم رجلين في تاريخ البشرية بل سادة الخلق أجمعين، رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وأمير المؤمنين (علیه السلام)، كانت امرأة مؤمنة عارفة وعت علوم الأنبياء قبل الإسلام كزوجها أبي طالب، ففي الكافي عن عبد الله بن مسكان قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): إن فاطمة بنت أسد جاءت إلى أبي طالب تبشره بمولد النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، فقال لها أبو طالب: اصبري لي سبتاً (السبت ثلاثون سنة) آتيك بمثله إلا النبوة (1). وعن الصادق (علیه السلام) أنه قال: لما ولد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فتح لآمنة بياض فارس وقصور الشام، فجاءت فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين إلى أبي طالب

ص: 103


1- الكافي كتاب الحجة باب مولد أمير المؤمنين صلوات الله عليه: 1/ 452.

ضاحكة مستبشرة، فأعلمته ما قالت آمنة، فقال لها أبو طالب: وتتعجبين من هذا، إنك تحبلين وتلدين بوصيه ووزيره(1).وهذا قبل ذلك بثلاثين عاماً، فهذه العلوم كانت موجودة قبل النبوة وكان الأحبار والرهبان يتداولون هذه الأخبار.

وكانت كثيرة العتق للعبيد حتى قبل البعثة فقد روي عن حكيم بن حزام قال: إنها أعتقت أربعين محرراً في الجاهلية، فسألت النبي (صلی الله علیه و آله و سلم): هل لي فيهم أجر؟ - وهذا السؤال دليل على أن هذه المرأة تريد أن تكرس كل حياتها وكل أعمالها لطاعة الله – فقال (صلی الله علیه و آله و سلم): أسلمت على ما سبق لك من الخير(2). وهذا شاهد آخر

ص: 104


1- المصدر السابق: 1/ 454.
2- المعجم الكبير للطبراني: 3/ 190.

على توحيدها وإيمانها قبل البعثة، لأن العتق لا يثاب عليه الشخص إلا إذا نواه قربة إلى الله تعالى، فاستحقاقها للأجر على عملها السابق يعني صدوره قربة إلى الله تعالى، فكانت هي وآمنة بنت وهب وأبو طالب وعبد الله والد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وجده عبد المطلب على دين إبراهيم (علیه السلام) وملته الحنيفية، لا ما يقوله الآخرون من أنهم كانوا مشركين وهو إسفاف بمقام النبي وآبائه.روي أنه نزل جبرئيل على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فقال: يا محمد، ربك يقرئك السلام ويقول لك: إني حرمت النار على صلبٍ أنزلك، وعلى بطن حملك وعلى حجر كفلك(1)، فأما الصلب الذي أنزلك فصلب عبد الله بن

ص: 105


1- الكافي:1/ 446.

عبد المطلب، وأما البطن الذي حملك فآمنة بنت وهب، وأما الحجر الذي كفلك فعبد مناف أبن عبد المطلب وفاطمة بنت أسد.بعد هذا كله لا نحتاج أن ندافع عن إيمان أبي طالب، أو أن نثبت أن فاطمة بنت أسد هي من السابقين للإسلام، وأنها الشخص الحادي عشر من السابقين للإسلام - كما يقول في مقاتل الطالبيين - فإنهم قد مُلئوا إيماناً قبل البعثة، فماذا تتوقع أن يكون موقفهم بعد أن صدع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بالإسلام وأعلن دعوته المباركة؟

ومن حسنات فاطمة بنت أسد أنها دليل دامغ على إيمان أبي طالب، يلقي الحجة البالغة على كل من شكك في ذلك، وبه احتج أمير المؤمنين (علیه السلام) حين سئل عن إسلام أبي طالب فقال (علیه السلام): وا عجباً، إن

ص: 106

الله تعالى نهى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أن يقرّ مسلمة على نكاح كافر، وقد كانت فاطمة بنت أسد من السابقات إلى الإسلام، ولم تزل تحت أبي طالب حتى مات(1) – فلو كان أبو طالب مشركاً لفصل بينه وبين زوجته المؤمنة، فإبقاؤها عنده دليل إيمانه – ولم يكن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ممن يجامل، فقد فرّق بين زينب (ابنته أو ربيبته) وزوجها أبي العاص بن الربيع لأنه بقي على شركه.أنجبت فاطمة للإسلام ولله تبارك وتعالى ذرية طيبة نشرت كلمة الله تعالى وروت شجرة الإسلام بدمائهم، وأولهم ولدها المبارك أمير المؤمنين (علیه السلام)، وثانيهم أخوه جعفر الطيار شهيد مؤتة، واستشهد ولداه محمد

ص: 107


1- بحار الأنوار:35/ 157.

وعون في معارك الإسلام الخالدة التي أعقبت وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وولدها الآخر وهو عقيل والد سفير الحسين (علیه السلام) مسلم بن عقيل.وقد ارتبط اسم فاطمة بنت أسد بمعركة الطف، فإن جميع شهداء بني هاشم في معركة الطف وهم سبعة عشر كلهم ذريتها، ذكر ذلك الإمام الباقر (علیه السلام)، فقد ذكر عند الإمام الباقر (علیه السلام) قتل الحسين (علیه السلام)، فقال: قتلوا سبعة عشر إنساناً كلهم ارتكض من بطن فاطمة بنت أسد أمّ علي (علیه السلام)، وإلى هذا أشار الشاعر، قال:

تسعة منهمُ لصلب عليٍّ ثمان لجعفرٍ وعقيلِ

اهتمت برعاية رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) منذ أن كفله زوجها أبو طالب بعد وفاة جده عبد المطلب وهو طفل صغير، وكانت تفضله على أولادها، شهد لها بذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فقد روي – في كنز العمال - عن

ص: 108

رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أنها كانت أحسن خلق الله صنيعاً إلي بعد أبي طالب، وأنه قال: رحمك الله يا أمي، كنت أمي بعد أمي، تجوعين وتشبعينني وتعرين وتكسيني، وتمنعين نفسك وتطيبيني، تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة. ثم قال (صلی الله علیه و آله و سلم): اللهم أغفر لأمي فاطمة بنت أسد ولقنها حجتها ووسع مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبله يا أرحم الراحمين.وفي كتاب الفضائل لأبن شاذان عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قال: فلقد كانت تُجوّع أولادها وتشبعني ،وتُشعث أولادها وتدهنني ، والله لقد كان في دار أبي طالب نخلة فكانت تسابق إليها من الغداة لتلتقط، ثمّ تجنيه - رضي الله عنها - فإذا خرجوا بنو عمّي تناولني

ص: 109

ذلك)(1)وما كانت رعايتها له (صلی الله علیه و آله و سلم) عن عاطفة، فإن المفروض أن تكون عاطفتها تجاه أولادها أقوى، بل كانت هذه الرعاية عن وعي وإدراك للمقام الرفيع الذي تبوءه هذا الرجل (صلی الله علیه و آله و سلم) والمسؤولية العظيمة الملقاة على عاتقه.

ولما هاجر رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) إلى المدينة وأمر علياً (علیه السلام) أن يلحقه بالفواطم (فاطمة بنت أسد بن هاشم وفاطمة الزهراء وفاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب) فخرج بهن أمير المؤمنين (علیه السلام) راجلاً، واعترضه عدد من فرسان قريش، فقتل أشجعهم (يسمى جناح) وتفرقوا عنه وأمه

ص: 110


1- بحار الانوار : 35/ 180

تنظر إليه وهي فخورة به، حتى وصلوا إلى المدينة بعد ذلك السفر المضني، وكانت امرأة قد تجاوزت السبعين من العمر – لأن عمر طالب أكبر أبناءها كعمر النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) حين الهجرة، وهو 53 عاماً، فلا أقل يكون عمرها 70 سنة – ولم يقعدها عن أداء دورها كبر السن وقد تجاوزت السبعين وطول المسافة حوالي أكثر من عشرة أيام - وصعوبة السفر والأخطار التي كانت تحيط بهذه السفرة، لأن قريشا بعد أن أفلت منها رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لم تكن ترضى بأن تلحقه عائلته وفي وضح النهار وعلى مرأى منهم – لذلك تصدوا للإمام علي (علیه السلام).كانت امرأة ذات أذن واعية –كما يصف القرآن {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} (الحاقة:12) – تتلقى العلم مباشرة من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فقد روي أنها (رضوان الله تعالى

ص: 111

عليها) قالت: (سمعت رسول الله وهو يقول: إن الناس يحشرون يوم القيامة عراة كما ولدوا فقالت: واسوأتاه، فقال لها رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): فإني أسأل الله أن يبعثك كاسية. وسمعته يذكر ضغطة القبر، فقالت: واضعفاه، فقال لها رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): فإني أسأل الله أن يكفيك ذلك)(1).وفي كتاب تنبيه الغافلين عن فضائل الطالبيين عن الزبير بن العوام قال: (سمعت النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) يدعو النساء إلى البيعة حين أنزلت هذه الآية {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ..}(الممتحنة:12) وكانت فاطمة بنت أسد أول امرأة بايعت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم))(2).

ص: 112


1- ميزان الحكمة: 3/ 453.
2- تنبيه الغافلين: شرف الإسلام بن سعيد المحسن بن كرامة (ت494)، ص172.

ومن هذه السيرة المباركة تستطيع المرأة المسلمة أن تأخذ عدة دروس منها:أولاً: طلب العلم والمعرفة والسعي نحو الكمال، فترى فاطمة تأخذ العلم من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) مباشرة.

ثانياً: تلبية نداء الدين وداعي الله – {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} (الأحقاف:31) – مهما كان الثمن غالياً – وذكرنا شاهداً على ذلك هجرتها.

ثالثاً: عدم الانسياق نحو العواطف وجعلها معيار التفضيل في العلاقات، بل توزن الأمور بالتقوى، فنراها تفضل محمداً على أولادها، لأنه بالموازين الصحيحة أكرم وأجلّ منهم، فتقدمه (صلی الله علیه و آله و سلم) عليهم، بل تقدمه على أنفسها كما شهد لها رسول الله نفسه فيقول تجوع وتطعمني وتعرى وتكسيني... .

رابعاً: العناية بالأسرة وتوثيق روابطها وبناءها بشكل

ص: 113

سليم، وهذا واضح من علاقتها بزوجها أبي طالب وأولادها النجباء.خامساً: عدم الانصياع وراء العرف والأتكيت السائد، فرغم أن النساء في مجتمع قريش كان لهن أعراف وتقاليد معروفة، إلا أن فاطمة لم تتابعهم فيه إلا بمقدار ما ينسجم مع عقيدتها والسلوك الذي يرسمها لها الشرع المقدس سواء قبل الإسلام وبعده.

وقد حث الأئمة (علیه السلام) على الاستشفاع بها؛ فعن داود الرقي قال: دخلت على أبي عبد الله (علیه السلام) ولي على رجل مال قد خفت فوته، فشكوت إليه ذلك، فقال لي: إذا صرت بمكة فطف عن عبد المطلب وصلِّ ركعتين عنه، وطف عن أبي طالب طوافاً وصلّ عنه ركعتين، وطف عن عبد الله – والد رسول الله - طوافاً وصلّ عنه ركعتين، وطف عن آمنة طوافاً وصلِّ عنها

ص: 114

ركعتين، وطف عن فاطمة بنت أسد طوافاً وصلِّ عنها ركعتين، ثم ادعُ أن يرد عليك مالك. قال: ففعلت ذلك، ثم خرجت من باب الصفا، وإذا غريمي واقف بالباب يقول: يا داود حبستني، تعال اقبض مالك(1).وقد تضمن حديث وفاتها الكثير من فضلها وعظيم منزلتها عند الله تعالى وعند رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)؛ فعن عبد الله بن عباس قال: أقبل علي بن أبي طالب ذات يوم إلى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) باكياً وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): يا علي مَه. فقال: يا رسول الله، ماتت أمي فاطمة بنت أسد، قال: فبكى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ثم قال: رحم الله أمك يا علي، أما إنها إن كانت لك أماً فقد كانت لي أماً، خذ عمامتي هذه، وخذ ثوبي

ص: 115


1- بحار الأنوار:35/ 112.

هذين فكفنها فيهما، ولا تخرجها حتى أجيء فألي أمرها، قال: فأقبل النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بعد ساعة، وأخرجت فاطمة أم علي، فصلى عليها النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) صلاة لم يصل على أحد قبلها مثل تلك الصلاة، ثم كبر عليها أربعين تكبيرة ثم دخل إلى القبر فتمدد فيه فلم يسمع له أنين ولا حركة، ثم قال: يا علي أدخل، يا حسن أدخل، فدخلا القبر؟ فلما فرغ مما احتاج إليه من علي، قال: يا علي أخرج، يا حسن أخرج، فخرجا؟ ثم زحف النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) حتى صار عند رأسها ولقنها حجتها تفصيلاً، ثم قال: اللهم ثبت فاطمة بالقول الثابت ثم خرج من قبرها.. فقام إليه عمار بن ياسر فقال: فداك أبي وأمي يا رسول الله، لقد صليت عليها صلاة لم تصلِّ على أحد قبلها مثل تلك الصلاة، فقال: يا أبا اليقظان، وأهل لذلك هي، ولقد كان لها من أبي طالب ولد

ص: 116

كثير، ولقد كان خيرهم كثيراً، ثم قال: فكانت تشبعني وتجيعهم (أي أولادها) وتكسوني وتعريهم وتدهنني وتشعثهم. فقال: - أي عمار – فلمَ كبّرت عليها أربعين تكبيرة يا رسول الله، قال نعم يا عمار، التفت عن يميني فنظرت إلى أربعين صفاً من الملائكة، فكبرت لكل صفٍّ تكبيرة، قال: فتمددت في القبر ولم تسمع لك أنين ولا حركة؟ قال: إن الناس يحشرون يوم القيامة عراة، فلم أزل أطلب إلى ربي عزّ وجلّ أن يبعثها ستيرة، ثم وصف (صلی الله علیه و آله و سلم) ما أُعدّ لها من المقام الكريم عند الله تبارك وتعالى، فقال (صلی الله علیه و آله و سلم): (والذي نفس محمد بيده ما خرجت من قبرها حتى رأيت مصباحين من نور عند رأسها ومصباحين من نور عند يديها

ص: 117

ومصباحين من نور عند رجليها وملكيها الموكلين بقبرها يستغفرون لها إلى أن تقوم الساعة)(1).وفي علل الشرايع أن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) دفن فاطمة بنت اسد بن هاشم وكانت مهاجرة مبايعة وكفنها في قميصه، ونزل في قبرها وتمرغ في لحدها، فقيل له في ذلك – أي لماذا هذا - فقال (صلی الله علیه و آله و سلم): إن أبي هلك وأنا صغير فأخذتني هي وزوجها (أبو طالب) فكانا يوسعان علي ويؤثراني على أولادهما، فأحببت أن يوسع الله عليها قبرها(2).

وفيه ايضا: إنّ فاطمة بنت أسد بن هاشم أوصت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فقبل وصيتها ، فلما ماتت نزع رسول

ص: 118


1- بحار الأنوار:35/ 70.
2- جامع أحاديث الشيعة كتاب الطهارة، أبواب تحنيط الميت وتكفينه، باب17،ح46 عن علل الشرائع: 469/باب 221 ح31

الله (ص) قميصه ، وقال : كفّنوها فيه ، واضطجَعَ في لحدها . فقال : أما قميصي فأمانٌ لها يوم القيامة ، وأما اضطجاعي في قبرها فليوسّع الله عليها)(1).

أما سنة وفاتها فلم يسجلها التاريخ، وترد أمامنا عدة احتمالات:

الأول: أنها توفيت قبل معركة بدر في السنة الثانية للهجرة، ويؤيده أمور:

1أنها امرأة كبيرة تجاوزت السبعين وواجهت مشاق كثيرة في هجرتها، فلا يحتمل بقاؤها طويلاً.

2أنه قد أسر ولدها عقيل في معركة بدر وفداه عمه العباس بن عبد المطلب، ولو كانت أمه حية لكان

ص: 119


1- نفس المصدر ح32

المناسب لأخلاق رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) إطلاق سراحه إكراماً لأمه كما أطلق ألد أعدائه النضر بن الحارث واستبقاه لصبيته.3لم يرد ذكرها في حديث زواج علي وفاطمة الذي وقع غرة ذي الحجة من السنة الثانية للهجرة، وهو مشهد لا يفوتها.

الثاني: أنها توفيت في نهاية السنة الثالثة أو بداية الرابعة، بدليل ورود اسم حفيدها الحسن (علیه السلام) في خبر وفاتها، وقد ولد في النصف من رمضان في السنة الثالثة، ولم يرد اسم الإمام الحسين (علیه السلام) المولود في الثالث من شعبان من السنة الرابعة، ويستبعد أن يكون حياً ولا يحضر وفاة جدته.

الثالث: أنها توفيت بعد السنة السادسة للهجرة، لما ذكر من أنها أول امرأة بايعت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بعد

ص: 120

نزول آية الممتحنة المتقدمة التي يشهد سياقها أنها نزلت بعد صلح الحديبية بين السنة السادسة والثامنة من الهجرة. وقد ورد في رواية علل الشرايع في حديث وفاتها (إن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) دفن فاطمة بنت أسد بن هاشم (سلام الله علیها)، وكانت مهاجرة مبايعة)(1)، فوصفها بالمبايعة يعني البيعة المذكورة، وليس طبعاً بيعة العقبة الأولى والثانية قبل الهجرة، فإنها خاصة بالأنصار.والذي أميل إليه بحسب الوجدان هو الأول، مؤيداً بالظروف الموضوعية التي ذكرناها آنفا، أما الرواية التي يستند إليها القولان الثاني والثالث فتحمل على وهم الراوي، إضافة إلى ضعف السند. ويبعد القول الثالث خاصة ما ورد في حديث وفاتها أن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)

ص: 121


1- نفس المصدر السابق.

كبر عليها أربعين تكبيرة ولم يصل على أحد قبلها مثل تلك الصلاة، فلابد أن يكون ذلك قبل معركة أحد؛ فإن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) صلى على حمزة الذي استشهد فيها بسبعين تكبيرة(1).أسأل الله تعالى أن نكون قد أدّينا بعض الحق لهذه المرأة العظيمة ولولدها المبارك أمير المؤمنين، ونسأل الله تعالى أن يحشرنا معهم، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 122


1- وسائل الشيعة كتاب الطهارة أبواب الصلاة والجنازة باب 6/ ج3.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.