خطابُ المرحلة المجلد 9

هوية الكتاب

اسم الكتاب: خطابُ المرحلة / الجزء التاسع

تأليف: توثيق لخطابات وبيانات سماحة

آية الله العظمى المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي

الطبعة : الثانية

السنة : 1437 ه- - 2016م

الناشر: دار الصادقين للطباعة والنشر والتوزيع

النجف الاشرف / شارع الرسول ص 07808289364

المطبعة:.........

ص: 1

اشارة

خطابُ المرحلة توثيق لخطابات وبيانات سماحة

آية الله العظمى المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي

ومواقفه وتوجيهاته منذ تصديه لقيادة الحركة الإسلامية في العراق بعد استشهاد استاذه

السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) عام 1999

الجزء التاسع

مايس 2014- 2015

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

خطاب المرحلة 407 :{كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة : 119]كن في الصف الذي فيه علي بن أبي طالب (عليه السلام)

خطاب المرحلة 407 :{كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة : 119]كن في الصف الذي فيه علي بن أبي طالب (عليه السلام)(1)

للنبي (صلی الله علیه و آله) أحاديث كثيرة في فضل أمير المؤمنين (علیه السلام) ومنزلته وخصاله الكريمة، وفي وجوب اتباعه والأخذ منه(2)، ومن تلك التوجيهات النبوية الشريفة: أنّه إذا افترقت الأمة واختلفت وتعدّدت فيها الاصطفافات والتخندقات والتيارات والاتجاهات فكونوا في الصف الذي فيه علي بن أبي طالب (علیهما السلام) بلا نقاش ولا تأمّل، ولا تبحثوا عن الدليل والحجة فإنّ نفس وجود علي بن أبي طالب (علیهما السلام) دليل على كونك في الموضع الصحيح الذي فيه رضا الله تعالى ورسوله (صلی الله علیه و آله) لقوله (صلی الله علیه و آله): (عليٌ مع الحق والحق مع علي، يدور معه حيث دار) (3)، وعنه (صلی الله علیه و آله) قال: (اذا اختلفتم في شيء فكونوا

ص: 5


1- تقرير لحديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) يوم الأحد 11 رجب 1435 المصادف 11/ 5/ 2014 مع مواكب خدر الرسالة قبل انطلاقهم مشياً على الأقدام إلى حرم الإمام الحسين (عليه السلام) لإحياء ذكرى وفاة العقيلة زينب (عليها السلام) وزيارة النصف من رجب.
2- راجع موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في عشر مجلدات بإشراف الشيخ الريشهري.
3- الفصول المختارة: 135، 97.

مع علي بن أبي طالب) (1).وقال (صلی الله علیه و آله) مخاطباً عمار بن ياسر (يا عمار تقتلك الفئة الباغية، وانت إذ ذاك مع الحق والحق معك، يا عمار بن ياسر: إن رأيتَ علياً قد سلك وادياً وسلك الناس وادياً غيره فاسلك مع علي (علیه السلام)، فإنّه لن يدليك في ردى ولن يخرج من هدى). (2)

وعنه (صلی الله علیه و آله) قال: (يابن عباس: سوف يأخذ الناس يميناً وشمالاً، فإذا كان كذلك فاتبع علياً وحزبه فإنّه مع الحق والحقّ معه، ولا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض) (3).

فالنبي (صلی الله علیه و آله) يحذر الأمة من اتباع الوسائل غير الدقيقة لمعرفة الحق كالانخداع بالعناوين الكبيرة والرموز التي صنعت لها هالة اجتماعية كما حصل في معركة الجمل حين انخدع كثيرون بفلانٍ وفلانٍ وفلانة بحجة قربهم من رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وجاء تعليق أمير المؤمنين (علیه السلام) لإيقاظ هؤلاء الغافلين حيث قال له أحدهم: (أتراني أظن أصحاب الجمل كانوا على ضلالة) فقال (علیه السلام): (يا حارث انك نظرت تحتك ولم تنظر فوقك فحرت، إنّك لم تعرف الحق فتعرف من أتاه، ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه). (4)

كان أبان بن تغلب من اجلاّء أصحاب الأئمة السجاد والباقر والصادق

ص: 6


1- المناقب لابن شهراشوب: 2/ 30.
2- تاريخ بغداد: 13/ 187 الرقم 7165.
3- كفاية الأثر: 18.
4- نهج البلاغة: قصار الكلمات رقم:262.

(صلوات الله عليهم أجمعين) وكان الأئمة يعطونه مكانة خاصة، كان الإمام الباقر (علیه السلام) يقول له: (يا أبان اجلس في مسجد المدينة وافت الناس، فإنّي أحبّ أن يُرى في شيعتي مثلك) (1)، روى بعضهم قال: (كنّا في مجلس أبان بن تغلب فجاءه شاب فقال: يا أبا سعيد كم شهدَ مع علي بن أبي طالب (علیهما السلام) من أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) قال: فقال له أبان: كأنك تريد أن تعرف فضل علي (علیه السلام) بمن تبعه من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: فقال الرجل: هو ذاك، فقال: والله ما عرفنا فضلهم إلاّ باتباعهم علياً) (2) فنبهه إلى هذا المقياس المقلوب في معرفة الحق ولم يكن مراد السائل لينطلي على مثل أبان فإنّ الحق حق ولا يضره قلة أتباعه، أو كثرة خصومه وعناوينهم الاجتماعية.وقسم آخر من الناس يجعل بعض الاعتبارات مقياساً لكون الحق معه كجريان الأمور على ما يريد (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ) (الحج/11) أو يجعل الانتصار في المعركة دليلاً على كونه محقّاً فإذا خسر الجولة شكّك وتردّد وتمرّد وكان بعض من يُقاتل مع أمير المؤمنين (علیه السلام) في صفين على هذا النحو، فكان عمار بن ياسر يقاتل وهو يقول: (قاتلت تحت هذه الراية مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته (ع) ثلاثاً، وهذه الرابعة، والله لو ضربونا حتى يبلغ بنا السعفات من هجر –في جنوب الجزيرة العربية- لعلمنا أنّا

ص: 7


1- رجال النجاشي: 10.
2- معجم رجال الحديث: 1/ 133.

مع الحق وأنهم على الباطل) (1).فهذا نموذج للراسخين في إيمانهم والواثقين بقيادتهم الذين لا تزلزلهم الأراجيف والارهاصات وقد أثنى عليهم أمير المؤمنين (علیه السلام) بعد استشهادهم في صفين فيقف على المنبر ويقبض على شيبته الكريمة وهو يبكي ويقول (أين اخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق؟ أين عمار أين ابن التيهان وأين ذو الشهادتين، وأين نظراؤهم من اخوانهم الذين تعاقدوا على المنية وابرد برؤوسهم إلى الفجرة، أوِّه على اخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه وتدبروا الفرض فأقاموه، أحيوا السنة وأماتوا البدعة دعوا للجهاد فأجابوا ووثقوا بالقائد فاتبعوه) (2).

وهذا المقياس الصحيح للحق – وهو الكون في صف علي بن أبي طالب (علیهما السلام)- جاري في كل زمان إذا تعددت الانشقاقات والاصطفافات والمواقف والجهات فإنه إذا كان مخلصاً وطالباً للحقيقة فإنّ الله تعالى سيبصره بالصف الذي يكون فيه علي بن أبي طالب (علیهما السلام)، قال (علیه السلام) (من كان مقصده الحق أدركه ولو كان كثير اللبس) (3).

قال أبان وهو يعرّف اتباع الحق في كل جيل الذين يقفون في الصف الذي فيه علي بن أبي طالب (علیهما السلام) (يا أبا البلاد: تدري ما الشيعة؟ الشيعة الذين اذا اختلف الناس عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أخذوا بقول علي (علیه السلام)، وإذا اختلف

ص: 8


1- الخصال: باب الخمسة، في بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بخمسة أسياف، ح18.
2- نهج البلاغة: خطبة 182.
3- غرر الحكم/9024

الناس عن علي (علیه السلام) أخذوا بقول جعفر بن محمد).وفي هذا جواب على من يريد أن يخلط الأوراق ويلبس على الناس ويقول لا فرق بين السنة والشيعة فكلاهما ينتهي سند أحاديثه إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله)، والجواب أنّ الفرق في أن تعرف عمّن تأخذ اذا اختلف الناس، فإذا اختلف الناس بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) أخذوا بقول أمير المؤمنين (علیه السلام) وإذا اختلف الناس بعد الحسين (علیه السلام) أخذوا بقول السجاد (علیه السلام) واذا اختلفوا بعد الباقر (علیه السلام) أخذوا بقول الصادق (علیه السلام) وبذلك تُعزل الفرق الكثيرة التي انشقت في كل مفترقات الزمان ومراحل التأريخ.

فلنطبق هذا الشعار (كن في الصف الذي فيه علي بن أبي طالب (علیهما السلام)) في كل حياتنا ونجعله البوصلة التي تحدد مساراتنا، وسوف يهدينا الله تعالى إلى الموقف الصحيح، مثلاً عندما أقام السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) صلاة الجمعة وافترق الناس، منهم من التحق به وشهد هذه الشعيرة المباركة واستضاء بنورها، ومنهم من عارضها وخذل عنها ووصفها بما يشينها كالفتنة والبدعة وحينئذ يسأل المتردد نفسه: أترى لو كان عليٌ (ع) موجوداً فأين يكون صفّه لأكون فيه؟ وستجد الجواب حاضراً بلا تردد أنه لا يمكن أن يكون في صف ّ المعادين لإقامة هذه الفريضة المباركة التي وردت مئات الروايات في فضلها ووجوب اقامتها والحضور فيها وبركاتها على الدين والأمة.

وأنقل لكم هذه الحادثة، فعندما أقام السيد الشهيد الصدر (قدس سره) صلاة الجمعة وعيّن المساجد التي تُقام فيها، كان أحدها من المساجد المهمة التي فيها حضور لافت كمّاً وكيفاً وفي منطقة حسّاسة من محافظة مهمة، يروي

ص: 9

إمام المسجد الراتب وهو من أسرة دينية معروفة ويتبع المرجعية الأخرى، أنّ سلطات الأمن علمت بالقرار فأبلغته رفضها لإقامة الجمعة في هذا المكان، فوسّطني لإقناع السيد الشهيد (قدس سره) بتغيير المكان ولم ينجح، وفي صباح يوم الجمعة طلب منه مدير الأمن الحضور في المسجد لإعطاء شرعية لتصرفاتهم وحضر المدير وضباطه وجلاوزته، وكان الشباب الرساليون والمؤمنون المضحون يتقاطرون على المسجد وبأيديهم المصاحف وسجادات الصلاة ليفرشوها ويتلون القرآن انتظاراً لوقت الصلاة، ويزداد العدد كل ما مضى الوقت ومدير الأمن يتصل بالقيادة ويبلغها بالحاجة الى مزيد من قوات الأمن لأن الموقف سيخرج عن السيطرة وهكذا مر الوقت على هذا الإمام وهو يحدث نفسه: يا لسوء عاقبتي بعد العمر الطويل في إمامة الصلاة والخطابة والعمل الديني أقف في صف الذئاب المفترسة من أزلام صدام في مواجهة هذه الجموع المؤمنة الصالحة، وقد رحم الله تعالى تأنيب ضميره بهذا المقدار وانفضّ الجمعان بلا مواجهة ونُقلت الصلاة إلى موضع آخر، ومحل الشاهد أنه ليس صعباً أن تعرف الصف الذي فيه علي بن أبي طالب (علیهما السلام) لتكون فيه.والشاهد الآخر عندما قُدّم القانون الجعفري إلى الحكومة لمناقشته وعرضه على البرلمان، حصل اصطفافان، فريق يسعى لإقامة شريعة الله تعالى في الأرض ويحمي الناس من الوقوع في المحرمات ويدلهم على الهدى والصلاح، وفريق رفع شعار اجهاض القانون الجعفري ضمّ دعاة الانحلال الأخلاقي والمعادين للدين مدعومين من قبل قوى الكفر العالمي وهذا ليس غريباً والمواجهة معهم طبيعية، لكن الغريب أن يكون بعض من يسمّى بمراجع دين ومعمّمين ينتمون

ص: 10

إلى الحوزة العلمية هم أوّل من أوقد نار الاعتراض وأجّجها وشجع اولئك على رفع أصواتهم بالاعتراض، فعلى هؤلاء أن يراجعوا أنفسهم ويمتحنوها بأنّ علي بن أبي طالب (علیهما السلام) في أيّ صف؟ أليس في صف قانون ولده جعفر الصادق (علیه السلام) الذين هو قانونه وهل رسالة علي (علیه السلام) غير رسالة الله تعالى ورسالة النبي الكريم (صلی الله علیه و آله) (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (الشورى/13) (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ) (الحج/41).وهكذا تستمر المواقف التي تختلف فيها الأمة، فعندما وجّهت النساء المؤمنات العفيفات بأن لا يخرجن لزيارة الأربعين من المدن البعيدة كالبصرة والناصرية والعمارة إلى كربلاء مشياً ويقطعن الصحارى والقفار ويقضين أياماً بلا ترتيب للأوضاع التي تؤمن مسيرتهن ويحصل ما يحصل مما لا يرضى به الله ورسوله وأيّدها الواعون الغيورون والتزمت بها غالب النساء لأن التوجيه عبّر عمّا كان يتلجلج في صدور المؤمنين إلاّ أنهم يتخوفون من اعلانه لاتهامهم بمعادات الشعائر الحسينية، وهنا رفع المتاجرون بالدين عقيرتهم ضد هذا التوجيه ومارسوا أنواع التسقيط والتشويه والافتراء وخلط الأمور لإثارة الجهلة والبسطاء من عوام الناس وتحريضهم على لعن من يريد الاصلاح لثنيهم عن عزيمتهم مستخدمين هذا الارهاب الفكري والاجتماعي.

وهنا يأتي دور البوصلة لتوجه المسار الصحيح، فإنّ علياً (ع) لو كان موجوداً فإنه لا يرسل ابنته العقيلة زينب لتسير وحدها في الصحراء لا يعرف عند من تبيت وماذا يجري لها بل إنّ هؤلاء المعترضين أنفسهم يروون أنه

ص: 11

(ع) كان إذا أرادت العقيلة زينب زيارة جدها رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمها الزهراء (علیها السلام) خرج أبوها أمامها وأخواها الحسنان حولها (وبيته (ع) ملاصق للمسجد ولا يقطعون مسافة) وأطفأ قناديل المسجد وأخرج من فيه لئلاّ يرى أحدٌ شخصها، فلماذا يقف هؤلاء في غير صف أمير المؤمنين (علیه السلام).إن من لم يكن في صف علي بن أبي طالب (علیهما السلام) فريقان:

أولهما: الواقف على الحياد بمسافة واحدة من الحق والباطل، متظاهراً بالاحتياط والتقدّس والحذر من الوقوع في الفتنة (وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ) (التوبة/49) كالذين لم يبايعوا أمير المؤمنين (علیه السلام) لأغراض شتى مثل سعد بن أبي وقاص وأسامة بن زيد وعبد الله بن عمر وسعيد بن مالك وحسّان بن ثابت وهؤلاء قال فيهم أمير المؤمنين (علیه السلام): (إن سعيداً وعبد الله بن عمر لم ينصرا الحق ولم يخذلا الباطل) (1).

فقد سولت لهم أنفسهم وغرّهم الشيطان بأنهم يحسنون صنعا، حينما يقفون محايدين بين الحق والباطل لكنهم ارتكبوا كبيرتين وتركوا فريضتين عظيمتين: نصرة الحق ومواجهة الباطل، فنصروا الباطل مرتين.

ثانيهما: الصف الذي يقف في مواجهة علي بن أبي طالب (علیهما السلام) وهؤلاء طبع الله على قلوبهم ومنهم من يفخر بذلك ومنهم عبد الله بن الزبير الذي يقول: من مثلي وقد وقفت في الصف بأزاء علي بن أبي طالب) (2) هذا وهو يعلم منزلة

ص: 12


1- نهج البلاغة/ قصار الكلمات رقم 262.
2- بحار الأنوار: 41/ 143 عن شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، قال: انتبه معاوية يوماً فرأى عبد الله بن الزبير جالساً تحت رجليه على سريره فقال له عبد الله يداعبه: يا أمير المؤمنين لو شئت

أمير المؤمنين وقد سمع من أبيه الزبير وخالته عائشة ما لا يحصى في ذلك لكن الإمام الصادق (علیه السلام) يقول: (ما زال الزبير منّا أهل البيت حتى أدرك فرخه ونهاه عن رأيه) (1).نسأل الله تعالى أن يجعلنا دائماً في الصف الذي فيه أمير المؤمنين (علیه السلام) ويدلنا عليه بلطفه وحسن توفيقه كما وعدنا (ع): (من كان مقصده الحق أدركه ولو كان كثير اللبس).

ص: 13


1- الخصال، أبواب الثلاثة، ح199 في بيان ثلاث خصال في السفرجل.

خطاب المرحلة 408 :(وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم)

خطاب المرحلة 408 :(وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم)(1)

(النساء/69)

في مناسبات المعصومين (سلام الله عليهم) ومجالسهم وعند زيارتهم تنتابنا عدة مشاعر منها الشوق إلى رؤيتهم ومصاحبتهم ومرافقتهم، ونكرّر الطلب يومياً في صلواتنا (اهدِنا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ) (الفاتحة/6-7) وعلى رأسهم النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة المعصومون (علیهم السلام) ونعبّر عن ذلك بما ورد في الزيارة ونكررها (يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيما)، والمشهور في فهم العبارة تمني الكون معهم في زمانهم –كيوم الإمام الحسين (علیه السلام) في كربلاء- ومشاركتهم مواقفهم ونصرتهم حتى نفوز ونسعد بذلك باعتبار أن (كان) فعل ماضي ناقص كما هو معلوم.

ولكن للعبارة فهم آخر بأن تكون (كان) تامة أو الشأنية التي لا تفيد الاقتصار على الزمن الماضي بل تشمل الحاضر والمستقبل مثل ما ورد في ذكر الأسماء الحسنى (وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (النساء/158) و(وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (النساء/134) أي أن الله تعالى متصف بهذه الصفات في كل الأحوال،

ص: 14


1- تقرير لحديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع حشد كبير من المثقفين والأكاديميين والشباب من الديوانية والكوت والنعمانية وغيرها يوم 24/رجب/1435 المصادف 24/ 5/ 2014.

فحينما ندعو الله تعالى (يا ليتنا كنّا معكم) أي نكون معكم دائماً.وهذا الطلب لا يختص بنا نحن الذين حُرمنا من لقاء المعصومين (سلام الله عليهم) بل يشاركنا فيه حتى الذين فازوا وسعدوا بمرافقة النبي (صلی الله علیه و آله) وآله المعصومين ومصاحبتهم في زمانهم فيتمنون أن تستمر عليهم هذه النعمة في الآخرة ولا يفترقون عنهم (صلوات الله عليهم أجمعين) بسبب تباين الدرجات، وقد وردت روايات كثيرة في ذلك مذكورة في سبب نزول قوله تعالى (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيماً) (النساء:69-70) فقد روى الفريقان(1) جاء رجل إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال : (يا رسول الله إِنَّكَ لأَحَبّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي وَإِنَّكَ لأَحَبّ إِلَيَّ مِنْ مِنْ وِلْدِي وَإِنِّي لأَكُون فِي البَيْتِ فَأَذْكُرَكَ فَمَا أَصْبِر حَتَّى آتِي فَأَنْظُرُ إِلَيْكَ، وَإِذَا ذَكَرْتُ مَوْتِي وَمَوْتكَ عَرَفْتُ أَنَّكَ إِذَا دَخَلْتَ الجَنَّةَ رُفِعْتَ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَإِنِّي إِذَا دَخَلْتُ الجَنَّةَ خَشِيتُ أَنْ لا أَرَاكَ? فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله) حَتَّى نَزَلَ جِبْرِيلُ (ع) بِهَذِهِ الآيَةِ).

وفي رواية أن رجلا أتى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال : يا رسول الله ! إني أحبك حتى إني أذكرك ، فلولا أني أجئ فأنظر أليك ظننت أن نفسي تخرج ، وأذكر أني

ص: 15


1- البرهان في تفسير القرآن: 3/ 98، الدر المنثور: 2/ 588 ومما ننصح بقرائته: الاطلاع على أسباب نزول الآيات الكريمة ففي ذلك فوائد جمة كالاطلاع على الحوادث التاريخية وسيرة النبي (صلى الله عليه وآله) وكيفية معالجة القرآن الكريم للمشاكل السياسية والاجتماعية والأخلاقية وأخذ الدروس والعبر من ذلك كله.

إذا دخلت الجنة صرت دونك في المنزلة ، فيشقّ ذلك علىً وأحب أن أكون معك في الدرجة ، فلم يرد عليه رسول الله (صلی الله علیه و آله) شيئاً فأنزل الله عز وجل (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ) فدعاه رسول الله (صلی الله علیه و آله) فتلاها عليه .وتذكر بعض الروايات أن السائل بكى وفي رواية أنه جاء إلى النبي (صلی الله علیه و آله) محزوناً فسأله النبي (صلی الله علیه و آله): مالي أراك محزوناً، وفي رواية أنه فتى مما يدل على حماسة ووعي وشدة إيمان هذا الشاب.

فالآية:

1-تطمئن القلوب الوالهة المشتاقة إلى رؤية رسول الله وآله الأطهار (صلوات الله عليهم أجمعين) وتبشرهم بإمكان ذلك إذا تحقق الشرط وهو العمل بطاعة الله تعالى.

2-تبيّن أن النعمة في الجنان لا تكتمل إلا بمرافقة هذه الفئات الكريمة فقد ذكرت هذه النعمة أو قل الثمرة لطاعة الله تعالى بعد عدة ثمرات في الآيات السابقة (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً{66} وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّ-ا أَجْراً عَظِيماً{67} وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً{68}) (سورة النساء) ثم جاءت الآية محل البحث فالجنة الحقيقية ليست بالحور العين ولحم الطير والأنهار والقصور وإنّما بهذه المرافقة الكريمة.

3-إنّ هذه الآيات ترتبط ارتباطاً وثيقاً بما ندعو به يومياً في صلواتنا فنقول عشر مرات يومياً على الأقل (اهدِنا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ) (الفاتحة/6-7) فإنها تدل على أن طاعة الله تعالى والأخذ بما يعظك به تحقق لك الهداية إلى الصراط المستقيم (وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً)

ص: 16

(النساء/68) وتبين من هم الذين أنعم الله عليهم وكيف تتحقق الأمنية بمرافقتهم ومصاحبتهم.4-إنها تجيب عن السؤال الذي توجّه به الصحابة في الروايات المتقدمة وتحلّ هذه المشكلة وتدل على الوسيلة لتحقيق هذه الأمنية العظيمة، والوسيلة هي طاعة الله تبارك وتعالى، وقد دلّت على ذلك الروايات الشريفة، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال (إنه لا يدرك ما عند الله إلاّ بطاعته) (1) وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (طاعة الله مفتاح كل سداد وصلاح كل فساد). (2)

والملاحظ في الطاعة بحسب هذه الآية أمران:

أولهما: الاستمرارية والدوام والثبات وعلامته استعمال فعل المضارع (ومن يطع) وذلك بأن يتخذ طاعة الله تعالى ورسوله (صلی الله علیه و آله) منهجاً في حياته ودليلاً لسلوكه فلا يقدّم ولا يؤخّر إلا وفق ما يرضي الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) فيكون الطابع العام لسلوكه ومواقفه طاعة الله تعالى، ولو زلّت قدمه بسبب الغفلة أو الجهل أو ضعف النفس تذكّر المطلوب منه وعاد إلى خطّ الطاعة، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) (الأعراف/201).

ثانيهما: إطلاق لفظ الطاعة فلا تختص بنماذج محددة منها، وإن ذكرت الروايات بعض هذه الطاعات، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الأسلمي، قَالَ : كُنْتُ أَبِيتُ عند النبي (صلی الله علیه و آله) ، فَآتِيهِ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ ، فقال لي: سل. قلتُ: يا رسول الله (صلی الله علیه و آله) أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أو غيرُ ذلك؟ قلتُ: هو ذاك، قال:

ص: 17


1- وسائل الشيعة: 11/ 184 ح2.
2- غرر الحكم: 6012.

فأعنّي على نفسك بكثرة السجود.وفي رواية أخرى عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذكر الطاعات الواجبة ثم قال (صلی الله علیه و آله) (ما لم يعق والديه).

إلاّ أنّ ذكر هذه الطاعات المهمة من باب المثال أو بما يناسب السائل وإلا فإن الشرط المذكور في الآية (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (النور/52) مطلق، فلا تقتصر طاعة الله تعالى على العبادات المعروفة كالصلاة والصوم والطهارة والخمس ونحو ذلك وإن كانت منها وعلى رأسها، لكن هناك طاعات مهمة وثقيلة الميزان نغفل عنها أو نستثقلها كالإنصاف من نفسك وإن كان على خلاف هواك وكالسعي لقضاء حوائج الناس وإدخال السرور عليهم وأمثال ذلك، عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال (ثلاث لا تطيقها هذه الأمة: المواساة للأخ في ماله، وإنصاف الناس من نفسه وذكر الله على كل حال) (1) فإن بهذه الأمور قوام الدين وصلاح الأمة، عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (نظام الدين خصلتان: إنصافك من نفسك ومواساة اخوانك). (2) أو مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي وصفتها الأحاديث الشريفة بأنها سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء وأسمى الفرائض وأشرفها.

أو مثلاً العفاف للرجل والمرأة والتنزه عن الأمور الدنيّة، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال (ما عبد الله بشيء أفضل من عفّة بطن وفرج) (3) وغيرها من

ص: 18


1- بحار الأنوار: 75/ 27 ح11.
2- غرر الحكم: 9983.
3- الكافي: 2/ 79، ح1.

الطاعات العظيمة كالتفقه في الدين ونشره بين الناس ورعاية الأيتام والمعوزين وتزويج المؤمنين ونحو ذلك.وقد بيّنت الآية الشريفة الفئات المترافقة وهم الأنبياء الذين يبلغون رسالات ربهم.

والصديقون الذين آمنوا بربهم وأطاعوه وأطاعوا رسله ظاهراً وباطناً وصدّقت أفعالهم أقوالهم.

والشهداء الذين حملوا الرسالة الإلهية ودعوا الناس إليها وسعوا لتطبيقها في حياة الأمة رغم العنت والمشقة حتى ضحّوا بأرواحهم واستشهدوا في سبيل الله تعالى، وكانوا شهداء على الأمة فأقاموا عليها الحجة البالغة.

والصالحون الذين بذلوا جهدهم في تطبيق التعاليم الإلهية في حياتهم وجعلوا الصلاح منهاجاً لحياتهم.

فالإنسان الذي يريد أن يكون مع الأنبياء والأئمة الطاهرين (علیهم السلام) يستطيع ذلك بتوفيق الله وألطافه عندما يكون من الصالحين والعاملين المضحّين، روى أبو بصير قال أبوعبد الله الصادق (علیه السلام): (يا أبا محمد لقد ذكركم الله في كتابه فقال (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ) (النساء/69) فرسول الله (صلی الله علیه و آله) في هذا الموضع النبي، ونحن الصديقون والشهداء، وأنتم الصالحون، فتسموا بالصلاح كما سمّاكم الله). (1)

وذكر هذه المراتب بالتدريج يدل على أن الوصول للمرتبة العليا يتم

ص: 19


1- تفسير العياشي 1/ 256 ح190.

باستيفاء المرتبة السابقة فإن لم يكن من الصالحين يسعى ليكون منهم وفق ما عرفناه آنفاً، والصالحون يسعون ليكونوا من الشهداء، وهم يطلبون سبيل الصديقين الذين يسيرون على هدى الأنبياء (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (يوسف/76).وينبغي الالتفات إلى أن هذه المعيّة لا تعني المساواة في الدرجات والمقامات والقرب من الله تعالى والتنعم برضوانه، بل كل حسب استحقاقه (فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) (الرعد/17)، وتؤكد الآية الثانية أن ذلك لا ينال إلا بفضل من الله تعالى وتوفيقه، وهو العالم بحقائق عباده واستحقاقاتهم، والإشارة إليه ب- (ذلك) للإشعار بأنه ليس سهل المنال، وانه مطلب عظيم يستحق بذل كل الجهد لتحصيله.

ونريد الآن أن نتقدم خطوة أخرى ونقول أن الإنسان يمكن أن يحظى بهذه الرؤية المباركة هنا في الدنيا قبل الآخرة بحسب ما يظهر من بعض الروايات، فقد روى الكشي في رجاله بسنده عن اسماعيل بن سلام واسماعيل بن جميل قالا: بعث إلينا علي بن يقطين فقال: اشتريا راحلتين ، وتجنبا الطريق - ودفع إلينا أموالاً وكتباً - حتى توصلا ما معكما من المال والكتب إلى أبي الحسن موسى (علیه السلام) ولا يعلم بكما أحد ، قالا : فأتينا الكوفة فاشترينا راحلتين وتزوّدنا زاداً ، وخرجنا نتجنب الطريق ، حتى إذا صرنا ببطن الرمة شددنا راحلتنا ، ووضعنا لها العلف ، وقعدنا نأكل ، فبينا نحن كذلك، إذ راكب قد أقبل ومعه شاكري(1)، فلما قرب منَّا فإذا هو أبو الحسن (علیه السلام) ، فقمنا إليه وسلّمنا عليه ،

ص: 20


1- نوع من الخيل.

ودفعنا إليه الكتب وما كان معنا ، فأخرج من كمّه كتباً فناولنا إيّاها، فقال : هذه جوابات كتبكم، فقلنا : إنّ زادنا قد فني، فلو أذنت لنا فدخلنا المدينة ، فزرنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتزوّدنا زاداً فقال : هاتا ما معكما من الزّاد ، فأخرجنا الزّاد إليه فقلّبه بيده فقال : هذا يبلّغكما إلى الكوفة ، وأما رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقد رأيتماه ، إني صليت معهم الفجر ، وإنّي أريد ان أصلي معهم الظهر ، انصرفا في حفظ الله) (1)، ومحل الشاهد تأكيده (ع) لهما بأنهما قد رأيا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فعلاً وتحقق مرادهما وأمرهما بالرجوع إلى الكوفة.والشاهد الآخر من حياة الإمام الهادي (علیه السلام)، فقد روى الكليني في الكافي، في بصائر الدرجات بسنده عن صالح بن سعيد قال دخلت على أبي الحسن ع فقلت: جعلت فداك، في كل الأمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك حتى أنزلوك هذا الخان الأشنع خان الصعاليك، فقال ع: (ههنا أنت يا ابن سعيد ؟ ثم أومأ بيده فقال: انظر، فنظرت فإذا بروضات آنقات، وروضات ناضرات، فيهن خيرات عطرات، وولدان كأنهن اللؤلؤ المكنون، وأطيار وظباء وأنهار تفور، فحار بصري والتمع، وحسرت عيني، فقال: حيث كنا فهذا لنا عتيد، ولسنا في خان الصعاليك) (2)

بل الأمر أقرب من ذلك لأنّنا نحظى بوجود بقية الله الأعظم الإمام المهدي (علیه السلام) بين ظهرانينا وإن كنّا لا نعرفه شخصياً، ونخاطبه في دعاء الندبة (متى ترانا ونراك)، وتتحدث الشواهد التاريخية الكثيرة على إمكان ذلك لمن رضي

ص: 21


1- معجم رجال الحديث: 13/ 249 عن رجال الكشي.
2- بحار الأنوار: 50/ 133 ح15.

عنه الإمام (علیه السلام) لخير وجده فيه، يُروى ان عابداً كان يتمنى لقاء إمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه) وبعد فترة من الرياضات الروحية والتعب والمشقة لم يصل الى شيء واخذ اليأس يدب الى قلبه ، وفي ليلة من الليالي بينما كان قائما يتعبد إذا بهاتف يناديه : (الوصول الى المولى يعني شد الرحال الى ديار الحبيب) فشدَّ الرحال من جديد واخذ يزيد من الصلاة والتعبد حتى انتهى الأمر به الى المكوث في المسجد أربعين يوما فأتاه نداء آخر يقول: (ان سيدك تجده في سوق الحدادين يجلس في باب رجل عجوز يصنع الأقفال) فذهب مسرعا فوجد الإمام (عجل الله تعالى فرجه) يشع نورا فارتعدت فرائص العابد إلا ان الإمام (عجل الله تعالى فرجه) طلب منه ان ينظر ما سيحصل ،فجاءت عجوز منحنية الظهر بيدها قفل عاطل وقالت للبائع أرجوك اشترِ هذا القفل بثلاثة دنانير فقال البائع: إن هذا القفل بثمانية دنانير وإذا أصلحته يصبح بعشرة فتصورت العجوز انه يسخر منها إلا انه بادر بإعطائها سبعة دنانير وقال لها : لاني أبيع واشتري أخذته بسبعة دنانير لأربح دينارا فذهبت العجوز مسرورة فالتفت الإمام (عجل الله تعالى فرجه) الى العابد وقال : (كونوا هكذا كهذا العجوز كي نأتيكم نحن بأنفسنا لا حاجة الى التعبد أربعين يوما ولا فائدة من الجفر والحروف فقط اصلحوا أعمالكم). (1)ونريد أن نخلص الآن إلى درس عملي وهو أنّك إنما تطلب قرب رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأنه سبب مقرّب إلى الله تعالى وأنك تعيش بقربه سمواً روحياً متميزاً وهذا تأثير أكيد كالمغناطيس الذي يؤثر في الحديد ويجذبه من دون أن

ص: 22


1- ثلاثة يشكون: 241.

يلامسه، ولكن الله تعالى بكرمه ورحمته ولطفه بعباده لم يشأ حرمان عباده من هذه المؤثرات المباركة، حيث دلّت أن الحالة المعنوية المتألقة التي ترجوها من الكون في حضرة رسول الله (صلی الله علیه و آله) والأئمة المعصومين (سلام الله عليهم أجمعين) يمكن أن تحققها بدرجة ما من خلال توفير بيئة الطاعة وتهيئة أسبابها كالحضور في المساجد والروضات المطهّرة واستثمار الأزمنة الشريفة ومجالس ذكر الله تعالى والمعصومين (علیهم السلام) والاستفادة من العلماء الذين يقربونك من الله تعالى، فهذه هي الجنة المعجّلة، عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (الجلسة في الجامع خير لي من الجلسة في الجنة، لأن الجنة فيها رضا نفسي والجامع فيه رضا ربي). (1)

ص: 23


1- وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أحكام المساجد، باب3، ح6.

خطاب المرحلة 409 :{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه : 114]

خطاب المرحلة 409 :{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه : 114](1)

قال النبي (صلی الله علیه و آله)(أدبني ربي فاحسن تأديبي)(2) ومما أدّب الله تعالى به نبيه (صلی الله علیه و آله) قوله تعالى {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه : 114] وقد اخذ النبي (صلی الله علیه و آله) بهذا الادب وسائر الآداب الربانية فكان يطلب الزيادة في العلم باستمرار ويدعو(اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علما والحمد لله على كل حال)(3) حتى روي عنه قوله (صلی الله علیه و آله) (اذا أتى عليَّ يوم لا أزداد فيه علماً يقربني الى الله فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم)(4).

وإذا كان النبي (صلی الله علیه و آله) في مقامه السامي يطلب الزيادة باستمرار فنحن اولى، مضافاً الى أننا مأمورون بالتأسي بالنبي (صلی الله علیه و آله) وهذا الادب الشريف منه ,فالازدياد مطلوب في كل زمان وفي كل مكان حيث يوجد علم نافع ,ويبقى الانسان طالب علم وإن حاز على أعلى الالقاب العلمية ولا معنى للتخرج وإنهاء الدراسة أو التعطيل إلا بالتحول من مجال الى مجال انفع منه، وإلاّ حُرمنا من

ص: 24


1- الكلمة التي ألقاها سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) على طلبة بحثه الشريف يوم الاثنين 19 رجب 1435 المصادف 19/ 5/ 2014 بمناسبة انتهاء السنة الدراسية وحلول العطلة الصيفية.
2- الكافي : 1/ 266 ح4
3- الدر المنثور : 4/ 309
4- ميزان الحكمة :6/ 145 عن كنز العمال 28687

البركة التي أشار إليها النبي (صلی الله علیه و آله) في حديثه المتقدّم؟وأوّل ما يستوقفنا في هذا الأدب الإلهي استعمال لفظ الرب في الدعاء من دون الأسماء الحسنى الأخرى، ولفظ الربوبية الدال على التربية والاعتناء بإنشاء الشيء وصناعته ورعاية صلاحه حالاً بعد حال إلى أن يبلغ تمامه، لإلفات نظر الداعي إلى هذه العلاقة الحميمة والعناية الخاصة التي يوليها الله تعالى لعبده، ولاستدرار الرحمة والشفقة الإلهية الخاصة.

والدعاء الذي ورد في الآية الكريمة، وكلّ دعاء ليس مجرد كلمات تُحرَّك بها اللسان وانما يعبِّر عن أهداف وطموحات وغايات يريد الانسان ان يصل اليها ويحققها بلطف الله تعالى وتوفيقه فعليه ان يهيئ المقدمات ويتخّذ الاسباب الموصلة الى الغاية، فعندما يطلب الانسان الزيادة المستمرة في العلم عليه ان يسعى لتحصيل هذا العلم من مصادره من خلال المطالعة والاستماع الى كل معلومة نافعة ومن خلال التلقي ممن عنده هذا العلم والاستفادة منه كما هو شأن الجامعات والمعاهد والمدارس والحوزات العلمية وامثالها .

وهذه هي المصادر البشرية للزيادة من العلم أي العلم المكتسب من الآخرين، ونغفل عن المصادر الغيبية أو الالهية للازدياد من العلم وهي مصادر أوسع وأنقى وأثبت وأعمق وأكثر تأثيراً والذي سنسمع وصف النبي (صلی الله علیه و آله) له بأنه لا جهل معه, كمن يريد ان يسقي أرضه الزراعية فتارةً يفتح لها قناة تأتيه بالماء من النهر مع ما يَحمل في طريقها من الأوساخ والأوبئة، وأخرى يفجر من الارض ينبوعاً صافياً نقياً , فكذلك القنوات التي تغذّي العقل والقلب بماء العلم والمعرفة فإنها تارة تؤخذ من الآخرين، وتارة تتفجّر من باطن الانسان، وقد فُسِّر

ص: 25

قوله تعالى {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس : 24] بالعلم ممن يأخذه لأن العلم غذاء الروح، ففي الكافي عن زيد الشحّام عن أبي عبد الله (علیه السلام) (في قول الله عز وجل: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}عبس24 قلت: ما طعامه، قال (علیه السلام): علمه الذي يأخذه عمّن يأخذه). (1)ومن هذه المصادر :

1- التقوى: قال تعالى {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة : 282] فالتعليم الالهي يتعقب التقوى وهو العلم اللدني الذي ورد في قوله تعالى {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف : 65] وعن النبي (صلی الله علیه و آله) (لو خفتم الله حق خيفته لعُلّمتم العلم الذي لا جهل معه) (2) وهو العلم اللّدني.

قال الشاعر :

شكوتُ الى وكيع سوء حفظي *** فأرشدني الى ترك المعاصي

وعلّله بأن العلم نورٌ *** ونور الله لا يؤتى لعاصي

وكلما أزداد الانسان تقوى وابتعاداً عما يُسخط الله تعالى وعملاً بما يرضيه كان أكثر انفتاحاً على الاسباب الالهية وكانت مرآته أصفى وأنقى فتنعكس فيها حقائق العلوم حتى تبلغ الذروة عند المعصومين (علیهم السلام) , عن الامام الصادق (علیه السلام) (قال: ما من ليلة جمعة إلا ولأولياء الله فيها سرور قلت: كيف ذلك؟

ص: 26


1- الكافي: 1/ 39/ح8.
2- ميزان الحكمة : 6/ 203 عن كنز العمال 5881

جعلت فداك قال: إذا كان ليلة الجمعة وافى رسول الله (صلی الله علیه و آله) العرش ووافى الائمة ع ووافيت معهم فما أرجع إلا بعلم مستفاد ولولا ذلك لنفد ما عندي)(1).وسُئل الامام الصادق (علیه السلام) (إنا نسئلك احياناً فتسرع في الجواب وأحياناً تطرق ثم تجيبنا ؟ قال : نعم انه ينكت في أذاننا وقلوبنا فاذا نكت نطقنا وإذا امسك عنا أمسكنا)(2).

وهذا المصدر هو الذي يفسر الظاهرة الغريبة التي بدأت مع الامام الجواد (علیه السلام) وولده الإمام الهادي (علیه السلام) بقيامهما بأعباء الامامة وقيادة الأمة ومناظرة العلماء في مختلف الفنون وهما صبيان في الثامنة من العمر وعجز الاخرون عن تفسيرها لعدم إيمانهم بالعقائد الحقة.

2-من خلال العمل به، فان العمل بما تعلم وتطبيقه ينتج علما جديدا عن رسول الله (صلی الله علیه و آله)قال (من تعلّم فعمل علّمه الله ما لم يعلم)(3) فهذه إذن زيادة في العلم حصل عليها من خلال العمل بما عل، وعن امير المؤمنين (علیه السلام) قال (ما زكا العلم بمثل العمل به)(4) وعن الامام الباقر (علیه السلام) (من عمل بما يعلم علّمهُ الله ما لا يعلم)(5) وعن الامام الصادق (علیه السلام) (العمل مقرون الى العمل،

ص: 27


1- اصول الكافي : ج1 كتاب الحجة، باب في أن الائمة عليهم السلام يزدادون في ليلة الجمعة، ح3.
2- الفرقان في تفسير القرآن :19/ 91 عن بصائر الدرجات
3- ميزان الحكمة: 6/ 202 عن كنز العمال ح 28661
4- غرر الحكم: 9569
5- اعلام الدين: 301

فمن علم عمل، ومن عمل علم)(1).وهكذا تستمر جدلية التأثير والترابط بين العلم والعمل، زيادة ونقصاً، فمن عمل بالعلم ازداد ,ومن لم يعمل بعلمه يفقده، عن امير المؤمنين (علیه السلام)قال (مَنْ عَلِمَ عَمِلَ وَالْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلاَّ ارْتَحَلَ)(2).

وهذه الحقيقة جارية في كل المجالات فمن اكتسب معلومة اخلاقية وعمل بها سيوفق الى درجة أعلى، ومن استفاد نظرية علمية اكاديمية ثم اجرى تجارب ومحاولات عليها فانه سيتوصل الى نتائج ومعلومات جديدة، حتى على مستوى الطالب الذي يطالع دروسه فانه عندما يلخصّ ويستذكر ويخطّط ويرسم او يحلّ المسائل الرياضية بيده يحصل على معلومات لا يحصل عليها من يكتفي بمطالعة الكتاب .

ومن خلال إنفاقه اي نشره وتعليمه من لا يعلمه بأيّ وسيلة للنشر التي اتّسعت اليوم وأصبح بإمكان الشخص أن يخاطب الآخرين في العالم كله، من وصية أمير المؤمنين (علیه السلام) لكميل بن زياد وهو يقارن بين المال والعلم قال (علیه السلام) (وَالْمَالُ تُنقِصُهُ النَّفَقَةُ، وَالْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الْإِنْفَاقِ)(3).

والتجارب اثبتت ايضا صحة هذا المسلك فأن من يتصدى للتدريس وتعليم الاخرين وينشر ما عنده من العلم فانه يشعر بزيادة في العلم لم يحصّلها من احد، عن الامام الحسن (علیه السلام) قال (علّم الناس، وتعلّم علم غيرك، فتكون قد

ص: 28


1- منية المريد : 181
2- نهج البلاغة: 366
3- نهج البلاغة: 147

اتقنت علمك، وعَلِمْتَ ما لم تعلمْ)(1). هذا غير الثواب الكثير لمن علّم الناس شيئا ينتفعون به ولو كان حديثاً شريفاً أو مسألة شرعية أو عملاً صالحاً أو... وقد وردت في ذلك روايات كثيرة نكتفي بواحدة منها عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) (يجيء الرجل يوم القيامة وله من الحسنات كالسحاب الركام أو كالجبال الرواسي، فيقول: يا ربِّ أنّى لي هذا ولم أعملها ؟ فيقول : هذا علمك الذي علّمته الناس، يُعمل به من بعدك)(2).وقد جُمع هذان المصدران للمعرفة في الحديث الشريف عن الامام الصادق عن ابيه (ع)قال : (جاء رجل إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله ما العلم؟ قال: الانصات، قال: ثم مه؟ قال: الاستماع له، قال: ثم مه؟ قال: الحفظ له، قال: ثم مه؟ قال: العمل به، قال: ثم مه؟ قال: ثم نشره) (3).

فهذه هي مراحل تحصيل العلم وازدياده: الإنصات للمعلومة والإصغاء اليها ووعيها ثم حفظها واستيعابها ثم العمل على طبقها وتحويلها الى الواقع ثم نشرها وتعليمها للآخرين .

ويظهر من كلمة (زِدْنِي) وتعقب هذه الفقرة لقوله تعالى {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه : 114] إن الحصول على هذا العلم تدريجي فكلما وصل الى مرتبة وحفظها وعمل بها أُعطيت له مرتبة جديدة فاذا حفظها وعمل بها أستحق الاعلى وهكذا {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ

ص: 29


1- كشف الغمة : ح2/ 197
2- بحار الانوار: 2/ 18 ح44
3- الفرقان : 19 / 91 عن الخصال

عَلِيمٌ} [يوسف : 76], وهذه نتيجة صحيحة إذ ان العلم لا يهجم دفعة واحدة من غير توفر القدرة على تحمله ,عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (من زاد علمه على عقله كان وبالاً عليه) ,وقال (علیه السلام) (كل علم لا يؤيده عقل مظلّةٌ)(1) .هذا بالنسبة لزيادة العلم، اما كلمة (علم) فنلاحظ فيها انها مطلقة فالزيادة مطلوبة في كل علم ولا تختص بالعلوم الشرعية، نعم لابد من تقييدها بالعلم النافع في الدنيا او الاخرة اي فيه صلاح الناس كما ورد في الدعاء النبوي المتقدم وعن امير المؤمنين (علیه السلام) قال (خير العلوم ما اصلحك)(2) وعنه ع قال: (خَيرُ الْعِلْمِ ما أَصْلَحْتَ بِه رَشادَكَ وَ شَرُّهُ ما أَفْسَدْتَ بِه مَعادَكَ) وعنه (علیه السلام) قال :(رب علم أدّى الى مضلّتك) (3) .

لذلك نجد في حياة الامام الصادق (علیه السلام) انه كما كان يدرّس العلوم والمعارف الدينية فانه كان يدرّس العلوم الطبيعية فتخرج على يديه جابر بن حيان في الكيمياء وله كتاب في الفسلجة يشرح فيه تشريح جسم الانسان ووظائف الاعضاء باسم توحيد المفضّل وتوجد روايات في الحساب والفلك وغيرهما .

ولأن العمر قصير لا يتيسر معه الاحاطة بكل العلوم فضلاً عن العمل بها لذا لابد من الاقتصار على الافضل والاحسن والاكثر صلاحاً عن رسول الله (صلی الله علیه و آله)

ص: 30


1- غرر الحكم : 8601 , 6869
2- غرر الحكم : 4963/ 5023
3- غرر الحكم : 5352

قال (العلم أكثر من ان يُحصى، فخذ من كل شيء أحسنه) (1) وفي حديث عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (خذوا من كل علم أحسنه، فان النحل يأكل من كل زهرة أزينه، فيتولد منه جوهران نفيسان: احدهما فيه شفاء للناس، والاخر يستضاء به) (2).وأنفس العلوم وأشرفها وأهمّها المعارف الدينية من العقائد والأخلاق والأحكام لأنها اكثر التصاقا بعلاقة الانسان بربّه ودينه وما يضمن له السعادة في دنياه واخرته، من وصية الامام علي لولده الحسن (علیه السلام) (ورأيت ... ان ابتدأك بتعليم كتاب الله عز وجل وتأويله، وشرائع الاسلام واحكامه، وحلاله وحرامه، لا اجاوز ذلك بك الى غيره) (3)

في الكافي عن الإمام الصادق (علیه السلام) (عليكم بالتفقّه في الدين، ولا تكونوا اعراباً فإنه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة ولم يزكِّ له عملاً) وعنه (علیه السلام) قال (لوددت أن أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقّهوا). (4)

فإذا نال قسطاً وافراً من العلم بالمقدار الذي يستطيع به إرشاد الناس وهدايتهم كان من أهل الحديث الشريف عن الامام الجواد (علیه السلام) (من تكفّل

ص: 31


1- ميزان الحكمة : 6/ 199 عن كنز الفوائد 2/ 31
2- غرر الحكم : 5082 نهج البلاغة
3- جواهر البحار: ج74/ كتاب الروضة / باب وصية أمير المؤمنين إلى الحسن بن علي (علیه السلام) وإلى محمد بن الحنفية عن نهج البلاغة
4- أصول الكافي/ ج1، كتاب فضل العلم، باب 1 ح7، 8.

بأيتام آل محمد (صلی الله علیه و آله) المنقطعين عن امامهم المتحيرين في جهلهم الأُسراء في أيدي شياطينهم وفي أيدي النواصب من أعدائنا فأستنقذهم منهم وأخرجهم من حيرتهم وقهر الشياطين برد وساوسهم وقهر الناصبين بحجج ربهم ودليل أئمتهم ليُفضَّلون عند الله تعالى على العباد بأفضل المواقع بأكثر من فضل السماء على الأرض والعرش والكرسي والحجب على السماء ,وفضلهم على هذا العابد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كوكب في السماء)(1).هذا الخير الذي لا يضاهيه خير في هذه الدنيا طالما دعانا الله تعالى اليه في كتابه، وحثّنا عليه الأئمة المعصومون (علیهم السلام)، وتبعاً لذلك فقد طالبنا كل ذوي العقول النيرة والهمة العالية والشعور بالمسؤولية أن يرتبوا أوضاعهم ويهيئوا المقدمات للالتحاق بالحوزات العلمية الدينية ويحظون بهذه المقامات العالية .

وينبغي هنا الالتفات إلى حقيقة وهي أنه كلما أزداد اهتمام الله تعالى في كتابه والمعصومين (علیهم السلام) بشيء فهذا يعني أن مدخليتهُ في التكامل والقرب من الله تعالى أقوى ,والاهتمام بتحصيل العلوم والمعارف الدينية بلغت الذروة في كتاب الله تعالى وسنة نبيه (صلی الله علیه و آله) وأحاديث الائمة (ع). بحيث تجاوزت المئات في كل منهما، فلابد أن نفهم ونستوعب هذه الرسالة من الله تعالى ورسوله وأهل بيته الكرام (ع).

ص: 32


1- بحار الانوار : 2/ 6 عن الاحتجاج وتفسير العسكري عليه السلام

خطاب المرحلة 410 :رُبَّ ضارة نافعة.. سقوط الموصل

خطاب المرحلة 410 :رُبَّ ضارة نافعة.. سقوط الموصل(1)

لا يزال الشعب العراقي المظلوم يعاني من الأزمة تلو الأزمة، ولا تُعالج مشاكله بالحلول الناجعة وإنما بالترحيل و الهروب إلى الأمام أي باستحداث مشاكل جديدة أفظع من سابقتها لتشغله عن المطالبة بها، فمن نقص الخدمات إلى تعطّل مشاريع التنمية التي تستثمر موارده البشرية والاقتصادية إلى الصراعات السياسية والاستبداد والاستئثار وهدر المال العام إلى التدهور الأمني الذي يزداد سوءاً حتى تمكّنَ نفر ضال همجي وحشي من بسط سيطرتهم على مدننا الحبيبة العزيزة على قلوبنا كالموصل وبعض نواحي كركوك وصلاح الدين وغيرها، فاحتلوا مؤسسات الدولة وأرعبوا أهلها وهجّروهم بحيث لا يعلمون إلى أين يذهبون فازدادوا بلاءً الى بلائهم , ومعاناة إلى معاناتهم.

ص: 33


1- البيان الذي أصدره سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) على أثر احتلال عصابات (داعش) الارهابية مدينة الموصل واكتمل سقوطها يوم 10/ 6/ 2014 وسقطت في اليوم التالي مدينة تكريت مركز محافظة صلاح الدين في واحدة من أكثر الصفحات ايلاماً في تاريخ العراق الحديث. وقد حظي هذا الخطاب باهتمام بالغ لما تضمن من تحليل للأسباب وتقديم الحلول الاستراتيجية، وتلاقف القادة السياسيون والدينيون مشروع تشكيل الجيش الرديف الوارد فيه ودعوا بعد ذلك بأيام الى تشكيل الحشد الشعبي ولم يتخذ مشروعهم المسار الرصين الذي وصفه سماحة المرجع في بيانه. سيأتي ص58 شرح كيف ان هذه الضارة نافعة.

إنّ هذا الانهيار الذي حصل ليس وليد الساعة ولا هو بسبب قوة العدو أو تفوّق امكانياته فإنّ أفراد قواتنا المسلّحة معروفون بالشجاعة والتضحية والتفاني من أجل الدين والوطن ولا يعرفون التحزّب ولا الفئوية ولا الشخصنة، ومواقفهم في ذلك مشهودة وكثيرة، أليسوا هم من يحتضن الانتحاريين العفنين ويتفجرون معهم وتتناثر أجسادهم ليحموا الآخرين من هذه الوحوش، فليس عند أبطالنا المقاتلين تقصير، وإنما حصل الذي حصل نتيجةً لتلك الأخطاء المتراكمة وتخلّي أغلب الكتل السياسية الحاكمة وغير الحاكمة عن أخلاقيات المهنة والشعور بمسؤولية المواقع التي ائتمنهم الشعب عليها، وعدم مهنية وإخلاص الكثير من القادة العسكريين، ولا يمكن أن تحلّ المشاكل والعقد إلاّ بحلول جذرية استراتيجية يطمئن إليها الشعب بكل مكوّناته ويشعر انه بأيدٍ أمينة رؤوفة كريمة شفيقة كفوءة قادرة على أداء المسؤوليات المكلّفة بها.إنّ هذه الحلول الاستراتيجية لا يمكن الخوض فيها الآن ونحن نتعرّض لهذه الهجمة الوحشية الشرسة، إذ أنّ الوضع الراهن يحتاج إلى موقف حازم وحكيم من خلال تكاتف الجميع من علماء الدين والقادة السياسيين وزعماء العشائر وأبناء الشعب كافة لطرد الهمج الرعاع واستئصال وجودهم الخبيث وحماية أهلنا ومدننا ومقدّساتنا من غزو البرابرة، لتكون هذه الوحدة وهذا التكاتف حافزاً لبدء مرحلة جديدة تسودها الأخوّة والمودّة والشفافيّة والثقة المتبادلة لحل مشاكل البلاد وفكّ العقد المستعصية.

وإننا نثق بقدرة قواتنا المسلّحة على فرض الأمن في ربوع الوطن ولكننا نرى إنّ التحدّيات الراهنة تستدعي تشكيل جيش رديف للقوات المسلّحة وساندٍ لها

ص: 34

في عملياتها، يكون له قادة مهنيون وأكفاء ويزوّد بتجهيزات متطوّرة ويحظى بتدريب عالٍ ويستوعب الشباب العقائديين المتحمسين للدفاع عن أهلهم ووطنهم ومقدّساتهم ويوفّر لهم البديل عن الانخراط في الميليشيات والمجاميع المسلّحة التي تريد الدفاع عن مقدساتها ولكن وجودها خارج إطار الدولة ومجهولية قادتها وتنظيماتها يجعل احتمال الخطركبيراً. ويُكلَّف هذا الجيش بحماية المراكز الحيوية ويشارك مع القوات المسلّحة في العمليات الساخنة وسيحظى هذا الجيش بتأييد كل فئات الشعب، وينحلّ حالة تحقيق الأغراض المرجوّة من تشكيله.نرجو من المؤمنين والمؤمنات أن يدعوا الله تعالى لمقاتلينا المرابطين في ساحات المواجهة مع الأعداء بدعاء الإمام السجاد (علیه السلام) للمرابطين في ثغور المسلمين , ونسأل الله تعالى الرحمة لشهدائنا الأبرار، والصحة والعافية للجرحى والمصابين والعودة الآمنة للمهجّرين، وزوال هذه البلاءات عن أهلنا وعراقنا الحبيب (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) (الروم/4).

محمد اليعقوبي -- النجف الأشرف

12 شعبان 1435-11/ 6/ 2014

ص: 35

خطاب المرحلة 411 :لا بديل عن الحوار والقبول بالتنازلات العادلة

خطاب المرحلة 411 :لا بديل عن الحوار والقبول بالتنازلات العادلة(1)

حسناً فعلت المحكمة الاتحادية العليا والهيئة القضائية المكلفة بالنظر في الطعون حينما كثّفت جهودها للإسراع في المصادقة على نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وقد تمت المصادقة اليوم.

إن المصادقة على النتائج يمكن جعلها منعطفاً تاريخياً في حياة العراق وشعبه ووجودهما بأن نجعل منهما تحولاً في الحالة السياسية فننقلها من حالة التشرذم والانقسام والصراع التي أوصلتنا الى الوضع الكارثي الذي يمر به البلد، الى حالة الانسجام والشراكة الحقيقية والانصاف والمروءة في نيل المواطنين بكل

أديانهم وطوائفهم وقومياتهم وأجناسهم وأيديولوجياتهم حقوقهم كاملة غير منقوصة على اساس المواطنة فقط دون ملاحظة أي اعتبار.

ويتحقق ذلك ببدء حوار شفاف بين الكتل السياسية الممثلة لفئات الشعب وفق الخارطة الجديدة التي صودق عليها، وان يقبل الجميع بكل التنازلات التي يتطلبها إنقاذ العراق وشعبه من محنتهما، مهما كانت تلك التنازلات صعبة من وجهة نظر أصحابها.

ص: 36


1- صدر هذا البيان بعد السابق بأيام مستثمراً الخطوة المذكورة فيه لاجراءات وتغييرات سياسية تساهم في حل أزمات البلاد وتحرير البلاد من قبضة الوحوش الارهابيين.

وان الجهة الكفيلة برعاية هذا الحوار وتحقيق حالة العدالة والانصاف في مطالب المتحاورين وإدارة خلافاتهم هي المرجعية الدينية بأبويتها وحكمتها وشعورها العالي بمسؤوليتها وثقة الجميع بها، وبمساعدة بعثة الامم المتحدة بموضوعيتها وحيادتها وخبرتها وان يبدأ هذا الحوار عاجلاً، لأن كل تأخير يعني مزيداً من الدماء والخراب. لقد جرّب الجميع – وان كانت المسألة لا تحتاج الى تجربة لإجماع العقلاء على معرفة النتائج- ان حالة الاحتراب وتجييش كل فئة لشارعها لا يخدم احداً من هذا البلد وهو يحقق مآرب اعداء العراق والطامعين فيه والساعين لتمزيقه واضعافه وقد استُخدِمتْ التنظيمات الارهابية المعادية للحياة والانسانية كأداة لتنفيذ تلك الاجندات والسيناريوهات المؤلمة.

إن تطويق ودحر الارهاب وإفشال المخططات المعادية للعراق وشعبه لا يتم إلا بتوحيد صفوفنا والانتقال بالعملية السياسية الى الحالة التي يطمئن اليها كل مكونات الشعب ويشعر فيها بكرامته والعيش بسلام وأمن وحرية, وهذا استحقاق انساني ووطني لكل مواطن , ويجب على الجميع السعي لتحقيقه ولا يمثل هدفاً صعب المنال مع تحقق الارادة الجدّية والاخلاص وحب الشعب والبلد الكريم.

نسأل الله تعالى ان يوفق الجميع لما يحب ويرضى.

محمد اليعقوبي – النجف الاشرف

17 شعبان المعظم 1435 ه 16 /6/ 2014

ص: 37

خطاب المرحلة 412 :{وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} [الأعراف : 157]

خطاب المرحلة 412 :{وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} [الأعراف : 157](1)

لقد وصف القرآن الكريم نفسه بأوصاف كثيرة(2)منها انه (نور) قال تعالى (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) (المائدة 15), وقال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا) (النساء 174), وقال تعالى (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف157), (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الشورى52).

وقد ورد في الاحاديث الشريفة مثل ذلك, عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال (إن هذا القرآن حبل الله والنور المبين) وعنه (صلی الله علیه و آله) قال (عليك بتلاوة القرآن, فانه نور لك في الارض وذخر لك في السماء) وقال أمير المؤمنين (علیه السلام) في القرآن (واستشفوا بنوره فانه شفاء الصدور) (3) ومن دعاء الإمام السجاد (علیه السلام)

ص: 38


1- حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع أساتذة وطلبة دار القرآن الكريم في بدرة وجصّان ومركز الإمام المهدي (عليه السلام) في الكوت وجمع من زوار الشعبانية المباركة يوم الخميس 13/شعبان/1435 المصادف 12/ 6/ 2014.
2- راجع كتاب (شكوى القرآن) للتعرّف عليها.
3- تجد هذه الروايات ومصادرها في ميزان الحكمة :9/ 177-184.

عند ختم القرآن (وجعلته نوراً نهتدي من ظلم الضلالة والجهالة باتباعه) (1). ويُعرَّف النور في معاجم اللغة بانه ما كان ظاهراً بنفسه ومُظِهر للأشياء الاخرى فإن العين لا ترى ولا تكتشف ما حولها إلا إذا سقط عليها الضوء وانتقل الى العين, وهذا هو دور القرآن الكريم فإنه ينير طريق الهداية والايمان والصلاح والسعادة (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) (الأنعام 122), فمن اهتدى بنوره كان من المفلحين كما في سورة الاعراف المتقدمة, لأن فيه مصابيح النور, عن الامام الحسن (علیه السلام) قال (إن هذا القرآن فيه مصابيح النور).

وهذا وصف طبيعي للقرآن لأنه يتضمن بيان كل ما يقرّب الى الله تعالى من الطاعات التي هي كالمصابيح التي توّلد النور, قال تعالى (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء 9) وأشرف تلك المصابيح واشدها ضياءاً رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال تعالى (وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا) (الأحزاب46).

وولاية امير المؤمنين وأهل البيت (علیهم السلام) واتباعهم, ورد في تفسير قوله تعالى {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} [الأعراف : 157] في الكافي عن ابي عبد الله (علیه السلام) قال:(النور في هذا الموضع امير المؤمنين والائمة (ع))(2) ومثله في تفسير علي ابن ابراهيم والعياشي عن الامام الباقر (علیه السلام) مثله .

وفي موضع اخر عن الامام الباقر (علیه السلام) قال (فالذين امنوا به) يعني بالامام (وعزرّوه ونصروه واتبعوا النور الذي انزل معه اولئك هم المفلحون)يعني الذين

ص: 39


1- الصحيفة السجادية: 115.
2- الكافي : 1/ 150/ ح2

اجتنبوا الجبت والطاغوت فلان وفلان وفلان، والعبادة: طاعة الناس له)(1) قال أمير المؤمنين (علیه السلام) (إنما مثلي بينكم كمثل السراج في الظلمة يستضيئ به من ولجها).والتقوى قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الحديد 28).

وبصورة عامة فان الدين والرسالة السماوية بما تضمنت من عقائد واحكام واخلاق هي مصدر النور، قال تعالى {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف : 8] وعن امير المؤمنين (علیه السلام) قال (الدين نور)(2)

وقد ورد في روايات ذكر بعض تلك المصابيح كأداء الصلاة المفروضة خصوصاً في أوقات فضيلتها، عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال:(الصلاة نور), ومناسك الحج نور قال (صلی الله علیه و آله) (إذا رميت الجمار كان لك نوراً يوم القيامة)، وكل عمل فيه اعزاز الدين ونصره نور، قال (صلی الله علیه و آله) (من رمى بسهمٍ في سبيل الله كان له نوراً يوم القيامة).

ومن اجتنب ظلم الآخرين بكل أشكال الظلم والتجاوز والتعدي أعطاه الله نوراً، قال (صلی الله علیه و آله) (لا تظلم أحداً تُحشر يوم القيامة في النور)، وصلاة الليل وسائر الطاعات والعبادات عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (ما تركت صلاة الليل

ص: 40


1- الكافي : 1/ 355/ ح83
2- غرر الحكم : 213

منذ سمعت قول النبي (صلی الله علیه و آله): صلاة الليل نور). ومما يوجب النور تجديد الطهور في غير أوقات الصلاة، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال:(الوضوء على الوضوء نورٌ على نور) (1)، واستنقاذ حقوق الاخرين نور عن النبي (صل الله عليه واله وسلم) قال (من شهد شهادة ليحيي بها حق امرئ مسلم اتى يوم القيامة ولوجهه نور مدًّ النضر يعرفه الخلق باسمه ونسبه).

ومما يوجب النور الشيب في طاعة الله تعالى، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال:(ما رأيت شيئاً أسرع إلى شيء من الشيب إلى المؤمن، وإنّه وقارٌ للمؤمن في الدنيا، ونورٌ ساطعٌ يوم القيامة) (2) وهكذا.

إن الانسان في هذه الدنيا لابد ان يكون له منهج يسير عليه وغاية يسعى لتحقيقها، وإنما يحصد النتائج بحسب نوع المنهج وراسمه والمخطط له، قال أمير المؤمنين (علیه السلام) (الا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضئ بنور علمه) ولأن في القرآن مصابيح النور، ولا يستطيع الانسان أن يتقدم إلا بضياء ينير له الدرب وإلاّ كان كمن يسافر في الصحراء في ليلة مظلمة بلا دليل فيكون معرضاً لعدة أخطار: حيوانات مفترسة تمزّقه، أو لصوص وقطّاع طرق يقتلونه ويسلبونه، أو آبار وأودية يهوي فيها، أو يضل الطريق ويتيه وينفد ما عنده من ماء وطعام، وهذه هي الأخطار التي يواجهها من لا نور معه في حياته المعنوية فتفترسه الذئاب البشرية وقطّاع الطرق ليسرقوا دينه وإنسانيته فيهوي في وادي الذنوب السحيق ويحرم من الزاد ليوم المعاد وهو التقوى.

ص: 41


1- وسائل الشيعة: 1/ 265 ح8.
2- أمالي الطوسي: 699، ح1492.

وقد دل الله تعالى على النور الذي يهدي به الانسان في حياته ويميز به الصواب في سائر اموره وما احوج الانسان الى مثله لينقذه من التخبط والضياع والمزالق، وذلك بالتقوى قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد : 28]، وما الذي يهدي الى التقوى ويحصلها انه القران الكريم قال تعالى {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة : 2]، لذا أُمرنا باتخاذ القرآن إماماً وقائداً وهادياً، فمن اراد أن يكون له فرقان في الدنيا يميز به بين الحق والباطل وينير بصيرته ويأخذ بيده على الصراط المستقيم فليجعل القرآن إماماً له وقائداً يقتبس من نور مصابيحه قال النبي (صلی الله علیه و آله) (فاذا التبست الامور عليكم كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن, فإنه شافع مشفع,وماحل مصدَّق, ومن جعله أمامه قاده الى الجنة, ومن جعله خلفه قاده الى النار) (1) وإنما يجعله أمامه باتباعه والعمل بما فيه والاستضاءة بنوره, ويجعله خلفه باستدباره والاعراض عما فيه وعدم الاعتناء بأوامره ونواهيه.وقال (صلی الله علیه و آله) (عليكم بالقرآن فاتخذوه إماماً وقائداً) وقال أمير المؤمنين (علیه السلام) في صفة القرآن (ونوراً ليس معه ظلمة).

وقد يتجلى هذا النور الباطني المعنوي الذي يهدي البصائر من خلال نورٍ ظاهري تكتشفه الحواس وتهتدي به، سئل الامام زين العابدين (ع) مابال المتهجدين بالليل من احسن الناس وجها؟ قال (علیه السلام) (لانهم خلوا بالله فكساهم

ص: 42


1- راجع المصادر في ميزان الحكمة :7/ 237-240.

الله من نوره)(1).وروى صاحب مفاتيح الجنان عن امير المؤمنين (علیه السلام) حادثة مباغتة جيش المشركين لسرية المسلمين في الليل وهم نيام فلم يتبيّن المسلمون الامر حتى يعرفوا ما يفعلون وكاد العدو يستأصلهم واذا بأضواء تسطع من افواه اربعة منهم كانوا يحيون الليل بالعبادة وتلاوة القرآن تضيئُ معسكر المسلمين فتمدهم بالقوة والشجاعة وواجهوا المشركين وقتلوهم فلما رجعوا قصوا على النبي (صل الله عليه واله وسلم)ما وقع . قال (صل الله عليه واله وسلم) (ان هذه الانوار قد كانت لما عمله اخوانكم هؤلاء من اعمال في غرّة شعبان)(2) .

هذا النور الذي تقتبسه في الدنيا ستكون أحوج شيء اليه في حياة ما بعد الدنيا إلى القيامة ففي القبر حيث الوحشة والظلمة سينير القرآن لأهله، من دعاء الإمام السجاد (علیه السلام) (ونوّر به قبل البعث سُدَفَ قبورنا، ونجّنا به من كلّ كرب يوم القيامة وشدائد أهوال الطامة)، وما أحوجنا إلى النور في يوم القيامة ليضيء لنا طريق النجاة ونتوقى مزالق الهلكة, قال تعالى في وصف أحوال يوم القيامة (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ , يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ) (الحديد12-13), وورد عن النبي (صلی الله علیه و آله) في تفسير الآية قال (ثم

ص: 43


1- علل الشرائع : 366 / ح1
2- مفاتيح الجنان: 296 اعمال اليوم الاول من شعبان.

يقول – يعني الرب تبارك وتعالى – ارفعوا رؤوسكم, فيرفعون رؤوسهم فيعطيهم نورهم على قدر أعمالهم, فمنهم من يُعطى نوره مثل الجبل العظيم يسعى بين يديه, ومنهم من يُعطى نوره اصغر من ذلك, ومنهم من يُعطى نوره مثل النخلة بيده, ومنهم من يُعطى أصغر من ذلك ,حتى يكون آخرهم رجلاً يُعطى نوره على إبهام قدميه يضيئ مرة ويُطفأ مرة).فليهيئ الإنسان في هذه الدنيا أكثر ما يستطيع من مصابيح النور ليوم القيامة بما يكتسبه من الطاعات ويجتنبه من المعاصي، إلهي هَبْ لي كَمالَ الْانْقِطاعِ إلَيكَ وَ أَنِرْ أَبْصارَ قُلُوبِنا بِضياءِ نَظَرِها إِلَيكَ حَتّى تَخْرِقَ أَبْصارُ الْقُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ إلى مَعْدِنِ الْعَظَمَةِ وَ تَصيرَ أرْواحُنا مُعَلَّقَةً بعِزِّ قُدْسكَ. (1)

ص: 44


1- مفاتيح الجنان: 296 من المناجاة الشعبانية لأمير المؤمنين (عليه السلام)

خطاب المرحلة 413 :المتمسّك بدينه كالقابض على الجمر

خطاب المرحلة 413 :المتمسّك بدينه كالقابض على الجمر(1)

في كتاب بصائر الدرجات بسنده عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذات يوم وعنده جماعة من أصحابه: اللهم لقنّي اخواني مرتين فقال: من حوله من أصحابه أما نحن اخوانك يا رسول الله، فقال: لا إنكم أصحابي، واخواني قوم في آخر الزمان آمنوا ولم يروني لقد عرفنيهم الله بأسمائهم وأسماء آبائهم من قبل أن يخرجهم من أصلاب آبائهم وأرحام امهاتهم، لأحدهُم أشد بقية على دينه من خرط القتاد في الليلة الظلماء أو كالقابض على جمر الغضا اولئك مصابيح الدجى ينجيهم الله من كل فتنة غبراء مظلمة). (2)

أقول: الحديث فيه عدة أمور ينبغي الالتفات إليها، (منها) منزلة من يتمسك بدينه وفضل من يثبت عليه بحيث يسميهم النبي (صلی الله علیه و آله) اخوانه ويتمنى لقاءهم، وسيأتي إن أجر أحدهم يعادل خمسين بدرياً.

(ومنها) أن الحديث يبيّن أيضاً صعوبة التمسّك بالدين والثبات عليه ويشبه صعوبته بالأمثلة المؤلمة المذكورة وهي القبض عل الجمر وخرط الشوك

ص: 45


1- كلمة سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من الطلبة والشباب المتوجّهين لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في النصف من شعبان مشياً على الأقدام ووفد من منطقة سبع قصور في بغداد وجمع من الفضلاء يوم الاثنين 10 شعبان 1435 المصادف 9/ 6/ 2014.
2- - بحار الأنوار: 52/ 124 عن بصائر الدرجات: 2/ 104 باب14ح4.

الصحراوي القاسي، وهذا التوصيف في محله لأن الثبات على الدين يحتاج إلى مجاهدة ومصابرة سماه النبي (صلی الله علیه و آله) (الجهاد الأكبر) بحيث لا يخضع للضغوط والاغراءات من أي جهة كانت، سواء كانت من جهة النفس الأمّارة بالسوء والشهوات والميالة للعب واللهو واللذات فتضغط عليه للاستجابة لها حتى لو كان فيه تضييع لدينه وآخرته، أو كانت الضغوط من جهة المجتمع اتباعاً للأعراف والثقافات واللياقات المتداولة في الملبس أو المعاملات مع الآخرين ونحو ذلك، أو من جهة ضغوط السلطات الحاكمة أو الزعامات المتنفذة كرؤساء العشائر ونحو ذلك التي تُكرِه الناس على اتباع وتنفيذ أوامرها وتدع الدين جانباً إذا عارض مصالحها.وقد يظن البعض أن الالتزام بالدين شيء يسير ولا يستحق هذه المبالغة في صعوبته، فما أيسر أن يؤدي الإنسان صلواته المفروضة وصوم رمضان وتجنب الخمر والزنا ونحو ذلك وهكذا، وهو ظن خاطئ ناشئ من قصور في فهم معنى الحديث إذ ينبغي الالتفات إلى أن الحديث عبّر بلفظ الدين وهو أوسع من الأحكام الشرعية كالصلاة والصوم والحج والخمس من الواجبات والمحرمات المذكورة في الفقه، لأن للدين معنى واسعاً يشمل كل ما تضمنته الرسالة السماوية من العقائد والتصورات والمواقف والأخلاق سواء على صعيد الملكات النفسية أو السلوك العملي والعلاقات مع الآخرين، هذا كله مضافاً إلى الالتزام بالأحكام الشرعية، فالتمسّك بالدين يعني الالتزام بكل هذه التفاصيل والجزئيات التي يتعرض الإنسان فيها للابتلاء دائماً، تصوّر شخصاً في مواقع القيادة في الدولة ويستطيع كغيره أن يثري على حساب المال العام ويدير ظهره

ص: 46

للشعب والأمانة التي في عنقه لكنه يدع ذلك خوفاً من الله تعالى وليكون مع نفسه وشعبه أو افرض أنّك مدرّس وعندك طالب لا يستحق النجاح لكن له صلة بجهة قوية نافذة فتضغط عليك لتنجحه أو تغريك بشيء ما وأنت ترى في ذلك خيانة لشرف المهنة فهل تقاوم الضغوط والاغراءات وتكون أميناً، أو تؤذيك زوجتك بكلمات جارحة وهي ظالمة لك وأنت قادر على ردِّها فتكظم غيظك طاعة لله تعالى إذ يقول (وعاشروهن بالمعروف)، أو تتعرض لمنظر مثير للشهوة المحرمة فتعرض بوجهك من خشية الله تعالى وهكذا.إذا نظرت إلى الدين بهذه السعة ستتأكد من صعوبة الثبات على الاستقامة والالتزام بالتفاصيل وإن التشبيه بالقبض على الجمر في محله وليس فيه مبالغة كما يتوهم البعض مما ذكرناه.

وقد كان الكثير من أصحاب الأئمة يظنون أنهم قد أدوا ما عليهم وأنهم نجحوا في أداء ما هو مطلوب منهم لكن الإمام السجاد (علیه السلام) أثبت لهم توهمهم في ذلك بتجربة عملية تتعلق بطاعة ولي الأمر الذي أمر الله بطاعته فيما تحب وتكره، روى الكليني بسنده عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: (قال أبي يوماً وعنده أصحابه: من منكم تطيب نفسه أن يأخذ جمرة في كفه فيمسكها حتى تطفأ؟ قال: فكاع الناس كلهم ونكلوا، فقمت وقلت: يا أبة أتأمر أن أفعل؟ فقال: ليس إياك عنيت إنما أنت مني وأنا منك، بل إياهم أردت، قال: وكررها ثلاثا، ثم قال: ما أكثر الوصف وأقل الفعل، إن أهل الفعل قليل إن أهل الفعل قليل، ألا وإنا لنعرف أهل الفعل والوصف معاً، وما كان هذا منا تعاميا عليكم بل لنبلو أخباركم ونكتب آثاركم، فقال: والله لكأنما مادت بهم الارض حياء اً مما قال،

ص: 47

حتى أني لأنظر إلى الرجل منهم يرفضّ عرقا ما يرفع عينيه من الارض فلما رأى ذلك منهم قال: رحمكم الله فما أردت إلا خيرا، إن الجنة درجات فدرجة أهل الفعل لا يدركها أحد من أهل القول ودرجة أهل القول لا يدركها غيرهم، قال: فوالله لكأنما نشطوا من عقال) (1).ويحكي القرآن حوادث عديدة ممن فشلوا في المواقف ولم يستطيعوا القبض على دينهم كالمسلمين في معركة أُحد حين نهى النبي (صلی الله علیه و آله) الرماة الخمسين على الجبل أن يتركوا مواقعهم فلما حاز أخوانهم المقاتلون الغنائم عصوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتركوا مواقعهم فهاجمهم العدو من الخلف وحصلت الكارثة.

أو قضية جيش طالوت قال تعالى {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}البقرة249.

وأكثر من هؤلاء من يفشلون وينهزمون في المواجهة مع النفس الأمّارة بالسوء، وهذه الامتحانات والمزالق لا تختص بجيل دون آخر ولا بزمن دون آخر فإن سنة الابتلاء والتمحيص جارية في كل الأجيال والأزمان، وإن كانت أصعب في زمان الغيبة حيث لا نبي ولا إماماً معصوماً يرجع إليه ولا وحي ينزل من السماء.

ص: 48


1- - روضة الكافي: 190ح 289.

في غيبة الطوسي بسنده عن أبي عبد الله قال (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) سيأتي قوم من بعدكم الرجل الواحد منهم له أجر خمسين منكم، قالوا يا رسول الله نحن كنا معك ببدر وأُحد وحنين ونزل فينا القرآن، فقال: إنكم لو تُحمَّلون لما حُمِّلوا لم تصبروا صبرهم). (1)فالثبات على الدين أمر صعب يحتاج إلى عزم وإلى إرادة وإلى معرفة ووعي ومراقبة وإلى توسل إلى الله تبارك وتعالى روى الشيخ الصدوق بسنده عن عبد الله بن سنان عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال (ستصيبكم شبهة فتبقون بلا علم يُرى ولا إمام هدى لا ينجو منها إلا من دعا بدعاء الغريق، قلت وكيف دعاء الغريق قال: تقول: يا الله يا رحمان يا رحيم يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك، فقلت: يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك، فقال: إن الله مقلب القلوب والأبصار، ولكن قل كما أقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك). (2)

ومهما يكن الأمر شاقاً وصعباً ويحتاج إلى مجاهدة طويلة فإنه يسهل بتوفيق الله تعالى والالتفات إلى الحوافز العظيمة التي أوردنا بعضها بحيث أن النبي (صلی الله علیه و آله) يشتاق لمثل هؤلاء ويسأل الله تعالى لقاءهم ويسميهم أخواني، اللهم اجعلنا منهم بفضلك وكرمك.

ص: 49


1- - غيبة الطوسي: 456 رقم 467.
2- - إكمال الدين: 2/ 251 باب33 ح49، بحار الأنوار: 52/ 149.

خطاب المرحلة 414 :(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ) أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا

خطاب المرحلة 414 :(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ)(1) أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا

(سبأ/46)

(قل) يا رسول الله(صلی الله علیه و آله) لجميع الناس وأبلغهم رسالة من الله تعالى واستعمال (قل) للتأكيد على كون متعلقها مما أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بتبليغه للناس، وإن كان كل القرآن هكذا، (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (النحل/44) إلا ان استعمال (قل) يعني الاهتمام بالقضية الملقاة وإيصالها إلى الناس .

ولإعطاء هذه القضية زخماً من التأثير الواسع في المجتمع فقد أمر (صلی الله علیه و آله) أن يبلغ هذه الرسالة على نحو الموعظة (أعظكم) ولا يكتفي بمجرد ابلاغها لهم على أي نحو كان، والوعظ (هو التذكير بالخير فيما يرقُّ له القلب) كما في المفردات عن الخليل، فالمراد اختيار الطريقة الرقيقة الشفيقة الرحيمة التي تتجاوز الاذن وتدخل القلب وتدفعه إلى التسليم بها لتحقيق الخير والصلاح لكم.

ص: 50


1- كلمة وجهها سماحة المرجع اليعقوبي من خلال قناة النعيم الفضائية يوم الجمعة 28-شعبان-1435 المصادف 27- 6- 2014 للتذكير بالمعالجة الاخلاقية للمحنة التي تمر بها البلاد بعد المعالجتين العسكرية والسياسية التي قدّمها سماحته في خطاب (رب ضارة نافعة: ص33)، وخطاب (لا بديل عن الحوار: ص35).

وللتأكيد على أهمية هذه القضية وتركيز النظر عليها فقد استعمل اسلوبان للدلالة على انحصار تحقق الغرض بهذه الوسيلة، احدهما اداة الحصر (إنما) وتأكيدها بكلمة (واحدة) أي لا ثانية لها فلا يوجد امامكم الا طريقة واحدة إن أخذتم بها تحققت الغاية ووصلتم إلى الهدف واستقمتم على الطريق الصحيح. والقضية بسيطة منسجمة مع الطبيعة البشرية ومع الفطرة، لكنّها واسعة بسعة حاجات الانسان وطموحاته ومشاكله حاصلها: أيها الناس إنكم في كل حقيقة تريدون البحث عنها وفي كل موقف تريدون اتخاذه، وكل مشروع تودون الاقدام عليه، وفي كل محنة تنزل بكم وكل مشكلة تعجزون عن حلها وكل كارثة تحيط بكم وكل قضية تقلقكم لا حلَّ لكم ولا علاج إلا بواحدة، وذلك بأن (تقوموا) وتنهضوا وتتهيأوا وتستيقظوا وتكونوا على أهبة الاستعداد لأي شيء للرجوع إلى ربكم والتسليم لأمره، والالتزام الكامل بما يريده الله تعالى منكم، وتكسروا اغلال الهوى والتعصب والجهل والميول.

لأن الفرد والأمة إن لم يأخذوا بهذه الوسيلة ورضوا بأن يكونوا في غفلة وفي سبات وفي جهل وعمى فإنهم يتخبطون ويقعون بأيدي اللصوص وقطاع الطرق من شياطين الإنس والجن.

وان يكون قيامكم ونهضتكم خالصاً (لله) تعالى وليس اتباعاً لأهواء أو ميول أو عواطف أو تعصبات وتحزبات أو لنيل مغانم دنيوية أو تحت مؤثرات من صنع البشر.

والمطلوب من هذه النهضة إعمال الفكر (ثم تتفكروا) في القضية المقصودة وسيلهمكم الله تعالى الحل ويّدلكم على الفعل المناسب وييسّر لكم

ص: 51

اسبابه ومقدماته، وفي الآية دلالة على أهمية الفكر والتفكير العقلاني المتحرر من اغلال التعصب والهوى فإن مثل هذا الفكر الحر هو حجر الأساس في بناء الهداية والكمال ومفتاح الوصول إليهما، ولإنجاز كل مشروع اجتماعي أو علمي أو سياسي أو اقتصادي ونحو ذلك.وهذا التفكر يكون مقدمة لمعرفة ما يتطلبه الأمر الإلهي في تلك القضية والتسليم التام لما يريده الله تعالى منك فتأتمر بأمره وتنتهي بنهيه، وقد اطلقت الآية التفكير فلم تقيّده بماذا لكي تجعل هذه القاعدة عامة لكل قضية ولكل مسألة ابتداءاً من القضية المحورية الكبرى وهي التوحيد والإيمان بالله تعالى والمعاد يوم القيامة (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) (سبأ/46) عندما يخاطَبْ المشركون والكافرون بهذه الآية، إلى قضية النبوة والرسالة للمنكرين لها {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ : 46] إلى قضية الإمامة والولاية للجاحدين بها إلى سائر القضايا الحياتية الأخرى الصغيرة والكبيرة.

وليكن قيامكم ونهضتكم (فرادى) أي مع أنفسكم لكي تخلوا بربكم وتنفتحوا عليه ويكون ادعى للتأمل والتفكر، واتخذوا أيضاً شخصا اخر (مثنى) أي اثنين اثنين ليكون رفيقا لكم وناصحا ومرآة (المؤمن مرآة المؤمن) فيعينك على التعرف على اخطائك وعيوبك وتستشيره فيما ينبغي فعله ويعينك على الخير، وتجنبوا الانسياق وراء العامة وكثرة الناس مما يعرف بالسلوك الجمعي وقيل فيه (حشر مع الناس عيد) فان هذا الانسياق مذموم ويوردك مواطن الهلكة والبوار لأنه انفعالي عاطفي يسِّيره اهل المكر والخديعة والباطل (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ) (الأنعام/116) (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)

ص: 52

(يوسف/103) (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ) (يوسف/106).وهذه العناصر الثلاثة التي تُفهم من الآية كفيلة بصنع البيئة المناسبة للتكامل والتي تأخذ بيد الانسان نحو الكمال وقد جمعها الامام الجواد ع بقوله (المؤمن يحتاج الى توفيق من الله وواعظ من نفسه وقبول ممن ينصحه) (1) ، فالواعظ من نفسه ثمرة القيام فرادى والقبول ممن ينصحه ثمرة القيام مثنى والتوفيق من الله ثمرة القيام لله.

وهذه القاعدة التي يقدمها الله تعالى هدية لنا من خلال كتابه الكريم هي البداية الصحيحة لكل مشروع، وتقيّم من خلالها كل حركة او دعوة، وتواجه بها كل مشكلة، اما اتخاذ المواقف الارتجالية والانفعالية العاطفية فهو فعل غير منتج.

فلنغتنم هذه الهدية الالهية المباركة في كل حياتنا خصوصا في وقت الازمات والمحن كالتي تمر بها البلاد اليوم حيث يعيث فيها الارهاب الاعمى فسادا وقتلا وتشريدا واجراما، فقبل ان نلهث وراء هذا وذاك ونستجدي منه النصرة والعون وهو يزيدنا اذلالا واهانة، علينا ان ننتفض على انفسنا واهوائنا لان الاغلب غفلوا عن الله تعالى ونسوه تبارك وتعالى فأنساهم الله انفسهم وتركوا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بل صاروا عقبة كؤود في طريق المصلحين والآمرين بالمعروف والنهي عن المنكر وكثير منهم ممن يرجى ان يكون عوناً على طاعة الله تعالى ولذا تحققت النتيجة التي حذر منها المعصومون (سلام الله تعالى عليهم) كقول الامام الرضا (علیه السلام) (لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر،

ص: 53


1- - تحف العقول: 290

او ليستعملن عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لكم)(1)، فهذا هو سبب تسلّط الأشرار الارهابيين والمجرمين.فلا وسيلة لنا ولا حل ينجينا الا بواحدة {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} وهي ان ننهض لله وفي سبيل الله ونرجع إلى الله تبارك وتعالى، وندعوه ونتوسل بأقرب الوسائل إليه تعالى: حبيبه محمد المصطفى وآله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين ونستغيث بصاحب العصر والزمان (علیه السلام)ليشملنا بألطافه ورعايته وسيلهمنا الله تعالى الحلول الصحيحة ويعيننا على تنفيذها والعمل بها، خصوصاً ونحن نستقبل شهر الله الكريم شهر المغفرة والرحمة والفوز بالجنة والنجاة من النار.

روى السيد ابن طاووس بالإسناد عن اليسع بن حمزة القمي(2) فقال: أخبرني عمرو بن مسعدة وزير المعتصم الخليفة إنه جاء علي بالمكروه الفظيع حتى تخوفته على اراقة دمي وفقر عقبي، فكتبت إلى سيدي أبي الحسن العسكري (علیه السلام) –أي الإمام الهادي (علیه السلام)- أشكو إليه ما حلَّ بي، فكتب إليّ: لا روع عليك ولا بأس، فادع(3) الله بهذه الكلمات، يخلّصك الله وشيكاً مما وقعت فيه،

ص: 54


1- - وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 38، ح10.
2- - لعل الصحيح أحمد بن حمزة بن اليسع الذي وُصف بأنه (ثقة ثقة) لأنه من أصحاب الإمام الهادي (عليه السلام) أما اليسع بن حمزة فذُكر في أصحاب الإمام الرضا (عليه السلام) وهو مجهول.
3- - لاحظ تعبير الامام (عليه السلام) (فأدع) اي اطلب بصدق ووفّر حقيقة الدعاء في باطنك ووجدانك ولم يقل (عليه السلام)(فاقرأ) اي مجرد تحريك اللسان بكلمات

ويجعل لك فرجاً، فإن آل محمد (صلی الله علیه و آله) يدعون بها عند إشراف البلاء وظهور الأعداء وعند تخوّف الفقر وضيق الصدر.قال اليسع بن حمزة فدعوت الله بالكلمات التي كتب إليّ سيدي بها في صدر النهار فوالله ما مضى شطره حتى جائني رسول عمرو بن مسعدة فقال لي: أجب الوزير، فنهضت ودخلت عليه، فلما بصُر بي تبسّم إليّ وأمر بالحديد ففُكَّ عني، وبالأغلال فحُلَت مني، وأمر لي بخلعه من فاخر ثيابه، واتحفني بطيب، ثم أدناني وقرّبني وجعل يحدثني ويعتذر إليّ، وردّ عليّ جميع ما كان استخرجه مني وأحسن رفدي.

وكان الدعاء: يا من تحلُّ به عقد المكاره) (1) والموجود في الصحيفة السجادية/ ص57.

فبهذا الدعاء وأدعية الفرج الأخرى نستمطر رحمة الله تعالى ومغفرته وأن يرفع عنّا البلايا والفتن، ولنجعل هذه العودة إلى الله تعالى والانتباه من الغفلة واحدة من منافع المرور بهذا البلاء الشديد والتعرّض لهذه الصدمة ليكون بلاء خير لنا وليس جزاءً لسوء أفعالنا، تصديقاً لعنوان البيان الذي أصدرناه تعليقاً على هذه الأحداث (ربّ ضارة نافعة)، ولا تخفى المنافع الأخرى التي تحققت حيث:

1-أعادت تذكير الناس بإمام زمانهم الذي غفلوا عنه وما غفل عنهم بدعائه وعنايته واستشعروا الحاجة لظهوره وتولّيه بنفسه الشريفة قيادة البشرية نحو الهدى والصلاح والقضاء على الباطل والانحراف والجاهلية.

ص: 55


1- - مهج الدعوات: 271.

2-التفّ الناس حول مرجعيتهم الدينية واستجابوا لنداءاتها حتى التطوع للقتال وملأوا معسكرات التدريب وألقوا الحجة عليها لتنهض بمسؤوليتها وأفشلوا خطط من حاولوا اضعاف المرجعية الدينية وفصل القواعد عنها.

3-انبعثت الروح الوطنية بعد أن ضاعت في هوس الانتماءات القومية والطائفية والايدلوجية وتفرّق الشعب أيدي سبأ.

4-صحا المسؤولون السياسيون والعسكريون من سكر المغانم التي انهمكوا في جمعها وحيازتها من مواقعهم بغير حق.

5-نسي الكثير خلافاتهم واتحدوا على هدف واحد وهو دفع هذا الخطر الخبيث.

وغيرها من النتائج التي ينبغي للعقلاء الالتفات إليها من دون الحاجة إلى تعريضهم لهذا البلاء الشديد كما ورد في الدعاء (الهي لا تؤدبني بعقوبتك ولا تمكر بي في حيلتك).

ص: 56

خطاب المرحلة 415 :{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا}

خطاب المرحلة 415 :{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا}(1)

[النور : 22]

في هذه الليلة الأخيرة من شهر رمضان المبارك نأخذ درساً من فعالية كان يقيمها الامام السجاد (علیه السلام) في مثل هذه الليلة ,وفيها تطبيق وتجسيد لآية في القران الكريم ,والأئمة المعصومون (علیهم السلام) كجدهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان خلقهم القرآن ،والآية قوله تعالى (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) النور:22.

فالآية تعلمنا اسلوباً لتحصيل المغفرة الالهية والعفو والصفح ،وإن كان الله تعالى متصفاً في ذاته بأنه غفور رحيم ويبتدئ عباده بمغفرته ورحمته وإن لم يكن منهم استحقاق ،لكنه تعالى يزيدهم من فضله فيعلمهم أنهم إن أحبوا أن يغفر الله لهم وكل إنسان يحب ذلك إذ ما من عاقل مستعد لملاقاة الله تعالى بعمله من دون فضل الله تعالى وكرمه فعليهم أن يتعاملوا بينهم بالعفو والصفح ويتجاوز بعضهم عن بعض ليحتجوا بذلك على الله تعالى احتجاج انس ومودة وشفقة واستعطاف.

ص: 57


1- - تقرير لكلمة سماحة المرجع اليعقوبي دام ظله في جمع من مصلّى ديوان فاطمة الزهراء عليها السلام في حي الجامعة في النجف الاشرف وجمع من الشباب والطلبة اللذين شاركوا في إقامة العشر الاواخر من شهر رمضان الى جوار أمير المؤمنين عليه السلام 00يوم الاحد 29 رمضان 1435 المصادف 27/ 7/ 2014 .

وهذه المعاني عبر عنها الامام السجاد (علیه السلام) في دعاء ابي حمزة (اللّهُمَّ إِنَّكَ أَنْزَلْتَ فِي كِتابِكَ أَنْ نَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَنا وَقْدْ ظَلَمْنا أَنْفُسَنا فَاعْفُ عَنّا فَإِنَّكَ أَوْلى بِذلِكَ مِنّا وَأَمَرْتَنا أَنْ لانَرُدَّ سائِلاً عَنْ أَبْوابِنا وَقَدْ جِئْتُكَ سائِلاً فَلا تَرُدَّنِي إِلاّ بِقَضاء حاجَتِي(1)).وقد جسّد الامام السجاد (علیه السلام) هذه الآية في فعالية كان يجريها في آخر ليلة من كل شهر رمضان ،فقد روى السيد أبن طاووس في كتاب الاقبال بإسناده الى الامام الصادق (علیه السلام) مضمونها باختصار ان الامام السجاد (علیه السلام) كان يشتري العبيد والاماء خلال السنة ويؤدبهم وليفقهّم وكان لا يضرب عبداً ولا امة وإذا أذنب احد منهم كتب ذنبه في صحيفة وتاريخها ولم يعاقبه.

حتى إذا كانت آخر ليلة من شهر رمضان ،دعاهم وجمعهم حوله ،ثم أظهر الكتاب ثم قال :يا فلان فعلتَ كذا وكذا ولم أودبّك اتذكر ذلك ؟ فيقول : بلى يا ابن رسول الله ،حتى ياتي على آخرهم ويقرّرهم جميعاً.

ثم يقوم وسطهم ويقول لهم :أرفعوا أصواتكم وقولوا :يا علي بن الحسين إن ربَّك قد آحصى عليك كل ما عملت ،كما آحصيت علينا ما عملنا ،ولديه كتاب ينطق عليك بالحق ،لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا احصاها ،وتجد كل ما عملت لديه حاضراً كما وجدنا كل ما عملنا لديك حاضراً ،فأعفُ وأصفح كما ترجو من المليك أن يعفو عنك ،فأعفُ عنا تجده عفّوا ،وبك رحيماً ،ولك غفوراً ،ولا يظلم ربك أحدا ،كما لديك كتاب ينطّق بالحق علينا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة مما اتيناها إلا أحصاها.

ص: 58


1- - مفاتيح الجنان :349 من دعاء ابي حمزة الثمالي.

وهوّ ينادي بذلك على نفسه ويلقنّهم ،وهم ينادون معه وهو واقف بينهم يبكي وينوح ويدعو بمضمون ما نقلناه من دعاء ابي حمزة ،ثم يقبل عليهم ويقول :قد عفوت عنكم فهل عفوتم عني ومما كان مني اليكم ،فيقولون : قد عفونا عنك يا سيدنا وما اسأت.فيقول لهم :قولوا اللهم أعفُ عن علي بن الحسين كما عفا عنا فأعتقهُ من النار كما أعتق رقابنا من الرق فيقولون ذلك ،فيقول اللهم آمين رب العالمين اذهبوا فقد عفوتُ عنكم وأعتقت رقابكم رجاءه للعفو عني وعتق رقبتي فيعتقهم.

فإذا كان يوم الفطر منحهم جوائز تصونهم وتغنيهم عما في أيدي الناس ،وما من سنة إلا وكان يعتق فيها في آخر ليلة من شهر رمضان ما بين العشرين نفساً الى أقل أو أكثر) (1).

أقول في الرواية دروس عديدة (منها) تواضع ائمة أهل البيت (علیهم السلام) وسمو اخلاقهم وترّفعهم عن الانتقام والرد على الاساءة مضافاً الى اننا تعرفنا من خلالها على احدى الوسائل التي نشر الامام السجاد (علیه السلام) علوم اهل البيت (علیهم السلام) ومناقبهم وأخلاقهم ومظلوميتهم لأن هؤلاء العبيد كانوا ينتشرون في الامصار وينقلون ما شاهدوه من سيرة الامام السجاد (علیه السلام) .

هذه كلها اشارات مختصرة ،والمهم هنا تطبيق الآية الكريمة على هذا الفعل ،فقد كان الامام (ع) يستطيع أن يقوم بهذا العمل سراً بينه وبين ربه فيعفوا عمن أساء اليه ويطلب من الله تعالى العفو إلا ان الامام (ع) كان يجري

ص: 59


1- المراقبات للملكي التبريزي :199-200

العمل علناً ليوصل هذا الدرس الى الآخرين ولُينقل عبر الاجيال مضافاً الى أن ((العمل بالقلب كما انه عبادة له فإجراء ما فيه على الجوارح ايضاً عبادة للجوارح فعند الاتيان بالجوارح تتحقق العبادة بها ايضاً، وانها تؤثر في القلب تأثيراً خاصاً ورقة لا يؤثره مجرد الامر القلبي ويصير سبباً لعمل آخر مؤثر ايضاً فيمتد الفيض الدائم، لان للجوارح ايضاً حظاً من نور العمل فيؤثر عملها في القلب نوراً زائدا على نور عمله)) (1).هذا الادب هو ما يريده الله تعالى ورسوله والائمة الاطهار (صلوات الله عليهم اجمعين) منّا، اذ لا شيء يستحق التباغض والتقاطع بين المؤمنين وخصوصا اذا كانوا ذوي رحم ،وليس من المعقول اننا نرجو رضا الله تبارك وتعالى ومجاورة اولياءه في الجنان ونحن نقطع الرحم وآصرة الايمان لأجل كلمة سيئة قالها او تقصير صدر منه او تجاوز على بعض حقوقه، او تنازع بينهم على مال.

والملفت للنظر ان الآية التي ورد فيها الامر بالعفو والصفح جاءت في سياق جريمة كبرى ارتكبها البعض في حق رسول (صلی الله علیه و آله) اذ اتهموا زوجته مارية القبطية بالفاحشة وانها ولدت ابراهيم من خدين لها لا من زوجها رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهي الحادثة المعروفة بحديث الافك، فرغم عظم الجريمة وعظم من وقعت عليه وهو اكرم خلق الله وخاتم الأنبياء ،ورئيس الدولة ،وقد اشارة الآيات الى ذلك (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) النور:19وقال تعالى عنها (إِنَّ

ص: 60


1- المراقبات للملكي التبريزي:202

الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) النور: 23 ومع ذلك فقد جاء معها الامر بالعفو والصفح في الآية محل البحث، فكيف لا نعفو ولا نصفح نحن عن توافه الامور التي نتعرض لها في حياتنا.

ص: 61

خطاب المرحلة 416 :وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا رسول الله وأمير المؤمنين (صلوات الله عليهما)

خطاب المرحلة 416 :وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا(1)رسول الله وأمير المؤمنين (صلوات الله عليهما)

الآيات الكريمة والروايات الشريفة الواردة في وجوب بر الوالدين والاحسان اليهما وحرمة عقوقهما كثيرة جدا قال تعالى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء : 23] {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان : 14-15] {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} [الأحقاف : 15] {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة : 83] .

اما الروايات فكثيرة جدا نذكر منها :

ما روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما سُئل عن حق الوالدين على ولدهما قال (صلی الله علیه و آله) باختصار (هما جنتك ونارك) وعنه (صلی الله علیه و آله) قال (رضى الله في رضا الوالد وسخط الله في سخط الوالد) وعن امير المؤمنين (علیه السلام) قال : (برُّ

ص: 62


1- كلمة سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع حشد كبير من الشباب وطلبة الجامعات الذين جرت العادة باستضافتهم في العشر الاواخر من شهر رمضان الى جوار امير المؤمنين (عليه السلام) وتنظيم برنامج عبادي اخلاقي لهم، والتقاهم سماحته يوم الخميس 26-رمضان-1435 الموافق 24-7-2014

الوالدين اكبر فريضة) (1)هذا معنى واضح ومعروف ولا يحتاج الى بيان وتفصيل وكل الذي علينا هو التنفيذ والالتزام بكل حب ومودة ورحمة وصبر وسعة الصدر .

اما ما اريد ان اشير اليه فهو مصداق آخر للوالدين تنطبق عليهما هذه الآيات والروايات بل هي فيهما أأكد وأشد، وتبينهُ الرواية التالية، روى الشيخ الصدوق بسنده عن انس ابن مالك قال : (كنت عند علي بن أبي طالب ع في الشهر الذي أصيب فيه وهو شهر رمضان فدعا ابنه الحسن ع ثم قال: يا أبا محمد اعل المنبر فاحمد الله كثيرا، وأثن عليه، واذكر جدك رسول الله ص بأحسن الذكر، وقل: لعن الله ولدا عق أبويه، لعن الله ولدا عق أبويه، لعن الله ولدا عق أبويه، لعن الله عبدا أبق من مواليه، لعن الله غنما ضلت عن الراعي(2) وانزل. فلما فرغ من خطبته ونزل اجتمع الناس إليه فقالوا: يا ابن أمير المؤمنين وابن بنت رسول الله نبئنا [الجواب] فقال: الجواب على أمير المؤمنين ع، فقال أمير المؤمنين : إني كنت مع النبي ص في صلاة صلاها فضرب بيده اليمنى إلى يدي اليمنى فاجتذبها فضمها إلى صدره ضما شديدا ثم قال لي: يا علي، قلت: لبيك يا رسول الله ص، قال: أنا وأنت أبوا هذه الأمة، فلعن الله من عقنا، قل: آمين، قلت: آمين. ثم قال: أنا و أنت موليا هذه الأمة فلعن الله من أبق عنا، قل: آمين، قلت: آمين، ثم قال: أنا وأنت راعيا هذه الأمة فلعن الله من ضل عنا، قل:

ص: 63


1- راجع هذه الروايات وكثير غيرها في ميزان الحكمة: 9/ 567
2- في رواية اخرى ان الفقرة الثالثة (لعن الله من ظلم أجيره) وذكر (صلى الله عليه واله) في معناها (الا واني وانت اجيرا هذه الامة فمن ظلمنا أجرتنا فلعنة الله عليه)

آمين، قال أمير المؤمنين ع: وسمعت قائلين يقولان معي: " آمين " فقلت: يا رسول الله ومن القائلان معي " آمين "؟ قال :جبرئيل وميكائيل ع.) (1) .وورد في تفسير فرات بن ابراهيم بسنده عن الامام الباقر (علیه السلام) في تفسير قوله تعالى {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان : 14] قال (رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعلي ابن ابي طالب (علیهما السلام)) .

وفي تفسير القمي في قوله تعالى (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) قال (فالوالدان رسول الله (صلی الله علیه و آله) وامير المؤمنين (علیه السلام))، وورد عن جابر عن الامام الباقر (علیه السلام) في تفسير قوله تعالى {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} [البلد : 3] انه امير المؤمنين (علیه السلام)، وما ولد من الائمة (ع) وورد في تفسير قوله تعالى {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [الأحقاف : 15]) هما رسول الله وعلي ابن ابي طالب (صلوات الله عليهما).

ويشرح في تفسير العسكري معنى ابوتهما (صلوات الله عليهما) قال (ولقد قال الله تعالى (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) افضل والديكم واحقهما بشكركم محمد وعلي، وقال علي ابن ابي طالب (علیهما السلام) سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول انا وعلي بن ابي طالب ابوا هذه الامة، ولحقُّنا عليهم اعظم من حق والديهم فانا ننقذهم ان اطاعونا من النار الى دار القرار ونلحقهم من العبودية بخيار الاحرار) (2).

ص: 64


1- معاني الأخبار - الشيخ الصدوق: 118/ح1
2- هذه الروايات في بحار الانوار : 36/ 6-9 في باب عنوان (ان الوالدين رسول الله وامير المؤمنين (صلوات الله عليهما) وتوجد روايات اخرى في باب بعنوان (تأويل الوالدين والولد والارحام وذوي القربى بهم عليهم السلام) في بحار الانوار :23/ 257

قال الراغب في المفردات (الاب) : الوالد ويُسّمى كل من كان سببا في ايجاد شيء او صلاحه او ظهوره اباً ولذلك يسمى النبي (صلی الله علیه و آله) ابا المؤمنين، قال الله تعالى {لنَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب : 6] روي انه (صلی الله علیه و آله) قال لعلي (انا وانت ابوا هذه الامة) (1).فالإنسان له حياتان ووجودان: الاولى : حياة و وجود بدني مادي في هذه الحياة الدنيا به يأكل ويشرب ويتحرك ويتزوج مما يشارك فيه الحيوانات وينتهي بالموت، واصله من الوالدين النسبيين الاب والام مما اوجب لهما الحقوق المعروفة للوالدين.

الثانية : حياة ووجود معنوي به يتكامل ويسمو ويرتقي وهو الموجب للفوز في الحياة الابدية وقوامه الايمان بالله تعالى وبما جاءت به رسُلُه، وهذه هي الحياة الحقيقة للانسان {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت : 64]، وقد وصف الله تعالى في آيات كثيرة من القران الكريم الايمان بالحياة والكفر بالموت {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران : 169] وضرب امثلة عديدة للمؤمن والكافر بالأرض الميتة فأحييناها بماء الايمان والمعارف الالهية .

والنبي (صلی الله علیه و آله) وامير المؤمنين علي (علیه السلام) هما اصل هذه الحياة المعنوية ووجودنا فيها ولولاهما لكنّا امواتاً {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف : 43] فهما ابوا هذه الامة في حياتها المعنوية ولانها الحياة الاهم والاسمى كان حقهما (صلوات الله عليهما) اكبر من

ص: 65


1- المفردات للراغب، مادة (اب)

الوالدين النسبيين.ولعل مما يدل عليه من القران الكريم لرفع الاستغراب قوله تعالى {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف : 22] فقد حُمِل على العلماء ((اي علماءنا الذين ربونا بالعلم بدلالة قوله تعالى {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب: 67] وقيل في قوله تعالى (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) انه عنى الاب الذي ولده والمعلم الذي علمه)) (1)

بل يمكن القول انهما ابوا هذه الامة حتى بالمعنى الاول، لانهما العلة الغائية للموجودات خلق الكون لاجلهم وبهم يرزقون وبهم تستمر الحياة ((ولولاهم لساخت الارض باهلها)) وبهم يسبب الله الاسباب.

والى الان نكون قد عرفنا جانبا من الحديث الذي له اتجاهان لان الابوّة من المعاني المتضايفة كما يعبر اهل المنطق والاصول اي النسبية ذات الاتجاهين، فلا تتحقق الابوّة الا بالبنوّة، لذا علينا ان نلتفت الى هذا التشريف العظيم الذي منَّ الله تعالى به علينا اذ جعلنا ابناءاً لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وعلي بن ابي طالب (علیهما السلام) الذي يعرف قيمته مثل الامام الصادق (علیه السلام) حين يقول (ولايتي لعلي بن أبي طالب ع أحب إلي من ولادتي منه، لأن ولايتي لعلي بن أبي طالب فرض، وولادتي منه فضل) (2)

وحينئذٍ نقرأ الآيات الكريمة بهذه الرؤية الجديدة (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)وتقدم ان

ص: 66


1- المفردات للراغب، مادة (اب).
2- البحار، ج 39: ص 299.

حقهما (صلوات الله عليهما) اعظم من حق الوالدين الذي عرفنا عظمته، عن الامام الحسن السبط (ع) قال (محمد وعلي ابوا هذه الامة فطوبى لمن كان بحقهما عارفا ولهما في كل احواله مطيعا يجعله الله من افضل سكان جنانه ويسعده بكراماته ورضوانه) وعن الامام الحسين (علیه السلام) قال (من عرف حق ابويه الافضلين محمد وعلي (علیه السلام) واطاعهما حق الطاعة قيل له تبحبح في اي الجنان شئت) (1)وعلينا ان نكون ابناءا بارين مطيعين، نقل في المناقب عن القاضي ابي بكر احمد ابن كامل قوله (يعني ان حق علي على كل مسلم ان لا يعصيه ابدا) (2).

واذا لم تتحقق شروط البنوة فان النبي (صلی الله علیه و آله) وامير المؤمنين (علیه السلام) يتبرءان منه وينفيان انتسابه اليهما، وتصور العار الذي يلحق من يتبرأ منه ابواه وينفيان نسبته اليهما، عن الامام الرضا (علیه السلام) قال: (اما يكره احدكم ان ينفى عن ابيه وامه الذين ولداه قالوا بلى، قال فليجتهد ان لا ينفى عن ابيه وامه الذين هما ابواه افضل من ابوي نفسه) (3).

حُكي ان ذئباً نزى على انثى غزال فحملت منه وولدت مولودا اختلف فيه هل هو ذئب ام غزال ليُطبَّق الحكم الشرعي على كل منهما، وتقول الحكاية ان القاضي حكم بان يقدم امامه نوعان من الطعام احدهما من الرياحين والمسك والاخر من الجيف ولحوم الميتة، فان تناول الاول فهو غزال وان تناول الثاني

ص: 67


1- بحار الانوار : 36/ 10 عن تفسير العسكري :330
2- بحار الانوار 36/ 11 عن مناقب آل ابي طالب : 3/ 126
3- بحار الانوار : 36/ 10 عن تفسير العسكري :330

فهو ذئب(1).ومحل الشاهد ان بنوّة الانسان لاحد تعرف من خلال المنهج الذي يسير عليه ويرتضيه لنفسه فان كان صالحا كان ابنا لرسول الله وامير المؤمنين (صلوت الله عليهما) وان كان فاسدا منحرفا فهو ابن لمعاوية ويزيد ونظرائهما .

في الحديث الشريف عن الامام الصادق (علیه السلام) قال : (فأن الرجل منكم اذا ورع في دينه وصدق الحديث وادّى الأمانة وحسُن خلقه مع الناس قيل هذا جعفري، فيسرُّني ذلك ويدخل عليَّ منه السرور، وقيل هذا أدب جعفر ، واذا كان على غير ذلك دخل عليَّ بلاؤه وعاره، وقيل هذا أدب جعفر) (2) .

فالإمام الصادق (علیه السلام) ينسبك فعلا اليه والى ابائه الطاهرين (علیهم السلام) وتحمل لقبه اذا تحليت بهذه الصفات .

وفي القرآن الكريم قول ابراهيم (علیه السلام) {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم : 36] فمن سار على نهجه (ع) واتبعه كان منه وليس فقط ينتسب اليه وبهذا استحق سلمان الفارسي هذا اللقب في الحديث النبوي المشهور (سلمان منا اهل البيت) (3) وبالعكس فان الانتساب البدني لا قيمة له اذا لم يكن مقترناً بالطاعة والاتباع، كما حكى القرآن الكريم في ابن النبي نوح (ع) {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود : 46].

ص: 68


1- (غضوا ابصاركم ترون العجائب) : 89 عن كتاب سلسلة اصول الدين للمرحوم دستغيب: 2/ 109
2- وسائل الشيعة : كتاب الحج، ابواب احكام العشرة، باب 1 ح2
3- رواه الحاكم في المستدرك (3/ 598) ، والطبراني (6/ 261)

نسأل الله تعالى ان يجعلنا اهلاً للتشرف بالبنّوة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وامير المؤمنين (علیه السلام) وأن نؤدي حقوق هذا الانتساب بفضله وكرمه.

ص: 69

خطاب المرحلة 417 :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}

خطاب المرحلة 417 :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}(1)

[التحريم : 6]

[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُم وَيَفعَلُونَ مَا يُؤمَرُونَ] (التحريم:6).

الآية الشريفة تتضمن درساً في المسؤولية الأسرية والاجتماعية انطلاقاً من الحديث الشريف (ألا كُلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على أهل بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)(2).

وتبرز أهمية هذه المسؤولية اليوم بشكل واضح لامتلاك الفساد والضلال والانحراف وسائل وتقنيات وأدوات متطورة وفاعلة ومثيرة وجاذبة مما يوجب أكثر من ذي قبل الاهتمام بهذا الأمر الإلهي العظيم ووضع الآليات المناسبة للالتزام به.

[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] خطاب عام موجّه لجميع المؤمنين والمؤمنات .

[قُوا] فعل أمر من الوقاية، و((الوقاية حفظ الشيء عما يؤذيه ويضرّه،

ص: 70


1- الخطبة الاولى لصلاة عيد الفطر السعيد يوم الثلاثاء 29-7-2014
2- الأمثل في تفسير القرآن: 14/ 29 عن مجموعة ورام: 1/ 6.

قال تعالى: [فَوَقَاهُم اللهُ] (الإنسان:11) وقال تعالى: [وَوَقَاهُم عَذَابَ الجَحِيمِ] (الدخان:56)، والتقوى جعل النفس في وقاية مما يُخاف، وصار التقوى في تعارف الشرع حفظ النفس عما يؤثم، وذلك بترك المحظور، ويتم ذلك بترك بعض المباحات لما روي (الحلال بيِّن والحرام بيِّن ومن رتع حول الحمى فحقيق أن يقع فيه)))(1).[أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ] وجوب وقاية النفس وحفظها من النار ثابت وواضح، والجديد في الآية أنها تقرن الأهل بالنفس في حفظهم من ارتكاب ما يوجب النار التي وصفتها الآية الشريفة بأوصاف مرعبة.

وقد نبه القرآن الكريم إلى هذه العناية الخاصة بالأهل في آيات كثيرة، كقوله تعالى مخاطباً نبيه الكريم (صلی الله علیه و آله): [وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا] (طه:132) وكان من أوائل ما نزل عليه (صلی الله علیه و آله) في بداية الدعوة الإسلامية: [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] (الشعراء:214) وحكى عن إسماعيل صادق الوعد بقوله تعالى: [وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ] (مريم:55). فهناك إذن مسؤولية خاصة عن الأهل جمعها قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ] (التحريم:6).

ويشهد لهذا الوجوب المؤكد نصوص شريفة أخرى، كقول أمير المؤمنين (علیه السلام): (علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدّبوهم)(2) كما يشهد له ورود تطبيقات لهذه المسؤولية الخاصة كتأديب الصبيان على الصلاة من عمر

ص: 71


1- المفردات للراغب: 881، مادة (وقى).
2- كنز العمال:2/ 539، ح 4676.

ست أو سبع سنين(1)، أو ما ورد في أعمال ليلة القدر أن السيدة الزهراء (علیها السلام) كانت لا تدع أهلها ينامون في تلك الليلة وتعالجهم بقلة الطعام وتتأهب لها من النهار أي كانت تأمرهم بالنوم نهاراً لئلا يغلب عليهم النعاس ليلاً، وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوقظ أهله في تلك الليلة ويرشّ وجوه النيام بالماء(2).ولا تعني هذه الدعوة التي أطلقتها الآية لوقاية الأهل من النار إكراههم على شيء، فقد شرحت حدود هذه المسؤولية روايات عديدة رواها الشيخ الكليني في الكافي(3):

(منها) عن أبي بصير عن الإمام الصادق (علیه السلام) في قول الله عز وجل: [قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً]، قلتُ: كيف أقيهم؟ قال: تأمرهم بما أمر الله، وتنهاهم عما نهى الله، فإن أطاعوك كنت قد وقيتهم، وإن عصوك كنت قد قضيت ما عليك).

(ومنها) عن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (لما نزلت هذه الآية: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً] جلس رجلٌ من المسلمين يبكي، وقال: أنا عجزت عن نفسي وكُلّفت أهلي! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): حسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك، وتنهاهم عما تنهى عنه نفسك).

فالمطلوب بمقتضى هذه الآية أن يحفظ الإنسان أهله من الوقوع في المعاصي وما يسخط الله تعالى بأن يرشدهم إلى الطاعة ويقرّبهم منها ويزيّنها

ص: 72


1- وسائل الشيعة: 4/ 18، أبواب أعداد الفرائض، باب 3.
2- مفاتيح الجنان عن دعائم الإسلام.
3- الكافي:5/ 62، ح1، 2.

لهم ويقنعهم بها ويكافئهم على فعلها، وبنفس الوقت يحذّرهم من المعصية ويردعهم عنها ويحميهم من الوقوع فيها.وقد ذكر العلماء (قدس الله أرواحهم) في رسائلهم العملية أمثلة لهذه المسؤولية فقالوا: ((يجب عليه إذا رأى من أهله التهاون في الواجبات، كالصلاة وأجزائها وشرائطها بأن لا يأتون بها على وجهها لعدم صحة القراءة والأذكار الواجبة منهم، أو أنهم لا يتوضأون وضوءاً صحيحاً، أو لا يطهرون أبدانهم ولباسهم من النجاسة على الوجه الصحيح، فيجب عليه تعليمهم وأمرهم ونهيهم على الترتيب المتقدم حتى يأتوا بها على وجهها الصحيح. وكذا الحال في بقية الواجبات، وكذلك في المعاملات وسائر الأحكام. وكذا إذا رأى منهم التهاون في المحرمات كالغيبة والنميمة والعدوان بين بعضهم على بعض أو على غيرهم أو الزنا أو شرب الخمر أو السرقة، فإنه يجب عليه أن ينهاهم عن المنكر، حتى يرتدعوا عن المعصية))(1).

ويمكن أن نفهم لهذه المسؤولية المؤكدة عدة ملاكات ومناشئ:-

1-إن هذا التأكيد وقرن الأهل بالنفس في الخير والشر يلاحظ أمراً فطرياً ونزعة لدى الإنسان فإنه يعتبر أهله كنفسه يصيبه ما يصيبهم، من وصية أمير المؤمنين (علیه السلام) لولده الحسن (علیه السلام) قال: (ووجدتك بعضي، بل وجدتك كلي، حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني، وكأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني

ص: 73


1- منهج الصالحين: 2/ 240، المسألة (888)، منهاج الصالحين للسيد الحكيم (قدس سره): 1/ 490، مسألة (8)، وللسيد الخوئي (قدس سره): 1/ 353، مسألة (1274).

من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي)(1). وقد حكى القرآن الكريم عن جملة من الأنبياء (ع) هذه الغريزة الإنسانية، قال تعالى عن إبراهيم (علیه السلام): [قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي] (البقرة:124) وقال عن النبي نوح (ع): [وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ] (هود:45) وقال تعالى عن النبي لوط (ع): [رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ] (الشعراء:169). ومن الأدعية التي وردت في القرآن الكريم [رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي] (الأحقاف:15) والخلاصة أن الأمر بوقاية الأهل ينبّه الإنسان على أنك إن أردت الخير لأهلك وأن يلتحقوا بك في الجنة فعلّمهم ما يتقون.2-إن للشخص سلطنة وقيمومة وولاية عرفية واجتماعية وشرعية خاصة على أهله وذويه مما تعطيه قوة في التأثير ومن غير المتوقع وجود موانع من ممارسة الفريضة كالتي يمكن أن تحصل مع الغير مثل حصول الضرر أو اختلال النظام ونحو ذلك، فتكون مسؤوليته أكبر لأن وجود المقتضي أقوى والمانع يكاد يكون مفقوداً.

3-إن الأسرة هي الوحدة الأساسية للمجتمع فإذا صلحت هذه الأسرة وتلك وتلك صلح المجتمع، فصلاح المجتمع –الذي هو الهدف- يتحقق بقيام كل فرد بإصلاح أسرته، فكأن الشارع المقدس بتأكيده على إصلاح الأسرة يضع لنا المنهج والطريق لإصلاح المجتمع.

4-إن الفرد مسؤول اجتماعياً عن أسرته فإذا صدر منهم ما يزين كان له،

ص: 74


1- نهج البلاغة: 616، قسم الرسائل والكتب، العدد 31.

وإذا صدر منهم ما يشين كان عليه؛ لذلك ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام) مخاطباً شيعته: (كونوا زيناً لنا ولا تكونوا علينا شيناً)(1) لأنهم محسوبون على الإمام (علیه السلام) يتسمون باسمه، فإصلاح الفرد لأسرته إنما هو عمل يقدّمه لنفسه لأن الثناء يعود إليه فيما لو صلحوا وأحسنوا، كما أن الولد المنحرف يعيَّر به ويعتذر عن إساءته. وقد ورد مثل هذا الوجه في تعليل اشتراط إذن ولي الأمر في الدخول بالباكر (في زواج المتعة) لأن عارها يرجع على أهلها قال (علیه السلام): (يكره للعيب على أهلها) وقال (علیه السلام): (كراهية العيب على أهلها)(2).

5-إن عدم صلاح الأهل يضعف موقف الفرد عند قيامه بواجبه في ممارسة الأمر والنهي في المجتمع؛ لأنهم سيردّون عليه بأنه ليبدأ أولاً بإصلاح أهله، مما يجعله في حرج من ممارسة هذه الفريضة العظيمة.

6-إن الأسرة وحدة مصغرة من المجتمع وفيها تنوع نفسي وفكري وثقافي فتصلح أن تكون معسكراً تدريبياً –كما يقال- لأداء الوظيفة في المجتمع فيستفيد العامل من كيفية التعاطي مع الأهل مع تنوعهم في التعاطي مع المجتمع وهو أحد وجوه فهم الحديث النبوي الشريف (خيركم خركم لأهله وأنا

ص: 75


1- من لا يحضره الفقيه: 1/ 383، ح 1128وفيه: (يا زيد خالفوا الناس بأخلاقهم، صلّوا في مساجدهم، وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، وإن استطعتم أن تكونوا الأئمّة والمؤذنين فافعلوا فإنّكم إذا فعلتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية ما كان أحسن ما يؤدّب أصحابه، وإذا تركتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية فعل بجعفر ما كان أسوأ ما يؤدّب أصحابه).
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب 11.

خيركم لأهله) وكذلك حديث (من عرف نفسه فقد عرف ربّه).وما أكثر مصاديق هذا الوجوب المؤكد اليوم كتوفير البيئة الصالحة لهم في البيت بدءاً من اختيار الزوجة المؤمنة العفيفة المتفقهة، وأن يكون لهم أسوة حسنة لأن رب الأسرة يكون المثل الأعلى لهم، وأن يجنبهم أصدقاء السوء، وأن يعلمهم ويرشدهم إلى كل ما فيه صلاح الدنيا والآخرة، وأن لا يهمل أمر متابعتهم وتفقد شؤونهم بعذر الانشغال بالكسب أو أي أمر آخر، وأن ينبههم إلى أوقات الصلاة برفع الأذان في البيت –وقد ورد فيه عن الإمام الرضا (علیه السلام): أنه مما يوجب كثرة الولد والشفاء من الأمراض(1)- ويصلي بهم جماعة إن استطاع، وأن يختار لهم أحمد السبل وأرشدها في دراستهم وكسبهم وأوضاعهم الاجتماعية ونحو ذلك.

وهذه المسؤولية ممتدة طول الزمان لأن الإنسان لا يخلو من المسؤولية عن الاهل فهو إما أن يكون ابناً أو أباً أو زوجاً أو أخاً، وكذلك بالنسبة للمرأة، أما مسؤوليته عن أسرته الخاصة فلا بد من الالتفات إليها ورعايتها من قبل الزواج باختيار المرأة الصالحة المؤهلة لحفظ بيته وماله وتربية أولاده.

ص: 76


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب أحكام الأولاد، باب 11، ح10.

خطاب المرحلة 418 :وجه الانتفاع بالإمام في غيبته

خطاب المرحلة 418 :وجه الانتفاع بالإمام في غيبته(1)

كان السؤال عن وجه الانتفاع بالإمام المهدي (علیه السلام) في غيبته حاضراً في ذهن الأجيال كلها من حين الاخبار عن غيبة الإمام الثاني عشر على عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) والأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) ومنشأ التساؤل وجود تصور ذهني بأن الآثار والبركات المرجوّة من الامام والقائد مرتبطة بظهوره للناس كسؤاله عن الأحكام الشرعية أو حلّه للمشكلات العلمية والاجتماعية وتزوّد الناس من محضره الشريف ولا يكادون يفهمون وجهاً للانتفاع به إذا غاب.

والمفروض بالمؤمن التسليم لأمر الله تعالى وعدم النقاش فيه، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غِيبات من تقدمه من حجج الله تعالى ذكره. إن وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلاّ بعد ظهوره، كما لم ينكشف وجه الحكمة لمّا أتاه الخضر (ع) من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار لموسى (علیه السلام) إلى وقت افتراقهما، يابن الفضل: إنّ هذا الأمر أمرٌ من أمر الله تعالى وسرٌّ من سرّ الله وغيب من غيب الله، ومتى علمنا أنّه (عز وجل) حكيم صدقنا بأن أفعاله كلّها حكمة، وإن كان وجهها غير

ص: 77


1- الخطبة الثانية لصلاة عيد الفطر السعيد يوم الثلاثاء 29-7-2014

منكشف لنا) (1)أقول: لكن الأسئلة تكررت على النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة المعصومين (علیهم السلام) فأجابوا بما يناسب الذهنيّة العامة، ففي اكمال الدين للصدوق بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) إنّه ذكر الإمام القائم في حديث وقال (ذاك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلاّ من امتحن الله قلبه بالإيمان، قال جابر: فقلتُ له: يا رسول الله فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته؟ فقال (صلی الله علیه و آله): أي والذي بعثني بالنبوة إنّهم يستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن تجلّلها سحاب).(2).

وفي الأمالي للصدوق بسنده عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (لم تخلو الأرض منذ خلق الله تعالى آدم من حجة لله فيها ظاهرٌ مشهور أو غائب مستور ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجة لله فيها ولولاهُ لم يُعبد الله، فقلتُ للصادق (علیه السلام): فكيف ينتفع الناس بالحجة الغائب المستور؟ قال: كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب). (3)

وفي الاحتجاج ورد توقيع من الناحية المقدسة على يد السفير محمد بن عثمان وفيه (وأما الانتفاع بي في غيبتي فكالإنتفاع بالشمس إذا غيّبها عن الأبصار السحاب وإني لأمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء

ص: 78


1- بحار الأنوار: 52/ 91 الباب 20 عن اكمال الدين: 2/ 158 باب علة الغيبة.
2- كمال الدين: 1/ 241 باب: نص الله تعالى على القائم، ح3.
3- نقلتهما بواسطة بحار الأنوار: 52/ 92 .

فاغلقوا أبواب السؤال عمّا لا يعنيكم). (1)أقول: في هذه الروايات تشبيهان، أحدهما تشبيهُ الإمام بالشمس، والآخر تشبيه غيبته (ع) بالشمس إذا غطّاها السحاب، ونريد الآن أن نبيّن وجوهاً لفهم هذين التشبيهين مما يوفّق الله تعالى له.

(الأول) تشبيه الامام بالشمس وله عدة وجوه:

1-إنّ الشمس أصل الحياة وبدونها تنعدم الموجودات وهي الواسطة لإفاضة الحياة على الموجودات، وهكذا الإمام علة الوجود وواسطة الفيض الإلهي على جميع الموجودات وهم علة الوجود ولأجلهم خلق، ولولاه ساخت الأرض بأهلها كما في الحديث الشريف وفي دعاء العديلة (ببقائه بقيت الدنيا وبيمينه رُزق الورى، وبوجوده ثبتت الارض والسماء).

2-ولأن الشمس أصل الحياة فقد وُجدت قبل أي شيء آخر، وكذلك نور محمد وآل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين) وجدوا قبل الخلق، روى الشيخ الصدوق عن الإمام الصادق (علیه السلام) قوله (الحجّة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق). (2)

3-إن الشمس مصدر النور وهي التي تنير الأشياء وتجعلها منظورة بالعين ويمكن التعرّف عليها ولولا هذا النور لما أمكن التعرّف على الشيء، وكذلك الإمام هو مصدر المعارف الإلهية والعلوم ولولا تأصيلات الأئمة الأطهار (ع) لما امكن الاهتداء إلى شيء منها، وما يؤخذ عن غيرهم فهو زخرف من القول .

ص: 79


1- نقلتهما بواسطة بحار الأنوار: 52/ 93
2- كمال الدين: 1/ 16.

4-ان نفع الشمس عام لا تمنعه عن شيء من الموجودات، وهم (صلوات الله عليهم اجمعين) كالشمس في عموم نفعهم {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}الأنبياء107 وإنما لا ينتفع بهم من أراد لنفسه أن يكون أعمى لا يستفيد من نور الشمس، في الخصال من حديث الأربعمائة عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (أشدّ العمى من عمي عن فضلنا وناصبنا العداوة بلا ذنب سبق إليه منا إلاّ أنّا دعونا إلى الحق ودعاهُ من سوانا إلى الفتنة والدنيا فأتاهما ونصب البراءة منّا والعداوة لنا) (1).

وروى الشيخ الصدوق في كتاب التوحيد بسند صحيح عن الإمام الباقر (علیه السلام) في قوله تعالى {وَمَن كَانَ فِي هذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً}الإسراء72، قال (علیه السلام): (من لم يدلّه خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار ودوران الفلك والشمس والقمر، والآيات العجيبات على أنّ وراء ذلك أمر أعظم منه فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلاً). (2)

5-إن الشمس من المطهرات –كما هو الصحيح- فهي تطهّر من النجاسة المادية ، فكذلك ولاية الإمام المعصوم وحبّه واتباعه من المطهّرات المعنوية فبها تقبل الأعمال وتكفّر الذنوب وفي ذلك أحاديث كثيرة، لأنها من أعظم الحسنات والقربات إلى الله تعالى، والآية الشريفة تقول (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّ-يِّئَاتِ) (هود/114).

6-ان أي شيء يقترب من الشمس يصلى بحرارتها ويحترق تدريجيا حتى

ص: 80


1- الخصال: 474.
2- التوحيد: 455 باب 67 النهي عن الجدال والمراء في الله عز وجل، ح6.

يفنى في نورها، وكذلك من يتقرب من اهل البيت (علیهم السلام) بطاعتهم وحبّهم والسير على هديهم يفنى فيهم وتذوب انانيته ونفسه الامارة بالسوء(فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) إبراهيم:36 وفي الحديث النبوي الشريف (سلمان مّنا اهل البيت) (1) .7-كما أنّ الناس متفاوتون في الاستفادة من نور الشمس فبعضهم يمنعها من الدخول إلى داره فيغلق الأستار والنوافذ ولا يستفيد من ضوء الشمس، وبعضهم يفتح منافذ بسيطة للإنارة والآخر يملأ داره بالفتحات والآخر يستفيد منها في الزراعة وآخر لتوليد الطاقة الشمسية، فكذلك نور الهداية المتصلة بالمعصومين (علیهم السلام) التي تركوها لنا من خلال أحاديثهم الشريفة، تتفاوت الناس في الاستفادة منها والعمل بها، فربّما أغلق البعض نوافذ قلبه وعقله لمنع نور الهداية من دخولهما، بينما فتح آخر كلّ حواسه ومنافذه الظاهرية والباطنية لتلقي هذه العلوم والمعارف والكمالات اللاّمحدودة بإذن الله تعالى.

(الثاني) التشبيه لغيبة الإمام بالشمس إذا جلّلها السحاب ويمكن أن نفهم له عدة وجوه:

1-كما ان احتجاب الشمس بالسحاب لا يؤثر على حقيقة وجودها ولا يصح لعاقل أن يستدل على عدم وجودها لعدم ظهورها للعين بسبب تغطية السحاب لها، فكذلك لا يمكن إنكار وجود الإمام (علیه السلام) لمجرّد عدم ظهوره للناس فهو (ع) موجود وتوجد معه آثاره المباركة وألطافه الكريمة ورعايته الحانية.

2-إنّ جملة من منافع الشمس لا تتوقف على ظهورها المباشر وبتعبير آخر

ص: 81


1- رواه الحاكم في المستدرك (3/ 598) ، والطبراني (6/ 261)

أن فائدة الشمس لا تقتصر على التعرض لأشعتها المباشرة حتى يُقال بعدم الانتفاع منها إذا حجب السحاب أشعتها، فاحتجابها بالسحاب لا يمنع من الانتفاع بها وتبقى تؤدي دورها في حفظ نظام الحياة واستقرار المجموعة الشمسية وحركة الافلاك، وكذلك الانتفاع بوجود الإمام وفيوضاته المباركة لا تتوقف على ظهوره المباشر وإن حرم الناس من بعض تلك الانتفاعات بسبب غيبته، ومنها ما تقدم في الرواية الشريفة من كونه اماناً لأهل الارض ورد في رسالته الشريفة (إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولوا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء). (1)3-إن احتجاب الشمس بالغيوم إنما هو لمن كان على الأرض فلو خرج من جو الأرض كالذي يحصل لركاب الطائرة عندما ترتفع فوق الغيوم فإنهم سيرون السماء صافية والشمس ظاهرة، فكذلك الإمام فإنه غير مشخّص لذوي الدرجات الاعتيادية والمتدنّية، أما الأنقياء المخلصون ومن حلّقوا في سماء الكمالات المعنوية فإنّ الإمام (علیه السلام) يظهر لهم ويرونه ويعرفونه ويتعاملون معه، وما على المؤمن إلاّ أن يسمو ويرتقي ويخرج من الحجب الأرضية لتكتحل عينه بالنظر إلى الإمام (علیه السلام).

4-إن تغطية السحاب للشمس فيه رحمة بالناس وفيها مصلحة لهم أما من جهة نفس الغيوم لكونها تحمل أمطاراً تحيي الأرض الميتة، أو لعجز الناس عن تحمّل الأشعة المباشرة للشمس فتضر أبصارهم وتصيب رؤوسهم بضربة الشمس وربما اضطروا إلى السكون في منازلهم والقعود عن أعمالهم حذراً من

ص: 82


1- الاحتجاج: رسالة الناحية المقدسة إلى الشيخ المفيد (قدس سره).

أشعة الشمس، وكذلك غيبة الإمام (علیه السلام) فيها مصلحة للناس، من عدة جهات كالتفاتهم إلى ذنوبهم التي أوجبت حرمانهم من الاتصال المباشر بالإمام أو لأنّ إيمانهم ليس قوياً يحتمل القيادة المباشرة والنظر المباشر للإمام، كالذين لم يتحملوا قيادة أمير المؤمنين (علیه السلام) ففشلوا وخسروا الدنيا والآخرة، فعدم الابتلاء بالقيادة المباشرة رحمة بالناس لئلاّ تزيغ بصائرهم كتضرّر بصر من ينظر إلى الشمس مباشرة ويفشلوا في الامتحان نظير نصيحة الإمام الحسين (علیه السلام) لبعض من تخاذلوا عن نصرته بأن يبتعدوا لئلاّ يسمعوا صرخة الإمام (علیه السلام) فتصيبهم الكارثة، فمثل هؤلاء يكون من الرحمة بهم تربيتهم بعيداً عن القيادة المباشرة للمعصوم (علیهم السلام) وقبولهم على ما هم عليه.5-إن احتجاب الشمس بالسحاب أمر نسبي أي لبعض الناس إذ يمكن أن تكون الشمس في نفس الوقت ظاهرة لبعض في بلد آخر لا يحجبهم السحاب، كما يقال في النشرة الجوية غائم جزئي فكذلك غيبة الإمام (علیه السلام) نسبية لبعض الخلق دون بعض فهو ظاهر لبعض الخلق (وما في ثلاثين من وحشة) .

6-إن احتجاب نور الشمس لا لسبب منها أي لا لقصور في المقتضي- كما يقال- وانما لوجود المانع وهو السحاب فمتى ما زال السحاب اشرقت الشمس على الموجودات، وكذلك الامام (ع) لم يحتجب لسبب منه فان اهل البيت (علیهم السلام) ابواب رحمة الله وكرمه وفضله، وهو تبارك وتعالى لا بخل في ساحته (بابك مفتوح للراغبين وخيرك مبذول للطالبين وفضلك مباح للسائلين ونيلك متاح للآملين ورزقك مبسوط لمن عصاك وحلمك معترض لمن

ص: 83

ناواك) (1).وسبب احتجابه (علیه السلام) يعود الى الخلق انفسهم (الا ان تحجبهم الذنوب دونك).

7-((كما أن الشمس المحجوبة بالسحاب مع انتفاع الناس بها ينتظرون في كل آن انكشاف السحاب عنها وظهورها ليكون انتفاعهم بها أكثر فكذلك في أيام غيبته ينتظر المخلصون من شيعته خروجه وظهوره في كل وقت وزمان ولا ييأسون منه)). (2)

ص: 84


1- مفاتيح الجنان : 168 من ادعية شهر رجب
2- بحار الأنوار: 52/ 93.

خطاب المرحلة 419 :قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ

خطاب المرحلة 419 :قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ(1)

(يونس/58)

يحصل الإنسان في هذه الدنيا على الكثير من النعم التي يفرح بها، ويحقق الكثير من الانجازات والأعمال المفرحة كالتاجر يربح بصفقته ربحاً غير متوقع، أو المعدلات العالية التي حققتموها في الامتحانات العامة للسادس العلمي خصوصاً إذا كانت الدرجات أكثر مما كان يظن وفق تقييمه لأجوبته.

وهذا الفرح حالة وجدانية طبيعية لا يمكن الغاؤها والاعتراض عليها، وإنما يحتاج إلى وضعه في مساره الصحيح المثمر، وفي ضوء هذا نفهم ما ورد في قوله تعالى (لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (القصص/76) والمشكلة ليست في نفس الفرح.

والحل في قوله تعالى بعد ذلك (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (القصص/77) فالفرح بالمال والموقع الوظيفي والجاه والنفوذ لا يكون لذات هذه الأمور لأنها زائلة ولذتها وقتية وهي لوحدها غير قادرة على تحقيق السعادة للإنسان، والشاهد على ذلك كثرة الانتحار وشيوع الأمراض

ص: 85


1- كلمة سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من الطلبة المتفوّقين الأوائل على العراق ومحافظة النجف الأشرف في امتحانات السادس العلمي من مدينة المشخاب يوم الأربعاء 23/شوال/1435 المصادف 20/ 8/ 2014.

النفسية والعصبية والتفكك الأسري والعنصرية والتمايز الطبقي وأمثالها من الأمراض الاجتماعية التي تؤدي إلى نشوء مافيات العنف والقتل في الدول الأكثر ترفاً ورفاهية(1).فالآية تدلنا على ما يوجب الفرح الحقيقي بهذه النعم من خلال توظيفها واستثمارها في الوصول إلى الهدف الحقيقي وهو نيل رضا الله تعالى من خلال الالتزام بطاعته تبارك وتعالى فإنها توفِّر السعادة الحقيقية للإنسان (قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس/58)، من كلام لأمير المؤمنين (علیه السلام) (فإن المرء ليفرح بالشيء الذي لم يكن ليفوته، ويحزن على الشيء الذي لم يكن ليصيبه، فلا يكن أفضلُ ما نلتَ في نفسك من دنياك بلوغ لذةٍ أو شفاءَ غيظ، ولكن اطفاء باطل أو إحياء حق، وليكن سرورك بما قدّمت، وأسفك على ما خلّفت، وهمّك فيما بعد الموت) (2).

والذي ينبغي أن يوجب الفرح أكثر هو التوفيق للنعم المعنوية والاهتداء إليها كنعمة القرآن الكريم الذي وصفت آثاره الآية السابقة عليها (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) (يونس/58) فهذه النعم الإلهية (الموعظة، شفاء الصدور، الهدى، الرحمة) هي التي تستحق ان يفرح بها الإنسان فرحاً يحركه للحصول عليها والاستزادة منها،

ص: 86


1- وأنا أكتب هذه الكلمات لازالت الاضطرابات والمواجهات في ولاية ميسوري الأمريكية بين السود وقوات الامن مستمرة منذ التاسع من الشهر الجاري مما دعا الى اعلان حالة الطوارئ بعد قتل مراهق أسود على يد الشرطة لأسباب عنصرية على ما قيل .
2- نهج البلاغة، الكتاب: 66.

وهي آثار مترتبة يوفرها القرآن الكريم للإنسان فأول أثر للقرآن هو أن يطرق باب النفوس الغافلة المتعلّقة بالدنيا وزخارفها اللاهثة وراء الماديات، والقلوب المملوءة بالرذائل فيعظها ويوقظها من الغفلة والجهل فيحركهم نحو الطريق الصحيح.فإذا لزموا هذا الطريق أخذ القرآن في تهذيب نفوسهم وتطهير قلوبهم بمدة قد تطول وقد تقصر بحسب استعداد الشخص وهمته وقوة عزيمته حتى يطهره منها ويشفيه من عللها وهذه هي المرتبة الثانية.

وحينئذٍ تكون قلوبهم صافية ونفوسهم صالحة متهيئة لتلقي الأخلاق الفاضلة والمعارف الحقة والأعمال الصالحة التي يرتقون بها في درجات الكمال، وهذا هو الهدى في المرتبة الثالثة.

وبذلك يستحقون منازل الرحمة ودار الكرامة عند ربهم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

لذا ورد في الدر المنثور في تفسير الآية عن ابن عباس (قل بفضل الله) القرآن (وبرحمته) حين جعلهم من أهل القرآن، وفي حديث مروي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) يبيّن فيه آثار القرآن التي تستحق أن يفرح الإنسان بها ويعمل لتحصيلها، قال (صلی الله علیه و آله) (إن اردتم عيش السعداء وموت الشهداء والنجاة يوم الحسرة والظل يوم الحرور والهدى يوم الضلالة، فادرسوا القرآن فإنه كلام الرحمن وحرز من الشيطان ورجحان في الميزان) (1) ويصف الإمام السجاد (علیه السلام) أنسه وفرحه بالقرآن بقوله (لو مات من بين المشرق والمغرب لما

ص: 87


1- بحار الأنوار: 89/ 19.

استوحشت بعد أن يكون القرآن معي) (1) فهذه هي النعم الحقيقية التي تستحق الفرح بها.والنعمة الأخرى التي يستحق الفرح بها رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي هدانا الله تعالى به للإسلام وعلّمنا القرآن وأرسله إلينا رحمة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}الأنبياء107، ونعمة أمير المؤمنين (علیه السلام) الذي ثبت به الإسلام وحافظ على إصالته ونقاوته وحفظ مسيرة المسلمين من الانحراف والتزييف.

لذلك كثرت الروايات في كتب المسلمين عامة أن المراد بفضل الله في الآية رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبرحمته علي بن أبي طالب (علیهما السلام)، ومن بعد أمير المؤمنين الأئمة الطاهرون (ع) ومن بعدهم العلماء العاملون المخلصون المتفانون في اعلاء كلمة الله تعالى وهداية الناس وخدمتهم، فإذا كان النظر إلى وجه العالم عبادة، وزيارته كمن زار رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونحو ذلك مما دلت عليه الروايات الشريفة ألا يكون مثل هؤلاء العلماء نعمة تستحق الفرح بوجودهم وأخذهم لموقعهم الذي يستحقونه؟ فالتفوا حولهم واستفيدوا منهم وخذوا بتوجيهاتهم.

وظاهر الآية أن فضل الله له معنى غير رحمته لارتباط كل منهما بباء السببية، وقد ذكر المفسرون وجوهاً لإعطاء معنيين مختلفين للفضل والرحمة منها:

1-((أن يكون المراد بالفضل ما يبسطه الله من عطائه على عامة خلقه، وبالرحمة خصوص ما يفيضه على المؤمنين فإن رحمة السعادة الدينية إذا انضمت إلى النعمة العامة من حياة ورزق وسائر البركات العامة كان المجموع

ص: 88


1- أصول الكافي: كتاب فضل القرآن، ح 13.

منهما أحق بالفرح والسرور وأحرى بالانبساط والابتهاج))(1) ويؤيده تقييد الرحمة بالمؤمنين في هذه الآية وغيرها.2-إن المراد(2) بالفضل الإلهي النعم الظاهرية أو قل المادية وقد ورد بهذا المعنى في عدة آيات كقوله تعالى (وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ) (النحل/ 14) وقوله تعالى (وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ) (الجمعة/10)، والرحمة إشارة إلى النعم الباطنية أو المعنوية.

3-إن الفضل الإلهي بداية النعمة ويساعد عليه المعنى اللغوي للفضل وهو بذل النعمة وهبتها، والمراد بالرحمة دوام النعمة، وهذا يناسب ما ذكرناه من تفسير فضل الله برسول الله (صلی الله علیه و آله) ورحمته بعلي بن أبي طالب (علیهما السلام) لأن النبي (صلی الله علیه و آله) كان السبب في هدايتنا إلى نعمة الإسلام والإمام علي (علیه السلام) سبب بقائه واستمراره وكما قيل أن النبي (صلی الله علیه و آله) علة محدثة وموجدة، وأمير المؤمنين (علیه السلام) علة مبقية.

4-أن يكون الفضل إشارة إلى نعم الجنة، والرحمة إشارة إلى العفو عن الذنب وغفرانه.

ص: 89


1- الميزان في تفسير القرآن: 10/ 77.
2- حكى هذه الوجوه في تفسير الأمثل: 5/ 499.

خطاب المرحلة 420 :كلا إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى

خطاب المرحلة 420 :كلا إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى(1)

(سورة العلق : 6-7)

متلازمة ثنائية بين الشعور بالاستغناء والطغيان يشير إليها القرآن الكريم بأسف وحسرة يدل عليها استعمال لفظ (كلا) التي قيل عنها أنها تعبير عن الردع(2)، وإذا طبّقنا هذا المعنى على الآية فتكون ردعاً عن توقعاتنا بأن الإنسان الذي يغنيه الله تعالى سيتصرف وفق السلوك الطبيعي الفطري الذي تقتضيه الآيات السابقة في بداية سورة العلق من الشكر والطاعة، لأنه سيطغى مع الأسف، فتكون بمعنى أداة الاستدراك (لكنّ)، وقيل أن معناها (حقاً).

الأسف والحسرة لوجود هذا المرض المعنوي في الإنسان على خلاف

ص: 90


1- الكلمة التي القاها سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) على طلبة البحث الخارج بمناسبة افتتاح العام الدراسي للحوزة العلمية يوم الاحد 27-شوال-1435 المصادف 24-8-2014.
2- الردع هنا يمكن تصوره عن توقّع النتيجة الطبيعية لاغداق النعم وهو الشكر وطاعة المنعم لأن الذي يحصل على خلاف ذلك وبذلك نردّ إشكال سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قده) حين قال: (وفكرة الردع خطأ فضيع، لأنه ليس في الآيات السابقات إلاّ الحق فلا معنى للردع عنها) (منة المنان: 1/ 568) فيجاب على القول بأن (كلا) موضوعة للردع بما قربنا من إمكان حملها على هذا المعنى، ويمكن أن يكون الردع عما يليه من الكلام أي عن مقام الطغيان كما في بعض التفاسير، أو نفسرها بمعنى قريب من الردع بناءً على تقريب تعرضها لجملة من التحوّلات بمقتضى القرائن إلى معنى غير مقطوع الصلة عن الأصل، كمعنى الاستدراك الذي ذكرناه ولا مانع من ذلك.

الفطرة وحكم العقل، إذ المفروض أن يكون رد الفعل على تحصيل الغنى هو الشكر والتواضع والاحسان، لا الطغيان والكفر والجحود والتمرد، وهذه المتلازمة المرضية في عالم القلب والنفس أخطر من المتلازمة المرضية في عالم الجسد كمرض الايدز لأن الثاني يفتك بالحياة الدنيوية الزائلة أما الأول فيفتك بالحياة المعنوية الباقية.والغريب أن تكون هذه الثنائية هي الحالة العامة لدى (الإنسان) الذي تذكره الآية وكأنه ملازم لذاته بحيث صحّت نسبتها إلى الإنسان كجنس إلا من عصم الله تعالى، قال أمير المؤمنين (علیه السلام): (الغنى يطغي) (1)، وكأن هذه العلاقة دائمية مطلقة، وقال (علیه السلام): (غرور الغنى يوجب الأشر) وهو أسوأ من البطر ويحذر (ع) من هذه النتيجة بسبب الشعور بالغنى، قال (علیه السلام): (إستعيذوا بالله من سكرة الغِنى، فإن له سكرة بعيدة الإفاقة) (2).

والطغيان في اللغة بمعنى تجاوز الحد، قال تعالى: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء) (الحاقة/11) وعبّر تعالى عن الفيضان بالطغيان قال تعالى: (فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) (الحاقة/5)، فتفيد الآية إن الإنسان يتجاوز حدود الشرع والعقل والفطرة فيتمرد على خالقه ويخرج عن زي العبودية، ثم يطغى على الناس ويتجاوز عليهم بمجرد أنه يرى نفسه قد استغنى بتوفر بعض الأسباب لديه، وهو شعور باطل لذا كان تعبير القرآن الكريم دقيقاً كما هو شأنه إذ قال (أن رآه) ولم يقل (أن استغنى) لأن شعوره بالغنى وهْم، إذ لا غني حقيقة إلا الله تعالى وكل الخلق

ص: 91


1- غرر الحكم: رقم 23.
2- غرر الحكم: رقم 2555.

محتاجون إليه (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (فاطر/15) وفي دعاء الإمام الحسين (علیه السلام) يوم عرفة (إلهي أنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيراً في فقري) (1)، وإذا وُصف أحدٌ بالغنى فهو نسبي أي بلحاظ توفّر احتياجاته المعاشية واستغنائه عن الطلب من الآخرين.والذي ينصرف إليه لفظ الغنى الموجب للطغيان هو غنى المال وهو معنى صحيح، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (إنما أتخوف على أمتي من بعدي ثلاث خلال: أن يتأوّلوا القرآن على غير تأويله، أو يتبّعوا زلة العالم(2)، أو يظهر فيهم المال حتى يطغوا ويبطروا) (3).

ومن كلمات أمير المؤمنين (علیه السلام) في صفة أعجب ما في الإنسان وهو القلب قال (علیه السلام): (إن أفاد مالاً أطغاه الغنى وإن أصابته مصيبة فضحه الجزع)(4)، وعنه (علیه السلام): (لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير العمل... إن استغنى بَطِر وفُتِن، وإن افتقر قنط ووهن) (5)، فما أعجب هذا الإنسان الذي لا يلتفت إلى مكامن ضعفه وانحرافه.

ومن الحكايات في هذا المجال ننقلها للاتعاظ: ما روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال جاء رجل موسر إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) نقي الثوب فجلس إلى

ص: 92


1- مفاتيح الجنان: 473.
2- أي يتتبعون أخطاء العلماء وينشرونها لتسقيطهم، أو انهم يتبعون ما تشابه من سلوك العالم ويجعلونه ذريعة لزلاّتهم.
3- بحار الأنوار: 72/ 63ح7.
4- نهج البلاغة: الحكمة 108.
5- نهج البلاغة: الحكمة 150.

رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فجاء رجل معسر درن الثوب فجلس إلى جنب الموسر، فقبض الموسر ثيابه من تحت فخذيه، فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): أخِفتَ أن يمسّك من فقره شيء؟ قال : لا، قال: فخفتَ أن يصيبه من غناك شيء؟ قال: لا ، قال: فما حملك على ما صنعت؟ فقال: يا رسول الله: إنّ لي قريناً يزيّن لي كل قبيح، ويقبّح لي كل حسن، وقد جعلتُ له نصف مالي.فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أتقبل؟ قال: لا، فقال له الرجل: ولمَ؟ قال: أخاف أن يدخلني ما دخلك). (1)

أقول: هذا الفهم –أي كون غنى المال موجب للطغيان- صحيح إلا أن الأمر لا يقتصر عليه، فقد يطغى الإنسان بكثرة الولد والأنصار، قال تعالى: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) (التكاثر/1-2) وقال تعالى: (واعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ و تَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ) (الحديد/20) وقد يطغى بالعلم فيعتدُّ بنفسه (قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) (طه/95- 96) (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) (القصص/78).

ولاشك أن من أقوى أسباب الطغيان السلطة بكل أشكالها وليس الحكّام فقط، كما حصل لفرعون (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) (طه/24) حتى بلغ به الطغيان حدّاً أن يقول (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) (النازعات/24) لأن السلطة تتضمن أدوات القوة والهيمنة والنفوذ (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (الزخرف/51).

ص: 93


1- الكافي: 2/ 262 ح1.

والسبب الجامع للطغيان هو حب الدنيا والركون إليها والتعلّق بزخارفها (فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات/37-39)، والأنانية وتزيين الشيطان، عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (من شغل نفسه بغير نفسه تحيّر في الظلمات، وارتبك في الهلكات، ومدّت به شياطينه في طغيانه).(1).وهنا ننقل التفاتة أخلاقية لسيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قده) قال ((وإنما يشعر بالاستغناء إذا (رآه) يعني رأى نفسه بالجنبة الاستقلالية، أو رأى نفسه مستغنياً، أو أنّ رؤيته للنفس هي الاستغناء، أو أنّ هناك ملازمة بين رؤية النفس والاستغناء، فيكون المحصَّل: إن رؤية النفس سببٌ للشعور بالاستغناء، والشعور بالاستغناء سبب للطغيان، أعاذنا الله من كل شر). (2)

فلينتبه الطاغي بكل مستوياته وأشكاله الى أن عاقبته سيئة في الدنيا والآخرة (وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى) (طه/81) (هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) (ص/55) (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِلْطَّاغِينَ مَآباً) (النبأ/21-22) (فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات/37-39)، وضرره في الدنيا خطير وسريع، عن أمير المؤمنين (علیه السلام): (ما أسرع صرعة الطاغي) (3).

ولا شك أن من أسوأ اشكال الطغيان عصيان أوامر الإمام الحجة المنصوب

ص: 94


1- نهج البلاغة: الخطبة 157
2- منّة المنان: 1/ 569.
3- غرر الحكم: 9526.

على الخلق ومن نصّبه الأئمة المعصومون (علیهم السلام) حججاً على الخلق ورد في تفسير قوله تعالى (وَوَضَعَ الْمِيزَانَ*أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ) (الرحمن/ 7-8)، عن الإمام الرضا (علیه السلام) قال (الميزان أمير المؤمنين (علیه السلام) نصبه لخلقه) وفي معنى (ألا تطغوا في الميزان) قال (لا تعصوا الإمام)، ومثلها رواية عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال (لا تطغوا في الإمام بالعصيان والخلاف)، وقال: (أطيعوا الإمام بالعدل ولا تبخسوه حقه) (1).وورد عن الإمام الصادق في تفسير قوله تعالى (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ) (الزمر/17)، فخاطب (ع) أحد أصحابه بذيل هذه الآية (أنتم هم -أي المقصودون بقوله تعالى فبشر عباد- ومن أطاع جباراً فقد عبده) وعن الإمام السجاد (علیه السلام) قال (أيها المؤمنون لا يفتننّكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في الدنيا) وعن الإمام الباقر (علیه السلام) قال (إياكم والولائج فإن كل وليجة دوننا فهي طاغوت) .

وروي عن الإمام الصادق قال (مرَّ عيسى بن مريم على قرية قد مات أهلها... فقال: يا أهل هذه القرية فأجابه منهم مجيب: لبّيك يا روح الله وكلمته، فقال: ويحكم ما كانت أعمالكم؟ قال: عبادة الطاغوت وحب الدنيا... قال: كيف كانت عبادتكم للطاغوت؟ قال: الطاعة لأهل المعاصي) .

ولأن الطغيان يزداد ويتركز في سلوك الفرد إذا استكبر عن سماع النصيحة والموعظة والارشاد، ولم يراجع نفسه ويحاسبها، {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} الذاريات53 {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}الطور32،

ص: 95


1- راجع مصادرها في تفسير البرهان: 9/ 181.

عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (ومن طغى ضلّ على عمد بلا حجة) (1) وحينئذ يتجذّر في ذات الإنسان وطبيعته حتى يصبح صاحبه مثالاً للطغيان فيسمّى (طاغوتاً) وحينئذ يكون قدوةً للطغيان والتمرد والمعصية وداعياً لها ومعيناً عليها ويسنّ القوانين المخالفة لشريعة الله تعالى بسوء توفيقه فيضل أمة من الناس باتباعه، قال تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة/257).ولذا كانت مجاملة المستغنين الطاغين ومداهنتهم بحجة كسبهم وهدايتهم من التصرفات الخطرة على الدين خصوصاً للمتصدّين في العمل الرسالي لأنها تؤدي إلى مزيد من التمرد والطغيان وإغراء لهم بالمضي في هذا الطريق وإقصاء الفقير، قال تعالى ملفتاً نظر النبي (صلی الله علیه و آله) إلى هذه الحقيقة ومحذراً منها (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى) (عبس: 5-10).

وانتهت الآيتان محل البحث بإعطاء العلاج لتطهير القلب والنفس من هذه الرذيلة {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى}العلق8 فإذا التفت إلى هذه الحقيقة وإنه سيموت ويرجع إلى ربِّه، فإنه يتيقن من أن غناه وهمٌ زائل وإن كل ما بيده سيفنى ويزول، وسيحاسبه ربّه على طغيانه وتمرده ويأوي إلى شر مآب، ولذا ورد في بعض الأدعية ما يذكّرنا بهذه الحقيقة (الحمد لله الذي قهر عباده بالموت والفناء) ليرغم أنف الطاغين .

وإذا انتقلنا إلى تطبيقات الآية لنحوّل القرآن الكريم إلى واقع عملي، فإنّ

ص: 96


1- الكافي: 2 / 394

هذه المتلازمة المنافية لمنطق العقل تتجلى في حياة الإنسان فرداً ومجتمعاً، ولنبدأ من داخل الأسرة حيث يغترّ الرجل بسلطته وقيمومته فيطغى ويظلم أهل بيته وكم رأينا من رجال لما صار بأيديهم مال أهملوا أهلهم وتوجهوا إل اللهو والمتعة أو الوقوع في أسر الشهوات الجنسية أو عدم مراعاة مشاعر زوجته ونحو ذلك فيخرب بيته بيده.والمرأة تعتدّ بنفسها لجمالها أو لأنها من الأسرة الفلانية أو لأن لها مرتباً شهرياً جيداً أو لشهادتها الراقية ونحو ذلك فتشعر بالاستغناء عن الرجل وتطغى وتتمرد وتتعالى وتقصّر في واجباتها فتنهدم أواصر العلاقة الزوجية.

ومن الأمثلة على ذلك طغيان بعض حملة العلم واستعلاؤهم وترفعهم عن الآخرين ورفضهم النصح والتذكير واستهزاؤهم بمن يقوم بذلك، وفرض وضع خاص للتعامل معهم كعدم الرضا الا بتقبيل اليد وإظهار التبجيل والتعظيم لهم ونحو ذلك.

أما طغيان الزعامات ومن بيدهم شيء من السلطة فقد ملأ التاريخ بمصائبه وكوارثه، وكذا الزعامات الاجتماعية كبعض رؤساء العشائر والمتنفذين وأمثالهم.

خذ مثلاً أيضاً الغرب الذي اغترّ بالتقدم العلمي الذي توفّر لديه حتى غزا الفضاء وظن أنه قادرٌ على أن يحقق كل ما يريد فطغى وتجبر واستغنى عن ربّه وكفر به وصار التفكير المادي هو قائده ورائده ونسي ضعفه وعجزه وقصوره ونحوها من اللوازم لذاته حتى يأتيهم أمر ربهم {حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا

ص: 97

حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}يونس24وقد شهد التاريخ الماضي والحاضر كيف ينهار الطغاة وهم في أوج عنفوانهم كفرعون، (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ* إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) (الشعراء/53-54) وكان جزاؤهم (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ) (طه/78) وكقارون (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ) (القصص/81) وكهارون العباسي الذي يخاطب السحاب (أينما تمطري فخراجك لي) وإذا به يمرض مرض الموت وهو في ريعان الشباب فيأمر بحفر قبره وكان يقف عليه ويقرأ الآيات الكريمة (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ) (الحاقة/28-29) وشهدنا في العصر الحديث كيف قُتل الرئيس المصري أنور السادات عام 1981 وهو في قمة طغيانه ويستعرض قواته المسلحة في ذكرى 6/تشرين الأول ويملؤه زهو القوة والمقدرة، وهكذا.

على كل هؤلاء وكل من يطغى ويتمرد ويستكبر أن يستحضر قدرة الله تعالى، قال تعالى {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} (فصلت/15) أعاذنا الله تعالى وإياكم من تزيين الشيطان وخداع الدنيا والنفس الأمارة بالسوء.

ص: 98

خطاب المرحلة 421 :{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}

خطاب المرحلة 421 :{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}(1)

[عبس : 24]

(فلينظر) دعوة من الله تعالى للنظر بتدبر وتأمل وتفكر وليس مجرد النظر بالعين، وإن كان هذا النظر فيه فائدة نفسية وصحية كما أثبت العلم الحديث خلال هذه الأيام.

وهذه الدعوة موجهة الى (الانسان) كل انسان يمتلك مقومات الإنسانية بأن يكون له عينٌ يبصر بها وله اذن يسمع بها ،وله عقلٌ يفهم به ،وليس كالذين (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) الأعراف : 179.

والحياة كلها حولنا مليئة بالعبر والدروس ،لكن الله تعالى اختار لنا الطعام لنتدبر فيه ونأخذ منه الموعظة لأنه ألصق الاشياء بالإنسان في هذه الدنيا وحاجته اليه يومية ومستمرة وبه ديمومة الحياة ،فأخذ العبرة منه يكون سهلاً ومؤثراً.

وحينئذٍ يحصل الانسان من هذا النظر والتأمل على عدة دروس ويلتفت الى عدة امور :

ص: 99


1- كلمة سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع أساتذة وطلبة فرعي جامعة الصدر الدينية في كربلاء والحسينية في بغداد ومع وفود شبابية من قلعة سكر ومدينة الصدر يوم السبت 12شوال 1435 المصادف 9/ 8/ 2014.

الأول : في الأية احتجاج على منكري وجود الخالق فيُخاطب عقولهم ويقول لهم أنظروا الى هذه المفردة في حياتكم التي تشتركون جميعاً في التعاطي معها ،كيف وجدت وهُيئت لها الظروف المناسبة ولاحظوا تنوع النباتات وكلها ترجع في أصلها الى عناصر واحدة وهي المعروفة كيميائياً وانما أختلفت في نسب تركيبها ،ولاحظوا تنوع استخداماتها فبعضها طعامٌ أساسي وبعضها فواكه للتمتع لكم وبعضها للإنعام وبعضها للدواء وبعضها للألبسة أو الفراش كالقطن والكتان ونحو ذلك ،وحينئذٍ لابد أن يحكم العقل بوجود خالق مدبر حكيم عالم قادر ولا يمكن ان تحصل كل هذه التفاصيل في هذا الطعام من دونه، ومن يقول ذلك –كالملحدين- أو يجعل له شريكاً لا يمتلك هذه الصفات فإنّه لا يحترم عقله .الثاني : وفي الآية احتجاج على منكري المعاد ودليل على قدرة الله تعالى على بعث الأموات ونشرهم فكما أن الأرض الميتة إذا سقيت بالماء تنبعث فيها الحياة وتخرجُ منها انواع الشجر والثمار فكذلك يكون بعث الموتى من قبورهم ،ومثل هذه الاحتجاجات كثيرة في القرآن الكريم كقوله تعالى (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ) فاطر:9 (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ،ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الحج:5-6 ،وقال تعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فصلت : 39.

ص: 100

الثالث : شكر الله تعالى والاعتراف بالعجز عن تعداد نعمه فضلاً عن شكرها ،فلو تأمل الانسان في الطعام وانواعه وكيفية وصوله اليه لأيقنَ بان نعم الله تعالى لا تُعّد ولا تحصى ،خُذ مثلاً رغيف الخبز الذي يشترك كل الناس في تناوله وهو الجزء الاساسي من الطعام وتأمل فيه النعم ابتداءاً من خلق الأرض وشقها حتى تستطيع مص الماء واخراج النبات وتجهيزها بالعناصر الأساسية لتغذية النباتات وقابلياتها على الانبات ،ومن فلق الحبة وخلق البذرة التي هي أصل النبات ،وأنزل من السماء الماء الذي هو أصل كل شيء حي وفق منظومة عجيبة من تبخر الماء وتكاثفه ونزوله، وخلق الشمس والهواء الضرورية لنمو النبات وتغذيته ،ومن ثم تعليم الانسان الزراعة والعناية بالسنابل حتى تنضج ثم حصدها وتنقيتها ثم نقلها وطحنها وعجنها وخبزها فكم من الناس عملوا ،وكم من الاجهزة والآلات سُخرت لك حتى يصل اليك هذا الرغيف الذي لا يلتفت اليه أحد ولا ينظر الى ما وراءه من النعم ،لاحظ بقية الآية (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا *ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا *فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) عبس : 24 – 32.الرابع : أن ينظر الانسان في طعامه ليتأكد من كونه حلالاً طيباً ،لأن الذين يأكلون الحرام (إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)النساء:10،ولكي يكون الطعام حلالاً لابد ان تنظر في عدة جهات:

- (منها) نفس الطعام كأن يكون اللحم مذكى وغير مخلوط بمادة محرمة او نجسة كبعض الحلويات المخلوطة بجيلاتين حيواني من دولة غير مسلمة أو

ص: 101

الصمون الذي يُطلى بفرشاة مصنوعة من شعر الخنزير ،أو يكون الطعام غير مأذون في تناوله من قبل صاحبه لسبب أو أخر.- (ومنها) طريقة تحصيله وكسبه فلا يكون بمعاملة محرمة وما أكثرها في السوق حتى ورد في الحديث الشريف عن الامام الصادق (علیه السلام) قال:) من أراد التجارة فليتفقه في دينه ليعلم بذلك ما يحلّ لهُ مما يحرم عليه ،ومن لم يتفقه في دينه ثم أتجرّ تورط في الشبهات) (1) .

أو يسرق المال العام بطريقة غير شرعية ،أو يأخذ حق غيره بحيلةٍ وخداع ونحو ذلك ،فهذه الأمور كلها يجب الانتباه اليها حتى يضمن كون الطعام حلالاً طيباً ،ولكل شريحة في المجتمع كالأطباء والمحامين والتجار والصيادلة والعمال والمدرسين وغيرهم فقهٌ خاص بهم ،وقد نشرنا العشرات من الكراريس في هذا المجال.

الخامس : أن يلتفت الى الجانب المعنوي للأية فان الطعام يُضرب مثالاً للعلم والمعرفة لأن كلاً منهما غذاء ،فأحدهما للبدن والأخر للروح عن زيد الشحام عن أبي عبد الله (علیه السلام) :(في قول الله عز وجل (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ) قلتُ :ما طعامه قال (علیه السلام) : علمه الذي يأخذه عمن يأخذهُ) (2).

وكما ان حاجة البدن للطعام دائمة ومستمرة ،فأن حاجة الروح والقلب للعلم والمعرفة والموعظة والتذكير بالله تعالى دائمة ومستمرة قال تعالى (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) طه:114 ،وروي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله (إذا اتى عليَّ يومٌ لا

ص: 102


1- وسائل الشيعة : 12/ 283 أبواب أداب التجارة باب 1 ح 4.
2- الكافي :1/ 39 حديث 8.

أزداد فيه علماً يُقربني الى الله فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم) (1) .فلابد أن ينظر الانسان في أحكامه الشرعية ومواقفه في مختلف شؤون الحياة ومنهجه وسلوكه عمن يأخذها ،وهل إن ذلك الأخذ والرجوع بحجة شرعية معتبرة أم لا ،فيلتفت الى كون مصادرها صالحة ليسعد الانسان روي عن الامام الجواد (علیه السلام) قوله (من أصغى الى ناطقٍ فقد عبدهُ ،فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله ،وإن كان الناطق ينطق عن لسان ابليس فقد عبد ابليس) (2) وهذا هو حال أغلب الناس ينعقون مع كل ناعق ويميلون مع كل ريح بحسب اهوائهم وامزجتهم وانفعالاتهم فيصبحون لقمة سائغة لكل من يريد أن يعبّئهم لمشروعه الخاص.

وتراهم يستسلمون للإشاعات والأكاذيب التي تروجها وسائل الاعلام وكأنها حقائق حتى أصبحت هذه الاشاعات من أفتك الاسلحة التي توجه الى الخصوم لتقضي عليهم من دون قتال وتم القضاء معنوياً على جيوشٍ وعلى شخصياتٍ بالإشاعة والافتراء والتسقيط كمكائد عمرو بن العاص ومعاوية ضد جيش أمير المؤمنين (علیه السلام) وتسقيط سعد بن عبادة وما حصل للإمام الحسن ع مع جيشه وغيرها من الشواهد ،وما تمر به البلاد من كارثة أمنية وإنسانية شاهد حي على ذلك.

ولو أخذ الناس بالتعاليم القرآنية وتحققوا عن مصادر الخبر لما وقعوا في الأوهام والشكوك قال تعالى (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ

ص: 103


1- ميزان الحكمة : 6/ 145 عن كنز العمال حديث 28687.
2- تحف العقول :336.

وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) النساء:83، وقال تعالى(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) الحجرات : 6.

ص: 104

خطاب المرحلة 422 :(وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)

خطاب المرحلة 422 :(وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)(1)

(سورة محمد/38)

تبيّن الآية سنة إلهية وقانوناً ثابتاً وفي نفس الوقت توجّه تحذيراً لكل الناس، مفاده أن المشروع الإلهي الذي حملته رسالة الاسلام العظيمة ماضٍ وسائر في طريق تحقيق الأهداف المرسومة له، وإنَّ تقاعسَ واعراض البعض –مهما كثر عددهم- لا يعرقل هذه المسيرة الإلهية وإنما تُعرض الرسالة عليهم وتطلب النصرة منهم لطفاً بهم من الله تعالى وامتناناً عليهم ليحصلوا على شرف المشاركة وثواب العاملين في الدنيا والآخرة، فإذا أعرضوا عن هذا التكليف ولم يتحملوه فإنهم هم الخاسرون وسيوفق الله تعالى أقواماً غيرهم لينهضوا بهذه المسؤولية ويحصلوا على نتائجها المباركة.

والخطابات القرآنية عامة شاملة لكل الأجيال ولكل الأزمان فلا يتصور أحد أن هذه الآية خاصة بالقوم الذين كانوا حول النبي (صلی الله علیه و آله) وإنه تهديد لهم فقط، وإنما هي سنة إلهية عامة ثابتة (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) (فاطر/43).

ص: 105


1- من كلمة سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من طلبة جامعة ميسان وطلبة بعض المدارس القرآنية وعدد من القيادات الميدانية لمتطوعي لواء الشباب الرسالي وبعض المنظمات الانسانية يوم السبت 17/ذ ق/1435 المصادف 13/ 9/ 2014.

وقد أشارت عدة آيات قرآنية إلى هذه السنة الإلهية ،قال تعالى (إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التوبة/39) ،(وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ) (الواقعة/60- 61) ،(إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) (المعارج/41).وقد تركت الآية كلمة (تتولوا) بلا ذكر لمتعلقها، وإن التولي يكون عن ماذا؟ لتكون مطلقة وتكون السُنة جارية في كل تولي واعراض سواء تعلق بأصول الدين أو فروعه أي مطلق طاعة الله تعالى.

إذ من الناس من يعرض ويتولى عن أصل الإيمان والدين ويتجرد منه ويتحول إلى لا ديني ويتبنى أفكاراً وأيديولوجيات مناهضة للدين ومشككة فيه بأي عنوان كان كالملحد أو الكافر ونحو ذلك، وهذا المورد من التولي والاعراض ذكرته آية أخرى قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ) (المائدة/54).

ومنهم من يؤمن نظرياً بالإسلام لكنه لا يقوم بالتزاماته وقد ذكرت الآيات المتقدمة على الآية محل البحث من سورة محمد صوراً من الخذلان الذي يصيب الانسان كعدم الانفاق في سبيل الله تعالى وكالقعود عن الجهاد في آية سورة التوبة المتقدمة، أو أي فرصة من فرص الطاعة التي يهيئها الله تعالى للإنسان كمساعدة محتاج أو قضاء حاجة مؤمن فإنه إن فوّتها ولم يستثمرها فإن الله تعالى سيقيِّض من يقوم بها وهو شاكر لله تعالى على توفيقه.

ص: 106

ولا شك أنّ من أكثر الموارد التي تظهر فيها هذه السنة الإلهية هي طاعة من أمر الله تعالى بطاعته وهو النبي (صلی الله علیه و آله) ومن بعده الأئمة المعصومون (علیهم السلام) ثم العلماء العاملون المخلصون النوّاب عن الإمام(ع) في غيبته ، فإنّ من يتقاعس عن طاعتهم والالتزام بتوجيهاتهم فضلاً عمّن يشكّك فيهم ويفتري عليهم ويسقّطهم فإن التوفيق يُسلبُ منه ويُمنَح إلى آخرين مطيعين مخلصين (ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد/38) بل يكونون ثابتي الإيمان ذوي همم عالية وإصرار على العمل.وهذا الابتلاء مرّت به الامم ففشل اكثرهم وتولّوا واعرضوا فاصيبوا بأسوء النتائج، ماذا كان دعاء أمير المؤمنين (علیه السلام) حينما خذله أصحابه وتقاعسوا وتفرقوا، (قال (علیه السلام) في سحر اليوم الذي ضُرب فيه: ملكتني عيني وأنا جالس، فسنح لي رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقلت: يا رسول الله، ماذا لقيتُ من امتك من الأَوَد –أي الاعوجاج- واللَدد- أي الخصام-؟ فقال: ادع عليهم، فقلتُ: أبدلني الله بهم خيراً منهم وأبدلهم بي شراً لهم مني). (1)

خذ مثلاً السيد الشهيد الصدر الثاني (قده) فإن كثيراً من العناوين الكبيرة وغيرهم داخل الحوزة وخارجها خذلوه وعارضوه وشككوا فيه وفي حركته فحرموا من هذا اللطف الإلهي، وهيّأ الله تعالى للسيد الشهيد شباباً مليئين بالإيمان والحيوية والتفاني أخذوا المواقع المخصّصة لأولئك الذين حرموا أنفسهم من هذا الفضل العظيم، واستمرت هذه الحركة المباركة حتى بعد استشهاده ومرور (16) سنة على رحيله، لكن صدى حركته اليوم وآثارها

ص: 107


1- نهج البلاغة: 135، الخطبة 70.

المباركة أوسع مما كانت في حياته الشريفة.وإذا أردنا أن نعرّج على كربلاء ونأخذ الشواهد منها، فهناك شخصان نقرّب جريان سنة الاستبدال عليهما بحسب الظاهر.

أحدهما: عبيد الله بن الحر الجعفي أحد الفرسان المعروفين بالفتك وهو معدود من شيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) وله نسخة يرويها عنه (علیه السلام) – بحسب رجال النجاشي-، التقاه الحسين (علیه السلام) في طريقه إلى كربلاء ودعاه إلى نصرته فامتنع عبيد الله عن الإجابة وقدّم للحسين فرسه المسماة بالمحلّقة وقال ((هذه فرسي المحلّقة فاركبها فوالله ما طلبت عليها شيئاً إلاّ أدركته ولا طلبني أحد إلا فتّته حتى تلتحق بمأمنك وأنا ضمين بعيالاتك أؤديهم إليك))، فقال الحسين (علیه السلام) (لا حاجة لنا فيك ولا في فرسك، وما كنت متخذ المضلّين عضداً)(1) فنصحه الحسين (علیه السلام) بأن يغيّب وجهه ولا يشهد واعيته وقال (علیه السلام) (فوالله لا يسمع اليوم واعيتنا أحد ثم لا يعيننا إلاّ كبّه الله على منخريه في النار).

ثانيهما: الحر الرياحي الذي كان قائداً كبيراً في جيش الأمويين وهو الذي قاد الكتيبة التي اعترضت الإمام الحسين (علیه السلام) في طريقه ومنعته من العودة إلى أهله ودياره ورافقته حتى نزل كربلاء لكنه في لحظة من لحظات التوفيق والألطاف الإلهية وقف وتأمل في مصيره وعاقبته وخيّر نفسه بين الدنيا المزخرفة التي كان يتمتع بها في ركاب بني أمية لكن عاقبتها النار، وبين القتال والشهادة بين يدي أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) وختامها مسك والفوز والجنة

ص: 108


1- راجع تفصيل ترجمته ومصادرها في أدب الطف للمرحوم الخطيب السيد جواد شبر: 1/ 94-100.

ورضوان الله فقال كلمته التي نقلت عبر الأثير إلى كل الأجيال (لا أختار على الجنة شيئاً أبداً).محل الشاهد ان هذا المقعد في قافلة شهداء الخلود لما تولى عنه عبيد الله وأعرض عنه ملأه غيره وهو الحر الرياحي وفاز به ومضت القافلة في طريقها، وبقي عبيد الله نادماً متحسراً على تفويت هذه الفرصة فالتحق بالمختار لأخذ الثأر ثم اختلف معه والتحق بمصعب ثم اختلف معه وقاتله.

ومن شعره المعبّر عن عظيم حسرته:

فيا لَكِ حسرةً ما دمتُ حياً *** تَردُّد بين حلقي والتراقي

حسين حين يطلبْ بذل نصري *** على أهل الضلالة والنفاق

غداة يقول لي بالقصر قولاً *** أتتركنا وتزمع بالفراق

ولو أني أواسيه بنفسي *** لنلت كرامة يوم التلاق

مع ابن المصطفى نفسي فداه *** تولى ثم ودّع بانطلاق

فلو فلق التلهف قلبَ حي *** لهمَّ اليوم قلبي بانفلاق

فقد فاز الاولى نصروا حسيناً *** وخاب الآخرون إلى النفاق(1)

ولابد أن نلتفت إلى أن هذا الاستبدال من الله تعالى ما كان ليحصل في الخارج إن لم يسبقه استبدال في داخل النفس من قبل الشخص نفسه فاستحق ذلك التبديل (أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ) (التوبة/38) (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) (البقرة/61) .

ص: 109


1- أدب الطف أو شعراء الحسين (عليه السلام) للمرحوم السيد جواد شبر: 1/ 96.

وهذا كله تطبيق لسنة الله تعالى (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/11) سواء بإتجاه الخير أو الشر، ولذا كان من الادعية الواردة عن اهل البيت (علیهم السلام) (وتجعلني ممن تنتصر به لدينك ولا تستبدل بي غيري)(1).فعلينا أن نكون حذرين يقظين ونبادر إلى أي فرصة للطاعة ولا نفوّتها أو نؤخرها أو نعتقد أنه لا أحد يستطيع أن يأخذها منّا ويملأ مكاننا فيها، فإن الله تعالى غني عن خلقه ويستبدل بالمقصرين والعاصين من يحبّهم الله تعالى ويحبونه ثم لا يكونوا أمثالكم.

ص: 110


1- مفاتيح الجنان :327 ادعية ليالي شهر رمضان.

خطاب المرحلة 423 :انتصار آمرلي ... الأسباب والدلالات

خطاب المرحلة 423 :انتصار آمرلي ... الأسباب والدلالات(1)

لقد أثلج المقاتلون العراقيون الغيارى صدورنا وأعادوا شيئاً من البسمة إلى الوجوه التي علاها الحزن والأسى، حينما توّجوا اليوم انتصاراتهم على خوارج العصر المجرمين المتعطشين للدم والخراب بتحرير مدينة آمرلي الصامدة المجاهدة وفك الحصار عن أهلها ودخول القوات الظافرة من جيش وشرطة وفصائل مسلحة وحشد شعبي لها وفتح الطرق المؤدية إليها.

إن النصر لا شك من الله تعالى [وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ] (آل عمران:126) [إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ] (آل عمران:160) ولكن لهذا النصر أسباباً ومقدمات، منها:

1-صمود ابناء مدينة آمرلي وثباتهم وتقديم أروع صور المقاومة والتصدي للوحوش المتعطشة للدماء والخراب الذين حاصروا المدينة من جميع جهاتها أكثر من ثمانين يوماً وما انفكوا خلالها من محاولات إحداث خرق لدخولها وانزال الكارثة على اهلها ،لكن ابناء آمرلي الشرفاء الشجعان قدموا نموذجاً لشجاعة وإيمانِ وصبرِ وثبات العراقيين دفاعاً عن مقدساتهم

ص: 111


1- صدر البيان بتاريخ 4/ذق/1435 المصادف 31-8-2014 في نفس يوم تحرير آمرلي التي يسكنها التركمان الشيعة وتقع بين تكريت وكركوك

وحرماتهم وشاركَ في تسطير هذه الملحمة الرجال والنساء والاطفال وردّوا الاعداء في كل مرة بعد إن كانوا يكبدونهم خسائر فادحة في الأشخاص والمعدات حيث استعملت الدبابات والمدرعات، وكان من بين القتلى عدد من قادتهم الاشرار وبذلك ستكون هذه المدينة الصامدة البطلة بإذن الله تعالى منعطفاً في سير العمليات المباركة لتطهير الارض من هؤلاء الارجاس وعقيدتهم الشيطانية .2-شعور الجميع بالمسؤولية وتحمّلهم لها وقيامهم بواجبهم، ابتداءً من مراجع الدين الذين يعون دورهم الكبير والمؤثر فاتخذوا الموقف الحازم المناسب للحدث من دون مجاملة ومداهنة، إلى السياسيين الذين غلّبوا المصالح العامة على مصالحهم الخاصة وشاركوا في التعبئة العامة وتأسيس الجيش الرديف للجيش النظامي، إلى الشعب الذي هبّ لنصرة إخوانهم المستضعفين المظلومين تلبية لقوله تعالى: [وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً] (النساء:75) وللحديث الشريف: (من سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين ولم يجبه فليس بمسلم)(1).

وهكذا توحّد الجميع حول هذه القضية فبارك الله تعالى لهم في وقفتهم

ص: 112


1- الكافي: 1/ 164، بالإسناد عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم ومن سمع رجلا ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم).

وأنزل عليهم النصر.3-الاهتمام الإعلامي الذي نالته هذه القضية بعد أن مرّت أسابيع على حصار آمرلي من تمام جهاتها من دون أن يذكرها أحد إلا أفراد قلائل كانوا يتواصلون مع أهلها عبر الهواتف ويتعرفون على احتياجاتهم وكيفية مساعدتهم وكانوا يتحركون على طيران الجيش الأبطال ليقوموا بإيصال الغذاء والدواء والسلاح الذي هم أحوج ما يكون إليه، وبقي النسيان يلفها حتى وقعت الكارثة على إخواننا المسيحيين والإيزيديين في سهل نينوى وفي جبل سنجار وسلط الإعلام عليهم وحصل تحرك دولي لمساعدتهم وإنقاذهم فشعر المتخاذلون والانتقائيون بالحرج وتحركوا باتجاه هذه المحنة، فبدأ الإعلام بتغطيتها وخرجت المظاهرات لنصرة المحاصرين والمطالبة بنجدتهم، ممّا ساهم في إيجاد موقف وطني موحّد.

4-التغييرات السياسية خلال الشهرين الماضيين والتي اقترنت بتنازلات ساهمت بفك بعض العقد وإزالة بعض العقبات وأعادت الأمل في توحيد العراقيين والمضي بمشروع وطني واسع يحفظ للجميع حقوقهم ويزيل مخاوفهم، فدفع عدداً أكبر للانخراط في عمليات تحرير البلاد.

ولهذا النصر دلالات ومعطيات ومواعظ، منها:

1- إن العراقيين قادرون على أن ينهضوا ويبنوا بلادهم ويحموا شعبهم ويتقدموا في طريق السيادة والحرية والازدهار والوحدة، إذا اتحدوا وأخلصوا نياتهم وشحذوا هممهم وأطاعوا قياداتهم المخلصة العاملة، ولقد حاولت بعض وسائل الإعلام والجهات السياسية في الداخل والخارج أن تنسب الإنجاز اليوم

ص: 113

إلى مشاركة الطيران الغربي في العمليات إلا أن المراسلين الإعلاميين في ساحة العمليات نفوا وجود هذه المشاركة حتى على مستوى إلقاء المعونات الغذائية.2- إن المجرمين المتوحشين جبناء ينهزمون أمام صمود ذوي البصائر والعقيدة وليس لهم وسيلة إلا الولوغ في الجريمة لإرهاب الخصم وهزيمته بالرعب.

3- إن التحشيد الإعلامي وإثارة الرأي العام تجاه قضية معينة يضغط على المعنيين بها ويأتي بنتائج مثمرة، ونحن الآن أمام امتحان آخر لا يقلّ عن كارثة آمرلي وهم ضحايا قاعدة سبايكر(1) الذين تستنهضنا دماؤهم لمعرفة تفاصيل ما جرى والمسؤولين عن الجريمة وإنزال العقوبات العادلة بهم.

4- ونعلنها صريحةً في وجوه العشائر وأبناء المدن التي دعمت الارهاب وأحتضنته وأمدّتهُ بالشباب المغرر بهم وبالمال والسلاح أن يثوبوا الى رشدهم وأن يغسلوا هذا العار الذي لحقهم حتى اقترنت عناوينهم بكل الجرائم الوحشية

ص: 114


1- بعد سقوط الموصل يوم الثلاثاء 11/ شعبان/ 1435 الموافق 10/ 4/ 2014 بيوم واحد سقطت تكريت مركز محافظة صلاح الدين وحاصر المسلحون قاعدة سبايكر الجوية القريبة منها حيث يتواجد الآف الجنود من المتدربين الجدد وطلبة كلية القوة الجوية وبعض المتراجعين من مدينة الموصل، فنصب الارهابيون كميناً لهم خارج القاعدة واستدرجوهم بمساعدة بعض آمري المعسكر الذين أشاعوا أمراً بالذهاب الى أهاليهم من دون توفير أي حماية لهم أو سيارات تنقلهم الى المدينة فاقتادهم المسلحون على شكل مجاميع الى حيث اعدموهم رمياً بالرصاص مكبّلي الأيدي ودفنوهم في مقابر جماعية ولا يعرف عددهم بالضبط لكن الرقم المعلن للضحايا هو (1700) وقد تجاهلت الحكومة هذه الحادثة في أيامها الأولى حتى وجّه سماحة المرجع (دام ظله) بتكثيف الإعلام عليها وابرازها بفعاليات شعبية.

المرتكبة، وعليهم أن يعبّروا عن ذلك بنهضةٍ شريفة غيورة ويشاركون فيها ابناء الوطن كافة لدحر هذا الخطر الماحق، وإلا سَيُسجِّل التاريخ عليهم هذه الخيانة والغدر والروح الشريرة حيث اشتركوا مع الاغراب المتوحشين في قتل اخوانهم الابرياء من رجالٍ ونساءٍ واطفال لا لشيء إلا لأن لهم مشكلة مع هذه الجهة السياسية أو ذاك الحاكم، وإذا كانوا يعتقدون أن عندهم مطلباً حقاًّ فليحققوه بالحوار والقلوب المفتوحة.5-إدامة هذا الزخم المعنوي وهذا التوحد ولنستثمر هذه الأجواء الإيجابية لإنجاح المشروع الوطني.

وأوصي أبناءنا المقاتلين أن لا يغترّوا بالنصر فينسوا ذكر الله تعالى الذي منّ عليهم به، كما حصل في بعض التجارب السابقة؛ فيُسلب النصر، وأن يبقوا يقظين حذرين [وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً] (النساء:102).

لا يحق لنا أن نسترخي ونظن أن المعركة قد انتهت لأن العدو المولغ في الجريمة سوف لا يتوقف هو وأسياده الذين يدفعونه ويموّلونه ويعدّون له الخطط، ولكن الله تعالى وعدكم بالنصر وإطفاء كل فتنة يوقدونها [كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ] (المائدة:64).

محمد اليعقوبي

النجف الأشرف

4/ذو القعدة/1435 31/ 8/ 2014

ص: 115

خطاب المرحلة 424 :{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}

اشارة

خطاب المرحلة 424 :{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}(1)

[الرحمن : 60]

قاعدة يتسالم عليها العقلاء وتدعو اليها الفطرة الانسانية يقررّنا الله تبارك وتعالى عليها بصيغة الاستفهام الاقراري لتعليل ما سبق ذكره من النعم، حيث جاءت الآية من سورة الرحمن في هذا السياق حيث بدأ المقطع بقوله تعالى (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) الرحمن46، وذكر عدة من نعم الجنان، وليطمئننا بأن الأعمال الحسنة لا تضيع لأن الاحسان لا يجازى إلا بالإحسان (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) الكهف30.

وقد كتب الله تبارك وتعالى على نفسه إجراء هذه القاعدة في تعامله مع عباده، فإنه لم يعاملهم بمقتضى العدل والمجازاة بالمثل، وانما كافأهم على اساس الاحسان والفضل مع انه هو المنعم والهادي والممكّن لعبده في فعل الاحسان (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) الحجرات17، وفي آمالي الصدوق بسنده عن امير المؤمنين (علیه السلام) قال (سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول : ان الله عز وجل قال ما جزاء من أنعمتُ عليه بالتوحيد إلا الجنة)(2)، ومع انه غني عن عباده وحينما يحسنون فإنما يحسنون

ص: 116


1- الخطبة الاولى لصلاة عيد الاضحى المبارك عام 1435 المصادف 5/ 10/ 2014.
2- آمالي الصدوق : 316 ح7.

لأنفسهم (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) الإسراء7، فعطاؤه تعالى إحسان في إحسان، في نهج البلاغة من كلام لأمير المؤمنين (علیه السلام) : (وَلَوْ كَانَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْرِيَ لَهُ وَلَا يَجْرِيَ عَلَيْهِ، لَكَانَ ذَلِكَ خَالِصاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَلِعَدْلِهِ فِي كُلِّ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ قَضَائِهِ، وَلَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ حَقَّهُ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يُطِيعُوهُ وَجَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَيْهِ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ تَفَضُّلًا مِنْهُ وَتَوَسُّعاً بِمَا هُوَ مِنَ الْمَزِيدِ أَهْلُهُ)(1).ومن المعلوم أن الاحسان فوق العدل، لان العدل منح الاستحقاق فيأخذ ماله ويعطي ما عليه، اما الاحسان فإعطاء ما لا يلزمه من الخير والتنازل عما يستحقه، وقد أشارت آيات كثيرة الى هذا الاحسان، قال تعالى (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) يونس26 وقال تعالى (مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) الأنعام160 وقال تعالى (إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) النساء40،(مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) النمل89، (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) البقرة261.

ومن الروايات التي تصورّ لنا إحسان الله تبارك وتعالى ما ورد عن فضيل بن عثمان المرادي قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أربع من كن فيه لم يهلك على الله بعدهن إلا هالك، يهم العبد بالحسنة فيعملها

ص: 117


1- نهج البلاغة : 333 خطبة 216.

فإن هو لم يعملها كتب الله له حسنة بحسن نيته، وإن هو عملها كتب الله له عشرا. ويهم بالسيئة أن يعملها فإن لم يعملها لم يكتب عليه شئ وإن هو عملها اجل سبع ساعات وقال صاحب الحسنات لصاحب السيئات وهو صاحب الشمال: لا تعجل عسى أن يتبعها بحسنة تمحوها، فإن الله عز وجل يقول: * (إن الحسنات يذهبن السيئات) * أو الاستغفار فإن هو قال: " أستغفر الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم الغفور الرحيم ذو الجلال والإكرام وأتوب إليه " لم يكتب عليه شئ، وإن مضت سبع ساعات ولم يتبعها بحسنة واستغفار قال صاحب الحسنات لصاحب السيئات: اكتب على الشقي المحروم)(1) ، ومع ذلك فأنه يمنح عدة فرص : (منها) فتح باب التوبة ما دام في هذه الدنيا، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (من تاب قبل أن يعاين قَبِل الله توبته) وعنه (صلی الله علیه و آله) قال :(إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)(2).

و(منها) انه إذا فعل حسنات فانها تكفر السيئات بل تبدّلها الى حسنات (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّ-يِّئَاتِ) هود114، (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) الفرقان70.

و(منها) اعتبار البلايا والصعوبات والالام التي يمر بها الانسان كفارة لذنوبه، عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال :(الحمد لله الذي جعل تمحيص ذنوب شيعتنا في

ص: 118


1- شرح أصول الكافي المؤلف : الملا صالح المازندراني الجزء : 10 صفحة : 166 .
2- راجع مصادرها في ميزان الحكمة :1/ 514.

الدنيا بمحنتهم لتسلم بها طاعاتهم ويستحقوا عليها ثوابها)(1).و(منها) العفو والصفح ابتداءاً تكرماً من الله تعالى وفضلاً من غير تسبيب العبد (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) الشورى30.

عموم الآية للمسلم وغيره:-

والآية عامة لا تختص بالمؤمنين فكل من يصدر منه فعل الاحسان يكافئه الله تعالى بالإحسان مؤمنا كان او غير مؤمن على اختلاف درجاتهم في الكفر و الشرك او الجهل بالخالق، روى عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله)): ما أحسن محسن من مسلم ، ولا كافر إلا أثابه الله : فقلنا : يا رسول الله ، ما إثابة الكافر ؟ قال : إن كان قد وصل رحما ، أو تصدق بصدقة، أو عمل حسنة أثابه الله المال والولد والصحة وأشباه ذلك، قال : فقلنا : فما إثابته في الآخرة ؟ قال : عذابا دون العذاب، وقرأ (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)(2) غافر 64.

هذا بالنسبة للمعاند اما غير المعاند فيكافئه الله تعالى بالهداية الى الاسلام والايمان وطريق الجنة والشواهد كثيرة على حصول مكافأة كبيرة لمن قام بعمل يسير كتلك المرأة الفاسقة التي دخلت الجنة لأنها سقت قطة عطشى ماءاً، او الحر الرياحي الذي لم يرّد على الامام الحسين (علیه السلام) حين قال له ثكلتك امك يا حر لان امه الزهراء (علیها السلام) فكوفئ بنيل الشهادة والسعادة الابدية.

ص: 119


1- بحار الانوار :67/ 232/ح48.
2- تفسير ابن كثير : 7/ 138.

ونقل بعض المفسرين ان شخصا مسلماً شاهد امرأة كافرة تنثر الحب للطيور في الشتاء فقال لها : لا يقبل العمل من امثالك، فأجابته : اني اعمل هذا سواء قبل ام لم يقبل، ولم يمض وقت طويل حتى رأى الرجل هذه المراءة في حرم الكعبة، فقالت له يا هذا ان الله تفضل علي بنعمة الاسلام ببركة الحبوب القليلة(1).

ثمرة عملية لذكر الآية

أراد الله تعالى بتذكيرنا بهذا القانون الفطري وبتعامله معنا على اساسه أن يؤدبنا بهذا الأدب وان نتعامل بهذه القاعدة العقلائية الفطرية مع الله تبارك وتعالى المحسن المتفضل، وكذلك بيننا نحن البشر وإن خالفونا في الدين، فنجازي الاحسان بالإحسان، روى علي بن سالم قال : سمعت ابا عبد الله (علیه السلام) يقول: آية في كتاب الله مسجّلة، قلت: وما هي؟ قال: قول الله تبارك وتعالى: (هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان) جرت في المؤمن والكافر والبرّ والفاجر، من صُنِع إليه معروف فعليه أن يكافىء به، وليس المكافأة أن يصنع كما صنع به، بل حتّى يرى مع فعله، لذلك ان له فضل المبتدى)(2).

وقد حثت الآيات الكريمة والروايات الشريفة على اتباع طريقة الاحسان في التعامل مع الاخرين وانه من افضل القربات التي توجب المحبة الالهية، قال تعالى (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) البقرة 195،(وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)

ص: 120


1- تفسير الامثل: 13/ 475 حكاها عن روح البيان : 9/ 310.
2- تفسير البرهان : 9 / 193.

العنكبوت 69 ،(إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) النحل 128، ومن كلمات امير المؤمنين (علیه السلام) (عَلَيْكَ بِالإحْسانِ فَإنَّهُ أفْضَلُ زِراعَة وَ أرْبَحُ بِضاعَة) وعنه (علیه السلام) (رَأْسُ الإيمانِ اَلإحْسانُ إلَى النّاسِ) وعنه (علیه السلام) (نِعْمَ زادُ المَعادِ الإحْسانُ إلَى العِبادِ) وعنه (علیه السلام)(لَوْ رَأيْتُمُ الإحْسانَ شَخْصاً لَرَأَيْتُمُوهُ شَكْلاً جَميلاً يَفُوقُ العالَمينَ)(1).

الانسان يخالف هذه القاعدة :-

لكن الانسان العنود الكنود المجادل الجهول الظلوم خالف هذه القاعدة في علاقته مع ربّه ولم ينصفه بأدنى درجات الانصاف فيكون الاستفهام في الآية استنكارياً بهذا اللحاظ، ويكون فيها عتاب للإنسان بأنه لا يعمل بها بعد أخذ اقراره بها في عيون اخبار الرضا وآمالي الطوسي بالإسناد عن الامام الرضا (علیه السلام) عن آبائه الطاهرين (علیهم السلام) عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (حدثني أخي رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال :يقول الله عز وجل : يا أبن آدم ما تنصفني ! أتحبّبُ اليك بالنعم، وتتمّقت اليَّ بالمعاصي، خيري اليك نازل وشرُّك اليَّ صاعد، ولا يزال ملكُ كريم يأتيني عنك في كل يوم بعملٍ غير صالح، يا ابن آدم لو سمعت وصفك من غيرك وانت لا تدري من الموصوف لسارعت الى مقته)(2).

وورد هذا المعنى في دعاء الامام السجاد (علیه السلام) المروي عن طريق ابي حمزة الثمالي (ذُنُوبُنا بَيْنَ يَدَيْكَ نَسْتَغْفِرُكَ الّلهُمَّ مِنْها وَنَتُوبُ اِلَيْكَ، تَتَحَبَّبُ اِلَيْنا

ص: 121


1- ميزان الحكمة 2:391.
2- امالي الطوسي : 202 ح 10 من الجزء الخامس ،عيون اخبار الرضا (عليه السلام) :2/ 28.

بِالنِّعَمِ وَنُعارِضُكَ بِالذُّنُوبِ، خَيْرُكَ اِلَيْنا نازِلٌ، وَشُّرنا اِلَيْكَ صاعِدٌ، وَلَمْ يَزَلْ وَلا يَزالُ مَلَكٌ كَريمٌ يَأتيكَ عَنّا بِعَمَل قَبيح، فَلا يَمْنَعُكَ ذلِكَ مِنْ اَنْ تَحُوطَنا بِنِعَمِكَ، وَتَتَفَضَّلَ عَلَيْنا بِآلائِكَ، فَسُبْحانَكَ ما اَحْلَمَكَ وَاَعْظَمَكَ وَاَكْرَمَكَ مُبْدِئاً وَمُعيداً، تَقَدَّسَتْ اَسْماؤكَ وَجَلَّ ثَناؤُكَ، وَكَرُمَ صَنائِعُكَ وَفِعالُكَ)(1).اما الامام الحسين (علیه السلام) فيفصّل أكثر في بيان هذه العلاقة غير المنصفة بين الانسان وربّه في دعائه العظيم يوم عرفة فبعد ان قال (علیه السلام) (يا مَنْ قَلَّ لَهُ شُكْرى فَلَمْ يَحْرِمْنى، وَعَظُمَتْ خَطيئَتى فَلَمْ يَفْضَحْنى، وَرَآنى عَلَى الْمَعاصى فَلَمْ يَشْهَرْنى، يا مَنْ حَفِظَنى فى صِغَرى، يا مَنْ رَزَقَنى فى كِبَرى، يا مَنْ اَياديهِ عِنْدى لا تُحْصى، وَنِعَمُهُ لا تُجازى، يا مَنْ عارَضَنى بِالْخَيْرِ والاْحْسانِ، وَعارَضْتُهُ بِالاْساءَةِ وَالْعِصْيانِ) بدأ (ع) بتفصيل عدم انصاف الانسان لربه، فيقول عن ربه تعالى (يا مَوْلاىَ اَنْتَ الَّذى مَنْنْتَ، اَنْتَ الَّذى اَنْعَمْتَ، اَنْتَ الَّذى اَحْسَنْتَ، اَنْتَ الَّذى اَجْمَلْتَ، اَنْتَ الَّذى اَفْضَلْتَ، اَنْتَ الَّذى اَكْمَلْتَ، اَنْتَ الَّذى رَزَقْتَ، اَنْتَ الَّذى وَفَّقْتَ، اَنْتَ الَّذى اَعْطَيْتَ، اَنْتَ الَّذى اَغْنَيْتَ، اَنْتَ الَّذى اَقْنَيْتَ، اَنْتَ الَّذى آوَيْتَ، اَنْتَ الَّذى كَفَيْتَ، اَنْتَ الَّذى هَدَيْتَ، اَنْتَ الَّذى عَصَمْتَ، اَنْتَ الَّذى سَتَرْتَ، اَنْتَ الَّذى غَفَرْتَ، اَنْتَ الَّذى اَقَلْتَ، اَنْتَ الَّذى مَكَّنْتَ، اَنْتَ الَّذى اَعْزَزْتَ، اَنْتَ الَّذى اَعَنْتَ، اَنْتَ الَّذى عَضَدْتَ، اَنْتَ الَّذى اَيَّدْتَ، اَنْتَ الَّذى نَصَرْتَ، اَنْتَ الَّذى شَفَيْتَ، اَنْتَ الَّذى عافَيْتَ) الى اخر ما قال (علیه السلام) .

وماذا عن العبد ؟ قال (علیه السلام)، (ثُمَّ اَنَا يا اِلهَى الْمُعَتَرِفُ بِذُنُوبى فَاغْفِرْها لى،

ص: 122


1- مفاتيح الجنان : 337.

اَنَا الَّذى اَسَأتُ، اَنَا الَّذى اَخْطَأتُ، اَنَا الَّذى هَمَمْتُ، اَنَا الَّذى جَهِلْتُ، اَنَا الَّذى غَفِلْتُ، اَنَا الَّذى سَهَوْتُ، اَنَا الَّذِى اعْتَمَدْتُ، اَنَا الَّذى تَعَمَّدْتُ، اَنَا الَّذى وَعَدْتُ، وَاَنَا الَّذى اَخْلَفْتُ، اَنَا الَّذى نَكَثْتُ، اَنَا الَّذى اَقْرَرْتُ، اَنَا الَّذِى اعْتَرَفْتُ بِنِعْمَتِكَ عَلَىَّ وَعِنْدى، وَاَبُوءُ بِذُنُوبى فَاغْفِرْها لى)(1).وإذا كان السائد على علاقة الانسان مع ربّه وخالقه هو عدم الانصاف، فهو كذلك مع الناس حيث يسود الناس الظلم والفساد والغش والخداع والاحتيال قال تعالى (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) الروم 41 خلافاً للأدب الذي أمرنا الله تعالى به أن نجازي بالإحسان من احسن الينا وعلى رأسهم النبي (صلی الله علیه و آله) والائمة الطاهرون (صلوات الله عليهم اجمعين) والعلماء العاملون المخلصون والوالدان (َبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) البقرة 83 وجيراننا وارحامنا والذين علّمونا والذين ربّونا وهكذا كل من أحسن الينا.

بل أمرنا بالإحسان حتى لمن اساء الينا، قال تعالى (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ)المؤمنون 96 (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)فصلّت 34.

ص: 123


1- مفاتيح الجنان : 467 اعمال شهر ذي الحجة.

خطاب المرحلة 425 :فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي حُجَّتَكَ ضَلَلْتُ عَنْ دِينِي

خطاب المرحلة 425 :فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي حُجَّتَكَ ضَلَلْتُ عَنْ دِينِي(1)

كان الواعون من أصحاب الأئمة (علیهم السلام) والحريصون على دينهم وآخرتهم ينظرون باهتمام بالغ إلى ما يصدر عنهم (علیهم السلام) من أخبار عن الفتن والغربلة والسقوط في الامتحان ويحملونها محمل الجد ليصونوا أنفسهم من الوقوع في تلك الفتن ومن الفشل في الامتحان الذي يحصل لكثير من عامة الناس؛ لذا كانوا يسألون الأئمةَ (ع) عن تكليفهم وعما ينجّيهم من الجهالة ويخلصهم من حيرة الضلالة، التي هي وظيفة الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين)، ومن بعدهم علماء الدين خصوصاً في زمان غيبة الإمام (عجل الله فرجه) التي قال فيها الإمام الحسن العسكري (علیه السلام): (أما إن له غيبة يحار فيها الجاهلون ويهلك فيها المبطلون)(2).

والحيرة والهلاك تكون بعدة مستويات:

(منها) على نحو إنكار أصل الغيبة لاستبعاد أن يبقى إنسان هذه المدة الطويلة أو لأي شبهة أخرى.

(ومنها) الاعتراض على طول الغيبة لعدم الصبر على تأخير الانتقام من

ص: 124


1- الخطبة الثانية لصلاة عيد الاضحى المبارك عام 1435 المصادف 5-10-2014
2- كمال الدين للصدوق: 2/ 81، الباب 38.

الظالمين او للعجز عن إدامة حالة الاستعداد والتمهيد للظهور بأشكال التمهيد الذي يتطلب أحياناً تضحيةً بالنفس ومواجهةً مع الظالمين واصطداماً بالمجتمع، ولذا ستكون فترة الغيبة صعبة وشاقة.(ومنها) كثرة أصحاب الدعاوى الباطلة الذين يدّعون الارتباط بالإمام (علیه السلام) ومشروعه فيخدعون بها السذّج والجهلة ليتأمّروا عليهم، وهكذا.

روى زرارة –وهو من أجلاء أصحاب الإمامين الباقر والصادق (علیه السلام)- قال: (سمعتُ أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: إن للغلام غيبة قبل أن يقوم، ثم قال: يا زرارة وهو المنتظر، وهو الذي يُشَكُّ في ولادته، منهم من يقول: مات أبوه بلا خلف، ومنهم من يقول: حمْلٌ، ومنهم من يقول: إنه وُلِد قبل موت أبيه بسنتين، وهو المنتظر، غير أن الله عز وجل يحبّ أن يمتحن الشيعة، فعند ذلك يرتاب المبطلون، يا زرارة، قال: قلتُ: جعِلتُ فداك إن أدركتُ ذلك الزمان أي شيء أعملُ؟، قال: يا زرارة إذا أدركت هذا الزمان فادعُ بهذا الدعاء: اللهم عرّفني نفسك فإنك إن لم تعرّفني نفسك لم أعرف نبيك، اللهم عرّفني رسولك فإنك إن لم تعرّفني رسولك لم أعرف حجتك، اللهم عرّفني حجتك فإنك إن لم تعرّفني حجتك ضللتُ عن ديني)(1).

وهذا التعليم إنما هو لنا نحن الذين نعيش في زمان الغيبة لأن الإمام (علیه السلام) يعلم أن زرارة لا يدرك زمان الغيبة، وكذلك يعلم زرارة لإخبار الإمام (علیه السلام) أن الغيبة للثاني عشر.

والمُنجي ليس هو مجرد تحريك اللسان بهذه الكلمات فإنها لا توصل إلى

ص: 125


1- الكافي: 1/ 197، كتاب الغيبة.

هذه النتيجة وإن كانت توجب بعض الفوائد كتحصيل الثواب، وهذا معنى كررته في أحاديثي لأهميته، لذلك لم يقل الإمام (علیه السلام): (قل هذه الكلمات) وإنما قال: (ادعُ بهذا الدعاء) أي أوجد في نفسك حقيقة هذا الدعاء وطلب هذه المعاني، وحينئذٍ سيعصمك الله تعالى من الضلال، ألا ترى أن الإنسان لو تعرض إلى عدو قاتل أو حيوان مفترس وله مأوى محصَّن، فهل ينجيه أن يردد بلسانه بأي عدد من المرات: (أعوذ بهذا الحصن من العدو))؟ أم أن عليه أن يدخل في ذلك الحصن فعلاً؟.فطريق النجاة يتطلب معرفة الإمام (علیه السلام) معرفة صحيحة والسير على نهجه.

والدعاء المذكور في الحديث يشير إلى ترتيب في طريق المعرفة على عكس ما هو متعارف لدى أغلب الناس فنحن ننتقل بالمعرفة من الأثر إلى المؤثر ومن الفرع إلى الأصل، وهو طريق مقبول ولم ينفه الحديث الشريف وروى الشيخ الصدوق (قدس سره) في كتاب التوحيد في تفسير هذا الحديث عن الصادق (علیه السلام) قوله: (لولا الله ما عُرِفنا، ولولا نحن ما عُرف الله) ثم قال الصدوق: ((ومعناه لولا الحجج ما عُرف الله حق معرفته ولولا الله ما عُرف الحجج))(1).

فهذه المعرفة الغالبة لدى الناس مقبولة, لكن الحديث يدعو الى المعرفة الأسمى وهي التي تبدأ بالأصل ثم الى الفرع ، ففرقٌ بين من يعرف طلوعَ الشمس من خلال إخبار الآخرين أو من خلال وجود ضوئها ونورها منعكساً عن الأشياء وبين من يراها عياناً، قال تعالى: [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي

ص: 126


1- حكاه عنه في الوافي: 1/ 221، باب 29 إنه لا يعرف الا به.

أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] (فصلت:53)، فبناءً على كون الصفة المشبهة (شهيد) بمعنى اسم المفعول (مشهود) تفيد الآية أن ظهور الله تعالى في كل شيء يغني عن الآيات والدلائل في الأنفس والآفاق، وفي ملحق دعاء الامام الحسين (علیه السلام) يوم عرفة عدة اشارت لهذا المعنى .فالأصل هي معرفة الله تبارك وتعالى ومنها تنفتح المعرفة على النبي (صلی الله علیه و آله) ومن ثم معرفة الإمام (علیه السلام) وفي ذلك روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (علیه السلام): اعرفوا الله بالله، والرسول بالرسالة، وأولي الأمر بالأمر بالمعروف والعدل والإحسان)(1).

فالبداية من معرفة الله بالله تبارك وتعالى كما ورد في الأدعية الشريفة: (يا من دلّ على ذاته بذاته) –من دعاء الصباح- و (بك عرفتك وأنت دللتني عليك ولولا أنت لم أدرِ ما أنت) –من دعاء أبي حمزة-.

والتفسير الذي يمكن تقريبه لمعنى معرفة الله بالله هو التعرف على الله تعالى وصفاته وأسمائه من خلال تجلياته في مخلوقاته، فمن جمال الطبيعة التي خلقها تعرف أنه جميل، ومن طول أناته وإمهاله للظالمين تعرف أنه حليم، ومن وضع كل شيء في موضعه تعرف أنه حكيم، ومن عجائب المخلوقات تعرف قدرته وقوته، ومن تناسقها وانسجامها ووحدة قوانينها تعرف أحديته، ومن تصرفه في الخلق كيف يشاء تعرف قيمومته وأن بيده كل شيء.

ص: 127


1- أصول الكافي: كتاب التوحيد: 51، باب أنه لا يعرف إلا به، وفي توحيد الصدوق: 286، باب بنفي العنوان أنه لا يعرف إلا به.

روى الشيخ الصدوق (قدس سره) في كتابه التوحيد في باب أن الله لا يعرف إلا به بإسناده عن أبي جعفر (علیه السلام) عن أبيه عن جده (ع) أنه قال: (إن رجلاً قام إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين بماذا عرفت ربك؟ قال: بفسخ العزم ونقض الهم، لما هممت فحيل بيني وبين همي وعزمت فخالف القضاء والقدر عزمي علمت أن المدبر غيري)، فهذا من تجليات هيمنته وقيمومته وتدبيره عز وجل .قال الفيض الكاشاني (قدس سره): ((فاطلبوا معرفته بآثاره فيها من حيث تدبيره لها وقيمومته إياها وتسخيره لها وإحاطته بها وقهره عليها حتى تعرفوا الله بهذه الصفات القائمة به ولا تنظروا إلى وجوهها التي إلى أنفسها أعني من حيث أنها أشياء لها ماهيات لا يمكن أن توجد بذواتها بل مفتقرة إلى موجد يوجدها؛ فإنكم إذا نظرتم إليها من هذه الجهة تكونوا قد عرفتم الله بالأشياء فلن تعرفوه إذن حق المعرفة، فإن معرفة مجرد كون الشيء مفتقراً إليه في وجود الأشياء ليست بمعرفة في الحقيقة على أن ذلك غير محتاج إليه))(1).

فإذا عرفنا الله تعالى وأن من صفاته أنه لطيف بعباده رحيم كريم بهم وأنه حكيم لم يخلق الخلق عبثاً بلا غاية وهدف فإنه لا يتركهم سدى وفي فوضى فيحصل نقيض الغرض بل ولا بد أن يبعث إليهم رسلاً يعلّمونهم ما يصلح شأنهم ويسعدهم في الدنيا والآخرة ويضعون لهم القوانين والأحكام التي تنظّم حياتهم، وهذه القوانين والأحكام تكون مبنية على أساس التوحيد ومنسجمة مع الصفات الإلهية [وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً]

ص: 128


1- الوافي: 1/ 222، كتاب العقل والعلم والتوحيد، باب 29: أنه لا يعرف إلا به.

(الإسراء:23) [إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ] (النحل:90) [إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ] (النساء:58).وبهذا المحتوى للرسالة تعرف من هو الرسول الصادق في دعواه وتميّزه عن المدعين المخادعين، وبذلك نكون قد عرفنا الرسول بالرسالة وهي أسمى معرفة ولا نحتاج حينئذٍ إلى معجزة أو إخبار الثقات ونحو ذلك من وسائل المعرفة التي لا تفيد الاطمئنان كالأولى.

ومن معرفة الرسول يُعرَف الإمام؛ لأن النبي (صلی الله علیه و آله) معروف بأنه حكيم عاقل لا يمكن أن يترك الأمة بعده بلا راع، وأنه (صلی الله علیه و آله) رحيم بأمته شفيق عليهم [حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ] (التوبة:128) وأنه القرآن الناطق الذي يجسده في حياته، وأنه مظهر الصفات الإلهية، يعرف الإمام بعده الذي يكون خليفته ويقوم مقامه وهو أمير المؤمنين (علیه السلام)، فالذين تآمروا بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله)وانكروا وصيته في علي (علیه السلام) وادعوا عدم نصبه خليفة من بعده، انما أساؤوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولم يعرفوه حق معرفته، لانهم انكروا بذلك حكمته ورحمته ولطفه وشفقته وحرصه على الامة وغيرها من خصاله الكريمة.

ومن بعد الرسول يعرف الإمام وأولو الأمر أي القيادة الدينية الحقة بإقامتهم لأحكام هذه الشريعة ومبادئها وتنفيذها على ارض الواقع (واعرفوا أولو الأمر بالأمر بالمعروف والعدل والإحسان) وفي رواية(1) (وأولو الأمر بالمعروف) أي

ص: 129


1- كتاب التوحيد للصدوق: 286.

ليس فقط ويعرفون بأمرهم بالمعروف فهذا رغم أهميته إلا أنه قد يشاركهم كثيرون، فلا بد أن يعرفوا بالمعروف أي بإقامتهم للمعروف وأن يعملوا بما يأمرون به غيرهم. فبهذه العلامات يُعرف الأئمة (علیهم السلام) وقادة المسلمين وأولياء أمورهم وليس بالادعاءات والعناوين المصطنعة.

والسعي لتحصيل هذه المعرفة أمر ضروري بالغ الأهمية لما ورد في ذيل الدعاء (فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني) والضلال عن الدين يعني الوقوع في ظلمات الجاهلية، ومنه تعرف الارتباط بين هذا الدعاء والرواية المشهورة التي رواها الفريقان، وممن ذكرها الشيخ الصدوق عن محمد بن عثمان العمري – وهو السفير الثاني- قال: (سمعت أبي يقول: سُئل أبو محمد الحسن بن علي عن الخبر الذي روي عن آبائه عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية)(1) قال (علیه السلام): (نعم إن هذا حق كما أن النهار حق)(2) وماذا تعني الجاهلية غير الضلال والانحراف والفساد.

وكان غاية جهد الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) وتضحياتهم إنقاذ العباد من الجاهلية وأغلالها وآصارها [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ

ص: 130


1- وروى الشيخ المفيد عن محمد بن علي الحلبي، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (من مات وليس عليه إمام حي ظاهر مات ميتة جاهلية) الاختصاص: 269، ونقلها عنه المجلسي في البحار: 7/ 20.
2- كمال الدين: 2/ 81، الباب 38، والحديث مشهور لدى طوائف المسلمين.

عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ] (الأعراف:157) وفي زيارة الأربعين للإمام الحسين (علیه السلام): (فأعذر في الدعاء ومنح النصح وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة).وهذه العلامات لأولياء الأمور الذين يقودون الأمة ويأخذون بأيدي الناس نحو الهداية والصلاح ذكرتها الآية الشريفة: [الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ] (الحج:41) وأي تمكين في الأرض زمان الغيبة أقوى من ولاية أمور المسلمين والنيابة عن الإمام المهدي (علیه السلام)، فعلامات قيادتهم الصحيحة إقامة معالم الدين المذكورة [أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ] (الشورى:13).

فمن أهم وظائف المنتظرين في زمان الغيبة معرفة الحجة التي إن تمسكت بها لن تضل عن دينك، بإقامتهم لدين الله تعالى وحرصهم على عباد الله تعالى، وان السبب الرئيسي لمعاناة الامة والكوارث التي تحلٌ بها هو عدم اهتدائها الى قادتها الحقيقيين، او عدم طاعتهم كما يلزم .

اَللهُمَّ اَعِنّا وَوَفَّقَنا لِما تُحِبُّ وَتَرْضى وَعَلى مَا افْتَرَضْتَ عَلَيْنا مِنْ طاعَتِكَ وَطاعَةِ رَسوُلِكَ وَاَهْلِ وَلايَتِكَ (1).

ص: 131


1- من الدعاء المأثور للعشر الاوائل من ذي الحجة.

خطاب المرحلة 426 :القوى الناعمة والمنبر الحسيني

خطاب المرحلة 426 :القوى الناعمة والمنبر الحسيني(1)

بدأ في السنين والعقود الاخيرة تداول مصطلح "القوى الناعمة" ووضعت الكتب لشرحه والياته وقوة تأثيره، وهم يقصدون به الادوات والوسائل التي يستطيعون بها التأثير على الاخر وغزوه واختراقه وتطويعه للأجندة المرسومة له من دون استعمال السلاح والماكنة العسكرية.

وحينما يطلقون هذا المصطلح فانهم يريدون منه بشكل رئيسي "الاعلام" ويسمونه بالسلطة الرابعة بكل ادواته المؤثرة، ومن الواضح ان تأخر استعمال هذا المصطلح لا يعني ان هذه القوة الناعمة لم تكن مستعملة واكتشفت الان، فمنذ الازمنة الاولى كانوا يستفيدون منها بالإعلام المضلِل وقلب الحقائق وتزييف الوقائع وبث الاشاعات لإحباط الخصم وتثبيط معنوياته واحداث حالة الرعب والارباك لديه وتشويش افكاره ومعتقداته وتحويله الى اداة طيّعة لما يريدون منه.

ومن الشواهد التاريخية على ذلك التورية التي كان يستعملها النبي (صلی الله علیه و آله) حين يخرج الى غزواته ليضلل الخصم، ومنها المكر والخداع الذي كان يمارسه الاعداء حتى مزّقوا جيش امير المؤمنين والامام الحسن (علیه السلام) فقعدوا

ص: 132


1- من حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع العاملين في اذاعة الامل في محافظة ميسان يوم الاثنين 25/ذ ح/1435 ه- المصادف 20/ 10/ 2014 م

عن القتال، ومنها الاشاعات الكاذبة التي كانوا يبثّونها كإشاعة مجيء جيش الشام واستباحته لدماء واعراض اهل الكوفة حين حاصر مسلم بن عقيل والالاف من الموالين عبيد الله بن زياد في قصر الامارة، فانتشر الرعب في اوساط اهل الكوفة وانسحبوا وتركوا مسلما وحيدا ولم يكن مع ابن زياد داخل القصر الا بضع عشرات(1) ، لانهم لم يتعاملوا مع الاشاعة بالتصرف الصحيح لجهلهم وحماقتهم وأنانيّتهم. وقد بين القران الكريم علاج هذا التأثير للإعلام المضاد والاشاعات ومنع تداعياته بالتثبّت والتبّين والرجوع الى اولياء الامور العارفين الذين لا تهجم عليهم اللوابس والشبهات ولا تنطلي عليهم الحيل، قال تعالى [وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً] النساء 83 و قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ] الحجرات 6 فليس من الصحيح التصديق مباشرة بالأقاويل وترتيب الاثر عليها واتخاذ المواقف على طبقها، فهذا الاندفاع والانفعال والتأثر قبل التثّبت حماقة، ونقل عن أمير

ص: 133


1- هنا نصح سماحة المرجع (دام ظله) في كلمته خطباء المنبر الحسيني ان يرتقوا الى مقام المنبر الحسيني السامي بصاحبه (عليه السلام) فيجددوا في خطابهم ويحدثوه ليتناولو القضايا الحيوية التي تهم الامة ومن ثم ربطها بقضية الامام الحسين (عليه السلام)والتعريج على مصيبته وعدم اجترار نفس المادة التاريخية، فيتحدث الخطيب مثل هذا الحديث عن القوى الناعمة والاشاعة واثارها السلبية وكيفية تحصين المجتمع منها ثم يخلص الى اثر الاشاعة في افشال حركة مسلم بن عقيل (عليه السلام) ويعرج على المأساة.

المؤمنين (علیه السلام) كلام مضمونه: (كفى بالمرء حمقا ان يصدّق كل ما يسمع او كل ما يُقال).ومن المعالجات التي وردت في مدرسة الاسلام للإشاعة تطويقها واخمادها باجتثاث مصدرها ومادتها، لان لكل اشاعة مادة تساعد على التصديق بها تكون كالجناحين التي تطير بهما الاشاعة وتنتشر في اواسط الناس كما قيل في المثل الشعبي "ماكو دخان بلا نار" فاذا اردت منع انتشار الدخان فلا بد من اطفاء النار وايقاف الاحتراق، وذلك من خلال الشفافية والوضوح وكشف الحقائق امام الراي العام، ورد في سيرة النبي (صلی الله علیه و آله) انه كان يسير في شوارع المدينة فرأى عمته صفية بنت عبد المطلب فسلّم عليها وتفقد احوالها فمّر عليهما احد اصحابه (صلی الله علیه و آله) فبيّن له النبي (صلی الله علیه و آله) انها عمته صفية فقال الصحابي: "اننا لا نشك فيك يا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولا نتهمك بشيء، لكن النبي (صلی الله علیه و آله) اراد حسم مادة التهمة وسوء الظن والشك والريبة فوضّح له الحقيقة، عن امير المؤمنين قال: (من وقف نفسه مواقف التهمة فلا يلومن من اساء به الظن)(1).

قبل ايام سرت اشاعات ان الإرهابين استهدفوا مطار بغداد ولم يستطيعوا الوصول اليه مما سبب في انتشار حالة من القلق والتخوف من احتمال وصول الارهابيين الى قرب العاصمة واضطراب الوضع الاقتصادي وتخوفت الشركات الأجنبية من التعامل مع بغداد، وما كان لهذه الاشاعة ان تؤدي هذه النتائج لولا وجود مادة تغذيها، وهي تصريحات رئيس اركان الجيوش الامريكية الذي

ص: 134


1- بحار الانوار: 75 / 90 ح4

صرّح(1) بان طائرات الاباتشي الامريكية احبطت هجوما لمسلحي داعش كانوا يتقدمون باتجاه ابي غريب ومطار بغداد وان الطيارين عرضوا انفسهم للخطر لانهم قاتلوا على ارتفاع منخفض، ولم يذكر الجنرال كيف علم بهدف المسلحين، وهل تنصّت على مكالمات لهم او وقعت بأيديهم وثائق او افادات معتقلين، لا يوجد شيء من ذلك، وكل الذي حصل وجود معارك على بعد حوالي 25 كيلومترا عن ابي غريب وكانت للإرهابيين حركة وقدّر الجنرال انهم يريدون استهداف المطار.فهذه هي مادة الاشاعة، والجنرال ديمبسي يعرف عدم وجود قيمة لكلامه لكنه اراد ان يوصل عدة رسائل من خلال تصريحاته لا تخفى على القادة والمسؤولين.

ولا بد من الاشارة الى ان القوة الناعمة تشمل ادوات اخرى كثيرة غير الاعلام، بعضها مُلتفتٌ اليها، وبعضها غير مُلتفت، ومن القسم الاول: الفن فانه مؤثر في ثقافة الاخر وسلوكه وحتى معتقداته وسياسته اذا استطاع انتزاع الاعجاب والتأثر، وتستطيع الدول اليوم ان تحقق من خلال الانتاج الفني من التأثير في الدول الاخرى وجذبها الى سياساتها واقناعها بأجنداتها ما لم تستطع تحقيقه بالاحتلال العسكري الذي يكون عادة مبغوضا ومرفوضا.

ينقل اصحاب الشركات السياحية ان عدد السوّاح الى تركيا تضاعف بعد انتشار المسلسلات التلفزيونية التركية المدبلجة رغم ما تضمنته من الفساد والانحراف والجريمة، ويلاحظ تأثر شعوب المنطقة بالجمهورية الاسلامية

ص: 135


1- من اخبار يوم 12/ 10/ 2014

وانجذابهم اليها وتقليد شعبها في بعض سلوكياتهم من خلال الاعمال الدرامية والتاريخية التي انتجتها.اما القوى الناعمة غير الملتفت اليها في هذا العلم والتي لم تأخذ حقها من الدراسة والبحث لان القائمين على هذا العلم في الغرب من البعيدين عنها لانغماسهم في الماديات، مضافا الى انهم يستهدفون من القوى الناعمة تحقيق مآربهم الشخصية ومصالحهم على حساب استعباد الشعوب والسيطرة عليها، فلا يلتفتون الى القوى الناعمة الايجابية التي تجلب الخير والسعادة للبشرية وتصليح احوال الناس وتصنع لهم حياة سعيدة طيبة يكونون فيها احرارا كراما.

ومن تلك القوى (الدعاء)الذي ورد فيه انه يدفع البلاء وقد ابرم ابراما أي تمت كل مقدمات نزوله وتنفيذه على ارض الواقع، فهذه وسيلة غيبية للتأثير في الحوادث.

وكذلك (الصدقة) التي تفعل نفس الفعل، عن الامام الصادق قال: (داووا مرضاكم بالصدقة وادفعوا البلاء بالدعاء واستنزلوا الرزق بالصدقة)(1) فقد يعجز الطب بكل تكنولوجيته المتطورة عن العلاج لكن الله تعالى يمن بالشفاء والعافية بسبب دعاء او صدقة.

ومن القوى الناعمة المؤثرة في الاخرين وجذبهم (الاخلاق الحسنة)، من وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لعمه العباس بن عبد المطلب (انكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم)(2) وقد دخل كثير في الاسلام والايمان بسبب

ص: 136


1- الكافي: 4 / 3 ح5
2- بحار الانوار : ج68 ص 383و أمالى الصدوق ص 9

تأثرهم بأخلاق وسيرة ائمة الاسلام وقادته وعلمائه، روي عن الامام الصادق (علیه السلام) قوله: (كونوا دعاة للناس بغير السنتكم ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير فان ذلك داعية) (1)ومن القوى الناعمة (المنبر الحسيني والشعائر الحسينية) التي اثبتت انها قوة عظيمة للجذب الى الحق والتأثير في الشعوب لأنها تستمد قوتها من قوة مواقف الامام الحسين (علیه السلام) النبيلة وتضحياته العظيمة ومبادئه السامية ويكون التأثير أكبر لو أتعب الخطباء أنفسهم ليكونوا أهلاً لتحمل مسؤولية الانتساب الى هذا الموقع الشريف.

اننا بفضل الله تبارك وتعالى وبركة النبي (صلی الله علیه و آله) وآله المعصومين (علیهم السلام) نمتلك الكثير مما ينفع الانسانية لو التفتنا اليه واستثمرناه لكن انهزام المسلمين داخلياً وفقدانهم الثقة بأنفسهم وانبهارهم بالغرب جعلهم يغفلون عن الجواهر التي بأيديهم ويتلقفون القشور من الاخرين، لذا ينبغي بالمفكرين والباحثين اغناء هذا العلم بما ورد عن المعصومين (علیهم السلام) في مجال القوى الناعمة الايجابية ولتكن الخطوة التأسيسية من خلال هذا العرض السريع الذي ذكرناه.

ص: 137


1- وسائل الشيعة: 15 / 245 ح13

خطاب المرحلة 427 :(وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيرا)

اشارة

خطاب المرحلة 427 :(وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيرا)(1)

(البقرة269)

نحاول فهم معنى الآية الشريفة والاستفادة منها عمليا في حياتنا من خلال توضيح عدة نقاط :

1-معنى الحكمة وحقيقتها :-

الحكمة أخذت من (الحَكَمة) وهو لجام الدابة الذي يمنعها من التقّحم والاضطراب ويضبط حركتها فكذلك الحكمة لجام للنفس الامارة بالسوء والشهوات والنزوات والانفعالات وترشّد افعال الانسان بما يوافق العقل والفطرة.

وأصل الكلمة (حَكَم) بمعنى (مَنَع) ولكن ليس مطلق المنع وإنما ما كان لإصلاح وسمي الحكم حكماً لان الحاكم العادل يمنع الظلم وسمي العلم حكمة لأنه يمنع المتصف به من الجهل، لذا فهي تعني الاتقان والإحكام وإحسان العمل وسميت الآيات محكمات لأنهن متقنات لا تقبل الاختراق.

فالحكمة - بحسب ظاهر القران الكريم واللغة لا ما شيّده الفلاسفة واضافوا فيه من عندياتهم - ما يضبط تفكير الانسان وإرادته وتوجهاته وسلوكه في الاتجاه الصحيح وتكون له بوصلة حياته، فتبدأ بالعلم النافع والمعرفة الحقة

ص: 138


1- القيت من قناة النعيم الفضائية في محرم/1436 الموافق 11/ 2014

وتنتهي بالعمل بمقتضاهما والأخذ بهداهما ثم اتمامها بالثبات على ذلك، وقد قيل في تعريف الحكمة اقوال عديدة تندرج ضمن هذا الاطار فقيل بأنها (إصابة الحق بالعلم والعقل) وانها (تحقيق العلم وإتقان العمل) أو (ما يمنع من الجهل والاصابة في القول) (وقال ابن دريد كل ما يؤدي الى مكرمة او يمنع من قبيح، وقد يطلق على العلوم الفائضة من جنابه تعالى على العبد بعد العمل بما يعلم) (1).وكذلك فسرَّت الروايات الشريفة الحكمة الواردة في الآيات القرآنية بتفاسير عديدة هي عبارة عن مصاديق وآليات لهذا الاطار العام اي كل ماله دخل في الوصول الى الهدف، ففي الكافي والمحاسن للبرقي وتفسير العياشي (عن الامام الصادق (علیه السلام) في قول الله عز وجل (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيرا) فقال :(طاعة الله ومعرفة الامام) وفي الكافي عن الامام الصادق (علیه السلام) في تفسير الآية (قال (علیه السلام): معرفة الإمام و اجتناب الكبائر التي أوجب الله عليها النار) وفسرّها الامام الباقر (علیه السلام) بالمعرفة وروي عن الامام الصادق انه قال (إن الحكمة :المعرفة والتفقه في الدين فمن فقه منكم فهو حكيم) (2) وفي الحديث النبوي الشريف (القرآن منار الحكمة) (3).

2-شرف الحكمة وفضلها:-

وقد اكتسبت الحكمة أهمية كبرى في حياة الساعين الى الكمال والراغبين

ص: 139


1- بحار الانوار :1/ 215.
2- نقلها عن مصادرها في البرهان :2/ 174.
3- نور الثقلين : 1/ 287.

في رضوان الله عز وجل، لما ورد فيها من الفضل والشرف حيث وصفتها الآية الكريمة بانها خير كثير، وجعل تحصيلها الغرض من بعث النبيين (صلوات الله عليهم أجمعين) قال تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ) (آل عمران : 81) وعن نبينا (صلی الله علیه و آله) قال تعالى (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) (آل عمران164) (الجمعة2) وفي الحديث النبوي الشريف (كلمة الحكمة يسمعها المؤمن خير من عبادة سنة) (1) وفي مواعظ عيسى (ع) (إن الحكمة نور كل قلب) (2) وعن النبي (صلی الله علیه و آله) قال (كاد الحكيم أن يكون نبياً) (3)، وفي كتاب منية المريد للشهيد الاول (قدس سره) أنه مكتوب في التوراة قول الله تبارك وتعالى (عظّم الحكمة فأني لا أجعل الحكمة في قلب أحد إلا و أردت أن أغفر له فتعلمها ثم أعمل بها ثم ابذلها كي تنال بذلك كرامتي في الدنيا والآخرة) (4)، لانها كما وصفها الامام الصادق (علیه السلام) (الحكمة ضياء المعرفة وميزان التقوى وثمرة الصدق، وما انعم الله على عبد من عباده نعمة انعم واعظم وأرفع اجزل وابهى من الحكمة للقلب، قال الله عز وجل (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ) (البقرة269)، أي لا يعلم ما أودعت وهُيأت في الحكمة إلا من استخلصته لنفسي وخصصته بها، والحكمة هي النجاة وصفة

ص: 140


1- ميزان الحكمة :2/ 431.
2- ميزان الحكمة :2/ 431.
3- ميزان الحكمة :2/ 431.
4- بحار الانوار :1/ 220 ح57.

الحكمة الثبات عند اوائل الامور والوقوف عند عواقبها، وهو هادي خلق الله الى الله تعالى، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام) (لأن يهدي الله على يديك عبداً من عباد الله خير لك مما طلعت عليه الشمس من مشارقها الى مغاربها) (1).ولأهمية طلب الحكمة الموصلة الى الله تعالى التي فسرتها بعض الروايات بالتفقه بالدين لم يجد الأئمة (علیهم السلام) عذراً لتارك طلبها، روى البرقي في المحاسن عن الامامين الصادقين (ع) (لو اتيت بشاب من شباب الشيعة لا يتفقه لأدّبته) قال وكان أبو جعفر (علیه السلام) يقول :تفقّهوا وإلا فأنتم اعراب) (2).

3-الحكمة ضالة المؤمن :-

ولذا اصبح طلب الحكمة والبحث عنها من صفات المؤمنين بغض النظر عن مصدرها انطلاقاً من كلمة أمير المؤمنين (علیه السلام) (لا تنظر الى من قال وأنظر الى ما قال) (3)، عن أمير المؤمنين قال (الحكمة ضالة المؤمن فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق) وفي كلمة أخرى (فأطلبوها ولو عند المشرك تكونوا أحق بها وأهلها).

وهذا الطلب للحكمة من اي مصدر كان له ما يبررّه، من مواعظ عيسى (ع) قال (لو وجدتم سراجاً يتوقد بالقطران في ليلة مظلمة لأستضأتم به ولم يمنعكم منه ريح نتِنه، كذلك ينبغي لكم ان تأخذوا الحكمة ممن وجدتموها

ص: 141


1- مصباح الشريعة :198-199.
2- المحاسن :228 ،كتاب المصابيح ،باب 15 ح161.
3- غرر الحكم : ح 10189

معه ولا يمنعكم منه سوء رغبته فيها) (1).ووصف الحكمة بانها ضالة المؤمن يحمل عدة معانٍ منها:

أ-ان صاحب الضالّة – وهو الحيوان الشارد التائه – كما لا يستقر له قرار حتى يجد ضالته، كذلك المؤمن عليه ان لا يتوقف عن السعي لطلب الحكمة، حتى يقتنصها من اي مصدر كان .

ب-إن الضالة ملك لصاحبها فيأخذها من دون منازع، وعلى كل من يجدها أن يعيدها الى صاحبها وكذلك الحكمة فأن المؤمن أحق بها فلابد من إيصالها اليه، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال (كلمة الحكمة ضالّة المؤمن فحيث وجدها فهو احق بها).

ت-كما ان الضالة تبقى قلقة مضطربة عند من يلتقطها حتى تعود الى صاحبها وراعيها لأنسها به وبرعايته ورفيقاتها في الحضيرة، كذلك الحكمة لا تستقر عند غير صاحبها فيخرجها ليلتقطها المؤمن الذي هو صاحبها وبهذا المعنى وردت كلمات عديدة، عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (خذ الحكمة أنّى كانت، فان الحكمة تكون في صدر المنافق فتلّجلجُ في صدره حتى تخرج فتسكن الى صواحبها في صدر المؤمن).

فالمطلوب تحري الحكمة والموعظة واقتناصها من كل شيء حولك وتحويلها الى سلوك عملي (قيل للقمان :ممن تعلمت الحكمة ؟قال من العميان :لأنهم لا يضعون أقدامهم في محل حتى يختبروه) و(قيل للقمان ممن تعلمت

ص: 142


1- راجع مصادر الكلمات في ميزان الحكمة :2/ 432.

الأدب ؟فقال : ممن لا ادب لهم فأجتنبت كل ما استهجنته منهم) (1).وهذا وجه لفهم سبب ورود الفعل في الآية مبنياًُ للمجهول (وَمَن يُؤْتَ)(أُوتِيَ) رغم ان الواهب معروف وهو الله تعالى لكن في ذلك اشارة الى ان الحكمة امر مرغوب ومطلوب بغّض النظر عن مصدرها .

4- تقسيمات الحكمة :-

وفي ضوء ما تقدم ومن استقراء الآيات الكريمة والروايات الشريفة نتوصل الى ان الحكمة على ثلاثة اقسام(2)، وهي في الحقيقة ثلاث مراتب ومراحل ودرجات تفضي الواحدة الى الاخرى بفضل الله تبارك .

اولها : الحكمة العلمية: وهي العلوم والمعارف التي اتى بها الانبياء والمرسلون والائمة (صلوات الله عليهم اجمعين) لتكميل نفوس الناس وتشمل علوم العقائد والاخلاق والشريعة والمواعظ والامثال والسنن الالهية والآيات الكونية ونحو ذلك، وقد تضمّنها القران الكريم لذا وصف بالحكيم ووصفته آياته بقول الله تعالى {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} (الإسراء : 39) وجعل ايصال هذه الحكمة وتعليمها هدف بعثه النبيين، قال تعالى {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (آل عمران : 164) ومثلها (الجمعة : 2)و (البقرة : 129، 151).

ثانيا: الحكمة العملية : وهي الممارسة العملية المؤدية الى التكامل من خلال

ص: 143


1- راجع مصادرها في حكم لقمان للريشهري:8.
2- ذكر العلماء تقسيمات اخرى، وانما ذكرنا ما يرتبط بفكرة البحث.

الالتزام وتطبيق تلك الحكمة العلمية، وسياتي في روايات كثيرة اطلاق الحكمة على جملة من هذه الممارسات.ثالثها: الحكمة الحقيقية : وهي حالة الانكشاف والنورانية التي يهبها الله تعالى لمن نجح في المرحلتين السابقتين وهو العلم والفقه الحقيقي المقصود في الآيات والروايات كقوله تعالى (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (فاطر : 28)

ونتيجته حصول المعرفة بحقائق الاشياء، ففي الآية محل البحث (يؤتي الحكمة من يشاء) وقال في حق لقمان الحكيم {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} (لقمان : 12).

5- مقدمات الحصول على الحكمة :-

الآية صريحة بان الحكمة فضل من الله يؤتيه من يشاء، وفي الحديث عن امير المؤمنين (علیه السلام) (لا حكمة الا بعصمة)، اي من الله تعالى، ومع هذا فان لتحصيل الحكمة مقدّمات ومقومات فينبغي تحقيقها، وموانع تجب ازالتها، اي ان لتحصيلها ركنين اشارت اليها الروايات الشريفة:

أ- ايجاد المقدمات مثل ما ورد عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال (رأس الحكمة مخافة الله) وعن امير المؤمنين (علیه السلام) قال (حفظ الدين ثمرة المعرفة ورأس الحكمة) وعنه (علیه السلام) قال (رأس الحكمة تجنب الخداع) وعنه(ع) (راس الحكمة لزوم الحق وطاعة المحق).

ب- ازالة الموانع مثل ما ورد عن امير المؤمنين (علیه السلام) قال (اغلب الشهوة تكمل لك الحكمة) وعن الامام الصادق (علیه السلام) قال (من زهد في الدنيا اثبت

ص: 144

الله الحكمة في قلبه وانطق بها لسانه) وفي الحديث القدسي في المعراج (يا احمد ان العبد اذا أجاع بطنه وحفظ لسانه(1) علمته الحكمة، وان كان كافرا تكون حكمته حجة عليه ووبالا، وان كان مؤمنا تكون حكمته له نورا وبرهانا وشفاءا ورحمة، فيعلم مالم يكن يعلم ويبصر مالم يكن يبصر، فأوّل ما ابصّره عيوب نفسه حتى يشتغل عن عيوب غيره، وابصّره دقائق العلم حتى لا يدخل عليه الشيطان)، وعن امير المؤمنين (علیه السلام) (التخمة تفسد الحكمة، البطنة تحجب الفطنة) وعنه (علیه السلام) (لا تجتمع الشهوة والحكمة).وفي كلام منسوب لأمير المؤمنين (علیه السلام) (من اخلص لله اربعين صباحا يأكل الحلال صائما نهاره وقائما ليله اجرى الله سبحانه ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه) (2) .

وعن الإمام الصادق (علیه السلام): (الغضب ممحقة لقلب الحكيم، ومن لم يملك غضبه لم يملك عقله) (3)

وعن الإمام الكاظم (علیه السلام):(إن الزرع ينبُتُ في السَّهل ولا ينبُتُ في الصَّفا، فكذلك الحكمة تعمرُ في قلب المتواضع، ولا تعمرُ في قلب المتكبّر الجبّار؛

ص: 145


1- ليس فقط عن المحرمات بل عن فضول الكلام ايضا، روي في عدة مصادر (ان لقمان كان عبداً لداوود - عليه السلام- وهو يسرد الدرع فجعل يُفتله هكذا بيده، فجعل لقمان (عليه السلام) يتعجب ويريد ان يساله، وتمنعه حكمته ان يساله، فلما فرغ منها صبّها على نفسه وقال: نعم درع الحرب هذه، فقال لقمان : الصمت من الحكمة وقليل فاعله، كنت اردت ان اسالك فسكت حتى كفيتني) الدر المنثور 6/ 513 ومصادر اخرى ذكرها في الهامش مفردات الراغب :450)
2- حكم لقمان للريشهري : 26 عن مسند زيد بن علي : 384
3- البحار: 78 / 255 / 129 و ص 312 / 1 و 14 /307 / 17 و 78 / 370

لأن الله جعل التواضع آلة العقل) (1)وعن عيسى (ع): (إنه ليس على كل حال يصلح العسلُ في الزِّقاق(2)، وكذلك القلوب ليس على كل حال تعمر الحكمة فيها، إن الزِّقَّ ما لم ينخرِق أو يَقحَل- اي ييبس – أويَتْفَلْ – اي تكون فيه رائحة نتنة - فسوف يكون للعسل وعاء، وكذلك القلوب ما لم تخرِقها الشهوات ويدّنسها الطمع ويقسِها النعيم فسوف تكون أوعية للحكمة) (3)

وعن الإمام الهادي (علیه السلام): (الحكمة لا تنجعً في الطباع الفاسدة) (4)

وعن الإمام علي (علیه السلام): (غير منتفع بالحكمة عقل معلول بالغضب والشهوة) (5)

وعنه (علیه السلام): (غير منتفع بالعِظات قلب متعلِّق بالشهوات) (6)

6- من اثار الحكمة على السلوك :-

وقد نبّهت الروايات الى عدد من السلوكيات التي تعتبر من آثار وجود مرتبة من مراتب الحكمة لدى الانسان، اي ان الحكمة لابد ان تظهر لها آثار على صاحبها،عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال (ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف

ص: 146


1- البحار: 78 / 255 / 129 وص 312 / 1 و 14 /307 / 17 و 78 / 370
2- الزِّق وعاء من الجلد كالقربة يُتخذ لحفظ ونقل المائعات كالعسل والدبس ونحو ذلك .
3- البحار: 78 / 255 / 129 وص 312 / 1 و 14 /307 / 17 و 78 / 370
4- البحار: 78 / 255 / 129 وص 312 / 1 و 14 /307 / 17 و 78 / 370
5- غرر الحكم: 6397، 6406، 7205، 8706، 6991.
6- غرر الحكم: 6397، 6406، 7205، 8706، 6991.

من لابد له من معاشرته، حتى يجعل الله له من ذلك مخرجا)، وعن امير المؤمنين (علیه السلام) قال (ليس الحكيم من لم يدارِ من لا يجدُ بداً من مداراته) وعنه (علیه السلام) قال (ليس بعاقل من انزعج من قول الزور فيه، ولا بحكيم من رضّي بثناء الجاهل عليه) وعنه (علیه السلام) (الحكماء اشرف الناس انفساً، واكثرهم صبرا، واسرعهم عفوا واوسعهم اخلاقاً)

7- لقمان ينال الحكمة :-

قال تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان : 12] فهو ممن وصل مرتبة الحكمة الحقيقية، روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله (حقا اقول : لم يكن لقمان نبياً ولكن كان عبداً كثير التفكر حسن اليقين، احبَّ الله فاحبَّهُ ومنّ عليه بالحكمة) (1)

ومن كلماته الحكمية التي رواها الائمة المعصومون (علیهم السلام) وهو يوصي ابنه (يا بني ان الدنيا بحر عميق قد هلك فيه عالم كثير، فاجعل سفينتك فيها الايمان، واجعل شراعها التوكل، واجعل زادك فيها تقوى الله، فان نجوت فبرحمة الله ، وان هلكت فبذنوبك) .

يا بني: خفِ الله خوفا لو اتيت القيامة ببرّ الثقلين خفت ان يعذبَّك، وارجُ الله رجاءاً لو وافيتَ القيامة بأثم الثقلين رجوت ان يغفرك لك)

(واعلم انَّك ستسأل غداً اذا وقفت بين يدي الله عز وجل عن اربعة: شبابك فيما ابليته، وعمرك فيما افنيته، ومالك فيما اكتسبته وفيما انفقته، فتأهب لذلك واعدَّ له جوابا، ولا تأس على ما فاتك من الدنيا فان قليل الدنيا لا يدوم بقاؤه،

ص: 147


1- هذه الاحاديث من حكمة لقمان في ميزان الحكمة 2/ 441.

وكثيرها لا يؤمن بلاؤه، فخذ حذركّ وجدَّ في امرك).ومثل هذه الكلمات لا يكفي ان نقراها او نسمعها ونمَّر عليها بل لابد من الاحتفاظ بها ومراجعتها باستمرار وتكفلت كتب بجمع هذه الحكم كموسوعة (ميزان الحكمة) .

8- هل يمكن ان تكون مثل لقمان الحكيم :-

والجواب : نعم، لان ايتاء الحكمة فضل من الله تعالى مفتوح ومعروض لكل من يستحقه ولذا حثّت الآية الكريمة على ان نكون من اهلها، وذلك اذا سرت على المنهاج المؤدي لتحصيلها كالذي وصفه رسول الله (صلی الله علیه و آله) آنفاً عن لقمان الحكيم علماً وعملاً .

وقد ورد في عدة روايات توصيف عدد من اصحاب اهل البيت (علیهم السلام)انهم مثل لقمان الحكيم فقد روي عن الامام علي (علیه السلام) في وصف سلمان الفارسي (من لكم بمثل لقمان الحكيم، وذلك امرؤ منّا اهل البيت، ادرك العلم الاول وادرك العلم الاخر، وقرأ الكتاب الاول وقراء الكتاب الاخير بحر لا ينزف) (1)

بل عن الامام الصادق (علیه السلام) (سلمان خير من لقمان) (2)وورد مثل ذلك في ابي حمزة الثمالي ويونس بن عبد الرحمن فقد روى الفضل بن شاذان قال : سمعت الثقة يقول: سمعت الرضا (علیه السلام) يقول : (ابو حمزة الثمالي في زمانه كلقمان في زمانه، وذلك انه خدم اربعة منا: علي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وبرهة من عصر موسى بن جعفر (علیه السلام)، ويونس بن عبد

ص: 148


1- بحار الانوار : 10/ 123ح2.
2- بحار الانوار : 22/ 331ح42.

الرحمن كذلك هو سلمان زمانه) (1) هذه هي الحكمة التي فيها خير كثير، فاطلبوها طول عمركم ودوّنوا ما ترزقون منها في دفتر خاص لتستفيدوا منها دائما وتراجعوها وتتعظوا بها وتتخذوها برنامجا لحياتكم.

9- الحكمة اساس لتقييم الاشخاص :

صحيح ان التدين اساس تقييم الاشخاص فيُعطى قيمة اكبر كلما كان التزامه باحكام الشريعة ادّق واكثر الا ان الدين لا يقتصر على العبادات المعروفة، فاذا اردنا التعامل مع شخص كمصاحبته و مصادقته او تزويجه ومصاهرته، فانه لا يكفي ان يكون ملتزماً بالواجبات الدينية المعروفة كالصلاة والصوم وتجنب الكبائر كشرب الخمر والزنا وان كان في هذا خير كثير، وانما نبحث ايضا عن حكمته وتعقلّه لان الحكمة عُبر عنها في الكثير من الاحاديث بالعقل، وذلك يعني ان نختبر حسن تصرفه ومعاشرته وتعامله وانه يضع الامور في مواضعها ويتحلى بالحكمة والاخلاق الفاضلة، وقد وردت في ذلك احاديث شريفة، منها ما اشتهر عن اهل البيت (علیهم السلام) روايتهم لحديث جدهم المصطفى (صلی الله علیه و آله) (اذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجّوه الا تفعلوا تكن فتنة في الارض وفساد كبير) (2).

فلم يكتفِ الحديث بان يكون دينه مرضيا بل ان تكون له حكمة في تصرفاته .

ص: 149


1- رجال الكشي : 302 ترجمة يونس بن عبد الرحمن.
2- وسائل الشيعة : كتاب النكاح : ابواب مقدماته وادابه / باب 28.

خطاب المرحلة 428 :(لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)

خطاب المرحلة 428 :(لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)(1)

(الرعد : 11)

التعقيب هو ان يأتي شيء بعد شيء ويتلوه كتعقيب الصلاة بالدعاء والذكر بعدها مباشرة، وأُستعير للولد وولد الولد فسُمّوا اعقاباً لانهم يتلون ابائهم ويخلفونهم، قال تعالى (لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) (الرعد : 41) اي لا يوجد من يملك حق المراجعة والنظر في حكم الله تعالى وفعله ومعارضته والغائه، وهي جملة خبرية تنبئي عن هذه الحقيقة، وبنفس الوقت تفيد انشاء النهي عن الخوض في البحث عن علة التشريعات والجدوى منها وحكمتها اذا لم يرد بها بيان شرعي كالنهي عن الخوض في القدر والذات الالهية .

والاعتقاب : ان يتعاقب شيء بعد آخر كإعتقاب الليل والنهار، فالمعقبات (2) في الآية ملائكة تتعاقب على العبد حافظة له، وهي جمع مفرده معقبّة،

ص: 150


1- كلمة القاها سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) يوم الجمعة 15/ذح/1435 الموافق 10/10/ 2014 تزامناً مع احتفال المسيحيين الكاثوليك بعيد الملائكة الحارسة .
2- هذا ما اردنا بيانه من وجوه تفسير الآية، ويمكن أن يكون معناها ان هذه الملائكة تتعقب الانسان وتحفظ عليه كل شيء حتى لحظات العيون وخطرات الظنون، فيكون الضمير في (له) يرجع للإنسان ويكون قوله تعالى (مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) متعلقاً بالمعقبات وليس ب-(يحفظونه) بل تكون كلمة (يحفظونه) كالبيان التوضيحي وإلا فان كلمة معقبات كافية للدلالة على هذا المعنى، وهذا

ومعناها الجماعة التي تتعاقب او انها صيغة مبالغة من معقِّب كالعلاّمة او البحّاثة او الرحّالة.فالآية تبين لنا حقيقة غائبة عنا ولا نستطيع ان ندركها بأبصارنا وحواسنا لأنها من عالم الغيب، وتُعدُّ من نعم الله تعالى على عباده التي لم يُلتفت اليها، وهي ان له تعالى عند كل احد ملائكة تتعاقب عليه في جميع اوقاته لتحفظه بأمر الله تعالى من امر الله الذي قضى بجريان السنن والقوانين التي تحكم عالم الموجودات أن تؤثر فيه، كما ان الله تعالى يغلّب رحمته بأمره تبارك وتعالى على عدله الذي هو من امره تعالى (يامن سبقت رحمته غضبه) .

ومن هذا القبيل ما روي عن امير المؤمنين (علیه السلام) انه كان جالساً الى جدار آيل للسقوط ثم قام عنه لئلا يسقط عليه فقيل له: يا امير المؤمنين (علیه السلام) : أتفِرٌّ من قضاء الله ؟ قال (علیه السلام) (أفر من قضاء الله إلى قدره عز وجل)(1) .

اي ان الله تعالى قضى ووضع قوانين كلية تسيِّر هذا الكون كاقتضاء السقوط من شاهق الى الارض تكسّر العظام والموت، او اقتضاء الغرق في الماء انقطاع

ص: 151


1- توحيد الصدوق ص369.

النفس والموت، الا ان يتخذ التدابير المانعة من ذلك، او يمتنع اصلاًَ من المضي في هذه الافعال، فالقوانين المؤثرة هي قضاء الله تعالى، اما قدره فهو تحقيق اسباب جريان هذه القوانين والانسان هو الذي يختار هذا الطريق او ذاك وعندئذٍ يقّدر الله تعالى له ما يشاء بحسب المقدمات التي يختارها بنفسه.وفي رواية عن الامام الباقر (علیه السلام) يفسّر فيها قوله تعالى يحفظونه من امر الله قال (علیه السلام) (بأمر الله، من ان يقع في رَكيّ- وهي البئر – او يقع عليه حائط او يصيبه شيء حتى اذا جاء القدر خلّوا بينه وبينه، يدفعونه الى المقادير، وهما مَلَكان يحفظانه باليل، وملكان بالنهار يتعاقبانه) ومثله(1) حديث عن الامام الصادق (علیه السلام) وفي نهج البلاغة عن امير المؤمنين (علیه السلام) (ان مع كل انسان ملكين يحفظانه فاذا جاء القدر خلّيا بينه وبينه).

هذه الحقيقة يستطيع ان يدركها الفطن الواعي ببصيرته ووجدانه عندما يلتفت الى احتمالات الخطر والضرر المحيطة به من لدن تكوّنه حملاً في بطن امه وبعد ولادته ونموّه طفلا صغيراً وفي كل مراحل حياته، فلو فكر في حصول خلل ما في تركيب جسمه ووظائف اعضائه او عندما يركب الطائرة او السيارة او يمارس عملاً معيناً ثم يتصور ما يمكن ان يحصل له فانه يصاب بالذهول و الرعب وانهيار الاعصاب لكن الله تعالى سخّر الملائكة المتعاقبة لتدفع عنه كل تلك الاحتمالات ويستمر في حياته ويعمّر طويلاً، بل قد يتعرض فعلا لحوادث خطيرة ثم يخرج منها سالما معافى.

وينبغي الالتفات ايضاً الى الحفظ المعنوي – اذا صحّ التعبير – وذلك من

ص: 152


1- راجعها في تفسير البرهان : 5/ 194.

خلال تأثير الملائكة الحافظة في الدعوة الى فعل الطاعة وتزيينها وترغيب الانسان فيها، وتجنيب المعصية وتكرهيها للإنسان وهو ما يسمى بالتوفيق واللطف الذي يجريه الله تعالى على ايدي ملائكته، وقد يكون الامر اكثر من ذلك بان تهيئ له موضوع الطاعة كأن تجعله يلتقي بشخص محتاج ليساعده او تأتي به الى مكان ليستمع موعظة مفيدة تنفعه او يذهب باتجاه معيّن ثم يحس بداخله ما يدعوه الى تغيير مساره فيجد نفسه انه قد ازداد حسنة او اجتنب سيئة، وبالمقابل تجنبّه موارد المعصية وتحول بينه وبينها او تُوجِد موانع لارتكابها، حتى لو ارتكبها فان تلك الملائكة تمنع حصول تداعيات وآثار سلبية لها عليه.في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (للمؤمن اثنان وسبعون سترا فاذا اذنب ذنباً انهتك عنه ستر، فان تاب ردّه الله اليه وسبعة معه، وان ابى الا قُدما قُدما في المعاصي تهتك استاره، فان تاب ردّها الله اليه ومع كل ستر منها سبعة، فان ابى الا قدما قدما في المعاصي تهتك استاره، ويبقى بلا ستر واوحى الله تعالى الى ملائكته ان استروا عبدي بأجنحتكم)(1).

فهذه الملائكة موّكله من قبل الله تعالى بحفظ الانسان من جريان القوانين الطبيعية التي اودعها الله تعالى في الكون على خلاف مصلحته وخيرِه رحمة وفضلا من الله تعالى فالإنسان أعجز من ان يواجه وحده كل تقلبات الكون وأحداثه وحوادثه والعوامل المؤثرة فيه وهي كلها من أمر الله تعالى.

ونستطيع الان ان نستخلص من الآية درسين مهمين في حياة الانسان:

الأول: تطمينه من قبل الله تبارك وتعالى بأن مع كل انسان من يحفظه

ص: 153


1- بحار الانوار : 73/ 63.

ويرعاه ويدفع عنه كل ما لا يلائم صلاحه، فلا داعي الى القلق والمخاوف والهواجس المرعبة مما يحصل في المستقبل القريب او البعيد، هذا القلق الذي تعاني منه الشعوب في الغرب رغم توفر اسباب الترف والحياة المنعّمة وتؤدي ببعضهم الى الانتحار ليتخلص بزعمه من هذا الرعب والخوف ولو التفت الى هذه الحقيقة القرآنية لاطمأن بوجود رب شفيق رحيم ودود يرعاه ويخصص ملائكة لحفظه ورعايته.الثاني: في الآية تكريم عظيم للإنسان من خالقه بأن يجعله اداة تنفيذ عملية الاصلاح وتحقيق السعادة التي يريدها الله تعالى لخلقه، وتدعوه الى أن يتحمل بنفسه مسؤولية التغيير ولا يترك الأمر للعوامل الخارجية لكي تتصرف في البشر وتنتهي الى نتائج خارجة عن اختياره، لان الله تعالى كلّف الملائكة تمنع من هذه التأثيرات.

فللإنسان باعتباره عاقلا مختاراً دور في هذه العملية فيستطيع ادامة عمل هذه الملائكة الحفظة بان يلح في الدعاء مثلا او يتصدق فيدفع البلاء او ينشئ المؤسسات النافعة أو ينشر العلوم المثمرة والأخلاق الفاضلة أو يقوم بأعمال صالحة فيكّفر عن سيئاته التي تجلب له السوء، وقد يعرقل عمل هذه الملائكة الحفظة ويجعلها ترفع يدها عنه كما لو قطع رحمه فتسبب في تقصير عمره، او ارتكب من الذنوب ما ينزل النقم او تسلب النعم او تحبس الدعاء ونحو ذلك، او ترك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فتسبّب في تسلط الاشرار، بحسب ما افادته الآيات الشريفة .

لذلك جاء في تكملة الآية (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا

ص: 154

بِأَنْفُسِهِمْ)(الرعد:11) فالمعقبات الحفظة ليس عملهم مطلقاً غير مشروط ولا محدود بل هو مطلق لكل الناس الى مقدار معين ثم يكون مشروطاً باختيار الانسان حتى لا يتساوى المحسن والمسيء، وحتى تظهر آثار من أحسن عملاً، وعاقبة من اساء عملاً على كيانهما ووجودهما، في مجمع البيان عن أمير المؤمنين (علیه السلام) في تفسير الآية قال (انهم ملائكة يحفظونه من المهالك حتى ينتهوا به الى المقادير فّيخلون بينه وبين المقادير) وفي هذه الحقائق ردّ على من قال بحتمية التاريخ أو الجبر ونحو ذلك من النظريات السالبة لدور الانسان في التغيير.عيد الملائكة الحارسة لدى الكاثوليك:

مما يجدر ذكره ان المسيحيين الكاثوليك يحتفلون يوم 2/10 من كل عام بعيد الملائكة الحارسة ونقلت المواقع الالكترونية عن بابا الفاتيكان فرانسيس قوله في قداسه اليومي في الكنيسة الصغيرة الملحقة بمقر اقامته في الفاتيكان ((ان هناك ملائكة حارسة، وإن العقيدة الخاصة بالملائكة ليست من صنع الخيال بل هي واقع، وبحسب تقليد الكنيسة فنحن جميعاً لدينا ملاك معنا يحمينا ويساعدنا على فهم الاشياء)) وأضاف ((ان لا أحد يقطع رحلة الحياة بمفرده ويجب الا يعتقد أحد أنه وحيد)) وتساءل موضحاً هذه الحقيقة ((كم من المرات سمعنا : عليَّ أن افعل هذا وعليَّ ألا أفعل ذاك فانه ليس صائباً وكن حذراً، نسمع ذلك في احيان كثيرة, إنه صوت ملاكنا الذي يرافقنا)).

وأشار الى مدخلية اختيار الانسان في هذه الحقيقة بقوله ((ان إحتمالات اتخاذ قرارات خاطئة تكون اقل بين الاشخاص الذين يستمعون الى نصائحها))

ص: 155

لذلك أقترحَ على المشككين أن يسألوا أنفسهم ((كيف هي علاقتي مع ملاكي الحارس؟ هل استمع اليه؟ هل اقول له صباح الخير ؟ هل أطلب منه ان يحرسني اثناء نومي)) واسئلته هذه طبعاً تنطلق من المستوى الذي يراه للعلاقة مع ربّه أو مع الملائكة.واعتقد انه بذلك يرّد بشكل غير مباشر على الذين يبلغ بهم الجزع في الحوادث المؤلمة الى حد إنكار وجود هذه الملائكة الحافظة او انكار وجود الله عز وجل أصلاً، ومثال الاول سلفه البابا بنديكتوس السادس عشر الذي أصر عام 2012 على نفي وجود ملائكة تنشد خلال ميلاد السيد المسيح – بحسب تعبيره - .

ومثال الثاني كبير اساقفة كانتربري جاستن ويلبي الذي يتزعم 80 مليون شخص ينتمون الى المذهب الانجليكي المسيحي في العالم فقد كشف في لقاء(1) مع الصحافية لوسي تيغ للبي بي سي ((انه يشك احياناً بوجود الله ويتساءل لماذا لم يتدخل العلي القدير لمنع الظلم)) وروى ما خطر بباله حين كان يركض ذات صباح مع كلبه مؤخراً وقال ((قبل ايام كنت ابتهل اثناء الركض وانتهى بي المآل الى مخاطبة الرب : أنظر ! إن هذا كله أمر حسن ولكن ألم يحن الوقت لأن تفعل شيئاً إذا كنت موجوداً؟)) لكنه استدرك واعترف بعجزه وقال: ((نحن لا نستطيع أن نفسر كل المسائل في العالم، لا نستطيع أن نفسر ما يتعلق بالمعاناة، لا نستطيع أن نفسر كثيراً من الاشياء)) وحين سئل عما يفعله في مواجهة تحديات الحياة أدعى ((انه يدعو المسيح ان يساعده

ص: 156


1- نشر اللقاء على المواقع الإلكترونية في شهر 9/ 2014.

وهو يلتقطني))، وأظن ان شكوكه هذه ناشئة من القلق والرعب الذي يسوّد الغرب بعد أن قويت شوكة الارهاب وانخرط فيه الالاف من مواطنيهم ممّا يشكل تهديداً خطيراً لبلدانهم.أقول : لقد حل القرآن الكريم كل هذه الاشكالات وأجاب عن التساؤلات لان الملائكة الحافظة موجودة وتؤدي عملها للجميع إلا ان الانسان بسوء اختياره يوقف مساعدتها له في مرحلة معينة بمعاصيه وذنوبه فيجّر على نفسه البلاء، رغم كثرة ما يغفر الله تعالى من الذنوب.

قال تعالى (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) (الشورى:30)، إلا ان سُنة الامتحان لابد أن تمضي فيكافأ المُحسن على احسانه والمسيء على أساءته وإلا ستكون المساواة بينهما عين الظلم، ولنأخذ امثلة من واقعهم، مثلاً تجري منافسات على كأس العالم فتفوز دول وتخسر اخرى فيحزن جمهورها ويبكي وقد ينتحر بعض المتعصبين، فهل يصح ان نقول ان من الظلم السكوت عن هذه الالام وعلينا ان نعطي كأس البطولة لجميع الدول حتى لا يتألم احد.

ونفس الشيء يحصل لطلبة الجامعات والمدارس ولا يوجد عاقل يطالب بمساواة الجميع واعطائهم كلهم درجات النجاح لكي لا يتألم احد، وهذا ما خفي على اسقف كانتربري والتفت اليه بابا الفاتيكان وطلب من الناس اتباع نصائح الملائكة الحارسة.

ص: 157

خطاب المرحلة 429 :(خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا)

خطاب المرحلة 429 :(خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا)(1)

(سورة لقمان/10)

ذكرت الآية عدداً من النعم الالهية ومعجزات الخلق قال تعالى (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) لقمان /10.

خلقَ الله السماوات بكل تفاصيلها الهائلة الممتدة بغير حدود كالسقف للأرض الضئيلة التي نسبتها اليها كالعدم وهذه حقائق فلكية يعرفها حتى غير المختصين ممن له اطلاع على عجائب الكون. قال تعالى: (وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ) الأنبياء32 ومحفوظا يمكن ان يكون معناها حافظاً اذ قد ياتي اسم المفعول بمعنى اسم الفاعل كقوله تعالى: (حِجَاباً مَّسْتُوراً) اي ساترا، وقد ثبت علميا ان غلاف الجو الغازي المحيط بالارض يقيها من اخطار الشهب والنيازك الساقطة عليها من جهاتها المختلفة.

والسقوف تحتاج الى اعمدة لتستند عليها لكن السماوات لم تستند الى اعمدة مرئية كالأعمدة المتعارفة وانما ثبتت واستمرت في وجودها واداء وظائفها, وفق مستندات غير مرئية، في رواية حسين بن خالد عن الامام الرضا (علیه السلام) انه قال: (سبحان الله! اليس الله يقول (بغير عمد ترونها) قلت: بلى، قال:

ص: 158


1- كلمة مرتبطة بالخطاب التالي عن قوله تعالى(هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ).

ثَمَّ عمد ولكن لا ترونها)(1) وهي قوانين نظّم الله تعالى بها حركة الكون كقانون الجاذبية والكثافة والسرعة والكتلة ونحو ذلك، فهذه حقيقة علمية اشارت اليها الآية.وجعل تعالى على الارض جبالا راسيات تشبيهاً بالمرساة التي تثبّت السفينة في البحر وتحافظ على توازنها وتقودها الى الاستقرار على الساحل، وكذلك الجبال تحافظ على توازن الارض واستقرار حركتها وحفظها من الميلان والاضطراب، ولولاها لكانت الارض كالأرجوحة او كالبالون المنفوخ عندما يندفع الهواء منه بقوة فتتقاذفه الغازات من موضع الى اخر بلا استقرار وكذلك يحصل للأرض بسبب الغازات الهائلة في باطنها، او كانت الارض كالمياه التي تتعرض للمد والجزر باستمرار بفعل تأثيرات جاذبية القمر، فكانت الجبال سبباً لجعل (الاَرْضَ مِهَادا)ً النبأ / 6 لأنها تعمل كسلسلة مترابطة الجذور مثل حديد التسليح للكونكريت، وهذه حقيقة علمية ثانية.

(وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ) ونشر على الارض وفي المياه التي تغطي سطحها هذا التنوع الهائل من المخلوقات التي تدَبّ فيها بحركة دائبة، ففيها من احادية الخلية الى الانسان ذي التركيب المعقّد مما يعطي جمالية وتوازناً وتلبية للأذواق، وليُظهر الله تعالى قدرته وعلمه وحكمته، وليقيم الحجة على من يتصور عجز الخالق عن ايجاد شكل من الاشكال او نوع من الانواع(2)، وكنّا

ص: 159


1- تفسير البرهان: 2/ 278.
2- في علل الشرائع: 1 /14 بسنده عن الامام الرضا (عليه السلام) وقد سُئِل: لِمَ خلق الله سبحانه وتعالى الخلق على انواع شتى ولم يخلقهم نوعا واحدا، قال (عليه السلام): (لئلا يقع في الاوهام انه

نقرأ في علم الحيوان ان عدد انواع الطيور فقط (900) الف نوع بحسب ما توصّلوا اليه آنذاك. فهذا التنوع معجزة من معجزات الخالق وحقيقة علمية يذكرها ولكل من هذه الانواع خصائصه وتركيبه الذي يناسب دوره في هذه الحياة، لتدحض ما زعمه دارون في نظريته (اصل الانواع)(1)، اذ ليست هذه الانواع مراحل متدرجة مرّت بها المخلوقات وارتقت فيه من نوع لآخر حتى وصلت الى ارقاها وهو الانسان، بل هي مخلوقة بهذا التنوع وبقيت على هذا التنوع ولم ينقلب احدها الى آخر.(وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) تعمر به الحياة (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ) الأنبياء30 وهيأ تعالى السماء والارض والمياه والرياح والحرارة وكل ما له دخل بنزول المطر بكيفيات تنظّم هذه النعمة وتديمها وهذه القوانين لا تدع اي عاقل يحتمل ان القضية عشوائية ووجدت صدفة(2) وهذه حقيقة علمية رابعة في الآية.

ص: 160


1- اختصر عالم الاحياء المجهرية المشهور البروفيسور (ميشيل دانتون) في كتابه (التطور: نظرية في مازق) رده على نظرية دارون في قوله (في عالم الجزئيات والاحياء المجهرية لا يوجد هناك كائن حي يعّد جدا لكائن اخر، ولا يوجد هناك كائن اكثر بدائية، او اكثر تطورا من كائن اخر) باعتبار كل كائن (ميسر لما خُلقَ له) بحار الانوار - ج5 ص157.
2- قدمنا بعض التفاصيل عنها في محاضرة سابقة بعنوان (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ) الملك /30.

(فأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) لقمان/10 وهذه الزوجية في النباتات وحاجتها الى التلقيح كالإنسان والحيوان بالطرق المختلفة المعروفة حقيقة علمية اخرى، ووُصِف النبات بانه كريمٌ لعطائه الواضح فهو غذاء الحيوان والانسان على كثرة افرادهما، ولأن الله تعالى نسبه اليه فنال التكريم بهذه النسبة، ولإظهار كمال العناية بهذه القضية انتقل بالضمير في هذا المقطع من الغائب الى المتكلم.ولعل هذه العناية الاضافية لان هذه العجيبة – انزال المطر وانبات الارض- امتزج فيها الخلق مع التدبير والقيمومة التي هي من شؤون الربوبية وهي محل خلاف المشركين الذين لا ينكرون الخالقية لله تعالى وحده ولا يدّعون لآلهتهم ذلك (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) لقمان /25 وانما يزعمون ان الهتهم تدبّر الكون وان الخالق اوكل اليها شؤون التصرف في المخلوقات (أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار) يوسف/39 فيحتج عليهم بان تلك الالهة لو كان لها تدبير لكان عليها ان تخلق ادوات ووسائل هذا التدبير كإنزال الماء من السماء وانبات الارض، واذا عجزوا عن الخلق فهم عاجزون عن التدبير، فلا مدبّر ولا ربّ ولا خالق ولا اله الا الله تبارك وتعالى.

فهذه حقائق علمية عديدة ومعجزات هائلة في الخلق جمعتها اية واحدة فكان مجيئ اية (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ) تلقائيا وطبيعيا بعد الآية المذكورة

ص: 161

خطاب المرحلة 430 :هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ

خطاب المرحلة 430 :هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ(1)

(سورة: لقمان/11)

(هَذَا خَلْقُ اللَّهِ) اي هذه مخلوقات الله تعالى ف- (خلق) اسم مصدر بمعنى المفعول، في تفسير القمي (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ) اي مخلوق الله، لان الخلق هو الفعل، والفعل لا يُرى وانما اشار الى المخلوق، والى السماء والارض والجبال وجميع الحيوانات فأقام الفعل مقام المفعول(2).

(فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ) من الآلهة والشركاء التي يدّعونها، وهذه الدعوة تتضمن عدة معانٍ:

1-تحدي المشركين والملحدين والكفار ليقدّموا ما صنعته الهتهم التي يعبدونها من دون الله، فاذا عجزوا - وهم عاجزون قطعاً حتى عن استنقاذ ما يسلبهم الذباب منه وهم يعلمون بعجزهم- فليذعنوا بألوهية الله تبارك وتعالى وليثوبوا الى رشدهم وليحترموا عقولهم، فالآية فيها تحدي وتعجيز وانتزاع للإقرار منهم.

ص: 162


1- من حديث سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من اطباء الاختصاص واساتذة في كلية الطب والصيدلة من عدة مدن عراقية يوم السبت 14/محرم الحرام/1436 المصادف 8/ 11/ 2014
2- تفسير البرهان: 7 / 278.

2-اظهار حب الله لخلقه وتكريمه تعالى اياهم واحترامه لهم باعتبارهم صنعا جميلا له تبارك وتعالى حتى انه سبحانه يتباهى بهم امام الاخرين فيقول (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ)كما ان الصنّاع المبدعين يتباهون بما صنعوا امام اهل المهنة والزبائن.

3-تذكير عباده بنعمته العظيمة ومعجزاته في خلقه التي يغفلون عنها لطول الفتهم لها واعتيادهم عليها ولجهلهم او أي شيء اخر فتراهم يقفون مبهورين امام جهاز يصنعه الانسان ويتقن صنعه لكنهم يمرّون معرضين على هذا الخلق العجيب.

4-الفات نظرهم الى تجليات صفاته الحسنى في صنعه من القدرة والعلم والحكمة والعظمة والإنعام ونحو ذلك ليزدادوا معرفة بربهم (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الافَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فصلت / 53 .

وهنا يأتي الحكم النهائي الذي يصدره كل عاقل منصف على من لم يُذعن بهذه الحقائق وليتوجه الى خالقه الحقيقي (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) لقمان / 11 الذين ظلموا انفسهم بعدم اتباع الحق (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) لقمان/ 13 رغم كل هذه الحجج الدامغة (فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) الأنعام / 149، فعبدوا وخضعوا لآلهةٍ من دون الله تعالى سواء كانت مادية صنعوها من الحجر او الخشب او التمر او اعتبارية صنعوها من شهواتهم وحماقاتهم او صنعها الاخرون من جبابرة وطواغيت او اسواق مالية او الفن او الرياضة ونحو ذلك من الرموز التي تعبد وتُطاع من دون الله تعالى، فمن اضّل من هؤلاء، ومن هو

ص: 163

احمق واجهل منهم (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)الأعراف /179.بعد هذا العرض المختصر لما نفهمه من الآية الكريمة نقول انكم – معاشر الاطباء والمتخصصين في العلوم الطبية والعلاجية- اقدر الناس على فهم المعاني التي ذكرتُها لهذه الآية من الانبهار والتحدي بخلق الله تعالى والفات النظر الى عظيم نعم الله تعالى لأنكم وقفتم على التفاصيل المذهلة في جسم الانسان وفي كل ذرة من ذراته حتى خاطبه الشاعر:

أتحسب انك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبرٌ

ويكون ايمانكم وتدينكم حينئذٍ ذا قيمة اكبر لأنه عن معرفة ووعي وبرهان .

قرأت كتاباً في فسلجة جسم الانسان صدر في اوائل سبعينيات القرن الماضي أبّان المواجهة بين الايمان والالحاد وكان عنوانه (الطب محراب الايمان) وهي اطروحة دكتوراه في هذا الاختصاص وذُهلتُ من عجائب خلق الانسان وبنفس الوقت اصابني الرعب لان اي اختلال في موازين هذه القوى والهرمونات او اداء اعضاء لوظائفها – وهي عبارة عن مصانع معقدة ضخمة- فانه يؤدي الى كارثة صحية تجعل الحياة بائسة لولا لطف الله تبارك وتعالى .

فهنيئا لكم هذه النعمة العظيمة اذ بعد تحصيلكم لهذا العلم الشريف وُفِّقتم لممارسته هذه المهنة النبيلة ذات الوزن الكبير في ميزان الاعمال الصالحة لان فيها انقاذ حياة الناس والتخفيف من آلامهم وادخال السرور عليهم وتفريج

ص: 164

الكروب عنهم وهي من اعظم القربات الى الله تعالى وثوابها عند الله عظيم في الدنيا والاخرة مع اخلاص النية والعمل لما عند الله تبارك وتعالى .هذا ولكن الامام الحسين (علیه السلام) يدلّنا على تجارة اربح من تجارتكم العظيمة هذه، وتستطيعون الجمع بينهما من خلال حديثه الآتي، قال (علیه السلام) لرجل: (ايهما احبُّ اليك، رجل يروم قتل مسكين قد ضعُف تنقذه من يده، او ناصب يريد اضلال مسكين من ضعفاء شيعتنا تفتح عليه ما يمتنع به ويفحمه ويكسره بحجج الله تعالى) قال (علیه السلام): (بل انقاذ هذا المسكين المؤمن من يد هذا الناصب، ان الله تعالى يقول َ(مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعا) المائدة32 اي ومن احياها وارشدها من كفرٍ الى ايمان فكأنما احيا الناس جميعا من قِبلَ ان يقتلهم بسيوف الحديد) (1) .

فهذه المعرفة وهذا الايمان الذي اكتسبتموه من مشاهدة وبرهان مع ما تضيفون اليه من معارف دينية واخلاقية وفكرية تستطيعون نقلها للآخرين فتجعلون منها وسيلة للهداية والاصلاح وتحصين اخوانكم من الانحراف فتسيرون بذلك على خُطى الانبياء والمرسلين والائمة (صلوات الله عليهم اجمعين).

ان مجتمعنا خصوصا جيل الشباب يتعرضون لهجمات متنوعة من الداخل والخارج مليئة بالشبهات والفتن والضلالات لإبعادهم عن الدين القويم والصراط المستقيم فلابد من ان تتعبوا انفسكم وتتسلحوا بالعلم والمعرفة ونشرها لتحصين شبابنا من الانحراف الفكري والاخلاقي .

ص: 165


1- بحار الانوار: 2 / 9 ح17 عن تفسير العسكري: 348 / ح 231

تأتيني رسائل عديدة من الشباب عبر الايميل يتحدثون فيها عمّا يتعرضون له اثناء ايفادهم خارج العراق من مؤثرات وغسيل دماغ بأساليب علمية ينبهر بها المتلقي فيتبع اجنداتهم، وهم مخادعون يعطونه نصف الحقيقة، ويوهمونهُ انها تنفي وجود الخالق او تؤدي الى عدم الحاجة الى الدين ونحو ذلك ولو اعطوا الحقيقة كاملة لوجدوها لا تنافي الدين على اقل تقدير وربما ستجدها مؤيدة للثوابت الدينية بل ان تعاليم الدين سبقت العلم الى الكثير من الحقائق التي اكتشفها لاحقاً وقد رأينا كيف صوّروا نظرية اصل الانواع او الانفجار العظيم او علم الداينتكس على انها تنفي وجود الخالق مع انها على العكس تماماً ولكن تحتاج الى اخذ المعلومة كاملة .

ص: 166

خطاب المرحلة 431 :(وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ)

خطاب المرحلة 431 :(وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ)(1)

(سورة البقرة / 191)

تقرّر الآية الكريمة واحدة من الحقائق القرآنية الاستراتيجية –كما يقال- التي ترتّب أولويات الحياة الانسانية وتنظم العلاقة مع الآخرين، وورد هذا المعنى بتعبير اخر في آية لاحقة، قال تعالى: (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) البقرة / 217.

الفتن في اللغة ادخال الذهب او الفضة في النار لتخليصه من الشوائب وتمييز الجيد من الرديء ومنه نقلت الى معنى تعريض الانسان الى الاختبار والابتلاء والتمحيص بالإغراءات او بالمكاره والآلام ليتميز المحسن من المسيء، قال تعالى: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) الانبياء / 35 وقال تعالى: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) التغابن / 15 باعتبار انها ادوات واسباب للاختبار والتمحيص، وقال تعالى: (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) العنكبوت / 1-2 اي لا يُختبرون حتى يتميز الخبيث من الطيب، روي عن الامام الكاظم (علیه السلام) في تفسيرها قوله: (يُفتنون كما يُفتن الذهب، ثم

ص: 167


1- كلمة سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) امام طلبة بحثه الشريف في افتتاح العام الدراسي يوم الاحد 15/محرم/1436 الموافق 9/ 11/ 2014

يخلَصون كما يُخلص الذهب) (1).هذا هو معنى الفتنة اذا نُسبت الى فعل الله تعالى فتكون من السنن الالهية الجارية في عباده، وقد وردت الفتنة بمعنى مذموم في آيات اخرى، ولدى الاستقراء تبين ان هذا المعنى يرد اذا نُسبت الفتنة الى العباد فيُراد بها التعريض لضغوط الاغراء او الاكراه طلبا لتحقيق النتيجة الشريرة والخبيثة من الابتلاء كما في الآيتين محل البحث وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ)البروج / 10 وقوله تعالى: (وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ) المائدة / 49 وقوله تعالى: (وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ) الاسراء / 73 وذلك بتدبير الحيل والمكائد لك وممارسة الضغوط والاغراءات عليك لصرفك عما انت عليه من الحق.

وعلى هذا يكون معنى الآية ان الفتنة بمعنى الاضلال والابعاد عن الدين وايقاع الفرد في الفساد والانحراف هو اشد واكبر من ازهاق روحه، او قل ان القتل المعنوي للإنسان بسلب دينه الذي هو سبب نعيمه في الحياة الخالدة الدائمة، هو اشد خطرا واكبر جرما من سلب حياته المادية وفنائه الجسدي، ولإقامة الشهادة على هذه الحقيقة كان القتل من أجل دفع الفتنة والضلال وحماية الدين والمجتمع منها اقدس مراتب القتل وافضلها.

ويترتب على هذا أنَّ من يفتن الناس عن دينهم باي شكل مما سنُشير اليه يجب دفعه بشتّى الوسائل كالذي يهدد حياة الناس بل الاول احرى وان لم يشهر سلاحا، ولعل هذا هو المسوِّغ الوحيد للقتال في الاسلام بحسب ما يفيده القران الكريم، وبقية الاسباب والمسوِّغات ترجع اليه، قال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ

ص: 168


1- الكافي: 1/ 302 / ح4

حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ) البقرة / 193 وفي اية اخرى: (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه)الأنفال / 39 وهذه نتيجة مهمة تُزيل الكثير من الشبهات حول انتشار الاسلام بالسيف ونحو ذلك، لكنها تحتاج الى تفصيل من البحث(1) في مناسبة اخرى ان شاء الله.وقد جاء هذا المقطع من الآية جوابا للمشركين الذين استغربوا من قتال المسلمين في الشهر الحرام او في الارض الحرام بانكم –ايها المشركون- ارتكبتم فيها ما هو اعظم من القتل و القتال بأفعالكم الوحشية المحمومة لإخراج الناس من دينهم واعادتهم الى الجاهلية، قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)البقرة217.

وفي بعض الروايات ان الفتنة بمنزلة الكفر، ففي الحديث عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: (وانما سُمّي الكفر فتنة لان الكفر يؤدي الى الهلاك كما تؤدي الفتنة الى الهلاك) (2)

ولا فرق في تحقق هذه الفتنة بين ان تكون بالتهديد والايذاء المباشر، او بإقامة البيئة الفاسدة الضاغطة التي من شأنها ان تضلّ الناس عن دينهم وتبعدهم عن الصراط الالهي القويم بتوفير اسباب الفساد المؤثرة والاغراء وادوات التلويث الفكري والعقائدي في مناهج التعليم والثقافة والمعرفة او سنّ القوانين التي تشرعن للرذيلة والظلم وتعيق نشر الفضيلة والصلاح.

ص: 169


1- راجع كتاب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) من موسوعة فقه الخلاف: الجزء الثاني.
2- تفسير التبيان: 2 / 147

وبناءً على هذه الحقيقة القرآنية فان الذين ينشرون الفساد والرذيلة في المجتمع ويشككون الناس في عقائدهم الحقة ويدعونهم الى الالحاد والانحلال الخلقي ونبذ الدين تحت مسميات عديدة منها قديمة كالدين افيون الشعوب والمضي على ما كان عليه الاباء (أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ) ص / 6 او حديثة تحت عناوين متعددة معروفة لا يقلّون خطرا واجراما عن الجماعات الارهابية الذين ينشرون القتل والخراب في كل مكان، بل ان الجماعة الاولى اكثر اجراما من الثانية لان القتل المعنوي بحسب هذه الحقيقة القرآنية اعظم في الواقع من القتل المادي.وفي مقابل ذلك فان من يحيي وظيفة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ويقيم الدين في المجتمع امتثالا لقوله تعالى (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) الشورى13 وينصح الناس ويرشدهم ويقوّي عقائدهم، ويدفع عنهم الشبهات والاباطيل التي يبثها اعداء الله ليخرجوا الناس من الظلمات الى النور، ويهدونهم الى الحياة الباقية هم اعظم اجرا ومنزلة عند الله من المجاهدين المقاتلين الذين يضحّون بدمائهم من اجل حماية ارواح الناس وحفظ حياتهم المادية.

وفي ضوء هذه الحقيقة نفهم الحديث الشريف عن الامام الصادق (علیه السلام) : (اذا كان يوم القيامة جمع الله عز وجل الناس في صعيد واحد ووضعت الموازين، فيوزن دماء الشهداء مع مداد العلماء، فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء) (1) وليس المراد مطلق المداد والحبر على الورق ما لم يكن علماً ينتفع الناس به ولا يكتفي صاحبه بحمله بل يعمل به وينشره بين الناس ويدعوهم اليه

ص: 170


1- ميزان الحكمة / ج3 / ص 2067

حتى يهتدوا به.وتوجد كلمة قيّمة للإمام الحسين (علیه السلام) مستفادة من هذه الآية تحث على العمل الاجتماعي وتعطيه اعلى قيمة، قال (علیه السلام) لرجل: (ايهما احبُّ اليك، رجلٌ يروم قتل مسكين قد ضعُف تنقذه من يده، او ناصبٌ يريد اضلال مسكين من ضعفاء شيعتنا تفتح عليه ما يمتنع به ويفحمه ويكسره بحجج الله تعالى) قال (علیه السلام): (بل انقاذ هذا المسكين المؤمن من يد هذا الناصب، ان الله تعالى يقول َ(مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعا) المائدة32 اي ومن احياها وارشدها من كفرٍ الى ايمان فكأنما احيا الناس جميعا من قِبلَ ان يقتلهم بسيوف الحديد) (1).

فهذا جواب والقاء المعلومة بصيغة السؤال (ايهما احبُّ اليك) اي ليكن هذا الامر احبُّ اليك من الآخر وانما عرضها (ع) بصيغة السؤال ليشترك المتلقي معه في صنع المعلومة والتفكير فيها والاستعداد اكثر لتقبّلها، والقاها بهذا التعبير الوجداني (أحبّ) لان القناعة العقلية بكون الفتنة عن الدين اشد من القتل حاصلة من الآيتين الكريمتين فالقناعة بهذه الحقيقة كاملة وانما انتقل الامام الحسين (علیه السلام) الى مرحلة العمل بان يكون تعلقك بإنقاذ المجتمع من الجهل والشبهات والفتن وتعليمهم العقائد واحكام الدين والاخلاق الفاضلة اكثر من اهتمامك باي شيء اخر مهما كان مهماً كإنقاذ انسان مستضعف من القتل.

اما لماذا كانت الفتنة عن الدين اشد واكبر من القتل، فيمكن الاجابة عنه بوجوه:-

1-ان الدين وعبادة الله تبارك وتعالى اقدس شيء في هذا الوجود وهو

ص: 171


1- بحار الانوار: 2 / 9 ح17 عن تفسير العسكري: 348 / ح 231

غاية خلق الانسان والهدف من وجوده، لذا يرخّص كل شيء من اجل الاحتفاظ بهذا الحق المقدس، فقد ضحى اكرم الخلق من الانبياء والمرسلين والائمة (صلوات الله عليهم اجمعين) ومن تبعهم من الصالحين بأرواحهم وأعزّ ما عندهم في سبيل اقامة الدين، واثمن تضحية ما نعيش ذكراها هذه الايام وهي تضحية الامام الحسين (علیه السلام).اذن فالعدوان على الدين ومنع الانسان من ممارسة حقه فيه هو اشد من اي اعتداء اخر سواء على الجسد بالقتل او غيره.

2-ان جهاد النفس الامارة بالسوء ومعركة السيطرة على غرائزها وشهواتها وانفعالاتها اشد واكبر من جهاد العدو بالقتل والقتال حتى سمي الاول الجهاد الاكبر والثاني الجهاد الاصغر، فالخسارة في الجهاد الاول وهو الاكبر اشد واخطر من الخسارة في الجهاد الثاني بالقتل.

3-ان الفتنة بلاء وامتحان دائم ومستمر ولا يمكن تجنبه فتحقيق الانتصار فيه عسير وشديد، اما القتل فهي حالة قليلة الحدوث ويمكن تجنب اسبابه فالأول اشد واكبر من الثاني.

4-ان القتل ينهي حياة الانسان المادية في هذه الدنيا وهي زائلة وفانية ولو لم يقتل فانه يموت، بينما الفتنة تكون سببا لشقائه في الحياة الاخرة الدائمة، وانما تكتسب الحياة الدنيا قيمتها بمقدار تحقيقها لنتائج طيبة في الاخرة، فإعدام الحياة الدائمة اشدُّ واكبر من اعدام الحياة الفانية.

5-ان القاتل يزهق روحا واحدة، بينما المفتون عن دينه والمتجرد من خوف الله تعالى والمبادئ الانسانية والملوث عقائديا كالخوارج والتكفيريين

ص: 172

يفتكون بالآلاف من البشر من دون ان يرفّ لاحدهم جفن كما عبَّر بعض الطواغيت المعاصرين.6-ان القاتل ما كان ليقتل لولا انه تخلى عن مبادئه الدينية قبل ذلك فالسبب الاصلي للقتل هي الفتنة عن الدين والانسلاخ عنه، ولو التزم بما يأمره به دينه لتورّع عن القتل (اللهم اصلح لي ديني فانه عصمة امري) (1).

7-ان خطر الفتنة خفي لا يلتفت اليه المفتون غالبا لذا فانه لا يتخذ الاجراءات الاحترازية منه، بل قد يتجاوب معها لأنها توافق شهواته واهواءه، بينما خطر القتل بيّن واضح يخاف منه ويحترز منه.

8-ان الفتنة تعم بضررها مساحة واسعة ولا تقتصر على صاحبها فقط، قال تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) الانفال / 25 بينما القتل يقع على المقصود خاصة.

9-ان فتنة الانسان لأخيه الانسان شرٌ كلها فهي مذمومة اما القتل فيمكن ان يكون سببا لحياة الامة ونجاتها وصلاحها كاستشهاد الامام الحسين (علیه السلام).

ومن مجموع هذه الوجوه يتبين معنى كون الفتنة اشد من القتل، وان دفعها لا يقِلّ وجوباً عن دفعه، لذلك نبهنا دائما ومعنا حكماء القوم الى ان القضاء على الارهاب يتطلب اولا تجفيف منابعه الفكرية التكفيرية، والا ما الفائدة من قتل افراد منهم مهما كثر عددهم مادامت البيئة والحاضنة التي تُفرِّخهم موجودة.

فالإمام الحسين (علیه السلام) وهو يمارس دوره في امامة الامة وهدايتها يرشدنا الى اهمية العمل الديني الاجتماعي والتحرك برسالة الاسلام في اوساط الامة

ص: 173


1- الصحيفة السجادية، من دعاء الامام السجاد (عليه السلام) في يوم الثلاثاء.

ونشر تعاليم اهل البيت (علیهم السلام) والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وصيانة عقيدة المجتمع واخلاقه من الشبهات والانحرافات.وان هذا العمل هو من اهم الواجبات الدينية واعظم المسؤوليات الملقاة على عاتقنا خصوصا نحن الحوزة العلمية والمثقفين والكتاب والمفكرين والاعلاميين؛ لان انحراف العقيدة وتلوّث الغذاء الفكري الذي يتلقاه المجتمع خصوصا الشباب هو الذي يحوّله الى سرطان خبيث يسري في جسد الامة ويرى ان اقرب القربات الى الله تعالى قتل الابرياء وسبي وتهجير النساء والاطفال وتدمير المقدسات وتخريب الحياة كاللوثة التي اصابت عقول الخوارج فاستحلوا الحرمات وبقروا بطون الحوامل وقتلوا الاجنّة.

ويعلمنا الامام الحسين (علیه السلام) ان تكون أدواتنا الحوار البنّاء المفعم بالحجج والادلة والدعوة الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ولا مكان للعنف والتكفير والغاء الاخر، ويدعونا الامام (ع) الى اعتماد مبدأ (الوقاية خير من العلاج) وذلك بقوله (علیه السلام): (ما يمتنع به) اي لا ننتظر وقوع الشبهة لنرفعها بل ان نسلّح ابناءنا بالفكر والعلم ليكونوا محصنين من اختراق الشبهات لهم ولو وقعت لسبب او لآخر فيجب العمل على رفعها قال (علیه السلام): (تفتح عليه ما يمتنع به، ويفحمه ويكسره بحجج الله تعالى).

وان تكون هذه الادلة رصينة وقوية وبنفس الوقت مفهومة وواضحة لتنفتح بها النفس وينشرح لها الذهن قال (علیه السلام): (تفتح عليه) فإنها ادعى للطمأنينة والاقناع كدليل القران على التوحيد (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا)الأنبياء / 22 وقول امير المؤمنين (علیه السلام): (واعلم يا بني انه لو كان لربك شريك لأتتك

ص: 174

رسله) (1) او ادلة كتاب (المراجعات) على الامامة او بحث (كيف خطط رسول الله (صلی الله علیه و آله) للإمامة من بعده).ان فرص القيام بهذا الوظيفة الالهية العظيمة اليوم ونيل الدرجات الرفيعة عند الله تعالى اوسع واكثر تأثيرا من اي زمان مضى للتقدم الهائل في تكنولوجيا الاتصالات والتواصل، واصبح من في اقصى الشرق يسمع ويرى من في اقصى الغرب مباشرة، والكلمة تصل الى انحاء المعمورة والى كل الناس في آن واحد، وما علينا الا ان نشمِّر عن ساعد الجد ونوصل الليل بالنهار بالعمل على بناء انفسنا اولاً اخلاقيا وعقائديا وفكريا ثم ننطلق بهذه الرسالة الى المجتمع، لنتصف بقوله تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً)الأحزاب / 39.

ونلفت نظر الخطباء الاعزاء الذين يظهرون على شاشات التلفزيون او المثقفين الذين ينشرون على مواقع التواصل الاجتماعي الى ان يكون خطابهم عاما شاملا مؤثرا في كل التنوعات الانسانية وليس مقتصرا على الفئة او الشريحة التي ينتمي اليها او الموجودة أمامه، فاستحضر انك تخاطب الموجودين في المغرب او الجزائر ومصر او في اليمن والخليج او الهند وباكستان وروسيا واوربا وامريكا وغيرها من بقاع العالم.

ص: 175


1- نهج البلاغة: 31/ من وصيته لابنه الحسن (عليه السلام).

خطاب المرحلة 432 :عادة ظالمة: عدم تزويج العلويات لغير السادة

خطاب المرحلة 432 :عادة ظالمة: عدم تزويج العلويات لغير السادة(1)

ما دمنا في ايام الامام الحسين (علیه السلام) وذكرى الامام السجاد (علیه السلام) فلنأخذ منهما درساً في اصلاح المجتمع وهدايته الى سعادته، قال الامام الباقر (علیه السلام): (لما حضر علي بن الحسين (علیه السلام) الوفاة ضمّني الى صدره، ثم قال: يا بنيّ: اوصيك بما اوصاني به ابي (ع) حين حضرته الوفاة، بما ذكر أن اباه اوصاه به، قال: يا بنيَّ، إيّاك وظلم من لا يجد عليك ناصرا الا الله) (2)فلنتذكر هذه الوصية التي تواصى بها الائمة المعصومون (علیهم السلام) واحداً بعد واحد في لحظاتهم الاخيرة.

وهذه الوصية تنطبق بشكل واضح على ظلم المرأة العفيفة المصونة الصابرة لأنها لا تجد ناصرا على من ظلمها الا الله تعالى، فلا تملك الا ان تخلو مع ربها وتُفضي بآلامها اليه سبحانه وتدعو على من ظلمها، في الحديث الشريف عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: (اتقوا دعوة المظلوم وان كان كافراً، فانه ليس دونه حجاب)(3) .

بل ان ظلم المرأة من افحش الظلم لأنها مستضعفة، كما ورد في الحديث

ص: 176


1- القيت من خلال قناة النعيم يوم الجمعة 5/صفر/1436 الموافق 28 /11/ 2014
2- الكافي: ص2، ج331، ح 5
3- كنز العمال: 7602

الشريف عن النبي (صلی الله علیه و آله): (اتقوا الله في الضعيفين: المرأة واليتيم) (1) وقال امير المؤمنين (علیه السلام): (ظلم الضعيف افحش الظلم) (2) ونريد ان ننبّه اليوم الى واحدة من المظالم التي تتعرض لها المرأة(3)، حيث يوجد عُرُف لدى بعض العشائر من السادة المنتسبين إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهي عدم تزويج بناتهم إلى غير السادة، حتى لو أدّى ذلك إلى تعطيل البنت وحرمانها من الزواج، وفي ذلك ظلم للمرأة وحرمان لحق من حقوقها وقد بالغ بعض السادة فمنعوا من تزويج بناتهم من سادة آخرين لا يرونهم بمستواهم، كما نُقل لنا عن بعض السادة، حيث استردّ ابنته كرهاً من زوجها الذي هو من سادة غيرهم، واعتبر ذلك الزواج غير شرعي (زنا) بنظره. وقد سَرَتْ هذه الثقافة إلى بعض العشائر من غير السادة أيضاً.

وإذا أردنا أن نُحسن الظن بهم ونبحث عن مسوِّغ لفعلهم هذا فإن هؤلاء يستندون إلى قول منسوب للإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) حاصله: (بنونا لبناتنا وبناتنا لبنينا) (4) وهو إن صحت نسبته إليه (ع)، فلا يصلح أن يكون دليلاً على

ص: 177


1- الامالي للشيخ الطوسي: ح794/ 45
2- غرر الحكم: 6054/نهج البلاغة الكتاب:31
3- وهذا لا يعني ان المرأة لا تكون ظالمة مطلقاً فالشواهد على ظلمها كثيرة ، ولكن ليس محل البحث، ولا يفوتني تسجيل حالة الانحطاط والتجرد عن الانسانية الذي وصلت اليه من خلال الحادث الذي تناقلته وسائل الاعلام خلال الاسابيع الماضية حيث كشفت الشرطة في كركوك عن زوجة اب لطفل قامت مع زوجها بتعذيب مستمر لابن زوجته الاولى وحبساه في قفص الدجاج اكثر من عام حتى تضررت عينه ويده ورجلاه بشكل فضيع.
4- من لا يحضره الفقيه 3 : 393 باب الأكفّاء ح 4384

هذه الظاهرة السيئة لعدة أمور:1- إنها كلمة خاصة في واقعة معينة ولا يستفاد منها التعميم؛ فقد خطب الأشعث بن قيس إلى أمير المؤمنين ابنته العقيلة زينب وهو يومئذ زعيم لقبيلة كبيرة وهي كندة ومن وجوه المجتمع الإسلامي، لكن أمير المؤمنين يعلم خبث معدنه فأراد أن يرده بلطف فقال هذه الكلمة.

2- ويحتمل أنها خاصة ببناتهم وأبنائهم (ع) المباشرين لا مطلق ذريتهم وإن ابتعدت عنهم.

3- ويمكن فهم الكلمة معنوياً ففي الحديث الشريف: (يا علي أنا وأنت أبوا هذه الأمة) (1) ويكون معنى كلمته (علیهم السلام) أن أبناءنا المؤمنين يتزوجون بناتنا المؤمنات وبالعكس، ويؤيده في القرآن الكريم قوله تعالى حكاية عن إبراهيم [فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي] (إبراهيم:36) وبالمقابل يقول عن ابن نوح [إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ] (هود:46).

فالبنوّة الحقيقية هي الانتساب بالعقيدة والولاء. لذا روي عن الإمام الصادق (علیه السلام): (ولايتي لعلي بن أبي طالب ع أحب إلي من ولادتي منه ، لان ولايتي لعلي بن أبي طالب فرض ، وولادتي منه فضل) (2) ، فيكون معنى الكلمة هو لزوم تزوج المؤمنين بالمؤمنات، ولا يجوز التزويج لغيرهم وهو معنى صحيح أكّدته آيات عديدة.

هذا إذا قلنا بصحة صدور هذه الكلمة منه (علیه السلام) ولم نعرضه على ميزان

ص: 178


1- المفردات للراغب، مادة (اب)
2- بحار الانوار: ج39/ص 299 / ح 105

قبول احاديث المرويّة ورفضها، باعتبار أنه قد ورد عنهم (علیهم السلام) أنه: (إذا جاءكم عنّي حديث فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فاقبلوه، وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط) (1). وعن الإمام الصادق (علیه السلام) يقول : (كل شيء مردود إلى الكتاب والسنة ، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف) (2)

واذا عرضنا هذه الثقافة على الميزان الصحيح فسنجد عدة أدلة على بطلانها من الأساس لمخالفتها للقرآن الكريم والسنة الشريفة من خلال عدة نقاط هي:

أولاً: إن الميزان الحقيقي للتفضيل بين البشر هي التقوى. قال تعالى: [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ] (الحجرات:13) وقد رفع الإسلام سلمان الفارسي فجعله من أهل البيت، وبالمقابل أنزل سورة في القرآن تتلى إلى يوم القيامة في ذم ولعن أبي لهب عم رسول الله (صلی الله علیه و آله).

ونفس رسول الله (صلی الله علیه و آله) يخاطبه القرآن: [لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ] (الزمر:65) فشرفه بطاعته لله تبارك وتعالى.

وفي آية أخرى [وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ ، لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ](الحاقة: 44-46) وهو (صلی الله علیه و آله) يقول عن نفسه: (ولو عصيت لهويت) (3) أي في نار جهنم. فالانتساب إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإن كان شرفاً في نفسه لا يدانيه شرف إلا أنه لا يكسب صاحبه مرتبة أعلى من غيره إلا

ص: 179


1- التبيان: ج 1 / ص 5، ومجمع البيان: ج 1 / ص 13 مقدمة الكتاب، الفنّ الثالث
2- الوسائل: الباب 9 من ابواب صفات القاضي، ح 14
3- نهج البلاغة: ج 10 / ص 184

بالتقوى.وقد وردت الأحاديث الشريفة في النكاح تشترط الدين والعقل في كفاءة الزوج (إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الارض وفساد كبير) (1) ، فهل يرضى رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأولاده أن يخالفوا سنته ويتسببوا في الفتنة والفساد الكبير. ثانيا : إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته وقفوا في وجه هذا العرف عملياً؛ ففي الحديث عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) زوّج المقداد بن الأسود ضباعة ابنة الزبير بن عبد المطلب، وإنما زوّجه لتتضع (أي تتسهل وتتسامح) المناكح، وليتأسّوا برسول الله (صلی الله علیه و آله) وليعلموا [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ] (الحجرات 13)) (2). وكان الزبير أخا عبد الله وأبي طالب لأبيهما وأمهما.

ثالثاً: لقد ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام) استنكار هذه الفكرة بقوله (أتتكافأ دماؤكم ولا تتكافأ فروجكم) فإن العلوي إذا قتل غيره اقتصّ به منه، فإذا كانت دماؤهم متكافئة، فلماذا لا يتكافؤون بالتزويج.

رابعاً: قد جرت سيرة العلماء وهم ورثة الأنبياء والأئمة على تزويج العلويات من غير السادة، وقد دونت كتب التراجم والسير الكثير من هذه الحالات، حتى اشتهر عندهم لقب (الميرزا) لمن كانت أمّه علوية وإن لم يكن أبوه كذلك. فظهر من كل ما تقدم عدم وجود دليل على صحة هذه الفكرة، بل الدليل على

ص: 180


1- الوسائل: ج 20 / الباب 28 انه يستحب للمرأة واهلها اختيار الزوج ح1
2- وسائل الشيعة: كتاب انكاح، ابواب: مقدماته وآدابه، باب 26، ه- 1

خلافها من القرآن والسنة وسيرة العلماء. فما هو اذن منشأ هذه الفكرة المخالفة للقرآن والسنة رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟

الذي أعتقده أن منشأ ذلك شعور بالعصبية الجاهلية وروح الاستعلاء وأن الآخرين هم أدنى مرتبة فلا يستحقون التزويج منهم، وإنما سمّيتها بالجاهلية لأن القرآن يسمي كل عقيدة أو سلوك بعيداً عن المنهج الالهي (جاهلية)، وقد كان قوم في الجاهلية لا يزوّجون نساءهم إلى غيرهم ويعتقدون بأفضليتهم على الناس ويسمون أنفسهم (الحمس)، وقد تسربت هذه الروح إلى المسلمين فكان العرب الفاتحون يرون أنفسهم أفضل من غير العرب فلا يزوّجونهم ويسمونهم (الموالي)، وقد شكى الموالي ذلك إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) فخرج إليهم وهو مغضب ووبخهم، لكنهم عصوا أمره وأصرّوا على استكبارهم.

إن روح الاستعلاء هذه من نزعات الشيطان وتسويلات النفس الأمّارة بالسوء، فعلى الأخوة المؤمنين نبذها وتركها والاستنان بسنة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وإني أقول قولي هذا مراعاة لذرية الزهراء (ع)، فقد بلغني أن الكثير من العلويات تعنس ويفوتها الزواج بسبب هذه العادة الظالمة، حيث ينهى عنها أولاد عمها ولا يتزوجونها، فيحرمونها من ممارسة حقها في الحياة كزوجة وكأم لأولاد يرعونها في الكبر، وهذا ظلم، لان معنى الظلم حرمان الاخر من حقه والزواج من الحقوق الانسانية التي اهتم بها الشرع المقدس حتى قال فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله): (من سنتي التزويج، فمن رغب عن سنتي فليس مني) (1) وحرمان المرأة من هذا الحق ظلم كبير فلماذا هذا الظلم؟!

ص: 181


1- مستدرك الوسائل 14: 152

الم يبلغهم ما ورد عن المعصومين (سلام الله عليهم) من التهديد والوعيد الشديدين في من يمارس الظلم، ومنها الحديث عن النبي (صلی الله علیه و آله): (انه ليأتي العبد يوم القيامة وقد سرته حسناته فيجيئ الرجل فيقول: يا رب ظلمني هذا، فيؤخذ من حسناته فيجعل في حسنات الذي ساله، فما يزال كذلك حتى ما يبقى له من حسنة، فاذا جاء من يساله نظر الى سيئاته فجعلت مع سيئات الرجل، فلا يزال يستوفي منه حتى يدخل النار) (1) وروي عن امير المؤمنين (علیه السلام) قوله: (اتقوا الظلم فانه ظلمات يوم القيامة) (2)، عنه (علیه السلام) قال: (الظلم ألأم الرذائل) (3).

اما الذين يشجعون على هذا العُرف ويدعون الى الالتزام به ويُعيّرون من لا يعمل به لدفعه الى الاخذ به فهم ايضا من الظالمين واعوانهم. في الحديث عن الامام الصادق (علیه السلام): (العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلاثتهم)(4) وفي حديث عن الامام الصادق (علیه السلام) قال: (ان اعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتى يحكم الله بين العباد) (5) وغيرها من الاحاديث التي يطول بذكرها المقام.

والذي يزيد من شناعة هذا الظلم انه يقع على المرأة العلوية من ذرية رسول

ص: 182


1- روضة الواعظين: 512
2- الكافي: 5/ 323 ح1
3- غرر الحكم: 804
4- وسائل الشيعة، كتاب التجارة، ابواب ما يكتسب به، باب 42 / ح 2
5- وسائل الشيعة، كتاب التجارة، ابواب ما يكتسب به، باب 42 / ح6

الله (صلی الله علیه و آله) خلافا للاحاديث التي وردت في ثواب من احسن اليهم ووجوب دفع الظلم عنهم فقد ورد عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: " أربعة أنا لهم شفيع يوم القيامة: المكرم لذريتي، والقاضي لهم حوائجهم، والساعي لهم في أمورهم عندما اضطروا إليه، والمحب لهم بقلبه ولسانه) (1). وفي وصية أمير المؤمنين (علیه السلام) لولده الحسن وجميع ولده وأهل بيته، وفيها: " الله الله في ذرية نبيكم، فلا يظلمن بحضرتكم وبين ظهرانيكم وأنتم تقدرون على الدفع عنهم) (2). وفي عيون اخبار الرضا بسنده عن الحسين بن خالد عن ابي الحسن الرضا (علیه السلام) قال: (النظر الى ذريتنا عبادة، قلت: النظر الى الائمة منكم او النظر الى ذرية النبي (صلی الله علیه و آله)؟ فقال: بل النظر الى جميع ذرية النبي(صلى اله عليه واله) عبادة ما لم يفارقوا منهاجه ولم يتلوثوا بالمعاصي) (3) ولو تحرر مجتمع السادة من هذه القيود الجاهلية الظالمة فانه يكون اقرب الى الله تعالى واسعد في حياته، لان تزويج العلوية من غير العلوي سيضيف لها فرصاً أكبر لسعادتها ولنجاح حياتهما الزوجية؛ لأن الزوج سيحفظ لها هذه القربى من رسول الله (صلی الله علیه و آله) وسيكرم مقامها ويرعاها أحسن رعاية، لأنها وفرت له فرصة مصاهرة رسول الله (صلی الله علیه و آله) والزهراء (ع) وتسببت في انتساب ذريته إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) من جهة الأم، ولا يظلمها احتراماً لجدتها الزهراء (ع) .

ص: 183


1- عيون الاخبار: ج 2 / ص 25 / باب 31
2- الكافي: ج 7 / ص 52 / باب صدقات النبي / ح 7
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج ابواب احكام العشرة، باب 165

فعلى جميع السادة الاشراف ان يتحرروا من هذا العرف المستشري في اوساط البعض من عشائر السادة وان يقتدوا بكثير من السادة الأطياب الذين رفضوا الانصياع لهذا العرف الظالم وزوّجوا بناتهم العلويات من الاكفاء لهنّ وان لم يكونوا من السادة. وعليهم جميعا ان ينتفضوا ضده لأنه مخالف لله ولرسوله (صلی الله علیه و آله) ولأمير المؤمنين (علیه السلام) وسيكون الامام الحسين (علیه السلام) خصم هؤلاء الظالمين وإن بكوا عليه (ع) ولبسوا السواد واقاموا مآتمه لان الظلم ذنب لا يترك كما في بعض الاحاديث الشريفة. بل بلغني أن بعض السادة حرموا إحدى بناتهم من زوجها لأنه من سادة غيرهم، ويعتبرون بقائها معه (زنا) والعياذ بالله؟! وهذه جناية كبيرة أن يتكبر أحدهم حتى على أولاد عمه من ذرية رسول الله (صلی الله علیه و آله)، إنها (الجاهلية) تعود من جديد بشعارات دينية وعلى جميع الخطباء والمثقفين ان يقوموا بنهضة اصلاحية وخلق ثقافة عامة ضد هذه العادات الظالم.

فتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون، وعودوا إلى كتاب ربكم وسنة نبيكم (صلی الله علیه و آله)، واستغفروا الله من ظلمكم للنساء؛ فإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أوصى بهن، وقال: اتقوا الله في الضعيفين - المرأة واليتيم- وفي حديث آخر ما أكرمهن الا كريم وما أهانهن إلا لئيم .

نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا لطاعته ويدلنا على سبيل رضاه إنه ولي النعم.

ص: 184

خطاب المرحلة 433 :زيارة عاشوراء والبراءة من اعداء الله تعالى

خطاب المرحلة 433 :زيارة عاشوراء والبراءة من اعداء الله تعالى(1)

نُقِلَ عن المرحوم الشيخ عبد الكريم الحائري مؤسس الحوزة العلمية في قم المقدسة (توفي عام 1355ه- = 1936م) انه قال: (عندما كنت في سامراء مُشتغلاً بتحصيل العلوم الدينية، انتشر وباء الطاعون في المدينة وراح يحصد كل يوم عدداً من اهل المدينة. وذات يوم، اجتمع عدد من اهل العلم في منزل استاذي المرحوم السيد محمد فشاركي (اعلى الله مقامه) وفجأة دخل علينا المرحوم الميرزا محمد تقي الشيرازي (رحمة الله عليه) وكان على درجة عالية من العلم، وتكلم المرحوم فشاركي عن الوباء، وان الجميع سيكونون عرضة لخطر الموت. فقال المرحوم الميرزا: اذا حكمتُ بحكم، هل يكون ملزما ام لا؟ فوافقه الجميع وقالوا: نعم...

قال: انا احكم على كل الشيعة المقيمين في سامراء بدءاً من اليوم، والى عشرة ايام بقراءة زيارة عاشوراء، واهداء ثواب ذلك الى روح السيدة نرجس الشريفة، الوالدة الماجدة للحجة بن الحسن (علیه السلام)، حتى يبعد الله عنهم هذا البلاء.

ص: 185


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع مواكب الزوار الذين توافدوا على مكتب سماحته من مختلف المدن العراقية مشيا على الاقدام في طريقهم الى زيارة الامام الحسين (عليه السلام) في اربعينيته يوم الاربعاء 17/صفر/1436 الموافق 10/ 12/ 2014.

فنقل اهل المجلس، هذا الحكم الى كل الشيعة في سامراء، وانصرف الجميع الى الزيارة. وفي اليوم التالي، لم يلقَ احد من الشيعة حتفه، وكان يموت كل يوم عدد من اهل السنة، وكان ذلك ظاهرا جلياً. سأل بعض السنة معارفهم من الشيعة، عن السبب، فاخبروهم بذلك، فاخذوا هم بدورهم يقرأون زيارة عاشوراء، فأبعد الله عنهم ذلك الوباء...!) (1).اقول: المواظبة على زيارة عاشوراء مجربة في رفع البلاء مضافاً الى الثواب على هذا العمل، الا ان الآثار لا تترتب على مجرد تحريك اللسان بهذه الزيارة او ذاك الدعاء وانما على حقائقها وحصول مضامينها، لذا فإنني اريد الان ان احلل لماذا اوصى الميرزا الشيرازي الناس بهذه الوصية دون غيرها من الوصايا الكثيرة التي أكَّد عليها المعصومون (علیهم السلام) كالصلاة في اوقاتها والورع عن محارم الله، ونستطيع ان نقول ان الميرزا الشيرازي شخّص بثاقب بصره ان الشيعة في مدينة سامراء ابتلوا بعدم صدق البراءة من اعداء الله تعالى ورسوله (صلی الله علیه و آله) واهل بيته الطاهرين (علیهم السلام) اما مجاملة او مداهنة او خوفا باعتبار انهم حديثو العهد بالإقامة في هذا المجتمع المخالف لهم(2)، اي انهم تخلوا ولو جزئياً عن هذا المعلم البارز للمؤمن الموالي وفي ذلك نقص في اعتقادهم، فتركهم الله

ص: 186


1- القصص العرفانية: رضا محمد حدرج. ص 101-102
2- نقل السيد المجدد الشيرازي (توفي في شعبان 1312 = 1895) مقر مرجعيته من النجف الى سامراء عام 1291 فالتحق الالاف من العلماء والفضلاء وطلبة العلوم الدينية وبنى مدرستين للطلبة ودورا لسكن المعيلين وكان من افاضل طلبته الشيخ محمد تقي الشيرازي مفجر ثورة العشرين في العراق (توفي عام 1338 = 1920)

تعالى عرضة للبلاء ولم يشملهم الامام (ع) بألطافه (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) (الشورى30) وان هذا البلاء لا يزول الا بإعادة تصحيح عقيدتهم لان الولاية لله تعالى ولرسوله (صلی الله علیه و آله) ولاهل بيته الطاهرين (صلوات الله عليهم) لا تتم الا بالبراءة من اعدائهم، وقد كان تشخيصه (قدس سره) دقيقا لذا أثّر العلاج مباشرةً.والدرس الذي نخرج به من هذا الواقعة اننا اذا شخّصنا خللاً في العقيدة او نقصا في الاخلاق او مخالفةً لحكم الشريعة او مفسدة اجتماعية فعلينا المبادرة والتكاتف لإصلاحها والا حلّ بنا البلاء.

واذكر لكم مثالاً من حالة عشناها قبل عام عندما تضافرت جهود عدد من الاخوة السياسيين والقانونيين لصياغة القانون الجعفري للاحوال الشخصية وحصل على موافقة كل العلماء (عدا جهة واحدة) وتأييد مجلس الوزراء حتى السني والمسيحي الا ان رسالة وصلت من بعض معتمدي تلك الجهة اجهض القانون، وعلى اثرها قلت في الخطاب الفاطمي للعام الماضي(1) : (اعلموا انكم بنصرتكم للسيدة الزهراء (علیها السلام) والقانون الجعفري ساهمتم في رفع جزء من البلاء والتيه الذي كان ستقع فيه الامة لو اجمعت على خذلان دين الله تعالى ولم يجد الدين انصاراً مثلكم، قال الله عز وجل: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود117)) (2).

ولم يكن هذا مجرد توقع ورجماً بالغيب وانما كان مبنيا على قراءة للسنن

ص: 187


1- يوم 3/ 4/ 2014 .
2- خطاب المرحلة: 8/ 449 .

الالهية في الكون، وبعد شهرين وقع ما وقع من هجوم ارهابيي داعش وبمساعدة الكثير من الحاقدين والحاسدين والعملاء والمُغرّر بهم على الموصل وسقوطها في ليلة واحدة رغم وجود اكثر من سبعين الف من القوات المسلحة، وما تلاه من تداعيات سقوط محافظتي الموصل وصلاح الدين واجزاء كثيرة من محافظات كركوك وديالى والانبار، وكادت الروضة العسكرية في سامراء ان تقع بايديهم النتنة وأحدق الخطر بالعتبات المقدسة في النجف وكربلاء، وببركة وقفة اتباع هذا الخط الشريف ومن ناصرهم لإقرار القانون الجعفري وتثقيف المجتمع عليه والمطالبة بهذا الحق الشرعي للاغلبية الشيعية في العراق، فقد دفع الله تعالى جزءاً من البلاء كما قلنا في الخطاب الفاطمي، ولولا وقفة هذا البعض لأحرقت النار الاخضر واليابس.ولان الخطيئة كانت غير متوقعة ولم نسمع في تاريخ المرجعية الشيعية ان يقف احد افرادها في الضد من تطبيق شريعة الله تبارك وتعالى على خلاف ما هو المتوقع منه وهو بذل الوسع لإقرارها، كان البلاء غير متوقع وغير معهود حيث سقطت مدينة الموصل في ليلة واحدة بيد مجموعة من شذّاذ الآفاق والمنبوذين مع ان تعداد القوات المسلحة فيها يتجاوز (74) الفاً وهم مجهزون بأحدث الاسلحة المتنوعة من الخفيفة الى الثقيلة، وسقطت في اليوم التالي محافظة صلاح الدين واجزاء شاسعة من عدة محافظات اخرى وشُرِّدَ اكثر من مليونين وبيعت النساء في الاسواق بثمن بخس ثم التمدد الواسع الى حدود بغداد وما أعقب ذلك من تداعيات اقتصادية واجتماعية ونفسية وغير ذلك، وكان من الممكن تجنيب الامة كل هذه الخسائر من شبابنا واموالنا واعراضنا لو

ص: 188

تعاون الجميع وانصفوا الحق من انفسهم وعملوا على إعادة الحق لأهله وإعلاء كلمة الله تعالى، والمسؤولية الاكبر تقع على العلماء والحوزة العلمية لان الناس تابعون لهم وهم الذين يوجّهون الامة ويرسمون المنهج والخطة لمسيرة الامة، لكن الناس هم الذين يدفعون الثمن غالباً.وهذه المعادلة المتوازنة بين مقدار الذنب ونوعه وبين مقدار البلاء ونوعه حذّرنا منها الائمة المعصومون (علیهم السلام) ففي الرواية عن الامام الرضا (علیه السلام): (كلّما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعملون، أحدث الله لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون) (1) فإذا رأيت بلاءاً جديداً غير معهود من قبل فاعلم انه قد صدر من العباد ذنوب لم تكن معروفة (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (النحل118).

وخلاصة الدرس الذي نستفيده اننا عندما نشخّص حالة سلبية وخطأً عاماً في المجتمع فعلينا ان نسارع الى مواجهته وازالته قبل ان يحصل بلاء يعمّنا جميعا (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً) (الأنفال25).

ص: 189


1- الكافي: 2/ 275

خطاب المرحلة 434 :حوارات سياسية: شيعة العراق وبناء الدولة والأمة

إني طالب دكتوراه في اختصاص علم الاجتماع في جامعة بغداد، وعنوان أطروحتي (شيعة العراق وبناء الدولة والأمة، تجربة بناء الدولة والأمة في العراق بعد عام 2003)، وأتوجه اليكم بمجموعة من الاسئلة لإغناء أطروحتي بفكركم القيادي النيِّر.

س1/ ما هو افضل نظام للحكم في العراق الراهن ينبغي تبنيه يضمن احترام الدين والحريات معاً؟

بسمه تعالى

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

قبل الاجابة لابد من الاشارة الى انه لا غنى عن المجلدات الثمانية لكتاب (خطابات المرحلة) الذي واكب الاحداث والمواقف والقضايا خلال السنين الماضية لان فيها تفاصيل دقيقة .

اما هنا فأجيب باختصار بعون الله تعالى بحسب ترتيب الاسئلة:

نظام الحكم المناسب في العراق هو النظام البرلماني المعمول به حاليا وقد ثقّفنا عليه قبل كتابة الدستور، ثم افرزت الحاجة لأجراء عدة تعديلات ذكرناها في عدة خطابات بمناسبات عديدة، (منها) رعاية حقوق كل مكونات الشعب بغض النظر عن الاستحقاق الانتخابي، و(منها) تعديل قانون الانتخابات ليمنع

ص: 190

من استئثار الكتل الكبيرة المهيمنة على السلطة و(منها) زيادة صلاحيات المحافظات وتطوير قدراتها في الادارة اللامركزية و(منها) ان يكون اختيار المحافظين بالاقتراع المباشر من قبل ناخبي المحافظة و(منها) تقوية المؤسسات الرقابية وذات الطبيعة المستقلة كهيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية وديوان المفتشين العموميين وابعادها عن المحاصصة الحزبية ويحسُنُ ترشيح رؤسائها من احزاب المعارضة لتقوية عمل المعارضة وتقليل الصراع على مغانم الحكومة، ونحو ذلك من المقترحات التي لا تتحمس لها الكتل المتنفذة الا اذا تعرضت لضغوط مرجعية او شعبية او دولية او احرجت اعلامياً او اقتنعت بمصلحةٍ ما لها، لذلك فقد أقرّت بعض هذه القوانين، ولم يُقر البعض الآخر.وقد تقول انه اذا كان النظام المعمول به مناسبا للوضع في العراق فلماذا هذا التردي في اوضاعه، واقول في الجواب ان المظالم والمفاسد التي حدثت في العملية السياسية ودفع ثمنها الشعب إنما هي بسبب سوء تصرف الاحزاب الحاكمة واستئثارها واستبدادها مع سوء اختيار غالبية الشعب لقياداتها واولياء امورها وتدخل الدول الخارجية ونحو ذلك من الاسباب التي فصّلتها في كتاب (خطاب المرحلة).

س2/ ما رأي سماحتكم إذا ما أختار الشعب رئيس الحكومة – رئيس الوزراء – من غير الشيعة (سني، علماني، غير مسلم) لحكم العراق؟

الجواب: مادام الشعب قد وافق على الدستور فيجب عليه العمل به والدستور لا يشترط كون رئيس الحكومة شيعياً لكن الشيعة هم الاغلبية ومن مبادئ الديمقراطية التي يكفلها الدستور حفظ حق الاغلبية في تشكيل

ص: 191

الحكومة، فكون رئيس الحكومة شيعيا هو افراز طبيعي للنظام الديموقراطي.س3/ ما هي المشتركات التي على أساسها يريد شيعة العراق بناء الدولة مع الآخرين مثل (السنة، الاكراد، العلمانيون، والأقليات)؟

الجواب: نحن ندعو الى قيام الدولة على اساس المواطنة وان العراقيين جميعاً متساوون في الحقوق والواجبات وهذا الاساس هو الذي يوحّد العراقيين ويذّوب التعصبات القومية والطائفية، والشعب العراقي بطبيعته يحب هويته الوطنية وركزنّا على هذا المعنى في خطاباتنا وذكرتُ اننا صرنا ننتظر فوز المنتخب العراقي ببطولة ما ليتوحد العراقيون بفرحة وطنية بعد ان فشل السياسيون بشكل مأساوي في حفظ وحدة العراقيين.

س4/ لماذا يريد الشيعة أن يكون الاخر المذهبي والقومي جزءاً من بناء الدولة في العراق؟

الجواب: لانهم شركاؤهم في التاريخ والجغرافية والهموم والمشاعر، ولا استقرار ولا امن ولا ازدهار للعراق من دون الحالة التكاملية لمكوناته وان يحصل الجميع على استحقاقاتهم ويشعرون بكرامتهم ومواطنتهم ويجب حفظ حقوق الجميع في المشاركة في ادارة البلاد، والاستئثار والتفرد هو سبب الصراعات، ولي خطاب شرحت فيه كلمة امير المؤمنين (علیه السلام) في تحليله لسبب الثورة على الخليفة عثمان بقوله(ع) (استأثر فأساء الاثرة).

س5/ لماذا لا يطالب الشيعة بتأسيس - حكم شيعي – كما يطالب الاكراد بتأسيس دولة كردية؟

ص: 192

الجواب: اذا كان المقصود بالحكم الشيعي حكماً ينفرد الشيعة بإدارته ويكون مفروضاً على الاخرين فقد رفضناه في الاجوبة السابقة، واذا كان المقصود حكما شيعيا على اساس الفصل بين المكونات وتقسيم العراق وفرز مساحة يحكمها الشيعة وأخرى للسنة ونحو ذلك، فهذا مرفوض لأمور:أ- الشيعة بطبعهم يحبون التعايش بسلام مع الاخرين مهما كانت بينهم اختلافات دينية او مذهبية او قومية والشواهد التاريخية والحاضرة اكثر من ان تحصى، لاحظ مثلا عندما حصل التهجير القسري من محافظات شمال العراق بعد سقوط الموصل فتحت النجف وكربلاء ابوابها للنازحين من دون تمييز بين المسلم والمسيحي والآيزيدي، وهذه من الادبيات التي تعلموها من ائمتهم (ع).

ب- ان التعايش والتنوع مصدر غنى وسعادة للجميع أما التكتلات والتخندقات والتعصبات والتقسيمات فتذكي الكراهية والصدام والتقاطع مما يسبب هدر الطاقات والموارد والاوقات الثمينة، فتقسيم العراق لا يحل المشكلة وانما يكون سببا لصراعات من نوع اخر قد تستعصي على الحل، باعتبار ان المختلفين حينما يكونون في بلد واحد وبرلمان واحد وحكومة واحدة فانه يساعد على الحوار والوصول الى الحل.

ج – ان الشعب العراقي بسنته وشيعته ومسيحييه متداخل ومتشابك العلاقات وليس منعزلا في كانتونات حتى يمكن تصور امارات قومية او طائفية.

س6/ ما الذي يحتاجه العراقيون لمزيد من الاندماج والتقارب بين جماعاتهم المختلفة دينياً ومذهبياً وقومياً؟ ما الذي لم يتم حتى الان

ص: 193

(عملياً) بهذا الخصوص؟الجواب: لم يحصل انجاز في هذا الاتجاه بل على العكس فقد حصل تراجع وتفكك في الصلات الوثيقة التي كانت بين المكونات، والسبب في ذلك ليس عقائديا لان التنوع في العقيدة كان موجوداً ولم يؤدّي الى هذا الانفصال وانما بالصراعات السياسية وسوء تصرف السياسيين الذين وجدوا ان الشحن الطائفي والتخندقات القومية والمذهبية تخدم مصالحهم وتطيل بقائهم في السلطة فأثاروا الخلافات واجّجوها ولازالوا يعتاشون عليها ومن ورائهم مصالح الدول الاقليمية والخارجية التي يدورون في فلكها وينفذون اجنداتها، وهكذا ذابت قيم التوحد والتعايش ونشأت على انقاضها قيم الكراهية والعنصرية والتمزق وذهب ضحيتها الشعب المسكين الذي لم يحصد منها الا الموت والخراب.

ولا ينصلح الحال الا بوجود قوة مصلُّحة ومخلصة وشجاعة قادرة على الزام السياسيين بمسؤولياتهم وطرد الفاسد منهم ولا يقدر على اداء هذا الدور غير المرجعية الدينية التي تملك زمام الامور، اما ما نحتاجه فهو وجود ارادة مخلصة جديّة لدى السياسيين للإصلاح والتغيير نحو الافضل، وحوار شفاف منفتح، وتغليب للمصالح العليا، والاستعانة بالخبرات والكفاءات في جميع المجالات لوضع خطط مدروسة وناجحة، ونهضة فكرية يشارك فيها العلماء والمثقفون والإعلاميون والكتّاب لتأسيس ثقافة صالحة لحياة سعيدة وازالة العقد الفكرية والاجتماعية التي ساعدت على تأزيم المواقف، وامور اخرى.

س7/ هل الاسلاميون الشيعة في المجال السياسي، يمارسون فعلاً

ص: 194

الاسلام السياسي؟ ما هي معالم هذا الاسلام السياسي؟الجواب: لا ارى الاحزاب الاسلامية السياسية (السنّية والشيعية في العراق وغيره كمصر وتونس وليبيا) قد نجحت في عرض المشروع الاسلامي بل على العكس فانها اساءت اليه وشوّهته وخلقت حالة النفور منه بسبب سوء ادارتها وفشلها في كل الملفات وانغماسها في فساد هائل فاق حد التصور، وبرغم الخسائر التي تكبّدناها من جراء حكمهم الفاشل الا ان الخسارة الاكبر هي هذه اي الشعور بالإحباط لدى ابناء الاسلام بإقامة حكم الاسلام النقي الناصع، وهدر الرصيد الهائل من التضحيات والجهود خلال العقود الماضية(1).

س8/ عند تعارض المصالح المشروعة بين شيعة العراق، والشيعة في دول مجاورة مثل (ايران، السعودية، الكويت) ما هو التكليف الشرعي بشأن ذلك؟

الجواب: لا اجد واقعا لهذا الفرض وليس له اي مسوِّغ لان الشيعة في كل بلد مواطنون في ذلك البلد ويلتزمون بقوانينه، وبالمقابل يجب على الحكومات ان تعاملهم على اساس المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، وستنشأ حينئذٍ علاقات ودية تضامنية بين الحكومات والشعوب

س9/ هناك بعض الاحكام الشرعية التي تتعارض مع القوانين الوضعية للدولة.....مثل احياء اراضي الموات العائدة - ملكيتها للدولة-أو

ص: 195


1- راجع (تفسير أمير المؤمنين عليه السلام لثورات الشعوب ... ثورة الشعب المصري نموذجاً) في خطاب المرحلة: ج8 ص242.

القصاص والديات والاحكام الجزائية الوضعية، أو أخذ الجزية من الذمي على الرغم من تساويهم في المواطنة بالقانون، و....الخ) ما هو التكليف الشرعي بشأن ذلك؟الجواب: تعهّد الدستور الذي صوّت عليه الاغلبية الساحقة للشعب على عدم سنِّ قوانين تعارض ثوابت الاسلام، ويجب الالتزام بهذا التعهد، ولا يجوز التبعيض في الالتزام بالدستور فيأخذ كل طرف بما يوافق مصالحه واهواءه، فلا بد من معالجة القوانين المخالفة للدين الاسلامي. وان الفقه الشيعي يحترم نظام الدولة ومؤسساتها ويلتزم بالقوانين المعمول بها ويمنع من مخالفتها.

وان احكام الشريعة الاسلامية تستند الى قواعد واصول مرنة ومجال الاجتهاد فيها واسع وظروف تطبيقها مختلفة وهذه من محاسن مذهب اهل البيت (علیهم السلام) وقد اثبت فقهاء الإمامية على مرِّ التاريخ قدرتهم على التكيّف مع تطورات الحياة ومستجداتها فلا خشية من هذه الناحية كما ان القوانين الوضعية قابلة للتعديل والتغيير وفق متطلبات المصالح الآنية والاستراتيجية ولكل حادث حديث.

س10/ إذا ما توافقت اختيارات السياسيين مع رؤى الشعب في قضية ما، إلا انها لا توافق رأي المرجعية، ما هو موقفكم بشأن ذلك؟

الجواب: المبادئ الانسانية لا تختلف بين العقل والدين ولا تتعارض وباب المرجعية مفتوح فيمكن محاورتها للوصول الى قناعة مشتركة.

س11/ صناعة الهوية الوطنية غالباً ما تكون بحاجة الى التعريف

ص: 196

بال-(نحن) وال-(هم).. من هو الآخر العدو بالنسبة للعراق بعد العام 2003 برأي سماحتكم؟ وما هي العقيدة السياسية الأصلح التي ترشدون السياسيين لتبنيها في بناء الدولة العراقية؟الجواب:(نحن) نعني بها من ينتمى الى هذا الوطن المسمى العراق بتمام ترابه، ويحرص على عزّته وكرامته وسيادته وازدهاره، ويشعر بالشراكة الكاملة في الحقوق والواجبات مع المواطنين الاخرين ولا يتميز عنهم، ويحترم خصوصيات الاخرين، والعدو كل من يريد الشر بالعراق والعراقيين، ويعمل على الضّد من مصالحهم وحقوقهم، مهما كان انتماؤه ولأي طائفة او قومية ينتسب.

س12/ ما الذي يجمع سماحتكم – كرجل دين- برجال الدين الشيعة الآخرين على اختلاف توجهاتهم؟ ما هي أُطر الإجماع والاختلاف بينكم فيما يخص الشأن العراقي؟

الجواب: اذا كنّا ندعو الى التعايش والتكامل مع من لا يشاركنا في الدين والعقيدة والقومية فتحصيل ذلك اقرب وأيسر مع نظرائنا والمشتركات كثيرة بفضل الله تعالى، ولو وجدت اختلافات – وهو امر طبيعي بين البشر- فيمكن النظر فيها ومعالجتها بما يحفظ وحدة الامة ومصالحها العليا.

محمد اليعقوبيالنجف الاشرف

1/صفر/1436 8/ 11/ 2014

ص: 197

خطاب المرحلة 435 :لا تيأسوا من اصلاح الإرهابيين المُغَرّر بهم قبل قتالهم

دعا سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) الى عدم الاقتصار على اسلوب الصِّدام والاستئصال في المواجهة مع التنظيمات الارهابية لأن آخر الدواء الكيّ كما قيل في الكلمة المشهورة، وانما علينا ان نسير معه بخط موازٍ له من خلال الحوار والاقناع بعدم سلامة الطريق الذي انتهجوه وعبثية الغاية التي يريدونها وضلالة الذين غَرَّروا بهم وخدعوهم.

وعلل سماحته ذلك بأن الكثير ممن التحقوا بهذه التنظيمات خصوصاً من الدول المتحضرة تعرضوا لغسيل دماغٍ وتشويهٍ للحقائق وخداعٍ بعناوين مقدسة تستهوي الشباب المتحمس المندفع، فهؤلاء غير أصحّاء وحالهم كحال سائر المرضى الذين تجب رعايتهم والشفقة عليهم وتشخيص عللهم ووصف الدواء المناسب لهم.

وقال سماحته لدى استقباله(1) علماء الدين وأساتذة الجامعات - وهم من السنة والشيعة - الذين شاركوا في ملتقى الطف العلمي والثقافي الدولي الذي دأبت على إقامته كلية الآداب في الجامعة المستنصرية ببغداد وعقدت دورته السادسة في الاسبوع الماضي تحت شعار (نهضة الامام الحسين (علیه السلام) مقاومة

ص: 198


1- الاحد 14/ صفر /1436 الموافق 7 /12/ 2014.

للإرهاب ودعوة للإصلاح): "ان من الدروس التي استفدناها من ثورة الامام الحسين (علیه السلام) هو عدم اليأس من إصلاح الآخر وهدايته مهما اعتقدنا فيه التحجّر والانغلاق، لذا خطب الامام الحسين (علیه السلام) يوم عاشوراء عدّة خطب في الجيش المعادي كما القى أصحابه كحبيب بن مظاهر وزهير بن القين ومسلم بن عوسجة المعروفين لدى أهل الكوفة بأنهم قمم في الدين والاخلاق والمعرفة عدة خطبٍ اخرى في القوم طمعاً في توبتهم وعودتهم الى الرشد والصلاح.وقبلهم قام الامام أمير المؤمنين (علیه السلام) بنفس المحاولة مع الخوارج قبل بدء معركة النهروان وحاججهم وبعث اليهم ابن عمه عبد الله بن عباس الموصوف بانه حَبر الامة وترجمان القرآن وكانت النتيجة توبة ثلثي جيش الخوارج – أي ستة آلاف من مجموع الجيش البالغ تسعة الاف- وتركهم للمعركة وهم المعروفون بالتكفير والتحجّر وحكمهم بالضلال واستحقاق القتل على كل من لا يعتنق عقيدتهم".

ان الاسلام النقي لو عُرض بأصالته وقوة حججه قادرٌ على إعادة إنتاج عقول هؤلاء وإزالة ما علق في أذهانهم من أوهام وشبهات وضلالات ومساعدتهم على الاندماج من جديد في المجتمع وتطبيع حياتهم الاجتماعية، وحينئذٍ سنربح كثيراً بإعادتهم الى الصواب وحماية بلادنا وابنائنا وثرواتنا من التدمير والضياع في هذه الحروب العبثية التي يصنعها ويحرّكها اصحاب الأجندات الشيطانية.

ومن الشواهد التاريخية على هذه القدرة العظيمة للإسلام تأثر المغول

ص: 199

المتوحشين الذين هجموا على بلاد المسلمين وملأوا الارض والماء بجثث القتلى لكنهم بعد جيل واحد فقط من احتلال العاصمة الاسلامية بغداد دخلوا في الاسلام وحملوا رايته واعتنق كثيرٌ منهم مذهب اهل البيت (علیهم السلام).ان كثيراً من هؤلاء المخدوعين عادوا الى بلادهم نادمين ويحاول غيرهم التخلص من هذه الورطة التي وقعوا فيها بعد ان اطلعوا على وحشية زعمائهم وبراءة الاسلام من افعالهم(1) وبعد ان اكتشفوا حقيقة امرهم وان الجهاد والدولة الإسلامية وامثالها من المصطلحات البرّاقة ماهي الا خدعة وغطاء للتغرير بشباب المسلمين بمساعدة شبكات دولية مموّلة بالأموال الطائلة، فإذا استطعنا نشر هذه الحقائق وتعزيزها بشهادات العائدين واضفناها الى محاولات الهداية والإصلاح التي أشّرناها فإننا سنتمكن بفضل الله ولطفه من إصلاح كثيرين بأذن الله تعالى. وأوصى سماحته بان تكون الثقافة القرآنية هي المعتمدة في هذا الحوار قبل اي مصدر آخر لأن القرآن متفق عليه ولأن الاخر الذي يغسل أدمغة هؤلاء الشباب المغرر بهم يأتيهم من طريق فتح المدارس القرآنية وتعليم اللغة العربية فيخدعهم ويصوّر لهم انه أصل الاسلام ومعدنه وهو لا يُحسن من القرآن إلا شكله ورسمه.

وفي نهاية حديثه أشاد سماحته بإقامة مثل هذه المؤتمرات وهذه الفعاليات التي تعبّر عن قراءة واعية لنهضة الامام الحسين (علیه السلام) من دون التقليل من شأن

ص: 200


1- أكد هذه الحقيقة أستاذ جامعي من بين الحاضرين وهو من تونس وإنه التقى ببعض هؤلاء وأستمع منهم مباشرة.

باقي القراءات، فالحسين (علیه السلام) ليس حكراً على أحد .. مؤكداً في الوقت نفسه على أهمية النظر الى الطرق الاخرى في أحياء ذكرى الامام الحسين (علیه السلام) .وقال (دام ظله): إن تفاعلنا مع يوم واحد من حياة الامام الحسين الشريفة وهو يوم عاشوراء أثمر عن هذا النتاج العظيم وهذه الاثار المباركة التي شهدها العالم كله .. فماذا يمكن ان تفعل 57 عاماً من عمره الشريف اذا قرأناها من زوايا متعددة ؟

ص: 201

خطاب المرحلة 436 :(َويَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)

خطاب المرحلة 436 :(َويَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)(1)

(الأعراف-157)

يبيّن هذا المقطع من الآية مظهراً من مظاهر الرحمة الالهية وصفة من صفات النبي (صلی الله علیه و آله) وغرضاً من إرساله بهذه الشريعة السمحاء (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج- 78) و(الإصر) الشد الوثيق لذا توصف علاقة الأرحام بالآصرة واستُعْمِلَ المصطلح في الكيمياء فيُقال (الآصرة الأيونية والآصرة التساهمية) ويُطلق على العهد والميثاق بالإصْر لأنه يشدّ صاحبه الى الالتزام به قال تعالى: (أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي) (آل عمران81) ولما كان الشد الوثيق يشكّل عبئاً ثقيلاً ومشقةً على صاحبه اُطلِق الإصر على الحِملِ الشاق وما يحبس الشيء ويمنعه بالقوة، فالإصر هنا في الآية ما يثبّط الناس عن فعل الخيرات ويمنع من تحصيلهم الثواب.

و(الأغلال) بمعنى القيود كما هو واضح، والمقصود بها هنا الأغلال المعنوية والعملية التي يشق عليهم تحملها والالتزام بها, وتعيق سعيهم لنيل

ص: 202


1- كلمة سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) بمناسبة المولد النبوي الشريف وقد القيت بالنيابة عنه في الاحتفال الذي اقامه جمع من اساتذة الجامعات والمثقفين وعموم المؤمنين في حسينية المشرعة في حي الفرات في النجف الاشرف مساء يوم الجمعة 17/ ربيع1/ 1436 المصادف 9/ 1/ 2015 والقاها سماحته في مكتبه يوم الجمعة 24/ع1/ 1436

السعادة والفلاح.فيكون معنى الآية ان الهدف من الشريعة الالهية التي جاء بها النبي (صلی الله علیه و آله) هو رفع وإزالة هذه الآصار والأغلال عن الناس ليعيشوا السماحة واليسر في حياتهم وليكونوا أحراراً في دنياهم غير مُكبلّين بالقيود التي تعيق حركتهم نحو الكمال والسعادة والفلاح ببركة إرسال النبي (صلی الله علیه و آله) الى هذه الامة المرحومة .

ويمكن ان نفهم عدة أشكال لهذه الأعباء والأغلال والمعوّقات التي بُعث النبي (صلی الله علیه و آله) بالشريعة الاسلامية لرفعها ووضعها عن الأمة:

1-أنه (صلی الله علیه و آله) ألغى من حياتهم التشريعات الشاقة التي كتبت على الامم السابقة عقوبة لهم أو أنهم ابتدعوها من عندهم كاشتراط قتل النفس لصحة التوبة (فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ) (البقرة-54) أو قطع الاعضاء التي تقع في الخطيئة أو قرض موضع النجاسة من البدن والثوب أو صوم الوصال ونحو ذلك، هذه التي جمعها قوله تعالى: (رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا) (البقرة-286) او الرهبنة والانعزال (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) (الحديد : 27).

2-أنه (صلی الله علیه و آله) حررهم من كل القيود والأغلال العقائدية والفكرية والنفسية والاجتماعية التي تصيب بصيرته بالغشاوة وتضرب على عقله بالقيود فيعمى عن رؤية الحق وتُكبّل إرادة الناس وتعيق حركة الاصلاح لأننا بعد ان عرفنا معنى الإصر والأغلال وأنها ما يمنع الناس عن الترقي والكمال فإذا هي تشمل كل ما يعيق هذه الحركة سواء كانت قيوداً للفكر أو السلوك أو الاعتقاد أو التعامل مع الآخرين وغير ذلك، فمن الأغلال العقائدية: الشرك والكفر

ص: 203

والإلحاد والوثنية، ومن الاغلال الفكرية: الجهل والغفلة والتخلف والخرافة، ومن الأغلال الاجتماعية: الطبقية والتمييز والاستكبار والاستضعاف والاستعباد والفقر والظلم والحرمان والموروثات والتقاليد البالية التي تكون حجر عثرة في طريق الاصلاح ، ومن الأغلال النفسية الحقد والكراهية والغرور والأنانية والتعصب سواء كان لأشخاص أو عشائر أو فِرَقْ أو أحزاب أو قوميات أو طوائف أو حتى مرجعيات دينية, لأنها هذه كلها وغيرها مما يصدّ عن الحق ويضع غشاوة على بصيرته ويفسد فطرته ويعيق حركة التكامل ويمنع الانسان من اختيار الطريق الصحيح بحرية وارادة وموضوعية، وكيف يستطيع من كُبِّل بواحد أو أكثر من هذه القيود أن يصل الى الحق ويتعرف عليه فضلاً عن التوفيق للعمل به لذا ورد في الدعاء (اللهم أرنّي الحق حقاً وارزقني اتباعه) .3-إن المراد بالآصار والأغلال: الصعوبات والبلاءات التي تُصيب الانسان، فوضعها عن المسلمين يُراد منه أن النبي (صلی الله علیه و آله) بيّن لهم الوسيلة التي تحميهم و تجنبُهم من هذه البلاءات والكوارث التي تصيب الناس عندما ينغمسون في المعاصي ويتمردون على السنن الإلهية (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) (الشورى30) فمن الرحمة الالهية التي جاء بها النبي (صلی الله علیه و آله) للبشرية أنه علمهم كيف يخلصون أنفسهم ومجتمعاتهم من هذه البلاءات (فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) (يونس98).

وقد اعترف الغرب اليوم بعد عجزه عن إيقاف تمدد الأمراض الفتاكة كالإيدز وامثاله والصراعات التي تهلك الحرث والنسل بان العلاج الناجح

ص: 204

الوحيد هو بالعودة الى الإيمان بالله والقيم الروحية والمبادئ الانسانية.ومضافا الى ما تقدم من الوجوه ومستويات الفهم فأننا نستطيع ان نستخلص عدة دلالات من هذه الفقرة القرآنية :

أولاً: ان الشريعة الالهية توفر الحرية الحقيقية للإنسان لأنها تحرره من كل القيود والاغلال التي تكبّله، فهي تخل-ّصه أولاً من عبودية نفسه الأمارة بالسوء التي تدعوه الى طاعة الشهوات والاهواء والانفعالات وهي لا عقل لها فتوقعه في المهالك وهذه نتيجة حتمية لا تحتاج الى دليل لأن الواقع المزري للبعيدين عن القانون الالهي شاهد على ذلك، وتخل-ّصه ثانياً من عبودية غيره من بني جنسه من البشر كالحكام المستبدين والطواغيت وسدنة المعابد وأدعياء العناوين المقدسة المتاجرين بالدين من أجل الدنيا وحيازة المغانم والمصالح لذواتهم على حساب الناس، وتحرّره من القلق والأوهام والضيق والاضطراب وكل الضغوط (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد28).

فالحرية بمعناها الانساني النبيل تحققها الشريعة الالهية الحقّة أما الابتعاد عنها فيؤدي الى الشقاء والهلاك والالم في الدنيا قبل الاخرة، وليست الحرية بمعنى الانفلات والتمرد على السنن الإلهية الحاكمة في الكون والانسان .

ثانياً : أن هذه الشريعة المباركة دليل على صدق النبي (صلی الله علیه و آله) في دعواه بأنه مُرسل من الله تبارك وتعالى لهداية البشر وإصلاحهم، لأنه حارب كل تلك الأغلال والآصار وسعى بكل جهده لتخليص الناس منها فدعا الناس الى توحيد الخالق العظيم ونبذ كل الالهة المصطنعة ووضع لهم قوانين العدالة والمساواة بين الناس جميعاً أمام القانون وحارب الطبقية والتمييز ونشر الأخلاق والفضيلة

ص: 205

ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي والظلم، وحثَّ على العلم والمعرفة بشكل مذهل .ولو كان مدعياً بغير حق ويبتغي بدعواه الوصول الى السلطة والنفوذ وحيازة الدنيا لأستعبدَ الناس واستأثرَ بخيراتهم و لأبقاهم على قيود الجهل والغفلة والتخلف ليسيطر عليهم ويتمكن من مقدراتهم كما يفعل كل الطغاة والمستبدين .

وهذا معيار ينفع في تمييز القيادات الحقة في كل المجالات واولها القيادات الدينية التي يفترض انها تمثل نيابة المعصومين(ع)، لأن القرآن الكريم ومنه هذه الآية عامُ شاملٌ لكل البشر وخالدٌ الى قيام يوم الساعة ولا يمكن تحجيم دوره بفترة نزوله.

ثالثاً: ان الآية فيها وعد وترغيب وتطمين للمؤمنين بأنهم إذا امنوا بالنبي (صلی الله علیه و آله) وأتبعوا تعاليمه واستقاموا على دينه فان الله تعالى سيرفع عنهم الكثير من الصعوبات والمكاره والبلاءات , وسيضع عنهم هذه الأغلال والاصار, وسيرحمهم.

رابعاً: إن هذه الفقرة من الآية الكريمة تعرّفنا على جانب مشرق من سيرة النبي (صلی الله علیه و آله) وثمرات شريعته المباركة إذ لولا كونه رحيماً شفيقاً ودوداً له أخلاق عظيمة لما استطاع تأدية هذا الدور المبارك في رحمة العباد، وبهذه المعرفة نزداد حباً لأن المعرفة تولد الحب، وهل يمكن أن يحب الانسان شيئاً يجهله ولا يعرف عنه شيئا، والحب يحرّك نحو اتباع المحبوب وهو رسول الله(صلی الله علیه و آله).

ص: 206

خامساً: إن الآية والمعرفة التي استخلصناها منها تحمّل-ُنا مسؤولية إعانة رسول الله (صلی الله علیه و آله) في تحقيق أهدافه المذكورة وهي وضع الآصار والأغلال عن الامة وتحريرها من قيودها من خلال تفعيل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمساعدة الناس على إزالة هذه الآصار والأغلال, والشاهد على ذلك أن نفس هذه الآية تضمّنت دعوة مباشرة لاتباعه (صلی الله علیه و آله) ليعينوه (صلی الله علیه و آله) على رسالته الخالدة فيقع اجرهم على الله تبارك وتعالى وعلى رسوله الكريم(صلی الله علیه و آله) قال تعالى في ذيل هذه الآية (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف : 157) وهذه الآية وسائر آيات القرآن الكريم ليست خاصة بأصحابه الذين كانوا معه، بل تشمل كل المؤمنين به (صلی الله علیه و آله) الى نهاية الدنيا، وهم جميعا مطالبون بهذه النصرة والمؤازرة والإعانة، وتختم الآية بقول حازم وهو أن هؤلاء الذين يجمعون هذه الأوصاف هم المفلحون لا غيرهم لأنها ظاهرة في الحصر. أعاننا الله تعالى وجميع المؤمنين على أن نكون بهذه الصفات بلطفه وكرمه.

ص: 207

خطاب المرحلة 437 :تتويج زوار العسكريين في يوم تتويج الامام المهدي (علیه السلام)

خطاب المرحلة 437 :تتويج زوار العسكريين في يوم تتويج الامام المهدي (علیه السلام)(1)

إنتهت مراسيم زيارة الإمامين العسكريين (ع) في سامراء إحياءً لذكرى استشهاد الإمام الحسن العسكري (علیه السلام) بمشاركة عشرات الآلاف من المؤمنين الموالين لأهل بيت النبي (صلی الله علیه و آله)، ولا ينبغي لهذا الحدث أن يمرّ دون الإشادة بالجهود الاستثنائية والتضحيات النفيسة التي قدمتها القوات المسلحة والمتطوعون الأبطال الغيارى في تأمين الطريق وجوانبه ومدينة سامراء ومحيطها، وكذا جهود المسؤولين المعنيين بإدارة الروضة العسكرية وكل المساهمين في تهيئة الخدمات والنقل وسائر احتياجات الزّوار، وقد كان الجميع متواجدين في الميدان ويواصلون الليل بالنهار، على مدى عدة ايام حتى خرجت المناسبة بهذا الشكل بلطف الله تبارك وتعالى.

لكننا في يوم تتويج الإمام المهدي (عجل الله فرجه) بنور القيام بالإمامة بعد استشهاد أبيه العسكري (علیه السلام) وسرور كلّ المظلومين والمستضعفين وطالبي العدالة والتواقين للكمال والسموّ يجب أن نتوّج المشاركين في هذه الزيارة

ص: 208


1- تحدث سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) ببعض هذه الكلمات مع جمع من الزوار الذين زاروا سماحته في طريق العودة من سامراء يوم 9/ع1 / 1436 المصادف 1/1 /2015 وفي مكالمة هاتفية مع بعض المسؤولين الإداريين والعسكريين في سامراء تفقد من خلالها الاستعدادات للزيارة.

بتاج الفخر والشجاعة والفداء والانتصار والولاء الصادق لأهل بيت النبي (صلی الله علیه و آله) (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)(المطففين26.لأنهم تحملوا الصعوبات وتحدّوا الإرهاب المتوحش الذي يرتعد من مجرد ذكر اسمه أعتى الطواغيت، وقطعوا طريقا مليئةً بالألغام ويحيطها القتل والتدمير، وأبى كثير منهم إلا أن يقطعوا المسافة بين الروضة الكاظميّة المطهّرة الى الروضة العسكريّة المطهّرة (وهي حوالي 125كيلومتراً) مشياً على الأقدام وهم معرّضون طول الطريق (من شمال بغداد وحزامها الى جنوب سامراء وتخومها) لاستهداف القتلة عن قرب بالعمليات الانتحارية والأسلحة الرشاشة أو عن بعد بالقذائف الصاروخية والأسلحة المتوسطة والمتابعون للأحداث يعلمون معنى هذا الكلام.

فبينما يتحصّن المقاتلون الأشدّاء من جيوش العالم بالخنادق والسواتر والآليات المدرّعة او الانبطاح على الارض تفادياً للنيران وهم ثابتون في أماكنهم أو يتقدمون أمتاراً قليلةً، زحف المؤمنون الموالون رجالاً ونساءً وأطفالاً مرفوعي الرؤوس منتصبي القامات يسيرون بسكينةٍ ووقار مائة وخمسة وعشرين كيلومترا وترفرف بأيديهم أعلام النصر والثبات والإقدام ورايات الولاء والمودّة، وقد يرى احدهم إطلاقات النار تصيب من يسير الى جانبه فيُستشهد أو يُصاب ويمضي هو في طريقه الى الأمام.

لقد رفع هؤلاء الأبطال رؤوس العراقيين وجميع الموالين لأهل البيت (علیهم السلام) في أنحاء العالم عاليةً وعلّموا شعوب العالم دروس الصبر والمصابرة والجهاد والانتصار على النفس قبل الأعداء لتثبيت المبادئ الإنسانية العليا ورجم شياطين

ص: 209

الإرهاب والتكفير والتجهيل والأنانية واستعباد الشعوب ومصادرة حريات الناس وكرامتهم.وندعو الشعب العراقي الذي سطّر هذه الملاحم أن لا يسمح للأجنبي وعملائه أياً كان ممن وجد شبراً على هذه الارض المباركة وشارك بشكل أو بآخر في مواجهة الإرهاب العاتي أن يصادر انتصاراتهم وينسبها الى نفسه، وليحتقر كل ادّعاءات ومزاعم هذا وذاك بأنه هو الذي صدّ الارهاب وقضى عليه وهو الذي حمى مدن العراق وأهلها من السقوط بأيدي الإرهابيين، وإن كنّا نقدّر جهود كل الذين مدّوا يد العون الى العراقيين في هذه المحنة الكبيرة (وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ) (الأعراف85)، لكن هذه المساهمة مهما كان حجمها لا يجوز أن تصادر حقّ العراقيين وزهو انتصاراتهم وزخم تضحياتهم وجهودهم الجبّارة.

فليحذر العراقيون الأبطال من هذه الادعاءات لأنها تقلل من همّتهم وثقتهم بالنفس وتُشعرهم بالإحباط وتجعلهم اُجراء للغير مع أنهم هم الذين يعيشون المعاناة ويقدمون التضحيات.

ص: 210

خطاب المرحلة 438 :هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأرض وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا

اشارة

خطاب المرحلة 438 :هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأرض وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا(1)

(هود 61)

قال تعالى (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأرض وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ) (هود61)

هذه الفقرة من الآية تبيّن واحدة من قواعد الرؤية القرآنية لدور الانسان في الحياة وعلاقته بما حوله، فتكون أساسا ومنطلقا لسلوكه وبرنامجه في الحياة.

(استعمر) على صيغة استفعل والمعروف في معناها انها طلب الفعل كقولك (استخرج) أي طلب الإخراج، ويمكن ان يكون لها عدّة معانٍ اخرى، فتأتي بمعنى الفعل الثلاثي المجرد نحو (استقرَّ) أي قرّ، وغير ذلك. فيكون معنى الآية أن الله تعالى خلقكم من الأرض واستعمركم فيها أي طلب منكم اعمارها وفوّض اليكم أمر إصلاحها والانتفاع بها، أو أنه تعالى عمّركم فيها أي جعل لكم أعماراً مديدة فيها لأن إعمار الأرض يحتاج الى عمر مديد، ولو كانت الأعمار قصاراً لما استطعنا إنجاز شيء، ويمكن أن يكون (استعمركم) بمعنى أنه تعالى اعطاكم قدرات وجعلكم بوضع تقدرون فيه على الإعمار.

ص: 211


1- كلمة القاها سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) في مكتبه الشريف يوم الجمعة 3 / ربيع الاول / 1436 المصادف 26/ 12/ 2014 .

والعمارة نقيض الخراب، وهي تعني جعل الشيء واستعماله على النحو الذي ينتفع به ويحقق الغرض منه، وهي لكل شيء بما يناسبه من ذلك، ((فالعمارة تحويل الأرض الى حال تصلح بها أن يُنتفع من فوائدها المترقّبة منها كعمارة الدّار للسُكنى والمسجد للعبادة والزرع للحرث والحديقة لاجتناء فاكهتها والتنزه فيها، والإستعمار هو طلب العمارة بان يطلب من الإنسان أن يجعل الأرض عامرة تصلح لأن ينتفع بما يطلب من فوائدها) (1).ولان الغرض من وجودنا على هذه الارض إعمارها فان وظيفة كل فرد هو اعمار واصلاح ما يقع في دائرة مسؤوليته، فربّ الاسرة يعمر اسرته ومدير المدرسة يعمر طلابه، والقائد يعمر اتباعه ومريديه وهكذا القائد السياسي، لذا جعل امير المؤمنين (علیه السلام) من الوظائف المهمة للحاكم عمارة الأرض، قال (علیه السلام) في عهده الذي كتبه لمالك الأشتر لمّا ولاّه مصر: (وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك الاّ بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارةٍ أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقمْ أمرُه الاّ قليلاً)، وقال (علیه السلام): (ولا يثقُلن عليك شيءٌ خفّفت به المؤونة عنهم فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك)(2).

ويمكن ملاحظة عدة امور في الآية:

1-إن الله تعالى يذكِّر عباده بنعمه العظيمة عليهم وذلك لأنه خلقهم من نفس هذه الأرض مباشرة –كخلقه لآدم (ع)- أوانه خلق الانسان من نفس

ص: 212


1- الميزان: 12/ 298
2- نهج البلاغة: الخطبة 291

عناصر الأرض ومكوناتها وغذائها ومع ذلك فانه أعطاهم هذا التكريم العظيم وفضّلهم على مخلوقاته ومكّنهم من هذه الأرض ليعمروها واستخلفهم عليها كجنس بشري أو كأفراد باعتبار أنهم يخلفون من سبقهم في التملّك والاستيلاء والاعمار.2-وفي الآية بيان لحقيقة اعتقادية وزجرٌ وتوبيخٌ وردع للذين تركوا عبادة الله تعالى وأطاعوا أهواءهم وزيّن لهم الشياطين عبادة آلهة وهمية من دون الله تعالى، فيلفت نظرهم الى أن فعلهم مثيرٌ للسخرية حين مكّنهم الله تعالى من الأرض واستعمرهم فيها والآية تفيد الحصر ب-(هو)أي أنه تعالى وحده الذي أنشاءكم وهيأكم لأن تنتفعوا بهذه الأرض بما ينفعكم في حياتكم وتحتاجون اليه ولا تحتاجون الى غيره تعالى، لكن المؤسف أن هؤلاء البشر يتسافلون ويجعلون مما صنعت ايديهم آلهة يعبدونها، ويعتبرونها اربابا تدّبر شؤونهم من الرزق والحياة والضر والنفع باعتبار انهم لا يناقشون حقيقة ان الله تعالى هو الخالق (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (لقمان25) لكنهم يعتقدون انه سبحانه فوّض تدبير شؤون الكون الى اولئك الارباب الوهميين، فالآية تدعوهم الى ان يثوبوا لرشدهم لان تلك الارباب لو كانت مدبرة لشؤونكم لكان لها دور في تهيئة مستلزمات الحياة في الارض والسماء والهواء والشمس وكل شيء، وانتم تعترفون بانها لا يد لها في ذلك كله لذا جاء بعد هذه الفقرة من الآية مباشرة الأمر بالاستغفار والتوبة من هذه الاوهام والخيالات الفاسدة.

3-إن الله تعالى فوّض أمر إعمار الأرض الى الانسان وهيّأ له الوسائل

ص: 213

والظروف التي تعينه على ذلك وطلب أن يفكّر ويبحث ويسعى وينتج، وبدون ذلك لا يحصل إعمار ولا يستفيد من منابع الرفاه والسعادة الموجودة في هذه الأرض ويكون من الخاسرين، فلا اتكالية ولا تقاعس ولا كسل وإنما لابد من العمل والله تعالى يبارك فيه ويؤتي ثماره بلطفه.4-بما أن الإنسان مأمور بان يتخلّق بأخلاق الله تعالى(1) كما في الحديث الشريف وفي الآية الكريمة (وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ) (النحل60) ونحن مأمورون بأن نُقيم الدين والسنن الإلهية وهذا يوجب علينا أن نعطي الفرصة الكاملة لكل فرد أو مؤسسة أو مجتمع ونهيئ الأسباب والإمكانيات لكي يعمّروا الأرض بالحياة وينتفعوا من الخيرات المتاحة لهم على كلِّ الأصعدة سواء على الصعيد العلمي او الإقتصادي او السياسي أو الديني أو الإجتماعي وغير ذلك، بالتصويت لهم اذا توقفت المسالة على الانتخاب، او بوضع الرجل المناسب في المكان المناسب بالتعيين او بتقديم الدعم المادي والمعنوي لأي مشروع مثمرٍ او فكرة مفيدة او مؤسسة نافعة ونحو ذلك.

5-إن الإستعمار مصطلح قرآني مثمر وإيجابي ويُغني الحياة بالخير، لكن الدول المستكبرة اختطفته وحوّلته الى معنى معاكس يتضمن القتل والتدمير والخراب والاستحواذ على ثروات الشعوب وتجويعهم والاستيلاء على زمام الامور في بلدانهم، ككثير من المصطلحات التي شوهوها كالحرية التي تعني الانعتاق من اغلال الاهواء والشهوات والتعصّب والعبودية الخالصة لله تعالى

ص: 214


1- ورد عن الامام الصادق (عليه السلام) تخلَّقوا بأخلاق الله. بحار الأنوار: ج 61، ب 42، ص 129

فأصبحت تعني عندهم الانفلات من كل الضوابط الاخلاقية أو السياسة التي تعني رعاية مصالح البلاد والعباد وصلاح امورهم ونصف أئمتنا (ع) بها كما ورد في الزيارة (يا ساسة العباد) وهكذا، لكنهم وظّفوها لمآربهم الخبيثة المعادية للإنسانية.6-ولابد من الإلتفات الى الجوانب المعنوية للإعمار لأن الله تعالى أنشأ لنا هذه الأبدان لتكون وسيلة لتكامل النفس والعقل وسمو الرّوح، فالبدن هو أرض النفس الذي أنشأه الله تعالى لإعمارها بطاعة الله تعالى وعلى هذا فان إعمار الأرض لابد أن يكون مقترنا بنية التقرب الى الله تعالى لأن الإعمار الحقيقي هو ملئ القلب بحب الله تعالى وذكره وتحلية النفس بالفضائل وتهذيبها من الرذائل والأغلال والآصار، فالأمر بالإعمار إنما يُراد منه تهيئة أسباب الطاعة والتمكين منها. أذ كلّما كانت الأسباب المساعدة على الطاعة متوفرة كان إقبال النفس عليها أكثر فعوالم الإنسان مترابطة، كما قيل في المثل المشهور: (العقل السليم في الجسم السليم).

7-وكما ان الارض مستودع لكثير من الخيرات وعلى الانسان ان يستصلحها ويستعمرها ليستخرجها، فكذلك طاقات الانسان لا حدود لها لو احسن تفجيرها، وتشهد وقائع كثيرة بذلك كقلع امير المؤمنين (علیه السلام) لباب خيبر التي عجز اربعون شخصا عن حملها. وخذ مثالا قريبا من مسيرة الموالين لأهل البيت (علیهم السلام) حين يقطعون مسافة اكثر من 500 كيلومترا مشيا في ظروف جوية قاسية وتهديدات ارهابية جديّة من دون اصطحاب طعام او فراش، فحبّهم للحسين (علیه السلام) وولاؤهم للنبي (صلی الله علیه و آله) واله فجّر طاقات يجدونها

ص: 215

مستحيلة التحقق في غير هذا الحافز، وكسير بعض الاخوة 2000 كيلومترا من الامامين الكاظمين (ع) الى مشهد الامام الرضا (علیه السلام) في ارض مجهولة لهم وظروف جوية صعبة ويمرّون بمناطق فيها وحوش مفترسة.8-إن الله تعالى خلقنا من الأرض، فالأرض سابقة بوجودها علينا، وقد سخّرها الله تبارك وتعالى لنفعنا (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأرض جَمِيعاً) (البقرة29) فنِعمُ الله تعالى سابقةٌ على وجودنا وهو جلّت آلآؤه المبتدئ بالفضل وبالنعم، والدرس الذي نستفيده هو أن نبادر نحن بالعطاء للأخرين قبل أن نتوقع منهم تقديم شيء من الخير.

9-ما دام معنى اعمار الارض يتحقق بجعلها على نحو مثمر ينتفع به، كما تقدم في التعريف فإذن هو يشمل كل نواحي الحياة لكلٍ بحسبه، فهناك الإعمار السياسي والإقتصادي والإجتماعي والزراعي والعلمي وغير ذلك، لأنها كلها تساهم في تحقيق هذا المعنى فكأن الإعمار مرادفٌ للإصلاح أو هو نتيجته.

الإمام الحسين (عليه السلام) وارث الاعمار الشامل:

لذلك فان شريعة الاسلام وهي خاتمة الشرائع الالهية واكملها لم تكتف بالإعمار والاصلاح الديني وانما عمّت بقوانينها واحكامها كل شؤون الحياة وقضايا الناس، وقد عبَّر الامام الحسين (علیه السلام) وارث الانبياء وحامل رسالاتهم كلها عن هذا المشروع الإعماري الشامل وأشار في كلماته الشريفة الى كل هذه المجالات.

ص: 216

ففي مجال الاعمار والاصلاح الديني قال (علیه السلام)(وإنِّي لم أخرج أشِراً ولا بَطِراً ، ولا مُفسِداً ولا ظَالِماً ، وإنَّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمَّة جَدِّي (صلی الله علیه و آله) . أريدُ أنْ آمُرَ بالمعروفِ وأنْهَى عنِ المنكر ، وأسيرُ بِسيرَةِ جَدِّي ، وأبي علي بن أبي طَالِب ع) (1).وفي مجال الاعمار القانوني قال (علیه السلام) (وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه، فإنّ السنة قد اُميتت والبدعة قد اُحييت، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد)(2). أي ان هؤلاء الطغاة عطّلوا العمل بالدستور والقانون فالامام (ع) يدعوهم الى العودة الى العمل بالدستور –وهو القرآن- والقوانين المبيّنة له –وهي السنة الشريفة-.

وفي مجال الاعمار السياسي وبيان صفات المستحقين للإمامة والقيادة وولاية امور الأمة قال (علیه السلام) (فلعمري ما الامام الا العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحق والحابس نفسه على ذات لله)(3).

واعتبر (ع) سبب الخراب والفساد الاقتصادي والاجتماعي والاخلاقي والديني وضياع الحقوق والعدالة يرجع الى ولاية القادة غير الشرعيين لأمور الناس قال (علیه السلام) بعد ان حمّله كل افراد الامة مسؤولية التغيير: (مَن رأى سُلطاناً جائِراً مُستحلاً لحرم الله، أو تاركاً لعهد الله، ومُخالِفاً لسنّةِ رسولِ الله(صلی الله علیه و آله)، فََعَمِلَ في عبادِ الله بالإثمِ والعدوانِ، ثم لم يُغيّرْ عليهِ بقولٍ ولا فعلٍ، كان حَقّاً

ص: 217


1- موسوعة كلمات الإمام الحسين (علیه السلام) ص 354.
2- موسوعة كلمات الإمام الحسين (علیه السلام) ص 383.
3- موسوعة كلمات الإمام الحسين (علیه السلام) ص 379.

على الله أن يُدخِله مَدخلَه) قال (علیه السلام) في تحليله (وقد عَلمتُم أنَّ هؤلاء لَزِموا طاعةَ الشيطانِ وتَولَوا عن طاعةِ الرحمنِ، وأظهرُوا الفسادَ وعطلّوا الحدودَ واستأثَروا بالفيء، وأحَلّوا حرامَ اللَّهِ وحَرَّموا حلالَهُ، وأنا أحقُّ من غيري بهذا الأمر لقرابتي من رسول الله (صلی الله علیه و آله)(1).وفي رواية اخرى (وأنا أولى من قام بنصرة دين الله وإعزاز شرعه والجهاد في سبيله، لتكون كلمة الله هي العليا) (2).

وهذا بعينه هو مشروع الامام المهدي المنتظر(عجل الله تعالى فرجه الشريف) وقد ادخره الله تعالى لإقامة الحق والعدل وارساء قواعد الدولة الكريمة العامرة بالخيرات والبركات والعزة والكرامة، كما ورد في دعاء الافتتاح لليالي شهر رمضان المبارك (اَللّهُمَّ إِنّا نَرْغَبُ اِلَيْكَ في دَوْلَة كَريمَة) ، ولا تكون الدولة كريمة الا اذا سادها الاعمار والاصلاح في جميع المجالات.

اقول: ونحن ننهي الموسم الحسيني لشهري محرم وصفر لابد ان نقف ونراجع ونحلل مقدار استفادتنا من اقامة الشعائر الحسينية، كما امرنا الائمة المعصومون (علیهم السلام) في كل طاعة، كالصلاة حينما جعل الامام (ع) مقياسا لقبولها والانتفاع بها وهو مقدار نهيها عن الفحشاء والمنكر .

فدرجة استفادتنا من النهضة الحسينية المباركة يحددها مقدار نجاحنا في انجاز الرسالة الحسينية المباركة وتحقيق الاعمار في نواحي الحياة الانسانية الكريمة.

ص: 218


1- موسوعة كلمات الإمام الحسين (علیه السلام) ص 457.
2- موسوعة كلمات الإمام الحسين (علیه السلام) ص 408.

وهي نفس الدرجة التي نستحقها في اختبار التمهيد للظهور المبارك للإمام المهدي (علیه السلام) لان الرسالة واحدة والغرض واحد، فلنراجع انفسنا ونقّيم افعالنا بدقة ولا نكون من الغافلين المخدوعين ببعض الشكليات والعناوين المزوّقة والطقوس المتخلّفة لنقنع انفسنا باننا قد احيينا شعائر الحسين (علیه السلام) وهي لا تزيد الا بعدا عن الامام الحسين (علیه السلام) واهدافه المباركة لأنها تساهم في تجهيل الناس وتسطي عقولهم وهو مخالف لما اراده الامام (ع) كما ورد في زيارته المخصوصة انه (بذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة) والله المستعان .

ص: 219

خطاب المرحلة 439 :(وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ ... لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا)

خطاب المرحلة 439 :(وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ ... لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا)(1)

(الفتح - 25)

قال تعالى (وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) (الفتح - 25)

الآية من سورة الفتح التي سجّلت الفتح المبين الذي منّ الله تعالى به على نبيه الكريم (صلی الله علیه و آله) وعلى المسلمين بصلح الحديبية الذي انقلبت من يومه موازين القوى ومعادلة الصراع بين المؤمنين والمشركين حيث كسر الله تعالى شوكة المشركين بقيادة قريش وشتت شملهم واصبحوا يُغزون في عقر دارهم وكانوا قبل عام من ذلك يحشدون عشرة الاف من الاحزاب و يحاصرون المدينة وأهلها، فصاروا يطلبون من النبي (صلی الله علیه و آله) الصُّلح والرجوع عن مكة ذلك العام، مما مهد الطريق لانتشار الاسلام في جزيرة العرب وفتح مكة، وكل ذلك تحقق بدون قتال، قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ

ص: 220


1- كلمة القاها سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) يوم الجمعة 26-صفر-1436 الموافق 19-12- 2014 وعرضت من قناة النعيم الفضائية.

عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً) (الفتح-24)، ودع عنك ذكر بعض اصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) الذين لم يفهموا هذا الفتح المبين فاعترضوا على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وشككوا في مصداقيته كما ورد في كتب العامة.وجواب (لولا) في الآية محل البحث غير مذكور ولكنه يعرف من هذه الآية السابقة عليها، أي لولا وجود هؤلاء لما كفّ الله تعالى أيديكم وأيديهم عن القتال الذي كان سينتهي حتماً بانتصار المسلمين كما في الآية السابقة عليهما (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً) (الفتح-22).

فيكون معنى الآية انه لولا وجود رجال مؤمنين ونساء مؤمنات ما زالوا يقيمون بين المشركين يخفون اسلامهم تقية واستضعافاً او لمصالح معينة لكونهم عيوناً للنبي (صلی الله علیه و آله) على المشركين وانتم لا تعرفونهم، لأوقع الله تعالى القتال بينكم وبين قريش وقد اقتحمتم عليهم ديارهم والنصرُ لكم، لكن الله تعالى كفّ أيديكم وأيديهم عن القتال، حمايةً لكم ولأولئك المؤمنين، لأنكم بسبب جهلكم بهم فيخشى عليكم من إصابتهم بقتل أو جرح فتصيبكم بسبب ذلك (معرّة) أي ضرر وعار في الدنيا أو الآخرة، لأن المشركين سيعيرّون المسلمين ويقولون أن هؤلاء مجرمون قساة لم يرحموا حتى جماعتهم المؤمنين، وسيقولون أيضاً أن النبي (صلی الله علیه و آله) لم يراعي حرمة بيت الله الآمن فقاتل على أرض الحرم.

ولو تزَّيل هؤلاء المؤمنون أي انفصلوا وتباينوا عن مجتمع المشركين لوقع

ص: 221

العقاب على الكافرين خاصة (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا) من دون محذور، كما ان الفريقين متزايلون يوم القيامة فيحل العذاب بالكافرين.والغرض الاخر الذي لوحظ في تجنب القتال وكفّ الايدي عنه هو قوله تعالى {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}الفتح : 25 اي لإعطاء مزيد من الوقت والفرصة حتى يخرج المؤمنون من وسط قريش ويأووا الى كهف رسول الله (صلی الله علیه و آله) الرحيم، او حتى يهتدي من يشاء الله من هؤلاء المشركين والمعاندين، وهؤلاء لا تعرفون عنهم شيئا اكيدا، فلو تزيل هؤلاء اي تحقق الغرض بهداية من يُريد الله تعالى هدايته وانفصالهم عن المشركين لعذبنا الذي كفروا فالكفّ عن القتال يحقق مصلحتين:

1-دفع الخطر عن المؤمنين غير المعروفين ودفع المعّرة عن المسلمين.

2-اعطاء الفرصة لهداية المزيد من الاعداء للأيمان .

وهذه الرحمة لا تختص بالقوم الموجودين في ذلك الزمان، بل يشمل من سيأتون لاحقا كما ورد عن أهل البيت (علیهم السلام) في عدة روايات(1)، وفي إحداها قال الراوي للإمام الصادق (علیه السلام): ما بال أمير المؤمنين (علیه السلام) لم يقاتل فلاناً وفلانا؟ قال (علیه السلام) (لأيةٍ في كتاب الله عز وجل (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) (الفتح-25) قال: قلت: وما يعني بتزايلهم؟ قال (علیه السلام) (ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين، وكذلك القائم (ع) لن يظهر أبدا حتى تخرج ودائع الله عز وجل, فإذا خرجت ظهر على من ظهر من أعداء الله عز

ص: 222


1- ذكرها في تفسير البرهان: 9/ 71.

وجل فقتلهم)(1).وهذه سنة الهية ثبّتها القرآن الكريم في قصة النبي نوح (ع)، لذلك فأنه (علیه السلام) لم يستنزل العذاب على قومه إلا بعد أن حصل عنده اليأس من ولادة شخص مؤمن، قال تعالى (وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً، إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّارا) (نوح 26-27) ولكن العذاب لم ينزل إلا عندما أخبره الله تعالى بهذه الحقيقة وعندئذٍ أيقن النبي نوح (ع) بنزول العذاب، قال تعالى (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ، وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ) (هود 36-37).

والآن بعد أن فهمنا أكثر من وجه لتفسير الآية نستطيع استنباط عدة دروس من الآية:

1- ان الغرض الذي يجب أن يكون ماثلاً دائماً أمام كل القادة والعاملين في السلم وفي الحرب وفي كل عمل هو إدخال الناس في الرحمة الإلهية (لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ) لأن الغرض من الخلق رحمتهم (إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (هود-119) فالرحمة المُشار اليها في الآية يمكن أن يكون المقصود بتحصيلها المؤمنين المستضعفين المتخفين بإيمانهم، أو المؤمنين الموجودين في أصلاب المشركين ولو بعد عدة أجيال، أو لنفس المشركين بأن يُوفقوا للإيمان، وقوله تعالى (من يشاء) ليس اعتباطياً وإنما مبني على أهلية الشخص وقابليته وحسن اختياره، لأن الله تعالى حكيم والحكيم يضع

ص: 223


1- عن كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق : 641.

الاشياء في مواضعها.فليست الحرب في الاسلام لتوسيع النفوذ وبسط السلطة وجني المزيد من المكاسب والمغانم وإنما لشمول الناس بالنفحات الالهية فإذا تحقق ذلك بالسلم والكفّ عن القتال فقد تحقق الغرض ولا معنى للحرب، فليفهم المعترضون على تشريع الاسلام للقتال.

2- إن الآية تعطينا تفسيراً لصبر أمير المؤمنين (علیه السلام) على الظلم الذي لحق به وبالصديقة الزهراء (علیها السلام) بعد وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) وعجز الكثيرون عن فهم موقفه (ع) لذا بادروا الى إنكار أصل الموضوع مع تسليم المصادر بوقوعه، لكن أمير المؤمنين (علیه السلام) كان يعلم بما علّمه الله تعالى من أن في أصلاب هؤلاء من يكونون موالين عاجلاً أو آجلاً ولو قتلهم فأنه سيقطع نسلهم ويحرم اولئك من الكمال.

3- وتعرّفنا أيضاً على سرّ من أسرار طول غيبة الامام المهدي (علیه السلام) وهو استفراغ الوسّع في إخراج المؤمنين من أصلاب الكافرين والمنافقين وتوفر فرصة الهداية لكل البشر كما ان النبي نوح (ع) لبث طويلاً في قومه (أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً) (العنكبوت-14) للوصول الى هذه النتيجة فلا نستغرب من طول غيبة الامام (ع) - وان ضاقت صدور المؤمنين بذلك- لإنه مُدّخر لإقامة دولة العدل الالهي، واذا كان النبي المعصوم المزوّد بالعلم اللدنّي يعجز عن معرفة هذا الوقت فيظن انهم لا يلدون الا فاجراً كفار فكيف يعرفه الجهلة، وفي هذا جواب للمشككين والمتسائلين.

4- ان الله تعالى يدفع بالمؤمنين عن غيرهم (وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء

ص: 224

مُّؤْمِنَاتٌ.... لَعَذَّبْنَا) وفي رواية عن الامام الصادق (علیه السلام): (إن الله يدفع بمن يصلي من شيعتنا عمن لا يصلي من شيعتنا ، ولو اجتمعوا على ترك الصلاة لهلكوا. وإن الله ليدفع بمن يزكي من شيعتنا عمن لا يزكي من شيعتنا، ولو اجتمعوا على ترك الزكاة لهلكوا. وإن الله ليدفع بمن يحج من شيعتنا عمن لا يحج، ولو اجتمعوا على ترك الحج لهلكوا وهو قول الله عز وجل: (وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ)(1).وقد قلت في الخطاب الفاطمي في نيسان من العام الماضي ان تخاذل الكثيرين عن نصرة القانون الجعفري ومعارضة البعض الآخر حتى أجهضوه كانت سبباً في التقدير الإلهي لنزول بلاء عام لولا نصرة البعض للقانون وحماسهم للدفاع عن إقراره وتثقيف الأمة على المطالبة به، وبعد شهرين من ذلك نزلت بلاءات لم نكن نعهدها من سقوط عدة محافظات بيد داعش وتهجير الملايين وتدمير المدن وأخذ النساء سبايا ووقوع مذابح بالآلاف جملة واحدة وكادت تسقط بعض المدن المقدسة لولا أن الله تعالى رفع جزءاً من البلاء ببركة تلك النصرة، فأقرأوا جيداً السنن الإلهية وتأثيرها في الحياة لئلا تتكرر الاخطاء والخطايا الكارثية.

ولا زالت الفرصة موجودة لانهم قرّروا في حينها تشكيل لجنة علمائية للنظر في القانون وآلية اقراره وقد مرّت مدة كافية لإنجاز هذا الامر والله المستعان.

5- ان الكف عن القتال كان رعاية لجمع من المؤمنين أن يصيبهم ضرر جهلاً بغير علم (لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ) وهذا يكشف حكمة المرجعية

ص: 225


1- البرهان :2/ 145 نقلاً عن تفسير العياشي 446.1/ 135.

الرشيدة في توقفها عن الاذن بالتشكيلات الشعبية المسلحة إلا في ساحات المواجهة والدفاع عن الدين والنفس والعرض والمال، واشترطت أن يكون العمل العسكري منضبطا ومحدودا بإشراف قيادات مهنية وكفوءة ومخلصة ونزيهة وأن ينالَ المتطوعون تثقيفاً كاملاً حول واجباتهم الدينية والوطنية وتدريباً جيداً وتسليحاً يناسب المعارك التي يدخلونها، أما اطلاق الدعوة للناس عامة من دون وضع التدابير والخطط لتحقيق هذه الشروط وتنظيم العمل والسيطرة عليه، فأنه تقع هذه المحاذير التي ذكرتها الآية الشريفة، حيث تتناول وسائل الاعلام هذه الايام وقبلها اخباراً عن وقوع انتهاكات وجرائم بحق الابرياء من قبل المندسين والجهلة والمتعصبين والنزقين الذين لم يتعرفوا على أداب وأخلاق العمل العسكري وأهدافه وقوانينه الشرعية والمهنية، فالجهد الشعبي غير المنظم يلزم منه الوقوع في هذه الكوارث، فكيف وهم لا يعلمون ولا يميزون المسلمين الابرياء (لم تعلموهم)(بغير علم) 6- عدم اليأس من صلاح الناس وهدايتهم مهما رتعوا في الكفر والشرك فمن الممكن شمولهم بالرحمة الالهية فقد دخل المشركون بعد ذلك في الاسلام طوعاً أو طمعاً أو لأي سبب آخر، وعلى العاملين أن يستمروا في محاولاتهم فأن كل شيء ممكن عند الله تعالى (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِر) (الغاشية21-22) وان الاسلام قادر على استيعاب حتى اعتى الناس واكثرهم همجية ووحشية كالمغول الذين اكتسحوا العالم الاسلامي وأوغلوا فيه قتلاً وتدميراً، وما اسرع ما دخلوا في الاسلام واصبحوا جزءاً من المجتمع المسلم وآمن كثير منهم بولاية أهل البيت (علیهم السلام).

ص: 226

وقد وجهّت في عدد من لقاءاتي مع المسؤولين بأن يكون من اولوياتنا في مواجهة داعش والقاعدة والتنظيمات الارهابية الأخرى هدايتهم وإقناعهم وإلقاء الحجج عليهم وإزالة الشبهات والأوهام عن اذهانهم والغشاوة عن بصائرهم لان أكثرهم مضلّلون تعرضوا لغسيل الدماغ وقد تناقلت وسائل الاعلام خلال المدة الماضية رجوع كثير منهم الى بلدانهم والتبرّي من داعش والقاعدة بعد ان اطّلعوا على التصرفات المشينة والوحشية لقياداتهم والتقطت عدة رسائل نصية وبريدية لمقاتلين اجانب في العراق وسوريا تبيّن شعورهم بانهم قد خُدِعوا واتخذهم الذين جنّدوهم كبش فداء لاغراضهم الشيطانية.فيمكن الاستفادة من مواقع التواصل الاجتماعي للحوار معهم وسلوك الطرق الممكنة للوصول الى عقولهم وقلوبهم وفضح الاجندات المعدّة له، كما فعل امير المؤمنين (علیه السلام) مع أسلافهم من الخوارج عندما حاججهم وناظرهم قبل خوض معركة أمير المؤمنين فتاب ثلثا عددهم (ستة الاف من تسعة) وتركوا عقيدتهم وهو إنجاز عظيم، والشواهد الحاضرة كثيرة أيضاً حيث أن كثيراً من الوهابيين والسلفيين استبصروا بعد الاطلاع على حجج وبراهين أهل البيت (علیهم السلام) عندما تلقى اليهم بالحكمة والموعظة الحسنة من دون استفزاز في بعض البرامج والحوارات الرصينة التي تعرضها الفضائيات فلا نقلل من اهمية هذا التوجه ولنباشر به جميعاً، ولنعطه الجهد الذي يستحقه .

ص: 227

خطاب المرحلة 440 :ليكن هدفكم بناء الانسان الصالح والدولة الكريمة

خطاب المرحلة 440 :ليكن هدفكم بناء الانسان الصالح والدولة الكريمة(1)

الذي يتدبر في سيرة أهل البيت (علیهم السلام) وكيفية تعاطيهم مع السلطة والأحداث السياسية عموماً يجد أنهم ينظرون الى السلطة على أنها وسيلة وليست غاية كما يفهمها المتصارعون على الدنيا، وسيلة لإحقاق الحق وإزهاق الباطل وتحرير الإنسان وبسط العدل بين الناس، فإذا خلت السلطة من هذه الأغراض فلا قيمة لها وهي وبال على صاحبها.

وقد عُرِضت السلطة على الأئمة (علیهم السلام) مرات عديدة جاهزة على طبق من ذهب –كما يقال- خصوصا عند أسقاط الدولة الأموية في زمان الإمام الصادق (علیه السلام) لكن الإمام كان يرد هذه العروض لأنها لم تكن صادقة في تحقيق هذه الأهداف النبيلة.

وفي ضوء هذه الحقيقة لا بد أن نقيّم كل الثورات والتغييرات الاجتماعية التي حصلت في الدول العربية والإسلامية، فنجاحها يكون بمقدار نجاحها في بناء الإسلام الصالح والمجتمع الصالح والدولة العادلة. وإن مواجهتنا للطواغيت والمستكبرين يجب أن تتحرى هذه الأهداف ابتداءً واستدامةً، أي من حين

ص: 228


1- من حديث سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من القيادات الشابة لحركة انصار الله في اليمن بقيادة السيد عبد الملك الحوثي في مجالات الاعلام والثقافة والتبليغ الديني والعمل الانساني يوم الثلاثاء 23/صفر/1436 الموافق 16/ 12/ 2014

انطلاق العمل وحتى ما بعد تحقيق النصر وتسل-ُّم مقاليد الامور، ومنع حصول أي إنحراف في الهدف وفي الوسيلة.إن أسوأ ما ينتجه حكم الطواغيت والمتجبرين هو تحطيم الإنسان وسحق كرامته وتدمير القيم الصالحة في المجتمع، فالتغيير في السلطة لا بد ان تستهدف إعادة كرامة الإنسان وبناء المجتمع الصالح والحكم العادل، ليشعر الناس بالتغيير فعلاً وأن الظلم قد زال وحلّ العدلُ محلّه، أما مجرد تغيير الظالم والاتيان بآخر فلا قيمة له كما حصل عند مجيء العباسيين بدل الامويين.

أننا نتحدث بمرارة عن تجربة التغيير في العراق عام 2003 إذ لم تحقق تلك الأهداف المطلوبة ولم يعمل المتنفذون في السلطة على بناء الإنسان والمجتمع الصالحين بل بالعكس أشاعوا في المجتمع فساداً مستشرياً واستئثاراً وأنانيةً وصراعاً دموياً واحتراباً طائفياً وقومياً ومزقوا نسيج المجتمع وفرّقوا أبناءه ودمروا حضارته، ولولا لطف الله تبارك وتعالى وبركات وجود العلماء العاملين والشعائر الدينية المباركة وبقية من الأخلاق والضوابط الاجتماعية لانهارت بنية المجتمع تماماً وانمحت هويته.

واهم وسائل بناء الإنسان الصالح نشر المعارف القرآنية والعودة الى كتاب الله تعالى لأن القرآن متفق عليه ولا يمكن ردّه فهو الأساس والمنطلق وهو سيؤدي تلقائياً الى ضرورة اتباع أهل البيت (علیهم السلام) وبذلك نمنع من التشويش والصخب الذي يحاول به الخصوم التعتيم على نشر تعاليم أهل البيت (علیهم السلام)، ويتحقق هذا العمل من خلال المحاضرات والندوات والكتب والنشرات والمدارس القرآنية لقطع الطريق على من يريد تأويل القرآن على غير وجهه

ص: 229

وخداع الناس بقراءته المنحرفة حتى استطاعوا تجنيد الكثيرين لممارسة الجريمة بأبشع صورها.

ص: 230

خطاب المرحلة 441 :ملاحظات حول مشروع هيكلة الشركات الصناعية العامة

خطاب المرحلة 441 :ملاحظات حول مشروع هيكلة الشركات الصناعية العامة(1)

نظ-ّمت الحكومة اليوم الخميس 12/ 2/ 2015 مؤتمراً شارك فيه خبراء دوليون لمناقشة مبادرة تطوير القطاع الخاص لتنويع مصادر الدخل، بعد توصية مجلس الوزراء بذلك في جلسته المنعقدة الثلاثاء الماضي.

ولا شك أن العنوان الذي حملته المبادرة يمثل طموحاً وتطل-ُّعاً للعراقيين لكي ي-ُخرِج بلدهم من احادية الدخل، فينهض ويتقدم ويزدهر بإذن الله تعالى.

لكن التجارب السابقة في التعاطي مع مثل هذه المبادرات محبطة ومؤلمة لأنها لم ت-ُنفّذ كما يجب، وكان لها ظاهرٌ معلنٌ أمام الملأ لتمريره، وباطنٌ يمثل الغرض المطلوب لبعض الساسة المتنفذين، وفي كل مبادرة كانت التجربة تنتهي بتنفيذ الجزء الباطن منها أعني الفقرات التي تنتفع بها الطبقة المتنفذة وتفتح لها أبواباً واسعةً للفساد والإثراء على حساب الشعب المحروم، وتترك الجزء الم-ُعلن منها أي الفقرات الاخرى التي يوهمون بها الشعب ويعل-ّقون عليها آمالهم.

ص: 231


1- نال البيان اهتماماً بالغاً واعجاباً من الخبراء الاقتصاديين ورضخ السياسيون لرصانته وقوته فتوقفت خطط الهيكلة وطرحت مبادرات لتمشية عمل هذه الشركات.

وهذه التجارب تجعلنا نقلق من نتائج هذه الخطة وتداعياتها السلبية ونطالب بأن تكون العملية بإشراف خبراء ماليين وقانونيين وفنيين واقتصاديين وسياسيين يتصفون بالكفاءة والنزاهة والوطنية.فإن هذه الخطة تتضمن - مثلاً- هيكلة الشركات العامة المرتبطة بالحكومة وتحويلها الى شركات مختلطة مساهمة أو خاصة، والمتوقع أن بعض منشآتها وأجهزتها وآلاتها التي تقدّر بالمليارات ستُباع بسعر التراب ويستحوذ عليها عدد من الحيتان الكبيرة الذين لهم يد في الفساد المستشري، أو بعض الذين تحتضنهم دول المنطقة أو الدول الكبرى لتجري عليها تأهيلاً بسيطاً وتعيد بيعها أو طرحها في سوق الأسهم بسعر الذهب، لأن الكثير من هذه المؤسسات هي شركات منتجة وقادرة على منافسة الصناعات المستوردة حيث يعرف المط-ّلعون أن عدداً من هذه الشركات الناجحة والمنتجة قد صُرف عليها المليارات لتزويدها بخطوط إنتاجية جديدة ومكائن حديثة خلال السنوات الماضية، لكنها ست-ُعتبر (سكراب) وتُحسب بأسعار زهيدة.

علماً أن العيب ليس فيها وإنما في سوء إدارة الحكومات المتعاقبة وولاء القائمين عليها لإرادة ما وراء الحدود وتنفيذ أجندات مدمّرة للعراق من أجل منافعهم الشخصية ورعاية مصالح أسيادهم فكان مصير تلك المعامل الضخمة والمعدات الحديثة أن تُركن جانباً وتعط-ّل، وساعد على فشلها عدم توجه مؤسسات الدولة الى التعامل مع إنتاج الشركات العامة.

فوزارة التربية تطبع في الخارج ومطابع الدولة معط-ّلة رغم تجهيزها بمكائن حديثة.

ص: 232

ووزارة الكهرباء تستورد محوّلات من الخارج وتترك إنتاج شركاتنا الوطنية المبدعة.ووزارة التجارة تستورد ملايين الأطنان من الحبوب وبنفس الوقت يتلف عندها مئات الآلاف من أطنان الحبوب بسبب عدم بناء مخازن ت-ُحفظ بها الحبوب.

ولو أن وزارتي الداخلية والدفاع سَدّتْ احتياجات منتسبيها من إنتاج معامل الألبسة والخياطة والنسيج الوطنية الذي لا يقل جودة عن المستورد لكانت هذه الشركات رابحة.

إن الدولة العراقية تتعرض لعملية سرقة منظمة واسعة النطاق لا تُبقي ولا تذر شيئاً مما تصل اليه أيدي المفسدين، كالذي حصل بعد انهيار وتفك-ّك الاتحاد السوفيتي عام 1991 من إثراء عدد من زعماء المافيات والمرتبطين بإرادات دولية على حساب المال العام، والوضع في العراق أسوأ وأخطر، لأن الفوضى عارمة ولا توجد إدارة صالحة لإدارة مؤسسات الدولة وصرف المال العام، ولا جدّية في محاسبة رؤوس الفساد والخراب.

ويعرف المتتبعون شواهد لا تُحصى في المجال الصناعي والزراعي والتجاري على انتهازية الكثير من الساسة العراقيين المتنفذين بالاتفاق مع أسيادهم لتدمير كل نهوض اقتصادي وطني ليبقى العراق مرتعاً لفسادهم وبقرة حلوب للحرام الذي يأكلونه في بطونهم ناراً، وليبقى العراقيون مستهلكين لصناعتهم البائسة.

ومن الأمثلة الواضحة ميناء الفاو الكبير المعط-ّل منذ عشر سنوات مع ما فيه

ص: 233

من ازدهار للاقتصاد وعدد كبير من فرص العمل.والتعطيل المتعمّد لمعامل وزارة الصناعة في مختلف محافظات العراق خصوصاً المعامل العملاقة في البصرة لت-ُباع في سوق الخُردة وإعطاء رُخص استثمار لشركات أجنبية تعمل في نفس الموقع مستفيدة من منشآت ومعدات ومواد نفس المشروع الوطني المعط-ّل.

ويعاني القطاع الخاص من نفس المشكلة إذْ ما إنْ ي-ُنجز مشروعٌ وطني مثمرٌ حتى يتعاون رؤوس الفساد مع الدول التي يعملون لمصالحها على محاربته بتخفيض الأسعار ومقاطعة منتوجه حتى يخسر المشروع ويُغلق(1)، ولو كان للسياسيين المتنفذين ذرة من الوطنية لشج-ّعوا الصناعة الوطنية ودعموا منتوجها.

إن من حقّنا أن نسأل لماذا لا يتم تنشيط القطاع الخاص ودعمه إلا من خلال هيكلة وتصفية الشركات العامة؟ وأين جهود الحكومة في دعم مشاريع القطاع الخاص وحماية المنتوج الوطني؟ حتى نثق بمصداقية هذه المبادرات.

إن ما زعمه منظمو المؤتمر المذكور من عدم تضرر عشرات أو مئات آلاف المنتسبين لهذه الشركات التي يناهز عددها المئتين هو مجرد تخدير وامتصاص نقمة هؤلاء المستضعفين وعوائلهم، لأن هذا الادّعاء لا يمكن الوفاء

ص: 234


1- عرضت قناة الحرة عراق في النشرة المسائية ليوم 9/ 2/ 2015 تقريراً عن افتتاح معمل ضخم لتصنيع السكر الأبيض الناعم بطاقة إنتاجية تزيد عن 3000 طن يوميا وأنها تكفي لحاجة السوق المحلية وكلّف 250 مليون دولار لمستثمرين عراقيين وعرب ويعمل فيه آلاف من الفن-ّيين والعمال وبعضهم عرب، واشتكى مدير المعمل من أنه ما إنْ بدأ إنتاج المعمل حتى تحرّكت بعض دول الجوار لكسر سوق السكر لإجهاض المشروع.(إنتهى ملخص الخبر) فكيف نصدّق بدعم وتنشيط القطاع الخاص.

به ولا يُصدّق به عاقل ويتقاطع تماماً مع أهداف الخطة المعلنة، ومصالح المستثمرين.إننا إذ نواسي العراقيين في المحن والبلاءات التي يمرّون بها ون-ُبصِّرهم بالطريقة الغريبة التي ت-ُدار بها امور الدولة ومؤسساتها وندقُّ أمامهم نواقيس الخطر ليطالبوا بوضع آليات وقوانين تضمن حقوقهم ومصالحهم، ولينشروا هذا الوعي في أوساطهم خصوصاً النُّخب التي يُعوَّل عليها، نطالب الحكومة أن تستحضر مسؤولياتها أمام الله تبارك وتعالى وأمام الشعب ومحاكمة التاريخ، فإن من أهم مسؤولياتهم الرفق بالشعب والشفقة عليه وخدمته وتحرّي أفضل المصالح له (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) / الصافات24.

محمد اليعقوبي / النجف الاشرف

22/ربيع الثاني/1436 12/ 2/ 2015

ص: 235

خطاب المرحلة 442 :الدين هو الحب، والحب هو الدين

خطاب المرحلة 442 :الدين هو الحب، والحب هو الدين(1)

يقوم البعض بالاحتفال يوم 14/ 2 من كل سنة بما يسمونه (عيد الحب) وهي حالة لم تكن معروفة في مجتمعنا من قبل وانما ظهرت من بضع سنوات، ولا اعلم اهمية هذه المناسبة لشعوب العالم، وهل هو كبقية الايام العالمية التي يحتفل بها المجتمع الانساني كيوم العمال والمرأة والبيئة وحقوق الانسان ومكافحة التدخين والايدز ونحوها من القضايا التي يراد التركيز عليها والاهتمام بها والفات نظر الحكومات والشعوب لها وتقييم الجهود المبذولة بإزائها.

وعلى اي حال فالحب معنى شريف نبيل اودعه الله تبارك وتعالى في قلوب الناس ليجعل لحياتهم طعما جميلا ممتعا، فان الحياة بلا حب كصحراء جرداء قاحلة مخيفة، اما الحب فيحوّلها الى واحة خضراء مؤنسة، والحب يعطي للحياة معنى وجدوى لأنه يولّد عند الانسان املا وغرضا وهدفا يحيى ليحققه وهو الوصول الى محبوبه، سواء كان هذا المحبوب امرا معنوياً كالقرب من الله تعالى ورسوله الكريم (صلی الله علیه و آله) والائمة الطاهرين (سلام الله عليهم)، او ماديا كالمال او

ص: 236


1- من حديث سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من طلبة جامعة ميسان يوم السبت 24/ع2/ 1436 الموافق 14/ 2/ 2015

الشهرة او السلطة او الاتصال بالجنس الاخر، ولولا هذا الامل لأصبحت الحياة بلا هدف ولا معنى مما يؤدي الى الشعور بالاحباط واليأس والموت، وقد قلت في بعض كلماتي ان من فوائد جعل رواتب للمتقاعدين والمسنين والعاجزين هو ايجاد هدف وغاية يحبونها ويعيشون على امل الحصول عليها وهو قبض الراتب فيملؤون حياتهم بِعًدّ الايام والساعات لبلوغ ذلك الموعد.فالحب اذا نعمة الهية عظيمة، وقد نسب الله تعالى وجوده في قلب الانسان اليه تبارك وتعالى كما في العلاقة الزوجية (وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) / الروم21 او بين الاخوة المتحابين في الله تعالى (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ...... وَلكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) / الأنفال63، بالحب تعمر الحياة لان الانسان اذا لم يحب شيئا فانه لا يتحمس لفعله والتحرك باتجاهه، اما اذا احبَّ فانه يضحي من اجل حبه ويذوب في محبوبه كالوالدين بالنسبة لأبنائهما، او القائد الرسالي بالنسبة الى شعبه، وهكذا، لذا ليس غريباً أن نجد في الحديث الشريف عن الإمام الباقر (علیه السلام) (الدين هو الحب، والحب هو الدين) (1) وعن الامام الصادق (علیه السلام) (هل الدين الا الحب؟ إن الله عز وجل يقول (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ) / آل عمران31) لأن الدين محرّك ودافع لكل عمل مثمر يجلب الخير والسعادة له وللآخرين، والحب هكذا أيضا فهما يلتقيان دائما.

لكن المشكلة في تحريف هذا العنوان الشريف النبيل وإفراغه من محتواه بل تحويله الى عكس معناه ككثير من المصطلحات والعناوين التي تناولناها في

ص: 237


1- راجع مصادر هذه الاحاديث في ميزان الحكمة:- 2/ 198

كلمات عديدة كالحرية والاستعمار والسياسة، فاصبح الحب يعني العلاقات المشبوهة بين الجنسين واتباع الشهوات والنزوات بلا تعقل وروية وخارج اطارها الصحيح مما يولّد مشاكل اجتماعية وآثار نفسية تكون عاقبتها وخيمة وان بدت في اوّلها كأنها سعادة ومتعة، ويوجد من يغذّي هذا المعنى السيء للحب بين الشباب وخصوصا في الجامعات ويهيؤون البيئة المناسبة له، ويمجّدون من يقع فيه لاستدراج الآخرين وكسر الحواجز الاخلاقية والاجتماعية والنفسية والدينية، وتنتج دور السينما والتلفزيون والمسرح سيلا متواصلا من الافلام والمسلسلات لتحقيق هذا الغرض وتساندهم وسائل الاعلام المختلفة وهذا كله انحراف عن الفطرة السليمة وخروج عن الروابط الاجتماعية المتينة وتحطيم للأطر الصحيحة التي تنظم العلاقة بين الجنسين، وهذا تشويه لمعنى الحب ومصادرة له وتحويله الى معنى سيء، وهو ليس حبا اصلاً ولا يمكن تسميته بالحب بل هو اتباع للنزوات والشهوات الحيوانية التي لا يمكن اعطاء عنوان الحب لها.ان الحب الانساني الحقيقي هو ما يتعلق بمن يستحق الحب وهو الله تبارك وتعالى، لان كل ما يوجب المحبة متحقق فيه سبحانه، فالله تعالى جميل ويعرف ذلك من لمساته الجميلة على الكون وما فيه من حولنا، والقلب يحب الجمال والله تعالى محسن الينا وقد تولاّنا بإحسانه ونعمه قبل ان نكون وبعد ان كنّا، والانسان مجبول على حب من احسن اليه، والله تعالى يحبنا ويشفق علينا حتى جعل من احبّ الاشياء اليه تعالى الاحسان الى المخلوقين، عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال (الخلق عيال الله، فاحبّ الخلق الى الله من نفع عيال الله، وادخل

ص: 238

على اهل بيت سروراً) (1)، ومقتضى المقابلة ان نبادله تعالى الحب وقد اثنى تعالى على قوم يبادلونه هذا الحب (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) المائدة / 54، وهكذا فان كل مقومات الحب متوفرة فيه تعالى.ويتفرع عن حبّه تعالى حب من يرتبط به ومن امرنا بحبّه كرسول الله (صلی الله علیه و آله) والائمة المعصومين (علیهم السلام) والاخوة المؤمنين عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال (افضل الاعمال الحب في الله والبغض في الله تعالى).

وكذلك فان حب الابوين والزوجة والاولاد داخل في هذا الاطار وهو مبارك من الله تعالى ويثيب عليه لأنه مما ينسجم مع الفطرة، لكنه متى خالف ما يحبّه الله تعالى وخرج عن تعاليمه فهو مذموم ويجب رفضه ونبذه (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) التوبة / 24.

ولكي يكون الحب صادقا فلا بد ان تظهر اثاره على المحب من التملق للمحبوب والحرص على ارضائه والمسارعة الى تحقيق مرادهن فالحب لله تعالى لا بد ان يقترن بطاعته تبارك وتعالى وطاعة رسوله (صلی الله علیه و آله) والابتعاد عن معصيته قال تعالى (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (آل عمران31)

تعصي الاله وانت تزعم حبَّه *** هذا لعمري في الفعال شنيع

لو كان حبّك صادقا لأطعته *** ان المحب لمن احبَّ مطيعُ

ص: 239


1- الكافي: 1/ 164 ح6

ولا بد ان ي-ُبنى الحب على المعرفة ليكون راسخاً، لان المجهول لا يمكن أن تتعلق به المحبّة، ولو تعلّقت فلا تدوم، فعلينا أن نزداد معرفة بالله تعالى لنزداد حباً، ومن دون النظر بعين المعرفة والبصيرة فإننا لا ندرك معنى حب الله تعالى ولا نستطيع فهم حب عابس الشاكري للإمام الحسين (علیه السلام) بذلك الشكل الذي اذهل الأعداء والأصدقاء على حدٍ سواء، يُحكى أن قيس المجنون بحبِّ ليلى قيل له أن ليلى ليست بذاك الجمال الذي يُصيب بالجنون وتهيم في الصحراء شوقاً الى لقائها، قال قيس: ذلك لأنكم نظرتم الى ليلى بعيونكم وليس بعيني، فإذا لم ننظر الى هذه الحقائق المعنوية بعين المعرفة والبصيرة فإننا لا ندركها. نضع هذه الحقائق أمام من يريدون الاحتفال بعيد الحب ليصححوا نظرتهم للامور، وكجزء من عملية التصحيح يمكن اختيار يوم مناسب لهذه المعاني ليكون عيداً للحب كالأول من ذي الحجة يوم أقدس علاقة حب شريفة في التاريخ وهو زواج أمير المؤمنين (علیه السلام) من الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) ومثلها علاقة رسول الله (صلی الله علیه و آله) بام المؤمنين خديجة (علیها السلام) ونحو ذلك من المناسبات.

ص: 240

خطاب المرحلة 443 :مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ: قدوة رسالية في مدرسة النبوة

خطاب المرحلة 443 :مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ: قدوة رسالية في مدرسة النبوة(1)

في ذكرى ولادة النبي (صلی الله علیه و آله) أحببنا أن نتعرف على عظمة النبي (صلی الله علیه و آله) من خلال تأثيره في أصحابه والقمم السامية التي صنعها وربّاها بالقرآن الكريم الذي أنزله الله تعالى عليه وبأخلاقه الكريمة، حيث نقرأ في كتب التاريخ والسير مواقف مشرّفة وعظيمة وُف-ِّق لها عدد من أبطال الإسلام فنمتلئ زهواً ونشوةً بهذه الإنجازات التي حققها الدين العظيم، ونفتخر بهم.

ومن تلك القمم الرسالية في مدرسة النبوة (مصعب بن عمير) وهو من بني عبد الدار إحدى بطون قريش الأربعين، وكانوا حملة لواء قريش، ويذكر المؤرخون أنهم تعاقبوا على حمل اللواء في معركة اُحد، وفي كل مرة كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیهما السلام) يبرز لحامل اللواء ويقتله حتى أفنى أبطالهم قبل أن يلتحم الجيشان، وهند بنت عتبة ترتجز الشعر بين الصفين وتحرّض حملة اللواء (إيهٍ بني عبد الدارإيهٍ حماة الاخيار) كما تدّعي.

نشأ مصعب في بيت مترف ت-ٌغدق عليه النعم وكان شاباً مرف-ّهاً تتوفر عنده كل الملذات. في كتاب الإستيعاب، كان مصعب بن عمير فتى مكة شبابا

ص: 241


1- من حديث سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع اسرة الشهيد الملازم احمد السعدي وزملائه وحشد من الزوار في مكتبه الشريف يوم السبت 11/ ربيع الاول / 1436 الموافق 3/ 1/ 2015

وجمالا وتيها وكان أبواه يحبانه وكانت امه تكسوه أحسن ما يكون من الثياب وكان أعطر أهل مكة وكان رسول الله (صل الله عليه واله وسلم) يذكره ويقول (ما رأيت بمكة أحسن لمّة ولا أرقّ حل-ّة ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير)، وما ان علم ببعثة النبي (صلی الله علیه و آله) ودعوته الى التوحيد الخالص في مكة -وهو لا يزال يتكتم بالدعوة- حتى سارع مصعب الى الايمان به فكان من اوائل المسلمين السابقين، في كتاب الاصابة ((اسلم قديما والنبي (صلی الله علیه و آله) في دار الأرقم –أي قبل اعلان الدعوة- وكتم اسلامه خوفاً من أمه وقومه فعلمه عثمان بن طلحة فاعلم اهله فأوثقوه فلم يزل محبوسا الى ان هرب مع من هاجر الى الحبشة ثم رجع الى مكة)).ولما سمع اهل يثرب (المدينة لاحقا) من الاوس والخزرج بالدين الجديد خرج مجموعة منهم الى مكة واستمعوا الى النبي (صلی الله علیه و آله)، روي ((أَنَّ الأَنْصَارَ ، لَمَّا سَمِعُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ ، وَأَيْقَنُوا وَاطْمَأَنَّتْ أَنْفُسُهُمْ إِلَى دَعْوَتِهِ فَصَدَّقُوهُ وَآمَنُوا بِهِ ، كَانُوا مِنْ أَسْبَابِ الْخَيْرِ ، وَوَاعَدُوهُ الْمَوْسِمَ مِنَ الْعَامِ الْقَابِلِ " ، فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ بَعَثُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنِ ابْعَثْ إِلَيْنَا رَجُلا مِنْ قِبَلِكَ فَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ ، فَإِنَّهُ أَدْنَى أَنْ يُتَّبَعَ " فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ أَخَا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ ، فَنَزَلَ بَنِي غَنْمٍ عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ ، يُحَدِّثُهُمْ وَيَقُصُّ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ ، فَلَمْ يَزَلْ مُصْعَبٌ عِنْدَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ يَدْعُو وَيَهْدِي اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ حَتَّى قَلَّ دَارٌ مِنْ دُورِ الأَنْصَارِ إِلا أَسْلَمَ فِيهَا نَاسٌ لا مَحَالَةَ ، وَأَسْلَمَ أَشْرَافُهُمْ ، وَأَسْلَمَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ ، وَكُسِّرَتْ أَصْنَامُهُمْ ، وَرَجَعَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

ص: 242

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَانَ يُدْعَى الْمُقْرِئَ(1))).وكان اول من هاجر من المسلمين الى المدينة وقد اُشرِبَ حبّ الله تبارك وتعالى وحبّ رسوله الكريم حتى امتلأ ايماناً وتجرد عن كل سوى الله تعالى، وصاحب القرآن حتى خالط لحمه ودمه.

روي ان النبي (صلی الله علیه و آله) نظر الى مصعب بن عمير مقبلاً وعليه إهاب كبش قد تنطّق به، فقال (صلی الله علیه و آله) (انظروا الى هذا الرجل الذي نوّر الله قلبه، لقد رأيته بين ابويه يغذونه بأطيب الطعام والشراب فدعاه حب الله وحب رسوله الى ما ترون) (2)، وروى الترمذي بسنده عن علي (علیه السلام) قال (رأى رسول الله (صلی الله علیه و آله) مصعب بن عمير فبكى للذي كان فيه من النعمة ولما صار اليه).

شهد (رضوان الله تعالى عليه) معركتي بدر واحد ومعه اللواء وقاتل حتى استشهد فيها، وفي الاصابة ((ان مصعباً لم يترك الا ثوبا فكان اذا غط-ّوا رأسه خرجت رجلاه واذا غط-ّوا رجليه خرج رأسه، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) اجعلوا على رجليه شيئا من الأذخر)).

روي انه ((لَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ ، مَرَّ عَلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ مَقْتُولا عَلَى طَرِيقِهِ ، فَقَرَأَ : " مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ سورة الأحزاب آية 23)) (3).

وروي ايضا انه ((: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ

ص: 243


1- حلية الاولياء لابي نعيم الاصبهاني. رقم الحديث 331
2- المحجة البيضاء للفيض الكاشاني، كتاب مقامات القلب:- 114
3- حلية الاولياء لابي نعيم الاصبهاني. رقم الحديث 333

حِينَ رَجَعَ مِنْ أُحُدٍ ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ : " أَشْهَدُ أَنَّكُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ اللَّهِ ، فَزُورُوهُمْ وَسَلِّمُوا عَلَيْهِمْ ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ إِلا رَدُّوا عَلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) (1) حينما نقرأ سيرة هؤلاء العظماء من اصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) الذين عاشوا احداث صدر الاسلام وعصر نزول القرآن الكريم وتفاعلوا مع احداثها، ومن خلال سيرتهم نفهم الكثير من تعاليم الاسلام المباركة، نستشعر الخسارة بإهمال هذه الحقية من تاريخ الاسلام واعراضنا عن هذا المعين الثرّ حتى تركناهم لغيرنا فصاروا وكأنهم حصتهم مع إننا اولى بهم لأننا اتباع اهل بيت النبوة (ع)، ولا يمكن تبرير ذلك بوجود قمم امثالهم في مدرسة اهل البيت ع.

وحينما نتعرف على هذه القمم الرسالية نتساءل هل يمكن ان نكون مثل اولئك القمم الرسالية، او هل يجود الزمان بمثلهم لتستعيد الامة امجادها، وتستطيع ان تقدم الاسلام نقيا من الشوائب والتحريف والتزييف الذي لحق به؟

والجواب نعم هذا ممكن، ولا زالت الامة تنجب بفضل الله تعالى وجهود قيادتها الرسالية العاملة، ونحن في خضم المواجهة مع عصابات الارهاب والتكفير والقوى المستكبرة التي تقف وراءهم فاننا نتعرف على نماذج رسالية نفخر بها ونسوّقها كقدوات تستحق التأسي بها بين يدي شبابنا الاعزاء.

ومنهم الشهيد الملازم احمد حميد السعدي(2) الذي قضى نحبه في معركة

ص: 244


1- حلية الاولياء لابي نعيم الاصبهاني. رقم الحديث 334
2- من مواليد 1987، حصل على شهادة بكالوريوس التربية في اللغة العربية، تخرج من الكلية العسكرية برتبة ملازم في 6/ 1/ 2014 واستشهد يوم 23/ 12/ 2014 واخلي جثمانه عبر منفذ طريبيل الى منطقة الرويشد ثم نقل جواً مع اخوانه الى مطار بغداد يوم 25/ 12/ 2014 وهو والشهيد ابو مجتبى من قرية السندية التابعة لقضاء الخالص في محافظة ديالى.

شرسة قادها مع اربعة من زملائه في مواجهة حشد كبير من الاشرار قرب الحدود الغربية للعراق لتحرير المعابر الحدودية، وقد كان مثالا للشاب المتدين والاخلاق الكريمة الطيبة، وقد تربى في مدرسة الشهيد شهاب السعدي (ابي مجتبى) الذي قضى شهيداً في اللطيفية مع كوكبة من اخوانه عام 2005.

ص: 245

خطاب المرحلة 444 :دوافع الجهاد في الاسلام

سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي..

جزيل الإحترام سلامُ من الله عليكم وبركة ونِعَم..

في البدء أريد أن أعرِّفكم بنفسي: أنا رجل دين عراقي مسيحي، من مدينة الموصل، والآن اقيم في فرنسا في مدينة باريس أدرس مادة علوم الأديان والتخصص الدقيق سيكون علم الحوار بين الأديان. والسنة القادمة ستكون الأخيرة كيما احصل على شهادة الماجستير.

رسالة الماجستير ستكون حول موضوع الجهاد في الإسلام والمسيحية.. وهو موضوع ، كما تعلمون حضرتكم شائك وغالباً ما قد فُهِمَ بشكل خاطئ بعيد عن سياقه الأصلي. مدير دراستي ركّز كثيراً أن أتناول الموضوع لا فقط من جانب الفقه السني وإنما من جانب الفقه الشيعي كذلك..

معظم مصادري هي من الكتب السنية ومصادر شيعية قيِّمة مثل.. بحار الأنوار، ميزان الحكمة، من لا يحضره الفقيه، الكافي، التهذيب.

هل لديكم مصادر إضافية تنفعونني بها؟ وهل لديكم نصائح توجهونها اليَّ ليكون بحثي رصيناً؟ ولكم الشكر على ذلك انا اطلب من سماحتكم أن تدلوني على هل من فرق في مفهوم الجهاد بين الفقه السني والفقه الشيعي؟ ما هو هذا الفرق من وجهة نظركم؟

ص: 246

بسمه تعالى السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أهنئكم في هذا اليوم بعيد ميلاد سيدنا المسيح (ع) رمز المحبة والتواضع والترفع عن الرذيلة والانحطاط والأنانية والانخداع بالشهوات والملذات .

وأهلاً بك أخاً وشريكاً لنا في محنتنا نحن العراقيين في الموصل وكل مدن العراق المظلوم الذي تكالبت عليه القوى الباغية والظالمة المستبدة والمتوحشة أعاننا الله تعالى وإياكم وجميع أهلنا وفرّج الله تعالى الهم والكرب عن الجميع .

الكتب لا تغنيك كثيراً في هذا البحث لأنها تحتاج الى قراءة جديدة وفق المعطيات المستحدثة على الارض وفي ظل التبدلات الحضارية وبعد أن شوهّت الجماعات الإرهابية هذا العنوان المقدس (الجهاد) والاسلام برئ من أفعالهم الوحشية.

ولو راجعت موسوعة الأحكام الشرعية التي جرت عادة الفقهاء على كتابتها ليستفيد منها اتباعهم وتعرف بالرسالة العملية وسميتها (سبل السلام) لوجدتها خالية من كتاب الجهاد لأنني اريد فرصة أطول لإعادة صياغة هذا البحث وفق رؤية معاصرة ناضجة وحكيمة بإذن الله تعالى.

وخلاصة ما استفدته من القرآن الكريم والأحاديث الشريفة عن المعصومين (علیهم السلام) انه لا يجوز قتال أحد من البشر ولا قتله إلا إذا كان مفسداً في الارض يهدّد حياة الناس والنظام الاجتماعي العام أو كان ممن يمنع الناس عن ممارسة عقائدهم وشعائرهم بحرية ويعمل على قمعهم وترك دينهم بالعنف.

قال تعالى (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه) (الأنفال39)

ص: 247

وقال تعالى (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ) (المائدة33) وهكذا كان القتال وانطلاق جيوش الاسلام ليس لتوسيع سلطات أو نفوذ أو كسب غنائم او لإكراه أحد على الدخول في الاسلام وإنما لدفع فتنة الطواغيت والمستكبرين الذين كانوا يقمعون شعوبهم ولا يعطوهم الحرية في الإصغاء لصوت الحق، فاذا اُزيلت هذه الحواجز (كما في عالم اليوم) فلا يحل القتال لأنه (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)(البقرة256) وكان أهل الديانات المتعددة موجودين في دولة الاسلام ولم يكرههم أحد على تغيير دينهم.وإذا وردت نصوص دينية بقتال عناوين محدّدة كالمشركين وغيرهم فأنهم لم يلحظوا بعنوانهم الذاتي كمشركين وإنما بلحاظ أفعالهم إذا اعتدوا على أهل الاسلام وأكرهوهم على ترك ديانتهم وعلى أي حال فالكلام طويل وتعرضت له في الكثير من كتاباتي مع دعائي لكم بالتوفيق.

محمد اليعقوبي

25/ 12/ 2014

ص: 248

خطاب المرحلة 445 :(وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْض)السيدة الزهراء (عليها السلام) و وراثة المستضعفين

خطاب المرحلة 445 :(وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْض)السيدة الزهراء (عليها السلام) و وراثة المستضعفين(1)

لما عقد المنقلبون على الاعقاب عزمهم على نبذ كتاب الله تعالى وراء ظهورهم ومخالفة وصية رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الخليفة من بعده وإقصاء أمير المؤمنين (علیه السلام) عن مقامه، وواجهوا النبي (صلی الله علیه و آله) بذلك الكلام القاسي الذي فيه إعلان الحرب على الله تعالى ورسوله (صلی الله علیه و آله) في رزية يوم الخميس عندما أراد أن يؤكد الوصية ويكتب لهم كتاباً لن يضلّوا بعده أبداً، وقال قائلهم (إن الرجل ليهجُر)، جمع النبي (صلی الله علیه و آله) أهل بيته خاصة ونظر اليهم وبكى وقال لهم (أنتم المستضعفون بعدي).(2)

وظاهر الحديث وبقرينة الظروف التي صدر فيها أنه إخبار بأمرٍ محزن ومؤلم بأن زعماء الإنقلاب سيظلمونهم ويعتدون عليهم بألوان الإيذاء، ولا

ص: 249


1- الخطاب الفاطمي السنوي العاشر الذي القاه سماحة المرجع اليعقوبي دام ظله على جموع المعزّين بذكرى استشهاد الصديقة الزهراء (عليها السلام) يوم 3/ج2/ 1436 المصادف 24/ 3/ 2015
2- تفصيل الواقعة في بحار الأنوار: 22/ 469 عن كتاب (إعلام الورى بأعلام الهدى: 140-143) و (الإرشاد:96-100) وأورد الحديث الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 2/ 72 باب31 ح303.

يتورعون عن قتلهم وفعل اي شيء يتطلّبه مشروعهم، وفي الحديث إشارة إلى أن فعل القوم بأهل بيت النبي (صلی الله علیه و آله) سيشابه فعل فرعون ببني إسرائيل حينما استضعفهم كما في قوله تعالى (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص/4) وهكذا فعل القوم بآل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقد كان شعارهم الذي صرّحوا به في يوم عاشوراء (لا تبقوا لأهل هذا البيت من باقية) روى في تفسير القمي عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (لقي المنهال بن عمرو علي بن الحسين (علیه السلام) فقال له: كيف أصبحت يابن رسول الله، فقال: ويحك أما آن لك أن تعلم كيف أصبحت، أصبحنا في قومنا مثل بني إسرائيل في آل فرعون يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا) (1).

واستشهد أمير المؤمنين (علیه السلام) بقول هارون أخي موسى (علیه السلام) (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي) (الأعراف/150) عندما أجبروه على بيعة أبي بكر فقال: إن أنا لم أفعل فمه؟ قالوا إذاً والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك، قال: إذاً تقتلون عبد الله وأخا رسوله) فالتفت إلى قبر النبي (صلی الله علیه و آله) وخاطبه بقول هارون لأخيه موسى في الآية الشريفة(2).

ولما كانت الآيات القرانية لا تختص بزمان دون زمان وإنما تعالج حالات وظواهر وتبيّن سنناً قابلة للتكرار في كل زمان إذا توفرت أسبابها وظروفها، فإن الآية التي تليها وهي قوله تعالى (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي

ص: 250


1- تفسير القمي: 2/ 110
2- الدرر السنية: الفصل الثاني عشر.

الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص/5-6) تعطي للحديث معنىً آخر ملؤه التفاؤل والأمل وفيه وعد بالنصر والتمكين في الأرض ووراثتها ومن عليها واستعادة الحق لأهله وجعل الأئمة والقادة منهم لأن الإرادة الإلهية تعلقت بذلك (ونريد) فلا تتخلف (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ)(الروم6)، فوصف النبي (صلی الله علیه و آله) أهل بيته بالمستضعفين فيه إشارة الى انطباق الآية عليهم (ع) ولعلهم مقصودون أكثر من موسى وهارون (ع) بالوعد الإلهي لورود كلمة (منهم) فيها وليس (منه) أو (منهما) فيما لو كان المقصود موسى (علیه السلام) أو هو وأخاه هارون، بل أن لفظ الحديث يفيد حصر الوصف بهم (ع) كما لا يخفى على المتأمل في الحديث، ويجعلهم أيضاً المقصودين بالآية الشريفة. هذه سنة الهية ثابتة، في عباده المستضعفين واعدائه المستكبرين قال تعالى (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ) (الأعراف137).

وكان الأئمة (علیهم السلام) يصرِّحون بهذا المعنى في عدة روايات ليطمئنوا شيعتهم ويزرعوا الأمل فيهم ويدفعوهم الى العمل المثمر وليردعوا أعداءهم عن الظلم، ففي معاني الأخبار للصدوق بسنده عن المفضّل قال سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول (إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) نظر إلى علي والحسن والحسين (علیه السلام) فبكى، وقال: أنتم المستضعفون بعدي) قال المفضّل فقلت له: وما معنى ذلك يا

ص: 251

ابن رسول الله قال معناه: أنكم الأئمة بعدي إن الله عز وجل يقول (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) فهذه الآية جارية فينا إلى يوم القيامة).(1)وفي مجمع البيان.. صحت الرواية عن أمير المؤمنين علي (علیه السلام) أنه قال (والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لتعطفنّ الدنيا علينا بعد شماسها –أي امتناعها- عطف الضروس(2) على ولدها، ثم تلى الآية.

وفي كتاب الغيبة للطوسي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) في تفسير الآية قال (هم آل محمد يبعث الله مهديهم بعد جهدهم فيعزَّهم ويذل عدوهم)(3).

والآية جارية بعد الأئمة (علیهم السلام)في شيعتهم، روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قوله (من أراد أن يسأل عن أمرنا وأمر القوم- اي خصومهم - فإنا وأشياعَنا يوم خلق الله السماوات والأرض على سنة موسى وأشياعه، وإن عدونا وأشياعه يوم خلق الله السماوات والأرض على سنة فرعون وأشياعه فنزلت فينا هذه الآيات)(4).

وقال سيد العابدين علي بن الحسين (علیه السلام): (والذي بعث محمداً بالحق بشيراً ونذيراً، ان الأبرار منا أهل البيت وشيعتهم بمنزلة موسى وشيعته، وان

ص: 252


1- معاني الأخبار: 79 باب31 ح1.
2- وهي الناقة سيئة الخلق تعض حالبها فإذا كانت كذلك حامت عن ولدها، وقيل الضروس الناقة يموت ولدها أو يذبح فيحشى جلده فتدنو منه وتعطف عليه.
3- نور الثقلين: 4/ 110
4- بحار الانوار: 24/ 170 ح8

عدونا وأشياعهم بمنزلة فرعون وأشياعه).(1)فالخصم قد تكون له جولة يغلب فيها وتكون بيده السلطة ويحكم قبضته على أولياء الله تعالى، ويستضعفهم وقد تطول مدة فرعنته ولكن الدولة والنصر والغلبة يكون في النهاية لأهل الحق الذين استضعفوا ويذهب ما سواه جفاءاً كالزبد.

وإنما سموا مستضعفين لأن أعدائهم يتوهمون فيهم الضعف بعد أن يسلبوهم كل أسباب القوة الظاهرية من السلطة والمال والنفوذ ويحاصروهم ويطوقوهم فيستكبرون عليهم ويظلمونهم، وهم ليسوا ضعفاء في ذاتهم بل انهم يملكون اسباب القوة، لكن لهم دين وورع وأخلاق وخوف الله تعالى يجعلهم يقدمون المصالح العليا للدين والمجتمع على المصالح الشخصية، ويمنعهم عن اتباع أساليب المكر والخداع لتحقيق مآربهم، عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (ولكن الله سبحانه جعل رسله أولي قوة في عزائمهم، وضعفةً فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعةٍ تملأ القلوب والعيون غنى، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذىً).(2)

وعنه (علیه السلام) قال في الثناء على أحد أصحابه المخلصين (كان لي فيما مضى أخ في الله وكان ضعيفاً مستضعفاً، فإن جاء الجدّ فهو ليث غاب، وصلّ واد).(3)

أيها الأحبة المفجوعون بمصيبة بضعة النبي (صلی الله علیه و آله) وروحه التي بين جنبيه:

ص: 253


1- مجمع البيان: 4/ 375.
2- نهج البلاغة، الخطبة 192.
3- نهج البلاغة، الحكمة 289.

لقد أرادت السيدة الزهراء (علیها السلام) بمواقفها الرسالية أن تهدي الامة الى المنهج الذي يوصلهم الى نيل هذا المنّ الإلهي ليتخذ منهم قادة العالم ويمكنهم في الأرض ويجعلهم الوارثين باتباعهم علياً والأئمة من بعده والسير على هداهم، قالت (سلام الله عليها) في بعض كلماتها (أما والله لو تركوا الحق على أهله واتبعوا عترة نبيّه لما اختلف في الله اثنان ولورثها سلف عن سلف وخلف بعد خلف حتى يقوم قائمنا التاسع من ولد الحسين (علیه السلام)، ولكن قدموا من أخره الله، وأخروا من قدمه الله، حتى إذا الحدوا المبعوث وأودعوه الجدث المجدوث إختاروا بشهوتهم وعملوا بآرائهم، تباً لهم أولم يسمعوا الله يقول (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(القصص68) بل سمعوا ولكنهم كما قال الله سبحانه (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)(الحج46) هيهات بسطوا في الدنيا آمالهم، ونسوا آجالهم فتعساً لهم وأضل أعمالهم، أعوذ بك ياربّ من الحور بعد الكور)(1).فالصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) تدلّ الامة على ان وراثتهم الارض وتمكينهم فيها حتى تكون يدهم العليا وغيرها من البركات تتحقق بوحدتهم خلف قيادتهم الحقة وطاعتهم لها والتجرد عن الاهواء والتعصبات والانفعالات والتحزّبات والانانيات، وبذلك يحبطون خطط المستكبرين في استضعاف الناس من خلال تمزيق وحدتهم وجعلهم جماعات وأحزاباً ويضرب بعضهم بعضاً،

ص: 254


1- موسوعة المصطفى والعترة للشاكري: 4/ 363 عن عوالم المعارف: 11/ 228، الجدث: القبر، والمجدوث: المحفور، والحور بعد الكور أي النقصان بعد الزيادة.

قال تعالى (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً)(القصص4) اي فرقاً مختلفة فيفقدون قوتهم في صراعاتهم الداخلية ويسهل استضعافهم لانهم لم يقيموا الدين في حياتهم وتخاذلوا على تطبيقه وتركوا فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً)(الروم32) (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ)(الأنعام65) .وتبين السيدة الزهراء س، ان حركة الامة نحو وراثة الارض والتمكين فيها لابد ان يقف على راسها القائد الجامع للشروط قالت (علیها السلام) في خطبتها على نساء المهاجرين والأنصار وهي تذكر بركات اتباعهم أمير المؤمنين (علیه السلام) (ولأوردهم منهلاً -وهو محل ورود الماء- نميراً –الماء العذب السائغ النامي للجسد- صافياً روياً -كثير- فضفاضاً -واسعاً- تطفح ضفتاه، ولا يترنّق –لا يتكدر- جانباه، ولأصدرهم بطاناً –أي أرجعهم مرتوين مملوئين- ونصح لهم سراً وإعلاناً (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) (الأعراف96) (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ)(الزمر51)) (1).

ولا بد ان نعلم ان التمكين في الارض ووراثتها له درجات متفاوتة لا يقتصر على تسلم السلطة والحكم فهذه وسيلة لا غاية وان التمكين الحقيقي هو ظهور وانتشار مشروعهم الالهي واقتناع الناس به فهذا هو المهم لان غرض الرسالات السماوية اصلاح الناس وهدايتهم وارشادهم الى السعادة والفلاح قال تعالى (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً

ص: 255


1- المصدر السابق : 4/ 324

يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)(النور55) .في تفسير العياشي عن أبي الصباح الكناني قال: (نظر أبو جعفر الى أبي عبد الله (علیه السلام) فقال: هذا والله من الذين قال الله (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)) فالامام الصادق (علیه السلام) كان من اهل هذه الاية ولم يكن جزءا من السلطة لكنه (علیه السلام) استطاع بحكمته وتسديد الله تعالى له بسط مشروعه المبارك.

هذا ولكن علينا أن نأخذ قضية تمكين المستضعفين من أهل الحق كسائر القضايا بحدودها وشروطها ونضعها في موضعها الصحيح من منظومة المعارف والقوانين الإسلامية والسنن الإلهية لأنها من مقتضيات العدل والرحمة الآلهية، أما مجرد تعرضهم للإستضعاف وألوان العذاب لا يجعل صاحبها موعوداً بالنصر والتمكين.

فقد وصُفِت مجاميع اخرى بالاستضعاف لكنها أُنذرت وحُذِّرت لتقصيرهم وتكاسلهم وظلمهم أنفسهم ولانهم رضوا بحياة الخنوع والذل والاستضعاف والاستكانة، وربما داهنوا اهل الباطل ومضوا معه، قال تعالى (ِإنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً)(النساء/97) .

وَوُبِّخَ مستضعفون آخرون لأنهم كانوا قاصرين ولم يبحثوا عن طريق المعرفة بالله تعالى والفقه في الدين والقيادة الحقة، قال تعالى (إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ

ص: 256

مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً)(النساء/98-99) أما الذين وُعدوا بالنصر والتمكين ووراثة الأرض فلهم خصائص وخصال توفرت فيهم لأن الظلم والعذاب والأضطهاد الذي تعرضوا له لم يدفعهم الى التنازل عن مبادئهم وأخلاقهم والتزامهم بالحق، بل حافظوا على وجودهم وعقيدتهم واخلاقهم والالتزام باتباع قيادتهم وما زادهم الاستضعاف الا هدى وصلاحاً ونضجاً.

وقد وردت أوصاف الذين يُمَكّنون في الأرض في عدة آيات منها قوله تعالى (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج/41)، بعد قوله تعالى في وعدهم بالنصر (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (الحج/39).

فتمكينهم في الأرض تكون له بركات وآثار تكشف عن صدق نياتهم وإخلاصهم في أهدافهم وثباتهم على الاستقامة التي أمرهم الله تعالى بها وعدم انخداعهم بالدنيا البرّاقة التي تتزيّن لهم إذا مُكّن لهم في الأرض وهذه الخصائص هي:

1-(أقاموا الصلاة) فهم لا يكتفون بأداء الصلوات المفروضة عليهم كتكليف شخصي، وإنما يبذلون جهدهم لحث الناس جميعاً على الالتزام بها والمواظبة عليها وجعل الصلاة وجوداً اجتماعياً مؤثراً في حياة الناس ورادعاً لهم عن الفحشاء والمنكر ويشعر الجميع بمسؤوليتهم عن إقامته والمحافظة

ص: 257

عليه، وأوضح مصداق لهذا الوجود صلاة الجمعة التي لا تؤدّى إلا جماعة وبحضور امة كبيرة من الناس مما يجعل لها كياناً مؤثراً في حياتهم، وهذا ما جرّبه المجتمع العراقي عندما أقيمت فيه صلاة الجمعة المباركة.2-(وآتوا الزكاة) بأن أخرجوا ما في ذممهم من حقوق شرعية وأقنعوا الآخرين بفعل ذلك وحثّوهم عليه وساعدوهم في إيصال هذه الأموال إلى مستحقّيها وانشئوا بها المشاريع الاقتصادية التي تؤدي إلى رفاه الناس وتوفير فرص العمل المناسبة والحياة الكريمة لهم.

(وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر) فلم يتركوا أهل المنكر يفعلون ما يشاؤون بل وعظوهم وزجروهم واتخذوا الإجراءات الكفيلة بردعهم حتّى لو اقتضى الأمر معاقبتهم، ولم يجاملوا أو يداهنوا كما يفعل الكثير من المتصدين اليوم تحت عناوين مخادعة كالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني وفصل الدين عن الدولة والحداثة والعصرنة والتقدم ونحوها من الخدع والأباطيل.

3-(وأمروا بالمعروف) وهو كل أمر مستحسن شرعاً وعقلاً وأقرّهُ العرف، ونشروه بين الناس وعرّفوهم به وأيقظوهم من غفلتهم وأرشدوهم إلى ما يصلح دنياهم وآخرتهم وعلموهم أحكام الدين وفضائل أهل البيت (علیهم السلام) ومناقبهم وسيرتهم العطرة، واقنعوهم باتباع القيادة الحقّة.

هؤلاء هم من ينصرهم الله تعالى ويعزّهم ويؤيدهم ويمكن لهم في الأرض.

إن كثيراً ممن مكنهم الله تعالى ليبتليهم وينظر في سيرتهم تنكّروا لتلك الشروط والصفات المطلوبة فانحرفوا وأفسدوا، فأوعدهم الله بعذابه (فَهَلْ عَسَيْتُمْ

ص: 258

إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ . أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) (محمد:22-23).كالذي نشهده اليوم من تخلّي الكثيرين ممن وصل إلى السلطة عن أهدافهم وشعاراتهم والخصائص التي أشرنا إليها، حتّى آل الأمر إلى هذا الواقع التعيس الذي يعاني منه الكثيرون، وهذا كفر عظيم بالنعمة.

لكن بوادر النهضة والانبعاث تفجرّت من جديد هذه الايام وكانت الهجمة الوحشية لخوارج العصر ومن يقف وراءهم الضارة النافعة التي وحّدت الامة وابرزت مكامن قوتها فتحققت الانتصارات التي اذهلت القريب والبعيد.

ايها الاحبّة :

علينا ان نعترف بالعجز عن شكر الله تعالى على التوفيق لاقامة الشعائر الفاطمية وتشييع السيدة الزهراء (علیها السلام) للمرة العاشرة وهذا لا ينال الى بنظرة كريمة منها (سلام الله عليها) اذ لم تأذن لاي احد في تشييعها الا لبضعة افراد من الموالين المخلصين ونأمل ان تكون هذه النهضة خطوة حقيقية على طريق اقامة دولة الحق والعدل (وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً)(الإسراء81).

ص: 259

خطاب المرحلة 446 :أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَان

خطاب المرحلة 446 :أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَان(1)

التوبة109

قال تعالى (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(التوبة109)

تُبيّن الآية قاعدة اخرى من قواعد السلوك المعنوي والبناء الصالح للإنسان والمجتمع، وقد عُرضت بشكل استفهام لطلب المقارنة والتمييز بين بنيانين، لكنه ليس استفهاماً حقيقيا لاستحالته في حق الله تعالى ولوضوح الجواب، بل هو استفهام استنكاري لتوبيخ الجهلة وأهل الغفلة والمتعصبين والمنافقين الذين لا يميزون بينهما، وهو استفهام تقريري لترسيخ الاسس المتينة للبنيان الصحيح.

وجاءت الآية بعد المقارنة السابقة عليها (وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ

ص: 260


1- الكلمة التي وجهها سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) الى آلاف الطلبة الجامعيين من مختلف الجامعات العراقية ضمن فعاليات اقيمت لهم على قاعة النجف الكبرى بمناسبة ذكرى استشهاد الصديقة الطاهرة الزهراء (عليها السلام) مساء يوم الاثنين 2/جمادى الاخرة/1436 المصادف 23/ 3/ 2015

عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (التوبة 107-108).ولا شك أن المسجد الحق الذي تقوم فيه هو الثاني لان حقيقة المسجدية متوفرة فيه وأهداف المسجد متحققة منه ولأن فيه رجالاً يسعون للتطهّر والكمال وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ بعكس الأول الذي ظاهره المسجدية وشعاره ديني الا أن كل أهدافه هي حرب على الدين وأهله.

وهنا يأتي الاستفهام الاستنكاري والتقريري الذي بدأنا به فأن البنيان المثمر الراسخ الرصين هو ما اُسس على ركيزتين: التقوى ورضوان الله تعالى، فالأساس الاول التقوى المأخوذة من الاتقاء والاجتناب والاحتماء تعني تجنب كل شيء سيء وخبيث سواء على مستوى النيّات أو الأعمال فلا رياء ولا سمعة ولا حب الجاه والدنيا ولا مصادر غير مشروعة للمال وأساليب ماكرة في العمل، والأساس الثاني هو الرضوان الذي يعني اشتراك كل العناصر الإيجابية من نظافة الأيدي وسلامة النيات والصدق في العمل وابتغاء الخير والإحسان.

ويقابله بنيانٌ فاشلٌ في مهب الريح وبالٌ على أصحابه يشبهه القران الكريم بمن بنى على (شفا) أي حافة (جرف) وهي حافة النهر أو البئر التي جرف الماء ما تحتها فهو (هارٍ) أي متصدع مشرف على السقوط والانهيار في أي لحظة لأنها حافة منخورة متآكلة فيسقط في هذا الوادي المرعب العميق.

ولا يختلف اثنان في أّن البنيان الأول هو الثابت الجيد الذي يطلبه العقلاء فعليهم أن يتوجهوا الى مثله، ويتجنبوا الثاني.

والآيات وإن نزلت في حالة قائمة في زمن النبي (صلی الله علیه و آله) وهما مسجد

ص: 261

ضرار(1) الذي بناه جمع من المنافقين في قضية معروفة للأهداف المذكورة في الآية / 107 المتقدمة وقد أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بإحراقه، وفي مقابله مسجد قبا أو مسجد النبي (صلی الله علیه و آله) الذي أُسس على التقوى الا أنها – كما هو شأن سائر الآيات القرآنية- عامة شاملة لكل بنيان لذا قلنا انها تؤسس لقاعدة عامة من قواعد السلوك، روى في مصباح الشريعة عن الإمام الصادق (علیه السلام) في تأويل الآية قوله (علیه السلام) (وكل عبادة مؤسسة على غير التقوى فهي هباء منثور)(2).وفي ضوء هذا المعنى الواسع للآية الكريمة تكون النتيجة أن كل حالة أو مؤسسة أو مشروع فردي أو جماعي يراد له أن يكون صالحاً ومثمراً ومتيناً ويدوم عمله لا بد أن يشتمل على ركنين:

1-أن يكون الغرض الذي اسس من أجله والهدف الذي يصبو الى تحقيقه نبيلاً سامياً والنية التي تدفعه اليه حسنة مستندة الى تقوى الله تبارك وتعالى وطلب رضوانه (أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ).

2-أن يكون القائمون على هذا البنيان والمدبرون لأمره والعاملون فيه مؤمنين مخلصين يحبون الخير والتطهر والكمال ويسعون اليه (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ).

والا فان البناء ينهار ولا يحقق شيئاً بل يكون وبالاً على أصحابه في الدنيا والاخرة وإن رفع شعارات وأسماء دينية لخداع الناس وسوقهم لتحقيق

ص: 262


1- حكى بعض المطّّلعين ان موقع مسجد ضرار الى اليوم لا يتقبل الاعمار والبناء ويقول من هناك انه كلما عُمِّرَ احترق وتهدّم والله العالم.
2- نور الثقلين: 2/ 268

المصالح الشخصية فلا يصح أن يكون الانسان مغفلاً وينخدع بالعناوين الفارغة من المحتوى الصحيح. وينبغي ملاحظة نقطة مهمة في المسيرة الإصلاحية للشريعة المقدسة وهي أنها تقدّم البديل الصالح حينما تهدم الحالة الفاسدة (لاَ تَقُمْ فِيهِ – اي مسجد ضرار- والبديل أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ -وهو المسجد المؤسس على التقوى-) وهو منهج رباني اعتمدته الشريعة منذ أول كلمة نطق بها الرسول الكريم (صلی الله علیه و آله) (لا اله الا الله) فهي في الوقت الذي تبطل الآلهة المزيفة المصطنعة تُقيم عبادة التوحيد لله تبارك وتعالى، فلنتعلم اننا حينما نريد هدم حالة معينة فاسدة اجتماعية او ثقافية او عقائدية علينا ان نؤسس ونبني البديل الصالح، فحينما نريد معالجة الفساد الاخلاقي والانحراف الجنسي علينا ان نيسّر امور الزواج ونساعد عليه وهكذا.

أيها الأحبة من الشباب وطلبة الجامعات الذين وفدتم الى النجف الأشرف لتعزية أمير المؤمنين (علیه السلام) باستشهاد زوجه بضعة النبي (صلی الله علیه و آله)

استحضروا هذا المعنى وأنتم تتلون هذه الآية الشريفة واجعلوها نبراساً وبوصلةً لحياتكم لأنكم بصدد وضع حجر الأساس لعدد من مشاريع البناء:

المشروع الاول: بناء النفس والذات والمستقبل المعنوي والعلاقة مع الله تعالى التي هي أساس الحياة الآخرة الباقية لأن الفتى الذي يبلغ سن الرشد ويلتحق بالبالغين هو في بداية حياة جديدة يُشرّف فيها بالتكاليف الالهية وتنفتح امامه فرص التكامل والقرب الالهي عليه ان يلتفت الى بناء حياته على تقوى من الله ورضوان، ويكون كما أراد الإمام السجاد (علیه السلام) في دعائه

ص: 263

(واجعل الحياة زيادة لي في كل خير والوفاة راحة لي من كل شر) لذلك أعطت الأحاديث الشريفة قيمة كبيرة لمن ينشأ من أول أمره ويؤسس بنيان نفسه على طاعة الله تعالى، عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال (سبعة في ظلّ عرش الله عز وجل يوم لا ظل الا ظله: إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل...)(1) وفي حديث آخر عنه (صلی الله علیه و آله) (فضل الشاب العابد الذي تعبّد في صباه على الشيخ الذي تعبّد بعدما كبرت سنُّه كفضل المرسلين على سائر الناس)(2) وعنه (صلی الله علیه و آله) قال (إن أحب الخلائق الى الله عز وجل شاب حدث السن في صورة حسنة جعل شبابه وجماله لله وفي طاعته، ذلك الذي يباهي به الرحمن ملائكته، يقول: هذا عبدي حقا)(3).المشروع الثاني: إن الطالب الجامعي الذي يُنهي دراسته ويتوجه الى العمل والكسب عليه أن يفهم أنه يبني مستقبله ويحدد بوصلة حياته القادمة فلا بد أن يحدد اختياره لنوع الوظيفة والعمل ويضع برنامج عمله وفق هذه الاسس المتينة للبناء.

المشروع الثالث: إنكم مقبلون على الزواج إن شاء الله تعالى بعد المشروع الثاني والزواج وُِصفَ في بعض الأحاديث الشريفة أنه بنيان، عن أبي جعفر (علیه السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال:(مَا بُنِيَ بِنَاءٌ فِي الإسْلامِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عزّ

ص: 264


1- الخصال: 343 ح8
2- كنز العمال: 43059
3- كنز العمال: 43103

وجلّ مِنَ التَّزْوِيجِ)(1) فالذي يريد أن يبني حياة زوجية سعيدة صالحة مثمرة عليه أن يبنيها من أول خطوة عندما يبحث عن الزوجة أن يجعل أساس اختياره التقوى ورضوان الله تعالى في صفات الزوجة ومعدنها وفي نيته من مشروع الزواج، وليس البحث عن الامور الدنيوية الزائلة، وهو ما نطقت به الأحاديث الشريفة، كقوله (صلی الله علیه و آله) (عليك بذات الدين)، والمرأة يوجه لها نفس الخطاب قال (صلی الله علیه و آله): (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه)(2).المشروع الرابع: ما بعد الزواج وهو إنجاب ذرية طيبة صالحة تكون عاقبتهم الى خير عليه وذلك بأن يؤسس بنيانهم ويلتفت الى تربيتهم من أول أيامهم على الخير وطاعة الله تعالى والأخلاق الفاضلة وتجنب الرذائل فإن بناءه سيكون رصيناً ثابتاً مستقيماً حتى ورد عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله (من تعلم في شبابه كان بمنزلة الرسم في الحجر)(3) وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (العلم من الصغر كالنقش على الحجر)(4) أما إذا لم يكن أساسه كذلك وحصل اعوجاج فيحتاج الى مشقة كبيرة لإصلاحه وقد يتعذر ذلك كما هو واضح.

فليلتفت أحبتنا الشباب وأولياء امور الفتيان والصغار الى هذا المعنى.

وهكذا تتوسع الحالة الى الذي يتصدى لقيادة دينية أو سياسية في مساحة صغيرة أو مساحة واسعة ويريد أن يبني مجتمعاً صالحاً فانه لا بد أن يكون

ص: 265


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، ابواب مقدماته وآدابه، باب 1 ح 4
2- بحار الأنوار: ج103 ص372 ح3
3- بحار الانوار: 1/ 222 ح 6
4- بحار الانوار: 1/ 224 ح 13

أساس بنيانه تقوى الله تعالى وطلب رضوانه، روي في الحديث الشريف (صنفان من امتي ان صلحا صلحت وان فسدا فسدت: العلماء والامراء)(1).وهنا علاقة تكاملية متبادلة بين البنيان والباني فكما أن حال الباني المعنوي المستند الى التقوى ورضوان الله تعالى مؤثر في صلاح البنيان واستقامته وديمومته، كذلك فإن البنيان الصالح المبارك –كالمشاهد المقدسة- مؤثر في صفاء نفوس رواده وسمو حالتهم المعنوية (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ)، كما أن البناء المستند الى الرياء والنفاق وخبث الباطن يؤثر في نفوس وقلوب مرتاديه، فلا بد للإنسان أن يلتفت الى الركن الثاني فيختار صحبة الصالحين ولا يكتفي بالركن الأول، وحينئذٍ يحظى بمحبة الله تبارك وتعالى (وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ).

وعلى أي حال فهذه قضية خطيرة أثارها القرآن الكريم لا نستطيع بهذه العجالة بيان كل تفاصيلها، بحيث أن النبي (صلی الله علیه و آله) يأمر بعض أصحابه أن يحرقوا مسجد الضرار لإحباط هذا المشروع المنافق الخطير الذي يمزّق وحدة المجتمع المسلم مع أنه في ظاهره مشروع ديني، وهذا الكلام له بيان أخر.

لكن ما اريد أن اقوله أننا في كل تفاصيل حياتنا في عملية بناء ابتداء من بناء أنفسنا الى اسرتنا الى مؤسساتنا الى مجتمعنا الى البشرية كلها فلا بد من الالتفات الى الاسس الرصينة التي تقوِّم هذا البناء وتحسّنه ليؤدي أهدافه بشكل تام.

وكما هو واضح فإن في كل الحالات المتقدمة وأنواع البنيان المذكور فان

ص: 266


1- الخصال: ص 36-37 ح 12

المرأة هي المدير التنفيذي –كما يُقال- لتلك المشاريع وهي المهندس المباشر لتنفيذ مراحل البناء واستقامته وانما سُمّيت اماً لأنها الاصل في هذا الوجود، ولذا ورد عن السيدة الزهراء (علیها السلام) قولها: (الزم رجلها – أي الام- فان الجنة تحت اقدامها)(1).أما الرجل فهو المهندس المصمم لتلك المراحل والمخطّط لها والمقوِّم لمسيرتها.

وقد كانت السيدة الزهراء (علیها السلام) أكمل مثال للنجاح في بناء كل هذه المشاريع، فعلى صعيد الذات هي من الخمسة أهل الكساء أكمل الخلق وقد خُلِقَ الوجود لأجلهم: فاطمة وأبوها وبعلُها وبنوها (صلوات الله عليهم أجمعين) وهي محور هؤلاء الخمسة.

وعلى صعيد الاسرة فاسرتها أسعد وأطيب وأطهر اسرة هي وأمير المؤمنين وفي ظل رعاية أبيها رسول الله (صلی الله علیه و آله).

وعلى صعيد الذرية فهي أصل الذرية الطيّبة الطاهرة المعصومة ومنها ذرية رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وعلى صعيد العطاء المثمر المبارك سمّاها الله تعالى (الكوثر) وجعلها هبة الله تبارك وتعالى لرسول الله (صلی الله علیه و آله) (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) (الكوثر1) والكوثر تعني الخير الكثير.

هذه الحقيقة القرآنية تكشف عن أهمية نشر فروع الحوزة العلمية في المحافظات المختلفة للرجال والنساء وتكتسب شرفها وأهميتها من وظيفتها في بناء الانسان والمجتمع على أساس التقوى ورضوان الله تعالى من خلال نشر

ص: 267


1- موسوعة المصطفى والعترة للشاكري:4/ 365

المعارف القرآنية والأحكام الشرعية والأخلاق الفاضلة فابنوا مشروعكم على هذه الاسس الرصينة من أول يوم الى آخره وارفدوه دائماً بالنخبة الصالحة الطيبة من الشباب ليكون لكم صدقة جارية بكل كلمة تدل على هدى أو تردّ عن ضلالة.وأدعوكم الى التنويع في آليات عملكم وعدم التوقف عند طريقة معينة على طول المدة لان من طبيعة الانسان والحياة التغيير والتجديد.

ص: 268

خطاب المرحلة 447 :لماذا القتل لهم عادة

خطاب المرحلة 447 :لماذا القتل لهم عادة(1)

روي انه لما أُدخِل سبايا الإمام الحسين (علیه السلام) ومعهن ولده الإمام السجاد (علیه السلام) على مجلس عبيد الله بن زياد ودار بينهما كلام، أمر اللعين بقتل الإمام (علیه السلام) فقال (علیه السلام): (أبالقتل تهددني يا ابن زياد أما علمت أن القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة)(2)

هذه كلمة يردّدها الخطباء (جزاهم الله خيرا) على المنابر وتثير العواطف والعبرات، من دون أن نتوقف عندها لنتساءل لماذا القتل لهم (ع) عادة؟، وهو معنى تكرّر في كلمات أهل البيت (علیهم السلام) مما يعني أن تعرضهم (ع) للقتل لم يكن حالة عابرة وإنما تحوّل الى عادة، أي ظاهرة تتكرر نسختها معهم (ع) واحداً بعد الآخر، حتى اشتهر عنهم قولهم (ع) (ما منا الا مقتول أو مسموم)(3).

وورد في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (علیه السلام) (وإنك لا تخلي أرضك من حجة لك على خلقك ظاهر ليس بالمطاع أو خائفٌ مغمورٌ كي لا تبطل

ص: 269


1- من حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع وفد جامعة الصدر الدينية في كربلاء ودار القران الكريم في قضاء عين التمر يوم 15/ج1 /1436 المصادف 7/ 3/ 2015
2- بحار الانوار: 45/ 118 عن اللهوف لابن طاووس:62
3- علل الشرائع: 226

حججك)(1).فهم (ع) بين مقصيّ معزول أو مشرد مطارد محاصر وإذا كان مثلهم ليس بالمطاع فلمن تعطي البشرية طاعتها؟ لفرعون، نمرود وصدام؟ وإذا كان مثلهم خائفاً متخفياً فلمن السلطة والقدرة والتمكن؟ لأولياء الشيطان من الطواغيت والمستكبرين!

وهذه الظاهرة في حياة الامة تتطلب التوقف والتأمل العميق، لماذا يكون مصير هؤلاء الأعاظم الذين تشرفت الأرض ومن عليها بوجودهم المبارك الذين خلقهم الله تعالى رحمة للعالمين وكلهم عطاء وخير للبشرية، لماذا يكون جزاؤهم دائماً القتل والحبس والتعذيب والتشريد والمحاصرة والعزل؟ اليس من واجب الامة أن تضعهم في حدقات عيونها وتتفانى من أجل الدفاع عنهم وحمايتهم وإطالة بقائهم ليزداد انتفاع البشرية منهم؟ فلماذا يحصل العكس وتفتقدهم في زهرة أعمارهم، فالسيدة الزهراء (علیها السلام) قضت شهيدة في الثامنة عشرة والإمام الجواد (علیه السلام) في الخامسة والعشرين والإمام العسكري(ع) في الثامنة والعشرين والإمام الهادي(ع) في الثانية والأربعين والإمام الحسن السبط (ع) في السابعة والأربعين وهكذا وكلهم مضوا شهداء بالسيف أو السم.

أنهم (ع) حينما يُعبرون بألم ومرارة عن هذا المصير الذي يواجهونه دائماً فلا ينطلق ذلك من حبهم لأنفسهم أو لرغبتهم في الاستزادة من هذه الدنيا فان (كرامتهم من الله الشهادة) التي لا ينالها الا ذو حظ عظيم وبإجتباء الهي

ص: 270


1- اصول الكافي: الجزء الاول/ 374 و غيبة النعماني: 209- 210

(وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء)(آل عمران140) لكن آلمهم ومرارتهم ينطلق من شفقتهم على الامة البائسة والشقية التي تواجه من يريد لها الخير والإحسان بهذا المصير القاسي، وتخنع وتخضع لمن يسومونهم سوء العذاب؟ هذا الأسى والأسف الذي عبر عنه قوله تعالى (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون)(يس30).ورغم هذه الصورة القاتمة لسلوك الناس تجاه قيادتهم الحقة، الا انه يوجد بصيص من نور يضيء لمن يريد سلوك طريق الهداية وينير درب الحقيقة، عبر عنهم امير المؤمنين (علیه السلام) بقوله (..........اولئك هم الاقلون عدداً)(1) ورغم قلة عددهم الا ان بهم الكفاية لإدامة الرحمة الالهية للخلق، لان الله تعالى شفيق بعباده ولطيف بهم لا يتركهم تائهين ضالين وان تنكروا له وعادوه وبارزوه بالعصيان، فهو تعالى يوصي عباده بعباده في الحديث القدسي (الخلق عيالي فأحبهم الي الطفهم واسعاهم في حوائجهم)(2) ولا شك انه شفيق بعباده من انفسهم.

والخلاصة ان هذه الظاهرة الخطيرة المخالفة للفطرة والمتكررة في كل جيل حتى اليوم، يجب ان نتوقف عندها تشخيصا وعلاجا، تشخيصا بان نلتفت اليها ونحلّلها ونعرف اسبابها، وقد اوردنا جملة من هذه الاسباب في محاضرة سابقة بعنوان ((اعداء علي (علیه السلام) لا يتناهون كمناقبه)).

هذه الامراض الاجتماعية المعنوية يجب ان تحظى باهتمام لا يقل عن

ص: 271


1- اصول الكافي الجزء الاول ص 374
2- الكافي : ج 2 ص 119

الاهتمام بالاوبئة المرضية العامة التي تصيب الجسد بل الأولى أولى لانها تخرّب الحياة الباقية الدائمة في الاخرة وتنكد حياة الانسان في الدنيا لكن مشكلتها في عدم الالتفات الى خطورتها.هذا على صعيد التشخيص، اما العلاج يتضمن خطوات عديدة يبدأ من التفقه في الدين والمعارف القرآنية وسيرة اهل البيت (علیهم السلام) واخلاقهم والالتزام بها عمليا، ثم نشر هذه العلوم بين الناس من خلال الحوزات الدينية ومدارس القران الكريم وغيرها من الآليات.

وهذه فرصة ثمينة للطاعة ان يكون احدنا من الذين وصفهم امير المؤمنين (علیه السلام) (اولئك هم الاقلون عددا)، ولا نكون من الكثرة الغافلة التائهة التي يقول عنها الله تعالى (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون)(يس30) بتضييعهم لهذه الفرص الثمينة.

ص: 272

خطاب المرحلة 448 :رجب شهر المعرفة بالله تعالى

خطاب المرحلة 448 :رجب شهر المعرفة بالله تعالى(1)

لشهر رجب أسماء عديدة أطلقت عليه لخصائص وميّزات فيه، ومنها انه شهر الله تعالى سماه به النبي (صلی الله علیه و آله) ففي كتاب ثواب الاعمال للشيخ الصدوق عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال : (ألا إن رجباً شهر الله الأصمّ، وهو شهرٌ عظيمٌ، وإنما سُميّ الأصمّ لأنه لا يقارنه شهرٌ من الشهور حرمةً وفضلاً عند الله تبارك وتعالى)(2) الى آخر الحديث.

ويمكن أن نفهم معنى كونه شهر الله بعدة وجوه من خلال تقدير المضاف، فهو شهر رحمة الله تعالى حتى كان من اسمائه رجب الأصبّ لان الرحمة تصّب فيه على الأمة صباً(3)، وهي الرحمة الخاصة لا الرحمة العامة الموجودة في كل زمان، وهو شهر كرم الله تعالى لان العطاء الالهي والموائد التي اعدت للطائعين لا نظير لها كما في الحديث السابق والاتي ونحو ذلك

ص: 273


1- كلمة القاها سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على مجموعة طلبة جامعيين مسؤولين عن العمل الاسلامي في الجامعات العراقية خلال دورة اقيمت لهم بالنجف الاشرف لتدريبهم على العمل الاعلامي يوم الجمعة 12/رجب/1436 المصادف 1/ 5/ 2015
2- ثواب الاعمال : 54 باب : ثواب صوم رجب.
3- بحسب الحديث المروي عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)، راجع مفاتيح الجنان : 180.

فهذه المعاني كلها صحيحة .لكن الذي اريد عرضه الآن من معنى شهر الله هو انه شهر معرفة الله تعالى، التي هي غاية الغايات كما يقال وبها يتفاضل العباد وتتفاوت درجة قربهم من الله تعالى، والذي يؤيد هذا الوجه تركيز اذكار وتسبيحات وأدعية شهر رجب على هذه المعرفة فشهر رجب فرصة لتحصيل هذه المعرفة، ومن طرق تحصيلها التأمل في الادعية الرجبية التي تعرّف الله تعالى الى عباده ومن تلك الادعية الدعاء المروي عن الامام الصادق (علیه السلام) : (يَا مَنْ أَرْجُوهُ لِكُلِّ خَيْر، وَ آمَنُ سَخَطَهُ عِنْدَ كُلِّ شَرٍ، يَا مَنْ يُعْطِي الْكَثِيرَ بِالْقَلِيلِ، يَا مَنْ يُعْطِي مَنْ سَأَلَهُ، يَا مَنْ يُعْطِي مَنْ لَمْ يَسْأَلْهُ وَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ تُحَنُّناً مِنْهُ وَ رَحْمَةً).

تصّور لو ان أنساناً بهذه الصفات : ترجو منه كل خير يخطر على بالك وتتوقع منه أي عطاء مهما عظم، وتأمن شرّه وعقوبته مهما صدرت منك من اساءة وجرم وتقصير، لا يكتفي بإعطاء من سأله بل يعطي إبتداءاً لمن لم يسأله بل ومن لم يعترف به ويضعه في المنزلة التي يستحقها ومع ذلك يعطيه ويفيض عليه من كرمه لا لشيء إلا لأنه كتب على نفسه الرحمة، فكم ستحب مثل هذا الانسان وتعشقه وتتودد اليه وتقترب منه وتلهج بذكره والثناء على جميل صنعه، هذا مع ان عطاء المخلوق مهما عظم لا يقاس بعطاء الخالق.

أو في الدعاء الاخر عن الامام الصادق (علیه السلام) :(بابُكَ مَفْتُوحٌ لِلرّاغِبينَ، وَخَيْرُكَ مَبْذُولٌ لِلطّالِبينَ وَفَضْلُكَ مُباحٌ لِلسّائِلينَ، وَنَيْلُكَ مُتاحٌ للآمِلينَ، وَرِزْقُكَ مَبْسُوطٌ لِمَنْ عَصاكَ، وَحِلْمُكَ مُعْتَرِضٌ لِمَنْ ناواكَ، عادَتُكَ الاْحْسانُ اِلَى الْمُسيئينَ، وَسَبيلُكَ الاِبْقاءُ عَلَى الْمُعْتَدينَ).

ص: 274

أي صفات وأي اسماء أحسن من هذه الصفات: وهكذا يمكن استفادة المزيد من المعرفة الآلهية من خلال أدعية رجب المباركة.وهنا فائدة اخرى لا نغفل عنها وهي أن نتخذ هذه الصفات والأسماء الحسنى مثلاً أعلى نتأسى به ونعمل على تزيين سلوكنا وتهذيب مشاعرنا بهذه الصفات، قال تعالى (وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى) (النحل60)، فهل المتدينون متصفون بهذه الصفات: ترجوهم لكل خير تقصدهم فيه، وتأمن غضبهم وسخطهم اذا اسأت لهم او قصّرت في حقهم وهكذا.

ومن جانب اخر فان شهر رجب يمثل بيئة ومناخاً مناسباً لتحصيل هذه المعرفة لأنه من محطات النفحات الالهية الخاصة ومن الأسباب التي جعلها الله تبارك وتعالى لنيل رضوانه، فمن طلب هذه المقامات من الله تعالى وسعى لها سعيها أعطاه الله تبارك وتعالى ذلك، وهذا وعد بلغه رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقد روي عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: (إنّ الله تعالى نصب في السماء السابعة ملَكاً يقال له الداعي، فإذا دخل شهر رجب ينادي ذلك الملك كلّ ليلةٍ منه إلى الصباح طوبى للذاكرين طوبى للطائعين، ويقول الله تعالى: أنا جليس من جالسني، ومطيع من أطاعني، وغافر من استغفرني، الشهر شهري، والعبد عبدي، والرحمة رحمتي، فمن دعاني في هذا الشهر أجبته، ومن سألني أعطيته، ومن استهداني هديته، وجعلت هذا الشهر حبلاً بيني وبين عبادي، فمن اعتصم به وصل إليّ)(1).

هذا بعض عطاء الله تبارك وتعالى في شهر رجب، فطوبى لمن ازداد معرفة

ص: 275


1- بحار الانوار : 98/ 377.

بالله تعالى وتقرباً اليه سبحانه .ايها الاحبة :

ذكرت هذه الخاطرة او النفحة الرجبية لألفات نظركم الى الجوانب المعنوية والاخلاقية في عملكم بل في حياتكم عامة لتتصفوا بالموضوعية والانصاف في نقل الحقيقة من دون تحريف فيها لان في ذلك ظلماً للمتقين، كما ادعوكم الى الالتفات الى هذه الجوانب من الاخبار عند نقلكم وتحليلكم لها، كما حللّنا هنا خبراً منقولاً عن رسول الله (صلی الله علیه و آله).

ص: 276

خطاب المرحلة 449 :الشعب العراقي متوحد خلف قواته المسلحة وداعم لكل مشروع وطني ناهض

رحّب سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) بالسيد يان كوبيش(1) رئيس بعثة الامم المتحدة في العراق خلال زيارته ل(2)مراجع الدين في النجف الاشرف في بداية تسلّمه لعمله خلفاً للسيد ميلادينوف، وأكّد السيد يان كوبيش على المسؤولية العظيمة التي تحملتها المرجعية الدينية ودورها البناء في حل مشاكل البلاد والحفاظ على وحدة البلد وقال انه تشرف بلقاء المرجعية لمناقشة عدة ملفات كملف النازحين الذين يبلغ مقدارهم 3 ملايين والاسراع في اعادتهم الى ديارهم وسيطرة الحكومة على الفصائل المسلحة وقال انه يرغب بالاستماع الى التوجيهات والنصائح.

وشكر سماحة المرجع كل المساعدات الدولية سواء على الصعيد الانساني او العسكري او الاستخباراتي او السياسي و الاعلامي التي تقدّم للعراق وهو يعاني من هذه الكوارث الفظيعة التي لا تكاد تحلّ واحدة حتى تبرز اضعافها

ص: 277


1- من جمهورية سلوفاكيا – ولد عام 1952، التحق بالعمل الدبلوماسي في سفارات دولته جيكوسلوفاكيا منذ عام 1980 في عدة دول ومنظمات كالأمم المتحدة ومنظمة المؤتمر الاسلامي ومنظمة الامن والتعاون الاوربي، شغل منصب وزير الخارجية السلوفاكي من 2006-2009 .
2- تاريخ اللقاء 1/رجب/ 1436 المصادف 20/ 4/ 2015

وآخرها ما شهدته الايام القليلة الماضية من نزوح مئة الف من اهلنا في الانبار وتزداد مشاكل العراق تعقيداً بسبب انعكاس الصراعات الاقليمية والدولية على ارضه .وأكّد سماحته ان يكون التعاطي مع ما يمر به العراق ايجابيا ليكون الجهد الدولي جزء من الحل لا من المشكلة، وذكر مثالين على ذلك : احدهما الايجابي : وهو الملف النووي الايراني فعندما تحققت عندهم ارادة جدية في ان يكون الحل سلمياً ومنصفاً فأنهم صبروا واصرّوا على ان يصلوا (الى حلِ حتى حققوا نتيجة) وهو الاتفاق الاخير بنقاطه العمومية التي نرجو ان تأخذ شكلها النهائي في موعدها المحدد، فتصوروا لو ان المسالة عولجت بالعمل العسكري كيف ستكون التداعيات والنتائج كارثية على المنطقة والعالم .

ثانيهما: سلبي : وهو ما حصل بعد تحرير تكريت التي اعتبرها الدواعش عاصمتهم العالمية وحشّدوا للدفاع عنها وكانت مشاركة الحشد الشعبي متميزة وحققوا انجازات كبيرة وحرروا تكريت بعد ان قدموا تضحيات جسيمة لكنها دون ما كان متوقعاً وهم متطوعون وكثير منهم لا يستلم اي راتب وربما يقاتل بسلاحه الشخصي او يشتريه المتبرعون، ولما سطرّوا هذه الملحمة الكبيرة واعادوا المدينة الى اهلها تعالت صيحات الاتهام بحرق المنازل او سرقة المحلات، فهل قطع ابناء الوسط والجنوب مئات الكيلو مترات - وضحّوا بدمائهم بلا امتيازات تصرف لهم - هل جاؤوا ليسرقوا ثلاجة او اثاثا منزلياً ؟ واين يذهبون به وهم على هذه المسافات البعيدة لجبهات القتال ؟ وقد اكد بعض الزعماء المحليين ان القائم بهذه الافعال هم بعض ابناء المنطقة نفسها

ص: 278

للانتقام او للثأرات بين العشائر او قام بها بقايا الصداميين المتسللين مع حشد المتطوعين لتشويه صورة القوات الامنية والحشد الشعبي وهم لهم تجارب كثيرة في السلب والنهب ؟ ولو فرض ان بعض افراد المتطوعين تجاوزوا على حقوق الناس فهل يمكن لحرب ان تحصل بلا اخطاء فلماذا تعمم على الجميع؟اننّا نحرم بشدة هذه الانتهاكات ونرفض جرائم الثأر والانتقام ونطالب بمحاسبة المسؤولين عنها ومعاقبتهم بأشد العقوبات، لكننا يجب ان نضعها ضمن دائرة المعالجات الصحيحة ؟ كالطبيب يقوم بعملية جراحية لعضو مريض فانه يستأصله فقط دون غيره ، والا سنشعِر المتطوعين بالإحباط وعدم الاندفاع في مواجهة الارهاب ونخلق فجوة عميقة بينهم وبين سكان المناطق التي جاؤوا لتحريرها حتى صوّر بعض المغرضين ان لا فرق بين الدواعش ومقاتلي الحشد الشعبي في نظر اولئك السكان فهل هذا معقول ؟

وحذَّر سماحة المرجع من محاولات اضعاف هيمنة الدولة على مؤسساتها وما يجري على الارض والانتقاص من هيبة الجيش العراقي والقوات المسلحة عموماً وكسر معنوياتهم وجعل دورهم ثانوياً من خلال التركيز على قيادات غير نظامية لا يسعنا الا ان نشكر مساعدتها ودورها في تحقيق الانجازات لكنها لا يمكن ان تكون بديلاً عن القوات النظامية، فلابد من ابراز القيادات العسكرية الميدانية التي ابلت بلاءً حسنا وتجدها حاضرة في كل المعارك في تكريت والرمادي وغيرها .

ومن جانب اخر فقد أكّد سماحة المرجع على المعالجات الفكرية والنفسية

ص: 279

لاجتثاث منابع المنهج التكفيري المتخلف المعادي للحضارة والانسانية من خلال اقامة مؤتمرات الحوار بين علماء الدين من جميع الطوائف والاديان وقيام وسائل الاعلام الغربية بابراز الاسلام الاصيل النقي الذي يرفض هذه الممارسات الهمجية ويدعوا الى الرحمة والعدالة والمحبة والاخوة والازدهار، حتى ان الله تبارك وتعالى يخاطب نبيه الكريم (صلی الله علیه و آله) {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء : 107] اي انه اُرسل لمحض الرحمة وللعالمين من دون استثناء ولذا لم يحمل سيفاً في المعارك مع انه في وسطها ولا قتل احداً بيده الشريفة .وأكّد سماحة المرجع على وحدة العراق ارضاً وشعباً وان لا خيار بديل عن الحوار والمصالحة والمصارحة والشراكة الحقيقة المنصفة للجميع وما تتطلبه من تنازلات عن بعض السقوف العالية بغير حق، وان مشاريع التقسيم مرفوضه لانها سوف لاتبقي شيئاً اسمه العراق وتدعهُ لقمة سائغة تبتلعها حيتان دول الجوار والقوى الكبرى، وان الشعب كله – عدا بعض اصوات النشاز المأجورين لاجندات خارجية – يقف وراء قواته المسلحة وكل مشروع وطني فيه عزة وكرامة العراق وشعبه .

واكّد على جميع الاطراف السياسية العراقية و التحالف الدولي والمنظمة الدولية لدعم السيد رئيس الحكومة حتى تحقيق هذه المطالب العادلة بأذن الله تعالى، حتى يأخذ العراق دوره الريادي والقيادي في بناء مستقبل سعيد ومزدهر ليس لابناءه فحسب وانما للمنطقة كلها لانه قادر على ان يقوم بدور الوسيط المقبول والمرن لحل الكثير من مشاكل المنطقة والعالم

ص: 280

خطاب المرحلة 450 :السيد بحر العلوم : نجمٌ لَمَعَ على مدى سبعين عاماً

غاب اليوم عن سماء النجف الأشرف والحوزة العلمية والساحة الفكرية والأدبية والسياسية نجمٌ لَمَعَ على مدى سبعين عاماً لم تستطع حجبه كل أدوات البطش والقسوة والغربة والمعاناة والقيود، وهو الفقيد الراحل الدكتور السيد محمد آل بحر العلوم (رفع الله درجاته).

لقد حمل منذ عمر الزهور في النصف الثاني من أربعينيات القرن الماضي (ولد عام 1347 ه- الموافق 1928) هَمَّ النهوض بالأمة وإنقاذها من قيود التخلف والجهل والاستعباد والتقاليد البالية، وليس غريباً عليه أن يكون بهذه الهمّة العالية فهو سليل أُسرة شريفة حظيت بالزعامة الدينية والاجتماعية على مدى قرنين من الزمان، فشكّل مع جمعٍ من الفضلاء وأقرانه من أبناء الأُسر العلمية في النجف ومنهم المرحوم والدي الشيخ موسى اليعقوبي (لجنة الشباب النجفي) واتخذوا الإحياء الواعي للمجالس والشعائر الدينية في الصحن الحيدري الشريف وفي البيوت وسيلةً لإيصال رسالة النهضة والوعي، وكانت مثل هذه الفعاليات خروجاً على المألوف في البيئة الحوزوية المحافِظة إلا أنَّ شجاعتهم وشعورهم بالمسؤولية وانتماءهم الأُسري أعطاهم زخماً للاستمرار بهذا العمل، ومنهم من طوَّر عمله السياسي لاحقاً ليؤسس تشكيلات إسلامية انتهت بتأسيس حزب الدعوة الإسلامية عام 1958 كالشهيد الحاج عبد الصاحب دخيّل

ص: 281

والمرحوم الأديب محمد صادق القاموسي .ومنذ ذلك الحين أحسُّوا بأهمية اختيار قيادة دينية صالحة للأُمة تكون نواةًً لمرجعية دينية حركية فاعلة، فمهَدوا لمرجعية المرحوم السيد محسن الحكيم (قدس الله سره) بعد وفاة المرجع الديني العام السيد أبي الحسن الأصفهاني (قدس الله سره) عام 1365ه- / 1946م وأصبحوا سنداً للمرجعية المباركة واستثمروا المناسبات الدينية والاجتماعية لإقناع المجتمع بها.

وبقي (رحمه الله) عنصراً فاعلاً في الحركة الإسلامية المباركة ومرتبطاً بالمرجعية من دونِ انتماءٍ الى الأحزاب ، ومناصراً لمواقفها المبدئية، فما إنْ ألغى رئيس الجمهورية عبد الكريم قاسم القانون الشرعي للأحوال الشخصية وأصدر القانون المدني عام 1959م حتى قابلته المرجعية بالرفض القاطع المستمر، وهنا أصدر السيد بحر العلوم كتابه القيّم "أضواء على قانون الأحوال الشخصية" الذي بَيّن فيه مخالفة مواد كثيرة في هذا القانون للشريعة الإسلامية على جميع مذاهب المسلمين وليس للمذهب الجعفري فقط، ورغم ذلك فانه لا زال معمولاً به الى اليوم مع ان الدستور يؤكد أن دين الدولة الرسمي الإسلام وأن تشريعاته يجب أن لا تخالف ثوابت الإسلام.

وقد استمر بعد وفاة أبيه المرحوم السيد علي عام 1960م بإقامة مجلسهم اليومي العام بحضور كبار العلماء والادباء والخطباء وعلى رأسهم أُستاذ المجتهدين المرحوم الشيخ حسين الحلي (قدس الله سره)، وكان منتدىً علمياً وأدبياً وفكرياً تُتَداول فيه مختلف القضايا الاجتماعية والنقاشات العلمية، ولا زلت أتذكره حين كنت أصحب والدي (رحمه الله) اليه وأنا طفل صغير.

ص: 282

وبعد وفاة عميد جمعية الرابطة الأدبية في النجف جدي المرحوم الشيخ محمد علي اليعقوبي عام 1385/ 1965 أُختيرَ السيد محمد بحر العلوم رئيساً للجمعية، ومنذ ذلك الحين شهدتْ الجمعية تحولاً نوعياً في تعاطيها مع قضايا الأُمة، فدأبتْ على إقامة موسم ثقافي سنوي تُدعى اليه شخصيات عُلمائية وفكرية وأدبية من العراق والدول الإسلامية، وكان من ضيوفه والمشاركين فيه السيد موسى الصدر والشيخ محمد جواد مغنيّة وكذلك السيد محمد باقر الصدر (قدس الله أرواحهم) حيث القى فيها عدداً من بحوثه الرائدة كبحث "دور الأئمة في الحياة الإسلامية"، وقد سَجّلتْ مجلة الإيمان التي كان يصدرها والدي في تلك الفترة كل ما أُلقي في تلك المواسم الثقافية مما يُعدُّ ثروة معرفية قيّمة.وكان السيد بحر العلوم (رحمه الله) يكتب افتتاحية مجلة الإيمان بعنوان "خاطرة حرة" يوصل من خلالها رسالة الإسلام والمرجعية الواعية الى الأُمة ويوقِّع في ذيلها "أبو إبراهيم" لأنه كان لا يحبُّ الظهور وتسليط الأضواء.

وبعد الانقلاب البعثي المشؤوم عام 1968 واصطدامهم المباشر مع مرجعية السيد الحكيم (قدس سره) وإصدارهم عام 1969 حكم الإعدام على نجله الشهيد المرحوم السيد مهدي الحكيم وجمع من المناهضين لسياسات القمع والإرهاب وكان الفقيد الراحل من الأهداف التي يسعى النظام للقضاء عليها، غادر (رحمه الله) الى الكويت وعمل قاضياً للأحوال الشخصية الجعفرية عدة سنوات حتى غادرها الى لندن واستقر فيها واستمر في معارضته للنظام وإدامة الحركة الإسلامية المباركة.

ص: 283

وقد فجعه النظام المقبور بعدد كبير من أعلام أُسرته بعد الانتفاضة الشعبانية عام 1991 فأعدم أخويه العلمين الجليلين الشهيدين السيد علاء الدين والسيد عز الدين وعدداً من أولادهم وأولاد عمومته وأولادهم ولم تسلم حتى النساء فقد استشهدت كريمته زوجة المرحوم الشهيد السيد محمد حسين بحر العلوم في منزلها بإطلاقات طائشة أثناء قصف الحلفاء لأوكار النظام عام 1991.جَمَعَ (رحمه الله) الى تحصيله العلوم الدينية الدراسة الأكاديمية وتخرّج في كلية الفقه ونال الماجستير من ايران والدكتوراه من القاهرة وأسّسَ معهد العلمين للدراسات العليا في النجف الأشرف حرصاً منه على رفد الجامعات العراقية بالكفاءات العلمية الملتزمة الواعية.

كان (رحمه الله) متواضعاً لا يأنف عن القيام بأي عمل أو زيارة أخٍ فيها لله تعالى رضاً، وكان حلو المعاشرة يأنس به جُلاسه بما يمتلك من ثقافة وأدب وتاريخ وحوادث مع نكتة حاضرة.

وأعجبتني شجاعته وإنصافه وهو يعبّر – في لقائي معه قبل عدة أشهر- بصراحة ووضوح عن تنكّر كثير من الطبقة السياسية التي تصدّت للسلطة بعد سقوط النظام الدكتاتوري الصدّامي عام 2003 (وفيهم من كان معه في المعارضة في الخارج) للمبادئ التي جاهدوا من أجل إقامتها واستشهد على طريقها الالاف من العلماء والرساليين ونُخَب الأُمة وقال: "لقد كنّا نتوقع أن نفرش للشعب السجاد الأخضر (أي نجلب لهم الرفاه والسعادة والخير) فافترشوا السجاد الأحمر (أي أصابهم الدم والخراب)".

لقد فقدنا برحيل السيد محمد بحر العلوم (طاب ثراه) موسوعةً أخلاقيةً

ص: 284

وفكريةً ودينيةً وسياسيةً وأدبيةً ثرّة، فسبّبَ ثغرةً لا يسدّها إلا وجود من يواصل رسالته التي كان أميناً عليها طيلة سبعين عاماً، فرحمه الله وألحقه بأجداده الطاهرين، وتعازينا الحارة الى أنجاله وذويه وعارفي فضله.محمد اليعقوبي- النجف الأشرف

17/جمادى الثانية/1436 7/ 4/ 2015

ص: 285

خطاب المرحلة 451 :(إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)

خطاب المرحلة 451 :(إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)(1)

(محمد7)

قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد7) تبيّن الآية إحدى القواعد والسنن الالهية، وهي ثنائية متلازمة عبّر القران الكريم عنها بجملة شرطية، الشرط فيها (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ) والجزاء (يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) وهي متلازمة تكرّرت في القرآن الكريم كقوله تعالى (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج40).

ولا بد أن نفهم أولاً معنى نصرة الله لأن الله تعالى غنيّ عن العالمين ولا يحتاج الى معونة ونصرة احد بل الكل محتاج اليه، وفي نهج البلاغة قول امير المؤمنين (علیه السلام) (فَلَمْ يَسْتَنْصِرْكُمْ مِنْ ذُلٍّ وَلَمْ يَسْتَقْرِضْكُمْ مِنْ قُلٍّ اسْتَنْصَرَكُمْ وَلَهُ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَاسْتَقْرَضَكُمْ وَلَهُ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (2) فنصرة الله بنصرةِ رسوله (صلی الله علیه و آله) وأوليائه وحججه الذين يدعون الى طاعته

ص: 286


1- الكلمة السنوية التي اعتاد سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) القاءها على مواكب العزاء التي تنطلق من النجف الاشرف الى حرم الامام الحسين (عليه السلام) سيراً على الاقدام لزيارته الشريفة يوم النصف من رجب واحياء شعائر وفاة العقيلة زينب (عليها السلام) وتنطلق المسيرة يوم الخميس 11/رجب/1435 المصادف 30/ 4/ 2015
2- نهج البلاغة : 183 / الوصية بالتقوى

ويقيمون الدين ويعملون لتطبيق منهج الله تبارك وتعالى في الأرض وتتحقق نصرة الله بنصرة دينه وتحكيم شريعته واحكامه في واقع الحياة، قال تعالى (كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ الله) (الصف14) فنصرة الله تعالى تعني نصرة السائرين الى الله تعالى والهادين الى الله تعالى والعاملين لإعلاء كلمة الله تعالى، فهي نصرة لهؤلاء قال تعالى (وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (الحشر8) وإنما نسبها الى الله تعالى لأكثر من نكتة:1.لإعطائها أهمية بنسبتها الى الله تعالى ولو نُسِبَتْ النصرة الى رسوله (صلی الله علیه و آله) أو أوليائه فقط لكانت أقل زخماً لذا قرن الله تعالى نصرة رسوله (صلی الله علیه و آله) بنصرته تبارك وتعالى (وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (الحشر8).

2.للتنبيه الى شرط القبول وإعطاء الجزاء بأن تكون النصرة وسائر الأعمال خالصة لله تعالى اي ان الجزاء يتحقق حينما تكون نصرة اولياء الله تعالى نصرة لله، هذا الذي يقال في الاصول ان تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية، فقد ينصر الشخص رسول الله (صلی الله علیه و آله) أو الإمام ويخرج معه لكنه لهدف آخر غير خالص كالرياء أو الشهرة أو تحصيل منفعة دنيوية أو تعصباً لمدينته أو قبيلته ونحو ذلك فهذه النصرة لا قيمة لها عند الله تعالى.

في صحاح العامة عن أبي موسى قال ((سُئل رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن الرجل يقاتل شجاعة، و يقاتل حميةً ويقاتل رياءً، أيُّ ذلك في سبيل الله؟ فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله))) (1).

ونلفت النظر الى جملة امور قد لا يلتفت اليها الكثيرون ممن يتداولون هذه

ص: 287


1- اخرجه الشيخان وابو داوود والترمذي والنسائي.

الآية ويجعلونها عنواناً لبياناتهم وخطاباتهم:1.إن نصرة الله تعالى مفتوحة على كل المجالات وإن كان أرقاها والذي كانت الآيات بصدده هو القتال في سبيل الله لكن نصرة الله تعالى تتحقق بما لا يحصى من الطرق فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نصرة لله تعالى وغضب له أذا عُصي، وكذا دعوة الناس الى الله تعالى وهدايتهم وإصلاحهم، وتتحقق أيضاً بأي مشروع فيه رضا الله تعالى وصلاح العباد، وبأي حوار تردّ به الإشكالات الموجهة الى الدين أو فيها انتقاص من قادته العظام، وحينما نؤيد مسعى لتطبيق قوانين الله تعالى وأحكامه في حياة الناس كمشروع القانون الجعفري فهذه نصرة لله تعالى، وتتحقق أيضاً بأي خدمة تقدمها للناس المحتاجين لأنك بذلك تدفع عنهم الاعتراض على قضاء الله وقدره فهو نصرة لله تعالى ودفاع عنه كما ورد عن أمير المؤمنين (علیه السلام) لما سُئل عن لبسه القميص المرقّع البالي وتوزيعه المساعدات بنفسه على بيوت الفقراء والايتام قال: لكيلا يتبيّغ بالفقير فقره) (1) أي لكيلا يغلبه الفقر ويقهره فيؤدي الى الاعتراض على الله تبارك وتعالى.

وهكذا تتعدد أشكال نصرة الله تعالى ويتحقق معها الجزاء وهو أن ينصركم الله ويؤيدكم في سائر شؤونكم ويزيد من توفيقكم ويهيئ لكم الاسباب والمقدمات للتقدم ومزيد من الانتصارات، وكلما ازددت نصرة لله تعالى، زاد الله من نصرته لك وتسديدك.

2.إن الكثيرين يستشهدون بالآية الى قوله تعالى (ينصركم) ويعتقدون ان

ص: 288


1- نهج البلاغة 2: 204

هذا كافٍِ وان هذا هو موضع الحاجة ولا يلتفتون الى ما هو أهم من النصر وهو الثبات عليه الذي ذكرته فإن النصر قد يتحقق لكنه لا يدوم لعدم توفير إمكانية المحافظة عليه، أو لأنهم بعد أن انتصروا تغيرّت نواياهم وانحرفت فلم يعودوا مستحقين للنصر، وتزول عنهم نعمة الانتصار ويكون بلا قيمة، كالجيش الذي يهجم على العدو ويأخذ مواقعه لكنه لا يستطيع الامساك بالأرض فيتراجع عنها ويعود العدو اليها وربما يستغل العدو هذا التراجع ويستفيد من زخم العودة ليتقدم أكثر في عمق هذا الطرف الذي انتصر اولاً، وكمثال من التاريخ نذكر ما حصل للمسلمين في معركة أُحُد فانهم انتصروا في بداية المعركة لكنهم لما عصوا اوامر رسول الله (صلی الله علیه و آله) واتبعوا اهوائهم والتفتوا الى جمع الغنائم(1) لم يدم ذلك النصر وانقلب الى هزيمة وخسروا شهداء كثيرين، لذا كان التوجيه الرباني بعد ان فتح الله تبارك وتعالى مكة للنبي (صلی الله علیه و آله) وللمسلمين ونصرهم على قريش بحسب سورة النصر {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر : 1 - 3] فعليك ان تسبح الله وتنزهه عن اي وهم وظن بانك صاحب القدرة في تحقيق النصر وتستغفره من كل ما يفقدك هذا النصر ويزيل اسبابه،وهكذا التاريخ حافل بالمنقلبين على الاعقاب .فقيمة الانتصار في الثبات عليه وإدامته بإدامة الأسباب الموجبة له، ولا شك أن هذا التثبيت هو من مصاديق الجزاء (ينصركم) وأحد مفرداته فيكون من

ص: 289


1- مضافاً الى ارجاف بعض المنافقين وقلقي الإيمان في جيش النبي (صلى الله عليه وآله) الذين أشاعوا أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد قتل.

قبيل ذكر الخاص بعد العام كما يقال وانما ذكر تثبيت الاقدام مع انه داخل في عنوان (ينصركم) لأكثر من نكتة:أ-إلفات النظر اليه والاهتمام به.

ب-ولتمييزه عن ثبات آخر يسبق النصر لا بد أن يحققه العبد الناصر لربه بشجاعة وإصرار ليتحقق الانتصار على العدو كقول طالوت لما بارز جالوت الطاغية (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة250) فتلاحظ ان ثبات الاقدام كان مقدمة للنصر، فيوجد ثبات يسبق النصر وتثبيت يلحقه .

3.إن كل هذه الألوان من النصرة بما فيها القتال المؤدي الى الموت إنما هي على مستوى (الجهاد الأصغر)، والأسمى من ذلك تطبيق هذه المعادلة على (الجهاد الأكبر) أي على صعيد مجاهدة النفس ومنعها من اتباع الاهواء والشهوات وتطبيعها على طاعة الله تبارك وتعالى والورع والتقوى وتتجرد عما سوى الله تبارك وتعالى حتى تكون احبّ الى الشخص من نفسه ومن كل ما سوى الله تبارك وتعالى، وفي الحديث الشريف (أعدى أعداءك نفسك التي بين جنبيك) (1) فهي تهشّ الى المعصية ويزيّنها الشيطان فمقاومتها نصرة لله تبارك وتعالى على ادعائه الشيطان وأوليائه والنفس الأمارة بالسوء، وحينئذ ينصرك الله تعالى ويزيدك قوة وعزيمة ويرقّيك في درجات التكامل، من دعاء الصباح لأمير المؤمنين (علیه السلام) (وَإِنْ خَذَلَنِي نَصْرُكَ عِنْدَ مُحارَبَةِ النَّفْسِ وَالشَّيْطانِ، فَقَدْ

ص: 290


1- عدة الداعي ص 314

وَكَلَنِي خِذْلانُكَ إِلى حَيْثُ النَّصَبِ وَالحِرْمانِ) (1)، فاذا اعانك الله تعالى ونصرك على نفسك ونجحت في الامتحان وحققت تقدماً في هذه الاشهر المباركة او المشاهد المشرّفة او بحضورك مجالس الصالحين وفي المساجد وصلوات الجمعة والجماعة وغيرها فثبت عليه وادمه ولا تضيّعه بسبب شهوة او غضب او تزيين من شياطين الانس والجن، فان السقوط في الهاوية حينئذٍ يكون مريعاً والعياذ بالله تعالى .ايها الاخوة:

أنتم بفضل الله تبارك وتعالى بإقامتكم لهذه الشعيرة المباركة: السير على الأقدام من حرم أمير المؤمنين (علیه السلام) الى حرم الإمام الحسين (علیه السلام) لزيارة الإمام الحسين (علیه السلام) في النصف من رجب ولإحياء وفاة عقيلة الهاشميين السيدة زينب بنت أمير المؤمنين (علیه السلام) وفاطمة الزهراء (علیها السلام) بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله): وبإدامتكم لها منذ بضع سنوات: تنصرون الله تبارك وتعالى بعدة أشكال تتضح من خلال ما ذكرناه سابقاً فأسأل الله تعالى أن ينصركم ويثبت أقدامكم.

ص: 291


1- مفاتيح الجنان: 94

خطاب المرحلة 452 :الجامعة الدينية المفتوحة: تمهيد للتكامل المعرفي في زمن الظهور

خطاب المرحلة 452 :الجامعة الدينية المفتوحة: تمهيد للتكامل المعرفي في زمن الظهور(1)

يشهد عصر الظهور الميمون تكاملاً في المجتمع البشري على جميع الصُعُدْ، فعلى الصعيد الديني رُوي عن الإمام الباقر (علیه السلام) (ويُظهِر الله عز وجل به دينًه ولو كرِهَ المشركون فلا يبقى في الأرض خرابٌ إلاّ عُمِّر) (2).

وعلى الصعيد السياسي تُقام الحكومة الإلهية التي تملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما نطقت به ا لروايات المتواترة ومنها النبوي الشريف (لو لم يبقَ من الدنيا إلاّ يومٌ واحدٌ لطوّلَ الله ذلك اليوم حتى يخرج رجلٌ من ولدي فيملأها عدلاً وقسطاً كما مُلئت ظلماً و جوراً) (3) وغايةُ ما تطمح اليه الإنسانية هو إقامة الحق والعدل وإزالة كل ظلم وجور وعدوان (أين المُعَدّ لقطع دابر الظلمة، أين المنتظر لإقامة الأمتِ والعوج، أين المرتجى لإزالة الجورِ والعدوان) (4).

ص: 292


1- من حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من الشباب والطلبة والزوار قبل توجههم مشيا على الاقدام لزيارة الامام الحسين (عليه السلام) في النصف من شعبان يوم السبت 11 شعبان / 1436 الموافق 30/ 5/ 2015.
2- بحار الانوار: 25/ 191
3- بحار الانوار: 51/ 71
4- من دعاء الندبة المعروف.

وبفضل ذلك يبلغ حينئذ الأمن والاستقرار درجته التامّة، ففي الحديث عن الإمام الصادق (علیه السلام) (اذا قام القائم حكم بالعدل وارتفع في ايامه الجور، وامنت به السبل) (1) وورد ايضا عن الامام الباقر (علیه السلام) (تخرج العجوز الضعيفة من المشرق تريد المغرب لا ينهاها أحد) (2). وعلى الصعيد الاقتصادي والمعاشي، روي عن النبي (صلی الله علیه و آله) (تنعم امتي في زمن المهدي نعمة لم ينعموا مثلها قط، ترسل السماء عليهم مدراراً ولا تدع الأرض شيئاً من النبات إلاّ أخرجته) وقوله (صلی الله علیه و آله) (فحينئذ تظهر الأرض كنوزها وتبدي بركاتها، ولا يجد الرجل منكم يومئذ موضعاً لصدقته، ولا برّه، لشمول الغنى جميع المؤمنين) (3)، وعن الإمام الباقر (علیه السلام) قال (وتُجمع اليه أموال الدنيا ما في بطن الأرض وظهرها فيقول للناس: تعالوا الى ما قطعتهم فيه الأرحام وسفكتم فيه الدماء، وركبتهم فيه محارم الله عز وجل فيعطى شيئاً لم يُعطَ أحد كان قبله) (4).

وأما على صعيد التكامل المعرفي والعلمي فقد روي عن الإمام الباقر (علیه السلام) قوله (وتؤتون الحكمة في زمانه حتى أن المرأة لتقضي في بيتها بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله (صلی الله علیه و آله)) (5) ويذكر الحديث الشريف المرأة لأنها الفرد

ص: 293


1- الارشاد للمفيد: 2/ 383
2- الكافي: 8/ 313 ح 784
3- بحار الانوار: 52/ 339
4- بحار الانوار: 52/ 351
5- بحار الانوار: 52/ 352

الأضعف والأبعد عادةً عن مصادر العلم والمعرفة والثقافة بسبب القيود الاجتماعية المفروضة، ومع ذلك فإنها تفتي على طبق الكتاب والسنة وتقضي في الخصومات بأحكامهما، فالمرأة في بيتها تبلغ رتبة الإجتهاد في الفقه أو ما يقرب منها، وهذا كاشف عن التكامل العلمي والمعرفي الذي يسود المجتمع.لكن هذا المستوى السامي لا يحصل للمجتمع في عصر الظهور تلقائياً وبجرة قلم كما يُقال أو بمعجزةٍ (كن فيكون)، وإنما يصل اليه المجتمع بعد إعدادٍ مكثّفٍ وتربيةٍ معمقةٍ طويلةٍ، إذ أن هذه الحكمة والمستوى العالي من العلم لا يُعطى لجاهلٍ غير مؤهل لحمله وهذا يجعلنا أمام مسؤولية كبيرة في الاستعداد والظهور المبارك وتعجيله إذ كلما تقدمنا في هذا الاستعداد أكثر نكون قد قرّبنا اليوم الموعود.

وهذه الحركية وهذا الاندفاع نحو العمل المثمر المبارك هو من ثمرات الإيمان بقضية الإمام المهدي (علیه السلام) والأمل بظهوره في أي لحظة ولو لم يكن عندنا هذا الأمل وهذه الغاية لما امتلكنا المحفّز للحركة والعمل.

وهذا يفسِّر أيضاً الحملات الظالمة الدؤوبة التي يقودها المستكبرون وأذنابهم لتكذيب قضية الإمام والتشكيك فيها ويُسَخِّرون من نفس المسلمين من يسوّق شبهاتهم وشكوكهم البائسة أو يزرعون نماذج سيئة تدعي الارتباط بالإمام وبقضيته وتحمل عناوين مهدوية وهدفهم سلب هذا الأمل من المحرومين والمستضعفين لتثبيط عزائمهم ودفعهم الى اليأس والاحباط والاستسلام لهيمنة الظالمين والمستكبرين وفقدان الأمل بالتغيير، فتصبح الامة ميتة سريرياً لا إرادة لها ولا حراك فيها ويقودون الناس الى حيث يريدون.

ص: 294

فعلينا أن نحبط هذه المشاريع ونسير بعزم راسخ وحركة دؤوبة لتعجيل الظهور المبارك والتمهيد له في جميع المجالات، ومنها المجال العلمي والثقافي خصوصاً في العلوم والمعارف الدينية، ولا شك أن الحوزات العلمية في النجف الأشرف تقوم بدور مشكور في هذه المجالات بحلقاتها العلمية ومؤلفاتها المباركة ومحاضراتها النافعة وسائر الفعاليات الاخرى.لكنا وجدنا أن هذا غيرُ كافٍ لتوسيع قاعدة العلوم والمعارف في المجتمع لأن عدد من يأتون لطلب العلم في النجف حوالي واحد من كل عشرة الاف من الناس وهذا نسبته ضئيلةً جداً فتوجهنا الى نشر الحوزات العلمية في المحافظات من خلال فروع جامعة الصدر والمدارس الدينية الاخرى التي التحق بها الالاف، لكن العدد مازال ضئيلا وليس بمستوى الإعداد للتكامل العلمي والمعرفي في عصر الظهور المبارك، لذا نوجّه الان بتأسيس (الجامعة المفتوحة للعلوم الدينية) التي تقدّم خدماتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي وشبكة الانترنت وتطبيقات الأجهزة المحمولة، حيث يشرف من خلالها ثلةٌ من الاساتذة الاكفاء على توجيه دراسة الراغبين وتحديد مراحل الدراسة ومناهج كل مرحلة وتزويدهم بالتسجيل الكامل لمحاضرات الاساتذة في شرح وتوضيح هذه المناهج، وإجراء الامتحانات عند إكمال كلّ مفردة مقررة، وهكذا يستطيع التوّاقون للاستعداد للظهور المبارك من الجنسين مواصلة دراستهم بإذن الله تعالى وهم في بيوتهم بفضل الله تعالى.

وهكذا يكون الاستعداد في كل المجالات، لان دولة الإمام رصينة تُقام على أُسسٍ متينةٍ وليس في مهبّ الريح تسقط بأول تهديد، وإذا لم يكن

ص: 295

المجتمع مستعداً لاحتضان هذه الدولة وقادراً على العمل بنجاح لإدامتها فإن دعاءه بتعجيل الفرج يكون مجرد لقلقة لسان، وإن الإمام (علیه السلام) لا يقبل التضحية بدولة الحق والعدل. خذ مثلاً زمان أمير المؤمنين (علیه السلام) أو زمان الإمام الحسن (علیه السلام) فإنهما (ع) ترأسا الدولة وأقاما شريعة الله تعالى، لكن المجتمع لم يكن مؤهلاً ولم يكن مستعداً للسير على وفق المنهج الالهي فانفضُّوا عنهما وخذلوهما حتى استشهد أمير المؤمنين (علیه السلام) وتنازل الإمام الحسن (علیه السلام) عن حقه في قيادة شؤون الامة.

ص: 296

خطاب المرحلة 453 :بعد عامٍ على سقوط الموصل: لا زالَ الأمل بإعادة إنتاج عراقٍ مزدهرٍ موحّد

خطاب المرحلة 453 :بعد عامٍ على سقوط الموصل: لا زالَ الأمل بإعادة إنتاج عراقٍ مزدهرٍ موحّد(1)

عام مضى على سقوط مدينة الموصل بيد قوى التكفير والتحجّر والإرهاب ولا زالت المدينة أسيرة بل سقطت بعدها مدن مهمة اخرى وأراضي شاسعة وهُجِّر الملايين وبِيعتْ النساء ودُمِّرتْ الحضارة وخُرِّبتْ الحياة بكل مظاهرها وقائمة المصائب والكوارث تطول، والى الآن لم تستطع القوى الحاكمة أن تعيد بناء جيش محترف شجاع ولم يتبلور مشروع وطني وحدوي، ولم يترشّح موقف موحّد الاّ الاتفاق على الاختلاف والتشرذم، والله تعالى يقول (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (الأنفال46) وها هي ريح العراق وقوته وقدرته تتهاوى بيد صبية مغامرين جهلة مُغَرّر بهم تجمعوا من بقاع الأرض، ولم تستطع لجان التحقيق الى الآن معرفة كيفية سقوط الموصل وأسبابه والمسؤول عنه فضلا ًعن كشفه للرأي العام وللتاريخ وكأن الصفقات السياسية

ص: 297


1- بيان صدر بمناسبة الذكرى الاولى لسقوط مدينة الموصل واعلان سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) الحاجة لتشكيل جيش عقائدي رديف للقوات المسلحة بالمواصفات التي ذكرها سماحته في بيان (رب ضارة نافعة).

تمنع من ذلك كله(1). لقد رأينا الكل في الداخل والخارج يتحدث عن رفض الإرهاب ومكافحته، لكن الكل –إلاّ من عصم الله تعالى- يدعم الإرهاب ويمده بالقدرات المادية أو المعنوية بشكل أو بآخر وإن دخل في صراع معه، فقد يختلف معه في هذه الساحة لأنه يضر بمصالحه لكنه يدعمه في ساحة اخرى لأنه يلتقي مع مصالحه. وقد يواجهه اليوم لكنه بالأمس كان يدعمه، وقد يكافحه في حالة معينة لكنه يدعمه في حالة اخرى وهكذا وبالنتيجة فإنهم كلهم ساهموا في تقوية الإرهاب وتوسيع نفوذه وامتداد شبكته العالمية، وما كان للمجاميع الإرهابية أن تبلغ ما بلغته الآن إلاّ نتيجة هذا الدعم العالمي المتنوع، وهذه كلها من حماقة الجميع وقصر نظرهم، فإن الإرهاب لا يمكن اعتباره وسيلة لتحقيق المصالح بأي حال من الأحوال لهمجيته وجهله وتنكره لكل المبادئ الإنسانية والحضارية.

ولم نشهد علامة مضيئة في هذه السنة إلاّ ظاهرة اندفاع الشباب الرساليين المملوئين بالإيمان وحب الوطن والناس جميعاً من دون تفريق بين انتماءاتهم وهي التعبئة التي دعونا اليها منذ اليوم الأول لحصول الكارثة، حيث كانت تضحيات هؤلاء وثباتهم وشجاعتهم السد المنيع الذي حال دون انهيار الدولة

ص: 298


1- ولما أنجزت اللجنة هذا التقرير وسجّلت فيه أسماء المتهمين وتهمهم ودفعته الى البرلمان قامت رئاسته بتسليمه الى مجلس القضاء الأعلى وهي مخالفة قانونية لأن القضية عسكرية، فالنظر فيها ليس من اختصاص المحاكم المدنية وبعد ضغوط سياسية وصفقات وتهديدات متبادلة وتدخل جهات دينية وخارجية أُغلق الملف ولم يتحدث عنه أحد.

وتنفيذ أجندات التقسيم والتخريب.لقد قلنا آنذاك ونكرر الآن أن الحل العسكري لا يكفي وحده مالم يقترن بإصلاح سياسي يؤدي الى سلمٍ اجتماعيٍ ورفاهٍ اقتصاديٍ، وهذا يتطلب تنازلات عن الاستئثار والاستبداد من البعض والى إنصاف وصبر من البعض الآخر ويتم ذلك من خلال تواصل صريح وشفاف وحكيم بين القيادات الدينية والسياسية والاجتماعية المؤثرة في مكونات الشعب العراقي.

ولابد أن يُبنى هذا الحوار والتواصل على اسس يتفق عليها الجميع ومنها:

1. الإيمان بوحدة العراق ارضا وشعبا وتساوي جميع الافراد في الحقوق والواجبات على اساس المواطنة والانتماء للعراق.

2. احترام منجزات العملية السياسية التي ضحى الشعب من اجل تحقيقها كالدستور باعتباره مرجعية سياسية والانتخابات كآلية ديمقراطية ومؤسسات الدولة، وان اي مطالبة بالتعديل والتغيير لابد ان يكون ضمن الاليات التي كفلها الدستور لموافقه اغلبية الشعب عليه وليس من المعقول المطالبة بالرجوع الى خط الشروع الصفري لان فيه هدرا لتضحيات الشعب وارادته.

3.رفض الابتزاز السياسي واتخاذ الارهاب وسائر المشاكل وسيلة لتحصيل المزيد من المكاسب التي تتجاوز السقوف العادلة للاستحقاقات ورفض كل الوسائل غير الدستورية.

4.مراعاة ضوابط الوطنية والمهنية والنزاهة والكفاءة في اختيار قيادات البلاد المدنية والعسكرية والسعي لإصلاح بناء الدولة ومؤسساتها على اسس صحيحة ونحو ذلك من المبادئ.

ص: 299

رغم ما نشعر به من احباط ويأس من كثير من الطبقة السياسية الحاكمة الا اننا نمتلك ما يكفي من الامل لاعادة انتاج عراق جديد يسوده الامن والاستقرار ويتوحد اهله على الخير والعطاء والمودة وتظهر عليه ملامح الازدهار والرفاهية وما ذلك على الله تعالى ببعيد، بالرغم مما نعترف به من الصعوبات والعوائق التي يضعها القريب والبعيد من اجل تحقيق مصالحهم الضيقة ومخططاتهم الشيطانية لكن صوت الحق يعلو وللحق دولة وللباطل جولة . محمداليعقوبي – النجف الاشرف

10/ 6/ 2015

22/شعبان/1436

ص: 300

خطاب المرحلة 454 :(إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) لنكن امة (إقْرَأْ)

خطاب المرحلة 454 :(إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) لنكن امة (إقْرَأْ)(1)

بمناسبة البعثة النبوية الشريفة نريد أن نأخذ درساً من أول كلمة القاها الوحي على رسول الله (صلی الله علیه و آله) إيذاناً بتحقق الوعد الالهي للبشرية الضالة الجاهلة المتعبة أن ينقذهم بالرسالة الكاملة الخاتمة ويأخذ بهم في هذه النقلة الهائلة التي لا تُقاس بها النقلة من الأرض الى السماء، فمن حقنا أن نفخر نحن أُمة الإسلام بأننا أُمة القراءة وطلب العلم وأن أول كلمة نزلت على النبي (صلی الله علیه و آله) عند بعثه بالرسالة الإسلامية هي (إقرأ) أي الأمر بالقراءة، وإن معجزة الإسلام الخالدة (القرآن) هو كتاب مقروء وهو مصدر اشتق إسمه من القراءة.

وإن أول نعمة ذكّر الله تعالى بها عباده ممتناً عليهم القراءة والتعليم (إقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الأِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق 3-5)، فالإنسان خُلِقَ من علقةٍ وهي قطعة الدم الجامدة ووُلِدَ صفحة بيضاء خالية من المعارف والعلوم عدا ما توجهه به فطرته لكن الله تبارك وتعالى جهزّه ووفر له ما يملأ به صحيفته من العلوم والمعارف مما لم يكن يعلمها من قبل وكلما حصل على

ص: 301


1- ألقي هذا الخطاب من قناة النعيم الفضائية بمناسبة ذكرى البعثة النبوية الشريفة يوم 27/ رجب/ 1436 المصادف 16/ 5/ 2015.

معلومة تولّد له إحساسُ بجهله بجمع كبير من المعلومات، وهو تفسير كلمة بعضهم ((كلما ازددت علما إزددت جهلا)).(عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) أي علّم البشر الكتابة واستعمال القلم أو بمعنى أنه تعالى علَّمهم ما لا يعلمون بواسطة القلم والكتابة وهو ابرز حدث في تاريخ البشر ولولاه لما تكاملت الحضارات ولما انتقلت العلوم واستفادت الامم من إنجازات غيرها، ولا تستطيع أُمة أن تتقدم وتبني حضارة إذا لم تُحسن الاستفادة من الكتاب والقلم. وبلغ تعظيم القلم الى مستوى القسم به (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) (القلم/1).

(عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق / 5) فالمصدر الاول للعلوم والمعارف هو الله تبارك وتعالى من خلال بعث الانبياء والرسل وانزال الشرائع السماوية والايحاء الى الانبياء والاولياء بما تحتاج اليه البشرية، وظلّت الالطاف الالهية مصدر الهام لكثير من المخترعين والمبدعين واصحاب النظريات الخلاقة كما اعترف جملة منهم بذلك، والتاريخ يشهد أن ازدهار العلوم وتدوينها وتعميقها شهد نقلة غير مسبوقة على يد المسلمين وأصبحت الكتابة والتعليم واسعة الإنتشار ومتيسرة الحصول لجميع الناس بعد أن كانت مقتصرة على نخبة محددة، هذا في الامم المتمدنة كالروم والفرس، أما العرب في الجزيرة فكان الذين يعرفون الكتابة بعدد الأصابع تقريباً وكان الذي يعرف الكتابة وبعض الفعاليات الاخرى كالرمي يسمى ب- (الكامل).

وظل هذا الاهتمام بالقراءة وطلب العلم والمعرفة توجيهاً دائمياً في القرآن الكريم وقد أدّبَ الله تعالى نبيه بذلك، قال الله تعالى: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْما)

ص: 302

(طه/114) وفي الحديث النبوي الشريف (إذا أتى علي يوم لا أزداد فيه علما - يقربني إلى الله - فلا بارك الله لي في طلوع شمسه - شمس ذلك اليوم) (1)، وكانت الفدية التي جعلها رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأسرى المشركين في معركة بدر من الذين يعرفون الكتابة ان يعلّم الواحد منهم عشرة من المسلمين مقابل اطلاق سراحه فانتشرت المعرفة بالكتابة لدى المسلمين بهذه المبادرة المباركة وفي اصول الكافي بسنده عن الإمام الصادق (علیه السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (تذاكروا وتلاقوا وتحدثوا فإن الحديث جلاء للقلوب، إن القلوب لترين كما يرين السيف جلاؤها الحديث) (2).وفي حديث آخر قال (علیه السلام): (قال رسول الله ص: طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، الا وإن الله يحب بغاة العلم) (3) وهذه الوصايا لا تحتاج الى مؤونة لنتفهّم ملاكاتها ومصالحها فإن حياة الامم وسعادتها وتقدمها بالقراءة والتعلم، أما الامم الجاهلة المتخلفة فان ممارستها لا تفترق عن حياة الحيوانات قال تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الأنفال24).

ولا شك أن الثقافة والعلم من مقومات حياة الامم فالآية الكريمة تدعونا الى التجاوب مع كل مصدر يزودنا بهما.

فعلى كل شخص أن يقرأ ويصاحب الكتاب وكل مصادر المعرفة الأُخرى

ص: 303


1- مجمع البيان للطبرسي: المجلد الأول ص / 6
2- اصول الكافي، كتاب العلم، باب سؤال العلم وتذاكره ح 8
3- اصول الكافي، كتاب العلم: باب فرض العلم: ح / 5/ 7/ 8

ويتزود منها ليكون إنساناً بمعنى الإنسان الحقيقي لا الشكلي وليكون حياً فاعلاً في المجتمع، ولينسجم مع متطلبات الفطرة التي تنزع نحو الكمال، وليحظى برضى الله تبارك وتعالى ويتأسى برسوله (صلی الله علیه و آله).ومن وجهة نظري -بغض النظر عن التعريفات التي قيلت- فإن الثقافة هي منظومة الأفكار التي تجعل للإنسان رؤية فيما حوله ولا يكون إمّعًة من غثاء الناس ينعق مع كل ناعق ويسيّرَه السلوك الجمعي بلا رؤية وتأمل فيما يفعل، وفي الآية الكريمة إشارة الى ذلك (إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) أي أن الامر بالقراءة ليس عشوائياً وبلا هدف وبلا محدِّدات بل تقرأ بإسم ربك ومن أجل ربك وضمن ما خطّط له ربُّك الذي خلقك فيجب عليك ان تسير بهداه جاعلا أمامك الغرض الذي خلقك الله تعالى من أجله واستخلفك في الأرض لتحقيقه وهو إعمار الحياة بكل خير وعطاء نافع واستثمار كل الأدوات والظروف التي هيأها الله تعالى لتوفير السعادة والصلاح للبشر (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود / 61).

فالدعوة الى القراءة لا تختص بالمعارف الدينية بمختلف فروعها وإن كانت منها بل هي من أساسياتها، في حديث عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (عليكم بالتفقه في دين الله، ولا تكونوا أعراباً فإنه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله اليه يوم القيامة ولم يزكِّ له عملاً) (1) وروي عن الإمام الصادق (علیه السلام) أيضاً أنه قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) أُفٍّ لرجلٍ-وفي رواية لكل مسلم- لا يُفَرِّغ نفسه

ص: 304


1- اصول الكافي كتاب العلم باب فرض العلم ح / 7

في كل جمعة لأمر دينه فيتعاهده ويسأل عن دينه) (1) ويصل الحثّ الى حد الإلزام والعقوبة على الترك، ففي رواية عن الإمام الصادق (علیه السلام) (لوددتُّ أن أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا) (2).أقول: لكن القراءة لا تختص بهذا المجال بل كل كتاب نافع يساهم في تكوين تلك المنظومة الثقافية الصحيحة، فكتاب "كيف تكسب الأصدقاء" لمؤلف غير مسلم لكنه غني بالتوجيهات الرشيدة التي ترسم لك بوصلة العلاقات الناجحة والإيجابية مع الآخرين.

وهكذا كل كتب التنمية البشرية أو إدارة الوقت والاستفادة منه، أو كتب تعليم أسرار النجاح ومفاتيحه، أو التجارب الاجتماعية وغيرها كثير.

وقد جرّب مَن صاحًبَ الكتاب وتولّع بالقراءة أيّ أُنسٍ وسعادةٍ يحياها برفقة الكتاب حتى لا يشعر احياناً بما يجري حوله وتمر عليه الساعات دون ان يدري وكأنه في روضة غنّاء ضمّت كل ما تهفو اليه النفس وتلذ به العين، وكان بعض العلماء يطرب اثناء أُنسه بالكتاب ويقول: أين الملوك وابناء الملوك من هذه اللذات، ومعه حق فما قيمة اللذات الجسدية التي يبحث عنها المترفون من لذة القراءة ومطالعة الكتاب.

علينا ان نستعيد امجادنا ونكون امة القراءة والكتاب فعلاً ونقود نهضة ثقافية عامة تدعو الى قراءة الكتاب بمختلف اشكاله والاهتمام به ولننشره ولنشجع الناس على القراءة ونبتكر كل الاساليب التي ترفع مستوى الثقافة لدى الناس

ص: 305


1- اصول الكافي كتاب العلم، باب سؤال العلم وتذاكره: 15 / ح 8
2- اصول الكافي كتاب العلم باب فرض العلم ح / 8

من خلال نشر معارض الكتب وتوفيرها بأسعار زهيدة وطباعتها بشكل جاذب للقراء، وتيسير بيانها، وتنويع مواضيعها، وان تكون ذات مساس بواقع الامة وهمومها وآمالها وتساهم في صنع شخصية الانسان وان تكون بحجوم مختلفة من الدورات ذات المجلدات العديدة الى المجلد الواحد الى الكتيبات والكراريس والمنشورات والمقالات المختصرة.إذن علينا ان نواصل القراءة لنكون امة حية حضارية متقدمة

وعلى كل شخص ان يقرا ليكون انساناً حقيقياً

وعليناً ان نقرأ لنرضي الله تعالى ورسوله (صلی الله علیه و آله) والاولياء العظام ونستجيب لدعوته الى ما يحيينا.

ونقرأ لنعيش حياة الانسِ والسعادةِ والسموِّ والارتقاء.

ص: 306

خطاب المرحلة 455 :وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا درس في الالفة والاخوّة من البعثة النبوية المباركة

خطاب المرحلة 455 :وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا(1) درس في الالفة والاخوّة من البعثة النبوية المباركة

قال تعالى (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال : 46] .

الآية تنهى المؤمنين عن التنازع والتخاصم فيما بينهم وتحذرهم، بأن عاقبة هذا التنازع هو الفشل والضعف والانهزام لأنهم سينشغلون بهذا الصراع الداخلي عن الاستعداد لمواجهة الأعداء وسينهك قواهم وسيفقدهم الثقة بأنفسهم ويحطّم شخصياتهم ويذهب بحرمتهم وكرامتهم لأن كلاً من الطرفين المتنازعين يريد أن يتغلب على الآخر بأي ثمن فيبذل طاقته في تسقيط الآخر والبحث عن عيوبه ونقائصه وإظهارها للأخرين لكي يثبت أحقيته وغلبته، فيسقط الجميع بهذا الانتقاص المتبادل ويفشلون.

ويؤدي الفشل الى ذهاب ريحهم أي عزّتهم وقوتهم وغلبتهم وتسير الامور

ص: 307


1- كلمة وجهها سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) عبر شاشة التلفزيون الى المؤتمر العام لفضلاء وخطباء ومبلغي محافظة بغداد المنعقد يوم السبت 25 شعبان 1436 الموفق 13/ 6/ 2015 وكان سماحته قد تحدث ببعض مضامينها في لقائه مع الزوار بمناسبة البعثة النبوية الشريفة يوم 27 رجب 1436 الموافق 16/ 5/ 2015

على غير ما يريدون، وفي التعبير عن القوة بالريح رمزية وكناية دقيقة عن هذا المعنى لأن الريح هي التي ترفع الأشرعة وتعطي القدرة لاندفاع السفن في البحار فإذا توقفت الريح فإن السفن تعجز عن الحركة ولم يتحقق الوصول الى الهدف المطلوب، كذلك فإن الريح تجعل الأعلام والألوية ترفرف مرتفعة في ساحة الحرب فتشعر بالقوة فإذا ذهبت الريح انتكست الأعلام وخارت القوى.هذه واحدة من الحقائق القرآنية التي تؤسس لنظرية سياسية واجتماعية لأنها تشخص سبب أنهيار الدول وتفكك المجتمعات والشواهد التاريخية كثيرة في كل العصور ولعل أوضحها هزيمة المسلمين في الاندلس وانحسار دولة الإسلام عن تلك الأرض الاوربية بعد سلطة دامت حوالي ثمانمائة عام حينما انقسم المسلمون تبعاً للامراء وملوك الطوائف وتنازعوا وأصبح بعضهم يتآمر على بعض ويستقوي بالأعداء على اخوته .

ولا يختص الفشل وذهاب الريح والقوة بالجانب المادي وما يتعلق بالدنيا، بل تذهب القوة المعنوية أي روح الايمان وطمأنة القلب أيضاً, فتخسر الامة ريحها ورُوحها ورَوْحها لان التنازع يوقع صاحبه في الكبائر من اجل تحقيق الغلبة فيتورط في الغيبة والكذب والبهتان والافتراء والتجسس على خصمه ليضعفه وهذه كلها من الكبائر الموبقة، ويبرّر لنفسه المداهنة والسكوت عن الباطل عند من يريد الاستقواء به على خصمه وينشغل تفكيره بالمجادلات والمنازعات عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة وهو من فعل الشيطان بهم وهكذا يذهب في منزلق خطير نحو الهاوية.

وهذه الامور مجرّبة ومعروفة في كل المنازعات مهما صغرت دائرتها او

ص: 308

اتسعت كالخلاف بين الزوجين أو بين العائلة الواحدة على الميراث مثلا او النزاع بين عشيرتين أو حزبين سياسيين أو بين جماعتين أو بين مقلدي المرجعيات الدينية المتعددة، او بين طائفتين وغير ذلك، وهكذا يستهلك المجتمع الواحد قوته وامكانياته في هذه النزاعات ويفسح المجال واسعا لخصمه ليستحوذ على حقوقه التي فرّط فيها .روى الامام الباقر (علیه السلام) عن آبائه (ع) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال (من لاحى – اي خاصم ونازع – الرجال سقطت مروءته وذهبت كرامته، ثم قال (صلی الله علیه و آله) لم يزل جبرائيل ينهاني عن ملاحات الرجال كما ينهاني عن شرب الخمر وعبادة الاوثان) (1) وروي عنه (صلی الله علیه و آله) قوله (لا يستكمل عبد حقيقة الايمان حتى يدع المراء وان كان محقا) (2) و عنه (صلی الله علیه و آله) قال (من ترك المراء وهو محق بُني له بيت في اعلى الجنة، ومن ترك المراء وهو مبطل بُني له بيت في رَبَض الجنة) (3) - اي ما حولها خارج عنها – وعن الامام الصادق (علیه السلام) قال (اياك والمراء فانه يحبط عملك، واياك والجدال فانه يوبقك، واياك وكثرة الخصومات فانها تبعدك عن الله) (4) وعن الامام الهادي (علیه السلام) قال (المراء يفسد الصداقة القديمة ويحلل العقدة الوثيقة -كالعلقة الزوجية او القرابة-،

ص: 309


1- اماني الطوسي : 512 المجلس 18 الحديث 1119
2- ميزان الحكمة : 8/ 117
3- نفس المصدر.
4- نفس المصدر.

وأقل ما فيه أن تكون فيه المغالبة، والمغالبة اُسً اسباب القطيعة) (1).وبالعودة الى الآية الكريمة فإنها تعطي الحل لحسم النزاع وانهائه وهما أمران كفيلان بازالة اسباب النزاع ومنعه من أصله، وبتركهما يحصل التنازع وهما :

1- التحاكم الى علماء الشريعة في كل اختلاف والتسليم والاذعان لحكمها سواء كان لمصلحته أو على خلافها، ولذا ابتدأت الآية بالأمر بطاعة الله تعالى ورسوله (صلی الله علیه و آله) وطاعة القيادة الحقة التي جعلها الله تعالى حجة على عباده، قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء : 59]فالالتزام بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله (صلى الله عليه وآلة وسلم) والرجوع الى القيادة الحقة هما الضمان من وقوع التنازع او الانجرار اليه بسبب الاختلافات فالآية تشير الى سبيل تحقيق وحدة المسلمين ومنع تشرذمهم وهو ما عبرت عنه الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) بقولها (وجعل امامتنا نظام للملة وامانا من الفرقة).

وبتعبير آخر إن الخلاف بين الناس يمكن أن يحصل بسبب اختلاف الفهم أو النوايا او بسبب تدخل الاخرين والعوامل الخارجية ونحو ذلك، وهو بهذا المقدار يبقى ضمن الاطار الطبيعي مادام المختلفون عازمين على أن يعودوا الى حكم الشريعة وحاكمها والقيادة الشرعية الرسالية ليفصل بينهم وعليهم التسليم له وان يكون مبتغاهم دائما معرفة الحق واتباعه، فالتنازع المذموم انما يقع من

ص: 310


1- نفس المصدر.

نقطة الابتعاد عن حكم الشريعة وأوامر القيادة الرسالية الحقّة والتشكيك فيها والتمرد عليها، ومن نقطة اتباع الاهواء والانانيات والتعصب بحيث يجعل هواه وارادته هي المتبعة والحاكمة في الاختلاف وحينئذ يقترن به الشيطان ويسوّل له ان الرضوخ للحق هو هزيمة واهانة واذلال بينما الصحيح هو ان الحق احق ان يتبع وطالبه هو الغالب دائما .2-الالتزام بالصبر لأن الاحتكام الى الشرع والعمل بالتوجيهات الشرعية على خلاف هوى النفس يحتاج الى مجاهدة ومصابرة فيامرنا الله تعالى بالصبر ويعدنا باحسن الجزاء وهو{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} معهم مطلقاً أي في كل الأحوال وفي الدنيا والاخرة، وكفى بهذه المعية حافزاً ودافعاً للصبر على القيام بما يريده الله تبارك وتعالى.

والآية صريحة بان التنازع يؤدي الى الفشل، لكن المستفاد من غير موضع عكس ذلك أي أن الفشل هو سبب التنازع ، قال تعالى فيما يتعلق بواقعة اُحُد {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران : 152] وقال تعالى في معركة بدر {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} [الأنفال : 43] فالعلاقة بين الفشل والتنازع جدلية تلازمية حيث يؤدي كل منهما الى الاخر بمرتبة من المراتب، وقد اتضحت صورة اداء التنازع الى الفشل .

اما ان الفشل يؤدّي الى التنازع فواضح ايضاً لسببين على الاقل :

1-ان التنازع لم يحصل الا عندما استسلم كل شخص لهواه واطماعه وفشل في مجاهدة نفسه والالتزام بما يريده الله تبارك وتعالى كالذي حصل في

ص: 311

معركة اُحُد حينما اتبعوا أهواءهم وعصوا وصايا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتركوا مواقعهم لكي يشاركوا إخوانهم في جمع الغنائم (مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّون) فحصل الفشل ثم التنازع كما في آية سورة آل عمران المتقدمة .2-إن الفاشل لا يريد أن يعترف بفشله ولا يحمل نفسه المسؤولية حتى يعالج الاسباب وانما يلتجأ الى التنازع ليغطي فشله بالتخاصم والتنازع مع الآخرين واظهار انهم فاشلون، اي انه بدل ان يرتقي الى مستوى الناجحين يعمل الى انزال الناجحين الى مستواه الفاشل، وأتذكر هنا مثالاً طريفاً من الواقع فحينما كَّنا صبياناً وكان بعض أصدقائنا يلعبون كرة القدم فإذا فاز فريقهم عادوا فرحين مستبشرين، وإن خسروا رجعوا يتلاومون ويُحمّل بعضهم الآخر مسؤولية الخسارة ويبحث كل واحد عن خطا وتقصير الآخرين .

وهكذا في كل المجالات واسوء مثال لهذه الحال السياسيون المتصدرون للمشهد فانهم بسبب فشلهم الذريع في اداء مسؤلياتهم امام الشعب وانشغالهم بمصالحهم الشخصية وسرقة قوت الشعب فانهم يغّطون على فشلهم بالمخاصمات والجدل العقيم وتبادل الاتهامات من دون ان يحلّوا اي مشكلة ، ويؤدي بهم هذا التنازع الى فشل جديد وهكذا.

فالأزمة في العراق اليوم ليست ازمة مالية كما يعلنون لان مدخولات العراق الحالية تناهز 50 مليار دولار أو أكثر وهي كافية لمثل سكان العراق، ولا أن سببها وجود الاجندات الخارجية ولا غيرها وان كان لكل منها شيء من التأثير، وانما سبب خراب العراق وانهيار الدولة حتى اصبحت نهباً للعابثين والطامعين والحاقدين هو فشل المتصدين وسوء ادارتهم وتنازعهم فيما بينهم على تحقيق

ص: 312

مآربهم الشخصية والفئوية، فغطّوا فشلهم بالتنازع وادّى تنازعهم الى الفشل. ولدى التأمل فان قوله تعالى {فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} يكشف بالعلاقة العكسية ومن بعض الوجوه عن أن المجتمع والبلد الذي يعاني من التنازع وذهاب القوة والمنعة تحكمه قيادات فاشلة لا تستحق منح الثقة بها .

إن من أعظم النعم التي منّ الله تعالى بها على الامة بالبعثة النبوية الشريفة هو التاليف بين القلوب ونبذ الخلافات والنزاعات قال تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران : 103) وقال تعالى (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِين وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال : 62 / 63).

فلنستذكر هذه النعمة العظيمة ولنحرص عليها كما أمرنا الله تبارك وتعالى، ولنتعاهد في هذا اليوم المبارك على عدم الوقوع في التنازع والتقاطع والتخاصم قدر الامكان بفضل الله تبارك وتعالى.

ص: 313

خطاب المرحلة 456 :المرحوم الشيخ الآصفي: مثال العالم العامل

إنا لله وإنا اليه راجعون (إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) (النحل128).

فُجِعَتْ الحوزات العلمية الدينية اليوم بفقد أحد رجالها الذين حملوا رسالتها في العلم والعمل أكثر من خمسين عاماً وهو سماحة آية الله المرحوم الشيخ محمد مهدي الآصفي (أعلى الله درجته).

لقد حمل الفقيد راية الإصلاح في الحوزة العلمية والمجتمع منذ أوائل شبابه متأثرا بأفكار ومشاريع أُستاذه المجتهد المصلح المرحوم الشيخ محمد رضا المظفر (قدس الله سره)، وعكس تأثره هذا في كتاب أصدره بمناسبه وفاة أُستاذه المظفر عام 1963 بعنوان "مدرسة النجف وتطور الحركة الإصلاحية فيها" فلم يكن تعبيره عن مصابه بأُستاذه عاطفياً مؤقتاً، وإنما بتقديم أُطروحةٍ رائدةٍ في هذا المجال وهو في منتصف العشرينيات من عمره (مواليده عام 1939) وقد نصحتُ طلبةَ العلوم الدينية مراراً بالاستفادة منه.

كان (رحمه الله تعالى) متميزاَ في عطائه وسابقاً لأقرانِهِ، عندما أصدر والدي الشيخ موسى (رحمه الله تعالى) مجلة الإيمان في النجف عام 1383/ 1963 وخصّصَ العدد الأول لذكرى الإمام الصادق (علیه السلام) بمناسبة مرور ثلاثة عشر قرناً على ميلاده الميمون، لم تكُنْ مشاركة المرحوم الشيخ الآصفي تقليدية

ص: 314

وإنما كانت تأصيلية في بابها بعنوان (عوامل النمو في مدرسة الإمام الصادق (علیه السلام)) وهو أول ما لفت انتباهي الى كتابات هذا الرجل المبارك، وكان يساعد والدي (رحمهما الله تعالى) في مراجعة ما يُكْتَبْ في المجلة قبل نشرها.كرّسَ حياته للدعوة الى الله تبارك وتعالى ودينِهِ القويم والجهاد لإعلاء كلمته تبارك وتعالى وإقناع الامة بالمشروع الإسلامي وقيادته المباركة فكانت طلائع كتبه عن الإمامة وأسرار التشريع الإسلامي ودور الدين في حياة الإنسان، ورأى ضرورة المشاركة في العمل السياسي الحزبي لإقامة البديل الصالح وهو نظام الحكومة الإسلامية، ولنشاطه هذا فقد كان على رأس القائمة التي استهدفها جلادو البعث عند عودتهم الى السلطة في العراق عام 1968 فاضطر الى مغادرة العراق.

أقام في عدة دول إسلامية وسافر الى كثير من دول العالم يدعو الى الله تبارك وتعالى وإحياء مشروع الإسلام ووحدة المسلمين، ولا أنسى له شعوره بالصدمة عندما أُعيق تشريع قانون الأحوال الشخصية على الفقه الجعفري قبل اكثر من عام مما يدل على غيرته على الدين وشعوره بالمسؤولية.

وهو خلال ذلك لم يتخلَّ عن عطائه العلمي والفكري والحركي فكان يدرِّس البحث الخارج في المسائل الفقهية التي تُؤصّلُ لمشروع الإسلام في بناء الدولة والحكم، واستمر على إصدار الكراريس والكتب في مختلف العلوم والمعارف الإسلامية كالتفسير والعقائد والأخلاق وسيرة الأئمة المعصومين والسياسة والاجتماع حتى تعسّرَ ضبطها وعدُّها، وبقي رافداً مهماً ومعيناً صافياً ينهل منه أبناء الامة الإسلامية خصوصا الشباب.

ص: 315

عاد (رحمه الله) الى العراق بعد سقوط الصنم صدام عام 2003 وتفرّغ للعمل الإنساني والفكري ونشر تعاليم أهل البيت (علیهم السلام) بعد أن اعتزل العمل السياسي الحزبي قبل ذلك بسنين، لكنه واصل جهاده، ورغم كِبًر سنّهِ وتكاثر أمراضه إلا أن ذلك لم يعقه عن تفقد المجاهدين في ساحات القتال ضد الارهابيين والتكفيريين وأعداء الحضارة والإنسانية. وقد عرفتُهُ ضنيناً بدينه لم تخلُبْ لبّه بروق المطامع التي كان فيها مصارع الرجال، ولا أغرته البهارج الزائفة للعناوين الدينية والسياسية مع أنه كان أهلاً لها، لكنه (رحمه الله) زهد فيما رغب فيه الآخرون من حطام الدنيا وكان متواضعاً بسيطاً في معاشه وهو ما يعرفه عنه كل من عاشره، وكان كثير الصوم حتى في السفر ويصححه بالنذر، وأتذكر أني في أحدى الزيارات المتبادلة معه قدّمتُ له كتابي عن صوم المسافر من موسوعة فقه الخلاف فكان أول سؤال له عن تصحيح صوم رمضان بالنذر في السفر ولو رجاءاً.

فجزاه الله تعالى عن الإسلام وأهله خير جزاء المحسنين، وجعل ما قدّمه الفقيه الراحل صدقةً جاريةً ينتفع منه المؤمنون وأفرغ عليه من شآبيب رحمته، وأسأله تبارك وتعالى أن يعوّض الحوزة العلمية والامة الإسلامية بمن يقرن العلم النافع بالعمل الصالح ويهديه الى سبيل الرشاد

محمد اليعقوبي - النجف الاشرف

16/شعبان/1436 4/ 6/ 2015

ص: 316

خطاب المرحلة 457 :{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}

[الرعد : 11]

اَللهُمَّ اَصْلِحْ كُلَّ فاسِد مِنْ اُمُورِ الْمُسْلِمينَ(1)

من الأدعية المستحبة في كل يوم من شهر رمضان دعاء (اللهم أدخل على أهل القبور السرور) ويتضمن عدة فقرات جليلة، أحببت التوقف عند أحدها وهي (اللهم أصلح كل فاسد من أمور المسلمين)، ومن الواضح أن إصلاح الفساد لا يتحقق بمجرد ترديد هذه الكلمات وان كان في نفس قراءة الادعية ثواب وان الدعاء مخّ العبادة كما في بعض الاحاديث، لكن بعض المطالب تحتاج الى سعي كمن يريد الرزق الحلال لا يكفيه أن يردد: (اللهم ارزقني) بل عليه أن يسعى في مناكبها ويبتغي من فضل الله تعالى، ومن يريد الذرية الصالحة عليه أن يتخذ زوجة صالحة، وهكذا، الا اذا شاء الله شيئا بدون ذلك كولادة عيسى (ع) من غير أب.

فإصلاح الفساد في أحوال المسلمين وهكذا فقرات الأدعية لا بد لكل منها من سعي يناسبها [وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً] (الإسراء:19)، فكيف نصلح أحوال المسلمين الفاسدة التي لا

ص: 317


1- الخطبة الثانية لصلاة عيد الفطر السعيد يوم 18/ 7/ 2015

تسرّ الصديق ويشفق لها العدو، ولم تبق حرمة إلا انتهكت، وماذا علينا أن نفعل لتحقيق هذا الغرض؟.يجيب عن ذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله) في حديث رواه عنه الشيخ الصدوق في الخصال يحدد فيه سبب فساد أحوال المسلمين وصلاحهم، قال فيه: (صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل: يا رسول الله، ومن هما؟ قال (صلی الله علیه و آله): الفقهاء والأمراء)(1).

فالصلاح والفساد في أمور المسلمين يرجع إلى طريقة أداء هذين الصنفين وصفاتهم الذاتية، فنفس الجهة التي يأتي منها الفساد يأتي منها الصلاح؛ لذا قيل: (لا ينتشر الهدى إلا من حيث انتشر الضلال) أي علينا أن نشخّص الجهة المسؤولة عن الفساد فتبدأ عملية الصلاح من هذه الجهة، فمثلاً التكفير وما تتبعه من القتل الوحشي والتدمير الشامل بدأ من فتاوى علماء التكفير فإذا أرادوا محاربة الجماعات الإرهابية التكفيرية حقيقة فعليهم أن يبدأوا بهؤلاء المشرّعين لفتاوى التكفير فيصلحون عقولهم ويطهرون قلوبهم من اغلال التعصب والحقد والانانية ويعيدوا تقييم تأريخهم والاشخاص الذين يقدسونهم ممن أسسوا لهذه الثقافة، وستتغير الأمور عندما يلتفتون الى القيادة الصالحة الحقّة التي ربّت الامة على رفض التكفير، روي عن الامام علي (علیه السلام) انه سئل عن الذين خرجوا على إمامته الحقّة وقاتلوه: (أمشركون هم ؟ قال : من الشرك فرّوا ، فقالوا : أفمنافقون ؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً قيل : فما هم يا أمير

ص: 318


1- الخصال للشيخ الصدوق: باب الاثنين، ح12.

ألمؤمنين ؟ قال : إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم ببغيهم علينا) (1) مشيراً الى الآية الكريمة (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) (الحجرات9).كما أن هذه الكلمة (لا ينتشر الهدى الا من حيث انتشر الضلال) يمكن فهمها على أساس الأدوات أي أن نفس الأداة التي سببت الفساد كالتلفزيون أو القوانين الظالمة المخالفة للشريعة أو مناهج التعليم علينا أن نصلحها لتساهم في صلاح الامة.

ويمكن ان نفهم هذه الكلمة على اساس الحالات والاوضاع التي انتجت الفساد فنعالجها كالفقر او الجهل او التخلف او العصبية، أو الاستبداد السياسي أو الانهيار الاقتصادي أو عدم الامن والاستقرار فاذا اريد نشر الهدى والصلاح فلا بد من اصلاح هذه الاوضاع والبيئة المنتجة، قال تعالى: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) (قريش3-4).

ومحل الشاهد أن صلاح الأمة يكون بصلاح هذين الصنفين كما أن فسادها بفسادهما.

أما الصنف الأول فقد بيّنَتْ الروايات أن فساد العلماء لا يتمظهر بشرب الخمر وممارسة الزنا ونحو ذلك فانهم لا يفعلون ذلك حفاظاً على مكانتهم الاجتماعية وإنما بحبهم الدنيا والتملق لأهلها والصراع على الجاه والزعامة ومجاملة اهل الباطل وكتمان الحق والبغي والحسد والتكبر والتعالي وتغليب انانياتهم والتخلي عن مسؤولياتهم في اقامة الدين والامر بالمعروف والنهي عن المنكر (لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ

ص: 319


1- البداية والنهاية : 7/ 300

مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) (المائدة63) وعدم الانفتاح على الناس والاستماع الى همومهم وقضاء حوائجهم ومساعدتهم وانصافهم فيما لهم وما عليهم، روى الإمام الصادق (علیه السلام) عن امير المؤمنين (علیه السلام) قوله من حديث (اعرفوا.. اولي الامر بالأمر بالمعروف والعدل الاحسان) (1) فاذا تخلى العلماء عن مسؤولياتهم اصبحت الامة خاوية روحياً وميته معنوياً وفاقدة البصيرة والرشد يتلاعب بها الاشرار، وتوجد شواهد كثيرة من التاريخ لفساد تسبّب فيه العلماء، فالإمام الحسين (علیه السلام) قتل بفتوى شريح القاضي الذي افتى بجواز محاربة الامام (ع) لانه خرج على ولي الامر، والامام الجواد (علیه السلام) قتل بتحريض من قاضي قضاة الدولة العباسية ابن ابي داوود للمعتصم بعد اخذه برأي الامام (ع) في قطع يد السارق.أما الصنف الثاني، فمما لا يحتاج إلى بيان دور الزعامات السياسية في فساد البلاد من خلال الاستئثار بالمال العام واعتبار ما يقع تحت يده غنيمة، وهدره في امور عبثية ومشاريع وهمية وتغليب المصالح الشخصية على المصالح العامة وسوء التخطيط والإدارة بالاعتماد على ناس غير مؤهلين وانشغال البلاد والعباد بصراعاتهم السياسية، وإن كل الكوارث التي حلت بالبلاد هي نتيجة هذه الصراعات على المغانم والامتيازات حتى وإن ألبست بعناوين دينية أحياناً.

وهؤلاء الحكام لم يصلوا إلى مواقعهم إلا بدعم وتأييد جمع من الناس سواء من خلال الإدلاء بأصواتهم لهم في الانتخابات أو بنصرتهم وتمكينهم من السلطة في الانقلابات العسكرية وإدامة حكمهم وسلطتهم، او بأي نحو وصلوا

ص: 320


1- اصول الكافي: كتاب التوحيد: 51 باب انه لا يُعرف الا به، توحيد الصدوق: 286

به الى السلطة ولو تخلّى الناس عنهم والتفوا حول الصالحين الأكفاء لما وصل حال المسلمين إلى هذه الدرجة التعيسة، روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) قوله: (لولا أن بني أمية وجدوا لهم من يكتب ويجبي لهم الفيء ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم لما سلبونا حقنا، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلا ما وقع في أيديهم)(1).فهذه هي المسؤولية المباشرة المنظورة التي يتحملها الناس إزاء هذا السبب من الصلاح والفساد، لكن الروايات دلّت على ان بعض الذنوب والتقصيرات هي العلل الحقيقية لتسلّط الأشرار والفاسدين والظالمين، فنبّهنا المعصومون (علیهم السلام) لها حتى نمنع أصل تسلّطهم وتسلّمهم الحكم، ولا نصل إلى مرحلة تمكنهم من الحكم والسلطة ثم نفكّر في كيفية إصلاح الحال، أي أن الإصلاح يكون على طريقة (الوقاية خير من العلاج)، وازالة الاسباب من أصلها.

ومن تلك الذنوب والتقصيرات المسبّبة لتسلط الاشرار والفاسدين:-

1-ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد روي في الكافي والتهذيب عن الإمام الرضا (علیه السلام) قال: (لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهنَّ عن المنكر، أو ليستعملن عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم)(2).

وروى الشيخ المفيد في المقنعة والطوسي في التهذيب عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: (لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر

ص: 321


1- وسائل الشيعة: كتاب التجارة/ ابواب ما يتكسب به/ باب 47، ح1.
2- وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 1، ح4، 18.

والتقوى، فإذا لم يفعلوا ذلك انتزعت منهم البركات وسلط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء).2-عدم الاستفادة من توجيهات العلماء العاملين: روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال: (سيأتي زمان على الناس يفرّون من العلماء كما يفرّ الغنم من الذئب، فإذا كان ذلك ابتلاهم الله بثلاثة أشياء: الأول يرفع البركة من أموالهم والثاني سلّط الله عليهم سلطاناً جائراً والثالث يخرجون من الدنيا بلا إيمان)(1).

3-إفراغ الدين من مضمونه الحقيقي والاكتفاء بالشكليات الظاهرية منه، وتخلّي علماء الدين والربانيين عن مسؤولياتهم الحقيقية وهذا شكل من اشكال فساد العلماء الذي يؤدي الى فساد الأمة ، في حديث عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: (سيأتي على أمتي زمان لا يعرفون العلماء إلا بثوب حسن ولا يعرفون القرآن إلا بصوت حسن، ولا يعبدون الله إلا في شهر رمضان، فإذا كان كذلك سلّط الله عليهم سلطاناً لا علم له ولا حكم له ولا رحم له)(2).

أذن فتردي أخلاق الامة وضعف همتها وانحدار مستوى الوعي لديها سبب لتصدي هذين الصنفين الفاسدين، وفسادهما يؤدي الى مزيد من الفساد في احوال الامة .

لذا اشتهرت الكلمة المعروفة (كيفما تكونون يولى عليكم)، فصلاح احوال المسلمين يبدأ من اصلاح انفسهم وتمسكهم بدينهم وزيادة وعيهم في اختيار قياداتهم الدينية والسياسية وحينئذٍ تنصلح امورهم وتتغيرا احوالهم نحو الافضل بأذن الله تعالى

ص: 322


1- بحار الأنوار: 22/ 454 عن جامع الأخبار: 125-126، ف 22.
2- بحار الأنوار: 22/ 454 عن جامع الأخبار: 125-126، ف 88.

خطاب المرحلة 458 :إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا إباحة زواج المثليين نموذجاً

خطاب المرحلة 458 :إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا(1) إباحة زواج المثليين نموذجاً

نشرت قناة بي بي سي على صفحتها(2) تقريراً لمحرّرها لشؤون الصحة جاء فيه ((مع التقدم في العمر يصبح الحيوان المنوي أكثر عرضة للأخطاء الوراثية بشكل يزيد من خطر الاصابة بالتوحّد والانفصام وغيرها من الأمراض)) ونقل ذلك عن كيفن سميث الاستاذ بجامعة ابرتاي في دندي في المملكة المتحدة وقال: ((إن الزيادة الطفيفة في خطر الاصابة بالأمراض له تأثير كبير على مستوى الامة بكاملها وأنه يجب أن يثير الأمر قلقنا على نطاق المجتمع، فالتأثير حقيقي وواضح ويجب أخذ سن الابوّة بشكل أكثر جدية، وتأثيره على الجيل القادم من الأطفال)).

عندما اطلعتُ على هذا الخبر إنقدحت في ذهني عدة امور:

1-عظمة تشريعات الإسلام والأسرار الكامنة فيها إذ يكشف هذا الخبر عن جانب من الحكمة في الحث على الزواج المبكر لتحصيل إنجاب سليم قوي

ص: 323


1- حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع حشد كبير من الزوار الذين وفدوا لتعزية سماحته بمناسبة ذكرى استشهاد امير المؤمنين (عليه السلام) مساء يوم الاربعاء 21 رمضان 1436 المصادف 8/ 7/ 2015
2- بتاريخ: 25/ 6/ 2015 – 8 رمضان/1436

مضافاً الى المصالح الاخرى كتحصين النفس والاستقرار ورفع مستوى الوعي بالمسؤولية وتحصيل المُعين على الدنيا والاخرة ونحو ذلك، ورد عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما بُنِيَ في الإسلام أحبُّ الى الله عز وجل من التزويج) (1) فالمساهمة في بناء الزوجية أحبّ الى الله تعالى من سائر مشاريع البناء الاخرى حتى المساجد، لأنه مشروع دائم العطاء والتوسّع جيلاً بعد جيل حتى يأتي عصر الظهور وإذا بك تقدَم الآلاف لنصرة الإمام (علیه السلام) ببركة ذلك الزواج. فلا يقصّر أحد في تشجيع مشاريع الزواج وتيسير امورها والإنفاق عليها من الحقوق الشرعية وغيرها.2-حماقة الغرب وضحالة تفكيره بالرغم مما يظهر من جبروت علمي وتكنولوجي، فماذا طرح من حل ليتجنب هذا الاحتمال في ضعف الانجاب وإصابته بالأمراض إذا تأخر الزواج بدل أن يستجيب لنداء الفطرة والدين ويدعو الى الزواج والإنجاب المبكرين، نقل التقرير عن عالم الأحياء المذكور ((إن الشباب في سن 18 يجب أن يجمّدوا حيواناتهم المنوية ويستخدموها لاحقاً، لتجنب مخاطر الإنجاب في الكبر)) وقال: ((إن بنوك الحيوانات المنوية يجب أن تكون متوفرة))، والغريب أن ينشر هذا المقترح في دورية اسمها "الأخلاق الطبية"، فأي أخلاق هذه التي يدعون اليها؟.

وخير تعليق على هذا المقترح ما نقله التقرير عن ألن باسي استاذ أمراض الذكورة في جامعة شيفيلد بقوله ((هذه واحدة من أسخف الاقتراحات التي سمعتها منذ وقت طويل)) ووجه استخفافه:

ص: 324


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، ابواب مقدماته، باب 1 ح 4

أ-((لأن الحيوانات المنوية لمعظم الرجال لا تتجمد بشكل جيد وهو أحد أسباب قلة المتبرعين بالحيوانات المنوية، لذا فمن يجمد حيواناته المنوية في سن ال- 18 ويعود ليستخدمها لاحقاً سيتطلب من زوجته الخضوع لعملية تلقيح صناعي أو أكثر)).ب-الكلفة الاقتصادية حيث قدرت اجرة حفظ الحيوانات المنوية ب- 150 – 200 جنيه استرليني في العام.

ج-ما نقله عن الاستاذ آدم بالين رئيس الجمعية البريطانية للخصوبة من أن خصوبة الحيوانات المنوية المجمّدة أقل من الجديدة مما يعني الاعتماد على التلقيح الصناعي، أي أنه يجعل من الإنجاب عملية اصطناعية مما يعطي إحساساً كاذبا بالأمان إذ أن التكنولوجيا لا تضمن إنجاب طفل.

3- وتذكرت منقبة لأمير المؤمنين (علیه السلام) فيها سبْقٌ علميٌ له (ع) وهو باب مدينة علم رسول الله (صلی الله علیه و آله) والمنقبة ترتبط بهذا الاكتشاف العلمي فقد روى الإمام الصادق (علیه السلام) قال (أتى عمر بامرأة تزوجها شيخ ، فلما أن واقعها مات على بطنها، فجاءت بولد فادّعى بنوه أنها فجرت ، وتشاهدوا عليها ، فأمر بها عمر أن تُرجم ، فمر بها علي (علیه السلام) فقالت : يا بن عم رسول الله إن لي حجة. قال: هاتي حجتك ، فدفعت إليه كتابا فقرأه، فقال : هذه المرأة تعلمكم بيوم تزوجها، ويوم واقعها، وكيف كان جماعه لها)، ثم أمر (ع) بإرجاع المرأة وعدم معاقبتها. (فلما أن كان من الغد دعا بصبيان أتراب ودعا بالصبي معهم، فقال لهم : العبوا حتى إذا ألهاهم اللعب قال لهم: اجلسوا، حتى إذا تمكنوا صاح بهم، فقام الصبيان وقام الغلام فاتكأ على راحتيه، فدعا به علي

ص: 325

(ع) وورّثه من أبيه وجلد إخوته المفترين حداً حداً. فقال له عمر : كيف صنعت؟ قال (علیه السلام) : عرفت ضعف الشيخ في اتكاء الغلام على راحتيه) (1).هذا هو الإسلام في سمو تشريعاته وعظمةِ أئمتهِ وقادتهِ ويدرك أعداؤه ذلك ويدركون النعمة العظيمة التي يتنّعم بها المسلمون ويعلمون تفاهتهم وحماقتهم وجاهليتهم وان حاولوا تلميع صورتهم بالنفخ والتهريج للتقدم التقني فلذلك ما انفكوا عن الكيد للإسلام والمسلمين وشن الحروب عليهم ليسلبوهم هذه النعمة العظيمة قال تعالى: (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ) (البقرة 217) تارة بالحروب العسكرية واخرى بالتشويه والتسقيط والاستهزاء والخداع واخرى بنشر الفساد والانحراف واخرى بصنع نماذج منفّرة مقزّزة تسمّى بالإسلام مثل داعش والقاعدة ليستحي المسلمون من التحدث بالإسلام كل ذلك للضغط على المسلمين حتى يتخلوا عن نعمة الإسلام العظيمة حسداً لكم، والحسد تمنّي زوال نعمة من مستحق لها، وربما من كان مع سعي في إزالتها وقال تعالى (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم) (البقرة 109) وقال تعالى (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ) (النساء 54) والفضل هو الإسلام والقرآن والنبي واله المعصومون (علیهم السلام) وبركاتهم الكثيرة.

وربما سمعتم بآخر مظاهر انحطاطهم وهو إصدار المحكمة العليا في الولايات المتحدة حكماً يوم الجمعة 26/ 6/ 2015 يقضي بمنح الحق للمثليين جنسياً في كافة

ص: 326


1- الكافي : 7 / 424 / 7 ، تهذيب الأحكام : 6 / 306 / 850 كلاهما عن أبي الصباح الكناني ، من لا يحضره الفقيه : 3 / 24 / 3254 عن الأصبغ بن نباتة ، المناقب لابن شهر آشوب : 2 / 369 كلاهما من دون إسناد إلى المعصوم.

الولايات المتحدة، وهو الحكم الذي وصفه رئيسهم اوباما بأنه انتصارٌ لأمريكا وانتصارٌ للحب. وتدّعي امريكا انها القوة العظمى في العالم وان باستطاعتها الهيمنة عليه وقيادته ويوجد عدد كبير من المنبهرين بالقوة الامريكية المقتفين لآثارها، لذا احتفل الملايين في عدة دول بهذا الانتصار.أرأيتهم كيف يتبجحون بما تستنكف حتى الحيوانات الهمجية عن فعله وممارسته ناهيك عن منافاته للفطرة الإنسانية والغريزة المودعة؛ فهبطوا الى ما دون البهيمية وعادوا الى الجاهلية الرعناء (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (النمل 55) فكانوا مصداقاً لقوله تعالى (إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (الفرقان 44) متذرّعين بالحرية وهي حقٌ مقدّس منحه الله تعالى لعباده لكنها لا تعني الفوضى العارمة في اتباع الشهوات والخروج عن القوانين العقلائية. فشوّهوا بسلوكهم الشائن هذا العنوان الجميل، وهل من الحرية أن يُترك المصاب بمرض فتاك معدي يتحرك في المجتمع كيف يشاء ويلوّث الآخرين ويصيبهم بمرضه، أم يُحْجَرْ عليه ويُعالج حتى يشفى، علماً أن الأمراض الأخلاقية والاجتماعية أشد فتكاً من الأمراض الجسدية.

إن هذا القرار عارٌ على من أصدره ومن رضي به ومن أيده بسكوته عن استنكاره، وإننا لنشعر بالحياء والخجل أمام خالقنا العظيم ونحن نرى جملة من المحسوبين علينا نحن البشر يتجرأون على حدوده بهذا الانتهاك الفظيع، ونسبّح ربنا وننزهه عما يفعل الظالمون.

ص: 327

فتمسكوا بإسلامكم أيها الأحبة وحافظوا على التزامكم وارفعوا رؤوسكم شامخين واشكروا الله تعالى على ما هداكم اليه.

ص: 328

خطاب المرحلة 459 :(كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء)

خطاب المرحلة 459 :(كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء)(1)

(يوسف24)

درس من عفاف النبي يوسف (عليه السلام)

قصة النبي الكريم يوسف الصدّيق (ع) معروفة لديكم بما تناوله القرآن الكريم ومنها قوله تعالى (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (يوسف24) تعقيباً على إنقاذه من مكائد زوجة عزيز مصر، والفحشاء يُراد بها جريمة الزنا، أما السوء فقيل أن المراد به الهم بالمعصية والعزم عليها قبل فعلها.

وجاء هذا الصرف استجابة لدعائه الذي ذُكِرَ في موضوع آخر (وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (يوسف33-34).

والتعبير الاعتيادي عن هذه الحالة أن يقال (لنصرفه عن السوءِ والفحشاءِ) لأن ظروف المعصية والجريمة كانت موجودة وليست مصروفة ولكن الله تعالى صرفه عن هذه المعصية وعصمه من الوقوع فيها، وهذه العصمة من التسديدات

ص: 329


1- كلمة سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع جمع كبير من طلبة الجامعات الذين يقضون العشر الاواخر من شهر رمضان في النجف الاشرف عندما زارهم الى مقر اقامتهم يوم الاثنين 26/رمضان/1436 المصادف 13/ 7/ 2015

الالهية والنعم العظيمة. لكن القرآن الكريم وصف حالاً أسمى من هذه فقال تعالى (لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء) أي صرفنا عنه أجواء المعصية ومقدماتها وموجباتها فكأنه لم يتعرض لظروف معصية أصلاً حتى يجتنبها، لأنه يعيش في عالم آخر وفي أجواء اخرى غير عالم المعصية هذا الذي يرى في الظاهر وإنما وصفناها بأنها حالة أسمى لأنها ليست فيها تعرض للمعصية أصلاً ولا فيها تكلّف اجتنابها وصرفه عنها حيث لا يجد الانسان فيها شيئاً سيئاً حتى يجتنبه.

وهذا الالغاء التام للتأثر بالحدث كأنه ليس ممكناً وغير قابل للتصور خصوصاً في مثل الحالة التي تعرض لها النبي يوسف (علیه السلام) (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لك) (يوسف23) ولذا لم يجد بعض المفسرين ممن يعتقد بعصمة النبي يوسف (علیه السلام) ضيراً من تفسير الهم بقوله تعالى (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) (يوسف24) بالميل النفسي الغريزي الطبيعي(1) لمن يتعرض لمثل هذه المواقف أي أن غريزته

ص: 330


1- حكى هذا الرأي عن كثيرين كالسيد المرتضى في (تنزيه الانبياء/78) قال "وأما همّه فما طبع عليه الرجال من شهوة النساء" وتبعه على ذلك الشيخ الطوسي (قدس سره) فإنه ذكر للهم عدّة معاني منها العزم ومنها الإخطار ومنها الشهوة وميل الطباع" ثم قال "وإذا احتمل الهم هذه الوجوه نفينا عنه (عليه السلام) العزم على القبيح وأجزنا باقي الوجوه لأن كل واحد منها يليق بحاله (التبيان 6/ 121)" وقال مثله ابن إدريس في (منتخب التبيان:2/ 22-23) وقال الطبرسي في (مجمع البيان: ج5-6/ 354): "ثالثها أن معنى قوله (همّ بها) اشتهاها ومال طبعه الى ما دعته اليه" ثم قال "وقد يجوز أن تسمى الشهوة هماً على سبيل التوسع والمجاز ولا قبح في الشهوة لأنها من فعل الله تعالى" وقال به آخرون ومنهم العلامة المجلسي (قدس سره) قال من ضمن كلام له "فالهم عبارة

اشتهت وانجذبت باعتبار أن الأنبياء بشر(1) لهم غرائزهم وشهواتهم وميولهم فتنجذب نفسياً طبيعياً ولا إرادياً الى مثيرات الغريزة كانجذاب الجائع الى الطعام تلقائياً، ولكنه (علیه السلام) حبس نفسه وامتنع ولم يرتقِ ميله النفسي الى مستوى العزم والتوجه الى الفعل فضلاً عن القيام بالفعل نفسه لما رآه من برهان ربه كما في الآية الشريفة، وتفسير الهّم بهذا المقدار لاينافي العصمة .

ص: 331


1- قال تعالى (قل إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إلي) (الكهف110) (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ) (إبراهيم11)

لكن هذا التفسير غير صحيح، لوجوه: 1-لأن الهم لا يطلق على مجرد الميل النفسي الطبيعي بل على قصد الفعل والعزم عليه وقد يشترط فيه ظهور هذا العزم من خلال الإتيان بشيء مما يكشف عنه كمن يهمّ بالضرب فيتوجه الى الطرف الآخر ويتأهب للفعل وهذه كلها لا يمكن نسبتها الى النبي الكريم يوسف (علیه السلام) كما اقروا في كلماتهم السابقة قال في الميزان ((الهم هو القصد الى الفعل مع مقارنته لبعض الأعمال الكاشفة عن ذلك من حركة الى الفعل المراد أو شروع في بعض مقدماته كمن يريد ضرب رجل فيقوم اليه وأما مجرد ميل الطبع ومنازعة القوة الشهوانية فليس يسمى هماً البتة والهم بمعناه اللغوي مذموم لا ينبغي صدوره من نبي كريم، والطبع وإن كان غير مذموم لخروجه عن تحت التكليف لكنه لا يسمى هماً)) ، فلا بد ان تكون المعاني التي ذكروها للهم هنا من باب التجوّز كما اعترف الطبرسي في مجمع البيان لتنزيه النبي يوسف (علیه السلام) عما لا يليق بساحة عصمته.

وبتعبير آخر ان تفسير الهم بالميل الطبيعي وهو معنى مغاير لما فسرّوا به همها خلاف الظاهر ولا يصار اليه الا بدليل

2-إن الهم –بأي معنى من المعاني- لم يصدر من النبي يوسف (علیه السلام) أصلاً حتى نجتهد في تفسيره بما يناسب عصمة الانبياء، لانه رأى برهان ربّه فلم يهمّ لكن جواب لولا تقدم عليها فيوجد تقديم وتأخير في الآية، نظير قوله تعالى (إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا) (القصص10) .

وقد أشكل علماء النحو على هذا الوجه لأنهم يمنعون من تقدم جزاء لولا

ص: 332

عليها قياساً على إن الشرطية لانها من ادوات الشرط، وهذا الالتزام المتزمت بقواعد النحو التي استنبطوها اوقعهم في هذا التقصير مضافا الى تشبث البعض في الروايات المكذوبة من اسرائيليات وغيرها، لكن القران الكريم حاكم على قواعد اللغة العربية لانه مصدرها ومرشدها وليس العكس، خصوصا وانه قد وردت رواية عن الإمام الرضا (علیه السلام) تفسّر الآية بهذا المعنى رواها الشيخ الصدوق في العيون وفيها (فقال له المأمون: يا بن رسول الله اليس من قولك: ان الانبياء معصومون، قال: بلى، قال: فاخبرني عن قول الله تعالى (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) فقال الرضا (علیه السلام): لقد همّت به ولولا ان رأى برهان ربه لهمََّ بها لكنه كان معصوماً، والمعصوم لا يهمّ بذنب ولا يأتيه) (1).أقول: والشاهد على ان الهم الثاني لم يحصل(2) وانه جواب لولا:

أ-الاتيان بالهمين منفصلين ليكون الثاني وحده جواب لولا ، ولو حصل الهم من يوسف لما احتاج الى التفصيل بينهما، ونكتة تقديم الجزاء هي ما قلناه من تصوير الحالة بان مقتضي الهم تام ومكتمل لولا لطف الله تعالى مع ما في التعبير من حلاوة البيان لمجاورة الهمّين

ب-ان (هّم بها) اذا لم تكن جواب لولا بقيت بلا جواب، واذا قيل ان الجواب مقدّر يكشف عنه ما تقدّم قلنا ان التقدير خلاف الاصل وان تقدير الجواب هكذا يؤدي الى تناقض لان(هّم بها) السابقة تثبت الهم وتقديرها في

ص: 333


1- عيون اخبار الرضا: باب مجلس آخر للرضا (عليه السلام) عند المأمون في عصمة الانبياء.
2- وقد اعترفت زوجة العزيز بأن الهم حصل منها وحدّها (وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ) يوسف32

جواب لولا ينفيه. لذا فمحاولة السيد الطباطبائي (قدس سره) وغيره المحافظة على معنى نفي الهم عن الصديق يوسف (علیه السلام) مع المحافظة على هذه القاعدة النحوية بأن يُقال أن جواب لولا متأخر عنها لكنه محذوف لدلالة قوله السابق (وهمََّ بها) عليها فتكون الفقرة السابقة (وهمّ بها) ((ليس جزاء لها بل هو مقسم (1) به بالعطف على مدخول لام القسم في الجملة السابقة اعني قوله (ولقد همت به) وهو في معنى الجزاء استغنى به عن ذكر الجزاء فهو كقولنا ((والله لأضربنه إن يضربني، والمعنى: والله إن يضربني أضربه))، فلولا ما رآه من البرهان لكان الواقع هو الهم والاقتراب دون الارتكاب والاقتراف)) (2). محل نظر، مضافا الى ان فيه إقراراً بحصول الهم من يوسف بأي معنى كان والمفروض نفيه. 3.وينسجم ما ذكرناه من فهم الآية على انها تقديم وتأخير مع ما قدمناه من تفسير الآية فإنه حتى الميل النفسي بالمقدار الطبيعي الغريزي لم يحصل لا لنقص بايولوجي أو سايكولوجي أو فسيولوجي في جسمه وإنما لأمرين على الأقل:

أ-لأنه كان والهاً بربه مستغرقاً بحبه ولم يكن يرى غيره تبارك وتعالى لا المرأة أمامه ولا غيرها فذوبان النبي يوسف في عشق ربه وفناءه فيه لا يقارن بانجذاب النسوة الى جمال يوسف حتى ذهلن عن السكين وقطع ايديهن، فيوسف اولى بالذهول عن المرأة وغيرها بحيث أنساه ولهه ((الاسباب كلها

ص: 334


1- باعتبار أن اللام للقسم فالمعنى أقسم لقد همت به لقضاء وطرها.
2- الميزان في تفسير القران: 11/ 131 وقد نقل في 11/ 138 هذا المعنى عن الزمخشري في كشافه.

حتى أنساه نفسه فلم يقل: إني أعوذ منك بالله أو ما يؤدي معناه، إنما قال (مَعَاذَ اللّهِ) وكم من الفرق بين قوله هذا وبين قول مريم للروح لما تمثل لها بشراً سوياً (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً) (مريم18))) (1).وقد ((استغرق في حب ربه واخلص وصفى ذلك نفسه فلم يترك لشيء في قلبه محلاً غير حبيبه فهو في خلوة مع ربه وحضرة منه يشاهد فيها جماله وجلاله وقد طارت الاسباب الكونية على مالها من ظاهر التأثير من نظره)) (2)

ب-إن الغرائز والشهوات يستثيرها تزيين الشيطان –وهذه هي وظيفته- وعندما تُسلَبْ قدرة الشيطان على التزيين فإن هذه الشهوات تفقد سبباً رئيسياً لإثارتها مع وجودها في النفس الانسانية، وقد اعترف الشيطان بأنه لا سبيل له على المخلصين وليست له القدرة على إغوائهم فقد حكى الله تبارك وتعالى قوله (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (ص82-83) وقد قال الله تعالى في الآية محل البحث عن النبي يوسف (علیه السلام) (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (يوسف24) فهو من مأمن من تزيين ابليس وشياطينه، ولا تتحرك غريزته وشهوته نحو الحرام لعدم وجود التزيين.

مضافا الى وجود الصوارف عنها – وهو برهان ربه - كما ان الجائع لا يشتهي الطعام عند وجود صوارف كالخوف والقلق والانشغال بمن يحب ونحو ذلك، فالغرائز فيها مقتضي التحرك نحو ما يلبي شهوتها الا أن ذلك مشروط بوجود المقتضي وهو التزيين وبعدم وجود الصارف وكلا الشرطين مفقودان

ص: 335


1- الميزان في تفسير القران. 11/ 126
2- الميزان في تفسير القران: 11/ 125

هنا.أما كيفية حصول هذه الحصانة من ضغط الشهوات والمغريات وتحرره من أسرها والسقوط في هاويتها وعدم تأثره بمثيراتها أصلاً فبالالتفات الى امور صرّح بها الصديق يوسف (علیه السلام) (قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (يوسف23)، وقد كانت مكتملة عنده لأنه نبي معصوم ولذا ورد في الحديث الشريف (إن برهان ربه كانت النبوّة) (1)

أ-الاعتقاد اليقيني بانه في محضر الله تبارك وتعالى والاستعاذة به واللجوء الى حصنه المنيع فالإنسان بمفرده عاجز عن تجاوز الامتحانات السهلة فضلاً عن الصعبة لكنه يستمد التسديد والمعونة والعصمة من الله تالى (لا حول ولا قوة الا بالله). وفي دعاء الصباح لامير المؤمنين (علیه السلام) (وَاِنْ خَذَلَني نَصْرُكَ عِنْدَ مُحارَبَةِ النَّفْسِ وَالشَّيْطانِ فَقَدْ وَكَلَني خِذْلانُكَ اِلى حَيْثُ النَّصَبُ وَالْحِرْمانُ)

ب-يقينه أنه مربوب أي مملوك مدبر من قبل الله سبحانه لا يملك لنفسه شيئا الا ما يريده ربه منه ((فلم يقل: لا أفعل ما تأمرونني به ولم يقل: لا أرتكب كذا، ولم يقل: أعوذ بالله منك وما شابه ذلك حذرا من دعوى الحول والقوة واشفاقا من وسمة الشرك والجهالة)) (2)

ج-الالتفات الى نعم الله العظيمة التي لا تُعد ولا تُحصى ورعايته وتربيته الرحيمة المستمرة (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) (يوسف23) منذ أن ولد وعاش في كنف أبيه النبي يعقوب (ع) وجعله من ذرية إبراهيم وإسحاق ونجاته من

ص: 336


1- بحار الانوار: 12/ 335
2- الميزان: 11/ 127

كيد إخوته الباغين الحاسدين ومن الجب ونقله الى مصر وتمكينه في بيت عزيز مصر وآتاه الله العلم والحكمة وغيرها مما لا يُعد ولا يُحصى ((فكان (ع) مملوء الحس مستغرق النفس في مشاهدة الطاف ربه الخفية يرى نفسه تحت ولاية الله محبوراً بصنائعه الجميلة لا يرد الا على خير، ولا يواجه الا جميلا)) (1).د-استحضار سوء عاقبة مرتكب المعصية في الدنيا والآخرة (إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)، وفي هذا الفعل ظلم لربه وظلم لنفسه وظلم لعزيز مصر الذي اكرمه.

فهذه الامور التي كانت حاضرة في وجدان النبي يوسف (علیه السلام) وجلية في قلبه الطاهر هي برهان ربه الذي أشرق في نفسه بكل وضوح وجلاء –والبرهان من َبرِه يَبرَه إذا ابيضّ دون مخالطة أي كدورة فأطلق على كل دليل محكم قوي يدل بوضوح على المطلوب- فلم تتطلع نفسه الى المعصية ولم تمل اليها فضلاً عن الوقوع بها (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) فلولا أنه كان واجداً لبرهان ربه لصدر منه الهمّ بالمعصية والميل اليها باعتبار الظروف القاهرة في تلك الحال، فهنا تقدم جواب لولا على شرطها لنكتة مجاورة التعبير بالهم او للإشارة الى ان ظروف الوقوع في المعصية قد اكتملت بقوة، وتقديرها لولا انه رأى برهان ربه لهم بها، ولكنه (علیه السلام) كان يعتقد أنه في محضر ربه في أعلى درجات اليقين فلم يهمّ أصلاً، وقد تقدمت الرواية عن الامام الرضا (علیه السلام) في هذا المعنى.

فمع هذا الحضور الجليّ اليقيني الذي عبّر عن مثله امير المؤمنين (علیه السلام)

ص: 337


1- الميزان: 11/ 123

بقوله (ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت الله قبله وبعده ومعه وفيه) (1) كيف يتصور هم يوسف بأي معنى للهم حتى النزوع الغريزي الطبيعي لأنه يحتاج الى ظروف طبيعية ليتوجه ولعدم وجود موانع وصوارف.والسؤال هل يتمكن غير المعصوم من الوصول الى هذه الدرجة من الحصانة والعناية الالهية التي احاطت النبي يوسف (علیه السلام)، والجواب: نعم بالتأكيد من خلال الالتفات الى الامور المتقدمة، قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) (الأعراف201) فالان عرفنا ما معنى (تذكروا) اي التفتوا الى هذه الامور التي ذكرها الله تعالى ليوسف (علیه السلام) وهذا هو مضمون البرهان الذي راه من ربه، قال تعالى مبيناً انفتاح الفرصة للجميع (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (النحل99). فالمؤمن المخلص يتذكر ربَّه المنعم عليه دائماً ويعيش في حضرته المتعالية ويعلم العاقبة السيئة لمن يبتعد عنه تبارك وتعالى، وحينئذٍ يدركه هذا البرهان ويعينه عند التعرّض للامتحانات وانما يتحصل ذلك البرهان بالازدياد من الطاعات التي تنفعه في لحظات الامتحان الصعبة، كمن يدّخر المال ليوم فقره وفاقته، قال تعالى {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً}الأنفال29

والتجربة شاهدة على ذلك حيث يحكي البعض عن تعرضه لمثل هذه الاغراءات والمكائد لكنه لا يجد في نفسه أي حركة في اتجاهها أو أي (همّ) لفعلها لا لنقص في قواه البدنية والشهوية وإنما لأن الشيطان كان مغلولاً عنه فلم

ص: 338


1- تفسير مواهب الواهب 2: 36. وكذا في كتاب علم اليقين: 1/ 49.

يزيّن له المعصية، والنفس وحدها من دون تزيين لا تتوجه نحو الفعل.ولكي اوضح مدخلية التزيين اشير الى حالة معروفة لدى الكثيرين، مثلاً رجل عنده زوجة ولا يشعر بإثارة نحوها وقد يكون في بداية زواجه منها، لكنه يقع في هوى امرأة أجنبية اخرى وهو يعترف بأن زوجته قد تكون أجمل والطف وأرق مشاعر ومتحببة ومتوددة اليه ونحو ذلك، فلماذا هذا التناقض في الميول؟ والجواب انه تزيين الشيطان للثانية دون الاولى لأنه يريد أن يوقع الانسان في المعصية ويخرّب بيت الزوجية المبارك الذي ما بُني بناء في الاسلام مثله.

ولا بد أن نشير الى أن هذا الالتفات الاعتقادي القلبي وحده لا يكفي ما لم يقترن بالعمل قال تعالى مبينا علة استحقاق يوسف (علیه السلام) لهذه المراتب السامية (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (يوسف22) وقال تعالى على نحو القاعدة العامة، ولا تختص بالمعصومين (إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) (النحل128).

ص: 339

خطاب المرحلة 460 :إدامة الحالة المعنوية لشهر رمضان

خطاب المرحلة 460 :إدامة الحالة المعنوية لشهر رمضان(1)

ينتاب المؤمن في نهاية شهر رمضان شعور بالأسى والحزن لفراق هذا الشهر الكريم والفيوضات الإلهية التي تقترن به وقد عبرّت عن هذا الحزن أدعية وداع شهر رمضان، وهذا الشعور له ما يبرّره، لأن شهر رمضان من أعظم محطات التزوّد بالتقوى والطاقة المعنوية حيث يحسُّ المؤمنون بسموٍّ وارتقاءٍ في حالتهم المعنوية وإقبالاً على الطاعات في شهر رمضان المبارك، وهذه واحدة من بركات موائد هذا الشهر في ضيافة الله تبارك وتعالى، ولا شك أن المؤمنين يتفاوتون في هذا التحصيل تبعاً لتفاوت درجاتهم وسعة آنيتهم التي يغترفون بها من عطاء الله تبارك وتعالى (فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) (الرعد17)، فبعضهم قد تنتهي عنده هذه الحالة بمجرد إنتهاء الشهر فيعود في العيد الى ما كان عليه حتى المعاصي والعياذ بالله، وبعض آخر تستمر حالته أكثر من ذلك ولكنّها تنتهي مالم يزوّدها بوقود جديد، وبعضٌ تدوم عنده وتثبت معه الى شهر رمضان المقبل كالاجسام التي تلامس النار، فبعضها يفقد الحرارة بمجرد ابعاده عنها، واخرى تحتفظ بها مدة ثم تفقدها، واخرى -كالفحم- تتحول الى جمرة

ص: 340


1- الكلمة التي تحدث بها سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع مصلي ديوان الزهراء (عليها السلام) في حي الجامعة في النجف الاشرف ومع حشد من الطلبة والشباب الذين يقضون العشرة الاخيرة من شهر رمضان في النجف يوم السبت 24 رمضان 1436 الموفق 11/ 7/ 2015

متّقدة تهب النور والدفء الى الاخرين والسؤال كيف نستطيع إدامة هذه الحالة أكبر قدر ممكن؟ وما الذي يجدّد فينا الامل والرغبة لاستمرار الرخم الايماني الذي استفدناه من هذه المحطة الشريفة. ويمكن طرح السؤال بصياغة اخرى وهو أنه ورد في الحديث الشريف ((من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخرُ يوميه شرَّهما فهو ملعون، ومن لم يعرف الزيادة في نفسه كان إلى النقصان أقرب، ومن كان إلى النقصان أقرب فالموت خيرٌ له من الحياة) (1) ونحن نرى أن أيامنا في شهر رمضان خير من أيامنا في غيره حيث سنُحرم من موائد شهر رمضان ومن ضيافة الرحمن (أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة ودعائكم فيه مستجاب.....الخ) (2) وتلاوة آية فيه تعدل تلاوة القرآن كله في غيره ونحو ذلك فهل سيكون يومنا في شهر رمضان خيراً من غدنا في ما بعد شهر رمضان، ويكون امرنا الى النقصان ونصبح من اهل هذه الحالة المذمومة في الحديث الشريف فالأمر موجب للقلق وإيجاد الحل له.

ولرفع الشعور بالاسى والحزن لفراق شهر رمضان، ولتجديد الامل والرغبة بدوام بركاته ونفحاته، ولدفع القلق الناشئ من احتمال هبوط المعنويات نذكر عدة وجوه:

1-إن شهر رمضان إذا انقضى ورُفِعَتْ موائده وبركاته فإن رب شهر رمضان باقٍ وهو الذي منَّ على عباده بتلك العطايا والمنن، قال تعالى (وَتَقَطَّعَتْ

ص: 341


1- أمالي الصدوق: 766
2- أمالي الصدوق : ص 93

بِهِمُ الأَسْبَابُ) (البقرة166) فليكن تعلقنا بالخالق لا بالمخلوق وبمسبب الأسباب لا بالأسباب نفسها، وهو قادر بكرمه على أن يجعل من الكرامة في غير شهر رمضان لعمل أكثر مما يعطي في شهر رمضان المبارك فان الله تعالى اخفى رضاه في اي طاعة من طاعاته ولا يعلمها العبد، فلعلك ترحم انسانا ضعيفاً او تزوج شاباً عفيفاً لا يجد مؤونة الزواج فيكون لك من المنزلة عند الله تعالى اكثر مما نلته من شهر رمضان، فلا يشغلنا الأسف على فوات شهر رمضان عن الأمل بكرم ربِّ شهر رمضان.2-إن الله تعالى الذي أوجب علينا الصوم في شهر رمضان هو الذي رفع هذا الوجوب في غيره، وعلينا ان نعبد الله تعالى من حيث هو يريد لا من حيث نحن نريد فكما نطيعه في وجوب الصوم نطيعه تعالى في عدم الوجوب، والحديث يقول (إنَّ اللهَ يُحِبُّ أن تُؤتى رُخَصُهُ –أي عدم إلزاماته- كَما يُحِبُّ أن تُؤتى عَزائِمُهُ -أي إلزاماته في الوجوب والحرمة-)(1)، فهذه الإنتقالة بمشيئة الله تعالى وطاعة له، لذا فهي ليست مشمولة للحديث الشريف (ومن كان آخرُ يوميه........) (2)

3-إن هذا التقلب في الحالات فيه أكثر من ثمرة مباركة فهو من جهة رحمة ورأفة من الله تعالى بالإنسان لأنه يعجز عن الاستمرار على الحالة العالية والدوام عليها حتى قيل (دوام الحال من المحال) (3)، فهذه الإنتقالة الى الحالة

ص: 342


1- بحار الأنوار : 93 / 29
2- امالي الصدوق: 776
3- مثل عربي.

الأدنى فيها تخفيف عنه وإشفاق به، في الحديث الشريف (إن للقلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أقبلت فتنفلوا وإذا أدبرت فعليكم بالفريضة) (1) وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (إِنَّ هذِهِ الْقُلُوبَ تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ الأَبْدَانُ فَابْتَغُوا لَهَا طَرَائِفَ الْحِكْمَةِ) (2).والثمرة الاخرى في هذا التقلّب: هو ترسيخ عقيدة التوحيد والإيمان بأن الله تعالى هو المتصرّف بعباده والمدبّر لشؤونهم وهم لا يملكون لأنفسهم شيئاً، هذ المعنى الذي عبّر عنه الإمام الحسين (علیه السلام) في دعائه يوم عرفة بقوله (إلهي إنَّ اختلافَ تدبيِركَ وسرعةَ طواءِ مقاديرِكَ منعا عبادَكَ العارفينَ بك عَنِ السُّكونِ إلى عطاءٍ واليأسِ منكَ في بلاءٍ) (3) وقوله (علیه السلام) وورد في نفس الدعاء (الهي علمت باختلاف الآثار وتنقلات الأطوار أن مرادك مني أن تتعرّف اليّ في كل شيء حتى لا أجهلك في شيء) (4).

4-إن ثواب العمل يمكن تحصيله وإدامته بالنية، فمادام الإنسان راغبا في عمل ويحب القيام به اذا تحقّق موضوعه –كشهر رمضان- وسنحت فرصته فانه يُعطى اجر ذلك العمل وان لم يقم به وان من احبّ عمل قوم أُشرك معهم محباً لعمله فإنه يُشْرَك في أجره كما في الرواية بعد معركة الجمل لما تمنى شخص أن يكون أخوه شاهداً المعركة ليشاركهم الأجر ويفرح بانتصار امير المؤمنين

ص: 343


1- الكافي: ج3/ 454
2- نهج البلاغة: باب الحكم: الحكمة 194
3- مفاتيح الجنان: دعاء الامام الحسين (عليه السلام) في يوم عرفة
4- نفس المصدر

(ع) فقال (علیه السلام): (أهوى أخيك معنا؟ فقال نعم، قال: فقد شَهَدَنا. ولقد شَهَدَنا في عسكرنا هذا أقوامٌ في أصلاب الرجال وأرحام النساء، سيرعف(1) بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان) (2) وهذا باب واسع من كرم ربِّ العالمين لزيادة رصيد العبد من الطاعات والقربات، ويعبّر الإمام الحسين (علیه السلام) في دعائه يوم عرفة عن هذه الحالة (إلهي إنك تعلم أني وإن لم تدم الطاعة مني فعلاً جزماً فقد دامت محبة وعزماً) (3) وهذا الدوام في النية هو ايضاً من لطف الله تبارك وتعالى فكأننا نقدّمه عذراً بين يدي الله تعالى على تقصيرنا في العمل.5-إن الله تعالى جعل بكرمه أسباباً اخرى تؤدي هذا الغرض –أي إدامة العمل- فبخصوص الصوم ورد أنه (من صام ثلاثة أيام من كل شهر، كان كمن صام الدهر، لأن الله عز وجل يقول "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها")(4) وهي أول خميس وآخر خميس والأربعاء في الوسط، فإذا واظب عليها المؤمن كان في حالة صوم دائم ولم يفقد شيئا وهو من الأعمال التي أكّد عليها النبي (صلی الله علیه و آله) في وصيته لأمير المؤمنين والتي جاء فيها (يَا عَلِيُّ أُوصِيكَ فِي نَفْسِكَ بِخِصَالٍ فَاحْفَظْهَا عَنِّي ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ أَعِنْهُ) الى ان قال (صلی الله علیه و آله) (وَ أَمَّا الصِّيَامُ فَثَلاثَةُ أَيَّامٍ فِي الشَّهْرِ الْخَمِيسُ فِي أَوَّلِهِ وَ الأرْبِعَاءُ فِي وَسَطِهِ وَ الْخَمِيسُ فِي

ص: 344


1- يرعف : يجود
2- نهج البلاغة: الخطبة 12
3- مفاتيح الجنان: دعاء الامام الحسين (عليه السلام) في يوم عرفة
4- ميزان الحكمة/ ص 474 الحديث رقم 10668

آخِرِهِ) (1).6-إن للتشريعات الالهية أسراراً وعللاً وأن أوامر الله تعالى ونواهيه لم ترد عبثاً وإنما المصالح ترجع الى العباد (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سبحانك) (آل عمران 191) (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً) (المؤمنون115) فالمطلوب من هذه الأعمال ليس حركاتها الخارجية وشكلياتها فقط وإنما حقائقها، وما هذه الأفعال الخارجية الا وسيلة لتحصيل تلك الحقائق قال تعال (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ) (الحج37) فأثر الصلاة النهي عن الفحشاء والمنكر (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) (العنكبوت45) فالغرض من تشريع الصوم هو تحصيل التقوى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة183) وإنما تكتسب هذه الأعمال قيمتها بمقدار تحقق الغرض منها كما في الرواية أن (مَن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلاّ بُعداً) (2) ولما كان المراد من الأعمال هذه الحقائق الواقعية لها فإدامتها يكون بإدامة آثارها، أعني التقوى من الصوم فكلما كان محافظاً على الصوم كان محافظا على التقوى والاحسان في العمل فهو في ضيافة الله تعالى وينهل من موائده المباركة وإن لم يكن في شهر رمضان، قال تعالى (إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) (النحل128).

ص: 345


1- الكافى-ج8 ص79
2- مجمع البيان: 8/ 285

خطاب المرحلة 461 :المرجع اليعقوبي يدعو الى وجود قيادة وطنية واعية موحدة للمظاهرات

خطاب المرحلة 461 :المرجع اليعقوبي يدعو الى وجود قيادة وطنية واعية موحدة للمظاهرات(1)

دعا سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) النخب المثقفة والاكاديميين من اساتذة الجامعات وغيرهم الى ان يأخذوا دوراً واضحاً ومحورياً في التظاهرات التي تشهدها البلاد لتوحيد المطالب ووضعها على طاولة المفاوضات باتجاه بلورة مشروع وطني اصلاحي واضح المعالم، ولضبط بوصلة حركة الجماهير وحماية المظاهرات من الانحراف واختراق المندسين وخاطفي الانجازات.

وقال سماحته في كلمة القاها امام عددٍ من الاساتذة والاكاديميين من (مركز الابداع) للدراسات والبحوث الاستراتيجية بمكتبه في النجف الاشرف : ان غالبية الشعب يطالب بحل المشاكل الظاهرة التي يراها امامه ولا يلتفت الى الاسباب الاصلية المؤدية لها، كما لا توجد مطالب موحدة للمتظاهرين فالمشكلة لا تقتصر على انقطاع التيار الكهربائي او تردي الخدمات بل المشكلة

ص: 346


1- صدر بتاريخ السبت 13/ذق/1436 الموافق 29/ 8/ 2015 تزامناً مع خروج المظاهرات المطالبة بالإصلاح ومحاسبة المفسدين كل جمعة في بغداد والمحافظات، وعلى أثر الخطاب حاولت عدة جهات أن تعقد مؤتمرات لإبراز نفسها زعيمة للتظاهرات، ولم يكن ذلك مطابقاً للواقع فلم تثمر تلك التظاهرات شيئاً يُذكر حتى اضمحلت وتلاشت.

اكبر من ذلك بكثير وهنا تبرز اهمية دور النخب في تشخيص جوهر المشكلة اولاً ودراسة الاسباب الاساسية دراسة موضوعية ثم تقديم الحلول الجذرية لهذه المشاكل ثانياً.. وخذ مثالاً على ذلك مفوضية الانتخابات التي تكونت من ممثلي الكتل السياسية الكبيرة.. فكيف نتصور انها ستكون مستقلة وقد شكلت لرعاية مصالح تلك الكتل؟ بل كيف نتصور ان الانتخابات ستمضي بشكل نزيه ما دام المال السياسي والنفوذ والمصالح والوظائف الحكومية بيد الكتل المهيمنة وكذلك قانون الانتخابات الذي صّمم على مقاس المتنفذين لكي يقطع الطريق على اي مشروع نهضوي يضم دماءً جديدة، الامر الذي أدى الى إعادة استنساخ نفس الوجوه في كل عملية انتخابية، مع وجود تدجين وتخدير للشعب يساعد على سوقه الى حيث يريد المتسلطون، لذا فالحل لا يقتصر على السياسيين المتسلطين والنظام السياسي وإنما يمتد الى المؤسسات والجهات الساندة والمشرعنة للعملية السياسية .وفي نفس السياق دعا سماحته الى ان تشكل المفوضية من جامعيين متخصصين بهذا الشأن وبمساعدة منظمات المجتمع المدني ومساندة المجتمع الدولي .

كما اكد سماحته على ضرورة ان تكون العلاجات الاصلاحية جذرية وفعّالة وليست شكلية او ترقيعية لانها ستكون خاضعة لتأثير الفاسدين الذين ركب بعضهم موجة التظاهرات لتغطية مفاسده والبعض الآخر اطلق التصريحات النارية لخلط الاوراق ليبقى الحال كما هو عليه ويبقى الشعب يرزح تحت قسوة الفساد والارهاب .

ص: 347

واضاف سماحته: ان عملية الاصلاح ليست لقلقة لسان بل تحتاج الى عمل دؤوب وضغط مستمر فحركة الجماهير وان كانت ليست واسعة وفق المقاييس لكنها ارعبت الفاسدين وهزتهم واجبرتهم على الرضوخ للحل بعد ان اخذت الجماهير دورها وتحركت وقد نبهنا لذلك ودعونا اليه قبل خروج هذه المظاهرات وتحديداً في خطبة عيد الفطر الماضي التي شرحنا فيها عبارة (اللهم اصلح كل فاسد من امور المسلمين) والحديث الشريف (صنفان من امتي ان صلحا صلحت امتي الامراء والفقهاء) وكلا الصنفين الوارد في الحديث يصنعهما الشعب فالأمراء (الحكام) يضعهم انتخاب الجماهير ودعمهم وتأييدهم كما ان الجماهير هي من تصنع قدرة الفقهاء وقوتهم الميدانية .(1)واستغرب سماحته : لتأخر حركة الجماهير وانتفاضتها ولم تقل كلمتها طيلة 12 عاماً مضت بالرغم من التنبيهات المستمرة والتحذيرات المتوالية من الاخطار المحدقة بالعراق وشعبه التي تضمنتها خطاباته وبياناته منذ عام 2006 والتي حذر فيها من خطر الفساد الاداري والمالي واعتبره اشد خطراً من الارهاب .(2)

كما حذر من سياسة الاستئثار ودعوات التقسيم والانفصال وتحشيد الجماهير طائفياً لتفكيك الائتلافات الطائفية وان تكون الائتلافات والاحزاب

ص: 348


1- الخطبة الثانية لصلاة عيد الفطر لعام 1436 بتاريخ 18/ 7/ 2015، وقد تقدمت في ص316 من هذا الكتاب.
2- (خطاب (إذا لم يحترق السياسيون بالنار فإنهم لا يحلّون مشاكل البلاد) بتاريخ 18/ 7/ 2006، راجعه في خطاب المرحلة: ج4 ص306.

السياسية على اساس البرامج الوطنية التي تخدم الشعب .(1)هذا ويذكر ان سماحته كان قد نبه ببيان هام قبل سقوط الموصل بأكثر من عام الى المخططات الشيطانية التي اعدت للمنطقة الاسلامية والعربية .(2)

واصدر عدة بيانات تزامنت مع سقوط الموصل في حزيران عام 2014 والاحداث التي تلتها :

1-رُبَّ ضارة نافعة.. سقوط الموصل (3)

2-لا بديل عن الحوار والقبول بالتنازلات العادلة (4)

3-بعد عام على سقوط الموصل: لا زال الأمل بإعادة إنتاج عراق مزدهر موحّد (5).

ص: 349


1- (حوارات سياسية النقطة ه-) بتاريخ 24/ 11/ 2006، راجع خطاب المرحلة: ج5 ص29.
2- (المشاريع الشيطانية التي أعدّت للمنطقة الإسلامية والعربية) بتاريخ 5/5/ 2013، خطاب المرحلة: ج8 ص201.
3- راجع هذا الكتاب ص33.
4- راجع هذا الكتاب ص36.
5- راجع هذا الكتاب ص297.

خطاب المرحلة 462 :(وَاكْتُبْ لَنَا فِي هذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ)

[الأعراف:156]

التوسل بالأعمال الصالحة لاستجابة الدعاء(1)

روت عدة مصادر من الشيعة والسنة عن النبي (صلی الله علیه و آله) انه قال (بينما ثلاثة رهط يتماشون أخذهم المطر فآووا إلى غار في جبل ، فبينما هم فيه انحطت صخرة فأطبقت عليهم ، فقال بعضهم لبعض : انظروا أفضل أعمال عملتموها فسلوه بها – وفي مصدر آخر : تذكرون احسن اعمالكم فادعوا الله عز وجل بها وفي مصدر ثالث : انظروا اعمالا عملتموها صالحة لله – لعله يفرج عنكم .

قال أحدهم : اللهم إنه كان لي والدان كبيران وكانت لي امرأة وأولاد صغار فكنت أرعى عليهم ، فإذا أرحت عليهم غنمي بدأت بوالدي فسقيتهما ، فلم آت حتى نام أبواي فطيبت الاناء ثم حلبت ، ثم قمت بحلابي عند رأس أبوي والصبية ينضاعون عند رجلي ، أكره أن أبدأ بهم قبل أبوي ، وأكره أن أوقظهما من نومهما ، فلم أزل كذلك حتى أضاء الفجر اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فرجة نرى منها السماء ، ففرج لهم فرجة

ص: 350


1- حديث سماحة الشيخ المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع الطلبة الاوائل في الامتحان المركزي لفروع جامعة الصدر الدينية في المحافظات وحشد من طلبة جامعة ميسان ووفود أخرى يوم الاحد 16 شوال 1436 المصادف 2/ 8/ 2015.

فرأوا منها السماء .وقال الآخر : اللهم إنه كانت لي بنت عم فأحببتها حبا كانت أعز الناس إلي ، فسألتها نفسها ، فقالت : لا حتى تأتيني بمائة دينار ، فسعيت حتى جمعت مائة دينار فأتيتها بها ، فلما كنت بين رجليها قالت : اتق الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقه ، فقمت عنها ، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فيها فرجة ، ففرج الله لهم فيها فرجة.

وقال الثالث : اللهم إني كنت استأجرت أجيرا بفرق ذرة ، فلما قضى عمله عرضت عليه فأبى أن يأخذها ورغب عنه ، فلم أزل أعتمل به حتى جمعت منه بقرا ورعاتها، فجاءني وقال : اتق الله وأعطني حقي ولا تظلمني ، فقلت له : اذهب إلى تلك البقر ورعاتها فخذها فذهب واستاقها ، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا مابقي منها ففرج الله عنهم فخرجوا يتماشون(1) .

أقول: يمكن استخلاص عدة دروس وعبر من هذه الحكاية:

1-إن هذه الحادثة وأمثالها تولّد الاطمئنان القلبي العملي بجملة من الاعتقادات التي نؤمن بها نظرياً لكننا عملياً لا نذعن بها ولا نتوجه اليه، والإيمان النظري لا يكفي ليكون محرّكاً عملياً حتى يطمئن القلب بها وذلك عندما تقع عملياً من باب (أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) فهذه الواقعة ترسّخ عدة

ص: 351


1- بحار الانوار : 14/ 421 عن آمالي الشيخ الطوسي :408، ورواها الطبراني في كتاب الدعاء الحديث 178 بسنده عن علي ابن ابي طالب(عليه السلام) واخرجه البخاري في باب (التوسل بالأعمال الصالحة عند الدعاء).

عقائد:(منها) عقيدة ان الله على كل شيء قدير فكم واحد منا يقع في مثل المأزق وهو مطمئن الى ان الله تعالى قادر على أن يزيل هذه الصخرة بمجرد تعلق إرادته بذلك (كن فيكون) أما عامة الناس فانهم يعتقدون باستحالة ذلك لاحتياج الأمر الى أجهزة وآليات لرفع الصخرة وعمال من أين نأتي بهم وهكذا، لكن الحقيقة إن ارادة الله تعالى إذا تعلقت بإزالتها استجابة لدعاء هؤلاء فأنها تزول، ولا نستكثر ذلك على الخالق المقتدر فنحن البشر المخلوقون الضعفاء إذا تعلقت إرادتنا بأن نقفز يرتفع الجسد الذي قد يزيد وزنه عن 100 كغم مباشرة من دون أي مؤثر خارجي سوى الارادة، فلماذا لا يتحقق كل ما تتعلق به ارادة الله تعالى وبيده كل شيء وكل شيء خاضع له (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يس /82).

و(منها) عقيدة إن مع العسر يسرا وهذا ما حصل لهم بالصبر والدعاء والتوسل.

و(منها) إن (من يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) وقد جعل الله تعالى لهم مخرجاً بتقواهم.

و(منها) ان الله عند حسن ظن عبده إذا أحسن الظن، روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال (والذي لا إله إلا هو، لا يحسن ظن عبد مؤمن بالله إلا كان الله عند ظن عبد المؤمن، لأن الله كريم بيده الخيرات، يستحي أن يكون عبده المؤمن قد أحسن به الظن ثم يخلف ظنّه ورجاءه، فأحسنوا بالله الظن وارغبوا

ص: 352

إليه) (1)، فالرواية تدعونا الى حسن الظن دائماً ورجاء الخير من الله تبارك وتعالى وسيحقق الله تعالى ذلك لعباده.2-حسن أدب هؤلاء الثلاثة مع ربهم وصحة عبوديتهم ومعرفتهم بالله تبارك وتعالى، إذ أنهم مضافاً إلى ما حملوه من المعرفة بالله تبارك وتعالى التي ذكرناها في النقطة الأولى لم يقدّموا بين يدي ربهم أي عمل يمنّون به على الله تبارك وتعالى ولا طالبوا باستحقاق لهم عند ربهم ولم يزكّوا أنفسهم وأعمالهم {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النساء : 49] وغاية ما قالوا (اللهم إنك إن كنت تعلم إني فعلت ذلك ابتغاء وجهك)، ومن معرفتهم التفاتهم الى هذه الوسيلة للفرج والوصول الى المراد.

3-إن من أسباب استجابة الدعاء التوسل إلى الله تبارك وتعالى والتقرب اليه بعمل صالح قد أحسنه وأخلص النية فيه من دون اتكال على العمل أو العجب به أو الجزم بصلاحه واستحقاقه للعطاء فإن هذه كلها محبطات للعمل ومن دون اقتراح على الله تبارك وتعالى ولكن من باب التقرب إلى الله تعالى بشيء يحبّه.

فالأول توسّل الى الله تعالى بالإحسان الى والديه والآية تقول {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة : 195] خصوصاً مع الوصية المؤكدة بالوالدين (وبالوالدين إحساناً).

والثاني توسل الى الله تعالى بعمل المتقين الورعين والآية تقول (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [التوبة:4].

ص: 353


1- بحار الأنوار: 70/ 366 ح14.

والثالث طهر نفسه من مظالم العباد وحقوقهم عنده وتاب الى الله تعالى توبة صادقة، والله تعالى يقول (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222].وهذا أحد تطبيقات قول الصديقة الزهراء (علیها السلام) (من أصعد إلى الله خالص عبادته، أهبط الله إليه أفضل مصلحته) فمن رغب أن يختار الله تعالى له أفضل الخيارات وأصلحها له وأكثرها نفعاً في الدنيا والآخرة فليبالغ في إخلاص عمله من الشوائب.

وقد جرّبت ذلك في حياتي فإن بعض الذي أعرف لهم أعمالاً صالحة أحسنوا فيها للآخرين وقعوا في شدة أو بلاء أو حاجة فسألت الله تبارك وتعالى بما أعرف عنهم من تلك الأعمال ففرّج الله تعالى عنهم وقضى حوائجهم ببركة إحسانهم.

إن اتخاذ هذه المقدمة كوسيلة لاستجابة الدعاء من الآداب القرآنية كقوله تعالى (وَاكْتُبْ لَنَا فِي هذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) [الأعراف:156] والله تعالى يحب التوابين فجعلوا الرجوع الى الله تعالى والتوبة اليه مقدمة للدعاء.

ومنها الآيتان 193، 53 من سورة آل عمران {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران: 193] {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:53].

وورد هذا المعنى في الأدعية المباركة مثل (اللهم إنّي أطعتك في أحب

ص: 354

الأشياء اليك وهو التوحيد ولم أعصك في ابغض الاشياء اليك وهو الشرك فاغفر لي ما بينهما) وهنا تصريح بالتوسل بأحب شيء الى الله تبارك وتعالى.والخلاصة أن علينا أن نحسن في اعمالنا ونخلصها الى الله تبارك وتعالى لنحظى بحبّه وقبوله وتكون سبباً لاستجابة الدعاء إن شاء الله تعالى.

ص: 355

خطاب المرحلة 463 :(وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ)

الأحزاب22

تحديات العراق المعاصر(1)

لعل من السمات البارزة في مسيرة الإمام الصادق (علیه السلام) ونحن نعيش ذكرى استشهاده، وهكذا في سيرة كل الائمة الطاهرين (علیهم السلام)، وهم قادة الإسلام الذين وهبهم الله تعالى للبشرية هو مواكبتهم لتحديات عصرهم، ولا أقول أنهم كانوا بمستوى تحديات عصرهم بل فوق ذلك لأنهم محيطون بعصرهم وما سبقه وما لحقه، ولكن الذي نريد أن نفهمه نحن هو أن نكون بمستوى تحديات عصرنا تشخيصاً وعلاجاً.

ويمكن أن ننظم استطلاعاً للرأي العام واستبياناً لتصور الناس عن هذه التحديات والمشاكل التي يواجهها العراق المعاصر ونعني به عراق ما بعد احتلال عام 2003، وسيكون هذا الاستطلاع مصدراً مفيداً للتعرف عليها لأنه سيجمع رؤى متعددة ومن زوايا مختلفة للامور، وإن كان الكثير منها ملتفتاً اليه وواضحاً.

ص: 356


1- من حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع الوجبة الثانية من الطلبة والشباب الذين يقضون فترة المعايشة الصيفية مع الحوزة العلمية في النجف الاشرف ومجموعة ناشطين في مؤسسات المجتمع المدني يوم الثلاثاء 18 شوال 1436 الموافق 4/ 8/ 2015

وما دمنا شخّصنا الموضوع بأنه عراق ما بعد الاحتلال، إذن فالاحتلال هو أول هذه التحديات وقد قلنا في عدة خطابات منذ الأيام الاولى للاحتلال أنه لا يقتصر على الاحتلال العسكري لأن مجيء القوات المحتلة ومكثها انما هو أداة ووسيلة لفرض واقع جديد له عدة أبعاد منها الهيمنة على القرار السياسي ودمج العراق في نظامهم العالمي الجديد، وتبعية الاقتصاد لنظامهم الحر كما يصفون والاستحواذ على خيراته، والافساد الأخلاقي وتبديل الثقافة والتقاليد التي يبنى عليها سلوك الفرد والمجتمع، والانسلاخ من القيم والمبادئ، وتصل حتى التغيير الديمغرافي لأجل مصالح معينة وبقيت هذه الأخطار تنخر في جسد العراق وشعبه حتى بعد رحيل القوات العسكرية للمحتلين.وجاء مع هذه التحديات التي جلبها الاحتلال الإرهاب الذي اتخذ من مقاومة الاحتلال غطاءاً لخداع المغفلين حتى يلتحقوا به وينفذوا جرائمه، ووفر هذا التحديان بيئة مناسبة لانخراط الكثير من الشباب في جماعات العنف التي تمارس القتل والخطف والابتزاز والسرقة والاعتداء على الممتلكات العامة

ورغم خطورة هذه التحديات الا أن الأخطر منها –كما وصفت في الخطاب الفاطمي عام 1429(1) هو فساد المتسلطين الماسكين بمفاصل الدولة واستئثارهم بالمال العام وسرقته تحت عناوين وهمية وتهريبه الى خارج العراق وقد تفننوا بهذا بشكل لا نظير له في التاريخ ولا في الجغرافيا كما يقولون .

ورافق هذه المسارات تدمير ممنهج لمؤسسات الدولة المدنية والعسكرية

ص: 357


1- راجع خطاب المرحلة 161 (اعداء الشعب ثلاثة: الاحتلال، الارهاب، فساد الحكومة) المجلد 6 من كتاب خطاب المرحلة. ص 139

لإضعافها وجعلها عاجزة عن القيام بمسؤولياتها في حفظ النظام وحماية المواطنين وحقوقهم والنهوض بالبلاد والقيام بالمشاريع التنموية ومحاسبة المفسدين، ليغطوا بذلك على فشلهم وفسادهم وشغلوا الناس بنزاعاتهم وصراعاتهم ونشر غسيلهم التي لا يُرجى منها أي خير سوى لي بعضهم ذراع بعض وابتزازه وقضم كمية أكبر من كعكة العراق كما يصفونها، فكان هذا الفساد هو المموّن للإرهاب والعامل المساعد على انتشاره وتجذّره، وأسوأ ما خلّفه الاحتلال وجاء به سياسيو العصر الجديد .وكان التحدي الخطير الآخر تبعية أغلب الطبقة الحاكمة لأجندات أجنبية ينفذونها على حساب العراق ومصالح أهله أما لأنه يعتقد أن هذه الدولة تحميه وتمكِّنه وتدعمه أو لأن الكثير منهم كانوا في خارج العراق ويعتاشون على مساعدات تلك الدول ويحمل بعضهم جنسية تلك الدول أو جواز سفرها ولازالت عائلته مستقرة فيها فهو يدين بالولاء لها وهمُّه تسخير ما يستطيع من موارد العراق لمصلحة تلك الدول حتى وهو في أعلى المواقع في قيادة البلاد.

وقد نبهنا الى هذه الأخطاء والاخطار قبل عشر سنوات وطالبنا بإصلاحها وقدمنا الخطط الكفيلة بذلك إلا أنني كنت الوحيد الذي أتكلم أما الآخرون - من الزعامات الدينية والسياسية - فكانوا سكارى بمغانم السلطة والدنيا التي حصلوا عليها بعد الاحتلال واجتمعوا على معاداتي وتسقيطي وإقصائي لأنهم لا يريدون ارتفاع صوت من يوقظ الناس من جهلهم وغفلتهم.

ونبهنا أيضاً من أول يوم الى الغزو الاخلاقي لإفساد المجتمع من خلال إغراقه بالتقنيات الحديثة لوسائل التواصل الاجتماعي والانترنت وإباحة كل

ص: 358

شيء من دون فلترة أو تشفير وهو مالا تجده حتى دول الغرب المتحللة التي تتخذ الاجراءات لتحصينهم من بعض ما يعرض من الانتاج المدمّر لكل القيم أما العراق فمستباح لكل شيء، واوردنا في عدة خطابات عشرات المضّار لإباحة هذه الوسائل(1).ومن مشكلات العراق المعاصر عملية التجهيل والتضليل وتسطيح العقول للناس لأن الجاهل يسهل قياده حيث يشاؤون مما أدى الى نقص معرفي وثقافي عام وصل حد التخلف أحياناً ومن المؤسف ممارسة القيادات لذلك حتى بعض الزعامات الدينية ومحاربة من يوقظ الناس وينبهها الى حقوقها ومصالحها وتسقيطه وافتراء الشبهات عليه لخوفهم من يقظة الناس ووعيهم وبصيرتهم في الامور، وأصبح الكتاب وأدوات المعرفة الاخرى آخر ما يثير اهتمام الناس وشغفهم رغم أن الكتاب أرخص الأشياء سعراً وأعظمها فائدةً ولعل أوضح مثال إعادة انتخاب الناس للفاسدين والظالمين بعد أن يعضّوا على أصابع الندم لانتخابهم في المرحلة السابقة ويقولون سنقطع أصابعنا التي تلوّنت بحبر الانتخاب، هكذا يُساق الشعب الى الظلم والخراب والقتل طائعاً مختاراً بفعل ما تقوم به الجهات الدينية والسياسية من مكر وخداع وتجهيل وتقديس الأصنام .

وإن أخطر المشاكل التي صنعوها للعراق وأقذرها فتنة الحرب الطائفية التي لا ثمرة فيها ويخرج الجميع منها خاسرين وتمتاز بالقسوة وفقدان البصيرة وعدم التورع عن ممارسة ابشع الاساليب الوحشية لانها تجري بأسم الدين والمذهب

ص: 359


1- خطاب بعنوان (جهاز الستلايت أول هدية بعد سقوط النظام) في خطاب المرحلة: ج3 ص62.

وتُرّوج على انها حرب مقدسة .والمشكلة الخطيرة الاخرى مشروع تقسيم البلاد التي تؤدي الى تمزيق أهله وإدخالهم في صراعات دموية مدمرة لا نهاية لها، فتتحارب هذه القومية وتلك وهذه الطائفة وتلك وهذا الاقليم وذاك وهذه المحافظة وتلك وهذه العشيرة وتلك، مع ضعف الدولة وعجزها عن إطفاء هذا الاتون الملتهب، بل أن الكثير من السياسيين والانتهازيين وأصحاب الأجندات الهدّامة يغذّون هذه الصراعات لأنهم يعتاشون عليها وتديم وجودهم ونفوذهم.

وفي خضم هذه الصراعات انمحت الهوية الوطنية ولم يبق شعور بالانتماء الى العراق أو تدفق الاحساس بالوطنية ولم يعد يوجد ما يوحد العراقيين ويلهب مشاعرهم الا بعض الحالات النادرة، بل لا يستحي بعضهم من الحديث عن عدم وجود أي شيء إسمه العراق(1).

ومنها سوء ادارة اقتصاد البلد وعدم وجود خطط مدروسة لاستثمار ثرواته، فضاع بسبب ذلك مئات المليارات من الدولارات واقصي المتخصصون والخبراء المهنيون، وهذا ما حصل في كل مؤسسات الدولة التي عبثت بها الاحزاب ورؤساؤها من امراء الحروب وآخر ما تفتقت عنه شيطنة الفساد عند المتسلطين هو عرض قطاع الكهرباء للخصخصة وان حاله لا ينصلح الا بإحالته الى المستثمرين، هذا بعد صرف اكثر من 35 مليار دولار من اموال الشعب على هذا القطاع، ولنا تجربة مؤلمة مع احالة مؤسسات الدولة الى القطاع الخاص الذي قامت به وزارة الصناعة وعقود التراخيص لوزارة النفط وبيع اموال

ص: 360


1- تصريح لبعض قادة الكرد.

وعقارات الدولة حيث تباع بسعر التراب الى المستثمرين ويأخذ المسؤول عمولته من السحت الحرام ثم يحسبها المستثمر بمليارات الدولارات في فاتورة حسابات المشروع الاستثماري ليستوفوا اجور عالية من الشعب المسكين، فهل التفت المتظاهرون المتحمسون لحقيقة ما يجري .هذه وغيرها بعض مشكلات العراق والتحديات التي تواجهه بل الطعنات التي توجه اليه من القريب قبل البعيد ومن أبنائه قبل أعدائه، ومن الجار والأخ قبل الغريب والأجنبي لأنهم ينفّذون طوعاً وبذلةِ التبعية وبيع الضمائر والولاءات أجندات أعداء العراق، فتتابعت عليه النكبة بعد النكبة والجرح على الجرح والكارثة على الكارثة، وحينما أتصور العراق بهذه الحالة ينتقل ذهني الى الإمام الحسين (علیه السلام) يوم عاشوراء وهو ينزف دماً قد أصابته مئات الجراحات لأن الطعنة على الطعنة والضربة على الضربة والرمية على الرمية، لكنه (علیه السلام) كان واقفاً شامخاًُ أبياً عزيزاً منتصراً وأعداؤه مهزومون خائفون مرعوبون قلقون من مستقبلهم المظلم، وهكذا العراق يبقى ثابتاً شامخاً عصياَ على الأعداء بإذن الله تعالى وبما ضمَّ في ترابه من أجساد الائمة الطاهرين والأنبياء العظام (صلوات الله عليهم اجمعين) والمشاهد المشرفة، وبوجود ثلة مؤمنة مخلصة شجاعة تمتلك الهمة العالية والروح الكبيرة .

وهنا أمام هذا الحشد المرعب من الأعداء المجرمين مصاصي الدماء وناهبي ثروات الشعوب وأعداء الحياة والحضارة والإنسانية الذين تحزّبوا وأعدّوا عدتهم للهيمنة على العراق واستعباد أهله واستئصال كل غيور حر شريف علينا أن نستلهم موقفنا مما حكاه الله تعالى من سورة الأحزاب من ثبات وشموخ

ص: 361

النبي (صلی الله علیه و آله) وأصحابه الآخذين بسنته المباركة، حيث يصف الله تعالى أعداء الإسلام وإحاطتهم بالمدينة وحصار أهلها للانقضاض عليهم والرعب والهلع الذي أصاب المسلمين، قال تعالى: (إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً) (الاحزاب 10-11) هكذا حاصر عشرة الاف مقاتل من المشركين واحلافهم من اليهود وعشائر العرب المسلمين في المدينة متوعدين اياهم بالقتل والتدمير فماذا كان موقف المؤمنين إزاء هذه الأجواء التي تنخلع لها القلوب، قال تعالى: (َلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً) (الاحزاب 22) ومن ملاحظة السياق والمضمون يظهر أن المراد بما وعدهم الله بقوله تعالى في سورة البقرة – وهي من أوائل السور نزولاً في المدينة (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ) (البقرة 214) فتلاحظ أن آية الأحزاب أكدت تحقق ما وعدت به آية سورة البقرة من اشتداد البلاء حتى يُزلزل المؤمنون ويفقدون الأمل بنزول النصر، لكن الله تعالى يطمئنهم ويبشرهم بأن نصر الله قريب.وهذا ما حصل فقد تبدّلت بعد واقعة الأحزاب موازين القوى وتحولت لصالح المسلمين، فوقع صلح الحديبية بعد عام أي في السنة السادسة وهو ما وصفه الله تعالى بالفتح المبين وفي السابعة أدى النبي (صلی الله علیه و آله) عمرة القضاء ثم فتح مكة في الثامنة وانتهت سطوة المشركين ونفوذهم.

ص: 362

إن هذا الدرس من سورة الأحزاب لا يختص بالنبي (صلی الله علیه و آله) وأصحابه الذين كانوا معه فالقران خالد مستمر بإداء دوره الى يوم القيامة فيشمل كل حالة مماثلة، اذ قال الله تعالى {مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم}البقرة214 اي انها سنة جارية في الامم جميعاً ومنها ما يتعرض له العراقيون من اشتداد البلاءات وكثرتها وتحزب شياطين الإنس والجن عليه، لأنه مركز النور ومنطلق الهداية للعالم أجمع، فيخاف الجميع من نهضته وقيامه وكل منهم ينطلق من زاويته في النظر الى ما يقلقه من العراق، فعلينا ان نستلهم الموقف مما ذكره الله تعالى في سورة الاحزاب .

ص: 363

خطاب المرحلة 464 :امور يكرهها المعصومون (عليهم السلام) يجب اجتنابها

خطاب المرحلة 464 :امور يكرهها المعصومون (عليهم السلام) يجب اجتنابها(1)

وسائل التربية والتعليم للإنسان كثيرة بعضها معروفة وملتفت اليها كالتلقّي المباشر من المعلّم والمربّي، وبعضها غير معروفة ولا يُلتفت إليها:

(منها) الإحسان في العمل والى الآخرين، قال تعالى عن يوسف الصديق (ع) (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (يوسف22) وقال تعالى عن النبي موسى (علیه السلام) (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (القصص14) فإيتاء العلم –سواء الفقه في الدين أو تأويل الرؤيا -والحكم- أي الحكمة أو الحكومة- كان جزاء لإحسانهم بأي نحوٍ كان في التعامل مع الآخرين كإحسان العمل واتقانه أو الاحسان الى الوالدين او الجيران او الاهل او عموم الناس، بل حتى الحيوان كما في قصةٍ رويتها سابقاً عن طالب العلم الذي أرضع قططاً صغيرة ماتت اُمّهنّ بعد الولادة.

(ومنها) التقوى، قال تعال (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ) (البقرة282)، وقال تعالى (يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً) (الأنفال29) والفرقان: نور البصيرة الذي يقذفه الله تعالى في قلب المتقي جزاء لتقواه ليميّز

ص: 364


1- الخطبة الاولى لصلاة عيد الفطر السعيد التي أقامها سماحة المرجع (دام ظله) في مكتبه يوم السبت 18/ 7/ 2015.

بين الحقِّ والباطل.ومثل هذه المصادر للعلوم والمعارف والتجارب الانسانية يجهلها العلماء الماديون الذين يستقون علومهم من التجارب والطرق الطبيعية، فعلى المهتمين بالتنمية البشرية الالتفات الى هذه المصادر وغيرها كزيادة العلم من خلال العمل به(1).

(ومنها) ما روي عن لقمان الحكيم فانه سُئِلَ (ممن تعلمت الحكمة؟ قال: من العميان لأنهم لا يضعون أقدامهم في محل حتى يختبروه) (2) (وقيل للقمان: ممن تعلمت الادب؟ فقال: ممن لا أدب لهم فاجتنبت كل ما استهجنتُه منهم)(3).

ومن طرق التربية وتهذيب النفس الالتفات الى الامور التي عبّر القادة المعصومون (علیهم السلام) عن كراهيتهم لوجودها وصدورها من شيعتهم او عموم الناس وكانوا يتألمون منها فعلينا كأتباع مطيعين لهم أن نلتفت اليها ونعالجها بعد أن سهّلوا علينا، بذكرها مرحلة التشخيص، وتُعرف هذه الامور من استقراء الروايات الشريفة وقد سجلت جملة منها اثناء مطالعاتي:

1-شكوى الثلاثة: القرآن والمسجد والعالم، روى في الخصال عن الامام الصادق (علیه السلام) قال (ثلاثة يشكون الى الله عز وجل مسجد خراب لا يصلي فيه

ص: 365


1- راجع خطاب (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْما) (طه114).
2- كتاب حكم لقمان للريشهري: ص 8 .
3- كتاب حكم لقمان للريشهري: ص 9.

اهله، وعالم بين جهال، ومصحف معلق قد وقع عليه غبار لا يُقرأ فيه) (1)، فشكوى القران التي ورد فيها قوله تعالى (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) (الفرقان30) وهجر القران لا يقتصر على ترك قراءته بل من الهجر ترك العمل بآياته ومضامين الرجوع اليه في كل الامور، مثلاً القرآن يقول (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) (النساء65) بينما تجعل العشائر سنناً وفرائض ما انزل الله بها من سلطان تتحاكم اليها، ويقول تعالى (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة44) (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة45) (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (المائدة47) ويقف من ينتسب الى القران مانعاً من تطبيق أحكامه كما حصل عند تقديم مشروع المحكمة الشرعية والقانون الشرعي للأحوال الشخصية (الجعفري)، مع إنه قانون يتعلق بالامور الخاصة لكل إنسان وله الحق في أن يُجريها على ما يعتقد.وقد شرحنا هذه الشكاوى الثلاث في كتاب مفصل اسمه (ثلاثة يشكون)

2-قلة التفقّه في الدين، والدين لا يستقيم بلا معرفة والتي تأتي من خلال المطالعة والاستماع والمتابعة، روي في الكافي عن الإمام الصادق (علیه السلام) (لوددت أن أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقّهوا) (2) وقال (علیه السلام) (عليكم بالتفقّه في دين الله ولا تكونوا أعراباً فإنه من لم يتفقه في دين الله لم

ص: 366


1- الخصال: 111 ابواب الثلاثة ح 163
2- الكافي: ج1 كتاب فضل العلم، باب فرض العلم.

ينظر الله اليه يوم القيامة ولم يزكِّ له عملاً) (1) ونقل الامام الصادق (علیه السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله: (افّ لرجل –وفي رواية اخرى: لكل مسلم- لا يفرّغ نفسه في كل جمعة لأمر دينه فيتعاهده ويسأل عن دينه) (2).3-عدم الاعتناء بأمر صلاتهم سواء على مستوى المحافظة على أوقاتها أو الالتزام بحدودها وشروطها وأحكامها التفصيلية من الإبتداء بالطهور الى نهايتها، أو على مستوى الإقبال فيها و التدبر في معانيها، أو على مستوى تحقيق الغرض المرجو منها، روى حماد ابن عيسى(3) قال: (قال لي أبو عبد الله (علیه السلام) يوماً: تُحْسِنُ أن تصلي يا حماد؟... قُم فصلِّ، قال: فقمت بين يديه متوجها الى القبلة فاستفتحت الصلاة وركعت وسجدت، فقال: يا حماد لا تُحسن أن تصلي؟ ما أقبح بالرجل أن تأتي عليه ستون سنة أو سبعون سنة فما يقيم صلاة واحدة بحدودها تامة) (4).

4-قول الإمام الصادق (علیه السلام): (وددت والله أني افتديت خصلتين في الشيعة لنا ببعض لحم ساعدي: النَزَقْ وقلّة الكتمان) (5).

تصوروا ألم الإمام وانزعاجه بحيث يتمنى لو قُطِّعَ جزء من جسده الشريف

ص: 367


1- الكافي: ج1 كتاب فضل العلم، باب فرض العلم.
2- الكافي: ج1 كتاب فضل العلم، باب سؤال العالم.
3- من ثقات الاصحاب روى عن الإمام الصادق {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً}طه114 (عليه السلام) وتوفي في حياة الإمام الجواد (عليه السلام)
4- ميزان الحكمة: 5/ 114 عن كتاب من لا يحضره الفقيه: 1/ 300 ح 915.
5- الكافي: ج2 كتاب الايمان والكفر، باب الكتمان.

ليخلص شيعته من النزق أي الخفّة والطيش والتعجّل في الامور وعدم التصرف بحكمة وروية، ومن قلة الكتمان أي عدم المحافظة على الأسرار والمواقف المتعلقة بقضايا العقيدة أو فضائل اهل البيت (علیهم السلام) أو مثالب اعدائهم أو تقييم الاشخاص والموقف من السلطة والاحداث الجارية التي قد يبينها الإمام (علیه السلام) لأحدهم خاصة ويحذّره من البوح بها لان أغلب الناس لا تستوعبها مثلاً أو لأنها تستفز الخصوم وتدفعهم الى الإضرار بشيعة الإمام (علیه السلام) أو أن في بيانها تضييقاً على الامة والإمام (علیه السلام) يريد التوسعة عليهم إشفاقاً بهم، لكن البعض لا يصبر على كتمان الأمر فيذيعه ويقع المحذور.وأعتقد أن هذا هو أحد اسباب وجود التعارض في روايات أهل البيت (علیهم السلام) لأن القضية تتطلب أحياناً أن يكون هناك موقف عام معلن وآخر غير معلن يقوله الإمام (علیه السلام) للخواص ليحفظوه منعاً من اندراسه فإذا اذيع الثاني كان معارضاً للأول ويختلط الأمر على المتلقين.

5-قلّة الأنصار المضحّين المطيعين لأمر الإمام والملتزمين بتوجيهاته بدقة وأن كان عدد الموالين والمريدين كثير، لكنهم عند الغربلة والإمتحان قليلون،روي عن امير المؤمنين (علیه السلام) قوله: (لو وجدت اربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم) (1) روى سدير الصيرفي قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ الله (علیه السلام) فَقُلْتُ لَهُ وَالله مَا يَسَعُكَ الْقُعُودُ؟ فَقَالَ: وَلِمَ يَا سَدِير؟ُ قُلْتُ: لِكَثْرَةِ مَوَالِيكَ وَشِيعَتِكَ وَأَنْصَارِكَ وَالله لَوْ كَانَ لأمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) مَا لَكَ مِنَ الشِّيعَةِ وَالأنْصَارِ وَالْمَوَالِي مَا طَمِعَ فِيهِ تَيْمٌ وَلا عَدِيٌّ فَقَالَ: يَا سَدِيرُ وَكَمْ عَسَى أَنْ

ص: 368


1- بحار الانوار: 28/ 313 عن عدة مصادر منها السقيفة للجوهري ووقعة صفين لنصر بن مزاحم.

يَكُونُوا؟ قُلْتُ: مِائَةَ أَلْفٍ قَالَ: مِائَةَ أَلْفٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ قَالَ: مِائَتَيْ أَلْفٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ وَنِصْفَ الدُّنْيَا قَالَ: فَسَكَتَ عَنِّي ثُمَّ قَالَ يَخِفُّ عَلَيْكَ أَنْ تَبْلُغَ مَعَنَا إِلَى يَنْبُعَ قُلْتُ نَعَمْ فَأَمَرَ بِحِمَارٍ وَبَغْلٍ أَنْ يُسْرَجَا فَبَادَرْتُ فَرَكِبْتُ الْحِمَارَ فَقَالَ: يَا سَدِيرُ أَ تَرَى أَنْ تُؤْثِرَنِي بِالْحِمَارِ قُلْتُ: الْبَغْلُ أَزْيَنُ وَأَنْبَلُ قَالَ: الْحِمَارُ أَرْفَقُ بِي فَنَزَلْتُ فَرَكِبَ الْحِمَارَ وَرَكِبْتُ الْبَغْلَ فَمَضَيْنَا فَحَانَتِ الصَّلاةُ فَقَالَ: يَا سَدِيرُ انْزِلْ بِنَا نُصَلِّ ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ أَرْضٌ سَبِخَةٌ لا تَجُوزُ الصَّلاةُ فِيهَا فَسِرْنَا حَتَّى صِرْنَا إِلَى أَرْضٍ حَمْرَاءَ وَنَظَرَ إِلَى غُلامٍ يَرْعَى جِدَاءً فَقَالَ: وَالله يَا سَدِيرُ لَوْ كَانَ لِي شِيعَةٌ بِعَدَدِ هَذِهِ الْجِدَاءِ مَا وَسِعَنِي الْقُعُودُ وَنَزَلْنَا وَصَلَّيْنَا فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنَ الصَّلاةِ عَطَفْتُ عَلَى الْجِدَاءِ فَعَدَدْتُهَا فَإِذَا هِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ) (1).6-تصديق المدّعين للعناوين الدينية الكبيرة من غير تثبت وتحقيق في صحة هذه الدعاوى ومن دون عرضها على الموازين الشرعية فيقودهم هؤلاء المدّعون الى الضلال والانحراف ويستخدمونهم لتحقيق مآربهم في الزعامة وتحصيل الإمتيازات، روي عن الإمام الباقر (علیه السلام) قوله: (وانه ليس من احد يدعو الى ان يخرج الدجال الا سيجد من يبايعه، ومن رفع راية ضلالة فصاحبها طاغوت) (2) أي جهل وتخلف وحماقة وانعدام الورع لدى الناس بحيث ان صاحب كل دعوة حتى لو كانت يقينية البطلان يحصل على أتباع ومؤيدين ينشرون دعوته وينصرونه، ويحذّر الإمام الصادق (علیه السلام) من ذلك قائلاً: (إياك

ص: 369


1- الكافي: ج2 كتاب الايمان والكفر، باب في قلة عدد المؤمنين، ح 4
2- الكافي: 8/ 296، الروضة، ح456

أن تنصب رجلاً دون الحجّة، فتصدّقه في كل ما قال)(1).7-التنازع والتقاطع بين الأتباع، ورد في رسالة الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه) الى الشيخ المفيد قوله: (لو أنّ أشياعَنا وفَّقهم الله لطاعته على اجتماعٍ من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم، لما تأخّر عنهم اليُمنُ بلقائِنا ، ولتعَجّلَت لهمُ السعادة بمشاهدتنا) (2).

8-قول امير المؤمنين (علیه السلام): (قصم ظهري رجلان: عالم متهتك وجاهل متنسك) (3) وقد تناولت في خطاب سابق(4) الاثار التدميرية لهذين الخطين الخطيرين في المجتمع خطّ النفاق والرياء وطلب الدنيا بالدين وخطّ التقدّس المتحجّر غير الواعي.

ص: 370


1- لكافي: 2/ 298 باب طلب الرئاسة، ح5.
2- الاحتجاج للطبرسي: ج2 ص499
3- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي: 20 : 284 ، كلمة رقم 248.
4- خطاب المرحلة: ج4 ص 91

خطاب المرحلة 465 :ولا نتخوف قارعةً حتى تحل بنا

خطاب المرحلة 465 :ولا نتخوف قارعةً حتى تحل بنا(1)

قصار كلمات أمير المؤمنين (علیه السلام) تختزن الكثير من الحكمة والهداية والاصلاح والرقي والسمو وتختزل الكثير من التجارب الانسانية لأنها تُعطي النتائج جاهزة ويوجد كتاب أسمه (غرر الحكم) للآمدي جمع فيه من قصار الكلمات ما يفوق بحجمه كتاب نهج البلاغة فلا تقصروا بالاستفادة من هذه الكلمات وتحليلها وتطبيقها على ما تعانيه الانسانية من مشاكل وما تصبو اليه من آمال وطموحات .

ومن تلك الكلمات ما جعلناه عنواناً لحديثنا وهي فقرة من الخطبة (32) في نهج البلاغة والتي يصف فيها الامام (ع) فساد الزمان وهو (ع) لا يعني بالزمان الايام والساعات المتتالية وتعاقب الليل والنهار وحركة الافلاك لأنها لا يصح وصفها بالفساد باعتبارها ظواهر كونية تسير وفق قوانين دقيقة لا تتخلف عنها فهي مطيعة لله تبارك وتعالى ومنفذة لأرادته تماماً ولا تحيد عن أمره (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يس -40) وإنما يريد بفساد الزمان فساد أهله، ويذكر بعض معالم الفساد :-

ص: 371


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع الاساتذة والمفكرين والباحثين في مركز ابداع للبحوث والدراسات الاستراتيجية في البصرة وجمع أخر من النخب يوم السبت 13 ذق 1436 الموافق 29/ 8/ 2015.

قال (علیه السلام):- (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا قَدْ أَصْبَحْنَا فِي دَهْرٍ عَنُودٍ- أي مشاكس ومخالف لما يُراد منه- وَزَمَنٍ كَنُودٍ –أي كافر بالنعمة- يُعَدُّ فِيهِ الْمُحْسِنُ مُسِيئاً، وَيَزْدَادُ الظَّالِمُ فِيهِ عُتُوّاً- أي قسوة وطغيانا- لا نَنْتَفِعُ بِمَا عَلِمْنَا وَلَا نَسْأَلُ عَمَّا جَهِلْنَا وَلَا نَتَخَوَّفُ قَارِعَةً حَتَّى تَحُلَّ بِنَا) ولنتعلم من أسلوب الموعظة الحسنة عند الامام (ع) فأنه لم يعزل نفسه عن معالم الفساد عند اهل الزمان حتى لا يوجب نفورهم وعنادهم فيتحدث بضمير المتكلم وكأنه مخاطب قبل غيره بما يقول، وهو ع سيد المعصومين وأكمل الخلق أجمعين بعد أخيه رسول الله (صلی الله علیه و آله) .ومحل الشاهد قوله (علیه السلام) (وَلَا نَتَخَوَّفُ قَارِعَةً حَتَّى تَحُلَّ بِنَا) والقارعة:- الأمر المهول والداهية العظيمة، من القرع وهو الضرب بقوة ومنه قرع الباب، ومن أسماء يوم القيامة في القرآن الكريم (القارعة) لأنها تقرع الناس فتذهلهم وتبهتهم فينطلقون مذعورين، وتطلق ايضاً على كوارث الدنيا قال تعالى (لاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ) (الرعد-31).

وهذه الحكمة الكبيرة التي تشخّص مرضاً فردياً واجتماعياً سائداً رغم خطورته وهو اننا لا نحذر الأخطار ولا نتوقاها ونتحرز منها رغم الانذارات المتكررة ووجود بوادرها ومقدماتها ونبقى سادرين في الغفلة والعناد والمكابرة والجهل حتى تقع الكارثة وتحل بنا وحينئذٍ نفزع الى الحلول والاستغاثة والتشبث من الغرق بأي وسيلة فلا نجدها لأن وقتها قد فات ولا ينفع الندم والحسرة، ولا نستفيد من التجربة، وكلما تكررت الحالة يكون الموقف نفسه.

ص: 372

هذا هو حال الافراد تعظهم وتنذرهم وتنصحهم فلا يأخذون بشيء من ذلك حتى يقع المحذور كالطفل حينما تحذره من مواضع الخطر كلمس الكهرباء أو النار وتناول الأشياء الضارة لكنه لجهله يصرّ على العناد والاقتحام فيصيبه الضرر وقد يكون قاتلاً (ولات حين مندم).وهذا هو أيضاً حال المجتمعات والكيانات يصرون على المضي في طريق الخطأ والخطيئة إلا أن يحترقوا بنارها فيطلبون النجدة للخلاص فلا يسعفهم الحل ولا يستمعون الى القادة المخلصين الحريصين عليهم الناصحين لهم الذين يريدون لهم الخير والسعادة فإن مثل هؤلاء القادة ينبهون الأمة الى الخطر قبل وقوعه ويشخصون المشكلة بقراءتهم الدقيقة واستشرافهم المستقبل بنور الله تبارك وتعالى ووعي المعطيات والظروف الموجودة ويقدمون الحلول ليتجنبوا وقوع المشكلة ويمنعون من حصولها كالطبيب الحاذق الذي يُشخص المرض قبل استفحاله ويحذّر ويقدّم النصائح ليتجنب وقوعه(1)، لكن الناس وزعاماتها المصطنعة لا تعي ذلك ولا تريد أن تتنازل عن بعض مصالحها وامتيازاتها فتجتهد في إبقاء الناس على حالة الغفلة والجهل والتخلف والقداسة الموهومة حتى تقع الكارثة فيندفعون الى إيجاد الحلول نفاقاً وإدامة لنفوذهم وهيمنتهم.

والوضع في العراق حافل بالأمثلة والشواهد الكثيرة على ذلك فقد كنا نقرأ

ص: 373


1- حدث السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) أن شخصاً مرَّ بدار فسمع من داخله صوتاً فقال ان صاحب هذا الصوت سيموت بعد ثلاثة أيام وقد حصل ذلك فعلاً ، ولما سُئل هل انه يعلم الغيب، أجاب لا، لكننا نفهم الحالة على انه شَخّصَ صوت المتحدث علةً في قلبه او جهازه التنفسي لا تمهله كثيراً فهكذا القائد الحاذق يقرأ الأحداث ويقدم الحلول .

الكوارث الحالية التي يمر بها البلد منذ عشر سنوات لأننا كنا نقرأ المنهج الخاطئ والسلوك السيء الذي سيؤدي الى الكارثة حتماً فقد أُبتلي قادة البلاد بالأنانية والاستئثار وسوء الادارة والتخطيط والاستبداد، والمضي في المشاريع الخطيرة - كتقسيم البلاد والتحريض الطائفي وتهديم مؤسسات الدولة وتذويب الهوية الوطنية والتبعية للأجنبي – دون إدراك عواقبها الوخيمة أو أنهم يدركونها لكنهم لا يفكرون إلا بمصالحهم الضيقة، وهذه المجلدات من كتاب (خطاب المرحلة) حافلة بتلك الخطابات والبيانات، لكنهم لم يصغوا اليها ولم يأخذوا بها بل كانوا يُعادونني من أجل تلك المواقف المخلصة ويصفون كلماتي بأنها مثالية لا واقع لها، أو يصفونني بأني أسبق الزمن وأقدّم الحلول قبل أوانها، وأنهم لا يجدون مبرراً للأخذ بها ؟ عجباً لهم ! أليس من مواصفات القائد الناجح استشراف المستقبل وقراءة الأمور قبل وقتها لإتخاذ التدابير اللازمة(1) .وهذه كانت واحدة من مشاكل المعصومين (علیهم السلام) مع الناس، فأن كلماتهم تتضمن الكثير من هذه الخلاصات الجاهزة التي لا ندركها إلا بعد تجارب انسانية طويلة، فلنلتفت اليها ولندرسها ونستفيد منها لنوفّر علينا الجهود الكبيرة والخسائر الباهظة.

ص: 374


1- اقتطعنا من حديث سماحته (دام ظله) هنا كلاماً حول الوضع الراهن في العراق ونشرناه في بيان مستقل.

مثلاً بعض الدول الاسلامية(1) أتخذت قراراً بالتشجيع على تحديد النسل وتقليل الانجاب لمصالح توهمتها وبعد عشرين عاماً أدركت أنها أخطأت وأنها سائرة في طريق الفناء والاندثار فأصدرت القرارات للتشجيع على الانجاب وتكثير النسل وتقديم المكافاءات، بينما الاحاديث الشريفة التي تحث على الانجاب وكثرة النسل توفر الجهود عليهم وتعطيهم النتائج مسبقاً، ولا نريد الاستغراق في الأمثلة لأنها تفوق الحصر .

ص: 375


1- جمهوربة ايران الإسلامية، راجع خطاب الإمام الكاظم (علیه السلام) وتكثير النسل، في كتاب خطاب المرحلة: ج8 ص223.

خطاب المرحلة 466 :المرجع اليعقوبي: تحقيق الامن مسؤولية الجميع ونتاج منظومة كاملة من الفعاليات

خطاب المرحلة 466 :المرجع اليعقوبي: تحقيق الامن مسؤولية الجميع ونتاج منظومة كاملة من الفعاليات(1)

أكّدَ سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) على أن الامن لا يتحقق بالقوة العسكرية فقط وإنما هو نتاجُ مجموعةٍ من الفعاليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والأخلاقية والفكرية، وأي خللٍ أو تقصيرٍ في أحد هذه الجوانب يُحدِثُ ثغرةً أو اختراقاً أمنياً، لذا فإن معالجة الوضع الأمني لابد أن تشمل جميع هذه الجوانب ويشترك فيها المعنيون بكل هذه المجالات، ففسادُ النظام السياسي الحاكم سببٌ لنشوء هذا الإرهاب، والتدهور الاقتصادي سبب آخر، وتفكك البنية الاجتماعية وضعف الرادع الأخلاقي وتشوّش القيمِ الدينيةِ واختلاطها بالشبهات والانحرافات والضلالات كلها أسبابٌ لسقوطِ الشخص في فخِّ العملِ الإرهابي، وهذا يفسّر الظاهرةَ التي عجز المحللون السياسيون والأمنيون في بلاد الغرب عن معرفةِ أسبابها وهي التحاق آلاف الشباب بالمجاميع الإرهابية وهم من دول مرفَّهةٍ اقتصادياً والحريات السياسية والاجتماعية متوفرة بأوسع أشكالها، والسبب هو الشبهات والضلالات العقائدية والفكرية التي لوثت أدمغتهم.

وأكّد سماحة المرجع (دام ظله) لدى استقباله وزيرَ الدفاعِ السيد خالد

ص: 376


1- الخميس 3 ذ.ح./1436 الموافق 17/ 9/ 2015

العبيدي وعدداً من كبار القادة في الوزارة في مكتبه في النجف الأشرف على ضرورة تكريس الجهود والاهتمام ببناء قواتٍ مسلحةٍ مهنيةٍ وحياديةٍ وتتربى على عقيدةٍ وطنيةٍ خالصةٍ، وثمَّن الإنجازات التي حققتها القوات المسلحة وإنْ كانت دون مستوى الطموح الذي يليقُ بالجيش العراقي، وعبَّر سماحتهُ عن قلقهِ من محاولات البعض لإضعاف قدراتِ القواتِ المسلحةِ وتعويقِ عملها وإظهارها بالموقفِ الضعيفِ العاجزِ عن أداء مهامّه تنفيذاً لأجنداتٍ لا تخدم مصلحة العراقِ وشعبه.واستغرب سماحته للازدياد المضطرد لجماعات العنف والخطف والاغتيال والابتزاز عدةً وعدداً وتحكمها في أجزاءٍ كبيرةٍ من الشارعِ مستغلةً العناوين الرسمية بينما يسود البطؤ والتسويف عملية اعداد الجيش العراقي ورفده بتشكيلات جديدة تزيد من قدراته وموارده البشريةِ والتسليحيةِ وتمكينهِ من خوضِ هذه المواجهةِ الشرسةِ، وحفظِ هيبةِ الدولةِ ومؤسساتها وسيادتها ووحدة البلاد وأمن المواطنين كافة، وجدّد سماحة المرجع (دام ظله) رفضه لانتشار السلاح والمسلحين في المدن وعسكرة المجتمع وشدّد على حصر السلاح بيد الدولة ومؤسساتها الرسمية واقتصار العمل العسكري والجهادي على ساحات المواجهة.

هذا وقد حضر اللقاء رئيس أركان الجيش وكالةً وقائد سلاح طيران الجيش وأمين السر العام للوزارة ونائب قائد عمليات الفرات الأوسط وضباط ومسؤولون اخرون في الوزارة.

ص: 377

خطاب المرحلة 467 :(ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً)

(الروم/54)

اغتنم شبابك(1)

وصيةُ النبي (صلی الله علیه و آله) للصحابي الجليل أبي ذر الغفاري رسالة عظيمة للأجيال ينبغي مراجعتها والاستفادة منها باستمرار، ومنها قوله (صلی الله علیه و آله): (يا أبا ذر.. اغتنم خمساً قبل خمسٍ: شبابك قبل هرمك، وصحّتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) (2).

وهذه الوصية موجّهة بشكل رئيسي الى الشباب للتصريح بهم في أول فقرة، ولأنهم الأكثر توفّراً على هذه النعم الخمس، فهم شباب أصحّاء وقواهم البدنية متكاملة لم يضعفها مرور الزمن، وهم فارغون غالباً من المسؤولية غير مشغولين بهموم الحياة، وهم أغنياء لانهم غالباً مكفيو المؤونة بآبائهم وليسوا معيلين لكثيرين.

فليلتفت الشباب الى ما حباهم الله تعالى من النعم ليستثمروها في اتجاهها

ص: 378


1- من حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع حشد كبير من الشباب وطلبة الجامعات الذين شاركوا في فعاليات دينية وتوعوية في مدينتي النجف وكربلاء يومي عرفة والعيد والتقاهم سماحته يوم الجمعة 11 ذي الحجة 1436 الموافق 25/ 9/ 2015.
2- مكارم الاخلاق للطبرسي: 626

الصحيح أي في طاعة الله تعالى وإعمار الحياة بكل خير ونفع لهم وللمجتمع عامة، وعدم هدر الطاقات وصرفها في اللغو والعبث فضلاً عن الاستخدامات السيئة والاجرامية والعياذ بالله، فكما يردّد الشاب أنني اريد أن أبني مستقبلي وأكوِّن نفسي، ويقصد النواحي المادية كحياة معيشية مرفّهة وزوجة وأطفال ومصدر رزق ونحو ذلك، وهو حقٌّ ومطلوب وحثَّ عليه الشارع المقدس، إلا أنه عليه أن يفكّر ببناء مستقبله المعنوي والإيماني أيضاً ليضمن السعادة والفوز في الآخرة كما في الدنيا، وأن البناء في مرحلة الشباب يكون أرسخ وأقوى.إن الاهتمام بالشباب ليس اعتباطاً وإنما لوحظ فيه وجود عناصر النجاح والتكامل في الشباب أكثر من غيره وهي:

1.قوة الإرادة وتنفيذ ما يعزم عليه، ونجد كثيراً من الشباب يقوم بالمغامرات المهلكة ويرتكب الحماقات الجنونية لا لشيء إلا لأنه اقتنع بأمر وهو عازم على تنفيذه، وهو مستعد للتمرد والخروج على كل القوانين والأعراف، فيجب توظيف هذه الإرادة القوية فيما هو نافع ومثمر.

2.النقاء وسلامة الفطرة لأنهم قريبو عهد ببراءة الطفولة والخروج الى هذه الدنيا بصفحة بيضاء، وقلوبهم طاهرة كالمرآة الصافية لم تتكدّر بالاستعمال فيكون تلقيها للتربية والاصلاح والمعارف الحقة سريعاً وثابتاً، عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (إنما قلب الحدث كالأرض الخالية، ما القي فيها من شيء قبلته) (1) وفي كتاب الكافي بسنده عن اسماعيل بن عبد الخالق: (سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول لأبي جعفر الأحول وأنا أسمع: أتيت البصرة؟ فقال:

ص: 379


1- تحف العقول: 70

نعم، قال: كيف رأيت مسارعة الناس لهذا الأمر ودخولهم فيه؟ قال: والله إنهم لقليل، ولقد فعلوا وإن ذلك لقليل، فقال (علیه السلام): عليك بالأحداث فإنهم أسرع الى كل خير) (1)، أما أذا امتد العمر فإن الأخطاء والمعاصي ستلوّث عقولهم وقلوبهم كما في دعاء الإمام السجاد (علیه السلام): (ويلي كلما طال عمري كثرت معاصيِّ) (2) ومن الصعب حينئذ جلاؤها وتنقيتها وإعادتها الى نفس الصفاء والفطرة السليمة.3.سلامة القوى البدنية والعقلية (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) (غافر/67) مما يساعده على فعل ما تتطلبه رسالته في الحياة وتلقي العلوم النافعة، وهذه القوى تضعف بمرور الزمن (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) (الروم/54)، ويصل الى مرحلة من العمر لا يتمكن فيها من أداء الواجبات فتراه لا يقدر على الصوم ويصلي من جلوس ويعجز عن أداء مناسك الحج والذهاب لزيارة الائمة الطاهرين (علیهم السلام) ولا يتمكن من قراءة القران وأمثال ذلك (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ) (يس/68).

فاغتنام الشباب يعني الاستفادة من هذه العناصر مجتمعة لبناء حياة مؤمنة مطمئنة تسعى لنيل رضا الله تبارك وتعالى وتجنب سخطه. في الحديث عن النبي (صلی الله علیه و آله): (ان احب الخلائق الى الله عز وجل شاب حَدَث السن في صورة

ص: 380


1- الكافي: 8/ 93 ح 66
2- مفاتيح الجنان:481

حسنة جعل شبابه وجماله لله وفي طاعته، ذلك الذي يباهي به الرحمن ملائكته، يقول هذا عبدي حقاً) (1)، وفي حديث آخر عنه (صلی الله علیه و آله) (سبعة في ظل عرش الله عز وجل يوم لا ظل الا ظله: إمامٌ عادل، وشابٌ نشأ في عبادة الله عز وجل) (2)، وهذا يستلزم اهتماماً متزايداً بمطالعة الكتب والتثقف والازدياد من المعارف والعلوم التي تبني شخصية الانسان وتقوّم تفكيره وتحصّنه من الانحراف والضلال والفساد والشبهة، وستستفيدون كثيراً من المطالعة.وقد نصحت مراراً بأن تتخذوا دفتر ملاحظات تسجلون فيه هذه الأحاديث الأخلاقية لأهل البيت (علیهم السلام) وكلمات الحكماء التي تفهمون منها درساً مفيداً في حياتكم، وأن تتعبوا أنفسكم في مطالعة الكتب النافعة وتحصيل المعارف الدينية والأخلاقية والتوعوية، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (لستُ أُحِبُّ أن أرى الشاب منكم إلا غادياً في حالين: إما عالماً او متعلماً، فإن لم يفعل فرّط، فان فرّط ضيّع، وإن ضيّع أثم، وإن أثم سكن النار والذي بعث محمدا (صلی الله علیه و آله) بالحق) (3).

وربما ستؤثر فيكم كلمة صغيرة تقلب حياتكم نحو الأفضل، كما حصل لبشر الحافي العابد الزاهد الذي يفتخر به المتصوّفة، فقد كان صاحب خمر ولهو وعبث مع أصدقاء السوء، وذات يوم بينما كانت جاريته تلقي القمامة ونفايات الطعام خارج الدار، مرَّ الإمام الكاظم (علیه السلام) فرأى داراً فارهةً تصدر

ص: 381


1- كنز العمال: 43103
2- الخصال: 343 ح8
3- الأمالي للطوسي:303 / ح604

منها أصوات الغناء والمجون والفسق فسأل الجارية عن صاحب الدار، فقالت: لسيدي ومولاي بشر، فقال الإمام (علیه السلام): هل سيدك حرٌّ أم عبدٌ؟ فاستغربت الجارية من السؤال لوضوح أن سيدها حر فأجابت: بل سيدي حر، فقال الإمام (علیه السلام): صدقتِ لو كان عبداً لاستحيا من مولاه، ولما عادت الجارية سألها سيدها بشر عن سبب تأخيرها فحكت له ما جرى فقال اذكري له أوصافه، فوصفت الإمام (علیه السلام) لسيدها، وهنا صحا بشر من سكره، وقال ذاك سيدي ومولاي موسى بن جعفر وفهم معنى الرسالة، بأن بشراً لو استشعر معنى العبودية لربه وخالقه الذي أغدق عليه نعماً لا تعد ولا تحصى لاستحيا منه ولم تصدر منه هذه المعاصي والقبائح، وسرعان ما خرج يبحث عن الإمام حتى وجده ووقع على يديه ورجليه يقبّلهما ويستغفر الله تعالى ويتوب على يديه وكانت توبته صادقة وارتقى في درجات الكمال ببركة كلمة صادقة من العبد الصالح، وما اكثر هذه الكلمات في بطون الكتب فاستخرجوها واستفيدوا منها.إن من أضاع شبابه في اللهو والعبث سوف يندم ويندب حظه السيء. عن أمير المؤمنين (علیه السلام): (شيئان لا يعرف فضلهما الا من فقدهما: الشباب والعافية)(1) كما قال الشاعر:

ألا ليتَ الشبابَ يعودُ يوماًلاخبره بما فعلَ المشيبُ

أما من اغتنم شبابه واستثمره في العمل الصالح والسلوك النظيف فانه لا يندم على انقضائه بل يفرح عند تذكره بلطف الله تعالى وعنايته به، روي أن ابراهيم (علیه السلام) لما أصبح فرأى في لحيته شيباً شعرةً بيضاء، قال: (الحمد لله رب

ص: 382


1- غرر الحكم: 5764

العالمين الذي بلّغني هذا المبلغ ولم أعصِ الله طرفة عين) (1)إن عليكم أن تبنوا أنفسكم ثم تنطلقوا الى مجتمعكم فتبذلون وسعكم في توعيته وإصلاحه والمطالبة بحقوقه وأن توفّروا له القيادة الصالحة التي تؤسس له الحياة الكريمة كما أرادها الله تعالى لعباده، ولا تتقاعسوا أو تشعروا بالإحباط أو تنزووا أو تعتزلوا مجتمعكم، فإنكم تضرّون بذلك أنفسكم، وتحرمون أُمتكم من هذه الطاقات الخلاّقة التي عندكم، فأنتم محركو الامة وباعثو الحياة فيها.

إن الامم التي تقل نسبة الشباب فيها تقل قابليتها على النمو والازدهار كما هو حال اوربا اليوم حتى صارت تسمى (القارة العجوز) وقد جنت على نفسها بذلك لحماقتها واتباعها لشهواتها حيث العلاقات الجنسية غير المشروعة كبديل عن الزواج والتشجيع على قلة الانجاب وإباحة الاجهاض والشذوذ الجنسي للمثليين، ونحو ذلك، ومن الحلول التي ابتدعتها تشجيع هجرة ولجوء الشباب من الدول الاخرى خصوصا الاسلامية التي تتمتع بنسبة عالية من الشباب لتعوّض نقص الأيدي العاملة فيها(2).

ص: 383


1- علل الشرايع: 104 ح 2
2- اشارة الى الموجة العارمة من الهجرة الى أوروبا عبر تركيا واليونان أو افريقيا عبر البحر الأبيض وبلغ تعدادهم في بضعة أشهر من هذه السنة حوالي المليون، وقالت مصادر الإحصاء الأوروبية أن 75 منهم شباب وحملة شهادات.

خطاب المرحلة 468 :(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)

خطاب المرحلة 468 :(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)(1)

(الأعراف 201)

يمكن فهم الآية من خلال استخلاص عدد من المواعظ والدروس التربوية منها:

1-إن الإنسان مهما ارتقت درجته في العبادة والطاعة معرض للزلل بغواية الشيطان التي تبتدئ بأفكار ووساوس وقناعات ورغبات يلقيها الشيطان في قلب الانسان وعقله سمّتها الآية بطائف الشيطان فالآية وصفتهم ببلوغ درجة المتقين والشيطان لم يتركهم، ولا ينجو من مكائد الشيطان الا المعصومون (سلام الله عليهم)، وهذا ما توعد به ابليس منذ خلق البشر (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (ص82-83) فكلنا بجميع درجاتنا وعلى اختلاف أحوالنا وأعمارنا شباباً وشيباً رجالا ونساءاً معرضون لهذا الابتلاء وإلقاء الوساوس وطواف الشيطان على القلب والعقل، لكن قد تختلف هذه الوساوس والاثارات بين البشر فالشباب لهم بلاءهم ورغباتهم وإثاراتهم والحوزة لها اختبارها والأثرياء والفقراء لكل منهم امتحانهم والذي في الغرب والذي في البيئة المسلمة واساتذة الجامعات والسياسيون وهكذا كل فرد يحس بهذا

ص: 384


1- الخطبة الاولى لصلاة عيد الاضحى المبارك عام 1436 الموافق 24/ 9/ 2015

الضغط والتزيين باتجاه ما يحاول الشيطان أن ينفذ من خلاله، فعلى الجميع الحذر والمراقبة والوعي والتفقّه حتى يغلقوا على الشيطان منافذه.2-إن الدرع الحصينة التي يلتجئ اليها الإنسان للوقاية من كيد الشيطان وإغرائه هي التقوى لأن الآية ذكرت أن المتقين هم الذين لا يفلح الشيطان في استغفالهم وأنهم سرعان ما يتذكرون إذا حام الشيطان حول قلوبهم، وتعود اليهم بصيرتهم فوراً عند تذكرهم، وقد يكون المتقي متذكراً يقظاً دائماً فلا يكون للشيطان عليه سبيلاً، وقد قالوا في علمي الفقه والاصول أن تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية أي أن حصول التذكر وعودة البصيرة واليقظة والمراقبة متعلق ومرتبط بوجود ملكة التقوى، فحالة التذكر معلولة لوجود ملكة التقوى عند العبد فكلما كان اكثر تقوى كان اكثر تذكراً لان وجود مَلَكَة التقوى سبب للانتباه من الغفلة رزقاً خالصا من الله تبارك وتعالى وجزاءً لتقواه (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً) (الطلاق-2) والرزق يشمل المعنويات بالتأكيد، فاذا تذكر الانسان واستبصر خنس الشيطان وخسئ، واذا غفل الانسان عاد الشيطان الى وسوسته وتزيينه فوُصِفَ ب- (الوسواس الخنّاس) فالشياطين كالفيروسات والجراثيم الملوثة للبيئة والموجودة حول كل إنسان لكنها لا تصيب الا من كانت مناعته ومقاومته التي هي التقوى ضعيفة ولو بدرجة من الدرجات.

3-إن طريقة عمل الشيطان بأن يطوف ويدور حول قلب الإنسان وعقله ويوسوس له ويحاول تزيين المعصية ليحرّك شهواته وغرائزه باتجاهها، ويحاول اغراءه بها، قال تعالى (شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ

ص: 385

زُخْرُفَ الْقَوْلِ) (الأنعام-112) عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال : (الشيطان موكّل به – أي العبد- يزيّن له المعصية ليركبها ويمنّيه التوبة ليسوّفها) (1) هاتان العمليتان قبل فعل الانسان وبعده هما كل سلطة الشيطان على الناس، فالاعتقادات السائدة لدى الجهلة والعوام بتلبس الجن وأمثالها وبالشكل الذي يصورونه تافهة وباطلة، وأن الله تعالى كرّم الإنسان وفضّله على خلقه فلا يجعل لغيره سبيلاً عليه بهذا النحو وغيره، فالشيطان لا يملك هيمنة على الإنسان أكثر من ذلك والإنسان هو الذي يختار سلوكه وطريقته في الحياة بإرادته (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (الإنسان3) لذا يرد الشيطان على الإنسان يوم القيامة بما حكاه الله تعالى عنه (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم) (إبراهيم22) وقال تعالى (وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) (سبأ21).ومن الواضح أن سلاح الشيطان هو استغفال الإنسان وغلق منافذ التفكير والوعي والحكمة ووضع الحُجُب دون بصيرته وقدرته على التمييز بين الحق وبين الباطل لذا كان العلاج وسلاح الرد عليه هو التذكر والانتباه والفطنة والحذر وإزالة الحُجُبِ والأغلال والمراقبة المستمرة (تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)(الأعراف 201) كالسارق فانه لا يستطيع سرقة الإنسان المنتبه المتحذّر وإنما يسرق الغافل الساهي والشيطان يريد سرقة دين الإنسان واستقامته.

ص: 386


1- نهج البلاغة: 64

وينبغي الالتفات الى أن فسح المجال للشيطان لكي يطوف ويحوم حول القلب والاسترسال مع وسوسته والافكار التي يُلقيها وعدم قطع الطريق عليه نقص في كمال الإنسان وإن لم يفعل المعصية ففي الآية الكريمة (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) (المجادلة/10) وفي الحديث (لولا أن الشياطين يحوّمون على قلب ابن ادم لنظروا إلى الملكوت)(1)، فعلى كل فرد أن لا يستصغر شأن بعض الأفكار غير الرحمانية -حتى مع كونها على مستوى الأفكار- التي تراوده كالتعلّق بالجنس الآخر أو الاعتداء على المال العام أو الكيد لشخص يحسده والانتقاص منه وتسقيطه ونحو ذلك، وعليه أن يقطعها ويستغفر منها (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (الحجرات/12) والا كانت بداية للسقوط في الخطأ والخطيئة والعياذ بالله.4-لم تذكر الآية متعلق التذكّر أي ماذا يتَذَكَّرون والتذكر هو التفطن لأمور مغفول عنها سابقاً وتساعده في الوصول الى النتيجة فقالت (تَذَكَّرُوا) وأطلقت ولعله ليشمل كل ما يعينك على هذه المواجهة ولكن الآية التي سبقتها نبّهت الى ما يجب تذكره واستحضاره والتسلح به، قال تعالى (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأعراف200) فالآية محل البحث تبّين وسيلة الوصول الى العلاج الذي ذكرته الآية السابقة عليها. وأكدّته اية لاحقة (وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ) (الأعراف-205).

ونستطيع أن نعرف تفصيل الامور التي يتذكرها ليكون مبصراً من سورة

ص: 387


1- بحار الانوار، المجلسي، ج70 ص59.

يوسف فقد تعرّض ع لموقف رهيب فماذا كان سلاحه في تلك المواجهة؟ وماذا كان برهان ربه الذي لولاه لهَمََّ بها؟ (قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (يوسف23) إنها عناصر ثلاث. فيستحضر الله تعالى أولاً ويستعيذ به ويطلب منه العصمة والمعونة وهذا ما ذكرته الآية السابقة هنا.

ويتذكر ثانياًُ أن له رباً هو الله تبارك وتعالى يملك أمره ويتولى تربيته ويكفيه المؤونة ويرزقه من حيث لا يحتسب وهو الذي ينصره ويثبت قدمه عند المزالق ويفرج عنه وأنه قد أغدق عليه النعم الكثيرة فعليه أن يلتزم بمنهج ربه ولا يفارقه شكراً لنعمائه وليس مقابلة النعمة بالعصيان (هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ) (الرحمن/60).

ويتذكر ثالثاً العاقبة السيئة لمن يتبع الشيطان ويظلم نفسه بفعل المعصية (إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (يوسف23).

عن الإمام الصادق (علیه السلام) في معنى ذكر الله على كل حال قال: (يذكر الله عند المعصية يهم بها فيحول ذكر الله بينه وبين تلك المعصية، وهو قول الله عز وجل (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)(1).

ولنضرب مثالاً من واقعنا المعاش وهي الظاهرة التي غزت شبابنا والهوس الذي اصاب كثيرين منهم هذه الأيام لدفعهم باتجاه التغرّب أو التعرّب بعد الهجرة سعياً وراء ما يسمونه بتحسين وضعهم المعاشي والحياة المادية المترفة،

ص: 388


1- معاني الاخبار: 20/ 192

هذا القرار غير الحكيم يبتدئ من طائف شياطين الإنس والجن الذين يصوّرون للشاب هذه الرحلة وكأنها الى الفردوس المنتظر وييسِّرون له أمرها ويرسمون له الأحلام الوردية ويسوّدون صورة واقعه المعاش فهنا إنْ تذكّر أن في هذا الفعل ضياع دينه واسرته والتفريط بأهله واخوانه وبلده ابصر طريقه واتخذ القرار الصحيح بالبقاء ولو كلّفه بعض الصعوبات فإن تحملها في جنب الله سعادة، وإن مضى في غفلته سقط في هذا الفخ الذي نصبه من لا يؤتمنون على العاقبة الحسنة في الدنيا ولا في الاخرة، وقد ابتلع البحر الأبيض مئات الالاف من اللاجئين في هذه السنة والتي سبقتها، هذه الظاهرة مليئة بالغرائب، فإن الدولة(1) التي يتجمع فيها الإرهابيون من شتى أنحاء العالم لينتقلوا منها الى سوريا والعراق، هي نفسها التي امتلأت بشبكات التهريب لتنقل الفارّين من جحيم الإرهاب الى اوربا.والدول الاوربية التي ترفض إعطاء الإقامة لمن قصدها باحترام عن الطريق الرسمي والسفر بسمة الدخول ترحب بهم كلاجئين عبر طرق الموت والمعاناة وابتزاز المهرّبين، إنها مفارقة حمقاء.

5-يمكن فهم هذه الآية تربوياً وعملياً باتجاهين متعاكسين (احدهما) أن من يكون متقياً يحظى بلطف من الله تعالى بالتذكر عندما يحوم الشيطان حول قلبه فتنفتح بصيرته ويرى الحق فينجو من مكائد ابليس (ثانيهما) أن من أراد أن

ص: 389


1- وهي تركيا، وساهم اطلاق هذا الموقف الحازم الصريح في خلق وعي عام ضد الهجرة الى الخارج فتوقفت بنسبة عالية بل تحول الأمر الى بروز دعوات للهجرة المعاكسة أي عودة المهاجرين في الخارج الى بلادهم.

يكون من المتقين فعليه أن يكون متذكراً يقضاً مراقباً لينجيه الله تعالى من اغواء الشيطان وبذلك تحصل عنده ملكة التقوى. وهذان الاتجاهان متلازمان وكل منهما يؤدي الى الاخر أي أن كل درجة من أحدهما تؤدي الى أعلى منها من الآخر والعكس كذلك حتى يرتقي في درجات الكمال بإذن الله تعالى.6-إن الإنسان المتقي الصالح محبوب عند الله (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة4) وإتباع الشيطان عمل مبغوض عند الله تعالى، فحينما يقع هؤلاء الذين اتقوا في طائف الشيطان فإن عملهم مبغوض لكنهم محبوبون في ذاتهم.

هذه النتيجة نخرج منها بدرس عملي وهو أنه يجب علينا أن نميّز بين حب وبغض الشخص وحب وبغض عمله فقد نرفض عمل شخص لأنه غير صالح ولا يسري ذلك الى الشخص ذاته بل يبقى محبوباً لأنه متقي صالح فاعل للخير، وهذا معنى الحديث (إن الله قد يحب العبد ويبغض عمله)(1) وهذا الأدب الرفيع لا يلتزم به الا من ندر، حيث أن السائد في المجتمع أنه يكره الشخص وينبذه ويسقطه ويسحق كرامته لأجل عمل شيء أو موقف خاطئ صدر منه.

ص: 390


1- تقدّم في خطاب المرحلة: ج8 ص112 لشرح هذا الحديث.

خطاب المرحلة 469 :(وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ)

خطاب المرحلة 469 :(وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ)(1)

(الرعد-21)

لا يمكن أن يتصور أمثالنا –ونحن حبيسو الدنيا المادية- حقيقة سوء الحساب وحالاته وأوصافه إلا بمقدار ما تتحمله أفهامنا من كلام الله تعالى والمعصومين (سلام الله عليهم)، وقد أعد سوء الحساب حقيقة للذين أعرضوا عن ربهم ولم يلتزموا بالمنهج الربّاني، قال تعالى: (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) (الرعد : 18) ويعرف بعض الوان هذا الحساب من آيةٍ مماثلة، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (المائدة : 36)، وقد روى الطبرسي في مجمع البيان في معنى سوء الحساب عن أبي عبد الله (علیه السلام): (هو أن لا يقبل منهم حسنة ولا يغفر لهم سيئة)(2) لأن هؤلاء حبطت أعمالهم.

لكن هذا المعنى لسوء الحساب قد لا يتلاءم مع سياق الآية التي نحن بصددها لأنها تصف قوماً على مستوى عالٍ من الإيمان، قال تعالى: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ، الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ، وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا

ص: 391


1- الخطبة الثانية لصلاة عيد الاضحى المبارك سنة 1436 الموافق 24/ 9/ 2015
2- مجمع البيان: 6/ 442، تفسير البرهان: 5/ 205.

أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ) (الرعد : 19-21).فما المراد بسوء الحساب الذي يخافه هؤلاء وهم بهذه الدرجة من الإيمان، يشرح لنا الإمام الصادق (علیه السلام) وجهاً للمراد، فقد روي بسند معتبر عن حماد بن عثمان في تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ) (الرعد:21) قال: (دخل رجل على أبي عبد الله (علیه السلام) فشكا إليه رجلاً من أصحابه، فلم يلبث أن جاء المشكو، فقال له أبو عبد الله (علیه السلام): ما لفلان يشكوك؟ فقال له: يشكوني أني استقضيت(1) منه حقي، قال: فجلس أبو عبد الله مغضباً، ثم قال: كأنك إذا استقضيت حقك لم تسئ؟! أرأيت ما حكى الله عز وجل في كتابه: (يَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ) أترى أنهم خافوا الله أن يجور عليهم أو يظلمهم؟ لا والله ما خافوا إلا الاستقضاء، فسمّاه الله عز وجل: (سُوءَ الحِسَابِ) فمن استقصى فقد أساء)(2).

أقول: يظهر من الرواية أن سوء الحساب الذي يخافونه هو التدقيق في التعامل بمقتضى العدالة والمقابلة بالمثل فيحتسب الحسنات والسيئات كما هي، ففي تفسير العياشي عن الإمام الصادق (علیه السلام) في سوء الحساب قال: (أن تحسب عليهم السيئات وتحسب لهم الحسنات وهو الاستقصاء)، ولذا ورد في الأدعية أن الله تعالى إذا عاملنا بعدله هلكنا ((ومن عدلك مهربي)) ((ولا تعاملني

ص: 392


1- أي طلبت منه أن يقضي حقي، وفي معاني الأخبار وتفسير القمي (استقصيت) أي بلغ بالمسألة النهاية في طلبها، وهو الأقرب لمضمون الرواية.
2- الكافي: 5/ 100، ح1، تفسير القمي: 1/ 363، ومعاني الأخبار: 246، وتفسير البرهان: 5/ 201، وفي المعاني: (ولكنهم خافوا الاستقصاء والمداقّة) أي الحساب بدقة.

بعدلك بل بفضلك))، وفي الدعاء عند الصعود على الصفا والمروة عن أمير المؤمنين (علیه السلام): (اللّهم لا تفعل بي ما أنا أهله، فإنك إن تفعل بي ما أنا أهله تعذبني ولن تظلمني، أصبحت أتقي عدلك، ولا أخاف جورك فيا من هو عدلٌ لا يجور ارحمني) (1).والدرس العملي الذي نستفيده هنا أننا كما نسال الله تعالى أن لا يدقّق معنا في الحساب وأن يعاملنا بفضله وكرمه ونخاف من المداقّة في الحساب، علينا أن نتأدب بهذا الأدب الإلهي في تعاملاتنا فإن سوء الحساب يعني المطالبة باستيفاء الحق كاملاً غير منقوص من دون مراعاة لما يحسن فعله بلحاظ حالة الطرف الآخر وظروفه وإمكانياته، ، لذا سُمّيَ أخذ الحق في بعض(2) الحالات عدواناً عندما يكون الأليق هو التسامح والعفو والتكرّم، والعدوان هو التجاوز والقيام بما ينافي الفعل الذي يناسب صدوره منه على ذلك الحال قال تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (البقرة : 194)، فكأن المرجو والفعل اللائق بناءاً على هذا التفسير هو تعامله بالعفو والصفح كما أمر تعالى، فكان ما يخالفه عدواناً أي تجاوزا للمتوقع منه وإن كان محقاً.

وهو أحد وجوه تفسير قوله تعالى: (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى: 40) فسمّى الرد على السيئة بمثلها سيئة، مع أن مقتضى العدالة المقابلة بالمثل.

ص: 393


1- وسائل الشيعة: 13/ 478 باب 4: استحباب الصعود على الصفا حتى يرى البيت، ح 3.
2- وليس مطلقاً لان العقوبة والرد بالمثل والحزم مطلوب احيانا للردع والاستقامة والاصلاح.

وقد حثّنا الله تبارك وتعالى على أن نتعامل بيننا –كإخوة مؤمنين- بهذا الأسلوب، قال تعالى: (وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة: 237)، أي لا تنسوا معاملة الاخرين بالتفضل والتسامح في كل المعاملات والعلاقات ففي الحديث الشريف عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (رحم الله عبداً سَمِحاً إذا باع، سَمِحاً إذا اشترى، سَمِحاً أذا قضى، سَمِحاً أذا اقتضى) (1) ولما كان الجزاء يوم القيامة منسجماً مع سلوك الإنسان وعمله في الدنيا، فإن كان متسامحاً في تعامله مع الناس حوسب باليسر والكرم، وإلا شدد عليه مقاصة له لأنه التزم بهذه الطريقة من التعامل في الدنيا، قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً، وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) (الانشقاق: 7-9) وفي مقابلهم أصحاب الشمال (فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً) (الطلاق: 8).والملفت أن الله تعالى لم يصف نفسه في القران الكريم بأنه عادل ولم يرد هذا الاسم في الأسماء الحسنى على كثرتها لأن كرمه ورحمته وفضله سبقت عدله، فهو تعالى لا يؤاخذ بالمثل ولا يعاملنا بهذا المعنى من العدل، نعم وصف تعالى نفسه بما يلزم من العدل وهو عدم الظلم إنصاف المخلوقين وعدم بخسهم اشيائهم وعدم الجور في الحكم عليهم وهو حسنٌ دائماً (وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِّلْعَبِيدِ) (فصلت-46) فالعدل المقصود هو عدم الجور والظلم وأن من حقه تعالى الجزاء بالمثل إنْ أراد.

ولذا أردف الله تعالى الإحسان بالعدل حينما لخّص جوهر الرسالات

ص: 394


1- بحار الانوار: 103/ 95 ح 17 ، كنز العمال: 9453، ميزان الحكمة: 1 / 493

السماوية وما يريده الله تبارك و تعالى, قال سبحانه: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (النحل: 90) لأن العدل قد يكون منافياًً لمقتضى الإنصاف والإحسان فيكون غير محبوب بل قد يكون ظلما في بعض المراتب ولو أخلاقيا، وقد بحثتُ ذلك مفصلاً في مسالة توريث أولاد الاولاد مع وجود الاولاد(1)إن قلت: كيف يكون العدل ظلماً وهل هذا الا من اجتماع الضدين.

قلت: ليس هذا من اجتماع الضدين لأن ما يقابل العدل لغةً ليس هو الظلم بل الجور وهو الحيف في الحكم، فيمكن اجتماع العدل مع الظلم بمرتبة من المراتب ولو أخلاقياً، أي أن الحكم يكون عادلاً، الا أنه لا يكون منصفاً أو إنه خالٍ من الإحسان بلحاظ طرف آخر، كما في الروايات الواردة في تفسير قوله تعالى: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ، فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً) (الأنباء:78-79).

فقد حكم داوود بالغنم ضماناً لصاحب الزرع لأن صاحبها لم يحبسها ليلاً وهذا ما جرت به شرائع الأنبياء السابقين أما سليمان (ع) فقد حكم بالضمان لكن بنحو آخر وهو أن يدفع الضامن غنمه إلى صاحب الزرع ليستفيد من لبنها وصوفها ويغرم هو مصاريف صلاح الأرض حتى تعود إلى ما كانت عليه فيعيد كلٌ منهما إلى الآخر ماله، وهنا حافظ سليمان (ع) على مقتضى العدل لكن من دون إضرار بالضامن خصوصاً وأنه ليس معتدياً وإنما كان مقصّراً.

ولو استوعبنا هذا الدرس الأخلاقي وطبقناه في حياتنا لاستطعنا تجنب

ص: 395


1- راجع المجلد العاشر من موسوعة فقه الخلاف.

الكثير من المشاكل في المجتمع التي منشأها التدقيق في محاسبة الآخرين على كل صغيرة وكبيرة ومطالبة كل طرف باستقصاء حقه من الآخر من دون مراعاة لحاله وظروفه، وأمثلة ذلك من الواقع كثيرة، كما يحصل بين الورثة حينما يطالب البعض مثلاً بحصته من الدار التي يسكنها الورثة الآخرون وهو يعلم أنهم لا يتمكنون من إعطائه وأن بيع الدار فيه مشقّة عليهم ولكنه يصرّ على طلبه.أو الزوج يحاسب زوجته على كل تقصير أو غفلة والزوجة تراقب زوجها وتسأله عن كل تصرفاته ويحاول كل منهما أن يفرض إرادته ورأيه على الآخر فيتخاصمان وتذهب المودّة بينهما وقد يخرب بيتهما بسبب إصرار كل منهما على انتزاع ما يتصور أنها حقوقه دون مراعاة لظروف الآخر.

أو دائن يلحّ على المدين بالتسديد وهو في حرج وصعوبة وقد يضطر لبيع داره أو حاجاته الشخصية فهذا من سوء الحساب ومخالف لسيرة المعصومين (علیهم السلام) وأصحابهم البررة كمحمد بن أبي عمير وهو من أجلاء أصحاب الإمام الكاظم والرضا والجواد (علیه السلام) وقد ألّف عشرات الكتب وكان عالماً عاملاً مخلصاً، وعرض عليه هارون العباسي منصب القضاء فرفضه فأمر الطاغية بحبسه وتعذيبه فقضى سبعة عشر عاماً في السجن لاقى فيها صنوف التعذيب والوحشية، وكان قبل أن يسجن تاجراً ثرياً وخرج من السجن في عوز شديد وقد أنهكته الأمراض، وكان أحد زبائنه مديناً له بعشرة آلاف درهم فرأى من الوفاء أن يرد إليه دينه ولكنه لا يملك هذا المقدار فباع داره وجاء بالمبلغ إلى ابن أبي عمير، فسأله ابن أبي عمير عن كيفية تدبيره هذا المبلغ الكبير هل وهبه

ص: 396

له أحد أو ورثه من قريب له؟ فأجاب الرجل بالنفي وأنه باع داره ليقضي بثمنها دينه فرفض ابن أبي عمير قبضها وقال: ((حدثني ذريح المحاربي عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنه قال: (لا يُخرَج الرجل من مسقط رأسه بالدين) (1)، ارفعها فلا حاجة لي فيها، والله إني محتاج في وقتي هذا إلى درهم، وما يدخل ملكي منها درهم))(2).ومما تقدم يظهر أن سوء الحساب له مراتب فبعضه حقيقي في أدنى مراتبه كالذي أُعد للمعرضين عن الله تعالى، وبعضه نسبي بلحاظ درجات الكمال، فإن البعض يرى أن مجرد إيقافهم للحساب، أو لمجرد معاتبتهم على شيء أنه من سوء الحساب.

روى في مجمع البيان حديثاً فيه (من نوقش في الحساب عُذِّب) بغضّ النظر عن أي عقوبة فبمجرد مناقشة الشخص وتعريضه للحساب والمساءلة تعذيب وفي مصباح الشريعة قال الصادق (علیه السلام): (لو لم يكن للحساب مهولة إلا حياء العرض على الله وفضيحة هتك الستر على المخفيات لحقَّ للمرء أن لا يهبط من رؤوس الجبال ولا يأوي إلى عمران ولا يأكل ولا يشرب ولا ينام إلا عن اضطرار متصل بالتلف).

ولذا فإن أهل المعرفة لا يركنون إلى طاعة ويرون أن حسابهم سيئ لو عاملهم الله تعالى بعدله وحاسبهم كما هم أهله وليس بما هو أهله من الفضل

ص: 397


1- أي لا يجوز إجبار المدين على بيع دار سكنه من اجل تسديد الدين.
2- بحار الأنوار: 49/ 273، تأريخ الإمام الرضا (عليه السلام)، عن علل الشرائع: باب 313، ح2.

والكرم والرحمة (فاني لم آتك ثقةً بعملٍ صالحٍ عملته) (1)، ويعدّون طاعتهم سيئات يطلبون الإقالة منها بلحاظ ما يليق برب العزة والجلال، تأمّل في ما ورد في دعاء الإمام الحسين (علیه السلام) يوم عرفة (إلهي كم من طاعة بنيتها وحالة شيّدتها هدم اعتمادي عليها عدلك بل أقالني منها فضلك)(2). فهذه المراتب كلها يخافونها ويعدون هذا الحساب سيئاً بالنسبة لهم وهم يطمحون إلى أن يكونوا من الذين لا يرون حساباً أصلاً ويدخلهم الله تعالى في رضوانه بغير حساب، كعدة اصناف ورد في حقهم ذلك (منهم) الصابرون، قال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر:10).

(ومنهم) الذين يحبون الله تبارك وتعالى ويحبِّبونه الى خلقه ويرضون بقضائه روي عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال : (اني لأعرف ناساً ما هم أنبياء ولا شهداء يغبطهم الانبياء والشهداء بمنزلتهم يوم القيامة: الذين يُحبّون الله ويحببونه الى خلقه يأمرونهم بطاعة الله فإذا أطاعوا الله أحبهم الله)(3) وروي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال: (إذا كان يوم القيامة أنبت الله لطائفة من أمتي أجنحة فيطيرون من قبورهم إلى الجنان يسرحون فيها ويتنعمون كيف شاؤوا فتقول لهم الملائكة: هل رأيتم حساباً؟ فيقولون: ما رأينا حساباً، فيقولون: هل جزتم على الصراط؟ فيقولون: ما رأينا صراطاً، فيقولون لهم: هل رأيتم جهنم؟ فيقولون: ما رأينا شيئاً، فتقول الملائكة: من أمة من أنتم؟ فيقولون: من أمة

ص: 398


1- مصابيح الجنان: 619 من ادعية ليلة الجمعة وليلة عرفة وأوله (اللهم من تهيأ وتعبأ......)
2- مفاتيح الجنان: 315.
3- مجمع الزوائد للهيثمي : 1 /126 وللتفصيل اكثر راجع خطاب المرحلة : 6/ 151 - 165.

محمد (صلی الله علیه و آله)، فيقولون: نشدناكم الله حدثونا ما كانت أعمالكم في الدنيا فيقولون: خصلتان كانتا فينا فبلّغنا الله هذه المنزلة بفضله ورحمته، فيقولون: وما هما؟ فيقولون: كنا إذا خلونا نستحي أن نعصيه ونرضى باليسير مما قسم لنا، فتقول الملائكة: يحق لكم هذا)(1).(ومنهم) الشهداء فأن الله تعالى يُسقط كل حق له وفي الحديث عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: (كل ذنب يكفّره القتل في سبيل الله عز وجل إلا الدَيْن لا كفارة له إلا أداؤه، أو يقضي صاحبه أو يعفو الذي له الحق)(2) ، فأن الدَين من حقوق الناس ولابد من ادائه اليهم او استرضائهم، قد روي أن الامام الحسين (علیه السلام) لم يأذن بالقتال معه لمن كان عليه دين إلا ان يوصي بقضائه .

ص: 399


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر، المعروف بمجموعة ورّام: 1/ 230.
2- الكافي: 5/ 94، ح6.

خطاب المرحلة 470 :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)

اشارة

خطاب المرحلة 470 :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)(1)

(التوبة-119)

لكي نفهم الآية الكريمة، ونعرض انفسنا عليها ونتحقق من نسبة التزام الامة بها، مع ما يتضمن ذلك من دروس جليلة نلفت النظر الى عدة امور :.

1-اول ما يلاحظ في الآية استعمال اداة النداء (يَا أَيُّهَا) وجعل المنادى هم المتصفون بصفة الايمان مع ان الجميع مخاطبون(2) بهذا الامر، وذلك لعدة نكات:

(منها) تشريف المؤمنين بتوجيه الخطاب اليهم دون غيرهم من المأمورين.

(ومنها) لألفات عناية المؤمنين واثارة انتباههم الى ما يكمل به ايمانهم.

(ومنها) اشعارهم بمسؤوليتهم الخاصة كمؤمنين عن هذا الذي دعوا اليه أي انكم بصفتكم مؤمنين يجب ان تكونوا كذلك، ولو كانت الجملة بلا اداة نداء ومنادى واقتصر على بيان الامر المطلوب (اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) لما حصلت هذه العناية ولا الالتفات الى المسؤولية او كانت بدرجة اقل، كما انك

ص: 400


1- كلمة القيت يوم الجمعة 16/محرم/1347 الموافق 30/ 10/ 2015
2- جميع الناس مخاطبون حتى غير المسلمين لانهم مكلّفون بالفروع –أي الأحكام الشرعية الواجبة والمحرمة- كتكليفهم بالأصول - أي الاعتقاد بالتوحيد والنبوة والمعاد- وورد التصريح بالعموم لمثل هذا الخطاب في ايات مماثلة كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) (البقرة183).

حين تخاطب الشباب بتوجيه ما تبتدئ كلامك ب- (يا أيها الشباب) لالفات نظرهم الى ان هذا الخطاب موجه لهم بما هم شباب، او تقول ايها العراقيون عند طرح قضية وطنية تهمهم، او يا طلبة الحوزة العلمية. والخلاصة ان الآية تفيد انكم اذا كنتم تريدون ان تكونوا مؤمنين حقا فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين ولها دلالة بالاتجاه المعاكس أي انكم اذا اتقيتم الله ووجدتم انفسكم في صف الصادقين فأنكم مؤمنون حقا، وإلا ينطبق عليكم قوله تعالى (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (الحجرات14)، فالآية هنا تنفي بعض مراتب الايمان الصادقة حقيقة، وهناك آيات اخرى تثبته بلحاظ المراتب الأدنى كقوله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ) (يوسف106)

وبتعبير اخر: ان حقيقة الايمان التي تكون سبب فوز الانسان وسعادته لها ثلاثة ابعاد او انها لا تكتمل الا باجتماع ثلاثة عناصر:

أ-الايمان بالله وبأنبيائه ورسالاته واليوم الاخر والاوصياء وسائر العقائد الحقّة ، وهذا بُعدٌ اعتقادي قلبي.

ب-تقوى الله والالتزام بما يريده الله تعالى وتجنب ما يسخطه تعالى وهذا بُعد عملي سلوكي.

ج-- ان تكون مع الصادقين بالمعنى الذي سنذكره ان شاء الله تعالى وهذا بعد اجتماعي في العلاقة مع القيادة.

2-ان الامر بالكون مع الصادقين مطلق ولم يحدد بناحية او مورد معين، وهذا له دلالات عديدة على مستوى الالزام والاثبات وعلى مستوى المنع

ص: 401

والنفي.اما على مستوى الاثبات فان الآمر بالكون مع الصادقين يعني الاعتقاد بهم والاخذ عنهم واتباعهم والتسليم لهم والسير على نهجهم ويعني ايضا حمل رسالتهم والتحرك بها في كل اتجاه ونصرتهم ومعونتهم في الشدة والرخاء والعافية والبلاء، ويعني ايضا الرجوع اليهم في كل تفاصيل الحياة من غير فرق بين العقيدة والشريعة او السلوك، ولا بين احكام العبادات والمعاملات وسواء كانت في الاحوال الشخصية او السياسية او الاقتصاد والاجتماع وغيره.

واما على مستوى النفي فان الكون مع الصادقين يعني عدم الانسياق وراء الشهوات والاهواء وعدم اتباع أي داعٍ لم يأمر به الصادقون، ويعني رفض الشعور بالإحباط واليأس التوجه نحو العزلة والانزواء والانسحاب من العمل الرسالي المثمر كردّ فعل لحصول بعض الحالات، ويعني الكون مع الصادقين رفض الوقوف على الحياد والكون بمسافة واحدة من الجميع، وهذا كله يحتاج الى جهد وجهاد كبيرين وثبات على الصراط وصبر ومصابرة ومرابطة ولذا سبقه الامر بالتقوى لانها تعين على ذلك كله.

3-حينما يوصف الخبر بالصدق فهذا يعني مطابقته للواقع، كما لو اخبرت عن زيد انه قائم وهو قائم فعلا فان الخبر صادق، اما وصف الانسان بانه صادق فهذا يعني مطابقة ظاهره لباطنه واقواله لأفعاله وموافقتها جميعاً للحق، لاحظ قوله تعالى (إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) (المنافقون-1) فكلمتهم حق وصدق لكنهم لم يكونوا صادقين لان باطنهم لم يكن كظاهرهم وفعلهم ليس كقولهم،

ص: 402

لذا ثبت الله تعالى صدق الكلمة ووصفهم بالكاذبين، ولو وصفوا بالكاذبين من دون تثبيت هذه الحقيقة لكان وصفهم بالكذب يشمل ما شهدوا به وهو خلاف الواقع.والمؤمنون ليسوا كلهم صادقين في ايمانهم، ولهم درجات متفاوته في ذلك لذا مدح الله تعالى قوما من المؤمنين لانهم صدقوا وثبتوا على الصدق قال تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) (الأحزاب23).

والمستفاد من القران الكريم ان انطباق عنوان الصادقين له درجات متفاوتة بحسب درجة كمال عناصره من الايمان بالله ورسله وكتبه والجهاد في سبيل الله بالأموال والانفس والصبر في المواطن وفعل المعروف وتجنب المنكر ونحو ذلك كقوله تعالى (لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحشر-8).

وقال تعالى (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة-177).

ووصف مرتبة اعلى من الصادقين بقوله تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ

ص: 403

الصَّادِقُونَ) (الحجرات-15)هذا ولكن العنوان اذا اطلق فانه ينطبق على المعصومين (علیهم السلام) لانهم من ينطبق عليهم التعريف اعلاه بقول مطلق أي على الدوام من دون استثناء او اختراق، وتشهد نفس الآية على أن المراد بالصادقين المعصومون (علیهم السلام) بدلالة اكثر من قرينة :

أ- لأنها أمرت بالكون معهم مطلقاً ولا يتعلق مثل هذا الأمر إلا بالمعصوم، لأن غير المعصوم معرض للخطأ فكيف يأمرنا الله تعالى بالكون معه مطلقاً.

ب-ان الآية امرت اولا بالتقوى ثم بالكون مع الصادقين، فلو كان المراد بالصادقين ما هو اوسع من المعصومين لكان الامر بالكون من الصادقين وليس معهم، او قل ان امر المتقين بان يكونوا مع الصادقين يكشف عن سمو مرتبة الصادقين على المتقين، ولا يصّح ذلك الا في المعصومين (علیهم السلام).

وقد أذعن جملة من أعلام السنة لهذه الحقيقة لكن بعضهم أوّلها بما لا وجه(1) له لذا وردت روايات كثيرة من طرق الفريقين تبين ان المراد بالصادقين هم امير المؤمنين (علیه السلام) وأولاده المعصومون(ع)، ففي الكافي وبصائر الدرجات للصفار بسندهما عن بريد بن معاوية العجلي قال: (سألت ابا عبد الله

ص: 404


1- قال الفخر الراي في تفسيره ان المعصوم هو جميع الامة لا انه فرد واحد فتكون الاية دليلا على حجية اجماع المؤمنين وعدم خطا مجموع الامة (التفسير الكبير: 16/ 220) وردَّه واضح لان المقصود من الصادقين لو كان مجموع الامة فان الامة مكونة من الناس المخاطبين بالكون مع الصادقين وستكون النتيجة وحدة التابع والمتبوع. مضافا الى ما ذكرناه في هذه النقطة من سمو مرتبة الصادقين.

(ع) عن قول الله عز وجل (اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) قال : ايانا عنى).وفي الكافي ايضاً بسنده عن ابن ابي نصر عن ابي الحسن الرضا(ع) قال (سألته عن قول الله عز وجل – قال : الصادقون هم الأئمة الصديقون بطاعته) وفي كتاب سليم بن قيس – في حديث المناشدة- قال أمير المؤمنين (علیه السلام) (فأنشدتكم الله جل أسمه، أتعلمون ان الله انزل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) فقال سلمان : يا رسول الله : أعامة هي أم خاصة؟ فقال : أما المؤمنون فعامة لان جماعة المؤمنين أُمروا بذلك، واما الصادقون فخاصة في علي والاوصياء من بعده الى يوم القيامة)؟ قالوا اللهم نعم).

وروى في المناقب عن بعض التفاسير(1) العامة بسنده عن ابن عمر قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ) قال : أمر الله تعالى الصحابة أن يخافوا الله، ثم قال (وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) يعني مع محمد وأهل بيته).

وعن مصدر آخر لهم في قوله تعالى قال : هو علي بن ابي طالب خاصة وعن مصدر آخر قال (محمد وآله)(2).

4-ان الآية مطلقة من حيث الزمان فهي تأمر المؤمنين في جميع الأزمنة الى نهاية الدنيا أن يكونوا مع الصادقين الذين هم المعصومون (علیهم السلام) وهذا يعني لزوم وجود المعصوم في كل زمان، وهذا دليل على صحة عقيدة الشيعة الامامية في الأئمة الاثني عشر وبقاء قائمهم الى آخر الزمان، وبدون هذه

ص: 405


1- وتوجد مصادر اخرى من كتب العامة في كون المراد من الصادقين خصوص اهل البيت (عليهم السلام) ذكرها في تفسير الفرقان: 13/ 221
2- راجع مصادرها في تفسير البرهان : 4/ 345.

العقيدة سيبقى الزمان بلا صادق فكيف يمتثل المؤمنون لواجب الكون مع الصادقين.وقد اعترف بهذه الحقيقة بعض أعلام السنة كالفخر الرازي قال في تفسيره (انه تعالى أمر المؤمنين بالكون مع الصادقين ومتى وجب الكون مع الصادقين فلابد من وجود الصادقين في كل وقت).

5-إن ورود الامر بالكون مع الصادقين عقيب الامر بالتقوى التي هي خير الزاد ليوم المعاد (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) (البقرة197) ولا ينجو الانسان الا بالتقوى ({قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) (الشمس10-11) (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى النازعات41-42) فالتعاقب بين هذين الامرين لأجل هداية المؤمنين والمتقين الى أن طريق التقوى شائك وصعب وكثير المنزلقات والابتلاءات والمصاعب ولا يمكن سلوكه بنجاح الا بالكون مع الصادقين واتباعهم والتمسك بهم.

كما انه يلفت نظر المتقين الى ان المتوقع منكم كمتقين ان تكونوا مع الصادقين فلا تقوى من دون الكون معهم، كما ان الكون معهم بالمعنى الدقيق الذي ذكرناه يكشف عن انك من المتقين.

أغلب الأمة لم تكن من الصادقين:

وبعد ان اتضحت هذه الأمور يمكننا القول بأسف ان المخاطبين بالآية لم يعملوا بها ولم يكونوا مع الصادقين بل اصطّف قسم مع اعدائهم وتقاعس قسم اخر وتركوهم وحدهم منذ رحيل رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ونقرأ هذه الحقيقة في دعاء الندبة (لَمْ يُمْتَثَلْ اَمْرُ رَسُولِ اللهِ ص فِي الْهادينَ بَعْدَ الْهادينَ، وَالاُْمَّةُ

ص: 406

مُصِرَّةٌ عَلى مَقْتِهِ مُجْتَمِعَةٌ عَلى قَطيعَةِ رَحِمِهِ وَاِقْصاءِ وُلْدِهِ اِلّا الْقَليلَ مِمَّنْ وَفى لِرِعايَةِ الْحَقِّ فيهِمْ، فَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ، وَسُبِيَ مَنْ سُبِيَ وَاُقْصِيَ مَنْ اُقْصِيَ) (1) .لذا تكررت شكوى المعصومين (علیهم السلام) من قلة العدد وخذلان الناصر فمن كلمة السيدة الزهراء (علیها السلام) مع أمير المؤمنين (علیه السلام) لما رجعت من المسجد مهضومة مظلومة :(حتى حبسني قيلة نصرها والمهاجرة وصلها، وغضّت الجماعة دوني طرفها فلا دافع ولا مانع، خرجت كاظمة وعدت راغمة، شكواي الى ربي وعدواي الى ربي، اللهم انك أشدّ منهم قوة وحولا، وأشد بأساً وتنكيلا) (2).

وهكذا كلمات أمير المؤمنين المملوءة بالألم والاسى كقوله في الخطبة الشقشقية (وَ طَفِقْتُ أَرْتَئِى بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَد جَذّاءَ –أي مقطوعة لعدم وجود الناصر- أَوْ أَصْبِرَ عَلى طَخْيَة عَمْياءَ –وهي الظلمة- فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلى هاتا أَحْجى ، فَصَبْرَتُ وَ فِي الْعَيْنِ قَذىً وَ فِي الْحَلْقِ شَجًا –وهو ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه-)(3).

وقوله (علیه السلام) متظلما (فنظرت فاذا ليس لي معين الا اهل بيتي، فظننت –أي بخلت- بهم عن الموت، واغضيت على القذى وشربت على الشجا، وصبرت على اخذ الكظم وعلى امرَّ من العلقم وآلم للقلب من وخز الشفار)(4).

ص: 407


1- مفاتيح الجنان : 608
2- الاحتجاج : 1/ 137.
3- نهج البلاغة: 48 الخطبة 3
4- نهج البلاغة: 68 الخطبة 26، ص 336 الخطبة 217

ومثلها كلمات الامامين الحسن والحسين (صلوات الله عليهم أجمعين) والأئمة الطاهرين، وفي ذلك روى عنبسة قال سمعت ابا عبد اللّه (ع) يقول : اشكو الى اللّه وحدتي وتقلقلي من اهل المدينة حتى تقدموا وأراكم وأُسرُّ بكم، فليت(1) هذا الطاغية اذن لي فاتخذت قصراً فسكنته واسكنتكم معي، واضمن له ان لا يجيء من ناحيتنا مكروه ابداً)(2). فتصوروا الى أي درجة وحدة الامام ووحشته وغربته بين اهل المدينة بحيث ان الامام (ع) كان ينتظر قدوم وفد من مواليه من الكوفة او خراسان او أي مدينة اخرى ليؤنسوا وحشته ويرفعوا غربته ووحدته.

وفي ختام الحديث يمكن تلخيص عدة دروس من الآية :

1-لا يكتمل الايمان الا بالتقوى واتباع المعصومين (علیهم السلام)

2-لا حياد ولا وقوف على مسافة واحدة من الجميع بل يجب ان نكون مع الصادقين عقيدة وسلوكا ونصرة، ويلزم من هذا معرفة الصادقين اولا

3-ان في الآية دلالة على وجود الامام صاحب العصر والزمان وعصمته.

ص: 408


1- هذا موقف سياسي مهم على القادة الاسلاميين ان يستفيدوا منه لرسم علاقتهم مع السلطات الطاغوتية ، وقد فصلناه في كتاب (فقه المشاركة في السلطة)
2- بحار الانوار :47/ 185 ح31 عن رجال الكشي : 361 رقم 677.

خطاب المرحلة 471 :وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ

خطاب المرحلة 471 :وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ(1)

(الزمر 67) (الانعام 91) (الحج 74)

أي ما عرفوا الله حق معرفته ولا أعطوه المنزلة التي يستحقّها ويتميّز بها عن غيره من المخلوقات، ولا أحسنوا فهم صفاته وأسمائه المباركة، ففي الآية عتابٌ وتوبيخٌ لهذا التقصير في إدراك حقوق الربوبية ووظائف العبودية أمام الله تبارك وتعالى، وبنفس الوقت تستبطن الآية الدعوة لتحصيل هذه المعرفة، مع الاعتراف بالعجز عن إدراك الحقيقة الإلهية، روى في الكافي عن الفضيل بن يسار، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: (إن الله لا يوصف، وكيف يوصف وقد قال الله في كتابه (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) فلا يوصف بقدر الا كان أعظم من ذلك) (2) وفي الحديث المشهور عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) (ما عرفناك حقَّ معرفتك، وما عبدناك حقَّ عبادتك) (3)، وهذا معنى للتكبير (الله اكبر) أي أكبر من أن يوصف، إذ ليس لله تعالى قدر، وإنما يقدِّر المخلوقون (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرا) (الطلاق/3).

ص: 409


1- كلمة لسماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) القيت يوم الجمعة 7/صفر/1437 الموافق 20/ 11/ 2015
2- الكافي: 1/ 80 ح11
3- بحار الانوار: 71/ 23

بل نحن عاجزون عن إدراك اسمٍ من اسمائه تعالى وصفةٍ من صفاته كالمنعم، قال الله تعالى (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا) (النحل/18)، روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: (أوحى الله تعالى الى موسى (علیه السلام): يا موسى اشكرني حقَّ شكري، فقال: يا ربِ كيف أشكرك حقَّ شكرك، وليس من شكرٍ أشكرك به الا وأنت أنعمت به عليَّ؟ فقال: يا موسى شكرتني حق شكري حين علمت أن ذلك مني) (1) وهذا فضلٌ من الله تعالى وكرمٌ حين جعل الاعتراف بالعجز أداءاً للحق، فإذا كنّا عاجزين عن معرفة اسم من اسمائه فكيف نقدر على معرفته حق المعرفة سبحانه وتعالى.فالاستغراب والزجر والتوبيخ ليس من عدم معرفة الخلق للخالق حق معرفته، لانهم عاجزون عن بلوغ ذلك، ولكن الاستغراب والتوبيخ من عدم سعيهم لتحصيلها بالمقدار الممكن لهم أولا ولاستكبارهم على ربّهم مع هذا العجز ثانياً

والآية شاملة لكل الناس فكل الناس ما قدروا الله حَقَّ قدره، وكان النبي وأهل بيته(صلوات الله عليهم اجمعين) الذين نخاطبهم بوصف (التامين في معرفة الله) (2) اكثر الناس اقرارا بالعجز عن معرفة الله تعالى، لان الانسان كلما ازداد معرفة ازداد ادراكا لقصوره وتقصيره وخضوعه وتذلله لله تعالى، وانما يستكبر الجأهل ون (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا) [الإسراء : 43]، نعم كما أن الناس على درجات متسافلة في عدم إعطاء الله تعالى حق قدره كذلك هم درجات متصاعدة في تعظيم قدر الله تعالى.

ص: 410


1- ميزان الحكمة: 4/ 473
2- من زيارة الجامعة الكبيرة

فبعض الذين ما قدروا الله تعالى حقَّ قدره أنكر وجوده تعالى وبعضٌ أشرك به غيره بل قدّموا غيره تعالى عليه فعبدوا الغير من دون الله تعالى فهؤلاء ما قدروا ربوبيته والوهيته حق قدرها، وبعض أنكر وحيه وبعثة الانبياء والرسل وانزال الكتب فهؤلاء ما قدروا لطفه ورحمته وحكمته وعلمه حق قدرها هذه الاسماء الحسنى التي تقتضي بعث الانبياء والرسل اذ ان الله تعالى يعلم ان الانسان عاجز عن الوصول بمفرده الى الكمال والسعادة ما لم يهده الله تعالى ببعث الانبياء وانزال الكتب، وان رحمته بعباده وحكمته تقتضيان ذلك ولا بخل في ساحته فكيف ينكرون بعث الانبياء والرسل.وبعض أنكر المعاد يوم القيامة، فهؤلاء ما قدروا عدله وقدرته حق قدرها وبعض انكر صفاته وأسماءه كالقدرة على تدبير الكون والغلبة على اعدائه، قال تعالى (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الزمر 67).

وقال تعالى: (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج 74).

وقال تعالى: (وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) (الانعام 91) فينزِّه الله تعالى نفسه عن هذه الأباطيل (سبحانه و تعالى عما يشركون)، اذ حق قدره ان يوحَّد في الوهيته وربوبيته وفي انه المبدأ واليه المعاد وله ما بينهما، وننزهه عن كل نقص وانه لا يشبهه شيء (وتنزه عن مجانسة مخلوقاته).

ص: 411

وتذكر الآية في سورة الزمر مظهراً من مظاهر قدرته فالسماوات والأرضون كلها في قبضته وتحت هيمنته اللامحدودة كما أن الورقة حينما تُطوى تكون في القبضة فهو تعبير عن التسلط التام على السماوات والأرضين، وهو كذلك في الدنيا وليس في الآخرة فقط، لكن الفرق أنه تعالى في الدنيا خَوّل عباده ببعض الملك وأنحاء التصرفات، لكن الإنسان يأتي في الآخرة مجرداً عن كل ذلك (َتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ) (الأنعام/94).وننتقل الآن الى دائرة أضيق من الذين ما قدروا الله حق قدره وهم المؤمنون بالله تعالى فإنهم أيضا ما قدروه حق قدره بأشكال عديدة، أوضحها ارتكاب الذنوب والمعاصي فإن فيها استخفافاً بحقوق الربوبية، روى إسحاق بن عمار عن الإمام الصادق (علیه السلام) حديثاً جاء فيه: (يا إسحاق خَفِ الله كأنك تراه فإن كنت لا تراه فإنه يراك، فإن شككت أنه يراك فقد كفرت وإن أيقنت أنه يراك ثم بارزته بالمعصية فقد جعلته أهون الناظرين اليك) (1).

ومن أشكال (َمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) عدم مراعاة حقّ من أمر الله تعالى بمراعاة حقه، كالنبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة المعصومين (علیهم السلام) والحجج من بعدهم، وفي موارد كثيرة اخرى وردت في الروايات.

كقوله (علیه السلام): (ومن لم يوقّر القرآن فقد استخف بحرمة الله) (2)، ومن مصاديق عدم توقير القرآن نبذ احكامه والعمل بالقوانين الوضعية التي يصنعها البشر .

ص: 412


1- بحار الانوار: 5/ 323 عن ثواب الاعمال ورجال الكشي وقضاء حقوق المؤمنين.
2- البحار: 89/ 19 ح18.

وقوله (علیه السلام): (الا ومن استخف بفقيرٍ مسلمٍ فقد استخف بحق الله والله يستخفُّ به يوم القيامة إلا أن يتوب) (1) وفي الحديث القدسي قوله تعالى: (يا موسى إن من إعظام جلالي إكرام عبدي الذي أنلتُهُ حظاً من حطام الدنيا عبداً من عبادي مؤمناً قَصُرَتْ يدُهُ في الدنيا، فإن تكّبر عليه فقد استخف بعظيم جلالي) (2).

ومن أشكال (َمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) الاعتقاد بأن الاسباب المخلوقة هي المؤثرة من دون الله تعالى كقول البعض (لولا فلان لما حصل كذا)، ومنها طاعة المخلوقين في غير ما امر الله تعالى به، أو تطبيق القوانين الوضعية في الحياة وترك القوانين الالهية وهكذا. وآية سورة الحج صريحة في ذلك فقد سبقها قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) (الحج/73) فلا فرق بين من كان في الأزمنة السابقة يعبد الأصنام طمعاً في منفعة أو دفعاً لمضرةٍ بحسب اعتقاده وبين من يلتجئ اليوم الى المخلوقين من دون الله تعالى لنفس الغرض مهما كانت القوة والقدرة الموجودة عند المخلوقين كأمريكا التي يسمونها (القوة العظمى) أو أي دول أو شخصيات متفرعنة اخرى (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) فهؤلاء كلهم ما قدروا الله حق قدره (إنَّ الله لقوي عزيز) فالعزة والقدرة والعظمة لله تبارك وتعالى.

ص: 413


1- البحار:69/ 38 ح30.
2- البحار: 23/ 267 ح12.

تتناول بعض الأحاديث القدسية هذه العلاقة غير المنصفة بين الناس وخالقهم، روى الإمام الرضا (علیه السلام) أن أباه (ع) قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يقول الله تبارك وتعالى يا بن آدم ما تنصفني أتحبّب اليك بالنعم، وتتمقّت اليّ بالمعاصي، خيري اليك نازل وشرك اليّ صاعد ولا يزال ملك كريم يأتيني عنك في كل يوم وليلة بعمل قبيح يا بن آدم لو سمعت وصفك من غيرك وأنت لا تعلم من الموصوف لسارعت الى مقته) (1)هذا النقص والتقصير في معرفة الله تعالى بسبب الجهل أو التعصب أو اتبّاع الهوى أو التلقّي من وسائل غير صحيحة وبأدوات غير طاهرة يأخذه الإنسان الى يوم القيامة أيضاً ويجادل فيه (وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا)[الكهف : 54] فيريد أن يعرف ربه من خلال تلك القنوات المعرفيّة المشوّهة المملوءة بالشوائب، أي يفصِّل له رباً على طبق معتقداته المستندة الى الأوهام التي ذكرناها آنفاً فلو تجلى له ربه بما يليق بقدسه وجلاله فانه ينكر ربه لانه يريد رباً يصوره هو ويعرفه هو ويتناغم مع هواه، مثلاً كان في الدنيا يتعصب لشخص او جهة او كان يؤمن بعقيدة معينة او باتجاه ما واخبره ربه في الاخرة ان محبوبه الذي يتعصب له وهم باطل فانه سيقول له انت لست ربي حقيقة، ولو كنت ربا حقا لقلت لي ان هذا الشخص او العقيدة او الحالة حق(2)، فهم يحكمون على

ص: 414


1- بحار الانوار: 77/ 19 ح2 عن عيون اخبار الرضا: 2/ 28
2- مثلاً الذين يؤمنون بالتطبير ويقولون (ديني تطبيري) فلو تجلى لهم رب العزة والجلال وقال لهم التطبير ليس من الشعائر الحسينية وانما هو طقس وفعالية ابتدعها البعض للتعبير عن تفاعله مع

الله تعالى بما عندهم من غث وسمين وليس العكس بأن يحكّمون الله تعالى فيما عندهم، والاول هو الذي يسميه بعض أهل المعرفة بالرب المقيد بتصوراتنا واوهامنا والثاني بالرب المطلق الذي لاتحددّه اوهامنا وعقولنا واهواؤنا وهو الاعتقاد الصحيح.وتوجد رواية يظهر منها هذا المعنى عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول من كان يعبد شيئا فليتبعه، فيتّبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت(1)، وتبقى هذه الامة فيها منافقوها، فياتيهم الله تبارك وتعالى في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول: انا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى ياتينا ربّنا فاذا جاء ربنا عرفناه فياتيهم الله تعالى في صورته التي يعرفون، فيقول: انا ربكم فيقولون: انت ربنا فيتبعونه) (2).

فإذا أردنا معرفة الله حق معرفته فلنأخذها من أهل ها وهم أهل البيت (علیهم السلام) عدل القرآن وصنوه والقرآن الناطق، ومن ادعية أمير المؤمنين والامام الحسين والامام السجاد (صلوات الله عليهم اجمعين) والكلمات الاخرى للائمة المعصومين (علیهم السلام).

ص: 415


1- وقد يكون هؤلاء الطواغيت متلبسين بزي علماء الدين (تَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) [التوبة : 31]
2- صحيح مسلم: 82، باب 81 معرفة طريق الرؤية، ح 299

خطاب المرحلة 472 :(الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ)

خطاب المرحلة 472 :(الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ)(1)

(الأعراف/43)

نعم الله تعالى على الانسان كثيرة لا تعد ولا تحصى قلما يلتفت اليها سواء كانت مادية او معنوية، ومن تلك النعم المعنوية إمكانية الاتصال بالله تعالى متى شئت فلا يغلق بابه على عباده مطلقاً، فان شئت أن تصلي قمت وتوضأت ودخلت في الصلاة، وكذلك إن شئت ان تصوم او تدعو او تسجد او تقرأ القرآن او تزور الائمة المعصومين (علیهم السلام) وغير ذلك ولا تحتاج في ذلك الى أي واسطة، هذه النعمة يذكرّنا بها الامام السجاد (علیه السلام) في الدعاء المعروف بدعاء ابي حمزة في ليالي شهر رمضان (الحمد لله الذي أناديه كلما شئت لحاجتي وأخلوا به حيث شئت لسري بغير شفيعٍ فيقضي لي حاجتي)(2).

وفي نفس الدعاء يقول (ع) (الحمد لله الذي أدعوه فيجيبني وإن كنت بطيئاً حين يدعوني، والحمد لله الذي اسأله فيعطيني وإن كنت بخيلاً حين يستقرضني.. الحمد لله الذي لا أدعو غيره ولو دعوت غيره لم يستجب لي

ص: 416


1- من حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من اساتذة وطلبة جامعة الصدر الدينية فرع كربلاء يوم الاحد 25/محرم/1437 الموافق 8/ 11/ 2015
2- مفاتيح الجنان :219.

دعائي)(1).هذه واحدة من صفات ربنا ومولانا وهكذا نحن بالمقابل، فنعم الرب ربنا ونسأله تعالى ان لا نكون بئس العبيد نحن .

وقد تكرر هذا المعنى في كلمات الامام السجاد (علیه السلام)، روى الاصمعي انه كان يطوف بالبيت الحرام فرأى شاباً متعلقاً بأستار الكعبة في جوف الليل وهو يدعو وكان من دعائه (نامت العيون وغارت النجوم وانت الملك الحي القيوم غلّقت الملوك ابوابها واقامت عليها حراسها وبابك مفتوح للسائلين) (2)

وإذا كانت الأمور تعرف بأضدادها فلكي تعرف عظمة هذه النعمة تصور لو انكم كنتم جماعة واتيتم للصلاة في المسجد فقيل للآخرين أدخلوا وقيل لك أنت ممنوع من الدخول، وأنت لست أهلاً للصلاة والدعاء والمناجاة، كم تكون حسرتك وفضيحتك وحيائك، هذه الحالة التي يعبر عنها الامام السجاد (علیه السلام) في دعائه (مالِي كُلَّما قُلْتُ قَدْ صَلُحَتْ سَرِيرَتِي وَقَرُبَ مِنْ مَجالِسِ التَّوّابِينَ مَجْلِسِي عَرَضَتْ لِي بَلِيَّةٌ أَزالَتْ قَدْمِي وَحالَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ خِدْمَتِكَ، سَيِّدِي لَعَلَّكَ عَنْ بابِكَ طَرَدْتَنِي وَعَنْ خِدْمَتِكَ نَحَّيْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي مُسْتَخِفا بِحَقَّكَ فَأَقْصَيْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأيْتَنِي مُعْرِضا عَنْكَ فَقَلَيْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ وَجَدْتَنِي فِي مَقامِ الكاذِبِينَ فَرَفَضْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي غَيْرَ شاكِرٍ لِنَعْمائِكَ فَحَرَمْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ فَقَدْتَنِي مِنْ مَجالِسِ العُلَماءِ فَخَذَلْتَنِي او ....).

وكان الائمة (ع) يعلّمون امتهم الخشية من حصول هذه الحالة لهم،

ص: 417


1- نفس المصدر.
2- بحار الانوار : 96/ 197 ح 11

روى الشيخ الصدوق بسنده عن مالك ابن انس امام المذهب المالكي قوله في الامام الصادق (علیه السلام) ((وكان من عظماء العبّاد واكابر الزهّاد الذي يخشون الله عز وجل، ولقد حججت معه سنة فلما استوت به راحلته عند الاحرام كان كلما همّ بالتلبية انقطع الصوت في حلقه وكاد ان يخرَّ من راحلته فقلت : قل يا ابن رسول الله ولابد لك من ان تقول فقال : يا ابن ابي عامر كيف اجسر ان اقول لبيك اللهم لبيك واخشى ان يقول عز وجل لي لا لبيك ولا سعديك)) (1)هذه النعمة العظيمة يحسدنا عليها أبليس لأنه يعرف عظمتها وتشتد حسرته كلما رأى الطائعين لله تعالى لذلك يبذل كل وسعه لغواية بني آدم وسلب هذه النعمة منهم، روي عن أبي عبدالله ع قال: (أحبّ الأعمال إلى الله عزّ وجلّ الصلاة ، وهي آخر وصايا الأنبياء ، فما أحسن الرجل يغتسل أو يتوضّأ فيسبغ الوضوء ثم يتنحّى حيث لا يراه أنيس فيشرف الله عليه وهو راكع أو ساجد ، إنّ العبد إذا سجد فأطال السجود نادى إبليس : يا ويله ، أطاعوا وعصيت ، وسجدوا وأبيت)(2).

وهكذا كثير من الخلق غير موفقين لطاعة الله تبارك وتعالى حتى اليسير منها ويجدون كأن قيوداً وأغلالاً تُكبّلهم عن الطاعة، كبعض سادة قريش الذين كان النبي (صلی الله علیه و آله) يدعوهم الى النطق بالشهادتين ويقول لهم قولوا كلمة خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان فيقولون : (لو كلفّتنا بنقل الجبال عن موقعها فأنه أهون علينا من هذه الكلمات) .

ص: 418


1- بحار الانوار : 47/ 16 عن الخصال وعلل الشرائع وروضة الكافي
2- وسائل الشيعة - ج 4، ص39.

وامثلة هؤلاء كثيرون كامرأة سافرة اثقل شيء عليها ان ترتدي الحجاب بينما الفاطميات الزينبيات يحرصن على تمام الحجاب والعفاف، او شخص لا يصلي يكون اثقل شيء عليه تذكيره بالصلاة او شخص متمّول يكره كل من يطلب منه اخراج حقوقه الشرعية بينما يبادر المؤمنون الموفقون الى دفع ما بذمتهم فورا ويزيدون .فأعرفوا هذه النعمة واشكروا الله تعالى الذي وفقكم لهذه الطاعات ولولا لطفه تبارك وتعالى لحرمنا منها كغيرنا، وهذا هو دعاء المؤمنين الفائزين يوم القيامة (تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)(الأعراف/43).

وخذ مثالاً اخر ما يعرض اليوم على الشاشات الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي وتقنيات المعلومات من الحجج البالغة والبراهين الواضحة على إمامة وولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) وأهل بيت النبي(صلى الله عليهم أجمعين) التي هي تمام نعمة الاسلام وكمال الدين ويتقين بصدقها كثيرون لكنه لا يتمكن من الايمان والاذعان ويحس بثقل الاقرار بالولاية على قلبه ويقول بعضهم لا أقولها حتى لو دخلت جهنم، بينما أنتم الموالون تكون هذه الشهادة عندكم أحلى من العسل وأمرأ من اللبن .

روى الكليني بسنده عن ابي بصير عن أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) في تفسير هذه الآية قال : (إذا كان يوم القيامة دُعي بالنبي (صلی الله علیه و آله) وبأمير المؤمنين والأئمة من ولده فينصبون للناس، فإذا رأتهم شيعتهم (الحمد لله الذي هدانا

ص: 419

لهذا وما كنا لنهتدي لولا ان هدانا الله) يعني : هدانا الله في ولاية أمير المؤمنين والأئمة من ولده (ع))(1).وفي الاحتجاج للطبرسي في خطبة الغدير : (معاشر الناس سلموا على علي بأمرة المؤمنين وقولوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله)(2).

ولم تكن هذه الهداية ممنوحة اعتباطاً لعبد وحرم منها اخر فأن ذلك كله ينافي عدالته ورحمته ولطفه، ولا هي بالاجبار والاكراه وإلا لبطل الثواب والعقاب ولما تقدم المحسن على المسئ وإنما هي بالاختيار والارادة لكن الله تعالى بلطفه يسّر أسباب الطاعة لعبده وآتاهُ الوسائل والأدوات التي تمكنه منها وزينها له وما على العبد إلا أن يختارها ويسعى اليها (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ، فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (الحجرات/7-8).

ص: 420


1- الكافي : - 1/ 346 ح33.
2- الفرقان :- 11/ 34 عن نور الثقلين : 2/ 31.

خطاب المرحلة 473 :(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ)

خطاب المرحلة 473 :(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ)(1)

(الحج 11)

قال تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الحج/11) تصف الآية صنفاً من الناس موجودا في كل زمان ، ظاهره متديّن يتكلّم بالدين ويمارس المظاهر الدينية لقوله تعالى في وصف هذا الصنف انه (يَعْبُدُ اللَّهَ) لكن تدينه قلق غير مستند إلى قاعدة متينة وانما هو كالواقف على حافة الهاوية ويمكن ان يسقط فيها في أي لحظة لأنه ينظر الى الدين من زاوية واحدة ويتعامل معه بمقياس واحد هو مقياس مصالحه والفوائد التي يجنيها من هذا الدين،(َأفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاه) (الجاثية/23) وإن لم ينتفع منه تركه وتخلى عنه الى غيره حيث يظن وجود المصلحة والمنفعة.

(فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ) فإن حصل على نفع دنيوي من مال أو جاه أو منصب أو أي امتيازات يسعى اليها الناس في الدنيا رضي بهذا الدين واستمر عليه وهو في الحقيقة اطمئنان ورضا بمصالحه، (وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ) أي تعرض لصعوبات

ص: 421


1- ألقيت يوم الجمعة 28/صفر1437 الموافق 11/ 12/ 2015 وقد شارك بها ممثل عن سماحة الشيخ المرجع (دام ظله) في مؤتمر الطف الدولي السابع الذي أقامته كلية الآداب في الجامعة المستنصرية يومي 7-8/ 12/ 2015 وجعلها سماحته إنموذجاً لوحدة الخطاب القرآني والحسيني.

الابتلاء والامتحان (انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ) بأن يرجع الى حرفه الذي يعبد الله تعالى عليه والوجه الذي كان ينظر من خلاله الى طاعة الله تعالى ويترك هذا الدين وينبذه ويرفضه، ولم يقل تعالى (وإن أصابه شر) لأن ما أصابه قد يكون خيراً إما في العاجل أو الآجل من الدنيا أو الآخرة، ولكنه لنظرته الضيقة الى الامور ولأنانيته وعدم امتلاكه البصيرة والرؤية الصحيحة للامور اعتبر ما حصل شراً فانقلب على وجهه، وكأنه هو الذي يعرِّض الدين للاختبار، فإن جلب له المنفعة كان صدقاً وحقاً والا فلا.مثلاً انضم الى جماعة المتدينين للحصول على منصب أو مال أو وجاهة اجتماعية فلمّا لم يحصل عليها رفض الدين ، ولعل حرمانه من هذه الامور خير له، لانه لا ينجح في امتحانها، لكن مدى تفكيره محدود فكانت نتيجته (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)، لأنه حُرِمَ من الدنيا التي كان يسعى للحصول عليها فتنة من الله تعالى له وبقلقه واضطرابه وانفعاله وعدم استقرار حاله، وخسر الآخرة بتركه لسبب السعادة والفلاح وهو الدين.

وهذا الوصف لحاله في الدنيا سيتجسد على أرض الواقع والحقيقة في الاخرة حيث تبلى السرائر وتنكشف البواطن على حقيقتها وأشارت الروايات الى ذلك حين وصفت الصراط بأنه أدق من الشعرة وأحدّ من السيف وإن من الناس من يعبره الى الجنة كالبرق الخاطف وآخر ركضاً وآخر زحفاً بحسب استحقاقاتهم وآخر يتمايل عليه ولا يستقر ثم يهوي منه في نار جهنم لان الصراط ممدود عليها، فهذا الصنف الاخير هو من كان في الدنيا قلقاً في تدينه غير مستقر وينقلب عن الدين إذا اصيب بابتلاء وهذا معنى سقوطه في جهنم.

ص: 422

روى في الدر المنثور عن أبي سعيد قال (أسلم رجل من اليهود فذهب ببصره وماله وولده فتشاءم بالاسلام فأتى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: أقلني. فقال: إن الإسلام لا يقال، فقال: لم اصب في ديني هذا خيرا، ذهب بصري ومالي ومات ولدي، فقال (صلی الله علیه و آله) يا يهودي الاسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والذهب والفضة، ونزلت الاية) (1).وقد وردت عدة روايات معتبرة في تفسير الآية في الكافي وغيره منها ما رواه زرارة عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: (سألته عن قول الله عز وجل (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ) قال: هم قوم وحدّوا الله وخلعوا عبادة من يُعْبَدْ من دون الله فخرجوا من الشرك، ولم يعرفوا أن محمداً (صلی الله علیه و آله) رسول الله فهم يعبدون الله على شكٍّ في محمدٍ (صلی الله علیه و آله) وما جاء به(2)، فأتوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقالوا: ننظر فإن كثرت أموالنا وعوفينا في أنفسنا وأولادنا علمنا أنه صادق وأنه رسول الله، وإن كان غير ذلك نظرنا، قال الله عز وجل (فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ) يعني عافية في الدنيا (وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ) يعني بلاءً في نفسه وماله (انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ) انقلب على شكّهِ الى الشرك (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ

ص: 423


1- الدر المنثور: 4/ 346.
2- وكان بعض هؤلاء من الصحابة المعدودين قريبين للنبي (صلى الله عليه واله وسلم) لكنهم كانوا يشككون في تصرفاته ويعترضون ويتمردون كما تنقل كتب الفريقين وفي آخر حياته قالوا (إن الرجل ليهجر) وهؤلاء كانوا مستعدين للانقلاب عن الدين والرجوع الى جاهليتهم كما أخبر عنهم الله تعالى (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) (آل عمران : 144) فرأى امير المؤمنين (عليه السلام) ان الصبر على المظالم التي لحقت به أحجى وقد سجل ذلك كله في خطبه المأثورة.

الْمُبِينُ. يدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنفَعُهُ) قال: ينقلب مشركاً، يدعو غير الله ويعبد غيره، فمنهم من يعرف ويدخل الإيمان قلبه فيؤمن ويصدّق، ويزول عن منزلته من الشك الى الإيمان، ومنهم من يثبت على شكّه ومنهم من ينقلب الى الشرك) (1).فهؤلاء يقفون على الحافة - والحرف هو حد الشيء وحافته ومنتهاه دون أصله وحقيقته كما يقال حرف الجبل أي منتهاه وليس كل حد وجانب حرفاً حتى تكون له قابلية ربط الشيء بغيره كالحرف الهجائي فانه الحد الذي تنتهي اليه الكلمة ولا معنى له في نفسه لكنه يربط بين ما له معنى، ومنه التحريف أي الخروج عن المعنى الوسط المعتدل المعروف الى حافته المشتبهة – متزلزلين غير ثابتين لم يتمكن الدين من قلوبهم ونفوسهم، يسقطون في أول اختبار وامتحان فينقلبون على وجوههم.

وقد شخص الإمام الحسين (عليه السلام) هذه الظاهرة في حياة المجتمع فقال (علیه السلام): (النّاسَ عَبِيدُ الدُّنْيا وَالدِّينُ لَعِقٌ عَلى ألسِنَتهم، يَحُوطُونَهُ ما دَرَّت مَعائِشُهُم، فَإذا مُحِّصُوا بِالبَلاءِ قَلَّ الدَّيّانُونَ).

وهذه الظاهرة الاجتماعية في حياة الناس لا تختص بالكافرين أو المنافقين كما ربما يتصور، بل تشمل الذين يتظاهرون بالشكليات الدينية لكنهم في أخلاقهم وتعاملاتهم وسلوكهم وصفاتهم النفسية أبعد ما يكونون عن الدين، لقوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ) فهم يمارسون الطقوس الدينية لكنهم لا يعملون بحقيقتها، ولا أُريد أن استغرق ببيان النماذج لوضوحها لدى الناس

ص: 424


1- تفسير البرهان: 6/ 310 عن الكافي: 2/ 303 ح 1 ، 2.

خصوصاً من السياسيين الذين يتسترون بالعناوين الدينية، لكن همهم الاول والاخير دنياهم واهوائهم ومصالحهم وتراهم يُداهنون ويتنازلون عن المبادئ الدينية الثابتة إذا أضرت بمصالحهم، ومن أمثلة هؤلاء من يقلد مرجعاً دينياً والمفروض أنه قلده بحجة شرعية، فاذا اصطدم هذا التقليد مع مصلحة له أو وجد منفعة دنيوية أفضل عند غيره عدل اليه ولا يسال عن الحجة الشرعية في ذلك.هذا سلوك غريب لأن المفروض أن تكون العقيدة هي الأصل وهي المسطرة الثابتة التي تقاس صحة الامور وبطلانها على أساسها فما وافقها - وإن اقترن بالمصاعب والبلاءات- فهو حق والا فهو باطل وإن جلب بعض المنافع الدنيوية، وليس العكس كما عليه هؤلاء من الاضطراب والتشتت، فهذا خلل كبير في الايمان الذي يدعيه هؤلاء وانحطاط في فهم الدين ولوازمه، لأن المؤمن الحقيقي لا يأخذ على إيمانه جزاءً دنيويا لأن دينه ليس سلعة قابلة للبيع والشراء وجلب المنافع، وإنما يبتغي بإيمانه والتزامه رضى الله تبارك وتعالى، ويعتبر التزامه بالدين توفيقاً من الله تعالى ولطفاً منه تبارك وتعالى ونعمة لا تجازى ويعجز عن شكرها وبالدقة يرى الملتزم بالدين حقاً ان نفس استمراره وثباته على الدين وما يترشح عنه من اطمئنان وسعادة وسمو هو أفضل جزاء يعطيه الله تعالى له على التزامه بالدين.

والأغرب من ذلك في سلوك هذا الصنف من الناس أنه حينما يتخلى عن المبادئ الدينية والمنهج الالهي الذي لا يوجد أفضل منه فما هو البديل الذي يلتزم به (يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ

ص: 425

يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) (الحج/12-13) هذا هو الضلال المبين أن يتخذ من المخلوقات التي لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً سواء كانت أصناماً حجريةً أو بشريةً أو أهواء نفسية أو مصالح أو أعراف وتقاليد يتخذ منها المولى والعشير والقائد الذي يتبعه (ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) الغارق في الضلال والبعيد عن العودة الى الطريق الصحيح.ويروي التاريخ شواهد كثيرة لمثل هؤلاء كعبيد الله بن الحر الجعفي الذي كان مواليا لأمير المؤمنين (علیه السلام) ولما طلب الامام الحسين (علیه السلام) منه النصرة وهو في طريقه الى الكوفة امتنع وأهدى له سيفه وفرسه فرفضهما الإمام الحسين (علیه السلام) ثم ندم على خذلانه وصار قائداً في جيش المختار الثقفي ثم انشق عنه والتحق بمصعب بن الزبير وقاتل معه المختارَ حتى انتصروا ثم تمرد عليه بجمع من الجيش وغادر الكوفة.

ومثل شبث بن ربعي الذي كان في جيش أمير المؤمنين (علیه السلام) في صفين ثم سقط في فتنة الخوارج، وبعدها كان ممن كاتب الإمام الحسين (علیه السلام) طالباً منه المجيء الى الكوفة لكنه انخدع بمناصب الولاة والتحق بجيش بن زياد لقتال الإمام الحسين (علیه السلام) وكان قائداً للمقاتلين المشاة (الرجّالة) يوم عاشوراء وقد ذكره الإمام الحسين (علیه السلام) باسمه في احتجاجه على الجيش المعادي حين نادى: (يا شبث بن ربعي، ويا حجار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا لي أن أينعت الثمار واخضرّ الجناب، وإنما تقدم على جند لك مجندة) (1).

ص: 426


1- الارشاد للمفيد: فصل: خروج مسلم ابن عقيل - رحمة الله عليه - بالكوفة يوم الثلاثاء.

ومما جرى من الحوارات يوم عاشوراء لما خطب الحسين (علیه السلام) واحتج عليهم بالكثير مما قاله رسول الله ص ورواه أصحابه قاطعه الشمر قائلا عن نفسه: هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما تقول.فقال له حبيب بن مظاهر: والله اني أراك تعبد الله على سبعين حرفاً وأنا أشهد أنك صادق ما تدري ما يقول قد طبع الله على قلبك(1).

ولما كانت الامور تعرف بأضدادها، فمن ضد هذا الوصف وهذه الصورة نتعرف على ما يجب أن تكون عليه قيمة الدين في حياة الانسان فهو مستقر في قلبه ووجدانه، سعيد به ثابت عليه، يلجأ اليه في كل اموره، ويجعله قائداً له في حياته يستهدي به ويزن به الامور، فيفرّق به بين حقها وباطلها، وهذا الثبات والاستقرار في العقيدة تجسّد في أصحاب الحسين (علیه السلام) وأهل بيته بحيث يفرحون ويستبشرون حينما يُعْلِمَهُمْ الامام الحسين (علیه السلام) بالقتل.

ص: 427


1- مقتل الحسين للسيد المقرم: 279

خطاب المرحلة 474 :(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)

خطاب المرحلة 474 :(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)(1)

(الضحى/11)

إذا حصلت للإنسان نعمة ما مادية كانت او معنوية فان هذا يوجب عليه أموراً(2) عديدة :

(منها) شكر هذه النعمة باللسان وبالفعل كسجدة الشكر او صلاة الشكر.

(ومنها) استعمالها في طاعة المنعم ونيل رضاه وأداء ما افترض الله تعالى من حقوق فيها كالحقوق المالية او حق الزوج والزوجة أو حق الوالدين او المعلم او القائد الصالح كما رسمها الامام السجاد (علیه السلام) في رسالة الحقوق.

(ومنها) بذلها للناس وعدم التقصير في سد احتياجاتهم منها، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (إن لله عباداً أختصهم بالنعم يقرّها فيهم ما بذلوها للناس فإذا منعوها حوّلها منهم الى غيرهم) وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال:(من كثرت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس اليه، فمن قام لله فيها بما يجب فيها عرّضها للدوام والبقاء، ومن لم يقم فيها بما يجب عرّضها للزوال والفناء).

ص: 428


1- تقرير لحديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع الضيوف المشاركين في مؤتمر الطف الدولي السابع الذي اقامته كلية الآداب في جامعة المستنصرية وقد زاروا سماحة المرجع يوم الاربعاء 26/صفر/1437 المصادف 9/ 12/ 2015 وهم من دول عربية واسلامية واجنبية.
2- شرحناها بتفصيل أوسع في خطاب (ولتسألن يومئذٍ عن النعيم) (خطاب المرحلة: 7/ 101) وخطاب (الذين بدلوا نعمة الله كفراً) (خطاب المرحلة : 8/ 333).

(ومنها) ما ذكرته الآية الشريفة من وجوب التحديث بهذه النعمة، اذ الامر فيها لا يختص بالمخاطب وهو رسول الله (صلی الله علیه و آله) كما هو واضح في آيات القران الكريم، وقد يبدو الأمر غريباً إذا تعلق بالأمور المادية إذ من غير المألوف أن يتحدث الانسان في مجالسه بما عنده من اموال أو بنين او عقارات او نفوذ اجتماعي ونحو ذلك، وكذا الحديث في الأمور المعنوية فقد يدخل في باب الرياء او العجب ان يتحدث الانسان عن الطاعات التي قام بها من صلاة او صوم او صدقة ونحو ذلك، إذن كيف نفهم هذا الامر بالتحديث بالنعمة. والجواب يتحقق من خلال فهم معنى (النعمة) او (التحديث) يناسب الامر الوارد في الآية، والتأمل فيهما يؤدي الى عدة وجوه :-

1- ان التحديث بالنعمة لا يكون بعنوان كونها إنجازاً شخصياً للاستعلاء والتفاخر وإنما بما هي منسوبة الى الله تبارك وتعالى لبيان فضله وكرمه وابتداءه بالنعم لتحبيبه تعالى الى الناس وتذكيرهم بما أنعم الله تعالى عليهم، لذلك أضافت الآية النعمة الى الرب (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ).

2- ان التحديث بالنعمة لا يقتصر على الحديث اللساني وإنما يشتمل التحديث العملي بإظهار تلك النعمة أمام الآخرين روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله : (إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده) وعن الامام الصادق (علیه السلام) قال : (إذا أنعم الله على عبده بنعمة فظهرت عليه سُميّ حبيب الله محدثاً بنعمة الله، وإذا أنعم الله على عبد بنعمة فلم تظهر عليه سمّي بغيض الله مكذباً بنعمة الله) ويكون ثمرة هذا التحديث للتأسي في فعلها أو السعي بنفس المقدمات التي تؤدي الى تحصيل تلك النعم ونحو ذلك روي عن الامام الحسين (علیه السلام)

ص: 429

قوله: (إذا عملت خيراً فحدّث إخوانك ليقتدوا بك)(1).3- يحتمل في التحديث معانٍ آخر غير معنى التكلم بها وإطلاع الآخرين عليها، قال السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره الشريف) ((أمكن أن يُراد بمادة (حدّث) أمران أخران :

الأول : الحدوث.

والثاني : التحديث بمعنى الجدة.

فعلى الاوّل يعني: أوجد نعمة ربّك، أي :سبّب إلى وجودها في حدود إمكانك، وهو أمر معنوي.

وعلى الثاني يعني: جدّد نعمة ربّك: إما بالتسبيب إلى تكرارها وإما بتذكّرها. وإما أن يكون الحديث بمعنى التذكّر يعني: حدّث نفسك أو حدّث ربّك، ولم يقل حدّث الآخرين، وهو مجازٌ في التذكّر، وفيه ثوابٌ وتكاملٌ، أو إنَّك إنَّما تفعل ذلك كلّه بنعمة الربّ سبحانه.

وبتعبيرٍ آخر: تارةً يكون التركيز على النعمة وأخرى على التحديث بها، ويكون الآخر تابعاً نحو: العيش برزق الله))(2).

4- إن الآية لم تذكر صاحب النعمة التي يجري التحديث بها فقد لا يكون المقصود التحدث بنعمة الله على المتحدث نفسه بل على الآخرين لتذكيرهم ولتقريبهم الى الطاعة او لتسليتهم عن أمر فقدوه ولامتصاص غضبهم وسخطهم على ما فاتهم فيذكرهم بالنعمة التي أستفادوها ونحو ذلك، ورد أن الله تعالى

ص: 430


1- مفاتيح الغيب :31/ 201.
2- منة المنان في الدفاع عن القرآن: 2/ 96.

قال لموسى (علیه السلام): (حبّبني الى خلقي وحبّب خلقي اليّ، قال: يا رب .. كيف أفعل ؟ قال : ذكرّهم آلائي ونعمائي ليحبّوني)(1).النعمة هي الاسلام وولاية اهل البيت (علیهم السلام):.

5- الوجوه السابقة كلها مقبولة ومفيدة الا ان الوجه الادق والاهم هو أن نفهم من نعمة الرب مصداقاً يتناسب مع الأمر بالتحديث بها، وهذا موجود، لأن آيات عديدة وروايات كثيرة أفادت بأن هذه النعمة هي الاسلام وولاية أهل البيت (علیهم السلام)، ومنها قوله تعالى (فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً) (آل عمران/103) ونعمة الله التي ألفت بينهم ووحدّت قلوبهم هو رسول الله (صلی الله علیه و آله) برسالة الاسلام، عن الامام الحسين (علیه السلام) قال في تفسير هذه الآية (أمره أن يحدِّث بما أنعم الله عليه من دينّه) ويكون هذا المعنى ظاهرا بمقتضى المقابلة بين الآيات في سورة الضحى فان هذه الآية قابلت قوله تعالى (وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى) (الضحى/7) فالنعمة التي امر بالتحدث بها هي نعمة الهداية الى دين الله تبارك وتعالى.

وتمام هذه النعمة وكمال هذا الدين ولاية علي ابن ابي طالب (علیهما السلام) لقوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) (المائدة/3)، وورد عن الامام الصادق (علیه السلام) في تفسير قوله تعالى (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (التكاثر/8) قول الامام الصادق (علیه السلام) إلى أبي حنيفة: (نحن – أهل البيت – النعيم الذي أنعم الله بنا على العباد وبنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين وبنا ألفّ الله بين قلوبهم وجعلهم إخواناً بعد أن كانوا أعداءاً وبنا هداهم الله الى الاسلام

ص: 431


1- الأمالي : 484.

وهي النعمة التي لا تنقطع والله سائلهم عن حق النعيم الذي أنعم الله به عليهم وهو النبي (صلی الله علیه و آله) وعترته)(1)، وقد يكون هذا المعنى هو المقصود لا غيره إذا لم نفهم اطلاق النعم وعمومها من قوله تعالى (بنِعْمَةِ رَبِّكَ) بأن يكون المراد التنويه بنعمة معينة فتكون هذه لا غيرها واكتفى بالإشارة اليها لعظمتها واهميتها على سائر النعم.وورد عن الامام الباقر (علیه السلام) في تفسير قوله تعالى (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) (لقمان/20) قال: (النعمة الظاهرة النبي (صلی الله علیه و آله) وما جاء به النبي من معرفة الله عز وجل وتوحيده، وأما النعمة الباطنة ولايتنا أهل البيت وعقد مودتنا).

وقد عمل رسول الله (صلی الله علیه و آله) بهذه الآية المباركة وتحدّث بفضل اهل بيته ومقاماتهم الرفيعة وجعلهم صنو القرآن والزم الامة بالرجوع اليهم فظن بعض الاصحاب انه منحاز الى قومه ويتحدث بدافع العاطفة نحو اهل بيته (ع) وهو المنزّه عن كل ذلك (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم3/4) فعمله (صلی الله علیه و آله) هذا كان التزاماً بالآية الكريمة.

فالتحديث بهذه النعمة يكون بالتعرف عليها والتفقه فيها ثم نشرها بين الناس ودعوتهم اليها، وإذا أردنا أن نكون من الشاكرين على هذه النعمة فلابد أن نظهرها ونعظّمها ونبّين فضائل أهل البيت (علیهم السلام) ومناقبهم ومكارم أخلاقهم وننشر مواعظهم وأحكامهم ومحاسن كلامهم ونوصلها الى البشرية جمعاء بكل صنوفها ولغاتها، وعلينا أن نحيي شعائرهم وأمرهم كما دعوا (ع) الى ذلك

ص: 432


1- راجع مصادر هذه الأحاديث في خطاب المرحلة: 8/ 333 و7/ 101.

(احيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا) ومن قصَّر في إظهار نعمة ولاية أهل البيت (علیهم السلام) ولم يدعُ الناس اليها وإقناعهم بها بأي وسيلة ممكنة، أو لم يحفظ حرمة أهل البيت (علیهم السلام) في سلوكه وصفاته فهو ممن لم يؤدِ حق هذه النعمة ولم يشكرها.وكما تقدّم في قول الامام الصادق (علیه السلام) فأنه أعتبر من لم يحدث بنعمة الله ولم يظهرها مكذباً بنعمة الله وبغيض الله، فليتفقه كل شيعة اهل البيت (علیهم السلام) في دينهم وليطلعوا بعمق ووعي على سيرة أئمتهم (ع) ليستطيعوا إيصال هذه الرسالة العظيمة الى العالم كله بأمانة وإتقان (فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لأتبعونا)(1).

أقول: بناءاً على هذه المسؤولية الكبيرة التي حملّتنا هذه الآية مع توفر أثمن فرصة اليوم لنشر تعاليم أهل البيت (علیهم السلام) والتمهيد لدولة العدل الإلهي بسبب:

1-عظمة ما أحتوت عليه كلمات أهل البيت (علیهم السلام) من احكام وإرشادات ومواعظ قال الامام الرضا (علیه السلام) (فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لأتبعونا) وهذا ما تشهد به التجارب التي حدثنا بها الاخوة المبلغون في شرق الارض وغربها وما لمسوه من إقبال واسع وسريع لمذهب أهل البيت (علیهم السلام).

2-فشل الأنظمة المادية التي صنعتها البشرية وعجزها عن توفير السعادة للإنسان.

3-الصورة المشوهة للإسلام التي طرحتها المدارس البعيدة عن أهل البيت

ص: 433


1- معاني الاخبار للشيخ الصدوق.

(ع) حيث كان نتاجها التكفير والقتل والارهاب والتدمير وتخريب الحضارة. فتوجهت الانظار كلها الى مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) لذا كان لزاماً علينا في الحوزات العلمية والنخب الفكرية والثقافية والمراكز العلمية والبحثية أن تضع البرامج والآليات للتحرك بهذه الرسالة العظيمة وسيفتح الله تعالى لهم العالم بأسره ولا نتخوف من الحكومات فإننا إذا توجهنا بخطابنا الى الرأي العام وصنعنا قضية أمامه من خلال مراكز اعلامية وفكرية وبحثية صانعة للمواقف ومقنعة للرأي العام على شكل (لوبيات) مؤثرة وفاعلة في مختلف دول العالم ، فان الرأي العام سيقتنع بها ويضغط على أصحاب القرار ويجبره على الانصياع للرأي العام الذي تخشاه الحكومات.

وأذكر كمثال مظلومية الشعب العراقي وإضطهاد صدام المقبور له، فعندما تحركت المعارضة العراقية يومئذٍ وشرحت هذه المظلومية كوّنت رأياً عاماً متعاطفاً معها وارتقى بهم الأمر حتى أقنعوا حكومات الدول الكبرى بضرورة إتخاذ إجراء وهذا ما حصل، كما ان القناعة حصلت لاثنتين من كبريات الصحف البريطانية والامريكية فنشرت مقالين عن زيارة الاربعين هذا العام واشارت الى الارقام القياسية المتحققة فيها من حيث عدد المشاركين في المشي وعدد المتطوعين للخدمة المجانية وعدد وجبات الطعام المجانية المقدّمة (قدروها ب 200 مليون وجبة) واطول مائدة طعام في العالم في اكبر حشد بشري، كما عتب كاتبا المقالين على وسائل الاعلام العالمية لإغفالها هذا الحدث مع انها تغطي تجمعا لعشرات في هذه الدولة او تلك.

وهذا كله يثبت اننا قادرون على صناعة وتوجيه الرأي العام العالمي اذا

ص: 434

توفرت الارادة والعزم والسعي.فلماذا نتخلى عن مشروعنا هذا بمجرد الوصول الى السلطة، فهل السلطة غايتنا أم إنها وسيلة لإحقاق الحق وإزالة الظلم والفساد.

ص: 435

خطاب المرحلة 475 :من الامراض الاجتماعية والاخلاقيةفضح اسرار الزوج والصديق عند الاختلاف معه

خطاب المرحلة 475 :من الامراض الاجتماعية والاخلاقيةفضح اسرار الزوج والصديق عند الاختلاف معه(1)

كثيرة هي الامراض التي تنخر في تركيبة المجتمع وتمزقه، وقد تحول كثير منها الى ظواهر اجتماعية اي خرجت عن كونها حالات شخصية يتصف بها بعض الافراد، ومما يزيد خطورتها عدم الالتفات اليها وتشخيصها واستشعار خطرها ليحصل عمل جدي لمعالجتها.

ومن تلك الامراض انك تجد شخصين او اكثر كانت بينهما مودة وتآلف لكونهما شريكين في العمل او يتواجدان في وظيفة واحدة او شخص كان ينتمي لمؤسسة معينة او كيان ما، وتصل الامثلة الى الزوجين او فردين في اسرة واحدة ونحو ذلك فيطلع كل منهما على خصوصيات الاخر واموره الشخصية، ثم يحصل بينهما خلاف وتقاطع فيقوم كل منهما بفضح اسرار الاخر مما لا يجوز للآخرين الاطلاع عليه وهتك حرمته وإهانة كرامته واسقاط مكانته .

وقد شخّص المعصومون (علیهم السلام) هذا الداء وحذرّوا منه وبينّوا مغبَة الوقوع في هذه الرذيلة الاخلاقية وعاقبتها الوخيمة في الدنيا والاخرة، روي عن ابي جعفر الباقر (علیه السلام) قوله(اقرب ما يكون العبد الى الكفر ان يؤاخي الرجل على

ص: 436


1- من حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع جمع كبير من اساتذة الجامعات في عدة محافظات زاروا سماحته يوم الخميس 6/صفر/1437 الموافق 19/ 11/ 2015

الدين فيحصي عليه عثراته وزلاته ليعنّفه بها يوما ما) (1).لاحظ كيف يُنزل الامام (ع)منزلاً قريباً من الكفر للشخص الذي يستغل انفتاح صديقه عليه ومكاشفته بأموره ويحتفظ بها ويسجلها عليه الى وقت اخر ليشّهر بها عليه للضغط عليه او ابتزازه او اكراهه على امر ما ونحو ذلك من الامراض الخبيثة.

ولعل المراد بالكفر هنا الخروج من بعض مراتب الايمان وليس الخروج من الاسلام ويُفهم هذا المعنى من حديث ابي بردة الاتي، وظاهر الحديث ان هذه النتيجة تتحقق له بمجرد احصائه زلاته على اخيه وتسجيل عثراته في ذهنه او في وثائقه بغضّ النظر عن اخراجها الى الملأ وعدمه، فانه خيانة للصداقة والاخوة.

واخبث من يمارس هذه الرذيلة هم طبقة السياسيين فان كلا منهم يحتفظ على الآخرين بملفات كثيرة ويهدّد بين حين وآخر بكشفها لا لكي يصلح الفساد او يقدّم المفسدين الى القضاء او لإعادة الحق الى اهله بل لكي يسكته عن فضحه او لينتزع منه موقفا سياسياً او ليجبره على امضاء امر معين ونحو ذلك من المصالح الشيطانية .

ومن تحذيرات المعصومين (علیهم السلام) في هذا المجال ما ورد في كتاب ثواب الاعمال بسنده عن ابي بردة قال : (صلّى بنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم انصرف مسرعاً حتى وضع يده على باب المسجد ثم نادى بأعلى صوته يا معشر من آمن بلسانه ولم يخلص الايمان الى قلبه، لا تتبعوا عورات المؤمنين – اي

ص: 437


1- الكافي : 2/ 354 ، المحاسن : 104 ، مجاس المفيد ، بحار الانوار : 75/ 217 باب 65

اخطاءهم وسيئاتهم وعيوبهم - فانه من تتبّع عورات المؤمنين تتبّع الله عورته، ومن تتبّع الله عورته فضحه ولو في جوف بيته) (1).وعن ابي عبد الله الصادق (علیه السلام) قال (اذا رأيتم العبد متفقداً لذنوب الناس ناسيا لذنوبه فاعلموا انه قد مُكِر به) (2).

اي ان الشيطان قد استدرجه وصوّر له حسن عمله ليغمسه في الذنوب أكثر وان الله تعالى قد سلب توفيقه منه وتركه لشيطانه .

وينبغي الالتفات الى ان هذه الحالة المذمومة انما هي في الامور الشخصية اما رصد حالات الاعتداء على حقوق الناس وظلمهم والتجاوز على اموال الشعب ومقدساته ونحوها من المظالم العامة التي تصدر من كثير من المتصدين للسلطة فهذا غير مشمول بهذا النهي بل هو من مصاديق وظيفة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر .

فهذا هو الجزء الاول من العلاج بتحذير فاعل هذه الرذيلة من العاقبة السيئة في الدنيا والاخرة، واكمل المعصومون (علیهم السلام) العلاج بالتوجه الى الطرف الاخر وهو الضحية المشهَّر بها بان يكون الانسان حذراً وفطناً وان لا يكشف سرّهُ للآخرين وان لا يظهر من خصوصياته الا ما لا يخشى منها، في آمالي الصدوق عن الامام الصادق (علیه السلام) قال لبعض اصحابه (لا تطلع صديقك من سرّك الا على ما لو اطلّع عليه عدوّك لم يضرّك فان الصديق قد يكون عدوك

ص: 438


1- ثواب الاعمال : 288، بحار الانوار : 75/ 214 ح10
2- بحار الانوار : 75/ 215

يوماً ما) (1).ووجّهوا بان تكون العلاقة مع الآخرين متوازنة ومبنية على التجربة والاختبار والمعرفة وبعيدة عن العواطف الانفعالية والمبالغة في الوثوق بالآخر في امال الطوسي بسنده عن الامام الرضا (علیه السلام) عن ابائه (ع) قال (قال امير المؤمنين (علیه السلام) : احبب حبيبك هوناً ما فعسى ان يكون بغيضك يوما ما، وابغض بغيضك هوناً ما فعسى ان يكون حبيبك يوما ما) (2).

فاذا احببت احدا واردت ان تطلعه على خصوصياتك وتكشف له عن اسرارك وتشركه في امورك فاحسب لاحتمال انقلابه عليك يوما ما، واذا ابغضت شخصاً فلا تقطع كل وسائل التواصل معه، لكي يبقى باب الرجوع مفتوحا.

اما من يسترسل في علاقته مع الآخرين اي يطمئن اليهم تمام الاطمئنان وينبسط اليهم وينقاد وراء كلماتهم ووعودهم والثقة بهم تمام الثقة، فلا يلومّن الا نفسه اذا وقع في المحذور ووقع في المهلكة التي نصبها له الآخر، روى الصدوق في آماليه عن الامام الصادق (علیه السلام) قوله (لا تثقّن بأخيك كل الثقة فان صرعه الاسترسال لا يُستقال) (3).

والصرع تعني السقوط، فصرعة المسترسل وسقوطه لا يمكنه النجاة وانقاذ نفسه منها ولا يرجى له الاقالة من عثرته، لأنه هو الذي سلّم مقتله الى الاخرين

ص: 439


1- بحار الانوار : 74/ 177.
2- بحار الانوار : 74/ 177.
3- بحار الانوار : 74/ 174.

بتسليمهم زمام امره وافشاء سره، فلا يستطيع الدفاع عن نفسه .وفُسِّر الاسترسال – وهو طلب الرسل – بأخلاء زمام الفرس وانطلاق الخيل في الحرب او ميدان السباق، فاذا اطلق الفارس عنان خيله حتى اسرع واسرع فانه لا يتمكن من السيطرة عليه الا بان يكبوا به او يسقط والمهلكة واحدة .

وقد تكرر التحذير من الاسترسال في كلمات الائمة المعصومين (علیهم السلام)، قال امير المؤمنين (علیه السلام)، (من أقلَّ الاسترسال سلم) وقال (علیه السلام)(من اكثر الاسترسال ندم) وقال (علیه السلام)(قلة الاسترسال الى الناس احزم) (1).

اردنا بهذا الحديث الفات النظر الى هذه الظاهرة الاجتماعية السيئة التي تهدم بنية المجتمع والاسرة حينما يقوم كل من الزوجين بكشف اسرار كل منهما وخصوصياته والتشنيع عليه والتشهير به لإثبات الغلبة عليه .

واردنا ايضاً الفات نظر المتخصصين الى ان النصوص الشرعية في القران والسنة تقدّم وصفات جاهزة ودقيقة للكثير من امراض البشرية الاخلاقية والاجتماعية وفي سائر المجالات الاخرى، وقراءتها بشكل دقيق يوّفر على الحضارة الانسانية جهدا كبيرا تبذله في الدراسات والاستقراءات والاستبيانات الميدانية والتحليلات الاحصائية، وإن كنّا نستفيد فعلاً من تلك الدراسات.

ص: 440


1- غرر الحكم : 7774، 7775، 6748 .

خطاب المرحلة 476 :صور مشرقة لشباب الإسلام في الماضي والحاضر

خطاب المرحلة 476 :صور مشرقة لشباب الإسلام في الماضي والحاضر(1)

حنظلة ابن أبي عامر انصاري من الأوس كان من شباب الإسلام المخلصين المضحّين رغم ا ن اباه ابا عامر لقّبه رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالفاسق وكان يعرف بالراهب في الجاهلية ويحدثهم عن البعث ودين الحنيفية فلما هاجر النبي(صلی الله علیه و آله) حسده كزعيم المنافقين عبد الله بن أبي سلول الذي اظهر الإسلام واضمر النفاق, إما أبو عامر الراهب فخرج الى مكة ثم قدم مع قريش يوم اُحُد محاربا, ولما فتحت مكة لحق بهرقل هاربا الى ارض الروم ومات هناك. ولما علم حنظلة وعبد الله ابن زعيم المنافقين بمعاداة أبو يهما لرسول الله(صلی الله علیه و آله) استأذناه في قتلهما فنهاهما عن ذلك(2).

كان في ليلة عرسه حينما هتف منادي رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالمسلمين يدعوهم الى الخروج لملاقاة مشركي قريش في اُحُد فكره ان يتأخر عن الخروج حتى يغتسل ، وبتعبير كتاب الاستيعاب ((ثم هجم عليه من الخروج في النفير ما أنساه الغسل أو اعجله عنه)) ، فأخذ حنظله سلاحه ولحق رسول الله (صلی الله علیه و آله) باُحُد وهو يسوي الصفوف وقاتل حتى أستشهد في المعركة وأخبر

ص: 441


1- من كلمة ألقاها سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) على جمع كبير من طلبة بحثه الخارج يوم الأحد 16/ ع1/ 1437 الموافق 28/ 12/ 2015 بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف وتحرير مدينة الرمادي من عصابات الارهاب.
2- الاصابة :- 1/ 361 ، رقم الترجمة 1863.

رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه رأى الملائكة تغسلّه ، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) (إن صاحبكم – يعني حنظله – لتغسّله الملائكة ، فاسألوا أهله :- ما شأنه ؟) فسُئلت صاحبته عنه ، فقالت :- خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة) (1) .كاد أن يخلّص المسلمين من رأس الفتنة والشجرة الملعونة أبي سفيان، ففي الاصابة وسيرة ابن هشام وشرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد وغيرها: أنه لما انكشف المشركون أعترض حنظله لأبي سفيان فضرب فرسه ووقع أبو سفيان الى الارض وهو يصيح : يا معشر قريش أنا ابو سفيان ابن حرب وحنظله يريد ان يذبحه بالسيف ، فاسمع الصوت رجالاً لا يلتفتون اليه من الهزيمة حتى عاينه الاسود بن شعوب ، فحمل على حنظله بالرمح فأنفذه، ومشى حنظله اليه بالرمح فضربه ثانية فقتله وهرب ابو سفيان يعدو على قدميه فلحق ببعض قريش فنزل عن صدر فرسه وردف ابا سفيان وراءه (2) ولما رأه ابو سفيان قتيلا قال (حنظله بحنظله) يذكر ابنه الذي قتل في بدر مشركا ، وأنشأ ابياتا في ذلك ورّد عليها حسان بن ثابت (3).

وقد تكونت في تلك الليلة –ليلة الخروج الى أُحد- نطفة ولده عبد الله بن حنظله، والذي انتدبه أهل المدينة مع جماعه بعد واقعة كربلاء للذهاب الى الشام ويستطلع حقيقة أمر يزيد وسلوكه ليحدّدوا موقفهم منه ولما ذهب وعاد جمع اهل المدينة وقال ((انا قدمنا من عند رجل ليس له دين يشرب الخمر

ص: 442


1- سيرة ابن هشام : 3/ 25 طبعة دار الجيل – 1975 .
2- شرح نهج البلاغة : 3/ 378 بواسطة كتاب شهداء الاسلام في صدر الرسالة : 140.
3- سيرة ابن هشام : 3/ 25.

ويعزف بالطنابير ويضرب عنده القيان ويلعب بالكلاب ويسامر الفتيان وإنّا نشهدكم أنّا قد خلعناه)) (1) .وفي مصدر آخر قال (والله ما خرجنا على يزيد ، حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء ، أنّه رجل ينكح امّهات الأولاد والبنات والاخوات ويشرب الخمر ويدع الصلاة)(2). واستمر وجماعته القليلة في قتال جيش الشام حتى قتل.

فخلّع أهل المدينة يزيد وثاروا عليه وأخرجوا عمّال بني أميه وبايعوا عبد الله قائدا لهم وبايعهم على الموت ولما جاء جيش يزيد الى المدينة قاتلهم قتالا شديدا حتى قتل .

استحضرت هذه الصورة المشرقة لشباب الاسلام وأنا استمع إلى الإخوة من مدينة الشوملي(3) في محافظة بابل يتحدثون عن ثلاثة من الجنود الذين تربّوا في مدرسة الاسلام وأهل البيت (علیهم السلام) كانوا يقاتلون الارهاب الوحشي في محافظة الانبار وحان موعد إجازتهم الاعتيادية والذهاب الى عوائلهم وبينما هم يحزمون حقائبهم علموا ان مواجهة مسلحة وقعت مع العدو في قاطع عملياتهم فأعادوا لبس بدلة القتال وحملوا اسلحتهم واقتحموا المعركة حتى استشهدوا ثلاثتهم .

هذا الربط بين صور الماضي والحاضر أنصح به الخطباء والكتّاب

ص: 443


1- تاريخ الطبري : 7/ 4 حوادث سنة 62 ه- .
2- (الكامل : 3 / 310) و (تاريخ الخلفاء:165
3- خلال زيارة وفد كبير منهم يوم 29/ صفر/ 1437، الموافق 12/ 12/ 2015.

والمتحدثين حينما ينقلون حوادث التأريخ المشرق أن لا يغفلوا ربطها بمآثر الجيل الحاضر ليكون التأريخ حيا محركا للمواقف النبيلة والاعمال الصالحة ، لا ينظرون الى التأريخ كأنه مجموعة قصص وحكايات لإثارة العاطفة أو للتسلية وتمضية الوقت.وهنا يجب أن نلتفت الى أن البطولة لا تقتصر على ساحات القتال فهذا هو ميدان الجهاد الاصغر، بل الأمر أشد في ميدان الجهاد الأكبر، والروايات عن أهل البيت (علیهم السلام) تدل على هذا المعنى للقوة والشجاعة فقد روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قوله: (أقوى الناس أعظمهم سلطاناً على نفسه) وقوله (علیه السلام): (لا قويَّ أقوى ممن قوي على نفسه فملكها، لا عاجز أعجز ممن أهمل نفسه فأهلكها).

وقوله (علیه السلام): (أشجع الناس من غلب الجهل بالحلم)(1).

ومن أمثلة البطولة في ميدان الجهاد الأكبر شاب من ابناء الاسلام مهندس مشرف على تنفيذ بعض المشاريع، يأتيه المقاول المنفذ ويطلب منه التوقيع على قبول العمل واستلامه لتصرف له السلفة المالية فيرفض المهندس لانه لم يكن مطابقا للمواصفات الفنية المشترطة في العقد في زمان الفساد المرعب الذي نعيشه ، فيغريه بمال يعادل راتبه لسنوات ويقول له انت شاب وتريد أن تبني مستقبلك وتتخذ بيتا وسيارة وأنا أوفرها لك فيرفض الشاب المهندس ، فينتقل الى التهديد بتسقيطه أجتماعيا بالافتراء والتهم الباطله والطعن في شرفه ثم يهدده باختطاف اخواته او اخوته وذويه والشاب مصرّ على الالتزام بما يمليه

ص: 444


1- غرر الحكم: 3257، 3188، 10917.

عليه واجبه الشرعي والوطني فيهدده بالقتل ويرسل له ظرفا فيه أطلاقات نارية لإرعابه فيصمد الشاب وينهزم ذلك الفاسد الذي يعجز عن مواجهة هذه المواقف ألمبدأيه ويحلّ مشكلته بأن يذهب الى المسؤول الاعلى المتخم بالسحت فيستجيب للاغراءات ويمرّر ما يريد المقاول بعد أن يعزل المهندس النزيه المخلص. وهكذا تتجلى البطولة في الساحات الأخرى كالعلم والابداع والانجاز والابتكار أو ميدان الدعوة الى الله تعالى وتبليغ الرسالة ونشر مذهب اهل البيت (علیهم السلام) في دول العالم كافه فتراهم يمارسون جهادا حقيقيا بالمال والنفس والوقت والجهد ويتعرضون لالوان الاذى والضيق ومع ذلك فهم كما أمر الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران 200) .

فعلينا أن نجعل الماضي مادة للاتعاظ والتأسي والانطلاق نحو الكمال وليس مجرد ارشيف للتذكار فيفقد روحه ومحركيّته وعلينا ان نربطه بالحاضر ونبرز الصور المعاصرة لتكون حافزا للآخرين على التأسي بتوفيق الله تعالى .

ص: 445

ص: 446

مختارات من صحيفة الصادقين استفتاءات- أخبار - تعليقات - قصائدمن الأعداد 140-157

اشارة

ص: 447

ص: 448

المرجع اليعقوبي يدعو الى حلول سياسية فورية ويحذر من عمليات التطهير العرقي والاكراه الديني

شدّد سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي دام ظله على ضرورة البدء بمعالجات فورية ناجعة للمشاكل التي يعاني منها البلد والإسراع بإقرار القوانين المعطلة، وذلك باستثمار الوضع السياسي الجديد(1) وانتخاب رئاسة مجلس النواب للسير باتجاه الحل في أسرع وقتٍ ممكن من دون انتظار حسم موضوع بقية الرئاسات .

وقال سماحته لدى استقباله(2) لممثل الامين العام للأمم المتحدة السيد ميلادينوف بمكتبه في النجف الأشرف :

ان الحل السياسي المطروح ينبغي ان يكون مساوقاً الى القيام بإجراءات مطمئنة للأطراف المعتدلة من ابناء المحافظات التي تشهد عمليات عسكرية ويرزح بعضها تحت سيطرة التنظيمات الارهابية من داعش وغيرها، وذلك بالنظر بجدية الى مطالبهم المعقولة والمشروعة والاسراع بحل مشاكلهم من

ص: 449


1- جرت الانتخابات البرلمانية العامة يوم 30/ 4/ 2014 واستمر الصراع على منصب رئيس الوزراء بين رئيس الوزراء المنتهية ولايته نوري المالكي باعتبار قائمته الأكثر عدداً وبين خصومه وحصل ما حصل بدخول داعش الموصل يوم 10/ 6 وبعد البيان الذي أصدره سماحة المرجع بضرورة الوصول الى اتفاق سياسي وتقديم تنازلات صعبة وتعالي الأصوات المطالبة بذلك وتدخل بعض المرجعيات النافذة تقرر إبعاد رؤوس الصراع (نوري المالكي، اسامة النجيفي) وبدأت حلحلة الوضع السياسي بالاتفاق على هيئة رئاسة البرلمان ثم الرئاسات الأخرى، ويأتي اللقاء المذكور في هذه الأجواء.
2- تاريخ اللقاء السبت 21-رمضان-1435 الموافق 19-7-2014.

اجل تقديم حوافز وخلق بيئة مضادة لهذه التنظيمات وعزلها عن حواضنها مما يسهل القضاء عليها او طردها من العراق .وأكد سماحته على الحاجة الى وجود جهة تحظى بثقة جميع الاطراف تقرب وجهات النظر وتقلل من حالة الانقسام والتشرذم والتقاطع في ظل ازمة الثقة بين الاطراف السياسية والتي يعاني منها البلد ،من خلال ادامة الحوارات واللقاءات السياسية وتفعيل دور مجلس النواب الجديد وهو ما تقوم به بعثة الامم المتحدة بشخص رئيسها ميلادينوف، لافتاً الى الدور المحوري والاساسي والمؤثر للمرجعية الدينية(1).

وابدى سماحته قلقه من الأوضاع والظروف الصعبة التي يعاني منها المهجرون والنازحون وأكد على ضرورة التكاتف الجهود الرسمية وغيرها لرعايتهم وإيجاد حلول سريعة لمعاناتهم.

ورفض سماحته ما تقوم به الجماعات المسلحة التي تدّعي الاسلام من مصادرة للحريات الشخصية وفرض قوانين متخلفة وشاذة وقسرٍ وإكراه للأقليات وتهديدهم للمسيحيين باعتناق الاسلام أو مغادرة أراضيهم ومصادرة ممتلكاتهم وهذه جريمة كبرى ومخالفة للشريعة ولسيرة النبي (صلی الله علیه و آله) وائمة

ص: 450


1- صدر لسماحة المرجع اليعقوبي دام ظله عدة بيانات بعد أحداث سقوط الموصل في 10/ 6/ 2014 والتداعيات التي تلتها : - رب ضارّة نافعة سقوط الموصل للمعالجة الأمنية. - لا بديل عن الحوار والتنازلات العادلة للمعالجة السياسية. - قل إنما أعظكم بواحدة للمعالجة الاخلاقية.

الاسلام إذ يقول القران الكريم (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) البقرة :256.

إرث الشهيدين الصدرين

ابدى سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي اهتماما كبيراً بجمع وتصنيف ونشر الاثار المباركة التي خلّفها المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر (رضوان الله تعالى عليه) لأنها ثروة إنسانية وقفزة حضارية لا تختص بأهل ديانة او قومية او دولة معينة، وهذا ما يفسّر إقدام الحكومة الروسية مؤخراً على اقامة نصب للسيد الشهيد في مدخل احدى جامعاتها الشهيرة في موسكو.

وقال سماحته لدى استقباله فضيلة السيد جعفر نجل السيد الشهيد الصدر الاول (قدس سره) بمكتبه في النجف(1) الاشرف: ان هذه المسؤولية تحتاج الى تعبئة جهود عدد من العلماء والمفكرين والكتّاب وانضمامهم في عمل مؤسساتي ممنهج لإنجاح هذا المشروع والانطلاق نحو مراحله اللاحقة لتحليل الافكار وشرحها وبيانها وترجمة هذه الموسوعة الى مختلف اللغات والسعي لإيصالها الى البلدان كافة.

وفي جانب من لقاء سماحته مع الضيف الكريم تناولا بشكل مفصّل الوضع السياسي والانساني المتدهور في مدن العراق وتشخيص اسبابه والمسؤولين عنه وكيفية الخروج من هذا المأزق الخطير والكارثة الكبرى التي عمّت كل اطياف الشعب العراقي وامتّد شرها الى ما هو اوسع من ذلك .

ص: 451


1- يوم الاثنين 7-شوال-1435 المصادف 4-8-2014

كما شمل الحديث مناقشة الخطوات العملية التي ينبغي لأبناء مدرسة الشهيدين الصدرين (قدس الله روحيهما) اتخاذها للقيام بدورهم المتوقع في الاصلاح السياسي والاجتماعي والاخلاقي، وحثّ سماحة المرجع ضيفه الكريم على الاستفادة من رمزيته لدى حزب الدعوة الاسلامي ودفعهم لتقديم حل للمأزق السياسي الذي تسبب في تداعيات مؤلمة.

لقاء الدكتور التيجاني

لقاء الدكتور التيجاني(1)

قام الداعية المشهور فضيلة الدكتور محمد التيجاني السماوي بزيارة سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) في مكتبه، وتناول الحديث المخاطر التي يشكلُها الانحراف العقائدي والسلوكي الذي تتبّناه الجماعات الارهابية المدعّية للإسلام زوراً وبهتاناً، وحمّل مسؤولية تكوين وانتشار هذه الجماعات الضالة ورفدها بالجهلة والمتحجرين والمضلِلِين بعض الانظمة الحاكمة التي تتخذ من المال وسيلة لدعم هذه الجماعات من اجل تصفية حساباتها مع بعض الانظمة الاخرى بالقتل والتخريب من دون مراعاة لحرمات الله تعالى ومصالح الامة.

لقاء الكاتب والأديب المسيحي انطوان بارا

لقاء الكاتب والأديب المسيحي انطوان بارا(2)

استقبل سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) الكاتب والاعلامي المسيحي المعروف انطوان بارا مؤلف الكتب القيّمة عن الامام الحسين (علیه السلام) والسيدة

ص: 452


1- تاريخ اللقاء الأحد 1 محرم 1436 الموافق 26/ 10/ 2014.
2- تاريخ اللقاء الأربعاء 27 ذح 1435 الموافق 22 / 1/ 2014.

زينب (علیها السلام)، وقد تشاطر سماحته مع الضيف الكريم الاسف والالم للحال المزرية الذي تردّت اليه الامة وفقدانها لمبادئها حتى آل امرها الى التشتت والتمزق والتقاتل بسبب تخّلي الحكام والحكماء عن اداء مسؤولياتهم المنوطة بهم، وانقطاع صلة الامة بعظمائها .

سماحة المرجع يستقبل أسرة آل بحر العلوم وعميدها الدكتور السيد محمد

سماحة المرجع يستقبل أسرة آل بحر العلوم وعميدها الدكتور السيد محمد(1)

إثرَ مشاركة سماحة الشيخ اليعقوبي(دام ظله) في مجلس قراءة الفاتحة الذي اُقيم على روح العلامة السيد حسن نجل المرحوم الشهيد السيد عزالدين آل بحر العلوم، قام جمع من اعلام الاسرة يتقدمهم عميدها العلامة الدكتور السيد محمد بحر العلوم بزيارة سماحة المرجع في مكتبه، وقد رافق السيد بحر العلوم اخوه السيد مهدي وولده النائب الدكتور ابراهيم وزير النفط الاسبق والسيد كاظم السيد عزالدين بحر العلوم وولدي الشهيد السيد احمد السيد جعفر بحر العلوم ونجل السيد غياث الدين بحر العلوم واخرين .

وقد استعاد السيد بحر العلوم ذكريات الحركة الاسلامية المزدهرة في ستينيات القرن الماضي حيث كانت مجلة الايمان النجفية التي كان يصدرها المرحوم الشيخ موسى اليعقوبي – والد سماحة المرجع- المنبر الواعي لتلك الحركة بقيادة المرجعية الرشيدة وكتب السيد بحر العلوم عدداً من كلماتها الافتتاحية واستذكر سماحة الشيخ مع الضيف الكريم العلاقة التاريخية التي

ص: 453


1- تاريخ اللقاء الثلاثاء 26-ذح-1435 الموافق 21-10-2014.

تربط الاسرتين عبر عدة اجيال، ولم يُخفِ السيد بحر العلوم ألمه وامتعاضه من الاخطاء التي يرتكبها السياسيون بعد التغيير عام 2003 والتي لم تحقق حُلُم المجاهدين والمضحين الذي عملوا من اجل جلب الخير والصلاح للبلاد وليس الدم والخراب .

المرجعية الدينية تتفاءل بزيارة السيد رئيس الجمهورية الى الرياض

عبّر سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) عن تفاؤله بزيارة فخامة رئيس الجمهورية السيد فؤاد معصوم الى المملكة العربية السعودية وأمله في مساهمتها بحل المشاكل العالقة -ولو تدريجيا- بحسب الأهمية والأولوية.

وقال سماحته لدى استقباله(1) فخامة الرئيس قبل توجهه الى الرياض: إن الأجواء الإيجابية التي سادت العلاقات بين البلدين بعد التغيرات السياسية الأخيرة في العراق تساعد على تقريب مسافة الحل خصوصاً وإن فخامة الرئيس يذهب مستنداً الى اجماعٍ من القوى السياسية وتأييدٍ من المرجعية الدينية في النجف الأشرف حيث ينطلق منها الى المملكة السعودية لإيصال هذه الرسالة، مع حصول القناعة المشتركة لدى قيادة البلدين بأن خطر الإرهاب والتكفير يهدد الجميع على حدٍ سواء، ولا يفرّق بين دين وآخر أو طائفةٍ واُخرى أو قومية واُخرى.

ص: 454


1- تاريخ اللقاء الثلاثاء 17/محرم الحرام/1436ه- الموافق 11/11/ 2014م.

وذكر سماحته شاهداً على ذلك الحادث المؤلم الذي وقع في حسينية المصطفى في قرية (الدالوة) التابعة للإحساء في الاسبوع الماضي حين هاجم بعض الارهابيين حشداً من المعزّين في ذكرى الإمام الحسين (علیه السلام) مما ادى الى استشهاد وإصابة عددٍ منهم، وأثنى سماحته على حكمة ونُبل المفجوعين حيث التزموا الصبر وتركوا معالجة الموقف الى القوات الحكومية التي سارعت الى ملاحقة القتلة ومن يقف وراءهم، وأدت المداهمة الى التضحية باثنين من رجال الأمن، فما كان من الجماهير المشاركة في التشييع إلا أنْ تضع صورتيهما في مقدّمة التشييع مع جثامين الشهداء للتعبير عن وحدة الموقف وتلاحم الشعب ضد ثقافة التكفير وخوارج العصر.وأكّد سماحة المرجع في حديثه على أهمية تماسك الجبهة الداخلية وحل الخلافات بين الكتل السياسية وتوحيد المواقف إزاء هذه القضايا الخطيرة مادام العدو يستهدف الجميع ويريد تخريب الحياة في كل جوانبها.

ووعد فخامة الرئيس بأنْ يكون هذا المشروع على رأس أولوياته وأنه يسعى لجمع كل القيادات السياسية ليتحملوا مسؤوليتهم لتحقيق السلم الأهلي وتحقيق مصالحة حقيقية.

كما ذكر سماحة المرجع ان الله تعالى وَفّر للقيادات السياسية أعظم الفرص لطاعته، لأن أي انجاز يحققونه يعود بالنفعِ على ملايين الناس وليس في العراق فقط وإنما لكل شعوب المنطقة وهذا يعني سعة الثواب الذي يحصلون عليه.

ص: 455

الموقف من الانتخابات البرلمانية في مملكة البحرين

دعت السلطات في مملكة البحرين الشقيقة الى انتخابات برلمانية في العشرين من شهر تشرين الثاني الحالي , وهي فعّالية تعتبر في الدول المتحضرة التي تسعى الى تحقيق العدالة الاجتماعية خطوة للوصول الى هذا الغرض الانساني النبيل وتحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات وتحكيم إرادة الشعب في ادارة شؤونه .

إلا ان المعطيات الموجودة على الارض والممارسات التي تحصل الآن قبل اجراء هذه الفعالية لا تدلّ على ان المقصود من اجرائها هذه الاهداف النبيلة, لذلك نحن نتفهم اجماع القيادات الدينية والسياسية الرشيدة لأغلبية الشعب البحريني الشقيق على مقاطعة الانتخابات وعدم المشاركة فيها لقطع الطريق امام محاولات الالتفاف على المطالب المشروعة للشعب ومصادرة تضحياته الشريفة.

ونحن - المرجعية الدينية في النجف الاشرف - إذ ندعو أبنائنا من الشعب البحريني الى التمسك بالقيادة الصالحة واتّباعها, نطالب السلطة البحرينية باتخاذ الخطوات الجدّية ذات المصداقية والاصغاء الى مطالب الشعب واعطاء كل ذي حق حقه, ليحسَّ جميع افراد الشعب بكرامتهم ومواطنتهم ليكون الجميع مبادرين الى تحمل مسؤولياتهم ومتفانين في أداء واجباتهم .

ان البلد - أي بلد - لا يستقر, والملك لا يدوم الا بالعدل والمساواة في حقوق المواطنة وواجباتها, وان المكابرة والقفز على الحقائق والهروب الى الأمام لا يحلّ أي مشكلة , وقد اثبتت التجارب ذلك وان كانت القضية لا

ص: 456

تحتاج الى إثبات.فالله الله في أداء هذه الأمانة التي تحمّلتموها, وأعدِّوا الجواب لقوله تعالى (وقفوهم انهم مسؤولون) (الصافات /24).

محمد اليعقوبي - النجف الاشرف

13/محرم الحرام/1436ه- الموافق 7 /11/ 2014 م

سماحة المرجع اليعقوبي يقدّم تعازيه بوفاة المفكر الكبير جورج جرداق

قام وفد من مكتب سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) في بيروت بتقديم تعازي سماحته بوفاة المفكر والكاتب المسيحي الكبير جورج جرداق الى اسرته في محل استقبال التعازي في كنيسة القديس نيقولاس للروم الارثودوكس في الاشرفية شرق بيروت، وقد تلقّت زوجة الراحل وولده وصهره وبقية اقربائه ومحبيه هذه الزيارة بالترحيب والشكر.

واثنى سماحة المرجع في بحثه الشريف يوم 1/ 12/ 2014 على الجهود العلمية الرائعة التي قدّمها الفقيد الراحل خصوصا كتابه (الامام علي بن ابي طالب صوت العدالة الانسانية) وكتبه الاخرى في امير المؤمنين (علیه السلام) ونهج البلاغة، ونقل مقاطع من كلامه في مناسبة اقتضاها الدرس.

يذكر ان سماحة المرجع كتب عام 2004 مقدمة لإحدى طبعات الكتاب المذكور باللغة الانكليزية بناء على طلب الناشر، والكلمة منشورة في كتاب خطاب المرحلة (ج 3/ ص 264).

ص: 457

هذا وقد توفي الكاتب الشهير يوم الاربعاء 11/ محرم الحرام/1436 الموافق 5/ 11/ 2014 عن (83) عاما وشيِّع ودُفِنَ يوم الجمعة.

المرجع الديني الكرامي القمّي يُشيد بضيافة العراقيين

المرجع الديني الكرامي القمّي يُشيد بضيافة العراقيين(1)

حيّا المرجع الديني في قم المقدسة سماحة الشيخ محمد علي الگرامي (دام ظله) الشعب العراقي على نهضته الولائية المباركة في الزيارة الأربعينية وأوصل تحيته وشكره من خلال رسالة بعثها إلى سماحة المرجع الديني الشيخ اليعقوبي (دام ظله) ونحن ننشرها لإيصال شكره وإعجابه الى جميع المؤمنين العراقيين.

نص الرسالة:

بسمه تعالى

الى سماحة جلالة آيت الله الشيخ محمد يعقوبي (دامت بركاته)

بعد السلام والتحيّات الوافرة، اُحبُّ ان اقدم الى سماحتكم والى الشعب الشقيق العراقي بواسطتكم الثناء والشكر الاكيد بمناسبة إيضافهم زوار المشاهد المشرفة هناك وسيَّما زوار ابي عبد الله الحسين الشهيد(ع) جميعاً وبالأخص الزوار الايرانيّين نعلم إن الشعب العراقي تحملوا مشاكل كثيرة وزحماتٍ طاغية في هذا المضمار في تهيئة المسكن والغذاء وسائر ما يحتاج الزوار. لا نستطيع ان نشكرهم بالحقيقة ونحن عاجزون من ذلك ونستدعي منهم قبول عجزنا عن

ص: 458


1- كان سماحة المرجع الشيخ الگرامي أول من يلتفت الى توجيه رسالة الشكر الى العراقيين في هذا العام، وفي العام التالي 1437 أتسعت هذه المبادرة من مراجع الدين والمسؤولين الحكوميين في جمهورية ايران الاسلامية.

الشكر في ذلك وفي الختام ندعوا لسلامتكم وتوفيقاتكم وتوفيقات الشعب العراقي وحكومتهم فيما يتمنّونه.والسلام عليكم ورحمة الله.

محمد علي الگرامي 15/ ربيع الاول/ 1426

المرجع اليعقوبي يستقبل السفير الاندونيسي بمكتبه في النجف الاشرف

اعرب المرجع الديني سماحة الشيخ محمد اليعقوبي (مد ظله) عن امله في ان يكون طلبة العلوم الدينية الاجانب في العراق رسل سلام وقنوات تواصل حضارية مع بلدانهم وبمختلف المجالات.

جاء ذلك لدى استقباله السيد (سفزين نوردين) سفير جمهورية اندونيسيا في العراق بمكتبه في النجف الاشرف في يوم الخميس 1/ ربيع2/ 1436 الموافق 22/ 1/ 2015.

وفي بداية حديثه عبّر الضيف عن شكره وامتنانه لإتاحة فرصة لقاء سماحة المرجع والذي لطالما كان يقرأ ويتابع محاضراته قبل التشرف بلقائه ثم قدم موجزاً عن جملة من نشاطات سفارة بلده في العراق ومنها تنظيمه لزيارة رئيسي الوقفين الشيعي والسني لأندونيسيا وتنظيم لقاءات مع نخبة من العلماء فيها.

من جانبه بارك سماحته الجهود الرامية الى توحيد الكلمة واعلاء كلمة التوحيد وايصالها الى مختلف البلدان،

وأشاد(مد ظله) بالعلاقات العريقة التي تربط الشعوب الاسلامية بالشعب

ص: 459

الاندونيسي المسلم والممتدة الى مئات السنين والتي ابتدأت بالقوافل التجارية التي كانت تصل الى اندونيسيا وبمن هاجر من المسلمين الى تلك البلاد طلباً للأمان من اضطهاد وملاحقة السلطات الظالمة المتعاقبة على حكم البلاد الاسلامية آنئذٍ، واستذكر سماحته ايام ثورة الشعب الإندونيسي ضد الاحتلال (الهولندي)وتفاعل الشعب العراقي مع تصاعد الروح الثورية له بقيادة الزعيم الراحل(احمد سوكارنو). كما اثنى سماحته على الدور الريادي الشجاع الذي اضطلعت به جمهورية اندونيسيا وما ترتبط به من علاقات طيبة وتأثير واسع في العالم الاسلامي والذي أهّلها لرعاية انعقاد أول مؤتمر لدول المجموعة الافروآسيوية في منتصف خمسينيات القرن الماضي في مدينة باندونك والتي انتجت بعد ذلك كتلة عدم الانحياز في الامم المتحدة والتي مثلت النواة الاولى لحركة عدم الانحياز.

ودعا سماحته الى عودة اندونيسيا (باعتبارها اكثر البلدان الاسلامية في عدد النفوس) الى عهدها السابق بقيادة المبادرات وبلورة المشاريع الناهضة التي تحفظ خصوصية البلدان وسيادتها واستقلالها وتدعم تحررها من جميع انواع الاحتلال وتسهم في حل النزاعات بطرق سلمية حكيمة.

وفي معرض تعليقه على فكرة سعادة السفير الإندونيسي بدعوة عدد من الشخصيات النخبوية العلمائية الإندونيسية لزيارة العراق ليقفوا على حقيقة ما يجري وكذب ما تروجه بعض الجهات عن طبيعة الصراع القائم ف العراق.

قال سماحته:

"لقد أكدنا مراراً ان الصراع الجاري في العراق انما هو صراع سياسي وليس

ص: 460

صراعا سنياً شيعياً (طائفي).. لكن بعض الساسة عملوا على استغلاله طائفياً لغرض التحشيد لمصالحهم الشخصية او لصالح الجهات التي يعملون لحسابها وقد عاش العراقيون لعقود طويلة بسلامٍ من دون مشاكل من هذا القبيل ".هذا وتمنى سعادة السفير الضيف على سماحة المرجع ان تكون دراسة طلبة العلوم الدينية الإندونيسيين في الحوزة العلمية للنجف الاشرف تحت رعاية واشراف وتوجيه سماحته.

من جانبه ثمن سماحة المرجع مبادرة سعادة السفير الإندونيسي القيّمة والتي -- لم يسبقه بها احد- بزيارة وتفقد رعايا بلده من طلبة العلوم الدينية في النجف الاشرف واعتبرها مؤشرا ايجابياً على واهتمامه بهم وحرصه على رعايتهم.

وابدى سماحته استعداده لرعاية الطلبة الإندونيسيين علمياً واخلاقياً.

المرجع اليعقوبي يدعو الى تشكيل مجلس الاعيان والحكماء وفق تقنين دستوري

حث سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) حكماء المجتمع وزعماء العشائر وأعيان البلد على التحرك والمشاركة في حل المشاكل ومعالجة القضايا المهمة، ولا مانع من ان يكون ذلك وفق تقنين دستوري كتشكيل مجلس للاعيان او الحكماء يضمّهم جميعا.

وقال سماحته: في لقائه (1) بجمع من شيوخ ووجوه العشائر من السنة والشيعة، ان هذا المجلس يمكن ان يأخذ دوره الفاعل في عدة قضايا:

ص: 461


1- تاريخ اللقاء الاربعاء 28/ربيع الثاني/1436 المصادف 18/ 2/ 2015

1-حل النزاعات والصراعات التي تحصل بين العشائر كالذي حصل مؤخرا في شمال البصرة وادى الى مقتل وجرح العديد من الاشخاص وترويع المدنيين والابرياء وانقطاع ارزاق المئات من الناس وفصل عدد كبير من الموظفين وطلبة الجامعات لعدم قدرتهم على الدوام وغير ذلك من التداعيات.

2-المشاركة في تعبئة المقاتلين لصد الارهاب ودحره وحماية النفوس والاعراض والممتلكات من الفساد والتخريب .

3-بذل الجهود في اقناع الكثير من الشباب الذي تورطوا في الانضمام الى الجماعات الارهابية بسبب غسيل الدماغ الذي تعرضوا له والحرمان الذي يعيشونه فيقوم المجلس بترشيدهم وكفالتهم واعادة دمجهم في المجتمع والسعي لإيجاد حياة كريمة لهم .

4-حفظ وحدة المجتمع وتماسكه وردم الفجوات التي يصنعها البعض لمصالح يراها، ولأن الكثير من العشائر تضم تنوعاً طائفياً داخلها وعلاقات المصاهرة وروابط اجتماعية فيما بينها على تمام مساحة العراق فإنها أقدر من ألف مؤتمر للمصالحة الوطنية على حفظ هذه الوحدة وإعادة كلمة الاخوّة لأبناء الوطن الواحد، ولدينا نموذج صالح على ذلك في التعاون الصادق بين اهالي بلد والضلوعية مما جعلهم قادرين على مقاومة كل هجمات الارهابيين الشرسة على الضلوعية طيلة ستة اشهر حتى قضوا عليها تمام بفضل الله تبارك وتعالى .

5-بث الروح الوطنية ومقاومة مشاريع التقسيم والتفتيت التي ينادي بها البعض في داخل العراق وخارجه، وان انتشار العشائر على تمام محافظات

ص: 462

العراق كفيل بحفظ وحدة العراق والشعور بالهوية الوطنية .6-ممارسة الدور الرقابي على أداء السياسيين وسائر موظفي الدولة باعتبارهم سلطة خامسة يستطيعون من خلالها خلق رأي عام وموقف موحد لتصحيح الفساد والانحراف وفضح المسيئين، وحينئذٍ سنستطيع الحد من الفساد الذي خرّب مؤسسات الدولة وأهدر المال العام وأضاع مصالح البلاد.

7-إيصال صوت المحرومين والمظلومين واصحاب الحقوق من عامة الشعب الذين لا يستطيعون ايصال صوتهم ولا يصغي اليهم احد من المسؤولين.

ان هذه الاعمال التي يؤديها المجلس وغيرها تُجعل في نظامه الداخلي كوظائف له وكأغراض موجبة لتأسيسه، وأعتقد انها كافية لإقناع الجميع بضرورة قيام هذا المجلس ونترك للمعنيين مهمة وضع التفاصيل. ومن الله نستمد التوفيق.

المرجع اليعقوبي: الحاجة الى مجلس الأعيان والحكماء مستمرة الى ما بعد دحر الإرهاب

جدّد سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) التأكيد على تأسيس مجلس الأعيان الحكماء للقيام بالوظائف المذكورة في البيان والدعوة الى التأسيس وفق تقنين دستوري، وهي أهداف تستحق بذل جهود عظيمة لإنجاح المشروع.

وقد رحَّب سماحته بتبني عدد من القيادات السياسية البارزة في البلد لهذا المشروع وإجراء محادثات جدّية حوله، كما أن وزير العدل السابق وعضو اللجنة القانونية في البرلمان الحالي النائب حسن الشمري أكمل الصياغة

ص: 463

القانونية للمشروع لتقديمها الى الجهات المعنية لقراءتها ومراجعتها ومن ثم إقرارها.وقال سماحة المرجع لدى استقباله عدداً من زعماء العشائر في النجف الأشرف(1) أن الحاجة لهذا المجلس لا تقتصر على الفترة الحالية وما تشهده من تحديات رهيبة، وإنما لما بعد هذه المرحلة واندحار الإهاب بإذن الله، لأن الشرخ المجتمعي الذي أحدثته هذه الصراعات وصل الى حد تقاتل أبناء العشيرة الواحدة كما يحصل الآن في صلاح الدين لأن بعضهم انخرط في المجاميع المسلحة الخارجة عن الدولة والقانون والبعض الآخر اصطف الى جانب الدولة والنظام مضافا الى عوامل الإنقسام الاخرى مما يوجب بذل جهود جبارة لإعادة الوئام النظام وبناء البلد والمجتمع على أُسس قويمة وصحيحة.

المرجع اليعقوبي يوصي بدعم فتى مخترع

استقبل(2) سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) الشاب المبدع المخترع حسين قدوري (17 سنة) من الناصرية واستمع سماحته لشرح موجز عن ابتكاراته ومنها صناعة روبوت عسكري وأرجل ذكية لمساعدة مرضى الشلل، وكذلك نظارات شمسية ذكية، وكان الممثل الوحيد للعراق في المشاركة في

ص: 464


1- استقبل سماحة المرجع (دام ظله) عددا من زعماء العشائر في النجف الاشرف في مكتبه الشريف يوم السبت 29/ج1/ 1436 الموافق 21/ 3/ 2015. وقد عقدت مؤتمرات عامة موسعة في بغداد والمحافظات على التوالي وشهد مشاركة واسعة من علية القوم.
2- يوم السبت 29/ج1/ 1436 الموافق 21/ 3/ 2015

كأس العالم للمبدعين العرب التي تنظمها شركة المجموعة العربية في لندن، ونقل خبر توجيه دعوة شخصية اليه لحضور مؤتمر المخترعين للكفاءات الواعدة في المملكة المتحدة.وقد أبدى سماحة المرجع إعجابه بنبوغ الفتى وكل-َّف عدداً من المسؤولين برعايته ودعمه وفتح آفاق التطوير أمامه والاستفادة من اختراعاته.

ترحيب المرجعية الدينية بوقف العمليات العسكرية في اليمن

تعّبر المرجعية الدينية في النجف الاشرف عن سرورها بوقف العمليات العسكرية في اليمن الشقيق ابتداءً من اليوم الاربعاء ونشكر كل الاطراف التي ساهمت في تحقيق هذا التقدم من خلال الجهود الدبلوماسية سرا وعلناً، وكان للمرجعية الدينية في النجف الأشرف دور يعرفه المطّلعون عليه ولم يكن بوسع الجهات النافذة والمؤثرة في القضية اليمنية تجاوز هذه المواقف وإهمالها .

ونتطلّع لوصول الأطراف السياسية الممثلة للشعب اليمني الى حل عادلِ ينصف جميع المكونات عبر حوار صادق شفاف .

ونعلن عن فتح حملة واسعة للتبرع بالأموال للمساهمة في إعمار مؤسسات الدولة التي دمرتها الحروب والنزاعات وتقديم المساعدات الإنسانية للمنكوبين والمحرومين، لكننا نتوقف الان عن تسلّم اي مبلغ الى حين تحقيق البيئة المناسبة للإعمار والإصلاح وبعد التعرف على قنوات موثوقة لوضع الأموال في مواضعها .

إن المحنة التي مرَّ بها الشعب اليمني والكوارث التي نجمت عنها لهي دليل

ص: 465

أكيد آخر على أن الحرب والعنف هو سلاح العاجز عن استعمال الحكمة والتعقل في معالجة المشاكل ويذهب ضحيته الأبرياء والبؤساء، فانّا لله وإنّا اليه راجعون.محمد اليعقوبي- النجف الاشرف

3 رجب 1436 22/ 4/ 2015

المرجع اليعقوبي يبحث مع رئيس الوزراء عدة قضايا سياسية وأمنية واقتصادية

المرجع اليعقوبي يبحث مع رئيس الوزراء عدة قضايا سياسية وأمنية واقتصادية(1)

أكدّ سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على أن العمل العسكري لا يكفي وحده للقضاء على الجماعات الإرهابية من دون أن يقترن بمصالحة وطنية وإصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية شاملة لتجفيف البيئة الحاضنة للإرهاب ومنع عودتهم إليها، وليتحمّل أبناء المدن المنكوبة مسؤوليتهم في الحفاظ على أمنها وتطبيع الحياة فيها وإعادة النازحين إلى ديارهم، ومن دون هذا العلاج الشامل تتحول الحرب إلى عملية استنزافية للطاقات البشرية والموارد المالية وتبقى الانجازات المتحققة على الأرض عرضة للالتفاف عليها من المتربصين بالعراق وأهله سوءاً وهم كثيرون في الداخل والخارج .

واستغرب سماحته لدى استقباله(2) رئيس مجلس الوزراء الدكتور حيدر

ص: 466


1- أبدى الكثير من الخبراء والمختصين والسياسيين والمثقفين اعجابهم بالأفكار الرصينة التي عرضها سماحة المرجع وتشخيصه بدقة للمشاكل وعلاجها واعتبروها وثيقة اصلاح حقيقية.
2- جرى اللقاء بتاريخ السبت 24/محرم الحرام/1437 والموافق 7/ 11/ 2015

العبادي بمكتبه في النجف الاشرف من ضغط بعض الكتل السياسية لإفشال بعض المحاولات لمعالجة المشاكل ومنها مؤتمر القاهرة للمصالحة الوطنية الذي كان مقرراً عقده قبل أربعة أيام مع ان جمهورية مصر ورئيسها ابدوا مواقف ايجابية باتجاه العراق وإصلاح الوضع فيه، والمصالحة تحتاج إلى وسيط تثق به الأطراف المتنازعة ليوّفر الأجواء المناسبة للحل بعد الاتفاق على مبادئ خط الشروع وهي العملية السياسية القائمة ومخرجاتها الدستورية والقواسم الوطنية المشتركة.واستهجن سماحته مواقف بعض الكتل السياسية التي تتمتع بامتيازات المشاركة في الحكومة لترتيب وضعها الخاص لكنها توجه انتقاداتها للحكومة وتركب موجة الاحتجاجات الجماهيرية بإزاء بعض القضايا وهي شريكة فيها، واعتبر سماحته هذا الموقف نفاقاً .

وفي جانب آخر من حديثه طالب سماحته بتقنين عمل الفصائل المسلحة المنضوية في الحشد الشعبي لان هذا العنوان الشريف الذي أعاد للأمة هيبتها وعزتها اتخذته بعض الجماعات المسلحة غطاءاً لجرائم القتل والخطف والسرقة والابتزاز والاعتداء حتى خيّم القلق والفزع على سكان العاصمة بغداد وغيرها وأصبحت سلطة هذه الجماعات مرعبة حتى للقوات الأمنية، وأعاد سماحته إلى الأذهان دعوته إلى المنع من حمل السلاح في المدن إلا للقوات الحكومية والمنع من اتخاذ مقرات الفصائل المسلحة فيها .

وعلى صعيد الإصلاحات الاقتصادية فقد حثّ سماحته على دعم الحكومة لمصادر الإيرادات المالية من غير النفط خصوصاً في مجال الزراعة والصناعة

ص: 467

والقطاع الخاص، ودعا إلى سد منافذ الفساد كقرار تسليف البنك المركزي للمواطنين عبر المصارف خمسة تريليونات دينار وهو مبلغ ضخم والدولة بحاجة إليه لتعزيز احتياطي البنك المركزي وقد أثبتت التجارب أن أكثر هذه المبالغ إما تذهب هدراً أو الى جيوب الفاسدين، وشجّع سماحته الحكومة على زيادة الفائدة الممنوحة للإيداعات لتحفيز المواطنين على التوفير في المصارف وبذلك توفّر الحكومة سيولة نقدية وتنفع مواطنيها غير القادرين على استثمار أموالهم وقد تستغني بذلك عن الاقتراض من البنوك الأجنبية ذات الشروط المجحفة.ونبّه سماحته إلى أن أي إصلاحات تحتاج إلى فريق يتصف بالشجاعة والحكمة والخبرة والوعي لكي يخططوا لتلك الإصلاحات وينفّذوها، وان لا يخضع لابتزاز الكتل السياسية التي تحاول الضغط وإثارة الضجيج لكي تحتفظ بالامتيازات التي حصلت عليها وهي أزيد من استحقاقاتها.

المادة (26) من قانون البطاقة الوطنية الموحدة موافقة للدستور ولحقوق الانسان وإلغاؤها خطأ تاريخي

المادة (26) من قانون البطاقة الوطنية الموحدة موافقة للدستور ولحقوق الانسان وإلغاؤها خطأ تاريخي(1)

منذ حصول موافقة البرلمان على قانون البطاقة الوطنية الموحدة يوم 27/ 10، والمادة (26) منه تثير حفيظة الأخوة من أتباع الديانات الأخرى غير الاسلامية ، باعتبارها تنص على ان القاصر يتبع بديانته أبويه، فإذا اسلم أحدهما أُلحق بالمسلم فاعترض الأخوة على هذه الفقرة مطالبين بإبقاء القاصر على ديانة أحد

ص: 468


1- الاربعاء 5/صفر/1437 الموافق 18/ 11/ 2015.

أبويه غير المسلم، وقد قاموا بعرض مطلبهم على الرئاسات الثلاث وبعثة الامم المتحدة وقاطع ممثلوهم جلسات البرلمان لممارسة الضغط حتى تلغى هذه الفقرة، كما هددوا باللجوء الى المحكمة الدولية ومنظمات حقوق الانسان.وقد نجحوا في تحصيل رفض السيد رئيس الجمهورية المصادقة على القانون وإعادته الى البرلمان أمس الثلاثاء (17/ 11) ورفض بعثة الامم المتحدة لهذه المادة في احتفالية اليوم العالمي للتسامح الاثنين (16/ 11).

ونحن إذ نقدّر للقيادات الدينية والسياسية لأتباع تلك الديانات سعيهم الحثيث للحفاظ على هوية وثقافة وعقيدة أتباعهم فأننا نلفت نظر الجميع الى ان الغاء هذه الفقرة مخالفة صريحة للدستور الذي يشترط في صحة القوانين عدم مخالفتها لثوابت الاسلام ومن ثوابت الاسلام أن الصغير يتبع بالديانة أحد والديه اذا كان مسلماَ، فإذا بلغ سن الرشد فله ان يختار الديانة التي يقتنع بها إذ (لا إكراه في الدين) كما نطق القرآن الكريم.

وهذا الحكم ليس فيه إكراه للصغير ولا فيه تعدي على اتباع الديانات الاخرى، والا كان مطلب الاخوة بإبقاء الصغير على دين احد والديه الآخر غير المسلم إكراهاً ايضاً ،كما ان هذا الحكم موافق لحقوق الانسان لذلك تعمل به الدول المتحضرة في الشؤون الشخصية الأخرى للصغير، مثلاً اذا كان أبوه من جنسية معينة وهاجر الى دولة أخرى وتزوج فيها وأنجب فان الأطفال يُمنحون جنسية البلد الجديد تبعاً لأمه التي تحمل تلك الجنسية اللاحقة .

فنأمل من السادة زعماء أتباع الديانات الاخرى وممثليهم السياسيين الالتزام بالدستور ومراعاة كون العراق بلداً مسلماً ويتجاوز عدد المسلمين فيه 95 ٪ من

ص: 469

سكانه، ونلفت عنايتهم ان حفظ حقوقهم وهويتهم ووجودهم يتحقق بالتزامهم بالدستور الذي صوّت عليه اغلب العراقيين .وندعو(1) السادة أعضاء البرلمان الى عدم ارتكاب خطأ تاريخي بالخروج عن ثوابت الاسلام وان لا ينساقوا وراء الضغوط السياسية والمصالح المتبادلة فيقررّوا إلغاء هذه الفقرة، بعد ان أوضحنا موافقتها للدستور ولحقوق الانسان.

محمد اليعقوبي - النجف الأشرف

5/صفر/1437 - 18/ 11/ 2015

معوقات انتشار التشيع في العالم

التقى سماحة المرجع الديني الشيخ اليعقوبي (دام ظله) بجمع كبير من المشاركين في الزيارة الاربعينية الشريفة من دول عربية واسلامية وغربية وبارك لهم هذه المشاركة وهنأهم على هذا التوفيق وحثّهم على تحليل هذه الظاهرة العظيمة ونقاط القوة في هذه الثروة الهائلة ودلّهم على خطاب سابق لسماحته(2) ذكر فيه عدة نقاط قوة تصل الى العشرة ساهمت في حفظ مدرسة اهل البيت (علیهم السلام) ونموها وازدهارها رغم البطش والوحشية التي تعرضت لها خلال العصور، وقال سماحته ان الالتفات الى هذه النقاط يُعّدُ الخطوة الاولى تليها

ص: 470


1- بعد هذه الدعوة وهذا البيان الحازم سكتت كل الأصوات وأغلق الموضوع نهائياً بفضل الله تعالى.
2- خطاب المرحلة (389) عوامل ازدهار التشيّع بين الأمس واليوم وهي خطبتا صلاة عيد الأضحى للعام 1434 التي أقامها سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) يوم الأربعاء 16/ 10/ 2013.

وضّع الخطط المدروسة لاستثمار هذه النقاط وتنميتها وترسيخها بأذن الله تعالى.واضاف سماحته هنا تشخيصه لمعوقات انتشار الولاء لأهل البيت (علیهم السلام) والالتحاق بمدرستهم المباركة بعد استماعه لجمع من الموالين في تونس والجزائر والمغرب وأوربا ودول الامريكيتين وافريقيا واستقرائه لأوضاعهم ولخصها في ثلاثة:

1.تقصير المرجعية الدينية والحوزات العلمية عموما في متابعة شؤون المسلمين في العالم والاهتمام بأمورهم وتقديم الدعم المعنوي والمادي وانشاء المؤسسات وارسال العدد الكافي من المبلغين او استضافة عدد من ابنائهم في الحوزات العلمية ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم، هذا مع وجود الترحيب البالغ والارضية الخصبة في تلك الدول لتلقّي معارف اهل البيت (علیهم السلام) وتعاليمهم المباركة.

2. تحميل مذهب أهل البيت (علیهم السلام) أخطاء السياسيين الذين ينتسبون اليه واتخاذ المذهب غطاءاً لتمرير اجندات سياسية معينة تعتبرها حكومات تلك الدول تدخلاً في شؤونها واستهدافاً لأمنها وبنيتها الاجتماعية فتحُجم عمل الموالين وتضعهم في دائرة الاتهام مما يُعقِّد الوضع عليهم ويقيّد حركتهم بشكل كبير .

3. بعض الطقوس والعادات المستحدثة التي ألصقت بشعائر الدين والمذهب وهي مثيرة للتقزِّز وموجبة للرفض فينظر الاخرون الى المذهب من خلالها فيحكمون عليه بالجهل والتخلف والعنف والعبثية والوحشية احياناً،

ص: 471

ويغذّي اعداء مشروع اهل البيت (علیهم السلام) هذا الرفض بإبراز هذه الحالات والتركيز عليها اعلامياً فينفخون فيها رغم أن وجود بعضها محدود جداً ولا يكاد يُبين على الارض لكن الاعلام يضخمّها .ان هذه شهادة من موالين حريصين على نشر تعاليم اهل البيت (علیهم السلام) ودعوة الناس اليها فليلتفت المسؤولون عن هذه المعوّقات الى الجناية الكبرى التي يرتكبونها بحق اهل البيت (علیهم السلام).

الزيارة الأربعينية مظهرٌ لعزة أهل البيت (عليهم السلام) وانتصارهم وفضيلتهم

نقل السيد القنصل العام للجمهورية الإسلامية الإيرانية في النجف الأشرف وسماحة المشرف على بعثة منظمة الحج والزيارة الإيرانية في العراق كلا على انفراد الى سماحة المرجع الديني الشيخ اليعقوبي (دام ظلّه)(1) شكر وثناء الجمهورية الاسلامية مرجعية وحكومة وشعبا على كرم الضيافة وحسن الإدارة التي أبداها الشعب العراقي طيلة أيام توافد الزوّار ومكثهم لإحياء مراسم الزيارة الأربعينية المباركة، وقد تجاوز عدد الإيرانيين المليونين فيما بلغ عدد زوار الدول الذين يمرّون عبر إيران مثل (أفغانستان والهند والباكستان واذربيجان وغيرها) مئات الالاف وانه لو لا ما قام به العراقيون من نصب مواكب الخدمة على طول الطريق وفي المدن وفتح دورهم الخاصة لما أمكن إيواء هذه الملايين وإخراج المناسبة بهذه الصورة الباهرة ولازالت ذكريات أيام الزيارة

ص: 472


1- تاريخ اللقاء 4/ع1/ 1437 المصادف 16/ 12/ 2015 و 14/ع1/ 1437 المصادف 26/ 12/ 2015.

عالقة في أذهان الزوار الإيرانيين، وأثنى السيد القنصل على دور المرجعية الدينية في توجيه الناس وترشيد عملهم ليخرج العمل بهذا الشكل المتقن.وذكر سماحة المرجع الديني الشيخ اليعقوبي (دام ظله) في حديثه أن هذه الزيارة المليونية تحولت الى مظهر من مظاهر العزّة والنصر والكرامة والفضيلة والولاية لأهل البيت (علیهم السلام) ولأتباعهم الموالين، وكأن الله تعالى عوّض بها عمّا أراده وخطّط له من ثمرات موسم الحج، ففي رواية صحيحة عن زرارة عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) قال: (إنما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها ثم يأتونا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرهم) وفي رواية صحيحة عن عبد الله بن سنان عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال:(قلت له أن ذريحا المحاربيّ حدّثني عنك أنك قلت في قول الله عزّ وجل (ثمّ ليقْضوا تفثهمْ): التفث لقاء الإمام (وليوفوا نذورهم) تلك المناسك، قال (علیه السلام): صدق ذريح وصدقت، إن للقران ظاهرا وباطنا، ومن يحتمل ما يحتمله ذريح)(1).

لكن الحرمين الشريفين وقعا في أيدي لا تؤمن بولاية أهل البيت (علیهم السلام) ففقد الحجّ هذه الثمرة العظيمة التي تمثل روحه ومضمونه الأكمل، وهنا تدّخلت الإرادة الإلهية لتعوّض الائمة الأطهار (صلوات الله عليهم اجمعين) وشيعتهم بهذه الزيارات المليونية المباركة لتتحقق تلك البيعة العظيمة، ولتعطينا فكرة عن البيعة والنصرة والتعبئة التي ستتحقق عند إعلان الإمام المهدي الموعود (علیه السلام) دعوته المباركة.

ويظهر من التاريخ أن هذا الربط بين زيارة الإمام الحسين (علیه السلام) والحجّ

ص: 473


1- وسائل الشيعة: 10/ 252 كتاب الحج، ابواب المزار وما يناسبه، باب 2 ح1،ح2.

كان معروفا لدى الناس من لدن عصر المعصومين (علیهم السلام) ويعرفه حتى غير الموالين لهم (ع) ويسمون خصوص الزيارة الشعبانية بالحجّ، ففي زمان الإمام الهادي (علیه السلام) روي أن المتوكل العباسي طلب إحدى مغنياته الأثيرات، فقيل له: أنها ذهبت الى الحج، فاستغرب هذا الزمان لأن الزمان – وهو شعبان- ليس موسم الحج فسألهم عن معنى هذا فقيل له: أنها ذهبتْ لتزور الحسين (علیه السلام) في كربلاء، فاشتد غضب المتوكل وحسده وهو يرى نفحات الأمام الحسين (علیه السلام) تغزوه في عقر داره وأمر بهدم المرقد الحسيني الطاهر ومحو ما حوله لتتحوّل الى أرضٍ جرداء.لقد جسّد الزوار في هذه المناسبة الكثير من المبادئ والأخلاق الإسلامية ومنها قوله تعالى: (أشدّاء على الكفّار رحماء بيْنهمْ) (الفتح/29) فقد حملوا الى العالم كلّه هاتين الرسالتين بما أظهروه من مودة ومحبة وتضحية وخدمة متفانية فيما بينهم بشكل لا نظير له إلا في عصر صدر الرسالة الإسلامية وفي يوم عاشوراء، والرسالة الثانية: رصّ الصفوف بشجاعة وصبر ووعي لمواجهة الأعداء والمؤامرات التي تستهدف وحدتهم وهويتهم وحريتهم وكرامتهم وأنهم معسكر المقاومة حقا لما يدبره شياطين الإنس والجنّ وأذنابهم من الحاقدين والجهلة والمتعصبين.

وعلى صعيد آخر أبدى الضيف الزائر(1) أسفه وقلقه من التدخل التركي في شمال العراق وما يتعرض له أتباع أهل البيت (علیهم السلام) من ظلم واضطهاد وقتل في العديد من البلدان، وآخرها ما حصل في الاسبوع الماضي من اعتداء

ص: 474


1- السيد القنصل العام للجمهورية الإسلامية الإيرانية.

مسلح في أذربيجان وللزعيم الشيعي في نيجيريا إبراهيم الزكزاكي فأصيب بجراح وقتل وجرح العشرات من الموالين.وعبّر سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) عن أسفه وهو يتابع هذه الأخبار المؤلمة لما آل اليه حال المسلمين وتسخير مليارات البترودولار لإشعال الفتن والحروب وقتل الأبرياء ودعم جماعات التكفير والإرهاب التي تشوه صورة الإسلام، بينما يعيش الصهاينة في أمن وأمان، وفي نيجيريا نفسها تعيث جماعة (بوكوحرام) فسادا من دون رادع حقيقي بينما تتعرض مسيرة لناس عزل مسالمين يحيون شعيرة الأربعين وذكرى وفاة الرسول (صلی الله علیه و آله) الى هجوم وإطلاق نار من قبل الجيش النيجيري تنفيذا لمخططات أعداء أهل البيت، ويهان الشيخ الجليل الزكزاكي ويعذّب ويجرح.

لكننا – والكلام لسماحة المرجع- نعتبر هذا التصعيد في استهداف أتباع أهل البيت (علیهم السلام) دليلا على ازدهار هذه المدرسة واتساعها وانتشارها في بلاد العالم مما أرعب أعداءهم العاجزين الخاوين الى محاولة إيقاف المدّ بهذه الجرائم الشنيعة.

كالذي يحصل في العراق حينما عجزوا عن إعادة عقارب الزمن الى عهد الظلم والدكتاتورية والاستبداد وإقصاء الأكثرية انتقلوا الى الخطة (ب) وهي محاولة تقسيم العراق ليحكموا بعضه، وما هي إلا أوهام وأحلام اليقظة، بددّها الأبطال المجاهدون الذين لبّوا النداء وذهبوا مبادرين الى سوح الوغى مستلهمين الدروس من الإمام الحسين (علیه السلام) فطوبى لهم وشكر الله سعيهم ونصرهم وثبت أقدامهم.

ص: 475

إن الأساس المتين الذي نستند اليه في هذه المواجهة هي وحدتنا وإخلاصنا والالتفات الى المصالح العليا والمبادئ الأساسية والأهداف المصيرية ونبذ الصراعات الجانبية والأنانية.

المرجع اليعقوبي: تحرير الرمادي أعاد للمؤسسة العسكرية الوطنية هيبتها وأسقط رهانات إضعافها .

هنّأ سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) العراقيين وكل الأحرار الشرفاء في العالم ببشرى تخليص مدينة الرمادي مركز محافظة الأنبار من الوحوش الكاسرة التي صنعتها فتاوى التكفير وأجندات الاستكبار واستعباد الشعوب والعتو في الارض.

ووصف سماحته البطولات التي سطّرها المقاتلون الأشاوس بأنها صور مشرقة تربط الحاضر بالماضي الذي نقله التأريخ عن شباب الإسلام في عصر النبوّة الكريمة.

جاء ذلك في محاضرة ألقاها سماحته على جمع غفير من أساتذة وفضلاء الحوزة العلمية بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف(1) وتزامناً مع الانتصار العظيم الذي حققته القوات العراقية ومتطوعو العشائر الغيارى وتوّجوه اليوم برفع العلم العراقي على المجمع الحكومي وسط مدينة الرمادي.

وقال سماحته:إن هذه الصور المشرقة للبطولة ما كانت لتتحقق في ميدان المعركة لو لم يسبقها انتصار على أهواء النفس وميولها نحو الدعة والراحة

ص: 476


1- 17/ربيع1/ 1437 المصادف 28/ 12/ 2015.

والكسل والاسترخاء وعدم الشعور بالمسؤولية، وانتصار على دعاة الفتن والتقسيم والتفرقة والاحتراب بين الإخوة وإثارة النعرات الطائفية والقومية والمناطقية والحزبية.وأضاف سماحته إن ما ضاعف سرورنا استعادة هيبة قواتنا المسلحة بكل تشكيلاتها وصنوفها، ومسكها لزمام الأمور بحرفية وشجاعة وإسقاط كل الرهانات على إضعاف هذه المؤسسة العريقة وإخلاء الساحة لعبث الأنانيين وذوي المصالح الضيقة المتجردين عن حب الوطن والشعب.

وحث سماحته القيادات السياسية على الارتقاء إلى مستوى هؤلاء الأبطال المضحين والتفكير بجدّية لحل مشاكل البلاد وتوفير الأمن والاستقرار والرفاه لأبناء الشعب للعراق الحرّ الأبي الكريم، وإدامة زخم الانتصارات حتى تحرير تمام الأراضي التي دنسها الأوباش.

ودعا سماحته الى التأمّل في حيثيات هذه المعركة النبيلة وتحليل هذه التجربة العظيمة لأكتشاف أسرار الانتصار حتى نديمها ونُنَميها ونحافظ عليها، وأن لا يلهينا الانتصار عن تشخيص مكامن الضعف التي يمكن أن يخترق منها الأعداء لا سامح الله.

إن قوتنا في وحدتنا وإخلاصنا وتثوير الروح الوطنية الجياشة لدى ابناء الشعب كافة، فلنكن أمة واحدة يداً بيد لتحقيق الأهداف السامية كما أرادها الله تعالى ونبيه الكريم (صلی الله علیه و آله) ولتكن عودتنا هذه هدية نقدّمها إلى نبي الإسلام العظيم في ذكرى ولادته الميمونة المباركة.

ص: 477

يوم القراءة العالمي

شعوراً من سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) بأهمية القراءة في إبراز إنسانية الإنسان وصقل شخصيته وبناء المجتمع الصالح، وخطورة إعراض الناس عن قراءة الكتب النافعة .

واحتفاءاً بنزول أول آية من القرآن الكريم تحمل الأمر بالقراءة في قوله تعالى (اقْرَأْ) وأول قسم الهي في القرآن الكريم (والقلم) فقد دعا سماحته الى اعتبار يوم المبعث النبوي الشريف في السابع والعشرين من رجب (يوم القراءة العالمي) لتذكير الأمة بمسؤوليتها عن تنفيذ هذا الأمر الالهي المبارك.

ودعا سماحته الجهات الدينية والفكرية والثقافية لوضع برامج عمل وخطط وفعاليات تعبوية لإحياء هذه المناسبة، وان لا تقتصر على الانماط المتعارفة كإقامة معارض الكتب والمسابقات لأحسن كتاب او اصغر قارئ او إهداء الكتب للناس في الأماكن العامة او إصدار النشرات التي تحث المجتمع على القراءة وعلى ماذا يقرأ ونحو ذلك.

نسأل الله تعالى أن يوفقنا لأن نكون أمة (اقْرَأْ) كما أرادنا الله تبارك وتعالى فنبني عقولنا ونطهر قلوبنا بفضل الله تعالى.

مسؤوليتنا عن الفرصة الثمينة لنشر منهج اهل البيت (عليهم السلام)

عدَّ سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي دام ظله الدعوة الى اهل البيت ع ونشر تعاليمهم وبيان احقيتِهم ومظلوميتهم من الوظائف الرئيسية للعلماء وطلبة الحوزة العلمية والاعلاميين والنخب الثقافية والفكرية، وبنى

ص: 478

موقفه هذا على قوله تعالى (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (الضحى/11) باعتبار ان النعمة المقصودة بالآية هم النبي واله المعصومون (صلوات الله عليهم اجمعين) لانهم النعمة الحقيقية واعظم ما منّ الله تعالى به على البشرية، وصرّح بذلك القران الكريم في قوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ) (المائدة/3) وأكدّته الروايات الشريفة.وقال سماحته لدى لقائه(1) جمعا من رؤساء التحرير والمراسلين والاعلاميين في وكالتي فارس ومهر الايرانيتين وحشد من الزوار من عدة دول في العالم: ان العقول والقلوب والنفوس مهيأة اليوم لقبول منهج البيت (علیهم السلام) في العقيدة والاحكام والسلوك والعلاقات العامة، وهذا ما يشهد به المبلّغون والمؤمنون في سائر انحاء العالم، بعد ان يأس الناس من النموذج المادي في ادارة شؤون الحياة حيث وجدوا فيه الخواء الروحي والضياع والحيوانية الهابطة وانهيار المنظومة الاخلاقية والقيم الانسانية، وبعد ان خابت ظنونهم في الاسلام البعيد عن اهل البيت (علیهم السلام) الذي ثبت فشله وعجزه عن حل المشكلات وإجابة التساؤلات الحيوية وأدّت متبنياته الفكرية والعقائدية الى توفير البيئة المنتجة للإرهاب والعنف والوحشية وتدمير الحياة .

واكّد سماحته ان هذه الظروف الحسنة مع مسؤوليتنا عن تنقية الاسلام من الانحرافات والبدع والضلالات تحتّم على الحوزات العلمية في النجف الاشرف وكربلاء وقم ومشهد المقدسة وفي لبنان والخليج وغيرها من حواضر العلم ان تضاعف الجهود لاستثمار هذه الفرصة المباركة، وقد اعطتنا الزيارة

ص: 479


1- كان اللقاء يوم السبت 15/صفر/1437 المصادف 28/ 11/ 2015.

الاربعينية المباركة بحشودها المليونية والقيم الانسانية العظيمة التي أفرزتها زخما كبيرا مضافا الى التطور الهائل في وسائل التواصل وتقنيات المعلومات بفضل الله تبارك وتعالى.وقال سماحته متفائلا:

لقد حاول الاعداء من شياطين الانس والجن ان يقتلونا ويرهبونا ويثنوا عزائمنا بمختلف الوسائل فلم يفلحوا، ثم عملوا على زرع الفرقة والخلاف والعداوة بين المؤمنين الموالين ففشلت ببركة هذه الشعائر الحسينية الخالدة التي وحّدت قلوب الملايين من ارجاء العالم، فكانت نعمة ولاية اهل البيت ع حقاً أعظم النعمة الالهية (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) (الأنفال/63) .

ونشهد اليوم الانتصار والتقدم والازدهار للإسلام النقي الاصيل المتمثل بمنهج اهل البيت (علیهم السلام) ومدرستهم المباركة.

لعب الدومنة والطاولي في المقاهي

سماحة المرجع الديني سماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الوارف)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

انتشرت في الآونة الأخيرة في منطقتنا لعبة الدومينو أو ما تسمى بالشعبي (الدومنه) بحيث أصبحت شبه ظاهرة وهناك مقاهي تروّج لهذه اللعبة بداعي كسب الرزق وقد يذهب الشباب إلى تلك المقاهي للتفرّج وشرب الشاي فنحن نسأل:

ص: 480

1-ما هو حكم هذه اللعبة (الدومنه) برهن أو من دون رهن؟

2-ما حكم أخذ الأجرة من قبل صاحب المقهى؟

3-ما حكم شرب الشاي في تلك المقهى المروجة لهكذا ألعاب؟

4-ما هو تكليف المؤمنين في حال الحكم بالحرمة؟

5-شيخنا نرجو نصيحتكم.

مجموعة من شباب ناحية جصان.

بسمه تعالى

1-ألعاب المغالبة ملحقة بالقمار حتى لو خلت من الرهان والجائزة للفائز، لقول الإمام الكاظم (علیه السلام) (النرد والشطرنج والأربعة عشر بمنزلة واحدة وكل ما قومر به فهو ميسر) (1) وهي محرّمة بالآيات القرآنية الكريمة والروايات الشريفة، قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) (المائدة/90-91).

2-يحرم أخذ الأجرة على الألعاب المحرمة وثمنها سحت يأكلها الآخذ في بطنه ناراً.

3-الجلوس في مجالس أهل اللهو المحرّم –وإن لم يشاركهم اللعب- محرّم إلاّ إذا كان لردعهم عن المنكر، وقد حذّرت بعض الروايات من أن العذاب يعمّهم جميعاً، من حديث للإمام الصادق (علیه السلام) قال (من جلس على

ص: 481


1- وسائل الشيعة، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب104 ح1 أو باب 102 ح14، 15.

اللعب بها فقد تبوأ مقعده من النار وكان عيشه ذلك حسرة عليه في القيامة، وإياك ومجالسة اللاهي والمغرور بلعبها، فإنها من المجالس التي باء أهلها بسخط من الله، يتوقعونه في كل ساعة فيعمّك معهم). (1)4-واجبهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورصد الانحرافات وتشخيصها ومعالجتها قبل استفحالها وأن لا يجاملوا ولا يداهنوا، ولكن عليهم أداء ذلك بالرفق واللين والدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، لأن التشنج وتحقير الآخر وإهانته تؤدي إلى عناده وتمرده.

5-أنصح أولاً أصحاب المقاهي أن يتوّرعوا ولا يغريهم تحصيل شيء من المال لارتكاب المحرّمات الشرعية، فإنّ الله تعالى هو الرزّاق وسيعوّضهم، قال تعالى (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) (الطلاق/ 2-3) فليجنّبوا مقاهيهم المحرّمات، وليجهّز المقهى بما ينفع الزبائن كتشغيل جهاز التلفزيون على القنوات المفيدة والهادفة، ووضع الكتب والمجلات النافعة على المناضد ليدفع الزبائن إلى تقليبها ومطالعتها.

وأنصح اللاهين بهذه الألعاب أن لا يصرفوا عمرهم الثمين في ما هو محرّم ويكون وبالاً عليهم ويسبّب لهم العذاب الأليم، ولينشغلوا بدل اللعب المحرّم بأمور نافعة كالأعمال الاجتماعية المثمرة أو حل مشاكل الناس أو خدمتهم وقضاء حوائجهم أو صلة الأرحام أو التزاور أو حضور المجالس النافعة أو مناقشة قضايا المدينة والمجتمع، لتتحول المقاهي إلى منتديات ثقافية وأدبية واجتماعية، وأن لا يشغلهم كل ذلك عن المحافظة على الصلاة في أوقاتها في

ص: 482


1- (نفس المصدر) باب103 ح4.

المساجد وصلوات الجماعة وسيجدون لذة ومتعة وسعادة في هذه الأجواء الصالحة أكثر مما يتوقعون حصوله في ممارسة هذه الألعاب والله ولي التوفيق.محمد اليعقوبي

12 ج2 1435 - 12/ 4/ 2014

تكليف العراقيين المغتربين

رفع جمع من العراقيين في عدة دول منها بريطانيا، ألمانيا، السويد، النرويج، اوكرانيا، بلجيكيا، الاستفتاء التالي إلى المرجع اليعقوبي بعد تهديد عصابات داعش الاجرامية للمدن المقدسة ونحن ننشره في الصحيفة مع جوابه لتعميم النفع.

م/ تكليف العراقيين المغتربين

{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}الحج39

سماحة المرجع المفدى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الشريف)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

في ظل التطورات المتسارعة التي يعيشها بلدنا الغالي العراق الحبيب بلد الأئمة الأطهار وعاصمة الإمام المهدي (أرواحنا له الفداء)، تعتصر قلوبنا ألماً لما نراه من تقطّع أوصال الوطن تنهشها وحوش القفار والوديان. ونستبشر خيراً في نفس الوقت لتكاتف الأيدي وتلاحم علمائنا ومراجعنا بدعم جيش العراق الباسل وتطوّع الآلاف من الشباب المؤمن دفاعاً عن المقدّسات والحرمات.

وبعد الاطلاع على بيانكم المبارك شيخنا الحبيب وقائدنا المفدى ارتأينا

ص: 483

تجديد العهد لقيادتكم الشرعية ورعايتكم الأبوية ونحن طوع أمركم وتوجيهاتكم، وكلما نملك من مال ونفس هي طوع أمركم.وفي نفس الوقت نودّ أن نعلم تكليفنا الشرعي وتوجيهكم لنا كعراقيين بصورة خاصة وكشيعة بصورة عامة في أوروبا، فهل علينا الرجوع للعراق للدفاع عن المقدسات أم ننتظر في بلادنا أم ماذا يجب علينا أن نفعل؟ وبماذا تنصحوننا أن نفعل ونحن نعيش بعيدين عن العراق جغرافياً؟

بسمه تعالى

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

تقبّل الله تعالى منكم هذه النصرة فإنّما الأعمال بالنيّات ولا يقتضي تكليفكم العودة إلى العراق لأنّكم مرابطون في الثغور، والمطلوب منكم نشر مذهب أهل البيت (علیهم السلام) وإرشاد الناس إلى تعاليم دينهم، وتعريف الناس بحقيقة ما يجري في العراق وإيصال صوت المرجعية وشرح بياناتها ومواقفها وتوجيهاتها مضافاً إلى بذلكم الوسع في إظهار الصورة الحسنة للمسلمين في سلوككم ومن خلال انجازاتكم وابداعاتكم في مجال الدراسة والعمل والله الموفِّق.

محمد اليعقوبي

22 شعبان 1435

ص: 484

مسائل في الحج

سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نضع بين اياديكم المباركة مجموعة من الاسئلة محل الابتلاء بالنسبة لعناوين متعددة من المكلفين الذين يذهبون الى حج بيت الله الحرام او اداء العمرة المفردة

والسؤال عن صلاتهم طيلة تلك المدة في فترة سفرهم هل يتمون الصلاة ام يقصرون ؟جزاكم الله خير جزاء المحسنين

1/ متعهدو قوافل حجاج بيت الله الحرام

أ - فيما اذا كان سفرهم مرة واحدة في السنة لخدمة الحجاج واداء مهامهم المطلوبة منهم

ب - فيما اذا تعددت سفراتهم للعمرة المفردة بالإضافة الى الحج

2/ موظفو هيئة الحج باختلاف مهامهم الادارية والفنية واللوجستية ونحوها حيث يتعارف عنهم اداء وظيفتهم في دوائرهم الرسمية طيلة السنة ماعدا ايام الحج او العمرة قد يسافرون لأداء وظيفتهم في الديار المقدسة

3/ بعض العناوين الوظيفية التي تعطى فرصة للحج ويستفاد من خدماتها اثناء فترة الحج.

أ- الكادر الطبي من اطباء ومعاونين وممرضين ونحو ذلك

ب- الكادر الاعلامي المرافق لهيئة الحج والذي يؤدي وظيفته الاعلامية في الحج

ص: 485

ج - موظفو وزارة النقل حيث يستفاد منهم في حافلات النقل او الطيران الجوي 4/ الاخوة الفضلاء مرشدو قوافل الحجاج والعمرة المفردة وكذلك الاخوات المرشدات.

بسمه تعالى

1- أ. لا يصدق عليه في هذا الحال إن عمله السفر فصلاته قصر.

ب- إذا جعل عمله هذه السفرات والتهيئة لها ومتابعة شؤونها فصلاته تمام.

2- بعض المنتسبين يكلّف بمهام في المدينة المنورة والبعض الآخر في مكة المكرمة، وحينئذٍ لا يبعد أن تكون المدينة أو مكة محلاً لعملهم في هذه الفترة فكأنَّ دائرتهم تنقل أعمالها في الموسم إلى مكة والمدينة أو أنَّ لعملهم محلِّين أحدهما مكة أو المدينة في أيام الحج والعراق في بقية أيام السنة، نعم من كان عمله في مكة ومرَّ بالمدينة زائراً فيقصِّر فيها، ومن كان عمله في المدينة وذهب إلى مكة في أيام الموسم لأداء الفريضة فقط فإنه يقصِّر فيها كذلك.

3- أ،ب: لا يصدق عرفاً أن محل عملهم مكة فهم ليسوا كالذين ذكرناهم في السؤال الثاني.

ج - إذا كان عملهم السفر- كقائد السيارة والطائرة- فإنه يتم في الطريق وفي الأماكن التي يمكث فيها قليلاً بما لا ينافي استمرارية العمل، أما المكث الطويل كعشرة أيام وأكثر فإنها تنافي العنوان المذكور، وحينئذٍ ينوي الإقامة ويتم.

ص: 486

4-كالذي ذكرناه في الفرعين أ، ب من السؤال الاول.

محمد اليعقوبي - 18 شوال 1435

تشريح الميت

سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (أدام الله ظلكم الوارف)

ما هو راي سماحتكم حول السؤال التالي:

ما الحكم الشرعي للتشريح الجنائي اي التشريح الذي تامر به السلطات القضائية المختصة بالتحقيق وتنفذه دوائر الطبابة العدلية او ما يعرف بتشريح جثة الانسان لمعرفة السبب الحقيقي للوفاة؟

بسمه تعالى:

لا يجوز تشريح الميت اي قطع جزء او اجزاء من جسمه لحرمته ميتا كحرمته حياً، نعم اذا توقّفت مصلحة مهمة على تشريحه كإثبات براءة متهم او استيفاء حق انسان او للفصل بين متخاصمين او لدفع ضرر مهم وتوقف الاثبات على التشريح، جاز.

أما مجرد معرفة سبب الوفاة فلا يبرّر القيام بالتشريح، وقد نبهنا الجهات المعنيّة الى ضرورة الالتزام بالأحكام الشرعية والاقتصار في التشريح على الموارد المرخَّص بها شرعا. والاّ كان المباشرون قد ارتكبوا كبيرة والعياذ بالله، ويتحمل المباشر للقطع ديةً على فعله لذوي الميت ومقدارها مذكور في كتاب الديات من الرسالة العملية.

محمد اليعقوبي 28/محرم/1436- 21/ 11/ 2014

ص: 487

حرمة ما يُعرف بغسيل الاموال

سماحة المرجع الديني اية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي دام ظله الوارف

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

إني طالب ماجستير في جامعة المصطفى العالمية في قم المقدسة وعندي بحث حول غسيل الاموال مقارنة بين الفقه والقانون وهو من المسائل المستحدثة ولقد بحثت كثيرا في الفتاوى والاستفتاءات ولم اجد رأيا فقهيا لعلمائنا حوله ومن المهم جدا طرح رأي فقهاء الشيعة بالمسألة وكذلك ذكر المستند الفقهي للفتوى ضمن البحث وغسيل الاموال او بعبارة اخرى تبييض الأموال

بسمه تعالى

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

(غسيل الاموال) عملية تخريبية لاقتصاد البلدان ومفسدة لأخلاق الناس وسالبة لدينهم، وتوفر بيئة مناسبة للانحراف والجريمة وكانت ممارستها في البداية محصورة بيد مافيات الجريمة والعصابات ورؤوس الفساد والتخريب إلا انها تحولّت الى ظاهرة عامة ومدّمرة انحدر اليها الكثير من الساسة والسماسرة ورجال الاعمال وناهبي ثروات الشعوب.

وقد التفت العالم المتحضر الى خطورة هذه الظاهرة فبادر الى عقد المؤتمرات والندوات على أعلى المستويات للتشاور في كيفية مكافحة هذه الظاهرة ووضع الآليات المناسبة لكشفها وتطويقها، وسنّ القوانين لتجريم

ص: 488

المتعاملين بها وتثقيف المجتمعات بخطورتها والعقوبات الصارمة التي توجبها، وإن كانت هذه المؤتمرات لم تحقق شيئاً حتى ما كان منها على مستوى القمة لعدم الجدّية والمصداقية لدى القائمين عليها بل هم الذين يديرونها، ولا زالت هذه الظاهرة الخبيثة تزداد نخراً في الدول والمجتمعات .أما من الناحية الشرعية، فالظاهر أن ثلاثة عناصر تؤثر في حكم المسألة :

1-المغسول : أي الأموال التي يراد غسلها فقد يكون مصدرها محرماً كالأموال المكتسبة من عمليات السرقة الخاصة والعامة وتجارة المخدرات وتهريب النفط والدعارة وتهريب البشر والرشوة والاختلاس وتزوير العملة والسمسرة ومكافآت انشطة الجاسوسية والارهاب وفدية الاختطاف.

وغالباً ما يكون الهدف من غسيل الأموال هو تبييض مثل هذه الأموال وشرعنتها عبر التحويل المالي في البنوك، فاذا كان المال المغسول حراماً حرمت العملية كلها.

2-الغاسل : أي الشخص او الجهة المستفيدة من غسل الاموال، فقد تكون مما لا يجوز العمل لصالحها كالتنظيمات الارهابية ومافيات الجريمة والحكام المتسلطين على الشعوب بالحديد والنار والخارجين على القانون والمحرضين على العنف وتمزيق المجتمعات بالعنصرية والطائفية وهكذا، فتحرم عملية التحويل المالي وغسيل الاموال إذا كان المستفيد من هؤلاء الذين لا يجوز تقويتهم بالمال، وبغضّ النظر عن العنصر الاول للعملية.

ومثال ذلك بعض الذين يدعّون أنهم جمعيات خيرية فيجمعون الزكاة والصدقات والتبرعات ليرسلوها الى الجماعات الارهابية بدعوى أنهم

ص: 489

مجاهدون وأمثال ذلك، فهذه العملية محرمة من جهة الغاسل .3-الغسل : أي الجهة أو الجهات التي تقوم بغسل الاموال وتحويلها والتوسط في العملية من بنوك أو سماسرة أو أي مؤسسات مالية أخرى فقد تحرم المعاملة من هذه الجهة لان من يجري عملية التحويل غير شرعي كالشركات الوهمية أو المشبوهة او التي تدعم فساداً أو ارهاباً أو ان القائمين عليها فاسدون.

ومما تقدم يظهر أن الحرمة يمكن ان تكون بأي سبب من هذه الثلاثة فضلاً عن مجموعها، ومضافاً الى ذلك يوجد أكثر من سبب للحرمة، منها :

1-ان العقلاء والمتخصصين أجمعوا على ان في العملية تخريباً اقتصادياً وغيره، وهذا منكر محرم سميناه وامثاله بالمنكرات الاجتماعية لذا فأنه غير مألوف كالمنكرات الفردية مثل شرب الخمر او الزنا أو نحو ذلك.

2-إذا استعملت المؤسسات الحكومية – كالبنوك - في العملية، فأنه لا يجوز استعمالها – وجميع الممتلكات العامة – إلا باذن الفقيه الجامع لشروط المرجعية والقيادة، وإلا يصبح التصرف حراماً، وعملية غسل الأموال غير مأذون بها شرعاً.

نعم يمكن استثناء بعض الحالات المذكورة للاضطرار كمن يحتاج الى تحويل مال خاص من أصل شرعي لأجراء عملية جراحية مضطر اليها في بلد آخر ولا تسمح قوانين دولته بتحويل مثل هذا المبلغ، فيحوله على حساب عدة أشخاص او يستفيد من بعض الثغرات القانونية، وهذه العملية قد لا تدخل أصلاً في عنوان غسيل الاموال، ويبرّرها الاضطرار أيضاً بشرط كون أصل المال

ص: 490

حلالاً ، قال تعالى(فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (البقرة-173)، وفي الكلمة المشهورة (عند الضرورات تباح المحذورات).هذه هي الحالات المتصورة والمعروفة لظاهرة (غسيل الاموال) بالمصطلح الاقتصادي، واستثمر هذه الفرصة لتوعية الأمة وإلفات نظرها لحالات أخرى من الغسيل ليست داخلة في غسيل الأموال بالمصطلح الاقتصادي المعروف لكنها تتضمن معناه وهو مناقلة المال عبر أكثر من واسطة ليؤدي غرضاً خبيثاً من خلال صبغه بوجه قانوني وشرعي.

ومن تلك العمليات ما يقوم به البعض من التحايل على المرجعية الدينية غير الحاذقة ليستخرجوا منها فتاوى أو مواقف تحقق أهدافهم ولا يستطيعون ذلك بالمباشرة فيدفعون مالاً لأحد الأشخاص الذي يأتي لتقديمها الى المرجعية بعنوان الحقوق الشرعية ونحو ذلك فيحصل على ثقة المرجعية باعتباره متديناً ملتزماً ويقوم هذا بعرض مقترح او طلب أمام المرجعية وهو نفسه الذي أرادته الجهة الدافعة للمال، ويستجيب المرجع لطيبته ويعطي الموقف المطلوب.

او ان جهة تريد أن تفرّق بين المسلمين وتذكي نار الطائفية وإذا فعلت ذلك علناً يفتضح أمرها فتأتي الى شخص ساذج بسيط وتتبرع له بمال او تتظاهر بالتدين وتسلّم له المال ليقيم مجلس عزاء او احتفالاً دينياً حول الموضوع الفلاني الذي فيه اثارة طائفية والتركيز عليه وتطعيمه بالروايات الخرافية وينفذ هذا الساذج وامثاله العمل ويتحقق مراد الجهات الدافعة .

والمثال التاريخي على هذا النمط من غسيل الاموال ما فعله عبيد الله بن زياد

ص: 491

لاكتشاف مقر اقامة مسلم بن عقيل في الكوفة فدفع مالاً وفيراً الى مستشاره معقل وأمره ان يتغلغل بين أصحاب مسلم ويكسب ثقتهم ثم يطلب منهم أن يدلوه على مسلم ليسلّم المال، وحركة مسلم كانت بحاجة الى المال ونفذ الملعون هذه الخطة وتظاهر بالولاء لأهل البيت (علیهم السلام) حتى دلّه مسلم بن عوسجة على مسلم وأصطحبه معه وكان الذي كان.ويحسُن هنا الاشارة الى غسيل من نوع آخر للهوية أو العنوان او الشخصية، ومن أمثلته ما تقوم به بعض الجهات لغسيل الارهابيين السعوديين الذين قاتلوا في العراق وسوريا والذين يريدون العودة الى بلادهم والاستفادة من العفو الملكي في بلدهم فينقلون الى إندونيسيا ثم يعودون من هناك الى السعودية بعد أن يعطوهم صفة مبلغين قضوا واجب الدعوة والارشاد خارج البلاد، وقد نقل لي بعض المسؤولين الإندونيسيين انهم تجاوزوا المئة الى الآن.

وإنما ذكرت هذه الامثلة ليكون المجتمع واعياً للدسائس والمكائد التي تدبَّر له لتفتيته وتمزيق وحدته وإذكاء العداوة والبغضاء والقتال بين الناس حتى تخلو الساحة لأولئك الشياطين لتمرير مشروعهم.

محمد اليعقوبي

13/صفر/1436

الموافق 6/ 12/ 2014

ص: 492

الرسالة الاستفتائية الجزء الثالث / الحلقة الأولى

حسن النية

1-انا طالب دراسات عليا ماجستير في القانون واحتاج للبحث في مفهوم حسن النية في مادة القانون الجنائي فهل لكم ان تعرفون لنا مبدأ حسن النية وفق الشريعة الاسلامية او تدلونا على بعض المصادر الاسلامية جزيتم خيرا.

بسمه تعالى

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

حسن النية يتقوم بعدة اركان:

1-الصدق فيها بأن يكون ظاهره وباطنه متطابقاً بعكس المنافق.

2-الاخلاص بأن يكون غرضه وهدفه متجرداً من أي أنانية وأغراض شخصية على حساب الهدف السامي المقصود.

3-الصلاح أي أن يكون الغرض صالحاً وخيراً.

وتوجد احاديث شريفة كثيرة في النية تجدها في مقدمة كتاب وسائل الشيعة.

المرأة والاجتهاد:

2-هل يمكن للمرأة أن تبلغ درجة الاجتهاد، وهل يجوز لها تقليد نفسها حينئذٍ وهل يجوز للآخرين الرجوع اليها؟

ص: 493

بسمه تعالىالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ليس من المستحيل بلوغ المرأة درجة الاجتهاد إذا توفرت لديها الظروف المساعدة على ذلك كما حصل لعدد من النسوة فلديها من الذكاء والصبر والمطاولة والعزم ما يكفي لبلوغ هذا الهدف ولكن المشكلة عدم وجود البيئة المناسبة مع كثرة مشاغل المرأة العائلية فإذا بلغت المرأة درجة الاجتهاد فلا يجوز لها الرجوع الى غيرها وتعمل بفتاوى نفسها وإذا كانت ممن يحتمل فيها الاعلمية فإنها يمكن تقليدها والرجوع اليها من قبل النساء خاصّة. اسأل الله تعالى مزيداً من البصيرة والتوفيق والثبات على الصراط المستقيم.

النظر الى المتبرجات

3-انا طالب جامعي عمري (19) سنة، وتدرس معنا الكثير من الفتيات المتبرجات وهي حالة لم أكن معتاداً عليها، لذا لم استطع السيطرة على نفسي وضبط شهواتي فأنظر الى هذه الطالبات وفشلت في اختبار العفّة وحفظ العين من النظر المحرم، وأنا شاب متديّن لكن الطلاب معي منغمسون في النظر المحرّم والعلاقات مع الجنس الآخر مما يُضعف مقاومتي، فأرجو من سماحتكم أن تأخذ كلامي على محمل الجد وأن تريحني من هذا الأمر.

بسمه تعالى

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

اصبر حتى يرزقك الله تعالى زوجة صالحة تغنيك عن المتبرجات الفاسقات،

ص: 494

أما النظر لهنَّ فهو سهم مسموم من سهام إبليس وفخّ عميق من فخوخه لاصطياد المؤمنين فاحذر منه واجتنبه واعلم إن لذّة الانتصار على النفس الامارة بالسوء والامتناع عن السقوط في غوايتهن لا تقاس به المتعة الوهمية التي يحسُّ بها أصحاب العيون الخائنة (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر- 19) ثم تكون عليهم حسرة وندامة في الدنيا والآخرة، وهم لهزيمتهم في داخل أنفسهم يعملون على استفزاز أمثالك من المتسامين والمترفّعين عن أفعالهم ليسقطوهم معهم كما يفعل الكفار (وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء) (النساء- 89)، فإذا وقعت عينك على امرأة لا تحلّ لك فتذكّر أن الله تعالى مطلّع عليك وأنت في محضره المبارك وعلى الفور غيّر اتجاه نظرك الى جهة اخرى وستجد الطمأنينة في قلبك.

صوم شهر رمضان واداء الامتحانات العامة للسادس الثانوي

سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي دام ظلكم الوارف

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نحن مجموعة من طلاب وطالبات الصف السادس العلمي وقد قررت وزارة التربية ان الامتحانات تبدا في السابع والعشرين من شهر حزيران وكما هو معلوم فإن شهر رمضان يقع ما بين 18/ 6 الى 18/ 7 وان هذه السنة هي المصيرية لنا وانها تحدد مصير حياتنا وان الصيام قد يضر بعدم القراءة وخاصة بعد الامتحان حيث نقضي وقت للراحة بسبب التعب ثم نقرأ للامتحان القادم وان شهر رمضان يقع في فصل الحر فصل الصيف وان الامتحانات تجري في الجامعات فهل تجوزون لنا الافطار هذا العام في الايام الضرورية اي في ايام الامتحانات؟ واذا لا تجوزون لنا وفطرنا متعمدين ماذا يجب علينا فعله من فدية

ص: 495

وصيام؟ نرجو من سماحة ا لمرجع مراعاة ظروفنا ونحن قد ظلمنا في السنة من الوزارة حيث اجل الدوام لمدة شهر وحذفت امتحانات نصف السنة التي كانت مهمة لقراءة ما اخذنا في الفصل الاول والظروف الامنية التي تجري في البلد.

بسمه تعالى

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

من كان قادرا على الصوم مع تنظيم وقت دراسته على هذا الاساس بحيث لا تضرّ بدراسته ومستقبله كان يقرأ الليل كله وأطراف النهار فيجب عليه ذلك وهو حل ناجح وملائم لكثيرين.

ومن شاء ان يفطر ليكون اكثر قابلية ونشاطاً على الدراسة فتوجد طريقة شرعية للتخلّص من الوجوب عندما يتيسر له يوميا الخروج بالسيارة الى مسافة 22 كيلومتر صباحا ويتناول بعد قطع المسافة المذكورة شيئا من الطعام او الشراب ويعود الى اهله مفطرا ويمكن لجماعة ان يستاجروا سيارة لهذا الغرض ولو في ايام اداء الامتحانات فقط كما كانوا يفعلون اثناء الدوام حينما يستأجرون خطوط النقل الى الدوام الرسمي ذهاباً وإياباً.

اما الافطار المتعمد من دون عذر فغير جائز، لكنه اذا ظن القدرة على الاستمرار بالصوم فصام لكنه وجد نفسه مضطراً لتناول المفطر او وقع في حرج لا يُتحمل عادة ولم يتيسر له السفر فيجوز له ان يتناول قدر الحاجة من الطعام او الشراب او الدواء لدفع الضرورة ولا يتوسع اكثر من ذلك ثم يقضي ذلك اليوم لاحقا والله المستعان.

محمد اليعقوبي

18 جمادى الاخرة 1436 - 8/ 4/ 2015

ص: 496

المرجع اليعقوبي: يمنع اثارة كل ما يوجب الفرقة والتشتت

سماحة المرجع الديني آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

يظهر بين وقت وآخر من يُسيء الى هذا الرمز الديني أو ذاك وينال منه فما هو موقفكم من هذه الحالة؟

بسمه تعالى:

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته:

موقفنا من هذا الفعل صريح وواضح إذ منعنا منه في بيانات متعددة وبمناسبات شتى، وهو مخالف لسيرة الائمة المعصومين (علیهم السلام) وتوجيهاتهم لشيعتهم، ولا شك أنه يوجب الفرقة والتشتت والخصام والنزاع وقد نهى الله تبارك وتعالى عنه بقوله (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ)(الأنفال46)، وكلما ازدادت المشتركات بين فئتين وجب مراعاة هذا الأمر أزيد، وإذا عجزت هذه المشتركات الكثيرة عن توحيد صفوفنا فليوحّدنا العدو المشترك الذي لا يرقب فينا جميعاً إلاّ ولا ذمة ولا يتورع عن انتهاك أقدس المقدسات وارتكاب أعظم المحرمات .

والله المستعان على ما تصفون.

محمد اليعقوبي

15/ج2/ 1436 -5/ 4/ 2015

ص: 497

توريث أولاد الأولاد مع وجود الولد المباشر

تناول سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) في بحثه الخارج في (فقه الخلاف) الذي يلقيه(1) على جمع غفير من اساتذة وفضلاء الحوزة العلمية المسألة التي أجمع عليها فقهاء الأمامية وحٌكي الاجماع عن فقهاء العامة ايضاً وهي عدم توريث أبناء - أبن او بنت -الميت اذا كان واسطتهم الى هذا الميت قد مات في حياته ووجد لهذا الميت ولد مباشر لأنه أقرب منهم .

وقد عرض سماحة المرجع ادلة الفقهاء وناقشها تفصيلاً ثم عرض في مقابلها أدلة كثيرة رصينة اثبت من خلالها إمكان القول باستحقاق هؤلاء الاحفاد والاسباط من جدهم شيئاً من التركة حتى مع وجود الأولاد المباشرين للجد.

وسيُنشر البحث مفصلاً في كتاب مستقل بأذن الله تعالى.

ولأهمية هذا الحكم الشرعي فإننا ننشر هنا خلاصة نتائج البحث على شكل مسائل فقهية:

(مسألة) يجب على من مات له ولد أو بنت في حياته وله منهما أحفاد أو أسباط مع أولاد مباشرين أن يوصي بإخراج حصة ولده المتوفى –ذكراً كان أو أنثى- كما لو كان حياً حين موت الموصي، ويجب على الورثة الموجودين فعلاً حينئذٍ إنفاذ الوصية وفق القواعد المقررة، ويتأكد الوجوب فيما لو كان الأحفاد أو الأسباط أيتاماً ضعافاً يُخشى عليهم الفقر والحاجة.

ص: 498


1- الاحد 18 محرم 1437 المصادف 1/ 11/ 2015.

(مسألة) لو لم يوصِ الميت في مفروض المسألة السابقة، فإذا كان الأحفاد أو الأسباط صغاراً محتاجين فالأحوط وجوباً على الورثة الآخرين –إن كانوا بالغين راشدين- الإنفاق على هؤلاء الصغار بالمعروف إلى أن يبلغوا ويرشدوا وللورثة عدم الزيادة في ما ينفقونه على الصغار عن حصة أبيهم أو أمهم المتوفين في حياة جد الصغار ولا فرق في احتساب التركة بين أصول الأموال التي تركها المتوفى ونمائها المتجدد متصلاً كان أو منفصلاً.وإن كان للصغار مورد مالي كافٍ لمعيشتهم أو كان هؤلاء الأحفاد والأسباط بالغين فالأحوط لزوماً للورثة –في فرض عدم الوصية- إخراج حصة من يتقربون به إلى الميت وتوزيعها عليهم للذكر مثل حظ الأنثيين، وفي هذا الاحتياط يجوز الرجوع إلى الغير مقدماً الأعلم على غيره.

وإن كان بعض الورثة الفعليين أو كلهم صغاراً، وكذا في حال كون الورثة الفعليين محتاجين ويضرّ بحالهم إخراج شيء للأحفاد والأسباط، فالأحوط التوقف في أحكام هذه المسألة إلى أن يبلغ الجميع ويجري التراضي بينهم أو الرجوع إلى الغير مقدماً الأعلم.

(مسألة): الأحكام المذكورة في المسألة السابقة ليست ذات أثر رجعي، فلو لم ينفق الورثة البالغين على الصغار قبل اعلان هذه المسألة لا يضمنون مقدارها اليوم، والأحفاد الذين كانوا صغاراً لكنهم اليوم حين اعلان هذه الأحكام بالغون لا تنطبق عليهم أحكام الصغار، وهكذا.

ص: 499

نورٌ من المولى

نورٌ من المولى(1)

أنت الوصيُّ المجتبى علمُ الهدى *** قد صرّح التنزيلُ فيك مؤوِّلاّ

في ليلةٍ بعثت بمسكِ عطورها *** فتضوّعت دنيا الوجود تجمّلا

مولاي قد عادت إلينا بغتةً *** شرُّ الشراذم قد تفانت في البلا

عاثت فساداً في البلاد تعنّتاً *** لا دين يردعهم ولا عرفٌ ولا...

باتوا على سُررِ النعيم يحوطُهم *** جمعُ السراية مشرباً أو مأكلا

وهناك من عُدِمَ الغذاء وليس مَن *** يحنو عليه وفي حرارته اصطلى

ما عندنا يا ربنا من مغنمٍ *** لمحمدٍ ولآله إلا الوَلا

ص: 500


1- أبيات من قصيدة للشاعر الشيخ عبد الحسن الكرعاوي ألقاها أمام سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) في مجلس البحث الخارج، بمناسبة ذكرى ميلاد أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم 13 رجب 1435 المصادف 13/ 5/ 2014.

تاريخ طبع فقه الخلاف

بمناسبة انتهاء السنة الثامنة من بحث الخارج الذي بدأ سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) بإلقائه في شعبان/1427-2006 وطبعت منه ثمان مجلدات بعنوان (فقه الخلاف) واستفاد منه مئات الأساتذة والفضلاء، فقد نظم جناب الشيخ حسنين قفطان الأبيات التالية لتاريخ بداية البحث بالهجري والميلادي.

شعبانُ فيهِ من الكواكبِ خمسةٌ *** بزغتْ يُشارُ لها بكُلِّ بنانِ

والعلمُ سادسها غُداةَ صدعتَ تل- *** -هجُ فيهِ كالآيات في القرآنِ

فهُمُ كأصحابِ الكساءِ وعلمُكَ ال- *** -سَّامي كجبرائيلَ في الميزانِ

منعوكَ عن حقٍّ كما منعَ الإمامَ *** المرتضى عن حقّهِ الشيخانِ

إذ كان أولى الناس بالأمرِ الذي *** قد طار أوَّلهُمْ بهِ للثاني

يا صدرَ علمِ اللهِ فيكَ تحقَّقَ ال- *** -حلمُ الذي ضحّى له الصدرانِ

فكأنَّ ربَّكَ قد رأى بكَ جوهرَ ال- *** -إخلاصِ والتسليم والإيمانِ

من خمسةٍ علماً سقاكَ (مؤرخاً) *** أي أنّ غرس العلم في شعبانِ

هو مُذ سقاكَ (مؤرخاً) من شهدهِ *** جُمِعَ الكتابُ بعلمِكَ الربَّاني

ص: 501

فليس بديلٌ

قصيدة ترجم فيها فضيلة الشيخ حسنين قفطان بيان سماحة المرجع الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الوارف) المعنون (لا بديل عن الحوار والقبول بالتنازلات العادلة) حول الأحداث الأخيرة بالتفصيل مع البقاء على ألفاظ البيان بقدر المستطاع .

(فليس بديلٌ عن حوارٍ وعن تنازلٍ عادل)

سلاماً على من أسهرَ الشعبُ طرفَهُ *** وأقلقَهُ وضعُ البلادِ بما أزرى

فأصدرهُ مُستشعراً نفسَهُ الأذى *** بياناً بهِ أدّى رسالتَهُ الكُبرى

بمضمونهِ حيَّى القضاءَ وحُكمَهُ *** فلم يعتمدْ زوراً ولم يحتملْ وزرا

بأن صادقتْ أفرادُ هيئتهِ على *** نتائجِ أصواتِ انتخاباتنا جهرا

وفي ذلك التصديقِ خيرُ انعطافةٍ *** لِمَنْ شاءَ أنْ يبني وأنْ يُبِدَ الشَّرَّا

بِجَعْلِهِ مفتاحاً ونهجَ تحوّلٍ *** يُبدِّدُ فينا يأسنا قبلَ أنْ يَضرى

وينقُلُنَا منْ حالِ بُؤسٍ وفرقةٍ *** إلى حالِ توحيدٍ وعدلٍ فلنْ نَعرى

وفي ذا ينالُ الشعبُ كلَّ حقوقِهِ *** بلا مائِزٍ في الدينِ والعِرْقِ أو أخرى

فأرشدَ للحلِّ الصحيحِ بحِنكَةٍ *** جميعَ السياسيينَ من هُمْ بهِ أحرى

ببَدءِ حِوارٍ هادئٍ متعقّلٍ *** بعيدٍ عن الأهواء لا يضمرُ المكرا

أساسُهُ أن يرضى الجميعُ بمبدأِ ال- *** -تنازُلِ حتى يُنقذوا الشعبَ والمِصرا

ص: 502

فليسَ بديلٌ عن حوارٍ وعن تنا.. *** زلٍ عادلٍ كي لا يَضِلَ بنا المسرى

على أنْ يسودنَّ التنازلَ حكمةٌ *** فلا سرفٌ بلْ أنْ نَلينَ ولو نَزْرا

فمنْ قد تغاضَوا عن قليلِ حقوقِهِمْ *** سيحمي تغاضيهِمْ حقوقَهُمُ الكبرى

وإنَّ الذي يرعى الحِوارَ ويضمَنُ ال- *** -عدالةَ في إنجاحه لِيرى النصرا

هو المرجعُ العَدْلُ البصيرُ بكُلِّ ما *** يُحَقِّقُهُ ذاك النجاحُ مع البشرى

تُسانِدُهُ كُلُّ الجهاتِ التي لها *** برسْمِ سياساتِ الشعوبِ يدٌ تُجرى

وقد خصَّ منها هيئةَ الأممِ التي *** أحاطتْ بِمَنْ ترعى مصالِحَهُمْ خُبرا

ولا يتوانى من عناهُ البيانُ في *** تحقُّقِ هذا الأمرِ أنْ يطلِبَ اليُسْرا

وإلا فغيرَ القتلِ والهَدْمِ واستبا.. *** ..حةِ العِرْضِ لاعُقبى تُجَرِّعُنا المُرَّا

وإنَّ مجالَ الخيرِ إن سُدَّ بابُهُ *** فلا عتبٌ إنْ يطلبَ السالِكُ الشَّرَّا

وقد جرّبَ الناسُ التناحُرَ بينهُمْ *** فما ربِحو الا الهزيمةَ والخُسْرا

وإنَّ الذي يُعطي السلاحَ لجاهلٍ *** بهِ مثلُ ظامٍ يأمَلُ الماءَ في الصحرا

اذا لم تُهَيِّئْ قائداً ذي دِرايةٍ *** فلا تقتنِعْ بالجيشِ لو بلغ الشِّعرى

وهلْ ضامنٌ أنْ يأمنَ النَّاسُ بعضهُمْ *** إذا سُلِّحوا والكُرْهُ بينهُمُ استشرى

لأعداءِ أبناءِ العراقِ مآربٌ *** يُحَقِّقُها تقطيعُنا قِطعاً صُغرى

ويا رُبَما صِرنا أداةً كداعشٍ *** بنا نفَّذَ الباغي أجنداتِهِ غدرا

فإفشالُ تخطيطِ العدوِّ ودحرُهُ *** وتطويقُهُ مِنْ قبلِ أنْ يملِكَ الأمرا

رهينٌ بتوحيدِ الصفوفِ بموقفٍ *** لهُ يطمَئِنُّ الشعبُ مُكتسباً قَدرا

ويشعُرُ فيهِ بالكرامةِ والسلا.. *** ..-مِ والأمنِ والتحريرِ كيْ يغتديْ حُرَّا

ص: 503

وذلك حقُّ للشعوبِ وواجبٌ *** على كلِّ مسؤولٍ فلا يطلِبَنْ أجرا

وذا هدفٌ ما كانَ صعباً منالهُ *** إذا ما امتلكْنا العقلَ والدينَ والصبرا

فبالجدِّ والإخلاصِ للشعبِ كُلِّهِ *** وللوطنِ الغالي غداً نبلُغُ الفجرا

إلى ها هُنا أنهى العظيمُ مهابةً *** بياناً بهِ استوفى النصائِحَ ما أقرى

وعيَّن للداءِ الدواءَ وأوضحَ ال- *** -طريقَ الذي يهديْ لِذيْ الأنفُسِ الحَيْرى

بِهِ قدْ كفى اللهُ البلادَ وأهلَهَا *** شُروراً فجافى رأيُهُ المَيْنَ والجَورا

لِصدرَيهِ قدْ كانَ الوفيَّ ولمْ يكُنْ *** لهُمْ ذَنَبَاً بلْ كانَ ثالِثَهُمْ صدرا

وإنَّ بني يعقوبَ إنْ فاخرتْ بِهِ *** غداً دونَهُمْ ترقى بِهِ أُمَّةٌ فخرا

له شَبَهٌ بالمرتضى صِنْوِ احمدٍ *** هواهُ صِراطٌ يفصُلُ الدينَ والكفرا

إذا لم تكُنْ مِنْ تابعيهِ فلا تكُنْ *** عدوَّاً له ف- (الشيخُ) لا يضمِرُ الشَّرَّا

ص: 504

قصيدة الشيخ حسنين قفطان للدكتور انطوان بارا

قيلت في المجلس العام لمرجعنا المفدى الشيخ محمد اليعقوبي دام ظله لدى استقبال المفكر العالمي الأديب المسيحي الدكتور أنطوان بارا وفيها تأريخ عام زيارته للعراق وذلك اثر تلقيه دعوة لحضور مهرجان الغدير الذي تقيمه العتبة العلوية المقدسة

تبرعم في أصغريك الوفاءُ *** وشبت وما شاب منك الولاءُ

وأودعك اللهُ حباً له *** يتوق أولو الرشد والاتقياءُ

ندي المحيا عفيف الهوى *** شهي السجايا كأنك ماءُ

قدمت جناحاك معرفةٌ *** وحبٌ يهزهما الإنتماءُ

تقدم كأني بأنفاس حي- *** -درٍ ساقها لك منه النداءُ

الست ابن كهل النصارى الذي *** ذممتُ به من اليه أساؤوا

هم الناس اما اخ او نظي- *** -رُ عندي وهم في العطاء سواءُ

نعم هكذا هو حر الضمي- *** -رِ حيدرةٌ من جداه ابتداءُ

فكنت أعز الضيوف ومن *** اليه بمنغمس الوجد جاؤوا

لانك محصت في حبه *** فؤاداً يحلق فيه النقاءُ

لقد هيئتك السماء له *** ويا سعد من هيئته السماءُ

طهرت فأحببته والطعا.. *** ..م ما طاب إن لم يُنقَّ الوعاءُ

علي وطه ابتداء الوجو.. *** ..د أحمده الفٌ وهو باءُ

ص: 505

بحبهما تستجم النفو.. *** ..س طهراً وبغضهما لَلوباءُ

وكنت انصهار الضيا في الصبا.. *** ..ح فيمن زكت باسمه كربلاءُ

فكنت المسيح بطعم الذبي- *** -ح في الطف من غسلته الدماءُ

حسين الكرامة والكبريا *** فأنتجت فكراً رؤاهُ اشتهاءُ

لحب الحسين وأخت الحسي- *** -ن والمرتضى سال منك انحناءُ

فأنت ابن مريم جسماً وأن- *** -ت احمد روحاً بفكرٍ يُضاءُ

نبيان في وجهك اجتمعا *** ويارب أبناء دينٍ تناؤوا

لانك حب بك التقيا *** وفي البغض لا يلتقي الانبياءُ

لمجدك تأريخه المستني- *** -ر ما وفق الله وهو اجتباءُ

فوافق تأريخكم (قوله *** نصيب برحمتنا من نشاءُ)

ص: 506

يومُ الطفوف

يومُ الطفوف(1)

دعْ الدمعَ يَنظِمُ نثرَ الكلامِ *** وينثرُ شعراً بَديعَ النظامِ

وقطِّعْ فؤادكَ في بحرهِ *** وزِنْهُ بُحبِّ الشهيدِ الامامِ

فَعولُ بقلبكَ يومُ الطفوفِ *** كفعلِ الضُرِامِ بتلكَ الخيامِ

وطفلٍ غَذاه نبيُّ الهُدى *** وزكّاهُ عن زَلََّةٍ أو أثامِ

يُثيرُ لأدمُعهِ دمعةٌ *** ويبكي له بالدموعِ السُجامِ

ويحملهُ فوقَ أكتافهِ *** صغيراً ويَبدأهُ بالسلامِ

ولمْ يَنجُ حتى أحبّاؤه *** إذا ما شكى من سماعِ الملامِ

ويسكبُ في فمهِ عِلمَهُ *** بريقٍ به الوحيُ أزكى مُدامِ

فينمو لأحمدَ ريحانَةٌ *** سقتها السماءُ بروحِ التسامي

إلى أن غدا باسقاً غُصنهُ *** يعانقُ زهرَ النجومِ بهامِ

رماهُ الزمانُ بفقدِ الرسولِ *** بأوَّلِ ما نالهُ من سهام

وثَنّى بفقدِ الأبِ المرتضى *** وفقدِ أخيهِ الزكيِّ الهُمامِ

ص: 507


1- كانت مقطوعة لا تتجاوز عشرين بيتاً القاها الشاعر الاديب السيد عبد الامير جمال الدين في مكتب سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) بحضور عدد من الوفود والزوار بينهم جمع كبير من اطباء الاختصاص واساتذة كلية الطب والصيدلة من عدة مُدن يوم 14/محرم الحرام/1436 الموافق 8/ 11/ 2014، ثم زاد عليها بما جادت قريحته فجزاه الله خير جزاء المحسنين.

ومنْ قبلُ هَزَّ الردى جُرحَهُ *** فأفقدَهُ الأُمُّ والجرحُ دامِ

كذلكَ أضحى ومَنْ حَولَهُ *** فلولُ الدُّجى جُنِّدت للزحامِ

فريداً يرى الدينَ في محنةٍ *** ونخوةَ أتباعهِ بالرُغامِ

وجُنَّ جنونُ الفسادِ الذي *** يَبثُّ العمى بعدَ حينِ التعامي

وأصبحَ ذكِرُ نبيِّ الهُدى *** كأنَّ عليهِ مضى الفُ عامِ

وفي القصرِ عادَ أبو مِرَّةٍ *** بصورةِ أشياخ بدرٍ يُرامِ

فثَمَّ الخمورُ وثَمَّ الفُجورُ *** وليلُ الشرورِ وفَعلُ الحرامِ

وذي الجاهليةُ قد أقبلتْ *** بقائدها الوالهِ المُستَهامِ

فَغَنّى لها كُلَّ أنغامِها *** وزادَ عليها بغيرِ إحتشامِ

تظنُّ بموتِ نبيِّ الهُدى *** فكانَ حُسينُ الفدا أحمداً

بأنَ الوغى قد خَلتْ من محامي *** وكانَ علياً بسوحِ الصِدامِ

ولوَّنَ وجهَ الدُجى بالدِّما *** فَصَوّحَ لونَ الدِما بالظلامِ

فثارَ وأصحابهُ حَولَهُ *** نجومٌ تحفُّ ببدرٍ تمامِ

لديهِ من المُصطفى هِمَّةٌ *** غَذاهُ بها قبلِ عَهدِ الفِطامِ

وَهيبةُ حيدرةٍ عِندَهُ *** يُغنّيهِ عنها نَشيدُ الحُسامِ

فَزُفَّ الى الموتِ في فِتيَةٍ *** أُباةٍ تُقاةٍ ثُقاةٍ كِرامِ

وهُم عندَ ربِّهم يُرزقونَ *** بجناتِ عَدَنٍ وأزكى المقامِ

يَطوفونَ حولَ ابنَ بنتِ *** طوافَ الحَجيجِ ببيتِ حرامِ

يُفَدُّونهُ بمُهاجِ القلوبِ *** وفاءً له من جُفاةٍ لئامِ

ولمْ يجدوا مثلَ أرواحهِم *** سياجاً لروح النبيِّ التُّهامي

ص: 508

ولمْ يشهدوا الخطبَ من بعدهم *** وقلبُ النبيّ لدى الخطبِ دامِ

فريحانةُ المُصطفى قُطِّعتْ *** وماتت هُنالكَ والغُصنُ ضامِ

فما كان إلاّ جوابُ السيوفِ *** تُقَطِّعَهُ إرباً بانتقامِ!

فيا عظَّمَ اللهُ أجرَ الرسولِ *** وأجرَ البتولِ وحامي الذِمامِ

حديثُ الطفوفِ حديثً العيونِ *** يُترجمُ خطبَ الأُباةِ العِظامِ

حديثٌ القلوبِ التي لم تزلْ *** تُعانيهِ في حسرةٍ أو سُقامِ

حديثُ الرضيعِ صريعِ الضما *** سقاهُ العِدا من دّمِ بالسهامِ

حديثُ الخيامِ ونارُ الخيام *** كَوَتْ كُلَّ قلبٍ بنارِ الخيام

حديثٌ لرأسِ الحسينِ الذي *** يُطافُ به في بلادِ الأنامِ

حديثُ الحرائرِ تُسبى الى *** قُصورِ لعينٍ بأرضِ الشامِ

حديثُ الرسالةِ في محنةٍ *** تُصارعُ ليلاً خَفورَ الذِمامِ

حديثُ الدموعِ ومن دونِهِ *** بَناتُ القوافي ونَثرُ الكلامِ

فيا قلبُ إمّا ذكرتُ الحسين *** فَنُح بالبكاءِ كنوحِ الحَمامِ

وليسَ كثيراً إذا ما قَضَيت *** فقد قوَّضَ الدهرُ صرحَ الكرامٍ

ويا زائراً كربلاء الحُسينِ *** ألا بَلِّغ السِّبط أزكى السلامِ

ورَتِّلْ هُناكَ نشيدَ *** ولا تخشَ في الحُبِّ لومَ اللئامِ

ويا آيةَ اللهِ هَبني إصطباراً *** فيومُ الحسينِ أَقضَّ منامي

وأَجَّجَ في القلبِ أحزانَهُ *** بما نالهُ من عظيمِ السِهامِ

فَقُمْ يا أبَن يَعقوبَ قُمْ نَبكِهِ *** فَجدُّكَ أبكى عُيونَ الأنامِ

ص: 509

وقد كان جَدُّك ينعى الحسينَ *** بقولٍ بليغٍ وخيرِ الكلامِ

عرفناكَ تَعشِقُ سِبطَ النبيِّ *** وشِبلَ عليٍّ بأقصى الهِيامِ

عرفناكَ تَهزءُ بالمُبطلينَ *** وتعلو كما الشُّهْبُ فوقَ الغَمامِ

عرفناكَ بدراً بدُنيا الهُدى *** مُنيراً تشُقُّ سُدوفَ الظلامِ

عرفناكَ تأسى ليومِ البتولِ *** وما نالها من طُغامٍ لِئامِ!

قدمتُ أُعزيكَ يا شيخنا *** وفيكَ نُعزّي نبيَّ الأنامِ

هو اللهُ يَرعاكَ في عينهِ *** أيا منْ بشَخصِكَ حِفظُ الذِّمامِ

ودُمْ مَعْلماً في طريقِ الفِداءِ *** ومِثلُكَ للدينِ أمضى حُسامِ

ص: 510

انا العراق

انا العراق(1)

الحقُّ نهجي والسلامُ أساسي *** والعدلُ سيفي والتُّقى مِتْراسي

والمجدُ ثوبي والمكارمُ لامَتي *** والفخرُ إرْثي والفداءُ مِرَاسي

أنا روضة الأطهارِ مهبطُ وحْيِهِم *** ومحاطُ بالأوثانِ والأرجاسِ

أنا آية التطهيرِ روحُ قداسةٍ *** أنَّى أقاسُ بحفنةٍ أنجاسِ

أنا تاجُ رأسِ العرْبِ ضادُ لسانِهِم *** ويُشرِّفُ الأفواهُ لثْمُ مداسي

علَّمْتُ أُمِّيْيِنَ حرفَ هجائِهِم *** كسروا الدواةَ ومزَّقوا قرطاسي

وبكوفتي أو بصرتي قد عُلِّمُوا *** وتعلَّمُوا الإعرابَ من كُرَّاسي

وأموتُ كمْداً حين يحزنُ أخوتي *** وأراهُمُ فرحين حين أُقاسي

كم صنتُ أعراضاً لكم وهتكتُمُ *** شتَّانَ بين قياسِكُم وقياسي

طبعي الأمانة والخيانة طبعُكُم *** أيُسَامُ درٌّ فاخِرٌ بنُحاسِ

وسختْ نفوسٌ حين شحَّتْ أنفسٌ *** فالفحمُ لا يرقى لنبلِ الماسِ

ولِبَاسُ ذلٍّ ما يَطِيْبُ لِبَاسُكُم *** ولِبَاسُ عزٍّ مَا ادْلَهَمَّ لِبَاسي

لم تكسِبُوا من زيفِ دينِكُمُ سوى *** عَقْل ٍ ظَلامِيٍّ وقلبٍ قاسي

ص: 511


1- قصيدة للأديب علي خصاف نظمها بعد هجوم خوارج العصر من ارهابيي داعش مدعومين من دول عديدة وقد القاها في مكتب سماحة المرجع اليعقوبي يوم 10/ذح/1435 المصادف 5/ 10/ 2014

قهرٍ وتهجيرٍ وهدمِ صَوامِعٍ *** بل هَتْكِ أعراضٍ وقتلِ أُنَاسِ

ما هزَّني مَكْرٌ كمَكْرِ خِيَانَةٍ *** و وِشَايَةٍ من كاذِبٍ دَسَّاسِ

في الظَّهْرِ يَطْعَنُنِي ويَصْرُخُ لاهِفَاً *** ويَحُزُّ نَحْرِي بَعْدَ ذاك يُوَاسي

أصْحُو على الأشلاءِ وَسْطَ شَوَارِعِي *** وعلى عَوِيْلِ الثَّاكِلاتِ أُمَاسي

هذا بعباسٍ وتلك بزينبٍ *** وهذا بعبدِ اللهِ صِرْتُ أُوَاسي

فالبغيُ بغيٌ داعِشِيَّ الإسمِ أم *** بَعْثِيَّ أم أَمَوِيَّ أم عَبَّاسِي

من كُلِّ زانيةٍ أتَيتُم بابْنِها *** يحدُو ابنَ حيضٍ جاءَ وابنَ نَفَاسِ

فَرَكَسْتُمُ في وَحْلِ عارِ فِعَالِكُمْ *** وأنا بِشُطْآنِ الكرامةِ راسي

فردٌ ومُثخنُ بالجِرَاحِ مُضَرَّجٌ *** مُلقىً ويُرْعِبُكُم لظى أنفاسي

لي قلبُ أشرقتْ الحياةُ بنُورِهِ *** سيُنِيْرُ دَرْبِي إنْ سُلِبْتُ حَوَاسي

لمَّا رأيتُ المالَ أفسدَ جِيْرَتِي *** أعلنتُ من فرطِ الغِنَى إفلاسي

لم يصنعِ النِّفطُ اللعينُ حضارتي *** بل كان بابَ مصائبٍ ومآسي

أنا غايتي كُبْرَى بحجمِ رسالتي *** خيرٌ لكلِّ الخلقِ والأجْنَاسِ

إنْ ناحَ ناعٍ للحسين بمأتمي *** فاضَتْ دُمُوعُ الحُزنِ في قداسي

وتأنُّ من ألمِ المُصَابِ مَآذِنِي *** إنْ هزَّ كيدُ مكفِّرٍ أجْرَاسي

لم يسرقِ الغُرَبَاء قوتَ أحبتي *** بل من أتوا لمناصبٍ وكراسي

وأباحَ للإرهابِ سَفْكَ دِمَائِهِم *** خُذلانُ مسؤولٍ وغَدْرُ سِيَاسي

فشريعة الرحمنِ مُْذ أنْ عُطِّلَتْ *** من مُدَّعٍ للدِّينِ والإحساسِ

كعقوبةِ الإعدامِ وهي شريعةٌ *** إذ راغَ عن إقرارِها حُرَّاسي

ص: 512

جرَّتْ عليَّ النائِبَاتِ وجرَّأتْ *** من كان يحذرُ سَطْوَتِي وحَمَاسي

واستفحلتْ أنثى وصالَ بساحتي *** من كان يَسْلُحُ من أزيزِ عُطَاسي

أنا قامةٌ شمَّاءُ لا تتطاولوا *** هيهاتَ أن تَصِلوا لعُشْرِ مَقَاسي

إني العراقُ إذا ذُكِرْتُ فسُجَّداً *** قَعُوا يا بني الوَسْوَاسِ والخناسِ

سَيَخِيْبُ من رامَ اسْتِبَاحةَ حُرْمَتِي *** وسَيَضْرِبُ الأخْمَاسَ للأسْدَاسِ

وأضَلُّ رَغْمَ الدَّهْرِ فَجْرَ حضارةٍ *** وتَضَلُّ أرْضِي كعْبَةَ الأقْدَاسِ

أرنُو لِمَقْدَمِ مُنْقِذٍ ومُخَلِّص ٍ *** في حُكْمِ دَوْلَتِهِ الأنَامُ سَوَاسي

ويَزُوْلُ مُلْكُكُمُ وتَخْلُدُ سِيْرَتِي *** فالرَّمْلُ غَوْرٌ والجِبَالُ رَوَاسي

ص: 513

قادة المجد

قادة المجد(1)

إنّي لَعمرُك في أسىً وذُهولِ *** عَجِبُ لبحرٍ للثرى محمولِ

وأرى نجوم العلم تندبُ بدرَها *** لماَّ أُصيبَ شعاعهُ بأفول

فَبَكَتْهُ في فَلك السماء نجومُها *** وبكى القصيدُ برنَّةٍ وعويل

وبكتهُ عيني بالدماءِ مدامعاً *** حتَّى كأنَّ الصَبر غيرُ جميل

والفقهُ يشكو إذْ تقطَّع وصلُهُ *** وتضاربَ المعقولُ بالمنقول

ونَعَتْهُ في أرضِ العراقِ أحبَّةٌ *** فأجابه لبنانُ بالتهليل

ونَعَتْهُ مع نجليهِ حوزةُ جعفرٍ *** إذْ صُدِّعت في عرضِها والطول

والعلمُ مثلومٌ لفقدِكَ سيّدِي *** وخَلَتْ منابُره من التحليل

لمَّا مضى عَلَمُ الفقاهةِ والهدى *** مع مصطفى ومؤمَّلٍ أحبِّ لأفول

ص: 514


1- قصيدة للأديب الشيخ حسن شاهين بمناسبة الذكرى (16) لاستشهاد المرجع الديني السيد محمد الصدر (قدس سره) القيت في مكتب سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) في بيروت في ذي القعدة 1435 الموافق ايلول 2014. وسماحة الشيخ حسن شاهين من الفضلاء العاملين في لبنان، ولد في الهرمل 1951، درس المقدمات والسطوح عند عدد من العلماء والفضلاء ثم السطوح العالية عند سماحة العلامة الشيخ حسن طراد والعلامة الشيخ حسن عبد الساتر والعلامة الشيخ موسى شرارة وحضر البحث الخارج عند العلمين الشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله (قدس الله سرهما) اسّس معهد الامام الصادق (عليه السلام) للدراسات الاسلامية وله مؤلفات ودواوين شعر عديدة: كما تصدى لمسؤوليات اعلامية وتبليغية وثقافية عديدة.

كَمْ فلَّل الحكامَ حدُّ بيانهِ *** فرماه حدُّ الغدر بالتقتيل

مَنْ مُبلِغٌ كوفانَ أنَّ حاقها *** أضحى بغمدهِ ليس بالمسلولِ

منْ مُبلِغٌ قبرَ الحسينِ بكربلا *** عن سيّدٍ في نعشهِ المنقول

مَنْ مُبلِغُ المهديِّ عن عُشاقِه *** يمضون بينَ مشرَّدٍ وقتيل

فَلَكَ العزا متواصلٌ يا سيدّي *** من ناصبٍ أو منكرٍ لجميل

ما حيلتي والموتُ سيفٌ باترٌ *** يرمي بصارمه بكلِّ نبيل

قدْ كانَ رَبعُكَ بالمكارمِ عامراً *** فغدا بُعيْرَك ليسَ بالمأهول

كم كنتُ أرجو أنْ ألوذَ بظّلِكم *** لأكونَ في ظلِّ لديكَ ظليل

اللهُ يا قمراً أرادُوا خسفَهُ *** وأرادَ ربُّك وَصَلَهُ بجليل

بمحمدٍ شيخِ الفقاهة والتُّقى *** لا غردَ أنْ يبدو كخيرِ بديل

فَعَلى خُطى(اليعقوبِ)نهجٌ واضحٌ *** في الفكرِ والتجديدِ والتحليل

جمعَ الفصاحة والسماحة والهدى *** فسبيلُهُ تحكي هُدى التنزيل

هُم قادةٌ للمجد في سوحِ الوغى *** ناهيكَ موسى الصدر خيرُ دليل

ناهيكَ مَنْ بَقَرَ العومَ بفكره *** بتراثهِ وبعلمهِ الموصول

أكرمْ بهِ وبأُختهِ بنتِ الهدى *** مَنْ أرَّخُوا للنصرِ والتبديل

فإليك يا مهديُّ نشكو حالَنا *** فمتى الخروجُ بعدلِكَ المأمول

إنهضْ فديتُكَ فالمصائبُ جَمَّةٌ *** مَنْ ذا سواكَ لهولِها بمزيل

هذا أبنُ هندٍ في الشام معرعرُ *** يدعو لنصرتِه بكلِّ عميل

ويجوبُ في طولِ البلاد وعرضِها *** بالسيفِ والتحريض والتهويل

ص: 515

فأشُهرْ حُسامَكَ سيّدي من غمدهِ *** فعراقُنا يُرمى بكلِّ مهول

في كلِّ يومٍ للجنائز موكبٌ *** يُرمى بلا ذنبِ ولا تمهيل

أوصى الإلهُ بحفظِ آلِ محمَّدٍ *** وبودِّهم في محكمِ التنزيل

وكذاك أوصى أحمدٌ في آلهِ *** أوصيكُمُ فيهمْ بألفِ دليل

لكنَّ أحكام الإله تعطّلَتْ *** وتبدَّلتْ بالجهل والتأويل

فأنهض ليومِ الفصلِ إنك فيصلٌ *** للعدلِ والتمييزِ والتفصيل

ص: 516

قصيدة حب وعرفان للمرجع اليعقوبي من الشيخ العلامة حسن شاهين

قصيدة حب وعرفان للمرجع اليعقوبي(1) من الشيخ العلامة حسن شاهين

يامن تضوّع عنبراً وعبيرا *** وبدا سراجاً قد توقّد نورا

وبدوت كالبدر المنير تألقاً *** فانساب شعري في هواك سطوراً

واضأتَ كالمشكاة حالك ليلنا *** حتى غدا فيه الحسير بصيرا

يامُعرقاً مجداً يقارنه التقى *** فيكم رأينا العالمَ النحريرا

يا آيةً لله زيّنها التُّقى *** وسطعت بدراً للمُريد منيرا

أكبرتُ شخصك للهداية مرجعاً *** آياتُ سفرك سُطّرت تسطيرا

وبيانُ بحثكَ في الفقاهة يُجتنى *** دُرّاً ثميناً، لؤلؤاً منثورا

فحملَتَ من عبق النبوة هادياً *** وحملت من وهج الإمامة نوراً

وكأنَّ وحياً في بيانك هاتفاً *** اقرأ كتابك تلْقَه منشورا

فظهرت في علم الدراية عيلماً *** وبرزت في علم الرجال خبيرا

ص: 517


1- من الشخصيات العلمية والادبية المعروفة في لبنان، وينبض قلبه حباً وتقديراً وإجلالاً لسماحة المرجع وإعجاباً بمشروعه الالهي ومن المدافعين عن أرائه وأفكاره ومنهجه، وقد أرسل هذه القصيدة للتعبير عن الحب والولاء لسماحته وهي تنبض بعمق المودة والوصال والعرفان والتقدير وضمّنها جملة من الأفكار والمشاريع التي تبناها سماحة المرجع، وقد نظمها بتأريخ 9 رجب 1436 الموافق 28/ 4/ 2015، وقد نشرت في العدد 155 من صحيفة الصادقين الصادر بتاريخ 17/ ذ ح/ 1436 الموافق 1/ 10/ 2015، وقد أنشد فضيلة الشيخ حسن القصيدة بنفسه في مكتب سماحة المرجع اليعقوبي عندما زاره يوم الاثنين 16/ ع1/ 1437، المصادف 28/ 12/ 2015 بتغييرات عن الأصل، وهذا النص المنشور هو حصيلتهما.

وسموت في خُلُق تراءى حُسنُهُ *** واليك من أهل السلوك أُشيرا

أدركت في النجف الاغرّ (مداركاً) *** و (كفايةً) قد يُسّرت تيسيرا

وعلى (المعالم) قد بنيت معالماً *** و(مكاسباً) حرَّرتها تحريرا

شيخَ المعالي يا (محمدُ) انني *** برياض كتبك لم أزل مأسورا

واليك أُعرقُ حيثُ ينجدُ شاعرٌ *** اين العبيدُ ومن يكون أميرا

يا حاملاً أَلَقَ الامير ونهجَهُ *** هلا فككت من القيود أسيرا

إنّي ليأسرني الهوى لغريّكم *** كيما اليه مع الطيور اطيرا

واطيرَ نحو المستغيث بكربلا *** عَلّي بوصل أنْ أُعَدَّ نصيرا

فاحمل سلامي للوصي ونجله *** والعذرُ إن ابدى القريضُ قُصورا

وأتيت من لبنان نحوك شاعراً *** وأبى الفرزدق أن أكون جريرا

إذ صار في عرض الإمامة شامخاً *** ويظلّ من عشق الكبار كبيراً

كم كنت أهوى أن ألوذ بظلكم *** كيما أكون بعودتي مسرورا

هذي بُغاثٌ من طيور صدْتُها *** لماّ عجزت بان اصيدَ نسورا

أرسلتها بجناح طير خافق *** كالقلب اضحى خافقاً مأسورا

اورت فؤادي في هواك مشاعرٌ *** السرُّ فيها أن اكون جهورا

بشغاف قلبي قد حملت مودة *** عجز الفؤاد برسمها تعبيرا

فلأنت في غرر القصائد مطلعٌ *** وغدوتَ في بحر الرَّويّ نَميرا

فأعدْ بلطف من نداك بصيرتي *** وامْنُنْ حضوراً كي أعودَ بصيرا

والكلُّ في شوق ليوم لقائكم *** وعلى هدى (اليعقوب) بتُّ قريرا

ص: 518

البعضُ يكبرُ في مدائح شاعر *** أما مديحك زينّ الأشعارا

فعلى (الفضيلة) قد نشا أنصاركم *** بوركت حزباً يجمع الانصارا

والعدلُ ميزانٌ بدا في نهجكم *** وعليه قد رفع الصلاحُ شعارا

فاهنأ بعلم قد رفعت لواءه *** حتى تجلى واضحاً منشورا

ناديتمُ بصلاح احكام طغت *** بمحاكم اقصت بها الاطهارا

اعني بهم اهل الكساء وجعفراً *** من كان مدرسةً لها ومنارا

ليكون شرع الله فيها حاكماً *** ويكون آل محمد اكسيرا

واليهمُ مسكَ الختام تحيَّتي *** صلّوا عليهم سادةً ابرارا

ص: 519

جنودُ الحشدِ الفكري

جنودُ الحشدِ الفكري(1)

دمٌ على ربواتِ الطفِّ يحتجبُ *** عن ناظريهِ وإنْ غصَّتْ بهِ التُرَبُ

دمٌ بريءٌ ومِلؤُ الأرضِ نكهتُهُ *** ينسابُ في وجَعِ الذِّكرى وينسكِبُ

تآمرتْ قبلَ ألفٍ ألفُ غاشمةٍ *** عليهِ كي يتساوى الرأسُ والذَّنَبُ

لكنّها فتيةٌ من كهفِ همَّتِها *** قامتْ تُفنِّدُ ما قالوا ومن كتبوا

فأوقدتْهُ بليلِ الجرْحِ مؤتمراً *** يحيا بهِ كلُّ مجدٍ آهلٍ عَذِبُ

تسابقتْ نحو حَمْلِ الرأسِ أذؤُبُهُمْ *** ونحو تقديسِهِ أمثالُكُمْ وثَبوا

جنَّدتُمُ الحرف حتى لم يسعْكُمُ وج *** هُ المجدِ وانفرجتْ عن سعيكُمْ كُرَبُ

ألسيفُ أمضى ولكنْ ربّما قلمٌ *** أسرجتموهُ تهاوت دونهُ رُتَبُ

ومِثلُكُمْ لايُدانى إذ يؤازِرُهُ *** كآذرٍ(2) واهباً مثلَ الأُلى وهبوا

والزينبيّاتُ في أوساطكم نهضَتْ *** كزينبٍ ومصيرُ الآلِ مُضطرِبُ

نذرنَ للطفِّ عمراً كلَّهُ لعليٍّ *** والبتولِ قُبيلَ الذَّرِّ ينتسبُ

كالحشدِ أنتمْ سلاحُ الحربِ فكركُمُ *** وللثقافةِ في ساحاتكمْ نُصُبُ

وكلُّ مؤتَمَرٍ يحيا بمثلِكُمُ *** طوبى لكم عصبةً لم ترقْها عُصَبُ

ص: 520


1- قصيدة ارتجلها فضيلة الشيخ حسنين قفطان ترحيبا بالضيوف المشاركين في مؤتمر الطف الدولي السابع الذي اقامته كلية الآداب في الجامعة المستنصرية يومي 7-8/ 12/ 2015 وهم من دول عربية واسلامية واجنبية وقد انشدها لدى حضورهم لزيارة سماحة المرجع اليعقوبي يوم الاربعاء 26/صفر/1437 الموافق 9/ 12/ 2015 ونالت استحسان الحاضرين واستعادتهم
2- الدكتور محمد علي آذرشب كاتب واستاذ جامعي من الجمهورية الاسلامية احد ضيوف المؤتمر.

فأظهِروا كلَّ معنىً للولاءِ بما *** قدَّمتُمُ ودعُوا جنباً من احتجبوا

مرحى بكم أمَّةً جائت لخيرِ أبٍ *** عند ابنِ يعقوبَ تسمو أمَّةٌ وأبُ

ص: 521

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.