خطابُ المرحلة المجلد 8

هوية الكتاب

اسم الكتاب: خطابُ المرحلة / الجزء الثامن

تأليف: توثيق لخطابات وبيانات سماحة

آية الله العظمى المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي

الطبعة : الثانية

السنة : 1437 ه- - 2016م

الناشر: دار الصادقين للطباعة والنشر والتوزيع

النجف الاشرف / شارع الرسول (صلی الله علیه و آله) 07808289364

المطبعة:......

ص: 1

اشارة

خطابُ المرحلة

توثيق لخطابات وبيانات سماحة

آية الله العظمى المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي

ومواقفه وتوجيهاته منذ تصديه لقيادة الحركة الإسلامية في العراق بعد استشهاد استاذه

السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) عام 1999

الجزء الثامن

آب2012- نيسان 2014

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

خطاب المرحلة 338 :المباركة الشرعية لعمل المنظمات الخيرية والإنسانية

خطاب المرحلة 338 :المباركة الشرعية لعمل المنظمات الخيرية والإنسانية(1)

من الواضح لدى كل متشرع: الحث الأكيد على الإنفاق في سبيل الله، لتكرّره كثيراً في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، نذكر منها قوله تعالى في مضاعفة أجر الصدقة والإنفاق في سبيل الله إلى حد لا يعلمه إلا الله (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ) (البقرة/261) وقال تعالى (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء) (آل عمران 133-134).

ولكن الله تعالى يعلم أنه ليس كل الناس قادرين على الإنفاق، أو انهم ينفقون مما رزقهم الله تعالى لكنهم يريدون المزيد من الثواب عند الله تعالى، وهو سبحانه عادل لا يحرم أحداً من فرصة الطاعة، فجعل بكرمه لمن يسعى في إيصال الصدقة إلى مستحقها نفس الأجر الذي يستحقه معطيها.

قد يقال بأنه كيف يتساوى ثواب من يتوسط بإيصال المال إلى المستحق مع ثواب من يدفع هذا المال الذي تعب في تحصيله. والجواب بوجوه:

ص: 5


1- من حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع عدد من منظمات المجتمع المدني ووجهاء العشائر من قضاء الخضر في محافظة المثنى ومن ناحية النصر في محافظة ذي قار ومن كربلاء، ووفود شبابية من البصرة وبغداد يوم السبت 13 شوال 1433 الموافق 1/ 9/ 2012.

1-إن ذلك ممكن بلحاظ كرم الله تعالى ولطفه ولا إشكال فيه ما دام المنفق لا ينقص من أجره شيء.

2-إن هذه المساواة بلحاظ أصل الاستحقاق ويبقى للمنفق سابق الفضل فيضاعف الله له ما يشاء كما نطقت الآية الشريفة.

3-إن المنفق يرجع إليه مثل أجور المتوسطين في إيصالها مضافاً إلى أجره، لأنه هو الذي وفّر لهم هذه الفرصة فيكون مصداقاً للحديث الشريف (من سنّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة).

4-انه لا يحق لنا الإشكال والتساؤل ما دامت الروايات قد نطقت بهذا المعنى، فقد روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله (من مشى بصدقة إلى محتاج كان له كأجر صاحبها، من غير أن يُنقص من أجره شيء)(1) وقوله (صلی الله علیه و آله) (لو أن الصدقة جرت على يدي سبعين ألف ألف إنسان، كان أجر آخرهم مثل أجر أولهم).(2)

وهذا بالضبط ما تقوم به المنظمات الإنسانية والخيرية من جمع التبرعات و إيصال المساعدات إلى المحتاجين، ويكون المشرّع الإسلامي قد سبق بأربعة عشر قرناً العالم المتحضر اليوم الذي يدعو إلى تأسيس منظمات المجتمع المدني ويفتخر بها، مع الفارق بين العملين بإخلاص النوايا ومصداقية العمل والأمانة على ما بأيديهم.

وبهذا فقد تحقق أكثر من حافز لتأسيس هذه المنظمات الإنسانية والاندفاع

ص: 6


1- ميزان الحكمة: 5/ 77 ح 10588.
2- ميزان الحكمة: 5/ 77 ح10590.

بحماس في جمع التبرعات والمساعدات والحقوق الشرعية وتوزيعها على المستحقين، ومن تلك الحوافز:1-الأجر العظيم من الله تبارك وتعالى وكفى به حافزاً بحيث ينال نفس أجر المتصدق الذي وردت فيه الأحاديث الكثيرة كقول رسول الله (صلی الله علیه و آله) (إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة كما يربي أحدكم فِلوه أو فصيله حتى تكون مثل اُحُد) وقوله (صلی الله علیه و آله) (أرض القيامة نار، ما خلا ظلَّ المؤمن فإن صدقته تُظلّه) وقول أمير المؤمنين (علیه السلام) (الصدقة جنّة من النار)(1).

2-إنها من مظاهر المجتمع المتحضر المدني الإنساني، فوجود هذه المنظمات وسعة عملها دليل على رقي المجتمع وسمو مبادئه فيحظى بإعجاب واحترام الآخرين.

3-سعة الحاجة الموجودة في المجتمع، بحيث أن الإحصائيات الرسمية تشير إلى أن نسبة الفقر الموجودة في العراق تصل إلى 24 أي ربع السكان، وبذلك فإن عدد الفقراء يتجاوز (8) ملايين.

وهذا يستدعي سخاءاً في العطاء من كل القادرين عليه، وشبكة واسعة من المتطوعين الذين يوصلون هذه المساعدات، خصوصاً وان طبيعة حياة الموسرين والأثرياء يجعلهم غير قادرين على إيصال المساعدات إلى مستحقيها.

إن وجود هذا العدد الكبير من المحتاجين وبالحالة المزرية التي توصف لنا أو نراها في بعض وسائل الإعلام حجة علينا وابتلاء لنا جميعاً يدعونا –كلُ من

ص: 7


1- مصادر الأحاديث في ميزان الحكمة: 5/ 67- 68.

موقعه وبحسب ما أوتي من إمكانيات- إلى العمل بجد لمعونتهم بما ييسره الله تعالى.وبنفس الوقت فإن هذا الواقع المؤلم يشعرنا دائماً بظلم الإنسان لأخيه الإنسان واستئثاره وشُحّ نفسه، خصوصاً السياسيين الذين تقلّدوا أمور البلاد والعباد، فاتخذوا مال الله دولا خلافاً لقوله تعالى (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ) (الحشر/7).

وإلاّ فإن العراق غني تتجاوز ميزانيته السنوية مئة مليار دولار، وأصبح خلال الأشهر الأخيرة ثاني دولة مصدّرة للنفط في الأوبك بعد المملكة، فلماذا يعيش أهله بهذا الفقر المدقع؟

وبغضّ النظر عن النفط فإن الله تعالى قد تكفّل بأرزاق عباده وخلق لهم من الأرض ما يكفيهم لمعاشهم بكرامة، وتدلّ الأحاديث الشريفة على أن نسبة الفقر الطبيعية من وجهة نظر المشرّع الإسلامي هي 2.5 مع الالتفات إلى أن معنى الفقير شرعاً هو من لا يملك القدرة على توفير أسباب الحياة الكريمة من دار للسكن وزوجة ووضع معاشي لائق، أما حال الفقراء الموجود اليوم فهو مرفوض في الشريعة تماماً.

ومن الروايات الدالة على هذه النسبة الاعتيادية صحيحة أبي جعفر الأحول أنه سأل أبا عبد الله (علیه السلام) كيف صارت الزكاة من كل ألف خمسة وعشرين درهما ؟ فقال: إن الله عز وجل حسب الأموال والمساكين فوجد ما يكفيهم من كل ألف خمسة وعشرين، ولو لم يكفهم لزادهم.(1)

ص: 8


1- وسائل الشيعة، كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب3 ح2.

ورواية قثم عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك أخبرني عن الزكاة كيف صار ت من كل ألف خمسة وعشرين لم تكن أقل أو أكثر ما وجهها ؟ فقال: إن الله عز وجل خلق الخلق كلهم فعلم صغيرهم وكبيرهم وغنيهم وفقيرهم فجعل من كل ألف إنسان خمسة وعشرين فقيرا ولو علم أن ذلك لا يسعهم لزادهم لأنه خالقهم وهو أعلم بهم.(1)فوجود الفقراء ابتلاء لهم حتى يصبروا ويؤجروا (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر/10)، وابتلاء للأغنياء حتى ينفقوا ويخرجوا ما أمر الله تعالى به فيحصلوا على أجر الإنفاق وأداء الحقوق الشرعية.

وإنما جاع الفقراء بسبب عصيان الأغنياء، روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) قوله (إنما وضعت الزكاة اختباراً للأغنياء ومعونة للفقراء ولو أن الناس أدوا زكاة أموالهم ما بقي مسلم فقيرا محتاجا ولاستغنى بما فرض الله له وإن الناس ما افتقروا ولا احتاجوا ولا جاعوا ولا عروا إلا بذنوب الأغنياء، وحقيق على الله تبارك وتعالى أن يمنع رحمته ممن منع حق الله في ماله)(2).

وينبغي الالتفات إلى المعنى الأهم والأعلى درجة للإنفاق، وهو الإنفاق المعنوي بتعليم الآخرين ما جهلوا من أحكام الدين وإرشاد الضال ووعظ الغافل وهداية المنحرف وتصحيح الأخطاء الموجودة في سلوك الناس ونحوها، وهذا ما يحتاج إلى كلام مفصّل في مناسبة أخرى بإذن الله تعالى.

في ضوء ما تقدم فإنني لا أجد عذراً لمعتذر لم يؤدِّ دوره في تحفيز إخوانه

ص: 9


1- وسائل الشيعة، كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب3 ح3.
2- وسائل الشيعة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب1 ح6.

والاشتراك معهم في تأسيس المنظمات الإنسانية والخيرية والثقافية والتبليغية والاجتماعية وغيرها حتى تملأ مثل هذه المنظمات كل مساحات الاحتياج والله ولي التوفيق.

ص: 10

خطاب المرحلة 339 :إن أمر الإمام المهدي (علیه السلام) أبين من الشمس

خطاب المرحلة 339 :إن أمر الإمام المهدي (علیه السلام) أبين من الشمس(1)

كثر الحديث والجدال هذه الأيام عن موعد وشيك للظهور الميمون، وتحوّل كثير إلى محلّلين للأخبار وفلسفة الأحداث، وكثر معه القلق من قادم الأيام خصوصاً مع تصاعد الأحداث في سوريا(2)، وما يتردد من تشكيل جيش السفياني ونحوه من التخرّصات التي تدخل في باب التوقيتات والرجم بالغيب وهي من الأمور المحرمة، وأقل ما يقال فيها أنها مضيعة للوقت.

إنّ التعاطي مع هذه القضية المهدوية ليس وليد الساعة بل كان منذ أن بدأ المعصومون (علیهم السلام) يعلنون عن الإمام المهدي (أرواحنا له الفداء)، وكان يساور القلق بعض الأصحاب أحياناً، خشية عدم الاهتداء إلى الموقف

ص: 11


1- من حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع أعضاء جمعية الدكتور أحمد الوائلي في العمّارة ومركز أنوار المصطفى (صلی الله علیه و آله) في الشعلة ببغداد وزوّار آخرين يوم الخميس 18/شوال/1433 المصادف 6/ 9/ 2012.
2- ضمن ما سمي بالربيع العربي الذي بدأه شباب على صفحات التواصل الاجتماعي، حددوا يوم 15/ 3/ 2011 الموافق 9/ع2 /1432 ليعلنوا ثورتهم على النظام الحاكم في سوريا وامتدت الى المدن الأخرى وتحولت الى مواجهات مسلحة وأصبحت سوريا جاذبة للمجاميع الإرهابية من أكثر من 50 بلداً في العالم وتجاوز عددهم (70) ألفاً، ولا زالت المعارك الطاحنة مستمرة وتجري بعضها بين نفس الفصائل المسلحة وتحولت كثير من المدن الى ركام وقُتل وجرح مئات الآلاف وشُرِّد حوالي 6 ملايين، وكانت الساحة العراقية أكثر الساحات المتضررة بالإرهاب.

الصحيح، والإمام (علیه السلام) يطمئنهم بأن أمره (أبين من الشمس) فهل في الشمس الطالعة شك وارتياب؟لكن التعاطي مع هذه القضية له شكل سلبي وآخر إيجابي، أما السلبي فهو تحوّلها إلى مادة للجدل والتحليلات المبنيّة على الأوهام والظنون وما يستدعي ذلك من الإدّعاءات الفارغة والعناوين المزعومة، التي تشوّش على العامة من الناس وتدفعها إلى ارتكاب الحماقات.

وأما الإيجابي وهو شحذ الهمة في طاعة الله تعالى ليكون ممن يحظى برضا الإمام (علیه السلام) ويمهّد لدولته المباركة وليأمن من الانحراف والزلل في المنعطفات والمفاصل التي تمرّ بها مسيرة الأمة.

والمؤسف أنّ الشكل الأول هو السائد وعلامته التقاعس والكسل عن أداء الوظائف المطلوبة من المؤمن، فهذه صلاة الجمعة المقامة في بغداد وغيرها لا يحضرها إلا بضعة آلاف من المصلين مع وجوب الحضور فيها بصريح قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) (الجمعة/9)، بحيث أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) يهدّد بإحراق بيوت ناس كانوا لا يواظبون على حضور الصلاة معه (صلی الله علیه و آله) في المسجد، فأين الآخرون المشمولون بالوجوب؟

ولنضرب أمثلة أخرى من الاستفتاءات والبيانات الصادرة خلال هذه الأيام كحديثنا عن المباركة الشرعية(1) لعمل المنظمات الخيرية والإنسانية من خلال حثّ الشرع المقدس على التوسط في إيصال الإنفاق والصدقة إلى

ص: 12


1- وهو الخطاب السابق.

مستحقيها وان الوسيط يحصل على نفس أجر المنفق حتى لو جرت الصدقة على أيدي مئة ألف إنسان كرماً من الله وفضلاً، وقلنا انه بعد هذا لا يبقى عذر لمعتذر لا يقوم بالاشتراك مع إخوانه بمثل هذه الأعمال.والمثال الآخر الاستفتاء الذي أصدرناه قبل أيام عن بطلان الإفطار الذي شرعته بعض الجهات المتسميّة بالصدر بناءً على فهمها يوم الأحد هذا العام لمقلدي السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس) لأن فتواه تقتضي كون الأول من شوال يوم الاثنين فهل سعينا لإرشاد هؤلاء إلى الحكم الصحيح، وإلى المنهج الذي يجب أن يتبعوه؟

إنَّ إحراز رضا الإمام (علیه السلام) عنك وضمان ثباتك على نهجه والانضمام إلى أنصاره قبل الظهور وبعده يكون بالإخلاص لله تبارك وتعالى والصدق في إتباع الحجة المنصوبة من الأئمة الطاهرين (علیهم السلام) على الأمة قال تعالى (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَ-ئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَ-ئِكَ رَفِيقاً) (النساء/69) ومثل هؤلاء ليطمأنوا وليهدأ بالهم لأن الأمور ستكون واضحة عندهم وسوف لا يتوانون في نصرة الإمام وإتباعه، ولمثل هؤلاء سيكون الأمر أبين من الشمس كما وصف الإمام (علیه السلام).

أما المتبعون للأهواء الذين ينعقون مع كل ناعق والذين تضخمت أنانيتهم فصاروا يشكّكون ويستشكلون ويتردّدون ويرون لأنفسهم علواً وحاكميةً على الآخرين، فإنهم ستزِلُّ أقدامهم ويقعون في وادٍ سحيق، لأن إتِّباع الهوى والتعصب والأنانية يحجب الحقيقة ويمنع الرؤية الواضحة وإن كان

ص: 13

المرئي أبين من الشمس، فلينظر كل إنسان لنفسه وليتثبت من موطئ قدمه وبوصلة مسيرته.إنّ هؤلاء المتردّدين والمشكّكين والمتخاذلين والمتقاعسين كانوا على عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأدخلوا أذىً كثيراً على قلب رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وكانوا يتمرّدون على أوامر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتعليماته.

وهم الذين اوهنوا دولة أمير المؤمنين (علیه السلام) والإمام الحسن المجتبى (ع) حتّى سلّموها لقمة سائغة إلى معاوية وصبيان بني أمية، فاحذروا أن تكونوا أمثالهم والعياذ بالله.

ص: 14

خطاب المرحلة 340 :المحافظة على الصلوات: آخر وصية للإمام الصادق (علیه السلام)

خطاب المرحلة 340 :المحافظة على الصلوات: آخر وصية للإمام الصادق (علیه السلام)(1)

في ذكرى استشهاد الإمام الصادق (علیه السلام) نتوقف عند آخر وصية له (ع)، وعادة ما تكون آخر وصية للإنسان تمثل عصارة خبرته في الحياة التي يريد أن يقدّمها للآخرين.

(عن أبي بصير قال : دخلت على أُمّ حميدة أُعزّيها بأبي عبد الله (علیه السلام) ، فبكت وبكيت لبكائها ، ثمّ قالت: يا أبا محمّد ، لو رأيت أبا عبد الله (علیه السلام) عند الموت لرأيت عجباً ، فتح عينيه ثمّ قال : اجمعوا كلّ مَنْ بيني وبينه قرابة ، قالت : فما تركنا أحداً إلاّ جمعناه ، فنظر إليهم ثم قال : إن شفاعتنا لا تنال مستخفّاً بالصلاة).(2)

ويظهر أن هذه وصية النبي (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته جميعاً، روي عن زرارة عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) (قال: لا تتهاون بصلاتك ، فإنّ النبي(صلی الله علیه و آله) قال عند موته : ليس منّي من استخفّ بصلاته ، ليس منّي من شرب مسكراً ، لا يرد عليّ الحوض لا والله)(3)، بل هي وصية كل الأنبياء (ع)، عن الإمام الصادق

ص: 15


1- كلمة وجهها سماحة المرجع اليعقوبي(دام ظله) من قناة النعيم الفضائية بمناسبة ذكرى استشهاد الإمام الصادق (علیه السلام) في 25/شوال/1433 الموافق 13/ 9/ 2012.
2- الوسائل ج4 ص26-27.
3- الوسائل ج4 ص23- 24.

(ع) (أحبُّ الأعمال إلى الله عز وجل الصلاة، وهي آخر وصايا الأنبياء).(1)فلا يغتر البعض بما يقال له أنّه إذا فعل كذا فقد وجبت له الجنة، أو دخل الجنة بغير حساب مما يكثر منه الخطباء على المنابر من دون ذكر قيوده وشروطه.

إنّ للصلاة أهمية كبرى في الدين ودوراً مهماً في حياة الإنسان ومصيره، عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) (قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : ما بين المسلم وبين أن يكفر إلاّ ترك الصلاة الفريضة متعمّداً أو يتهاون بها فلا يصلّيها).(2) وروي عن الإمام الباقر (علیه السلام) قوله: (الصلاة عمود الدين ، مثلها كمثل عمود الفسطاط ، إذا ثبت العمود ثبت الأوتاد والأطناب، وإذا مال العمود وانكسر لم يثبت وتد ولا طنب).(3) وعن علي (علیه السلام) قال : قال رسول الله(صلی الله علیه و آله) إنّ عمود الدين الصلاة ، وهي أوّل ما يُنظر فيه من عمل ابن آدم ، فإن صحّت نُظر في عمله ، وإن لم تصحّ لم يُنظر في بقيّة عمله).(4)

لذا كان مقياس صلاح الإنسان عند أهل البيت (علیهم السلام) هو اهتمامه بصلاته، عن هارون بن خارجة قال : (ذكرت لأبي عبدالله (علیه السلام) رجلا ً من أصحابنا فأحسنت عليه الثناء ، فقال لي : كيف صلاته؟).(5)

ص: 16


1- من لا يحضره الفقيه: 1/ 210 ح638.
2- الوسائل ج4 ص 43.
3- الوسائل ج4 ص27.
4- الوسائل ج4 ص34-35.
5- الوسائل ج4 ص32.

وقد ورد في فضل المصلي وثواب الصلاة شيء كثير، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا قام العبد المؤمن في صلاته نظر الله عزّ وجلّ إليه ، أو قال : أقبل الله عليه حتى ينصرف ، وأظلّته الرحمة ، من فوق رأسه إلى أُفق السماء ، والملائكة تحفّه من حوله إلى أًفق السماء ، ووكّل الله به ملكاً قائماً على رأسه يقول له : أيّها المصلّي ، لو تعلم من ينظر إليك ومن تناجي ما التفتّ ولا زلت من موضعك أبداً).(1) وعن أبي جعفر (علیه السلام) أنّه قال : للمصلّي ثلاث خصال : إذا هو قام في صلاته حفّت به الملائكة من قدميه إلى أعنان السماء ، ويتناثر البّر عليه من أعنان السماء إلى مفرق رأسه ، وملك موكّل به ينادي : لو يعلم المصلّي من يناجي ما انفتل)(2).وعن الإمام الباقر(ع) (قال : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : لو كان على باب دار أحدكم نهر فاغتسل في كلّ يوم منه خمس مرّات ، أكان يبقى في جسده من الدرن شيء؟ قلنا : لا ، قال : فإنّ مثل الصلاة كمثل النهر الجاري ، كلّما صلّى صلاة كفّرت ما بينهما من الذنوب).(3)، وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (إذا قام الرجل إلى الصلاة أقبل ابليس ينظر إليه حسداً، لما يرى من رحمة الله التي تغشاه).(4)

إن الصلاة التي تكون لها هذه القيمة لابد أن تكون تامة في أجزائها

ص: 17


1- الوسائل ج4 ص32.
2- الوسائل ج4 ص33.
3- الوسائل ج4 ص12.
4- الخصال: 632 ح10.

وشرائطها التي يذكرها الفقهاء في رسائلهم العملية. عن الإمام الباقر (علیه السلام) (قال : بينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) جالس في المسجد إذ دخل رجل فقام يصلّي ، فلم يتمّ ركوعه ولا سجوده ، فقال (صلی الله علیه و آله) : نقر كنقر الغراب ، لئن مات هذا وهكذا صلاته ليموتنّ على غير دين).(1)ومن المهم جداً لكي تؤدي الصلاة غرضها المنشود وتتحقق منها الآثار المباركة: المحافظة عليها في أوقاتها، عن الإمام الصادق (علیه السلام) (قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لا يزال الشيطان ذعراً من المؤمن ما حافظ على الصلوات الخمس لوقتهنّ فإذا ضيّعهنّ تجرّأ عليه فأدخله في العظائم)(2). و عن الصادق (علیه السلام) - في حديث - : (إنّ ملك الموت يدفع الشيطان عن المحافظ على الصلاة ، ويلقّنه شهادة أن لا إله إلا الله، وأنّ محمّداً رسول الله ، في تلك الحالة العظيمة)(3)، وعن النبي (صلی الله علیه و آله) قال (ما من عبد اهتم بمواقيت الصلاة ومواضع الشمس إلا ضمِنتُ له الرَوْحَ عند الموت، وانقطاع الهموم والأحزان، والنجاة من النار)(4)

من خطبة لأمير المؤمنين (علیه السلام) في نهج البلاغة انه قال في كلام يوصي أصحابه : (تعاهدوا أمر الصلاة، وحافظوا عليها ، واستكثروا منها ، وتقرّبوا بها ، فإنّها كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً ، ألا تسمعون إلى جواب أهل النار حين

ص: 18


1- الوسائل ج4 ص31-32.
2- الوسائل ج4 ص28.
3- الوسائل ج4 ص29.
4- بحار الأنوار: 83، 9ح 5.

سئلوا: (ما سلككم في سقر ، قالوا لم نك من المصلّين) وإنّها لتحتّ الذنوب حتّ الورق ، وتطلقها إطلاق الربق ، وشبّهها رسول الله بالحمّة تكون على باب الرجل فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمس مرّات ، فما عسى أن يبقى عليه من الدرن ، وقد عرف حقها رجال من المؤمنين ، الذين لا تشغلهم عنها زينة متاع ، ولا قرة عين من ولد ولا مال ، يقول الله سبحانه: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) ، وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) نصباً بالصلاة بعد التبشير له بالجنّة ، لقول الله سبحانه (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) فكان يأمر بها أهله ويصبر عليها نفسه).(1)ولأجل أن تصبح الصلاة جزءاً أساسياً من حياة الإنسان لا يستطيع أن يحيا بدونها فقد أمر المعصومون (علیهم السلام) بإلزام الصبيان بالصلاة من وقت مبكر كعمر (6-8) سنين بحسب استعداداته الذهنية وفهمه لما يقال له.

روى محمد بن مسلم: أنه سأل أحد الإمامين الباقر والصادق (علیه السلام) (في الصبي ، متى يصلّي؟ فقال : إذا عقل الصلاة قلت : متى يعقل الصلاة وتجب عليه؟ قال : لستّ سنين).(2)

ويستغرب الإمام (علیه السلام) من الآباء والأمهات الذين لا يتابعون أداء أطفالهم للصلاة، روى أحدهم قال (سألت الرضا (علیه السلام) أو سئل وأنا أسمع ، عن الرجل يجبر ولده وهو لا يصلّي اليوم واليومين؟ فقال : وكم أتى على الغلام؟ فقلت : ثماني سنين ، فقال : سبحان الله ، يترك الصلاة؟! قال : قلت : يصيبه الوجع ، قال

ص: 19


1- الوسائل ج4 ص30- 31.
2- الوسائل ج4 ص18- 19.

: يصلّي على نحو ما يقدر.).(1)إن المتابع لحال المسلمين –خصوصاً في البلدان المترفة والتي تكون فيها فرص المغريات والشهوات كثيرة- يجد عند كثير منهم إهمال أمر صلاتهم، وعدم الالتزام بها في أوقاتها وهذه قضية حيوية وشيء خطير لابد من معالجته بالالتفات إلى ما ذكرناه من أهمية الصلاة والعقوبة الغليظة على من ضيّعها وأهملها، بحيث لا يُقاس به حتى مرتكب الكبائر كالزنا وشرب الخمر، ويعلّل الإمام الصادق (علیه السلام) ذلك بقوله (لأن الزاني وما أشبهه إنما يفعل ذلك لمكان الشهوة لأنها تغلبه، وتارك الصلاة لا يتركها إلاّ استخفافاً بها)(2)

إن من تكليفنا اليوم وفي كل يوم أن نطلق حملة شاملة لإعادة المسلمين إلى صلاتهم بالإقناع أو بالإلزام لمن كانت له سلطة وقيمومة، كالوالدين على أبنائهم، أو إدارات المدارس على الطلبة، وأن نقوم بتيسير السبل لذلك من خلال إنشاء المصليات داخل الجامعات والمدارس والمؤسسات الحكومية، وتفعيل دور المساجد ونحوها من الآليات لنكون ممن تناله شفاعة النبي (صلی الله علیه و آله) والإمام جعفر الصادق (علیه السلام).

إن من استشعر العبودية لله تبارك وتعالى واعتزّ بها يجد في الصلاة لذة كبيرة، ولا يجد للحياة طعماً ولا معنى إذا خلت من الصلاة، ولا يكتفي بالصلوات المفروضة لأنه يجد الأوقات بينها كثيرة لا يتحملها بلا صلاة فيتنفل بما يسَّر الله تعالى له خصوصاً في الليل، فإن ما بين المغرب والفجر وقت طويل.

ص: 20


1- الوسائل ج4 ص20.
2- الوسائل: باب11، 2.

عن الإمام الصادق (علیه السلام) –لما سُئل عن أفضل الأعمال وأحبها إلى الله – قال: (ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة، ألا ترى أنّ العبد الصالح عيسى بن مريم قال: (وأوصاني بالصلاة) (مريم/31)(1) وعن النبي (صلی الله علیه و آله) قال (ليكن أكثر همك الصلاة، فإنها رأس الإسلام بعد الإقرار بالدين).(2)ولما سأل أبو ذر الغفاري رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن الصلاة، قال (صلی الله علیه و آله): (خير موضوع، فمن شاء أقلَّ ومن شاء أكثر).(3)

ولاشك أن الكلام عن الصلاة لا يستوعبه مجلس واحد، ولكننا أحببنا إثارة أصل الموضوع لأهميته ليكون فاتحة لعمل واسع بإذن الله تعالى، فلنحرص جميعاً على أن نكون ممن أحسن صلاته وأكثر منها وحافظ عليها في أوقاتها.

ص: 21


1- الكافي: 3/ 264، ح1.
2- بحار الأنوار: 77/ 127 ح33.
3- معاني الأخبار: 333 ح1.

خطاب المرحلة 341 :الرد العملي على الإساءة لرسول الله (صلی الله علیه و آله)

خطاب المرحلة 341 :الرد العملي على الإساءة لرسول الله (صلی الله علیه و آله)(1)

لا زلنا نعيش تداعيات ما قيل من إنتاج فيلم يسيء إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) في السينما الأمريكية بإخراج وتمويل يهوديين وقد نشرت بعض المواقع دقائق منه قبل عرضه، مما استفزّ مشاعر المسلمين فخرجوا في تظاهرات واحتجاجات في بلدان إسلامية عديدة، وهاجم بعض المتظاهرين عدة مقرات لسفارات ومؤسسات غربية.

ولم تكن هذه الإساءة هي الأولى فقد دعا بعضهم إلى حرق المصحف الشريف علنا وآخرون رسموا صوراً كاريكاتورية مسيئة، وآخر يؤلف كتاباً شيطانياً أو يؤدون حركات عبثية للسخرية من عبادات المسلمين وشعائرهم. وهكذا

ومن وجهة نظري فإن هذه الأفعال تشعرنا بالزهو والفخر والانتصار لأن صدورها منهم تعني إفلاسهم وهزيمتهم وتدل على اعترافهم بانتصار الإسلام وتقدمه وغزوه لهم وفشل كل مشاريعهم للقضاء على حركته المباركة وإيقاف مدِّها إلى عقر دورهم فلجأوا إلى هذه الأساليب للتضليل

ص: 22


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع عدة وفود منها مدرسة أشبال المنتظر في الناصرية، ومجموعة الطلبة المتفوّقين في الدراسة الإعدادية في المشخاب يوم الأربعاء 2/ذ.ق/1433 المصادف 19/ 9/ 2012 وقام فتيان المدرسة بعدة فعاليات قرآنية وأناشيد.

وللتشويه، ولو كان الإسلام هزيلاً مهزوماً ضعيفاً لما خافوا منه وقلقوا وقاموا بهذه الأفعال البائسة.لكننا يجب أن لا نقف عند ردود الأفعال العاطفية المؤقتة فإنها لا تستطيع مقاومة مشاريع أعداء الإسلام المتنوعة من إفساد أخلاقي وتخريب ثقافي وتمزيق لحمة المجتمع وحصار اقتصادي و تجفيف الأنهار وتلويث المياه ونشر الأمراض الخطيرة من خلال أدوية فاسدة، ولا تنتهي عند الاحتلالات العسكرية والهيمنة على القرار السياسي وغيرها مما يخفى على كثيرين حيث يضع المستكبرون لكل بلد وشعب السيناريو المناسب له من وجهة نظرهم.

وألفت نظركم إلى واحد من مشاريعهم التخريبية كُشف عنه خلال هذه الأيام فقد كشفت دائرة الأنواء والرصد الزلزالي انها تملك أدلة على أن التغيير الحاصل بالجو في العراق بفعل فاعل وليس أمراً مناخياً طبيعياً وانهم وبعد جهود مضنية على مدى خمس سنوات استطاعوا الحصول على أدلة تثبت تورط الولايات المتحدة بالتحكم في المناخ العراقي. وانهم قد رصدوا وجود طاقة صناعية تم توجيهها عبر مركز ابحاث الترددات العليا للشفق القطبي الشمالي، بما يعرف بمشروع (هارب HAARP) باعتباره المركز الوحيد القادر على افتعال زلازل وفيضانات وأعاصير ورفع وخفض درجات الحرارة التي تبدو طبيعية، وتوقع خبراء الأرصاد أن ترتفع درجات حرارة العراق في السنوات الثلاثة المقبلة إلى سبعين درجة مئوية مما سيجعل الحياة فيه شديدة الصعوبة.

ص: 23

وبذلك انضمَّ العراق إلى الدول التي يتحكم بمناخها مشروع هارب الذي تديره الولايات المتحدة الأمريكية وقد كشف الموقع الاخباري النيوزلاندي (ناتشرنيوز) عن دراسة تشير إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية هي التي تسببت في الزلزال الذي ضرب اليابان في 11/آذار/2011.وسواءً ثبت وجود مثل هذه القدرة عندهم أو لم يثبت، فإن المهم هو معرفة توجهاتهم الأخلاقية وأنماط سلوكهم العدواني.

والمثال الآخر توجّه الحكومة الأمريكية لقطع نسل ملايين الناس بإحداث العقم لدى نسائهم وهو نموذج للإبادة البشرية التي تقوم بها الدول المستكبرة المستمدة من ثقافة الصهاينة في احتلال أرض الغير واستبدال شعب بشعب وثقافة وتاريخ بثقافة وتاريخ غيرهما.

فهذه التصرفات والخطط الهدّامة متوقعة منهم وهم ماضون فيها (لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) (التوبة/10) وإلا بماذا يستحلّون الإساءة إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) المبعوث رحمة للعالمين، والذي كان مصدر خير لجميع البشر إلى يوم القيامة وهم يعترفون بذلك حتى جعله أحد مفكريهم على رأس أعظم مئة شخصية صنعت التاريخ والحضارة الإنسانية.

وبماذا جاء رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟ جاء مبلّغاً لرسالات ربه مكملاً لرسالات الأنبياء السابقين يأمر بالعدل والإحسان ورفض الظلم والبغي والفحشاء والمنكر، فيجب على كل إنسان أن يحبّه ويحترمه ويعظّمه حتى لو كان من غير دين، كما نحترم نحن العلماء الذين قدّموا خدمات للبشرية رغم اختلافنا في الدين وندرس نظرياتهم ونشيد بانجازاتهم العلمية.

ص: 24

فسلوكهم هذا يعني انهم لا يحترمون الإنسانية والعقل والأخلاق الفاضلة والمبادئ السامية.فهم بذلك يسيئون إلى أنفسهم ويفضحونها وليس إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي هو أعزّ وأكرم وأعلى من أن تناله حماقاتهم (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (الحجر/95) (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (التوبة/32).

وإلى جانب هذه الحملة المسعورة التي تستهدف الإسلام، توجد حملة تضاهيها تستهدف التشيّع بالتشويه والتسقيط والاجتثاث والاستئصال بالقتل والإبادة، أو التخلي عن الهوية بالترويع والإرهاب، وجرائمهم التي يندى لها جبين الإنسانية في العراق وأفغانستان وباكستان وغيرها مما لا حصر له. وهو أيضاً دليل هزيمتهم أمام تقدّم التشيع وانتشار تعاليم أهل البيت (علیهم السلام)، فيحاولون إطفاء نور الله بهذه الأساليب الوضيعة.

إن الكثير من هؤلاء الذين يتظاهرون ويحتجون بحماس في شوارع المدن الإسلامية في باكستان وافغانستان وغيرهما هم الذين يقتلون الأبرياء ويفجّرونهم في المدارس والأسواق والمساجد والأماكن العامة باسم الإسلام واسم رسول الله (صلی الله علیه و آله) فهم أشد إساءة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) من صنّاع الفلم والرسوم والروايات الشيطانية، لأن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان يغفر لمن يسيء إلى شخصه المبارك بقول أو فعل لكنه كان لا يسكت على أي ظلم يوجَّه إلى الإنسان خصوصاً إذا بلغ الدماء.

كان أمير المؤمنين (علیه السلام) ربيب رسول الله (صلی الله علیه و آله) يخطب في مسجد الكوفة،

ص: 25

فقال كلاماً أذهل الجالسين، فقال رجل من الخوارج (قاتله الله كافراً ما أفقهه) فوثب إليه القوم ليقتلوه، فقال (علیه السلام) (رويداً إنما هو سبٌّ بسبّ أو عفوٌ عن ذنب)(1) ولا مجال لأي عقوبة أخرى، ولما لم يكن من أخلاق أمير المؤمنين (علیه السلام) مقابلة السيئة بمثلها فقد عفا عنه وهو رئيس الدولة الإسلامية.لكن امرأة أتته يوماً تشتكي والي البصرة فحرّر كتاباً على الفور يعزل فيه ذلك الوالي.

وليعلم هؤلاء المحتجون أن من أهداف الاستكبار في إثارة هذه الأفعال المسيئة إنما هو ليستفزّوا مشاعر المسلمين ويدفعوهم فالرد على هؤلاء الأعداء الذي يريدون منا التخلّي عن هويتنا (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ) (البقرة/120) أو اجتثاث وجودنا واستئصاله، هو بمزيد من الالتزام بديننا وقرآننا وتعاليم أهل بيت النبوة (صلوات الله عليهم أجمعين) والأخذ بسيرتهم وهديهم خصوصاً منكم معاشر الشباب والفتيان الذين تتلون القرآن وتنشدون الأناشيد في حب الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) وأهل البيت (علیهم السلام) وتتعهدون بالثبات والنصرة وأنتم في عمر الزهور والغرائز المتدفقة، وبذلك تشعرونهم باليأس والإحباط والفشل لأن كل هدفهم سلخنا من مبادئنا ومعتقداتنا.

وأن تردّوا بمزيد من النجاح والتفوّق والإبداع والانجاز في كل الميادين التي

ص: 26


1- نهج البلاغة، الحكمة 420.

تتواجدون فيها، فحينما أسمع من بعض الوفود الحاضرة أن عدد من أعفوا بكل الدروس في المرحلتين الرابعة والخامسة الاعدادية في مدينة المشخاب وحدها هو (160) طالباً وطالبة، وان عدد من نجحوا بمعدل يفوق 90 في الامتحانات العامة للدراسة الإعدادية في المدينة من الدور الأول هم (25) طالباً وطالبة فهذا نموذج لما أقصده من الرد العملي وإدخال اليأس على الأعداء.ربما سمعتم بما حصل قبل اسبوعين حينما قام مسلحون مجهولون باغتيال عالم نووي عراقي(1) مقيم في بريطانيا منذ أكثر من 30 عاماً حينما كان في زيارة إلى فرنسا فقتلوه وزوجته وامرأة مسنّة معهما وجرحت ابنة له مع اختها، وحصل كل ذلك بدم بارد ولم يهتم الإعلام بالحدث ولا تحرك ملف التحقيق لكشف ملابسات الحادث.

وأن تردّوا بتوسيع قاعدة الالتزام بالدين والرجوع إلى الله تبارك وتعالى فتحثون الذي لا يصلي على المحافظة عليها، وتقنعون غير المحجبة بالالتزام بالحجاب العفيف لأنه رمز جمالها وكمالها، وتدعون إلى التحابب والألفة وحل المشاكل بالحوار ونحوها واذكروا لهم قوله تعالى (يوم ندعو كل

ص: 27


1- وقع الحادث يوم 5/ 9/ 2012 في منطقة (شيفالين) شرق فرنسا، والمستهدف اسمه (سعد الحلي) وهو عالم نووي عامل في مختبر نووي سري للغاية في بريطانيا، وكان معروفاً بكرهه للأمريكيين، هرب من العراق عام 1978، وقد ذاع صيته أخيراً بعد نجاحه في إنتاج مسرّع جسيمات عملاق يستطيع صنع مواد مشعّة. وقد عمل في مختبر (روثر فورد ابليتون) للأبحاث الذي حظي بشهرة عالمية في ثمانينات القرن الماضي.

أناس بإمامهم) فمع أي إمام يحبون أن يحشروا، ولاشك انهم لا يستبدلون برسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) وفاطمة الزهراء والحسن والحسين والأئمة المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين) أحداً غيرهم، إذن فليأخذوا بسيرتهم وتعاليمهم.وان تردّوا على خططهم الشيطانية في استئصال وجود المسلمين بزيادة الانجاب وتكثير النسل لإدخال السرور على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولزيادة النسمات التي تشهد لله تعالى بالوحدانية ولرسول الله (صلی الله علیه و آله) بالرسالة ولأمير المؤمنين بالولاية، فقد روي عنه قوله (صلی الله علیه و آله) (اطلبوا الولد فإني مكاثر بكم الأمم غداً)(1) وعنه (صلی الله علیه و آله) قال (تزوّجوا فإني مكاثر بكم الأمم غداً في القيامة حتى ان السقط يجيء محنبطاً على باب الجنة فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: لا حتى يدخل أبواي الجنة قبلي).(2) مع الاهتمام بتربيتهم تربية صالحة وجعلهم عناصر مثمرة مباركة.

وقد قلت في أكثر من مناسبة أن عدد الأطفال المطلوب لكل زوجين هو أربعة على الأقل للمحافظة على الوجود، ولتكثير النسل، فإذا قصّر المسلمون في تحقيق الهدف وهو تكثير النسل، فقد خالفوا وصية رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأعانوا أعدائهم على أنفسهم.

إن مقولة (تحديد النسل) و (تقليل الإنجاب) هي من الثقافة المدمّرة التي دسّها

ص: 28


1- (2) وسائل الشيعة، كتاب النكاح، أبواب مقدماته، باب1 ح2، 6و باب 2ح 4.

الأعداء في عقول المسلمين، وأكثر الأسباب التي تُقال في تبريرها ليست مقبولة كصعوبة المعيشة وزيادة تكاليف الحياة، لأن الله تعالى هو الرازق لعباده وليتذكر الوالدان اللذان يقولان مثل هذا الكلام انهما كانا حملين في بطن الأم ويأتيهما رزقهما رغداً هنيئاً سائغاً، فلا يعول الفرد على نفسه ويغفل عن لطف الله تعالى، روي عن رسول الله قوله (اتخذوا الأهل فإنهم أ رزق لكم).(1)

ص: 29


1- وسائل الشيعة، كتاب النكاح، أبواب مقدماته، باب1 ح2، 6و باب 2ح 4.

خطاب المرحلة 342 :اصدع بهويتك وكن شجاعاً

خطاب المرحلة 342 :اصدع بهويتك وكن شجاعاً(1)

من مظاهر تقصيرنا الذي تحوّل إلى مشكلة تعيق تقدّم العمل الإسلامي الرسالي هو عدم إبراز هويتنا اما ضعفاً أو مجاملة أو مداهنة أو خوفاً على بعض المصالح والامتيازات أو لأي سبب آخر، ونقصد بهويتنا كل الانتماءات التي تشكل عناصر هذه الهوية، فنحن مسلمون ننتمي للإسلام، ونحن من الموالين لأهل البيت (علیهم السلام)، ونحن نتبع المرجعية الفلانية ونقلدها.

فعلى صعيد الهوية الإسلامية نجد أن بعض المسلمين –في بعض المجتمعات المتمدنة كما يزعمون- قد يترك الصلاة بين زملائه في العمل أو في الجامعة حتى لا يعرف انه مسلم، أو المرأة تضعف عن لبس الحجاب العفيف لأنها لا تستطيع أن تواجه تعليقات الآخرين، أو يجلس شخص على مائدة الشراب أو يسمع الغناء حتى لا يقال عنه انه (معقّد) أو (متخلّف)، أو يجاري الآخرين في لبسه ومظهره الخارجي واندماجه معهم في سلوكهم المنحرف حتى يقال عنه أنه متمدن متحضر مثلهم.

وعلى صعيد الهوية الشيعية نجد من يترك المشاركة في إحياء الشعائر الحسينية

ص: 30


1- من حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من طلبة الجامعة المستنصرية يوم الثلاثاء 15/ذ.ق/1433 المصادف 2/ 10/ 2012 وقد أنشد أحدهم شعراً للمرجعية فتحدث سماحته بهذه المناسبة.

المهذبة المسنونة شرعاً، أو يعرض عن قضية فاطمة الزهراء (علیها السلام) وما جرى بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله)، أو يخفي شهادته لأمير المؤمنين (علیه السلام) بالولاية، أو السجود على التربة ونحوها.والذي يقلّد المرجعية المعيّنة لا يصرّح بذلك ويحاول التمويه والابتعاد عن انتسابه إليها ونحوها من الأمثلة على التخلي عن الهوية وما تقتضيه انتماءاته لتلك الهوية من التزامات.

إن هذا الضعف عن ابراز الهوية لا يضرّ فقط في دينه وآخرته ويسقطه من عين الآخرين لاتهامه بالنفاق، بل انه يضرّ بكل المشروع الذي ينتمي إليه لأنه يؤدي إلى تمييع الهوية وتضييعها، ولأنه إذا لم يعلن انتماءه ويبيّن نقاط القوة فيه ودواعي تبنّيه له، فكيف سيدعو الآخرين إليه ويقنعهم به؟، وكيف سيتقدم المشروع الرسالي؟ ولو أن السلف الصالح لم يقم بواجبه تجاه هويته ويبيّنوها بوضوح ويدافعوا عنها بالحجج الدامغة لما وصلت إلينا بهذه القوة والثبات والمناعة مضمّخة بدماء الشهداء ومداد العلماء.

فإنّ الوحدة والتقارب والتعايش مع الطوائف الإسلامية أو مع الديانات الأخرى، أو مع الشرائح المتنوّعة لا تستلزم التنازل عن المبادئ والمعتقدات التي ثبتت صحتها، فليعمل كلٌ بما ثبت عنده صحته بالحجة والبرهان، وإذا كان غير متثبّت من معتقداته وانتماءاته فيجب عليه إعادة النظر فيها ومراجعتها وطلب الدليل عليها، وليس اخفاؤها والمجاملة فيها.

لقد كان من أوائل الأوامر التي وجّهها الله تبارك وتعالى إلى رسوله الكريم (صلی الله علیه و آله) في بداية الدعوة الإسلامية (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ

ص: 31

* إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (الحجر/94-95) فصدع النبي (صلی الله علیه و آله) بدعوته في مواجهة طواغيت قريش وسدنة الأصنام التي بلغ تعدادها (360) صنماً حوّلوها إلى كيانات لمصالحهم وامتيازاتهم الواسعة، ولم يكن مع النبي (صلی الله علیه و آله) إلاّ أمير المؤمنين (علیه السلام) وخديجة بنت خويلد، وأصرّ على تحمل المسؤولية حتى فتح الله تعالى على يديه، ولا نطيل بالشواهد من سيرة أمير المؤمنين (علیه السلام) وفاطمة الزهراء (علیها السلام) والأئمة الطاهرين (علیهم السلام).وعلى هذا النهج سار الصلحاء من اتباع أهل البيت (علیهم السلام)، فيقف أبو ذر الغفاري (رضوان الله تعالى عليه) في عقر ديار معاوية ويقول: سمعت حبيبي رسول الله (صلی الله علیه و آله) باذنيّ هاتين وإلاّ صُمَّتا يقول، ثم يذكر فضائل علي بن أبي طالب (علیهما السلام)، وانظر إلى موقف الصحابة الاثني عشر الذين احاطوا بمنبر الأول حينما تقمص الخلافة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وادلوا بشهاداتهم وحججهم وقد ذكرها الطبرسي في كتاب الاحتجاج.

روينا لكم في حديث سابق اننا في موسم الحج عام 1424 وجّهنا إلى أن نرفع أصواتنا بشكل جماعي اثناء الطواف حول الكعبة بدعاء الفرج (اللهم كن لوليك الحجة ابن الحسن.......) ليلتفت المسلمون القادمون من حوالي (180) دولة في العالم إلى إمامهم الحق ويسألوا عنه ويتعرفوا عليه ويهتدوا إلى نوره، وكنّا على ثقة بأنه سيتجاوب معنا الموالون، وهذا ما حصل وكان له وقع واثر ولم يستطع المناوؤن منعه واستمرت هذه السُنّة إلى اليوم ونسأل الله تعالى أن تبقى وتستمر وتتسع حتى يأذن الله لوليه بالظهور المبارك.

إننا كثيراً ما نتحدث عن مؤامرات الأعداء واستهدافنا وانهم يفعلون كذا وكذا،

ص: 32

ولا نتحدث إلا القليل عمّا يجب أن نفعله نحن في مواجهتهم والقيام بمسؤولياتنا، ومنها هذا التكليف بالاصحار والاعلان عن عناصر الهوية.ويجب الالتفات إلى أن يكون ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة كما أمر الله تبارك وتعالى، وأوصى نبيّه الكليم وأخاه هارون وهما يتوجهان إلى فرعون لدعوته إلى التوحيد (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طه 43-44)

ص: 33

خطاب المرحلة 343 :من مواعظ الإمام الجواد (علیه السلام)

خطاب المرحلة 343 :من مواعظ الإمام الجواد (علیه السلام)(1)

أخبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إنّ هذه القلوب –التي هي محل معرفة الله تعالى ووعاء الوصول إليه- يعروها الصدأ والرين بما يكتسب الإنسان من ذنوب ولكثرة مشاغله ومشاكله في هذه الدنيا، فإذا ازداد الرين طبع على القلب واسودّت صفحته فانغلق عن المعرفة وتلقّي الفيض الإلهي، إلى أن يتداركه الله بلطفه ورحمته، روي عن النبي (صلی الله علیه و آله) قوله (إنّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد إذا أصابه الماء، قيل: وما جلاؤها؟ قال: كثرة ذكر الموت وتلاوة القرآن).(2)

لذلك أوصى أهل البيت (علیهم السلام) بتعاهد هذا القلب بالموعظة حتى تبقى فيه جذوة الحياة وتبقى فيه قابلية التكامل، من وصية أمير المؤمنين (علیه السلام) لولده الحسن (علیه السلام) (احيي قلبك بالموعظة وأمته بالزهادة).(3)

فإذا كنتم تبحثون عن الموعظة وتتحرون مواطنها وتتأثرون بها وتتفاعلون

ص: 34


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من طلبة كلية الطب في جامعة البصرة وجمع من أطباء ومثقفي وأكاديميي مدينة العمارة ووفد من شيوخ عشائر ناحية الفجر في محافظة ذي قار يوم السبت 26 ذ.ق 1433 المصادف 13/ 10/ 2012.
2- منتخب ميزان الحكمة 533 رقم 5350.
3- نهج البلاغة، الكتاب: 31.

معها فهذا يعني أنّ قلوبكم ما زالت حيّة ويرجى منها الخير وهذه نعمة عظيمة تستحق الشكر المتواصل لله تبارك وتعالى.وما دمنا على أعتاب ذكرى استشهاد الإمام الجواد (علیه السلام) معجزة الإمامة فلنأخذ الموعظة منه (علیه السلام) من خلال بعض أحاديثه (ع)، وأولها ما يرتبط بما نحن فيه من ضرورة تعاهد أمر القلوب ومواصلة إحياءها:

1-قال (علیه السلام) (القصد إلى الله تعالى بالقلوب أبلغ من إتعاب الجوارح بالأعمال)(1).

نحن نهتم كل الإهتمام بطاعة الجوارح فنبادر إلى الصلاة الفلانية لأن فيها كذا وكذا من الثواب وإلى الصوم الفلاني لأن فيه كذا وكذا، وهذا كلّه حسنٌ جميل، ويعطي الله تعالى بكرمه هذا الثواب المذكور في الخبر وإن لم يقله المعصومون (علیهم السلام) كما أفادت الروايات الصحيحة، ولكنّ الإمام (علیه السلام) ينبّهنا إلى أنّ الطاعات الأسرع إنتاجاً وإيصالاً إلى الكمال هي الطاعات القلبية.

وأهمّ الطاعات القلبية المعرفة بالله تعالى، ولا نتصور أن المعرفة والعرفان علمٌ خاص بنخبة نادرة من العرفاء الشامخين، وإنّما هي متاحة لكل من طلبها وسألها من الله تعالى، لذلك دعا الله تعالى جميع خلقه إليها من خلال التدبّر بالقرآن الكريم والأحاديث الشريف، ويعطينا الإمام الجواد (علیه السلام) واحدة من أشكال وأدوات هذه المعرفة لتتأكد أنّ هذه المعرفة ميسّرة لكل أحدٍ إذا صدق في طلبها:

ص: 35


1- ميزان الحكمة: 9/ 460.

2-قال (علیه السلام) (إعلم أنّك لن تخلو من عين الله فانظر كيف تكون).(1)

هل توجد حقيقة أوضح من أن الله تعالى أقرب إلينا من حبل الوريد ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأنّه على كل شيء شهيد، إذا كان الأمر كذلك –وهو كذلك بلا شك ولا ريب- فلنراقب أنفسنا ولنتأدب بحضرة الله تبارك وتعالى ولنتعلم كيف يجب أن نكون ما دمنا في جميع أحوالنا بمنظر منه تبارك وتعالى في أقوالنا وأفعالنا وخطراتنا وظنوننا ومشاعرنا وعواطفنا، فالذي يتصور أنّه قد غلب الآخر أو خدعه أو فعل شيئاً في السر والخلوة حيث لا يراه ولا يعلم به أحد إنّما يخدع نفسه لأنّ الله شهيد عليه، ويكون قد أعان على نفسه من حيث يعلم أو لا يعلم، وفي ذلك:

3-قال (علیه السلام) (من أطاع هواه أعطى عدوَّه مناه).(2)

أي كأنه أهدى مقتله المعنوي مجاناً إلى أعدائه المتربصين به و بغوايته، وأولهم نفسه الأمّارة بالسوء (أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك) وقال الإمام الصادق (علیه السلام) (لا تدع النفس وهواها، فإن هواها رداها، وترك النفس وما تهوى أذاها، وكفّ النفس عما تهوى دواها)(3)، وثانيهم الشيطان الذي أقسم على غواية البشر (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (ص/82-83) فلابد أن يبذل الإنسان وسعه في السيطرة على غرائزه ومشاعره وشهواته وعواطفه ويجعلها وفقاً لما يريده الله تبارك وتعالى، فيفعل ما يحبه الله

ص: 36


1- تحف العقول: 336.
2- ميزان الحكمة: 9/ 460.
3- الكافي: 2/ 336 ح4.

تعالى، ويجتنب ما يكرهه تعالى، وليس عليه أن يكبتها ويقضي عليها، فإن الله تعالى خلق هذه القوى لنفع الإنسان واعمار الحياة وإدامة الوجود، وجعل ثواباً جزيلاً على من سيّرها وفق الشريعة المقدسة، كاستخدام الشهوة الجنسية في إقامة سنة الله تعالى وسنة رسوله (صلی الله علیه و آله) بالتزويج وتكثير النسل ونحوها.وهكذا المال وغيرها من أمور الدنيا فإذا أخذ من حله وأنفق في حله فإنه يصبح من أمور الآخرة.

وها هو النبي الحكيم سليمان (صلوات الله عليه) يقول (وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي) (ص/35) مع أنه نبي معصوم، فلا ضير في طلبه ما دام يريد به إقامة شرع الله تبارك وتعالى.

واعلم ان ذلك لا ينال متى تحب وتشتهي، ولا تتصور انك قادرٌ بمفردك على اختيار الطريق الصحيح بما شئت إلا بمقومات يذكرها الإمام الجواد (علیه السلام):

4-قال (علیه السلام) (المؤمن يحتاج إلى توفيق من الله، وواعظٍ من نفسه، وقبول ممن ينصحه).(1)

فأول تلك العناصر والمقوّمات: توفيق الله تبارك وتعالى ولطفه بعبده، ولذلك كان هناك تركيز في أدعية المعصومين (علیهم السلام) بطلب التوفيق (اللهم ارزقنا توفيق الطاعة وبعد المعصية).

ومدخلية التوفيق وأسباب اللطف الإلهي واضحة في حياتنا، مثلاً تجد الاندفاع والحماس للصوم في شهر رمضان بروحية عالية وإقبال شديد مع انه

ص: 37


1- تحف العقول: 337.

في صيف لاهب ونهار طويل جداً، بينما يتكاسل عن صوم يوم مستحب في غيره ولو في نهار بارد قصير قليل المؤونة، مع ان بعض الصوم المستحب –كصيام ثلاثة ايام في الشهر والأفضل أن تكون أول خميس والأربعاء في العشرة الوسطى وآخر خميس الذي يعدل صوم الشهر والالتزام بهذه السُنّة يعدل صوم الدهر –مما سنّة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وحثّ على الالتزام به حباً لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وإحياءاً لسنته الشريفة.فاسألوا الله تعالى أن يمدّكم بتوفيقه دائماً وليس في أوقات محددة كالنشاط الذي نلمسه في ليلة القدر فيجتمع المؤمنون في المساجد وصلاة مئة ركعة وأكثر بينما يتكاسل البعض عن أداء نزر يسير من النوافل المهمة في غيرها من أيام السنة كركعتي الشفع وركعة الوتر من صلاة الليل وكصلاة الغفيلة من نافلة المغرب وكنافلة الصبح ونحوها.

ونحن مقبلون على أزمنة شريفة في شهر ذي الحجة منها العشر الأوائل، ومن أعمال الشهر وسائر الأشهر الحرم صوم ثلاثة أيام متتالية: الخميس والجمعة والسبت، فقد ورد في الحديث الشريف (أن من صامها في شهر من الأشهر الحرم كتب الله له عبادة تسعمائة عام)(1)، ويمكن لمن عليه قضاء أن ينوي الصوم للأمرين فيُعطى الأجر إن شاء الله تعالى وهذا الثواب فيه حافز كبير على العمل، وإن كان الأفضل أن نقوم بالفعل الحسن لمجرد أن الله تعالى يحبّه ورسوله (صلی الله علیه و آله) يحبّه بغضّ النظر عن مقدار الثواب المرصود له.

والعنصر الثاني هو أن يكون له واعظ من نفسه وقلب يستجيب لما فيه حياته

ص: 38


1- مفاتيح الجنان: 172 في فضل شهر رجب وأعماله، الفقرة (16).

وسلامته وإذن واعية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الأنفال/24)، وإلاّ فإن الهداية لا تحلّ قلباً منكوساً مُعرِضاً عن الحق ولهذا كان من اللازم إحياء القلوب دائماً بالموعظة وذكر الموت وتلاوة القرآن وتقليل العلائق بالدنيا.والعنصر الثالث: أن تبحث عن الأخ الناصح الذي يسدّدك بكلماته وأفعاله وتذكرّك رؤيته بالآخرة ويهدي إليك عيوبك ويدلّك على ما فيه صلاحك كهذه الكلمات التي نتحدث بها.

واعلم أن هذا كله بعض نعم الله تعالى عليك فخذها وكن من الشاكرين، وإلا فإن الإمام الجواد (علیه السلام) يقول:

5-(نعمة لا تشكر كسيئة لا تغفر).(1)

يا له من تشبيه خطير بحيث يكون عدم الشكر على النعمة سيئة لا تغفر –والعياذ بالله- وهذا الحديث فيه عموم لكل من ينعم عليك نعمة ويسدي اليك فضلاً حتى من المخلوقين، وإن كان الله تعالى هو المدبِّر الحقيقي ومسبِّب الأسباب، عن الإمام الرضا (علیه السلام) (من لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر الله عز وجل).(2)

بل في حديث آخر أن المشكورين ثلاثة، الله تعالى وهو المنعم الحقيقي، والشخص الذي أنعم وأسدى المعروف، والثالث الشخص الذي سعى وتوسّط لقضاء الحاجة عند من قضاها.

ص: 39


1- ميزان الحكمة: 9/ 460.
2- عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 2/ 24، ح2.

وهذا أدب قد افتقده أكثر الناس –مع الأسف- وهم بذلك يسيئون لأنفسهم، ويقطعون سبيل المعروف عن الإمام الصادق (علیه السلام) (لعن الله قاطعي سبيل المعروف، وهو الرجل يُصنع إليه المعروف فيكفره، فيمنع صاحبه من أن يصنع ذلك إلى غيره).(1)ومن تمام الشكر الذي يحفظ النعمة ويديمها، القيام بواجباتها وأداء ما افترض الله تعالى فيها، وإلا فإنها يخشى عليها الزوال، وفي ذلك يقول الإمام الجواد (علیه السلام):

6-(إن لله تعالى عباداً يخصُّهم بالنعم، ويُقرُّها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها عنهم وحوّلها إلى غيرهم)

وهذا تحذير شديد مطابق لقوله تعالى (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد/38)يدعونا إلى الانفاق مما أنعم الله تعالى به علينا من سائر النعم وليس المال فقط، فإن نعمة العلم أهم من المال، فمن حباه الله تعالى بشيء من العلم عليه أن يعلّمه من لا يعلمه فإنه زكاة له وصدقة.

فأنت حينما تقوم بفعل المعروف في أي مجال فإنه يعود بالنفع عليك أولاً قبل من اسديت إليه المعروف، وفي ذلك يقول الإمام الجواد (علیه السلام):

7-(أهل المعروف إلى اصطناعه أحوج من أهل الحاجة إليه! لأن لهم أجره وفخره وذكره).

أي له خير الدنيا والآخرة مضافاً إلى أن ما حصل عليه صاحب الحاجة شيء

ص: 40


1- منتخب ميزان الحكمة: 349ح 3343.

يفنى، أما ما حصل عليه المعطي فهو شيء باقٍ مذخور له عند الله تبارك وتعالى.ولنستمع إلى مزيد من مواعظه (ع) مصداقاً للعنصر الثالث المتقدم.

8-قال (علیه السلام) (من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق ينطق عن لسان ابليس..).(1)

لأن العبادة تعني الطاعة والانقياد، فالإنصات إلى الناطق نوع من الانقياد فلينظر الإنسان إلى من يأخذ منه ونوع الكلام ومضمونه، وليعلم من يستمع إلى الغناء أو الغيبة أو الكلام البذيء أو تسقيط المؤمنين وتشويه صورتهم ونحوها أنه دخل في طاعة إبليس وعبادته.

وإذا كان للانصات هذا التأثير فما هي أهمية الكلمة نفسها وما مسؤولية المتكلم عمّا يصدر عنه من كلمات قد تؤدي إلى ما تؤدي من نتائج.

9-قال (علیه السلام) (العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء).

هذا الظلم الذي وصف في الأحاديث أنه (ذنب لا يترك) لا يختص بمسؤولية من قام به بل يشترك معه من دفع إليه بكلمة أو فعل أو تحريض أو تشجيع أو تزيين أو خداع أو دعم مادي أو معنوي أو فتوى بلا حجة شرعية ونحوها، كما ورد في بعض الروايات أن شخصٍ يؤتى به يوم القيامة وتقدّم له قارورة من دم ليحاسب عليها فيقول يا إلهي أنا لم أقتل ولم أسفك دماً في حياتي كلها، فيقال له هذا حصتك من دم فلان الذي قُتل ظلماً لأنك شاركت في دمه بكلمة قلتها.

بل الأمر أخطر من ذلك فإن من بلغه ذلك ورضي به ولم ينكره بقلبه على

ص: 41


1- تحف العقول: 336.

الأقل فهو شريك له، وإذا أردنا أن نذكر أمثلة على هذه الشراكة في الظلم من واقعنا، فيقف على رأسه ما يقوم به السياسيون والمتصدون لإدارة البلاد، وان شئت ثنّيت بما يجري بين العشائر من سنائن وقوانين ما أنزل الله بها من سلطان أهانت الإنسان وسلبته كرامته وحريته وماله وشرفه فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.10-وقال (علیه السلام) (من استفاد أخا في الله فقد استفاد بيتاً في الجنة).

وهذا الحديث يحفّزنا كثيراً على التحرك في المجتمع لكسب الناس إلى الدين وإرجاعهم إلى الله تبارك وتعالى ما دام ثمن كسب أخ مؤمن واحد هو هذا العطاء العظيم.

إن امرأة فرعون تحمّلت تعذيباً قاسياً من دق جسّدها بالمسامير وصلبها وتعليقها وهي صابرة محتسبة حتى قضت شهيدة، وكان طلبها (رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) (التحريم/11) وبغضّ النظر عن كون البيت (عندك) فإننا قد اُعطينا نفس الفرصة من دون ذلك الثمن الباهظ فنستطيع الحصول على بيت في الجنة بأن تكسب أخاً في الله تعالى وتهديه إلى الحق.

فليستثمر الشباب والطلبة الجامعيون هذه الفرصة وليتحركوا داخل أوساطهم وعلى أقرانهم ليرشدوهم ويخرجوهم من حالة الفسق والانحراف الذي نسمع عن تفشه داخل أوساط الجامعات، وليتحرك كل جنس على جنسه بالطريقة التي أوصى بها الله تعالى (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (النحل/125) كدعوته إلى مائدة طعام أو تزويده بمحاضرات فاتته أو أن تشرح له محاضرة لم يفهمها ونحوها من الأساليب التي تكسب بها مودته وتدخل إلى قلبه فيأخذ منك النصيحة وتكون مصداقاً للعنصر الثالث المتقدم بفضل الله تبارك وتعالى.

ص: 42

خطاب المرحلة 344 :عشرة ذي الحجة شهر رمضان الأصغر

خطاب المرحلة 344 :عشرة ذي الحجة شهر رمضان الأصغر(1)

العشرة الأولى من ذي الحجة في الأيام كشهر رمضان في الشهور بحيث يمكن اعتبارها شهر رمضان الأصغر، ليست هذه دعوى ندعيها، وإنما دلّت عليها كلمات المعصومين (علیهم السلام) والوجوه العديدة للتشابه بينهما.

فقد ورد في دعاء شهر رمضان (وهذا شهر عظمته وكرّمته وشرّفته وفضّلته على الشهور) وورد في دعاء العشرة الأولى من ذي الحجة (اللهم هذه الأيام التي فضّلتها على الأيام وشرّفتها) فتلاحظ وحدتهما في التشريف والتفضيل.

والسمة البارزة لأعمال كل منهما واحدة وهو –بعد الذكر والدعاء والاستغفار والعبادة- الصوم فهو محبوب ومطلوب في كليهما الا انه في شهر رمضان على نحو الوجوب وفي عشرة ذي الحجة على نحو الاستحباب عدا يوم العيد لحرمة الصوم فيه.

وكل منهما وصف بأنه أيام معدودات ومعلومات، قال تعالى عن

ص: 43


1- من حديث سماحة المرجع اليعقوبي(دام ظله) مع حشد كبير من الطلبة الجامعيين من بغداد وفدوا لزيارة أمير المؤمنين (علیه السلام) والإمام الحسين (علیه السلام) ضمن برنامج رسالي، والتقوا سماحته يوم الخميس 9/ذ.ح/1433 الموافق 25/ 10/ 2012.

شهر رمضان (أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ) (البقرة/184)، وقال تعالى (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ) (الحج/28) وقال تعالى (وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ) (البقرة/203) وورد في بعض الروايات أن المقصود من عشرة ذي الحجة.والعمل في كل منهما له زمان يبلغ فيه الذروة من حيث العطاء الإلهي ومضاعفة الجزاء، ففي شهر رمضان ليلة القدر، وفي عشرة ذي الحجة يوم عرفة، وكل منهما عيد لأولياء الله الصالحين، بحيث يمكن أن يقال أن يوم عرفة في الأيام كليلة القدر في الليالي.

ويشترك الزمانان بأن الشياطين فيها مغلولة كما ورد في خطبة النبي (صلی الله علیه و آله) في استقبال شهر رمضان، وفي بعض الأخبار أنه ما من زمان يكون فيه الشيطان طريداً ذليلاً غضوباً أكثر من يوم عرفة، ووضع الشيطان في الأغلال أي الحد من تأثيره في غواية الإنسان وتزيين المعاصي له فيكون إقباله على الطاعة أكثر وهمّته فيها أعلى.

ولأن رقّة القلب وانكساره وحزنه تساعد على صفاته وصدق توجهه إلى الله تبارك وتعالى كما ورد في الحديث القدسي (أنا عند المنكسرة قلوبهم)، فقد مضى قلم التخطيط الإلهي بأن تسبق كلا الزمانين الشريفين مناسبة حزينة تتفجر لها قلوب المؤمنين لوعة وحزناً وألما، حيث تتزامن ذكرى شهادة أمير المؤمنين (علیه السلام) مع ليالي القدر، ويسبق شهادة الإمام الباقر يوم عرفة لترّق القلوب وتتنقى فتتهيّأ لتلقي الفيوضات الإلهية في هذه الأزمنة المباركة.

ص: 44

وتشترك ليلة القدر ويوم عرفة بزيارة مخصوصة للإمام الحسين (علیه السلام) ورد فيهما ثواب عظيم، ففي كامل الزيارات لابن قولويه (قده) –استاذ الشيخ المفيد (قده) – عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال (إن الله تبارك وتعالى يبدأ بالنظر إلى زوار قبر الحسين عشية عرفة قبل نظره لأهل الموقف) وفيه عنه (علیه السلام) قال (إن الله تبارك وتعالى يتجلى لزوار قبر الحسين (علیه السلام) قبل أهل عرفات ويقضي حوائجهم ويغفر ذنوبهم ويشفعهم في مسائلهم ثم يثنّي بأهل عرفات فيفعل بهم ذلك).وفي مصباح المتهجد عن رفاعة النخّاس قال (دخلت على أبي عبد الله (علیه السلام) فقال لي: يا رفاعة أما حججت العام، قلت: جعلت فداك ما كان عندي ما أحجّ به ولكنني عرّفت عند قبر الحسين (علیه السلام) فقال لي: يا رفاعة ما قصّرت عمّا كان أهل منى فيه، لولا أنّي أكره أن يدع الناس الحج لحدّثتك بحديث لا تدع زيارة قبر الحسين (علیه السلام) أبداً).

ومما تقدّم يتضح أن عشرة ذي الحجة محطة جديدة للتزوّد بالمعنويات اقتضت الألطاف الإلهية جعلها لعلم الله تعالى بأن الإنسان يغتر ويتراجع فيحتاج إلى شحنة جديدة تزيل الرين والقساوة عن قلبه بعد مرور شهرين على شهر رمضان، وان يوم عرفة لا ينحصر فضله وشرفه بمن كان على صعيد عرفات الطاهر وان كانوا اولئك يحظون بامتيازات ذلك المكان، الا ان عباد الله تعالى في كل أصقاع الأرض يحظون بشرافة الزمان وفضل العمل فيه كما سمعنا ما لزوّار الحسين (علیه السلام) من الكرامة.

ص: 45

وإذن يكون من الطبيعي جعل عيد الأضحى في نهاية هذا الموسم الكريم من الطاعة والعبادة كما يأتي عيد الفطر في نهاية موسم عبادي حافل في شهر رمضان.وعلى هذا فإن عيد الأضحى عيد جميع عباد الله الصالحين الذين فازوا بضيافة الله تعالى في هذا الزمان الشريف واستثمروا عروف هذه النفحات، ولا يختص بمن كانوا في المشاعر المقدسة.

ص: 46

خطاب المرحلة 345 :الذِكر زينة العيد

اشارة

خطاب المرحلة 345 :الذِكر زينة العيد(1)

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سادة خلقه أجمعين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين

الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، والحمد لله على ما أولانا.

من مستحبات العيد التزيّن، والمعنى المعروف منه هو التزيّن الظاهري الشكلي ولا بأس به، لكن أهل البيت (علیهم السلام) يدلّوننا على المعنى الحقيقي الواعي للتزين؛ روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله: (زيّنوا أعيادكم بالتكبير) وعنه (صلی الله علیه و آله): (زيّنوا العيدين بالتهليل والتكبير والتحميد والتقديس)(2). فذكر الله تعالى زينة العيد وأبرز مظاهره.

وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (أكثروا من التهليل والتكبير فإنه ليس شيء أحبَّ إلى الله من التكبير والتهليل)(3)، ويشرح الإمام (علیه السلام) معنى التكبير في رواية عن أحد أصحابه قال: (قال لي أبو عبد الله (علیه السلام): أي شيء الله أكبر؟

ص: 47


1- الخطبة الأولى لصلاة عيد الأضحى المبارك التي أقامها سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي دام ظله يوم الجمعة الموافق 26/ 10/ 2012.
2- ميزان الحكمة: 6/ 323، باب 2962.
3- ثواب الأعمال: 18، باب ثواب لا إله إلا الله، ح13.

فقلتُ: الله أكبر من كل شيء، فقال (علیه السلام): فكان ثَمَّ شيء فيكون أكبر منه؟ فقلت: فما هو؟ فقال: الله أكبر من أن يوصف)(1).وفي رواية أخرى (قال رجلٌ عنده: الله أكبر، فقال (علیه السلام): الله أكبر من أي شيء؟ فقال: من كل شيء، فقال أبو عبد الله (علیه السلام): حدّدته! فقال الرجل: وكيف أقول؟ فقال (علیه السلام): الله أكبر من أن يوصف).

لقد أولى القرآن الكريم قضية (الذِكر) أي ذكر الله تعالى اهتماماً بالغاً لأهميتها وعظيم آثارها، حتى أن هذه المفردة ومشتقاتها تكررت في عشرات الآيات، والملاحظ أن ورودها في الآيات المكية حوالي ثلاثة أضعاف الآيات المدنية تقريباً حيث كان القرآن المكي يركّز على بناء عقيدة التوحيد وعلاقة المسلم بالله تعالى ونبذ الشركاء والأنداد وتطهير القلب وتهذيب النفس.

قال تعالى: [وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ] (آل عمران:41) وقال تعالى: [وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ] (الأعراف:205) وقال تعالى: [وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ] (الكهف:24)، وقال تعالى: [فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ] (البقرة:152) وقال تعالى: [وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ] (البقرة:203)، وقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ] (الأحزاب:9)، وقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً] (الأحزاب: 41-42)، وقال تعالى: [وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (الجمعة : 10) وقال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ

ص: 48


1- الحديث والذي يليه في معاني الأخبار: 11

طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ] (الأعراف : 201) وقال تعالى: [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ] (آل عمران:191) وقال تعالى: [الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] (الرعد : 28) وقال تعالى: [إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ] (العنكبوت:45) وقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ] (المنافقون : 9) وقال تعالى: [وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً] (المزمل:8).وجاءت الأحاديث الشريفة لتؤكد هذه الأهمية، وتدعوا المؤمنين إلى ذكر الله تعالى على كل حال، ففي الخصال عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا علي سيد الأعمال ثلاث خصال: إنصافك الناس من نفسك، ومواساتك الأخ في الله عز وجل، وذكر الله تعالى على كل حال)، وروى الحسن بن علي (علیه السلام) قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): بادروا إلى رياض الجنة، فقالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حَلَقُ الذِكر)(1).

معنى ذكر الله على كل حال:

ونفهم من (على كل حال) عدة مستويات وكلها صحيحة ومستفادة من الآيات المتقدمة:

1-أي في كل زمان وفي كل آن، كما في الآية (41 من آل عمران) [بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ] و (الآية 205 من الأعراف) [بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ] عن أبي جعفر

ص: 49


1- معاني الأخبار: 321، أمالي الصدوق: 297، المجلس 58، ح2.

(ع) قال: (مكتوب في التوراة أن موسى سأل ربه فقال: إني أكون في حال أُجِلُّك أن أذكرك فيها، قال: يا موسى اذكرني على كل حال وفي كل أوان)(1).2-أي في كل وضع من أوضاع الإنسان قائماً وقاعداً وعلى جنوبهم كما في (الآية 191 من آل عمران) [قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ]، وعن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: (لا يزال المؤمن في صلاة ما كان في ذكر الله قائماً كان أو جالساً أو مضطجعاً إن الله تعالى يقول: [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ]).

3-في كل مكان وموضع كان فيه، عن الإمام الصادق (علیه السلام): (إن سمعت الأذان وأنت على الخلاء فقل مثل ما يقول المؤذن ولا تدع ذكر الله عز وجل في تلك الحال لأن ذكر الله حسن على كل حال) ثم ذكر (ع) المكتوب في التوراة أعلاه، وفي كتاب الخصال في حديث الأربعمائة قال أمير المؤمنين (علیه السلام): (اذكروا الله في كل مكان فإنه معكم، وقال (علیه السلام): (أكثروا ذكر الله عز وجل إذا دخلتم الأسواق وعند اشتغال الناس فإنه كفارة للذنوب وزيادة في الحسنات ولا تُكتبوا من الغافلين)(2).

4-في كل قضية تعرض لك وكل معاملة وكل قضية، فإن كان فيها رضا الله سبحانه فعلتها، وإلا تركتها، روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) قوله: (ألا أحِّدثك بأشد ما فرض الله عز وجل على خلقه، قلتُ بلى، قال، قال: إنصاف الناس من نفسك مواساتك لأخيك وذكر الله في كل موطن، أما إني لا أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر –وإن كان هذا من ذاك- ولكن

ص: 50


1- هذا الحديث وما بعده بحار الأنوار: 93/ 160.
2- الخصال: 2/ 614، باب الأربعمائة، ح10.

ذكر الله في كل موطن إذا هجمت على طاعته أو معصيته)(1). وفي حديث آخر عنه: (وذكر الله على كل حال فإن عرضت له طاعة لله عمل بها وإن عرضت له معصية تركها)(2)أمالي الطوسي: 279، المجلس (10) ح 532.(3).5-في كل حال من أحوال النفس من الغضب أو الرضا، والفرح أو الحزن، والغم والضيق أو الانشراح والسرور، روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: (يقول الله عز وجل: يا ابن آدم، اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب، ولا أمحقك في من أمحق)(3). وفي حديث: (إنما المؤمن الذي إذا غضب لم يخرجه غضبه من حق وإذا رضي لم يدخله رضاه في باطل وإذا قدر لم يأخذ أكثر مما له)(4).

6-أن يُعِدَّ لكل حالٍ ذِكره الخاص به، فللنعمة ذكر وللمصيبة ذكر وللقتال ذكر وللوضوء ذكر ولتناول الطعام ذكر وللنوم ذكر وللنكاح ذكر وللتخلي ذكر ولركوب السيارة ذكر، وهكذا، وهذا معنى شرحناه مفصلاً في كتاب (شكوى القرآن).

وخلاصة الوجوه أن معنى الذكر الكثير أن يكون الإنسان في جميع أحواله مطيعاً لله تبارك وتعالى، عن الإمام الصادق (علیه السلام) عن آبائه (ع) (قال النبي (صلی الله علیه و آله): من أطاع الله فقد ذكر الله وإن قلّت صلاته وصيامه وتلاوته، ومن عصى

ص: 51


1- معاني الأخبار: 192.
2- أمالي الطوسي: 88، المجلس
3- ، ح135.
4- الكافي: 2/ 183.

الله فقد نسي الله وإن كثرت صلاته وصيامه وتلاوته)(1).

جزاء الذكر وآثاره وفضل مجالس الذكر:

فضل مجالس الذكر: ومنها هذا الجمع المحتشد في صلاة العيد الذي نذكر فيه الله تعالى، وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة منها:-

1-عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: (ما جلس قومٌ يذكرون الله إلا ناداهم منادٍ من السماء: قوموا فقد بدّلتُ سيئاتكم حسنات وغفرت لكم جميعاً، وما قعد عدة من أهل الأرض يذكرون الله إلا قعد معهم عدة من الملائكة).

2-وروي أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) خرج على أصحابه فقال: (ارتعوا في رياض الجنة، قالوا: يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال: مجالس الذكر، اغدوا وروحوا واذكروا، ومن كان يحبّ أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده، فإن الله تعالى ينزل العبد حيث أنزل العبدُ اللهَ من نفسه، واعلموا أن خير أعمالكم عند مليككم وأزكاها وأرفعها في درجاتكم وخير ما طلعت عليه الشمس ذكر الله تعالى، فإنه تعالى أخبر عن نفسه فقال: أنا جليس من ذكرني).

3-وعن الإمام الصادق (علیه السلام) عن آبائه (ع) (أن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: ذاكر الله في الغافلين كالمقاتل في الفارّين والمقاتل في الفارّين نزوله الجنة)(2) فأكثر اجتماعات الناس تتخللها أحاديث فارغة لا جدوى منها، وقد تتضمن محرمات، فمن يلتفت حينئذٍ إلى ذكر الله تعالى يكون من أهل هذا

ص: 52


1- معاني الأخبار: 399.
2- المحاسن: 1/ 110، ح99.

الحديث.4-وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (البيت الذي يُقرأ فيه القرآن ويذكر الله فيه تكثر بركته وتحضره الملائكة وتهجره الشياطين ويضيء لأهل السماء كما تضيء الكواكب لأهل الأرض) ولتلافي الغفلة التي تحصل في بعض المجالس والأحاديث، فقد ورد استحباب أن يقول الشخص عند قيامه من المجلس: [سُبحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى المُرسَلِينَ، وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ].

جزاء الذكر وآثاره:

إن التوفيق لذكر الله تعالى من أعظم النعم على العبد، من دعاء الإمام السجاد (علیه السلام): (إلهي لولا الواجب من قبول أمرك لنزّهتك عن ذكري إياك، على أن ذكري لك بقدري لا بقدرك، وما عسى أن يبلغ مقداري حتى أُجعلَ محلاً لتقديسك، ومن أعظم النعم علينا جريان ذكرك على ألسنتنا) إلى أن يقول (ع): (وقلتَ وقولك الحق: [فَاذكُرُونِي أذكُركُم] فأمرتنا بذكرك ووعدتنا عليه أن تذكرنا تشريفاً لنا وتفخيماً وإعظاماً، وها نحن ذاكروك كما أمرتنا، فأنجز لنا ما وعدتنا، يا ذاكر الذاكرين)(1).

ومما ورد في كتاب الله تعالى من ثمرات الذكر وآثاره:

1-ذكر الله سبب لطمأنينة القلب وما أعظمها من نتيجة، قال تعالى: [الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] (الرعد : 28)،

ص: 53


1- مفاتيح الجنان: 206، المناجاة (13) مناجاة الذاكرين.

ومن آثار الطمأنينة الأُنس، عن أمير المؤمنين (علیه السلام): (ذكر الله ينير البصائر ويؤنس الضمائر) وعنه (علیه السلام): (ذاكر الله مؤانسه) وعنه (علیه السلام): (إذا رأيت الله سبحانه يؤنسك بذكره فقد أحبّك، وإذا رأيت الله يؤنسك بخلقه ويوحشك من ذكره فقد أبغضك).2-أنه سبب ليقظة القلب من غفلته، وحياته بعد قسوته، قال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ] (الأعراف : 201)، وعن أمير المؤمنين (علیه السلام): (من ذكر الله استبصر) وعنه (علیه السلام): (من كثر ذكره استنار لبّه) وعنه (علیه السلام): (دوام الذكر ينير القلب والفِكر).

3-إن الله تعالى يذكر من ذكره، قال تعالى: [فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ] (البقرة : 152)، وفي عدة الداعي: (يعني اذكروني بالطاعة والعبادة أذكركم بالنعم والإحسان والرحمة والرضوان، وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (قال الله تعالى: يا ابن آدم اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي، ابن آدم اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي، ابن آدم اذكرني في الخلاء أذكرك في خلاء، ابن آدم اذكرني في ملأ أذكرك في ملأ خير من ملأك، وقال: ما من عبد يذكر الله في ملأ من الناس إلا ذكره الله في ملأ من الملائكة)(1).

4-إن الذكر سبيل موصل إلى الله تعالى، قال تعالى: [إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً] (المزّمِّل : 19) (الإنسان:29)

أما الأحاديث الشريفة فقد ورد فيها الشيء الكثير:-

ص: 54


1- أكثر الأحاديث المذكورة نقلناها عن مصادرها بواسطة: بحار الأنوار: 93/ 148-175، وميزان الحكمة: 3/ 341-360.

1- إن الذكر يوجب محبة الله تعالى للذاكر، عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: (يا ربّ وددتُ أن أعلم من تحبُ من عبادك فأحبّه، فقال: إذا رأيت عبدي يكثر ذكري فأنا أذنت له في ذلك وأنا أحبُّه، وإذا رأيت عبدي لا يذكرني فأنا حجبته وأنا أبغضته)، وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) من أكثر ذكر الله أحبَّه).

2-وأن الله تعالى يتولى أمر الذاكر وجميع شؤون حياته في دنياه وآخرته، فكم يكون الإنسان سعيداً حينما يتولى شؤونه محبٌّ له شفيق عليه حكيم بأفعاله عالم بكل شيء إلى غيرها من الأسماء الحسنى، ففي بعض الأحاديث القدسية قال الله تعالى: (أيما عبدٍ اطلعتُ على قلبه فرأيتُ الغالب عليه التمسك بذكري تولّيتُ سياسته وكنتُ جليسَه ومحادثه وأنيسه)، وعن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: (قال الله سبحانه إذا علمت أن الغالب على عبدي الاشتغال بي نقلتُ شهوته في مسألتي ومناجاتي، فإذا كان عبدي كذلك فأراد أن يسهو حِلتُ بينه وبين أن يسهو، أولئك أوليائي حقاً، أولئك الأبطال حقاً، أولئك الذين إذا أردتُ أن أهلك أهل الأرض عقوبةً زيتها عنهم من أجل أولئك الأبطال)، وروي عن الإمام الصادق (علیه السلام) قوله: (إن الله تبارك وتعالى يقول: من شُغِل بذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي مَن سألني)، وروي فيما ناجى به موسى (علیه السلام) ربَّه عز وجل: (إلهي ما جزاء من ذكرك بلسانه وقلبه؟ قال: يا موسى أُظلُّه بظل عرشي وأجعله في كنفي)(1).

3-أنه يوجب الثواب العظيم فعنهم (سلام الله عليهم): (إن في الجنة قيعاناً

ص: 55


1- أمالي الصدوق: 173، المجلس (37) ح8.

فإذا أخذ الذاكر في الذكر أخذت الملائكة في غرس الأشجار فربما وقف بعض الملائكة فيقال له: لم وقفت؟ فيقول: إن صاحبي قد فتر، يعني عن الذكر)(1). وعن أحد الإمامين الصادقين (ع) قال: (لا يكتب الملك إلا ما أسمع نفسه وقال الله: [وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً] قال: لا يعلم ثواب ذلك الذكر في نفس العبد لعظمته إلا الله)(2).4-الذكر الطيب، عن أمير المؤمنين (علیه السلام): (من اشتغل بذكر الله طيّب الله ذكره)، ومن وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر قال: (عليك بتلاوة القرآن وذكر الله كثيراً فإنه ذكر لك في السماء ونورٌ لك في الأرض)(3).

5-يقيه الكثير من الحوادث، عن الإمام الصادق (علیه السلام): (إن الصاعقة لا تصيب ذاكراً لله عز وجل)(4).

6-في الذكر إعمار القلب وصلاحه وهذا القلب هو الذي ينجو صاحبه يوم القيامة، من وصية أمير المؤمنين (علیه السلام) لولده الحسن (علیه السلام): (أوصيك بتقوى الله أيْ بُني، ولزوم أمره، وعمارة قلبك بذكره) وعنه (علیه السلام): (وأصل صلاح القلب اشتغاله بذكر الله) وعنه (علیه السلام): (مداومة الذكر قوت الأرواح ومفتاح الصلاح) وعنه (علیه السلام): (من عمر قلبه بدوام الذكر حسنت أفعاله في السر والجهر).

ص: 56


1- بحار الأنوار: 93/ 162-164.
2- بحار الأنوار: 93/ 159، ح36.
3- معاني الأخبار: 334، الخصال: 2/ 525، أبواب العشرين وما فوقه، ح13.
4- أمالي الصدوق: 375، المجلس (71) ح3.

7-وبالذكر تحيى القلوب، روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله: (بذكر الله تحيى القلوب، وبنسيانه موتها)، وعن أمير المؤمنين (علیه السلام): (اذكروا الله ذكراً خالصاً تحيوا به أفضل الحياة وتسلكوا به طرق النجاة) وعنه (علیه السلام): (من ذكر الله سبحانه أحيى الله قلبه ونوّر عقله ولبّه).

8-وبه شفاء القلوب، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (ذكر الله شفاء القلوب)، وعنه (صلی الله علیه و آله): (عليكم بذكر الله فإنه شفاء، وإياكم وذكر الناس فإنه داء)، وفي دعاء كميل: (يا من اسمه دواء وذكره شفاء).

9-بالذكر يطرد الشيطان، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (إن الشيطان واضع خطمه –أي فمه- على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله سبحانه خنس، وإذا نسي التقم قلبه، فذلك الوسواس الخنّاس) وعن أمير المؤمنين (علیه السلام): (ذكر الله مطردة الشيطان) وعنه (علیه السلام): (ذكر الله رأس مال كل مؤمن، وربحه السلامة من الشيطان).

10-وأن في الذكر أماناً من النفاق، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): (من أكثر من ذكر الله فقد برئ من النفاق).

ولأمير المؤمنين (علیه السلام) خطبة جامعة في فضل الذكر والذاكرين قالها عند تلاوته (ع) قولَه تعالى: [رَجَالٌ لا تُلهِيهِم تِجَارَةٌ وَلا بَيعٌ عَن ذِكرِ اللهِ] قال (علیه السلام): (إن الله سبحانه جعل الذكر جلاءً للقلوب، تسمع به بعد الوَقْرة، وتُبصر به بعد العَشوة، وتنقاد به بعد المعاندة، وما برح للهِ عزّت آلاؤه في البرهة بعد البرهة، وفي أزمان الفترات، عبادٌ ناجاهم في فكرهم، وكلّمهم في ذات عقولهم، فاستصبحوا بنور يقظة في الأسماع والأبصار والأفئدة، يذكّرون بأيام

ص: 57

الله، ويخوّفون مقامه، بمنزلة الأدلّة في الفلوات، من أخذ القصد حمدوا إليه طريقه، وبشّروه بالنجاة. ومن أخذ يميناً وشمالاً ذمّوا إليه الطريق وحذّروه من الهلكة. وكانوا كذلك مصابيح تلك الظلمات وأدلة تلك الشبهات. وإن للذكر لأهلاً أخذوه من الدنيا بدلاً، فلم تشغلهم تجارة ولا بيع عنه، يقطعون به أيام الحياة ويهتفون بالزواجر عن محارم الله في أسماع الغافلين)(1).

من مصاديق الذكر الكثير:

1-تسبيح الزهراء (علیها السلام) عقب كل فريضة، عن الإمام الصادق (علیه السلام) في حديث يقول في آخره: (تسبيح فاطمة من الذكر الكثير الذي قاله عز وجل: [فَاذْكُرُونِي أَذكُركُم](2) وفي رواية أخرى عنه (علیه السلام): إنه (التسبيح في دُبُر كل صلاة ثلاثين مرة)(3).

2-وعن الإمام الصادق (علیه السلام) عن آبائه (صلوات الله عليهم وسلامه) قال: (قال النبي (صلی الله علیه و آله) من أطاع الله فقد ذكر الله وإن قلّت صلاته وصيامه وتلاوته، ومن عصى الله فقد نسي الله وإن كثرت صلاته وصيامه وتلاوته).

3-وعن الإمام الصادق (علیه السلام) في قوله تعالى: [اذْكُرُوا اللهَ ذِكراً كَثِيراً] قال (علیه السلام): (إذا ذكر العبد ربَّه في اليوم مائة مرة كان ذلك كثيراً)(4).

ص: 58


1- نهج البلاغة: ج2 ص211، الخطبة: 222.
2- معاني الأخبار: 194.
3- ميزان الحكمة: 3/ 344، ويحتمل أن المقصود به هنا (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله الأكبر).
4- بحار الأنوار: 93/ 160، ح38.

4-وعنه (علیه السلام) قال: (من ذكر الله في السر فقد ذكر الله كثيراً، إن المنافقين يذكرون الله علانية ولا يذكرونه في السر قال تعالى: [يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً] (النساء:142))(1).

خسارة الغفلة والإعراض عن الذكر:

قال تعالى: [وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى] (طه: 124-126)، وقال تعالى: [وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ] (الزخرف: 36) وقال تعالى: [وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ] (الحشر:19).

ومن الروايات المحذِّرة من الغفلة عن ذكر الله تعالى:-

1-روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله: (ما من ساعة تمرُّ بابن آدم لم يذكر الله فيها إلا حسِر عليها يوم القيامة)(2).

2-وفي عدة الداعي روى الإمام الصادق (علیه السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال: (ما من قوم اجتمعوا في مجلس فلم يذكروا الله ولم يصلّوا على نبيّهم (صلی الله علیه و آله) إلا كان ذلك المجلس حسرة ووبالاً عليهم).

ص: 59


1- بحار الأنوار: 93/ 160، ح41.
2- ميزان الحكمة: 3/ 344.

3-وفي تتمة الحديث السابق(1) عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (والبيت الذي لا يُقرأ فيه القرآن ولا يذكر فيه الله تقل بركته وتهجره الملائكة وتحضره الشياطين).

4-وروى الإمام الصادق (علیه السلام) عن أبيه (ع) قال: (أوحى الله تبارك وتعالى إلى موسى (علیه السلام): لا تفرح بكثرة المال ولا تدع ذكري على كل حال، فإن كثرة المال تنسي الذنوب وترك ذكري تقسي القلوب)(2).

5-عن أمير المؤمنين (علیه السلام) من (نسي الله سبحانه أنساه الله نفسه وأعمى قلبه)(3).

حقيقة الذكر:

قالوا: إن الذكر بمعنى الحفظ، إلا أن الاختلاف بينهما باللحاظ، فيقال الحفظ باعتبار إحراز المحفوظ، والذكر يقال اعتباراً باستحضاره.

وأقول: إنه تارةً يراد بالذكر معناه المصدري فيكون معناه حضور الشيء في القلب أو على اللسان، وتارة يراد به المعنى اسم المصدري، فيعبر عن قابلية عقلية وقلبية بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة.

والمعنى الحقيقي لذكر الله تعالى هو حضوره في القلب والالتفات إليه لأنه

ص: 60


1- مرّ الحديث في كلام سماحته في النقطة الرابعة من (فضل مجالس الذكر) وهو قول الإمام الصادق (علیه السلام): (البيت الذي يقرأ فيه القرآن ويذكر الله فيه تكثر بركته ..) الحديث.
2- الخصال: 1/ 39، باب الاثنين، ح23.
3- غرر الحكم : 8875.

الذي تتحقق به الآثار، أما حركة اللسان به فهي تعبير وكاشف عنه ومظهر ومبرز له، وليست ذكراً حقيقياً إلا من باب ذكر الدال وإرادة المدلول به، ولا تترتب الآثار المتقدمة عليه وحده.أترى لو أن إنساناً كان له حصن يحميه من عدوه فهل يكفيه أن يكرّر: أعوذ بهذا الحصن من عدوي لحمايته من العدو إذا هجم عليه، أم المطلوب الدخول فعلاً في الحصن، وهكذا كل الأذكار لها حقائق تترتب عليها الآثار ولا يكفي مجرد لقلقة اللسان، كما في الرواية عن أمير المؤمنين (علیه السلام) في نهج البلاغة لرجل قال بحضرته: أستغفر الله، فعلّمه الإمام (علیه السلام) حقيقة الاستغفار.

لكن الله تعالى بكرمه جعل ثواباً حتى على مجرد تحريك اللسان بالذكر وإن كان ليس ذا قيمة مقابل ما يقترن بالذكر القلبي، لذا لا ينبغي الالتفات إلى ما يقوله بعض الصوفية من أن الذكر باللسان دون حضور القلب لا قيمة له وتركه أولى، فهذا من تسويلات الشيطان؛ لأن لكل جارحة ذكراً، والذكر اللساني يحقق طاعة بمقداره ويصونه من استعماله في المعاصي اللسانية بمقداره أيضاً، وفيه إرغام للشيطان ولو بأدنى مستوياته فلا ينبغي تركه.

يقول السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) عن قيمة الذكر القلبي إنه ((من أعظم الرياضات التي توصل إلى المدارج والمقامات التي فوقه بلطف الله سبحانه. وإن من أفضل أشكال الذكر القلبي هو استحضار مضمون الأسماء الحسنى ذات المدلول الطيب أعني ليس من قبيل (شديد العقاب) و (ذو الانتقام) ونحوها، بل نحو (العظيم) و (الرحيم) و (الحليم) و (الغفور) و (الشكور) وغيرها.

ص: 61

ثم التفكير في الخلق الذي يرجع إلى مضمون مجموعة أخرى من الأسماء الحسنى كالخالق والرازق والمدبّر والمنعم والمعطي والحنّان والمنّان ونحوها.ثم التفكير في شأن الفرد أمام خالقه من القصور والجهل والذنب والتقصير وحسن الظن به تبارك وتعالى وكونه محل لطفه ونعمه وسبحانه ونحو ذلك))(1).

مجالس أهل البيت (علیهم السلام) من الذكر:

ومن حلق الذكر التي وصفتها الأحاديث الشريفة بأنها رياض الجنة: المجالس التي تعقد لذكر فضائل أهل البيت (علیهم السلام) ومصائبهم، وللوعظ والإرشاد وتعليم أحكام الشريعة، عن الباقر (علیه السلام) قال: (ليس من عبد يذكر عنده أهل البيت فيرق لذكرنا إلا مسحت الملائكة ظهره وغفر له ذنوبه كلها، إلا أن يجيء بذنب يخرجه من الإيمان)(2)، وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (شيعتنا الرحماء بينهم، الذين إذا خلوا ذكروا الله (إن ذِكرنا من ذكر الله) إنّا إذا ذُكرنا ذُكر الله وإذا ذُكر عدونا ذُكر الشيطان)(3).

ص: 62


1- قناديل العارفين: 148.
2- سفينة البحار: 3/ 207.
3- الكافي، ج2، باب تذاكر الإخوان، ح1.

خطاب المرحلة 346 :كيف نحول الحرام إلى حلال في حياتنا (المصارف الأهلية نموذجاً)

خطاب المرحلة 346 :كيف نحول الحرام إلى حلال في حياتنا(1) (المصارف الأهلية نموذجاً)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين.

إن كثيراً من المحرمات التي يرتكبها الإنسان في حياته لتحقيق رغبة الوصول الى هدف معيّن، يتمكن من تحصيل نفس النتائج بطريق محلل فتتحول نتائجها من التأثير السلبي إلى الإيجابي، لكنه لقلّة تفقّهه وعدم جدّيته في السير على وفق ما أراده الله تبارك وتعالى فإنه لا يوفّق لذلك ويتورط في المعاصي ويبتلي بآثارها في الدنيا والآخرة.

في رواية صحيحة عن عبد الرحمن بن الحجاج عن الإمام الصادق ع قال: (قلتُ له: أشتري ألف درهم وديناراً بألفي درهم، فقال: لا بأس بذلك، إن أبي كان أجرأ على أهل المدينة مني، فكان يقول هذا فيقولون: إنما هذا الفرار، لو جاء رجل بدينار لم يُعطَ ألف درهم، ولو جاء بألف درهم لم يُعطَ ألف دينار، وكان يقول لهم: نِعمَ الشيء الفرار من الحرام إلى الحلال)(2).

وفي رواية أخرى صحيحة عن الإمام الصادق تتحدث عن نفس الحالة، قال

ص: 63


1- الخطبة الثانية لصلاة عيد الأضحى المبارك يوم الجمعة الموافق 26/ 10/ 2012.
2- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 6، ح1.

عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (كان محمد بن المنكدر(1) يقول لأبي (ع): يا أبا جعفر رحمك الله، والله إنّا لنعلم أنك لو أخذت ديناراً والصرف بثمانية عشر فدُرتَ المدينة على أن تجد من يعطيك عشرين ما وجدته، وما هذا إلا فرارٌ، فكان يقول: صدقت والله ولكنه فرارٌ من باطل إلى حق)(2).فالإمام (علیه السلام) يقول لا بأس بمثل هذه المعاملة بأن يبيع ألف درهم وديناراً بألفي درهم، أي يكون مقابل الدينار ألف درهم مع أن سعر الصرف هو عشرة دراهم للدينار فتوهم المعترض أن نتيجته كالربا، إلا أن الإمام (علیه السلام) يقول: هذا شيء حسن أن تحصل على النتيجة المطلوبة بطريقة محللة وتفرّ من الوقوع في الحرام.

وفي معاملة أخرى يخفى أيضاً على غير المتفقه الفرق بين الحرام والحلال، لكن الإمام (علیه السلام) يبين له الفرق حتى يتعلم كيف يحوِّل المعاملات المحرمة إلى محللة ويقننها وفق الشريعة.

ففي رواية عن خالد بن الحجاج قال: (قلت لأبي عبد الله: الرجل يجيء فيقول: اشتر هذا الثوب وأربحك كذا وكذا، قال (علیه السلام): أليس إن شاء ترك، وإن شاء أخذ؟ قلت: بلى، قال: لا بأس به إنما يُحلُّ الكلام، ويحرِّم الكلام)(3).

فالبعض يتصور أنه لا يحق للشخص أن يأخذ ربحاً على البضاعة التي

ص: 64


1- قرشي تيمي من علماء العامة المعروفين عندهم أدرك جمعاً من الصحابة.
2- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 6، ح2.
3- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، باب 8، ح4.

يشتريها لشخص بناءً على رغبته أو طلبه والإمام (علیه السلام) يجيب أن هذه المعاملة لها حالتان، إحداهما محللة والأخرى محرمة، فالمحلّلة أن تشتري لنفسك بحيث يكون الآخر مخيّراً بين المضي في رغبته بالشراء أو عدمها ثم تبيعها له بالربح الذي تشاء، والمحرّمة أن تشتري وكالة عنه وبأمره بحيث يكون الشراء له وهو ملزم بأخذها لأنك مجرد وكيل له وهنا لا يجوز أخذ زيادة على ثمن شرائها.والفرق بين الحالتين هو صيغة الاتفاق كما هو واضح لذا عبَّر عنه (علیه السلام) بأن الذي يحلل ويحرّم هو الكلام أي صيغة الاتفاق على العقد باعتبار أن الكلام هو المعبِّر عن القصد.

هكذا كان الأئمة يفقّهون أصحابهم ويرشدونهم إلى ما يصحح سلوكياتهم على طبق الشريعة المقدسة، وكان الأصحاب يلجأون إليهم (سلام الله عليهم) ليعلّموهم كيفية تحصيل النتائج التي يريدونها بطريقة محللة؛ لأن الفاصل بين الحرام والحلال يكون أحياناً أدقّ من الشعرة وأخفى من دبيب النمل بين الصخور.

في رواية أن رجلاً (كتب إلى العبد الصالح –أي الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام)- يسأله أني أعامل قوماً أبيعهم الدقيق أربح عليهم في القفيز درهمين إلى أجل معلوم، وإنهم سألوني أن أعطيهم عن نصف الدقيق دراهم، فهل من حيلة لا أدخل في الحرام؟ فكتب إليه: أقرضهم الدراهم قرضاً وازدد عليهم في نصف القفيز بقدر ما كنت تربح عليهم)(1).

ص: 65


1- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، باب 9، ح7.

خلاصة المسألة أن هذا الشخص يبيعهم كمية من الطحين بالآجل ويزيد على سعره النقدي درهمين، وربما احتاج المشتري إلى شيء من المال فيبيع بعض الطحين الذي اشتراه على نفس البائع بسعر أقل، فكأن البائع حصل على فرق الدراهم وطحينه عنده، فيكون فيه شبهة خصوصاً إذا لم يُسلّم البائع هذا المقدار من الطحين إلى المشتري وإنما باعه واشتراه في الذمة فقط فعلّمه الإمام (علیه السلام) الطريقة التي ذكرها في الجواب.من هذه الروايات نتعلم درساً في أن نكون يقظين ملتفتين في تعاملاتنا حذر الوقوع في الحرام، وأن نتفقه في الدين ونسأل لنعرف كيفية التخلص من الحرام وتحصيل النتيجة من طريق الحلال.

أليس إن كثيراً من الذين يقيمون علاقات شرعية مع الجنس الآخر لقضاء وطره كان يمكنهم تحويل الحالة إلى حلال بإجراء العقد المنقطع عليها إذا لم يكن مانع منه، ولا يقعون في هذه المحرمات المشينة لو كان عندهم صدق وإخلاص وسؤال عن أمور دينهم، لذا ورد عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قوله: (لولا نهي فلان عن المتعة ما زنى إلا شقي).

ونريد الآن أن نستفيد من هذه الأفكار لمعالجة قضية حيوية واسعة الابتلاء من واقعنا المعاصر وهي البنوك الأهلية التي تعتمد في استرباحها على منح القروض الربوية للناس فيقع المتعاملون بها في هذا الرجس الخبيث الذي حرّمه الله تعالى ورسوله (صلی الله علیه و آله)، قال تعالى: [الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ] (البقرة:275) وقال تعالى: [يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ] (البقرة: 276).

ص: 66

ومما ورد في الربا رواية صحيحة عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (درهم ربا عند أعظم عند الله من سبعين زنية كلها بذات محرم في بيت الله الحرام)(1)، والعقوبة لا تختص بأكل الربا فقط وإنما تعمّ كل من ساهم فيه، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (الآخذ والمعطي سواء في الربا)(2) وروي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قوله: (لعن رسول الله ص الربا وآكله وبائعه ومشتريه وكاتبه وشاهديه)(3).ولا نريد هنا أن نتحدث عن أضرار الربا التدميرية في المجتمع لكثرة من كتب وتكلم في ذلك، حيث انهارت دول بسببه مصداقاً للحديث الشريف عن الإمام الصادق (علیه السلام): (إذا أراد الله بقومٍ هلاكاً ظهر فيهم الربا)(4).

ومن الشواهد القريبة ما حصل مؤخراً في الأزمة المالية التي بدأت بأمريكا عام 2009 وعصفت بأوربا ولا زالت دول –كاليونان- مهددة بالإفلاس، وبعد التحليل والدراسة اعترفوا بأن سبب المشكلة هي الفوائد الربوية، وقد وجدوا أن المصارف الإسلامية كانت بمأمن من هذه الأزمة رغم قساوتها؛ لذا تضاعف الإقبال على هذه المصارف حتى من غير المسلمين، بل دعت بعض الدول الغربية –كألمانيا- إلى اعتماد النظام الإسلامي في المصارف.

ص: 67


1- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الربا، باب 1، ح1، وفي كتاب من لا يحضره الفقيه: 4/ 367، ح5762.
2- ميزان: 3/ 425.
3- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الربا، باب 4، ح2.
4- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الربا، باب 1، ح17.

ونقول لأصحاب هذه المصارف أنه يمكنكم تقنين عملكم على وفق الشريعة فتتخلصون من هذا الإثم العظيم مع تحصيل نفس الفائدة، ونقدّم هنا طريقتين ليس فيهما أي تعب لأنهما تُنفّذان بالكلام فقط، وقد مرّ قول الإمام (علیه السلام): (إنما يُحلّ الكلام ويحرّم الكلام) وهما:(الأولى) إذا كان الزبون طالب المال يريد شراء عقار أو سيارة أو بضاعة ونحوها فبدلاً من أن يعطيه المصرف مليون دينار ويطالبه بمليون ومائة ألف دينار مثلاً ضمن أقساط معينة، يقوم المصرف بشراء البضاعة بمليون دينار ويبيعها بمليون ومائة ألف دينار على صاحب الطلب بالتقسيط الذي يريده المصرف وبالزيادة التي يطلبها.

(الثانية) إذا كان الزبون يريد مالاً فلا يتم قرضه مباشرة وإنما يبيعه عملة أخرى كالدولار أو اليورو بالآجل بزيادة النسبة التي يريدها ويشتريها منه نقداً، مثلاً أراد الزبون قرضاً مقداره ستة ملايين دينار وهي سعر (5000) دولار نقداً ويريد المصرف أن يحصل فائدة مليون دينار لمدة سنتين، فيقوم المصرف ببيع خمسة آلاف دولار بسعر سبعة ملايين دينار بالآجل وفق الجدول الزمني المقرّر، فيثبت هذا المبلغ في ذمة الزبون، والدولارات في ملكه ثم يشتريها المصرف منه بستة ملايين دينار نقداً فتعود الدولارات إلى المصرف ويحصل الزبون على المبلغ الذي أراده وهو ستة ملايين دينار ويبقى مديناً بالملايين السبعة للمصرف، والعملية لا تأخذ أزيد من دقيقة واحدة في القبض والإقباض.

إننا نرى من واجبنا نصح وإرشاد الناس وإنقاذهم من طاعة شياطين الجن والإنس وما يبتدعونه من الضلالات والعياذ بالله.

ص: 68

وهذه الحلول نقدّمها للتخلص من الحرام، والمطلوب منّا أكثر من ذلك وهو أن نفعل ما فيه رضا الله سبحانه من خلال القرضة الحسنة الخالية من الفائدة، والاسترباح من خلال العمل المثمر وأهم أفراده التجارة، أما الاسترباح من نفس المال من دون عمل فهو أمر مرجوح شرعاً حتى لو كان حلالاً، فالطريقة الأولى أفضل من الثانية، لذا كُرِه بيع الصرف وهو بيع العملات ببعضها.عن الإمام الباقر (علیه السلام): (إنما حرَّم الله عز وجل الربا لئلا يذهب المعروف)(1)، وعن الإمام الصادق (علیه السلام) –لمّا سأله هشام بن الحكم عن علّة تحريم الربا-: (أنه لو كان الربا حلالاً لترك الناس التجارات وما يحتاجون إليه فحرّم الله الربا لتفرّ الناس عن الحرام إلى التجارات وإلى البيع والشراء فيتصل ذلك بينهم في القرض)(2).

إن استيعاب النظام الإسلامي لهذه التعاملات وتقنينها وفق الأُطر الشرعية دليل على خلوده وقدرته على قيادة المجتمع البشري في كل حين وإدارة جميع شؤونه، بل له القدرة على التعايش مع النظم الوضعية حتى مع إقصائه عن قيادة المجتمع [قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ] (يونس : 58).

ص: 69


1- وسائل الشيعة: 12/ 425، ح10.
2- بحار الأنوار: 103/ 119، ح24.

خطاب المرحلة 347 :حول قرار الحكومة الاخير بالتعويض بمبلغ نقدي عن مفردات البطاقة التموينية

إننا مع الهدف المعلن لقرار الحكومة الاخير بتعويض المواطن عن مفردات البطاقة التموينية بمبلغ نقدي لمكافحة الفساد في هذا الملف وتحسين حال المواطن العراقي، وندعو الى تعميم هذه الحركة الى كل الملفات الاخرى اذا حققت الهدف المرجو منها.

الا ان هذا الهدف يبقى نظريا وحبراً على ورق ما لم يقترن بوضع آليات عملية وواقعية ومقدور عليها لتنفيذ هذا البرنامج الواسع والخطير.

وحينئذ تبرز امامنا عدة تساؤلات مثيرة للقلق: كيف سيتم إيصال هذه المبالغ الى شعب تعداده (34) مليون انسان وفي راس كل شهر؟

وما الذي يضمن عدم حصول الفساد في هذه الخطوة أيضا؟

وهل للمصارف القدرة على القيام بهذه العملية؟

وهل الحكومة قادرة على ضبط اسعار المواد الغذائية الاساسية في السوق وكبح جماح التجار والحد من جشعهم وتحكمهم في قوت المواطنين؟

وهل التجار قادرون على تلبية حاجة السوق؟

واذا كان البلد يشكو من تضخم بسبب حجم الكتلة النقدية المتداولة منذ سنين ولم تتم معالجة هذه المشكلة، فإلى أي مدى سيتفاقم الوضع بسبب ضخ

ص: 70

نصف تريليون دينار من العملة شهريا الى السوق؟وغير ذلك من التساؤلات المقلقة حقيقة وامامنا شواهد تشير الى عدم نجاح مثل هذه التجارب كالعيدية التي قررتها الحكومة للمواطنين او الوجبة الاضافية من الحبوب التي لم تصل حتى بعد العيد اللاحق، وبين ايدينا قرار منح الطلبة الجامعيين معونة دراسية وقد مرَّ عليه أشهر من دون ايجاد آلية للتوزيع مع أن عددهم لا يبلغ 1 من مجموع السكان.

إن الشعب قد تعوّد في مثل هكذا حالات أن يدفع ضريبة القرار من دون أن يصله ما وُعد به فترتفع الاسعار وتشح المواد وهو لم يقبض شيئا.

واذكر لذلك مثالا بسيطا الا انه طريف فقد كانت لجامعة الكوفة حافلات تنقل الطلبة من الباب الرئيسي الى كلياتهم ومؤسساتهم مجاناً، فلما صدر قرار المنحة فرضوا أجورا على الطلبة الذين مرّت عليهم أشهر ولم يستلموا شيئا.

فلابد اذن قبل تحديد موعد لتطبيق القرار مفاتحة كل الجهات المعنية حتى تقدّم تقارير حول قدرتها على التنفيذ، ولا مانع من تأجيل تطبيق القرار شهرين أو اكثر لاعطاء فرصة اوسع لتهيئة ظروف النجاح للتطبيق حتى يطمئن المواطن بأن القرار لصالحه، خصوصا وان الموعد المحدد 1/ 3/ 2012 يأتي بعد مدة قصيرة من انتهاء شهري محرم وصفر اللذين يستهلكان في شعائرهما مخزون الدولة من المواد الغذائية.

ونقدّم هنا بعض الافكار لإنجاح العملية:

اولا:- استثناء مادة الطحين من القرار ويبقى توزيعه بالبطاقات المعينة وبالسعر المقرر حاليا من دون تقليل مبلغ التعويض، لان الخبز اساس حياة

ص: 71

الانسان وتوزيع الطحين لم يعاني من المشاكل التي عانت منها مفردات البطاقة الاخرى ولم تتعثر انسيابية توزيعه طيلة هذه السنين الماضية، وان الانتاج المحلي من الحنطة والشعير يغطّي اكثر من حاجة المواطنين، فتحمل الدولة لهذه المادة عن كاهل المواطنين شيء اساسي.ثانيا:- مفاتحة المصارف لوضع آلية لفتح حسابات مصرفية لكل مواطن بحسب الرقعة الجغرافية لبطاقته التموينية ويوضع مبلع التعويض النقدي تلقائيا كل شهر في حساب المواطن، وبذلك سنتجنب الفساد في توزيع المبالغ، ونخفف من زخم المواطنين، ونتخلص من ضخ كتلة نقدية كبيرة الى السوق.

ثالثا:- وضع ضوابط اسعار السوق وتقديم التسهيلات للتجار، وارشادهم الى القيام بكل ما ينفع المواطن.

رابعا:- تهيئة المؤسسات الحكومية المعنية للقيام بدورها في الدخول الى السوق كمنافس قوي للحد من الاحتكار ورفع الاسعار فوق السعر الدولي المحدد، ولو بدعم بعض البضائع وتجهيز السوق بكميات كبيرة منها.

خامسا:- الاعلان عن اعتبار الموعد المعلن 1/ 3 غير نهائي وانه قابل للتمديد اذا لم تتم الاستعدادات الكاملة لانجاح العملية، وهذا الاعلان سيخفف الاحتقان والمخاوف والهلع، ويعطي مرونة في الاجراءات(1).

والله ولي التوفيق

محمد اليعقوبي _النجف الاشرف

23/ذ.ح/ 1433 - 8/ 11/ 2012

ص: 72


1- نجح هذا الضغط المرجعي والشعبي والإثارات الحقيقية المذكورة في إلغاء القرار والاستمرار بتوزيع مفردات البطاقة التموينية.

خطاب المرحلة 348 :أسبوع أمير المؤمنين ومعركة التأويل

خطاب المرحلة 348 :أسبوع أمير المؤمنين ومعركة التأويل(1)

هذا الأسبوع الذي يبتدى من عيد الغدير هو أسبوع أمير المؤمنين بامتياز –كما يقال- لكثرة ما حباه الله تبارك وتعالى من مناقب في هذا الأسبوع، ففي الثامن عشر كان حفل تنصيبه خليفة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وإماماً وهادياً للأمة بعده وأولى بالناس من أنفسهم وأمر النبي (صلی الله علیه و آله) المسلمين ببيعته (ع) على ذلك، وهو عيد إكمال الدين وإتمام النعمة.

وفي الرابع والعشرين كانت مباهلة النبي (صلی الله علیه و آله) نصارى نجران بنفسه الشريفة وبأمير المؤمنين (علیه السلام) وبفاطمة الزهراء والحسن والحسين (علیه السلام) ونزول آية المباهلة في حقهم.

وفيه أيضاً أدخلهم النبي (صلی الله علیه و آله) تحت كسائه ونزل جبرئيل بآية التطهير.

وفيه تصدّق أمير المؤمنين بخاتمه للسائل أثناء الركوع فنزلت آية {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}(المائدة55).

وفي الخامس والعشرين نزل في حقهم (ع) سورة هل أتى لما تصدقوا بإفطارهم على المسكين واليتيم والأسير.

ص: 73


1- الخطبة الموحّدة لصلاة الجمعة يوم 24/ذ.ح/1433 المصادف 9/ 11/ 2012 وقد تحدّث بها سماحة الشيخ اليعقوبي من قناة النعيم الفضائية.

وفي هذا الأسبوع بعد خمس وعشرين سنة بويع لأمير المؤمنين (علیه السلام) بالخلافة بإجماع الأمة بعد حصار عثمان في الثامن عشر ومقتله(1).وبذلك فقد شهد هذا الأسبوع البيعة الواقعية والظاهرية لأمير المؤمنين كي يتولى أمور الأمة.

ولما كان هذا الأسبوع لأمير المؤمنين (علیه السلام)، فإنه يكون اسبوعاً لكل ما كان يتصف به أمير المؤمنين (علیه السلام) من صفات الكمال، ولكل ما كان لعلّي (ع) من حقوق على الأمة، ولكل ما كان يمثله أمير المؤمنين (علیه السلام) من منازل ومواقع ومقامات، فهو أسبوع الولاية والإمامة والخلافة الإلهية والقيادة الربانية للأمة وللبشرية جمعاء.

لذا اقترحتُ في يومٍ ما قبل سنين أن يكون اسبوعاً للنزاهة وللعدالة وللمساواة ولإنصاف المظلومين ولاسترداد ما نهب من المال العام وللقضاء على الفساد المالي والإداري وخلع المتصدين للمواقع بغير حق وتعيين المؤهّلين فيها، لأن هذه المعاني كلها وغيرها جسّدها أمير المؤمنين (علیه السلام) عندما تولى الخلافة.

وهو أسبوع بيان عظمة أهل البيت (علیهم السلام)، وعلّو منزلتهم ومقامهم التي كشفت عنها السور والآيات الكريمة النازلة فيهم بسورة هل أتى، وآية التطهير، وآية الولاية {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}(المائدة55)، وآية التبليغ {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ

ص: 74


1- من مصادر هذه الحوادث كتاب (وقائع الأيام للشيخ عباس القمي ص137- 139).

اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}(المائدة67) وآية إكمال الدين وإتمام النعمة [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً] (المائدة3).وهو أسبوع التصدق على الفقراء والمساكين ومواساتهم وإشعارهم بكرامتهم إلى حد إيثارهم على النفس كما فعل أمير المؤمنين (علیه السلام) والزهراء (علیها السلام) والحسن والحسين (عليهم السلام جميعاً).

ومن أهم ما يميّز امامته (علیهم السلام) جهاده وقتاله على التأويل كما قاتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) على التنزيل، أي أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قاتل العرب حتى يذعنوا للرسالة ويؤمنوا بأصل التوحيد والنبوة وعلى صدق ما جاء به رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى دخلوا الإسلام طوعاً أو كرهاً.

أما بعد وفاته (صلی الله علیه و آله) فقد بدأت معركة التأويل، وهي معركة ضد من أرادوا أن يحرّفوا الكلم من بعد مواضعه ويتكلموا في كتاب الله بغير سلطان أتاهم ويغيّروا السنن ويظهروا البدع، ويحرموا ما أحلّ الله ويحلّوا ما حرّم الله، ويبعدوا من قرّب الله ويقرّبوا من بعّد الله، ويولّوا أمور الأمة من يتّخذ مال الله دولاً وعباده خولاً ويحكم بغير ما أنزل الله تعالى وهم مع كل ذلك يدّعون الإسلام وينتسبون إليه.

وهذه المعركة كان يشير إليها رسول الله (صلی الله علیه و آله) في حياته ويعلن أن قائدها سيكون علي بن أبي طالب (علیهما السلام)، وهو حديث رواه العامة والخاصة عن طريق جمع غفير من الصحابة، ففي مستدرك الصحيحين، روى الحاكم بطريقين عن أبي سعيد قال (كنّا مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) فانقطعت نعله، فتخلّف علي (علیه السلام)

ص: 75

يخصفها فمشى قليلاً ثم قال: إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، فاستشرف لها القوم وفيهم أبو بكر وعمر، قال: أبو بكر: أنا هو؟ قال: لا، قال عمر: أنا هو؟ قال: لا، ولكن خاصف النعل يعني علياً (ع)، فأتيناه فبشرناه فلم يرفع به رأسه كأنه قد كان سمعه من رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال الحاكم: هذا حديث صحح على شرط الشيخين).(1)وقد نظمها الصحابي الجليل عمار بن ياسر (رضوان الله تعالى عليه) في شعره الذي كان يرتجز به في معركة صفين التي استشهد فيها، فكان من رجزه:

نحن ضربناكم على تنزيلهفاليوم نضربكم على تأويله

هذا الاستحقاق لأمير المؤمنين أعطى تفسيراً للقول المشهور عنه (علیه السلام) (جمعت علوم القرآن في سورة الفاتحة: وجمعت علوم الفاتحة في البسملة، وجمعت علوم البسملة في الباء، وجمعت علوم الباء في النقطة وأنا تلك النقطة)، وحاصل التفسير أن الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة تكون قابلة للتأويل والتحريف والتلاعب والتزوير وافراغها من معانيها كما عبَّر (ع) عن القرآن بأنه (حمّال ذو وجوه) الا أن يقوم العالم بالقرآن والعارف بأسراره ومعانيه بإيضاح الحقائق، ووضع النقاط على الحروف كما يقال... لأن الحروف تتشابه في الهيئات كالباء والتاء والثاء والياء والنون، وإنما يميز بينها وضع النقطة على الحرف، فكما أن وضع النقطة هو الذي يعطى للحرف معناه، كذلك أمير

ص: 76


1- مستدرك الصحيحين: 3/ 122، كتاب معرفة الصحابة، مناقب علي بن أبي طالب (علیهما السلام)، وراجع لمعرفة مصادر الحديث في صحاح العامة وكتبهم: فضائل الخمسة من الصحاح الستة: 2/ 425- 431.

المؤمنين هو الذي يبيّن حقائق التنزيل ويضع الأمور في نصابها ويرجع كل شيء إلى حقيقته وهو معنى التأويل.ولولا ذلك الدور الذي قام به أمير المؤمنين (علیه السلام) لكانت تفاصيل العقائد والأحكام مجملة ومبهمة مما يفسح المجال واسعاً لأن يقوم كل أحد بتأويلها حسب مشتهياته وأهوائه، وهذا حال من لم يرجع إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) ليعرف تأويل المتشابهات (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (آل عمران/7).

إن معركة التأويل هي المعركة الأصعب التي تزلّ فيها الأقدام وتضلّ فيها العقول لأن الخصوم يلبسون نفس الثوب أي ثوب الدين ويدّعون لأنفسهم نفس الهالة من العناوين والألقاب والمقدّسة، وكلٌ يدّعي وصلاً بصاحب الرسالة والمشروع، ويضفي على حركته المشروعية ويستدل على أحقيته من نفس المصادر، فهناك تختلط الأوراق وتعصف الفتن وتكثر الشبهات.

وهذا الذي حصل بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) مباشرة حينما انقلبوا على الأعقاب وكان أثمن قربان يقدَّم في تلك المعركة هي فاطمة الزهراء (علیها السلام)، وعندما تولّى أمير المؤمنين (علیه السلام) الخلافة فنكث البيعة قوم لهم عناوين كبيرة وقريبو الصلة برسول الله (صلی الله علیه و آله)، ثم قسط آخرون ومرق فريق ثالث ووقف على الحياد فريق رابع، لكن الصفوة الذين وعوا رسالة الإسلام واتبعوا تعاليم النبي (صلی الله علیه و آله) حقيقة كانوا ثابتين على الحق ولهم رؤية واضحة كعمار بن ياسر الذي كان يقاتل في صفين ويقول (والله لو هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا

ص: 77

أنا على الحق وأنّهم على الباطل).(1)هذه المعركة التي مزقت بأحزانها وآلامها قلب أمير المؤمنين (علیه السلام) وملأته قيحاً وجعلته يتمنى الموت ويجده حرياً وجديراً به.

إن معركة التأويل ليست مختصة بزمان أمير المؤمنين (علیه السلام)، بل هي مفتوحة في كل زمان ومكان، روي عن أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) قال (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين كما ينفي الكير(2) خبث الحديد).(3).

وليس هذا فحسب بل انها تتعقد أكثر وتضيق حلقة البلاء وتشتد، فبعد أن كانت بين أئمة أهل البيت (علیهم السلام) واتباعهم من جهة وبين الحكام المنحرفين والسائرين في ركابهم واتباعهم من العامة من جهة أخرى، تطوّرت لتكون داخل مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) بين من واصلوا إتّباعَ الأئمة (علیهم السلام) الاثني عشر واحداً بعد واحد وهم الإمامية وبين من انشق عنهم ليؤسس فرقاً عديدة، ثم ضاق البلاء واشتدّ الامتحان أكثرفي الدائرة الأخيرة بين مستحق نيابة المعصوم (علیهم السلام) وبين من يتقمصها ويدعيها بغير حق، وفي كل دائرة كان يفشل جمع كبير ويسقط في الامتحان وهذا مصداق حديث الإمام الباقر (هيهات هيهات، لا يكون فرجنا حتى تغربلوا ثم تغربلوا ثم تغربلوا، يقولها ثلاثاً حتى

ص: 78


1- الاستيعاب لابن عبد البر: 2/ 423 ترجمة عمار بن ياسر.
2- وهو الزقّ الذي ينفخ فيه الحداد.
3- سفينة البحار 1/ 204.

يذهب الله تعالى الكدر ويبقى الصفو).(1)وحديث الإمام الكاظم (علیه السلام) لإبراهيم بن هلال (أما والله يا أبا إسحاق، ما يكون ذلك – أي الفرج بظهور الإمام (علیه السلام) –حتّى تُميّزوا وتُمحَّصوا، وحتى لا يبقى منكم إلاّ الأقل).(2)

وظاهر الرواية أن الخطاب موجّه فيها إلى الشيعة.

ولأهمية هذه المعركة وخطورة آثارها وتداعياتها على الدين وعلى المجتمع فقد ورد التحذير الشديد من التقصير فيها، في كتاب المحاسن للبرقي بسنده عن أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) عن آبائه (ع) (قال: قال (علیه السلام) إن العالم الكاتم علمه يبعث أنتن أهل القيامة ريحاً تلعنه كل دابة حتى دواب الأرض الصغار).(3)

وفيه روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله (إذا ظهرت البدعة في أمتي فليظهر العالم علمه فإن لم يفعل فعليه لعنة الله).(4)

وفي التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري (علیه السلام) عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (إذا كتم العالم العلم أهله، وزهد الجاهل في تعلم ما لابد منه، وبخل الغني بمعروفه، وباع الفقير دينه بدنيا غيره جلّ البلاء وعظم العقاب) وهذا الحديث يلخّص لنا باختصار أسباب ما نحن فيه من البلاء والمحنة.

ص: 79


1- كتاب الغيبة للشيخ الطوسي (قده): 206.
2- كتاب الغيبة للنعماني: 208، باب12، ح14.
3- المحاسن: 231 باب 17 ح 176.
4- المحاسن: 231 باب 17 ح 177.

إن سلاح هذه المعركة هي المعرفة بالله تبارك وتعالى وطاعة رسوله الكريم (صلی الله علیه و آله) وولاية أهل البيت (علیهم السلام) وإتّباع المراجع العالمين المخلصين والتفقه في الدين والبصيرة في الأمور، والحكمة في التصرف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان الحقائق وتجلية المواقف، وتصحيح المفاهيم الخاطئة، وإصلاح المناهج والسلوكيات المنحرفة.فهي إذن ليست وظيفة مراجع الدين والعلماء والحوزة العلمية فقط، وإنما يقع على كل فرد في المجتمع جزء من المسؤولية بحسب موقعه ومؤهلاته وما يتوفر لديه من أدوات المواجهة التي ذكرناها كما يظهر من رواية تفسير العسكري (علیه السلام) المتقدّمة، فبعضهم بعلمه وآخر بماله وثالث بنفوذه ووجاهته، والجميع مطالبون بمشاركتهم في كل عمل وحركة لله تعالى فيها رضا وللأمة فيها صلاح، والله ولي التوفيق.

ص: 80

خطاب المرحلة 349 :الإصلاح: رسالة الإمام الحسين (علیه السلام)

خطاب المرحلة 349 :الإصلاح: رسالة الإمام الحسين (علیه السلام)(1)

الحسين (علیه السلام) وارث الأنبياء جميعاً بحسب ما نطقت به الزيارة المشهورة المروية عن الأئمة (علیهم السلام) والمعروفة بزيارة (وارث) وعنده اجتمعت رسالات الأنبياء جميعاً {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً}الأحزاب39.

وماذا كانت رسالات الأنبياء، لقد لخّصها نبي الله شُعيب (ع) في قوله تعالى (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (هود/88)، هذه هي رسالة الأنبياء جميعاً (الإصلاح) وان تنوعت آليات عملهم واختلفهم شرائعهم من حيث الاجمال والتفصيل، لكن ما أجمله النبي السابق فصّله النبي اللاحق، وما فصّله النبي اللاحق يرجع في أصوله إلى ما أجمله السابق (صلوات الله عليهم أجمعين).

واختتمت هذه الرسالات برسالة الإسلام التي بلّغها النبي (صلی الله علیه و آله) وواصلها من بعده أمير المؤمنين (علیه السلام) (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) (المائدة/67) يقول أمير المؤمنين (علیه السلام) (اللهم انك تعلم أنه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول

ص: 81


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من المبلغين والخطباء ومرشدي الحجاج في مدينة كربلاء المقدسة يوم الخميس 30/ذ.ح/1433 الموافق 15/ 11/ 2012.

الحطام، ولكن لنردّ المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطّلة من حدودك)(1).فهدف الأنبياء والأئمة (صلوات اللهم عليهم) هو (الإصلاح) ولما كان الإمام الحسين (علیه السلام) قد ورثهم جميعاً فمن الطبيعي أن تكون رسالته (ع) ومشروعه هو (الإصلاح) وقد عبّر (ع) عن ذلك صريحاً في خطاباته التي عرّف من خلالها بأهداف خروجه المبارك، وسجّله في وصيته التي دوّنها وختمها وأودعها عند أخيه محمد بن الحنفية، ومما جاء فيها (إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي (صلی الله علیه و آله) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب (علیهما السلام).(2)

ومن خطبته على الحر الرياحي وأصحابه لمّا وصل (البيضة) قوله (علیه السلام) (ألا وأنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من غيّر).(3)

ويظهر من كلمة أمير المؤمنين (علیه السلام) وولده الإمام الحسين (علیه السلام) التواصل والتطابق في الهدف، وإنّ الاصلاح الذي سعى إليه المعصومون (علیهم السلام) وتحمّلوا مسؤوليتهم وبذلوا وسعهم لتحقيقه هو مشروع متكامل لا يختص

ص: 82


1- نهج البلاغة الخطبة 131.
2- بحار الأنوار: 44/ 329.
3- تاريخ الطبري: 4/ 605، الكامل في التأريخ: 3/ 280.

بالأمور الدينية (أي الوعظ و الإرشاد وتعليم أحكام الدين وإن كان هذا هو الأساس) بل يشمل نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية، فيقضي على الفساد المالي والإداري ومنع الاستئثار بالأموال العامة وحرمان الشعب من حقوقهم، وإقامة النظام العادل الذي ينصف الناس جميعاً وينتزع حق المظلوم من ظالمه، ويطبّق الحدود والقوانين.وإنّما يتم الصلاح ويكمل ويبلغ غايته عندما تصلح قيادتاه الدينية والسياسية، وتفسد الأمة إذا فسدت مؤسسته الحاكمة ولم تقم القيادة الدينية بواجباتها ومسؤولياتها، روي عن الإمام الباقر (علیه السلام) أنّه قال (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل: يا رسول الله ومن هما؟ قال: الفقهاء والأمراء).(1)

ومن دون مباشرة هذا المدى الواسع من الإصلاح تبقى حركته محدودة ومحجّمة وربما تذوب تدريجياً، تصوروا لو أن دعوة النبي (صلی الله علیه و آله) إلى الإسلام بقيت في حدود مكة وتحت قبضة وبطش طواغيت قريش فإن المؤمنين بها سوف لا يزيدون عن العشرات الذي آمنوا فقتل بعضهم وهُجِّر البعض الآخر إلى الحبشة وحوصر النبي (صلی الله علیه و آله) ومن معه في شعب أبي طالب (علیهما السلام) لكنّ النبي (صلی الله علیه و آله) كان يسعى لتوسيع دعوته وعرض نفسه على قبائل العرب حتى بايعه نفر من الأوس والخزرج في بيعة العقبة الأولى وأخذ منهم المواثيق على الطاعة والنصرة في بيعة العقبة الثانية وأرسل معهم الشهيد مصعب بن عمير لتعليمهم الدين ثم هاجر (صلی الله علیه و آله) وأسس دولته المباركة لينشر الإسلام العظيم

ص: 83


1- الخصال: 36 باب الاثنين.

إلى كل الدنيا.أما ما دأبت عليه مرجعيات كثيرة على مدى قرون ومقلّدوهم من الإنزواء والانكماش والسلبية والعزوف عن العمل بالآليات الممكنة لإيجاد بيئة مشجّعة على الدين والصلاح فإنه تقصير غير مبرَّر وله عواقب وخيمة فلابد من استثمار كل فرصة لإيجاد هذه البيئة بل صنع الفرصة لها وليس انتظارها لاستثمارها.

لذا لم يجد الإمام الحسين (علیه السلام) لنفسه عذراً في القعود عن تصحيح وضع السلطة الحاكمة ومعالجة انحرافاتها بكل ما أتاه الله، فجاد بنفسه الشريفة وبأهل بيته وأصحابه، وعَرَّض حُرَمَ رسول الله (صلی الله علیه و آله) للسبي بيد الأعداء من بلدٍ إلى بلد، وكان يمكنه الاكتفاء بموقعه الديني وامتيازاته التي يحظى بها في المجتمع ويكتفي بالحد الأدنى من العمل، لكنّه (ع) وهو سبط رسول الله (صلی الله علیه و آله) وريحانته ووارثه، أصرَّ على اللحاق بركب جده المصطفى (صلی الله علیه و آله)، قال (علیه السلام) في خطبته على الحرّ وجيشه (أيّها الناس، إنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله): قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله (صلی الله علیه و آله) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعلٍ ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله).

وهذا بابٌ ينفتح منه ألفُ باب للحديث عن علاقة العلماء بالسلطة ودورهم في العملية السياسية وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وموقع الأمة من كل ذلك وغيره مما لا يسع الحديث لبيان تفاصيله الآن.

ولابد لمن يتصدى لهذه المسؤولية أن يبدأ بإصلاح نفسه ويجعل من نفسه فرداً صالحاً قال تعالى (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)

ص: 84

(الرعد/11)، وقد دلّنا أمير المؤمنين (علیه السلام) على آليات الإصلاح في ميدان النفس وعناصر النجاح في هذه العملية فهي تحتاج أولاً وقبل كل شيء إلى توفيق من الله تعالى، قال (علیه السلام) (التوفيق قائد الصلاح).(1)ثمّ إلى تقوى من العبد، قال (علیه السلام): (التقوى مفتاح الصلاح).

وإلى مداومة على ذكر الله تعالى، قال (علیه السلام): (أصل صلاح القلب اشتغاله بذكر الله)، وقال (علیه السلام): (مداومة الذكر قوت الأرواح ومفتاح الصلاح).

وتحتاج إلى مجاهدة للنفس لضمان الاستمرار على العناصر المتقدمة والمحافظة عليها، قال (علیه السلام) (في مجاهدة النفس كمال الصلاح).

وهناك خطوات عملية تساعد على إصلاح الباطن، منها:

1-مصاحبة المؤمنين الأخيار الصلحاء، قال (علیه السلام): (أكثرُ الصلاح والصواب في صحبة أولي النهى والألباب).

2-مداراة الناس والرفق بهم واللطف معهم، قال (علیه السلام): (الرفق لقاح الصلاح وعنوان النجاح، وقال (علیه السلام) عوّد نفسك السماح وتجنّب الإلحاح يلزمك الصلاح).

3-تجنب معاشرة أهل الدنيا والغفلة عن الله تبارك وتعالى، قال (علیه السلام) في اعتزال أبناء الدنيا جِماع الصلاح).

4-عدم الاكثار من المباحات ككثرة الطعام والشراب والنوم ونحوها قال (علیه السلام): (إذا ملئ البطن من المباح عمي القلب عن الصلاح).

ص: 85


1- الحديث وما بعده في غرر الحكم وصفحاتها على الترتيب 25، 41، 160، 661، 469، ثمّ 162، 79، 449، 471، 170، 310، 365.

5-تجنّب الصفات المذمومة كالكذب وإيذاء الناس، قال (علیه السلام): (أبعد الناس عن الصلاح الكذوب وذو الوجه الوقّاح).

6-محاسبة النفس وتدارك ما فاته من تقصير وخلل وردّ المظالم إلى أهلها وقضاء ما فات، قال (علیه السلام): (حسن الاستدراك عنوان الصلاح).

هذه هي رسالة الإمام الحسين (علیه السلام) وارث الأنبياء، فمن أحبَّ نصرته في كل زمان ومكان واللحاق بأصحابه فليمضي على ما مضى عليه (ع) وليدخل السرور على قلبه الشريف بالسعي الحثيث لتحقيق الهدف من رسالته، على هذا النحو من الوعي وهذه المعرفة.

لكن مع الالتفات إلى ما نبهنا عليه مراراً من الدعوة إلى هذا المستوى من فهم النهضة الحسينية، لا يعني إلغاء الأنماط الأخرى من التعاطي معها كالشعائر التي يؤديها عامة الناس ما دامت منضبطة بالحدود الشرعية.

لأن لكل فئة مستواها من التربية والسير في طريق الكمال، ولا يحق لأحد أن يسقط الآخر.

والله ولي التوفيق، وهو نعم المولى ونعم النصير.

ص: 86

خطاب المرحلة 350 :توجيهات حول خروج النساء مشياً إلى كربلاء من مسافات بعيدة أياماً عديدة

اشارة

خطاب المرحلة 350 :توجيهات حول خروج النساء مشياً إلى كربلاء من مسافات بعيدة أياماً عديدة(1)

بمناسبة قرب زيارة الأربعين وانطلاق مواكب المشي على الأقدام من أنحاء العراق الى كربلاء لزيارة الإمام الحسين (علیه السلام)، فقد وجّه سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) النساء المؤمنات التوّاقات للتأسّي بالسيدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) وأبنتها العقيلة زينب (علیها السلام) والراجيات شفاعتهنّ إلى أن يمتنعن عن الخروج مشياً على الأقدام إلى زيارة الإمام الحسين (علیه السلام) اذا كان يستلزم مخالفة شرعية –كعصيان الزوج-، أو لم تأمن المرأة من الوقوع في المخالفة أو التسبّب فيها كالذي سنشير إليه في حالة كون خروجهن من مسافات طويلة تتطلب أياماً من المسير في البوادي والقفار مما يتطلب المبيت في اماكن لا يعرفونها مسبقاً كالذي يحصل للسائرين من المحافظات جنوب العراق.

وقد أجمع الفقهاء على حرمة خروج المرأة من بيتها إذا استلزم مخالفة شرعية.

وقال سماحته في بيان مبرّراً الامتناع :

إنّ المعروف و المروي عن سيرة نساء اهل البيت (علیهم السلام) خصوصاً السيدة

ص: 87


1- صدرت التوجيهات يوم 26 محرم 1434 المصادف 11/ 12/ 2012.

فاطمة الزهراء (علیها السلام) والعقيلة زينب (علیها السلام) هو القرار في البيوت التزاماً بقوله تعالى {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} (الأحزاب : 33)، والاحاديث الشريفة المتواترة التي تحث المراءة المسلمة على ذلك، بحيث يُروى ان العقيلة زينب (علیها السلام) كانت اذا ارادت الخروج لزيارة جدّها (صلی الله علیه و آله) وأمها الزهراء (علیها السلام) كان يحوطها أبوها امير المؤمنين (علیه السلام) وأخواها الحسن والحسين (علیه السلام) ويطفئ الامام قناديل المسجد لئلا يُرى شخصها مع هذه العناية التامة. علماً أن بيت أمير المؤمنين (علیه السلام) ملاصق للمسجد النبوي الشريف.واذا الجأتهن الضرورة لخروج او سفر فانه يكون بحشمة ووقار وحماية رجالهن الشجعان الغيارى، ويخرجن راكبات في هوادج كما خرجت العقيلة زينب والهاشميات مع الامام الحسين (علیه السلام) واخوته وشباب بني هاشم.

ولم يبرزن امام الرجال الاجانب ماشيات على الاقدام حتى لو كن بحجابهن، والذي حصل لهن من الظهور أمام الاجانب في الاسر بعد يوم عاشوراء كان قهراً عليهن وبفعل لئام الامويين، وليس فعلاً اختيارياً لهن حتى تتأسى به النساء المؤمنات المواليات .

فخروج النساء بالشكل الذي نراه من المدن البعيدة في البوادي و القفار، والمبيت في بيوت ناس لا يعرفونهم وقد يكون بعضهم من المندسين المتسترين باسم الإمام الحسين (علیه السلام) في هذا الزمان الذي كثرت فيه الذئاب و الوحوش بهيئة الانسان، مخالف لأدب الشريعة ولا يرضى به الامام الحسين (علیه السلام) قطعاً ولا السيدة الزهراء (علیها السلام) ولا العقيلة زينب (علیها السلام).

ومع تقديرنا وافتخارنا بحجاب اخواتنا المؤمنات وعفافهّن وحرصهن البالغ

ص: 88

على المحافظة على اوامر الشريعة مما نشاهده على الشاشات ونباهي العالم به، وعميق ولائهن لأهل بيت النبوة مما يولد حماساً واندفاعاً للقيام بكل ما يوصف بان فيه تأسياً بهم (سلام الله عليهم)، الا ان المشكلة ليست من جهتهن، وانما من جهة الظروف المحيطة بهذه الحركة، ونحن حينما نتخذ موقفاً معيّناً نلحظه من جميع الجهات بحسب ما يّيسره الله تعالى .ويضاف الى هذا ما شاهدناه وما سمعنا به من امور يأباها الشارع المقدس، نذكر بعضها في نقاط :

1- إنّ مثل هذه الرحلة الطويلة ومبيتهنّ في دور الغرباء تتطلب رعاية خاصة للمرأة وتوفير احتياجاتها – كالمنام وقضاء الحاجة- مما يجعلها في حاجة للرجال وهم أجانب، وقد تتعرض خلال رحلتها لبعض ذوي النفوس المريضة، إذ ليس كل الناس من الملائكة، فتحصل فتنة وظروف مريبة، وكثيراً ما يُسبّب وجودهنّ قلقاً وجهداً إضافياً لأصحاب الدور المضيّفة لمواكب المشاة على الطريق حتى يخرجوا بسلام من عهدة هذه الأمانة الثقيلة.

2- إنّ غيابهنّ عن بيوتهنّ وأطفالهنّ ومن يحتاج إلى رعايتهنّ هذه المدّة يؤدي إلى التقصير في وظائفهنّ وكثيرا ما يكون الزوج او رب الاسرة مشغولاً بعمله ووظيفته إذ لا يستطيع التغيّب كل هذه المدة، ولذا قد تضّطر بعض النساء لاصطحاب الأطفال وهم لا ينضبطون فيضيع الأطفال وتتحول الرحلة إلى كارثة، لذا فإنّ كثيراً من أولياء الأمور و الأزواج لا يرضى بخروج زوجته لهذا السبب لكنّه لا يستطيع أن يمنعها لأنّه يُخوَّف بأنّه سيكون معادياً للإمام الحسين (علیه السلام)، حيث أصبح البعض يُمارس قضية الحُسين كإرهاب فكري لجبر الناس

ص: 89

على قرارات لا يرضون بها، وقد صرّح كثير من الرّجال بعدم رضاهم بخروج أزواجهم إلاّ أنّهم يُجابهون بالخطوط الحمراء التي صنعها المتاجرون بالدين وشعائر الإمام الحسين (علیه السلام) مستغلين العواطف الجيّاشة، وبين أيدينا الرواية عن النبي (صلی الله علیه و آله) عن المرأة التي شكت زوجها إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأنّه يمنعها من الخروج لزيارة أبيها الذي أثقله المرض ثمّ مات أبوها ولم يأذن لها زوجها بالخروج فكان جواب النبي (صلی الله علیه و آله) لها (أطيعي زوجكِ) وبشّرها بالثواب العظيم.3- إنّ الزحام الشديد في الزيارة وصعوبة تحصيل واسطة النقل في طريق العودة يتسبب في حصول مخالفات شرعية كثيرة شاهدناها عبر وسائل الإعلام ونبّهنا عليها في بعض خطاباتنا، كمسك الرجل الأجنبي للمرأة حتّى يُساعدها على الصعود، أو التصاق بعضهم ببعض في سيّارات الحمل بسبب اكتظاظ الركّاب وسقوط بعضهم على بعض عند حصول توقّف مفاجئ للسيّارة، أو التدافع المختلط لتحصيل وجبة الطعام وغير ذلك من المحرّمات الشرعية التي يجب اجتنابها بترك مثل هذا الخروج.

وقال سماحته في خطاب موسّع له: إنّ إخراج النساء مع وجود مثل هذه المخالفات يُخشى أن يكون تأسياً واقتداءاً بلئام الأمويين الذين أخرجوا حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) في البوادي والقفار وليس تأسياً بالعقيلة زينب (علیها السلام) والهاشميات، فإنّهنّ لم يتخذنّ هذا الخروج سُنّةً وعادة باختيارهنّ بل صرّح الإمام السجاد (علیه السلام) لأبي حمزة الثمالي أن أقسى فصول مأساة كربلاء على أهل البيت (علیهم السلام) هي خروج النساء بين الرجال الأجانب في تلك المجالس والمسافات الطويلة، ولم يسمح أحد من الأئمة (علیهم السلام) بتكرار هذه الحالة.

ص: 90

وحينما دعاهن واجب طاعة الإمام (علیه السلام) بالخروج معه كُنَّ راكبات مصونات بحماية رجالهنّ الأبطال الغيارى، والرواية مشهورة عن المازني قال (جاورت أمير المؤمنين (علیه السلام) عشرين عاماً فما رأيت لزينب بنت علي شخصا).نعم إذا دعانا الواجب الإلهي إلى أي تضحية بالنفس أو المال أو إخراج النساء كان على المؤمن الاستجابة وبالهيئة التي توافق ما يريده الشارع المقدس.

إنّ التأسي الحقيقي بالعقيلة زينب يكون بالتفقّه في أحكام الدين كما كانت (علیها السلام) عالمة غير معلّمة وبالعفاف وصون الحرائر وعدم إبرازهنّ للرجال الأجانب وبالالتزام بطاعة الله تعالى حيث لم تترك العقيلة زينب (علیها السلام) صلاة الليل حتّى ليلة الحادي عشر من محرم.

وقال سماحته أنّ المأثور في روايات المعصومين هو قرار النساء في بيوتهنّ وعدم خروجهنّ، وإذا التزمت المرأة بذلك فإنّها ستُعطى حينئذٍ ثواب من قصد تلك المشاهد المقدّسة، فقد روى الشيخ الصدوق في الفقيه والطوسي في التهذيب عن الإمام الصادق (علیه السلام) قوله (خير مساجد نسائكم البيوت) وروى في مكارم الأخلاق قول رسول الله (صلی الله علیه و آله) (صلاة المرأة وحدها في بيتها كفضل صلاتها في الجامع خمساً وعشرين درجة)(1).

إن هذه الدعوة المخلصة لا تتضمن منع النساء من زيارة الامام الحسين (علیه السلام) مطلقاً حتى لو خلت الزيارة من اي مشكلة، لأنها قيدّت - بصراحة ووضوح - الامتناع بالظروف والمخالفات المذكورة وتستطيع النساء الذهاب الى الزيارة بحشمة ووقار في غير هذه الظروف الموجبة للامتناع .

ص: 91


1- هذه الروايات وغيرها في وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساجد، باب30.

وهذا موقف يشاركنا فيه كل غيور على الدين وحرماته، وممن صرح به السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في الخطبة الاولى من صلاة الجمعة المباركة السادسة في مسجد الكوفة المعظم، حيث منع النساء من الخروج الى زيارة المعصومين (علیهم السلام) اذا كان في ذلك اختلاط وظهور النساء أمام الرجال فكيف اذا اضيف اليها المبيت عدة ليالٍ عند أجانب لا يعرفونهم، قال (قدس سره) :((نحن نعمل المستحبات ونعمل المحرمات في نفس الوقت أيجوز ذلك؟ طبعا لا يجوز، هل ننال شفاعة المعصومين بالتجاوز على المعصومين وهتك حرماتهم ؟ هو يذهب ليتبرك بضريح الامام فيلعنه الامام الذي ذهب اليه، ويلعنها الامام الذي ذهبت اليه، فيخرج بلعنة الامام، لا يخرج بشفاعة الامام.

المسألة بسيط جدا . كل شخص عنده أم، أخت، بنت، أخ، جيران، صديق، ينصح بعضكم بعضا بالارتداع عن ذلك وعن غير ذلك، خير لك ان تركتها، اترك الزيارة خير لك من ان تذهب بهذه الزيارة الخاطئة الخائبة، ....امنعوا جيرانكم واسرتكم عن مثل هذا التهتك وهذا الاحتقار للدين و المعصومين (علیهم السلام)))(1).

ولعلنا سنجد من يحرّف الكلم عن مواضعه ويزعم اننا نمنع من ذهاب النساء لزيارة الامام الحسين (علیه السلام) مطلقاً، وهذا ما لا يمكن ان يقوله احد لوجود الروايات التي تصرح بحث النساء كالرجال على زيارة الامام الحسين (علیه السلام)، مضافاً الى شمول النساء بإطلاقات الروايات التي تحثّ على زيارة الامام الحسين (علیه السلام) وتذم تاركها بلا عذر، كما ان المرأة مشمولة بإطلاقات الآيات

ص: 92


1- دستور الصدر : 68-69.

الكريمة و الاحاديث الشريفة التي تساوي بين الذكر و الانثى في الاعمال الصالحة وجزائها، وزيارة الامام الحسين (علیه السلام) منها .واذكر من يدفع النساء المؤمنات العفيفات المواليات للسير من هذه المسافات البعيدة من دون اتخاذ الاجراءات الكفيلة بتجنب المشاكل و المخالفات، وهو لا يُرسل نساءه الى تلك المسافات لتسير مع النساء، ويصون اهله في الترف و النعيم، اذكّره بقول العقيلة (علیها السلام) لئلا يكون مشمولاً به، فقد جاء في كلماتها التي صدمت بها يزيد الطاغية:

(أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك واماءك، وسوقك بنات رسول الله (صل الله عليه وآله) سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، يستشرفهن أهل المنازل والمناهل، ويتصفّح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهّن من رجالهن ولي ولا من حماتهن حمي).

وفي الختام دعا سماحة الشيخ (دام ظله) جميع المؤمنين والمؤمنات إلى أن يكونوا شجعاناً لا تأخذهم في الله لومة لائم ويقدّموا رضا الله تعالى على رضا أنفسهم وعواطفهم، ويستجيبوا لهذه الدعوة التي فيها حياة لهم في دنياهم وآخرتهم، قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الأنفال/24).

ص: 93

أصداء توجيهات المرجعية

لاقت توجيهات المرجعية إلى النساء المواليات العفيفات في المحافظات الجنوبية بالامتناع عن التوجه مشياً إلى كربلاء المقدسة وقطع مئات الكيلومترات في القفار والبوادي لأداء زيارة الأربعين الشريفة استجابة منقطعة النظير من لدن المؤمنين والمؤمنات عامة، ولم تختص باتباع المرجعية الرشيدة لما في البيان من وعي ورحمة وشفقة وواقعية ومصداقية، لأن الجميع يعلم بما يرافق هذه الزيارات من مخالفات شرعية.

وأثنوا على شجاعة سماحة المرجع وتصدّيه لحركة الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهما كلّف الثمن، وسعيه الدؤوب لرفع الجهالة من المجتمع وانقاذهم من الضلالات والشبهات والخرافات.

وسعت جملة من المؤمنات إلى اتخاذ التدابير لتجنب المخالفات الشرعية التي أشار إليها البيان، ومن تلك الإجراءات: الانتقال بالسيارات إلى كربلاء المقدسة أو إلى النجف الأشرف ومواصلة السير إلى كربلاء، ومصاحبة المحارم، أو الخروج في تجمع كبير ليكون بعضهن لبعض ستراً والمبيت في أماكن معروفة، وتأمين العودة السليمة من كربلاء المقدسة، وتجنب مواطن الزحام والتدافع مع الأجانب ونحوها من الإجراءات فجزاهنّ الله تعالى عن الزهراء والعقيلة زينب (علیها السلام) خير جزاء المحسنين، وقد قدّر المراقبون أن نسبة النساء إلى الرجال في زوار تلك المحافظات التي قصدها الخطاب لم تتجاوز 1-2 أو أقل.

ص: 94

وقد أغاظ هذا النجاح قطاعاً ممن يتزيى بزيّ أهل العلم فعملوا على تحريف الكلام وتزييف الحقائق لخداع الناس وتأليبهم ضد المرجعية العاملة، فصّورا لهم أن الشيخ اليعقوبي يمنع من زيارة النساء لأبي عبد الله الحسين مطلقاً وأخذوا يستدلون لهم بالروايات على استحباب زيارة النساء للإمام الحسين (علیه السلام)، خلافاً لموضوع التوجيهات التي صدر البيان لإيضاحها، ونحو هذا من تزييف الحقائق.وكان بعضهم قد استغل الشعائر الحسينية في أيام محرم الحرام داخل العراق وخارجه للتطاول على المرجعيات الدينية التي تسعى بإخلاص لتهذيب الشعائر الحسينية من الممارسات الدخيلة عليها، والتي تشوّه صورة مدرسة أهل البيت (علیهم السلام)، وتنفّر الناس منها، بدلاً من تحبيبها وهداية الناس إليها، فنعم الحكم الله والخصيم محمد (صلی الله علیه و آله).

وقد نظم بعض الفضلاء أبياتاً في نصرة مواقف سماحة الشيخ المرجع وترفّعه عن الرد على مناوئيه ومنهم فضيلة المهندس الحاج عماد الهلالي فقال:

يكفيك أنك موئل العقلاءِ *** وبأن غيرك محفل الطغماءِ

وبأن نور كلامكم لا يرتقي *** لذراه غير مُعانق الجوزاءِ

تفتي فيبتهج الهداة لقولكم *** في حين يصعب عن ذوي الأهواءِ

(ومن العداوة ما ينالك نفعه) *** كم حكمةٍ عرفت من الجهلاءِ

فتبينُ حتى من عداك فإنما *** يصف السلامة من بُلي بالداءِ

وثنى عليه فضيلة الشيخ حسنين قفطان بنفس الوزن والقافية، ومما جاء في

ص: 95

قصيدته:نظمُ القريضِ شعائرُ الشعراءِ *** وشعائرُ العلما مِدادُ دماءِ

وعلى هدى الهادينَ سارَ مُتوَّجاً *** بالموجِعاتِ فتاكَ صدرَ إبائي

فأقام –وِتراً- كلَّ أضلعَ مائلٍ *** وأبانَ حكمَ اللهِ في الأشياءِ

كالشمس ظاهرةٌ بدائعُ علمِهِ *** في الدين صارَ لمجدبٍ كالماءِ

مثلُ الحسينِ بكربلاءَ وحسبُهُ *** كالسبطِ في كربٍ غدا وبلاءِ

يا غصنَ يعقوبٍ وأنتَ لِيوسفٍ *** صِنوٌ بحجمِ رزيّةٍ وعزاءِ

وهل ابنُ يعقوبٍ فَدَيتُ وجودهُ *** منعَ الأحبّةَ من أسىً وبكاءِ

أم كانَ ليسَ يُثيبُ مُوجِعَ نفسِهِ *** حزناً لمصرع سيدِ الشهداءِ

وهو الذي وَرِثَ احتضانَ مُديمِها *** عن جدهِ ومعلَمِ الخطباءِ

ما كان ماحيها شعائِرَ أحمدٍ *** بل كان حاميها منَ الجُهلاءِ

ومن قصيدة لجناب الأديب علي خصاف عباس نقتطف هذه الأبيات:

إزأر بجنب علي أيها الأسدُ *** واخطف بأبصارِ من قرّوا ومن جحدوا

إزأر لترعب أبواق النفاق فقدْ *** أمسى صريعاً بوسواسٍ لها الجسّدُ

فزادها الله من طغيانها مرضاً *** فالجهل مالِؤها والحقد والحسدُ

وإن رقت منبراً أو كان ملبَسُها *** سود الثياب فللغايات تجتهدُ

إنا عهدناك حين النائبات أباً *** والبدرُ في الليلة الظلماء يفتقدُ

الدين يشكوا رياح الجهل عاصفةً *** يرجو الثبات وأنت الحبل والوتدُ

ص: 96

فإن أضعنا بتجهيلٍ نتائجها *** فقد هوى الركن من بنيانها العمدُ

وافرغت دون وعيٍ من مبادئها *** وما الأئمة من أحيائها قصدو

إنّا وأنت أقمنا الدين في زمنٍ *** من يرتدي اليوم ثوب الدين قد قعدوا

مع النساء وما كنا نرى أحداً *** يحمي الشعائر منهم أو لها شهدوا

فكنت ناراً بوجه البعث لاهبةً *** احرقتَ وجهَ دعي حينما خَمدوا

وكنت دفئاً لشعبٍ قلَّ ناصِرهُ *** والواترون كثيرٌ حينما بَردوا

وكنت طوفانَ حقٍ هادراً حِكَماً *** زلزلت للبغي عرشاً حينما رَكدوا

لم تعطِ إعطاءَ ذُلٍ مثلما فعلوا *** ولم تفر فرار العبد تلتحدُ

إن ينزغوك بنزغ فاستعذ حذراً *** من كيدِ قوم سوى الأموال ما عبدوا

يكفيك أحمدُ والكرار حيدرةٌ *** وصاحبُ الأمر بعدَ الله مُعتمدُ

من بعدهم أنبياءٌ بل ملائكةٌ *** وصالحُ المؤمنين العونُ والسندُ

فكلما أوقدوا نيرانَ فتنتهم *** أطفأتَ بالحلم والإحسان ما وقدوا

يا شيخنا عَقِمت والله بل يئست *** كمثل قادتنا حوزاتهم تلدُ

ما ينفعُ الناسَ يبقى خالداً سمحاً *** وللزوالِ خسيساً يذهبُ الزبدُ

ص: 97

خطاب المرحلة 351 :النهضة الحسينية والدفاع عن حقوق الإنسان

خطاب المرحلة 351 :النهضة الحسينية والدفاع عن حقوق الإنسان(1)

يحتفل المجتمع الدولي يوم 10-12- من كل عام باليوم العالمي لحقوق الإنسان وهو اليوم الذي أعلنت فيه الأمم المتحدة وثيقة مبادئ حقوق الإنسان عام 1949، وقد طابق هذا العام ذكرى استشهاد الإمام السجاد (علیه السلام) صاحب أكمل وثيقة لحقوق الإنسان وهي (رسالة الحقوق)، وصادفت هذا العام في شهر محرم الحرام وفي ظل أجواء النهضة الحسينية المباركة، فيكون من المناسب الإشارة إلى جملة من مبادئ حقوق الإنسان والمثل الإنسانية العليا التي جسدها الإمام الحسين ع في نهضته المباركة أقوالا وأفعالا باللغة المتداولة في هذا العصر، لنوصل البشرية إلى هذا المعين النقي الذي يمدها بكل مقومات الحضارة الإنسانية ، ولنقوم بشكل من إشكال النصرة التي طلبها الإمام السبط الشهيد (ع) بإبراز القيم السامية و المثل العليا التي عمل (ع) على إقامتها وترسيخها ودعوة الناس إليها.

وسنتعرض باختصار لذكر عدد منها تاركين التفصيل إلى فرصة أخرى .

1-وأول تلك المبادئ وأهمها وأرقاها والتي تتقوم بها إنسانية الإنسان هي الحرية ونعني بها الانعتاق من عبودية ما سوى الله تبارك وتعالى، من خلال

ص: 98


1- كلمة سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) في الملتقى السنوي لمدراء فروع جامعة الصدر الدينية في النجف وسائر المحافظات يوم الأربعاء 27 محرم 1434 الموافق 12/12/ 2012.

السعي لتحقيق العبودية الحقة لله تبارك وتعالى بالتوحيد الخالص وطاعته تبارك وتعالى وطاعة من أمر الله تبارك وتعالى بطاعته.وقد كان تحرير الأمة من عبودية الطواغيت ومن أغلال الخنوع والاستكانة والركون إلى الدنيا وضعف الهمة ومن الجهل والنفاق أهم نتائج النهضة الحسينية، حتى أصبح الإمام (علیه السلام) سيد الأحرار ورمزهم ورائد كل حركات التحرر إلى يومنا هذا وإلى قيام القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف).

وما كان (ع) يستطيع تحقيق ذلك لولا أنه امتلأ معرفة بالله تعالى، وتجرد من كل ما سوى الله تعالى، وعاش عبداً مخلصاً لله تبارك وتعالى، وكيف لا يكون كذلك وهو من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً بنص القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة.

وكان كل كيانه ووجوده لله تبارك وتعالى، ومن يتأمل في دعائه (ع) يوم عرفة يجد ذلك واضحاً في علاقته مع ربه، والمعارف الإلهية المودعة فيه، والتي هي الوسيلة للوصول إلى العبودية الحقيقية والتوحيد الخالص (كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك ، متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك ، ومتى بُعدتَ حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك، عميت عين لا تراك عليها رقيبا، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبِّك نصيباً) (وأنت الذي تعرّفت إليّ في كل شيء فرأيتك ظاهراً في كل شيء).

وهكذا كان الإمام (علیه السلام) إلى آخر لحظة من حياته المباركة، وكانت أدعيته (ع) يوم عاشوراء معبّرة عن هذه العلاقة وهذا الارتباط، فقد افتتح يوم العاشر

ص: 99

حين اصطف الجيشان للقتال بدعائه الذي يظهر منه كمال الانقطاع إلى الله تعالى فافتتح خطابه مع القوم بالدعاء (اللهم أنت ثقتي في كلّ كرب، وأنت رجائي في كلّ شدّة، وأنت لي في كلّ أمرٍ نزل بي ثقة وعدّة، كم من همٍّ يضعف فيه الفؤاد وتقلُّ فيه الحيلة ويخذُلُ فيه الصديق ويشمُتُ في العدو، أنزلتُهُ بك وشكوتُهُ إليك، رغبة منّي إليك عمّن سواك، ففرّجته وكشفته، فأنت وليّ كلِّ نعمة وصاحب كلِّ حسنة ومنتهى كلِّ رغبة) وكان (ع) يثني على كل موقف حر أبي، لذا أكبَرَ (ع) موقف الحر الرياحي لتحرّره من عبودية الطاغوت ووقف على مصرعه قائلاً له (والله ما أخطأت أمك إذ سمتك حراً فأنت والله: حرٌ في الدنيا وسعيد في الآخرة) . (1)2- العدالة بين أفراد الأمة من دون تفريق بين أحد وآخر لأي من الاعتبارات الموجودة، وقد كثر هذا المعنى في كلماته (ع)، حتى أنّه استغرب من طاعة جيش العدو لأمرائه من دون توفير هذا الحقّ لهم، فقال لهم يوم عاشوراء موبّخاً (تباً لكم أيتها الجماعة وترحا!... فأصبحتم ألباً على أوليائكم ويداً عليهم لأعدائكم، بغير عدلٍ أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم، إلا الحرام من الدنيا أنالوكم، وخسيس عيشٍ طمعتم فيه).

وكان (ع) يطالب بالتوزيع العادل للثروة على الشعب بلا استثناء ولا هدر للمال العام ولا تبديد للثروات على النزوات والشهوات والحماقات، فقد جعل

ص: 100


1- مصدر هذه النصوص كتاب (موسوعة كلمات الإمام الحسين (علیه السلام)) إصدار معهد تحقيقات باقر العلوم في الصفحات التالية 531، 959، 432، 433، 383، 511، 457، 512، 483، 485، 491، 501، 519، 505.

(ع) من أهداف خروجه على السلطة الحاكمة أنّهم (أظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء).3- المساواة في الحقوق الاعتبارية والمادّية، فأما الأولى: فقد اختلط دم أهل بيت النبوّة بدماء غيرهم ووقف الإمام الحسين (علیه السلام) على مصرع جون وهو مولى لأبي ذر أسود اللون كما وقف على مصرع ولده علي الأكبر شبيه رسول الله (صلی الله علیه و آله) خَلقاً وخُلُقاً ومنطقاً، وشكر سعي الجميع وتضحيتهم بكلمات رفيعة بلا فرق بينهم، وأمّا في الحقوق المادّية فقد قدّمنا رفضه (ع) للاستئثار في ثروات الشعوب ومطالبته بمراعاة حقوق الجميع على حد سواء.

4- العمل بالدستور والقوانين التي آمنت بها الأمة بملء إرادتها واختيارها، والمطالبة بتطبيقها وهي بالنسبة للمسلمين: القرآن الكريم والسنة الشريفة، قال (علیه السلام) في كتابه لأهل البصرة: (وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيّه فإنّ السنة قد أميتت وأن البدعة قد أُحييت، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد) ويصف السلطة الحاكمة بأنّهم (لزموا طاعة الشيطان وتولوا عن طاعة الرحمن، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله) أي انقلبوا على الدستور وغيّروا أحكامه.

5- احترام إرادة الأمة في تولية أمورها إلى مستحقيها الذين يقومون فيها بالقسط والعدل وينصفون المظلومين ويعمرون الحياة بالخير ويقرّبون الناس إلى الله تبارك وتعالى، ومنع وصول الفاسدين والمستبدّين إلى السلطة، بالطرق غير المشروعة كالانقلابات العسكرية وتزوير إرادة الأمة، قال (علیه السلام): (أمّا بعد أيّها الناس: فإنّكم إن تتّقوا وتعرفوا الحقّ لأهله يكون أرضى لله، ونحن أهل البيت

ص: 101

وأولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس له، والسائرين فيكم بالجور والعدوان).6- الكرامة ورفض الذلّ والمهانة بكل أشكالها، من خطبة له (ع) يوم عاشوراء (ألا ان الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلة، أبى الله ذلك ورسوله، وجدود طابت وحجور طهرت، وأنوف حميّة ونفوس أبيّة، لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام).

7- إحقاق الحق ونصرته، وإبطال الباطل ومقاومته بكل الوسائل المتاحة التي تقتضيها الحكمة وتكون مطابقة لأحكام الشريعة حتّى لو أدّت إلى شهادته، قال (علیه السلام): (ألا ترون أنّ الحق لا يُعمل به، وأنّ الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربِّه محقاً، فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما).

8- الإصلاح وتصحيح الواقع الفاسد وإقامة البديل الصالح في كل تفاصيل شؤون الأمة، سواء على صعيد الوضع السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو القضائي أو الأخلاقي والعقائدي وغيرها، من خلال أداء وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بكل أدواتها وكافة مستوياتها، قال (علیه السلام) (أما بعد فقد علمتم أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد قال في حياته ((من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، أو تاركاً لعهد الله، ومخالفاً لسنة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ثم لم يغيّر عليه بقول ولا فعل، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله)) وقد علمتم أنّ هؤلاء لزموا طاعة الشيطان، وتولّوا عن طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام الله وحرّموا

ص: 102

حلاله وأنا أحقّ من غيّر).وكتب (ع) في وصيته (وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطِراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي (صلی الله علیه و آله)، أريد أن أأمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وابي علي بن أبي طالب).

9- حريّة التعبير عن الرأي واتخاذ القرار بكل اختيار وإرادة من دون أي تأثير وإكراه.

في ليلة عاشوراء والعدو عازم على مناجزته القتال وقد تكامل عددهم ثلاثين ألفا وهو (ع) في سبعة عشر من أهل بيته و سبعين من أصحابه، ومن كان في ذلك الموقف يتشبّث بأي عدّة أو عدد، نراه يجتمع مع اصحابه ويقوله لهم (إنّي لا أحسب القوم إلاّ مقاتلوكم غداً، وقد أذنت لكم جميعاً، فأنتم في حلٍّ مني وهذا الليل قد غشيكم، فمن كانت له منكم قوّة فليضمّ رجلاً من أهل بيتي إليه وتفرقوا في سوادكم).

10- الشفافية والوضوح وعدم المخادعة والتضليل.

من كلامه (ع) مع أصحابه وقد جمعهم ليلة العاشر من المحرم ليكاشفهم بالأمور قال (علیه السلام): (اعلموا انكم خرجتم معي لعلمكم أني أقدم على قوم بايعوني بِألسنتهم وقلوبهم، وقد انعكس الأمر بأنّهم استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، والآن ليس لهم مقصد إلاّ قتلي وقتل من يجاهد بين يدي، وسبي حريمي بعد سلبهم، وأخشى أن تكونوا ما تعلمون وتستحيون، والخدع عندنا أهل البيت محرّم، فمن كره منكم ذلك فلينصرف).

ص: 103

11- الرحمة والشفقة عليهم والنصيحة لهم.

فقد أبلغ في النصيحة لجيش العدو وألقى عليهم الخطبة بعد الخطبةِ وضمّنها كلّ الحجج الدامغة والكافية لردعهم عن اقتراف هذه الجريمة، ووعظهم بأنواع المواعظ، ولكنّهم كانوا كما وصفهم الإمام (علیه السلام) (لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم، فتباً لكم وما تريدون) حتّى قال (علیه السلام) (ألا إنّي قد أعذرت وأنذرت) وقال لزهير بن القين بعد أن وعظ القوم (أقبل، فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء، لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت، لو نفع النصح والإبلاغ).

وفي بعض الروايات أنّه بكى يوم عاشوراء شفقة على أعدائه معللاّ ذلك بأنهم (يدخلون النار بسببي) وهو كجدّه وأبيه وأخيه (صلوات الله عليهم أجمعين) أرسلوا رحمة للعالمين.

12- عدم التجاوز على حقوق الآخرين وردِّها إلى أهلها، ومن ذلك أمره (ع) لبعض أصحابه قائلاً (نادِ في الناس أن لا يقاتلن معي رجل عليه دَين، فإنّه ليس من رجلٍ يموت وعليه دين لا يدع له وفاءاً إلا دخل النار) فهو (ع) لا يرى هذا الموقف العصيب والمفصل التاريخي في حياة الأمة مبرّراً للتقصير في إرجاع الحقوق إلى أهلها.

وروى الإمام الباقر (علیه السلام) عن أبيه السجاد (علیه السلام) أن آخر ما أوصاه أبوه الحسين (علیه السلام) عندما ودّعه وخرج للقتال (يا بني اتقِ ظلم من لا يجد له ناصراً إلا الله تعالى).

13- التضحية بالمصالح الخاصة من أجل وحدة الأمة ومصالحها العليا، قال

ص: 104

(ع) (أمّا بعدُ، فإنّ الله اصطفى محمداً (صلی الله علیه و آله) على خلقه، وأكرمه بنبوّته، واختاره برسالته، ثم قبضه الله إليه، وقد نصح لعباده، وبلّغ ما أُرسل به (صلی الله علیه و آله) وكنّا أهله وأوليائه وأوصيائه وورثته، وأحقّ الناس بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومنا بذلك، فرضينا وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنا أحقُّ بذلك الحق المستحق علينا ممّن تولاه).وكان من أهم ما أوصى به الإمام الحسين(ع)ذ كوسيلة لتحقيق هذه المبادئ الإنسانية العليا: الصبر والرضا بقضاء الله تبارك وتعالى وعدم الجزع من المكاره والمصائب.

لمّا سمعت العقيلة زينب (علیها السلام) أخاها الحسين (علیه السلام) ينعى نفسه وهو يصلح سيفه ليلة عاشوراء لطمت وجهها وخرّت مغشياً عليها فصبّ على وجهها الماء وقال لها: (يا أختاه تعزي بعزاء الله وارضي بقضاء الله، فإنّ سكّان السماوات يفنون وأهل الأرض يموتون وجميع البريّة لا يبقون، وكل شيء هالك إلاّ وجهه، له الحكم وإليه ترجعون، وإنّ لي ولكِ ولكل مؤمن ومؤمنة أسوة بمحمد (صلی الله علیه و آله).

أقول: هذا باختصار بعض ما يمكن استخلاصه من كلمات الإمام الحسين (علیه السلام) ومواقفه فيما يتعلّق بحقوق الإنسان، وعلينا –ونحن نخوض هذه المواجهة الحضارية مع الغرب الذي يوصف بالمتمدّن- أن نُعمّق مثل هذه المعرفة وننهل المزيد منها لنقدّمها للمجتمع البشري كمنظومة متكاملة قادرة على تحقيق السعادة والازدهار والكرامة والحرية لبني الإنسان.

ص: 105

خطاب المرحلة 352 :ثواب إنشاء مواكب الخدمة ودور الاستراحة على طرق الزوّار والمسافرين

خطاب المرحلة 352 :ثواب إنشاء مواكب الخدمة ودور الاستراحة على طرق الزوّار والمسافرين(1)

شجّع الشارع المقدّس كثيراً على فعل المعروف بكل أشكاله ونعني بالمعروف كلّ ما فيه خير للناس، وهي مساحة واسعة مما يتقرّب به إلى الله تبارك وتعالى تبدأ من التحيّة والسلام وبشاشة الوجه والكلمة الطيبة التي وصفها الحديث الشريف بأنها صدقة، إلى المشاريع الخيرية الضخمة كبناء المستشفيات والمدارس والمساجد وطباعة الكتب وإنشاء الوحدات السكنية للمحرومين والفضائيات التي تكون سبباً لهداية الناس وصلاحهم.

وجعل الله تعالى ثواباً عظيماً لمن قام بمثل تلك الأعمال، والله تعالى غني عن العالمين وعن كل ما يقومون به، وإنّما يريد بذلك أن ينشئ خير أمة اُخرجت للناس تسودهم الرحمة والإنسانية وحبّ الخير.

هذا هو الدين الذي نؤمن به ونطبّقه في حياتنا ونسعى لإقناع البشرية به، فليخسأ من يُسمي الدين أفيون الشعوب ومن يريد أن يجرّد الأمة من دينها وأخلاقها ليعيدها إلى الحيوانية والهمجية.

ص: 106


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع موكب صوت الحسين (علیه السلام) وبحضور حشد من طلبة كليات الهندسة والصيدلة والتربية في جامعة البصرة وكلية القانون في جامعة بابل يوم السبت 1/صفر/1434 الموافق 15/ 12/ 2012. بمناسبة بدء الاستعدادات لزيارة الأربعين المليونية.

هذه كلّها كالمقدمة البسيطة لرواية أحببت إيرادها مع إطلالة شهر صفر الخير حيث يندفع المؤمنون الموالون لأهل بيت النبوة في جميع أنحاء هذا البلد ليشاركوا في المسيرة المليونية مشياً على الأقدام إلى زيارة الإمام الحسين (علیه السلام)، موزّعين الأدوار بينهم بشكل مذهل من دون اتفاق مسبق ولا رعاية هيئة أو مؤسسة أو دولة.والرواية أوردها الشيخ الصدوق (قدس سره) بسنده عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال : (ومن بنى على ظهر طريق مأوى عابر سبيل ، بعثه الله يوم القيامة على نجيب من در وجوهر ، ووجهه يضيء لأهل الجمع نوراً ، حتى يزاحم إبراهيم خليل الرحمن في قّبته ، فيقول أهل الجمع : هذا ملك من الملائكة لم نر مثله قط ، ودخل في شفاعته الجنة أربعون ألف ألف رجل.

ومن شفع لأخيه شفاعة طلبها ، نظر الله إليه فكان حقا على الله أن لا يعذبه أبدا ، فإن هو شفع لأخيه شفاعة من غير أن يطلبها كان له أجر سبعين شهيدا.

ومن حفر بئرا للماء حتى استنبط ماءها فبذلها للمسلمين كان له كأجر من توضأ منها وصلى ، وكان له بعدد كل شعرة لمن شرب منها من إنسان أو بهيمة أو سبع أو طير عتق ألف رقبة ، وورد يوم القيامة ، ودخل في شفاعته عدد النجوم حوض القدس ، فقلنا : يا رسول الله وما حوض القدس ؟ قال : حوضي حوضي حوضي ، ثلاث مرات.)(1)

أقول: هذا الثواب العظيم الذي يمنحه الله تعالى لمن يبني مأوى على طريق المسافرين ليستريحون فيه ويقضون حوائجهم ويتزوّدون بالطعام والماء

ص: 107


1- وسائل الشيعة كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أبواب فعل المعروف باب20 ح1.

لمواصلة رحلتهم، وقد ذكرته الرواية في مقطعها الأول والثالث، أمّا المقطع الأوسط فيتعرّض لمن يشفع -- أي يتوسط -- بجاهه وسمعته ونفوذه لقضاء حاجة أخيه المؤمن كأن يخطب له بنتاً أو يعيّنه في وظيفة أو يجد له عملاً أو يُسهّل له أمراً أو معاملة قد تعسّرت عليه.ومما ينبغي الإلتفات إليه إنّ هذا الثواب المذكور في الرواية إنّما هو بلحاظ هذه الجهة أي كونه مأوى للمسافرين وعابري السبيل وقد يضاف له ثواب آخر بعدد العناوين التي تنطبق على هذا العمل، كعنوان إدخال السرور على المؤمن وقضاء حاجته لأن الزائر المتعب بحاجة إلى المكان الذي يستريح فيه وإلى الطعام الذي يقويه على مواصلة السير وهذا العنوان له ثوابه العظيم(1).

هذا كله في إنشاء مأوى للمسافرين بشكل عام، أما إذا كانت لخدمة زوار الإمام الحسين (علیه السلام) والسائرين إلى حرمه المطهّر مشياً على الأقدام وهم ضيوف الله ورسوله وأمير المؤمنين والحسن والحسين (علیه السلام) والإمام المهدي الموعود الذين يكفيهم شرفاً ورفعة دعاء الإمام الصادق (علیه السلام) لهم في الرواية

ص: 108


1- وقد وردت في ذلك روايات كثيرة (منها) صحيحة عبد الله بن سنان عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال (أوحى الله عز وجل إلى داود (علیه السلام) إنّ العبد من عبادي ليأتيني بالحسنة فأبيحه جنّتي، فقال داود (علیه السلام): يا رب وما تلك الحسنة؟ قال: يدخل على عبدي المؤمن سروراً ولو بشقّ تمرة، قال داود (علیه السلام): يا ربِّ حقّ لمن عرفك أن لا يقطع رجاءه منك). ومما ورد في قضاء حاجة المؤمن عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال (إنّ الله عزّ وجل خلق خلقاً من خلقه انتجبهم لقضاء حوائج فقراء شيعتنا ليثيبهم على ذلك الجنة، فإن استطعت أن تكون منهم فكن). راجع: وسائل الشيعة، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب فعل المعروف، باب 24، 25.

المعروفة عن معاوية بن وهب في كتاب مفاتيح الجنان.فيزداد بذلك ثواب إنشاء هذه الأبنية والمخيّمات ومواكب الخدمة للزوار على الطريق لتشريف الضيوف النازلين فيها، ولانطباق عناوين عديدة أخرى عليها، كعنوان إحياء أمرهم (ع) وإقامة شعائر الله تبارك وتعالى التي ورد فيها قوله (علیه السلام) (أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا).

فلولا انتشار مواكب الخدمة على طول طريق المشاة إلى كربلاء لما تيسّر لهذه المسيرة المليونية أن تخرج، مضافاً إلى ما تشهده تلك الدور والمواكب والحسينيات من إقامة للشعائر الحسينية ومجالس الوعظ والإرشاد وصلوات الجماعة.

فمواكب الخدمة هذه على طول الطريق هي صدقة جارية مستمرة الثواب والأجر لبانيها ومؤسسيها والباذلين عليها، في رواية صحيحة عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال (ليس يتبع رجل بعد موته من أجر إلاّ ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته، وسنة هدى سنّها فهي يُعمل بها بعد موته، أو ولد صالح يدعوا له)(1).

وما دمنا على أبواب الزيارة الأربعينية المباركة فإنّ الالتفاتة إلى هذه الألطاف الإلهية يكون حافزاً لجميع الأخوة كي يؤدوا دورهم ويساهموا بالشكل الذي يناسبهم في إدامة هذه الحركة المباركة وإعطائها الزخم الذي يزيد في ثمراتها، وليحرص كل منهم على تقديم الخدمة الأهم والأكثر نفعاً ولا تقتصر على شكل واحد كإطعام الطعام، فالزوار بحاجة إلى أمور كثيرة

ص: 109


1- وسائل الشيعة: 13/ 292 كتاب الوقوف والصدقات باب1 ح1.

وأهمها الزاد المعنوي من الموعظة والإرشاد والتوجيه وإقامة صلاة الجماعة وتوزيع منشورات تربط العبد بخالقه وبأئمته (سلام الله عليهم).وفي موضوع ذي صلة فإنّا نلفت نظر المسؤولين إلى ضرورة إنشاء دور استراحة على طول طريق المسافرين الذين يشكون من عدمها حتّى في طريق الحجّ البرّي إلاّ ما ندر، بحيث يتحيّر من يريد قضاء حاجة، فلو وزّعت الدولة على طول الطريق مجمّعات فيها مسجد ومطعم وخدمات صحيّة متكاملة ومحطّة تعبئة وقود، ولا تتكلّف الدولة مبالغ إنشائها لأنّ المستثمر الذي يُعطى رخصة محطّة يشترط معه تنفيذ هذه الخدمات معها، وتوزَّع بشكل منتظم على طول الطرق ككل أربعين كيلومتر مثلاً ونحوها كما رأينا في بعض الدول المجاورة بحيث لا يشعر المسافر الذي يقطع مئات الكيلومترات بأي مشكلة.

ص: 110

خطاب المرحلة 353 :إلى المشكّكين بجدوى الزيارات المليونية

خطاب المرحلة 353 :إلى المشكّكين بجدوى الزيارات المليونية(1)

يشكّك البعض بجدوى حضور الملايين في الزيارات، كعاشوراء والأربعينية ويناقش في صرف الأموال الطائلة لخدمة الزوار وتوفير احتياجاتهم، وينطلق بعض هؤلاء من التأثر بالأجندات الغربية التي لا تفقه الآثار المعنوية لهذه الحركة المباركة على الفرد والمجتمع.

فيجب أن نكون نحن على ثقة عالية بشريعتنا وشعائرنا التي باركها الشارع المقدّس، فنجيب على هؤلاء بمستويين من الجواب، يُسمى الأول في مصطلح الحوزة العلمية بالجواب النقضي، أي الرد على الإشكال بإشكال مثله من واقعهم وممارساتهم، ويُسمّى الثاني الجواب الحلّي بتقديم الدليل على جدوى هذه الشعائر وبيان الآثار المباركة التي تثمرها.

والجواب على المستوى الأول هو بما يصدر منهم هذه الأيام بمناسبة الاحتفالات برأس السنة، حيث تسود العالم الغربي وغيره احتفالات صاخبة ومهرجانات والعاب نارية وسفرات من غرب الأرض إلى شرقها وشراء هدايا

ص: 111


1- من حديث سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع حشود الزائرين الذين وفدوا مشياً على الأقدام من المحافظات الجنوبية متوجهين إلى كربلاء المقدسة يومي 16- 17/ صفر/1434 الموافق 30- 31/ 12/ 2012.

(عمانوئيل) وأمثالها(1) من الممارسات التي تصرف فيها مليارات الدولارات بلا معنى عقلائي يمكن الاقتناع به إلا تسويلات الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء من المتع واللذات الوقتية الكاذبة، وكان الأجدر بهم صرف هذه المليارات على جياع أفريقيا وتنمية اقتصاديات الدول الفقيرة وإنشاء المشاريع المفيدة في الدول التي يتباكون على فقرها وابتلائها بالأمراض الفتاكة والحروب والمشاكل الاجتماعية.هذا غير ما يصرف من مليارات أخرى على غيرها من الفعاليات غير العقلائية كالدورات الأولمبية وبطولات كأس العالم مما يثقل ميزانيات الدول بمبالغ طائلة، وبين أيدينا اليونان التي اشترطت عليها الولايات المتحدة أموراً عند تنظيمها الدورة الأولمبية عام 2004 ولم تستطع واردات السياحة سدّها فغرقت في ديون باهضة شارفت بسببها على الإفلاس.

فالأولى بهؤلاء المنتقدين أن يعترضوا على هذه الممارسات والفعاليات التي لا فائدة فيها إلا متعة ولذة –كما يزعمون- وهي وقتية بمقدار لحظتها ووهمية ويبقى الفرد يعاني بعدها من مشاكل نفسية واقتصادية أيضاً لأن أغلب أفرادهم يقترض ليقوم بتلك السفرات أو شراء الهدايا ونحوها. فهؤلاء المعترضون ينطبق

ص: 112


1- من تلك المراسيم في فرنسا احراق السيارات حيث أحرقت 1193 سيارة ليلة 1/1/ 2013 بحسب وزير الداخلية الفرنسي مانويل فالز وقال: إن العدد قريب من عدد السيارات التي أحرقت في سنوات سابقة حيث تحوّل إحراق السيارات ليلة رأس السنة إلى عادة لدى الفرنسيين منذ بضع سنوات وأحرقت ليلة 1/1/ 2010 (1147) سيارة ولم تُعلن إحصائيات 2011، 2012 حيث تحفظ وزراء اليمين في حينها عن إعلان الأرقام.

عليهم المثل المعروف بأنه يرى القذّة في عين الغير ولا يرى الجمل في عينه.أما على صعيد المستوى الثاني من الجواب فقد تضمّنت خطاباتنا السابقة ذكر العديد من تلك الآثار المباركة، نشير إليها باختصار، وتُراجَع التفاصيل في مواضعها.(1)

1-إن التوجّه سيراً على الأقدام من مسافات بعيدة مع ما يرافقه من العناء والمشقّة فيه تعبير عن عميق المودّة والولاء للإمام (علیه السلام) التزاماً بقوله تعالى (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (الشورى/23).

2-إنّ فيه إظهاراً لعظمة الإمام المقصود بما عظّمه الله تعالى، كما سار الإمامان الحسن والحسين (علیه السلام) ماشيين إلى مكة المكرمة تعظيماً لبيت الله الحرام.

3-إنّ فيها إدخالاً للسرور على قلب النبي (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته المعصومين (علیهم السلام) ومواساة لهم على عظيم مصابهم، وفيه إحياء لأمرهم والتزام بما وجهوا إلهيا (أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا).

4-الثواب العظيم الذي رصد لمن يقصد زيارة الإمام الحسين (علیه السلام) ماشياً وقد وردت في ذلك روايات عديدة منها عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال (من أتى قبر الحسين (علیه السلام) ماشياً كتب الله له بكل خطوة ألف حسنة ومحا عنه ألف سيئة ورفع له ألف درجة).(2)

5-إنها وسيلة هداية للآخرين، فقد اهتدى بشعائر الحسين (علیه السلام) إلى الحق

ص: 113


1- راجع خطاب المرحلة: 4/ 14، 227- 238 وفي مواضع أخرى من الكتاب.
2- راجع الروايات في وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب المزار وما يناسبه، باب 41.

كثيرون وعادوا إلى الصلاح والرشد في حين عجزت كل الوسائل عن إصلاحهم، وهذه من بركات الإمام الحسين (علیه السلام) فإنه (مصباح هدى وسفينة نجاة).6-إنها توحّد الأمة بكل طوائفها وقومياتها وتوجهاتها الاجتماعية والسياسية ومختلف انتماءاتها الجغرافية والعشائرية، وهذا واضح حيث يذوب الجميع في حب الإمام الحسين (علیه السلام) وبعضهم لبعض مما يستحيل تحقيقه في غير هذا الهدف قال تعالى (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَ-كِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) (الأنفال/63).

7-إنّ المسيرات السلمية وسيلة حضارية تتبعها كل الأمم المتحضرة لإلفات النظر إلى قضاياها والمطالبة بحقوقها ودفع الآخرين للسؤال والفحص عن المشروع المحرِّك لها، وهذا ما تحقق إذ صار العالم كله يتساءل اليوم عن الإمام الحسين (علیه السلام) وأهل البيت (علیهم السلام) والشيعة، والسؤال مفتاح الوصول إلى الحقيقة.

8-إنها تحبط محاولات الأعداء المتنوعين التي تستهدف الشعب العراقي الأبي وهذا البلد الكريم، لإفساده وإخضاعه وإرعابه وتدجينه وسلخه من هويته الإسلامية الأصيلة، فقد حاول الإرهابيون بكل وسائل القتل والتدمير والجريمة إخافته، وحاول الاحتلال تدجينه وتحويله إلى جزء من مشروع الشرق الأوسط الكبير بل رأس الحربة فيه، وحاولت تقنيات الإغراء والغواية والتضليل إفساده وإبعاده عن إسلامه الأصيل ففشل الجميع، ببركة هذه المسيرات المليونية.

9-إنها ممارسة تعبوية تحافظ على جاهزية الأمة وحضورها في الميدان على الدوام وبدونها يصاب الشعب بالخمول والكسل والاسترخاء فيكون

ص: 114

مكشوفاً وهدفاً سهلاً لكل استهداف.10-إنها تقوّي الإرادة والتحمل وتوطين النفس على الصعاب مما يعجز عن تحقيقه أي ممارسة أخرى وتشكّل بذلك فقرة مهمة من عملية الاستعداد لنصرة الإمام الموعود (عجل الله تعالى فرجه) والمشاركة الفاعلة في التمهيد لدولته المباركة ونصرته.

11-إن أجواء الزيارة والمشاعر الروحية فيها تعطي للنفس زاداً معنوياً وحصانة وغذاءاً روحياً يبقى تأثيره ولذته إلى أمد بحسب استحقاق كل شخص واستعداده، وكما يقال بحسب سعة إنائه ووعائه فإنه يغترف من هذه الألطاف الإلهية (فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) (الرعد/17).

12-بهذه الحركة المليونية يبرز الشعب العراقي انتماءه للإسلام ولمذهب أهل البيت (علیهم السلام) ويبرز هويته في عملية إحصاء سكّاني صادق ودقيق لا يقبل الخطأ والتزوير وليردّ بذلك على بعض الجهات التي تحاول القفز على الواقع وتدّعي خلافه.

وقد وردت الإشارة إلى جملة من هذه الآثار المباركة في دعاء الإمام الصادق (علیه السلام) لزوار أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) في الرواية المعتبرة عن معاوية بن وهب البجلي وفيها (اغفر لي ولإخواني ولزوّار قبر أبيَ الحسين بن علي صلوات الله عليهما الذين أنفقوا أموالهم واشخصوا أبدانهم رغبة في برِّنا ورجاءاً لما عندك في وصلتنا، وسروراً أدخلوه على نبيك محمد (صلی الله علیه و آله)، وإجابة منهم لأمرنا، وغيظاً أدخلوه على عدوِّنا، أرادوا بذلك رضوانك، فكافئهم عنّا بالرضوان)(1) إلى آخر الدعاء.

ص: 115


1- مفاتيح الجنان: 484 فضل زيارة الإمام الحسين (علیه السلام).

خطاب المرحلة 354 :أسمى الفرائض وأشرفها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

خطاب المرحلة 354 :أسمى الفرائض وأشرفها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(1)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سادة خلقه أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وصف الإمام الباقر (علیه السلام) في حديث مروي عنه فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأنها (أسمى(2) الفرائض وأشرفها) وجاء فيه: (إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: سبيل الأنبياء، ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة، بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتَحِلُّ المكاسب، وتُرَدُّ المظالم، وتُعمر الأرض، ويُنتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر)(3).

وروي في فضل هذه الفريضة وشرفها عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قوله: (وما أعمال البرِّ كلها، والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ص: 116


1- الكلمة التي افتتح بها سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) بحثه الشريف في كتاب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) يوم الأحد 23/صفر/1434ه- الموافق 6/ 1/ 2013، واستمر البحث سنتين تقريباً بفضل الله تبارك وتعالى.
2- هذا في رواية الكافي، وفي التهذيب: (أتم الفرائض).
3- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 1، ح6.

إلا كنفثة في بحر لجّيّ)(1).هذه هي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في شرفها وأهميتها، وعظيم بركاتها وآثارها على الفرد والمجتمع، وإن واحداً من هذه الآثار كفيل بأن يجعلها في الصف الأول من الفرائض فكيف بمجموعها؛ لذا كانت أعظم من مجموع أعمال البرّ والجهاد في سبيل الله كما في كلمة أمير المؤمنين (علیه السلام)، وأن نسبة مجموع تلك الأعمال إلى هذه الفريضة كالنفثة –وهي ما يمازج النفس من الريق عند النفخ- بالنسبة إلى البحر العميق الواسع.

ويكفي هذه الفريضة شرفاً أن تكون هدف الإمام الحسين (علیه السلام) من نهضته ودفع دمه الشريف ودماء أهل بيته وسبي عقائل النبوة ثمناً لإحياء هذه الفريضة، كما عبّر (ع) صريحاً بقوله: (وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمد (صلی الله علیه و آله)؛ أريد أن أأمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب)، وقال (علیه السلام): (ألا ترون أن الحق لا يُعمل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقّاً).

وأشار الإمام الصادق (علیه السلام) إلى ذلك بتعبير آخر في الزيارة المخصوصة بيوم الأربعين فقال (علیه السلام): (وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة) وهي من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ومن الطبيعي أن تحظى الفريضة بهذه الأهمية والمكانة العظيمة عند الشارع المقدس؛ لأن كل أمة – والأمة: هي الجماعة التي يجمعها أمر تشترك به

ص: 117


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 1، ح18.

ويكون محور اجتماعها ومحط أنظارها- لا يكتب لها البقاء والاستمرار إلا إذا حصّنت نفسها بالتدابير اللازمة من الداخل والخارج ضد الأعداء الذين يريدون القضاء عليها، بتفكيكها وتمزيقها وإضعافها من الداخل، أو باستئصالها والقضاء عليها من الخارج.وهذا هو شأن الدول أيضاً، لذا تتضمن المؤسسات الحاكمة في الدول المتحضرة وزارتين عُدّتا سياديتين لارتباط سيادة الدولة وحفظ وجودها بهما، وهما وزارة الداخلية لحفظ الأمن الداخلي وحماية النظام العام، ووزارة الدفاع لحماية حدودها وسيادتها من الاعتداءات الخارجية.

ويمكن تصور نفس الشيء في الأفراد، فقد زوّدهم الله تعالى بقوة لحماية سلامتهم من الداخل وهي المناعة التي توفرها كريات الدم البيض وسائر الاحتياطات الأخرى لوقايته من الأمراض والجراثيم والفايروسات التي تهاجم أجهزة بدنه، وزوّده بالسلاح الذي يدافع به عن نفسه من الاعتداء الخارجي، قال تعالى: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحديد: 25).

وقد أراد الله تعالى لهذه الأمة الإسلامية أن تكون خير أمة أخرجت للناس بنص الآية الشريفة، وأن تكون أمة خاتم الأنبياء ووارثة الأمم السابقة والمستخلفة في الأرض [وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ] (القصص: 5).

فلا بد من اتخاذ التدابير اللازمة لحفظ كيانها من الداخل وحمايته من

ص: 118

عوامل النخر والانهيار كالنفاق والجهل والتخلف والخرافات والفساد والرياء والشبهات والفتن والضلالات، فكانت وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.وشرّع في عرضها وظيفة أخرى لحماية كيان الأمة المسلمة ودولتها من الخارج ولنشر دعوة الإسلام إلى الأمم الأخرى وإزالة كل العوائق التي يضعها الطواغيت والمستكبرون في طريق تعرّف الأمم الأخرى على الإسلام ليختار كل واحد منهم عقيدته بحرّية [لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ] (الأنفال:42) فكانت فريضة الجهاد.

فوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة (سيادية) بالمصطلح السياسي المتداول؛ لقيام وجود الأمة وديمومتها وحفظ رسالة الإسلام من التحريف والتشويه والدس والتأويل بغير ما أنزل الله تعالى بهذه الفريضة، ولولا قيام من انتجبهم الله تعالى بها لما بقي من الإسلام إلا اسمه ومن القرآن رسمه، كالذي حلّ بالديانات السابقة على الإسلام، ففي الحديث الشريف المروي عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ويحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين، وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين، كما ينفي الكير خبث الحديد)(1).

ولكن القائمين بهذه الفريضة قليل، والجهد المطلوب لمكافحة الانحراف والفساد والتزوير كبير جداً؛ لذا انحرفت سيرة المسلمين ومسيرتهم منذ اللحظة الأولى بعد رحيل رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى الرفيق الأعلى.

ص: 119


1- سفينة البحار: 1/ 204 عن رجال الكشي، والكير: الزق الذي ينفخ فيه في الحداد.

وهذا ما حذّر رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمته من الوقوع فيه، وحذّر من التداعيات التي تحصل عقب ترك هذه الفريضة العظيمة، من ضياع القيم وانقلاب المنكر معروفاً والمعروف منكراً، فلا يستطيع أحد حينئذٍ أن يصلح ويغير لأن ما يأمر به من المعروف سيبدو منكراً لأن الناس يرونه معروفاً، وهو ما ابتلي به المصلحون على مرّ الدهور، وهذا أحد وجوه فهم الحديث الشريف عن الإمام المهدي (عجل الله فرجه) أنه يأتي بدين جديد وقرآن جديد؛ لرسوخ الحالة المزيفة المقابلة للحق.وقد ورد تحذيره (صلی الله علیه و آله) هذا في حديث مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (قال النبي (صلی الله علیه و آله): كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟ فقيل له: ويكون هذا يا رسول الله؟ فقال: نعم، وشرٌّ من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ فقيل له: يا رسول الله، ويكون ذلك؟ قال: نعم، وشرٌ من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً)(1).

وهذه المراحل من الانحطاط كما ينتكس إليها المجتمع كذلك يرتكس فيها الفرد، فإنه في بداية الأمر له فطرة وضمير يعرف به الحق والباطل والحسن والقبيح فيرتاح إذا فعل الأول ويؤنّبه ضميره إذا فعل الثاني. لكنه بتزيينٍ من الشيطان وضغطٍ من النفس الأمارة بالسوء وعوامل أخرى يخالف هذا الضمير الداخلي من دون أن يصلح ما صدر منه ويعود إلى رشده، بل ينتقل إلى

ص: 120


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 1، ح12.

المرحلة الثانية عندما تأخذه العزة بالإثم ويكابر ويغالط فيحاول إقناع نفسه بما فعل أو تبريره أو الهروب منه بارتكاب مزيد من الخطأ ومقارفة الخطيئة كمن يهرب من جريمته بشرب المسكر أو بجريمة أخرى ليتناسى جريمته الأولى. ثم تأتي المرحلة الثالثة عندما يسودّ قلبه ويموت ضميره ويُطبع على قلبه ويتحول إلى شيطان فيرى المعروف منكراً والمنكر معروفاً.وعلى أي حال فقد حصل هذا الانقلاب في المفاهيم والقيم في وقت مبكر في صدر الإسلام وبلغ ذروته في عهد يزيد رغم حداثة العهد بنبي الإسلام (صلی الله علیه و آله)، ولا زال جملة من الصحابة وبعض أزواج النبي (صلی الله علیه و آله) على قيد الحياة، فقام الإمام الحسين (علیه السلام) لإحياء هذه الفريضة كما في النصوص التي قدمنا ذكرها.

ويبدي (ع) أسفه للحال الذي وصلت إليه الأمة بسبب تضييعها لهذه الفريضة، قال (علیه السلام) لما طلب منه والي المدينة البيعة ليزيد: (إنا لله وإنا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام إذا ابتليت الأمة براعٍ مثل يزيد)(1).

وهي النتيجة التي حذّرهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الوقوع فيها، ففي الكافي والتهذيب وعقاب الأعمال بالإسناد عن الإمام الرضا (علیه السلام) قال: (إذا أمتي

ص: 121


1- موسوعة كلمات الإمام الحسين (علیه السلام): 346، عن مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 184، والفتوح: 5/ 17. ويلاحظ أن الإمام الحسين (علیه السلام) لم يذكر يزيد باسم أبيه في جميع كلماته؛ لأن أم يزيد حملت به وهي خارج بيت الزوجية عندما حصلت قطيعة وهجران بينها وبين معاوية وذهبت إلى أهلها مدة طويلة.

تواكلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من الله)(1).وروى الشيخ الطوسي (قدس سره) في التهذيب عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: (لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البرّ، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسُلّط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء)(2).

ومما يؤسف له أن هذا التهاون في أداء الفريضة على الصعيد العملي تحول تدريجياً في أذهان جملة من الفقهاء إلى عدم الاهتمام بشأن هذه الفريضة في الآثار الفقهية المباركة –سواء كانت متوناً فقهية، أو كتباً استدلالية- إما لحرص العلماء الأعلام على تناول المسائل الابتلائية أو خشية من بعض الممارسات التي حصلت بسبب سوء التطبيق بحيث اتخذ عنوان هذه الفريضة لتحقيق مكاسب شخصية، أو تنفيذ مخططات للسلطة عندما كانت تتبنى ذلك، هذا من جانب ومن جانبٍ الكتب الاستدلالية، فلعل عدم التعرض لعدم وجود مطالب معمقة فيها تستحق جعلها موضوعات للأبحاث الاستدلالية، ففيهم من لم يتعرض لهذه الفريضة أصلاً(3)، ومنهم من تعرض لها باقتضاب –كالديلمي في المراسم- أو ضمن كتاب الجهاد كالكليني في الكافي والشيخ (قدس سره) في

ص: 122


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 1، ح4.
2- نهج البلاغة: ج4، باب الحكم والمواعظ، رقم 373.
3- أما المتون فكالمقنع للصدوق والانتصار والناصريات للسيد المرتضى والمبسوط للشيخ الطوسي وجواهر الفقه للقاضي، والغنية لابن زهرة. وأما الاستدلالية فكالمحقق البحراني في الحدائق والسيد العاملي في مفتاح الكرامة.

التهذيب حيث جعله الباب الأخير من كتاب الجهاد ذي الثمانين باباً، كما خلت رسائل عملية كثيرة من هذا الكتاب.وهذه المعطيات تلزمنا ببذل جهد إضافي لإحياء هذه الفريضة العظيمة علماً –من خلال إشباعها بالبحث وإثارة تفاصيلها-، وعملاً –بتفعيلها في حياة الأمة وضبط حركتها بقواعد الشريعة- والله ولي التوفيق وهو المستعان.

إن عملية الإصلاح التي هي رسالة الأنبياء والأئمة (سلام الله عليهم أجمعين) [إنْ أُريدُ إلا الإصْلاحَ مَا استَطَعْتُ وَمَا تَوفِيقِيَ إلا بِاللهِ] إنما تتحرك وتُنفَّذ على أرض الواقع من خلال هذه الفريضة المباركة والدعوة إلى الخير، فإحياء هذه الفريضة يعني مواصلة تأدية رسالة الرسل والأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) في كل ميادين الإصلاح(1) السياسي والاجتماعي والفكري والأخلاقي والتشريعي والاقتصادي.

ص: 123


1- راجع خطاب (الإصلاح: رسالة الإمام الحسين (علیه السلام)) في العدد (121) من صحيفة الصادقين، وأدرجناه فيما سبق من هذا الكتاب ص71.

خطاب المرحلة 355 :إن الله قد يحب العبد ويبغض عمله

خطاب المرحلة 355 :إن الله قد يحب العبد ويبغض عمله(1)

روى لنا أمير المؤمنين (علیه السلام) حديثاً عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) يعطينا فيه قاعدة من قواعد السلوك الاجتماعي والتعامل مع الآخرين، ويعالج لنا مشكلة تمزّق المجتمع وتغذي البغضاء بين أبنائه.

فمن خطبة له (ع) قال (واعلم أنّ لكل ظاهرٍ باطناً على مثاله، فمن طاب ظاهره طاب باطنه، وما خبث ظاهره خبث باطنه، وقد قال الرسول الصادق (صلی الله علیه و آله) ((إنّ الله يحبّ العبد ويبغض عمله، ويحبّ العمل ويبغض بدنه)).

واعلم أنّ لكل عملٍ نباتاً، وكل نبات لا غنى به عن الماء، والمياه مختلة، فما طاب سقيُه، طاب غرسُه وحلَت ثمرته، وما خبث سقيُه، خبث غرسُه وأمّرت ثمرته).(2)

وورد هذا الحديث في رواية أوردها الشيخ الطوسي (قدس سره) عن الإمام الباقر (علیه السلام) وفيها قوله (أما علمت أنّ الله يحبّ العبد ويبغض عمله، ويبغض العبد ويحب عمله).(3)

ص: 124


1- محاضرة سماحة الشيخ اليعقوبي في بحثه الشريف يوم الأحد 23 صفر 1434 المصادف 6/ 1/ 2013.
2- نهج البلاغة، الخطبة (154) في فضائل أهل البيت (علیهم السلام)، أوّلها ((وناظر قلب اللبيب)).
3- أمالي الطوسي: 616، الجزء الرابع عشر في أخبار إبراهيم الأحمري.

أقول: يلاحظ فرق بين النصين في الفقرة الثانية وهو الشخص المبغوض، إذ وصفه نص نهج البلاغة بالبدن ونص الأمالي بالعبد، وبرأيي القاصر فإن نص الشريف الرضي في نهج البلاغة هو الأصح، والوجه في ذلك يظهر من خلال الالتفات إلى أمور:1-إنّ رواية نهج البلاغة وصفت الشخص المبغوض بالبدن ولم تصفه بالعبد فهو كسائر الأبدان والأجساد المادية الخالية من الصفة الإنسانية الحقيقية وهي العبودية لله تعالى (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (الفرقان/44) فهو لا يستحق أن يوصف بالعبودية التي هي أسمى صفة للإنسان، وبها كرّم الله تعالى نبيه المصطفى (صلی الله علیه و آله) حين أمر بذكره في تشهّد وتسليم الصلاة بالعبودية ثمّ الرسالة (وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله) أمّا نصّ الأمالي فقد وصف الشخص المبغوض بالعبد وهو لا يستحقه.

2-إن نص نهج البلاغة استعمل لطيب الباطن والظاهر (مَنْ) وهي تستعمل للعاقل بينما استعمل (ما) للمبغوض وهي تُستعمل لغير العاقل فيناسبه لفظ البدن غير العاقل لا العبد الذي يحمل تمام العقل.

3-إن نص نهج البلاغة قدّم المحبوب بالذكر في كلا الفقرتين (حب العبد وحب العمل) وهو الأليق، بينما قدّم النص الثاني الشخص وإن كان مبغوضاً.

وعلى أي حال فإن معنى كلامه (ع) باختصار:

إن ما يصدر من الإنسان من تصرفات وأفعال ومواقف إنما يعكس حقيقة هذا الشخص وباطنه وذاته، قال (علیه السلام) في كلمة أخرى (ما أضمر أحدٌ شيئاً إلا

ص: 125

ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه) (1) وكما قيل في المثل المعروف (وكل إناء بالذي فيه ينضح).وقد أعطى (ع) في ذيل كلامه مثالاً لهذه المعادلة ووسيلة الوصول إلى الباطن الطيب، فإن العمل كالنبات فيه طيب حلو وفيه خبيث مر، فإذا كان الماء الذي يسقي الزرع والأرض طيباً كان الزرع طيباً حلواً، وإلاّ كان مراً خبيثاً، وهكذا النفوس إذا سُقيت من معينٍ نقي للمعرفة والعلم والأخلاق كانت صالحة طيبة، وإلاّ فستكون خبيثة.

وبالعودة إلى الحديث النبوي الشريف، فإنه تستفاد منه قاعدة لتمييز الإنسان الصالح من الفاسد، لأنّ الأول لا يترشح منه إلاّ فعل الخير بعكس الثاني، فيُقيّم الإنسان وتعرف حقيقته من خلال الحكم على أفعاله.

لكن –وكما قيل- فإنّ لكل قاعدة شواذاً، فإنّ الإنسان الصالح –عدا المعصوم (علیهم السلام)- قد يصدر منه فعل سيء يبغضه الله تعالى إما لغفلة، أو لضعف في المناعة والعصمة والإرادة، أو لغلبة الهوى والشهوة وتزيين الشيطان أو لسوء تقدير، أو لتأثّر بأقران سيئين، أو لضعف أمام تهديدات وإغراءات ونحوها من أسباب السقوط في المعاصي.

وإن الشخص الفاسد قد يقوم بفعل محبوب لله تعالى كمساعدة محتاج أو رعاية يتيم أو قضاء حاجة إنسان آخر ونحوها، لتأثره بجو إنساني وعاطفي عام، أو لبقية حياة في ضميره أو بتأثير إنسان صالح يحبّه وهكذا.

وبهذا نحلُّ الإشكال الذي قيل على سياق الحديث، وحاصله: إنّ الحديث

ص: 126


1- نهج البلاغة، قصار الكلمات، رقم 36.

النبوي الشريف ينافي الفقرة السابقة عليه وهو ينقض المطابقة بين الظاهر والباطن التي ذكرها أمير المؤمنين (علیه السلام): وملخص الجواب: إنّ هذا الإشكال مبني على كون الحديث النبوي شاهداً على ما أورده من القاعدة، فيُجاب الإشكال بأنّ الحديث ذكر للإشارة إلى الاستثناء من القاعدة، وليس استدلالاً على نفس القاعدة.وقيل في توجيهه شيء آخر ذكره العلاّمة السيّد حبيب الله الخوئي شارح نهج البلاغة، قال (قدس سره): ((وإنما الإشكال في ارتباط هذا الكلام لسابقه و في استشهاد الامام ع به مع أنّه لا مناسبة بينهما ظاهرا ، و ليس للاستشهاد به وجه ظاهر ، بل منافاته لما مرّ أظهر من المناسبة كما هو غير خفيّ، إذ لازم محبّة اللَّه للعبد كون العبد طيّبا ، و لازم بغضه لعمله كون العمل خبيثا فلم يكن الظّاهر موافقا للباطن ، فينافي قوله ع: فما خبث ظاهره خبث باطنه.

وكذلك مقتضى بغض اللَّه سبحانه لبدن الكافر كونه خبيثا ، و حبّه لعمله كون عمله طيّبا ففيه أيضا مخالفة الظّاهر للباطن ، فينافي قوله : فما طاب ظاهره طاب باطنه.

والذي سنح لي في وجه الارتباط و حلّ الإشكال بعد التّروي و صرف الهمّة إلى حلّه أيّاما و الاستمداد من جدّي أمير المؤمنين عليه و آله سلام اللَّه ربّ العالمين هو أنّه لمّا ذكر أنّ ما هو طيّب الظّاهر طيّب الباطن و ما هو خبيث الظّاهر خبيث الباطن ، عقّبه بهذا الحديث النّبوي i تنبيها و إيقاظا للسّامعين بأنّ العبد قد يكون نفسه محبوبا و عمله مبغوضا ، و قد يكون بالعكس كما أفصح عنه الرّسول الصّادق المصدّق.

ص: 127

فاللاّزم له إذا كان محبوب الذّات للَّه سبحانه و مبغوض العمل أن يجدَّ في تحبيب عمله إليه تعالى حتّى يوافق نفسه عمله في المحبوبيّة ، و إذا كان محبوب العمل مبغوض البدن أي الذّات أن يجدّ في تحبيب ذاته إليه كي يوافق عمله نفسه.والغرض بذلك الحثّ على تطبيق الظّاهر للباطن في الأوّل و تطبيق الباطن للظّاهر في الثّاني في المحبوبيّة حتى يكونا طيّبين ، و يفاز إلى النّعيم الدّائم و الفوز الأبدي، و لا يعكس حتّى يكونا خبيثين مبغوضين له تعالى، فيقع في العذاب الأليم و الخزي العظيم ، و قد زلّت في هذا المقام أقدام الشّراح و المحشّين).(1)

أقول: هذا المعنى صحيح في نفسه، وإن كان يحتاج إلى مقدمات لاستظهاره من الحديث الشريف وحل الإشكال به.

ونذكر هنا وجوهاً أخرى بحسب فهمنا القاصر لسبب إيراد أمير المؤمنين (علیه السلام) هذا الحديث في ذيل كلامه المذكور وهي كالنتائج والثمرات المستفادة من هذا الحديث الشريف، ومنها:

1-أراد (ع) أن يمنع من اعتماد الشخص على هذه القاعدة فيعتقد أنّه ما دام مؤمناً فإنه لا يصدر منه إلاّ الفعل الحسن فيأخذه العجب ويغفل عن مراقبة نفسه ولا يحسب لاحتمال ضعف النفس وغواية الشيطان، فنبهه الإمام إلى إمكان الوقوع في الفعل المبغوض مهما كانت درجة إيمانه –عدا المعصومين (علیهم السلام)- فلا يركن إلى نفسه.

ص: 128


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 9/ 248.

وكذا زرع الأمل في نفوس السيئين بأنّهم مهما كانت درجة انحطاطهم فإنّه يمكن أن يصدر منهم الفعل الحسن فلا يقنطوا ولا ييأسوا من رحمة الله تعالى ولطفه وعليهم أن يسعوا للقيام بالفعل الحسن وإن كانوا فاسقين، قال تعالى (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ) (الزمر/53).2-إن هذا التطابق بين الظاهر والباطن لابد أن يتحقق ويكون تاماً لأنّه غير قابل للتفكيك لأن الظاهر صورة للباطن، كالمطابقة بين الصورة في المرآة وصاحبها، حيث لا يتصور عدم المطابقة بينهما، فإذا حصل شيء على خلاف هذه القاعدة، فإنه يُعالج بما يعيد فاعله إلى هذه القاعدة.

فالمؤمن إذا صدر منه فعل مبغوض إلى الله تعالى فتح له باب التوبة والاستغفار وطلب العفو حتى يمحو ذلك الخطأ ويعود إلى المسار الصحيح، وقد يحتاج الأمر إلى أن يُبتلى ويعاقب بمرض أو مصيبة أو همٍّ أو خسارة وغيرها مما ذُكر في كفارات الذنوب، قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) (الشورة/30).

والكافر الذي ليس له في الآخرة من خلاق، إذا صدر منه فعل يحبّه الله تعالى أعطى جزاءه في الدنيا مما يحبّه ويرغب فيه ويعمل من أجله لكي لا يبقى له استحقاق عند الله تعالى ويعود التطابق بين الظاهر والباطن.

لأنّ الحب والبغض بالنسبة إلى الله تعالى ليس بالمعنى المعروف عندنا نحن البشر لتنزهه سبحانه عن ذلك، وإنما يعني آثارهما من الثواب والعقاب وهذا معنى صحيح أكّدته روايات كثيرة.

3-إن ذكر الحديث النبوي الشريف للمنع من الحكم على شخص ما بأنّه

ص: 129

صالح أو غيره، ومحبوب عند الله تعالى أو مبغوض من فعل واحد أو فعلين بالاستناد إلى هذه القاعدة، بأن يقال: إنّه لو كان صالحاً لما صدر منه الفعل السيء، ولو كان مبغوضاً عند الله لما صدر منه الفعل المحبوب، فأتى (ع) بالحديث النبوي ليفيد أنّه قد يصدر منه الفعل السيئ وهو محبوب عند الله تعالى، وقد يقوم بالفعل المحبوب وهو مبغوض عند الله تعالى.نعم يمكن الحكم عليه إذا تحوّلت أفعاله إلى سيرة مستمرة وغالبة عليه، فإنها تكشف عن ملكة راسخة بهذا الاتجاه أو ذاك، وهذا ما ذكره الفقهاء في معنى العدالة من انها ملكة نفسية راسخة تُثمر استقامة على جادة الشريعة.

4-إنّ العبد مهما تظاهر على خلاف باطنه فإنه سيعود إليه وتنكشف حقيقته وتتحقق المطابقة بين الظاهر والباطن، فقد يصدر من الشخص السيئ فعل حسن بتصنع ورياء وخداع، ويصدر من الإنسان الصالح فعل سيء، لكن كل واحد منهما لابد أن يعود في النهاية والخاتمة إلى ما يطابق باطنه مهما طال الزمن، قال تعالى (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) (الإسراء/84).

والتاريخ حافل بأسماء أشخاص كانت حياتهم مملوءة بالفسق والابتعاد عن الله تعالى لكنّهم خُتم لهم بالخير لأنّ أصلهم ومعدنهم كان كذلك كبشر الحافي والحر الرياحي مثلاً، ويوجد أمثلة كثيرة للعكس من ذلك كإبليس اللعين الذي كان مع الملائكة وعبد الله تعالى ستة آلاف سنة ثمّ خُتم له بالشقاء، وهذا لا ينافي الاختيار لأنّ كلاً منهما باختياره فعل ما يوجب له تلك الخاتمة.

5-إنّه (ع) إنما ذكر الحديث لمعالجة مشكلة موجودة في المجتمع

ص: 130

تحكم العلاقات بين الناس ومنشأها عدم التفكيك بين تقييم الشخص وتقييم فعله أي تطبيق الملازمة المذكورة في كلام الإمام (علیه السلام) من دون الالتفات إلى الاستثناء، والمشكلة هي إن أحدنا إذا اختلف مع شخص آخر أو لم يرتضِ فعلاً من أفعاله فإنه يرفضه جملة وتفصيلا ويعاديه ويشنّع عليه.فالمشكلة التي نعاني منها وتمزّق وحدة المجتمع هي التوسع من رفض الفعل إلى رفض نفس الفاعل، وبدل الاعتراض على الفعل نفسه كحاله يتحوّل إلى رفض الشخص كلياً وتسقيطه وتفسيقه وإلغائه ولو كان إنساناً مؤمناً ملتزماً بالخط العام للشريعة، وفي هذا خروج عن القواعد الشرعية وتجاوز للحدود (وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) (الطلاق/1) (وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (البقرة/229).

وبالمقابل فإذا أحسن له شخص بفعل ما فإنّه يتحوّل عنده إلى إنسان محبوب وإن كان معروفاً بابتعاده عن الشريعة، فالإمام يدعو إلى التفكيك بين ذات الشخص وفعله وعرض كل منهما على ميزان التقييم بمعزل عن الآخر، فإذا كانت ذاته وباطنه صالحة فلا يجوز لك تسقيطه في المجتمع لموقف استنكرته منه، أو أخطأ فيه فإنّ المؤمن قد يقع في الخطأ والخطيئة ثم يتوب ويصلح شأنه ويعود قال الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) (الأعراف/201) فلا يجوز انتهاك حرمة المؤمن لفعل سيء صدر منه.

هذه مشكلة مهمة نعاني منها يعالجها الإمام (علیه السلام) بالالتفات إلى هذا الحديث الشريف، فلتكن عندنا رويّة وحكمة في تعاملنا مع الآخرين، ولا

ص: 131

نتورط أمام الله تعالى في تسقيط الآخرين ورفضهم والتشهير بهم لموقف اختلفنا فيه معهم وهذا الدرس الذي أردت بيانه واستفادته من الحديث النبوي الشريف.وقد شهدنا في شهري محرم وصفر الحاليين تسقيطاً وتشهيراً من البعض لأنهم لم يوافقونا على بعض المواقف التي اتخذناها ونعتقد أن فيها رضا الله تعالى وصلاح الأمة، وقد أصبحت هذه الحالة السيئة منتشرة بكل أسف والمفروض بمن يعمل وفق تعاليم المعصومين (علیهم السلام) أن يفكّك بين الفعل وذات فاعله حتى لو اعتقد أن ما صدر منه كان سيئاً.

ولا تفوتني الإشارة إلى أنَّ المعروف والمتداول إن الظاهر انعكاس للباطن، وإن الباطن هو الأصل والظاهر مظهر له وكاشف عنه، لكن لا يبعد أن يستظهر العكس من الخطبة الشريفة لقوله (علیه السلام) (واعلم أن لكل ظاهرٍ باطناً على مثاله) أي أن الباطن يتشكل وفق الأفعال التي تصدر من العبد، فإن الشخص صاحب الباطن السيء يستطيع أن يتكلّف القيام بأفعال صالحة وهذا يغيّر باطنه تدريجياً إلى الصلاح وإن كان ليس كذلك قبل ذلك، وبالعكس فقد يكون له باطن صالح لكن قام بأفعال سيئة من دون أن يتوب ويستغفر ويندم فيفسد باطنه.

وهذا معنى صحيح وموافق للروايات التي مضمونها: إذا أذنب العبد صارت في قلبه نكتة سوداء، فإذا لم يتب وأذنب ثانياً صارت في قلبه نكتة ثانية وهكذا حتى يسوّد القلب ويموت فلا يرجى منه الخير والعياذ بالله تعالى.

ص: 132

خطاب المرحلة 356 :من سُنن النبي (صلی الله علیه و آله)

حثّنا الله تبارك وتعالى على الأخذ بسنة النبي (صلی الله علیه و آله)، قال الله تعالى (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) (الأحزاب/21) عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال (إني لأكره للرجل أن يموت وقد بقيت خلة من خلال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لم يأت بها)(1).

وجعل الإمام (علیه السلام) سنن النبي (صلی الله علیه و آله) وسيرته ميزاناً يعرف بها الإنسان درجة صلاحه، فقد روى الشيخ الصدوق بسنده عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (إنّ الله خصّ رسوله (صلی الله علیه و آله) بمكارم الأخلاق فامتحنوا أنفسكم، فإن كانت فيكم فاحمدوا وارغبوا إليه في الزيادة منها).(2)

وهذا يدعونا إلى البحث والتحري عن سنن النبي (صلی الله علیه و آله) حتى نتمكن من التأسي بها، ونحن لا نتوقع التمكن من الإتيان بها جميعاً، لكن علينا أن نسعى إلى تحقيق أكبر مقدار نستطيعه ونحافظ عليه وعندئذٍ يوفّقنا الله تعالى لا زيد من ذلك فنلتزم به ونحافظ عليه فنوفّق للمزيد وهكذا بالتدريج.

وسنن النبي (صلی الله علیه و آله) ومكارم أخلاقه تفوق حد الحصر، وما بين أيدينا هو ما نقل لنا منه عبر الروايات أما مقاماته وخصاله وملكاته فلا يعرفها إلا الله تبارك

ص: 133


1- بحار الأنوار: 16/ 254 عن مكارم الأخلاق للطبرسي: 39.
2- وسائل الشيعة كتاب جهاد النفس أبواب جهاد النفس باب4 ح1.

وتعالى.ونحاول في هذه العجالة أن نقف عند بعض هذه السنن وأول مصدر لسننه (صلی الله علیه و آله) وآدابه التي أدّبه بها ربّه هو القرآن الكريم، وقد سجّل لنا جملة منها كقوله تعالى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}آل عمران159

وقوله {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}الأعراف199

وقوله {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}النمل91

وقوله {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}الروم60

وقوله {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً}الكهف23

وقوله {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً}الإسراء79

وقوله وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) (العنكبوت/45).

ومن الروايات الجامعة لمكارم أخلاقه (صلی الله علیه و آله) وسننه: وصيته لأمير المؤمنين (علیه السلام) التي رويت في الكتب المعتبرة عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام) : يا علي اوصيك في نفسك بخصال فاحفظها ثم قال : اللهم اعنه ، اما الاولى فالصدق لا يخرجن من فيك كذبة ابدا ، والثانية الورع لا تجترأنّ على خيانة ابدا ، والثالثة الخوف من الله كأنك تراه ، والرابعة كثرة

ص: 134

البكاء من خشية الله عزّ وجلّ يبني لك بكل دمعة بيت في الجنة ، والخامسة بذل مالك ودمك دون دينك ، والسادسة الاخذ بسنتي في صلاتي وصيامي وصدقتي ، اما الصلاة فالخمسون ركعة ، واما الصوم فثلاثة ايام في كل شهر خميس في اوله ، وأربعاء في وسطه ، وخميس في آخره ، واما الصدقة فجهدك حتى يقال : اسرفت ولم تسرف ، وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الليل ، وعليك بصلاة الزوال ، وعليك بقراءة القرآن على كل حال ، وعليك برفع يديك في الصلاة، وتقليبهما ، عليك بالسواك عند كل صلاة ، عليك بمحاسن الاخلاق فاركبها ، عليك بمساوئ الاخلاق فاجتنبها ، فإن لم تفعل فلا تلومن الا نفسك)(1).وقد تضمنت هذه الوصية عدّة محاور من سنته الشريفة منها على صعيد الصفات القلبية -كالورع والخوف من الله تعالى- ومنها على صعيد الخصال النفسية – كالصدق- ومنها على صعيد الأعمال الخارجية كالصوم والصلاة والصدقة.

ويعلمنا النبي (صلی الله علیه و آله) أن العمل بهذه السنن والأخذ بها لا يتحقق إلاّ بألطافٍ إلهية خاصة، لذلك فإنّه (صلی الله علیه و آله) يدعو لأمير المؤمنين (علیه السلام) (اللهمّ أعنه).

وقد علمنا الأئمة المعصومون (علیهم السلام) أن ندعو نحن أيضاً بهذا الدعاء كالذي ورد في الدعاء اليومي لشهر شعبان (اللهم فأعنّا على الاستنان بسنته (صلی الله علیه و آله) فيه).

كان (صلی الله علیه و آله) يجتهد في العبادة فقيل له (يا رسول الله غفر الله لك ما تقدَّم من

ص: 135


1- وسائل الشيعة كتاب الجهاد أبواب جهاد النفس، باب 4 ح1.

ذنبك وما تأخّر وأنت تجهد هذا الاجتهاد؟ فقال (صلی الله علیه و آله): أفلا أكون عبداً شكورا)(1)، وصفة العبودية لله تعالى وحده والتحرّر من طاعة غيره هي مصدر كل الكمالات الأخرى لذلك اختارها الله لتكون الصفة التي يسلّم عليه بها يومياً في صلواتنا (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله).وأذكر لكم عملاً عبادياً بسيطاً لو واظبتم عليه تكونون ممن أخذ بسنة النبي (صلی الله علیه و آله) وجدّه إبراهيم الخليل (ع) حيث أمرنا بالتأسي به أيضاً قال تعالى (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه) (الممتحنة/4) وهي صلاة ركعتين يوم الجمعة بين الظهر والعصر، تقرأ في كلٍ منهما بالحمد مرة والتوحيد سبع مرات فإذا فرغت منها تقول (اللهمّ اجعلني من أهل الجنة التي حشوها البركة وعمّارها الملائكة مع نبينا محمد ص وأبينا إبراهيم ع)، روي عن الأئمة (علیهم السلام): أنّ من صلاّها لم تضره بليّة ولم تصبه فتنة إلى الجمعة الأخرى، وجمع الله بينه وبين محمدٍ وبين إبراهيم (علیه السلام).(2)

ومن سنن النبي (صلی الله علیه و آله) التي أكّد عليها وذمّ تركها الزواج وحبذا أن يكون مبكّراً روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قوله: (تزوّجوا فإنّ التزويج سنة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فإنّه كان يقول: من كان يحبّ أن يتّبع سنتي فإنّ من سنّتي التزويج، واطلبوا الولد فإنّي مكاثر بكم الأمم).(3)

ومن سننه (صلی الله علیه و آله) منع نقل أي كلام عن الآخرين يؤدي إلى إيجاد حزازة

ص: 136


1- المصدر، ح2.
2- مفاتيح الجنان: 90 أعمال يوم الجمعة فقرة 26.
3- وسائل الشيعة، كتاب النكاح، أبواب مقدماته، باب1 ح6.

في الصدر على الإخوان لذلك روى عن ابن مسعود عنه (صلی الله علیه و آله) أنّه قال (لا يبلغني أحدٌ منكم عن أصحابي شيئا فإنّي أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر).(1)وكانت أبغض خصلة له (صلی الله علیه و آله) الكذب فقد رُوي عن أمّ المؤمنين عائشة قولها (كان أبغض الخلق إليه الكذب) وقالت: (كانت (صلی الله علیه و آله) إذا اطّلع على أحدٍ من أهل بيته كذبَ كذبةً لم يزل معرضاً عنه حتى يحدث توبة).(2)

وكان يحبّ صفة الرحمة للناس والشفقة عليهم والعفو عن إساءاتهم وقضاء حوائجهم. قال تعالى (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة/128).

وكان (صلی الله علیه و آله) يقول (أيّها الناس إنّما أنا رحمة مهداة).(3)

وسُئلَ الإمام الصادق (علیه السلام) (بِمَ ساد النبي (صلی الله علیه و آله) الخَلق، فأجابَ بما مضمونه: بخصلتين العفو عمن ظلمه وأنّه لا يرد سائلاً.

تصوروا لو أنّ هذه الصفات (الصدق، الرحمة، العفو إلى المسيء، العمل على تحقيق مصالح الناس وإسعادهم) توفّرت في قادة البلاد هل تصل الحال إلى ما نحنُ عليه الآن من التمزّق والتناحر والصراع الطائفي والعرقي والفساد والعبث بأموال الشعب، فإذا أردنا الحل فإنّه يبدأ من الالتفات إلى هذه المبادئ السامية والأخلاق الكريمة حتى تتحوّل إلى خلق ثقافة عامة مبنيّة عليها، والعمل

ص: 137


1- بحار الأنوار: 16/ 231 عن مكارم الأخلاق: 17.
2- ميزان الحكمة: 8/ 571 عن كنز العمال: ح18379 و 18381.
3- ميزان الحكمة: 8/ 542 عن الطبقات الكبرى: 1/ 192.

الجاد لترسيخها والله تعالى وليّ التوفيق.ومن سُننه (صلی الله علیه و آله) ما روته السيدة الزهراء (صلوات الله عليها) قالت: (دخل عليَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد افترشتُ فِراشي للنوم، فقالَ لي يا فاطمة: لا تَنامي إلاّ وقد عملتِ أربعة: ختمتِ القرآن، وجعلتِ الأنبياء شُفعائكِ، وأرضيتِ المؤمنين عن نفسكِ، وحججتِ واعتمرتِ، قال هذا وأخذَ في الصلاة، فصبرتُ حتّى أتمّ صلاته، قلت: يا رسول الله (صلی الله علیه و آله)، أمرتَ بأربعة لا أقدر عليها في هذا الحال، فتبسّم (صلی الله علیه و آله)، وقال: إذا قرأتِ (قُل هو الله أحد) ثلاث مرات فكأنكِ ختمتِ القرآن، وإذا صلّيتِ عليَّ وعلى الأنبياء قبلي كُنّا شُفعائكِ يوم القيامة، وإذا استغفرتِ للمؤمنين رضوا كلّهم عنكِ، وإذا قُلتِ: سُبحانَ الله، والحمدُ لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر فقد حججتِ واعتمرتِ).

ومن مستحبات ما قبل النوم تسبيح الزهراء (علیها السلام) والنوم على طهور وقراءة سورة التكاثر للوقاية من فتنة القبر كما رويَ عنه (صلی الله علیه و آله).

ص: 138

خطاب المرحلة 357 :كيف نكون من أهل (يا ليتنا كنّا معكم)

خطاب المرحلة 357 :كيف نكون من أهل (يا ليتنا كنّا معكم)(1)

كلّنا نخاطب الإمام الحسين (علیه السلام) وأصحابه البررة بألسنتنا ووجداننا (يا ليتنا كنّا معكم فنفوز فوزاً عظيماً) ونتأسّف أننا لم نكن من أولئك الجيل الذي عاصر المعصومين (علیهم السلام) وتشرّف بلقائهم وفاز بنصرتهم ونال الشهادة بين أيديهم.

ونحن نعتقد أنّ الله تعالى عادل يعطي فرصاً متكافئة لعباده حتّى يتقرّبوا بها إليه، فهل أنّ الله تعالى حبى ذلك الجيل بهذه الفرصة وحرمنا نحن منها؟ هذا خلاف هذه الحقيقة الثابتة، فما هي فرصتنا التي تناسب ذلك؟ أنّها أداء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

من كلمة لأمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (وما أعمال البرّ كلها، والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلاّ كنفثة في بحر لُجّي).

والنفثة هو مقدار اللعاب الضئيل الذي يصاحب نفخ الهواء من الفم، وهو مقدار يسير فما قيمته إلى البحر العميق الواسع المتلاطم كالمحيطات، هذه هي نسبة أعمال البرّ كلّها وبضمنها الجهاد في سبيل الله إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الجهاد الذي وصفه أمير المؤمنين (علیه السلام) بأنّه بابٌ من أبواب الجنة فتحه الله

ص: 139


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع عدة وفود من مختلف المحافظات يوم السبت بتاريخ 20/ع1/ 1434 الموافق 2/2/ 2013.

لخاصة أوليائه وهو درع الله الحصينة وجنّته الواقية، والذي نخاطب أصحابه (يا ليتنا كنّا معكم) تتضائل قيمته أمام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الفرصة العظيمة متاحة لنا ونستطيع أن نعوّض من خلالها ما فاتنا من نصرة أبي عبد الله الحسين (علیه السلام).بل أنّ إحياء هذه الفريضة هو تلبية لنداء الإمام الحسين (علیه السلام) وتحقيق لغرضه الذي خرج من أجله (وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمد (صلی الله علیه و آله) لأأمر بالمعروف وأنهى عن المنكر) فالقيام بهذه الوظيفة نصرة فعلية للإمام الحسين (علیه السلام).

هذه الفريضة التي ضيّعتها الأمة بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) مباشرة، وكان ثمن التضييع باهظاً: استشهاد الصديقة الزهراء (علیها السلام) وإقصاء الإمام الحق أمير المؤمنين عن مقامه الذي وضعه الله تعالى فيه.

إنّ مشاكلنا كثيرة، ولكنّكم لو حللتموها لتصلوا إلى أسبابها لوجدتم أصل كل المشاكل سواء كانت أخلاقية أو اجتماعية أو عقائدية أو سياسية أو اقتصادية... ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحلول هذه المشاكل كلّها يبدأ من إحياء هذه الفريضة المباركة، فإنها الأصل في الحل سواء كان بشكل مباشر أو غير مباشر، فكل الخير في العودة إليها وكلّ الشر في تركها وتضييعها.

وموارد هذه الفريضة على شكلين:

1-المعروف والمنكر على الصعيد الفردي كشخص لا يصلّي فتأمره بالصلاة أو يشرب الخمر فتنهاه عنها أو لا يدفع الخمس والزكاة فتدعوه إلى

ص: 140

الالتزام بهما أو امرأة سافرة فتأمرها بالحجاب.2-المعروف والمنكر على المستوى الاجتماعي: وذلك حينما يتحوّل المنكر إلى ظاهرة اجتماعية متفشيّة في المجتمع، خصوصاً إذا أصبح فعله معتاداً لا يستنكره أحد، بل ربّما يستهجن فعل الناهي عنه.

وكلّما اتّسعت دائرة المنكر وازدادت خطورته كانت المسؤولية عن تغييره أكبر والأدوات المستعملة أقوى وأكثر فاعلية، فإذا كان كافياً ردع المنكر من المستوى الأول بالحكمة والموعظة الحسنة، فإنّ الثاني يحتاج إلى خلق وعي اجتماعي ضاغط وحركة جماعية من الخطباء والعلماء والمثقّفين ووسائل الإعلام.

وحاصل الكلام أنّنا كلّنا مسؤولون عن القيام بهذه الوظيفة المباركة وان اختلف حجم المسؤولية ونوعها من واحد لآخر، وهي فرصة لكلّ واحد منّا ليكون من أهل (يا ليتنا كنّا معكم فنفوز فوزاً عظيماً) حقاً وصدقاً، خصوصاً داخل المجتمع النسوي وفي أوساط الشباب.

ص: 141

خطاب المرحلة 358 :ضرورة الاهتمام بفعل المستحبات وترك الشبهات والمكروهات

خطاب المرحلة 358 :ضرورة الاهتمام بفعل المستحبات وترك الشبهات والمكروهات(1)

عندما نمارس وظيفتنا في الهداية والإصلاح وتبليغ الأحكام ندعو للقيام بفعل ما ونحثّ عليه ونشرح ثواب العمل والآثار المباركة له في الدنيا والآخرة، فيُقال لنا: قل لنا هل هو واجب لا يجوز تركه حتى نفعله، وكأنّنا ليس علينا أن نؤدي إلاّ ما كان واجباً جزماً لا رخصة في تركه، أما المستحبات –وبعضها مؤكدة- أو الأمور التي يؤتى بها على نحو الاحتياط الاستحبابي فلا نشعر بالمسؤولية اتجاه القيام بها.

وهكذا عندما ننهى عن فعل معيّن ونبيّن الآثار السيئة على النفس والمجتمع عامة، فيقال لنا: قُل لنا هل هو حرام جزماً حتى نجتنبه، وإلاّ فلا مانع من فعله، وطبعاً ليست كل الأفعال المنهي عنها جزمية الحرمة، فبعضها شبهات، وبعضها يوجد احتياط بتركها، وبعضها ليست حراما لكنّها يمكن أن تكون باباً يؤدي إلى الحرام، فكأنّ هذه كلها مما يمكن اقتحامه ولا يجب اجتنابه.

إنّ منهج عدم فعل شيء إلاّ إذا كان واجباً جزماً، وعدم ترك شيء إلا إذا

ص: 142


1- من حديث لسماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) في يومين متتاليين مع وفود من طلبة الجامعات في بغداد وذي قار وجامعة الصدر الدينية فرع خور الزبير في البصرة ومؤسسات مجتمع مدني من بغداد والحلّة يوم 25-26/ ع1/ 1434 ه- المصادف 6-7/ 2/ 2013.

كان حراماً جزماً، منهج غير منتج ولا يوصل إلى الفلاح، ومن يسير وفق هذا المنهج فإنّه يسقط في الهاوية وتزلّ قدمه.والمثال الواضح لذلك هو شق الطرق فإنه يوضع إلى جانب الطريق كتف ترابي يسمى حمى الطريق ليشعر قائد السيارة بالاطمئنان والثبات ولتحقيق الأمان للسيارة عندما تزل إطاراتها عن الشارع المعبّد بسبب غفلة السائق أو لتعرضه لموقف مفاجئ، ويتأكد الأمر لدى المهندس حينما يصمّم طريقاً في منطقة جبلية وعرة، وإلى جانبها وادٍ سحيق، فإن هذا الكتف يكون ضرورياً، ولو وضع حد الشارع على حافة الوادي فإن السقوط فيه سيكون وارداً جداً خصوصاً عندما تضايقه سيارة قادمة أو تأخذه سِنة او غفلة، بل ان قائد السيارة يكون مرتبكاً وقلقاً وغير متزن إذا لم يوجد هذا الحمى إلى جانب الطريق ويؤدي به ارتباكه إلى السقوط في المحذور، وهذا جانب نفسي لا يمكن انكاره.

وهذا هو حال من يزعم أنه يسير وفق الأحكام الإلزامية فقط من واجبات ومحرمات ولا يعزّزها بفعل المستحبات وترك الشبهات والمكروهات بمقدار ما يستطيع وبمقدار ما يوفّقه الله تعالى إليه.

وقد وُصفت الشبهات بنفس لفظ الحمى في الأحاديث الشريفة.

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فمن رعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه).(1)

حُكي أن عالماً سأل أحد علماء السلف الصالح أنه لماذا ندعو فلا يستجاب

ص: 143


1- مجموعة ورّام: 1/ 52.

لنا، بينما كان دعاء السلف الصالح مستجاباً، قال في جوابه: لأننا كنّا نقسّم أحكام الأشياء على قسمين فقط: ما نلتزم بفعله وهي الواجبات والمستحبات، وما نلتزم بتركه وهي المحرمات والمكروهات، أما أنتم فقسمتموها إلى خمسة أقسام: واجب ومستحب ومباح ومكروه وحرام ولم تلزموا أنفسكم إلاّ بفعل الأول وترك الأخير فسبّب لكم هذه القسوة والابتعاد عن الله تعالى.صحيح أن الواجبات أهم من المستحبات بدليل جعلها واجبات أي أن المصلحة في الفعل الواجب ملزمة –كما يعبّرون- وتفيد بعض الروايات أنها أكثر ثواباً عند الله تعالى من المستحبات، لكنّنا بصدد الحديث عمّا هو أكثر إنتاجاً وإيصالاً في طريق التكامل، والمستفاد من بعض الروايات أن النوافل هي الأكثر فاعلية، ويساعد عليه الوجدان، لأن الإنسان يؤدي الفرائض بدافع الخوف من العقوبة إذا تركها غالباً باعتبارها واجبة، أما المستحبات فيؤديها رغبة في ثواب الله تعالى والتقرب إليه والفوز بمحبته ورضاه، وهذه النية الثانية موجبة أكثر من الأولى للتقرب من الله تبارك وتعالى.

وأذكر شاهداً على هذا التأثير للنوافل وهي حكاية رواها أحدهم عن المرحوم السيد علي القاضي صاحب المدرسة الأخلاقية المعروفة قال فيها أنه أيام إقامته في النجف الأشرف كان هناك شاب منحرف يشرب الخمر وتارك للصلاة، لكنه كان يحب السيد القاضي كثيراً ويساعده إذا رآه ويحمل عنه حاجاته إلى داره، وكان السيد ينصحه بأن يتوب إلى ربّه ويلتزم بالصلاة ويترك الخمر، لكنه لم يأخذ بالنصيحة وبعد سنين قال له السيد إنني طلبت منك طلباً منذ سنين ولم تستجب لي، فقال الشاب: لا أقدر على الالتزام، فقال السيد له:

ص: 144

إذن أطلب منك أن تفعل في ليلة واحدة بأن تقوم في منتصف الليل والناس نيام فتتوضأ وتصلي صلاة الليل، فقال الشاب أن نومي عميق ولا أستطيع الاستيقاظ في منتصف الليل، قال السيد، لا بأس أنا أضمن لك استيقاظك وواعدني بفعل ما طلبت، فوعده بذلك ولما انتصف الليل استيقظ الشاب فجأة وجاء إلى حوض الماء ليتوضأ وفكّر وتدبّر وتأمّل طويلاً وراجع نفسه واستحيا من خالقه فأدركته الألطاف الإلهية، وهنا خاطب ربّه بكلمة اشتهرت لاحقاً (يا رب إني وإن تأخرت في الوصول إلا إنني أرجو أن لا أفارقك) ومن ذلك اليوم استقام في سيرته وأصبح من مشاهير الصالحين في النجف.وقد تبين مما سبق وجود أكثر من ثمرة للإتيان بالمستحبات، منها.

1-انها صيانة ووقاية للواجبات، فمن كان مؤدياً للنوافل والمستحبات، فإنه بالطبع أشدّ التزاماً بالواجبات، أما من اقتصر على الواجبات فإنه معرّض لفواتها بسبب أو آخر.

2-إن النوافل والمستحبات أسرع إيصالاً في سلّم الكمال، ومن الأحاديث الواردة في ذلك صحيحة ابان بن تغلب عن الإمام الباقر (علیه السلام) في الحديث القدسي (وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّب إليَّ بِالنَوَافِلِ حَتَى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ).

3-إن بها إتمام نقص الفرائض من حيث القبول، لأن الناس غالباً لا يأتون بالفريضة بالشكل الموجب للارتقاء، كالصلاة الخاشعة مثلاً، فشرعت النوافل

ص: 145

لإتمام هذا النقص، وقد وردت في هذا المعنى روايات عديدة، كصحيحة محمد بن مسلم عن الإمام الباقر (علیه السلام)، قال: (إنَّ العبد ليرفع له من صلاته نصفها أو ثلثها أو ربعها أو خمسها، فما يرفع له إلا ما أقبل عليه منها بقلبه، وإنما أمرنا بالنافلة ليتم لهم بها ما نقصوا من الفريضة).(1)وروى أبو بصير نفس الحديث عن الإمام الصادق (علیه السلام) وقال بعده: ما أرى النوافل ينبغي أن تترك على حاله، فقال الإمام الصادق (علیه السلام): (أجل لا).

4-الثواب الكبير المرصود لمن أتى بالمستحبات بشكل مذهل أوجب عدم تصديق الكثيرين، ولم تتحمل عقولهم أن يكون مثل ذلك الثواب لمن صلى ركعتين أو قرأ سورة قصيرة من القرآن أو قضى حاجة لأخيه المؤمن أو تصدق بمبلغ يسير، لكن كرم الله تعالى واسع وخزائنه لا تنفد، وقد حفل القرآن الكريم والروايات الشريفة(2) بأمثال ذلك، حتى ان بعض ذلك الثواب لم يذكر تعظيماً لشأنه كثواب صلاة الليل، قال تعالى (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (السجدة/17)، ومثل هذا الثواب العظيم لا يفرّط به عاقل، ونحن في هذه الدنيا الزائلة نزرع لنحصد في الآخرة وفي تجارة لن تبور، والربح الجنة، ولذلك كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يجهد نفسه في النوافل والمستحبات، لأنه وعى قوله تعالى (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً) (الإسراء/79) ومن لا يريد أن يبعثه الله تعالى في المقام المحمود؟، وإنما ينال بامتطاء الليل كما عبّّر الإمام الحسن العسكري (علیه السلام).

ص: 146


1- وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب اعداد الفرائض ونوافلها، باب17 ح3.
2- راجع (مفاتيح الجنان) ونحوه.

وقد أجهد النبي (صلی الله علیه و آله) نفسه الشريفة حتى أشفق عليه ربه وخاطبه (طه . مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (طه/ 1-2) وقيل له: يا رسول الله أتتعب هكذا بالعبادة وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال (صلی الله علیه و آله): أفلا أكون عبداً شكوراً.وفي الطرف المقابل فإن نفس الآثار المباركة تحصل من ترك الأمور المشتبهة والمكروهات، عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (حلال بيِّن وحرام بيِّن وشبهات بين ذلك، فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان منه اترك).(1)

وعنه (علیه السلام) (إياك والوقوع في الشبهات، والولوع بالشهوات، فإنهما يقتادانك إلى الوقوع في الحرام وركوب كثيرٍ من الآثام).(2)

وروى الإمام الصادق (علیه السلام) حديثاً عن جدّه رسول اله (صلی الله علیه و آله) جاء فيه (فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم).(3)

وينبغي الالتفات إلى أنه ليس من المقدور إتيان كل ما مذكور من المستحبات واجتناب كل ما ورد من المكروهات، لكننا ذكرنا في خطاب سابق عن سنن النبي (صلی الله علیه و آله) انك تبذل وسعك في فعل ما تستطيع وسيوفقك الله تعالى إلى ما لم تكن تستطيع، فلنتعاون على البر والتقوى كما أمر الله تبارك وتعالى.

ص: 147


1- من لا يحضره الفقيه: 4/ 75 ح5149.
2- غرر الحكم: 2723.
3- الكافي: 1/ 68 ح10.

ومن الواضح أيضاً اننا لا نريد من الاهتمام بالمستحبات أن يكون على حساب الفرائض، لأنه (لا قربة بالنوافل إذا أضرّت بالفرائض) كما في الحديث الشريف كمن ينفق في الإطعام واستضافة الزوار وهو لا يؤدي الحق الشرعي، وإنما نتكلم عن الاهتمام بالمستحبات بعد الفراغ من الالتزام بالواجبات.إنّ هذا المنهج من التفكير الذي نريد معالجته في هذا الحديث منتشر مع الأسف وهو عقبة في طريق الإصلاح بل عطّل فرائض مهمة في الإسلام كفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنها ذابت بسبب عدم شعور الفرد بالمسؤولية أمامها، وأحد أسباب ذلك ذهاب المشهور إلى كون وجوبها كفائياً فاتّكل كلٌ على الآخر باعتبار أن الوجوب ليس متعيناً به.

وكذا صلاة الجمعة المباركة حيث قال المشهور أن وجوبها تخييري والمكلف مخيّر بين إقامتها أو أداء صلاة الظهر، فضيّعوها طيلة هذه القرون لأنهم اعطوا لأنفسهم الرخصة في الاختيار بين الظهر والجمعة مع أنهم يعترفون انها أفضل من صلاة الظهر حتى لو قلنا بمقالتهم، وحرمنا بسبب ذلك من بركات هذه الفريضة العظيمة.

حينما نتفقّد أخبار الحضور في صلوات الجمعة نخرج بنتائج إن عدد الحاضرين معتدّ به إلا أنه بلحاظ عدد من يتوقع منهم الحضور غير مرضي وحينما نسأل عن السبب يعتذر البعض بأنه يبعد أزيد من 11 كيلومتراً عن موضع الصلاة فيسقط عنه الوجوب، ويعتذر الآخر بأنه يرجع إلى مرجعية تقول بالوجوب التخييري فلا يتعين عليه الحضور، وهذه نماذج لهذا التفكير غير المثمر الذي يفرط بأعظم القربات إلى الله تبارك وتعالى، فأين ذهبت مئات

ص: 148

الأحاديث الشريفة التي تلزم بالحضور في صلوات الجمعة وتحث على الحضور فيها وتذكر الثواب العظيم والمغفرة الواسعة لمصلّي الجمعة، وهب أن الحضور ليس واجباً بالتعيين على الفرد، لكن أليس هو واجباً تخييرياً وانه أفضل الفردين، فلماذا هذا الزهد بالفضل العظيم والتجارة التي لن تبور.ونفس الشيء نواجهه عند النهي عن بعض الأفعال، فحينما نقول لبعض النساء المحجبات بالثوب الذي ينزل إلى الركبة المعروف ب-(المانتو) مع السروال: ان هذا النمط من اللباس يبتعد عن حجاب العفاف والحياء ويشكّل خطوة نحو التسامح والتحلّل، يقال لنا: انه ساتر للبدن ولا إشكال فيه اقتصاراً على الحدود الدنيا من الواجب.

أو بعض الشباب والشابات من طلبة الجامعات أو الذين يجرون حوارات على الجات وأمثاله ننهاهم عن إنشاء علاقات حتى لو كانت (شريفة) على مستوى تبادل المحاضرات ومناقشة شؤون الدراسة، لأنه فخ من فخوخ الشيطان ومظنة للانجرار نحو الحرام، فإن الشيطان يخطط بمكر وخبث ليصل إلى مراده ويبدأ بمقدمات ليس فيها حرام واضح حتى يخدع المؤمن بإتباعه ثم تتدرج الخطوات ويبتعد المخدوع عن جادة الصواب شيئاً فشيئاً.

ففي البداية تبادل محاضرات وأحاديث عن شؤون الدراسة والحياة العامة ثم إعجاب من الطرفين ببعضهما ثم (مودّة) قلبية ثم تكثيف اللقاءات والمواعيد ثم الاختلاء ببعضهما في أماكن بعيدة عن الرقيب، ولا نعلم ما يحدث بعد ذلك وهذا ما حذّرَنا منه الله تبارك وتعالى فقال (وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) (البقرة/168) لأن الشيطان يتخذ خطوات متدرجة تنتهي إلى الوقوع في الحرام

ص: 149

وقد لا تكون هذه النتيجة واضحة من أول الأمر.أقول: حينما نقدّم هذه التوجيهات للشباب والشابات يقولون لنا أنهم لم يفعلوا حراماً وان علاقتهم (شريفة) وأحاديثهم مقتصرة على شؤون الدراسة والأمور العامة ولا يعلمون أنهم يسيرون على حافة الطريق وإلى جنبهم وادي سحيق ومن دون منطقة حماية لهم على الجوانب.

إن السير بهذا المنهج من عدم الاعتناء بالمستحبات وترك الشبهات والمكروهات يؤدي إلى تضييع الدين شيئاً فشيئاً، لأنه سيترك قراءة القرآن وزيارة الأئمة المعصومين (علیهم السلام) والإحسان إلى الآخرين والحضور في المساجد باعتبارها ليست واجبة، وسيقترب من الشبهات لأنها ليست محرمة جزمية فماذا بقي من الدين؟ وأين التقوى والورع الذي هو خير الزاد ليوم المعاد؟.

والخلاصة أنه علينا أن نعطي أهمية كبيرة لترك الشبهات وما نستطيع من ترك المكروهات، وأن نهتم بفعل ما يوفّقنا الله تعالى إليه من المستحبات خصوصاً المؤكدة منها كبعض النوافل اليومية وقراءة القرآن ولو لبضع دقائق يومياً والحضور إلى المساجد لأداء صلاة الجمعة والجماعة، وزيارة المعصومين (علیهم السلام) بحسب المتيسّر، ويحسن زيارتهم (ع) عن بعد يومياً بسلام خفيف (السلام عليك يا سيدي ومولاي يا رسول الله صلى الله على روحك الطيبة وجسدك الطاهر، وعليك السلام يا مولاي يا حجة الله في أرضة وسمائه ورحمة الله وبركاته) وهكذا لجميع المعصومين مع ذكر اسم كل واحد منهم، فإنه يصل إليهم لأنهم (يسمعون الكلام ويردّون الجواب) كما في الزيارة الشريفة.

ص: 150

خطاب المرحلة 359 :أعطوا للقرآن الكريم دوراً متميزاً في حياتكم

خطاب المرحلة 359 :أعطوا للقرآن الكريم دوراً متميزاً في حياتكم(1)

بعض المتحدثين حينما ترد الآيات القرآنية في كلامه يميّزها بالإلقاء عن بقية كلامه فيرتّلها، وكذلك دأبت دور النشر في السنين الأخيرة على تمييز الآيات القرآنية بالخط عن بقية الكتاب فتوضع بنفس الرسم القرآني، ولعل غرضهم في ذلك لتنبيه القارئ إلى عدم مسِّها إلا بطهور ونحوها من الأغراض.

وهذا الفعل المبارك وهو تمييز النصوص القرآنية عن غيرها في محلّه لكننّا نفهم منه معنى أوسع من هذا الذي أرادوه، لأنّ نظم القرآن ومعانيه من صنع الخالق تبارك وتعالى فمن الطبيعي أن تتميّز عن صنع المخلوقين مهما كانوا متقنين للفصاحة والبلاغة.

يروي المرحوم سيد قطب في كتابه (في ظلال القرآن) انه كان على ظهر باخرة مسافراً إلى الولايات المتحدّة وفي يوم الجمعة أقام صلاة الجمعة وألقى خطبتيها، وكان المسافرون من أديان شتّى ولغات مختلفة، فوقف غير المسلمين ينظرون إلى هذا المشهد الغريب عنهم، بينهم سيّدة يوغوسلافية كانت تنصت وتتابع حتى انتهى من الصلاة فسألها عن معنى انشدادها وهي لا تفهم العربية، فقالت: لا أدري لكنّني وجدت نفسي منجذبة إلى الجو الذي أوجدته كلماتك

ص: 151


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من طلبة الجامعات والشباب من السماوة وهيئة الوعي للجميع من بغداد يوم السبت 5/ع2/ 1434 المصادف 16/ 2/ 2013.

وقالت أن الذي لم أستطع تفسيره هو أن كلمات تخللتها خطبتك كانت تشدّني وتجذبني أكثر ولا أعرف لماذا؟ يقول سيد قطب لكنني أعرف أنها الآيات القرآنية التي كنت أضمّنها في خطابي.هذا هو القرآن الكريم في تأثيره على النفوس وبشفائه للروح وانسجامه مع الفطرة وتطهيره القلب الذي لم يطبع عليه الرين حتى وإن لم يكن يفهم ألفاظه، وهذا هو القرآن الكريم في تميّزه عن كلام المخلوقين، وهذا مظهر من مظاهر إعجازه، وربّانية صنعه ومصدره.

خلافاً لما يرد في الإشكال الذي واجهه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ويردّده اليوم مدّعو الحداثة والتجديد الفوضوي غير المنضبط، وهو أن القرآن من صنع البشر سواء كان النبي محمد (صلی الله علیه و آله) نفسه أو غيره ممن يزعمون أنّه علّمه، وأجاب القرآن بوضوح (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَ-ذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ) (النحل/103) وقال تعالى (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) (النساء/82).

هذا التمييز للقرآن الكريم يجب أن نحافظ عليه في حياتنا فنعطيه هذا الدور المتميّز عن غيره من سائر أولوياتنا فنواظب على تلاوته ونتدبر في آياته ونتخذه دستوراً في حياتنا لا نحيد عنه، ونبراساً يضيء لنا الدرب، ومرجعاً لنا في كل قضايانا وحل مشاكلنا.

فلا نبخل على القرآن بدقائق يومياً في أوقات صلواتنا أو فراغنا لنتلو عدداً من الآيات الكريمة، وقلت مراراً أن الأولى أن تكون في مصحف مؤطّر بتفسير

ص: 152

بسيط لمفرداته وآياته كتفسير شبر لنحيط ولو إجمالاً بالمعاني العامة للقرآن الكريم، وهو كتاب جليل وضعه مؤلفه بعد مراجعة عدة تفاسير واطّلع على الأقوال المختلفة. وليكن لكل فرد من الأسرة نسخة واحدة على الأقل من المصحف تختص به، والأفضل أكثر من نسخة، هذا غير المصاحف الأخرى الموجودة في الدار.وأؤكد عليكم أيها الشباب بالعمل بهذه النصيحة فإنكم في بداية حياتكم ونقطة الانطلاق لتأسيس مستقبلكم، فعندما يكون الأساس هو القرآن الكريم وعلومه ومعارفه فإن المستقبل يكون سعيداً قوياً مثمراً بلطف الله تبارك وتعالى، وفي كل الميادين سواء في دراستك أو عملك وكسبك أو في علاقاتك مع أهلك والآخرين، فضلاً عن العلاقة السامية مع ربك والنبي وآله الطاهرين (صلی الله علیه و آله).

وقد جّربت ذلك في حياتي عندما كنت في بداية العشرينيات من عمري ومنّ الله تعالى عليّ بالأنس بالقرآن وملازمة له ولازلت أحيى بركاته والحمد لله وحده.

ص: 153

خطاب المرحلة 360 :على المرجعيات الدينية والقيادات السياسية أن تتنازل لمن هو أكفأ

خطاب المرحلة 360 :على المرجعيات الدينية والقيادات السياسية أن تتنازل لمن هو أكفأ(1)

من الصفات الرئيسية التي أكد الأئمة المعصومون (علیهم السلام) على توفّرها في من يسوس أمر الأمة ويتولى القيادة والإدارة في أي موقع كان خصوصاً الفقهاء والأمراء، أي المرجعية الدينية والسلطة الحاكمة: أن يكون (مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه) كما في الحديث المروي عن الإمام العسكري (علیه السلام).

ومن أعلى موارد اختبار وجود هذه الصفة وأشدّها: تنازله عن الموقع إلى غيره ممن يراه أكفأ منه وأقدر على القيام بوظائف هذا الموقع، أما لتفوّق هذا البديل، أو لعجزه هو عن مواكبة التحديات وتحمّل المسؤوليات التي تتوسّع وتتعقّد بمرور الزمن، ومثل هذه الخطوة تحتاج إلى قوة قلب للتغلب على هوى النفس التي تصرّ على التمسّك بموقع النفوذ والجاه والسلطة والحصول على مزيد من الامتيازات.

وقد عشنا تجربة مرجعية السيد الشهيد الصدر الثاني (قده) ورأينا فيه هذه الصفة فكان يخالف هوى نفسه ويؤدي ما يراه حجة بينه وبين ربّه وما فيه رضا الله تبارك وتعالى، كتصديه لصلاة الجمعة المباركة ووقوفه بين الجماهير

ص: 154


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع عدّة وفود زارته بينها عدد من مؤسسات المجتمع المدني الفاعلة يوم الخميس 10/ع2/ 1434 المصادف 21/ 2/ 2013.

المؤمنة وما يكلّفه ذلك من عنت وشقّة ومواجهة للسلطة وجهد مضاعف يضاف إلى مسؤوليته العلمية والعملية الكثيرة، لكنّه نهض بهذه المسؤولية كغيرها ولم يستسلم لما تهواه النفس من حياة الدعة والراحة.وكانت عنده هذه الصفة بأعلى مستوياتها بحيث نعلم أنّه لو امتدّ به العمر ورأى بديلاً أفضل منه –كما كان يصرّح بأنه يسعى لإيجاده وتربيته- فإنه يتنازل له بكل رحابة صدر، وكان يربي طلاّبه ومريديه على ذلك.

كنّا معه (قده) مرّة وتذاكرنا أموراً من هذا القبيل وربّما ذكرنا كيف أنّ السيد الشهيد الصدر الأول (قده) كان يخالف هواه ويقهر نفسه حينما قرّر أن يطبع كتابيه (فلسفتنا) و (اقتصادنا) باسم جماعة العلماء ونحوه ولا يذكر انّه هو المؤلف، لأنّ هدفه إعلاء كلمة الله تعالى ورفعة الإسلام، فأكبر السيّد (قده) هذا الموقف، وسأل متحدياً: من يستطيع أن يقوم بمثل هذا؟ فقلتُ: أنّه فعل لا يحتاج إلى كثير مؤونة معتبراً ذلك أمراً طبيعياً عند المخلصين لله تعالى، فقال السيد (قده) باللهجة الدارجة: ((نعم أنت تسويها)) أي أنّه يُتوقّع منك القيام بمثل هذا الصنع.

بل قد وقع مني فعلاً مثل ذلك حينما طبع السيد الشهيد الصدر (قده) كتاب ما وراء الفقه طلب منّي أن يجعل كتابي (الرياضيات والفقه) في المجلد الثامن لمناسبته لكتاب الميراث، فقلت له: ((سيدنا آنه بخدمتك، وليكن من فصول الكتاب ولا حاجة لذكر اسم كاتبه))، لكنّه (قده) أصرّ على أن يكتب اسم المؤلف رعاية للأمانة العلمية وقال: (لانّ القرّاء يعلمون أنّه ليست لي القدرة على تقديم مثل هذه المطالب الرياضية).

ص: 155

وعلى أيّ حال فقد شهد تأريخ المرجعية الشيعية بمثل هذه المواقف النبيلة من ذوي النفوس الكبيرة كالشيخ يوسف البحراني (قده)(1) الذي كان مرجعاً للشيعة ومقره في كربلاء المقدّسة، وكان من معاصريه الشيخ الوحيد البهبهاني (قده)(2)، وفي أحد الأيام قام البهبهاني وسط الجمع واستأذن الشيخ البحراني في الكلام وقال: أنا حجة الله عليكم وأنا من يجب أن ترجعوا إليّ لأنّني أنا الأعلم، فما كان من الشيخ البحراني إلاّ أن أيّد كلامه بكل انشراح ورحابة صدر ودعاه إلى تسلّم المسؤولية والجلوس في موقعه.كما أن ّ الشيخ الوحيد نفسه حينما شعر في سنينه الأخيرة أنّ مسؤولية المرجعية أكبر من أن ينهض بها دعا أبرز تلامذته ووزّع عليهم مسؤوليات المرجعية، ورجع هو يدرّس الكتب المتوسّطة في السلّم الدراسي الحوزوي وهو كتاب (شرح اللمعة).

أقول هذا الكلام بمناسبة القرار الأخير لبابا الفاتيكان وزعيم الكنيسة الكاثوليكية حينما جمع المجلس الكنسي وأعلمهم بعزمه على الاستقالة وأمهلهم إلى نهاية شهر شباط الحالي/ 2013 وقال: ((بعد أن راجعت ضميري مرات عدّة أمام الله، وقد وصلت إلى التأكّد من أن قواي لم تعد تحتمل القيام

ص: 156


1- مؤلف كتاب (الحدائق الناضرة) الموسوعة الفقهية الجليلة التي لا زالت من مصادر البحوث العليا ومربي عدد كبير من الأعاظم، توفي عام 1186.
2- مرجع الشيعة ومن أعظم الأساتذة الذي شهدتهم الحوزات العلمية، فقد تخرّج على يديه جملة من الأعاظم كالسيد بحر العلوم والشيخ كاشف الغطاء والمحقق النراقي صاحب مستند الشيعة والسيد علي الطباطبائي صاحب الرياض، توفي عام 1206 ه-.

بمهام الكنيسة البطرسية بسبب تقدّمي في العمر)).وقال: ((في عالمنا اليوم، الذي هو عرضة لتغيرات هائلة، ويهتز بأسئلة ذات صلة عميقة بحياة الإيمان)) ووصف قواه بأنّها ((وهنت وتدهورت إلى الدرجة التي أدركتُ فيها عدم قدرتي على الوفاء بالتزاماتي الموكلة إليّ لإدارة شؤون الكنيسة)).

أقول: هذا موقف كبير ينم عن شعور بالمسؤولية تجاه الموقع الذي هو فيه، والمفروض أن تكون كل المرجعيات الدينية والقيادات السياسية الحاكمة هكذا، أما التشبّث بالموقع حتّى لو بلغ به العمر عتيا، ويصبح وجوده كعدمه، ولا يعي ما حوله، ولم يعد قادراً على مجاراة تحديات عصره والقيام بمسؤولياته التي يتطلّبها موقعه لا التي هو قرّرها لنفسه، فهذه حالة بائسة ومتردّية، وسيصبح عقبة في طريق الإصلاح، لأنّ عملية الإصلاح والتغيير تمرّ عبر مصادر القرار، فإذا كان مصدر القرار عاجزاً فسوف تتوقف هذه العمليّة، وهذا واحد من الأسباب التي أدّت إلى ما نحنُ فيه من التردّي والفوضى والظلم وضياع الحقوق والله المستعان.

ص: 157

خطاب المرحلة 361 :الصناعة الإلهية للإنسان

خطاب المرحلة 361 :الصناعة الإلهية للإنسان(1)

من المعلوم أن فترة الطفولة لدى الإنسان هي أطول من كل الكائنات الحية، وما ذلك إلا لينال التربية الكاملة والكافية التي تؤهله لممارسة دوره كخليفة لله تعالى في أرضه وليستطيع بناء كل قواه البدنية والعقلية والفكرية والنفسية حتى يتمكن من تلقي التشريف الإلهي ويبلغ سن التكليف الذي يتأخر عن السنة العاشرة عند الإناث وأكثر من ذلك عند الذكور.

ولاشك أنه كلما تتوفر للإنسان عوامل أقوى لتربيته وبنائه فإن فرصته لبلوغ الكمال والرقي أفضل وأوسع، وكلّما كان الدور المناط بالشخص والمسؤولية التي سيضطلع بها أهم وأوسع، كان نوع المربي المطلوب متصفاً بكمالات أرقى.

ولما كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) أكمل البشر وأفضلهم ومعداً لأداء أعظم الرسالات الإلهية، فلم يكن هناك من هو جدير بتربيته وتأديبه، لذا تكفل الله تبارك وتعالى بذلك، قال (صلی الله علیه و آله) (أدبني ربي فاحسن تأديبي) وعنه (صلی الله علیه و آله) (أنا أديب الله وعلي أديبي).(2)

ص: 158


1- الكلمة التي ألقاها سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) على أساتذة وطلبة مدرسة الإمام الجواد (علیه السلام) الدينية في النجف الأشرف يوم الثلاثاء 15/ع2/ 1434 المصادف 26/ 2/ 2013.
2- ميزان الحكمة: 1/ 80.

وفي نهج البلاغة يصف أمير المؤمنين (علیه السلام) هذه الصناعة بقوله (ولقد قرن الله به (صلی الله علیه و آله) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره)(1).وأرّقَ تعبير وألطفه وأعظمه لهذه الفكرة هو ما وردفي القرآن الكريم في حق نبي الله تعالى وكليمه موسى (علیه السلام) ، قال تعالى (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (طه/39) وقال تعالى (واصطنعتك لنفسي) (طه/41)، حينما يحظى الإنسان بلحظة من العناية الإلهية والألطاف الإلهية فإنها تغنيه وتكفيه، فكيف بمن يُصنع كله بعين الله تعالى ورعايته ولطفه، وليس هذا فقط بل يصطنعه لنفسه خالصاً مخلصاً ليحمل رسالته الكريمة إلى البشرية فليس له نظرٌ إلى ما سوى الله تبارك وتعالى، ولا يطمع فيه أحد من شياطين الجن والإنس، وذكرت المعاجم أن الصنع يعني (إجادة الفعل) أما الاصطناع فإنه (المبالغة في إصلاح الشيء).

وكانت النتيجة أن يكون موسى (علیه السلام) مخلصاً لله تبارك وتعالى نبياً رسولاً من أولي العزم {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً} مريم51، هكذا تتدخل الألطاف الإلهية في صناعة الأفذاذ المؤهلين للأدوار العظيمة، والمستحقين للمقامات السامية، ومنهم أهل البيت (علیهم السلام)، فقد أراد الله تعالى أن يكونوا معصومين مطهرين مخلصين له تبارك وتعالى، قال تعالى (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب/33) وإذا أراد الله شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، ولا رادّ لقضائه.

هل تساءل أحد كيف يمكن أن توجد مثل خديجة بنت خويلد التي لُقِّبت

ص: 159


1- نهج البلاغة، الخطبة، 192 المسماة بالقاصعة.

بالسيدة الطاهرة في ذلك المجتمع الجاهلي المملوء بالجرائم والموبقات والمفاسد التي لم يسلَم منها إلا الأفذاذ من بني هاشم؟ وهل يوجد تفسير لذلك إلا الصناعة الإلهية لتلك القدّيسة الطاهرة؟.وهكذا يجد من يراجع سير العظماء ان يداً من وراء الغيب تتولى أمرهم وتنعم بحب وشفقة واتقان لتعدّهم للدور الكبير الذي يراد لهم.

والذي يهمّنا من ناحية عملية هو هل يمكن أن نحظى بهذه الألطاف الإلهية ونكون ممن يصنعهم الله تعالى على عينه ويصطنعهم لنفسه بدرجة من الدرجات؟ ومن الواضح اننا نتحدث هنا عن التربية الإلهية الخاصة، لأن العامة شاملة للجميع، فهو (رب العالمين) و(مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) (هود/56).

والجواب واضح بإمكان ذلك إذ أن الله تبارك وتعالى لا بخل في ساحته –كما قيل- ولا يحتجب عن خلقه، إلا أن تحجبهم الذنوب دونه –كما في الدعاء-.

والسؤال الأهم في كيفية تحصيل ذلك

ويمكن ان نستفيد معنيين من نفس الآيات الشريفة.

الأول: من نفس الآية الأولى (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (طه/39) فالطريق أن تحبّ الله تعالى ويحببك الله تعالى، وقد شرحنا علامات هذا الحب المتبادل وطريقة تحصيله في خطاب سابق، وورد في كلمات الحكماء (إن الله إذا أحبّ عبداً تفقّده كما يتفقّد الصديق صديقه).(1)

ص: 160


1- مفردات الراغب ص321.

الثاني: من الآية الثانية (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى* وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (طه/ 40-41) فعندما يكون الإنسان ذا همّة عالية وطموح كبير للعمل في إعلاء كلمة الله تعالى ونشر علوم أهل البيت (علیهم السلام) واصلاح النفس والمجتمع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الله يستخلصه لنفسه وسيصلح شأنه ويتولاه بنفسه ويعينه على هذه الرسالة ويؤهله لأدائها.ويستفاد من الروايات الشريفة ما يوجب تلك الألطاف الإلهية.

(منها) صحيحة أبان بن تغلب عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) –في حديث- (إن الله جلّ جلاله قال: ما يتقرب إلي عبدٌ من عبادي بشيء أحبُّ إليّ مما افترضت عليه، وإنه ليتقرب إليّ بالنافلة حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته).(1)

(منها) ما في الحديث القدسي (أيما عبد اطلعتُ على قلبه فرأيت الغالب عليه التمسك بذكري تولّيتُ سياسته وكنت جليسه ومحادثه وأنيسه).(2)

(ومنها) ما في الحديث الشريف (لا يزال عبدي يتقرّب اليّ بالنوافل مخلصاً لي حتّى احبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ان سألني أعطيته وان استعاذني أعذته).

وفي البحار عن إرشاد الديلمي وغيره (فمن عمل برضائي ألزمه ثلاث

ص: 161


1- وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب اعداد الفرائض ونوافلها، باب17، ح6.
2- راجع خطابنا (الذكر زينة العيد).

خصال: أعرفه شكراً لا يخالطه الجهل، وذكراً لا يخالطه النسيان، ومحبة لا يؤثر على محبتي محبة المخلوقين.فإذا أحبّني أحببته، وأفتح عين قلبه إلى جلالي، ولا أخفي عليه خاصّة خلقي، وأناجيه في ظلم الليل ونور النهار حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين ومجالسته معهم، وأسمعه كلامي وكلام ملائكتي، وأعرّفه السر الذي سترته عن خلقي، والبسه الحياء حتى يستحي منه الخلق كلهم، ويمشي على الأرض مغفوراً له، وأجعل قلبه واعياً وبصيراً، ولا أخفي عليه شيئاً من جنة ولا نار، وأعرّفه ما يمرُّ على الناس في القيامة من الهول والشدّة، وما أحاسب به الأغنياء والفقراء والجهّال والعلماء، وأنوّمه في قبره، وأنزل عليه منكراً ونكيراً حتى يسألاه، ولا يرى غم الموت وظلمه القبر واللحد وهول المطّلع، ثم أنصب له ميزانه وأنشر ديوانه، ثم أضع كتابه في يمينه فيقرؤه منشوراً ثم لا أجعل بيني وبينه ترجماناً، فهذه صفات المحبين).

ولا شك أن الدعاء وطلب معالي الأمور يوشك أن يوصل إلى ذلك فليجتهد العبد في الطلب والدعاء، من دعاء الإمام السجاد (علیه السلام) في طلب مكارم الأخلاق (واصلحني بكرمك وداوني بصنعك) وورد في دعائه (ع) الذي أوله (يا من تحلّ به عقد المكاره) (وأذقني حلاوة الصنع فيما سألتُ) ومن دعائه (ع) في طلب العفو (اجعلني... وخلّصته بتوفيقك من ورطات المجرمين، فأصبح طليق عفوك من أسار سخطك، وعتيق صنعك من وثاق عدلك)

خصوصاً أنتم معاشر الشباب ما دمتم في مقتبل العمر وبداية الطريق لصناعة مستقبلكم المعنوي والمادي، فاسألوا الله تعالى أن يختاركم لأعظم الأدوار

ص: 162

وأرقى المسؤوليات وأن يصنعكم بيده سبحانه لأدائها، وواظبوا على طلب ذلك بإخلاص ولسوف يعطيكم ربكم ذلك كما حكى سبحانه عن عباد الرحمن أن من دعائهم (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) (الفرقان/74).

ص: 163

خطاب المرحلة 362 :(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم)

اشارة

خطاب المرحلة 362 :(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم)(1)

سورة الحديد من السور المباركة التي كان يهتم بها رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وروي انه (صلی الله علیه و آله) كان حينما يأوي إلى فراشه للنوم يتلو سور المسبّحات وهي السور التي تبدأ بكلمات التسبيح ، وأولها سورة الحديد ومعها سورة الحشر والصف والجمعة والتغابن وهي في الجزء الثامن والعشرين من المصحف الشريف.

وروى العلامة الطبرسي في مجمع البيان عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: من قرأ المسبحات كلّها قبل ان ينام لم يمت حتى يدرك القائم (ع) وان مات كان في جوار رسول الله (صلی الله علیه و آله).(2)

وسورة الحديد من السور النافعة في الموعظة وترقيق القلب ، فإدامة تلاوتها قبل النوم يساعد على إجراء المراجعة مع النفس في نهاية كلِ يوم ، وهي المحاسبة التي أمرنا المعصومون (علیهم السلام) بها.

ونأخذ منها اليوم مقطعاً يعطينا قاعدة في السلوك المعنوي خصوصاً لكم أيها الشباب الجامعيون ونستقي منه أيضاً درساً في الموعظة يعرض مشهداً من

ص: 164


1- من حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من طلبة الجامعات و المعاهد في البصرة وذي قار ووفود من ناحية الفجر في ذي قار والمعامل في بغداد يوم السبت 26/ربيع2/ 1434ه- المصادف 9/ 3/ 2013.
2- مجمع البيان 9/ 345

مشاهد يوم القيامة ، ذلك اليوم المهول الذي ورد وصفه في القران الكريم بأوصاف مذهلة {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الحديد : 12] يستعرض المشهد مقارنة بين حالي المؤمنين و المنافقين وحواراً، اما المؤمنون والمؤمنات فانهم {يَسْعَى نُورُهُمْ} في ذلك اليوم الذي تنكسف به الشمس وتنكدر النجوم وتكون الجبال كالقطن المنفوش وتشتد الظلمات بعضها فوق بعض، يلطف الله تعالى بالمؤمنين والمؤمنات فيوفّر لهم نوراً يسعى بهم الى الجنة والسعادة، والسعي هو السير الحثيث فهو يسرع بهم الى الجنة، ولما كان النور ينبعث منهم، فإنهم في الحقيقة هم الذين يسعون لأنهم مصدر النور، ونسب السعي إليه لأنه يتقدمهم.{بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} هذا النور ينبعث من امامهم ومن ايمانهم، ولعل الذي من امامهم هو نور الايمان و عقائدهم الحقة في التوحيد والنبوة والإمامة، لذا ورد في الكافي بسنده عن الإمام الصادق (علیه السلام) عن النور قال (علیه السلام) (أئمة المؤمنين يوم القيامة تسعى بين يدي المؤمنين وبإيمانهم حتى ينزلوهم منازل أهل الجنة)(1) ولعله نور ذواتهم الطيبة المحبوبة عند الله تعالى، أما النور من يمينهم فهو نور أعمالهم الصالحة حيث يؤتى المؤمن كتابه بيمنه (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ{19} إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ{20} فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ{21} فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ{22} قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ{23} كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ{24} (الحاقة/19-24).

(بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ

ص: 165


1- الكافي: 1/ 151 ح5.

الْعَظِيمُ) وما دامت هذه عاقبتهم، فإنها بشرى حقيقية ويستحقون التهنئة على هذا الفوز العظيم وما أعظمه من فوز ومن خاتمة حسنة في تلك الحياة الخالدة.(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ) هذه هي الصورة المقابلة للبائسين الخاسرين من المنافقين والمنافقات فإنهم في ظلمات وخوف ورعب وعذاب وألم، فالتفتوا إلى المؤمنين والمؤمنات وهم في ذلك العيش الرغيد وطلبوا منهم أن يلتفتوا إليهم ويسعفوهم بقبس من النور يخفّف عنهم بعض الأهوال.

(قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) فجاءهم الجواب إنّ الفرصة قد فاتت الآن لتحصيل النور لأنّه حصيلة أعمالكم الّتي اكتسبتموها في الدنيا، فكان عليكم أن تلتفتوا إلى هذه الحقيقة في الدنيا فتؤمنوا وتعملوا الصالحات لتتحول إلى نور في هذا اليوم، فإن استطعتم أن ترجعوا إلى الدنيا لتحصيل النور، وذلك مستحيل (وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ) (ص/3).

(فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ) ففصل بينهم بجدار عازل كما كانوا في الدنيا منفصلين ومتباينين في سلوكهم واعتقاداتهم ونظرتهم إلى الحياة، وإن كانوا متعايشين في مجتمع واحد وبيئة واحدة فجُسِّدَت تلك المباينة بسور عازل (له باب) لينظر بعضهم إلى بعض من خلاله وليجري بينهم هذا الحديث وليقارن كل من الفريقين حاله مع حال الآخر فيزداد المؤمنون والمؤمنات شكراً لله تعالى على ما انعم، والمنافقون والمنافقات ألماً وحسرة وندامة على ما فرطوا في أمر آخرتهم.

(بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ) صفة هذا السور أن ما بداخله

ص: 166

الرحمة والسعادة والعيش الهنيء وهو محل المؤمنين، أما خارجه فالعذاب والوحشة والخوف والألم وهو محل المنافقين والمنافقات، ومثاله المدن في ذلك الزمان عندما كانت تحاط بسور متين يحميها من هجمات الأعداء واللصوص والمحتلين والمجرمين، فتجد داخل المدينة البيوت المريحة والشوارع المنظّمة والأسواق العامرة والمياه العذبة وسائر أسباب الرفاهية، أما خارجها فالصحراء والوحشة والمخاطر والجوع والظمأ والخوف، وهذا مثال حال الفريقين يوم القيامة.(يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ) وحينئذ نادى المنافقون والمنافقات المؤمنين والمؤمنات، وعبَّر بالمناداة وليس (قالوا) ونحوها للبينونة البعيدة بينهما ولم تكن مواضعهم متقاربة، فخاطب المنافقون المؤمنين الذين يعرفونهم ألم نكن معكم في مدينة واحدة وجامعة واحدة ودائرة واحدة ومجتمع واحد بل ربما في بيت واحد كنا نعيش سوية فلماذا حصل هذا التفاوت العظيم بيننا.

ويظهر من بعض الروايات ان المراد بهم المنحرفون عن ولاية أهل البيت (علیهم السلام)، عن الإمام الباقر (علیه السلام) (فيناديكم أعداؤنا وأعداؤكم من الباب الذي في السور ظاهره العذاب: ألم نكن معكم في الدنيا، نبيّنا ونبيّكم واحد، وصلاتنا وصلاتكم واحدة، وصومنا وصومكم واحد، وحجُّنا وحجُّكم واحد).(1)

(قالوا بلى) فأجاب المؤمنون نعم كنّا هكذا سوية بأبداننا لكن أرواحنا وعقائدنا وسلوكياتنا كانت متباعدة ومتباينة، ولنضرب مثالاً من واقعكم أنتم الشباب الجامعي فأنتم الموجودون هنا تأتون إلى زيارة أمير المؤمنين (علیه السلام)

ص: 167


1- تفسير البرهان: 9/ 225.

والإمام الحسين (علیه السلام) وتستمعون إلى المواعظ والتوجيهات بينما ذهب آخرون من زملائكم إلى حيث اللّهو والعبث والمجون، فيوجد انفصال بينكم في السلوك والرؤى وهذا هو الذي جسّد هذا التفاوت بيننا يوم القيامة.(ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرّتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغرّكم بالله الغرور) ومن هنا يبدأ تعداد الأسباب التي جعلت مساراتنا في الحياة الدنيا متباينة، انكم فتنتم أنفسكم واتبعتم الشهوات وسرتم وراء أهوائكم من دون بصيرة وتعقل واتباع لشرائع الله تعالى.

(وتربصتم) إذ كنتم تترقبون زوال الدين والقضاء على أهله وإسكات صوت الحق الذي كان يقض مضاجعكم ويسبب لكم ألماً باطنياً ووخز الضمير.

(وارتبتم) حيث كنتم تشككون بالعقائد والأحكام الإلهية وتثيرون الشكوك والشبهات حولها لتجعلوا لأنفسكم مبررات لعدم الالتزام بها، وتفاقم ارتيابكم ليشمل حتى أقدس المقدسات كما نسمع اليوم من بعض أدعياء الحداثة تشكيكات في أصل نبوة النبي محمد (صلی الله علیه و آله) وكون القرآن نازلاً من الله وهم مسلمون!!!

(وغرّتكم الأماني) خدعتكم وعود الشيطان وأوليائه وعبيده بدنيا مزيّفة وأموال ومواقع وشهوات ونحوها.

(حتى جاء أمر الله) حتى فاجأكم الموت وطويت صفحة أعمالكم وانقطعت عنكم فرصة التدارك والتعويض والإصلاح والمراجعة.

(وغرّكم بالله الغرور) ونجح الشيطان بخداعكم والمكر والتغرير بكم وأنتم

ص: 168

تتحملون المسؤولية باتّباعكم إيّاه رغم التحذير الشديد من قبل الله تعالى (إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً) (الإسراء/53) (وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) (البقرة/168).(فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) وكانت هذه النتيجة الحتمية لسوء أعمالهم أن يجتمعوا مع الكفّار في النار والعذاب الأليم لأنها هي الأولى بهم والأليق لخبثهم حتّى تطهرهم النار وتزيل أدرانهم.

وهنا يلتفت الله تعالى إلى المؤمنين والمؤمنات ويخاطبهم بعتاب رقيق وتساؤل ملؤه الحنان والشفقة بأن يستفيدوا من هذه المواعظ ويطهروا بها قلوبهم ويهذّبوا أنفسهم، وإلا فإنها تقسو وتسوَّد بطول الأعراض عن الموعظة وذكر الله تعالى والانغماس في الملذات واللهاث من أجل التوسع في الدنيا، حتى يطبع عليها فلا تنفع معها موعظة والعياذ بالله تعالى (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد/16).

قدّمت لكم هذا النموذج مما أدعو إليه من التفسير المبسّط للقرآن الكريم الذي يعيننا على التدبّر في آياته من دون الحاجة إلى الكتب المعمّقة في التفسير.

ص: 169

قاعدة في السلوك المعنوي:

وأريد أن أركّز من خلاله على الوصف الذي ورد في المقطع (باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب) فهذه قاعدة مهمة في السلوك المعنوي إلى الله تعالى، وهي الالتفات إلى حقائق الأمور لاتخاذ المواقف الصحيحة، وعدم الانخداع بالظاهر وبناء القرارات عليه.

فإن كثيراً من الأفعال والمواقف تبدو في ظاهرها لذيذة ممتعة إلا أنّها تستبطن الشقاء والعذاب والألم، وعلى العكس من ذلك فإن بعضاً آخر منها يبدو ظاهره متعباً مكروهاً إلا أن حقيقته السعادة والنعيم، لذا ورد في الحديث (حُفّت الجنة بالمكاره والنار بالشهوات).(1)

ولنأخذ أمثلة من واقعكم الشبابي الجامعي، فإن البعض قد يتصور ان إقامة علاقات غير مشروعة مع الجنس الآخر فيها لذة ومتعة وسعادة ولكن الحقيقة خلاف ذلك لأن المجتمع سيرفضهما خصوصاً البنت وسيؤثر ذلك على مستقبلها وتسبّب تلك العلاقة شقائها، وربما بعض ردود الأفعال المؤلمة، هذا في الدنيا أما ما بعد الموت وفي الآخرة فسيعيشون حالة الألم والندامة والعذاب.

والمثال الآخر بعض الشباب المهووسين بالسفر إلى بلاد الغرب ليعيش حياة مرفهة سعيدة لكنه يضيّع دينه وأسرته وتكون زوجته وأولاده متمردين عليه وخارجين عن إرادته بسبب القوانين المعمول بها هناك.

ومن أمثلتها من يلتحق بجهة سياسية أو دينية أو اجتماعية من دون أن يتحقق من إخلاصها واستقامة سيرتها ومصداقيتها في العمل بما يرضي الله

ص: 170


1- بحار الأنوار: ج68 ص72.

تعالى، يغرونه بمواقع النفوذ وتحصيل المال والامتيازات فتزل قدمه ويبتعد عن جادة الاستقامة وتكون عاقبته زلل قدمه عن الصراط.فهذه كلها امور ظاهرها أنيق وفيها الراحة والدعة والترف والانسياق مع التيار العام إلا أن عاقبتها وخيمة.

وفي مقابل ذلك توجد نماذج أخرى كتعرض الفتاة الجامعية المحجّبة العفيفة إلى ضغط اجتماعي بأن مظهرها غير أنيق وانها متخلفة أو معقدة ونحوها من الأوصاف الاستفزازية.

وكذا الشاب الذي يلتزم بالمظهر المهذّب أو يلتزم بالآداب والأحكام الشرعية فيضغط عليه بنفس الطريقة ليستسلم وينهار وينساق معهم، وربما يتبارى زملاؤه الفسّاق في استدراجه معهم وإنهاء مقاومته.

أو الموظّف الأمين الملتزم الذي لا يخون الأمانة التي تحت يده فإنه يعاني من استفزاز أقرانه وانه سوف لا يستطيع أن يعيش كأقرانه ويبقى في الحضيض ولا يتقدم، وما ذلك إلا لحسدهم إياه على سمّوه وعجزهم وضعفهم عن الوصول إلى قمّته.

أو محاولة البعض لثني الملتزمين بالدين –كالصوم في الأيام الحارة أو القيام في الليل البارد للعبادة ونحوها - عن عمله وإيجاد المبررات لترك العمل.

فهذه كلها أمور قد تبدو مكلفة ومتعبة وتحتاج إلى صبر ومصابرة وتحمّل للمكاره، إلا أن فيها الفوز والفلاح وحسن الخاتمة.

وهذا الاختبار مستمر ما دمنا في الحياة الدنيا، والنجاح فيه يكشف عن الفوز في الآخرة، وستتجلى هذه الحقيقة بوضوح في عصر الظهور، ففي الرواية

ص: 171

(يخرج الدجال عدو الله ومعه جنود من اليهود وأصناف الناس ، معه جنة ونار ورجال يقتلهم ثم يحييهم ، ومعه جبل من ثريد ونهر من ماء . وإني سأنعت لكم نعته إنه يخرج ممسوح العين في جبهته مكتوب كافر يقرأه كل من يحسن الكتاب ومن لا يحسن، فجنته نار وناره جنة، وهو المسيح الكذاب ، ويتبعه من نساء اليهود ثلاثة عشر آلاف امرأة فرحم الله رجلا منع سفيهه أن يتبعه ، والقوة عليه يومئذ القرآن فإن شانه بلاء شديد ، يبعث الله الشياطين من مشارق الأرض ومغاربها فيقولون له استعن بنا على ما شئت).(1)فالالتفات إلى القاعدة التي ذكرناها يعين على النجاح في تلك الاختبارات وبناء مستقبل معنوي متكامل بلطف الله تبارك وتعالى، وإنما سميناها قاعدة لأنها تعطي رؤية تبرمج حياة الإنسان وتنظم أموره والله المستعان.

ص: 172


1- الدر المنثور : ج 5 ص 354.

خطاب المرحلة 363 :(وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)

خطاب المرحلة 363 :(وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)(1)

سورة (العصر) قصيرة جداً في كلماتها لا تتجاوز السطرين لكنّها عظيمة في فضلها، خطيرة في مضمونها، وإنها مظهر من مظاهر إعجاز القرآن حينما يُقدِّم في سطر واحد منهجاً متكاملاً لنجاح البشريّة من أوّل الخلقة إلى نهايتها ويعرِّف هويّة الأمّة الرابحة الفائزة ويعلّمها وظائفها في هذا السطر.

روى الشيخ الصدوق بسنده عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (من قرأ (والعصر) في نوافله بعثه الله يوم القيامة مشرقاً وجهه ضاحكاً سنّه، قريرة عينه حتّى يدخل الجنة)(2)، ولأهمية ما جاء فيها فقد ورد أن أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) كانوا اذا اجتمعوا لا يفترقون إلاّ بعد تلاوة سورة (والعصر) ويتذاكروا في مضامينها.(3)

يبتدئ الله تبارك وتعالى السورة بالقسم (والعصر) بمعانيه المختلفة كما وردت في التفاسير، فيقسم الله عزّ من قائل –وهو أصدق القائلين- لتأكيد الكلام ولإثارة انتباه المخاطب إلى الحقيقة التي سيقولها، لأنّها حقيقة خطيرة

ص: 173


1- كلمة سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من منتسبي هيئة الحج والعمرة في بغداد والمحافظات يوم الخميس 2/ج1/ 1434 الموافق 14/ 3/ 2013.
2- ثواب الأعمال: 125.
3- الدر المنثور: 6/ 392.

(إنّ الإنسان لفي خسر) ليس الإنسان بحسب تكوينه وأصل خلقته، لأنّه خُلق للكمال وللمعرفة بالله تعالى ولإخلاص الطاعة له سُبحانه والاستقامة على ما أراد منه، لذلك أسجد له ملائكته وقال تعالى (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة/30) ، فليس الإنسان بالحمل الأولي –كما في المصطلح- هو في خسر، بل الإنسان الموجود على أرض الواقع أي بلحاظ سلوكه وسيرته أي أفراد الإنسان ومصاديقه بالحمل الشائع –كما في المصطلح- الذي يخالف فطرته حينما يخرج إلى هذه الدنيا وينسى عهده مع ربّه الذي واثقه عليه {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}الأعراف172.فهذا الإنسان الذي خلق للسمو والتكامل، تراه ينحدر ويتسافل ويعرض عن ذكر ربّه، فيخسر رأس ماله وكلّ القوى التي زوّدها الله تعالى بها لتحقيق الغرض المنشود من حياة ووجود وعقل وفكر وبدن وثروة وجاه وعلاقات وأسرة وعشيرة وموقع وغيرها، حتّى الأشياء البسيطة الدقيقة التي يمكن أن تُكتسب بها الجنان (فمن يعمل مثقال ذرة خير يره) كتسبيحة أو ذكر مع كل شهيق وزفير و في كل طرفة عين.

وإذا به على العكس يسخّرها للشقاء والعذاب، فإذن هو فعلاً (في خسر)، بل خسر عظيم، قال تعالى {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}الزمر15 كمن يزوّد برأس مال عظيم وتوفَّر له كلّ فرص النجاح والاستثمار وتقدِّم له كلّ معونة والتسهيلات في السوق، لكنّه بحماقته وضيق نظره يخسر كلّ ذلك، عن الإمام الهادي (علیه السلام) (الدنيا سوق ربح فيها

ص: 174

قوم وخسر آخرون)(1).هذه الصفقة التي أنشأها الله تعالى مع عباده (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ) (التوبة/ 111) فلا ثمن لهذه النفس إلاّ الوفاء بهذه الصفقة، عن أمير المؤمنين (علیه السلام): (إنّه ليس لأنفسكم ثمن إلاّ الجنّة فلا تبيعوها إلاّ بها)(2).

والتعبير يمزج مع التحذير والتهديد والتوبيخ استغراباً وعتاباً، لأنّ الله تعالى خلقهم للرحمة والسعادة والفوز وأعطاهم كلّ ما يوصلهم إلى هذه النتيجة من أسباب معنوية ومادّية قال تعالى (إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (هود 119), وروي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قوله (يقول الله تعالى: يا ابن آدم، لم أخلقك لأربح عليك، إنّما خلقتك لتربح عليّ, فاتخذني بدلاً من كل شيء، فإني ناصر لك من كل شيء).(3)

فلماذا يخسرون كلّ ذلك بتوظيفه في عكس الهدف الذي خلقوا من أجله {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}(يس30)، لذلك يسجّل القرآن الكريم استغرابه من دخول أهل النار إليها، قال تعالى {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ}المدثر42، ولم يسجّل استغرابه من دخول أهل الجنة فيها لأن وجودهم على القاعدة ومع الهدف الذي خُلقوا من أجله.

والمرعب في هذه الحقيقة إطلاقها وعمومها (إن الإنسان) مطلقاً فتكون

ص: 175


1- بحار الأنوار: 72/ 366 ح1، تحف العقول: 361.
2- نهج البلاغة: قصار الكلمات، رقم 74.
3- ميزان الحكمة: 1/ 334 الحديث 1604 عن شرح نهج البلاغة: 20/ 319، 665.

كقوله تعالى (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ً) (مريم/71-72).نعم استثني من هذه النتيجة المهولة بعض توفّرت فيه أربع خصائص مجتمعة:

1-(إلاّ الذين آمنوا) واعتقدوا صدقاً وإخلاصاً بكل العقائد الحقّة بتوحيد الله تعالى والرسالة للنبي (صلی الله علیه و آله) وولاية أمير المؤمنين والأئمة المعصومين (علیهم السلام) وسائر العقائد الحقّة.

2-(وعملوا الصالحات) لأنّ الإيمان لا يكون حقيقياً وصادقاً إلاّ أن يظهر إلى الخارج بعمل صالح يكون موافقاً لما يريده الله تبارك وتعالى.

وهذا المقدار مفهوم وواضح وذكرته آيات عديدة، لكنّ الأهمية والخطورة التي أشرنا إليها في هذه السورة هي فيما أضافته الآية من شرطين للفوز والنجاة من الخسران، حيث لم تكتفي بالركنين السابقين، وهما

3-(وتواصوا بالحق) فلا يكتفون بكونهم صالحين في أنفسهم مؤمنين يعملون الصالحات بل يتحركون برسالتهم في المجتمع فيوصي بعضهم بعضاً بالتزام الحق والعمل به، والتعبير بالتواصي يتضمّن معنى الاستمرارية والتواصل، والحق الذي يتواصون به له مساحة واسعة، فكلّ خير وكل ما هو مثمر وكلّ ما يوصل إلى الله تبارك وتعالى ويعين على طاعته ويجنّب معصيته هو حق فيتواصون به.

وهذا له مدى واسع فيشمل الدعوة إلى الله تبارك وتعالى والإسلام وولاية اهل البيت (علیهم السلام) ونشر فضائل أهل البيت (علیهم السلام) ومظلوميتهم من الأعداء،

ص: 176

ونشر أحكام الدين وتقديم النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحقوق التفصيلية الكثيرة كالتي تضمنتها رسالة الحقوق للإمام السجاد (علیه السلام).ولابد لمن يقوم بهذه الوظيفة أن يكون ملتفتاً قبل ذلك إلى نفسه فيتعاهدها ويتواصى معها ويشارطها على الهدى والصلاح والثبات، لأنّها أعز وأثمن من يتواصى معه.

إن الحقّ إذا لم يتم التواصي به والتواصل معه جيلاً بعد جيل وبين عامة الجيل الواحد أي التحرّك به أفقياً وعمودياً فإنّه يضيع كما ضاعت حقوق كثيرة وعلى رأسها حقّ الإمامة وولاية أمر الأمة لأمير المؤمنين (علیه السلام) وأولاده المعصومين (سلام الله عليهم أجمعين).

قال الإمام الصادق (علیه السلام): (إنّ حقوق الناس تثبت بشهادة شخصين، وقد أنكِرَ حق جدّي أمير المؤمنين (علیه السلام) وعليه سبعون ألف شاهد كانوا مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) في غدير خم.(1)

4-(وتواصوا بالصبر) فإنّ من يسير بهذا الطريق الذي تخلّى عنه أكثر الناس وأصبحوا ينظرون إليه بازدراء وسخرية سيلقى الكثير من المشقّة والعنت والأذى وسيتطلب منه تضحية كثيرة بأعز ما لديه فيحتاج إلى صبر ومصابرة ومرابطة وثبات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}آل عمران200، فيوصي هؤلاء الثلة القليلة بعضهم بعضاً بالصبر والمضي على هذا النهج المقدّس المبارك.

إنّ الحقيقة الخطيرة التي أضافتها هذه السورة المباركة أن الإيمان والعمل

ص: 177


1- بحار الأنوار: 37/ 158 باب52.

الصالح على مستوى النفس غير كافٍ للفوز وللنجاة من الخسران الشامل لأفراد الإنسان، بل لابد أن ينضم له التحرّك بهذه الوظيفة في المجتمع والاستمرار على ذلك والثبات عليه وتحمّل أعبائه.وبتعبير مختصر أنّ صلاح الفرد الشخصي لا يكفي من دون أن يضم له العمل على إصلاح الآخرين، وهي مسؤولية كبيرة لكن منزلتها عظيمة لا مكان فيها للمتقاعس والمتكاسل الذي لا يكترث بما يعجّ به المجتمع من مفاسد وظلم وانحراف وضلالات وشبهات وخرافات وجهل وغير ذلك.

حينئذٍ يتحقق صلاح الفرد وصلاح المجتمع أيضاً، ونجاة الفرد ونجاة المجتمع وعزّتهما معاً بفضل الله تبارك وتعالى.

وإذا قابلنا هذه الآية مع الآيتين المتقدّمتين من سورة مريم نحصل على تعريف للتقوى فتكون حقيقتها الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر بمقتضى المطابقة وتحقيق ما تحصل به النجاة من النار والخسران.

وهذه الحقيقة طبيعية لأنّ الإيمان يدعو إلى العمل الصالح، والعمل الصالح لا يعرف الإنزواء والجمود والتقوقع، وإنّما يدعو للحركة المثمرة لهداية الآخرين وإرشادهم ونصحهم ومساعدتهم، فإنّ من أعظم الأعمال الصالحة ما كانت مندرجة في هذه الحركة الاجتماعية لذا ورد في بعض الروايات تفسير عمل الصالحات بمواساة الإخوان.(1)

إن مسؤولية التواصي بالحق والتواصي بالصبر لا تختص بالمبلغين

ص: 178


1- كمال الدين وإتمام النعمة: 656 ح1.

والمرشدين من الحوزة العلمية بل هي شاملة لكل الناس خصوصاً مع توفّر سبل الهداية وقنوات الإصلاح والتأثير لكل العاملين على شبكات المعلومات وصفحات التواصل الاجتماعي والفضائيات.

ص: 179

خطاب المرحلة 364 :(وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْض)

خطاب المرحلة 364 :(وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْض)(1)

لما عقد القوم العزم على الانقلاب على وصية رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الخليفة من بعده وإقصاء أمير المؤمنين (علیه السلام)، وواجهوا النبي (صلی الله علیه و آله) بذلك الكلام القاسي الذي فيه اعلان الحرب على الله تعالى ورسوله (صلی الله علیه و آله) عندما أراد أن يؤكد الوصية ويكتب لهم كتاباً لن يضلّوا بعده أبداً، وقال قائلهم (إن الرجل ليهجر)، جمع النبي (صلی الله علیه و آله) أهل بيته خاصة وقال لهم (أنتم المستضعفون من بعدي).(2)

وظاهر الحديث أنه إخبار بأمر محزن ومؤلم بأن زعماء الانقلاب سيظلمونهم ويعتدون عليهم بألوان الإيذاء، وفيه إشارة إلى أن فعل القوم سيشابه فعل فرعون في قوله تعالى (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)

ص: 180


1- من حديث سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من الجمعيات الخيرية والثقافية في الكوت والزعفرانية في بغداد والغراف وطلبة كلية الطب في جامعة البصرة يوم الخميس 9/ج1/ 1434 المصادف 21/ 3/ 2013، واضاف اليها سماحته بعض الملاحظات المهمة والقاها في الحشد الفاطمي (راجع المجلد التاسع)
2- تفصيل الواقعة في بحار الأنوار: 22/ 469 عن كتاب (إعلام الورى بأعلام الهدى: 140-143) و (الإرشاد:96-100) وأورد الحديث الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 2/ 72 باب31 ح303.

(القصص/4)، واستشهد أمير المؤمنين (علیه السلام) بقول هارون أخي موسى (علیه السلام) (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي) (الأعراف/150) عندما أجبروه على بيعة أبي بكر فقال: إن أنا لم أفعل فمه؟ قالوا إذاً والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك، قال: إذاً تقتلون عبد الله وأخا رسوله) فالتفت إلى قبر النبي (صلی الله علیه و آله) وخاطبه بالآية الشريفة.ولكن للحديث معنىً آخر متفاءل فيه وعد بالنصر والتمكين واستعادة الحق لأهله، لأن وصف أهل بيته بالمستضعفين بل حصر الوصف بهم (ع) كما لا يخفى على المتأمل في الحديث، يجعلهم المقصودين بالآية الشريفة (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (القصص/5) وقال تعالى (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ) (الأعراف137)

وكان الأئمة (علیهم السلام) يبشرون شيعتهم بهذا المعنى، ففي معاني الأخبار للصدوق بسنده عن المفضّل قال سمعت أبا عبد الله يقول (إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) نظر إلى علي والحسن والحسين (علیه السلام) فبكى، وقال: أنتم المستضعفون بعدي) قال المفضّل فقلت له: وما معنى ذلك يا ابن رسول الله قال معناه: أنكم الأئمة بعدي إن الله عز وجل يقول (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) فهذه الآية جارية فينا إلى يوم القيامة).(1)

وفي مجمع البيان.. صحت الرواية عن أمير المؤمنين علي (علیه السلام) أنه قال

ص: 181


1- معاني الأخبار: 79 باب31 ح1.

(والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لتعطفنّ الدنيا علينا بعد شماسها –أي امتناعها- عطف الضروس على ولدها، ثم تلى الآية.وقال سيد العابدين علي بن الحسين (علیه السلام): (والذي بعث محمداً بالحق بشيراً ونذيراً، ان الأبرار منا أهل البيت وشيعتهم بمنزلة موسى وشيعته، وان عدونا وأشياعهم بمنزلة فرعون وأشياعه).(1)

فالخصم قد تكون له جولة يغلب فيها ويحكم قبضته على أولياء الله تعالى، ويستضعفهم ولكن الدولة والنصر والغلبة يكون في النهاية لأهل البيت (علیهم السلام) وشيعتهم ويذهب ما سواه جفاءاً كالزبد.

وإنما سموا مستضعفين لأن أعدائهم يتوهمون فيهم الضعف فيستكبرون عليهم ويظلمونهم، وهم ليسوا ضعفاء، لكن لهم دين وورع وأخلاق وخوف الله تعالى يمنعهم عن اتباع أساليب المكر والخداع لتحقيق مآربهم، عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (ولكن الله سبحانه جعل رسله أولي قوة في عزائمهم، وضعفةً فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعةٍ تملأ القلوب والعيون غنى، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذىً).(2)

وعنه (علیه السلام) قال (كان لي فيما مضى أخ في الله وكان ضعيفاً مستضعفاً، فإن جاء الجدّ فهو ليث غاب، وصلّ واد).(3)

هذا ولكن علينا أن نأخذ قضية تمكين شيعة أهل البيت (علیهم السلام) ومواليهم

ص: 182


1- مجمع البيان: 4/ 375.
2- نهج البلاغة، الخطبة 192.
3- نهج البلاغة، الحكمة 289.

وسائر القضايا بحدودها وشروطها ونضعها في موضعها الصحيح من المنظومة الإسلامية، فإن مجرد دعوى الانتساب إلى مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) وانتحال صفة التشيّع لا يجعل صاحبها موعوداً بالنصر والتمكين، لأن الذين وُعدوا بذلك لهم خصائص وخصال يجب أن تتوفر فيهم ذكرتها الآية الشريفة، قال تعالى (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (الحج/39).ثم قال تعالى (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج/41).

فتمكينهم في الأرض تكون له بركات وآثار تكشف عن صدق نياتهم وإخلاصهم في أهدافهم وثباتهم على الاستقامة التي أمرهم الله تعالى بها وعدم انخداعهم بالدنيا البرّاقة التي تتزيّن لهم إذا مُكّن لهم في الأرض وهذه الخصائص هي:

1-(أقاموا الصلاة) فهم لا يكتفون بأداء الصلوات المفروضة عليهم كتكليف شخصي، وإنما يبذلون جهدهم لحث الناس جميعاً على الالتزام بها والمواظبة عليها وجعل الصلاة كياناً اجتماعياً مؤثراً في حياة الناس ورادعاً لهم عن الفحشاء والمنكر ويشعر الجميع بمسؤوليتهم عن إقامته والمحافظة عليه، وأوضح مصداق لهذا الكيان صلاة الجمعة التي لا تؤدّى إلا جماعة وبحضور امة كبيرة من الناس مما يجعل لها كياناً مؤثراً في حياتهم، وهذا ما جرّبه المجتمع العراقي عندما أقيمت فيه صلاة الجمعة المباركة.

2-(وآتوا الزكاة) بأن أخرجوا ما في ذممهم من حقوق شرعية وأقنعوا الآخرين بفعل ذلك وحثّوهم عليه وساعدوهم في إيصال هذه الأموال إلى

ص: 183

مستحقّيها وانشئوا بها المشاريع الاقتصادية التي تؤدي إلى رفاه الناس وتوفير فرص العمل المناسبة والحياة الكريمة لهم.3-(وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر) فلم يتركوا أهل المنكر يفعلون ما يشاؤون بل وعظوهم وزجروهم واتخذوا الإجراءات الكفيلة بردعهم حتّى لو اقتضى الأمر معاقبتهم، ولم يجاملوا أو يداهنوا كما يفعل الكثير من المتصدين اليوم تحت عناوين مخادعة كالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني وفصل الدين عن الدولة والحداثة والعصرنة والتقدم ونحوها من الخدع والأباطيل.

وأمروا بالمعروف وهو كل أمر مستحسن شرعاً وعقلاً تعارف عليه الناس ونشروه بين الناس وعرّفوهم به وأيقظوهم من غفلتهم وأرشدوهم إلى ما يصلح دنياهم وآخرتهم وعلموهم أحكام الدين وفضائل أهل البيت (علیهم السلام) ومناقبهم وسيرتهم العطرة.

هؤلاء هم من ينصرهم الله تعالى ويعزّهم ويؤيدهم ويمكن لهم في الأرض، وليس من أشارت إليهم آية أخرى (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ . أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) (محمد:22-23).

كالذي نشهده اليوم من تخلّي الكثيرين ممن وصل إلى السلطة تحت عناوين إسلامية عن أهدافهم وشعاراتهم والخصائص التي أشرنا إليها، حتّى آل الأمر إلى هذا الواقع التعيس الذي نسمع عنه في بغداد وغيرها، وهذا كفر عظيم بالنعمة، ومن الغريب أن يفتتح مهرجان بغداد عاصمة الثقافة العربية عام

ص: 184

2013(1) فعالياته وهي حفلات غنائية تزامناً مع إحياء الموالين لذكرى استشهاد الصدّيقة الزهراء (علیها السلام) وإقامة شعائرها المباركة.

ص: 185


1- تم الافتتاح في 23/ 3/ 2013 المصادف 11/ج1/ 1434 بحضور كبار مسؤولي الدولة ووزراء الثقافة العرب وأمين عام الجامعة العربية.

خطاب المرحلة 365 :محافظة المثنى: نموذج بائس لتردّي أحوال شعبنا

خطاب المرحلة 365 :محافظة المثنى: نموذج بائس لتردّي أحوال شعبنا(1)

محافظة المثنى بمدنها الأصيلة السماوة والرميثة وغيرهما عرفت بالولاء لأهل البيت (علیهم السلام) وتصدّرها لإحياء الشعائر الحسينية، وقدّمت رموزاً حفظتها الذاكرة الشيعية.

كما عرفت بولائها للمرجعية الدينية ومواقفها الوطنية وتضحياتها الجسيمة على هذا الطريق، والشواهد على ذلك كثيرة كمقاومتها للاحتلال الانكليزي وتفجيرها لثورة العشرين ومواقفها البطولية في معارضة النظام الصدامي والانتفاضة الشعبانية المباركة عام 1411/ 1991 حيث كان أول وفد تبعثه المرجعية خارج النجف إليها وضمّ ولدي المرجعين الراحلين السيد الخوئي والسيد السبزواري (قدس الله سريهما).

لكن المؤلم أن هذه المحافظة تقبع في ذيل قائمة الفقر حيث تذكر الاحصائيات المختصة أن نسبة الفقر في العراق 24 -أي حوالي ربع السكان- وان محافظة المثنى هي الأشد فقراً حيث تبلغ النسبة فيها 40.

ليس هذا فحسب، بل من الناحية العلمية أيضاً فقد سألت رئيس جامعتها عن عدد طلبة الكليات الراقية التي تعطي مؤشراً مهماً عن ازدهار المحافظة ورقيها

ص: 186


1- من حديث سماحة المرجع اليعقوبي(دام ظله) مع إدارة وطلبة جامعة الصدر الدينية فرع الرميثة يوم 14/ج1/ 1434 المصادف 26/ 4/ 2013.

العلمي من أبناء نفس المحافظة وليس من المقبولين من غيرها، فكان معدل نسبتهم في كلية طب الأسنان مثلاً حوالي 15 على ما أتذكر، وهذا دليل على ضعف المستوى العلمي في مدارسها.إن هذا التردي الكبير في مؤشرات التحضّر والازدهار والرفاه يكشف عن الواقع المزري لأبناء هذه المحافظة بالرغم مما تملكه من مقوّمات واستحقاقات ذكرناها في بداية حديثنا.

وهذا يدقّ في وجوهنا جرس الانذار، ويلقي علينا وعليكم مسؤولية إضافية في الالتفات إلى هذا الواقع ودراسته من جميع الجوانب وتشخيص اسبابه ووضع الحلول والخطوات العملية للمعالجة، وتزداد المسؤولية عليكم -يا طلبة جامعة الصدر الدينية في الرميثة وكذا في السماوة –لأنكم النخب المثقفة والواعية والمخلصة وتمتلكون الشهادة العلمية الراقية والتحصيل الديني المطلوب، ولكثير منكم مواقع وظيفية خدمية، وهذا يعني أن مفاتيح التغيير والاصلاح بأيديكم، والفرصة متاحة لكم أكثر من غيركم.

إن تبادل هذه الهموم ومناقشة هذه القضايا الحيوية هي من مصاديق قول الإمام (علیه السلام) (أحيوا أمرنا، رحم الله من أحيى أمرنا) لأن فيها صلاح دنيانا وآخرتنا وخدمة الناس وإسعادهم وإدخال السرور والبهجة عليهم وهي من أعظم القربات إلى الله تبارك وتعالى.

وإذا أردتم مناقشة أسباب هذا التردي فابدأوا من الحديث النبوي الشريف (صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي، وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل: يا

ص: 187

رسول الله ومن هما؟، قال (صلی الله علیه و آله): الفقهاء والأمراء)(1)، وتتحمل الأمة مسؤولية صناعة هذه القيادات وتمكينها من مقاليد الأمور وخلق هالات عظيمة حولها قد لا تكون أهلاً لها، وهذا هو سبب فشلنا وتراجعنا وتحكّم شذّاذ الآفاق فينا، حتى صرنا -ونحن أغلبية- نستجدي رضا غيرنا وهم أقلّية، حيث الانبطاح أمام مطالب متظاهرين بالآلاف(2) بينما تغمط حقوق أصحاب المسيرات المليونية إلى كربلاء المقدّسة إلى درجة أن ضحايا النظام الصدامي الذين صودرت أو حجزت أملاكهم لم تسترجع إلى حد الآن.إن من أهم ألقاب الإمام الحسين (علیه السلام) (أبيّ الضيم) فعلى أتباعه والموالين له والذين يقيمون شعائره أن يكونوا أباةً للضيم والخنوع والاستسلام وأن يرفضوا كل من يحاول تجهيلهم وتدجينهم وإخضاعهم مهما كان موقعه ومقامه المزعوم.

ص: 188


1- الخصال للشيخ الصدوق: 37.
2- إشارة الى اعتصامات محافظات الأنبار وصلاح الدين والموصل وكركوك.

خطاب المرحلة 366 :ليس سعيداً من اكتفى بغيره في فعل الخير

خطاب المرحلة 366 :ليس سعيداً من اكتفى بغيره في فعل الخير(1)

ينطلق الإنسان في تصرفاته من ثقافته ومنظومته الفكرية فقد يقوم بالسلوك الخاطئ لأنه يراه صحيحاً من وجهة نظره، وهذا الانقلاب في القيم والأفكار هو ما حذّر منه النبي (صلی الله علیه و آله) بقوله: (كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً أو المنكر معروفاً)، فإذا أردنا إصلاح سلوك هذا الشخص فلابدّ من تصحيح أفكاره أولاً.

وهذه المشكلة موجودة بشكل كبير في المجتمع النسوي لأنهنّ تعارفن على أمور وتسالمن عليها إلى درجة أنّ الواحدة منهنّ لا تستطيع الخروج عليها لأنّها ستلاقي ضغطاً اجتماعياً كبيراً، رغم أنّ الكثير من هذه الأمور لا يوجد دليل عليها بل أنّ بعضها مخالف للشريعة وفعله معصية فيتحوّل المنكر حينئذ إلى معروف والمعروف يصبح منكراً، والأمثلة على ذلك كثيرة لا أريد الخوض فيها هنا لأنّها تختلف من مجتمع إلى آخر.

والذي أريد أن أتحدّث عنه هنا أحد مكوّنات صنع هذه المنظومة الفكرية عند الإنسان والتي تكون منطلقاً لتصرفاته، وكيفية إصلاحها إذا كنّا بفضل الله تعالى جزءاً من عملية الإصلاح التي قادها الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم

ص: 189


1- حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من المبلّغات والمدرّسات في الحوزات النسوية في المدينة المنوّرة والإحساء والقطيف وقم المقدّسة يوم الثلاثاء 21/ج1/ 1434 المصادف 2/ 4/ 2013.

أجمعين) قال الله تعالى (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (هود/88) وقال الإمام الحسين (علیه السلام): (وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي محمد (صلی الله علیه و آله)).ومكوّنات هذه المنظومة الفكرية عديدة، كالدين والتقاليد الموروثة والثقافة والأعراف العامّة، وما يقدّمه صنّاع الرأي العام من كتّاب ومثقفين وإعلاميين، وقد تصنع الثقافة العامّة على شكل كلمات تصير أمثالاً يضربها الناس للاستدلال على صحّة سلوكياتهم، ولذا نؤكد على أهميّة تأثير الثقافة والأفكار في سلوك الإنسان.

ومن تلك الأمثال الخطيرة (حشرٌ مع الناس عيد) التي يبرّر بها الكثير إنسياقهم وراء السواد الأعظم في العقائد أو السلوك أو الأخلاق أو المواقف بل حتى في العقائد(1) بحجة أنّ الأكثرية مضوا على هذا، وان الموقف المشهور هو هذا، من دون تمحيص وتحقيق وبحث عن الدليل، رغم أنّ الله تعالى يؤكد في كتابه الكريم أنّ هذه الأكثرية لا توصل إلى الحق ولا تغني عن الحقّ شيئاً (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (يوسف/103) (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ) (الأنعام/116) (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً) (الإسراء/89) (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) (الفرقان/50) (وَلَ-كِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ) (البقرة/243) (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (سبأ/ 28) (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ

ص: 190


1- كالمخالفين لأهل البيت (علیهم السلام) الذين لا يملكون الدليل مقابل أحقّية أمير المؤمنين (علیه السلام) بالخلافة فيتمسكون بأنّه أمر واقع سار عليه أكثر الصحابة ونحن نتبعهم، وكذا تشتهر بعض المرجعيات ويكثر اتباعها بلا حجّة سوى هذه المقولة المصطنعة.

النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ) (غافر/ 59)، ولو كانت مقولة (حشر مع الناس عيد) تفيد حقاً لحكمنا بصحة العقائد الباطلة لكثرة معتنقيها.وبالعكس امتدح القلّة الثابتة على الحق (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ) (البقرة/ 83) (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ) (البقرة/ 246) (فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ) (البقرة/ 249) (فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً) (النساء/ 46).

فإذن من الخطأ أن يكون شعارنا (حشرٌ مع الناس عيد) بل (حشرٌ مع الحقّ عيد) فنكون مع الحق ولو لم يكن معنا أحد، وإذا كان الأكثرية على أمر فلا نأخذ به من دون تروٍ وتثبّت ورجوع إلى أهل الاختصاص قبل الأخذ بها ولا نستوحش الطريق لقلّة سالكيه كما عبّر أمير المؤمنين (علیه السلام).

والكلمة المشهورة الأخرى (السعيد من اكتفى بغيره) ولا أعلم إن كان لها منشأ من الأحاديث الشريفة أو لا، وقد يكون لها مورد تصح فيه فإنّ من سعادة المرء مثلاً أن يكون مكفول الرزق والمؤونة كما ورد في الأحاديث الشريفة عن طالب العلم، فهذا من السعادة أن يكون فارغ الهم من طلب المعاش.

لكن هذه الكلمة استُخدمت مبرّراً للتقاعس عن كثير من الأعمال الصالحة بإيكال الأمر إلى من يقوم به كإرشاد الناس وتعليمهم الأحكام وتدريس العلوم الدينية، وإمامة الصلاة والتبليغ في البلدان الأخرى ونشر الوعي والإصلاح وهكذا.

وتطورّت هذه الثقافة إلى ترك واجبات مهمّة كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعنوان أنه واجب كفائي لا يتعيّن عليه شخصياً القيام به ولعل غيره يفعل

ص: 191

ذلك وهكذا.وفي هذا خطر على الأمة لأنّ حالة (التواكل) تسبّب ضياع المعروف وضعف أهله وتفشّي المنكر وتقوية فاعليه، وفيه أيضاً ضرر على الفرد نفسه بتضييع فرص مهمّة لطاعة الله تعالى والتقرّب منه.

عن الإمام الرضا (علیه السلام) قال (كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: إذا أمّتي تواكلت ((تواكلوا)) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من الله).(1)

وعن امير المؤمنين (علیه السلام): (عليكم بأعمال الخير فتبادروها ولا يكن غيركم أحقّ بها منكم).(2)

وعنه (علیه السلام) قال: -(افعلوا الخير ولا تحقّروا منه شيئاً فإنّ صغيره كبير و قليله كثير ولا يقولنّ أحدكم أن أحداً أولى بفعل الخير منّي فيكون والله كذلك، إنّ للخير والشرّ أهلاً فما تركتموه منها كفاكموه أهله).(3)

ومن أعظم أعمال الخير والطاعات التي أمرنا بالمسارعة إليها واستباقها والمبادرة إليها هي التفقه في الدين ونشر علوم أهل البيت (علیهم السلام) وإرشاد الناس وتعليمهم وتوعيتهم، خصوصاً في المجتمع النسوي الذي يحتاج إلى جهد مضاعف لطول الحرمان والعوائق التي صنعها المجتمع ونحوها من الأسباب.

وهذه من الوظائف المهمة التي قامت بها الصدّيقة الطاهرة الزهراء (علیها السلام) ولم تقل للنساء اذهبن إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) أو أوصلوا مسائلكم عن طريق

ص: 192


1- وسائل الشيعة، أبواب الأمر والنهي، باب 1 ح5.
2- غرر الحكم: رقم 6151.
3- بحار الأنوار: 68/ 190 عن نهج البلاغة 4/ 99، قصار الكلمات.

أزواجكم إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأنّها لا تريد أن تحرم نفسها من هذه الطاعة العظيمة.روي في تفسير العسكري (حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء س فقالت : إن لي والدة ضعيفة وقد لبس عليها في أمر صلاتها شي ء ، وقد بعثتني إليك أسألك . فأجابتها فاطمة س عن ذلك ثم ثلثت ، فأجابت ، ثم ثلثت فأجابت إلى أن عشرت فأجابت ، ثم خجلت من الكثرة ، فقالت: لا أشق عليك يا بنت رسول الله. قالت فاطمة س: هاتي و سلي عما بدا لك ، أرأيت من اكترى يوما يصعد إلى سطح بحمل ثقيل، و كرائه مائة ألف دينار أ يثقل عليه ؟ فقالت: لا . فقالت ع: اكتريت أنا لكل مسألة بأكثر من مل ء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤا فأحرى أن لا يثقل عليَّ ، سمعت أبي رسول الله ص يقول: إن علماء شيعتنا يحشرون ، فيخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم ، و جدهم في إرشاد عباد الله . حتى يخلع على الواحد منهم ألف ألف خلعة من نور. ثم ينادي منادي ربنا عز وجل: أيها الكافلون لأيتام آل محمد ،الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الذين هم أئمتهم، هؤلاء تلامذتكم والأيتام الذين كفلتموهم و نعشتموهم، فاخلعوا عليهم [كما خلعتموهم] خلع العلوم في الدنيا، فيخلعون على كل واحد من أولئك الأيتام على قدر ما أخذوا عنهم من العلوم، حتى أن فيهم يعني في الأيتام لمن يخلع عليه مائة ألف خلعة و كذلك يخلع هؤلاء الأيتام على من تعلم منهم. ثم إن الله تعالى يقول: أعيدوا على هؤلاء العلماء الكافلين للأيتام حتى تتموا لهم خلعهم و تضعفوها، فيتم لهم ما كان لهم قبل أن يخلعوا عليهم، و يضاعف لهم، و كذلك من بمرتبتهم ممن

ص: 193

يخلع عليه على مرتبتهم. و قالت فاطمة س : يا أمة الله إن سلكا من تلك الخلع لأفضل مما طلعت عليه الشمس ألف ألف مرة ، و ما فضل فإنه مشوب بالتنغيص والكدر).(1)

ص: 194


1- بحار الأنوار: ج2 ص3 ح3.

خطاب المرحلة 367 :معاني القرآن لا تنتهي

خطاب المرحلة 367 :معاني القرآن لا تنتهي(1)

وصف النبي (صلی الله علیه و آله) القرآن بأنه (لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه) فالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة لأهل البيت (علیهم السلام) غنية بالمعاني وعميقة الفهم، وهي متجدّدة ومفتوحة لا تنتهي، وكل جيل من العلماء يأتي يبين شيئاً يسيراً منها وما يخفى عليه أكثر بكثير، ويأتي الجيل الآخر ويغترف منها شيئاً وهكذا من دون أن تنتهي تلك المعاني.

وقد يستغرب البعض كيف يكون لكلام مؤلف من هذه الحروف الثمانية والعشرين في اللغة العربية التي نتداولها يمكن أن تكون لها هذه السعة من المعاني، وهذا الاستغراب منشأه القصور والتقصير في معرفة معاني القرآن الكريم وعدم الالتفات إلى من أودعها في هذه القوالب اللفظية وقدرته وعظمته وعلمه.

واضرب لكم مثالاً قد يعرفه طلبة الحوزة العلمية أكثر من غيرهم وهي ما يعرف بقاعدة الاستصحاب التي هي من أهم الأبحاث المعمّقة في علم الأصول وكتبت فيها مجلدات ولا زال البحث فيها مستمراً والتفريعات تتكثر، واصلها حديث من ثلاث كلمات للمعصوم (علیهم السلام) (لا تنقض اليقين بالشك)، أي إذا

ص: 195


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع المؤسسة القرآنية في الغزالية ببغداد يوم الخميس 23/ج1/ 1434 المصادف 4/4/ 2013.

كنت على يقين من حالة معينة ككونك على طهارة أو أن زيداً حيّ، فتبني على هذا اليقين وترتّب آثاره حتى لو حصل لك شك فيها ولا تنقض حالة اليقين إلا بيقين مثله، هذه الكلمات أصبحت محوراً لأبحاث معمّقة تملأ مجلدات ولازال البحث فيها مفتوحاً، فإذا كانت ثلاث كلمات في علم ظاهري تفتح هذه الآفاق الواسعة للبحث، فماذا سينفتح من علوم ومعارف إلهية من كلمات القرآن الكريم وانى للبشر استيعابها وبلوغ كنهها؟لذلك تجد العلماء لا يتوقفون عن التدبر في آيات القرآن الكريم واكتشاف ما يهتدون إليه من معانيها وإيداعها في التفاسير، ومع ذلك لا زالت حقائقه كثيرة خافية على العلماء فضلاً عن غيرهم، وحكي عن السيد الطباطبائي (قده) صاحب تفسير الميزان قوله اننا نحتاج في كل سنتين إلى تفسير، وقد أنهى (قده) تفسيره في عشرين عاماً فهذا يعني أن محاولات التفسير لابد أن تكون متعدّدة ومتواصلة في الجيل الواحد فضلاً عن الأجيال المتتالية.

إننا نشهد في هذا العصر نهضة قرآنية لا بأس بها ونسأل الله تعالى ان يوسّعها ويزيدها، لكنها غالباً تقتصر على التجويد وتحسين الصوت ومخارج الحروف والنغمات ونحوها، وهذا شيء جيدٌ في نفسه لأن حلية القرآن الصوت الحسن، لكن الاقتصار عليه والوقوف عنده من دون الانطلاق إلى فهم معاني القرآن الكريم واكتشاف أسراره ومعرفة حدوده يكون خطوة ناقصة نحو الكمال المنشود.

ص: 196

خطاب المرحلة 368 :(إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ)

اشارة

خطاب المرحلة 368 :(إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ)(1)

كثيراً ما ألتقي بوفود الشباب وطلبة الجامعات وأستمع إلى أسئلتهم وهمومهم ومشاكلهم، والسؤال الأكثر تردداً هو: كيف نستطيع مقاومة المغريات والشهوات وأساليب الإفساد وهم يعيشون في بيئة مليئة بأسباب الفتنة والإغراء متزامنة مع فورة الشباب وعنفوان القوى وهيجان العواطف.

وفي الحقيقة فإنّ المشكلة لا تختص بالشباب، فإنّه مادام الإنسان في هذه الدنيا فهو مبتلى بالإغراءات والشهوات والفتن ويخوض (جهاداً أكبر) لمواجهتها كما سمّاه النبي (صلی الله علیه و آله) في الحديث المشهور، ويعزّز قوة هذه الضغوط الميل العارم للنفس الأمّارة بالسوء نحو الاستجابة لها، مع تزيين الشيطان لها (إلهي إليك أشكو نفساً بالسوء أمّارة وإلى الخطيئة مبادرة وبمعاصيك مولعة) (إلهي أشكو إليك عدواً يضلني وشيطاناً يغويني.. يعاضد لي الهوى ويزيّن لي حب الدنيا).(2)

والإنسان في هذه المواجهة يحتاج إلى معونة ومناعة وتحصين كالتطعيم

ص: 197


1- الكلمة التي تحدّث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) من خلال شاشة قناة النعيم إلى الآلاف من طلبة الجامعات والمعاهد العراقية المشاركين في فعاليات ومواكب الوعي الفاطمي مساء السبت 2/ج2/ 1434 الموافق 13/ 4/ 2013.
2- من مناجاة الشاكين للإمام السجاد (علیه السلام).

الصحي ضد الأوبئة والأمراض الجسدية، وهذه المعونة يحتاجها الإنسان قبل التعرض للامتحان وأثناءه وبعده، فما هي الوسيلة لتحصيل هذه المعونة والتطعيم والتحصين؟ والجواب بكلمة واحدة إنّها (الصلاة)، ومن دلائل عظمة الصلاة إنها هي الوسيلة التي توفر الحصانة والمناعة في جميع تلك المراحل المترتّبة في الفضل والسمو، عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (عباد الله، إن أفضل ما توسل به المتوسلون إلى الله جل ذكره: الإيمان بالله وبرسله وما جاءت به من عند الله،... وإقامة الصلاة فإنها الملة).ولبيان ذلك نقول أما قبل الامتحان فيحتاج الإنسان إلى اللطف الإلهي والعناية الإلهية لتحميه من الابتلاء بالمعاصي أصلاً، أو حمايته منها عند عروضها عليه حيث يبصّره الله تعالى بحقائق تلك المعاصي المنفرّة الموجبة للاشمئزاز والتقزّز وليس الاقبال والرغبة، وهذا ما توفره الصلاة، عن أمير المؤمنين (علیه السلام): (الصلاة تستنزل الرحمة)(1) وعنه (علیه السلام) : (ما دمت في الصلاة فإنك تقرع باب الملك الجبار ومن يُكثِر قرع باب الملك يُفتَح له)(2) وعنه (علیه السلام) (إذا قام الرجل إلى الصلاة أقبل إبليس ينظر إليه حسدا، لما يرى من رحمة الله التي تغشاه).(3) وعنه (علیه السلام): (لو يعلم المصلي ما يغشاه من جلال الله ما سره أن يرفع رأسه من سجوده).(4)

ومن تغشته رحمه الله وأحاط به جلاله فهو في أمن وأمان وحصن وثيق من

ص: 198


1- (2) (3) (4) الأحاديث المذكورة والتي بعدها نقلها عن مصادرها في جامع أحاديث الشيعة: 4/ 29 وما بعدها، وفي ميزان الحكمة: 5/ 107- 135.

الوقوع في شراك إبليس، وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): (إنّ الصلاة قربان المؤمن) وكلما اقترب الإنسان من ربّه ابتعد عن الشيطان وموجبات الوقوع في المعصية، وإذا وُفِّق الإنسان إلى هذه المرحلة فهي الأكمل والأسمى والأعظم عند الله تعالى حينما لا يجد في نفسه أي ميل للمعصية ولا رغبة له فيها، وبالتالي فهو لا يجد أي مشكلة في اجتنابها.وفي المرحلة الثانية أي عند الابتلاء بما يوجب المعصية وحينما يكون بين خيارين أحدهما كبح جماحِ النفس والفوز بطاعة الله، وثانيهما الانسياق وراء الشهوة والوقوع في المعصية، وهنا يأتي دور الصلاة في زيادة مناعته وتحصينه من الوقوع في المعصية بل أن الثمرة الأبرز لإقامة الصلاة هي هذه، قال تعالى (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) (العنكبوت/45)، وعن الإمام الصادق (علیه السلام): (اعلم أن الصلاة حُجزةُ الله في الأرض، فمن أحبّ أن يعلمَ ما أدركَ من نفعِ صلاته، فلينظر: فإن كانت حَجَزَتهُ عن الفواحش والمنكر فإنما أدرك من نفعها بقدرِ ما احتجزَ).

وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) (الصلاة حصن من سطوات الشيطان)، وروي عن النبي (صلی الله علیه و آله) قوله (لا يزال الشيطان ذعراً من المؤمن هائباً له ما حافظ على الصلوات الخمس، فإذا ضيّعهن اجترأ عليه)، وهذه المرحلة وإن كانت أقل درجة من سابقتها لأن الإنسان يجتنب المعصية بمعاناة ومشقّة وجهاد، إلاّ انها مرحلة عظيمة أيضاً.

أما في المرحلة الثالثة وهي ما بعد الفعل ونفترض أن العبد لم يستفد من بركات صلاته مما أدى إلى سقوطه في الخطأ لسبب أو لآخر فإن الصلاة هي

ص: 199

التي تمدّ حبل النجاة لإنقاذه على نحوين:أولهما: إعادته إلى الحالة الصحيحة وتطعيمه من جديد ضد الانحراف والمعصية وزيادة مناعته بجرعة أكبر، روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال -- في رجلٍ يُصلّي معه ويرتكبُ الفواحش-: (إنّ صلاته تنهاهُ يوماً ما، فلم يلبث أن تابَ)، وعنه (صلی الله علیه و آله) قال -- في رجل يُصلّي بالنهار ويسرقُ بالليل-: (إنّ صلاته لتردعهُ).

ثانيهما: إنها تكفّر الإثم الذي ارتكبه وتبيّض صفحته التي اسودّت بفعل المعصية وتمنحه فرصة التكامل من جديد، روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنّه أخذ غصناً من شجرة كانوا في ظلّها فنفضه فتساقط ورقهُ ثم فسّر لأصحابه ما صنع فقال: (إن العبد المسلم إذا قام إلى الصلاة تحاتّت عنه خطاياه كما تحاتَت ورقُ هذه الشجرة).

وروي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول أرجى آية في كتاب الله ﴿وأقم الصلاة طرفي النهار وزُلفاً من الليل﴾ وقال يا علي والذي بعثني بالحق بشيرا ونذيرا إن أحدكم ليقوم من وضوئه فتساقط عن جوارحه الذنوب فإذا استقبل الله بوجهه وقلبه لم ينفتل وعليه من ذنوبه شيء كما ولدته أمه فإن أصاب شيئا بين الصلاتين كان له مثل ذلك حتى عد الصلوات الخمس ثم قال يا علي إنما منزلة الصلوات الخمس لأمتي كنهر جار على باب أحدكم فما يظن أحدكم لو كان في جسده درن ثم اغتسل في ذلك النهر خمس مرات أكان يبقى في جسده درن فكذلك والله الصلوات الخمس لأمتي).

ص: 200

موقع الصلاة في الدين

لهذا كله احتلت الصلاة موقعاً مهماً من الدين.

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (مثلُ الصلاةِ مثلُ عمودِ الفُسطاط؛ إذا ثبتَ العمودُ نفعت الأطناب والأوتاد والغشاءُ، وإذا انكسرَ العمودُ لم ينفع طُنبٌ ولا وتدٌ ولا غشاء).

ولهذا كانت الصلاة مقياس دين الإنسان والتزامه بما فرض الله تعالى عليه، روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (لكل شيء وجهٌ، ووجهُ دينكم الصلاة) ، وعنه (صلی الله علیه و آله): (أولُ ما ينظر في عمل العبد في يوم القيامة في صلاته، فإن قبلت نُظر في غيرها، وإن لم تُقبل لم ينظر في عمله بشيء) ، وعن أمير المؤمنين (علیه السلام): (الصلاة ميزانٌ، فمن وفّى استوفى).

ولذا كثرت الوصايا بها، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (ليكن أكثر همِّكَ الصلاة، فإنها رأس الإسلام بعد الإقرار بالدين) ، ومما جاء في وصية أمير المؤمنين (علیه السلام) لأولاده قبيل وفاته (الله الله في الصلاة فإنها عمود دينكم)، وعن الإمام الصادق (علیه السلام): (أحب الأعمال إلى الله عز وجل الصلاة، وهي آخرُ وصايا الأنبياء) ، وعنه (علیه السلام) (إن طاعة الله خدمته في الأرض فليس شيء من خدمته يعدل الصلاة).

التشديد على تارك الصلاة

فليس غريباً التشديد في قضية ترك الصلاة، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) (ما بين المسلم وبين الكافر إلاّ أن يتركَ الصلاة الفريضة متعمداً، أو يتهاون بها فلا

ص: 201

يصلّيها) ، وعنه (صلی الله علیه و آله): (الصلاة عِمادُ الدين، فمن ترك صلاته متعمّداً فقد هدم دينه، ومن ترك أوقاتها يدخل الويل، والويلُ وادٍ في جهنّم كما قال الله تعالى (فويل للمصلين*الذين هم عن صلاتهم ساهون)، وعنه: (من ترك الصلاة لا يرجو ثوابها ولا يخافُ عِقابها، فلا أُبالي أن يموتَ يهودياً أو نصرانياً أو مجوسيّاً).

كيفية الصلاة التي تؤدي دورها الكامل في حياة الإنسان:-

ولكي تأخذ الصلاة دورها الكامل في حياة الإنسان لابد أن يؤتى بها بحدودها وشروطها.

(ومنها) الإتيان بها في أول وقتها، عن الإمام الصادق ع: (لكل صلاة وقتان: أوّلٌ وآخرٌ، فأول الوقت أفضلُه، وليس لأحدٍ أن يتّخذ آخر الوقتين وقتاً إلا من علّةٍ، وإنما جُعِل آخر الوقت للمريض والمعتل ولمن له عذرٌ، وأولُ الوقت رضوان الله، وآخرُ الوقت عفو الله). وعنه (علیه السلام): (فضل الوقت الأول على الآخر كفضل الآخرة على الدنيا) ، وعنه (علیه السلام): (لفضل الوقت الأول على الآخر خيرٌ للمؤمن من ماله وولده).

وروى الشيخ الصدوق في الفقيه بسنده عن حماد بن عيسى: قال لي أبو عبد الله (علیه السلام) يوماً: تُحسِنُ أن تُصلّيَ يا حمّاد؟... قُم فصلِّ، قال: فقمتُ بين يديه متوجّهاً إلى القبلة فاستفتحتُ الصلاة وركعتُ وسجدتُ، فقالَ: يا حمّاد، لا تُحسن أن تصلّي؟! ما أقبح بالرجل ان تأتي عليه ستون سنة أو سبعون سنة فما يقيم صلاة واحدة بحدودها تامّة؟!

ص: 202

(ومن) شروط تأثيرها الورع عن محارم الله تعالى، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): (لو صلّيتم حتّى تكونوا كالأوتارِ، وصُمتم حتى تكونوا كالحنايا، لم يقبلِ الله منكم إلاّ بورعٍ).

(ومن) أبرز الموانع من قبولها وتأثيرها:

1-عقوق الوالدين، عن الإمام الصادق (علیه السلام) (من نظر إلى أبويه نظر ماقتٍ وهما ظالمان له، لم يقبل الله له صلاة).

2-الغيبة، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (من اغتاب مسلماً أو مسلمة لم يقبل الله تعالى صلاته ولا صيامه أربعين يوماً وليلة، إلاّ أن يغفر له صاحبه).

نصيحة وتوصية:

فاهتموا بصلاتكم أيها الأحبّة وحافظوا على أول وقتها وواظبوا على أدائها جماعة في المسجد مهما تيسر لكم لتزدادوا نوراً على نور واستزيدوا منها فوق الفرائض اليومية، روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) انه قال لأبي ذر لما سأله عن الصلاة (خير موضوع، فمن شاء أقلّ ومن شاء أكثر) وعن الإمام الصادق (علیه السلام) لما سئل عن أفضل الأعمال بعد المعرفة قال (عع): (ما من شيء بعد المعرفة يعدل هذه الصلاة)، وعن الإمام الكاظم (علیه السلام): (صلوات النوافل قُربات كل مؤمن).

خصوصاً صلاة الليل ولو بأقل عدد من الركعات، قال تعالى (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً) (الإسراء79).

لقد لخّصَتْ الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) هذه الأهمية للصلاة

ص: 203

ودورها في تهذيب الإنسان وتكامله بقولها في خطبتها (فجعل الله... الصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر) فالصلاة تنزّه الإنسان وتطهّره من التكبر والعتوّ والتمرّد والإستكبار والفرعنة التي هي أساس الوقوع في المعاصي وإتّباع الشيطان والابتعاد عن الله تعالى ولشدّة اهتمامها (سلام الله عليها) بالصلاة سألت أباها رسول الله (صلی الله علیه و آله) (يا أبتاه ما لمن تهاون بصلاته من الرجال والنساء؟ قال: يا فاطمة: من تهاون بصلاته من الرجال والنساء ابتلاه الله بخمسة عشر خصلة، ستّ منها في دار الدنيا، وثلاث عند موته، وثلاث في قبره، وثلاث في القيامة إذا خرج من قبره) ثم عدّدها رسول الله (صلی الله علیه و آله) فراجع المصدر.(1)فاغتنموا أيّها الأحبّة من الشباب والطلبة الجامعيين وجودكم في جوار أمير المؤمنين (علیه السلام) معزّين إياه باستشهاد الصدّيقة الطاهرة (ع)، واغتنموا هذه النفحات الفاطمية لتحصيل هذه المقامات الرفيعة والفرص العظيمة للطاعة والله ولي التوفيق.

ص: 204


1- مستدرك وسائل الشيعة: 3/ 23.

خطاب المرحلة 369 :الصدّيقة الزهراء (علیها السلام) تحمل هذا الدين وتحميه

اشارة

خطاب المرحلة 369 :الصدّيقة الزهراء (علیها السلام) تحمل هذا الدين وتحميه(1)

الحمد لله وحده كما يستحقه حمداً كثيراً، والصلاة والسلام على أمينه على وحيه وسيد خلقه أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

السلام على أمير المؤمنين عبد الله وأخي رسوله، وعلى الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) الممتحنة الصابرة الشهيدة المحتسبة المهتضم حقها، ورحمة الله وبركاته.

السلام عليكم أيها المؤمنون ورحمة الله وبركاته.

روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: (يحمل هذا الدين في كل قرن عُدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين كما ينفي الكير خبث الحديد)(2).

والقرن هم أبناء الجيل الواحد باعتبارهم مقترنين في الزمان، فمعنى

ص: 205


1- الخطاب الذي وجّهه سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) إلى عشرات الآلاف من المؤمنين الذين اجتمعوا في ساحة ثورة العشرين في النجف الأشرف قبل أن ينطلقوا في التشييع الرمزي للسيدة الزهراء (علیها السلام) في ذكرى استشهادها ضمن فعاليات الزيارة الفاطمية صباح يوم الأحد 3/ج2/ 1434 الموافق 14/ 4/ 2013.
2- رجال الكشي: 2، وروى البرقي في المحاسن مثله وفيه (فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) (بحار الأنوار: 2/ 92 عن بصائر الدرجات: 1/ 30، باب 6، ح 7).

الحديث الشريف أنه يوجد في كل جيل من الأجيال من يحمل رسالة الإسلام المحمدي الأصيل ويحميه من الشبهات والبدع والتحريف والضلالات والأهواء وينقي الإسلام مما علق به من تلك البدع والشبهات كما يفعل الحداد حين يصنع الحديد في النار وينفخ فيها ليزيل عنه الشوائب.وفي هذا الحديث الشريف تطمين وتحذير ودعوة.

أما التطمين فلأنه يطمئن الناس بأن الله تعالى لا يخلي الأرض من العلماء العاملين المخلصين الواعين الذين يؤدون هذه الأمانة الإلهية فإنهم موجودون في كل جيل، فلا يقلق الناس من هذه الناحية، أو يبررون ضلالهم وانحرافهم وسوء اختيارهم لمسلكهم في الحياة بعدم وجود مثل هؤلاء العلماء.

وفي الحديث إخبار وتحذير بأن المبطلين والمدعين والمنحرفين وأهل الأهواء وطلاب الدنيا من المتلبسين بالعناوين الدينية ومن ينخدع بهم من الجهلة والسذّج سوف لا يتوانون عن تحريف هذا الدين وإدخال البدع والضلالات تحت أي عنوان وقد تُعطى البدعة عنواناً دينياً مقدساً، ولا يتوقفون عن خداع الناس بمكرهم ودجلهم، وأنهم موجودون في كل جيل ويعملون باستمرار كما أن العلماء العاملين موجودون في كل جيل ويواجهونهم.

وفي الحديث أيضاً دعوة للناس للالتفات إلى هذا الصراع وهذه المواجهة، والالتفاف حول مثل هؤلاء العلماء الذين وصفهم الحديث الشريف لاتّباعهم والالتزام بما يصدر منهم، وعدم الانخداع بمن يدّعون القداسة والقيمومة على الدين والمؤسسة الدينية ليطلبوا بها الدنيا؛ لأن عملية التأويل والتحريف وخداع الناس لا تكون إلا ممن أعطى لنفسه عناوين دينية كبيرة، ووضع له حاشيته

ص: 206

والمستفيدون منه هالة مقدسة وجعلوه صنماً يعبد ويطاع من دون الله تعالى.لذلك يؤكد الأئمة (علیهم السلام) على أن نختار بوعي ودراية وبصيرة وليس بتقليد الأسلاف أو بالسلوك الجمعي مع عامة الناس ونحوها.

روى علي بن سويد قال: (كتب إليّ أبو الحسن الأول –أي الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام)- وهو في السجن: وأما ما ذكرت يا علي: ممن تأخذ معالم دينك، لا تأخذن دينك عن الخائنين الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم، إنهم ائتمنوا على كتاب الله جل وعلا فحرّفوه وبدّلوه فعليهم لعنة الله ولعنة رسوله وملائكته ولعنة آبائي الكرام البررة ولعنتي ولعنة شيعتي إلى يوم القيامة)(1).

وروى البرقي في المحاسن من مواعظ السيد المسيح (ع) قوله: (كونوا نقّاد الكلام، فكم من ضلالة زخرفت بآية من كتاب الله كما زخرف الدرهم من نحاس بالفضة المموهة، النظر إلى ذلك سواء والبصراء به خبراء)(2).

ولأن هذه المواجهة موجودة في كل جيل فقد بدأت بشكل علني بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) مباشرة وجسده الشريف لا زال مسجّىً لم يدفن، حيث عمد زعماء الانقلاب إلى التأويل والتحريف والادعاءات الباطلة.

وكانت الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) أول هؤلاء العدول الذين يحملون هذا الدين وينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين، وواجهتهم ودحضت ادعاءاتهم الخائبة، في كل الاتجاهات التي غيّروا وبدّلوا فيها.

ص: 207


1- بحار الأنوار: 2/ 82 عن رجال الكشي كذلك.
2- بحار الأنوار: 2/ 96، ح 39، عن المحاسن: 299-230.

فعلى صعيد تلاعبهم بكتاب الله تعالى قالت (سلام الله عليها): (كيف بكم وأنّى تؤفكون، وكتاب الله بين أظهركم، أمورُه ظاهرةٌ وأحكامُه زاهرةٌ، وزواجرُه لائحةٌ، وأوامرُه واضحة، وقد خلّفتمُوهُ وراء ظهوركم، أرغبةً عنه تريدون؟ أم بغيره تحكمون؟ [بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً] (الكهف: 50) [وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ] (آل عمران : 85)).وقالت (علیها السلام): (يا ابن أبي قحافة، أفي كتاب الله ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فريّاً، أفعلى عمدٍ تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول: [وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ] (النمل:16)، وقال فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريا إذ قال: [فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً] (مريم : 5-6)، وقال: [وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ] (الأنفال:75)، وقال: [يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ] (النساء:11)).

إلى أن قالت (علیها السلام): (أفخصّكم الله بآية أخرج أبي منها؟ أم هل تقولون: إنا أهل ملّتين لا يتوارثان؟ أولستُ أنا وأبي من أهل ملة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟).

وفي موضوع الإمامة وانقلابهم على وصية رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الخليفة من بعده وإقصاء أمير المؤمنين قالت (علیها السلام): (ويحهم! أنى زعزعوها؟ عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوة والدلالة، ومهبط الروح الأمين، والطبين –أي الفطن الحاذق العالم بكل شيء- بأمور الدنيا والدين؟ [أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ]

ص: 208

(الزمر : 15)) (وتالله لو مالوا عن المحجة اللائحة، وزالوا عن قبول الحجة الواضحة لردّهم إليها، وحملهم عليها) (ولأوردهم منهلاً نميراً صافياً رويّاً، [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَ-كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ] (الأعراف : 96)، ويحهم! [أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ] (يونس : 35) هنالك يخسر المبطلون، ويعرف التالون غبّ –أي عاقبة- ما أسس الأولون).وردّت على افترائهم على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتزويرهم حديثاً عنه زعموا أنه قال: ((نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ذهباً ولا فضة)) إلخ فقالت (علیها السلام): (سبحان الله! ما كان أبي رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن كتاب الله صادفاً، ولا لأحكامه مخالفاً، بل كان يتبع أثره، ويقفوا سوره، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالاً عليه بالزور والبهتان، وهذا بعد وفاته شبيه بما بغي له من الغوائل في حياته، هذا كتاب الله حكماً عدلاً، وناطقاً فصلاً) (ما أزاح به علة المبطلين وأزال التظني والشبهات في الغابرين، كلا [بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ] (يوسف:18).

أسباب الانحراف والتأويل:

وهنا لا بد أن نقف عند تحليل السيدة الزهراء (سلام الله عليها) وتشخيصها لأسباب هذا الانحراف والتغيير في الدين والتخاذل والنكوص عن الحق ومساندة الباطل، وكيف تعطى له الفرص ليستفحل ويتجذّر في المجتمع، ومن

ص: 209

كلماتها (ع) في ذلك (معاشر المسلمين، المسرعة إلى قيل الباطل، المغضية على الفعل القبيح الخاسر، أفلا تتدبرون القرآن [أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] (محمد : 24) كلا بل ران على قلوبكم ما أسأتم من أعمالكم، فأخذ بسمعكم وأبصاركم، ولبئس ما تأوّلتم).وقالت (علیها السلام): (أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض –أي الراحة وسعة العيش- وأبعدتم من هو أحقّ بالبسط والقبض، وخلوتم بالدعة –وهي الراحة- ونجوتم بالضيق من السعة، فمججتم ما وعيتم، ودسعتم الذي تسوغّتم- أي قاؤوا ما شربوه بسهولة- فإن [تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ] (إبراهيم : 8)).

وقالت (علیها السلام): (وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم فألفاكم لدعوته مستجيبين وللغرّة فيه ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً، وأحمشكم فألفاكم غضاباً –أي استفزّكم فغضبتم له- فوسمتم غير إبلكم، ووردتم غير مشربكم) (ابتداراً، زعتم خوف الفتنة ألاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ] (التوبة : 49)).

وتبيّن (سلام الله عليها) لهم العاقبة (فنِعمَ الحكمُ الله والزعيم محمد (صلی الله علیه و آله)، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، ولا ينفعكم إذ تندمون، و [لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ] (الأنعام:67) و [سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ] (هود : 39)).

فإذن يتحصل من خطاب السيدة الزهراء (علیها السلام) أن الأسباب عديدة والمسؤولية يتحملها طرفان:

ص: 210

الأول: بعض رجال الدين بانقيادهم لأهواء النفس وميلهم لحب الدنيا وتزيين الشيطان وحسدهم لأهل الحق وتصدّيهم لمواقع ليسوا مؤهلين لها (فوسمتم غير إبلكم ووردتم غير مشربكم) حتى طُبع على قلوبهم فحرموا من التدبر في الآيات الكريمة والروايات الشريفة فأخذوا يأوّلونها ويحرفون معانيها.الثاني: عامة الناس بجهلهم وحماقتهم وسذاجتهم وميلهم إلى الدعة والراحة وتخاذلهم عن نصرة من تجب طاعته وسكوتهم عن المنكر والباطل، ونعيقهم مع كل ناعق وخوضهم مع الخائضين وإسراعهم إلى الشبهات والقيل والقال وتصديق المدّعين وعدم تصحيحهم للأخطاء التي يقعون فيها وعدم توبتهم من الذنوب التي يرتكبونها.

وهذه الأسباب لحصول الانحراف وابتعاد الناس عن الحق موجودة في كل زمان، لذا يعلن الحديث النبوي الشريف أن الله تعالى يهيئ في كل جيل من يواجه هذا الانحراف، وكانت الصدّيقة الطاهرة (علیها السلام) على رأس من اجتباهم الله تعالى لأداء هذا الدور العظيم، فكانت هذه واحدة من الوظائف المباركة التي قامت بها الصدّيقة الزهراء (علیها السلام)، وتحمّلت بسبب قيامها هذا الكثير من المشقة والمعاناة والظلم فهتكوا حرمة دارها التي أذِن الله لها أن ترفع، وقام القوم بإيذائها جسدياً ومعنوياً ومنعها من البكاء على أبيها (صلی الله علیه و آله) حتى قضت شهيدة صابرة محتسبة في مدة قصيرة.

ووقف أمير المؤمنين (علیه السلام) عند دفنها مخاطباً رسول الله، ومما قال في إدانة

ص: 211

الانقلابيين وتجريمهم: (وسَتُنبِّئُك ابنتك بتضافر(1) أمتك على هضمها، فأحْفها السؤال، واستخبرها الحال)(2).أيها الأحبة:

إن الصدّيقة الزهراء (علیها السلام) أسوة لنا جميعاً بل هي حجة علينا جميعاً، فلنأخذ منها هذا الدرس الشريف ونسير على هديها ونعمل جميعاً على حمل رسالة الإسلام ومذهب أهل البيت (علیهم السلام) إلى الدنيا بأسرها، ونحميها من الانحراف والبدع والضلالات والشبهات وندافع عنها، ولا يقول أحدٌ: إن هذه وظيفة الحوزة العلمية ورجال الدين، فهذا تفكير غير صحيح، والفرصة متاحة للجميع أن يكونوا من هؤلاء المدافعين عن الدين ضمن الإطار الذي تضعه المرجعية الدينية الرشيدة العارفة بطبيعة الظروف.

والحديث النبوي الشريف يدعوكم جميعاً لكي تكونوا من حماة الدين وحملته بعد أن تهذّبوا أنفسكم وتتعلموا من العلوم والمعارف الدينية ما يؤهلكم لأداء هذا العمل المبارك، لأن الحديث لم يخصص هذه الوظيفة الشريفة –أي حمل الدين وحمايته- بشخص أو فئة أو شريحة معينة كالحوزة العلمية والمؤسسة الدينية، ولا بالرجال دون النساء، وإنما وصفت هؤلاء الذين يحملون الدين ويحمونه أنهم عدول موجودون في كل قرن، فابذلوا وسعكم لتكونوا منهم وتلتحقوا بالركب الذي قادته الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) على

ص: 212


1- لاحظ التعبير عن اشتراك أكثر الأمة بهضمها لأنهم بين من قام بالعدوان أو رضي به أو سكت عنه.
2- نهج البلاغة: خطبة 202.

نهج أبيها وزوجها أمير المؤمنين (صلوات الله عليهما وآلهما).والفرصة أوسع ما تكون هذا الزمان لسهولة الحصول على المعلومة وسهولة إيصالها إلى أي شخص أو جهة في أنحاء العالم نتيجة التطور الهائل في تقنيات الاتصال، كما أن الحجة اليوم أكبر على الجميع للقيام بمسؤولياتهم في إيقاظ الآخرين وتوعيتهم وإرشادهم وهدايتهم، حيث لا يقتصر المدعوون اليوم على غير المسلمين لهدايتهم إلى الإسلام، ولا على غير أتباع أهل البيت (علیهم السلام) من المسلمين لهدايتهم إلى ولاية أهل البيت والأخذ منهم، بل ابتلينا داخل إطار مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) بالبدع والضلالات والتجهيل والتخلف وتسطيح العقول، كما ابتلينا أيضاً بصناعة القيادات غير الصالحة وغير المؤهلة لهذه المواقع الشريفة وأصحاب الدعاوى الضالة الباطلة، واستخدم في الترويج لذلك المال والإعلام والمكر والأساليب الخادعة.

لقد وضع الأئمة المعصومون (علیهم السلام) معالم القيادة والمرجعية التي تتبعونها في أحاديث بعضها معروف لديكم، ومنها ما رواه الإمام الصادق (علیه السلام) عن جدّه أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (اعرفوا الله بالله، والرسول بالرسالة، وأولي الأمر بالأمر بالمعروف والعدل والإحسان)(1).

فتثبّتوا ممن ترجعون إليه أن يكون حاملاً للرسالة الإلهية مدافعاً عنها حامياً لها، وآمراً بالمعروف والعدل والإحسان صائناً لها من الانحراف والتأويل والبدع.

وفي الرواية عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن لكم

ص: 213


1- أصول الكافي، ج1، كتاب التوحيد، باب: أنه لا يعرف إلا به، ح1.

معالم فاتبعوها، ونهاية فانتهوا إليها)(1).وفقنا الله تعالى وإياكم لما يحب ويرضى.

ص: 214


1- بحار الأنوار: 2/ 99، ح52، عن المحاسن: 272.

خطاب المرحلة 370 :القرآن الكريم ومقامات السيّدة الزهراء وأهل البيت (علیهم السلام)

خطاب المرحلة 370 :القرآن الكريم ومقامات السيّدة الزهراء وأهل البيت (علیهم السلام)(1)

بمناسبة ميلاد السيّدة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) نحاول أن نتعرّف على بعض مقاماتها وملامح عظمتها من خلال استقراء الآيات الكريمة وبمعونة الأحاديث الشريفة وهي كثيرة نعجز عن استقصائها، ونفس أسمائها وألقابها كاشفة عن مقاماتها (الطاهرة، المعصومة، الراضية، المرضيّة، أمّ أبيها، سيّدة نساء العالمين، الكوثر، المحدَّثة، البتول) وغيرها.

لكنّنا نشير اليوم باختصار إلى مقاماتها (سلام الله عليها) الّتي نتعرّف عليها من خلال الاقتران والتلازم بين القرآن الكريم وأهل البيت (علیهم السلام) –وهي منهم-، هذا التلازم الّذي أفاده حديث الثقلين الذي أجمع الفريقان(2) على صحّته وصدوره عن النبي (صلی الله علیه و آله)، ففي مسند أحمد بن حنبل (5/ 181 ح21068) بسنده عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) (إنّي تارك فيكم خليفتين كتاب الله حبل مدود ما بين السماء والأرض- أو ما بين السماء إلى الأرض- وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض) ورووه عن جمع غفير من الصحابة.

ص: 215


1- كلمة سجّلها سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) لقناة النعيم الفضائية بمناسبة ذكرى ميلاد السيّدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) يوم 20/ج2/ 1434 الذي وافق 1/ 5/ 2013.
2- لمعرفة مصادره من كتب العامّة راجع (فضائل الخمسة من الصحاح الستّة: 2/ 52).

وقد بيّن النبي (صلی الله علیه و آله) بالقول وبالفعل المقصود من أهل البيت في مواطنٍ كثيرة وهُم علي وفاطمة والحسن والحسين (صلوات الله عليهم أجمعين)، ففي مستدرك الصحيحين روى بسنده عن أمّ سلمة أنّها قالت: في بيتي نزلت هذه الآية (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب/33) قالت: فأرسل رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى علي وفاطمة والحسن والحسين (علیه السلام) فقال: (اللهمّ هؤلاء أهل بيتي) قالت أمّ سلمة: يا رسول الله ما أنا من أهل البيت؟ قال: إنّك إلى خير. وهؤلاء أهل بيتي اللهمّ أهل بيتي أحق).(1)ولا حاجة بعد هذا للدخول في مناقشات لغوية في معنى أهل البيت ومن هو المشمول بها بعد أن حدّد النبي (صلی الله علیه و آله) بنفسه المراد بهذا العنوان.

فالسيّدة فاطمة الزهراء من أهل البيت (علیهم السلام) الذين هم –بموجب حديث الثقلين- صنو القرآن وعدل القرآن ولا يفترقان حتّى يردا الحوض يوم القيامة، ومن هذا الاقتران والملازمة نستنتج خصائص كثيرة ومقامات رفيعة لأهل البيت (علیهم السلام) وللصدّيقة الطاهرة (علیها السلام) ولأمير المؤمنين (علیه السلام) لتضاف إلى الأدّلة على إمامته وتقدّمه على الخلق أجمعين بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) منها:

1-مقام العصمة، لأنّ القرآن (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلّت/42) وكذلك السيدة الزهراء (علیها السلام) معصومة بغضّ النظر عن الأدلة الأخرى على عصمتها كآية التطهير وغيرها.

2-مقام العلم والإحاطة بكل شيء ممّا علمهم الله تبارك وتعالى فقد

ص: 216


1- راجع مصادر الحديث في المصدر السابق: 1/ 269.

وصف الله تعالى كتابه الكريم بقوله (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ) (النحل/89) وقال تعالى (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ) (الأنعام/38) فالسيدة الزهراء (علیها السلام) لها هذا المقام من العلم والإحاطة بمعرفة كلّ شيء وهو فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده، قال تعالى (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء) (البقرة/255).3-والقرآن له مقام الإمامة والقيادة والحجة ولزوم الطاعة على الخلق أجمعين (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) (الحشر/7) وقال تعالى (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم/3-4) وللقرآن مقام الإمامة، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (عليكم بالقرآن فاتخذوه إماماً وقائداً) فكذلك السيّدة الزهراء (علیها السلام) لها مقام الإمامة والقيادة ولزوم الطاعة على الخلق أجمعين، لذا روي عن الإمام العسكري قوله (نحن حجج الله على خلقه وجدّتنا فاطمة حجّة الله علينا).(1)

4-والقرآن هو الحق والحقّ معه (هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ) (الجاثية/29) (فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ) (الذاريات/23) وهكذا السيّدة الزهراء (علیها السلام) فإنّ الحقّ يدور معها حيث دارت.

5-وللقرآن القيمومة(2) العليا المطلقة على الخلق قال تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ

ص: 217


1- خطاب المرحلة: 7/ 52.
2- شرحنا معاني هذه الصفات للقرآن في فصل (القرآن يصف نفسه) في كتاب (شكوى القرآن).

الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا* قَيِّماً) (الكهف/1-2) كما أنّ القيّم على الأسرة أو المجتمع له الولاية عليهم يقودهم ويدلّهم على ما يصلحهم ويسعدهم، فكذلك الزهراء (علیها السلام) لها القيمومة على الناس ومنهجها هو المنهج القيّم والمستعلي على المناهج كلّها، وقد علّلت الآية علّة القيمومة بأنّ لا عِوَجَ له.6-والقرآن مبارك (وَهَ-ذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ) (الأنعام/92) (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ) (ص/29) فهو كثير البركة والخير والعطاء ومبارك في آثاره على النفس والمجتمع لأنّه مصدر الهداية والإرشاد والسعادة والحياة المطمئنة للبشرية ومصدر العلوم كلّها، وهكذا الزهراء (علیها السلام) كثيرة البركة وعطائها لا ينفد، حتّى أنّ الله تعالى سمّاها الكوثر الذي يعني الخير الكثير.

7-والقرآن عصمة للأمة من التفرّق والتشتّت والضياع (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً) (آل عمران/103) والقرآن وأهل البيت (علیهم السلام) هم الحبل الممدود الذي يعصم الأمّة، وفي هذا قالت السيّدة الزهراء (علیها السلام) (وجعل إمامتنا نظاماً للملّة وأماناً من الفرقة).

8-والقرآن عزيز يصعب مناله في كتابٍ مكنون لا يمسّه إلاّ المطهّرون، وعزيز لأنّه قاهرٌ غالب على من خاصمه، وهو عزيز يندر وجود مثله، وعزيز لأنّه يمتنع عن النيل بسوء، وعزيز لأنّه مطلوب وكلّ مفقودٍ مطلوب، وهكذا السيّدة الزهراء (علیها السلام) عزيزة بكل هذه المعاني.

9-والقرآن موعظة وشفاء وهدى ورحمة للعالمين كما وصف نفسه

ص: 218

وهكذا السيّدة الزهراء (علیها السلام).10-وللقرآن مقام الشفاعة كما وصفه النبي (صلی الله علیه و آله) (فعليكم بالقرآن فإنّه شافعٌ مشفّع).(1)

وللزهراء (علیها السلام) الشفاعة يوم القيامة حتّى ورد في الرواية أنها (علیها السلام) تلتقط مواليها ومحبّيها يوم المحشر كما يلتقط الطير الحبّ الجيّد من الحبّ الرديء.

11-والقرآن مخاصم لمن هجره وأعرض عنه ولم يعمل به وحجّته غالبة ومصدّقة من دون بيّنة أو دليل كما وصفه النبي (صلی الله علیه و آله) بأنّه (ما حل مصدّق) أي مخاصِم مصدّق فيما يقول وهكذا السيّدة الزهراء (علیها السلام) ستخاصم من ظلمها وأنكر حقّها وجحد ولايتها، وهي مصدّقة في دعواها.

12-والقرآن خالد محفوظ إلى يوم القيامة (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر/9) وهكذا الحجج من أهل البيت (علیهم السلام) باقون ببقاء القرآن وهذا دليل على وجود الإمام المنتظر (علیه السلام) وذكر فاطمة وأهل البيت (علیهم السلام) باقٍ إلى يوم القيامة ونورهم باقٍ مهما حاول الحاسدون والمنافقون والمبغضون إطفاءه والقضاء عليه وإزالته (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (الصف/8).

13-وفي التمسّك بالقرآن النجاة من الفتن، عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: (إنّها دار بلاء وابتلاء وانقطاع وفناء، فإذا التبست عليكم الأمور كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، من جعله أمامه قاده إلى الجنّة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار)، فالتمسك بهدى الزهراء (علیها السلام) ينجي من الفتن ويقود إلى الهداية.

ص: 219


1- ميزان الحكمة: 7/ 238 وكذا الأحاديث التالية في نفس المصدر.

14-والقرآن يصف نفسه (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ) (الطارق/13- 14) وهكذا كلمات فاطمة (علیها السلام) كلّها فاصلة ليس فيها هزل لا محصّل من ورائه أو هزيلة خالية من المعاني.

15-والقرآن أنيس، يقول الإمام زين العابدين (ع): (لو مات من بين المشرق والمغرب لما استوحشتُ بعد أن يكون القرآن معي) وهكذا ذكر السيّدة الزهراء وأهل البيت (علیهم السلام) فإنّه أنيس للمحبّين والموالين وبلسم لنفوسهم المتعبة).

16-والقرآن لا يبلى ولا يُملُّ بكثرة التكرار، قال امير المؤمنين (علیه السلام) لا تُخلقهُ كثرةُ الرّد وولوجُ السمع) وهكذا ذكر الزهراء (علیها السلام) كلما يتكرّر يزدادُ اقبالاً وبهجة حتى لو استمر طيلة أيام السنة وعلى مدى السنين.

17-ولمن حمل القرآن وتعلّمه وعلّمه أجر عظيم، روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله: (حملة القرآن هم المحفوفون برحمة الله، الملبوسون بنور الله عزّ وجل) فلمن أحيا ذكر الزهراء (ع) ونشر فضائلها ومناقبها ومظلوميتها مثل هذا الأجر العظيم.

18-وإنّ على حامل القرآن أن يتّصف بالخير، روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله (إنّ أحقّ الناس بالتخشّع في السرّ والعلانية لحامل القرآن، وإنّ أحقّ الناس في السر والعلانية بالصلاة والصوم لحامل القرآن) فعلى الموالين للسيّدة الزهراء (علیها السلام) ان يكونوا على مثل هذه الخصال الكريمة.

19-وللقرآن ارتباط وثيق بليلة القدر وكان نزوله فيها (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر/1) (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ) (الدخان/3) وللسيّدة الزهراء (علیها السلام) ارتباط وثيق بليلة القدر؛ ورد في الحديث عن الإمام

ص: 220

الصادق (علیه السلام) (فمن عرف فاطمة (علیها السلام) حقّ معرفتها فقد أدرك ليلة القدر)(1)، وقد شرحنا في بعض أحاديثنا وجوهاً لهذا الحديث.20-ومن آداب تلاوة القرآن أن يُقرأ بالحزن، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال (اقرأوا القرآن بالحزن فإنّه نزل بالحزن)، وعنه (صلی الله علیه و آله) (اقرأوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا)، ومن وصف أمير المؤمنين (علیه السلام) للمتّقين (أمّا الليل فصافون أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن يرتّلونها ترتيلا يحزّنون به أنفسهم ويستثيرون به دواء دائهم) فكذلك السيّدة الزهراء (علیها السلام) لا تُذكر إلاّ ويفيض القلب حزناً لذكراها، فضلاً عمّا لو ذُكرت مظلوميتها، روي أن رجلاً دخل على الإمام الصادق (علیه السلام) وقد وُلدت له بنت فقال (علیه السلام) (ما سمّيتها؟ قال: فاطمة فقال (علیه السلام) (آه آه آه ثم وضع يده على جبهته – إلى أن قال- أما إذا سمّيتها فاطمة –فلا تسبّها ولا تلعنها ولا تضربها).(2)

وهذه الخصائص التي ذكرناها للزهراء (علیها السلام) ثابتة للأئمة الأطهار (ع) لكونهم من أهل البيت (علیهم السلام) وإنّما خصصنا السيّدة الزهراء (علیها السلام) بالذكر لأنّها صاحبة المناسبة.

إن ما قمنا به من بيان هذه المقامات لأهل البيت (علیهم السلام) فيه دعوة لإتباع هؤلاء السادة الهداة تلبية لدعوة الإمام (علیه السلام) (قال الرضا ع : رحم الله عبدا أحيا أمرنا ، فقيل له : وكيف يُحيي أمركم ؟.. قال : يتعلّم علومنا ويعلّمها الناس ، فإنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا)(3)

ص: 221


1- راجع مصادره في الموسوعة الكبرى عن فاطمة الزهراء (علیها السلام): 18/ 438.
2- وسائل الشيعة كتاب النكاح، أبواب أحكام الأولاد، باب 87.
3- جواهر البحار، الجزء الثاني، كتاب العلم، عن كتاب: معاني الأخبار.

خطاب المرحلة 371 :المشاريع الشيطانية التي أعدّت للمنطقة الإسلامية والعربية

خطاب المرحلة 371 :المشاريع الشيطانية التي أعدّت للمنطقة الإسلامية والعربية(1)

يوماً بعد يوم تنكشف وتتّضح الخطة الشيطانية التي أُعدّت للمنطقة الإسلامية والعربية ضمن مشروع شرق الأوسط الكبير، والّتي تستهدف تمزيق وحدتها ونسيجها الاجتماعي وتفتيت دولها إلى دويلات وأقاليم ضعيفة ويبقى فقط الكيان الصهيوني(2) القوّة المهيمنة في المنطقة لاستمرار السيطرة عليها بعد ان احترقت ورقة تركيع الشعوب والتحكم بثوراتها من خلال أنظمة ديكتاتورية تعتمد سياسة البطش والقسوة والتسلّط بالحديد والنار.

وقد استخدموا لتنفيذ هذه الخطّة وسائل عديدة على رأسها القوة العسكرية وأموال دول البترودولار والالتفاف على حركة الشعوب ومصادرة ثوراته التي سُمّيت بالربيع العربي حتّى أخضعوها لإرادتهم وبدأوا يتحكّمون بها من خلال الأنظمة العميلة في المنطقة.

ومن أقذر الوسائل وأخبثها وأخطرها إشعال الحرب الطائفية وإثارة الفتن

ص: 222


1- البيان الذي وجّهه سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) يوم 23/ج2/ 1434 الموافق 4/ 5/ 2013 من خلال عدد كبير من الفضائيات إلى شعوب المنطقة بعد لقائه بعدد من القيادات الدينية والسياسية في عدّة دول.
2- قامت طائرات الكيان الصهيوني مساء نفس اليوم الذي أُعدّ فيه البيان بغارة جويّة على معسكرات ومخازن سلاح قرب دمشق بقنابل فراغية أحدثت زلزالاً في العاصمة.

بين المسلمين وتغذية التعصّب واستفزاز المشاعر والعواطف الدينية بالأفعال الدنيئة التي لا يقوم بها حتى أشد الوحوش ضراوة وبطشاً، وكان آخرها نبش قبر الصحابي الجليل الشهيد حُجر بن عدي الكندي في ريف دمشق يوم الخميس (2/ 5/ 2013) ومحاولة نقل رفاته إلى جهة مجهولة، لكنهم لم يفلحوا حتى أدركهم الموالون.إنّ المواقف الضعيفة المنهزمة التي تتّخذها القيادات الدينية والسياسية لا قيمة لها وهي لوحدها لا تقيم حقاً ولا تزهق باطلاً، بل لابد من تحرّك المراجع الدينية والسياسية العليا للتأثير على منظمة المؤتمر الإسلامي والأمم المتّحدة والاتحاد الأوروبي حتى تضغط على الدول الراعية والساندة لتلك الجماعات الضالة المفسدة والتي تتحكم في حركتها حتّى تلزمها بمعايير النبل والقيم الإنسانية، وإذا أرادت القتال فلتقاتل بشرف وشهامة.

ولابد من فضح هذه الجرائم وتعريف الدول الغربية التي تدعمهم إعلامياً وسياسياً ومالياً وتنوي تسليحهم بأنّهم يتعاملون مع من لا يعرف للموتى حرمة ونبش القبور فكيف يحفظ حقوق الأحياء ويحترم تنوّعهم، كيف يطمئنون إلى مستقبل العلاقة مع مثل هذه العصابات؟، ومن الذي يضبط حركة هذه القنابل الموقوتة التي ليس لها كابح ولا ناظم ولا بوصلة أمينة، وإذا اعتقدت تلك الدول الغربية إنّ دعم هؤلاء يصبّ في مصالحها، فإنّ ذلك وهم وعمره قصير حتّى ينقلب السحر على الساحر، ولا يعرفون حينئذٍ كيف الخلاص، فلتراجع هذه الدول سياستها الداعمة لهؤلاء قبل أن تتورّط في المزيد.

إنّ هذه الأحداث المؤلمة والمقلقة لا يصح أن نتعامل معها كمفردات

ص: 223

جزئية غير مترابطة، بل علينا أن نضع كلاً منها في مكانها من منظومة المشاريع الإستراتيجية والخطط التكتيكية، وهذا ما يجب أن تنتبه إليه شعوب المنطقة وخصوصاً الشعب العراقي الممتحن الصابر الذي يراد له أن يكون وقود هذه الخطة الشيطانية، منذ حلّ الاحتلال الغاشم أرضه عام 2003 مروراً بتفجير الروضة العسكرية عام 2006 والحرب الطائفية الشرسة الّتي تلته، والصراعات السياسية على السلطة والمغانم التي تلبس ثوب الطائفتَين زوراً وبهتاناً حتّى الأحداث التي شهدتها محافظاتنا الحبيبة خلال الأشهر الماضية.على شعوبنا:

1- أن تكون واعية وتتحلّى بالصبر وضبط النفس وأن تبتعد عن الانفعالات والاستفزازات وردود الفعل العاطفية. 2- وأن تراجع في كل أفعالها إلى القيادات الحكيمة الرشيدة العارفة بملابسات الزمان والمكان.3- وعليها أيضاً أن تتمسّك بالروح الوطنية التي تؤلّف بين أبناء الوطن الواحد وتتجنّب التعصّب بكل اتجاهاته، وترفض مشاريع التقسيم والتجزئة والدويلات الضعيفة المتناحرة.

4- وأن تعتمد الحوار لتحصيل حقوقها، وعلى الحكومات أن تحترم شعوبها وتعمل بصدق وإخلاص لإسعاد شعوبها وتعاملهم جميعاً على أساسٍ واحد وهي المواطنة وأن تصغي بصدق وشفافية للمطالب المشروعة لشعوبها.

5- وبنفس الوقت عليها أن تكون مستعدّة لكل الاحتمالات، لأنّ أغلب اللاعبين على الساحة ليسوا من العقلاء فيحتمل منهم كلّ سيء.

ص: 224

أجارنا الله تعالى وإيّاكم من مظلات الفتن ومن شرّ شياطين الجنّ والإنس وأعاد كيدهم إلى نحورهم.23/ ج2/ 1434

4 / 5 / 2013

ص: 225

خطاب المرحلة 372 :درس من حياة الإمام الباقر (علیه السلام) في ترتيب وضع الشيعة

خطاب المرحلة 372 :درس من حياة الإمام الباقر (علیه السلام) في ترتيب وضع الشيعة(1)

الإمام الباقر (علیه السلام) قلّما تُخصّص له المجالس والمحافل، وبمناسبة ذكرى ميلاده الميمون نستعرض صفحة من سفر حياته المباركة لنستفيد منها في حياتنا وواقعنا اليوم وهي رعايته لشيعته وترتيب أوضاعهم حينما سُلّطت الأضواء عليهم.

اشتد البلاء على الشيعة بعد استشهاد الإمام الحسن (علیه السلام) وأمعن معاوية في قتلهم وسجنهم ومصادرة أموالهم وتهديم دورهم وصارت قوافل الشهداء تساق إلى ساحات الإعدامات أفواجاً أفواجاً، وقبل ذلك كان الإمام الحسن (علیه السلام) يوفّر غطاءاً قوياً لحمايتهم بهيبته وشروطه التي أملاها على معاوية وعدم سكوته على انتهاكاته.

يصف الإمام الباقر (علیه السلام) ما مرّت به الشيعة في تلك الفترة بقوله (وقتلت شيعتنا بكل بلدة وقطّعت الأيدي والأرجل على الظِنّة، وكان من يُذكّر بحبّنا والانقطاع إلينا سُجِن أو نهب ماله، أو هدمت داره).(2)

وسُئل (ع) كيف أصبحت؟ قال (علیه السلام) (أصبحتُ برسول الله (صلی الله علیه و آله) خائفاً،

ص: 226


1- من حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) في الأول من رجب/ 1434 الموافق 12/ 5/ 2013 بمناسبة ذكرى ميلاد الإمام الباقر (علیه السلام).
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 11/ 43.

وأصبح الناس كلّهم برسول الله (صلی الله علیه و آله) آمنين).(1)وكان الشيعة يشكون إلى الأئمة ما يحلُّ بهم، وروى أبو بصير قال (قلت لأبي جعفر (علیه السلام) جُعلتُ فداك اسم سُمّينا به استحلّت به الولاة دماءنا وأموالنا وعذابنا قال: ما هو؟ قال الرافضة) فأجابه الإمام (علیه السلام) بما يطيّب خاطره ويخفّف عنهم آلامهم وقال (علیه السلام) (ذلك اسم قد نحلكموه الله) وشرح له منشأ التسمية فقال (علیه السلام) (إن سبعين رجلاً من عسكر فرعون رفضوا فرعون فأتوا موسى (علیه السلام) فلم يكن في قوم موسى (علیه السلام) أحد أشدّ اجتهاداً ولا أشدّ حباً لهارون منهم فسماهم قوم موسى الرافضة، فأوحى الله إلى موسى أن ثبت لهم هذا الاسم في التوراة فإني قد نحلتهم).(2)

ولكن بلطف الله تعالى وبفضل السياسة الحكيمة للإمام السجاد (علیه السلام) وامتداد إمامته الشريفة (34) عاماً تحوّل وضع الشيعة من قلة مستضعفين يتخطّفهم الأعداء إلى رقم صعب على الساحة، وواقع ممتد على طول البلاد الإسلامية وفيهم الفقهاء والعلماء وذوو النفوذ ممن رباهم الإمام السجاد (علیه السلام) ونشرهم في البلدان، وكان وجودهم يستمد القوة والمنعة من هيبة الإمام السجاد وامتلاكه قلوب جميع طوائف المسلمين، كما تشهد به واقعة انفراج المسلمين عند تقدمه لاستلام الحجر الأسود بينما عجز الخليفة الأموي بجيشه وبطشه عن تحقيق ذلك.

ص: 227


1- ميزان الاعتدال: 4/ 160 بواسطة موسوعة سيرة أهل البيت (علیهم السلام) للمرحوم الشيخ القرشي: 18/ 132 وكذا بعض المصادر الآتية.
2- المحاسن للبرقي 119 كتاب الصفوة والنور- باب24: الرافضة، ح92.

هذا الواقع الجديد الذي تسلّمه الإمام الباقر (علیه السلام) للشيعة وهي الجماعة المؤمنة بإمامته وقيادته والمطيعة لأوامره وتسليط الأضواء عليهم ووضعهم تحت الدراسة والنظر من جميع المراقبين للتعرف على هذه الجماعة الرصينة التي تجاوزت كل الكوارث وحافظت على وجودها ونمت وازدهرت أوجد مسؤوليات جديدة، منها:1-حفظ وحدة الجماعة وتماسكها ومنع حالات التشرذم والانقسام وهو ما نجح به الإمام الباقر (علیه السلام) تماماً حيث لم تنشق أي فرقة كما حصل بعده في الزيدية والإسماعيلية والواقفة والفطحية ونحوهم.

2-التعريف بهوية الجماعة وخصائص من ينتمي إليها لكي يعمل بها الأتباع ويُميّز بها المندسّون والمنتحلون ولإقامة الحجة على من عاداهم وفارقهم لأنه سيبتعد عن هذا المنهج الرصين.

ومن كلماته (ع) في ذلك (ما شيعتنا ألا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يُعرفون إلا بالتواضع والتخشّع وأداء الأمانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة، والبر بالوالدين وتعهّد الجيران من الفقراء، وذوي المسكنة، والغارمين، والأيتام وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكفِّ الألسن عن الناس ألا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم والأشياء).(1)

وقال (علیه السلام) (إنما شيعة علي (علیه السلام) المتباذلون في ولايتنا، المتحابّون في مودّتنا، والمتزاورون لإحياء أمرنا، الذين إذا غضبوا لم يظلموا، وإذا رضوا لم يُسرفوا، بركةٌ على من جاورهم، وسلم لمن خالطوا).

ص: 228


1- تحف العقول: 295.

وقال (علیه السلام) (ليُعِن قويّكم ضعيفكم، وليعطف غنيّكم على فقيركم، ولينصح الرجل أخاه كنصيحته لنفسه)(1) وقال (علیه السلام) (بلّغ شيعتنا السلام وأوصهم بتقوى الله العظيم وبأن يعود غنيّهم على فقيرهم، ويعود صحيحهم عليلهم، ويحضر حيّهم جنازة ميتهم، ويتلاقوا في بيوتهم، فإن لقاء بعضهم بعضاً حياةُ لأمرنا، رحم الله امرءا أحيا أمرنا وعمل بأحسنه، وقل لهم: إنّا لن نغني عنهم من الله شيئاً إلا بعمل صالح، ولن ينالوا ولايتنا إلا بالورع والاجتهاد، وإن أشدّ الناس حسرة يوم القيامة لمن وصف عملاً ثم خالفه إلى غيره).(2)3-تحذيرهم من مخالفة توجيهات الإمام وتأويل كلامه بما يناسب أهوائهم ومصالحهم فيشوهون صورة الإمام وينفرون الناس من منهجه الشريف من أجل دنيا تافهة لأنّ الناس تنسب أفعال المنتمين لجماعة إلى رئيس تلك الجماعة حسنة كانت أو سيئة، وفي ذلك يقول (ع) (رحم الله عبداً حبّبنا إلى الناس، ولم يبغّضنا إليهم، أما والله لو يروون عنا ما نقول ولا يحرّفونه، ولا يبدّلونه علينا برأيهم ما استطاع أحدٌ أن يتعلق عليهم بشيء، ولكن أحدهم يسمع الكلمة فينيط إليها عشراً، ويتأولها على ما يراه).(3)

4-تعليمهم التقية والتصرف بحكمة مع الآخرين وأن يبتعدوا عن المواقف العاطفية والعصبية والانفعالية ليحموا أنفسهم من الأعداء ويحافظوا على وجودهم واتساع أمرهم، قال (علیه السلام) (التقية ديني ودين آبائي ولا إيمان لمن لا

ص: 229


1- أمالي الطوسي: 232.
2- عيون الأخبار وفنون الآثار: 223.
3- عيون الأخبار وفنون الآثار 223.

تقية له).(1)وقال (علیه السلام) (اكتموا أسرارنا، ولا تحملوا الناس على أعناقنا، وانظروا أمرنا وما جاءكم عنّا، فإن وجدتموه للقرآن موافقاً فخذوا به، وإن لم تجدوه موافقاً فردّوه، وإن اشتبه عليكم الأمر فقفوا عنده، وردّوه إلينا حتى نشرح لكم من ذلك ما شُرح لنا).(2)

وكان (ع) يتفقد الشيعة ويسأل عنهم ويحنو ويشفق عليهم ويقضي حوائجهم ويطيّب خواطرهم ويخفف آلامهم ويزرع الأمل في قلوبهم، وفد عليه جماعة من شيعته من خراسان وفيهم رجل اسمه زياد الأسود وقد تشققت رجلاه من المشي، فقال (علیه السلام) له: (ما هذا يا زياد؟) فذكر له زياد انه مشى على قدميه عامة الطريق لأن بعيره لا يقوى على حمله، فرقّ الإمام (علیه السلام) لحاله وبكى وقال له: أبشر فأنت والله معنا تحشر) فقال زياد: معكم يابن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، قال (علیه السلام) (نعم، ما أحبّنا عبدٌ إلا حشره الله معنا، وهل الدين إلا الحب، إن الله تبارك وتعالى يقول في كتاب (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) (آل عمران/31).(3)

وقال (علیه السلام) لجماعة من شيعته (إنما يغتبط أحدكم إذا بلغت نفسه هاهنا –وأومأ بيده إلى حلقه- ينزل عليه ملك الموت فيقول له: أما ما كنت ترجوه فقد أعطيته، وأما ما كنت تخافه فقد أمنت منه، ويُفتّح له بابٌ إلى منزله من الجنة فيقول له: انظر إلى مسكنك من الجنة فهذا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعلي والحسن

ص: 230


1- الكافي للكليني (329 ه-) الجزء2 صفحة219 باب التقية.
2- أمالي الطوسي: 232.
3- عيون الأخبار وفنون الآثار: 226.

والحسين (علیه السلام) هم رفقاؤك، وهو قول الله عز وجل (الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) (يونس/63-64)(1)، فهذه البشرى يتلقّاها في الحياة الدنيا قبل البشرى بنعيم الآخرة.ومن حبّه (ع) لشيعته خصوصاً العلماء وحملة الحديث والرواية فقد أوصى ولده الإمام جعفر الصادق بهذه الرعاية الشاملة لكل شؤونهم وأن يغدق عليهم، فقال له (يا جعفر أوصيك بأصحابي خيراً) فقال له الإمام الصادق (علیه السلام) (جُعلت فداك، والله لأدعنهم والرجل منهم يكون في المصر فلا يسأل أحداً).(2)

أيّها الأحبّة:

علينا اليوم أن نستفيد من هذه الصفحة المباركة من حياة الإمام الباقر (علیه السلام) لأن الشيعة اليوم تحت الأضواء بعد أن انطلقوا من القمقم الذي حبسه فيه أعداؤهم طيلة أربعة عشر قرناً وبهروا العالم بعدة أمور كشعائرهم المليونية وتاريخهم المشرق وهيكلية تنظيمهم الرصينة وسعة انتشارهم وطاعتهم لقيادتهم وتمسكهم بدينهم، وحركتهم الدؤوبة في توسيع مدرستهم وإقناع العالم بها وعمق جذورهم الفكرية وقدرتها على حل كل المشاكل التي تواجه البشرية وغيرها.

وهذا الوضع يلزمنا بمسؤوليات إضافية تجاه أنفسنا ومذهبنا وأئمتنا سلام الله عليهم، كتلك التي قام بها الإمام الباقر (علیه السلام) ، وهي بنفس الوقت فرصة عظيمة لنا أن تشملنا الألطاف الإلهية فنكون ممن اختارهم الله تعالى لتحمّل هذه المسؤولية المباركة.

ص: 231


1- عيون الأخبار وفنون الآثار: 227.
2- الإرشاد: 2/ 174.

خطاب المرحلة 373 :الإمام الهادي (علیه السلام) يواجه أصحاب الدعاوى الباطلة

خطاب المرحلة 373 :الإمام الهادي (علیه السلام) يواجه أصحاب الدعاوى الباطلة(1)

تعوّدنا في ذكريات الأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) أن نستطلع صفحة من سفر حياتهم الكريمة الغنيّة لنأخذ منها الدروس والعبر بما يرتبط بواقعنا المعاصر، وفي ذكرى استشهاد الإمام علي الهادي (علیه السلام) عاشر الأئمة الأطهار (ع) نأخذ منه درساً في مواجهة أهل البدع والضلالات وأدعياء العناوين الدينية الزائفة.

ففي عدّة مصادر بسندهم عن أبي هاشم الجعفري –من ذرية جعفر بن أبي طالب- قال: ((ظهرت في أيّام المتوكّل امرأة تدّعي أنّها زينب بنت فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال المتوكّل: أنت امرأة شابّة وقد مضى من وقت وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما مضى من السنّين، فقالت: إنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) مسح على رأسي وسأل الله أن يردّ عليّ شبابي في كلّ أربعين سنة، ولم أظهر للنّاس إلى هذه الغاية فلحقتني الحاجة فصرت إليهم.

فدعا المتوكّل مشايخ آل أبي طالب وولد العباس وقريش وعرّفهم حالها، فروى جماعة وفاة زينب بنت فاطمة (ع) في سنة كذا. فقال لها: ما تقولين في هذه الرّواية.

ص: 232


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع حضّار مجلسه العام يوم الثلاثاء 3رجب1434 المصادف 14/ 5/ 2013.

فقالت: كذب وزور، فإن أمري كان مستوراً عن الناس، فلم يعرف لي حياة ولا موت فقال لهم المتوكّل: هل عندكم حجّة على هذه المرأة غير هذه الرواية؟ فقالوا: ﻻ. فقال أنا بريء من العبّاس أن ﻻ أنزلها عمّا ادّعت إلاّ بحجّة.قالوا: فأحضر ابن الرضا (علیه السلام) فلعلّ عنده شيئاً من الحجّة غير ما عندنا فبعث إليه فحضر فأخبره بخبر المرأة فقال: كذبت فإنّ زينب توفّيت في سنة كذا في شهر كذا في يوم كذا، قال: فإنّ هؤلاء قد رووا مثل هذه وقد حلفت أن ﻻ أنزلها إلاّ بحجّة تلزمها.

قال: ولا عليك فها هنا حجّة تلزمها وتلزم غيرها، قال: وما هي؟ قال: لحوم ولد فاطمة محرمة على السباع فأنزلها إلى السباع فإن كانت من ولد فاطمة فلا تضرّها السباع، فقال لها: ما تقولين؟، قالت: إنّه يريد قتلي، قال: فها هنا جماعة من ولد الحسن والحسين (علیه السلام) فأنزل من شئت منهم، قال: فوالله لقد تغيّرت وجوه الجميع فقال بعض المبغضين: هو يحيل على غيره لم ﻻ يكون هو؟

فمال المتوكّل إلى ذلك رجاء أن يذهب من غير أن يكون له في أمره صنع، فقال: يا أبا الحسن لم ﻻ يكون أنت ذلك؟ قال: ذاك إليك، قال: فافعل! قال: أفعل فأتى بسلّم وفتح عن السباع وكانت ستة من الأسود فنزل أبو الحسن (علیه السلام) إليها فلمّا دخل وجلس صارت الأسود إليه فرمت بأنفسها بين يديه، ومدّت بأيديها، ووضعت رؤوسها بين يديه فجعل يمسح على رأس كلّ واحد منها ثمّ يشير إليه بيده إلى الاعتزال فتعتزل ناحية حتّى اعتزلت كلّها وأقامت بإزائه.

فقال له الوزير: ما هذا صواباً فبادر بإخراجه من هناك، قبل أن ينتشر خبره،

ص: 233

فقال له: يا أبا الحسن ما أردنا بك سوءاً وإنّما أردنا أن نكون على يقين ممّا قلت فأحب أن تصعد، فقام وصار إلى السلّم وهي حوله تتمسّح بثيابه.فلمّا وضع رجله على أوّل درجه التفت إليها وأشار بيده أن ترجع فرجعت وصعد، فقال: كلّ من زعم أنّه من ولد فاطمة فليجلس في ذلك المجلس، فقال: لها المتوكّل: انزلي.

قالت: الله الله ادّعيت الباطل، وأنا بنت فلان حملني الضرّ على ما قلت، فقال المتوكّل: القوها إلى السبّاع فاستوهبتها والدته)).(1)

أقول نستخلص من هذه الرواية عدّة دروس:

1-تفاعل الإمام (علیه السلام) الايجابي مع قضايا الأمة ومشاكلها وتحدّياتها وحضوره الميداني في وسط الأمة، لا كما نشهده من السلبية والانكماش والانعزال الذي رسّخته المرجعية والحوزة التقليدية فهذا منهج مبتدع وبعيد عمّا سار عليه الأئمة الأطهار.

إن الأئمة ونوّابهم بالحق هم سفن النجاة ومصابيح الهدى فإذا لم يكونوا حاضرين في الميدان مع الأمة فإلى من تلتجئ؟ وممن تأخذ الحل؟ ومن المسؤول عن ضلالها وتشوشها وانتشار الفساد والانحراف فيها؟.

2-تفرّد أهل البيت (علیهم السلام) بالمناقب والفضائل التي حباهم الله تعالى بها، بحيث لا يضاهيهم أحد مما يؤكد استحقاقهم للإمام والخلافة بما فضّلوا به على الخلق أجمعين رغم أنوف الشانئين والحاسدين ، لذلك تجد الأمة تفزع إليهم في كل معضل ومشكل (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن) وكما قال

ص: 234


1- الخرائج والجرائح: 1/ 404 باب معجزات الإمام الهادي (علیه السلام)، ح11 ومصادر أخرى.

الفراهيدي في جوابه على من سأله عن استحقاق أمير المؤمنين (علیه السلام) للإمامة والخلافة قال (لحاجة كلّ الخلق إليه واستغنائه عنهم جميعاً).3-فشل المتقمصين للخلافة وعجزهم وافتضاح أمرهم في كلّ مشكلة تواجههم والشواهد على ذلك كثيرة، وفي ذلك حجّة على من يتّبعهم ويواليهم ويعطيهم المشروعية، وبدلاً من معالجتهم لهذه المشاكل والصعوبات التي يعاني منها الناس تجدهم يرسّخونها وينشرونها لكي يشوّشوا فكر المجتمع ويشغلوه بهذه الفتن ولا يلتفت إلى مظالم الحكّام واستبدادهم واستئثارهم بمقدرات الأمة فبالرغم من أن المتوكّل يقطع بأنّ هذه المرأة ليست بنت علي وفاطمة ويمكنه كرئيس دولة قوية ومتنفّذة أن يتحرى عن أصل هذه المرأة وأبويها ومن أيّ مدينة إلاّ أنّه تمادى في نشر هذه الفتنة ويقسم على (أن لا أنزلها عمّا ادعت إلا بحجة) وهو يتمكّن من دحض قولها بالتعرّف على هويتها.

4-معرفة المدّعين لهذه العناوين الدينية بأنّهم كاذبون ومفترون وإنّ ما يقولونه زور وبهتان كهذه المرأة التي ادّعت أنّها بنت علي وفاطمة (ع) وهكذا كلّ المدعين لذلك تجدهم يعترفون عندما تضغطهم الحجّة والدليل، ويتعرّضون للعقوبة لكنّهم يراهنون على جهل الناس وسذاجتهم وتسطيح عقولهم وخداعهم بأمور تشتبه عليهم فتتبعهم الناس من دون تعقّل ورويّة ودقّة نظر فيكونون من الأخسرين أعمالاً الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنّهم يُحسنون صنعاً.

5-وممّا يحتاج إلى الدراسة والتأمّل أسباب نزوع هؤلاء إلى هذه الإدّعاءات مع معرفة كذبهم في قرارة أنفسهم وعظيم جنايتهم إذ يضل خلق

ص: 235

كثير بسببهم، وقد عبّرت هذه المرأة بدقّة عن السبب وهو قولها ((حملني الضرّ على ما قلت)) فإنّها في فاقة وحاجة ولم تجد سبيلاً لسدِّها فالتجأت إلى الخداع بهذه الفريّة لتستهوي قلوب بعض العامّة ويغدقون عليها بالأموال، وقد يكون السبب عند غيرها حبّ الجاه والنفوذ والتسلّط على رقاب الناس وغيرها.6-اعتماد لغة الحوار والدليل والإقناع للرد على المعاندين والمدّعين وأصحاب الشبهات والضلالات ومقارعة الحجة بالحجة، ما لم ينتقل الطرف الآخر إلى العمل المسلّح الذي يفسد في الأرض، أو يكون خطره عظيماً بأن ينسب الفتن والبدع التي يفتريها من عنده إلى نفس الإمام المعصوم وإلى مدرستهم الشريفة.

فقد أمر الإمام الهادي (علیه السلام) بقتل عدد من أمثال هؤلاء كقوله (علیه السلام) في ابن بابا القمي (يزعم ابن بابا أني بعثته نبياً، وأنّه بابٌ عليه لعنة الله، سخر منه الشيطان فأغواه فلعن الله من قبل منه ذلك، يا محمد: إن قدرت أن تشدخ رأسه بالحجر فافعل، فإنّه قد آذاني، آذاه الله في الدنيا والآخرة).(1)

ومنهم فارس بن حاتم، يروي محمد بن عيسى بن عبيد: ان أبا الحسن العسكري (علیه السلام) أمر بقتل فارس بن حاتم وضمن لمن قتله الجنة، فقتله جُنيد، وكان فارس فتّاناً يفتن الناس ويدعوهم إلى البدعة، فخرج من أبي الحسن (علیه السلام): (هذا فارس لعنه الله يعمل من قبلي فتاناً داعياً إلى البدعة، ودمه هدرٌ لكل من قتله، فمن هذا يريحني منه ويقتله، وأنا ضامن له على الله الجنّة).(2)

ص: 236


1- رجال الكشي: 520/ 999.
2- رجال الكشّي: 524/ 1006.

ويروي جنيد أن الإمام الهادي (علیه السلام) بعث إليّ فدعاني فصرت إليه، فقال (آمرك بقتل فارس بن حاتم) فناولني دراهم من عنده وقال اشترِ بهذه سلاحاً فاعرضه عليّ) إلى آخر الرواية.(1)أيّها الأخوة:

هذا درس من حياة الإمام الهادي (علیه السلام) نستلهمه ونهتدي به في هذا الزمن الذي كثرت فيه الدعاوى وكثر المدّعون كالدعوات المرتبطة بالإمام المهدي (علیه السلام) أو دعوات الانتساب إلى ذرية الرسول (صلی الله علیه و آله) بدون بيّنة سوى ظنون لا تغني عن الحقّ شيئاً، ودعاوى أصحاب النور والأعمال الروحانية وأصحاب الكرامات، مضافاً إلى هذه القبور الوهمية التي تظهر بعدد هائل بعنوان أنّها لأولاد وبنات المعصومين (علیهم السلام).

والهدف من كل هذه الدعوات التي يعرف أصحابها قبل غيرهم كذبها هو الضحك على عقول الناس لخلق نفوذ وجاه وأتباع واستدرار الأموال طمعاً في هذه الدنيا الدنيّة.

وفي ذلك تشويش لعقائد الناس وتشويه لمدرسة أهل البيت (علیهم السلام) وتجهيل للناس واستخفاف بهم ممّا يخدم مشاريع أعداء الإسلام ويفتح الطريق لهم بيسر ليستعبدوا المجتمعات الإسلامية فعلينا جميعاً أن نتأسّى بالإمام الهادي (علیه السلام) وكلّ الأئمة الأطهار (ع) ونقف بحزم وشجاعة وحكمة أمام هؤلاء المدّعين ونفضحهم ونكشف زيف دعاواهم.

ص: 237


1- رجال الكشّي: 524/ 1006.

خطاب المرحلة 374 :مناقب أمير المؤمنين (علیه السلام) لا تتناهى كأعدائه

خطاب المرحلة 374 :مناقب أمير المؤمنين (علیه السلام) لا تتناهى كأعدائه(1)

مما جاء في القصيدة الأزرية(2) المشهورة:-

ص: 238


1- محاضرة ألقيت بمناسبة ذكرى ميلاد أمير المؤمنين (علیه السلام) في 13/ رجب/ 1434 المصادف 24/ 5/ 2013.
2- القصيدة الأزرية تناهز الألف بيتاً من الشعر ضاع منها حوالي نصفها، وهي ملحمة رائعة يندر وجود مثلها سُميت بقرآن الشعر أودع ناظمها المرحوم الشيخ كاظم الأزري فيها سيرة أهل البيت (صلوات الله عليهم) ومناقبهم وفضائلهم وفيها تاريخ حياة أمير المؤمنين (علیه السلام) ومناقبه وفضائله بالتفصيل، ويحكى عن صاحب الجواهر (قده) انه كان يتمنى لو وضعت القصيدة الأزرية في ميزان أعماله ليلقى الله تعالى بها، ويضع كتابه الموسوعي العظيم (جواهر الكلام) في ميزان الأزري الذي توفي عام 1211 هجرية وقيل 1201. وقد خمّسها الشيخ جابر الكاظمي المتوفى سنة 1313ه- نذكر بعضا منها لينتشي متذوقو الأدب: إن رباً أولاه أعظم مَنٍّ *** وحباه بكل حسنى وحُسنٍ هو مذ شاء خلق إنس وجنٍّ *** قلبَ الخافقين ظهراً لبطنٍ فرأى ذات أحمد فاجتباها ضمنت منه طيبة خير رمسٍ *** مستجاراً أمسى إلى كل نفسٍ إن يبدَّد به سما كل شمسٍ *** لستُ أنسى له منازل قدسٍ قد بناها التقى فأعلى بناها بهم المعجزات زادت بروزاً *** بعدما كان كنزها مكنوزا فئة للغيوب حلّت رموزاً *** لم يكونوا للعرش إلاّ كنوزا خافيات سبحان من أبداها

يا ابن عم النبي أنت يد الله *** التي عمَّ كل شيء نداها

خصّك الله في مآثر شتى *** هي مثل الأعداء لا تتناهى

حقاً أن فضائل أمير المؤمنين (علیه السلام) ومناقبه فاقت الحصر هذا مع جهلنا وقصورنا، وبمقدار ما وصل إلينا، قال بعضهم ((إن أولياء علي (علیه السلام) أخفوا مناقبه خوفاً وأخفاها أعداؤه حسداً وظهر بين هذا وذاك ما ملأ الخافقين))، يكفي أن نلتفت إلى واحدة من مناقبه (علیه السلام) وهو قول النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) يوم الخندق (ضربة علي لعمرو يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين الجن والإنس) وهي مطلقة لكل الجن والإنس إلى يوم القيامة، فهذا الحديث وحده يجعل ميزان أمير المؤمنين (علیه السلام) مفتوحاً للمزيد من الشرف والرفعة إلى يوم القيامة.

والمفروض أن إنساناً كاملاً له كل هذه الفضائل والخصال الكريمة أن يعشقه الناس ويذوبوا في حبّه، وقد عشق علياً فعلاً كثيرون ممن عرفوا شيئاً من فضله وسمّو ذاته واخلاقه، وذابوا في حبِّه حتى من غير المسلمين كما هو معروف، لكن الغريب أن يكثر أعداء علي (علیه السلام) بشكل عجيب حيث أبدع الأزري في تسجيل هذه المفارقة من خلال التشبيه بين فضائل علي (علیه السلام) وأعدائه في الكثرة، بحيث ورد في بعض كلماته (ع) قوله (فنظرتُ فإذا ليس لي معين إلا أهل بيتي فضَنِنتُ بهم عن الموت، وأغضيتُ على القذى وشربت على الشجن وصبرتُ على أخذ الكظم وعلى أمرَّ من طعم العلقم)(1)، حتى سُبَّ على المنابر سبعين عاماً، وتتبّعوا أولاده وشيعته قتلاً وتعذيباً وتشريداً، ولم تسلم

ص: 239


1- نهج البلاغة، خطبة 26.

من حقدهم حتى مراقدهم الشريفة، يقول الشاعر في هدم المتوكل العباسي لقبر الحسين (علیه السلام) ومحو آثاره:

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا *** في قتله فتتبّعوه رميماً

وجرائمهم المعاصرة في تفجير الروضة العسكرية المطهّرة ونبش قبر الصحابي الشهيد حجر بن عدي، ويتباهون بتلك الجرائم حيث يظهر أحدهم في الصور وهو يلوك قلب(1) أحد الجنود ليؤكّد انتماءه إلى تلك الفئة الباغية الضالة.

هذه الظاهرة الغريبة الموغلة في الانحطاط البعيدة عن منطق العقل والحكمة تستحق الدراسة لمعرفة الأسباب.

ويمكن أن نسجّل هنا عدة أسباب أدّت إلى كثرة أعداء أمير المؤمنين(ع):

1-ان علياً (ع) يمثل الحق، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) (علي مع الحق والحق مع علي)(2) والناس تكره الحق قال تعالى (بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) (المؤمنون/70) (الزخرف/78)، وتروى عنه كلمته (علیهم السلام) (ما أبقى لي

ص: 240


1- صُدم العالم بظهور صور فيديوية لأحد قادة المعارضة البارزين في سوريا وهو قائد كتيبة عمر الفاروق المستقلة في مدينة حمص غرب سوريا المدعو أبو صقار وهي من أبرز فصائل الجيش الحر وهو يقطع قلب وكبد أحد قتلى القوات النظامية السورية ويأكلهما وظهر وهو يقول (سنأكل قلوبكم وأكبادكم يا جنود بشار الكلاب) وقد أحرج الفلم الإئتلاف السوري المعارض ودول الغرب التي تدعمه خصوصاً أمريكا التي تتحدث هذه الأيام عن احتمالات تسليح المعارضة كما ظهر في صور أخرى وهو يطلق صواريخ على مناطق شيعية في لبنان محاذية للحدود.
2- راجع مصادره من كتب العامة في كتاب فضائل الخمسة من الصحاح الستّة: 2/ 135-139.

الحق من صديق).روى في كنز العمال أن عمراً سأل من تستخلفون بعدي فذكروا رجالاً منهم علي بن أبي طالب فقال ((إنكم لعمري لا تستخلفونه، والذي نفسي بيده لو استخلفتموه لأقامكم على الحق وإن كرهتم))(1)

كان لا يجامل ولا يداهن في الحق، فيعمل به وان عاداه الناس او تسَّبب في تفرق اصحابه، ومن كلماته (ع) (لا تزيدني كثرة الناس حولي عزّة ولا تفرّقهم عنّي وحشة) روى الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (بعث علي بن ابي طالب (علیهما السلام) إلى بشير بن عطارد التميمي في كلام بلغه عنه، فمرّ به رسول علي (علیه السلام) إلى بني أسد، فقام إليه نعيم بن دجاجة –وقيل خارجة- الأسدي- وروي أنّه كان من شرطة الخميس - فأفلته، فبعث إليه علي بن أبي طالب (علیهما السلام) فآتوه به، فأمر به أن يضرب، فقال له نعيم: أما والله إنّ المقام معك لذلّ وان فراقك لكفر، قال: فلما سمع ذلك علي (علیه السلام) قال له: قد عفوت عنك، إن الله تعالى يقول: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) (المؤمنون/96) أما قولك إن المقام معك لذل فسيئة اكتسبتها، وأما قولك إن فراقك لكفر حسنة اكتسبتها فهذه بهذه).(2)

2-عدله (ع) مما سبّب حنق أصحاب الامتيازات والنفوذ والاستئثار والطبقيّة، وألبوا الناس عليه (ع)، وحينما جلس الستة أهل الشورى للتداول في أمر الخلافة بعد مقتل عمر ووافقوا أن يبايعوا علياً بشرط أن يعمل بسيرة الشيخين التي أوجبت التمايز والطبقية وهو ما رفضه أمير المؤمنين (علیه السلام) وأصرّ

ص: 241


1- كنز العمال: 6/ 157، ح 33016.
2- رجال الكشي: 60.

على أن يعمل بكتاب الله تعالى وسيرة رسوله (صلی الله علیه و آله) فتركوه وبايعوا عثمان.وبعد وصوله (ع) للخلافة عبّأوا الجيوش لقتاله بتلك الأموال التي جنوها من السياسة غير العادلة، ولم يستمع (ع) إلى من أشار عليه بإبقاء معاوية في الشام وإعطاء طلحة والزبير العراق لدفع فتنتهم ولما عوتب (ع) على التسوية في العطاء قال (علیه السلام): (أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليتُ عليه، لو كان المال لي لسوّيت بينهم فكيف وإنما المال مال الله).(1)

ومن كلام له (ع) بعد أن ردَّ على المسلمين ما منحه عثمان من أراضٍ عامة (والله لو وجدتُه قد تُزُوِّجَ به النساء ومُلِكَ به الإماء لرددته فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق).(2)

3-الحسد، لسمو منزلة علي حتى كان نفس رسول الله (صلی الله علیه و آله)بنص الاية الشريفة آخاه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأشركه في أمره وجعله إماماً وهادياً من بعده وألزم الأمة بولايته وهذه المناقب التي لا تحصى والدرجات الرفيعة أوجبت كثرة الحسّاد والمبغضين، قال تعالى (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ) (النساء/54) وقد فسّرتها الرواية عن الإمام الباقر (علیه السلام) في الكافي (نحن الناس المحسودون على ما أتانا الله من الإمامة دون خلق الله أجمعين)(3) واعترف غاصبوه حقّه في الخلافة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) بأن قريش كرهت أن تجتمع النبوة والخلافة في بني هاشم فتذهب بالفخر كله.

ص: 242


1- نهج البلاغة/ الخطبة 123.
2- نهج البلاغة/ الخطبة 15.
3- الكافي: 1/ 159 ح1.

وفي ذلك قال الشاعر مخاطباً أمير المؤمنين (علیه السلام):إن يحسدوك على علاك فإنّما *** متسافل الدرجات يحسدُ من علا

4-انه (علیه السلام) كان ناصحاً للأمة يبيّن لها طريق الرشاد ويصحّح أخطاءها ولا يجامل ولا يداهن، والناس لا يحبون من ينصحهم ويهدي إليهم عيوبهم قال تعالى (وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) (الأعراف/79) وكان (ع) يوصي ببذل النصيحة مطلقاً، قال (علیه السلام) (أمحض أخاك النصيحة حسنة كانت أو قبيحة)(1) ويدعو إلى تقبّل النصيحة ولو كانت مرّة لقوله (علیه السلام) (مرارة النصح أنفع من حلاوة الغش)(2) ويقول الإمام الباقر (علیه السلام) (اتبّع من يبكيك وهو لك ناصح، ولا تتّبع من يضحكك وهو لك غاشّ).(3)

5-خبث المعدن والأصل وسوء السريرة فيتحول إلى باطن خبيث يكره خصال الخير والنبل والكمال، لذا كان حب علي (علیه السلام) ميزاناً يميِّيز بين من أصله طيّب أو خبيث، فقد روى مسلم في صحيحه بسنده عن علي (علیه السلام) (والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة إنّه لعهد النبي الأمي إليّ أن لا يحبّني إلاّ مؤمن ولا يبغضني إلاّ منافق)، وروى الترمذي في صحيحه بسنده عن أم سلمة قالت (كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: لا يحبّ علياً منافق ولا يبغضه مؤمن).(4)

ص: 243


1- نهج البلاغة، الكتاب/31.
2- غرر الحكم/ 9799.
3- المحاسن: 2/ 440 ح2526.
4- صحيح مسلم، كتاب الإيمان، صحيح الترمذي: 2/ 299 وراجع مصادره لدى العامة في فضائل الخمسة من الصحاح الستة: 2/ 253.

6-المصالح الدنيوية والامتيازات والانسياق وراء الشهوات، فيرى اللاهثون وراء هذه الدنيا الزائلة أنّ علياً (ع) حجر عثرة في طريقهم وقد عبّر (ع) عن هذه المخاوف المتبادلة بقوله (علیه السلام) حينما ودّع صاحبه البار أبا ذر الغفاري (لقد خفتهم على دينك وخافوك على دنياهم)، إنّ كثيراً ممن حاربوا علياً وأعلنوا عداوته يعترفون في السر بعلّو منزلته وقد سجل التاريخ الكثير من هذه الاعترافات لمعاوية وعمرو بن العاص وغيرهما، سُئل مروان بن الحكم عن قتالهم لعلي (علیه السلام) وسبّه على المنابر وهل أنّه كان فعلاً شريكاً في قتل عثمان، قال مروان ((والله إنّ علياً أبرأ الناس من دم عثمان ولكن لا يستقيم لنا الأمر إلاّ بسبّ علي)).(1)

هذا ما سجلناه من دواعٍ وأسباب، ولعله توجد غيرها يكتشفها المتتبع، ولكن ماذا كانت النتيجة، قال تعالى : (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال/309) فكانوا كلما أوغلوا في معاداة علي (علیه السلام) وسبّه على المنابر والافتراء عليه والانتقاص منه كان علي (علیه السلام) يرتفع ويزداد تألّقاً حتّى اعترفوا بذلك فقال قائلهم ((لقد سببنا علياً سبعين سنة على المنابر فكأننا كنّا نأخذ بضبيعه ونرفعه إلى السماء)).(2)

هذه الظاهرة المؤلمة في حياة البشر تتكرر أيضاً بدرجات متفاوتة طبعاً مع كل الأنبياء والرسل والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) ومع العلماء الربانيين العاملين المخلصين ولنفس الأسباب المتقدّمة، ممّا يوجب الحسرة الألم

ص: 244


1- من مصادره لدى العامة:
2- الضبع وسط العضد من اليد.

والاستنكار والاستغراب قال تعالى (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون) (يس/30).لذا على العاملين الرساليين أن لا يستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه وأن لا يشعرهم كثرة أعدائهم بالإحباط واليأس فهذا دليل نجاحهم وتأثيرهم في الناس، ولو كانوا فاشلين ولا يمتلكون القدرة على الإصلاح والتغيير لما عاداهم أحد ولا حسدهم أحد.

ص: 245

خطاب المرحلة 375 :الإمام الكاظم (علیه السلام) وتكثير النسل

خطاب المرحلة 375 :الإمام الكاظم (علیه السلام) وتكثير النسل(1)

توجد ظواهر عديدة ملفتة للنظر في حياة الإمام الكاظم (علیه السلام) منها كثرة ذريّته حتّى عدّت له المصادر سبعة وثلاثين ولداً من الذكور والإناث من زوجاتٍ شتّى كلهنّ أمّهات ولد أي من الجواري اللواتي كان الإمام يشتريهنّ ويعتقهنّ ثمّ يتزوّج بهنّ، هذا رغم قصر عمره الذي لم يمتد أكثر من 55 عاماً قضى شطراً كبيراً منها في سجون الملوك العباسيين تجاوزت عشر سنين.

وهذه الظاهرة –أي تكثير النسل- يكفي في فهم مبرراتها استحبابها شرعاً وتوجد أحاديث كثيرة للحثّ عليها، كرواية الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): تزوّجوا فإنّي مكاثرٌ بكم الأمم غداً في القيامة حتّى أن السقط يقف محبنطئاً على باب الجنة فيقال له: ادخل، فيقول: لا حتى يدخل أبواي قبلي).(2)

وروي عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنّه قال: (ميراث الله من عبده المؤمن الولد الصالح يستغفر له)(3).

ص: 246


1- كلمة ألقيت من قناة النعيم الفضائية بمناسبة ذكرى استشهاد الإمام الكاظم (علیه السلام) في 25/ رجب/ 1434 المصادف 5/ حزيران/ 2013.
2- وسائل الشيعة باب النكاح، أبواب أحكام الأولاد، باب1 ح14.
3- المصدر، باب 2، ح6.

وروى أحد أصحاب الإمام الكاظم (علیه السلام) قال: (كتبت إلى أبي الحسن (علیه السلام): إني أحببت طلب الولد منذ خمس سنين، وذلك أن أهلي كرهت ذلك وقالت: إنّه يشتد عليّ تربيتهم لقلّة الشيء، فما ترى؟ فكتب إليّ: اطلب الولد فإنّ الله رازقهم).(1)وفي حديث عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (إنّ أولاد المسلمين موسومون عند الله شافع ومشفّع، فإذا بلغوا اثنتي عشر سنة كُتبت لهم الحسنات فإذا بلغوا الحلم كتبت عليهم السيئات).(2)

وفي حديث عن الرضا (علیه السلام) (اما علمت أن الولدان تحت العرش يستغفرون لآبائهم، يحضنهم ابراهيم وتربّيهم سارة في جبل من مسك وعنبر وزعفران).(3)

ولعل هذا أحد الوجوه التي تفسّر اقدام المعصومين (علیهم السلام) على تكثير الزوجات حتّى بلغت عند النبي (صلی الله علیه و آله) تسعاً وعند أمير المؤمنين (علیه السلام) ثمان، وإنّما سُمّيت الزهراء (علیها السلام) بالكوثر لأنّ الله تعالى أكثر ذريّة رسول الله (صلی الله علیه و آله) منها، واستشهدت وهي في الثامنة عشرة من عمرها ولها الحسن والحسين والعقيلة زينب (صلوات الله عليهم أجمعين) وأسقطت المحسن، فالإمام الكاظم (علیه السلام) جرى على سنّة أجداده الطاهرين وهو أولى الناس بهم.

ويضاف إلى هذا الوجه العام وجه خاص وهو وجود عدة شواهد تشير إلى

ص: 247


1- المصدر، باب 3، ح1.
2- المصدر، باب 1، ح1.
3- المصدر، أبواب مقدمات النكاح، باب 16، ح2.

خطة ستراتيجية وضعها الأئمة المعصومون (علیهم السلام) وساروا عليها تستهدف تكثير نسل آل أبي طالب بعد واقعة كربلاء ردّاً على سياسة الاستئصال والاجتثاث التي اتّبعها معهم أعداءهم تحت شعار (لا تبقوا لأهل هذا البيت من باقية) بحيث خلت بيوت بأكملها من الرجال كدور عقيل بن أبي طالب والعباس بن أمير المؤمنين وأخوته الذين استشهدوا جميعاً في كربلاء.سُئل الإمام السجاد (علیه السلام) عن سبب حنوّه الزائد على آل عقيل فقال (علیه السلام) (إنّي اذكر يومهم مع أبي عبد الله (علیه السلام) فأرقّ لهم).(1) ولما قدّم له المختار أموالاً كثيرة بنى بها دور عقيل التي هدّمها الأمويون(2).

فكان للإمام السجاد (علیه السلام) خمسة عشر ولداً بين ذكر وأنثى وتولّى (ع) تربية الولد الوحيد الذي تركه عمّه العباس بن أمير المؤمنين (علیه السلام) وهو عبيد الله وزوّجه بنته خديجة وجمع له معها ثلاث حرائر من بنات الأشراف يقصد بذلك تنمية نسل عمّه العبّاس(3).

وكان الإمام الكاظم (علیه السلام) يقبل هدايا هارون العباسي ويقول: (والله لولا إني أرى من أزوّجه بها من عزّاب بني أبي طالب لئلاّ ينقطع نسله ما قبلتها أبداً)(4).

هذه شواهد على السياسة الممنهجة أو الإستراتجية التي خطط لها الإمام

ص: 248


1- كامل الزيارات: 107.
2- سيرة أهل البيت (علیهم السلام) للشيخ القرشي: 15/ 201.
3- بطل العلقمي للمظفّر: 3/ 369.
4- الوسائل،كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب 51، ح11.

الكاظم (علیه السلام) ليحبط مشروع الأعداء في إنهاء هذا البيت الطاهر وأثمرت خطوات الإمام الكاظم (علیه السلام) عن هذا العدد الهائل من السادة الأشراف وفيهم الكثير من مراجع الدين والعلماء والقادة والمفكّرين والصلحاء وأعلام الأمّة.إنّ شيعة أهل البيت (علیهم السلام) مدعوّون لبذل الوسع في تكثير النسل لعدّة مبررات منها:

1- الأخذ بسنة رسول الله (صلی الله علیه و آله) والأئمة المعصومين (علیهم السلام) وتلبية رغبتهم التي نقلتها الأحاديث الشريفة المتقدمة.

2- إنّ فيها استجابة لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الأنفال/24).

وفي الذريّة حياة مستمرة للإنسان حتّى يوم القيامة قال الشيخ الصدوق في الفقيه (روي أنّ من مات بلا خلف فكأنّ لم يكن بين الناس، ومن مات وله خلف فكأنّه لم يمت)(1).

3- الذرية مصدر لكثير من الطاعات للوالدين حتى بعد موتهم كحديث السقط الذي تقدم في الروايات الشريفة، وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) في المرض يصيب الصبي، قال(ع): (إنّه كفّارة لوالديه)(2)، ويلخص النبي (صلی الله علیه و آله) بعض هذه الطاعات بقوله (إنّ ولد أحدكم إذا مات أُجر فيه، وإن بقي بعده استغفر له بعد موته)(3) والحديث النبوي المشهور (إذا مات المرء انقطع عمله إلاّ من

ص: 249


1- الوسائل، كتاب النكاح، أبواب أحكام الأولاد، باب1، ح10.
2- -12 المصدر باب1 ح، 12.
3- -12 المصدر باب1 ح 13.

ثلاث) أحدها ولد صالح يدعو ويستغفر له.وفي الحديث عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال (إن الله ليرحم الرجل لشدة حبّه لولده)(1).

وروى الإمام الصادق (علیه السلام) قال (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): مرّ عيسى بن مريم (علیه السلام) بقبر يعذّب صاحبه، ثمّ مرّ به من قابل فإذا هو لا يُعذّب، فقال: يا ربّ مررت بهذا القبر عام أوّل وهو يعذّب، ومررت به العام فإذا هو ليس يُعذّب، فأوحى الله إليه أنه أدرك له ولد صالح فأصلح طريقاً، وآوى يتيماً فلهذا غفرت له بما عمل ابنه).(2)

4-إن اتباع أهل البيت (علیهم السلام) هم الجماعة الخيّرة الطيّبة التي اختارها الله تعالى لتحتضن ولاية أهل البيت (علیهم السلام) وتحافظ على الإسلام الأصيل فتكثيرهم اعزاز للدين والولاية وتثبيت لقيم الخير والإنسانية في هذه الأرض فالخير منهم مأمول والشر منهم مأمون، فهم كالشجرة الطيبة المثمرة التي تكون هي أولى بالتكثير.

5- إن في تكثير الشيعة نصرة للإمام الموعود (علیه السلام) وتقوية لأركانه وتمهيداً لظهوره المبارك، تطبيقاً لقوله تعالى (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) (الأنفال/60) وأعظم قوة نعدّها لنصرة الإمام (علیه السلام) هي هذا النسل المبارك لأنّ الموارد البشرية هي أعظم الموارد التي تحرص الدول على تحصيلها فاستكثروا منه ما استطعتم.

ص: 250


1- المصدر باب2 ح7.
2- المصدر باب2 ح5.

6- إنّ الشيعة في المنطقة مستهدفون بحرب إبادة واجتثاث كما تشهد به الوقائع الجارية خصوصاً عندنا في العراق وقد فقدنا خلال العقود الأربعة الماضية أكثر من مليون ونصف المليون من الرجال الذين تزهو بهم الحياة في حروب عبثية وإعدامات ومقابر جماعية في عهد النظام المقبور ثمّ في المفخّخات والتفجيرات وأنواع آلات القتل والتدمير.

وفي ضوء المعطيات المتقدمة لا يسع اتباع أهل البيت (علیهم السلام) السائرين على نهجهم من الرجال والنساء إلاّ أن يبذلوا وسعهم في تحقيق هذه الغاية الشريفة والرغبة الأكيدة للمعصومين (علیهم السلام)، ومهما قيل من مبرّرات للإكتفاء بواحد أو اثنين من الأبناء فإنّها لا تصمد أمام هذه المعطيات، إلاّ أن يكون السبب خارجاً عن الإختيار كما لو جرى القضاء الإلهي بذلك، قال تعالى (وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً) (الشورى/50) أو حصلت موانع صحيّة قاهرة ونحوها.

والسؤال الآن هو بأي عدد من الذرية يتحقّق معنى تكثير النسل؟ والجواب إنّه يتحقق بأربعة على الأقل، لأنّ الزوجين إذا أنجبا اثنين –ذكوراً او اناثاً- فإنّهما لم يزيدا شيئاً فإن اثنين ولدا اثنين، ثمّ هما يحتاجان إلى واحد آخر لتعويض حالات النقص في المجتمع لأنّ كثيراً يموتون في عمر الطفولة أو الصبى أو الشباب قبل الزواج بالموت الطبيعي أو الحوادث كالتفجيرات وحوادث السير أو في الحروب ونحوها، أو يتزوّجون ولكن لا ينجبون أو ينجبون دون العدد، فيحصل نقص في المعدّل يسدّه انجاب الثالث، ويتحقق التكثير بالرابع، وكلما زاد على ذلك كان أفضل وأقرّ لعين رسول الله (صلی الله علیه و آله).

لقد حاولت حكومات الغرب إقناع الشعوب بتحديد النسل وتقليله لكنهم

ص: 251

أصيبوا بكارثة حيث بدأ عدد السكّان ينخفض وارتفع عدد المسنين في المجتمع، والجدل الآن دائر عندهم عن كيفية معالجة هذه المشكلة.واتّبعوا سياسة (التعقيم) في بلاد المسلمين قبل عقدين أو أكثر وفق آليات معيّنة كشفت عنها بعض الوثائق السريّة المسرّبة وحدّدوا مدداً معيّنة حتى يثمر مشروعهم الشيطاني وسارت على هذا المنهج

بعض الدول الإسلامية -كالجمهورية الإسلامية في إيران- حيث تبنّت الحكومة(1) في نهاية الثمانينات سياسة تقليل الإنجاب لمنع الانفجار السكّاني -كما قيل- الذي أعتبر السبب في ارتفاع نسبة البطالة وانخفاض مستويات التعليم ونوعية المعيشة –بحسب التقرير- حيث أن معدل النمو تجاوز الذروة بما يقدر ب- 3,2 بعد انتصار الثورة الإسلامية وتشجيع الإمام الخميني الراحل (قدس) على كثرة الإنجاب لبناء جيش ال20 مليون مسلم.

لكن بعد عشرين عاماً أظهرت الإحصاءات أن معدل عدد الأطفال المولودين لكل امرأة يصل إلى 1,6 أي أقل من 2,1 الذي يعتبر الحد الأدنى المطلوب في الدول الصناعية لتجنب الانخفاض في عدد السكان، لذا تحرّكت القيادات الإيرانية منذ العام الماضي للتشجيع على الإنجاب من جديد.

ونحن نعتقد أنّ تكثير النسل ليس السبب في تلك المشاكل التي أشار اليها التقرير لأنّه عملية مباركة مثمرة تعود بالازدهار على الفرد والمجتمع، وأنّ أقوى الموارد التي تمتلكها الدول هي الموارد البشرية، خذ الصين مثلاً فإنّ سكّانها تجاوز المليار ومئتي مليون، واقتصادها في نمو مضطرد أقلق الدول

ص: 252


1- المعلومات من تقرير نُشر على المواقع الالكترونية بتاريخ 22/ 4/ 2013.

الصناعية الكبرى.والغريب أن الزوجين يبذلان كل ما عندهما من أجل تحصيل الولد، وقد يسافران إلى دول بعيدة لتحقيق ذلك، لكن من يرزقهما الله تعالى الولد يتوقفان عن إنجاب المزيد مراعاة لأوضاع معيّنة، كالوضع الاقتصادي والمعيشي، وقد تقدم في الرواية عن الإمام الكاظم (علیه السلام) عدم الإصغاء لمثل هذه المبرّرات، وقال تعالى (إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ) (النور/32) والوارد في الروايات عكس ذلك فإن الرجل يُرزق إذا تزوج وأنجب، عن الإمام الصادق (علیه السلام) (الرزق مع النساء والعيال)(1)، فتكثير الإنجاب أحد أسباب الرزق للفرد والازدهار للدولة، وتقليل الإنجاب لأجل تخفيف الأعباء الاقتصادية وغيرها تفكير خاطئ لدى الدولة والفرد على حد سواء.

إن المنع من الإنجاب سواء كان بالطرق الطبيعية أو بالعلاجات بلا مسوِّغ معقول ومقبول يتطابق بالنتيجة مع قتل الإنسان الموجود فكلاهما يحرم الأمة من هذا الوجود الذي جعله الله تعالى خليفته في أرضه قال تعالى (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم) (الإسراء/31) (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) (الأنعام/151).

ولا نغفل أيضاً عن قتل معنوي آخر من خلال إهمال تربية الأطفال تربية صالحة فيصبحوا أفراداً سيئين منحرفين وربما يتحولون إلى مجرمين ويجلبون الشر للمجتمع، ومن أمثلتها أيضاً الهجرة إلى الغرب وعموم بلاد الكفر وتعريض الأبناء لتلك الضغوط والمغريات والشهوات فيبتعدون عن الدين

ص: 253


1- وسائل الشيعة، كتاب النكاح، أبواب مقدماته وآدابه، باب11 ح4.

ويلتحقون بالمجتمعات الضالة فهذا كله قتل معنوي للإنسان على خلاف ما أراده الله تعالى ورسوله.ولأجل تحقيق الإنجاب لمن ليس عنده ذرية ولتكثير النسل فقد علَّم الأئمة (علیهم السلام) شيعتهم أعمالاً لعلّها تكون سبباً لرزقهم بالأولاد منها:

1- رفع الصوت بالآذان في المنزل، روى هشام بن ابراهيم صاحب الإمام الرضا(ع) (أنه شكى إلى أبي الحسن (علیه السلام) سقمه وأنه لا يولد له فأمره أن يرفع صوته بالآذان في منزله، فقال : ففعلت، فأذهب الله عني سقمي وكثر ولدي).(1)

2- الاستغفار، ففي الكافي شكا الابرش الكليني إلى أبي جعفر-الباقر- (ع) أنه لا يولد له وقال له علمني شيئاً، فقال له: استغفر الله في كل يوم (أو) في كل ليلة مائة مرة فإن الله عز وجل يقول (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ) (نوح/ 10-11-12) وفي رواية أخرى (فإن نسيته فاقضه).(2)

3- الدعاء، سواء بالنصوص المذكورة في القرآن الكريم أو كتب الأدعية لطلب الولد كقوله تعالى (رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) (آل عمران/38) وقوله تعالى (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) (الفرقان/74) وقوله تعالى (رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ) (الأنبياء/89) أو تدعو بأي شيء يعبّر عمّا في قلبك.

ص: 254


1- وسائل الشيعة، كتاب النكاح، أبواب احكام الأولاد، باب11 ح1.
2- المصدر، باب 10 ح1- 3.

4- التوسّل بالمعصومين (سلام الله عليهم) وتوجد حكايات موثوقة كثيرة لمؤمنين توسّلوا إلى الله تعالى بالزهراء (علیها السلام) أو بالحسين (علیه السلام) أو بالإمام الرضا (علیه السلام) فتحقّق مرادهم فيما طلبوا.

هذا درس نستفيده من حياة الإمام الكاظم (علیه السلام) أحببنا بيانه لأن فيه إدخالاً للسرور على النبي وآله الأطهار (صلوات الله عليهم أجمعين)، ولأنه يدلّنا على تكليف مهم موجّهٍ إلينا فاعتبروا يا أولي الأبصار.

ص: 255

خطاب المرحلة 376 :إخراج الزكاة: الآثار العظيمة وعاقبة الترك

خطاب المرحلة 376 :إخراج الزكاة: الآثار العظيمة وعاقبة الترك(1)

انتهى موعد حصاد الحنطة والشعير هذا العام بإنتاجٍ وفير تجاوز مليون طن من الحنطة ومائة وسبعين ألف طن من الشعير، رغم ما تعرضت له بعض المحافظات من أمطار غزيرة وسيول أتلفت جزءاًً كبيراً من المحصول بسبب مشاكل خزنية وتسويقية وسياسية(2) لسنا الآن بصدد بيان تفاصيلها.

إنّ هذه النعم تلزمنا شكر الخالق المنعم الذي شمل برحمته كلّ مخلوقاته حتى من لم يعرفه ومن لم يطلب منه بل حتى على من عصاه وناواه، وبالشكر تدوم النعم كما ورد في الحديث الشريف، قال تعالى (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم/7) فهذه وسيلة من يريد استزادة النعم والخيرات.

ومن تمام شكر النعمة أداء حقوقها، لكن الملفت للنظر والمثير للتعجّب غفلة هؤلاء المزارعين عن إخراج الحقّ الشرعي عصياناً لقوله تعالى (وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) (الأنعام/141) وقوله تعالى (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (الذاريات/19) فقد فرض الله تعالى في الغلات الزراعية وفي الثروة الحيوانية زكاة قال تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ

ص: 256


1- حديث سُجّل لقناة النعيم الفضائية يوم الأربعاء 2/شعبان/1434 المصادف 12/ 6/ 2013.
2- قام المزارعون بحصد المحاصيل وتأخرّت مخازن وزارة التجارة في تسلّمها، وكان الوزير من التحالف الكردستاني قد علّق حضوره في اجتماعات الحكومة لخلافات مع الحكومة المركزية.

عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ) (التوبة/103) وفي الرواية عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (لما نزلت آية الزكاة خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا.. في شهر رمضان، فأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) مناديه فنادى في الناس: إن الله تبارك وتعالى قد فرض عليكم الزكاة كما فرض عليكم الصلاة)(1) وعن الإمام الصادق (علیه السلام) (ولو أنّ الناس أدوا حقوقهم لكانوا عايشين بخير) وعن الإمام الكاظم (علیه السلام) (حصّنوا أموالكم بالزكاة) وعن الإمام الصادق (علیه السلام) (إنّ الله عزّ وجل فرض للفقراء في أموال الأغنياء فريضة لا يحمدون إلاّ بأدائها وهي الزكاة) وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (إنّما وضعت الزكاة اختباراً للأغنياء ومعونة للفقراء ولو أنّ الناس أدّوا زكاة أموالهم ما بقي مسلم فقيراً محتاجا ولاستغنى بما فرض الله له، وإنّ الناس ما افتقروا ولا احتاجوا وجاعوا ولا عروا إلاّ بذنوب الأغنياء، وحقيقٌ على الله تبارك وتعالى أن يمنع رحمته ممّن منعه حقّ الله في ماله، وأقسم بالذي خلق الخلق وبسط الرزق أنّه ما ضاع مال في بر ولا بحر إلاّ بترك الزكاة) وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (إنّ الزكاة جُعلت مع الصلاة قرباناً لأهل الإسلام، فمن أعطاها طيب النفس بها فإنّها تجعل له كفّارة، ومن النار حجاباً ووقاية، فلا يُتبعنها أحدٌ نفسه ولا يكثرنّ عليها لهفه، وإنّ من أعطاها غير طيب النفس بها، يرجو بها ما هو أفضل منها فهو جاهل بالسُنّة مغبون الأجر ضال العمل طويل الندم)وعن الإمام الصادق (علیه السلام) عن آبائه عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال (إذا أراد الله بعبد خيراً بعث إليه ملكاً من خزّان الجنّة فيمسح صدره ويسخّي نفسه بالزكاة).

ص: 257


1- الروايات المذكورة من وسائل الشيعة، كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 1، 2، 3.

ومن وصية لأمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (الله الله في الزكاة فإنّها تطفئ غضب ربّكم).وفي الحديث الشريف قال (شابٌ سخي مرهق في الذنوب أحبّ إلى الله عز وجل من شيخ عابد بخيل) ويشرح حديث آخر معنى السخي عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال (من أدّى ما افترض الله عليه فهو أسخى الناس) وفي حديث عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) قال (إنّ الله تبارك وتعالى قرن الزكاة بالصلاة فقال (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ) (البقرة/43) فمن أقام الصلاة ولم يُؤت الزكاة فكأنّه لم يقم الصلاة).

وإنما تجب الزكاة في الغلات الزراعية ضمن شروط معيّنة ذكرها الفقهاء (قدس الله أرواحهم) في الرسائل العملية، ومنها بلوغ النصاب وهو (847) كيلوغرام فإذا كان الحاصل أقل من ذلك فلا زكاة عليه، فإذا بلغت الغلّة مقدار النصاب وجبت فيه الزكاة ومقدارها (10) من الحاصل إذا كانت المزروعات تسقى بشكل طبيعي من دون آلة سيحاً بالمطر أو بفيضان النهر ونحوها، وتكون الزكاة بنسبة 5 إذا كان السقي بالآلات.

ومن الأحاديث الشريفة المتقدمة نستطيع تلمس عدة آثار مباركة لإخراج الزكاة:

1-إنّها من أعظم القربات إلى الله تعالى وانها مقرونة بالصلاة.

2-توجب المحبة الإلهية للعبد وشموله بالرحمة العظيمة.

3-إنّها تُطفئ غضب الرب، وتوجب كفّارة الذنوب وإنها حجاب ووقاية من النار.

ص: 258

4-إنّها اختبار يعطي فرصة للعبد لكي ينجح فيه فيستحق الجائزة، فبدون خوض الامتحان لا يرتقي الإنسان إلى مرحلة أعلى وأكمل، وإنّ امتحان إخراج شيء من المال صعبٌ على الإنسان لكنّه منتج ومثمر، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (ما بلى الله عز وجل العباد بشيء أشد من إخراج الدرهم).

5-انها سبب لزيادة النعم ودوامها.

6-تحصّن المال من التلف والخسارة، وإنّ من يبخل بالزكاة يخسر أكثر منها من المال بتلف أو سرقة أو خسارة فيخسر الدنيا والآخرة.

7-تقضي على الفقر وتنمي الاقتصاد وتزدهر بها أحوال الناس، لأنّ الناس إذا كانوا فقراء فإنّهم لا يمتلكون قدرة على الشراء فيصاب السوق بالكساد، فإذا توفّر لديهم المال تحرّك السوق وعاد بالنفع على نفس دافعي الزكاة وسائر الحقوق الشرعية وهذه الحقيقة يعرفها دافعوا الضرائب في الدول الصناعية والبنوك العالمية المموّلة.

وهذا الكلام يجري في إخراج سائر الحقوق الشرعية كالخمس وردّ المظالم لوضوح انطباق الأحاديث الشريفة عليها.

وإذا لم تكفِ هذه الروايات والآثار المباركة على إخراج الزكاة لتحفيز الناس وتحريكهم نحو إخراجها فلنقرأ في مقابل ذلك ما ورد من تحذير شديد من مغبة التخلّف عن دفع الحقوق الشرعية ففي الحديث عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال (ما من عبدٍ منع من زكاة ماله شيئاً إلاّ جعل الله ذلك يوم القيامة ثعباناً من نار مطوّقاً في عنقه ينهش من لحمه حتّى يفرغ من الحساب، وهو قول الله عز وجل (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (آل عمران/180) يعني ما بخلوا به من

ص: 259

الزكاة).وقد طرد النبي (صلی الله علیه و آله) جماعة من المسجد وحرمهم من الصلاة معه لأنّهم لم يؤدّوا حقوق أموالهم، عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) قال (بينما رسول الله (صلی الله علیه و آله) في المسجد إذ قال: قم يا فلان قم يا فلان، قم يا فلان، حتّى أخرج خمسة نفر، فقال: أخرجوا من مسجدنا لا تصلوا فيه وأنتم لا تزكّون).

وفي حديث عن الإمام الصادق (علیه السلام) (من منع قيراطاً من الزكاة فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً) وفي حديثٍ عنه قال (من منع قيراطاً من الزكاة فليس مؤمن ولا مسلم، وهو قول الله عز وجل (... رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (المؤمنون/99-100).

أيها الأحبة أمام هذه الأحاديث الموجبة للزكاة والمبيّنة لآثارها المباركة، والعاقبة المظلمة لتاركها لا يسع الإنسان إلاّ المبادرة لإخراجها بالنسبة التي ذكرناها، وليس من الضرورة إيصالها إلى المرجعية الدينية فيجوز لصاحبها توزيعها على الفقراء المحتاجين أو المساهمة بها في المشاريع الخيرية والتي تخدم الصالح العام، كبناء مركز صحّي أو قنطرة لعبور الناس أو مدرسة أو محطّة تصفية المياه ونحوها مع الالتفات إلى أن الهاشمي الذي ينتسب إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) لا يجوز له أخذ الزكاة من غير الهاشمي، ويجوز العكس.

فما يمنع أحدكم من مساعدة أقربائه ومعارفه المحتاجين من الزكاة فيدخل السرور عليهم ويقضي حوائجهم وبنفس الوقت يؤدي هذه الفريضة العظيمة التي بها نماء لأموالكم وتحصين لها ونيل لرضا الله تبارك وتعالى.

ص: 260

إنّ الذي دفعنا إلى توجيه هذا الحديث إرشادكم إلى هذه الطاعة العظيمة المقرّبة إلى الله تبارك وتعالى ولما رأيناه من غفلة الغالبية العظمى من الناس عن هذه الفريضة ومن واجبنا إرشادهم ونصحهم وهدايتهم والله الموفّق.

ص: 261

خطاب المرحلة 377 :ميدانكم الأول لتحصيل المعنويات أنفسكم

خطاب المرحلة 377 :ميدانكم الأول لتحصيل المعنويات أنفسكم(1)

يبحث الإنسان بطبعه وفطرته عن الأمور المعنوية والكمالات الروحية، ويظنّ أنه يحصل عليها من خارجه فيتحرك نحو الأسباب الموجبة لها بحسب ظنّه، لكنه يكتشف أنه لم يصل إلى ما يريد، لأنه لا يعلم إنها موجودة في باطنه وداخل نفسه فعليه استثارتها واستخراجها من داخله، فالساحة الأولى للعمل والميدان الأول للانطلاق هي النفس، حكي عن أمير المؤمنين قوله (ميدانكم الأول أنفسكم فحاسبوها قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا، فإن انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر)، وهذا المعنى مكرّر كثيراً في كلمات المعصومين (علیهم السلام) حتى أصبح متواتراً كقول علي (علیه السلام): (سياسة النفس أفضل سياسة).(2)

خذ مثلاً السعادة التي هي مطلوب كل إنسان والغاية التي يريد أن يصل إليها، يظن كثير من البشر أنها في كثرة المال، والحياة المترفة أو في مواقع السلطة والنفوذ، أو أنها في قضاء الوقت في اللهو والمتعة، ونحو ذلك، وقد تتحقق لهم بذلك لذة وراحة آنية لكنهم يشعرون في النهاية أنهم لم يحققوا السعادة المرجوّة، ولا نستغرب من وجود أعلى نسب للانتحار والمصابين

ص: 262


1- كلمة سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) في تجمع أئمة الجمعات في محافظات العراق يوم الأحد 20 شعبان 1434 المصادف 30/ 6/ 2013.
2- غرر الحكم: 5589.

بالأمراض النفسية في دول الغرب المترفة مادياً.وهذا شيء طبيعي لأن السعادة من الأمور المعنوية التي لا تتحقق بالأسباب المادية للزوم وجود مشاكله بين الأسباب والنتائج فلا تصلح الأسباب من عالم معين لتحقيق نتائج في عالم آخر وهكذا كل الأمور المعنوية لابد أن تتحقق بأسباب معنوية من سنخها -بحسب المصطلح- كالمعرفة بالله تعالى التي هي أصل الدين والغرض من إيجاد الإنسان (وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون) فإنها تنبع من داخل النفس بتهذيبها وكبح جماحها وشهواتها إلاّ فيما أحلّ الله ورخّص ففيه، وتطهير القلب من الرذائل الخلقية كالحسد والغل والحقد والأنانية، حينئذٍ تشرق المعرفة الإلهية في قلب الإنسان، ورد في الحديث (من عرف نفسه فقد عرف ربّه) فالطريق إلى معرفة الله تعالى يمرّ عبر معرفة النفس وما يصلحها ويهذّبها.

والتوفيق أيضاً استعداد في النفس للاستجابة لداعي الهداية فمن طلبها، عليه أن يوفّر أسبابها في نفسه، ومن لا تتوفر فيه لا تزيده الموعظة والإرشاد والنصيحة إلاّ عتوّا واستكباراً، قال تعالى (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَ-ذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ . وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ) (التوبة/ 124-125) وقال تعالى (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً) (المدثر/31) فأسباب الهداية والتوفيق تعرض على الجميع لكن المواقف إزاءها متباينة بحسب الجهة الغالبة في

ص: 263

النفس هل هي جنود الرحمن أم جنود الشيطان، ومن لا يناله التوفيق والهداية فبسببه وهو الذي لم يؤهل نفسها لتلقيها (نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ) (التوبة/67) كذبذبات الراديو والتلفزيون أو اتصالات الأجهزة المحمولة فإنها موجودة في الفضاء إلاّ أنّه لا يستقبلها إلا الجهاز الذي يحمل المواصفات المناسبة لتلك الموجات.وهكذا النصر والغلبة إنما ينطلق من داخل النفس فمن انتصر على نفسه وعزّز قواه المعنوية الداخلية من التقوى والصبر والمصابرة كان هو المنتصر حقيقة، ومن عاش الهزيمة في داخله فلم يلتزم بما أمره الله تعالى كان هو المهزوم في الخارج، قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ) (القرآن/155).

وكذلك الحرية والعزة والكرامة يحياها الإنسان في داخله فتنعكس على حياته الخارجية في المجتمع، من مناجاة أمير المؤمنين (إلهي كفى بي عزاً أن أكون لك عبداً وكفى بي فخراً أن تكون لي ربا) فالعزة كلها في تحرير النفس مما سوى الله تعالى، (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (المنافقون/8)، ولا يُستعبد الإنسان والمجتمع من قبل الطواغيت والمستكبرين إلا بعد أن تتكبل نفوسهم بأغلال الخوف والجهل والطمع والشهوة والوهم والشك والتمرد فيصبح سلس القياد لغيره، قال الله تعالى (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ) (الزخرف/54) فإن فرعون لم يستعبد قومه ويصادر حرياتهم ويستخف بعقولهم إلا بعد أن أصبحت نفوسهم أسيرة الشهوات والخوف والقلق.

ومحل الشاهد من هذه الفكرة تطبيقها على علاقتنا بإمامنا المهدي الموعود

ص: 264

(عجل الله تعالى فرجه) (فحينما نطلب في الدعاء (اللهم إنا نرغب إليك بدولة كريمة...) فهذا لا يعني أن أملنا يتحقق ودعاءنا يستجاب بقيام حكومة يترأسها وتضمّ رجالاً يرفعون لافتات إسلامية أو يتظاهرون بالارتباط بالمرجعية الدينية، وإنما تتحقق الدولة الإسلامية بأن نعيش الإسلام في كل تفاصيل حياتنا ونحكّمه في كل أمورنا وقضايانا وتصرفاتنا {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}النساء65،وهذا واضح من أوصاف هذه الدولة في الدعاء (تُعزُّ بها الإسلام وأهله، وتُذلُّ بها النفاق وأهله) ووصف الله تعالى الذين يقومون بشؤون هذه الدولة الكريمة بقوله سبحانه (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ) (الحج/41) فلا تكون الدولة كريمة إلا حينما يكون رعاياها أحراراً يعيشون بعزة وكرامة وأعداؤهم أذلاء مقهورين.وقد يتحقق هذا المعنى للدولة الكريمة عند المؤمنين وهم بعيدون عن الحكم وليس لهم في السلطة نصيب، كما كان عند أهل البيت (سلام الله عليهم))(1)

((وهكذا فحينما ندعو لإمامنا المهدي (علیه السلام) بالفرج وتعجيل الظهور فان الفرج الحقيقي يبدأ من داخل أنفسنا حينما نهذّبها بطاعة الله تبارك وتعالى وتسير نحو الكمال، وإلا فما الذي نجنيه من ظهور الإمام (علیه السلام) إذا لم نحقق هذه الدرجات في داخلنا؟ ربما سنكون في الصف المعادي له أو مع

ص: 265


1- خطاب المرحلة: 3/ 129.

المتخاذلين عن نصرته حرصاً على مصالح دنيوية أو وضع اجتماعي أو مكاسب سياسية ونحوها.فالدولة الكريمة والفرج يبدأن من داخل النفس ثم يشرقان على الآخرين فإذا عاش المجتمع أجواءً إسلامية وكان سلوكه إسلامياً، وتفكيره مبنياً على أساس الإسلام فهذه هي الدولة الكريمة وهذا هو الفرج الحقيقي.

وهذا لا يتحقق إلا بمواصلة العمل الدؤوب على صعيد تهذيب النفس وعلى صعيد إقامة المشاريع الإسلامية الإصلاحية في المجتمع وإدامتها وأن لا يكتفي بالعمل الارتجالي الذي دافعه وهج العاطفة أو ردود الأفعال)).(1)

(ففي الكافي عن أبي بصير قال: (قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): جُعلت فداك متى الفرج؟ فقال: يا أبا بصير وأنت ممن يريد الدنيا؟ من عرف هذا الأمر فقد فُرِّج عنه لانتظاره).

((ولا يخفى ما في جواب الإمام (علیه السلام) من توبيخ لمن ينتظر الفرج طلباً للدنيا مثلاً لكي يكون الحكم لأتباع أهل البيت (سلام الله عليهم) فتكون له حصة من (الكعكة) كما يقولون فيكون الوصول إلى الحكم غاية وهدفاً وليس وسيلة لإحقاق الحق وإقامة العدل فيقع أمثال هؤلاء في الظلم والانحراف ولا يحققون الهدف المنشود، وهذا أحد وجوه معنى الرواية الشريفة (كل راية قبل المهدي فهي راية ضلالة) لأنها تتحرك لتغيير الظالم وأخذ موقعه والتمتع بالجاه والسلطة والثروة وليس لتغيير الظلم وخدمة الناس وإصلاح أحوالهم وتأسيس

ص: 266


1- خطاب المرحلة: 3/ 130.

الدولة الكريمة التي تضمن الحياة السعيدة لكل إنسان.))(1)ونندب الإمام (علیه السلام) وندعوه لإزالة الظلم والجور وإقامة العدل (أين المعدُّ لقطع دابر الظلمة، أين المنتظر لإقامة الأمت والعوج أين المرتجى لإزالة الجور والعدوان)، ولا يكون الإنسان جزءاً من هذه الحركة المباركة إلاّ إذا أقام حياته وعلاقاته على العدل والإنصاف الآخرين، فليراجع الإنسان نفسه هل هو عادل في علاقته مع زوجته وأسرته ووالديه أو جيرانه أو أصدقائه في العمل أو من هم في رعايته إذا كان في مواقع المسؤولية، أم إنه جائر عليهم مقصر في حقوقهم ويظلمهم كالذي يحصل كثيراً في مجتمعنا؟ وحينئذٍ فلا يمنّي نفسه بإتباع الإمام والانخراط في جماعته الميمونة.

ص: 267


1- خطاب المرحلة: 4/ 370- 371.

خطاب المرحلة 378 :تفسير أمير المؤمنين (علیه السلام) لثورات الشعوب ...

ثورة الشعب المصري نموذجا(1)

من كلام لأمير المؤمنين (علیه السلام) في تفسير الأحداث التي أدّت إلى مقتل الخليفة عثمان، قال (علیه السلام): (وأنا جامع لكم أمره: استأثر فأساء الأثرة، وجزعتم فأسأتم الجزع، ولله حكم واقع في المستأثر والجازع)(2)

وقال (علیه السلام) في خطبته الشقشقيّة (إلى أن قام ثالث القوم نافجا حِضنيه - وهي تصوير للمتكبر- بين نثيله - وهو الروث - ومعتلفه- وهو موضع العلف أي أن همَّه هذان – وقام معه بنو أبيه يخضمون – وهو أشدّ من القضم الذي هو بطرف الأسنان – مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث فتلهُ، وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنته – أي بطره أو بطانته وهو حاشيته-)(3)

يعطي الإمام (علیه السلام) باختصار قانونا وقاعدة تفسّر سقوط الحكام وثورات الشعوب عليهم، وهو الاستئثار والتفرد والاستبداد بالأمور وتقريب خواصّه من

ص: 268


1- كلمة كتبها سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) فجر يوم الخميس 24 شعبان 1434 الموافق 4/ 7/ 2013 وألقاها من خلال قناة النعيم غداة إعلان القوات المسلحة عن عزل الرئيس المصري محمد مرسي ووضع خارطة طريق لمرحلة انتقالية استجابة لملايين المتظاهرين الذين تجمعوا منذ يوم 30/ 6 حتى مساء 3/ 7.
2- نهج البلاغة: خطبة (30)
3- نهج البلاغة: خطبة (3)

الأقرباء والمتملّقين والمنتمين لحزبه أو عشيرته ويغدق عليهم ويطلق أيديهم في المال العام ومؤسسات الدولة ، وهؤلاء ظلمة لا إنصاف لهم ولا رحمة فتحرم الغالبية العظمى من الشعب من حقوقها، فيصبرون ويتململون ويشكون حتى إذا فقدوا القدرة على الصبر والتصبّر ثاروا و انتفضوا وسحقوا الحكام وأزالوهم.هذه المعادلة التي حكمت دوما العلاقة بين الشعوب والحكومات المستبدّة، لكن سكر الملك ولذة السلطة والنفوذ والنفس الفرعونية التي يتخذها صاحبها إلها (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) (الجاثية/23) تأبى الإذعان لهذه الحقيقة ولا تتعظ بالتجارب السابقة والأمثلة الكثيرة حتى تكبو وتسقط ويقضي عليها ما جنته.

لذلك كان أمير المؤمنين (علیه السلام) ينبّه ولاته وعماله إلى هذه الحقيقة ويحذّرهم من هذا السقوط فمن عهده (ع) لمالك الأشتر لماّ ولاّه مصر (فاملك هواكَ، وشُحَّ بنفسك عما لا يحلُّ لك، فان الشُحَّ بالنفس الإنصاف منها في ما أحبَّت أو كرِهَت واشعِر قلبكَ الرحمة للرعية، والمحبّةَ لهم واللطف بهم، ولا تكوننَّ عليهم سبُعاً ضارياً تغتنم أكلهم) وقال (علیه السلام) : (أنصِفِ اللهَ، وأنصفِ الناسَ من نفسِك، ومن خاصةِ اهلِك، ومن لك فيه هوىً من رعيّتِك، فإنك ألاّ تفعل تظلِم، ومن ظلم عِباد الله كان اللهُ خصمَهُ دونَ عبادهِ، ومن خاصمه الله أدحضَ حجّته، وكان لله حرباً حتّى ينزع أو يتوب) وقال (علیه السلام) (وليكن أحبّ الأمور إليكَ أوسطَها في الحقّ وأعمّها في العدل واجمعها لرضى الرعيّة فإنّ سُخط العامة يُجحِفُ برضا الخاص، وإنّ سُخطَ الخاصة يُغتفر مع رضى العامة)

ص: 269

(وإنّما عماد الدين وجماع المسلمين، والعدة للأعداء، العامةُ من الأمة، فليكُن صغوكَ لهم وميلك معهم).(1)هذا هو دور الشعب وهكذا يؤسس أمير المؤمنين (علیه السلام) لما اتفقت عليه الدول المتحضرة اليوم من سيادة الشعب وكونه مصدر السلطات ومانح الشرعية والرجوع إليه في شؤونه حيث وصفه (ع) بأنه عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء.

استحضرت كل هذه المعاني ووجدتها صادقة –وكيف لا تكون كذلك وقائلها أمير المؤمنين (علیه السلام)- ومطابقة للواقع وأنا أتابع غضبة شعب مصر وثورته وهو ينزل بالملايين إلى شوارع القاهرة وسائر المدن المصرية في مشهد قد لا نجد نظيراً له ليستعيد مصر ويحرّرها من خاطفيها الذين تلفّعوا باسم الإسلام ليحققوا مآربهم في الوصول إلى السلطة، وليرفع غطاء الشرعية عن من منحه إياها قبل عام(2) بسبب عدم البصيرة والاستعجال في الأمور.

لقد تنكّر الرئيس المعزول لشعبه وشركائه ونكث عهوده ولم يبذل الجهد الكافي لإصلاح أحوال الشعب وحلّ مشاكله بل زادها تأزّماً لعدم أهليته ولأنّه وحزبه انشغل بالاستبداد والاستئثار بالأمور وقادوا عملية واسعة للسيطرة على مفاصل الدولة كلّها من أعلى المناصب إلى ما هو دونها لينشئوا ديمقراطية مزيّفة تعيدهم إلى السلطة باستمرار في كل انتخابات لأن أدوات الوصول إليها

ص: 270


1- نهج البلاغة ج3 (خطبة 291)
2- وصل مرسي مرشح الإخوان المسلمين إلى كرسي الرئاسة بعد جولتين من الانتخابات وأعلنت النتائج الثانية يوم 3/شعبان/1433 الموافق 24/ 6/ 2012 وفاز على منافسه بنسبة 51,73.

من المال والإعلام والمناصب والوظائف ستكون كلّها بأيديهم، وبحسب تصريح أحدهم فقد قرّروا عدم إعطاء السلطة لغيرهم قبل مرور ثمانين عاماً أي بعمر تأسيس حزبهم، وكأنّهم يعترفون بذلك أنّ غرضهم من معارضة الحكومات السابقة هو نيل الدنيا وليس الآخرة كما هو المفروض في أدبياتهم ويريدون أن يأخذوا جزاء كلّ سنة من عمر معارضتهم سنة في لذّة السلطة الزائلة.وكما قيل أنّهم فشلوا في كلّ شيء ولم ينجحوا إلاّ في جمع الشعب بكل فئاته على رفضهم والمطالبة برحيلهم، وبالغوا في النكاية بالشعب حين صمّوا آذانهم عن سماع صوته والنزول إلى رغبته ولو بإجراء استفتاء شعبي على بقائهم في السلطة وهو خيار دستوري، وذهب الحزب أبعد من ذلك حينما استخفّ بمعارضيه وقدرتهم على حشد الرأي العام وهدّد بالعنف وسفك الدماء.

لقد شخّص الشعب المصري بوعيه وحرارة ثورته في وقت مبكّر وقبل مرور عام على تولي الحزب المعزول أنّ بلدهم في خطر وتأريخهم في خطر ووحدتهم في خطر وكلّ مصالحهم الحيوية والإستراتيجية من الأمن والاقتصاد والثقافة والتنوّع الاجتماعي في خطر، حتّى عقيدة الشعب المصري المبنيّة على التسامح والأخوة والنقاء بدؤوا بمسخها وتشويهها وقسّموا الشعب المصري إلى طوائف وأعراق ودرجات، والإسلاميين إلى درجات واعتبروا حزبهم هو الجنس الأرقى وينظرون إلى الآخرين باستعلاء وازدراء، وغذّوا العنف والكراهية وأسّسوا أو اجتذبوا عدة خطوط من جماعات العنف وتصفية

ص: 271

الخصوم، وما الحادث الوحشي المريع الذي أدّى إلى استشهاد المرحوم الشيخ حسن شحاتة ورفاقه(1) عنّا ببعيد، بعد تحريض شديد ضد الشيعة، وأُريدَ لمثل هذا الحادث أن يكون نذر شؤم لحرب طائفية طاحنة لم يعرفها الشعب المصري من قبل، من دون أن يكلّف النظام نفسه بالتحقيق في القضية ومعاقبة الفاعلين وهم معروفون مشخّصون بالصوت والصورة فجنوا على أنفسهم وقُتلوا بسيف البغي والظلم الذي سلّوه لتصفية خصومهم، وفي الحديث (لو بغى جبل على جبل لتدكدك).وكانت القوات المسلّحة واعية أيضاً للتحريف الخطير في عقيدتها التي لا تزال تُدرّس إلى اليوم في أكاديمياتها على أن العدو الأوّل هو الكيان الصهيوني، وإذا بالنظام يتحوّل إلى خادم للمصالح الأمريكية والصهيونية بشكل وصف بأنه أكثر من الرؤساء السابقين المتهمين بالانبطاح والاستسلام للكيان الغاصب، ويجعل العدو الأول المعارضين له في الرأي والمخالفين له في العقيدة من أبناء وطنه، وإثارة الفتن والقلاقل في الدول الأخرى حين دعوا إلى التخلص من الشيعة والجهاد في سوريا، فلا نستغرب من الضغوط الأمريكية

ص: 272


1- بينما كان يشارك المرحوم الشيخ شحاتة في احتفال أقيم في زاوية أبي مسلم بمناسبة ذكرى ميلاد الإمام المهدي (عج) ليلة الاثنين 14 شعبان 1434 المصادف 24/ 6/ 2013 هجم المئات من المتعطشين للقتل المشحونين بفتاوى التكفير والمزوّدين بأدوات جارحة وعصي على المنزل ودمّروه ثم انهالوا على المجتمعين طعناً وضرباً فقتلوا الشيخ شحاتة وأربعة آخرين وجرحوا (35) ومزّقوا أجسادهم وسحلوهم بعد الموت. والشيخ شحاتة من كبار الدعاة إلى ولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) في مصر وغيرها منذ اعتناقه لهذا المذهب قبل أكثر من عقدين.

على الجيش والشعب ليتراجع عن رفضه للنظام، وتكرار النظام وأنصاره لكلمة الشرعية في خطاباتهم بشكل ممل(1) ليوحي للعالم أنّ الشرعية والديمقراطية مهدّدة في مصر استجلاباً لعطفه، ولكن ذلك كلّه لم ينفعهم.إن الخسارة الكبرى التي يتحمّل وزرها هذا الحزب الذي اتّخذ من الإسلام شعاراً له ليس في فقد منصب الرئيس وقيادة البلاد ولا في محاكمة رموز الحزب ومثولهم أمام القضاء في تهم عديدة، وإنّما في خيانتهم للمشروع الإسلامي وفشلهم في تقديم الإسلام على أنّه الحلّ الوحيد لإنقاذ الناس من المشاكل والعقد وإدارة شؤون الحياة وإقامة دولة العدالة وحقوق الإنسان، ممّا يُعرِّض جهود وتضحيات العلماء والمفكّرين والشهداء إلى الضياع وبذلك فقد أحبطوا كلّ أملٍ في إقناع الشعوب بقيادة الإسلام للحياة في كلّ شؤونها، فهل تستحق شهوة السلطة والحكم والاستحواذ على المال العام على مدى سنة واحدة هذه الخسارة الإستراتيجية التي يصعب النهوض منها؟.

وهذه الانتكاسة المريرة المؤلمة سبّبها لنا غيره أيضاً من الأحزاب الإسلامية التي تمكّنت من السلطة بشكلٍِ أو بآخر في دول المنطقة ومنها العراق، فإن أعظم قلقنا من انتكاس المشروع الإسلامي بسبب حماقات وأنانية ولؤم من يرفع شعاراته مكراً للوصل إلى السلطة.

إنّنا ننصح أحبتنا وأشقاءنا في مصر أن لا يتعجلوا الأمور لكيلا يقعوا في نفس الخطأ قبل عام فيأتي من يختطف منهم نصرهم وثورتهم ويركب الموجة

ص: 273


1- قال أحد المراقبين أن كلمة الشرعية تكررت (158) مرة خلال عشر دقائق من خطاب الرئيس مرسي الأخير عشية عزله.

مستغلا عدم وضوح الرؤية وعدم وجود خارطة طريق تفصيلية فيركب الموجة ويصادر جهد الجماهير وتضحياتهم كما اختطف الحزب المعزول انتصار 11/شباط/2011.ونحذّرهم من أن تدعوهم قدرتهم وسيطرتهم إلى ظلم أحد أو تصفية أحد لكونه معارضاً بالرأي ومخالفاً في العقيدة والتوجه السياسي

فليستفيدوا من أهل الخبرة من الوطنيين المخلصين في كل المجالات ليضعوا لهم برنامج يؤسس لدولة متحضرة تُحترم فيها إرادة الإنسان وكرامته وتوفّر له أسباب الحياة السعيدة التي يستحقها شعب مصر العريق الطيب المنجب.

(إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد/7) (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت/69).

ص: 274

خطاب المرحلة 379 :تعاملوا في حياتكم بإيجابية

خطاب المرحلة 379 :تعاملوا في حياتكم بإيجابية(1)

قال الله تبارك وتعالى مخاطبا نبيه الكريم (صلی الله علیه و آله){وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء : 107] وقال تعالى {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] والكوثر تعني الخير الكثير، وقال تعالى على لسان زكريا في دعائه لطلب الولد {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم : 6] وقال على لسان عيسى بن مريم {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم : 31] أي كثير البركة و العطاء، ونحو ذلك من الآيات التي ضمت مجموعة من صفات الإنسان الصالح ويجمعها الوصف الذي نطلقه على المؤمن بانه (خَيِّر) وهي من صيغ المبالغة أي لا ترى منه إلا الخير، لذا وصفته بعض الاحاديث الشريفة بانه (الخير منه مأمول والشر منه مأمون).

ووردت احاديث كثيرة تدعوا إلى ان يكون الأنسان مصدر خير وعطاء وعنصرا مثمرا في المجتمع كالاحاديث التي تحث على السعي في قضاء حوائج

ص: 275


1- حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع حشد كبير من الطلبة الجامعيين الذي أقاموا العشر الأواخر من شهر رمضان في النجف الأشرف ضمن برامج عبادي توعوي، والتقاهم سماحته يوم الاثنين 27/رمضان/1434ه- الموافق 5/ 8/ 2013.

الناس ومساعدتهم وإدخال السرور(1) عليهم ورفع الأذى عنهم وفعل المعروف لجميع الناس بغضّ النظر عن الدين أو القومية أو النسب ونحو ذلك وتذكر لهذه الأعمال الإنسانية الصالحة ثوابا عظيما يفوق اكثر العبادات أهمية.وأكمل الشارع المقدس هذه الصورة الحسنة لسلوك المؤمن فطالبهُ بالعفو والصفح عن إساءة الآخرين، قال تعالى {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور : 22] وامر بنسيان إساءة الآخرين وكأنها لم تقع وان يبقى دائما يتذكر إحسان الآخرين اليه بل دعا الى مقابلة السيئة بالحسنة {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت : 34] ، كما امر بان يكون على عكس ذلك في العلاقة مع نفسه، وذلك بان يتذكر دائماً أساءته للآخرين حتى يكون رادعا عن تكرارها، وان ينسى إحسانه للآخرين حتى لا يحصل عنده شعور بالعجب والمنّ و التفضّل عليهم فيمنعه ذلك من الاستمرار في فعل المعروف، ففي الحديث الشريف (انسى اثنين : إحسانك إلى الغير وإساءة الغير اليك، واذكر اثنين: أساءتك إلى الغير وإحسان الغير اليك)

وطلب الشارع المقدس أن تختار الأحسن والأفضل للآخرين عندما تكون بين خيارين أو بين موقفين أو سلوكين فأمر بان تحمل فعل أو قول أخيك على سبعين محملاً حسنا، وان كان ظاهره السوء، لكنه مادام يحتمل أن يكون حسناً فلا تقصّر في الأخذ بهذا الاحتمال ، حتى وان تجاوزت السبعين احتمالا، وهو

ص: 276


1- اذكر حديثا واحدا عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (فوالذي وسع سمعه الأصوات ، ما من احد أودع قلبا سرورا ألا وخلق الله له من ذلك السرور لطفا، فاذا نزلت به نائبة جرى اليها كالماء في انحداره حتى يطردها عنه ، كما تطرد غريبة الابل) (نهج البلاغة/ الحكمة 257)

رقم يقال للتعبير عن الكثرة فلا يمنع من الأزيد .وان يكون هذا هو منهج حياتك بان تفتش عن أحسن ما عند الآخرين فتنظر اليه على أساسه، وان تفتش عن أسوء ما في نفسك فتُقيّمها على أساسه لتكون بين هذا وذلك أنسانا صالحا يسعى نحو الكمال ويحب الخير للناس .

روي أن أخوة يوسف الصديق (ع) لما تعارفوا معه واعترفوا بجريمتهم تملكهم الحياء مما صنعوا به لكنه خففّ عليهم واعتبرهم أصحاب فضل عليه لانهم عرفّوه الى أهل مصر انه ابن الأنبياء الكرام وكان يُنظر اليه على انه عبد كنعاني أُشتريَ من سوق النخّاسين، فهل يوجد سمو في التعاطي مع الأمور مثل هذا ؟

فيما روي من مواعظ النبي الكريم عيسى (ع) انه مرَّ هو وأصحابه على جيفة كلب ميت فقال بعضهم ما انتن ريحه وقال الآخر ما اقبح منظره وهكذا، لكن النبي الكريم المتأدب بخلق الله تعالى قال (ما اشَّد بياض أسنانه)(1).

إن الإنسان حينما يسير وفق هذه الرؤية ويتبع هذا المنهج من التفكير يحصل على ثمرات عديدة، منها القرب إلى الله تعالى، وراحة البال، والسعادة(2) وحسن الذكر عند الناس مضافا الى شيء مهم يحسُن الالتفات اليه وهو انه ستتجاوب معه كل عناصر الخير في الكون لأنه محكوم بسنن الهية ثابتة فمن اخذ بها نال كل خيراتها وبركاتها، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا

ص: 277


1- حلية الأولياء لابي نعيم الأصبهاني
2- واذكر حديثاً واحداً في ذلك باختصار وهو قول أمير المؤمنين (علیه السلام) (السرور يبُسُط النفس ويثير النشاط، الغمّ يقبِضُ النفس ويطوي الانبساط) (غرر الحكم:2203و2024)

عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف : 96].وبذلك يكون قوله تعالى {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم : 7] على القاعدة الطبيعية- كما يقال - وليس بالجعل التشريعي لزيادة النعم مقابل الشكر، وإنما هي حالة تكوينية طبيعية فان الإنسان الشاكر يكون جزءا منسجماً مع الكون فيحظى ببركات القوانين الإلهية التي تنظم حركة الكون .

وهذا ما يعترف به غير الموحدين أيضا فانهم يقولون إن الإنسان يجب أن يكون ممتنا شاكرا للكون - بحسب تعبيرهم لانهم لا يعتقدون بوجود الله سبحانه - على نعمه لكي يحصل الإنسان على المزيد من النعم وغيرها مما تستحق أن يسعى اليها الإنسان.

هذا المنهج والسلوك الذي أسس له الشارع المقدّس اصبح اليوم من اهم قضايا علم الاجتماع والتنمية البشرية التي يهتم بها العالم المتحضر فتؤلف الكتب وتعقد الندوات وتقدّم البرامج التلفزيونية التي تتحدث عن ((أهمية التفكير الإيجابي)) وتوصلوا فيها إلى جملة من النتائج التي بيّنها الشارع المقدس .

ونُقل لي أنّ من الكتب الواسعة الانتشار في هذا المجال كتاب (السر) ومما جاء فيه ((إن للأفكار قوة مغناطيسية ولها تردد وعندها قدرة على الأرسال و الاستقبال مثل الموجات الكهرومغناطيسية ويتم أرسال الأفكار هذه إلى الكون فتنجذب لها مغناطيسياً كل الأشياء التي تشبهها ثم ترجع ثانياً إلى المصدر الذي هو نفس الشخص، وان الإنسان اذا كان إيجابيا فانه يجذب كل خير اليه)).

إن الشارع المقدس علَّم الإنسان أن يكون تفكيره إيجابيا في كل حالاته

ص: 278

حتى عندما يشتد عليه البلاء من خلال إعطائه ثقافة إيجابية توجه سلوكه فانه وعده بالأجر العظيم اذا صبر واحتسب وأن هذا البلاء كفارة لذنوبه التي اجترحها وبذلك يكون فرصة للإنسان حتى يراجع نفسه ويحاسبها ويصلح أخطاءه، ووعده بالفرج وزوال البلاء مع ثبات الأجر، {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} [البقرة : 155، 156]، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق : 2، 3] وبذلك يكون الإنسان سعيداً وهو في اشدَّ حالات البلاء كالذي مرّ به الأنبياء و الأئمة صلوات الله عليهم أجمعين .خذ مثلاً ما جرى في واقعة كربلاء التي مثلّت اشرس جريمة عبر التاريخ لكن أصحاب الأمام الحسين (علیه السلام) كانوا فرحين سعداء لانهم نظروا إلى صورتها الأخرى المتمثلة فيما اعدَّ لهم من الكرامة والمقام المحمود عنده تبارك وتعالى والبركات العظيمة التي تثمرها إلى نهاية الدنيا.

وحينما حاول ابن زياد أن يظهر حقده وسمومه على عقائل النبوة وخاطب العقيلة زينب شامتاً (أرايت صنع الله بأخيك والعتاة المردة من أهل بيتك) قالت (علیها السلام) (ما رأيت إلا جميلاً أولئك قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك أمك يأبن مرجانة) فوصفت ما حصل بانه جميل .

والإمام الكاظم (علیه السلام) في قعر السجون المظلمة والتعذيب وقيود الحديد لكنه كان يرى الجانب الآخر من الصورة ويقول في مناجاته (الهي طالما سألتك أن تفرغني لعبادتك وقد فعلت فلك الحمد) .

ص: 279

وهكذا النبي الكريم يوسف (علیه السلام) يقول {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف : 33] فالسجن مع عذابه ومشقته وضيقه يرى (ع) فيه الصورة الأخرى وهي نجاته من مكائد النسوة وفخوخ الشيطان لإيقاعه في معصية الله تعالى والأمثلة كثيرة .أما من يتعامل مع الأمور و الأحداث بسلبية فانه يكون في شقاء وتعاسة ويكون عيشه منكدا ونحو الأسوأ من دون ان يغيِّر في الواقع شيئاً لان الأحداث جارية شاء أم أبى عن أمير المؤمنين عليه (ع) قال (إنك إن صبرت جرت عليك المقادير وأنت ماجور، وان جزعت جرت عليك المقادير وأنت مأزور)(1)

حكي إن مكتشف الكهرباء اجرى 2000 تجربة على نماذج المصباح الكهربائي قبل أن يصل إلى مراده فسخروا منه وانك أتعبت نفسك وخسرت الكثير في أجراء هذه التجارب الفاشلة فقال : ليس الأمر كذلك فقد استفدت معلومة وهي أن هذه الألفي طريقة للعمل غير منتجة.

تقول احدى النساء أنها كانت أما لطفلين ثم حصلت مشاكل مع زوجها وانفصلت عنه وكانت تشعر بضيق وحزن ومتعبة نفسيا وغاضبة على زوجها لأنه تركها وترك مسؤولية إعالة الأطفال على عاتقها حيث كانت مسؤولة عن دفع إيجار المنزل وفواتير الكهرباء والماء وغيرها وكانت الديون تتراكم عليها فبسبب كل تلك الضغوط كانت تشعر بالحقد والكره الشديد تجاه زوجها وبسبب الضغوط النفسية اصبح ذلك يؤثر على عملها فكانت ترتكب أخطاء في العمل وتتأخر في إنجاز ما هو مطلوب منها في العمل لأنها محطمة ولا تستطيع

ص: 280


1- ميزان الحكمة : 5/ 26

العمل بكفاءة عالية لإنجاز الأعمال المطلوب منها في وظيفتها ولكنها عندما قرات كتاب السر بدأت تغير طريقة تفكيرها وبدأت تنظر إلى الجوانب الإيجابية الموجودة في حياتها حيث قالت إن الجانب الإيجابي الذي أستفدته من زواجي هو الحصول على طفلين جميلين وانها سعيدة بهم وبوجودهم بحياتها ولا تتحمل فكره فقدانهم أو عدم وجودهم بحياتها فعندما بدأت تركز على الأمور الإيجابية والنعم الموجودة عندها في حياتها أصبحت اكثر راحة وأصبحت ممتنة لله وشاكرة لله على النعم الذي انعمها عليها وأصبحت مشاعرها إيجابية وبالتالي تركيزها وكفاءتها في عملها اصبح افضل وإنتاجها في العمل اصبح اكثر وبالتالي بداء راتبها يزداد وبدأت تستطيع تسديد الفواتير ....ولكي يكون الإنسان معطاءاً محّبا للخير صبوراً عند الشدائد متفائلا عليه ان يصلح عقائده وتصوراته ونظرته للحياة أولا لأنها هي التي توجّه سلوكه، لذا ينبغي ان يلتفت إلى أمور:

1-إن كل ما حوله هو خلق الله وان الناس عيال الله تعالى ، عن النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ((الخلقُ كُلُّهم عِيالُ الله عزَّ وجلَّ، فأَحَبُّ خلقِه إليه أنفعُهم لعِيالِه))(1) وفي دعاء الإمام السجاد(ع) برواية أبي حمزة الثمالي (والخلق كلهم عيالك) فلابد أن يكون كريماً معهم رحيماً بهم محبّا لهم مهما كانوا.

2-إن ما يجري هو بقضاء الله وقدره {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة : 51] وما دام الله مولانا وهو الذي

ص: 281


1- أخرجه البزار (2/ 398/ح1949 - كشف الأستار - و البيهقي في شعب الايمان (6/6/ 42-43 ح 7446-7447)

يتولى أمورنا فلا يختار لنا إلا خيرا ولكننا قد لا نفهم ذلك {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة : 216] فلابد من التسليم له و الرضا به لان الاعتراض و السخط له عواقب وخيمة في الدنيا و الآخرة.3-إن الله تعالى يقول (انا عند ظن عبدي بي ان ظن خيرا فله، وان ظن شراً فله)(1) فمن يكون ظنه حسناً ويبحث عن الأمور الحسنة في الحياة فانه سيتحقق له ذلك بأذن الله تعالى

4-إن الدنيا زائلة ولا يستحق أي شيء فيها أن يكون محط الاهتمام إلا ما يقرّب إلى الله تعالى وينفع في الآخرة

5-إن من ينظر إلى الجوانب الإيجابية الحسنة للأمور وان لم تكن كذلك حقيقة يكون سعيدا مرتاح البال وكفى بذلك ثمرة طيبة فالسعادة ليست في تحقيق كل ما تتمنى وتريد بل في كونك في طريق الوصول اليها وفي أجواء العمل من اجل تحقيقها.

6- أما من ينظر إلى الأمور بسلبية فانه يكون في تعاسة وشقاء من دون أن يتغير حاله إلى الأفضل بل إلى الأسوأ.

ص: 282


1- الترغيب والترهيب – صفحة او الرقم :4/ 215

خطاب المرحلة 380 :(ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ)

خطاب المرحلة 380 :(ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ)(1)

ليوم القيامة أسماء عديدة في القرآن الكريم كيوم الدين ويوم الحسرة والندامة ويوم الفصل ويوم الذهول ويوم الزلزلة ويوم الجمع ويوم الورود ويوم النشور ويوم الحشر ويوم البعث ويوم الحساب والصاخّة والطامة الكبرى، وهي أسماء مشتقة من صفات ذلك اليوم المهول وخصائصه وما يجري فيه، ومن تلك الأسماء يوم التغابن، قال تعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ) (التغابن/9).

والغبن ((أن تبخس صاحبك في معاملة بينك وبينه بضرب من الإخفاء))(2) فالبائع إذا أحسّ أنّه باع بأقل من استحقاق الشيء كان مغبوناً، وإذا شعر المشتري أنّه دفع أكثر مما يستحق الشيء كان مغبوناً.

فما هي المعاملة التي سيظهر فيها الغبن يوم القيامة؟ والجواب أنّها الصفقة التي عقدها الله تعالى مع عباده حينما جمعهم في عالم الذر (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) (الأعراف/172) فأخذ

ص: 283


1- من حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من مصلي ديوان الزهراء (علیها السلام) في حي الجامعة في النجف الأشرف يوم 29/رمضان/1434 الموافق 7/ 8/ 2013.
2- المفردات للراغب، مادة (غبن).

تعالى العهد على عباده أن يعبدوه ويطيعوه ولهم جميع ما في الأرض على أن يسيروا وفق منهجه الرباني، ولهم بذلك الجنّة التي عرضها السماوات والأرض.هذه الصفقة أشير إليها في القرآن الكريم كثيراً كقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ) (البقرة/207) (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة/111).

فمن وفى بهذه الصفقة ونال جزاءه الأوفى فهو الفائز، وأمّا المغبون فهو من لم يلتزم بتعهداته في تلك الصفقة وأضاعها وأضاع تلك المبايعة، قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) (آل عمران/77)، روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قوله: (المغبون من باعَ جنّة عليّة المرتبة بمعصية دنيّة)(1) وعنه (علیه السلام): (المغبون من شُغِل بالدنيا، وفاته حظّه من الآخرة)(2) وعنه (علیه السلام): (من باع نفسه بغير نعيم الجنة فقد ظلمها)(3) وعنه (علیه السلام): (المغبون من غبن نفسه من الله)(4) وعنه (علیه السلام): (المغبون من غبن دينه)(5) وعنه (علیه السلام) (إنّ المغبون من غبن عُمَره، وإنّ المغبوط من أنفذ عمره في طاعة ربّه)(6).

ص: 284


1- غرر الحكم/ 1352.
2- غرر الحكم/ 2010.
3- غرر الحكم/ 9164.
4- بحار الأنوار: 77/ 215.
5- ميزان الحكمة: 6/ 357.
6- غرر الحكم/ 3502.

ويزداد فرح المؤمن الفائز وحزن الفاسق والكافر الخاسر المغبون حينما يُعرض عليهما منزلاهما في الجنة والنار، ففي الرواية (في مجمع البيان روى عن النبي ص أنه قال: ما منكم من أحد إلا له منزلان: منزل في الجنة ومنزل في النار، فان مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله)(1) فمن فقد منزله في الجنة يعاني ألمين، ألم العذاب في النار وألم الحسرة على منزله في الجنة وهو ينظر إليه.وقد أشارت سورة التغابن إلى هذين الفريقين بعد وصف يوم القيامة بأنّه يوم التغابن، قال تعالى: (وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (التغابن/9-10).

وقد تقدّم في تعريف الغبن أنّه البخس بضرب من الإخفاء، والخفاء هنا هو ظهور الجزاء يومئذٍ للجميع بشكل لم يتوقعوه ولم يتصوروه قال تعالى بالنسبة للفريق الأول: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة/17) وقال تعالى في الفريق الثاني: (وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) (الزمر/47) فهناك تبدو لهم الأمور مختلفة تماماً عن مقاييسهم في الدنيا (وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ * إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) (ص/ 62-64).

ص: 285


1- تفسير نور الثقلين: ج3/ 532.

هذا الشكل من الغبن واضح، لكن شكلاً آخراً منه يحتاج إلى التفات وتأمّل، وهو أنّ نفس المؤمنين يشعرون بالغبن أيضاً لأنّهم سيكتشفون بعد ارتفاع حجاب الغفلة عن بصائرهم أنّهم فوّتوا على أنفسهم فرصاً عظيمة للطاعة ولو استثمروها لحصلوا على درجة أعلى ومقاماً أرفع وقرب متزايد من رضوان الله تعالى وأوليائه العظام، روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قوله: (من أغبن ممّن باع الله سبحانه بغيره)(1) وغير الله تعالى مطلق يشمل ما يرجوه عامة المؤمنين من نعيم الجنّة كالحور العين ولحم الطير وفواكه ممّا يشتهون.وأشار السيد الشهيد الصدر الثاني (قده) إلى هذا في إحدى رسائله إليّ ((وأمّا الندم فهو للمؤمن لا للكافر، إن الكافر سوف يلهو بآلامه المبرحة في النار وأما المؤمن فسيعض على شفته ندماً من أنّه قضى حياته الدنيا (وهي بيت الطاعة) يطفّر كالقبّرة ولم ينل إلاّ هذا المقدار من الثواب.

إنّ ما ناله مهما كان ضخماً وعظيماً فإنّه مثل قشّة تجاه الدنيا وما فيها أزاء ما يرى من مقامات الأولياء وهذه المقامات تعرض عليه قليلاً ليعرف المؤمن ما فوّته على نفسه، ثمّ تختفي لقلّة تحمله في النظر إليها)).(2)

ومثاله التاجر الذي يملك مالاً كثيراً ونفوذاً واسعاً وفرصاً جيدة للاستثمار ولا يوجد أيّ عائق في طريقه لكنّه يضع أمواله في أمور بسيطة لا تناسب المأمول فإنّه يشعر بالخسارة والغبن، فرأس مال الإنسان في هذه الدنيا عمره أيّاماً وليالي بل ساعات ودقائق لأنّها كلها يمكن أن تستثمر بطاعة ترفع درجته

ص: 286


1- غرر الحكم/ 8083.
2- قناديل العارفين: ص87.

يوم القيامة بدل قضائها في أحاديث فارغة أو لهواً أو فضول أو أي عمل غير مثمر، ففي بعض الروايات أنّ ساعات عمر الإنسان تُعرض عليه على نحو صناديق بأشكال ثلاثة، ساعة الطاعة وساعة المعصية وساعة الفراغ فساعة الطاعة يفرح بها وساعة المعصية يتعذّب بها وساعة الفراغ يندم عليها، في الحديث عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: (ما من ساعة تمرُّ بابن آدم لم يذكر الله فيها إلا حَسِر عليها يوم القيامة).(1)إنّ كل ثانية من حياة الإنسان يمكن أن يحولّها إلى طاعة عظيمة كما لو شغلها بتسبيحة ليغرس الله تعالى له بكل تسبيحة عشرة أشجار في الجنة وفي رواية أخرى شجرة، ففي أمالي الصدوق بسنده عن الصادق (علیه السلام) عن آبائه (ع) قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (من قال سبحان الله غرس الله له بها شجره في الجنة و من قال الحمد لله غرس الله له بها شجره في الجنة و من قال لا اله الا الله غرس الله له بها شجره في الجنة و من قال الله اكبر غرس الله له بها شجره في الجنة فقال رجل من قريش(2) يا رسول الله إن شجرنا في الجنة لكثير قال نعم و لكن إياكم أن ترسلوا عليها نيرانا فتحرقوها و ذلك إن الله عز وجل يقول يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (محمد/33)).(3)

إنّ هذه الطاعة التي قد لا تستغرق أكثر من ثانية واحدة من وقت الإنسان قد

ص: 287


1- كنز العمّال: 1819.
2- لا يخفى على الفطِنْ من هو بقرينة الآية التي استشهد بها النبي (صلی الله علیه و آله) في ذيل الرواية.
3- بحار الأنوار: 93/ 168 ح3.

يكون لها دور خطير عندما تتساوى حسنات الإنسان وسيئاته فيحتاج إلى حسنة واحدة لترجيح كفّة الحسنات، فيتحسّر على ثوان يتمنى لو كان استثمرها في تسبيحة من عمره الكثير الذي أضاعه من دون فائدة.وينبغي الالتفات إلى حالة أخرى من الغبن يشعر بها حتى من استثمر عمره في الطاعة لكنّه لم يستفد من العمر الإضافي الذي يُعطى له لاكتساب المزيد من الحسنات، وهو الذي أشير إليه في الحديث الشريف (إذا مات المرء انقطع عمله إلا من ثلاث: علم يُنتفع به، صدقة جارية، ولد صالح يدعو له)(1) فيستطيع الإنسان بفضل الله تبارك وتعالى أن يستمر في اكتساب الحسنات حتى بعد وفاته بأن يصبح من أهل العلم الذين يخلّفون أثراً نافعاً أو يؤسس مشروعاً مباركاً يكون صدقة جارية كمسجد أو شقق سكنية للفقراء أو طلبة العلم أو مدرسة دينية أو مركزاً صحيّاً أو يجري شبكة ماء.

والمصدر الثالث هو الولد الصالح بأن يتزوج امرأة صالحة ويتعب نفسه في تربية أولاده ليكونوا صالحين ثمّ يؤسس كلّ منهم أسرة صالحة وهكذا يتكاثرون وفق متوالية هندسية على مرِّ الأجيال أي أنّ الاثنين يصبحون أربعة والأربعة ستة عشر بل أكثر بفضل الله تبارك وتعالى، وإذا به بعد أجيال يكون من ذريته الآلاف من الصالحين وتستمر حسناته بالزيادة، فاغتنموا هذه الفرص بفضل الله تعالى ولطفه.

ص: 288


1- شرح أصول الكافي، ج6، ص137.

خطاب المرحلة 381 :سلامة الدين في اعتزال الناس

خطاب المرحلة 381 :سلامة الدين في اعتزال الناس(1)

الإسلام دين الاجتماع والتواصل ومظاهر ذلك كثيرة كالحج وصلاة الجماعة والجمعة ومنها تشريع العيد ففي دعاء الإمام السجاد (علیه السلام) في وداع شهر رمضان عن يوم الفطر (الذي جعلته... لأهل ملتك مجمعاً ومحتشدا) وفي الرواية عن الإمام الرضا (علیه السلام): (إنما جُعل يوم الفطر العيدَ ليكون للمسلمين مجتمعاً يجتمعون فيه ويبرزون لله عز وجل فيمجدونه على ما منَّ عليهم، فيكون يومَ عيدٍ ويوم اجتماع)(2)، وهو دين إعمار الحياة المثمرة وبناء الأمة الصالحة الوسط الشاهدة على الناس جميعاً.

مضافاً إلى أن وظائف كثيرة لا يمكن القيام بها إلا بالتواصل مع الناس كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتكافل الاجتماعي وتعليم أحكام الدين.

وورد النهي عن الترهّب وترك إعمار الحياة كقوله (صلی الله علیه و آله): (ليس في أمتي رهبانية)(3)، ويشرح (صلی الله علیه و آله) معناها لعثمان بن مضعون عندما أراد الترهب: (إن

ص: 289


1- الخطبة الأولى التي ألقاها سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) لصلاة عيد الفطر السعيد يوم الجمعة عام 1434 الموافق 9/آب/2013 م.
2- من لا يحضره الفقيه: 1/ 522، ح 1485.
3- بحار الأنوار: 70/ 115 عن الخصال للصدوق: 1/ 138.

ترهّب أمتي الجلوس في المساجد انتظاراً للصلاة) فيعطي (ع) للرهبانية معنى اجتماعياً واسعاً خلافاً للمعروف عنها .ويخاطب أمير المؤمنين (علیه السلام) العلاء بن زياد الحارثي لما اعتزل الحياة وترهب: (يا عُدَيَّ – تصغير عدو- نفسه: أترى أن الله أحلّ لك الدنيا وهو يكره أن تأخذ منها؟)(1).

في مقابل ذلك توجد روايات كثيرة حثّت على الانفراد والعزلة عن الناس وذكرت فضل العزلة والآثار المباركة فيها كقول رسول الله (صلی الله علیه و آله): (العزلة عبادة) وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (في الانفراد لعبادة الله كنوز الأرباح) وعنه (علیه السلام): (ملازمة الخلوة دأب الصلحاء) وعنه (علیه السلام): (الوصلة بالله في الانقطاع عن الناس)(2) وعن الإمام الرضا (علیه السلام): (يأتي على الناس زمان تكون العافية فيه عشرة أجزاء، تسعة منها في اعتزال الناس وواحدة في الصمت)(3).

وهنا قد يثار إشكال منشأه وجود التنافي بين التوجيه بالعزلة والمنحى الاجتماعي لدين الإسلام؟

ويجاب هذا الإشكال بأكثر من مستوى:

الأول: أن نضع هذه الأحاديث في موضعها الصحيح ولا نأخذها على إطلاقها، ونتعرف على المخاطبين بها وحالاتهم، ومن تلك الحالات التي خاطبتها هذه الأحاديث المحبِّبة للعزلة:-

ص: 290


1- نهج البلاغة:
2- راجع مصادرها في ميزان الحكمة: 6/ 17.
3- سفينة البحار: 6/ 233 عن كمال الدين.

1-وهي أوضحها: عندما يكون الاختلاط بالناس سبباً للوقوع في المعاصي فإن المجالس لا تخلو غالباً من المحرمات بل الكبائر، وعلى رأسها الغيبة التي جعلها الناس فاكهة المجالس، وهي من الموبقات التي توجب إحباط العمل وذهاب الدين، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (الغيبة أسرعُ في دين الرجل المسلم من الأَكْلَة في جوفه) وعنه (صلی الله علیه و آله): (إن الرجل ليؤتى كتابه منشوراً فيقول: يا ربِّ، فأين حسناتُ كذا وكذا عملتُها ليست في صحيفتي؟ فيقول: محيت باغتيابك الناس)(1) ووصفتها بعض الروايات بالنار التي يرسلها على مغروساته – وهي الأعمال الصالحة - فيحرقها.

وينبغي الالتفات إلى أن المجالس لا تختص باللقاءات المباشرة بل تشمل اليوم ما يحصل من حوارات ولقاءات عبر مواقع التواصل الاجتماعي وتؤدي أحياناً إلى أمور محرمة كأحاديث الحب والغرام مع الجنس الآخر من دون مسوِّغ شرعي، وبعضهم يستفتي عن جواز تبادل هذه الأحاديث بين امرأة متزوجة ورجال أجانب من دون علم الزوج ويسأل هل هذا جائز؟ فتصوروا الانحدار والتسافل!.

فهذه الموبقات وأمثالها من نتائج الاختلاط غير المنضبط، لذا كان في العزلة الحفاظ على الدين وعلى ما حصل عليه من الطاعات. عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (العزلة سلامة) وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (لا سلامة لمن أكثر مخالطة الناس) (سلامة الدين في اعتزال الناس) (من اعتزل سَلِم ورعُه)

ص: 291


1- ميزان الحكمة: 6/ 506.

(مداومة الوحدة أسلم من خلطة الناس)(1)، ولذا قيل إن ((في العزلة صيانة الجوارح وفراغ القلب وسلامة العيش وكسر سلاح الشيطان والمجانبة من كل سوء وراحة الوقت، وما من نبي ولا وصي إلا واختار العزلة في زمانه إما في ابتدائه وإما في انتهائه))(2).2-عندما يكون الاختلاط مع الناس والحضور في مجالسهم مسبباً لتشوش الفكر بالأحاديث الفارغة المضيِّعة للوقت وتسمى مجالس البطّالين، وقلنا أنها تشمل ما يعرَف اليوم بالحوار عبر الإنترنت والرسائل القصيرة ومكالمات الهواتف المحمولة، وأغلب لقاءات الناس ومجالسهم ومحادثاتهم من هذا القبيل، فكل ما يدور فيها هذر من الكلام وعبث ولهو باطل كأحاديث الألعاب الرياضية أو الشؤون العائلية الخاصة بالناس الآخرين.

فإذا تشوش الفكر بهذه الأحاديث فإنه لا يكون مؤهلاً للإقبال على الله تبارك وتعالى والأنس بذكره، عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (من انفرد عن الناس أنس بالله سبحانه) (الانفراد راحة المتعبدين) وعن الإمام الصادق (علیه السلام): (لو ذُقتَ حلاوة الوحدة لاستوحشت من نفسك) ومن حِكم لقمان: (إن طول الوحدة أفهم للفكرة، وطول الفكرة دليل على طريق الجنة).لذا كان اعتياد هذه المجالس سبباً للحرمان من القرب الإلهي كما في دعاء الإمام السجاد (علیه السلام) في ليالي شهر رمضان: (أو لعلك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني أو لعلك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني، أو لعلك رأيتني آلف مجالس

ص: 292


1- ميزان الحكمة: 6/ 18.
2- سفينة البحار: 6/ 233.

البطالين فبيني وبينهم خلّيتني)، وفي وصية الإمام الكاظم (علیه السلام) لهشام بن الحكم: (الصبر على الوحدة علامة قوة العقل، فمن عقل عن الله اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها، ورغب فيما عند الله، وكان الله أنيسه في الوحشة، وصاحبه في الوحدة، وغناه في العيلة، ومُعِزَّه من غير عشيرة).3-عندما لا يكون الفرد قادراً على أداء حق الاختلاط مع الناس ومراقبة ما يجري فيها ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فمثل هذا يكون الأفضل له تجنب الاختلاط إلا بما هو ضروري حتى لا يكون من الساكتين على الباطل والراضين بالظلم، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (إن قدرت أن لا تخرج من بيتك فافعل، فإن عليك في خروجك أن لا تغتاب ولا تكذب ولا تحسُد ولا ترائي ولا تتصنع ولا تداهن) وعنه (علیه السلام) قال: (أقلُّ ما يجد العبد في الوحدة الراحة من مداراة الناس).

الثاني: أن نفهم من معنى العزلة غير المعنى المتعارف وهو الانكفاء على الذات وترك الاختلاط بالناس فلا يرد الإشكال أصلاً، وإنما يراد باعتزال الناس مباينتهم في السلوك والأفعال المخالفة للشريعة، فلا مانع من أن يعيش المؤمن وسط المجتمع بكل فئاته بشرط أن يكون متميزاً بعقيدته وأخلاقه وسلوكه وتقييمه للأمور عن أهل المعاصي ولا يتأثر بشيء من انحرافاتهم أو يداهن أو يجامل أو يتنازل عن شيء، وبثباته ومبدئيته سوف يكون موقفه قوياً مؤثراً في الآخرين وهادياً ومصلحاً لهم.

وهذه المباينة في العقيدة والسلوك مع أهل الباطل جعلها الله تعالى في القرآن الكريم علامة فارقة لسلوك الأنبياء (ع) مع مخالفيهم والمتمردين

ص: 293

عليهم، قال تعالى: [بِسمِ اللهِ الرَحمَنِ الرَحِيمِ، قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ] (الكافرون: 1- 3) وقال تعالى: [وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً، فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاً جَعَلْنَا نَبِيّاً] (مريم: 48، 49).إن الاختلاط وعدم التمايز في الرؤية والتوجهات والسلوك بين المؤمن وغيره خطير جداً لأنه يؤدي لتشويه صورة الدين وتمييعه وتضييع هويته وانحراف أحكامه حتى يصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً والأخطر من ذلك أنه يعطي مشروعية للانحراف والفساد بعد أن اختلط الحق بالباطل ولم يبق مائزٌ بينهما.

خذ مثلاً سلوك السياسيين فهل تجد فرقاً بين من يرفع شعاراً إسلامياً ويعتبر حزبه إسلامياً وبين الآخرين؟ فإذا لم تجد فرقاً من حيث الفساد والاستئثار بأموال الشعب والأنانية وعدم الاكتراث بحال الشعب وعدم الاهتمام بإعمار البلد وازدهاره، فماذا سيبقى في يدك من أدوات لإقناع المجتمع بمشروع الإسلام ونظامه في سياسة الأمة وإدارة شؤون البلاد؟.

وهكذا على صعيد السلوك الشخصي إذا كان (المتدين) يكذب ويخلف الوعد ويغشّ ويعتدي على حقوق الآخرين ويفتري عليهم ويكيد لهم فكيف سيحب الناس التدين والالتزام بالشريعة؟.

وللعلم فإن أهل الباطل يحاولون جاهدين لاستدراج أهل الحق حتى يكونوا مثلهم، كما لو وُجد موظف نزيه مثابر في عمله يخدم الناس بإخلاص فإنهم

ص: 294

يقومون بكل وسائل الضغط والترغيب والترهيب ليتخلى عن مبدأيته ويصبح مثلهم، ليعطوا المبررات لأنفسهم ويتخلصوا من محاسبة الضمير وليصبغوا أفعالهم بالشرعية، فالعزلة والاعتزال الذي حثت عليه الآيات الكريمة والروايات الشريفة يعني إبقاء الخط الفاصل بين المنهجين والسلوكين والرؤيتين.الثالث: أن يكون الاعتزال بمعنى الانقطاع عما سوى الله تعالى وعدم التمسك بأي سبب من المخلوقات، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: (لا يكون العبد عابداً لله حق عبادته حتى ينقطع عن الخلق كلهم إليه فحينئذٍ يقول: هذا خالص لي، فيقبله بكرمه)(1).

فذِكرُ الله تعالى والتمسك بالنبي وآله الكرام (صلوات الله عليهم وسلامه) وولاية أهل البيت (علیهم السلام) هو الكهف الذي نكون فيه دائماً ونأوي إليه باستمرار وان كنّا في أوساطهم ، قال تعالى: [وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً] (الكهف:16).

روى لي السيد الشهيد الثاني (قدس سره) هذه القصة ويبدو أنها حصلت له بعد معاناة اعتقاله عام 1974 قال: ((إنني يوماً فتحت القرآن الكريم لأجد فيه منزلتي أمام الله سبحانه أو قل – بالتعبير الدنيوي- (رأي) الله فيَّ، فخرجت هذه الآية من سورة الكهف: [وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً]، إن كل هذه الآية مفهومة لي بحسب حالي يومئذٍ إلا قصة (الكهف) الذي يكون من المطلوب أن آوي

ص: 295


1- بحار الأنوار: 70/ 112 عن عدة الداعي: 233.

إليه، أي كهفٍ هذا؟ وذهبت إلى الحرم العلوي (على ساكنها السلام) عسى أن ينفتح لي هناك عن هذا المعنى، وبدأت بزيارة (أمين الله) حتى وصلت إلى قوله (علیه السلام): (اللهم فاجعل نفسي مطمئنة بقدرك راضية بقضائك.. إلى قوله: يا كريم) وقد حصل لي في تلك اللحظة (حدس) قوي بأن الكهف الذي يجب أن أدخله هو هذا، أي أن تصبح نفسي على هذه الأوصاف وتجانب ما سواها، وقد عرضت ذلك على (مولاي) فأقرّه وقال بصحته))(1).وفي ضوء ما تقدم يندفع الإشكال وأن المعاشرة مع الآخرين أفضل من العزلة إذا كانت مثمرة ونافعة ويؤدي فيها الفرد وظائفه ولا تستدرجه المجاملات إلى الوقوع في المعاصي؛ لأن الاختلاط مع الآخرين يوفر فرصاً عظيمة للطاعة كقضاء حوائج الناس وإدخال السرور عليهم وهدايتهم وإرشادهم و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحو ذلك.

روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على اذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على اذاهم) وقال (صلی الله علیه و آله) لرجل أراد الجبل ليتعبد فيه: (لصبرُ أحدكم ساعة على ما يكره في بعض مواطن الإسلام خير من عبادته أربعين سنة)(2)، وعليه أن يكون يقظاً ملتفتاً حتى لا يتسبب اختلاطه مع الناس بالوقوع في المعاصي أو تشويش فكره بفضول الكلام، وأن يلتزم بمبادئه والأفعال الموافقة للشريعة ويعتزل سلوكياً الآخرين ويحذر من مناهجهم ورؤيتهم.

ص: 296


1- قناديل العارفين: 153.
2- نقلها عن مصادرها في ميزان الحكمة: 6/ 19.

أما من لا يملك الشجاعة والمعرفة والقدرة على أداء وظائفه مع الآخرين فالحل المناسب له تقليل اختلاطه بالناس والاقتصار على مقدار الضرورة وأن يحرص على مجالسة ومحادثة من يقرّبه إلى الله تعالى، روي الإمام الصادق (علیه السلام) عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: (قالت الحواريون لعيسى (ع): يا روح الله، مَن نجالس؟ قال: من يذكّركم الله رؤيته ويزيد في علمكم منطقه ويرغّبكم في الآخرة عمله)(1)وفيه إشارة إلى أن من لم تستفد منه هذه الأمور فلا تضيّع وقتك(2)وعمرك الثمين بمجالسته أو محادثته عبر الإنترنت وأجهزة الاتصال ومصاحبته، فكيف بمن تكون مجالسته سبباً لعكس هذه الصفات كما هو حال أغلب الناس مع الأسف؟ لذا ورد في بعض الأحاديث: (فرَّ من الناس فرارك من الأسد)(3).إن المؤمن له أنس بربّه لا يستوحش معه ولا يحتاج إلى غيره إلا بمقدار الضرورة، وينفر من مخالطة الناس أزيد من ذلك ومجاملتهم ومداهنتهم، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (ما من مؤمن إلا وقد جعل الله له من إيمانه أنساً

ص: 297


1- سفينة البحار: 6/ 235.
2- عن الإمام الباقر، عن آبائه (ع) في وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي ع قال: (يا علي من لم ينتفع بدينه ولا دنياه فلا خير لك في مجالسته..) مكارم الأخلاق، وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام).
3- في مصباح الشريعة: روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: (قال عيسى بن مريم (علیه السلام): اخزن لسانك لعمارة قلبك، وليسعك بيتك وفرّ من الرياء وفضول معاشك، وابك على خطيئتك، وفرّ من الناس فرارك من الأسد والأفعى، فإنهم كانوا دواء فصاروا اليوم داء، ثم الق الله متى شئت) نقلاً عن بحار الأنوار: 67/ 110.

يسكن إليه حتى لو كان على قلّة جبل لم يستوحش)(1) وروي عنه (علیه السلام) قوله: (خالط الناس تخبرهم ومتى تخبرهم تَقْلِهم – من القلى أي البغض والاجتناب-). فترجيح الاختلاط او العزلة وتحديد مقدارهما يدور مدار ما يقربّك الى الله تبارك وتعالى ويجنّبك معصيته ولا يحرمك من طاعته .

وعلى أي حال فإن الاعتزال فترة محددة أمر مفيد، فقد كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يعتزل الناس في غار حراء في مكة، أما في المدينة فقد كان يطوي فراشه ويشد مئزره للعبادة في العشرة الأواخر من شهر رمضان.

ولأجل تحقيق هذا النقاء وتصفية الباطن لله تعالى شُرّع الاعتكاف في المساجد، وقد وردت الأحاديث في فضله وآثاره المباركة.

ونثني هنا على المبادرة التي يقوم بها جمع كبير من الشباب وطلبة الجامعات منذ عدة سنوات بإقامة العشر الأواخر من شهر رمضان إلى جوار أمير المؤمنين (علیه السلام) ويُنظَّم لهم برنامج عبادي وتثقيفي مفيد بفضل الله تبارك وتعالى.

ص: 298


1- الحديث وما بعده في بحار الأنوار: 70/ 111 عن عدة الداعي: 232.

خطاب المرحلة 382 :أمير المؤمنين (علیه السلام) ومكر طلاب الزعامات

اشارة

خطاب المرحلة 382 :أمير المؤمنين (علیه السلام) ومكر طلاب الزعامات(1)

كان من أقوى الأسلحة التي فتكت بجيش أمير المؤمنين (علیه السلام) ومجتمعه وأوهنت دولته وأضعفتها هو مكر الاعداء وخُدعهم حتى عبّر عنه بقاصم الظهر قال (علیه السلام) (ما قصّم ظهري إلا رجلان : عالم متهتك وجاهل متنسك ,هذا ينفّر عن حقه بهتكه ,وهذا يدعو الى باطله بنسكه)(2) ومحل الشاهد هو الاول وهو الذي عنده علم وفكر وفطنة إلا انه يستخدمها في المكر وخداع الناس وإبعادهم عن الحق.

وقد واجه الامام (ع) الوان المكر والخداع من اول لحظة لتحملّه مسؤولية الإمامة وقيادة الأمة بعد وفاة رسول الله(صلی الله علیه و آله) عندما نفى زعماء الانقلاب موت رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهددوا بالقتل كل من يقول بذلك حتى لا تتوجه الأمة الى الخليفة الشرعي وليكسبوا الوقت حتى يعدّوا العدّة ويهيئوا الأمور لمن يريدون وهذا ما حصل، وقد تناولته في خطاب سابق.

والى أيام خلافته وتصدّيه لشؤون الأمة حين واجه العتاة والدهاة والماكرين كمعاوية وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة كخدعة رفع المصاحف في

ص: 299


1- الخطبة الثانية التي ألقاها سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) لصلاة عيد الفطر السعيد يوم الجمعة عام 1434 الموافق 9/آب/2013 م.
2- غرر الحكم /9665

معركة صفّين التي شقّت جيش الإمام (علیه السلام) فنشأت فرقة الخوارج، وكان (ع) يلام على انه ليس بمستوى دهائهم وانه غير مؤهل لقيادة الدولة لان الدهاء والخداع من مقومات السياسة وتدبير السلطة ,فيتأسف (ع) لهذه الانتكاسة في الأمة وانقلاب الموازين في تصوراتها، قال (علیه السلام) (ولقد أصبحنا في زمانٍ قد اتخذ أكثر أهله الغدر كَيساً – أي الفطنة والذكاء -، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة، ما لهم - قاتلهم الله - قد يرى الحُوّل القُلّب – وهو البصير بتحولات الأمور وتقلبيها - وجه الحيلة , ودونها مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين)(1) فيصف نفسه بأنه عارف بالأمور ووجوهها وعواقبها ويعرف كيف يحقق مراده ويصل الى مطلوبة لكن كثيراً من تلك الوسائل مخالفة لأوامر الله تعالى ,فيتركها لله تعالى وهو قادر عليها ,لكن خصومه لا يتورعون في دينهم وليس عندهم تقوى تحدّد له بوصلة سلوكهم فيقتحمون تلك الوسائل الشيطانية .ومن كلام له (ع) في نفس السياق قال (علیه السلام) (والله ما معاوية بأدهى منّي ، ولكنه يغدرُ ويفجُرُ . ولولا كراهيةُ الغدر لكنت من أدهى الناس . ولكن كلّ غَدرة فَجرة وكلّ فَجرة كَفرة ، ولكلّ غادرٍ لواءٌ يُعرف به يوم القيامة . والله ما أُستغفل بالمكيدة ولا أُستّغمز بالشديدة)(2)

فالإمام (علیه السلام) وإن كان لا يستعمل الدهاء والمكر لأن فيه سخط الله تعالى

ص: 300


1- نهج البلاغة : 115 الخطبة (41)
2- نهج البلاغة : 432 الخطبة (198)

إلا ان ذلك لا يعني أنه مغفّل تنطلي عليه المكائد ولا يلتفت اليها ,ولا انه ممن يضغط عليه ويستضعف بالقوة ليغيّر مبادئه التي يؤمن بها .ويعلل الإمام (علیه السلام) في الخطبة السابقة سبب رفضه لتلك السياسات بقوله (ولا يغدِرُ من عَلِم كيف المرجِع) أي أن من علم أن مآل الأنسان إلى الموت والدنيا إلى الفناء ثم يحشر ليحاسب على أعماله فانه لا يقدم على ما يضّره في اخرته.

وهذا التباين الذي ذكره الإمام (علیه السلام) بين سياسته وسياسة خصومه يمثّل المفارقة الدائمة بين المنهجين ولا يختص بزمان دون زمان حتى زماننا الحاضر ,واليكم بعض الأساليب الماكرة التي تدَّبر اليوم لخداع الشعوب والسيطرة عليها والتحكم فيها وسوقها الى ما يريده الحكام:

1-ما يسمى بالمصطلح (ركوب الموجة) بان يستغل السياسيون مطالب حقيقية ومشروعة للشعب فينادي بها لكسب الجماهير اليه والتقوّي بهم للضغط على خصومه لتحصيل مكاسب اكبر سواء كانوا داخل الحكومة او خارجها، كمطلب تحسين الخدمات وإيجاد وظائف للعاطلين او معالجة الخروقات الأمنية او الغاء الرواتب التقاعدية الباهظة للبرلمانيين وأمثالهم وهي مطالب مشروعة نؤيدها وندعمها لكن جهات شبابية مجهولة تحاول تحريك الناس تحت عنوان هذه المطالب لأغراض معينة على راسها السيطرة على توجيه المجتمع والتحكم بحركته وانتزاع قيادته لتكون بيد جهات خفية تعمل على مواقع التواصل الاجتماعي وبدعم داخلي وخارجي مالياً واعلامياً وسياسياً وليضغطوا بذلك على الجهات الفاعلة على الارض حتى تسير في ركابهم .

ص: 301

2-الهاء الشعوب بالألعاب والمتع واللهو والعبث لأشغالهم عّما يجري من فساد وظلم وطغيان وتحويل انتباههم الى اللهو واللعب بدلاً من القضايا الحيوية والاهداف الحقيقية والحركة الواعية البناءة الى ترفض ظلم وفساد اولئك الحكام ,وهذه السياسة يسمونها (استراتيجية الالهاء)(1) وتشمل سيلاً لا ينتهي من الالعاب والبطولات والمسابقات والمهرجانات ونحو ذلك.

3-خلق المشاكل وافتعال الازمات لتمرير سياسات معينة تكون مرفوضة في الوضع الطبيعي مثلاً يريدون تخفيض دعم السلع الاساسية او الضمان الاجتماعي او الخدمات العامة كالصحة والتعليم فيخلقون ازمات مالية ليقنعوا الشعب بضرورة اتخاذ هذه الاجراءات.

او يريدون مثلاً وضع الشعب تحت المراقبة والتجسس عليه وجمع المعلومات التفصيلية عنه وتقييد حرياته وحركته، او اعتقال وتصفية المعارضين، فيفتعلون مشكلة أمنية كتفجيرات مثلاً او اظهار اعترافات شبكة تجسس وهمية وهكذا مما يجعل اتخاذ تلك الاجراءات أمراً مقبولاً وتسمى هذه السياسة (ابتكر المشاكل ثم قدّم الحلول)

4- استراتيجية التدرّج :باعتماد التدريجية في تطبيق التكتيكات حتى يصلوا الى النتيجة التي يريدونها ولو فعلوها مباشرة لأحدثت ضجة وثورة عارمة كبعض الاجراءات الاقتصادية والاجتماعية ,وقد تطول المدة او تقصر بحسب أهمية القضية مثلاً يريدون تقليل الرواتب فيتركون حالة البطالة تزداد

ص: 302


1- بعض هذه الكلمات لخصّها أحد الاخوة الواعين من كتاب (أسلحة صامتة لحروب هادئة) لعالم الاجتماع الأمريكي (افرام نعوم تشومسكي)

ويستقدمون عمالة اجنبية رخيصة فيرضى المواطن بأقل ما يمكن.5- استثارة العاطفة بدل الفكر لتعطيل حالة الوعي والتأمل والتحليل وتمييز ما هو عقلاني عن غيره فيفقد الأنسان قدرته على النقد البنّاء الذي يقود عملية الاصلاح كما ان استعمال المفردات العاطفية يسمح بالمرور الى اللاوعي حتى يتم زرعه بأفكار ورغبات ومخاوف ونزعات او سلوكيات.

6-إبقاء الشعب في حالة جهل وحماقة بطريقة يكون غير قادر على استيعاب الطرق المستعملة للتحكم به واستعباده بان تكون نوعية التعليم المقدّم للطبقات السفلى هي النوعية الافقر حتى تبقى الهوّة المعرفية التي تفصل الطبقات السفلى عن العليا غير مفهومة من قبل الطبقات السفلى.

7- التعويض عن الثورة ورفض الظلم والفساد بالإحساس بالذنب بجعل الفرد يعتقد انه المسؤول الوحيد عن تعاسته وان سبب مسؤوليته تلك هو نقص في قدراته وقابلياته او تقصير في جهوده فيقوم بامتهان نفسه بدل التحرك للتغيير والاصلاح.

ولا يخفى عليكم سريان بعض هذه الاساليب الى الشعائر الدينية وهو ما نبهنا عليه في خطابات سابقة.

هذه نماذج من وسائلهم لترويض الشعوب وتسييرها في ظل الديمقراطيات الشكلية مستفيدين من ماكنة إعلامية مؤثرة وتمويل ضخم مصدره ما سرقوه من أموال هذه الشعوب المغلوبة على أمرها.

وأما المكر المستخدم لتحصيل المواقع الدينية المقدّسة فهو لا يقل دهاءاً عن هذه ويقترب من جملة منها كالذي ذكرناه من فعل الانقلابيين بعد رسول

ص: 303

الله (صلی الله علیه و آله) او ما تقوم به بعض الجهات المتنفذّة بصناعة الزعامة التي يريدون ويسوّقونها الى الاتباع والمريدين الذين لا يتمكنون من المناقشة والتأمل لطول سياسة التجهيل المتبعة معهم ولأنهم اوهموهم بأن في ذلك خروجاً عن الدين ونحو ذلك فيسلّمون بالنتيجة وهذه أخطر حالات المكر التي تتعرض لها الأمة وهي راضية بحالها مستسلمة للأغلال التي كبلّوها بها ولا تسمع الى العلماء المخلصين العاملين الواعين.

ص: 304

بيان تأبين في ضحايا تفجير سبع البور

بيان تأبين في ضحايا تفجير سبع البور(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة/155)

نعزي أنفسنا وجميع المؤمنين باستشهاد ثلة منهم وهم يؤدّون صلاة العشائين في هذه الليالي الشعبانية المباركة، عندما استهدفهم مجرم أثيم بتفجير انتحاري.

إنّ فقد هؤلاء الأحبة وإن كان مؤلماً محزناً إلاّ أنّ التجارب أثبتت أنّ هذه الدماء مباركة ومعطاء، وأنّها تساهم أكيداً في بقاء شجرة الإسلام وولاية أهل البيت (علیهم السلام) مورقة.

لقد أصبح العالم المتحضّر اليوم يعرف جيداً الطبيعة الوحشية لمنفذّي هذه الجرائم والإتّجاه الفكري المتحجّر والمتخلّف الذي ينتمي إليه هؤلاء ويغذّيهم بفتاوى التكفير ويموّل إرهابهم الأعمى، وأصبح يسمّيهم (آكلي لحوم الموتى).

إن الوفاء لهذه الدماء الزكيّة يقتضي المضي بثبات على نهج هؤلاء الأبطال الذين لم يتردّدوا ولم يتقاعسوا عن العمل الديني المبارك وإعلاء راية أهل البيت (علیهم السلام) مع علمهم أنّ منطقتهم محاطة بالإرهابيين، وإنّ استهدافهم متوقّع في أيّ لحظة، لكنّهم كانوا متألّقين في عملهم دؤوبين على إقامة الشعائر الدينية

ص: 305


1- نشر في العدد (129) من صحيفة الصادقين الصادر في يوم الثلاثاء 29 شعبان 1434 المصادف 9 تموز 2013.

خصوصاً تنظيم الزيارات الأسبوعية لروضة الإمامين العسكريين (ع) المطهّرة لرفع الغربة عن هذه البقعة المباركة وإدخال السرور على قلب مولانا الإمام المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه).إنّ عزائنا وسلوتنا هو في الدرجات الرفيعة التي يعطيهم الله تبارك وتعالى وهو يختارهم للقائه في مكانٍ مبارك وحالٍ مبارك ووقت مبارك فطوبى لهم وحسن مآب.

ونسأل الله تعالى أن يلهم ذويهم والمفجوعين بهم الصبر والسلوان وأن يمنَّ على الجرحى والمصابين بالشفاء العاجل والأجر الجزيل الذي وعد به المجاهدين في سبيله إنّه وليّ النعم.

محمد اليعقوبي – النجف الأشرف

13 شعبان 1434

23/ 6/ 2013

ص: 306

خطاب المرحلة 383 :(الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ)

خطاب المرحلة 383 :(الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ)(1)

بالأمس كان هنا وفد من المصلين في جامع الرحمن في منطقة سبع البور شمال بغداد التي استهدفها تفجير انتحاري مجرم(2) أثناء إقامة صلاة العشاءين فاستشهد (15) بينهم إمام المسجد وأخواه وجرح (25)، وكان مع الوفد عدد ممن أصيبوا في الحادث وقد أشاروا في حديثهم إلى أنّ عدد المصلين ازداد بعد هذا الحادث المروِّع، كما ازداد عدد السيارات التي تتوجه أسبوعياً من المنطقة لزيارة الإمامين العسكريين ورفع الغربة عن روضتهما المطهرة في سامراء.

ومن لطيف الصدف أن تكون زيارتهم في يوم ذكرى واقعة مشابهة حصلت في زمن النبي (صلی الله علیه و آله) تسمى (حمراء الأسد) بعد معركة اُحُد بيوم أو أكثر وهي غزوة لا يعرف تفاصيلها إلاّ من ندر، وفيها درس ينطبق على الوفد الزائر وعلى واقعنا المعاصر وهو من دروس واقعة اُحُد وتداعياتها.

وقد تضمنت سورة آل عمران في القرآن الكريم دروساً ومواقف وعبر من

ص: 307


1- من حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع موكب السراج المنير من القرية العصرية في الناصرية يوم 17/شوال/1434 المصادف 25/ 8/ 2013.
2- وقع الحادث يوم السبت 12/شعبان/1434 المصادف 22/ 6/ 2013 وقد أصدر سماحة المرجع (دام ظله) البيان المتقدم عن الحادث.

معركة (اُحُد) التي عصى فيها بعض المسلمين أوامر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وركنوا إلى الدنيا فتحولّ النصر الذي تحقق على يد أمير المؤمنين (علیه السلام) في بداية المعركة إلى هزيمة للمسلمين فاستشهد (70) على رأسهم حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وعاد المشركون متجهين إلى مكة، لكنّهم تلاوموا في الطريق بأنّهم لم يقضوا على النبي (صلی الله علیه و آله) ولا سيطروا على المدينة لاستئصال الدين الجديد فقرروا العودة باتجاه المدينة.فنزل الوحي على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأخبره بعزم قريش وأن تكليفه الخروج بمن معه لمواجهتهم وإراءتهم أن ما حلّ بهم يوم اُحُد لم يضعف عزيمتهم ولم يُقلل من قوّتهم واشترط أن لا يخرج معه إلاّ من شهد اُحُداً، وكانوا مثخنين بالجراح مفجوعين بأحبتهم ومهزومين معنوياً، فاستجابوا لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وخرجوا معه لملاقاة قريش المزهوة بالانتصار والتي تفوقهم عدة وعدداً وأعطى أبو سفيان أموالاً لبعض القوافل المتجهة إلى يثرب ليخوِّّف المسلمين ويرعبهم وأنّ قريش قد جمعت لكم الجموع لكنّهم أصرّوا على المضي مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقالوا: (حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران/173).

روى في الدرّ المنثور ((أنّ رجلاً من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الأنصار كان شهد اُحُداً قال: شهدتُ مع الرسول (صلی الله علیه و آله) اُحُداً، أنا وأخٌ لي فرجعنا جريحين، فلما أذّن رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالخروج في طلب العدو، قلت لأخي أو قال لي: تفوتنا غزوة مع رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟ مالنا من دابة نركبها وما منّا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) وكنت أيسر جرحاً منه، فكنت إذا غُلِب حملته عقبة ومشى عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون، فخرج رسول الله

ص: 308

(صلی الله علیه و آله) حتى انتهى إلى حمراء الأسد وهي من المدينة على ثلاثة أميال فأقام بها ثلاثاً ثم رجع إلى المدينة)(1) لأن أبا سفيان لما علم بخروج النبي (صلی الله علیه و آله) وأصحابه الموتورين في اُحُد خشي أن يقابلهم وهم قادمون للانتقام من قريش، مضافاً إلى شخصٍ ممن أسلم حديثاً لكنه لم يعرف أبو سفيان بإسلامه توجّه إلى أبي سفيان وحذّره من ملاقاة المسلمين لأنهم خرجوا عن بكرة أبيهم لينتقموا من قريش وتسمى هذه الغزوة (حمراء الأسد) باسم الموضع الذي مكث فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله) منتظراً قدوم قريش.وإنما ذكرتُ ملخص الواقعة لأن القليل ممن يعرفها، ولا شك أن معرفتها توفّر بيئة لفهم الآيات المتعلقة بها ليستطيع تدبّرها وأخذ الدرس منها، قال تعالى (الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ) وهم من شاركوا في اُحُد وأصيبوا لكنهم استجابوا لدعوة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وخرجوا معه (مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ) وهو القتل والجرح والآلام في معركة اُحُد (لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) فالقبول لا يكون إلا من الذين اتقوا والذين هم محسنون: (الذين قال لهم الناس) وهم من بعثهم أبو سفيان لإرعاب أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) وهم قريش (فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) وكان هذا دليل نجاحهم في الاختبار وصحة إيمانهم (فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ) وهو الأجر العظيم الذي ذكر آنفاً وانتصارهم على الخوف الذي زرعه فيهم الشيطان وأولياؤه، وفي تحوِّل هزيمتهم إلى نصر حيث راحوا يلاحقون قريشاً وفي تحوّل نصر قريش إلى هزيمة حيث جبنوا عن لقاء النبي

ص: 309


1- الدر المنثور: 2/ 387.

وأصحابه وآثروا الرجوع إلى ديارهم (لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) إذ دفع الله تعالى عنهم قريش ولم يحصل قتال (وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) (آل عمران: 172-174).إنّنا في العراق نصاب يومياً بالجروح والقروح حتى إنه لم يبق مكان آمن من التفجيرات والاستهدافات فما أحوجنا إلى استلهام هذا الدرس والاستفادة منه بأن لا نشعر بالإحباط واليأس مما يحلُّ بنا، بل نلملم جراحنا ونتقدم في العمل حتى نحصل على ما ذكرته الآية الشريفة (فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ) (آل عمران/174) فإن هذا هو ما نبحث عنه ونريده وهو هدفنا، وليس نريد شيئاً مما يريده أهل الدنيا حتى إذا فاتنا ينتهي كل شيء، وإذا تخلينا عن أهدافا وهويتنا بسبب هذه الأعمال الوحشية فقد أعطينا للعدو مراده، فالرد الصحيح هو بالمضي في العمل الرسالي الذي يرضي الله تبارك وتعالى ورفع الهمّة والعزيمة في التواصي بالحق والتواصي بالصبر.

والمثال الآخر لهذه المواقف الربانية ما حصل في حسينية حبيب بن مظاهر القريبة من جامعة الإمام الصادق (علیه السلام) في حي القاهرة ببغداد وكان يرتادها جمع من طلبة الجامعة لأداء صلاة الظهرين ويطالعون دروسهم استعداداً للامتحانات، فامتدت يد الحقد والحسد والتكفير إلى هذه الفئة الصالحة وفجّر انتحاري نفسه وسط الجمع ثم تلاه آخر(1)، وكانت حصيلة التفجيرين (31) شهيداً و (57) جريحاً، والذي حصل بعد الحادث زيادة المصلين في الحسينية من الطلبة الجامعيين وأبناء المنطقة وتصدي أحد الفضلاء لإمامة الجماعة فيها.

ص: 310


1- وقع الحادث يوم الثلاثاء 8/شعبان/1434 المصادف 18/ 6/ 2013.

إن هاتين الجماعتين خير مثال لقول أمير المؤمنين (علیه السلام) (بقية السيف أبقى عدداً وأكثر ولدا)(1) لأنها استجابت لله ولرسوله بعد أن أصابهم القرح وقد وعد الله تعالى بأنهم يعودون بنعمة من الله وفضل أسوة بأصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) الذين خرجوا معه إلى (حمراء الأسد).إن الوقائع التي يحكيها القرآن الكريم ليست حوادث تاريخية وقصصاً تذكر للتسلية والإطلاع بل هي دروس حيّة ورسالة هداية وإصلاح وثبات على صراط الحق لجميع الأجيال حتى يوم القيامة، ومنها هذه الآيات سورة آل عمران التي لم تكن مفهومة بهذا الشكل قبل أن نتعرف على بيئتها وظروفها، وعرفنا الآن إنها دعوة للثبات والاستمرار في الاستجابة لله ولرسوله في بناء النفس وإصلاح المجتمع ورفع المعنويات غير متأثرين بالمصائب والآلام.

ص: 311


1- نهج البلاغة، قصار الحكم: 81.

خطاب المرحلة 384 :(وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ)

خطاب المرحلة 384 :(وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ)(1)

لا شكّ أنّ الابتلاءات التي تعصف بالعراق وأهله شديدة قلّما يتعرّض لمثلها شعب آخر، ولا تقتصر على الوضع الأمني الذي أصاب الناس بالخوف والقلق حيث لم تعد فيه مدينة آمنة، وإنّما يتعدّاه إلى الوضع الاقتصادي المزري بكثير من الناس، وكذا الجانب الخدمي والاجتماعي والسياسي البائس.

وهذه الأوضاع المزرية لها أسبابها طبعاً، والمصلح الحاذق –كالطبيب الماهر- يبحث عن علّة الداء فيعالجها، ولا يكتفي بمعالجة الأعراض المرضية ولسنا بصدد بيان هذه العلل، وإنما نريد أن نلفت النظر، إلى أن هذه البلاءات يمكن أن يكون تأثيرها على الأمة إيجابياً فتكون سبباً ومقدمة ليقظة الأمة ونهضتها وحركتها نحو ما يصلحها ويعيد إليها عزّتها وكرامتها، ويمكن أن يكون دورها سلبياً فتكون سلباً ليأس الأمة وفشلها وإحباطها ونومها وانهيارها، ومثال ذلك: أنّ من يكون متعباً بحاجة إلى النوم فإنّه يتثاءب، ومن يستيقظ من نومه يتثاءب، فالحالة واحدة وهي (التثاؤب) إلاّ أنّها قد تكون مقدّمة ومؤشراً للصحوة والاستيقاظ والنشاط والحيوية، وقد تكون علامة على الكسل والخمول والركود والنوم.

ص: 312


1- من حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع وفد من أهالي الحمدانية وسهل نينوى التابعة للموصل زاروا سماحته يوم الأربعاء 27 شوال 1434 الموافق 4/ 9/ 2013.

ولا شك أن المطلوب من الأمة الحيّة الواعية المتطلّعة إلى الارتقاء والازدهار، تجعل هذه الصعوبات والمحن والضغوط سبباً لتكاملها وتقدّمها ويقظتها واستشعارها لمسؤولياتها.وهذا الدرس نستفيده من القرآن الكريم وهو يتناول تداعيات معركة أُحُد، قال تعالى: (وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ) (النساء/104) فالآية تدعو المؤمنين إلى عدم الضعف والاستكانة والانهزام أمام الضغوط والتحديات وأن لا يقصّروا في متابعة القوم والاستمرار في مواجهتهم في كل ساحات العمل والتحدّي سواء كانت عقائدية أو فكرية أو اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو عسكرية وغير ذلك، وتهيئة كل أسباب ومقوّمات هذه المواجهة، ولا يقعدكم ما يصيبكم من ألم القتل والجراح والخسائر والجهود، لأنّ الآخر يصيبه نفس ما يصيبكم ومع ذلك فإنّه لا ينسحب من المواجهة ويستمر في استهدافكم فلماذا تشعرون أنتم بالوهن والضعف والانسحاب، مع أنّ عندكم ميزة ليست عند أعدائكم وهي أنّكم ترجون ما عند الله تعالى من الرضوان ومجاورة أحبّائه وأوليائه (صلوات الله عليهم أجمعين) وهذا يشكّل حافزاً ودافعاً قويّاً يفتقده خصمكم.

ولهذا جاءت الآية الأخرى لتطمئن المؤمنين وتقول لهم (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (آل عمران/139) فالضعف والتخاذل والخوف والقلق غير مبرّر لأنّكم الأعلون دائماً بطاعتكم لله تبارك وتعالى ورجائكم لما عنده وموالاة أوليائه، فأنتم أعلون إن كنتم ترجون من الله تعالى رضوانه.

ص: 313

وأنتم أيّها الأحبّة في الموصل وسهل نينوى قد كثر استهدافكم لأسباب سياسية واقتصادية وجغرافية وقومية وطائفية فكثر أعداؤكم وعظمت محنتكم، لكن لا يكن كل ذلك سبباً للتنصّل عن مسؤولياتكم التي يمكن أن نلفت النظر إلى عناوين بعضها:1-وحدتكم لأنّ فيها قوّتكم وقدرتكم على تحصيل حقوقكم وتوجب احترام الآخرين بوجودكم، والالتفاف حول المخلصين من أبنائكم.

2-تأسيس المنظمات الخيرية لمساعدة العوائل المحتاجة والأرامل والأيتام وهم كثر خلّفتهم المحنة الشديدة والطويلة والشرسة وقد أعطيت الأذن للمؤمنين بأن يصرفوا حقوقهم الشرعية في هذا المورد.

3-تشجيع جملة من شبابكم الواعين المحبّين للعلم ليلتحقوا بالحوزة العلمية في النجف الأشرف ليكونوا حلقة الوصل مع المرجعية الرشيدة وليفقّهوكم في الدين ليعزّزوا عقيدتكم ويثبّتوا قلوبكم على الحق.

4-المواظبة على إقامة شعائر الدين من صلوات الجمعة والجماعة وإحياء الشعائر الحسينية وإعمار المساجد، وجعلها منبراً للتوعية والتربية والتزوّد بالأخلاق والمعرفة.

وأنتم بالتزامكم بهذه الخطوات العملية وأمثالها تتحقّق استجابتكم للآية المتقدمة (وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ) لأنّ عدم الوهن يتحقق من خلال الاستمرار بالنهوض بالواجبات التي أشرنا إلى عدد منها.

إنّ المتقاعس والمتخاذل سوف لا ينجو من البلاء وسيصيبه بشكل أو بآخر فتكون خسارته مضاعفة لأنّه سيذوق الألم وسيحرم من الأجر والثواب لأنّه لم

ص: 314

يرابط لأداء مسؤولياته، فترون الإنفجارات لا تفرّق بين سنّي وشيعي أو عربي و شبكي أو صغير وكبير أو رجل وامرأة، عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (إنّك إن صبرت جرت عليك المقادير وأنت مأجور، وإن جزعت جرت عليك المقادير وأنت مأزور)(1) فالأقدار والبلاءات جارية على كل حال وأنت بموقفك –إيجاباً أو سلباً- محدِّد أثرها عليك؛ والمهم أن تكون دائماً ممن ترجو الله تبارك وتعالى وتحتسب عنده، واجعل هذا دائماً الفرق بينك وبين خصمك كما أشارت إليه الآية المتقدّمة ومحنتكم هذه تلزم الجميع بالوقوف إلى جانبكم ومد يد العون لكم ورفع الظلم والحيف عنكم، وتتأكّد أكثر على أبناء قوميتكم ومنطقتكم الذين تبوؤا المواقع المتنفّذة بأصواتكم ولا يجوز لهم الانشغال عن همومكم وآلامكم بمصالحهم الشخصية والفئوية.

ص: 315


1- منتخب ميزان الحكمة: 360 رقم 3455.

خطاب المرحلة 385 :ولقد صدّق عليهم إبليس ظنّه فاتبعوه

خطاب المرحلة 385 :ولقد صدّق عليهم إبليس ظنّه فاتبعوه(1)

لما عصى إبليس أمر ربه تبارك وتعالى في السجود لآدم (ع) وطرد من زمرة الملائكة أطلق تهديداً خطيراً واستراتيجياً يستمر إلى يوم يبعثون (قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (الحجر/36) (ص/79) فهدّد بقوله الذي حكاه القرآن الكريم (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (ص/82-83) وفي آية أخرى (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (الحجر/ 39-40) وفي آية ثالثة (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (الأعراف/ 16-17).

وهو -لعنة الله عليه- حينما أطلق هذا التهديد لم يكن يعلم الغيب ليجزم بهذه النتيجة، وإنّما كان يهدّد ويأمل أن يحقّق هذه النتيجة ويبذل وسعه لتحقيقها وهي غواية جميع البشر إلاّ عباد الله الذين استخلصهم لنفسه ، ولا أدري إن كان يحتمل نجاحه في هذه العملية وهو يعلم أنّه يُقابل حشداً إلهياً فيه لطف رباني عميم ورحمة واسعة وإرادة دائمة لهداية البشر وصلاحهم وتواتر

ص: 316


1- كلمة ألقيت من قناة النعيم الفضائية يوم 4 ذق 1434 المصادف 11/ 9/ 2013 بمناسبة الذكرى الخامسة لاستشهاد السيد الصدر الثاني (قدس).

الحجج والبيّنات ظاهرة وباطنة (لا تخلو الأرض من حجّة) مضافاً إلى مواسم كثيرة تُغلُّ فيها الشياطين خصوصاً في شهر رمضان ورميهم بالشهب الثاقبة، بينما لا يملك إبليس إلاّ الدعوة والتزيين (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) (إبراهيم/ 22) لذا قال تعالى (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً) (النساء/76).لكن المفاجئة إن البشر أعرضوا عن الاستجابة لداعي ربّهم مع هذه الألطاف والتأييدات المعدّة للهداية وأقرّوا عين إبليس ولم يخيّبوا ظنّه، قال تعالى (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) (سبأ/ 20-21) والمراد بظنّ ابليس الذي صدقوه تهديداته السابقة، بل ما أسرع استجابتهم له بمجرّد أن دعاهم.

وتسجّل السيّدة الزهراء (علیها السلام)هذا التعجّب والاستغراب في خطبتها: (وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم فألفاكم لدعوته مستجيبين وللعزّة فيه ملاحظين، ثمّ استنهضكم فوجدكم خفافاً وأحشمكم فألفاكم غضاباً) (1)، أي وجدهم الشيطان مسارعين خفافاً للاستجابة له وترك وصيّة الله تعالى رسوله (صلی الله علیه و آله).

لذا يحذّر أمير المؤمنين (علیه السلام) الناس من الاغترار بهذه الدعوة والاستجابة لها، قال (علیه السلام): (فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللَّهِ عَدُوَّ اللَّهِ أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ وَأَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ

ص: 317


1- (الاحتجاج: 1/ 130)

بِنِدَائِهِ)(1) ولم يأخذ بهذا التحذير.ولم يأخذ بهذا التحذير إلاّ القلة (إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) (سبأ/ 20) وبثبات هذه القلة وإخلاصها وعملها الدؤوب حفظ الله تعالى هذا الدين وبارك في عطائهم وجعلهم مناراً للأجيال، قال أمير المؤمنين (علیه السلام) : (أولئك هم الأقلون عدداً والأكثرون عند الله قدراً)(2).

أمّا أكثر الناس فقد سقطوا في فخوخ الشياطين، قال تعالى: (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) (يس/62).

ولم يكتفِ منهم اللعين بالغواية في موقف أو حالة أو زمان بل ظلّ يمعن في غوايتهم وإضلالهم حتّى نزع من قلوبهم الاطمئنان بالآخرة فجعلهم يشكون فيها، وعدم الإيمان بالآخرة تعني التحلّل من كلّ رادعٍ عن الفساد والانحراف والظلم والانحطاط والحيوانية.

وقوله تعالى في آية سورة سبأ المتقدّمة (لنعلم) ليس علماً بعد جهل تعالى الله عن ذلك، وإنّما معناه لنظهر لهم حقائقهم وبواطنهم حتى يعرفوا أنهم نالوا العذاب باستحقاق ولا يعترضوا لو عوقبوا بناءً على العلم الإلهي من دون إبراز لحقائق أعمالهم بأنهم لو اعطوا الفرصة لكانوا على خير.

ولكنّ الله تعالى يحذّرهم بحقيقة يجب أن ينتبهوا إليها وهي أنّه محيط بأفعالهم ونياتهم لأنّه تعالى حفيظ على كل شيء (لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) (سبأ/3) (يونس/61).

ص: 318


1- نهج البلاغة، الخطبة 192.
2- نهج البلاغة، قصار الكلمات: 147.

وهكذا كان الناس في كلّ موقف وفي كل مفصل من مراحل التاريخ ينحازون إلى صفّ إبليس إلاّ قليل ممن عصم الله تعالى (إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) (سبأ/20)، في تفسير القمي عن الإمام الصادق (علیه السلام) (لما أمر الله نبيّه أن ينصّب أمير المؤمنين (علیه السلام) للناس في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ) في علي بغدير خم فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، فجاءت الأبالسة إلى إبليس الأكبر وحثوا التراب على وجوههم، فقال لهم إبليس: مالكم؟ قالوا: إن هذا الرجل، قد عقد اليوم عقدة لا يحلها شيء إلى يوم القيامة. فقال لهم إبليس: كلا إنّ الذين حوله قد وعدوني فيه عدة، فأنزل الله على رسوله (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) (سبأ/20)(1).ويجب أن نفهم من إقرار عين إبليس باتباعه له مراتب وإذا عجز اللعين عن المرتبة الشديدة للانحطاط فإنّه يقبل بما هو أهون منها والمهم عنده الإبعاد عن رضوان الله تعالى ولو درجة وإيجاد النقص في ما يقرّب إلى الله تعالى، فلا يقتصر عمله على الغواية إلى حدّ الكفر والشرك أو إلى حد ارتكاب المعاصي من المؤمنين، بل يعمل-في حالة عجزه عن ذلك- على التزيين لترك الأولى بفعل المكروه أو ترك المستحب.

روى الشيخ الطوسي في الأمالي عن الإمام الصادق (علیه السلام) إنّ إبليس كان يأتي الأنبياء من لدن آدم حتّى عيسى (صلوات الله عليهم أجمعين) ويحادثهم، وفي إحداها (قال يحيى بن زكريا (ع): فهل ظفرت بي ساعة قط، قال: لا، ولكن فيك خصلة تعجبني. قال يحيى: فما هي؟. قال: أنت رجل أكول فإذا

ص: 319


1- البرهان: 8 /68 عن تفسير القمي: 2/ 201، الأمثل: 10/ 547.

أفطرت أكلت وبَشَمَت –أي امتلأت- فيمنعك ذلك من بعض صلاتك وقيامك بالليل، قال يحيى (ع): فإنّي أعطي الله عهداً أن لا أشبع من الطعام حتّى ألقاه، قال له ابليس: وأنا أعطي الله عهداً إني لا أنصح مسلماً حتّى ألقاه. ثمّ خرج فما عاد إليه بعد ذلك.)(1)هذا مثال على صعيد الفرد، أما على صعيد الأمة –وفي نفس المستوى من الحديث- فإنّ مما يسعد إبليس اللعين إعراض أغلب الناس عن نصرة واتباع المرجعية الرسالية العاملة المخلصة المتأسيّة بوصف أمير المؤمنين (علیه السلام) للنبي (صلی الله علیه و آله) (طبيب دوّار بطبّه) ورجوعهم في المرجعية والقيادة إلى الحوزة المتقاعسة عن تحمّل مسؤولياتها اتجاه الدين والأمة مع اعترافنا بأنّها تقيم طقوس الدين، إلاّ أنّها لا تهتم بأمور الإسلام ولا المسلمين ولا تشعر بالغيرة عليهما والرحمة بهما وهذه أوصاف مأخوذة من طبيعة عملها ومنهجها الذي اختارته فلا ينبغي لها الاستياء من هذا التوصيف.

ولقد دلّت الأحاديث الشريفة على أنّ المرجعية الأولى أشدّ على إبليس من الثانية عن معاوية بن عمّار قال: (قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) رجل راوية لحديثكم يبُثُّ ذلك في الناس ويشدّده في قلوبكم وقلوب شيعتكم، ولعلّ عابداً من شيعتكم ليست له هذه الرواية أيّهما أفضل، قال: الراوية لحديثنا يشدُّ به قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد)(2) ومن المعلوم أنّ شدّ قلوب الشيعة لا يتحقّق بمجرد كتابة الرسالة العملية.

ص: 320


1- أمالي الطوسي: 348- 349، بحار الأنوار: 13/ 173.
2- أصول الكافي، ج1، كتاب فضل العلم، باب فضل العلماء، ح9.

وفي الاحتجاج وتفسير العسكري عن الإمام الهادي (علیه السلام): (لولا من يبقى بعد غيبة قائمنا (ع) من العلماء الداعين إليه والدالّين عليه والذابين عن دينه بحجج الله والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك ابليس ومردته ومن فخاخ النواصب لما بقي أحدٌ إلاّ ارتدّ عن دين الله ولكنّهم الذين يمسكون أزمّة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكّانها، أولئك هم الأفضلون عند الله عزّ وجل)(1) وهذا ما تقوم به المرجعية الرسالية العاملة كما هو واضح، والأدلة كثيرة، فإنّ قولهم (ع): (الفقهاء قادة) وأنّم نوّاب الأئمة المعصومين (علیهم السلام) الذين هم (ساسة العباد) لا ينطبق إلاّ على المرجعية العاملة.إنّ تصدّي الحوزة غير العاملة للمرجعية، يتسبّب في نتائج خطيرة تساعد اللعين في مشاريعه، منها:

1-تعطيل فرائض مهمة كصلاة الجمعة التي عُطّلت مئات السنين وهي عنوان عزّة الأمة وكرامتها ومصدر وعيها وتربيتها، وكفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتي وصفها الإمام الباقر (علیه السلام) بأنّها أسمى الفرائض وأشرفها (وأنّها سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب وتحلّ المكاسب وتردّ المظالم وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر)، والمتابع يلاحظ كيف أن المنكر يجري على مرأى منهم فلا يغيّرونه وفيهم نزل تقريع الله تبارك وتعالى وتهديده (لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) (المائدة/ 63) وقوله تعالى: (كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ

ص: 321


1- بحار الأنوار: 2/ 6.

يَفْعَلُونَ) (المائدة/79) وقوله تعالى: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ) (الأعراف/165).2-تراجع العمل الإجتماعي للحوزة العلمية إلى حدّ الإصابة بالشلل أحياناً لأنّ كلّ مؤسسة تقوم برأسها وعقلها المدبّر، فالحوزة مرهونة بمرجعيتها وطريقة تفكيرها ومنهجها في التعاطي مع شؤون الأمة، فتجد في مرجعية الشهيدين الصدرين (قدس الله روحيهما) كيف انطلق وكلاؤهما وطلبتهما في الإصلاح الاجتماعي وإيجاد يقظة وصحوة لدى المجتمع.

3-ضعف الحالة الدينية في المجتمع وانتشار الفساد والظلم والجهل وترك الواجبات الشرعية وهي نتيجة طبيعية للعاملين أعلاه، وكشاهد على ذلك نذكر وضع المجتمع العراقي في السبعينيات قبل نهضة السيد الشهيد الصدر الأول وقبل نهضة الشهيد الصدر الثاني في التسعينيات.

4-خمول الحركة الإسلامية وتعطيل المشاريع الإسلامية عن الانتشار والتوسع والنمو والإزدهار لتخلي سدنته وحفاظه عنه بينما في عهد مرجعية الشهيدين الصدرين (قدس الله سرهما) يقدّم الإسلام كمشروع يقود الحياة ويعيد للأمة هيبتها وعزّتها وكرامتها وريادتها ويقيم الحجّة على الأنظمة الوضعية الأخرى.

5-عدم وجود من يرعى شؤون الأمة ومصالحها ومن يستمع لهموم الناس ويقضي حوائجهم ويرفع الظلم عنهم ويدافع عن حقوقهم خلافاً للعهد الذي أخذ عليهم، قال أمير المؤمنين (علیه السلام): (وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا

ص: 322

على كِظّةِ ظالم ولا سغب مظلوم)(1).6-بسبب تقوقع هذه الجهة وانكفائها على ذاتها وأنانيتها فيحصل لديها ضعف الوعي بقضايا الأمّة والظروف والملابسات المحيطة بها ونتيجته فقدان الرؤية الصحيحة لمعالجتها واتخاذ المواقف الحكيمة وفي ذلك مخالفة لتوجيهات أهل البيت (علیهم السلام) حيث ورد عنهم: (العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس)(2).

وغيرها من الأمور التي تظهر لمن يتابع حركة المرجعية في حياة الأمة وعلاقتها معها.

والأمر لا يقتصر على إبليس فإنّ شياطين الإنس أيضاً يصدق ظنهم على هؤلاء الناس فيستجيبون لهم بشكل غريب، هذا فرعون يحكي عنه القرآن الكريم (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ) (الزخرف/54) أي أنّه بمجرد دعوته للناس لاتباعه والاستجابة لعبادته وجدهم يسارعون خفافاً لطاعته، لا لأهلية عند فرعون ولا لقوة ذاتية يملكها وإنّما لأنهم قوم فاسقون يسرعون إلى الباطل.

وهذا عبيد الله بن زياد كان يتوقّع انقلاباً عليه من أهل الكوفة حينما وصل الإمام الحسين (علیه السلام) وأهل بيته لأنّه من غير المعقول أن تتخاذل الناس عن ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) الإمام المعصوم الطاهر وتنصر الخبثاء أولاد الحرام، فعبأ جيشاً يعادل ألف مرة أصحاب الحسين وأسنده بقوّاتٍ من كربلاء إلى الكوفة،

ص: 323


1- نهج البلاغة: 44 الخطبة الشقشقية.
2- الكافي: ج1 ص27.

لكن شيعة آل أبي سفيان – كما وصفهم الإمام (علیه السلام)- لم يخيّبوا ظنّ ابن زياد وصدّقوا عليهم ظنّه واتبعوه ونفّذوا إرادة ابن زياد بوحشية فاقت ما طلبه منهم. ومن ذلك ما يجري اليوم من تكاثر أدعياء الزعامات والعناوين المقدّسة وكلّ منهم يصاحبه القلق في بداية دعوته لأنه يتوقع أنّ الناس ستسأله عن أصله ومؤهلاته وتوفّر الشروط فيه وإنّ الأمة ستراقب حركته ليتأكدوا من مصداقيته، لكن شيئاً من ذلك لا يحدث ويصدّق هؤلاء المدعون على الناس ظنّهم فيتخذونهم ألعوبة بأيديهم.

نسأل الله تعالى العصمة والتوفيق والتأييد (وإن خذلني نصرك عند محاربة النفس والشيطان فقد أسلمني خذلانك إلى حيث النصب والحرمان).

ص: 324

خطاب المرحلة 386 :بمناسبة حلول العام الدراسي:دروس أخلاقية وتربوية من قصة قصيرة

خطاب المرحلة 386 :بمناسبة حلول العام الدراسي:دروس أخلاقية وتربوية من قصة قصيرة(1)

أنصح دائماً الخطباء والمعلمين وأولياء الأمور وكل المهتمين بالتربية والإصلاح والإرشاد أن يستفيدوا من القصص والحوادث والوقائع في أداء رسالتهم، لأنّها تشدُّ المتلقي وتثبت في عقله ووعيه لترابط الأحداث فيها، وهذا يؤدي إلى رسوخ الفكرة لديه، وهذه الثمرات واضحة، فالخطيب مثلاً حينما يبدأ بعرض حكاية أو حادثة فتجد الحضور ينشدّون إليه ويصغون، فهذا الأسلوب ناجح ومثمر خصوصاً في تربية الأطفال وتثقيفهم.

ولاشك أن الكتب حافلة بعدد هائل من القصص التي يمكن الاستفادة منها لتربية المجتمع وتوعيته وتوجيهه نحو الأخلاق السامية والمثل الإنسانية، وسأروي لكم واحدة منها ونحاول استخلاص الدروس والعبر.

كان المرحوم الميرزا النائيني مرجع الشيعة قبل حوالي ثمانين عاماً (توفي سنة 1355 هجرية الموافق 1936) وهو من العلماء المحققين وأستاذ لعدد كبير من المراجع والعلماء كالسيد الحكيم والسيد الخوئي والشيخ حسين الحلي

ص: 325


1- حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من الهيئة التدريسية في قضاء المناذرة في محافظة النجف وجمع من المثقفين والأكاديميين في مركز اليقين الثقافي في الكوت يوم السبت 14/ذ.ق/1434 الموافق 21/ 9/ 2013، ومع حشد من الفتيان من طلبة العلوم الدينية في مدينة الصدر في بغداد يوم الخميس 12/ذ.ق/1434.

وأمثالهم (قدس الله أرواحهم جميعاً) وكان يحضر بحثه أكثر من (400) طالب بمختلف المستويات، لكن الذين يفهمون مطالبه العلمية المعمّقة لا يتجاوز عشرة بالمئة من العدد، وبين الحضور كثير لا يفقه شيئاً إلا أنه يحضر للتبرك ونحو ذلك، وإذا شارك في سؤال أو مناقشة فإنه ينكشف أمره أمام الحاضرين.وكان من هؤلاء المتدنين في العلم شخص متوسط العمر إلا أنه فاجأ أستاذه والعلماء الحاضرين ذات يوم بمناقشات وتحقيقات أذهلتهم لأنها لا تتصور من أمثاله وإنما من العلماء المحققين الذين أمضوا سنين في البحث والتحقيق فانبهر الأستاذ وأوقف بحثه وطلب من الحاضرين الهدوء والإنصات لهذا الشيخ ليعرف سرّ هذه القفزة الكبيرة في مستواه العلمي، وهنا تحدّث الشيخ.

قال: خرجت ليلة أمس لأشتري الخبز فمررت على خربة يصدر منها أنين ظننت أنهم جراء لكلبة ولدتهم، فلما دخلت وجدت هرة مطروحة على الأرض ميتة وأفراخها يلوذون بها ليمتصوا منها اللبن فلا يجدون ويتألمون من الجوع، فانكسر قلبي ودمعت عيني وذهلت عن الغرض الذي خرجت من أجله، وعلى الفور ذهبتُ إلى السوق فاشتريت لبناً وقنينة إرضاع الأطفال وأخذت أملأها باللبن وأرضع صغار الهرّة حتى شبعوا وهدأوا وناموا، ثم ذهبت في الصباح الباكر وكررت ذلك، وشعرت حينئذٍ أن شيئاً ما حصل في قلبي أحسست ببرده وسكينته وعندما جئت إلى البحث وجدت نفسي أفهم كل ما تلقونه وكأنني واظبت عليه منذ سنين، فتأثر الشيخ النائيني والحاضرون وأجهش بعضهم بالبكاء وقال (قده): إنّها معاملة مع الله، والله يقول: (وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) (الأنفال/60).

ص: 326

ونستطيع أن نستخلص عدة دروس تربوية وأخلاقية من هذه الحادثة:1-الاطمئنان بما نعتقد به جزماً من أن الله تعالى لا يهمل أي عمل فيه خير وإحسان بل يجازيه بما هو أحسن منه ويكافئ صاحبه قال تعالى (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (الكهف/30) وقال تعالى (إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (الأعراف/170) وقال تعالى (أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى) (آل عمران/195) وهذا الجزاء والثواب يكون في الدنيا والآخرة، ونحن لا نعلم شكله وكيفيته، فصاحب هذه الحادثة أعطي علماً جماً لأن وظيفته طلب العلم، ويمكن أن يكافئ آخر بسعة في الرزق أو بزوجة صالحة أو بذرية طيبة أو بجاه اجتماعي ومكانة بين الناس وغير ذلك.

2-سعة رحمة الله تعالى، فإذا كان الإنسان وهو مخلوق ضئيل لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً يحمل هذا القلب الكبير والرحمة الواسعة وتهتز مشاعره لهذه الهررة مع أنها لا توجد رابطة ولا مناسبة بينهما فكم هي سعة رحمة الله تعالى بعباده الذين خلقهم بيده ونفخ فيهم من روحه واعتبرهم عياله كما في الحديث (الخلق عيال الله)، وإن نسبة رحمة الإنسان إلى رحمة ربه لا تساوي شيئاً، ففي الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (: الله رحيم بعباده، ومن رحمته أنَّه خلق مائة رحمة جعل منها رحمة واحدة في الخلق كلهم، فبها يتراحم الناس، وترحم الوالدة ولدها، وتحنن الأمهات من الحيوانات على أولادها، فإذا كان يوم القيامة أضاف هذه الرحمة الواحدة إلى تسع وتسعين رحمة فيرحم بها أمة محمد (صلی الله علیه و آله) ثم يشفعهم فيمن يحبون له الشفاعة)(1).

ص: 327


1- كنز العمال للمتقي الهندي: 3 /167، بحار الأنوار: 6/ 219.

فمجموع هذه الرحمات التي يتراحم بها الجن والإنس والحيوانات فيما بينهم هي كالجزء من مئة جزء من رحمة الله تعالى.3-أن نكون مطمئنين إلى أن الرزق مكفول للعباد وأن أي نفس خلقها الله تعالى لا تخرج من هذه الدنيا حتى تستوفي رزقها، عن أمير المؤمنين (علیه السلام) (لكل ذي رمق قوت) وعنه (علیه السلام) قال: (عياله الخلائق، ضَمِنَ أرزاقهم، وقدّر أقواتهم)(1) فيجب أن لا ننهمك في طلب الدنيا والمال وربما تطلّب ذلك غض النظر عن مصدر هذا المال وأنه من حرام أو حلال كالذي ابتلي به مجتمعنا من انتشار الفساد وخيانة المال العام وسلوك الطرق الملتوية للاستزادة منه فيجرّون على أنفسهم نار جهنّم ولو أنّهم صبروا وكبحوا جماح نزواتهم لأتاهم رزقهم لأن الله تكفّل بذلك.

وفي هذه الحادثة شاهد على ذلك، لأن قططاً حديثة الولادة لا تقدر على شيء وفي خربة قد ماتت أمها التي تغذيها واحتمال بقائها حية ضعيف جداً ومع ذلك سخّر الله تعالى لها من يطعمها ويسقيها فكيف بالإنسان الذي زودّه الله تعالى بكل ما يعينه على طلب الرزق الحلال الذي يضمن له حياة كريمة لذا وردت الموعظة والنصيحة في الحديث عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): (ألا وإن الروح الأمين نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحمل أحدكم استبطاء شيء من الرزق أن يطلبه بغير حِلِّه، فإنه لا يُدرَك ما عند الله إلا بطاعته).(2)

ص: 328


1- نهج البلاغة، الخطبة 91.
2- الكافي: 2/ 74 ح2.

4-أن لا تستصغر شيئاً من عمل الخير والإحسان فقد يكون عظيماً عند الله ويكافئك بأعظم الأجر، فمجتمعنا البعيد عن أخلاق الإسلام لا يرى ما فعله هذا الشيخ شيئاً له قيمة وربما يستهزئ به، لأن السائد هو العبث بهذه الحيوانات الضعيفة ورميها بالحجارة واللعب بإيذائها وهكذا، لكن ما فعله هذا الشيخ لقي قبولاً ورضا عند الله تعالى فكافأه بالأجر العظيم.

5-أن لا ييأس الإنسان من تكرار التجربة إذا حصل له الفشل فيمكن أن ينجح في المرة الثانية أو العاشرة أو أزيد من ذلك ولا يجعل الشعور بالإحباط ينفذ إلى قلبه وعقله، فهذا الشيخ لم يكن يفهم الدرس مدة لكنه بقي متواصلاً مع الحضور إلى أن جاءت الساعة التي فتح الله تعالى عليه بها وسجّل الإنجازات، فلنستفد من هذا الدرس في كل شؤون حياتنا في الدراسة أو في العمل أو عند إصلاح الآخرين أو في حل المشاكل وفك العقد وغيرها وكذلك في الدعاء فلا نشك ولا نحبط من عدم الإجابة ونظل نطرق الباب إلى أن يأذن الله تعالى بفتحها، روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) قوله (أكثر من الدعاء فإنه مفتاح كل رحمة ونجاح كل حاجة ولا يُنال ما عند الله إلا بالدعاء، وليس باب يكثر قرعه إلا يوشك أن يفتح لصاحبه).(1)

6-إن قنوات تحصيل العلم عديدة لا تقتصر على الطرق الطبيعية المتعارفة من الدراسة ومطالعة الكتب فقد يلهم الله تعالى العلوم والمعارف للشخص بأن يقذفها دفعة واحدة في قلبه وعقله عندما يطهرهما وينقيهما الإنسان فتصبح مرآة نقية تعكس الحقائق الواقعية (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو

ص: 329


1- ميزان الحكمة، الباب 1169،الحديث 5585.

الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الجمعة/4) كما أوحى الله تعالى إلى أمّ موسى (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى) (القصص/7) بل إلى الحيوان كالنحل (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) (النحل/68) فالشيخ صاحب القصة المذكورة لم ينل علمه بدراسة وقراءة كتب وسماع من أستاذه بل اُلقي في قلبه حتى شعر ببرودته المعنوية وطمأنينته، قال تعالى (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ) (البقرة/282) وقال تعالى (يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً) (الأنفال/29).وهذا يزرع الأمل في قلوب طلاب العلم والمعرفة حتى لا يقولوا لسنا مؤهلين ولا نفهم شيئاً أو ما يقال في المثل الشعبي السيئ (عكَب ما شاب ودّوه للكتّاب) أي بعد أن بلغ سن المشيب بعثوه إلى الكتاتيب –على الطريقة القديمة- والمدارس ليتعلم، فهذا المثل وأمثاله يركّز ثقافة خاطئة تدخل اليأس من التعلم لدى من تقدّم بهم العمر فيستمرون على حرمانهم من قراءة القرآن والأدعية المباركة وضروريات حياتهم بينما هذه الحادثة تعلمنا أن كل شيء ممكن مع الإخلاص والصدق والأمل.

وهذا يدفع طلبتنا الأعزّاء الذين يتعسر عليهم فهم بعض الدروس إلى القيام بالمزيد من أعمال البر والإحسان كخدمة والديهم وإدخال السرور عليهم أو قضاء حوائج الناس أو مساعدتهم فيفتح الله عليهم بسبب ذلك.

7-ومن خلال هذه الحادثة وأمثالها نتعرف على سبق شريعة الإسلام إلى وضع قوانين حقوق الحيوان والرفق بها ورعايتها مما يتبجّح بوضعه الغرب مؤخراً وهذا دليل على عظمة الإسلام وسمو تعاليمه، بحيث أن الله تعالى يكرّم هذا الشيخ ويعطيه الجزاء الكبير في الدنيا والآخرة لأنه أشفق على حيوانات

ص: 330

ضعيفة وأطعمها وسقاها.والأحاديث في ذلك كثيرة كالمروي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال (من قتل عصفوراً عبثاً عجَّ إلى الله يوم القيامة ويقول: يا ربِّ عبدُك قتلني عبثاً ولم يقتلني لمنفعة).(1)

وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال (إن امرأة عُذِّبت في هرة ربطتها حتى ماتت عطشاً).(2)

وروي عن الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) عن آبائه (ع) قال (مرّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) على قوم نصبوا دجاجة حية وهم يرمونها بالنبل، فقال: من هؤلاء لعنهم الله).(3)

وقصة العابد الذي خسفَ الله تعالى به الأرض فهو يهوي أبد الآبدين لأنه رأى أطفالاً يعبثون بديك وينتفون ريشه ولم ينههم عن ذلك.(4)

8-إن الأعمال التي يقوم بها الإنسان لا يثاب عليها ولا يؤجر إلاّ إذا نوى بها القربة إلى الله تعالى وبدون هذه النية لا يكون عملاً تعبدياً فلا يعطى الأجر كمن انشغل بشيء فلم يأكل ولم يشرب من الفجر حتى الغروب فإنه لا يعتبر له صوماً حتى ينويه صوماً قربة إلى الله تعالى.

ويستثنى من ذلك الأعمال الإنسانية التي فيها خير وإحسان للآخرين حتى

ص: 331


1- كنز العمال/ 39971 ، بحار الأنوار: 61/ 306.
2- مكارم الأخلاق: 1/ 280 ح864.
3- بحار الأنوار 61/ 268 عن نوادر الراوندي: 43.
4- كتاب (أسمى الفرائض) الفصل الثاني ح50.

الحيوانات فإن الله تعالى يكافئ عليها حتى لو لم ينوي صاحبها القربة إلى الله تعالى، كهذا الشيخ فإنه اندفع إلى إطعام القطط الصغيرة بداعي الشفقة وربما لم يلتفت إلى نية القربة لكن الله تعالى جازاه خيراً، لأنّ الله تعالى خالق كل الموجودات وكلهم عياله فالإحسان الذي يقدمه الإنسان إلى أي مخلوق يعتبره إحساناً إليه (هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) (الرحمن/60)، في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال (قال الله عز وجل: الخلق عيالي فأحبّهم إليّ ألطفهم وأسعاهم في حوائجهم)(1) فكلما كان الإنسان أشفق وأرحم بعباد الله تعالى كان أقرب إلى رحمة الله وفضله (إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف/56).هذه عدة دروس ولعلكم تلتفتون إلى غيرها بالتأمل والتدبّر، وإنما اخترت هذا الحديث لأحفّز أخواني المدرسين والمعلمين ليكونوا أكثر رحمة وشفقة على طلبتهم، وأن يكونوا أكثر شعوراً بالمسؤولية عنهم (كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته) وأن لا يقصروا في أداء واجبهم فإن كل إحسان مدّخر لهم عند الله تعالى ويكافئهم عليه.

وأيضاً لأحفّز الطلبة لبذل مزيد من الجهد والإصرار والمثابرة على تحصيل العلم وأن يتوقعوا من الله تعالى كل مزيد من حيث لا يحتسبون ولا يتسرب الإحباط والملل إلى نفوسهم، وأن يكونوا بارّين بآبائهم ومعلميهم وإخوانهم وسباقين إلى فعل الخير، فربما جازاهم الله تعالى على فعل واحد من أفعال الخير بأن يفتح عقولهم لدروس كانت مقفلة عليها.

ص: 332


1- الكافي: 2/ 119.

وأن لا يقصّر جميع المربين والخطباء والمعلمين وأولياء الأمور من إعطاء هذه الجرعات الأخلاقية لتهذيب النفوس وتطهير القلوب معززة بالقصص والحوادث لمواجهة حملات الإفساد والتخريب الأخلاقي والفكري والاجتماعي والله المستعان.

ص: 333

خطاب المرحلة 387 :المرأة وطلب المعالي

خطاب المرحلة 387 :المرأة وطلب المعالي(1)

يوجد شعور أو ارتكاز أو ثقافة لدى النساء قبل الرجال بأنهنّ قاصرات عن بلوغ المعالي ودرك الكمال، وقد ترسّخت هذه الثقافة حتّى تحوّلت إلى قناعة، فاخترتُ هذا العنوان للحديث عنه.

إنّ سلوك طريق الكمال يبدأ بالإرادة والعزم، وكلما كان العزم أقوى كان قطف الثمار أسرع (على قدر أهل العزم تأتي العزائم) وينسب السيد الخميني (قده) إلى شيخه (رضوان الله تعالى عليه) قوله (إن العزم هو جوهر الإنسانية ومعيار ميزة الإنسان، وإن اختلاف درجات الإنسان باختلاف درجات عزمه)(2)

وإنما يشتد عزم الإنسان وتقوى إرادته بزيادة القناعة والمعرفة، لذا أقدّم بعض المحفزّات لرفع الهمّة.

يوجد في القرآن الكريم والروايات والأدعية الشريفة ثناء عظيم على من تكون همته كبيرة في طلب الكمال ونيل معالي الأمور، قال تعالى في وصف عباد الرحمن (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ

ص: 334


1- حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع الملتقى السنوي الثالث لإدارات ومدرّسات فروع جامعة الزهراء (علیها السلام) النسوية في المحاففظات وقد عُقد في النجف الأشرف يوم الخميس 26/ذ.ق/1434 المصادف 3/ 10/ 2013.
2- الأربعون حديثاً: 34.

وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) (الفرقان/74) والزوج لغة يطلق على المرأة والرجل فتجري الآية فيهما معاً، ويسجّل القرآن الكريم علّو همتهم بأنهم يطلبون أن يكونوا للمتقين إماماً، ولا يكتفون بأن يكونوا من المتقين، وإن كانت درجتهم رفيعة.وفي دعاء أمير المؤمنين (علیه السلام) الذي رواه كميل بن زياد (واجعلني من أحسن عبيدك نصيباً عندك، وأقربهم منزلة منك، وأخصّهم زلفة لديك، فإنه لا ينال ذلك إلا بفضلك، وجُد لي بجودك) والنساء كالرجال يطلبن ما في هذا الدعاء كل ليلة جمعة فيمكن أن يكون أي واحد منّا –نساءاً ورجالاً- أحسن عباد الله نصيباً وأقربهم إليه تبارك وتعالى بعد الإمام المعصوم (علیهم السلام)، والدليل على إمكان الوصول إلى هذه المرتبة بفضل الله تبارك وتعالى تعليم الإمام لنا أن ندعو الله تعالى بذلك ولو كان مستحيلاً فلا معنى لطلبه.

وفي دعاء الافتتاح الذي يدعى به كل ليلة من شهر رمضان المبارك (اللهم إنّا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله وتذلّ بها النفاق وأهله وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها خير الدنيا والآخرة) فتطلب –سواء كنت رجلاً أو امرأة- في هذا الدعاء من الله تعالى أن يجعلك من القادة إلى سبيله في دولة الإسلام الكريمة وليس فقط من عامة المؤمنين والصالحين وإن كان هؤلاء في نعيم.

فإذن هذا كله ممكن ومتيسر للنساء والرجال على حدٍ سواء بعد الأخذ بأسبابه ووسائله الموصلة إليه قال تعالى (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ) (آل عمران/195) فهذا الموقع

ص: 335

الشريف وهي القيادة في الدولة الكريمة ممكن بل هو واقع بحسب ما أفادت روايات أخبار الظهور، ففي حديث مطول روته عدة مصادر كتفسير العياشي وغيبة النعماني وإرشاد المفيد وغيبة الطوسي وغيرهم كثير بأسانيد متعددة عن جابر الجعفي عن الإمام الباقر (علیه السلام) وفيه تفاصيل عن بداية ظهوره (ع) وحركته المباركة وخطبته في المسجد الحرام، ومحل الشاهد فيها إنه بعد أن يطلب الإمام النصرة بقوله (علیه السلام) في خطبته (فنحن أولى الناس بكتاب الله إنا نشهد وكلّ مسلم اليوم إنا قد ظُلمنا وطُردنا وبُغي علينا وأُخرجنا من ديارنا وأموالنا وأهالينا وقُهرنا إلاّ إنا نستنصر الله اليوم وكلّ مسلم).يقول الإمام الباقر (علیه السلام) (ويجيء والله ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاًَ فيهم خمسون امرأة، يجتمعون بمكّة على غير ميعاد قزعاً كقزع الخريف يتبع بعضهم بعضاً، وهي الآية التي قال الله: (أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقول (ع) ثمّ يخرج من مكة هو ومن معه الثلاثمائة وبضعة عشر يبايعونه بين الركن والمقام)(1).

وهذه الرواية تدل على عظمة المنزلة التي يصل إليها هذا العدد الكبير من النسوة ويتصفن بالخصال الكريمة التي ذكرتها الروايات الشريفة لأصحاب الإمام (علیه السلام)، فيتأهّلن لممارسة دور قيادي في دولة الإمام لأن الثلاثمائة وثلاثة عشر هُم القادة في تلك الدولة الكريمة.

ويبرز بذلك دور المرأة الإنسانة في التصدّي لأعلى المواقع ونيل أرقى الكمالات لا المرأة التي يُتاجر بحقوقها وتمتهن كرامتها ويُفرض وجودها في

ص: 336


1- راجع مصادر الرواية في (المعجم الموضوعي لأحاديث الإمام المهدي (علیه السلام): 352).

الأروقة السياسية بالكوتا ونحوها.ولا شكّ أن الوسيلة التي تصل بها المرأة إلى هذه المقامات تبدأ من خطّ الشروع والقاعدة الأساسية وهي التزامها بواجباتها الدينية على أكمل وجه، عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: (كلّ امرأة صالحة عبدت ربّها وأدّت فرضها وأطاعت زوجها دخلت الجنّة).(1)

وهذا يتطلّب منها تفقّها ومعرفة بأمور الدين بمعناه الواسع الشامل للأحكام الشرعيّة والمبادئ الاعتقادية والأخلاق السامية ومعرفة أولياء الأمر وهم الأئمة الذين فرض الله ولايتهم ومودّتهم وقرن طاعتهم بطاعته.

وتتكفّل الحوزات العلمية بشكل عام تغذية هذه العلوم والمعارف والأحكام بفضل الله تبارك وتعالى وبهذا تتحقّق فائدة مزدوجة، تكاملكم في أنفسكم، وتأهيلكم لإنشاء أسرة صالحة وتربية أبنائكم بشكل سليم يحقّق لكم الصدقة الجارية التي ذكرها الحديث الشريف (إذا مات المرء انقطع عمله إلا من ثلاث: علم يُنتفع به، صدقة جارية، ولد صالح يدعو له)(2) فلا تتحقّق الصدقة الجارية بأي ولد بل بالولد الصالح الذي يستمر بالتكاثر والتوسّع إلى يوم القيامة فكم سيكون هذا الرصيد المبارك؟

ذكرنا هذا على نحو الاختصار لأنّه واضح وملتفت إليه، ولكنّنا نشير الآن إلى بعض الخطوات العملية التي تزيد في التكامل وتوصل إلى المراد بإذن الله تعالى، ونأمل أن تكون من الإضافات التي تتميّز بها هذه المؤسسة المباركة

ص: 337


1- مستدرك الوسائل: 14/ 238 ح16602.
2- شرح أصول الكافي، ج6، ص137.

(جامعة الزهراء الدينية) عن بقية المؤسسات وتهتم بها:1-إحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنّها معطّلة وغائبة في المجتمع وهذا التعطيل لدى النساء أشدّ لضعف حركة التبليغ والوعظ والإرشاد، رغم أنّ هذه الفريضة وُصِفت في الأحاديث الشريفة بأنّها أسمى الفرائض وأعظمها وأنّها منهاج الأنبياء وسبيل الصلحاء وغير ذلك.

ويكفي أن ننقل حديثاً واحداً عن أمير المؤمنين (علیه السلام) في بيان عظمتها قال (علیه السلام): (وما أعمال البرّ كلّها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلاّ كنفثة في بحر لجّي) فتصوّروا عظمة هذه الفريضة، فهل يسعنا بعد هذا أن نتقاعس عن إحيائها وتفعيلها؟ ومن نافلة القول الإشارة إلى أن أداء هذه الوظيفة لا يقتصر على الآمر والناهي المباشرين بل يشمل آليات أخرى ومنها المنشورات والكتيبات والمجالس والحوارات ونحو ذلك.

ومن هذه الناحية فقد نجحت فروع الجامعة بتقديم العشرات من المبلّغات الرساليات ومرشدات قوافل الحجّاج ولهنّ صفحات نافعة على مواقع التواصل الاجتماعي وتركن أثراً مباركاً فجزاهنّ الله خير الجزاء.

2-الاتّصاف بالحياء والعفّة، وهاتان الصفتان في النساء خصّهما بالطلب الدعاء المأثور في زمن الغيبة الذي أوّله (اللهم ارزقنا توفيق الطاعة وبعد المعصية) والذي يبيّن الصفات المطلوبة في كل شريحة كالعلماء والأمراء والأغنياء والفقراء والشباب وغيره إلى أن يقول (وعلى النساء بالحياء والعفة) فالتركيز عليهما ناشئ من أهميتهما ودورهما في تكامل النساء.

وقد وردت فيهما أحاديث كثيرة كالمروي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال

ص: 338

(العفة رأس كل خير)(1) وقد جعلته إحدى الفاضلات عنواناً لكتاب مفصّل في هذه الخصلة الكريمة، وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (ما المجاهد الشهيد في سبيل الله بأعظم أجراً ممّن قدّر فعفّ، لكاد العفيف أن يكون ملكاً من الملائكة)(2) وعنه (علیه السلام): (بالعفاف تزكو الأعمال)(3).وورد في الحياء قول أمير المؤمنين (علیه السلام): (الحياء سبب إلى كل جميل)(4) وقوله (علیه السلام): (الحياء مفتاح كلّ الخير)(5) وتلاحظ أنّ العفّة والحياء يشتركان في صفة كونهما أصل وسبب ومنشأ كلّ خير وجميل.

وقد عُرِّفَ الحياء بأنّه ((انقباض النفس عن القبائح وتركها، وفي الحديث الشريف (إنّ الله حيِيّ) أي تارك للقبائح فاعل للمحاسن)).(6)

وفُسّرت العفّة بأنها ((حصول حالة للنفس تمتنع بها عن غلبة الشهوة))(7).

فهما إذن ملكتان نفسيّتان وخصلتان كريمتان بهما جمال المرأة وكمالها، أمّا ارتداء الحجاب الخارجي مهما كان متكاملاً فهو جزء منهما ومظهر لهما لكنّه لا يكفي وحده للتعبير عنهما ما لم ينعكس أثرهما على السلوك الخارجي والتعامل مع الآخرين، فلا فضول في الكلام ولا ملاطفة ولا انبساط في الحديث

ص: 339


1- غرر الحكم : رقم 1168.
2- نهج البلاغة، الحكمة: 474.
3- غرر الحكم: رقم 4238.
4- بحار الانوار ج77 ص211.
5- غرر الحكم / ح 340.
6- المفردات للراغب، مادة (حييّ).
7- المصدر، مادة (عف).

ولا خضوع بالقول ونحو ذلك، أما ما نسمع عنه اليوم من جلسات مختلطة غير محتشمة أو صداقات أو حوارات بين المؤمنين والمؤمنات على مواقع التواصل الاجتماعي أو بأي وسيلة أخرى مباشرة أو غير مباشرة تحت عنوان الحوار المفيد أو الهادف أو أي شكل آخر هو خداع منافي للحياء والعفّة ولا مبرّر له لإمكان التواصل مع أبناء نفس الجنس، وتوجد شواهد كثيرة على انتهاء هذه العلاقات إلى نتائج مؤلمة.إنّنا نفخر بأن جامعة الزهراء الدينية لكل فروعها أصبحت رمزاً للحياء والعفّة ويشيد بها حتى من لا يوافقنا في بعض التوجّهات.

3-والخطوة العملية الأخرى المطلوبة هي حثّ النساء على الترفّع عن المباهاة والتفاخر والتزيّن بأمور الدنيا والتنافس مع النساء الأخريات والتفوّق عليهنّ، فهذه أمور تافهة لا قيمة لها وإن التنافس الحقيقي بالعمل الصالح وبالخصال الكريمة التي أشرنا إليها، أمّا هذه المنافسات الدنيوية فهي من خدع الشيطان.

4-السعي الدؤوب لحماية المجتمع من المشاكل العائلية والخلافات على أمور لا تستحق الالتفات إليها تُسبّب الكراهية والبغضاء بين الأخ وأخته والأمّ وولدها والزوج وزوجته والأب وأبنه وبين الجيران والأرحام ونحو ذلك وتتضاعف وتتضخّم وتؤدي إلى تفكّك الأسر وتخريب المجتمع وهو ما يبغضه الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) ويؤدي إلى تشوش الفكر وانشغال القلب وزيادة الهم، وعلى العكس فإنّ المرأة تستطيع أن تصبح بعواطفها الجيّاشة ورحمتها الواسعة وقلبها الكبير أن تصبح جسراً للمودّة والمحبّة والتواصل بإذن الله تعالى.

ص: 340

هذه بعض الخطوات العملية التي فيها تلبية لاستنصار الإمام المهدي (علیه السلام) في خطبة الإعلان عن حركته (إلا إنّا نستنصر الله اليوم وكل مسلم) فكونوا من أنصار الله تعالى وأنصار الإمام (علیه السلام) بتوفيق الله ولطفه.

ص: 341

خطاب المرحلة 388 :ونحشره يوم القيامة أعمى

خطاب المرحلة 388 :ونحشره يوم القيامة أعمى(1)

من دعاء الإمام الحسين (علیه السلام) يوم عرفة وهو يناجي ربه بكل تذلّل وخضوع (عميت(2) عينٌ لا تراك عليها رقيباً وخسرت(3) صفقة عبد لم تجعل له من حبّّك نصيبا) وهاتان الفقرتان فضلاً عن بقية فقرات الدعاء تزوّدنا بقواعد في السلوك المعنوي إلى الله تبارك وتعالى، وتدلّنا على الجناحين اللذين نطير بهما في سماء الكمال ومعرفة الله تعالى وبلوغ رضوانه وهما المراقبة والحب، مراقبة الله تعالى في كل الأفعال والأقوال والمواقف، واحتواء القلب على محبة الله تعالى حتى يكون هذا الحب هو البوصلة الموجّهة لكل الحركات والسكنات، وبالحب والمراقبة تتحقق التقوى التي هي خير الزاد ليوم المعاد (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) (البقرة/197).

فالشخص الذي يفعل ما يحلو له من دون إحساس وجداني بأن الله تعالى مطّلع عليه وأنه بمحضر رب العزة والجلال دائماً (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي

ص: 342


1- حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من كوادر مدينة الديوانية وأقضيتها ونواحيها وحيّي الجهاد المعامل في بغداد يوم الاثنين 8 ذ.ح 1434ه- المصادف 14/ 10/ 2013.
2- (3) العبارة تحتمل أن تكون إخباراً عن العين والصفقة بأنّهما تعمى وتخسر وقد تكون إنشاءاً بمعنى الطلب من الله تعالى أن يعمي العين ويخسر الصفقة وكلاهما وارد.

الصُّدُورُ) (غافر/19) (إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء) (آل عمران/5) (وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء (إبراهيم/38) مثل هذا الشخص لا يبصر الحقيقة وهو أعمى البصيرة وإن كانت له عينان تبصران: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَ-ئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَ-ئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف/179) (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً) (الإسراء/97).(وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) (طه/124-126).

فمن يعرض عن ذكر الله تعالى ويهمل وظائف العبودية لربه تحصل له عقوبتان:

الأولى: المعيشة الضيقة النكدة المليئة بالقلق والخوف وعذاب الضمير ويزداد هذا الضيق قسوة عليه عند الموت وما بعده في القبر والبرزخ.

الثانية: يُحشر يوم القيامة أعمى لا يرى طريق السعادة والنجاة ورضوان الله تعالى وإن كان يرى العذاب والألم والأهوال أي أنّ عماهُ ليس مطلقاً وإنّما عن خصوص ما ينجيه ويوصله إلى السعادة والفلاح أمّا العذاب والألم والمصير المشؤوم فإنّه يراه (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (ق/22) (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ) (الفرقان/22) (وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ) (يونس/54)

ص: 343

(سبأ/33) (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ) (الشورى/44) (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ) (البقرة/166) لأنه كان هكذا في دار الدنيا، كان معرضاً عن الهداية والرشد ولا يرى طريق السعادة لكنّه كان يبصر الشهوات والهوى والدنيا فتجلّت حقيقته في الآخرة كما اختار هو في الدنيا (وَمَن كَانَ فِي هَ-ذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (الإسراء/72) وبهذا نردّ على إشكال بعض متحذلقة الكلام بوجود تناقض في القرآن الكريم بين آيات الإبصار والرؤية وآيات العمى.ولأنّ هذا الشخص نسي ذكر ربه وأعرض عن آياته وأهملها فكان جزاؤه يوم القيامة أن يُنسى بمعنى يهمل ولا يلتفت إلى استغاثته وندائه واستصراخه كما يقول أحدنا لمن أهمله ولم يلتفت إليه إنك نسيتني، فقد جوزي إذن بنفس فعله (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) (الشورى/40) روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله (ليس الأعمى من يعمى بصره، إنما الأعمى من تعمى بصيرته)(1) والثاني أشد من الأول روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قوله (فقد البصر أهون من فقدان البصيرة)(2).

هل أنت من أهل البصيرة:

وتدلّنا الروايات على بعض علامات أهل البصيرة، كالمروي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) (أبصر الناس من أبصر عيوبه وأقلع عن ذنوبه)(3) وعنه (علیه السلام)

ص: 344


1- كنز العمال: 1220.
2- (3) غرر الحكم: 6536، 3061.

(ألا إن أبصر الأبصار ما نفذ في الخير طرفُه).(1)ومن موجبات النور في الدنيا والآخرة بحسب ما أفادت الروايات الشريفة:

1-تقوى الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (الحديد/28)

2- الصلاة، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال (الصلاة نور).(2)

3- تلاوة القرآن، عنه (صلی الله علیه و آله) (عليك بتلاوة القرآن، فإنه نور لك في الأرض، وذخرٌ لك في السماء) وعن الإمام الحسن (علیه السلام) (إن هذا القرآن فيه مصابيح النور).

4-صلاة الليل، عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (ما تركتُ صلاة الليل منذ سمعت قول النبي (صلی الله علیه و آله): صلاة الليل نور)

5-ترك فضول الكلام وهو مادة أكثر أحاديث الناس في مجالسهم، عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (أكثر صمتك يتوفر فكرك، ويستنر قلبك ويسلم الناس من يديك).

6-تجنب ظلم الآخرين، والآخرون المقصودون بالظلم يمكن أن يكونوا الوالدين أو الزوجة أو الأولاد أو الجيران لتضييع حقوقهم أو عموم الناس عند عدم مراعاة الحق والعدل والإنصاف معهم، روي أن رجلاً قال لرسول الله (صلی الله علیه و آله): أحبُّ أن أحشرَ يوم القيامة في النور) قال رسول الله (صلی الله علیه و آله):(لا تظلم

ص: 345


1- نهج البلاغة: الخطبة 105.
2- مصادر الروايات المذكورة في هذه النقاط في ميزان الحكمة: 9/ 177 وما بعدها.

أحداً تُحشر يوم القيامة في النور).7-أن تشهد بالحق للآخرين وتنصفهم، على أي مستوى من المستويات كما لو أريد منك الشهادة لأحد بالصلاح وحسن السيرة لتزويجه أو بحق مالي له أو أي حق اعتباري آخر عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال (من شهد شهادة حق ليحيي بها حق امرئٍ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه نورٌ مدَّ البصر يعرفه الخلائق باسمه ونسبه).

8-الدعاء، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال (أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفه: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، اللهم اجعل في سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي قلبي نوراً، اللهم اشرح لي صدري ويسّر لي أمري وأعوذ بك من وسواس الصدور وتشتت الأمور).

موجبات العمى:

أما ما يوجب العمى يوم القيامة هو كل إعراض وصدود عن شرع الله وحكمه وعدم العمل بكتاب الله وسنة رسول الله (صلی الله علیه و آله) في كل شؤون الحياة مما أصبح مألوفاً اليوم في الأسواق ومعاملاتنا التجارية وفي السنائن العشائرية وفي العلاقات الاجتماعية وفي السياسة والحكم وإدارة مؤسسات الدولة وغيرها كثير.

ولكل شريحة في المجتمع امتحانها وابتلاؤها بآيات الله التي يلزم العمل بها فلرجل الدين والطبيب والمدرّس والمهندس والكاسب والزوجة والابن والوالدين وغيرها من العناوين له الآيات والأحاديث التي تخاطبه وتنطبق عليه

ص: 346

قوله تعالى (كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا) (طه/126) حيث بلغه تكليفه والمطلوب منه، عن النبي (صلی الله علیه و آله): (ومن قرأ القرآن ولم يعمل به حشره الله يوم القيامة أعمى فيقول: (رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً))(1).وقد علّمنا هذا الحديث وكلمة الإمام الحسين (علیه السلام) السابقة المدى الواسع لمن يمكن أن تشملهم الآية وأنّه لا أحد –حتى الملتزمين بأداء العبادات الدينية- بمنأى عن حشرهم عمياً إذا لم يكونوا مراقبين لله تعالى متّقين عاملين بشكل تفصيلي بآيات الله تعالى.

وهذا يفسّر لنا لماذا يطلب الأئمة (علیهم السلام) منّا أن نشعر بأنّنا مشمولون بكل آية فيها تخويف وإنذار وتهديد وأنّها ليست مقتصرة على الكافرين والمشركين والمنافقين، ففي وصف سيرة الإمام الرضا (علیه السلام) أنّه كان ((يكثر بالليل في فراشه من تلاوة القرآن فإذا مرّ بآية فيها ذكر جنة أو نار بكى وسأل الله الجنة وتعوّذَ من النار))(2) وروي عن الإمام الصادق (علیه السلام) قوله في صفة الذين يتلون حقّ تلاوته (ويرجون وعده ويخشون عذابه)(3) ونعود الآن إلى ذكر بعض الروايات التي شخّصت بعض موارد هذا الإهمال للأوامر الإلهية الموجب للعمى ومنها.

1-عدم التمسّك بولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) ، عن الصادق (علیه السلام) في قول الله عز وجل (ومن أعرض عن ذكري) قال (علیه السلام): يعني ولاية أمير المؤمنين

ص: 347


1- ثواب الأعمال: 337 ح1.
2- عيون أخبار الرضا: 2/ 182 ح5.
3- تنبيه الخواطر: 2/ 236.

(ع) وعن قوله تعالى (ونحشره يوم القيامة أعمى) قال (علیه السلام): (يعني أعمى البصر في القيامة أعمى القلب في الدنيا عن ولاية أمير المؤمنين (علیه السلام)، وهو متحيّر يوم القيامة يقول (رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا) (طه/125-126) قال: الآيات الأئمة (علیهم السلام) (فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) (طه/126) يعني تركتها، وكذلك اليوم تترك في النار كما تركت الأئمة فلم تطع أمرهم ولم تسمع قولهم).(1)2-ترك الحج وهو مستطيع عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال (من مات وهو صحيح موسر ولم يحج فهو ممن قال الله عز وجل (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه/124)، قال أبو بصير: قلت: سبحان الله: أعمى قال: نعم إن الله عز وجل أعماه عن طريق الحق).(2)

ص: 348


1- الكافي: 1/ 361 ح92.
2- الكافي: 4/ 269 ح6.

خطاب المرحلة 389 :عوامل ازدهار التشيّع بين الأمس واليوم

خطاب المرحلة 389 :عوامل ازدهار التشيّع بين الأمس واليوم(1)

تشهد هذه الأيام توسعاً ملحوظاً وازدهاراً للتشيّع ومدرسة أهل البيت (علیهم السلام) بعد أن كان أهل البيت وشيعتهم مبعدين محاصرين لا يسمح لهم بتحرك معتدٍ به وكان مصيرهم القتل والسجن والتعذيب والحرمان ومصادرة الممتلكات، يتحدث الإمام الباقر (علیه السلام) عن هذه المحنة المهولة بقوله (وقتلت شيعتنا بكل بلدة وقطّعت الأيدي والأرجل على الظنّة وكان من يُذكر بحبنا والانقطاع إلينا سُجن أو نُهب ماله أو هُدّمت داره)(2) وسُئل كيف أصبحت؟ قال(ع): (أصبحت برسول الله (صلی الله علیه و آله) خائفاً وأصبح الناس كلهم برسول الله (صلی الله علیه و آله) آمنين).(3)

وقد تعرض شيعة أهل البيت لألوان القتل والتعذيب والتنكيل، كتب معاوية إلى عماله نسخة واحدة جاء فيها: انظروا إلى من قامت عليه البيّنة أنه يحب علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه(4) وأوعز إليهم بهدم دور

ص: 349


1- خطبتا صلاة عيد الأضحى للعام 1434 التي أقامها سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) يوم الأربعاء 16/ 10/ 2013.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 11/ 420.
3- موسوعة سيرة أهل البيت (علیهم السلام) للمرحوم الشيخ باقر القرشي: 18/ 132، عن ميزان الاعتدال: 4/ 160.
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 11/ 45.

الشيعة فقاموا بنقضها(1) وعهد إلى جميع عماله بعدم قبول شهادتهم في القضاء وغيره مبالغة في إذلالهم، وأجلى زياد بن أبيه خمسين ألفاً من الشيعة من الكوفة إلى خراسان.(2)وروى أبو بصير قال: (قلت لأبي جعفر (علیه السلام) جعلت فداك اسم سُمّينا استحلت به الولاة دماءنا وأموالنا وعذابنا، قال ما هو؟ قال: الرافضة، قال (علیه السلام) ذلك اسم قد نحلكموه الله).(3)

لذا كانت حركة التشيّع محدودة جداً كالنقش في الحجر روى الشيخ الكليني بسنده عن إسماعيل بن عبد الخالق قال: (سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول لأبي جعفر الأحول وأنا أسمع: أتيتَ البصرة؟ فقال: نعم، قال (علیه السلام): كيف رأيت مسارعة الناس إلى هذا الأمر ودخولهم فيه؟ قال: والله إنّهم لقليل، ولقد فعلوا وإنّ ذلك لقليل، فقال (علیه السلام): عليك بالأحداث، فإنّهم أسرع إلى كل خير).(4)

هكذا كان الإمام (علیه السلام) يتفقّد حركة المبلّغين والمرشدين ويطّلع على نتائج أعمالهم ويعطيهم التوجيهات المناسبة حتى لا يدخلهم اليأس من الحصار الخانق المفروض عليهم واليوم وصل صوت أهل البيت (علیهم السلام) إلى العالم كلّه ويأوي إلى هذا الكهف الشريف الناس أفواجاً.

ص: 350


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 11/ 45.
2- راجع المصادر في موسوعة أهل البيت للمرحوم القرشي: 13/ 179.
3- المحاسن للبرقي: 119 كتاب الصفوة وصور، باب24: الرافضة.
4- الكافي: 8/ 93 ح66.

ونجد من مسؤوليتنا البحث في جواب السؤال الذي يستحق التأمل فيه عن سر ديمومة هذا الكيان الشريف وصموده رغم كل تلك الحرب الجهنّمية التي أحاطت به حتى حافظ على وجوده بل نمى وازدهر وتوسّع وفرض نفسه على الجميع مما أصاب الحاسدين والحاقدين من بعض طوائف المسلمين الأخرى أو غير المسلمين بالذهول والدهشة، ولم يجد أعداء هذا الكيان الشريف حلاًّ إلاّ استخدام الوسائل الوحشية من القتل والتدمير والتفجير والتخريب بلا أي خطوط حمراء من أجل إيقاف زحف هذا التمدّد المبارك وتطويقه لأنّهم يجدون في مبادئ هذه المدرسة السامية وثقافتها العدوّ الوحيد والخصم العنيد لمشاريعهم الاستكبارية واتخاذ مال الشعوب دولاً وعباده خولاً أما غير أتباع أهل البيت (علیهم السلام) –مسلمين كانوا أو غير مسلمين- فلم يعبأوا بهم كثيراً لإمكان ترويضهم وامتلاك زمامهم بشكلٍ من الأشكال.وإنّما جعلنا إثارة هذا السؤال والبحث في الجواب عنه واجباً علينا لأنّه يحمّلنا مسؤولية إدامة عناصر القوة والازدهار هذه، والتحرّك بها لإقناع الآخرين وهدايتهم إلى هذا الحق المبين.

وما يمكن أن نذكره من أسباب الديمومة والازدهار والتوسّع ما يلي: -

1-الحفظ الإلهي، فقد تعهّد الله تبارك وتعالى بحفظ كتابه الكريم وعترة النبي (صلی الله علیه و آله) الذين هم عدل الكتاب، قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر/9) والذكر شامل لأهل البيت (علیهم السلام) لأن ذكرهم ذكر الله تعالى، قال تعالى (قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً . رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ) (الطلاق/10-11)، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (إنّ شيعتنا الرحماء

ص: 351

بينهم، الذين إذا خلوا ذكروا الله، إنّ ذكرنا من ذكر الله، إنّا إذا ذكرنا ذُكر الله وإذا ذُكر عدوّنا ذُكر الشيطان).(1)وفي روايتين عن الإمامين الباقر والصادق (علیه السلام) (في قول الله عز وجل (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): الذكر أنا والأئمة أهل الذكر وقوله عز وجل (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون) قال أبو جعفر (علیه السلام): نحن قومه ونحن المسئولون)(2).

وقد أخبر النبي (صلی الله علیه و آله) عن هذا الحفظ في حديث الثقلين المشهور (إنّي مخلّفٌ فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي أبداً: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وقد نبأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض يوم القيامة).

2-رعاية إمام العصر كل عصر ودعاؤه، في الكافي (عن عبد الله بن أبان الزيّات وكان مكيناً عند الرضا (علیه السلام) قال: قلتُ للرضا (علیه السلام): ادعُ الله لي ولأهل بيتي فقال: أولستُ أفعل؟ والله إنّ أعمالكم لتُعرض عليّ في كل يومٍ وليلة، قال: فاستعظمتُ ذلك فقال لي: أما تقرأ كتاب الله عزّ وجل (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (التوبة/105) قال: هو والله عليّ بن أبي طالب (علیهما السلام)).(3) وفي رواية أخرى (هم الأئمة (علیهم السلام)).

وفي الرسالة المروية عن الإمام المهدي (عج الله فرجه) للشيخ المفيد (إنّا

ص: 352


1- الكافي: ج2، باب: تذاكر الأخوان، ح1.
2- وسائل الشيعة، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي باب7، ح4، 6.
3- أصول الكافي، ج1، كتاب الحجة، باب عرض الأعمال على النبي (صلی الله علیه و آله) ح4.

غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء- أي الشدّة وضيق المعيشة- أو اصطلمكم الأعداء).3-أصالة هذه المدرسة واقترانها بالإسلام نفسه فهي محفوظة بحفظ الإسلام لأنها ليست شيئاً آخر غير الإسلام المحمدي الأصيل فالتشيّع هو الإسلام وليس مذهباً من مذاهبه التي نشأت لاحقاً.

فقد غرس النبي (صلی الله علیه و آله) نبتة التشيّع لأمير المؤمنين (علیه السلام) منذ الأيام الأولى للإسلام عندما نزل قوله تعالى (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (الشعراء/214) وبقي يصرّح بفضل علي (علیه السلام) وإنّه خليفته ووارثه والإمام بعده حتّى حسم الأمر في يوم الغدير وألزم أصحابه بأن يبايعوا علياً بإمرة المؤمنين قبيل وفاته (صلی الله علیه و آله) وكان الله يبارك هذه الحركة وينزل الآيات تلو الآيات ومنها البشارة لعلي وشيعته في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ . جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (البينة/7-8)، فقد روى الفريقان أنّها نزلت في عليّ وشيعته.

وكان من شيعته أعيان أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) الآخذين بسنّته كسلمان الفارسي والمقداد بن الأسود وأبي ذر الغفاري وعمّار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وأبي أيوب الأنصاري وخالد بن سعيد بن العاص الأموي وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين وأبي الهيثم بن التيهان ونظرائهم، وروى الخطيب الخوارزمي في مناقبه بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: (كان أصحاب

ص: 353

رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا أقبل عليٌ قالوا: جاء خير البرية).(1)وتأكيداً لهذا الانتماء الأصيل روى جابر قال (قلت لأبي جعفر (علیه السلام): إذا حدثتني بحديث فأسنده لي، فقال: حدثني أبي عن جدي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن جبرئيل عن الله تبارك وتعالى، وكلما أحدّثك بهذا الأسناد)(2) ولذلك لم يحتج الأئمة إلى ذكر سند أحاديثهم كما يفعل غيرهم، روى حفص بن البختري قال (قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): نسمع الحديث منك فلا أدري منك سماعه أو من أبيك فقال: ما سمعته مني فاروه عن أبي وما سمعته مني فأروه عن رسول الله (صلی الله علیه و آله)).(3)

ومن آثار هذه الأصالة جعل الكتاب الكريم وسنة النبي (صلی الله علیه و آله) المعيار لقبول روايات أهل البيت (علیهم السلام) فقد روى عبد الكريم بن أبي يعفور قال (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به، ومنهم من لا نثق به قال (علیه السلام): إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله أو من قول رسول الله وإلا فالذي جاءكم به أولى به)(4)

4-سموّ المبادئ والقيم الإنسانية العليا التي احتوت عليها مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) والتي تُلهم البشرية السعادة وتضمن لها العدالة والحياة الكريمة خُذ مثلاً عهد الإمام علي (علیه السلام) إلى مالك الأشتر لمّا ولاّهُ مصر أو الأهداف

ص: 354


1- المناقب للخوارزمي: 3/ 69.
2- 13- وسائل الشيعة، باب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب8 ح67 .
3- 13- وسائل الشيعة، باب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب8 ح 86 .
4- وسائل الشيعة، باب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب9 ح11.

التي أعلنها الإمام الحسين (علیه السلام) لثورته المباركة(1) أو رسالة الحقوق للإمام السجاد (علیه السلام) وهكذا كلمات الأئمة الآخرين (ع) وفي ذلك يقول الإمام (علیه السلام): (فإنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا) (2).ولذلك وجدنا التفاف الناس حول هذه المدرسة كلما أعطيت فرصة للناس لكي ينصتوا إليها ويأخذوا منها كالذي حدث في زمان الإمام الصادق (علیه السلام) حيث وجد فرصة لبثّ علوم آبائه وأجداده الطاهرين فوجد العلماء من شتى الاتجاهات عنده ما لم يجدوا عند غيره لأن هذا الصوت كان محجوباً ومحاصراً فالتفوا حوله وأخذوا منه حتى من صاروا بعد ذلك أئمة للمذاهب.

وكشاهد على اعتراف المجتمع الدولي بريادة وسبق أهل البيت (علیهم السلام) في تثبيت حقوق الإنسان فقد اعتمدت الأمم المتّحدة عام 2000 عهد أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى مالك الأشتر كوثيقة تأسيس لمبادئ حقوق الإنسان.

5-السلوك السامي وطريقة التعامل المثالية التي كان يظهرها أئمة أهل البيت (علیهم السلام) إلى درجة كان يذهل العدو قبل الصديق ويجعل الجميع يذعن لهم بالتقدّم على كلّ الناس، حيث كانوا يتعاملون برحمة ونبل وشهامة مع الأعداء والأصدقاء.

والروايات في ذلك كثيرة من سيرة الأئمة (علیهم السلام)، فالإمام الحسين (علیه السلام) يسقي الجيش المعادي الذي اعترضه في الطريق بقيادة الحر الرياحي وهم ألف فارس مع خيولهم وكان آخرهم منهكاً فسقاه الإمام بيده الشريفة مما أثّر في

ص: 355


1- راجع كمثال خطابنا عن (ثورة الإمام الحسين (علیه السلام) وتأصيل مبادئ حقوق الإنسان).
2- جواهر البحار: ج2 كتاب العلم، ص30.

قلب القائد الحر وجعله ينقلب على قيادته ويلتحق بالإمام الحسين (علیه السلام) يوم عاشوراء.هذا السمو والعفاف والطهارة والنبل جعل الأمة تعشق أهل البيت (علیهم السلام) وإن لم يكونوا من شيعتهم لأنّ أغلب الناس على دين ملوكهم كما قيل، لاحظ كمثال انفراج الناس سماطين عن الإمام السجاد (علیه السلام) عندما تقدّم إلى الكعبة لاستلام الحجر الأسود بينما عجز الأمير الأموي بجيشه الكبير عن تحقيق ذلك، ومن اعترافات أعدائهم بذلك قول هارون العباسي لولده المأمون عن الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام): (هذا إمام القلوب وأنا إمام الأبدان).

يقول أبو حنيفة إمام مذهبه (ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد، لما قدم المنصور بعث إليّ، فقال: يا أبا حنيفة إنّ الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمد فهيّئ له من المسائل الشداد)(1) إلى آخر الرواية.. ومحل الشاهد اعتراف المنصور العباسي بافتتان الناس بالإمام الصادق (علیه السلام).

6-التعاطف الإنساني الذي تجاوز حدود الطائفة والدين مع أهل البيت (علیهم السلام) وشيعتهم بسبب شدة الظلم والبطش والقسوة التي تعرض لها أهل البيت (علیهم السلام) وارتكبت في حقّهم أبشع الجرائم:

أنست رزيتكم رزايانا التي *** سلفت وهوّنت الرزايا الآتية

من دون أن يرتكبوا جريمة أو يصدر منهم فعل مشين لذا ألّف غير الشيعة من المسلمين وغير المسلمين كثيراً في أهل البيت وصدرت منهم كلمات رائعة فيهم، فكانت هذه المظلومية سبباً لاجتذاب كثيرين إلى مدرسة أهل البيت

ص: 356


1- جامع مسانيد أبي حنيفة 1 / 222، تذكرة الحفاظ للذهبي 1 / 166.

(ع) خصوصاً قضية أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء والإمام الحسين (صلوات الله عليهم أجمعين).7-تواصل وجود القيادة المتمثلة بالمرجعية الدينية الرشيدة العارفة بزمانها والتي تتوفر فيها شروط الشرعية التي أعطاها الأئمة (علیهم السلام) لورثتهم من العلماء الذين يقومون مقامهم في ولاية أمور الأمة وقد صدرت من الأئمة كلمات مهمة في وجوب طاعة نوّابهم المستحفظين على شريعتهم وحرمة التمرّد عليهم كقول الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) (وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجة الله عليهم)(1) وقوله (علیه السلام) (الراد عليهم، كالراد علينا وعلى الله تعالى، وأنه شرك بالله)(2).

مما أعطى لحركة المرجعية زخماً كبيراً في حياة الأمة وهيبة وطاعة عظيمة عزّزها ما يتمتع به هؤلاء النوّاب من علمٍ جم وأخلاقٍ رفيعة وشفقة كبيرة على رعاياهم.

8-الانفراج السياسي وتخفيف قبضة السلطات الجائرة وقد تصل الفرصة أحياناً إلى حد التمكين في الأرض من خلال الحصول على السلطة والحكم أو الحضور فيها أو وجود ظروف سياسية مناسبة كالفترة التي عاشها الإمام الصادق (علیه السلام) بين ضعف الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية فاستثمر الإمام (علیه السلام) تلك الفرصة واتسعت مدرسته حتى سمي المذهب باسمه.

ص: 357


1- كمال الدين وإتمام النعمة: 484 الباب(45) ذكر التوقيعات، وسائل الشيعة 27: 140 الباب(11) حديث (33424) من أبواب صفات القاضي.
2- الكافي: 7 / 412 الحديث 5، الاحتجاج للطبرسي: 2 / 356.

أما التمكن من السلطة والحكم النافذ فإنه من أقوى مصاديق قوله تعالى (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) (الأنفال/60) وقد كان التمكين في الأرض وتهيئة الأسباب (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) (الكهف/84) من أعظم الوسائل التي آتاها الله أنبيائه العظام لنشر دعواتهم، ولنأخذ مثلاً النبي (صلی الله علیه و آله) فقد وصف الله تعالى أصحابه عندما كانوا في مكة بأنّهم (قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) ثمّ حصل التمكين (فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ) (الأنفال/26) وتحقق هذا التأييد بالهجرة إلى المدينة وتأسيس دولة الإسلام الكريمة المباركة حتى انتشر الدين ودخل فيه الناس أفواجاً.وقد حظي التشيّع على مدى القرون بدول اتخذته شعاراً –بغضّ النظر عن مصداقيتها في تبنّي هذا الشعار- وأعطت فرصاً ثمينة لمذهب أهل البيت (علیهم السلام) بالانتشار والتوسّع، والمتابع لتاريخ المدارس الفقهية وتطورها يجد ازدهارها مقترناً بالوضع السياسي الملائم كالعصر الذهبي أيام الصدوق والمفيد والمرتضى والطوسي الذي زامن نفوذ الدولة البويهيّة في بغداد، ومثله ما حصل في أيام الدولة الحمدانية في الشام والفاطمية في مصر والصفوية في إيران والأدارسة في المغرب، وما نشهده اليوم من انطلاق صوت مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) بعد أن تمكن الشيعة في بعض بلدان المنطقة.

9-الشعائر الدينية، فقد كان لهذه الشعائر وخصوصاً الشعائر والمجالس الحسينية وزيارات مراقد المعصومين (علیهم السلام) الأثر الفاعل في هداية الكثير من الناس وإلفات أنظارهم إلى مظلومية أهل البيت (علیهم السلام) ومناقبهم وفضائلهم

ص: 358

وتوضيح مبادئ وأصول هذه المدرسة المباركة، خصوصاً بعد التطور التكنولوجي الهائل في وسائل الإعلام والاتصالات حتى صار العالم كلّه يرى ويتابع هذه الحركة المباركة ويتساءل عنها ويتفاعل معها.كما أنّ لهذه الشعائر والمجالس الأثر الكبير في تمسّك الشيعة بعقيدتهم والتعرّف على تفاصيل مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) عقيدةً وأحكاماً وأخلاقاً وأفكاراً، وكانوا كلما شرّقت بهم الأهواء وغرّبت أعادتهم هذه الشعائر إلى هذه الجنة المباركة.

10-انتشار المبلغين والدعاة والمؤمنين المتحمّسين لنشر مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) حيث شيّدوا المساجد والحسينيات وأقاموا الشعائر الدينية ورفعوا شعارات أهل البيت (علیهم السلام) في كل بقاع الأرض، وعلى طريقة الآية الكريمة (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم) والمثل المعروف (ربّ ضارة نافعة) فقد كان تشريد وتهجير أهل البيت (علیهم السلام) وشيعتهم في بقاع الأرض سبباً لانتشار هذا الصوت الإلهي المقدّس، ويحيى ذكر أهل البيت (علیهم السلام) الآن في أقصى نقطة من شمال شرق الكرة الأرضية في روسيا وفي أبعد نقطة غرب الأرض في الولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية وما بينهما.

إن الالتفات إلى عناصر القوّة والديمومة والإقناع في مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) تزيد إيماننا بصحتها وأحقيتها وبنفس الوقت توجب علينا مسؤولية المحافظة على هذه العناصر وإدامتها وتنميتها، وتجنّب كل ما يضعفها ويحجّم دورها وأثرها، فنكون –والعياذ بالله- سبباً في خيانة هذه الرسالة العظيمة وخذلان أئمتنا الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين).

ص: 359

ومن أشكال هذا الخذلان:1-توظيف هذه العقيدة الحقّة لمكاسب دنيوية كالذي يفعله بعض السياسيين الشيعة مما يوجب النفور من هذه العقيدة وسوء الظن بها للارتباط الوثيق بين الأيديولوجية وسلوك حاملها فلابد من فضح المتاجرين بالدين وتبرئة الدين من أفعالهم.

2-تسقيط العلماء وامتهان كرامتهم وانتهاك حرماتهم وتشويه صورتهم والافتراء عليهم مما يؤدي إلى توهين المذهب وسقوطه في أعين الناس.

3-سوء تصرف أتباع المذهب وابتعادهم عن تعاليم هذه المدرسة الشريفة إلى حدّ المباينة بحيث يصبحون شيعة بلا تشيّع أي بالاسم فقط فيجلبون العار للتشيّع ويصبحون عائقاً دون انتشاره لأنهم يعرضون مثلاً سيئاً.

4-ترويج الأخبار المكذوبة والممارسات المبتدعة ظناً منهم أنه زيادة في إظهار الولاء والتعصّب للمذهب مما يوجب استفزاز الآخر ونفوره كبعض أخبار الغلو والحكايات الخيالية والطقوس الدخيلة على الشعائر الحسينية ونحو ذلك.

إن من المؤسف التفات أعداء التشيّع إلى مكامن القوّة فيه أكثر من أبنائه فعملوا بجد على إضعافها من خلال تشويه صورة المذهب و تسقيط المرجعية وتحجيمها والقضاء على العاملين الرساليين وإلقاء الفتن بين الشيعة واستدراجهم وإبعادهم عن الصورة الناصعة لمدرسة أهل البيت (علیهم السلام) ونحوه من الأساليب والشيعة غافلون عن ذلك منشغلون بلعق شيء من العسل غطوا به سمومهم ولكن الله تعالى يقيض لهذا المذهب الشريف ولأتباع أهل البيت (علیهم السلام) من يوقظهم من غفلتهم وفاءاً بوعده الحق في الحفظ والتمكين.

ص: 360

خطاب المرحلة 390 :شرف خدمة أهل البيت (علیهم السلام) وولايتهم

اشارة

خطاب المرحلة 390 :شرف خدمة أهل البيت (علیهم السلام) وولايتهم(1)

(روي انّ أبا عبدالله ع كان عنده غلام يمسك بغلته اذا هو دخل المسجد، فبينما هو جالس ومعه البغلة اذا اقبلت رفقة من خراسان ، فقال له رجل من الرفقة: هل لك يا غلام أن تسأله ان يجعلني مكانك، وأكون له مملوكاً، واجعل لك مالي كله، فانّي كثير المال من جميع الصنوف، اذهب فاقبضه ،وأنا أقيم معه مكانك؟

فقال: اسأله ذلك.

فدخل على أبي عبد الله ع فقال: جُعلت فداك تعرف خدمتي ، وطول صحبتي ، فان ساق الله اليّ خيراً تمنعنيه؟

قال: اعطيك من عندي ، وامنعك من غيري.

فحكى له قول الرجل ، فقال: إن زهدت في خدمتنا ورغب الرجل فينا ، قبلناه ،وأرسلناك. فلما ولّى عنه دعاه - الإمام - فقال له: أنصحك لطول الصحبة ولك الخيار، فإذا كان يوم القيام كان رسول الله ص متعلّقاً بنور الله، وكان أمير المؤمنين ع متعلّقاً برسول الله، وكان الأئمة متعلّقين بأمير المؤمنين، وكان شيعتنا متعلّقين بنا، يدخلون مدخلنا ويردون موردنا.

ص: 361


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع تجمّع أئمة الجمعة في محافظة القادسية يوم 20/ ذ.ح/1434 الموافق 26/ 10/ 2013.

فقال الغلام: بل أقيم في خدمتك وأؤثر الآخرة على الدنيا. وخرج الغلام إلى الرجل فقال له الرجل: خرجت إليّ بغير الوجه الذي دخلت به! فحكى له قوله (أي قول الإمام سلام الله عليه).)(1)أقول: هذا بعض ما أعدّه الله تعالى من الشرف والكرامة لخدّام أهل البيت (علیهم السلام) الموالين لهم مما لا يعدله شيء من هذه الدنيا الزائلة، وهكذا يتنافس عليها العارفون بها.

وقد تسأل بأن هذا الشرف هل هو مخصوص بمن عاصرهم وأتيحت له فرصة خدمتهم ويحرم منها غيرهم كأجيالنا الحاضرة وهذا ينافي عدالة الخالق ولا يليق بسعة رحمته وكرمه.

والجواب يكون بالالتفات إلى أن خدمتهم (ع) لا تقتصر على قضاء الحوائج الشخصية لهم حتى تنحصر بمن عاصرهم وباشرهم فإن من أرقى أشكال خدمتهم دراسة علومهم وسيرتهم ونقلها إلى الناس وقد وردت عنهم (علیهم السلام) كلمات جليلة في حق أصحابهم الذين قاموا بهذا الدور بحيث ورد في الحديث أن تعليم حديث واحد من أحاديثهم أفضل مما بين المشرق والمغرب، وهذه فرصة متاحة للجميع ولا تنحصر بطلاب الحوزة العلمية، ووسائل الاتصال الحديثة أتاحت فرصة واسعة جداً للحركة.

وهكذا تتنوع الخدمة بحسب قابليات الشخص ومؤهلاته، فالبعض يقيم المجالس الحسينية والبعض الآخر يخدم الزوار ويوفّر لهم الطعام وأسباب الراحة وسائر الخدمات، أو يشارك في المواكب والشعائر، ووسائل الإعلام

ص: 362


1- منازل الآخرة والمطالب الفاخرة للشيخ عباس القمي: 283.

تقدّم خدمة بعرض هذه الحركة المباركة التي أقنعت الكثيرين بدراسة مذهب أهل البيت (علیهم السلام) واعتناقه عن معرفة، فانتشر ووصل إلى بلدان لم يكن في المستطاع الجهر فيها بالدعوة إلى أهل البيت (علیهم السلام) في البلاد العربية وغيرها من بلدان العالم، ولا شكّ أن هذه الخدمات ليست أقلّ من عمل ذلك الغلام الذي ذكرته الرواية المتقدمة.وقد تكون خدمة أهل البيت (علیهم السلام) بمواقف تنصرهم وتعزّ كلمتهم وتقوّي وجود شيعتهم كالقانونين الأخيرين للأحوال الشخصية وفق الفقه الجعفري والمحكمة الجعفرية العليا الذين قدّمهما وزير العدل معالي الشيخ حسن الشمري(1).

ولا نغفل أيضاً عن أن أي خدمة نقدّمها لأحد المؤمنين هي خدمة لأهل البيت (علیهم السلام) لأنهم أولياء أمورهم وآباؤهم المعنويون كما أن أي أب يتشكر عندما تقدّم خدمة لولده، ويتضاعف الجزاء حينما يكون المؤمن من ذرية رسول الله (صلی الله علیه و آله).

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: " أربعة أنا لهم شفيع يوم القيامة:

" المكرم لذريتي، والقاضي لهم حوائجهم، والساعي لهم في أمورهم عندما اضطروا إليه، والمحب لهم بقلبه ولسانه ".(2)

وفي وصية أمير المؤمنين (علیه السلام) لولده الحسن وجميع ولده وأهل بيته، وفيها: " الله الله في ذرية نبيكم، فلا يظلمن بحضرتكم وبين ظهرانيكم وأنتم

ص: 363


1- نشر نص الكلام حول هذه القضية في بيان صحفي مستقل.
2- عيون الأخبار ج 2 ص 25 باب 31.

تقدرون على الدفع عنهم ".(1)في أصول الكافي بسنده عن عمر بن يزيد قال: سألت الإمام الصادق (علیه السلام) عن قوله تعالى: (الَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أمَرَ اللهُ أنْ يُوصَلَ)، فقال (علیه السلام): نزلت في رحم آل محمّد (صلی الله علیه و آله).(2)

إن الالتفات إلى هذه المعاني سيزيد من الحافز والهمّة والحماس للمساهمة في هذه الخدمات الجليلة والله ولي التوفيق.

ص: 364


1- الكافي: ج 7 ص 52 باب صدقات النبي... ح 7.
2- الكافي: ج 2 ص 156 باب صلة الرحم... ح 28.

قانونا المحكمة الجعفرية والأحوال الشخصية الجعفري نصرة لمدرسة أهل البيت (علیهم السلام) وتحقيق للعدالة الاجتماعية

قانونا المحكمة الجعفرية والأحوال الشخصية الجعفري نصرة لمدرسة أهل البيت (علیهم السلام) وتحقيق للعدالة الاجتماعية(1)

أشاد المرجع الديني سماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) بالخطوة المبدئية والشجاعة التي أقدم عليها وزير العدل العراقي بتقديم مشروع قانوني المحكمة الجعفرية والأحوال الشخصية إلى الحكومة لغرض التصويت عليها قبل عدة أيام.

ودعا سماحته الجهات ذات العلاقة - وكل من يشعر بمسؤوليته تجاه بلده - إلى الثناء على هذا الموقف ودعمه وحشد الرأي العام باتجاه إقراره وإنفاذه وقال سماحته في كلمة ألقاها أمام حشد من الوفود الزائرة لمكتبه في النجف الاشرف: إن المطالبة بسن مثل هذه القوانين مطالب مشروعة وحق كفله الدستور العراقي الذي يمنع من سنّ أي قانون يخالف ثوابت الإسلام وليس فيه تعد على حق احد باعتباره لا يلغي العمل بالقانون الوضعي الساري او تجاوز على حرية احد، بل ان من مقتضيات وجود المجتمعات المدنية المتحضرة هو توفير فرصة للمواطنين لان يمارسوا سلوكياتهم الشخصية ويتقاضوا لدى الجهات القضائية التي تتفق مع معتقداتهم الدينية والمذهبية والتي اقرها الدستور من دون تجاوز على حقوق الآخرين.

وأضاف سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله): إن قانون الأحوال الشخصية

ص: 365


1- نشر في العدد (133) من صحيفة الصادقين الصادر في يوم الاثنين 29 ذ.ح 1434 المصادف 4 تشرين الثاني 2013.

الوضعي المدني النافذ الآن يتضمن عدة مواد مخالفة للشريعة الإسلامية وهي قضايا ترتبط (بعقود النكاح، والطلاق، والوصايا، والقيمومة، والإرث) فوجود مخالفات صريحة للشريعة السمحاء فيها يؤدي الى وقوع الناس في مخالفات شرعية مالية وشبهات نسبية وغيرها، وهذا فيه سلب للحريات وتجاوز على المعتقدات.وأكد سماحته على ضرورة الالتفات إلى أن توفير فرص متكافئة للمواطنين في اختيار احد القانونين (المدني الوضعي أو الشرعي الجعفري) ليحتكموا إليه في دعاواهم ليس فيه تجاوز على الحرية والديمقراطية المدعاة ولا على وحدة النسيج العراقي المتنوع في الأديان والطوائف، إذ ليس فيه إلغاء للقوانين الأخرى أو منع من الترافع لدى المحاكم المدنية، والناس مخيرون في ذلك فلا (إكراه في الدين) كما جاء في الآية الشريفة فكما لا نكره الآخرين على شيء من معتقداتهم وسلوكياتهم كذلك لا نرضى أن يكرهونا على شيء من ذلك، والله تبارك وتعالى هو المتكفل بحساب عباده فيما اختاروا.

ص: 366

خطاب المرحلة 391 :الذين بدّلوا نعمة الله كفراً

خطاب المرحلة 391 :الذين بدّلوا نعمة الله كفراً(1)

من آداب تلاوة القرآن الكريم أن نقف عند كل آية عذاب وتحذير وتخويف وتهديد لنتوقع استحقاقنا لها، وأن نقف عند كل آية وعد وترغيب وتكريم ونعيم لنرجو أن نكون مشمولين بها، ولا نتصور أننا في مأمن ومنأى من آيات التخويف والتهديد، ورد في وصف سيرة الإمام الرضا (علیه السلام) إنه كان (يكثر بالليل في فراشه من تلاوة القرآن فإذا مرّ بآية فيها ذكر جنة أو نار بكى وسأل الله الجنة وتعوّذ من النار)(2) وروي عن الإمام الصادق (علیه السلام) في صفة الذين يتلونه حق تلاوته قال (علیه السلام) (ويرجون وعده ويخشون عذابه)(3)ولنأخذ ذلك مثلاً قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) (إبراهيم/28).

يتصور أكثر الناس أن النعمة هي المال والحياة المرفّهة، وهذا لا شك مصداق مهم للنعمة لكن مصاديقها أوسع من ذلك بكثير مما لا يلتفت إليه

ص: 367


1- كلمة سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع طلبة فروع جامعة الصدر الدينية في المحافظات المتفوّقين في الامتحان المركزي الذي أُجريَ لهم في النجف الأشرف، يوم الأحد 28/ذ.ح/1434 الموافق 3/ 11/ 2013.
2- عيون أخبار الرضا: 2/ 182 ح5.
3- تنبيه الخواطر: 2/ 236.

أغلب الناس، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال (الصحة والفراغ نعمتان مكفورتان) وعنه (صلی الله علیه و آله) (نِعمتان مكفورتان: الأمن والعافية) وعنه (صلی الله علیه و آله) (نعمتان مفتون فيهما كثير من الناس: الفراغ والصحة).(1)وكل نعمة من هذه النعم تتحلل إلى ما لا يعد ولا يحصى من النعم، قال تعالى (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا) (النحل/18) وقد شرحنا في بعض خطبنا السابقة أمثلة على ذلك، ولكن الإنسان يغفل عنها غالباً، عن الإمام الصادق(ع) قال (كم من مُنعَم عليه وهو لا يعلم) ولا يحسّ بقيمتها إلا إذا فقدها لا سامح الله، عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (من كان في النعمة جهل قدر البليّة) وعن الإمام الحسن (علیه السلام) قال (تجهل النعم ما أقامت، فإذا ولّت عُرفت)، وإن كان في غنى عن الوصول إلى هذه المرحلة، إذ يكفي تذكرها والالتفات إليها أو تخيّل أضدادها لمعرفة قيمتها، عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (إنما يُعرف قدر النعم بمقاساة ضدّها).

ولابد أن نلتفت إلى أن الأهم من النعم المادية المذكورة النعم المعنوية، عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (إن من النعم سعة المال، وأفضل من سعة المال صحة البدن، وأفضل من صحة البدن تقوى القلب) وعن الإمام الباقر (علیه السلام) قال (لا نعمة كالعافية، ولا عافية كمساعدة التوفيق).

ومن النعم المعنوية اجتماع الكلمة على الإيمان بالله تعالى وبرسوله وولاية أهل البيت (علیهم السلام) كما ورد في تفسير قوله تعالى (وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ

ص: 368


1- تجد مصادر هذه الروايات في: ميزان الحكمة: 9/ 72.

النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا) (آل عمران/103) قالت الصدّيقة الزهراء (علیها السلام) في خطبتها (فأنقذكم الله بأبي محمد (صلی الله علیه و آله)) وروى العياشي في تفسيره قال: كان أبو عبد الله (علیه السلام) إذا ذكر النبي (صلی الله علیه و آله) قال: (بأبي وأمّي ونفسي وقومي وعترتي عجبٌ للعرب كيف لا تحملنا على رؤوسها والله يقول في كتابه (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) فبرسول الله (صلی الله علیه و آله) والله أنقذوا)(1) ما ورد عن النبي (صلی الله علیه و آله) في تفسير قوله تعالى (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) (لقمان/20) (أما ما ظهر فالإسلام وما سوّى الله من خلقك، وما أفاض عليك من الرزق، وأما ما بطن فستر مساوئ عملك ولم يفضحك به)، وعن الإمام الباقر (علیه السلام) (النعمة الظاهرة النبي (صلی الله علیه و آله) وما جاء به النبي من معرفة الله عز وجل وتوحيده، وأما النعمة الباطنة ولايتنا أهل البيت وعقدُ مودتنا) وعن الإمام الصادق (علیه السلام) (ما أنعم الله على عبد أجلّ من أن لا يكون في قلبه مع الله عز وجل غيره) وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) (إن من النعمة تعذّر المعاصي)، وعن الإمام الكاظم (علیه السلام) (النعمة الظاهرة الإمام الظاهر، والباطنة الإمام الغائب).وبعد الاطلاع على سعة النعمة وتنوعها وأهميتها ينفتح السؤال عن كيفية الحفاظ عليها وإدامتها لأنها معرضة للزوال –والعياذ بالله- فلابد من الحذر، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال (أحسنوا مجاورة النعم، لا تملّوها ولا تنفرّوها، فإنها قلما نفرت من قوم فعادت إليهم) وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (أحسنوا صحبة النعم قبل فراقها، فإنها تزول وتشهد على صاحبها بما عمل فيها).

والذي يوجب بقاء النعمة ودوامها ويمنع من نفورها شكر النعمة، والذي

ص: 369


1- تفسير العياشي: 1/ 218 ح126.

يوجب نفور النعمة وزوالها كفر النعمة، وهما معنيان متضادان يعرف معنى كل منهما بعكس معنى الآخر عن أمير المؤمنين (علیه السلام) (أحسن الناس حالا في النعم من استدام حاضرها بالشكر وارتجع فائتها بالصبر) وعنه (علیه السلام) (إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر) وعن الإمام الصادق (علیه السلام) (لا تدوم النعم إلاّ بثلاث: معرفة بما يلزم لله سبحانه فيها، وأداء شكرها، والتعب فيها) وعن الإمام الهادي (علیه السلام) (القوا النعم بحسن مجاورتها والتمسوا الزيادة فيها بالشكر عليها).إن كفر النعمة وما يقابله من شكرها له معانٍ وأشكال عديدة:

1-عدم استعمالها في طاعة الله تعالى كما مرّ في الأحاديث الشريفة التي وصفت الفراغ والصحة والأمن بأنّها نعم مكفورة لأنّها لم تُستثمر في طاعة الله تعالى، والأسوأ أن تستخدم في معاصيه، عن أمير المؤمنين (علیه السلام): (أقل ما يلزمكم لله ألاّ تستعينوا بنعمه على معاصيه) وعنه (علیه السلام) قال (استتموا نِعم الله عليكم بالصبر على طاعته، والمجانبة لمعصيته).

وعن الإمام الصادق (علیه السلام) (إن أردت أن يُختم بخير عملك حتى تُقبض وأنت في أفضل الأعمال فعظّم لله حقّه أن لا تبذل نعماءه في معاصيه).

2-عدم أداء حقوق النعمة كمن لا يؤدي ما بذمته من الحقوق الشرعية أو يهمل أداء فريضة الحج وهو مستطيع أو لا يصوم شهر رمضان وهو قادر وهكذا، وفي ذلك قال أمير المؤمنين (علیه السلام) (اضرب بطرفك حيث شئت من الناس، فهل تبصر إلاّ فقيراً يكابد فقراً، أو غنيّاً بدّل نعمة الله كفراً، أو بخيلاً

ص: 370

اتّخذ البخل بحقّ الله وفرا)(1) ومحل الشاهد تطبيق الإمام الآية بالنص على من لم يؤدي حقوق الله تعالى في أمواله، وعنه (علیه السلام) قال: (يا أيّها الناس: إنّ لله في كلّ نعمة حقّاً، فمن أدّاهُ زاده، ومن قصّر عنه خاطر بزوال النعمة وتعجّل العقوبة، فليراكم الله من النعمة وجلين كما يراكم من الذنوب فرقين) ويشرحها الإمام الرضا (علیه السلام) بقوله: (إنّ صاحب النعمة على خطر، إنه يجب عليه حقوق الله فيها، واللهِ إنّه لتكون عليَّ النعم من الله عزّ وجل فما أزال منها على وجل-وحرّك يده- حتّى أخرج من الحقوق التي تجب لله عليّ فيها).فكلّ نعمة تستوجب حقّاً، الوالدان نعمة ولهم حقوق، والمرجعية المخلصة العاملة نعمة ولها حقوق، والجاه والموقع نعمة وعلى صاحبه حقوق، عن الإمام الرضا (علیه السلام) قال: (استعمال العدل والإحسان مؤذن بدوام النعم)، وهكذا.

ومن كفر النعمة التقصير باستعمال ما أنعم الله تعالى عليه في خدمة الناس وقضاء حوائجهم وإدخال السرور عليهم، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال (إن لله عباداً اختصهم بالنعم يُقرّها فيهم ما بذلوها للناس فإذا منعوها حوّلها منهم إلى غيرهم) وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (من كثرت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس إليه، فمن قام لله فيها بما يجب فيها عرّضها للدوام والبقاء، ومن لم يقم فيها بما يجب عرّضها للزوال والفناء).

فالذي يمكّنه الله تعالى في الأرض ويضع تحت تصرفه موارد الدولة والشعب وهو يسخّرها لمصالحه الشخصية والحزبية فهو ممن بدّل نعمة الله كفراً، والذي يستعمل الوسائل العلمية الحديثة التي أنعم الله تعالى بها على

ص: 371


1- نهج البلاغة: الخطبة 129 في ذكر المكاييل والموازين.

عباده في غير مرضاة الله فهو ممن بدّل نعمة الله كفرا وهكذا.3-عدم التحديث بها ونشرها قال تعالى (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (الضحى/11) روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله (إنّ الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده) وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال (إذا أنعم الله على عبده بنعمة فظهرت عليه سُمّي حبيب الله محدثاً بنعمة الله، وإذا أنعم الله على عبدٍ بنعمة فلم تظهر عليه سُمي بغيض الله مكذّباً بنعمة الله) فاعتباره مكذّباً بنعمة الله مبغوضاً عند الله تعالى لأنّه لم يحدّث بنعمة الله ولم يظهرها، وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (إنّي لأكره للرجل أن يكون عليه نعمة من الله فلا يظهرها).

وإنّ أعظم النعم على الإطلاق الإسلام كما دلّت عليه الروايات الشريفة عن الإمام الحسين (علیه السلام) في قوله تعالى (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (الضحى/11) قال (علیه السلام) (أمره أن يحدّث بما أنعم الله به عليه في دينه)، وتمام هذه النعمة التي كمُل بها الإسلام نعمة ولاية أهل البيت (علیهم السلام) بدلالة النصوص القرآنية ومنها الآية الشريفة التي نزلت في واقعة الغدير وتنصيب أمير المؤمنين (علیه السلام) إماماً وهادياً للأمة وخليفة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) فنزل قوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) (المائدة/3) وما ورد في تفسير قوله تعالى {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}التكاثر8 من حديث الإمام الصادق (علیه السلام) مع أبي حنيفة قال: (نحنُ –أهل البيت- النعيم الذي أنعم الله بنا على العباد وبنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين وبنا ألّف الله بين قلوبهم وجعلهم اخواناً بعد أن كانوا أعداءاً وبنا هداهم الله إلى الإسلام وهي النعمة التي لا تنقطع، والله سائلهم عن حقّ النعيم الذي أنعم الله به عليهم وهو النبي (صلی الله علیه و آله)

ص: 372

وعترته)(1) فأهل البيت ليسوا نعمة فقط بل نعمة باقية ثابتة مقيمة فتكون كثيرة مباركة لذا وصفهم بالنعيم.ومن مجموع هذه المقدمات نصل إلى نتيجة: أن أوضح مصاديق تبديل نعمة الله كفراً هم الذين لم يؤمنوا بالإسلام وأشركوا بالله تعالى وأنكروا نبوة الرسول محمد (صلی الله علیه و آله).

وممن تنطبق عليهم الآية كلّ من أعرض عن ولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) ولم يلتزم بوصية النبي (صلی الله علیه و آله) فضلاً عمّن ظلم أهل البيت (علیهم السلام) ونصب لهم العداوة والبغضاء فهو ممن بدّل نعمة الله كفراً.

وهذه النتيجة مذكورة نصّاً في القرآن الكريم بلفظ الانقلاب الذي هو معنى آخر لتبديل النعمة كفراً قال تعالى (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران/144) فالألفاظ المستعملة نفسها وهي الانقلاب المرادف للتبديل والشكر المقابل للكفر.

ووردت في ذلك روايات عديدة ففي الكافي بسنده عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (ما بال أقوام غيّروا سنّة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعدلوا عن وصيّه لا يتخوّفون أن ينزل بهم العذاب) ثمّ تلا هذه الآية (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ* جهنّم يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ) (إبراهيم/28-29) ثمّ قال (نحن النعمة التي أنعم الله بها على عباده، وبنا يفوز من فاز)(2).

ص: 373


1- راجع الروايات في تفسير البرهان: 10/ 230.
2- الكافي: 1/ 169 ح1.

وعلينا أن نتذكر أن من كفر النعمة عدم إظهارها والتحديث بها وعدم القيام بحقوقها كما دلّت عليه الروايات المتقدّمة، فمن قصّر في إظهار نعمة ولاية أهل البيت (علیهم السلام) ولم يتحرّك لإقناع الناس بها بأيّ وسيلة خصوصاً مع توسّع وسائل تبادل المعلومات ونقلها، أو لم يحفظ حرمة أهل البيت (علیهم السلام) في سلوكه وصفاته فهو ممّن لم يشكر هذه النعمة وربّما انطبقت عليه الآية بمعنى من المعاني.فليتفقّه كلّ شيعة أهل البيت (علیهم السلام) في دينهم وليطلعوا على سيرة أهل البيت (علیهم السلام) ومناقبهم وفضائلهم ومحاسن كلامهم ليوصلوها إلى البشرية جمعاء إذا أردنا أن نكون من الشاكرين على هذه النعمة، وحتى نكون صادقين مع الله تعالى ومع أنفسنا حينما نتبادل التهاني والتبريكات في مثل هذه الأيام ونحمد الله تعالى على التشرّف بولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) ومباهلة النبي (صلی الله علیه و آله) ونزول سورة هل أتى والتصدّق بالخاتم وغيرها من المناقب الكثيرة.

وعلينا أن نُحيي أمر أهل البيت (علیهم السلام) خصوصاً الشعائر الفاطمية والحسينية شكراً لله تعالى على نعمة مودّتهم وولايتهم وقد كثرت الروايات عنهم (علیهم السلام) أنّهم هم النعمة التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم وبهم يفوز من فاز، وقد مرّ في الأحاديث الشريفة أن شكر النعمة يتحقق بإظهارها والتحدّث بها.

ص: 374

خطاب المرحلة 392 :قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ ؟

خطاب المرحلة 392 :قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ ؟(1)

الملك/30

الماء من النعم الإلهية العظيمة التي يغفل عنها الإنسان لاعتياده لها وتوفرها حوله، فالماء قوام الوجود في هذه الدنيا وبه تقوم الحياة ولا يمكن للمخلوقات (بشراً و حيوانات ونباتات) أن تحيا إلاّ بالماء، قال تعالى (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْء أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ٍ) (الأنبياء/30) وقال تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء) (النور/45).

وقد ذكر الله تعالى الماء في القرآن الكريم في عشرات المواضع ليذكّر الناس بهذه النعمة لعلهم يتعظون ويعودون إلى ربهم قال تعالى (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ) (الواقعة/68-70) (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) (النمل/60) (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (العنكبوت/63) (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ) (السجدة/27).

ص: 375


1- كلمة ألقيت في شهر محرم 1435 الموافق شهر11/ 2013.

وتأثير الماء في حياة الإنسان واسع جداً فبه يتطهّرون ومنه يشربون وبه يهيئون طعامهم ويحمل أثقالهم إلى بلد لم يكونوا بالغيه إلاّ بشقّ الأنفس ويستخرجون منه لحماً طريّاً وحليّة يلبسونها، ويضفي جمالاً وسعادة على الحياة:

ثلاثة للناس ينفين الحزن *** الماء والخضراء والوجه الحسن

فلابد أن نستذكر عظيم نعمة الله تعالى عند تناول الماء أو استعماله ونتلذّذ بذكر الله وعظيم نعمته، في ثواب الأعمال عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (من تلذّذ بالماء في الدنيا لذّذه الله (تعالى) من أشربة الجنّة)(1).

ولا ينبغي أن نغفل عن التأويل المعنوي للماء في الآيات الكريمة والروايات الشريفة حيث يراد به العلم والمعرفة التي تُحيي قلب الإنسان وتُسعده في حياته المعنوية، ووجه المقاربة أنّ الماء قوام الحياة الطبيعية، والمعرفة قوام الحياة المعنوية فيتشابهان من جهة كونهما قوام الحياة في عالمهما المناسب لهما.

وكثيراً ما يعتمد القرآن الكريم أسلوب ضرب الأمثلة لتقريب الفكرة، والاحتجاج بالمثال للنقض على المنكرين والمشكّكين، كمن ينكر البعث يوم القيامة فيمثّل له بالأرض الميّتة التي نزل عليها الماء وإذا هي اهتزّت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج وهكذا، ومن ثمرات ضرب الأمثلة فتح الذهن أمام طلاب الكمالات للتأمّل في المعارف الإلهية كقوله تعالى (وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) (البقرة/164) فتأويلها أن لا ييأس المذنبون الذين جفّت أرض نفوسهم من حياة الإيمان والحبّ الإلهي من أن

ص: 376


1- سفينة البحار: 8/ 143.

تشملهم الرحمة واللطف الإلهي فينزل عليهم ماء المعرفة فينبت فيها الإيمان والحب ويزدهر القلب.وفي تفسير قوله تعالى (أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً) (الرعد/17) قال علي بن إبراهيم (أنزل الحق من السماء فاحتملته القلوب بأهوائها، ذو اليقين على قدر يقينه، وذو الشك على قدر شكّه، فاحتمل الهوى باطلاً كثيراً وجفاءا، فالماء هو الحق، والأودية هي القلوب، والسيل هو الهواء، والزبد هو الباطل).(1)

وفي قوله تعالى (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً) (الجن/16) ورد تفسير(2) الطريقة بولاية أمير المؤمنين والمعصومين من بنيه (صلوات الله عليهم أجمعين) والماء بالإيمان والعلم الذي يتلقونه من الأئمة (علیهم السلام).

وكالآية محل البحث فإن ظاهرها الامتنان على العباد والاحتجاج عليهم وتذكيرهم بهذه النعمة العظيمة التي تعرف قيمتها فيما لو تصوّروا فقدانها بأن يصبح الماء غائراً في الأرض فلا يستطيعون تحصيله قال تعالى (أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً) (الكهف/41) فلو لم تكن في الأرض خاصية عدم النفاذ لما بقي الماء على سطحها لتتناولوه لأنه سيغور في أعماق الأرض، ولو لم تكن فيه خاصية النفاذ لبقي جميع الماء على سطحها وغرقت اليابسة كلها، أما تأويلها فقد وردت فيه الرواية عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر

ص: 377


1- المصدر: 5/ 200.
2- المصدر: 10/ 48.

(ع) قال: (قُلت: ما تأويل قول الله عز وجل (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ)؟ فقال: إذا فقدتم إمامكم فلم تروه فماذا تصنعون) وفي رواية عن الإمام الرضا (علیه السلام) في قوله تعالى (فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ) قال (علیه السلام) (يعني بعلم الإمام).(1)ولارتباط الماء بتفاصيل الشؤون الحياتية للإنسان فقد ورد الكثير من الروايات الشريفة لبيان أحكامه وآدابه، وأول ما تبدأ كتب الفقه بأحكام المياه لاشتراط العبادات بالطهارة، وتناولت آداب شرب الماء الصحية والاجتماعية والمعنوية، كما تعرضت لأحكام استعمال الماء والتصرّف فيه باعتباره من المباحات العامة واشتراك الناس فيه على حد سواء.

وقد نظم المرحوم الفقيه الشيخ محمد علي الأعسم آداب شرب الماء في أرجوزته في الأطعمة والأشربة، ومما قال (قدس سره):

سيدُ كلِّ المائعات الماءُ *** ما عنه في جميعها غناءُ

أما ترى الوحيَ إلى النبي *** منهُ جعلنا كلّ شيء حيِّ

ويكره الإكثار منه للنصِّ(2) *** وعبُّه أي شربه بلا مصِّ

يروى به التوريث للكُبادِ *** بالضمِّ أعني وجعُ الأكبادِ

ومن ينح-ّيه ويشتهيه *** ويحمدُ الله تعالى فيه

ص: 378


1- راجع الروايات ومصادرها في تفسير البرهان: 9/ 348- 350.
2- في المحاسن عن الصادق (علیه السلام) قال: (إياكم والإكثار من الماء فإنّه مادة لكل داء) وعن النبي (صلی الله علیه و آله) إذا أكل الدسم أقلّ من شرب الماء ويقول: هو أمرأ لطعامي وفي طب الرضا (علیه السلام) (من أراد أن لا تؤذيه معدته فلا يشرب بين طعامه ماءاً حتى يفرغ).

ثلاث مرات فيروى أنّ-ه *** يوجب للمرء دخول الجنّة(1)

وفي ابتداء هذه المرّات *** جميعها بسمل لنص آتِ

وليجتنب موضع كسر الآنية *** وموضع العروة للكراهية

تشربه في الليل قاعداً لما *** رووه واشرب في النهار قائما

ويندُب الشرب لسؤر المؤمن *** وان أدير يُ-بتدأ بالأيمنِ

ومن أفضل الآداب والسنن عند شرب الماء ذكر الإمام الحسين (علیه السلام) والسلام عليه وعلى الشهداء بين يديه، لأنّ ذكر الماء يلازم ذكر الإمام الحسين (علیه السلام)، فلا يكاد يُذكر الماء أو يُشرب أو يُلتذّ ببارده إلا ويستحضر الموالي ذكر الإمام الحسين (علیه السلام) لأنه حُرم منه حتى قُتل ظمآناً إلى جنب الفرات، لقد حرموا الإمام الحسين (علیه السلام) من الماء وهو الإمام المعصوم حجة الله في أرضه الذي خلق الكون لأجلهم،مضافاً إلى أنّ له (ع) أكثر من حق خاص وعام فيه(2)، فله حق خاص في نهر الفرات باعتباره مهر أمّه الزهراء (علیها السلام)، وله حق خاص على أهل الكوفة لأنّه سقاهم في صفّين وسقى طليعة الجيش بقيادة الحر في القادسية أثناء الطريق وله حق عام لشموله مع كل الناس باعتبار ما ورد في النبوي الشريف (ثلاثة أشياء الناس فيها شرع سواء الماء والكلأ والنار) وله حق عام يشترك به مع كل ذي روح حتى الحيوان لوجوب حفظ حياته لذا لو دار

ص: 379


1- روي (من شرب الماء فنحاه وهو يشتهيه فحمد الله يفعل ذلك ثلاثاً وجبت له الجنة) (سفينة البحار: 8:143).
2- أشار إلى هذا المعنى المرحوم الشيخ جعفر الشوشتري في كتاب الخصائص الحسينية 117 الموضوع الرابع.

استعمال الماء بين الوضوء وحفظ حياة حيوان محترم وجب صرفه في الثاني.يقول الشيخ الشوشتري، مقابل هذه الحقوق الأربعة التي ضيّعوها جعل الله تعالى له مياهاً أربعة، ماء الكوثر فقد كان شهداء كربلاء يسقون منها قبل خروجهم من الدنيا كما أخبر علي الأكبر، وماء الدموع فهو (ع) قتيل العبرة ما ذكره مؤمن إلاّ استعبر وماء الحيوان في الجنان يمزج بدموع الباكين ليزيد من عذوبته وفيه رواية معتبرة، وكل ماء بارد يشربه محبّوه والموالون له فإن للحسين حق ذكره عند شربه.

وقد أسّس الإمام السجاد (علیه السلام) هذه السنة الشريفة وحادثته في سوق القصّابين معروفة، و روى داود الرقي قال (كنت عند الصادق (علیه السلام) فشرب ماء واغرورقت عيناه بالدموع فقال: ما أنغص ذكر الحسين (علیه السلام) للعيش إني ما شربتُ ماءاً بارداً إلاّ وذكرت الحسين (علیه السلام))(1)، أي أنّ ذكر مصيبة الإمام الحسين (علیه السلام) نغّص عليّ حياتي وأنا دائم الذكر لها.

وقد أحبّ الأئمة (علیهم السلام) من شيعتهم هذا التذكر ووعدوهم بالأجر العظيم فروي أن (من شرب الماء فذكر الحسين (علیه السلام) ولعن قاتله كتب له مائة ألف حسنة وحُطّ عنه مائة ألف سيئة ورفع له مائة ألف درجة وكأنما أعتق مائة ألف نسمة)(2) وروي عن الصادق (علیه السلام) مثل ذلك بزيادة (وحشره الله يوم القيامة ثلج الفؤاد).

ص: 380


1- أمالي الصدوق: 122، كامل الزيارات:106 وأورده عنهما في البحار: 44/ 303.
2- سفينة للبحار: 8/ 144.

وإلى هذا المعنى أشار المرحوم الأعسم:

والماء إن تفرغ من الشراب له *** صلِّ على الحسين والعن قاتله

تؤجر بآلافٍ عدادها مائة *** من عتق مملوك وحط سيئة

ودُرُج وحسنات ترفعُ *** فهي إذا مئاتُ ألف أربعُ

وقد نقل عن الإمام الحسين (علیه السلام) قوله بلسان الحال: شيعتي ما إن شربتم عذب ماء فاذكروني.(1)

أداءاً لحقّه (ع) على جميع البشرية بل المخلوقات وليس على شيعته فقط واستذكاراً لموقفه العظيم وطلباً لما تقدم ذكره من الأجر الكبير، والمهم أن نلتفت إلى التأويل(2) المعنوي لهذا التذكر بأن نتذكر الحسين ونصلّي ونسلّم عليه كلما استفدنا من علوم أهل البيت (علیهم السلام) ومعارفهم وكلما نفحتنا الألطاف الإلهية وكلما عمر زمان كشهر رمضان أو شهري محرم وصفر، أو مكانٌ كمسجد أو حسينية بذكر الله تعالى، لأن هذا الماء المعين العذب سقينا به ببركة أبي عبد الله (علیه السلام)، ولولا تضحياته لا ندرس الدين من ذلك الزمان وعاد الناس إلى أشنع من جاهليتهم الأولى، وشعر يزيد يشهد بذلك:

لعبت هاشم بالملك فلا *** خبر جاء ولا وحي نزل

لستُ من خندق إن لم أنتقم *** من بني أحمد ما كان فعل

قد قتلنا القرم من ساداتهم *** وعدلناه ببدر فاعتدل

ص: 381


1- الخصائص الحسينية: 183 عن مصباح الكفعمي: 741.
2- التفت إلى هذا المعنى المرحوم السيد عبد الحسين دستغيب في كتاب (سيد الشهداء عقائد ومفاهيم:31).

وهذا هو تأويل الآية التي جعلناها عنوان البحث فإن الدين لو اندرس بفعل آل أمية وأمثالهم من الطواغيت ولم ينهض الإمام الحسين (علیه السلام) فمن الذي كان سيأتينا بهذه العلوم والمعارف والأحكام الإلهية.

وجاء تأويلها أيضاً في بعض الروايات بغَيبة الإمام المهدي (علیه السلام) عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال (نزلت في الإمام القائم (ع) يقول: إن أصبح إمامكم غائباً عنكم لا تدرون أين هو؟ فمن يأتيكم بإمام ظاهر يأتيكم بأخبار السماوات والأرض، وحلال الله وحرامه؟ ثم قال: والله ما جاء تأويل هذه الآية ولابد أن يجيء تأويلها).

وهكذا كل مصادر الهداية والصلاح إن فقدتموها فمن يأتيكم بها إلاّ الله تبارك وتعالى. فاشكروا الله تعالى ليديم بركتها عليكم.

ص: 382

خطاب المرحلة 393 :الوصية الأخيرة للإمام الحسين والإمام السجاد (علیه السلام)

اشارة

خطاب المرحلة 393 :الوصية الأخيرة للإمام الحسين والإمام السجاد (علیه السلام)(1)

إيّاكَ وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلاّ الله تعالى

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

في ذكرى الإمام السجاد (علیه السلام) التي تقترن مع ذكرى أبيه الحسين (علیه السلام) نستفيد درساً من حياتهما المباركة، روى الإمام الباقر (علیه السلام) قال لما حضر علي بن الحسين (علیه السلام) الوفاة ضمّني إلى صدره ثم قال (يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة وبما ذكر أن أباه أوصاه به قال: يا بنيّ إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلاّ الله)(2) وقد روي الحديث عن النبي (صلی الله علیه و آله) وعن أمير المؤمنين (علیه السلام)، فعن النبي (صلی الله علیه و آله) قال (يقول الله عز وجل: اشتد غضبي على من ظلم من لا يجد ناصراً غيري)(3)، أي ظلم من لا يمتلك القوّة والنفوذ لاسترداد حقّه إمّا لضعفه كالمرأة واليتيم والمستضعف أو لغيبته وعدم علمه أو لترفعه عن ردّ الإساءة بمثلها.

ص: 383


1- كلمة ألقاها سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) في ذكرى استشهاد الإمام السجاد (علیه السلام) يوم 25 محرم 1435 المصادف 29/ 11/ 2013.
2- الكافي: 2/ 331 ح5.
3- ميزان الحكمة: 5/ 304 عن عدة مصادر.

وتكتسب هذه الوصية أهمية كبيرة من جهة كونها الوصية الأخيرة في الحياة وعادة ما تتضمن مثل هذه الوصية أهم ما يريد أن يقوله الموصي، ومن جهة تواتر الوصية بها من معصوم الى معصوم (علیهم السلام) , وهم أبعد ما يكونون عن الظلم مطلقاً ,وهو ما دلت عليه الآية الشريفة (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة/124) فبلوغهم مقام الإمامة يعني انهم منزهون عن الظلم، وإنما أريد من التأكيد على هذه الوصية ترسيخها في ذهن الأمة حتى تصبح لهم شعاراً في حياتهم.وكانوا (صلوات الله عليهم أجمعين) ينزهون أنفسهم عن الظلم بكل أشكاله ومستوياته حتى إذا لم يصل الى مستوى المخالفة الشرعية لكنه لا يليق بأخلاقهم العظيمة , روى الإمام الباقر (علیه السلام) عن أبيه السجاد (علیه السلام) قوله (إني حججتُ على ناقتي هذه عشرين حجة لم أقرعها بسوط).(1)

هذا هو ديدن الأئمة في الترفع عن الظلم مهما كان ضئيلاً وفي أي مستوى من مستوياته، يقول أمير المؤمنين (علیه السلام) (والله لأَن أبيتَ على حسكَ السعدان مسهّداً، أو أُجرَّ في الأغلال مصفّدا أحبُّ إليَّ من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيء من الحطام، وكيف أظلمُ أحداً لنفس يُسرِعُ إلى البلى قُفوُلُها، ويطول في الثرى حُلولُها)(2) وذكر (ع) حادثته مع أخيه عقيل عندما أحمى له حديدة، ثم قال (علیه السلام) (والله لو أعطيتُ الأقاليمَ

ص: 384


1- المحاسن للبرقي: 2/ 635.
2- نهج البلاغة: الخطبة 221.

السبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي الله في نملةٍ أسلبها جُلبَ شعيرة ما فعلته)(1).بيان: الحسك: الشوك، والسعدان نبت ترعاه الإبل له شوك، والمسهَّد: السهران، والمصفّد: المقيَّد، والقفول: الرجوع، وجِلب الشعيرة: غطاؤها.

وكان الإمام السجاد (علیه السلام) يترفع عن الانتقام ومقابلة من ظلمه بالمثل لأنه يرى المقابلة بالمثل ومعاقبة المسيء سيئة وان الأليق بخصاله الكريمة العفو والصفح والإحسان إلى المسيء، تأدباً بقوله تعالى (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ) (المؤمنون/96) وقوله تعالى (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت/34) وقوله تعالى (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (النور/22) فالذي يرجو عفو الله تعالى وإحسانه وفضله وكرمه لابد أن يتعامل مع الناس على هذا الأساس.

روي: إن مولى لعلي بن الحسين ع يتولى عمارة ضيعة له، فجاء ليطلعها فأصاب فيها فسادا وتضييعا كثيرا غاضه من ذلك ما رآه وغمه، فقرع المولى بسوط كان في يده، وندم على ذلك، فلما انصرف إلى منزله أرسل في طلب المولى، فأتاه فوجده كاشفاً عن ظهره والسوط بين يديه، فظن أنه يريد عقوبته, فاشتد خوفه.

فأخذ علي بن الحسين السوط ومد يده إليه وقال: يا هذا قد كان مني إليك

ص: 385


1- نهج البلاغة: الخطبة 221.

ما لم يتقدم مني مثله، وكانت هفوة وزلة فدونك السوط واقتص مني.فقال: يا مولاي، و الله لقد ظننت أنك تريد عقوبتي، و أنا مستحق للعقوبة، فكيف أقتص منك؟!

قال: (ويحك اقتص).

فقال: معاذ الله، أنت في حل و سعة، فكرر ذلك عليه مرارا، والمولى كل ذلك يتعاظم قوله ويجلله، فلما لم يره يقتص، فقال (علیه السلام) له: أما إذا أبيت فالضيعة صدقة عليك، وأعطاه إياها)(1)

وفي رواية الطبقات الكبرى لابن سعد، ان عبد الله بن علي بن الحسين (علیه السلام) قال: لما عزل الوليد بن عبد الملك هشام بن إسماعيل عن ولاية المدينة وأوقفه الوليد إلى الناس ليقتصوا منه، وكان يسيء إلى أبي، جمعنا أبي علي بن الحسين وقال: إن هذا الرجل قد عزل وقد أوقفه الوليد للناس فلا يتعرض له أحد بسوء، فقلت يا أبت، والله إن أثره عندنا لسيء وما كنا نطلب إلا مثل هذا اليوم. قال: يا بني نكله إلى الله، فوالله ما تعرض أحد بسوء من آل الحسين حتى تصرم أمره.)(2)

وروي في ذلك عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله (أوحى الله إلى نبي من أنبيائه .. إذا ظُلمتَ بمظلمةٍ فارض بانتصاري لك فإن انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك).(3)

ص: 386


1- بحار الأنوار: ج46 ص99.
2- موسوعة المصطفى العترة 7/ 64 عن عدة مصادر ذكرها.
3- بحار الأنوار: 75/ 321 ح50.

وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (لا يكبرّن عليك ظلم من ظلمك فانه يسعى في مضرّته ونفعك وليس جزاء من سرَّك أن تسوءَه) .ولابد أن نلتفت إلى أن هذا التغاضي وعدم الرد فيما يتعلق بالمظالم الشخصية، أما إذا كان الظلم يتعلق بالحقوق العامة خصوصاً إذا انتهكت محارم الله تعالى فالنهي عنه واجب والسكوت قبيح ، روى في كنز العمال عن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) منتصراً من ظلامة ظلمها قطّ إلا أن يُنتهك من محارم الله شيء، فإذا انتُهك من محارم الله شيء كان أشدَّهم في ذلك).(1)

والأحاديث الواردة في ذم الظلم والتحذير منه كثيرة فعن النبي (صلی الله علیه و آله) قال (إياكم والظلم، فإن الظلم عند الله هو الظلمات يوم القيامة) وعنه (صلی الله علیه و آله) قال(لا تظلم أحداً، تُحشر يوم القيامة في النور)(2)، وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) (الظلم في الدنيا بوار وفي الآخرة دمار)، وعنه (علیه السلام) قال (من ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده) وعنه (علیه السلام) (بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد) وعنه (علیه السلام) (إياك والظلم فإنه أكبر المعاصي)، وعنه (علیه السلام) قال (ألا وإنّ الظلمَ ثلاثةٌ: فَظلمٌ لا يُغفرُ، وظُلمٌ لا يُتركُ، وظُلمٌ مغفورٌ لا يُطلَبُ، فأمّا الظُّلمُ الذي لا يُغفرُ فالشِّركُ بالله... وأمّا الظُلمُ الذي يُغفرُ فَظلمُ العبدِ نفسهُ عندَ بعضِ الهّناتِ، وأمّا الظُلمُ الذي لا يُتركُ فظلمُ العِبادِ بَعضِهِم بعضاً).(3)

وروي عن النبي في بيان عاقبة الظالم قال: (إنّه ليأتي العبدُ يومَ القيامةِ وقد

ص: 387


1- ميزان الحكمة: 5/ 308 عن كنز العمال: 18716.
2- هذه المجموعة من الروايات وغيرها في ميزان الحكمة: 7/ 299 وما بعدها.
3- ميزان الحكمة ج7 ص303.

سرّته حسناتُهُ ، فيجيء الرجلُ فيقول : يا ربّ ظلمني هذا ، فيؤخذ من حسناتِهِ فيجعل في حسناتِ الذي سأله ، فما يزال كذلك حتّى ما يبقى له حسنةٌ ، فإذا جاء من يسأله نظر إلى سيئاته فجعلت مع سيئات الرجل ، فلا يزال يستوفى منه حتى يدخل النار).(1) وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (من ظلم قُصِم عمره) ,وقال (علیه السلام) (بالظلم تزول النعم).ويتضح من الروايات التي ذكرنا جملة منها إن مديات الظلم واسعة لا ينجو منها أحد الاّ من عصم الله تبارك وتعالى ,لان الظلم هو عدم الوفاء بتمام الحق ,وأول حق لا نستطيع الوفاء به ونقصّر فيه حق الله تعالى في طاعته وعبادته مخلصين له الدين (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان/13).

ومن الظلم ظلم النفس باتّباع هواها وعدم مسك زمامها فتوقعه في المعاصي وتتمرد على الطاعات وهو مفتاح الظلم للآخرين ,عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (من ظلم نفسه كان لغيره أظلم) فيقع في ظلم الأهل وعموم الناس سواء في تعامله معهم أو خلال تقصيره في المسؤوليات المناطة به كالطبيب الذي لا يلتزم بشرف مهنته في المستشفى ليراجعوه في العيادة الخاصة، أو المدرِّس الذي يقصّر في المدرسة حتى يلتحقوا بدروسه الخصوصية والموظف الذي لا يعمل بمهنية ونزاهة، والأم التي تقصّر في تربية أولادها وحفظ بيتها وشرف زوجها، أو السياسي في الحكومة والبرلمان الذي لا يبذل كل جهده في خدمة الشعب الذي ائتمنه على هذه المواقع والأمثلة تطول , فهذا كله ظلم.

حتى إن الظلم يمكن أن يقع في أمور بسيطة لا نتصورها كالتحكيم بين

ص: 388


1- ميزان الحكمة ج7 ص299.

كتابتين أو رسمين أيهما أجمل إذا لم يكن منصفاً في حكمه كما ورد في الرواية عن الإمام الصادق (علیه السلام) (إن أمير المؤمنين (عليه السلم) ألقى صبيان الكتّاب ألواحهم بين يديه ليُخيِّر بينهم، فقال: أما إنها حكومة والجور فيها كالجور في الحكم)(1). ولا سبيل إلى التخلّص منها جميعاً إلاّ بالطلب من الله تعالى أن يرضي الخصماء عنه ويتولى ذلك بنفسه لأنه ولي الخلق جميعاً، ورد عنه (علیه السلام) في دعاء يوم الاثنين (وَأَسْأَلُكَ فى مَظالِمِ عِبادِكَ عِنْدي، فَاَيَّما عَبْد مِنْ عَبيدِكَ اَوْ اَمَة مِنْ اِمائِكَ كانَتْ لَهُ قِبَلي مَظْلِمَةٌ ظَلَمْتُها اِيّاهُ، في نَفْسِهِ اَوْ في عِرْضِهِ اَوْ في مالِهِ، اَوْ في اَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، اَوْ غيبَةٌ اغْتَبْتُهُ بِها، اَوْ تَحامُلٌ عَلَيْهِ بِمَيْلٍ اَوْ هَوىً، اَوْ اَنَفَة اَوْ حَمِيَّة اَوْ رِياء اَوْ عَصَبِيَّة. غائِباً كانَ اَوْ شاهِداً، وَحَيّاً كانَ اَوْ مَيِّتاً، فَقَصُرَتْ يَدى وَضاقَ وُسْعى عَنْ رَدِّها اِلَيْهِ وَاْلتَحَلُّلِ مِنْهُ، فَأَسْأَلُكَ يا مَنْ يَمْلِكُ الْحاجاتِ، وَهِىَ مُسْتَجيبَةٌ لِمَشِيَّتِهِ وَمُسْرِعَةٌ اِلى اِرادَتِهِ اَنْ تُصَلِيَّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَاَنْ تُرْضِيَهُ عَنّي بِما شِئْتْ، وَتَهَبَ لي مِنْ عِنْدِكَ رَحْمَةً، اِنَّهُ لا تَنْقُصُكَ الْمَغْفِرَةُ وَلا تَضُرُّكَ الْمَوْهِبَةُ، يا اَرْحَمَ الرّاحِمينَ).(2)

ومن دعا ء له (ع)(اللهم اني اعتذر اليك من مظلومٍ ظلم بحضرتي فلم أنصره)(3) .

ومن دعائه (ع)(اللهم فكما كرهت إلي أن أظلم، فقني من أن أظلم)(4)

ص: 389


1- وسائل الشيعة، كتاب الحدود والتعزيرات، أبواب بقية الحدود، باب8 ح2.
2- الصحيفة السجادية/ دعاء يوم الاثنين.
3- الصحيفة السجادية/ الدعاء38 .
4- الصحيفة السجادية/ دعاؤه (ع) (إذا اعتدي عليه أو رأى من الظالمين ما لا يحب) ص 95.

المرجعية الدينية وقانونا الأحوال الشخصية والمحكمة العليا الجعفرية

المرجعية الدينية وقانونا الأحوال الشخصية والمحكمة العليا الجعفرية(1)

استقبل(2) سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (مد ظله) معالي وزير العدل السيد حسن الشمري، وقدم له عرضا موجزا عن نتائج جولته على أصحاب السماحة والفضيلة مراجع الدين والعلماء الإعلام في النجف الاشرف وكربلاء المقدسة، من اجل الوقوف على ملاحظات وتوجيهات ومواقف المرجعية الدينية والحوزة العلمية من قانوني الأحوال الشخصية ومجلس القضاء الجعفريين، وكان الموقف الغالب هو التأييد والثناء إلى حد الحماس والاندفاع لسنّ القانونين وتنفيذهما ، وحضر اللقاء عدد من مستشاري مجلس شورى الدولة .

وقد استمع سماحته من معالي الوزير للخطوات اللاحقة بعد موافقة مجلس شورى الدولة على صياغة القانونين وتقديمهما إلى الحكومة لتحصيل موافقتها ومن ثم عرضها على البرلمان للتصويت عليهما.

كما بيّن معاليه المعوقات والمشاكل ووجهات نظر المعترضين على طرح القانونين.

ص: 390


1- نشر في العدد (134) من صحيفة الصادقين الصادر في يوم الاثنين 28 محرم 1435 المصادف 2 ك1 2013.
2- تاريخ اللقاء الاربعاء 16 محرم 1435 الموافق 20/ 11/ 2013

كما استقبل(1) سماحته وزيرة الدولة لشؤون المرأة الدكتورة ابتهال الزيدي لمناقشة بعض المشاكل التي تواجهها المرأة العراقية وكيفية معالجتها والاطلاع مباشرة على رأي المرجعية في القانونين الجعفريين قبل عرضهما في اجتماع الحكومة الأسبوع المقبل، ونقلت السيدة الوزيرة إلى سماحة المرجع جملة من هواجس ومخاوف المعترضين، التي أطلع سماحته على جملة منها من خلال وسائل الإعلام وما نشر على المواقع الالكترونية ولخص سماحته أجوبته عليها في النقاط التالية:1-ان قانون الأحوال الشخصية ينظم الحياة الشخصية للإنسان كالزواج والطلاق والميراث والنفقة والمعاشرة والحضانة والقيمومة ، وما دامت اموراَ شخصية فمن حق الإنسان ان يتعاطى معها بالطريقة التي يؤمن بها ويعتقد بصحتها ولا يمكن اكراهه على شيئا منها ، وليست هي من الأمور العامة التي يشترك بها جميع المواطنين حتى يسنّ لها قانون عام ملزم للجميع، وقد كفل الدستور هذا الحق الشخصي.

2-عُرِف عن شيعة اهل البيت(ع) انهم ملتزمون بفتاوى مرجعياتهم الدينية التي تتواصل مع مستجدات الحياة من خلال الاجتهاد واستنباط الاحكام الشرعية للحوادث الواقعة من القرآن الكريم والسنة الشريفة، ولا يمكن الزامهم لحكم مخالف للشريعة لان المسألة لا تقبل المساومة والصفقات، اما الاخرون فلا توجد عندهم هذه المشكلة .

3-لقد سجلّت المرجعية الدينية العليا في النجف الاشرف متمثلة بالمرحوم

ص: 391


1- تاريخ اللقاء الاربعاء 23 محرم 1435 الموافق 27/ 11/ 2013

السيد محسن الحكيم (رحمه الله) اعتراضها على قانون الأحوال الشخصية منذ صدوره عام 1959 وعقدت المهرجانات لرفضه وبعثت الوفود لإبلاغ الحكومة ذلك، وألّف فضلاء الحوزة كتبا ذكروا فيها موارد مخالفة القانون للشريعة ومنهم فضيلة السيد محمد بحر العلوم وهو شاهد حي، وكان الغاء القانون شرط السيد الحكيم لاستقبال الزعيم عبد الكريم قاسم ، فالمرجعية الشيعية واتباعها غير ملزمين بمواد القانون المخالفة للشريعة ، وكانوا ولا زالوا يعتبرون قرارات محكمة الاحوال الشخصية المستندة الى مواد مخالفة للشريعة في الميراث والتفريق بين الزوجين وغيرها باطلة وحبراَ على ورق ولا يرتبون عليها اي اثر وانما يستصدرونها لأجل تمشية بعض المعاملات الرسمية، - وهذا معروف لدى الجميع- ويطبقون واقعا ما يفتي مراجعهم الا من بعض الجاهلين بأحكام الشريعة، ولمّا التفتوا بعد انتشار الصحوة الدينية بفضل الله تبارك وتعالى وجدوا انفسهم متورطين بامور عديدة ، فهذا قد حرمت عليه زوجته مؤبداَ وذاك قد أكل اموال الغير بغير حق وهذا الحق نسباَ بطريقة غير شرعية وهكذا ، واصبح من العسير حلّ هذه المشاكل. 4-إن الطوائف الاسلامية الاخرى والاديان غير الاسلامية لم تعترض على القانون وعملت بموجبه بل اعتبرته ملزماً كما صرح به احد مرجعيات اهل السنة من بعض الاعلام المعاصرين في بيانه الاخير عندما سجّل اعتراضه على خطوة وزير العدل الاخيرة، فليس من حق احد غير الشيعة الجعفرية ان يطالب بقانون خاص به لأنه الزم نفسه بالقانون الموجود وهذا الاشكال الذي يسوقه البعض لا اصل له.

ص: 392

5-لا مانع لدينا من تسمية القانون بالإسلامي او الشرعي لأننا نعتقد فعلا ان منهج اهل البيت (علیهم السلام) هو الاسلام الاصيل، ولكن يجب ان لا يتسبب هذا العنوان في سن مواد تخالف فقه اهل البيت (علیهم السلام) .

6-ان الطائفية التي يُخشى منها على تمزيق النسيج الاجتماعي ووحدة البلد سببها سياسات وأجندات تنفذها جهات معروفة ولا زالت تعمل عليها منذ عشرات السنين وكان ضحيتها الشيعة بأبشع الجرائم ، فتشريع هذين القانونين ليس سببا لإيجادها، بل بالعكس فان اعطاء هذه الطائفة حقها يشعرها بكرامتها ومواطنتها وحفظ استحقاقاتها ، وحولنا تجارب بلدان عديدة في المنطقة فيها اقلية شيعية وحفظت لهم هذه الحقوق بقوانين خاصة مما ساهم في دمجهم في النسيج الاجتماعي ولم تكن سببا للفرقة والتمزيق، فلماذا يُحرم الشيعة في العراق من هذا الحق وهم أغلبية ؟

7-إن إعداد هذا القانون استغرق اكثر من عام ونصف العام بحسب ما ذكر معالي وزير العدل وقد أوصل مسودته الى جميع مراجع الدين والعلماء الاعلام في النجف الاشرف وكربلاء المقدسة منذ عام تقريبا لإبداء ملاحظاتهم عليها ، فليس المشروع وليد هذه الساعة حتى يقال بانه دعاية انتخابية ونحو ذلك.

8-اما مقترح تعديل القانون الحالي واصلاح الفقرات المخالفة فيه فهو كلام وجيه لأول وهلة ، ولكنه في الحقيقة لا يجدي لأنه تسويف في تحصيل هذا الحق لاستغراقه مدة طويلة في الاتفاق على تحديد موارد اختلاف القانون مع الشريعة (وان كانت هي مثبّته في كتبٍ مطبوعة كما اشرنا في النقطة الثالثة) ونحتاج مدة اخرى للاتفاق على تعديل كل فقرة من هذه وسوف لا نصل الى

ص: 393

نتيجة لان الاعتراضات ستبقى كما هي، باعتبار ان الرافضين يصرّون على عدم تغيير المواد الحالية ، واذا كانوا جادّين في مقترحهم هذا فأن سن قانون شرعي في موازاة القانون المدني الحالي من دون الغائه هو أحفظ لمراد الجميع بدلاً من فرض مادة معينة بالتعديل وهم لا يرضون بها . ولهذا كله فان مقترح التعديل لا جدوى منه.9-يثير البعض إشكالية اختلاف مراجع الدين في بعض الفتاوى فكيف يتم التعاطي مع المتخاصمين اذا كانوا مختلفين في مرجعيتهم الدينية ونحو ذلك من الاشكاليات؟ ،والجواب ان هذه ليست من وظيفة المعترضين على القانون بل هي من شأن العلماء الذين يشرفون على وضع الصيغ النهائية للقوانين، وعندهم اكثر من آلية للمعالجة كالتصالح بين المتخاصمين او تفويض القاضي بالحكم وفق مادة محددة من موارد الاختلاف تكون ملزمة للطرفين لان حكم الحاكم الشرعي نافذ على الخصمين وان لم يرجعا اليه بالتقليد، وغير ذلك من المعالجات التي يعرفها أهلها ، فلا يحمل المعترضون على هذين القانونين هذا الهم.

ص: 394

خطاب المرحلة 394 :نعيب زماننا والعيب فينا رزية يوم الثلاثاء نموذجاً

اشارة

خطاب المرحلة 394 :نعيب زماننا والعيب فينا(1) رزية يوم الثلاثاء نموذجاً

ابدأ حديثي بحكاية لا تخلو من درس وموعظة ملخصها أنّ رجلاً انزعج من وضع زوجته؛ حيث ضاق ذرعاً من عدم إنصاتها له وتجاهلها حديثه.

قرر استشارة أحد الأطباء في وضع زوجته، فنصحه بأن يعمل تجربة للتأكُّد من مستوى صمم زوجته مقترحاً عليه بأن يبتعد عن زوجته 30 متر ثم يكلمها بصوت عادي، وفي حال عدم تجاوبها يقلل المسافة إلى 20 متر، وفي حال عدم تجاوبها يقترب أكثر ولتكن المسافة 10متر فقط.

وبالفعل.. عاد الزوج إلى المنزل وكانت زوجته منشغلة بإعداد طعام العشاء في المطبخ.. وقدر المسافة بينهما ب30متر وتحدث إليها بصوت عادي بحسب نصيحة الطبيب: ماذا أعددت يا حبيبتي لنا على العشاء؟ ولكنها لم ترد! اقترب منها إلى مسافة 20متر وكرّر نفس الجملة، ولكنها أيضاً لم ترد! اقترب أكثر إلى 10متر، ولكنها ظلت على تجاهلها، ولم يملك إلا أن اقترب أكثر حتى كاد أن يلتصق بها، عندها ردّت الزوجة بغضب: أقول لك للمرة الرابعة إن عشاءنا اليوم شوربة خضار!!!

ص: 395


1- من حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من المبلّغات وطالبات معهد الزهراء (علیها السلام) للعلوم الدينية في قضاء المدينة/ البصرة يوم السبت 3 صفر 1435 المصادف 7/ 12/ 2013.

أقول: إلى هنا انتهت الحكاية ونتيجتها اكتشاف الزوج أن التقصير عنده وأنّ الزوجة كانت تؤدي واجبها لكنّه كان يحمّلها المسؤولية بغير حق.فالدرس الذي نستفيده إننا حينما نتعرض لمشكلة أو خلاف بين زوجين أو اخوة أو جيران وغير ذلك علينا أن نراجع أنفسنا طويلاً قبل أن نلقي اللوم على الآخرين فلعل السبب فينا ونحنُ لا نعلم، ولو تعاملنا مع مشاكلنا بهذه الطريقة لاستطعنا تجاوز الكثير منها، لأنّنا سنكتشف أننا مسؤولون عنها فنحن لسنا معصومين وحينئذ نعالج السبب، كما أن الطرف الآخر حينما يراك تتهّم نفسك بكل تواضع ونكران ذات ولا تتعرض له فإنّه سيقابلك بنفس الشعور ويتنازل عمّا يشعر به من التشنّج والانفعال والعصبية.

وهذا مما يفسّر وصايا المعصومين (علیهم السلام) بأن ننسى إساءة الآخرين إلينا ونذكر إساءتنا للآخرين بمعنى أنّه حتى لو أساءَ الآخر إليك فتغافل عنها وتناساها وفتّش عن عيوبك أنت وتقصيراتك، وهذا السلوك وإن كان صعباً ويحتاج إلى شجاعة إلاّ أنّه مقدور ويتّبعه ثواب عظيم ومنزلة رفيعة عند الله تعالى وعند عباده الصالحين.

والذي يؤسف له أنّ السلوك الجاري في المجتمع عكس هذا الأدب النبوي الشريف، إذ ما إن تحصل مشكلة حتّى يبدأ كل طرف بالبحث والتنقيب عن كل عيب أو نقيصة يلصقها بالآخر ليبرّئ نفسه ويبرّر موقفه، فتتعاظم المشكلة وتتحوّل إلى صراع وتنقطع سبل الوئام، وهذا ما نشاهده كثيراً في المشاكل الزوجية إذ تبدأ بخلاف بسيط فيركبهما العناد ثمّ تتطوّر إلى ما هو أسوأ حتى تصل إلى الطلاق والنزاع بين أهلَي الزوجين وهكذا، والأرقام التي تعلنها

ص: 396

المحاكم عن حالات الطلاق الواقعة مرعبة فعلاً ولو تحرّيت عن الأسباب لوجدت أن بداياتها ليست ذات أهميّة لكنّهما لم يحسنا معالجة الخلاف وهو في بدايته أي عبور النهر مادام ضيّقاً كما يُقال في المثل.وهنا أبيات في الحكمة مرويّة عن أبي الأسود الدؤلي أحفظها منذ صغري:

يا أيها الرجل المعلم غيره *** هلا لنفسك كان ذا التعليم

تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى كيما يصحَّ به و أنت سقيم

و أراك تصلح بالرشاد عقولنا *** نصحا و أنت من الرشاد عديم

ابدأ بنفسك فانهها عن غيّها *** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

لا تنه عن خلق و تأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عظيم

ومن هذا الدرس ننتقل إلى آخر أوسع منه يتعلّق بوظيفتنا في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى وإصلاح الأمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي هي أهداف الإمام الحسين (علیه السلام) من خروجه العظيم، إذ أننا نشخّص في المجتمع الكثير من الانحرافات والمنكرات التي تقشعّر منها الأبدان أحياناً، ونلقي باللوم على الناس بأنّهم لا تنفع معهم النصح والموعظة والإرشاد وتارة نلوم الزمان ونتأفّف من الدهر والظروف التي لا تُساعد على عملية الإصلاح.

ولو راجعنا أنفسنا –كحوزة علمية ومبلغين وخطباء- لوجدنا أنّ التقصير عندنا واللوم علينا، الناس يستجيبون بدرجة كبيرة للموعظة الحسنة والتوجيه المخلص لذا تأثّروا بالعلماء الربّانيين العاملين كالسيد الخميني والشهيدين الصدرين (قدس الله أرواحهم جميعاً) الذين أيقظوا الأمّة وحرّكوها فاستجابت، وقد نقل لي بعض الأخوة المبلّغين في السجون أن عدداً كبيراً منهم عاد إلى

ص: 397

رشده والتزم بالصلاة والفرائض الأخرى وانخرطوا في دورات لتعلّم الفقه والقرآن وساهموا في فعاليات مثمرة، هذا في السجون التي تؤوي بين نزلائها القتلة والمجرمين والمنحرفين، فالعمل مع غيرهم أيسر.أما الظروف والزمان والأيام فلا ذنب لها ولا تقصير حتى نلومها ونعاتبها، فإنّ الأفلاك وجميع المخلوقات مطيعة لله تبارك وتعالى سائرة بدقة على القوانين التي وضعها الله تعالى لها ولم تتخلف لحظة عن السير عليها (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَ-كِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (الإسراء/44) (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) (النور/41) والإنسان وحده الذي يتمرّد ويعصي ويجادل ويستكبر عن طاعة ربّه.

توجد أبيات مشهورة لا يعرف الكثير أنّها لشيبة الحمد عبد المطلب الذي تفرّعت منه النبوة والإمامة، فقد روى الريّان بن الصلت قال: أنشد لي الرضا (علیه السلام) لعبد المطّلب:

يعيب الناس كلهم زماناً *** وما لزماننا عيب سوانا

نعيب زماننا والعيب فينا *** ولو نطق الزمان بنا هجانا

وإن الذئب يترك لحم ذئب *** ويأكل بعضنا بعضا عيانا

لبسنا للخداع مسوك طيب *** فويل للغريب إذا أتانا(1)

وتوجد هنا كلمات للمعصومين (علیهم السلام) تنهى عن عتاب الزمان ولومه، فقد روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قوله (من تشاغل بالزمان شغله) وعنه (علیه السلام) قال

ص: 398


1- عيون أخبار الرضا (علیه السلام) 2 / 177/ 5.

(من عتب على الزمان طالت معتبته)(1) وهذه النتيجة أكيدة لأن التشاغل بالعتب على الزمان ولومه عمل عبثي لا طائل وراءه ولا يصل إلى نتيجة.وعن الإمام الصادق عن أبيه (ع) قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (لا تسبّوا الأيام ولا الليالي فتأثموا وترجع عليكم)(2) ، وروى الصقر بن أبي دلف حواراً له مع الإمام علي الهادي (علیه السلام) جاء فيه: (قلتُ يا سيّدي حديث يروى عن النبي (صلی الله علیه و آله) لا أعرف معناه، قال ما هو؟ فقلتُ: قوله: لا تعادوا الأيام فتعاديكم؟ قال (علیه السلام): نعم).(3) إلى آخر الحديث.

فإلقاء اللوم هنا وهناك على هذه الجهة أو تلك إنّما هو هروب من واقع التقصير والتقاعس الذي تتّصف به الحوزات العلمية –الرجالية والنسائية- إلاّ من وفّقهم الله تعالى ولطف بهم فاصطفاهم لإعلاء كلمته ونشر تعاليم أهل البيت (علیهم السلام) النقيّة.

وأحدث مثال على ذلك ما حصل في اجتماع الحكومة يوم الثلاثاء الماضي (29 محرم 1435 المصادف 3/ 12/ 2013) حين ناقشوا القانونين اللّذين قدّمهما وزير العدل لتنظيم الأحوال الشخصية وفق الأحكام الشرعية وإنشاء المحكمة الشرعية العليا التي تُدير العمل بهذا القانون لتخليص الناس المتشرّعين من المخالفات للشريعة التي يتورّطون بها بسبب إكراه المحاكم الرسمية على العمل بالقانون الوضعي الحالي، علماً بأنّ هذه المحاكم الشرعية التي نطالب بها

ص: 399


1- ميزان الحكمة: 4/ 27.
2- سفينة البحار: 8/ 772 عن علل الشرائع.
3- المصدر: 8/ 776 عن الخصال.

كانت موجودة في العراق إلى أن ألغاها عبد الكريم قاسم وأصدر القانون الوضعي الحالي عام 1959، والشيعة يتمتّعون بهذا الحق في عدد من دول المنطقة كالسعودية والبحرين ولبنان وأفغانستان مع أنّهم أقليّة في تلك البلدان ومضطهدون في بعضها فمن الطبيعي مطالبتهم بهذا الحق في العراق وهم أغلبية والسلطة بأيديهم ومع وجود النفوذ الكبير للمرجعية الدينية.وكانت الأجواء مساعدة داخل الحكومة على تمريرهما بعد أن حصل الوزير على وعود بالموافقة أو عدم الممانعة من الوزراء غير الشيعة لتفهّمهم عقيدة الشيعة وتعاملها مع القوانين الوضعية وما تسبّبه لهم من حرج، حتّى أن وزيراً مسيحياً صوّت لصالحهما.

لكن الذي حصل أن وزيرة الدولة لشؤون المرأة نقلت إلى الوزراء رسالة من معتمد المرجعية التي يصفونها بالعليا في كربلاء المقدّسة والذي يوصل عادة آراء المرجعية ومواقفها، ومفاد الرسالة عدم رغبة المرجعية في تمرير القانونين، مما دفع البعض إلى تغيير موقفه كما قاطع عدد آخر الجلسة لأن الانتخابات مقبلة على الأبواب وهم بحاجة إلى مغازلة مكتب المرجعية فصوّتوا على تأجيل النظر في القانونَين إلى ما بعد الانتخابات وموافقة المرجعية العليا بحسب وصفهم، وهو إلغاء عملي للقانونين لأنّه لا يعلم إلاّ الله تعالى متى ستشكل الحكومة المقبلة بعد الانتخابات؟ وكيف سيكون وضعها؟ وهل تكون مؤهّلة للنظر في مثل هذه القوانين.

وتعليقها على موافقة المرجعية العليا هو تمييع للطلب بل إلغاء له لأنّ مكتبها وجّه بعدم تمرير القانونَين علماً أنّ الوزير أوصل مسودة القانونين إلى مكتبها

ص: 400

منذ أكثر من عام ولم يصل الرد والتعليق فماذا نتوقّع منها غير ذلك؟ وهي ليست قضية سياسية حتى يتذرّع مكتبه بعدم استقبال السياسيين.وهكذا أجهض هذا المطلب الشرعي الذي فيه رضا الله تبارك وتعالى ورسوله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) وفيه نصرة للحسين (علیه السلام) وتحقيق لأهدافه في الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكنّهم أبوا إلاّ خذلان الحسين (علیه السلام) والتمادي في توريط الناس بالمخالفات الشرعية في زواجهم وطلاقهم وأنسابهم ومواريثهم.

لقد أضاعوا بذلك على الأمة فرصة كبيرة لإصلاح جانب مهم من حياة الناس وهي الأحوال الشخصية، وأهدروا جهدا قام بها قانونيون وفضلاء حوزويون لأكثر من عام لمدة في إعداد القانونين وصياغتهما حتى أجازهما مجلس شورى الدولة .

أليس من الخداع و التدليس تظاهر البعض بشكليات الشعائر الحسينية وهم يخذلون أهداف الإمام الحسين (علیه السلام) ويعرقلون عملية الإصلاح و التمهيد لدولة الإمام المهدي (علیه السلام)؟ لا لشيء إلا أنهم يعيشون عقداً نفسية وهزيمة باطنية وخوفا على المصالح و الامتيازات، ويجاملون الفسّاق والأراذل على حساب شريعة الله تعالى ونهج أهل البيت (علیهم السلام) قال تعالى: (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ) (الأحزاب/37).

(وما أشبه الليلة بالبارحة) حينما آلى أمير المؤمنين (علیه السلام) على نفسه أن لا يلبس رداءه ولا يخرج من بيته حتى يجمع القرآن ويبيّن محكمه من متشابهه وناسخه من منسوخه ومجمله من مبينّه ومكيّه من مدنيّه وعامّه من خاصّه، حتى

ص: 401

أنجز العمل بعد ستة أشهر وقدّمه إلى الصحابة في المسجد، فماذا كان جوابهم؟ قالوا : لا حاجة لنا فيك ولا في قرآنك لأنهم لا يريدون لشريعة الله أن تقوم وتنهض كما ينبغي لأن ذلك يكشف عوراتهم ونقصهم وعدم أهليتهم وبروز من هو أهل للقيام بهذه الوظيفة الشريفة .هذا ما حصل يوم الثلاثاء بغطاء نُسب إلى المرجعية، وكانت وزيرة المرأة كبش الفداء، وقد وصفتُ في بعض أحاديثي ما جرى بأنها (رزية يوم الثلاثاء) فتضاف إلى رزية يوم الخميس ونظائرهما مما مرَّ به أهل البيت (علیهم السلام) وشيعتهم، لأنّهم شرعنوا بهذا الموقف القوانين الوضعية الّتي صنعها البشر خلافاً لشريعة الله تعالى (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة/44) (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة/45) (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (المائدة/47).

لقد حاولوا ان يستروا عوراتهم بكلمات ومبررات تافهة مبنيّة على المكر والخداع وعدم الشعور بالمسؤولية، فكانت (عذرا أقبح من فعل) وهكذا يستمرون في عنادهم ولجاجهم بدل العمل على تدارك الأمر وإصلاح ما فسد(1).

إن وظيفة القادة خصوصا من يكون في موقع القيادة الدينية أن يصنع فرص الصلاح و الإصلاح ويزيد من أبواب الطاعة للأمة، وان عجزوا فلا اقل من

ص: 402


1- بعد كشف هذه الحقيقة صدرت بيانات وبيانات مضادة من الجهتين لم يتورع فيها القوم عن الكذب والافتراء والتسقيط، وشهدت أحداثاً وتحركات يحسُن جمعها في كتاب لتوثيقها وأنتجت حراكاً فكرياً توعوياً ومناقشة لبعض القضايا التي كانت مختومة بالشمع الأحمر.

استثمار الفرص التي تتهيأ.أتكون المرجعية التي هي امتداد للإمامة ونيابة عنها وتملك في تاريخها وأسلافها هذا الرصيد الضخم من القادة الكاملين كرسول الله (صل الله عليه واله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) والأئمة الطاهرين (علیهم السلام) وعندها مواقف لعظماء تنهل منها الإنسانية جميعا كنهضة الإمام الحسين (علیه السلام)، عاجزة عن توفير ابسط الحقوق لأتباعها.

رأيتم كيف حزن العالم ونكسّ الإعلام لوفاة نيلسون مانديلا الثائر الفذ(1) قبل يومين ومحرّر شعبه الأسود في جنوب إفريقيا من سلطة الأقليّة البيضاء وهو مزارع بسيط لا يمتلك الرصيد الذي ذكرناه للمرجعية فهلاَّ تعلمت الدروس منه ومن أمثاله؟

والحديث ذو شجون (وفي العين قذى وفي الحلق شجى) ولعل الله تعالى يحدث بعد ذلك أمرا.

يجب علينا أن لا نشعر بالإحباط و اليأس وان نستمر ببذل الجهود لإحقاق الحق وفضح الباطل وقد وعد الله تعالى عباده العاملين المخلصين بالفتح و التمكين

(وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) (الحج/ 40)

(وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ) (يوسف/ 21)

(إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد/ 7)والله ولي التوفيق.

ص: 403


1- اقتطعنا كلام سماحة المرجع (دام ظله) هنا وجُعِل في بيان مستقل بمناسبة رحيل مانديلا.

نيلسون مانديلا.. الثائر الفذّ

نيلسون مانديلا.. الثائر الفذّ(1)

أثنى سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على شجاعة وصبر وثبات الزعيم التاريخي لجنوب أفريقيا "نيلسون مانديلا" وأشاد بروحه الوطنية الكبيرة وحبّه لشعبه وبلده وتضحيته من أجل القضاء على التمييز العُنصري ونيل الحريّة من استعباد الأجنبي.

جاء ذلك في كلمة ألقاها على جمعٍ من طلبة الجامعة المستنصرية وعدد من الأساتذة فيها وفي جامعة النهرين بمكتبه في النجف الأشرف.

ووصف سماحته "مانديلا" بأنّه من الأفذاذ الّذين قلّما يجود بهم الزمن ليحرّروا شعوبهم ويستنقذونهم من العبودية والأغلال كالسيد الخُميني (قده) في جمهورية إيران الإسلامية وغاندي في الهند.

لقد عانى شعب جنوب أفريقيا من احتلال البيض الغربيين واستعبادهم له ومصادرة حقوقه في الحياة الكريمة والتمييز العنصري البغيض، وكان المحتل يأمل أن يجتث السكان الأصليين ويُنشئ هناك دولة له كما فعل في الولايات

ص: 404


1- ولد في 1918، وانضم عام 1944 إلى حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، بدأ محادثات في منتصف الثمانينيات وهو في السجن مع المحتل الأبيض لإنهاء هيمنتهم واستمرت حتى بعد الافراج عنه عام 1990 وأثمرت عن انتخابات عامة سنة 1994 فاز حزبه فيها وأصبح رئيساً للبلاد، مُنح جائزة نوبل للسلام عام 1993 وتوفي يوم 5/ 12/ 2013. ونشرت كلمة سماحة المرجع (دام ظله) في العدد (135) من صحيفة الصادقين الصادر في يوم الخميس 15 صفر 1435 المصادف 19 ك1 2013.

المتّحدة الأمريكية، فكان هذا دافعاً لمانديلا أن ينخرط في وقت مبكر وهو في العشرينات من عمره في العمل السياسي لإنقاذ شعبه، وبدأ بتشكيل التنظيمات والجمعيات السريّة وتنظيم العصيان المدني ضدّ سياسات المحتل، ولم يدّخر وسعاً حتّى على صعيد العمل المسلّح، حيث قاد الجناح العسكري لحزبه في بداية ستينيات القرن الماضي.قضى أكثر من (26) عاماً في السجن (1964-1990) ولم يُثنه ذلك عن مواصلة النضال لتحقيق هدفه وكان يعلن وهو في قفص الاتهام إنّه يعتبر إنهاء هيمنة الأقلية البيضاء هدفاً سامياً وأنّه على استعداد للموت من أجله، وكان لا يقبل المساومة وأنصاف الحلول، ومن كلماته (الحرية لا يمكن أن تُعطى على جرعات، فالمرء إمّا أن يكون حرّاً أو لا يكون حرّاً).

ويسخر من الجبناء الذين يقبلون حياة الذلّ والعار ويقول: (الجبناء يموتون مرّات عديدة قبل موتهم والشجاع لا يذوق الموت إلاّ مرّة واحدة) حتى تحوّل سجنه إلى قضية عالميّة وانطلقت حملة (أطلِقوا سراح نيلسون مانديلا).

وأضاف سماحة المرجع إنّ مواقف مانديلا تدلّ على إنّ نفسه الكبيرة بقيت مستمرّة، فقد تنحّى عام 1999 عن رئاسة الجمهورية اختياراً في حالة نادرة وسلّمها إلى زعماء أكثر شباباً وتأهيلاً لإدارة اقتصادٍ حديث ومع ذلك فإنّه لم يستسلم للشيخوخة بل أعلن (التقاعد من التقاعد) وقاد حملة عالمية لمكافحة مرض الإيدز حتى توفي يوم الخميس الماضي وقد تجاوز التسعين.

ودعا سماحة المرجع في حديثه إلى استلهام هذه التجارب الإنسانية النبيلة بغض النظر عن القومية والدين، وأضافَ سماحته: (... بل نحن مسؤولون عمّا

ص: 405

هو أوسع من ذلك وأنبل، لأننا نمتلك قمم الإنسانية فمن له كنبينا محمد (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين والحسين (صلوات الله عليهم أجمعين) فما أحرانا أن نكون نحن النبراس الذي تهتدي به الأمم).السبت 3 صفر 1435

الموافق 7/ 12/ 2013

ص: 406

خطاب المرحلة 395 :تجليات الحُسنُ عند الإمام الحسن (علیه السلام)

خطاب المرحلة 395 :تجليات الحُسنُ عند الإمام الحسن (علیه السلام)(1)

وردت كلمة على ألسنة المربّين مضمونها (تخلّقوا بأخلاق الله)(2) أي جاهدوا لتهذيب أنفسكم حتى تتصف بأخلاق الله تعالى التي تناسب المخلوقين مما عبّرت عنها الأسماء الحسنى, وكان النبي (صلی الله علیه و آله) وآله الأطهار (صلوات الله عليهم أجمعين) المظهر الأكمل والتجلي الأعظم لهذه الصفات الإلهية, ورد في دعاء شهر رجب المروي عن الإمام الحجة (علیه السلام) (فجعلتهم معادن لكلماتك واركاناً لتوحيدك وآياتك ومقاماتك) إلى أن يقول (لا فرق بينك وبينها إلا أنهم عبادك وخلقك)(3).

ولأننا نعيش ذكرى الإمام الحسن (علیه السلام) السبط المنتجب ريحانة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وسيد شباب أهل الجنة نأخذ دروساً من اسمه الشريف ونستذكر معه اسماً من أسماء الله الحسنى التي تجلت فيه وهو (المحسن), فقد سمّاه الله تبارك وتعالى باسمه مشتقاً من هذه الصفة الإلهية المباركة، رُويَ في كتب الفريقين ان فاطمة الزهراء (علیها السلام) لما ولدت الحسن طلبت من أمير المؤمنين (علیه السلام) تسميته فقال (علیه السلام) (ما كنت لأسبق رسول الله (صلی الله علیه و آله) بتسميته) وقال النبي (صلی الله علیه و آله) (ما

ص: 407


1- كلمة بمناسبة استشهاد الإمام الحسن (علیه السلام) أُلقيَت يوم 8 صفر 1435 المصادف 12/12/ 2013.
2- بحار الأنوار ج 58 ص 129 باب 42.
3- مفاتيح الجنان /168

كنت لأسبق ربي بتسميته) فنزل الأمين جبرئيل (ع) وقال (إن الله يقول : سمه حسناً اشتققته من اسمي فانا المحسن وهذا حسن فسماه النبي (صلی الله علیه و آله) بالحسن)(1).وفي دعاء التوسل بالخمسة أهل الكساء نسأل الله تعالى ونقول بالحسن وأنت المحسن.

والحَسَن لغةً صفة مشبهة بالفعل وهي تدل على ثبات ودوام الحال في الموصوف, وهكذا تجلى حسن الإمام الحسن (علیه السلام) أولاً في اسمه فقد اشتق من لفظ الجلالة وسمّاه الله تبارك وتعالى واختار له وصفاً ثابتاً له ,وهذه شهادة من الله تعالى بان الحسن والإحسان تجسّدا في هذا السبط المبارك، لأنّ الله تعالى لا يطلق هذا الوصف إلاّ إذا كان تامّ الانطباق على صاحبه.

وتجلّى حسنه ثانياً في كرمه وإحسانه للآخرين فقد كثرت الروايات في إغداقه العطاء بشكل أذهل الجميع, روي (أن رجلاً جاء إليه وسأله حاجة فقال له : يا هذا حق سؤالك إياي يعظم لديَّ ,ومعرفتي بما يجب تكبر عليَّ, ويدي تعجز عن نيلك بما أنت أهله ,والكثير في ذات الله عز وجل قليل ,وما في ملكي وفاء بشكرك ,فان قبلت مني الميسور ,ورفعت عني مؤونة الاحتيال والاهتمام لما أتكلفه من واجبك فعلت)(2)

هذا وقد أعطاه ما كان تحت يده (ع) وهو خمسون ألف درهم وخمسمائة دينار.

ص: 408


1- راجع مصادر الرواية في موسوعة المصطفى والعترة للشاكري : 5/ 28.
2- المصدر السابق : 5/ 96.

حتى سُئل (ع) : لأي شيء لا نراك تردُّ سائلاً؟قال (علیه السلام) (إني لله سائل ,وفيه راغب ,وانا استحيي أن أكون سائلاً واردَّ سائلاً ,وإن الله عز وجل عوّدني عادة : أن يفيض نعمته عليَّ ,وعوّدته أن أفيض نعمه على الناس ,فأخشى أن اقطع العادة أن يمنعني العادة وأنشد يقول :

إذا ما أتاني سائل قلت مرحباً *** بمن فضله فرضٌ عليَّ معجّلُ

ومن فضلُه فضلٌ على كل فاضلٍ *** وأفضل أيام الفتى حين يُسئُلُ

وتجلّى حسنه ثالثاً في تكريمه للمواقف الحسنة بأحسن منها, روي ان جارية حيّت الإمام الحسن (علیه السلام) بطاقة ريحان فقال (علیه السلام) لها : أنتِ حرة لوجه الله ,فقيل له في ذلك , فقال : أدّبنا الله تعالى فقال (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا) (النساء/ 86) وكان أحسنُ منها اعتقاها)(1).

وروى الخطيب البغدادي في تاريخه عن الإمام الحسن بن علي (علیه السلام) انه كان ماراً في حيطان – أي بساتين – المدينة فرأى عبداً أسوداً بيده رغيف خبز يأكل ويطعم كلبه لقمة إلى أن شاطره طعامه في الرغيف , فقال له الإمام الحسن (علیه السلام) ما حملك على ما عملت وشاطرته ؟ فقال الغلام : استحيت عيناي من عينه.

فقال الإمام (علیه السلام) : غلام من أنت؟ فقال: غلام أبان بن عثمان ,فقال : والحائط ؟ قال : لأبان بن عثمان.

فقال له الإمام الحسن (علیه السلام) أقسمتُ عليك لا برحت حتى أعود عليك.

ص: 409


1- المصدر السابق : 5/ 93

فمَّر على صاحب الحائط فاشترى الحائط والغلام معاً ,وجاء إلى الغلام , فقال (علیه السلام) ياغلام قد اشتريتك فقام الغلام قائماً ,وقال : السمع والطاعة لله ولرسوله ولك يا مولاي.قال (علیه السلام) : وقد اشتريت الحائط, وأنت حرٌ لوجه الله ,والحائط هبة مني إليك.

فقال الغلام: (يا مولاي قد وهبتُ الحائط للذي وهبتني له)(1)

وتجلى حسنه رابعاً في مقابلة الإساءة مهما كبرت بالإحسان، عن المبرَّد وابن عائشة قالا: إن شامياً رآى الحسن بن علي (علیه السلام) راكباً بغلة، قال: لم أرَ أحسن منه، فمال قلبي إليه وسألت عنه فقيل لي: الحسن بن علي بن أبي طالب (علیهما السلام) فامتلأ قلبي غيظاً وحنقاً وحسداً أن يكون لعلي وله مثله فقمت إليه فقلت: أنت ابن علي بن أبي طالب، فقال (علیه السلام): أنا ابنه.

فقلت: ابن مَنْ ومَنْ مَنْ؟ وجعلت أشتمه وأنال منه ومن أبيه وهو ساكت حتى استحييت منه، فلما انقضى كلامي تبسّم، وقال: أحسبك غريباً شامياً، فقلت: أجل.

قال (علیه السلام) لعلّك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك ولو سألتنا أعطيناك ولو استرشدتنا أرشدناك ولو استحملتنا حملناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنتَ طريداً آويناك، وإن كانت لك حاجة قضيناها لك، فلو حركت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك، كان أعود عليك، لأن لنا موضعاً رحباً، وجاهاً عريضاً ومالاً كبيراً.

ص: 410


1- المصدر السابق: 5/ 91 عن تاريخ بغداد: 6/ 34.

فلمّا سمع الرجل كلامه بكى، ثم قال: أشهد أنك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالته، وكنتَ أنتَ وأبوك أبغض خلق الله إليَّ، والآن أنتَ أحبّ خلق الله إليَّ، وحوّل رحله إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل، وصار معتقداً لمحبتهم.(1)وروي أنّه (ع) وجد شاة له قد كسرت رجلها فقال لغلام له: من فعل هذا؟ قال الغلام: أنا، قال: لمَ فعلت ذلك؟ قال: لأجلب لك الهم والغم فتبسّم الإمام (علیه السلام) وقال له: لأسرّك، فاعتقه وأجزل له العطاء.(2)

وتجلّى حسنه خامساً في طريقة دعوته إلى الله تبارك وتعالى ووعظ الناس وأرشادهم تأدباً بقوله تعالى (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل/125)، روي أن الإمامين الحسن والحسين (علیه السلام) مرّا على شيخ يتوضأ ولا يحسن الوضوء فأظهرا تنازعاً يقول كل منهما للآخر: أنا أحسن وضوءاً منك، وقالا: أيها الشيخ كن حكماً بيننا فتوضئا، وقالا: أيّنا يحسن الوضوء؟

فقال الشيخ: يا سيديَّ كلاكما تحسنان الوضوء ولكن هذا الشيخ الجاهل هو الذي لم يكن يحسن الوضوء وقد تعلّم الآن منكما وتاب على يديكما ببركتكما وشفقتكما على أمة جدكما.(3)

وتجلّى حسنه سادساً في شكله ومظهره الخارجي، فقد ذكر المؤرخون أنه

ص: 411


1- المصدر السابق: 5/ 89.
2- المصدر السابق: 5/ 90.
3- المصدر السابق: 5/ 64.

من أحسن الناس وجهاً(1) وفي أسد الغابة عن أنس بن مالك إنه لم يكن أحد أشبه برسول الله (صلی الله علیه و آله) من الحسن بن علي (علیه السلام)، وأضيف إليه انعكاس حسنه الباطني على ظاهره، يقول أمير المؤمنين (علیه السلام) (لو رأيتم الإحسان شخصاً لرأيتموه شكلاً جميلاً يفوق العالمين).(2)هذا الحسن والإحسان جعل للإمام الحسن (علیه السلام) هيبة في قلوب الناس الذين عاصروه بل إلى اليوم وإلى يوم القيامة كلما ذكر اسمه الشريف اقترن بالهيبة والجلال، كهيبة جدّه رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وفي أسد الغابة: أتت فاطمة الزهراء (علیها السلام) بابنيها إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) في شكواه الذي توفي فيه فقالت: يا رسول الله هذان ابناك فورّثهما، فقال (صلی الله علیه و آله): أما حسن فإن له هيبتي وسؤددي، وأما حسين فإن له جرأتي وجودي.(3)

وروى المؤرخون: ما بلغ أحدٌ من الشرف بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما بلغ الحسن بن علي (علیه السلام)، قال الراوي: ولقد رأيته في طريق مكة، نزل عن راحلته فمشى، فما من خلق الله أحدٌ إلا نزل ومشى، حتى رأيت سعد بن أبي وقاص، قد نزل ومشى إلى جنبه).(4)

حتى إن معاوية بن أبي سفيان لم يستطع مسّ شيعة أبيه أمير المؤمنين عليّ (ع) بسوء يُذكر طيلة عشر سنوات حتى استشهد الإمام الحسن (علیه السلام).

ص: 412


1- المصدر السابق: 5/ 32.
2- غرر الحكم/ 7601.
3- المصدر السابق: 5/ 61.
4- المصدر السابق: 5/ 23.

خطاب المرحلة 396 :التجديد في الخطاب الديني

خطاب المرحلة 396 :التجديد في الخطاب الديني(1)

أجرت قناة العراقية الفضائية حواراً مع سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) كان محوره (التجديد في الخطاب الديني) وعُرض في برنامج (دولة الإنسان)، ونقرر هنا جوانب من هذا اللقاء.

س1: هل التجديد في الخطاب الديني ضرورة؟

ج: نعم التجديد ضرورة لأنه من سنن الحياة فلابد أن تجري، ومن لا يتجدد تخلفه الحياة ويصبح ميتاً أو جزءاً من الماضي، كالماء الراكد فإنّه يفسد ولكنه يحيى ويتجدد بالجريان.

وقد أخذ الشارع المقدس هذه الضرورة بنظر الاعتبار، ومن الشواهد على ذلك بعث مئة وأربعة وعشرين ألف نبي على مدى التاريخ من لدن أول البشر لإبلاغ رسالة التوحيد وكان يكفيه إرسال واحد يبلّغ عن الله تعالى، وما ذلك إلاّ لمراعاة التغيرات التي تطرأ على أذهان البشر والنمو الحاصل في المجتمع البشري في تفاصيل الشرائع الإلهية حتى ختمت بشريعة الإسلام التي صمّمت على شكل يتيح لها أن تكون الرسالة المستوعبة.

ص: 413


1- أجري اللقاء مساء 4/ 12/ 2013 وعُرض يوم 17/ 12/ 2013 وكان المحاور مدير معهد التدريب الإعلامي ومقدم برنامج (دولة الإنسان) في قناة العراقية السيد ناجي الفتلاوي.

س2: من أين تتأتى هذه الضرورة؟

ج: من كون الإنسان ابن واقعه بزمانه ومكانه وظروفه، ويوجد هنا حديث مناسب عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال فيه (العالم ((العارف)) بزمانه لا تهجم عليه اللوابس)(1) فالإنسان يجب أن يكون متجدداً مع ما يقتضيه الزمان فطناً لتقلبات الاحداث ومستجداتها ليأمن من الشبهات والفتن واختلاط الأمور وحينئذٍ تكون عنده الرؤية واضحة وتتوفر القدرة على اتخاذ السلوك والموقف الصحيح، خصوصاً العلماء الذين يحملون رسالة الهداية والصلاح إلى الناس جميعا بكل تنوّعاتهم، فهم أحوج من غيرهم إلى هذا التجدّد.

س3: هل الحديث ينظر إلى المعرفة الدينية خاصة وما يرتبط بها؟

ج: نص الحديث عام يشمل كل علم ومعرفة فتقييد المعرفة بالدينية لا وجه له، والتقييد بالمعرفة الدينية يستلزم تقدير مضاف محذوف والأصل عدم التقدير، فالحاجة إلى المعرفة ومواكبة الزمان مطلقة.

ولو تنزلنا وقيّدنا المعرفة بالدينية فلا ضير ولا نخرج عن النتيجة أعلاه لأن الدين يهتم بكل شؤون الحياة وله كلمة وموقف في كل الأمور وهذا يتطلب معرفة بكل شؤون الحياة.

س4: الملاحظ وجود عملقة وغزارة في الإنتاج النظري والمكتبات مليئة بعلوم جمّة، لكننا على صعيد الساحة العملية لا نجد ذلك، بل نرى الإنتاج مختصاً بالمعرفة الدينية.

ص: 414


1- الكافي: 1/ 27.

ج: هذه المفارقة طبيعية في كل المجالات ولا تختص بالمؤسسة الدينية فطلاب الطب والهندسة وغيرها يحصلون على كمية وافرة من العلوم لكنهم على الصعيد العملي لا يستعملون إلا القليل منها، والسر في ذلك أنك على صعيد الإنتاج النظري تستطيع أن تفكر بما تشاء وتستنتج ما تشاء ولا أحد يستطيع أن يمنعك من ذلك، لكن على صعيد العمل توجد معوّقات تمنع وشروط يجب توفّرها وتحتاج وجود شركاء يتفهمون الأهداف وهكذا وهذه لا يتيسر إلا بشكل محدود.فهذا النقص على صعيد الساحة العملية قد يكون قصوراً بسبب العوامل أعلاه وقد يكون تقصيراً ناشئاً من العجز عن استثمار الأدوات المتوفرة وكلاهما موجود، والمهم أن الدين نفسه ليس مسؤولاً عن هذا النقص لامتلاكه مخزوناً غير محدود ولقدرته على المواكبة والحركة والملائمة لكنه ليس مسؤولاً عن عدم تحويل هذا المخزون إلى برامج عمل ومؤسسات فاعلة بمستوى المطلوب بل بمستوى الطموح لأن التطبيق من مسؤولية القائمين عليه أعني ما يسمى بالمؤسسة الدينية.

س5: من المعلوم أن المؤسسة الدينية تدعو الناس إلى أتباعها والتمسك بها وعدم مخالفتها وهذا يتطلب تحقيق عناصر جذب من أجل تسويق الخطاب الديني بشكل صحيح حتى لا يجد المؤمن العادي ضالّته في جانب آخر ربما يكون بعيداً عن الدين والمؤسسة الدينية، فهل عملت ذلك على أرض الواقع أم أنها ما زالت تجتر أساليب

ص: 415

واستراتيجيات قديمة أصبح الكثير لا يستسيغها؟ج: بصورة عامة أقول أن مذهب الشيعة الجعفرية له القدرة على التجديد وتحديث الأفكار والآليات لانفتاح باب الاجتهاد عندهم ومن العناصر المهمة في عملية الاجتهاد لتحصيل الحكم الشرعي هو ملاحظة الزمان والمكان وما يعرف بالعناوين الثانوية ومناسبات الحكم والموضوع .

لكن تقييم تجارب المؤسسة الدينية في مراحلها المتعددة يختلف باختلاف أنماط المرجعية التي تقف على رأس المؤسسة الدينية فيوجد فقهاء مثقفون متحركون متجددون مواكبون للحياة لذلك استطاعوا إقناع النخب العلمية والمثقفة والتفوا حولها إلى حد الفناء في أفكارها كالسيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره)، وتوجد مرجعيات منكمشة منكفئة على ذاتها وتقتصر على أقل ما يكفي لبقاء الحياة.

ولدينا تجارب رائدة في الإبداع والتفاعل مع ما هو جديد سواء على مستوى التقنين الفقهي لمستجدات الحياة، أو تطوير عمل المؤسسة الدينية ومناهجها وطرق تفكيرها وأدوات خطابها بما يناسب الزمان، أذكر مثلاً محاولة المرحوم الشيخ حسين الحلي – أستاذ المراجع الكبار المعاصرين- عندما بحث المسائل الاقتصادية التي كانت جديدة يومئذ كالبنوك والعملات والتأمين على الحياة ونحو ذلك، وهذا البحث يتطلب أولاً سعة اطلاع على حيثيات الموضوع من الناحية المهنية والفنية قبل أن يتعرض لبحث أحكامه الفقهية، وقد قرّر الأبحاث أحد تلامذته وهو المرحوم الشهيد السيد عز الدين آل بحر العلوم وطبعها في كتاب عنوانه (بحوث فقهية) عام 1963 ومنه تعرف ريادة هذه

ص: 416

البحوث وهذه المحاولات لإعطاء الرؤية الإسلامية في مختلف القضايا المستحدثة.وهكذا بحث السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في فقه الفضاء الذي يستعرض مسائل افتراضية لرواد أو سكان الفضاء ويعالج ما يمكن أن يتعرضوا له من مسائل فقهية، وبحوثه الأخرى في كتاب (ما وراء الفقه).

وأما على صعيد المناهج والمؤسسات وتحديث الآليات فعندنا تجارب الشيخ محمد رضا المظفر والسيد محسن الأمين العاملين والسيد موسى الصدر وغيرهم (رحمهم الله جميعاً).

س6: هل استطاعت المؤسسة الدينية من خلال خطابها أن تمسك بعضادة التطور وتنظر إليه نظرة حادة قائمة على أساس ميلاد ما يلائم من تغييرات ليكون المنتج الفكري قادراً على جذب المريدين؟

ج: اعترفت قبل قليل بوجود التقصير في المؤسسة الدينية بدرجات متفاوتة بين المرجعية العاملة والمرجعية الساكنة، ومن تقصيرها أنها لا تستعد لمواجهة هذه التغيرات رغم علمها بحصولها ولو حدساً بلحاظ الأحداث الجارية، والتفاعل مع التغيرات لم يكن بمستوى حجمها وتسارعها.

ولابد أن أشير هنا إلى الجانب القصوري لأن الحوزة العلمية في النجف بدأت تنهض من جديد بعد سقوط صدام عام 2003 بعد ركود دام أكثر من عقدين، وهذا التخلف الطويل عن قضايا العالم وتحدياته يحتاج إلى مدة لكي تكون المؤسسة الدينية بمستواه، كسيارة واقفة أريد لها أن تلحق بسيارة تسير بسرعة مئة كيلومتر بالساعة فإنها تحتاج إلى سرعة أكبر لتلتحق بها هذا هو حال

ص: 417

الحوزة العلمية حينما صدمتها التغييرات السياسية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والديموغرافية.وأذكر هنا مثالاً من التاريخ حينما حصلت الفتنة الطائفية في بغداد عام 448 هجرية وهوجم بيت المرجع يومئذ الشيخ الطوسي وأحرقت مكتبته فهاجر إلى النجف، وكانت بغداد تقف على قمة عصر ذهبي امتد قرنين من الزمان تقريباً فقبل الطوسي كان السيد المرتضى وقبله الشيخ المفيد ثم صاحب كامل الزيارات ثم الكليني وقبله السفراء الأربعة فلما انتقل إلى النجف التي لم تكن حاضرة علمية بدأ بالتأسيس من جديد ولم يكن كافياً وجوده بنفسه ومعه بعض تلامذته لأن المسؤولية تحتاج إلى مؤسسة متكاملة بجميع عناصرها، وقد احتاجت المؤسسة إلى حوالي 130 عاماً لتصبح بمستوى ما كانت عليه، وهذا ما يفسّر تأخر حركة الاجتهاد بعد الشيخ الطوسي طيلة هذه المدة حتى ظهر العلامة ابن إدريس الحلي (المتوفى سنة 598ه-)، وهذا السبب يضاف الى ما قيل من أن هيبة الشيخ الطوسي وهيمنة أفكاره جعلت من الصعب اختراقها ومناقشتها فتجمد الاجتهاد حتى ظهور ابن إدريس.

س7: اتفقنا على أن شريعة الإسلام لديها القدرة على التجدد في ذاتها، فهل انعكس هذا على الواقع والمحيط؟ أي هل استثمرت المؤسسة الدينية هذه المزيّة في الشريعة بشكل صحيح في تجديد الخطاب؟

ج: قلنا في بعض الأجوبة السابقة أن التقييم متفاوت بلحاظ المرجعيات المختلفة الماضية والحاضرة، لأن استثمار هذه المزية في الشريعة بيد القائمين

ص: 418

عليها، وقد اعترفت قبل قليل بالقصور والتقصير، وأضيف هنا تأثير الظروف في إبراز منتج الحوزة العلمية، فقد يوجد إنتاج يمتاز بالإبداع والحداثة لكنه يبقى مجهولاً ويموت بموت صاحبه، وقد تتاح ظروف لانتشاره والتعريف به.خذ مثلاً كتابَي (اقتصادنا) و(فلسفتنا) فإنهما مع ما فيهما من رصانة وتألق علمي إلاّ أنهما لم ينالا الشهرة العالمية إلا بمساعدة الظروف حيث كان الصراع بين المعسكرين الشرقي و الغربي والايديولوجيات المختلفة وكانت كل جهة تتبنى اي شيء ينفعها في تلك المواجهة، لذا لا نستغرب من مساهمة حكومات كانت لديها مشاكل مع الاتحاد السوفيتي والماركسية والشيوعية بترويج الكتابين ونشرهما كجزء من مواجهة المعسكر الشرقي، وإلا بم تفسر قيام الرئيس جمال عبد الناصر بنشرهما أو قيام حكومة البعث في العراق بذلك في سبعينيات القرن الماضي بحسب ما ورد في المذكرات عن السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره)، ولم تنتشر بنفس الدرجة كتبه الاخرى ك- (البنك اللاربوي) و (الأسس المنطقية للاستقراء) التي لا تقل اهمية عن الاوليّن وكان الاخير احبًّ كتبه اليه (قدس سره).

علماً أن السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وصف كتابه (اليوم الموعود) بأنه خطوة متقدمة على كتاب الشهيد الصدر الأول (قدس سره) لأنه عرض آراء استاذه الصدر الأول ومناقشات الماركسيين له من مصادرهم ثم الرد على تلك المناقشات، ومع ذلك لم يحظ اليوم الموعود بما حضي به سلفه.

س8: الشيخ اليعقوبي متابع جيد جيداً للواقع بدليل ما نجده ونلحظه من نتاج قريب من الميدان ومن المجتمع فما رأيه الخاص حيال

ص: 419

التجديد في الخطاب الديني الذي يتخوّف من دخوله البعض؟ج: لقد أخذت هذا التجديد بنظر الاعتبار منذ أول تحملي للمسؤولية بعد استشهاد السيد الصدر الثاني (قدس سره) عام 1999 ولذا أسميت سلسلة خطاباتي وبياناتي وتوجهاتي ومواقفي وتعليقاتي على الأحداث بعنوان (خطاب المرحلة) وقد شرحت في مقدمة الكتاب –الذي بلغ إلى الآن ثمان مجلدات- أن المرحلية لا تعني اقتصار فائدته على زمان صدوره فقط، بل تعني ملاحظة المرحلية في شكله ومضمونه مع احتفاظه بموقعه من السلسلة الموصلة إلى الهدف الاستراتيجي، أي وظفت فيه المرحلية لتحقيق الهدف الاستراتيجي بالنسبة لنا كمؤسسة دينية، وهي تجربة استفدتها من القرآن الكريم الذي كان نزوله تدريجياً، ومن يقلّب صفحات الكتاب يعيش مع أحداث العراق ومشاكله وهموم شعبه وآلامهم وتطلعاتهم ويجد فيه الدين متلائماً مع الاقتصاد والسياسة والأخلاق والاجتماع والتنمية والعلوم الحديثة وغيرها.

س9: صدر لكم شكوى للقرآن وللمسجد وللإمام لماذا لم تصدر شكوى للخطاب الديني إذا كان بحاجة إلى التجديد فهو أيضاً يشكو؟

ج: كانت هذه الشكوى من أوائل ما أصدرت من كتب حيث نشرت أوائل عام 2000 كراساً بعنوان (وصايا ونصائح إلى الخطباء والحوزة العلمية) أشرت فيه إلى مسؤولياتهم العديدة وما يجب أن يتوافروا عليه من مؤهلات وأدوات معرفية تتجاوز العلوم الدينية التي يتلقونها في الحوزة الشريفة.

س10: هل شخّصت مواضع للخلل في الخطاب الديني في الواقع المعاشي؟

ص: 420

ج: نعم توجد فيه علل كثيرة (منها) عدم كفاءة كثير من المتصدين وجهلهم بمسؤوليتهم وعدم الفطنة إلى حقيقة ما يجري وما يتلقونه وما يلوكونه بألسنتهم (ومنها) الانفعال والعاطفية (ومنها) التخندقات والفئوية (ومنها) الأدلجة وعدم الحيادية والموضوعية (ومنها) تجهيل الناس واعتماد الخرافات واضغاث الأحلام وحكايات العجائز (مضافاً) إلى ابتلاء البعض بالعقد والأمراض النفسية تجاه أشخاص أو جهات فيتخذ من الخطاب وسيلة لإظهارها.س11: لابد لمن يدخل ميدان التجديد الديني من توافر مجموعة من الضوابط وإلا فقد يقع في الفخ كما حصل لكثيرين، فهل عملتم على رصد هذه الحالة من خلال اطلاعكم على المنتجات الفكرية التي دعت إلى تجديد الخطاب الديني؟

ج: لقد بالغ البعض في ادعاء التجديد واعتناق الحداثة حتى شكّك في الثوابت والمقدسات وخرج من الدين وفي هذه خسارة عظيمة لأنفسهم وللمجتمع، وحصل بعض هذا كردة فعل على قساوة التعامل أحياناً عند بعض دهاقنة المؤسسة الدينية، أو بسبب سذاجتهم وغفلتهم عما يراد في الحقيقة من دعاوى الحداثة والتجديد وبعض الشعارات المحببة الأخرى، وتصبح المشكلة أخطر حينما يصاب بهذا الاختلال رجال من الحوزة العلمية .

لذا أوصيت في بعض خطاباتي إلى ضرورة أن يكون للمؤسسة الدينية هيئة خاصة تنطق باسمها تخولها المرجعية لقطع الطريق أمام غير المؤهلين ولا يُترك الباب مفتوحاً لكل من هب ودبّ ليظهر أمام الفضائيات ويتحدث بما يشاء وينسب كلامه إلى المذهب والمرجعية، فليست المؤسسة الدينية أقل أهمية من

ص: 421

الأحزاب والحكومات والمؤسسات الأخرى التي لها ناطق رسمي مخول بينما تعمّ الفوضى المؤسسة الدينية.وعلى أي حال فلابد للمعالج البصير من التصرف بحكمة وتأمل ليعالج الموضع المريض فقط وليس كل شيء يمتد في جذور الزمان بعنوان الحداثة والتجديد، فهذا هدم وتدمير، وأذكر أنني عرضت(1) بعض الأفكار التجديدية في مناهج الحوزة العلمية وإدارتها على السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) قبل ثلاثين عاماً فأوصاني بالحذر والتروّي وقال لئلا نكون كالغراب الذي حاول ن يقلّد الطاووس في مشيته فلم يفلح فأراد أن يعود إلى مشيته فلم يستطع فضيًّع (المشيتين) وهو المثل المعروف.

ونسجّل هنا ملاحظة على الإعلاميين وأصحاب وسائل الإعلام كالفضائيات وغيرها فإنهم يركّزون على الخطاب التحريضي الطائفي التأجيجي الشاذ فيظهر وكأنه المعبِّر عن توجهات هذه الطائفة وهذه الجهة أو تلك، ويتغافلون عن الخطاب المعتدل البنّاء الحضاري وكأن هذا لا يهمّهم بشيء، لأن مصالحهم تقتضي الفتنة والتفرقة والطائفية والصراع والخلاف، أو لأن الأول مثير وجاذب دون الثاني، فيبدو المشهد الثقافي وكأنه من الاول خلافاً للواقع لكن الاعلام هو الذي ابرز الاول وغيًّب الثاني.

وهذا يعني أن بعض الإعلاميين مؤدلجون ويعملون بلا مهنية وموضوعية وإنما هم مجنّدون للجهات التي تدفع لهم، وهو أحد أسباب استهدافهم وقتلهم حتى عادت الساحة العراقية أخطر الساحات في العالم للإعلاميين، أقول هذا مع

ص: 422


1- راجع كتاب (الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) كما أعرفه).

إدانتي لما يتعرضون له من ضغوط ومضايقات ومن إرهاب، لأن عمل الإعلامي محترم ولا يحق لأحد أن يمسّه بسوء، وكانوا ينقلون الوقائع والأحداث حتى الحروب ولا يجعلهم أحدٌ جزءاً من القتال.س12: أشكركم على هذه الملاحظة، ولا نريد أن نركز في حديثنا على الخطباء خاصة بل على نسق كامل من واجهات المؤسسة الدينية كالمرجع والوكيل وإمام المسجد وقارئ القرآن، فكيف نشدّ المريدين والمحبين إلينا شداً جاذباً بلطف ونحبب إليهم ما لدينا من خطاب والتجديد في الخطاب؟

ج: من أدوات ذلك الكاريزما الشخصية للقيادة الدينية بحيث يستطيع شدّ القاعدة إليه، أذكر أن السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) قال مرة أن المثل يقول أن الناس يميلون مع كل ريح، وتساءل لماذا لا تكون الحوزة الدينية هي صاحبة الريح الأقوى التي تستطيع إمالة الناس إليها، والريح مصطلح قرآني كما هو معلوم، وهذا طبعاً يحتاج إلى عمل وإلى مواصفات في القيادة الدينية، وقد توفرت في السيد الشهيد الصدر (قدس سره) واستطاع تحريك الشارع من خلال صلاة الجمعة والاستفتاءات وجذب أعداداً كبيرة ذابوا فيه .

س13: هكذا كان السيد الصدر في تلك المرحلة، أليس علينا أن نبتكر أساليب جديدة في تحريك الجمع كما حرّكها السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وأن تكون لدينا كاريزما شخصية تتلاءم مع راهن الوضع.

ص: 423

ج: نعم الظروف التي عاشها السيد الشهيد الصدر (قدس سره) تختلف عن التي نعيشها الان، والتحديات غير التحديات فلا بد ان نسير وفق الآليات المناسبة لطبيعة الظروف الحالية، وقد شبهت الحالة بالاختلاف في طبيعة معركة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) فالأولى كانت معركة تنزيل بين الإيمان و الكفر اي على أصل الإيمان بالله تعالى ورسوله ص، اما الثانية فكانت معركة على التاويل داخل المجتمع المسلم وبين رموزه لتمييز الحق وأهله وفضح النفاق والخداع وأصحاب الفتن والشبهات، وهي لا شك أصعب واعقد ويصعب إيجاد القناعات بها وهذا ما لاقاه أمير المؤمنين (علیه السلام) عكس الأولى التي تتميز بالوضوح والتمايز.وهكذا كانت معركة السيد الصدر واضحة في مواجهة نظام صدام وتلقى حركته استجابة واسعة لسعة القاعدة الرافضة للنظام .

س14: قصدي ان صاحب الكاريزما يعيش الحدث ويستنبط كما استخدم النبي (صلی الله علیه و آله) ضرب الهوية الوثنية حيث كان الوضع يحتاج الى ذلك وهكذا استنبط الإمام علي(علیه السلام) عملية تحريك تتلاءم مع الحدث، والحسن والحسين (علیه السلام) هكذا والعلماء الذين ساروا على نهجهم، واليوم ونحن في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين فان الوضع مكشوف أمام رجالات المؤسسات الدينية والعالم مفتوح والفكر مفتوح، فاذا عملية استنباط آليات جديدة تشدّ الشاب الفيسبوكي ممكنة ومتيسرة.

ص: 424

ج: صحيح أن وظيفة القائد الكاريزما إيجاد الآليات المناسبة لتحريك الأمة، وهذا يمثل فعلاً هاجساً مهماً في تفكيري، إلا ان الأمور ليست كلها بيده فهذا الانفتاح نفسه بلا ضوابط حتى عاد اقرب للفوضى هو مشكلة بحد ذاته لأنه أضاع البصيرة والقدرة على تلمّس الطريق الصحيح لتنوّع الخيارات وكثرتها وتشابكها فعقد طريق الوصول للقناعة الصحيحة كمن خرج من قعر الظلمات إلى الشمس والضوء فإنّه لا يهتدي إلى الطريق و يتخبّط في مشيته ويعشو بصره، وهكذا مجتمعنا العراقي بعد خروجه من ظلمات الحكم الصدامي المجرم، ولولا وجود الدين وبعض الأخلاق العامّة لكانت الحالة أسوأ بكثير ممّا نحنُ فيه، ومحل الشاهد أنّه في ظل الاهتمامات والطموحات الجديدة يكون الالتفات إلى الثقافة والفكر والوعي ضعيفاً جداً ويعتبرونه من الترف الزائد .ومن المعّوقات كون الآليات التي تتناسب مع ذوق الأمة وتوجهاتها مخالفة للشريعة فيأبى المتورع سلوكها كالفضائح ونشر الغسيل كما يعبّرون أو الخداع وقلب الحقائق أو شراء الضمائر ونحوها، وهذا ما ابتلي به أمير المؤمنين (علیه السلام) وعبّر عنه بقوله: (قد يرى الحُ-وّل القُ-لّب – وهو البصير بتحولات الأمور وتقلبها – وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله ونهيه فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين)(1).

ولما قيل بان معاوية أدهى منه بأمور السياسة والحكم، قال (علیه السلام): (والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى

ص: 425


1- نهج البلاغة: 115 الخطبة 41.

الناس)(1) وهكذا انتهى الأمر بانفضاض الكثيرين عن أمير المؤمنين (علیه السلام) وحصول الانشقاقات والتمرد المسلح عليه.وقد يكون المانع مراعاة المصالح العليا للدين والأمة والبلد التي هي أهم من بعض النتائج المرجوّة وهذا ما عبر عنه أمير المؤمنين (علیه السلام) بقوله: (لقد علمتم أني أحق بها من غيري ، ووالله لأسلّمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلاّ عليّ خاصّة)(2) .

ونحن اليوم نعيش مثل تلك المحنة حيث سوق الخداع والرياء والنفاق والكذب والتسقيط والافتراء والتجهيل رائجة، وحمّى التنافس على الدنيا والصراع على المغانم في أشدها، ولا احد يهتم بالوعي والثقافة والإصلاح والقضايا المعاصرة وحركة التجديد والنهضة، وتخلى عن هذه المفاهيم حتى أهلها الذين طالما تحدثوا بها.

لكن الوضع ليس يائسا بل الأمل موجود وتوجد جذوة من فكر وهي آخذة بالنمو والازدهار كما أن لطف الله تعالى بعباده متواصل فجعل معالم تعيد للأمة إيمانها وكرامتها وثقتها بنفسها وعلى رأسها الشعائر الحسينية المباركة.

وعدا هذه العقيدة المشتركة فان من الصعب إقناع المجتمع بقضية توحّده وتحشّده وتعبًّئ طاقاته للانطلاق به نحو الأفضل في أجواء التعقيد الذي ذكرناه، وهذه مشكلة معقدة يجب على صناع الرأي العام جميعا – وليس فقط المؤسسة الدينية – أن يبذلوا وسعهم لاكتشاف حلها بإذن الله تعالى.

ص: 426


1- نهج البلاغة: 432 الخطبة 198.
2- نهج البلاغة صبحي الصالح : 102 .

س15: ألا يستدعي هذا من المؤسسة الدينية أن تجتهد اجتهادا مضاعفا جدا، وتعمل على إعادة النظر من جديد بقراءة النصوص لتتلاءم مع النظريات العلمية الحديثة، فإنّه من المخجل أن يأتي مفكر ويأخذ نصاً لعلي (علیه السلام) ليستخرج منه نظرية ديموغرافية عندما يقول (قلة العيال أحد اليسارين) ونحن نسرح في جنائن نهج البلاغة دون أن نصل إليها، فعلينا ان نراجع أنفسنا ونجدّ ونجتهد حتى نعطي الزبدة للإنسان البسيط معرفيا ويأخذ من المرجع الديني ما صعب عليه؟ج: خجلك هذا يجب ان يشعر به بعض الواجهات المرجعية التي يتم التركيز عليها وإبرازها رغم انها تعيش في عالم غير الذي نحن فيه ولا يعبأوا بنتاج معرفي يواكب أحدث الإبداعات العلمية، وليس من واكب هذا النتاج وامتزجت في عطائه الأصالة والإبداع.

واذكر مثالاً على ذلك محاضرة ألقيتها بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الايدز (1-12) حلّلت فيها انثروبولوجياً الحديث النبوي الشريف (يا علي في الزنا ست خصال: ثلاث منها في الدنيا، وثلاث في الآخرة فأما التي في الدنيا فيذهب بالبهاء، ويعجل الفناء، ويقطع الرزق، وأما التي في الآخرة فسوء الحساب، وسخط الرحمن، والخلود في النار)(1)

وهكذا النتاجات الاخرى في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والقانون واللغة والفكر وغيرها فراجع كتاب (خطاب المرحلة)ولكن كم الذين اطلعوا عليها

ص: 427


1- بحار الأنوار: 79/ 22 ح15.

واستفادوا منها؟س16: بعض من يتحدث عن تجديد الخطاب الديني يتهم المجدّدين بأنهم وقعوا في فخ المزج بين المنهج الإنساني والمنهج الرباني فهل وقع هذا فعلا ؟ على سبيل المثال نجد في كتابات نصر حامد أبو زيد أو حسن حنفي طروحات فيها من الجرأة وقد تكون غريبة نوعا ما عن المنتج الكلاسيكي للمؤسسة الدينية سواء في النجف الاشرف أو في المغرب او في الأزهر ؟

ج: توجد عدة احتمالات للمراد من المنهج الإنساني، ولعل مرادك المنهج الذي يضعه الإنسان من نتاج عقله من دون الرجوع الى النص الديني المستند الى الغيب.

ونقول أولا: ان للعقل قيمة كبرى في النصوص الدينية ومن يراجعها يجد انه الأصل وهو المخاطب من قبل الله تعالى وان وجوده وحكمه هو المائز بين الثواب و العقاب(بك أثيب وبك أعاقب)، وأول كتاب في الكافي الذي هو أول المصادر الأساسية للحديث عند الشيعة هو كتاب العقل قبل كتاب التوحيد و النبوة و الإمامة و الصلاة والصوم وغيرها .

ولو كان العقل حرا في تفكيره غير مكبل بالأغلال الفكرية و الاجتماعية والنفسية فان أحكامه ستتطابق مع أحكام الشريعة، لذلك عندنا قاعدة في علم الأصول مفادها (كل ما حكم به العقل حكم به الشرع) .

لكن عندما يقع التفكير الإنساني تحت ضغط التعصب وقدسية الموروثات

ص: 428

والانبهار بالمستورد، و الحسد و الغرور و التمرد ونحو ذلك فانه سيختل، وما دامت المدخلات و الآليات غير صحيحة فالمخرجات تكون كذلك فيحصل التصادم مع النص الديني و الخروج عليه، فالتهمة التي وردت في السؤال موجودة فعلا وقد تطرف بعض مدعي الحداثة كثيراً وغالوا في التمرد على الدين مما اوجب نفورا من هذه المصطلحات عند بعض المتدينين ، وصار ينظر الى الحداثويين بعين الريبة.س17: يقول البعض إن الخطاب الديني جعل من العقل تابعاً الى النص فابتعد عن الواقع الميداني الذي لا يمكن ان يهيمن عليه النص، بل العقل هو الذي يحرك النص .

ج:اتهام النص الديني بالابتعاد عن الواقع ليس صحيحاً لأنه إنما ورد ليعالج الواقع ويرتقي به وليس يتناول أمورا خيالية، وان كثيرا من الآيات القرآنية نزلت في حوادث معينة شرحها المؤلفون في علم (أسباب النزول) وكذلك الأحاديث الشريفة جاءت جوابا عن تساؤلات ومشاكل، مضافا الى ان الشريعة تضمنت قواعد عامة تغطي الاحتياجات المستجدة للإنسان الى يوم القيامة، ولم يقف الشيعة حيارى إزاء اي قصية مستحدثة، وتوجد كلمة مشهورة (ما من واقعة الا ولله فيها حكم)، فاتهام من يتمسك بالشريعة بالابتعاد عن الواقع غير صحيح.

اما دور العقل فيتلخص في قراءة و فهم النص واستنباط الموقف منه اولا وفي الحكم ببعض القضايا التي تقع في دائرة عمله ثانيا لذا كان العقل احد مصادر التشريع عند الشيعة الأمامية لكن يجب ان نعترف ان المنتوج البشري

ص: 429

يبقى مليئا بالثغرات و النقائص إذا لم يستلهم من النص الشرعي ولذا تجد القوانين الوضعية عرضه للنقض و التغيير و الحذف باستمرار وهذا دليل قصورهم.مضافا الى ان العقل محدود ولا يستطيع تفّهم كل شيء ويعجز عن إقناع نفسه قبل ان يقنع الآخرين اي لا يستطيع تحريك وجدانه وقلبه للإيمان بالقضية التي أذعن بها، وهذه الحقيقة نقلها القران الكريم عن النبي إبراهيم (علیه السلام): (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَ-كِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) البقرة – 260 فالعقل مؤمن بالقضية لكن قلبه لم يذعن مثله .

واذكر لك مثالا أخر لو أخذت ورقة عادية فقطعتها نصفين ووضعتهما على بعض ثم قطعت المجموع الى نصفين ووضعتهما كذلك وهكذا خمسين مرة فكم سيكون سمك المجموع؟ يعجز العقل عن تصّور ان مقداره سيصبح اكبر من المسافة بين الأرض و القمر، واذا أراد ان يتأكد فليحسبها رياضياً، واذا اذعن العقل بالنتيجة فان قلبه ونفسه لا تطمئن.

أمام هذا العجز للعقل في أزيد من مساحة عمله كيف نعطيه قيمة أكثر من النص الديني؟ .

س18: ماهي طبيعة الخطاب الديني الموجه للمثقفين هل هو خطاب خوف وحذر او هو خطاب جذب ؟

ج: أُجيب بلحاظ النص الديني وليس بلحاظ ما يتداوله الخطباء لان هؤلاء يمثلون مستوياتهم النفسية و الفكرية و الاجتماعية و الدينية، اما نفس النص الديني ففيه خطاب التخويف و التحذير وفيه خطاب التحبيب و الجذب و

ص: 430

التودد، لان كلا السياستين ضروريتان لتحريك الإنسان وهما متوازنتان في الشريعة، وان كان الشارع المقدس يريد من الناس ان يتحركوا بخطاب الحب ولا يلجئونه الى خطاب التخويف، لكن فئة من الناس لا ينفع معها الا خطاب التخويف، و الأنظمة و الوضعية تعتمد نفس الأسلوبين فهناك قانون للمكافئات وقانون للعقوبات. انظر كيف يقسم أمير المؤمنين (علیه السلام)عبادة الناس الى ثلاث اقسام : خوفاً من النار وسماها عبادة العبيد، وعبادة طمعاً في نعيم الجنة وسماها عبادة التجار، وحبا لله تعالى لانهم وجدوه أهلا للعبادة وسماها عبادة الأحرار وهي الأفضل طبعاً.

س19: سمعنا منكم ان الأسباب الرئيسية لمشاكلنا هي أزمة الثقافة وعدم وضوح معاني المفردات وان الحل يكمن في تصحيح هذه المعاني كمفردة الجهاد الذي يتذرع به الإرهابيون ونحو ذلك؟ فاذا كانت الثقافة متأزمة أين يكمن الخلل؟ هل في ذات المثقف أم في الظروف المحيطة ام في السلطة ام في المؤسسة الدينية التي تغرد خارج سرب المثقفين .

ج: كل هولاء مسئولون عن الخلل لكن السبب الرئيسي هو عدم أهلية القيادتين الدينية و السياسية وعدم اهتمامهم بالثقافة و الفكر، وهذا هو أصل كل الأزمات كما في الحديث الشريف (صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل يا رسول الله ومن هما؟ قال (صلی الله علیه و آله): الفقهاء

ص: 431

والأمراء)(1)و المثقف مسؤول ايضا حينما ذوّب نفسه في ما لا يؤمن به من برامج وسلوكيات الكيانات والجهات الحاكمة والمتنفذة طمعاً في منصب او امتياز ففقد شرف مهنته، او انه انزوى وترك المسؤولية العظيمة الملقاة على عاتقه وبقي في الظّل حتى مضى بعضهم الى لقاء ربهم من دون ان يعبأ بهم احد، وقد يكون معذورا لكي يحافظ على مبدأيته الا انه على اي حال يوجب خسارة عظيمة للامة .

س20: الا ترى سماحة الشيخ ان المؤسسة الدينية بحاجة الى ان تقوم بحزمة من الإجراءات كالدعوة الى تجديد المناهج الإسلامية بحيث انها تغادر لغة الخطاب قبل أربعين سنة؟

ج: هذا الوجوب شخّصه جملة من العلماء ونفذّوه كالشيخ محمد رضا المظفر و السيد الشهيد الصدر الاول و السيد محسن الاميني العاملي(رحمهم الله جميعا) وآثارهم في ذلك مطبوعة وقد أخذت موقعها المؤثر في مناهج الحوزة العلمية، إلا أن العائق الرئيسي كان دائماً وجود المتحجرين ذوي النزعة الاستصحابية كما عبّر الصدر الأول الذين يريدون إبقاء ما كان على ما كان ويتخوفون من التطوير والتحديث.

وقد أسس الشهيد الصدر الثاني (جامعة الصدر الدينية) لأحداث التجديد في المناهج والنظام الدراسي ونوعية الطلبة المقبولين وبرامج العمل وكلفني

ص: 432


1- الخصال للشيخ الصدوق (قدس سره)، باب الاثنين، حديث 12.

بإدارتها في السنة الأخيرة من حياته (قده) ويمكن مراجعة كتابي (المعالم المستقبلية للحوزة العلمية) للتعرف على معالم التجديد المنجزة والتي نطمح إلى إيجادها بتوفيق الله تعالى.س21: لدى المؤسسة الدينية اليوم قدرة مفتوحة على صعيد الوسائل الإعلامية (فضائيات، صحف، كتب) بإمكانها أن تمرر من خلالها الخطاب الديني الذي تريد ولكن وقعها في الميدان ربما لا يتلاءم مع هذا الحجم فما هو السبب؟

ج: تضمنت الأجوبة السابقة جملة من هذه الأسباب وعلى رأسها عدم أهليّة القيادة الدينية التي تقف على قمة الهرم بحسب ما هو معروض في وسائل الإعلام، فكيف نتوقع منها ممارسة هذا الدور حتى إنني طلبت الاستفادة وأخذ الدرس من الموقف النبيل لبابا الفاتيكان السابق عندما وجد نفسه غير قادر على مسايرة التحديات واستيعاب تساؤلات الشباب فإنه تنازل عن كرسي البابوية طوعاً عام 2013 ودعا الكنيسة إلى اختيار بديل أنشط منه وهذا ما حصل فعلاً، فلو حملت القيادة الدينية مثل هذا الشعور لتوفرت بيئة للنهوض والتقدم بإذن الله تعالى.

مضافاً إلى العوامل الأخرى كالهوس والتخبط الذي أصاب الناس بعد عام 2003 وغيرها مما ذكرنا، وقد شخّصت في كتابي (خطاب المرحلة) الكثير منها.

ص: 433

خطاب المرحلة 397 :ماذا بعد رزية الثلاثاء

خطاب المرحلة 397 :ماذا بعد رزية الثلاثاء(1)

بعد الذي حصل من عدم تمرير قانونَي الأحوال الشخصية و المحكمة العليا الجعفريّين بسبب تدخل جهات دينية وسياسية، كثر التساؤل عن الخطوات التالية لان السكوت والتوقّف غير مقبول عند الله تعالى وعند النبي (صلی الله علیه و آله) وآله الأطهار (ع) ولا يحق لنا ان نقعد عن حقنا بل نسعى بحسب ما ييسّره الله تعالى لتهيئة البيئة المناسبة للعمل بهذين القانونين، وإيجاد البديل الذي يضمن إجراء الأحكام الشرعية في هذه المعاملات.

ونحن نذكر بعض الإجراءات العملية التي ترتبط بوظيفتكم الشريفة في إعلاء كلمة الله تعالى وإقامة شريعة الله تعالى والإصلاح في أُمة رسول الله (صلی الله علیه و آله) والأمر بالمعروف و النهي عن المنكر وهي أهداف الإمام الحسين(ع) في خروجه كما أعلنها (ع) صرخة مدوية إلى يوم القيامة.

فنصرته (ع) تتحقق بالسعي لتحقيق أهدافه المباركة، وخذلانه (علیه السلام) بالتنصل من هذه المسؤولية.

ومن تلك الإجراءات:

1- تعريف المجتمع بما حصل من ملابسات رفض القانونين والجهات

ص: 434


1- وجّه سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) هذا البيان إلى أساتذة وفضلاء الحوزة العلمية في النجف الأشرف يوم 11 صفر 1435 الموافق 15/ 12/ 2013.

التي أجهضت هذه الحركة المباركة وبطلان الدعاوى التي تذرّعوا بها .2- توعية المجتمع بالمخالفات الشرعية التي يرتكبها القضاة بسبب عملهم بالقانون الوضعي الحالي وعدم أهليتّهم وفق الشروط الشرعية للقاضي، مما أدّى إلى بطلان الكثير من حالات الزواج و الطلاق و الميراث بغير حق واشتباه الأنساب ونحو ذلك، وهذه التوعية تساهم في خلق رأي عام ضاغط لإقرار القانونين.

3- الاهتمام بتدريس الكتب الفقهية التي ترتبط بعمل القاضي ككتاب القضاء و الشهادات و الديّات والطلاق والنكاح والوصية والوقف والميراث ونحو ذلك في مرحلتَي السطوح الأولية والمتوسطة (الشرائع واللمعة) لوجود إعراض كبير عن تدريس هذه الكتب.

4- تدريس الكتب المذكورة أعلاه على بعض المتون الاستدلالية في مرحلة السطوح العليا (المكاسب) ككتاب الرياض أو مستند الشيعة أو مباني تكملة المنهاج للسيد الخوئي (قدس سره) ونحوها لتعميق النظر في أدلة هذه الكتب و تفريعاتها .

5- بعث الوفود إلى جمهورية إيران الإسلامية ولبنان للاطلاع على تجربتهم العريقة في ميدان القضاء و الاستفادة منها.

6- جمع بيانات عن فضلاء الحوزة العلمية الذين يحملون شهادة البكالوريوس في القانون لانضمامهم إلى معهد القضاء العالي حتى يمارسوا مهنة القضاء بشكل رسمي ومحاولة شمول خريجي كليات الفقه و الشريعة.

وربما توجد إجراءات عملية أخرى نبيّنها لاحقا بأذن الله تعالى.

ص: 435

خطاب المرحلة 398 :معالم النجاح في الزيارات المليونية

خطاب المرحلة 398 :معالم النجاح في الزيارات المليونية(1)

ونحن نودّع الموسم الحسيني لهذا العام 1435 على مدى شهرَي محرم وصفر وما تضمنه من شعائر مباركة وأهمّها زيارة الأربعين المليونية ومليونية عاشوراء، لا ينبغي أن نطوي هذه المناسبات دون أن نسجّل الدلالات والمعطيات التي ترشّحت عن هذا الموسم المبارك، ومنها:

1- عمق الولاء وصدق المودّة التي يحملها شيعة أهل البيت (علیهم السلام) لأئمتهم (ع) التزاماً بقوله تعالى (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (الشورى/23) وبالوصايا الكثيرة من النبي (صلی الله علیه و آله) بأهل بيته (ع) الذين جعلهم عدلاً للكتاب، وقد كانت هذه المودّة دافعاً للتفاني والإقدام على الموت وبذل الغالي والنفيس وتحريك هذه الملايين ليأتوا مشياً على الأقدام من مسافات تجاوزت خمسمائة كيلومتر أحياناً في ظل البرد القارس والمطر الشديد مما أذهل العقول عن إدراك تفسيرها وانعدم نظيرها.

2- ازدهار التشيّع وانتشاره في أصقاع العالم بحيث تجد ملايين الزوّار قدموا من عشرات الدول من قارات العالم وقد سجّلنا في خطبة سابقة العوامل التي ساعدت على هذا الانتشار والازدهار وكان على رأسها هذه الشعائر الحسينية

ص: 436


1- كلمة ألقاها سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) في مكتبه الشريف يوم الجمعة 1/ع1/ 1435 المصادف 3/ 1/ 2014 بمناسبة انتهاء الموسم الحسيني في محرم وصفر.

المباركة، وهذه المسيرة المليونية التي أوصلت صوتها إلى العالم أجمع، وهذا يفسِّر كون شعار الإمام المهدي الموعود (علیه السلام) في إقناع العالم بدولته المباركة هو (يا لثارات الحسين).3- الزيادة المطرّدة سنوياً في عدد المشاركين في الزخم المليوني الهادر حيث قُدّرَ الزوار الذين وصلوا كربلاء على مدى أسبوعين تقريباً ب-(عشرين مليون) زائر بزيادة عدة ملايين عن العام الماضي، ففي كل سنة تُحفّز المشاهد المنقولة عبر الفضائيات المزيد للقدوم وكان الملفت هذا العام مشاركة أكثر من نصف مليون زائر من محافظة ديالى في المسيرة رغم ما يهدّد هذه المحافظة من أخطار إلاّ أنّهم أبوا إلاّ أن يجاهروا بولائهم للعترة الطاهرة.

وكذا المشاركة الفاعلة من إيران ولبنان ودول الخليج ودول أخرى لم يعهد قدوم الزوار منها، وأيضاً مشاركة موكب رجال الدين المسيحيين من هولندا.

4- التحسّن النوعي في الأداء، فأصحاب مواكب الخدمة بدءوا يراعون تخميس أموالهم والتأكد من تذكية اللحوم ليطعموا الناس حلالاً، ومراعاة الحاجات المتنوّعة للزائرين، وانتشارها على طول المسافات التي يقطعها الزوار من أقصى البصرة جنوباً إلى كربلاء بحيث يشعر الزائر انه بين أهله وأحبّائه طول أيام السفرة.

ونلاحظ الهيبة والوقار على الزائرين والزائرات والحجاب العفيف لدى النساء والالتزام بالصلاة في أوقاتها، وأداءها جماعة عند توفّرها.

كما لوحظ انتشار طلبة الحوزة العلمية في مراكز الإرشاد والتوجيه وإجابة الاستفتاءات وشرح الأحكام الشرعية وإقامة صلوات الجماعة.

ص: 437

وكان الإبداع والتفنّن في أداء الأدوار وملئ مساحات العمل الفارغة حاضراً فوُجدت مواكب للتنظيف ورفع النفايات، ومواكب للتوعية تُقيم معارض الكتُب وتوزّع المنشورات، وأخرى تنصب لوحات فيها آيات كريمة وأحاديث شريفة وكلمات حكيمة تهذّب سلوك الإنسان وتوثّق علاقته بربّه، وتحوّل بعضها إلى مراكز توعية سيّارة إذ طبعوا خمسين ألف لوحة تُعلّق على ظهر الزائر فيها كلمات مباركة فيستفيد من قراءة كل واحدة الآلاف خلال المسير وهكذا.وإذا كانت هناك مخالفات فهي نادرة جداً ولا تكاد تُذكر كقيام بعض الأنفار بابتداع حركات وأزياء وطرق غنائية رياءً من أجل لفت الأنظار وقد أثاروا الازدراء والسُخرية.

إضافة إلى ما قيل من أن شاحنات النقل الكبيرة التي أقلّت الزوّار بعد انتهاء المناسبة لم يراعى فيها الفصل بين الجنسين فعادت المشكلة التي نبّهنا لها في العام الماضي وعولجت آنذاك.

5- نجاح ارتفاع مستوى الوعي لدى الأمة ومطالبتها للمرجعية في أن تخرج من سكوتها وأن تكون بمستوى المسؤولية في تشكيل ضغط أحرج المرجعية وهدّد موقعها لدى أتباعها فتحركت المرجعية الساكتة ولو كان بشكل محدود تحت هذا الضغط والحرج الذي وقعت فيه فبادرت إلى إصدار التوجيهات والدعوة إلى تهذيب الشعائر وتناول فقه المواكب والزائرين ونحوه من الفقه الاجتماعي الذي أسّسنا له منذ خمسة عشر عاماً والاهتمام بالصلاة في أوقاتها جماعة كما نبّهنا دائماً، فالحمد لله تعالى على هذه اليقظة وهذه الثمرة للأمر

ص: 438

بالمعروف والنهي عن المنكر.6- الصفات الكريمة التي جسّدها العراقيون كالكرم والإنفاق بلا حدود والتواضع والإيثار والحبّ والرحمة والشجاعة والهمّة العالية والتآلف والصبر وسعة الصدر وحبّ النظام وغيرها ممّا حبّبهم إلى جميع الوافدين، وأبرز استحقاق العراقيين لاحتضان دولة العدل الإلهي بحسب الحكمة الإلهية، فكانوا يتسابقون للخدمة وإدخال السرور على الآخرين، وممّا يثير الإعجاب عدم حصول خلاف أو مشكلة رغم تواجد الملايين في مكان واحد وصعوبة الأوضاع العامّة واختلاف التوجهات والانتماءات إلاّ أنّ حبَّ الإمام الحسين وحّدهم.

7- وكان أهالي كربلاء على درجة عالية من المسؤولية والتحلّي بالصفات السامية التي أشرنا إليها آنفاً وفتحوا قلوبهم قبل بيوتهم لملايين الزوّار وأغدقوا عليهم من كرم الضيافة وحسن الإيواء فجزاهم الله تعالى عن الإمام الحسين (علیه السلام) وأصحابه أفضل الجزاء فقد أحسنوا جوار أبي عبد الله الحسين (علیه السلام).

وعوّضوا حرمانهم من المشاركة في المشي لانشغالهم بالضيافة وخدمة الزوار بالخروج في مسيرة مليونية أخرى من كربلاء إلى أمير المؤمنين لمواساته بوفاة الرسول (صلی الله علیه و آله) وليقولوا له (ع) هل وفّينا يا أمير المؤمنين لولدك الحسين (علیه السلام) بالخدمة المباركة طيلة مدة توافد الزوار.

8- وعلينا أن نشيد بالجهود الاستثنائية التي قدّمتها الجهات الأمنية والصحيّة والخدمية فكانت جهودهم عنصراً مهمّاً في منظومة النجاح التي تكلّلت به زيارة عاشوراء والزيارة الأربعينية وزيارة أمير المؤمنين (علیه السلام) في ذكرى وفاة

ص: 439

رسول الله (صلی الله علیه و آله) وسائر المناسبات الأخرى.وإذا كدّر هذه السعادة وهذا النجاح شيء فهو الخذلان الذي صدر من إحدى المرجعيات لمبادئ وأهداف الإمام الحسين (علیه السلام) وعدم احترام إرادة هؤلاء العشرين مليوناً عندما وجّه مكتبها بعدم تمرير قانون الأحوال الشخصية الجعفرية الذي يمثّل إنجازاً شيعياً يُدخل السرور على قلب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وآله الأطهار، إلاّ أنّ هذه المرجعية فجعتنا بهذا الموقف واستخفّت بهذه الحشود المليونية وكان عليها أن تتعلّم من شجاعة وصدق وسمو هؤلاء الزوّار، وليتها إذ تقاعست عن نصرة القانون أن تسكت وتدع الآخرين يتحملون المسؤولية، كما سكتت عن تمرير قوانين (تنصف) فدائيي صدام وأزلامه المجرمين، وتعيد إليهم (حقوقهم) بأثر رجعي، ولا أدري بماذا يجيبون ربّهم سبحانه ونبيهم (صلی الله علیه و آله) والأئمة الطاهرين (علیهم السلام) إذا سألهم عن فعلهم هذا.

أسأل الله تعالى أن يتقبّل الطاعات من الجميع ويوفّقهم للمزيد ممّا يحبّ ويرضى ويصلح حال الأمة ويختار لها قيادة تتأسّى بما وصف الله تعالى نبيه الكريم (صلی الله علیه و آله) (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة/128).

ص: 440

خطاب المرحلة 399 :وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ

خطاب المرحلة 399 :وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ(1)

قال تعالى (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة : 251)

وقال تعالى (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج : 40)

تكشف هاتان الآيتان عن سنة إلهية عظيمة وفريضة واجبة على المسلمين وهي سنة التدافع أي دفع الكفر بالإيمان، والشر بالخير، والفساد بالصلاح، والباطل بالحق، والمنكر بالمعروف، وتظهر عظمة هذه السنّة من اندراج فريضتين عظيمتين تحت عنوانها وهما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مضافاً الى الطاعات الاخرى كالدعوة الى الخير والنصيحة والارشاد والموعظة.

وهنا نلتفت إلى عدة أمور نستوحيها من الآيتين الكريمتين:

1-جعل هذه السنة الإلهية من منن الله تعالى وأفضاله على العالمين في الآية الاولى، رغم أن هذا التدافع يقتضي حصول تضحيات بالأرواح و الأموال

ص: 441


1- كلمة القاها سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) في مجلس بحثه الشريف يوم المولد النبوي الشريف 17-ع1-1435ه- المصادف 19-1-2014

ومفارقة الأهل والأوطان وبذل الجهود الكبيرة لأنها حرب مستمرة ضارية، وتفسير ذلك بوجوه يأتي احدها ونذكر هنا وجهاً ذكرت الآية حاصله انه لولا هذا الدفع لامتلأت الأرض بالشر و الفساد و الظلم و الكفر ولم تستقم فيها حياة إنسانية كريمة، ولأزيلت كل مظاهر الخير و الصلاح التي أشير إليها في الآية الثانية بأسماء دور العبادة و الذكر في الديانات التوحيدية.2-مادام هذا التدافع سنة إلهية فهي ثابتة وحتمية (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) (الأحزاب/62) (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) (فاطر/43) ولا يمكن التخلص من هذه المواجهة بالهروب من الواقع أو الانزواء أو غض الطرف ودفن الرأس في التراب، لأن النتيجة حينئذ ما ذكرته الآية الشريفة.

وإن هذه المواجهة مستمرة ولا تقتصر على زمان ومكان محدودين، لأنّها مرتبطة بوجود الناس على هذه الأرض وانقسامهم إلى فريق في الجنة وفريق في السعير.

3-يظهر من الآيتين أن الغرض من التدافع ومنه الجهاد بل العمل الإسلامي عموماً هو تثبيت كلمة التوحيد وحفظ شعائره ومشاعره، وإخراج الناس من عبادة العبيد وتحريرهم ليكونوا عباداً لله تبارك وتعالى ولم يُشرّع القتال والتدافع بأي نحو كان -ومنه التدافع والتنافس السياسي- طلبا لدنٌيا أو مال أو توسيع سلطة و نفوذ أو أي مغانم أخرى غير رضا الله تبارك وتعالى وإعلاء كلمته خلافاً لأهداف غير الربانيين فإنها لتلك الأهداف الدنيوية وهذا يجيب عن الإشكالات عن تشريع الجهاد في شريعة الإسلام .

4-ما قلناه آنفاً يدعونا إلى تصحيح مقاييس النصر و الربح و النجاح في

ص: 442

ثقافتنا،

ظنّوا بأن قتلَ الحسينَ يزيدُهم *** كذبوا فقد قتلَ الحسينُ يزيدا

وان نرتب أولوياتنا بشكل صحيح ونعرف بماذا نضحي ومن اجل ماذا نضحي بعد معرفة الأهم و المهم، إذ يظهر من الآية أنّ الهدف الأسمى هو إعلاء ذكر الله تعالى وإقامة شريعته ويهون دون ذلك القتل والقتال والتدافع بكل أشكاله وبذل كل شيء، وليس العكس بأنّ يُجعل الدين وسيلة لكسب الدنيا.

5-وان الدفع يعني عدم إمكانية اجتماع الطرفين المتدافعين معاً كالمعروف والمنكر أو الحق والباطل بل إن كلاً منهما يسعى لإزالة الآخر واجتثاثه، فلا مجال للمداهنة ولا لأنصاف الحلول لتصادم الأحكام والتشريعات الإلهية مع القوانين الوضعية التي تخضع للأهواء والنزوات، لأنّهم لا يرضون إلاّ بمحو الدين وإلغاء هوية أهله التي عبّرت عنها الآيتان بالهدم، وقال تعالى عنهم (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ) (البقرة/120)

6-إن الله تعالى قادر على إعزاز دينه ونصرهِ بقدرته اللامحدودة فيقول للشيء كن فيكون ويقطع دابر الفساد والكفر و الشر، إلا انه تعالى أبى الا ان تسير الأمور وفق أسبابها الطبيعية {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد : 4]، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المائدة : 48]، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال : 42]،

ص: 443

فجعل تعالى دفع الأشرار بعمل الأخيار وحركتهم المباركة مع تأييد الله تعالى وإمداده {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال : 62]، {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج : 38] {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج : 40]، فلابد إذن وفق هذه السنة الإلهية من عمل دؤوب متواصل .وحذّرت الآيتان من التقاعس عن العمل و المرابطة في مواجهة قوى الشر والانحراف و الفساد لان النتيجة تسلّط الطواغيت و الفسقة وخلوّ الساحة لهم وهو ينطبق على الحديث النبوي الشريف (لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر، أو ليستعملنّ عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم)(1) ويقوم هؤلاء الأشرار باستعباد الناس ومحو كل شعائر الدين ومشاعره وشعاراته، ورمزها ومجمعها الذي اشارت اليه الآية الشريفة المساجد فيعملون على هدمها وتخريبها .

7-إن هدم المساجد لا يقتصر على المعنى المادي أي إزالتها من وجه الأرض إذ قد يكون التخريب معنوياً - وهذا هو الأخطر- وذلك بحرمان الناس من بركاتها وتعطيل دورها الذي ذكرته الآية الشريفة بأنّه يُذكر فيها الله كثيراً وتُتلى فيها آياته ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، والمساجد هي مراكز تجمع المسلمين وتعارفهم وتحشيد قواهم ونشر الوعي بينهم وتهذيب أخلاقهم وتعليمهم الدين.

وهذا التخريب المعنوي هو ما يلجأ إليه الطواغيت والمنافقون المتستّرون بالدين فهم يعمّرون المساجد مادياً إلاّ أنّهم يفرغونها من محتواها وتأثيرها في

ص: 444


1- وسائل الشيعة: 16/ 118 ح11.

حياة الأمة كالذي شهدناه ايام صدام المقبور وامثاله.وقد يكون تأثير مساجد المنافقين معادياً للدين القويم {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة : 107] وهذا شاهد على ما قلناه من كون التخريب المعنوي اخطر .

8-وبناءاً على ما قلناه من ان التخريب المعنوي هو الاخطر وانه قد يكون من المتسترين بالدين من نفس المسلمين فان سنة التدافع تجري داخل المجتمع المسلم ايضاً وليس فقط مع الاعداء الخارجيين وتكون حينئذٍ مع من يحرّف الدين ويداهن فيه ويعرقل مسيرته ويحارب المصلحين ويقف حجر عثرة في طريق الإصلاح مكتفياً بشكليات الدين ومظاهره الخارجية، كالذين واجههم أمير المؤمنين (علیه السلام) بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وكانوا من العناوين الكبيرة في المجتمع المسلم، خصوصاً بعد الالتفات إلى الوصف الذي أعطته الآية للمساجد، والذي لاينطبق على اولئك المتسترين بالدين .

9-لابد ان يلاحظ في آليات التدافع مناسبتها لما يستعمله العدو، لأنّه إذا لم يكن مناسباً ومكافئاً للعدو فلا يعتبر دفعاً ولا تدافعاً، فإذا كان عمل العدو وهدمه فكرياً فلابد من دحضه بفكر مثله وان كان إفساده أخلاقياً فلابد من مواجهته بحملة مثلها، وهكذا إن كان سياسياً أو إعلامياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو عسكرياً ونحو ذلك فانه يقابل بمثله.

10-إن الله تبارك و تعالى لطيف بعباده ولا يتركهم سدى فريسةً بأيدي شياطين الانس و الجن بل يقيّض من عباده من ينهض بهذا الحمل الثقيل لذا

ص: 445

نسب تعالى الدفع إليه فهو الذي يدفع الناس بالناس، وهذا المعنى من قبيل ما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: (يحمل هذا الدين في كل قرن عُدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين)(1) واذا تقاعس قوم عن اداء واجباتهم فان الله تعالى يوفّق غيرهم لهذه الطاعة قال تعالى {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد : 38]11- الوعد الإلهي لعباده العاملين المخلصين بالنصر وتأكيد ذلك بعدة مؤكدات في الآية، كاللام ونون التوكيد في قوله تعالى {وَلَيَنْصُرَنَّ}، نعم قد يتأخر النصر لحكمة إلهية كحماية المؤمنين من العجب او لتعريضهم لمزيد من البلاء لإنضاجهم وتأهيلهم، أو لكي يستشعروا أهمية وقيمة النصر، وقد يحقق الله تعالى النصر للمؤمنين لكن على نحو لا يفهمه الناس لاختلال القيم والمقاييس عندهم، وعلى اي حال فان هذا النصر مشروط بإخلاصهم لله تعالى وصدقهم في ما عاهدوا الله عليه، فقد وضحت الآية التالية للآية الثانية التي فيها الوعد بالنصر من ينصرهم الله تعالى بقوله سبحانه {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج : 41]

12- ورد في الروايات معنى آخر للدفع يناسب قوله تعالى {وَلَكِنَّ اللَّهَ

ص: 446


1- رجال الكشي: 2، وروى البرقي في المحاسن مثله وفيه (فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) (بحار الأنوار: 2/ 92 عن بصائر الدرجات: 1/ 30، باب 6، ح 7

ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة : 251] لأنّ فيه منّة من الله تعالى، ففي رواية عن الامام الصادق (علیه السلام) قَالَ: (إن الله يدفع بمن يصلي من شيعتنا عمن لا يصلي من شيعتنا، ولو اجتمعوا على ترك الصلاة لهلكوا، وإن الله ليدفع بمن يصوم منهم عمن لا يصوم من شيعتنا، ولو اجتمعوا على ترك الصيام لهلكوا، وإن الله يدفع بمن يزكي من شيعتنا عمن لا يزكي، ولو اجتمعوا على ترك الزكاة لهلكوا، وإن الله يدفع بمن يحج من شيعتنا عمن لا يحج منهم، ولو اجتمعوا على ترك الحج لهلكوا وهو قول الله تعالى(وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ). (1)13-إنّ الدفع وإن كان في المصطلح يعني مقاومة الشيء بعد وقوعه، إلا أن معناه هنا أوسع فيشمل ما يعرف بالرفع أي منع وقوع الفساد والظلم والانحراف أصلاً، بل أن العمل عل النحو الثاني هو الذي يجب أن نفكر فيه ونضع خططنا له على طريقة الحكمة القائلة (الوقاية خير من العلاج) فتهيئة أسباب الصلاح والبيئة المساعدة لانتشاره وإقناع الناس به مقدَّم على انتظار وقوع المنكر ثم التفكير في كيفية إزالته ومعالجته.

وهذا مبدأ مهم سار عليه قادة الإسلام العظيم فمن قصار كلمات امير المؤمنين (علیه السلام) (ازجر المسيء بثواب المحسن)(2) وروي عن الامام الحسن المجتبى (ع) قوله (السداد دفع المنكر بالمعروف)(3) فالأولى أن تكافئ

ص: 447


1- البرهان : 2/ 145 نقلا عن تفسير العيّاشي 1. 135/ 446.
2- نهج البلاغة، ح4، قصار الكلمات رقم 177 عن روض الاخيار/ 41
3- مستدرك الوسائل: 438:12: ح:14562حلية الاولياء لابي نعيم: حديث 1462

المحسن وتشجّع العامل الصالح لتحفّز غيره على الإحسان وإتقان العمل ولا يبقى مجال ليفكّر بالعمل السيء وتعريض نفسه للعقوبة.14-ولابد ان نلتفت الى ساحة اخرى للتدافع وهو الذي سماه النبي (صلی الله علیه و آله) الجهاد الاكبر وهي ساحة النفس التي يتصارع فيها جنود الرحمن مع جنود الشيطان لتحسم المعركة بانتصار ارادة الخير او ارادة الشر، و الاولى مؤيدة بالألطاف الالهية والبصيرة والعقل و المعرفة و العزم و الحكمة، والثانية مزودة بالشهوات و الاهواء والميول النفسية.

روي في الكافي انه كان عند الامام الصادق (علیه السلام) جماعة من مواليه فجرى ذكر العقل و الجهل، فقال الامام: (ع) (اعرفوا العقل وجنده والجهل وجنده تهتدوا) قال الراوي جعلت فداك لا نعرف الا ما عرفتنا، فذكر الامام (ع) ان الله تعالى اعطى لكل منهما خمسة وسبعين جنداً وقال (علیه السلام) الخير وهو وزير العقل وجعل ضدّه الشر وهو وزير الجهل، والايمان وضده الكفر)(1) الى اخر الحديث.

لقد جسد النبي (صلی الله علیه و آله) في رسالته الإسلامية هذه السنّة –أي سنّة التدافع- بأوضح مصاديقها وبأشكال متنوّعة فكانت دعوته (صلی الله علیه و آله) من أول أمره تستند إلى عقيدتين متلازمتين هما إثبات الإلوهية لله تعالى ونفيها عمّا سواه، وكان شعار دعوته المباركة (قولوا لا إله إلا الله تُفلحوا) فلم يقتصر على القضية الأولى -أي إثبات الإلوهية لله تعالى- ما لم تنضم إليها الثانية وهي رفض الوهية غيره لتكتمل عقيدة التوحيد، وإلاّ فإنّ المشركين كانوا يقولون بوجود

ص: 448


1- اصول الكافي : كِتَابُ الْعَقْلِ وَالْجَهْلِ ج1/ح14

الله تعالى وخالقيته ورازقيته (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (العنكبوت/61) (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (العنكبوت/63) وغيرها. فالمشركون لم يعترضوا على هذا المقدار وكان بين ظهرانيهم أحناف موحّدون وأتباع الديانات السماوية لكنّهم أعلنوا العداء بضراوة والحرب على النبي (صلی الله علیه و آله) لأنّه دفع عقيدتهم وألغاها.وقد بدأ النبي (صلی الله علیه و آله) التدافع بالجهر برفض تلك العقيدة الباطلة وقداستها المزيّفة التي صنعها المنتفعون بها وتلاه الإجراء الآخر وهو مباينة أهلها (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) (الكافرون/1-3)، ثمّ بالاستدلال على بطلانها وردّ دعاؤهم والإجابة على إشكالاتهم.

وهكذا تدرّجت وتنوّعت آليات التدافع والمواجهة حتّى أُذن له (صلی الله علیه و آله) بالقتال بعد أن مكّنه الله تعالى من زمام الأمور في المدينة المنّورة {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج : 39] حتى فتح الله تعالى عليه الفتوح المبينة وعمّت رسالته المباركة شرق وغربها.

هذا على صعيد التدافع الخارجي أما على مستوى التدافع الداخلي فإجراءاته مع المنافقين معلومة وهدمه وإحراقه لمسجدهم الذي اتّخذوه ضراراً وتفريقاً بين المؤمنين في الرواية الموجودة في سبب نزول الآية المذكورة.

وسار على نهجه سبطه الشهيد الإمام الحسين (علیه السلام) فأقام بخروجه المبارك هذه السنة الإلهية إذ انه لم يتقاعس ولم يذعن ولم يستسلم لبطش بني أمية وطغيانهم، ونهض بمسؤوليته وقام (ع) ليدفع المنكر والباطل، ولولا قيامه

ص: 449

المبارك لنقض بنو أمية الإسلام عروة عروة ولتحقق المحذور الذي اشارت اليه آيتا التدافع حتى لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ومن القران إلا رسمه، وقد قطعوا شوطاً واسعاً في هذا المجال لولا ان الإمام الحسين (علیه السلام) قلب الأمور عليهم وأعاد للإسلام وجوده ومضمونه ونقاءه وحيويته:

إن كان دين محمدٍ لم يستقم *** إلا بقتليَ يا سيوفُ خذيني

وقد حقق الله له (ع) وعده بالنصر فها هو ذكره المبارك يملأ الخافقين ويهدي الناس إلى الحق ويحفظ دين الإسلام عزيزاً كريماً و المسلمين مرفوعي الرأس، وأصبحت قضية الحسين (علیه السلام) من أعظم الحوادث التاريخية على الإطلاق وأعظمها انتشاراً، وها هي المسيرة المليونية في زيارة الأربعين شاهد على الكرامة و العزة و الحرية والرفعة .

ايها الاحبة:

إنّ من أفضل أشكال التأسي برسول الله (صلی الله علیه و آله) وبالإمام الحسين (علیه السلام) إحياء هذا القانون الإلهي العظيم في كل ساحاته سواء داخل كيان المجتمع المسلم أو خارجه وبالآليات المناسبة لكل مواجهة، ولا يسعنا القعود عن هذه الوظيفة المباركة وإلاّ ضاع الدين واضمحل كيان الإسلام كما نبّأت به الآية الشريفة، ومن تخلف عن هذه المواجهة لم يبلغ الفتح، كما قال الإمام الحسين (علیه السلام) في رسالته، قال تعالى {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد : 38].

ص: 450

خطاب المرحلة 400 :(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ)

خطاب المرحلة 400 :(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ)(1)

من ابرز الصفات الكريمة التي سجّلها القران الكريم للنبي (صلی الله علیه و آله): الرحمة بالمؤمنين والشفقة عليهم والرأفة بهم كقوله تعالى (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) التوبة 128 ,وكان الغرض من بعثته الشريفة الرحمة بالعباد ,قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)الأنبياء 107, وقال تعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ)الأعراف 156/157 .

ومنها الآية التي نحن بصددها وهي قوله تعالى (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) آل عمران 159, وتستخلص منها عدة دروس :

1- أهمية صفة الرحمة في القائد والمسؤول الذي يريد التأسي بالقيادة النبوية المباركة لأنها سر نجاح القادة والمسؤولين في حركتهم نحو نفع الأمة ورعايتها ,وهي أساس كل احسان ومعروف تقدّمه للآخرين وإن أساس التفاف الناس حوله هي الاخلاق اما الفظ الغليظ فقد يضيّع حقه لافتقاده هذه الصفة

ص: 451


1- من حديث سماحة المرجع اليعقوبي دام ظله مع حشد كبير من طلبة الجامعات ووفود من عدة مدن عراقية يوم السبت 8/ع2/ 1435 المصادف 8/ 2/ 2014.

,لذا كانت من الوصايا المهمة التي وجهّها أمير المؤمنين (علیه السلام) الى مالك الاشتر لما ولاه مصر ,قال (علیه السلام) (وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم)(1) أي ان قلبك حتى لو كان غير ممتلئ بالرحمة التي هي ضرورية لنجاح عملك فعليك أن تتكلفها وتدرّب قلبك عليها وتستثيرها في باطنك حتى تصبح ملكة راسخة ,فان الصفات والملكات الحسنة يمكن تحصيلها بالتهذيب والتدريب.وهذه الصفة يحتاج الى استشعارها كل أحد لأننا كلنا مسؤولون وإن كان بدرجات متفاوتة ,ففي الحديث الشريف (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)(2),فرّب الاسرة مسؤول عن اسرته ومدير الدائرة كذلك عن دائرته ومثله المعلم عن طلبته والوزير عن وزارته والضابط عن جنوده والمرأة عن بيتها واطفالها وهكذا.

ولما سُئِل أحدهم من هو أحبُّ أبنائك اليك؟ لم يجب بأنه فلان أو فلان ,وانما قال: الصغير حتى يكبر والمريض حتى يشفى والغائب حتى يعود ,والجامع المشترك لهؤلاء هو حاجتهم الى الرحمة والشفقة أكثر من غيرهم.

2- ان هذه الصفة وسائر خصال الخير والكمال لا يمكن تحصيلها بالسعي والعمل وحده, بل لابد من توفيق الهي ولطف بالعبد فوصفت الآية الرحمة أنها (من الله) ,عن الامام الجواد (علیه السلام) قال (المؤمن يحتاج الى توفيق من الله وواعظ

ص: 452


1- نهج البلاغة :547 كتاب/53.
2- بحار الانوار: 72/ 38

من نفسّه وقبول ممن ينصحه)(1).3- ان القائد هو محور وحدة الأمة إذا كان رحيماً ليناً شفيقاً وهو سبب تفرقها وتشتتها وانقضاضها إذا كان فظاً غليظ القلب قاسياً لا يهتم بشؤون الرعية ولا يتواضع لهم ولا يتفقدهم ,ولأن أهل البيت(ع) ورثوا أخلاق النبي (صلی الله علیه و آله) وصفاته الكريمة فقد كانوا محور اجتماع الأمة ووحدتها ,وهذا ما عبرّت عنه الصديقة الزهراء (علیها السلام) بقولها (وجعل امامتنا نظاماً للملة) ,فاذا وجدت امة متوحدة فاعلة فاعلم ان رحمة الله شملتها, والعكس بالعكس وقد ورد في الحديث الشريف (إذا غضب الله على قوم ابتلاهم بكثرة الجدل وقلة العمل).

4- الاجراء التربوي والاصلاحي الذي مارسه النبي (صلی الله علیه و آله) مع أصحابه ,فأن الآية جاءت في السياق القرآني الذي تحدّث عن ملابسات معركة أُحد والهزيمة التي حلّت بالمسلمين بعد الانتصار الذي تحقق اول المعركة نتيجة عصيان بعضهم لأوامر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأنهزم الجيش إلا أفراد قلائل ثبتوا حول رسول الله (صلی الله علیه و آله) وفي مقدمتهم أمير المؤمنين (علیه السلام) وتسببت الهزيمة في استشهاد سبعين من اجلاء الصحابة بينهم عم رسول الله (صلی الله علیه و آله) حمزة بن عبد المطلب والمتوقع من القادة في مثل هذه المواقف انزال العقوبات الصارمة بحق المنهزمين مضافاً الى العقاب الإلهي لارتكابهم جريمة (الفرار من الزحف) ,لكن الله تعالى وجّه نبيه الى اجراء عكس المتوقع وهو قوله تعالى (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) آل عمران159 وليس هذا فحسب بل اعادة الثقة بأنفسهم

ص: 453


1- تحف العقول: 290

وإشعارهم بدورهم الفاعل في حياة الأمة والمشاركة في قراراتها المصيرية (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) آل عمران159 وفي هذا درس مهم لأولياء الأمور على جميع الأصعدة بان يعتمدوا أسلوب العفو والصفح وزرع الثقة في نفس المخطئ وقلع شعوره بالنقص والدونّية لينقلب تماماً على خطأه ويعود الى الوضع الصالح السوي.ولو تعاملنا بيننا بهذه الخصال النبوية الكريمة لشملتنا الرحمة والالطاف الالهية وحُلَّ الكثير من مشاكلنا بلطف الله تعالى.

ص: 454

خطاب المرحلة 401 :اعتراف الغرب بعظمة التشريع الإسلامي

خطاب المرحلة 401 :اعتراف الغرب بعظمة التشريع الإسلامي(1)

نشرت بعض مواقع التواصل الاجتماعي يوم 7/ 2/ 2014 صورة لجدارية ضخمة تزيّن المدخل الرئيسي لكلية القانون في جامعة هارفارد الأمريكية، على حائط مخصّص لأهم العبارات التي قيلت عن العدالة عبر الأزمان، وقد كُتب على هذه الجدارية باللغة الإنجليزية وبخط كبير ترجمة قوله تعالى في الآية 135 من سورة النساء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) ووضعوا شرحاً للآية ومعناها ولمحة صغيرة عن السورة التي وردت فيها فكُتب عن الآية أنها ((تؤكد على أهمية الصدق في الشهادة)) وكُتب عن سورة النساء ((أنّها تتعامل بشكل رئيسي مع التزامات ومسؤوليات المرأة في المجتمع الإسلامي، وتشرح أيضاً أصول الميراث وقانون الأسرة)).

وقد أحسن هؤلاء الاختيار لأنّ الآية تؤسس قاعدة مهمة في قانون تطبيق العدالة في جميع المجالات وبناء الدولة العادلة والمجتمع الصالح، إذ تبدأ

ص: 455


1- من حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من طلبة كلية القانون في جامعة البصرة وعدد من منظمات المجتمع المدني من بغداد وكربلاء وذي قار يوم السبت 15/ع2/ 1435 المصادف 15/ 2/ 2014.

بتوجيه الأمر إلى جميع الناس وتخصّ الذين آمنوا بالذكر تشريفاً لهم أو لأنّهم هم المتوقع منهم الالتزام بالأوامر الإلهية أكثر من غيرهم، تأمرهم أن يكونوا قوامين بالعدل، فاستعمل صيغة المبالغة (قوّام) لتدل على حالة دائمة وصفة راسخة لدى الإنسان، وليست وضعاً طارئاً، وبذلك يكون إقامة العدل منهجاً ثابتاً في حياة الإنسان.ومعنى القيام هنا تحمّل المسؤولية والنهوض بها والالتزام بمتطلباتها فلا يقبل بترك تحمّل الشهادة وعدم الإدلاء بها، وبنفس الوقت يعني القيام الاستقامة ولذا سُمّيت الزاوية القائمة والمستقيمة لعدم وجود أي انحراف فيها عن المحور، فالمطلوب أنّ الشهادة خالصة لله تعالى لا تتأثّر بأي ضغط للمصالح أو الميول أو الأهواء فعليكم أن تراقبوا الله تعالى فقط في شهاداتكم من دون انحراف فيها إلى اليمين ولا إلى الشمال حتى بمقدار شعرة، مهما كانت الجهة اليمنى أو اليسرى حتى على نفسه أي كانت على خلاف مصلحة نفسه أو والديه أو الأقربين، أو كان المشهود له غنياً أو فقيراً فلا قيمة لهذه الاعتبارات ولا يجوز أن تكون محل اهتمام بنحو يوجب الانحراف والميل نحو الغني ضد الفقير.

وإنّما ذكر الغنى والقرابة باعتبارهما أوضح سببين للمجاملة والمداهنة والانحراف عن الحق، وإلاّ فإنّ القيام بالحق مطلوب في مقابل كل المؤثرات التي تضغط على الإنسان، فعليه أن يؤدي تكليفه، أما ما هو الواقع وكيف تكون النتائج فبيد الله تعالى (فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا) وبكل المخلوقات وهو مدبّر الأمور.

ثمّ تشير الآية إلى العنوان الكلّي الجامع لأسباب عدم القيام بالشهادة لله

ص: 456

تعالى وهو إتباع الهوى فينهى عنه (فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى) ويحذّرهم أن إتباع الهوى يؤدي بهم إلى العدول عن الحق (أَن تَعْدِلُواْ) ويمكن أن يكون معناها أنكم إذا أردتم أن تعدلوا وتقيموا الشهادة بالحق فطريق ذلك أن لا تتبعوا الهوى، ونصل بذلك إلى نتيجة أن إتباع الهوى هو الأصل في حصول الظلم والجور في المجتمعات البشرية.ويحذرهم مرة أخرى ويلفت نظرهم إلى أنهم إذا أغمضوا في الشهادة وانحرفوا عن الحق أو لم يشهدوا أصلاً بالحق لصاحبه، فإنّ الله خبير بما يعملون وعليم بما يفعلون لا يخفى عليه شيء و (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر/19) للتشديد في أمر هذه القاعدة الأساسية في إقامة الحق والعدل.

هذه بعض جوانب العظمة في الآية الشريفة التي دعت أرصن كليات القانون في العالم تجعلها شعاراً على بابها ليستفيد منها كل داخل وخارج، أما المسلمون فإنهم غافلون لا يدركون قيمة هذه الجواهر التي منّ الله تعالى بها بواسطة نبيه الكريم (صلی الله علیه و آله)، وقد استغل أعداء الإسلام غفلة المسلمين وجهلهم فأقنعوهم بضرورة تطبيق القوانين الوضعية ونبذ قوانين الإسلام لينفرد أولئك بهذه الغنائم ويصدروا إلينا بضاعتهم الكاسدة، وإلى الآن لا زالت المناهج التي تُدرَّس في كليات القانون هي القوانين الوضعية فيتخرج الطالب وهو لا يفقه من دينه العظيم شيئاً ولا يأخذ من دينه إلاّ القشور ويترك اللّب لأولئك الأجانب حتى يؤسسوا بها حضارتهم.

بل أن الأمر أسوأ من ذلك حيث يواجه بالتشنيع من يستثمر فرصة حكم الأغلبية الشيعية في العراق لتقديم قانون شرعي ينظم حياة الناس في أحوالهم

ص: 457

الشخصية وفق شريعة الله وهو حقّ كفله الدستور، وتتعالى أصوات المعترضين من داخل الأوساط الدينية والاجتماعية الشيعية لتتهم وتعرقل وتجعل العقبات وتحرّض على عدم إقامة شرع الله تعالى.كما تعرّض السيد الشهيد الصدر الأول (قده) إلى الحرب الشرسة من قبل بعض أقطاب المدرسة الدينية وأتباعها عندما قدّم للعالم بعض جوانب عظمة الإسلام في الفلسفة والاقتصاد والاجتماع وحاصروه وضيّقوا عليه وسقّطوه حتى استضعفه أعداء الله تعالى فقتلوه.

هذا شكل من أشكال عدم الإنصاف الذي يتعامل بها المسلمون مع شريعتهم حيث لا يسعون إلى تطبيقها والاستفادة منها بل يعرقلونها، بينما يفتخر الغرب بهذه الآية الكريمة والمسلمون عندهم القرآن الذي فيه أكثر من ستة آلاف آية كريمة وعشرات الآلاف من الأحاديث الشريفة للمعصومين (علیهم السلام).

فتمسكوا أيها الأحبة بدينكم وصلتكم الوثيقة بالله تعالى ولا تعطوا الفرصة لأي أحد حتى يسلبكم دينكم فإنّه أعظم النعم الإلهية، وهم لهم طرقهم في سلب الدين من أهله ولكل شريحة بحسبها، فالشباب الجامعي بالإغواء والفتنة وإثارة الشهوات، وعلماء الدين بالحسد والغيرة وحب الجاه وصراع الزعامات وشراء الولاءات بالأموال ونحو ذلك والغرض واحد هو سلخكم من هذا العز والكرامة وشرف الدنيا والآخرة.

ص: 458

خطاب المرحلة 402 :واجعل الحياة زيادة لي في كل خير

خطاب المرحلة 402 :واجعل الحياة زيادة لي في كل خير(1)

الأدعية الشريفة مدرسة ننهل منها المعارف الحقيقية والدروس التي تنظم حياتنا وتصلح نفوسنا، وليست هي فقط نصوصاً مباركة نقرأها لطلب الثواب الجزيل المرصود لها وإن كان هذا بحد ذاته غرضاً نبيلاً يستحق التعب.

وقد استمعنا الآن بعد صلاة الظهرين دعاء الإمام السجاد (علیه السلام) الخاص بهذا اليوم الثلاثاء، وكل فقرة منه هي مدرسة كقوله (علیه السلام) (واجعل الحياة زيادة لي في كل خير) ولكي يستجاب هذا الدعاء لابد من عمل الفرد وقبول واستجابة من الله تعالى، ولا يكفي مجرد تحريك اللسان بالكلمات، كمن يدعو بالرزق مثلاً من دون سعي لطلبه، أو يطلب الولد الصالح وهو لا يسعى لاختيار الزوجة الصالحة وهكذا، وإن كان الله تعالى يُنعم على العباد تفضّلاً وابتداءاً من غير استحقاق.

فيعلمنا الإمام (علیه السلام) في الدعاء أن نجعل بتوفيق الله تعالى وكرمه ورحمته حياتنا كلها خيراً وعطاءاً ونفعاً للنفس وللأهل وللآخرين، وفي زيادة مستمرة من التزود والخير من دون توقف الذي يعني هدر رأس المال الذي منحنا إياه وهو العمر وسائر النعم الإلهية من دون استثمار، فضلاً عن الرجوع إلى الوراء

ص: 459


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع وفود من مناطق متعددة من بغداد يوم الثلاثاء 18/ع2/ 1435 المصادف 18/ 2/ 2014.

والخسارة باجتراح السيئات والعياذ بالله، ويبيّن الحديث الشريف هذه الحالات الثلاث (عن الصادق (علیه السلام) " من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه خيرهما فهو مغبوط ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون، ومن لم ير الزيادة في نفسه فهو إلى النقصان. ومن كان إلى النقصان فالموت خير له من الحياة)(1).وهذا الطلب أدب قرآني أدّب الله تعالى به نبيه الكريم (صلی الله علیه و آله) قال تعالى (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً) (طه/114) والعلم المراد هو العلم النافع الذي يقترن مع العمل الصالح وفعل الخير وإلاّ فإنه لا قيمة له.

والخير الذي يدعو بالزيادة منه هو كل عمل صالح فلا يقتصر على العبادات المعروفة كالصلاة والصوم وقراءة القرآن وزيارة المعصومين (علیهم السلام) وإن كانت هذه من أصول الخير، بل له معنى واسع فالبرّ بالوالدين والإحسان إليهم من أعظم الخير، ومساعدة الآخرين كذلك، والجلوس مع العائلة والتلطّف معهم والتودّد إليهم ومتابعة شؤونهم من الخير، وكسب الرزق الحلال من الخير ففيه التوسعة على الأهل والتصدق في سبيل الله وإغناء النفس عما في أيدي الناس وإخراج الخمس من الفائض عن المؤونة في نهاية السنة وهذا كله من الخير، والزواج خير والإنجاب خير بل من أعظم الخير، ذهابك إلى المسجد والمشاركة في صلاة الجماعة والجمعة وحضورك في الشعائر والفعاليات خير، تفقّهك في الدين وتعلّمك مسائل الحلال والحرام لتصحيح سلوكك خير، اجتماعك هذا مع أخوانك وتبادلكم الأحاديث النافعة في دنياكم وآخرتكم خير يحبّه الإمام (علیه السلام) ويترحم على فاعله، روي أن الإمام الصادق (علیه السلام) قال

ص: 460


1- معاني الاخبار: ص 342 باب معنى المغبون.

للفضيل بن يسار (يا فضيل؛ أتجلسون وتتحدثون؟ قال: نعم جُعلت فداك، فقال ع: إني أحبّ تلك المجالس، فأحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم الله من أحيا أمرنا).(1)وهكذا تستطيع أن تحوّل حياتك كلها إلى مصنع لإنتاج عمل الخير قال تعالى (يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) (المؤمنون61) وقال تعالى (فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ) (المائدة/48) حتى الأفعال الاعتيادية كتناول الطعام يكون خيراً لأن فيه حفظ الصحة والتقوّي على طاعة الله والقيام بأعمال الخير، والنوم المقتصد يكون خيراً لأن فيه راحة واستجماماً وتجديد النشاط للاستمرار في الاستزادة من الخير بل يكون النوم شكلاً من أشكال العبادة بحسب ما أفاد الحديث الشريف عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (من تطهّر ثم أوى إلى فراشه بات وفراشه كمسجده)(2)، قد يقول البعض إننا لا نستطيع أن نكون بهذه الفاعلية دائماً لأن غير المعصوم تعتريه الغفلة والنسيان والضعف فيحصل تراجع ولا يمكن أن يكون دائماً في حالة زيادة من الخير، وهذا التساؤل موجود، لكن الله تعالى عالج هذا القصور الذاتي بأكثر من علاج:

1-أن ينوي الإنسان فعل الخير ويعزم عليه كلما تيسّر له، فهذه النية بحد ذاتها خير، وان الله تعالى بكرمه يعطي لصاحب النية الصادقة والعزم الأكيد ما يعطي للعامل كما في الحديث النبوي الشريف (نية المؤمن خير من

ص: 461


1- بحار الأنوار: 44/ 278، 282.
2- وسائل الشيعة: 1/ 265 باب9 ح1.

عمله)(1)وإيجاد هذه النية وهذه الإرادة ليس صعباً على الإنسان فيحصّل بها ما يفوته من الأعمال.2-إن الله تعالى تكفّل للإنسان الذي يستيقظ من غفلته ويعود إلى العمل الصالح وفعل الخير عند تذكره والالتفات إليه، أن يمحو كل ذلك التقصير والقصور ويثبّت بدلاً عنه حصيلة هذا الالتفات، قال تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّ-يِّئَاتِ) (هود/114) وقال تعالى (فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) (الفرقان/70) أي ليس فقط يمحو السيئات بل يبدلها إلى حسنات في صحيفة الأعمال، ومن معاني هذا التبديل أن يجعل حياته ما قبل التغيير بمثل حياته بعد التغيير، فلو كان تاركاً لصلاة الليل أو لا يلتزم بأداء الصلاة في أوقاتها ثم قام بذلك فإنه يجعل حياته السابقة على هذه الصورة الجديدة، كالمدرّس الشفيق الرحيم الذي يقول لطلابه سأعيد لكم الامتحان فإذا جئتم بدرجات أفضل فإنني سأعتبر درجاتكم السيئة في الامتحان السابق على طبق هذه الدرجات الجيدة الجديدة، ولا شك أن الله أشفق على عباده وارحم به وهو أرحم الراحمين، وهو تعالى الذي جعل هذه الرحمة في قلوب عباده فكيف لا يكتبها على نفسه؟ فما على الإنسان إلا أن ينتبه من غفلته ويعود إلى منهج الزيادة من الخير.

ص: 462


1- الكافي: 2/ 84.

خطاب المرحلة 403 :التعدُّديّةُ الدينيةُ في أفُقِ حِوارِ الحضارات

خطاب المرحلة 403 :التعدُّديّةُ الدينيةُ في أفُقِ حِوارِ الحضارات(1)

السلام عليكم أيّها الحفل الكريم ورحمة الله وبركاته

لابد من تحديد معنى التعدّدية الدينية قبل الحديث عن دورها في حوار الحضارات، ويمكن أن يُراد بالتعدّدية الدينية معنيان:

المعنى الأول: تعدّد الأديان والطوائف في المجتمع الواحد، كالموجود عندنا في العراق، وهي حالة طبيعية وقد تعامل المشرِّع الإسلامي معها كواقع موجود نتيجة حرية الاختيار وهو مبدأ أساسي في الشريعة الإسلامية (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة/256) (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة/62).

وقد منحتهم الدولة الإسلامية تمام الحقوق التي تُمنح لرعايا الدولة، لأنّ أساس الاستحقاق هي المواطنة التي يشترك فيها الجميع، أمّا الدين والمذهب والقومية ونحوها فلا تؤثر في استحقاق المواطنين، بل تحمّل أمير المؤمنين

ص: 463


1- كلمة سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) تلبية لدعوة وجّهتها رئاسة جامعة الكوفة لسماحته للمشاركة في مؤتمر عُقد في جامعة الكوفة بالتعاون مع معهد الدراسات العقلية في النجف تحت نفس العنوان يومي 20-21/ 2/ 2014 بحضور علماء ومفكرين ومهتمين بقضية التقارب بين الأديان من عدد من الدول الإسلامية.

(ع) انشقاقات رموز كبيرة في المجتمع أدّت إلى حروب طاحنة بسبب سياسته العادلة هذه بينما أراد الآخرون أن تتمايز الطبقات في الاستحقاقات والامتيازات، وهي ثقافة كان قد تطبّع عليها المجتمع وسار عليها، لكنّها مرفوضة في سيرة أمير المؤمنين (علیه السلام) ربيب رسول الله (صلی الله علیه و آله).والشواهد في حياة أمير المؤمنين (علیه السلام) كثيرة كحادثته مع النصراني المكفوف حيث كان الإمام (علیه السلام) في شوارع الكوفة.. فمر بشخص يتكفف وهو شيخ كبير السن، فوقف (ع) متعجباً وقال (عليه الصلاة والسلام): (ما هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين إنه نصراني قد كبر وعجز ويتكفّف، فقال الإمام (علیه السلام): ما أنصفتموه.. استعملتموه حتى إذا كبر وعجز تركتموه) .(1)

ولما ولّى أمير المؤمنين مالك الأشتر مصراً، كتب له عهداً مطوّلاً في كيفية إدارة الدولة وكانت وصيّته للرعيّة - أي المواطنين - جميعاً على حدٍّ سواء، كقوله (علیه السلام) (وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ)(2) وغيرها من دون ملاحظة أي اختلافٍ بينهم، فهم متساوون في حقوق المواطنة.

بل تصل حالة التعاطف والنظرة المتساوية للجميع على حدٍّ سواء إلى درجة بحيث يتقطّع قلب أمير المؤمنين (علیه السلام) أسفاً ويجد الموت أهون عليه لمّا بلغه أن جنداً لمعاوية أغاروا على الأنبار وسلبوا النساء وفيهنّ غير مسلمات (معاهدات)، قال (علیه السلام): (وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى المَرْأَةِ المُسْلِمَةِ، وَالأُخْرَى المُعَاهَدَةِ ، فيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَقُلْبَهَا وَقَلاَئِدَهَا، وَرِعَاثَهَا ، ما

ص: 464


1- وسائل الشيعة: ج11 ص49 باب19 ح1.
2- نهج البلاغة: الخطبة 53.

تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاَّ بِالإِسْتِرْجَاعِ وَالإِسْتِرْحَامِ ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ ، مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ ، وَلاَ أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ، فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِن بَعْدِ هَذا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً).(1)ويشهد التأريخ الإسلامي بأنّ المسيحيين واليهود والصابئة تبوّأوا مواقع رفيعة في حكومات الدولة الإسلامية وبرعوا في أنواع العلوم وأسماؤهم معروفة وبعضهم مشهور ممّا يعني أنّهم نالوا فرصاً متساوية مع المسلمين.

المعنى الثاني: تعدّد الآراء الفقهية والرؤى الاجتهادية تبعاً للاختلاف في فهم نصوص التشريع حتّى تصل أقوال الفقهاء في مسألة واحدة إلى أكثر من عشرة، وهذه حالة إيجابية أصّل لها المشرِّع الإسلامي وتدل بعض الروايات على أنّ الأئمة (علیهم السلام) كانوا يتعمّدون إلقاء أجوبة مختلفة في الموارد الممكنة لمصالح مهمّة ذكروها(2)، وتُعدُّ من المفاخر التي ورّثها أئمة أهل البيت (علیهم السلام) لأتباعهم هو فتح باب الاجتهاد وإعطاء حريّة النظر والاستنباط من المصادر الأصلية للتشريع (أعني القرآن الكريم والسنة الشريفة) ليعطي الفرصة لكل جيل أن يفهم النصوص الشرعية وفق ما تراكم لديه من إرث علمي وثقافي ونفسي واجتماعي مع مستجدات الواقع الذي يعيشه، والاستفادة من كل الأدوات المتوفّرة لديه بعيداً عن التقليد والجمود.

وقد أمر الأئمة (علیهم السلام) علماء الدين بأن لا يُقسِروا النصوص على فهم معيّن

ص: 465


1- نهج البلاغة: الخطبة 27 وقد قالها يستنهض بها الناس حين ورد خبر غزو الأنبار بجيش معاوية.
2- راجع كتابنا (الفقه الباهر في صوم المسافر: 140).

ويحصروها به، وإذا تعسّر عليهم شيء فليتركوا فهمه للزمان فسيأتي الجيل الذي يفهمه وفق متطلبات عصره ويأخذ حاجته منه. (سأل رجلٌ الإمام الصادق : ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلا غضاضة؟ فأجابه الإمام : «لأن اللّه تعالى لم يجعله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد، وعند كل قومٍ غض، إلى يوم القيامة(1)) وروي عن ابن عباس أنه قال: (لا تُفسّروا القرآن فإن الدهر يُفسّره).وتظهر إيجابية هذه التعدّدية في آراء الفقهاء من أكثر من جهة:

1-إنها تعطي فرصة لكل جيل أن يفهم النصوص وفق متطلبات عصره وملابسات الزمان والمكان ونحوها من العناصر التي تشكّل قرائن لفهم النصوص الشرعية.

2-إنها تحمي الدين من أخطاء علمائه وحملته، فلو كان للشريعة فهم واحد فإنّ رفض هذا الفهم ينعكس على الدين نفسه فيؤدي إلى رفضه، كالذي حصل للكنيسة في العصور الوسطى حيث أدّى إكراهها لأتباعها على نمط معين للحياة إلى رفض الدين من الأساس، فتصوّروا لو أن الإسلام له صورة واحدة هي التي يسوّقها التكفيريون والإرهابيون فكيف ستكون النظرة إلى الإسلام نفسه؟ أما حينما توجد وجهات نظرٍ معتدلةٌ وحضاريةٌ فإنها تحمي الإسلام من تلك الرؤى الخاطئة.

3-إيجاد منافذ وخيارات بديلةٍ عند العسرِ والحرج ورفع التضييق عن الأمّة، فمثلاً شخصٌ يرجع إلى فقيهٍ يحرّمُ حلقَ اللحية وهو يجد حرجاً في تطبيقِ هذا

ص: 466


1- بحار الأنوار. ج2 ص280.

الحكم فيرجع في هذه المسألةِ إلى فقيه آخر لا يرى حرمة حلقها وهكذا، لذا يلتزم الفقهاء بإرجاع أتباعهم إلى فقهاء آخرين في موارد الاحتياط الوجوبي وفق عمليّة منضبطة بقواعد، أي أنّ الفرد يلتزم بالرجوع إلى مرجع معيّن وهو الذي يراه جامعاً للمؤهِّلات، ويرجع إلى غيره في حدود الرخصة التي يمنحها له مرجعُ تقليدِه.فالعملية ليست عشوائية أو انتقائية بحيث يستطيع الشخص أن يرجع إلى من يشاء في كلّ مسألة بحسب أهوائه ومشتهياته فيختار آراءً شاذة في كل مسألة لأنّه سيصل في النهاية إلى دين مشوّه لا تُحفظ فيه المعالم العامّةُ والأساسيةُ للدين.(1)

والخلاصة إن وجهة نظر الإسلام في التعدّدية الدينية بنّاءة وحضارية على كلا المعنيين.

أما على الأول فإنها تساهم بشكل بنّاء في حفظ وحدة المجتمع وحفظ حقوقه على أساس المواطنة التي يتساوى فيها الجميع، وعلى المعنى الثاني تساعده على تطبيق الدين بمرونة في حياة الفرد والمجتمع وتحلّ الإشكالية بين الدين والثقافة أو العصرنة أو الحداثة ونحو ذلك.

لكنّ هذا المنهج النقي السامي لتعاطي الشريعة الإسلامية مع التعدّدية الدينية تَعرّضَ بكِلا معنييه إلى الاستغلال السيّئ، فتحوّل المعنى الأول إلى حالة من الاحتراب والطائفية والتعصّب على يد تجّارٍ مستفيدين من هذه الصراعات

ص: 467


1- قال ابن الحجّاج متهكّماً بفتاوى شاذة لدى أئمة المذاهب الأربعة: فاشرب ولط وازن وقامر واحتجج *** في كلّ مسألة يقول إمامُ

لتنفيذ مآربهم وتحقيق مصالحهم الخاصة ولا دخل للدين فيها.كما انّ المعنى الثاني جعله بعض أهل الحداثة ودعاة التجديد غير المقنَّن منفذاً لمسخ الدين والتنصّل من التزاماته بدعوى أن كلَّ الأحكام الموجودة هي عبارة عن رؤى اجتهاديةٍ لأصحابها ولا تمثّلُ الدين نفسَهُ فلا وجهَ للالتزام بها، وهذا تفكيرٌ غير سليم لأنّ فتاوى المجتهدين هي تعبير عن الأحكام التي قامت الحجّة الشرعية على وجوب العمل بها بعد الفحص عن المجتهد الجامع لمؤهلات المرجعية.

أأمل أن يُوفَّقَ مؤتمرُكُم المباركُ لإشباعِ هذه القضيةِ بحثاً وتحليلاً لإنضاجِ المواقفِ وجعلِها مُثمرةً بإذنِ اللهِ تعالى.

محمد اليعقوبي-النجف الأشرف

20/ع2/ 1435

20/ 2/ 2014

ص: 468

خطاب المرحلة 404 :جواب المعترضين على القانون الجعفري

اشارة

خطاب المرحلة 404 :جواب المعترضين على القانون الجعفري(1)

نقلت وسائل الإعلام خلال اليومين الماضيين أخبار اجتماع العشرات من النسوة في بغداد بمناسبة يوم المرأة العالمي للاعتراض على تمرير مجلس الوزراء(2) قانون الأحوال الشخصية الجعفري إلى البرلمان، ومن قبل تصدى للاعتراض أيضا بعض السياسيين ورجال الدين .

ونحن نرحب بالنقد البناء والحوار والنصح لان ذلك يساعد على إنضاج القانون وسدّ ما يمكن ان يقع من الثغرات وإصلاح ما يمكن أن يوجد من أخطاء، فلا أحد منّا يدّعي العصمة من الخطأ والغفلة والنسيان، وهو أدب

ص: 469


1- تقرير الكلمة التي تحدث بها سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) في بحثه الشريف أمام حشد كبير من أساتذة وفضلاء الحوزة العلمية يوم الأحد 7-ج1 – 1435 الموافق 9-3-2014 .
2- بعد الضغط المتكرر بالبيان والحجة والحراك الفكري الذي مارسه سماحة المرجع (دام ظله) وما ترشح منه من ضغط شعبي وحوزوي وعجز ما يسمى بالمرجعية العليا عن تبرير معارضتها لتمرير القانون الجعفري للأحوال الشخصية رغم محاولاتها العديدة لفك الخناق فقد أوعزت للحكومة برفع (الفيتو) قبل اجتماعها يوم الثلاثاء 25/ع2/ 1435 الموافق 25/ 2/ 2014 وقررّت بالأغلبية الساحقة تمرير القانون الى البرلمان وتشكيل لجنة من علماء الدين بإشراف تلك المرجعية لمواكبة اقراره في البرلمان وبعد هذا التمرير نهضت قوى الاستكبار العالمي وذيولهم ودعاة الانحلال الأخلاقي والمناهضين للدين لإجهاض هذا القانون، ولم نسمع منهم اعتراضاً طيلة الفترة السابقة ولعلهم اكتفوا في المرحلة السابقة باعتراض (المرجعية العليا).

تعلّمناه من أئمتنا (ع) قال أمير المؤمنين (علیه السلام) (امخضوا الرأي مخض السقاء، ينتج سديد الآراء)(1)، وقال (علیه السلام) لولده الحسن (علیه السلام) من وصية له بعد أن ذكر أنه نظر في تجارب الأولين والآخرين وقلّب أمورهم (فاستخلصت لك من كل أمر نخيله، وتوخيت لك جميله).(2)وهذا ما قام به وزير العدل قبل تقديمه القانون بأكثر من عام حيث عرضه على مراجع الدين والعلماء والقانونيين واستفاد من توجيهاتهم وملاحظاتهم.

فلو كان هؤلاء المعترضون مخلصين في عملهم وصادقين في نواياهم لقاموا بتقويم القانون خلال مناقشاته في أروقة البرلمان لأنه سيعرض على اللجان المختصة ويقرأ مواده واحدة واحدة قراءة أولى ثم يقرأ قراءة ثانية قبل التصويت عليه، وأن البرلمان يضم كل مكونات الشعب العراقي وطوائفه وأديانه وأعراقه وسوف يقول كل واحد رأيه بكل حرية، أما مجلس الوزراء فهو نافذة لتمرير القوانين إلى البرلمان.

فالفرصة إذن مفتوحة على مصراعيها أمام الجميع للقبول والرفض، فإذن لماذا هذا الصخب والضجيج الذي تثيره عدد من الفضائيات والمؤسسات التي تغرّر بالنسوة وترفع شعارات استفزازية مثل (لا لبيع الجواري) و (المرأة ليست سلعة للاستمتاع) (وأبعدوا شذوذكم عن بناتنا) ونحو ذلك و أوهموهنّ أن القانون يصادر حقوق المرأة ويعيدها إلى أزمنة التخلف ويجعلها سلعة بيد الرجل ونحو ذلك من الشعارات التي تجافي الحقيقة لأن الإسلام قدّم أرقى

ص: 470


1- غرر الحكم/ رقم2569.
2- نهج البلاغة، قسم الرسائل، رقم 31.

قانون لتكريم المرأة وصون شرفها وكرامتها وكثرت الوصايا في النصوص الشرعية بإكرام المرأة وحسن معاشرتها (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء/19) (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الروم/21) (ما أكرمهن إلاّ كريم وما أهانهنّ إلا لئيم) (اتقوا الله في الضعيفين المرأة واليتيم) (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي).وعلى العكس مما يدعي هؤلاء فإنهم هم الذين يمتهنون المرأة ويحوّلون جسدها إلى سلعة رخيصة في دعاياتهم وإعلاناتهم، لذا لم نستغرب هذه المواقف منهم لأنّ بعض رموز هذه الحملة طالبنَ منذ الأيام الأولى للتغيير عام 2003 بإباحة زواج المثليين والشذوذ الجنسي وتعدّد الأزواج للمرأة الواحدة واتخاذ العشيق والخدين خارج رباط الزوجية ونحو ذلك، ويتباكون على تزويج البنات بعمر مبكّر بعد البلوغ ويريدون أن يتأخّر الزواج إلى ما بعد الثلاثين لتقضي سنين صباها وشبابها في أحضان الرجال الأجانب والإحصائيات في الغرب تؤكد عدم وجود فتاة باكر عند التزويج بها، لأنّ اعرافهم تقضي أنّه من المعيب أن تبلغ الفتاة وهي غير مرتبطة بعشيق.

فهم إذن يتخفّون ببعض الشعارات ليمرّروا أجنداتهم الشيطانية في إيصال المجتمع إلى حالة من الانفلات والانحلال والانغماس في الرذائل والشهوات لذلك جرّدوا المرأة من لباس الحياء والشرف وأقحموها في كلّ ميدان لإشباع شهواتهم الحيوانية فتارة باسم الفن وأخرى باسم الرياضة وثالثة باسم مسابقات الأزياء وملكات الجمال وفي إعلانات كل المنتجات حتى الرخيصة منها، وعندما يقضون وطرهم منها يرمونها على قارعة الطريق لتتسوّل أو تمتهن البغاء

ص: 471

ثمّ تنتحر لأنّها لا تجد فرصة للحياة الكريمة. فمن الطبيعي أن يقفوا في وجه كلّ من يريد وضع ضوابط أخلاقية واجتماعية وشرعية وعندهم عقد نفسية متأصّلة تجاه كل ما يمت إلى الدين بصلة، وقد كانوا يريدون للمجتمع العراقي أن يقع في هذا الانحطاط والعودة إلى الجاهلية الأولى لولا يقظة هذا الشعب –رجالاً ونساءاً- وتمسكه بدينه وجهود علمائه العاملين وأبنائه المخلصين وتردي الوضع الأمني الذي دعا كثيراً منهم إلى الرجوع من حيث أتوا (يَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال/30).إن طبيعة المعترضات والمؤسسات التي تقف خلفهم وتكوينهم الثقافي والأخلاقي يكشف أنّ ما زعموه من خوف الطائفية والتخندق المذهبي خُدعة، إذ لم نجد القائم بالإعتراض من الطائفة الأخرى بل من رافضي الدين والالتزام الديني ودعاة الإنحلال والإباحية، مما يكشف عن الوجه الحقيقي لطبيعة المعركة بانها بين المعروف والمنكر وبين الاستقامة والانحراف وبين الهدى والضلال، بل ليعلم هؤلاء أنّ إجبار الأغلبية على العمل بالقانون المخالف لعقيدتهم هو الذي يخلق الطائفية ويهدّد وحدة النسيج الاجتماعي لشعورهم بالظلم والاضطهاد والحرمان من الحقوق، وتجربة دول الخليج (بما فيها السعودية وقطر) ماثلة أمامنا حيث أعطت هذا الحق لمواطنيها من الشيعة فاحتوتهم.

لقد ركّزوا في ضجيجهم على مسألة تزويج البنت بعمر صغير واعتراضهم يكشف عن جهلهم أيضاً بالقوانين الوضعية المعمول بها في العراق، فإنّ قانون الأحوال الشخصية النافذ المرقّم 188 لسنة 1959 المعدّل وان اشترط إكمال

ص: 472

الثامنة عشرة لإجراء عقد الزواج (الفقرة/1 من المادة السابعة) إلاّ أنّه أجازه لمن أكمل الخامسة عشرة بموافقة وليّه وإذن القاضي في التعديل رقم 21 لسنة 1978 مراعياً ((الأوضاع الاجتماعية حيث يكثر الزواج في سنّ مبكرة ومتوخّياً تقليل حالات الزواج التي تقع خارج المحكمة)) ثم أجاز قرار ما كان يُعرف بمجلس قيادة الثورة المرقّم 697 لسنة 1978 قبل الخامسة عشر إذا ظهرت علامات البلوغ لمصالح ذكرها ككونها يتيمة لا عائل لها، أو أنها تعرّضت للإغتصاب ليطلب عقد زواجها على مغتصبها وفق أحكام المادة 398 من قانون العقوبات متذرّعين بمنع وقوع الاعتداء على البنت أو الفاعل، مع أنّ الفقه الجعفري لا يبيح الزواج (بمعنى ممارسة الجنس) إلاّ بعد البلوغ الذي له علاماته السيكولوجية والفسيولوجية ويختلف في الإناث بحسب ظروف عديدة ذاتية وبيئية ولكن الشرع المقدّس حكم بأنّه لا بلوغ قبل إكمال التاسعة فشرط التزويج هو البلوغ أمّا العمر الذي تبلغ به الأنثى فهو بعد إكمال التاسعة حتماً لكنّه غير محدّد وقد يستمر إلى الثالثة عشرة مضافاً إلى اشتراط إذن ولي أمرها بالتزويج وهو أولى من يراعي مصلحتها، فما هو وجه اعتراضهم إلاّ سوء الفهم إذا أردنا أن نحملهم على الصحة، ثمّ أليس التزويج في سنٍّ مبكر فيه فوائد عديدة(1) كتحصين البنت من الانحراف وإشعارها بكرامتها وأنها أصبحت فرداً

ص: 473


1- أجازت قوانين الولايات المتحدة الأمريكية التي يعتبرونها قمة التمدّن والحضارة الزواج من الفتيات اللاتي بعمر 13 سنة بعد موافقة الوالدين أو القاضي أو كلاهما (راجع المواقع المختصة على شبكات الانترنت) هذا في وقت لا يشكون فيه من مشكلة جنسية لوجود متنفس لهم في

كاملاً في المجتمع؟ فالمعترضون يريدون سحق كرامتها وإبقاءها سلعة مبتذلة بيد الرجال وتضييع زهرة شبابها بالفسق والفجور والعلاقات غير المشروعة.ولنفترض أنّ مادة أو مادتين في القانون الجعفري تحتاج إلى معالجة فهل يوجب هذا إلغاء كل القانون المكوّن من (256) مادة؟ أليس الدستور مثار جدل عند كل مكوّنات المجتمع والجميع لديهم اعتراضات عليه ويعتبرون الكثير من مواده سبباً لاستمرار الصراعات وأنّها كالقنابل الموقوتة التي تنفجر باستمرار وتثير معها الفتن والتناحرات، فهل هذا مسوِّغ لإلغاء الدستور كلياً؟ (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (الصافات/154).

ثم أنّ القانون لم يُكتب لهذه الحفنة من المعترضات والمعترضين حتى يُبدوا رأيهم فيه، وإنما للمتديّنين الذين يريدون أن ينظّموا أحوالهم الشخصية على طبق العقيدة التي يؤمنون بها، وكلّ مواطن مخيّر بالرجوع إلى القانون الذي يريد، فمادامت هي أحوال شخصية فمن حق كلّ أحد أن يعمل وفق القانون الذي يعتقد بشرعيته وليس هو قانون عقوبات أو قانون مدني ونحو ذلك من القوانين التي تنظّم الشؤون العامة للناس(1)، ولذلك فإنّ الدول المتحضرة سواء في المنطقة او العالم تعطي المجال للأقليات الدينية والطائفية أن تنظم أحوالها الشخصية وفق معتقداتها فلماذا يحرم شيعة العراق وهم أغلبية من هذا

ص: 474


1- علمتُ بوجود محكمة في الكرادة الشرقية تُطبّق للمسيحيين عقيدتهم في الأحوال الشخصية، والأغلبية الشيعية لا يحقّ لهم ذلك.

الحق؟فإذا كان هؤلاء يعتقدون بصلاح القانون الوضعي المعمول به فليرجعوا إليه ونطالب نحن بتوفير الفرصة المماثلة لنا لننظّم أحوالنا الشخصية على طبق ما نعتقد، وهذا يُقدّم نموذجاً حضارياً للمجتمع الذي تُحترم فيه إرادة المواطنين جميعاً ويمارسون شؤونهم الخاصة بكلّ حرية كما هو شأن الأمم المتمدّنة اليوم في الغرب حيث يتيحون الفرصة للأقليات الدينية أن تعمل وفق عقائدها.

ومن هنا نجيب على من يزعم أن تشريع القانون ينافي ما ورد في الدستور من أنّ العراقيين متساوون أمام القانون، فإنّ تساويهم يعني أنهم كلهم خاضعون للقوانين السارية في البلاد وتحت طائلة المسؤولية ولا يوجد أحد فوق القانون، ولا يعني وحدة القوانين التي يعملون على طبقها، لذا فإن التفاوت في رواتب الموظفين لا ينافي تساويهم أمام القانون، ولذا لم يعترض البرلمانيون والوزراء على تميزهم عن طبقات الشعب برواتب فاحشة ولا يعتبرون ذلك منافياً لتساوي العراقيين أمام القانون!!

أما إشكالهم بأنّ القانون سيسبّب مشاكل لأنّ أحد الطرفين قد يكون جعفرياً والآخر ليس كذلك أو أنّ أحدهما يريد التحاكم إلى القانون الشرعي والآخر إلى القانون الوضعي فكيف نتصرّف؟ ونجيب بأنّ هذه تفاصيل يمكن أن تُضاف إلى القانون خلال المناقشات ولا يخلو قانون من تعديلات وتذييل وملحق وبيان ونحو ذلك، مضافاً إلى أنّ هذه المشكلة قائمة الآن فعلاً، إذ أنّ القانون الوضعي يصدر أحكاماً تخالف الشريعة كطلاق الغائب أو توريث من لا يستحق أو منح حقّ الحضانة إلى من لا يستحق وهكذا، والطرف الآخر لا

ص: 475

يعترف بشرعية هذه الأحكام فتحصل ازدواجية ونزاعات.إنّ وجود المخالفات الشرعية في هذا القانون تدفع الكثيرين إلى تمشية أمورهم خارج المحكمة القانونية ثم يصطدمون بالمخالفات الرسمية ويضطرّ القضاة –كما اعترفوا بذلك- إلى تطبيع هذه الأمور ومنحهم الوثائق الرسمية وإغماض النظر عن بعض الشروط والتفاصيل، رضوخاً للأمر الواقع، فيأتي القانون الجعفري ليقنّن هذه التصرّفات ويجعلها ضمن الشرعية الرسمية والقانونية، وفي هذا حماية للمواطنين وحفظ لحقوقهم.

لقد مرّت ثلاثة أشهر على تقديم القانون إلى الحكومة وتعرّضه للجدل، فلماذا تعالت أصوات هذه النسوة اليوم؟ لقد تجرأنّ على مهاجمة الدين والمتدينين لأن بعض أهل العمائم(1) التي تدعي لنفسها عناوين شريفة كبيرة هم أهون وأقلّ من أن يرتقوا إليها هم الذين وصفوا قانون جعفر الصادق (علیه السلام) المأخوذ من الرسائل العملية للفقهاء بأن فيه شطحات وأنه لا يقول به فقيه، فإذا كان من تحتّم عليهم العناوين التي يدّعونها أن يكونوا حماة الدين والأمناء على الحلال والحرام يتجرؤون بهذا الكلام على القانون، فماذا تتوقع من اللادينيين ودعاة الإباحة الجنسية وفوضى الشهوات؟ فتلك العمائم هي التي فتحت باب الشر على قانون أهل البيت (علیهم السلام)، وهي التي دفعت أولئك إلى التجري والتمرد حتى وصل الأمر برئيس بعثة الأمم المتحدة في العراق أن يقول عن القانون بأنه مثير للقلق ويفتت النسيج الاجتماعي العراقي.

ص: 476


1- نحتفظ بالأسماء ونصوص البيانات لتوثيقها أمام الله تعالى والمعصومين (علیهم السلام) والناس والتاريخ.

ثم أليس القانون قد عرض على هذا المعمّم لأكثر من عام ثم زاره وزير العدل واستمع إليه وطلب منه النصح والتوجيه والترشيد فسمع منه كلمات الثناء والتأييد والدعم، فلماذا لم يقدّم قائمة بالشطحات للوزير حتى يتداركها، أليست وظيفة علماء الدين ترشيد القوانين وإصلاح أمور الناس؟ فلماذا لم يبيّن له شيئاً من ذلك، ثم يرفع عقيرته بعد أن وافق مجلس الوزراء على تمريره إلى البرلمان؟ هل كان ذلك مجاملة أم مداهنة أم نفاقاً أم ماذا؟ وهل يمكن أن نحمله بعد هذا على محمل حسن أو نحتمل أنه أراد بذلك صلاح الأمة ورفعة الدين وإعلاء كلمة الله تعالى كما يرجى من أهل المواقع الشريفة؟ أم أن وراء الأكمه ما وراءها.

قد كان ما كان ممّا لستُ أذكره *** فظنّ خيراً ولا تسأل عن الخبرِ

وتأتي عمامة أخرى(1) لتجعل من القانون منافياً للتمدن وأنه لا يرضى بإكراه الناس على رؤية فقهية معيّنة!! سبحان الله كيف يقلبون الحقائق، فمن الذين يُكره من؟ أليسوا هم الذين يُكرهوننا على العمل بقانون وضعي مخالف للشريعة ويجمع الفقهاء على عدم جواز التحاكم إليه؟! بينما لا نريد نحن إلاّ إعطاءنا الفرصة لنحتكم إلى القانون الشرعي وفي خصوص أحوالنا الشخصية وليعمل بالقانون المدني من يشاء، فنحن نطالب بإعطاء حرية الاختيار للناس وهم الذين يريدون إكراهنا على قانون يخالف الدين الحنيف.

أما المدنية والتحضر فإن الإسلام هو الذي وهبها للبشرية ورفع مستواها بما

ص: 477


1- نحتفظ بالأسماء ونصوص البيانات لتوثيقها أمام الله تعالى والمعصومين (علیهم السلام) والناس والتاريخ.

قدّم لها من قوانين ونظم وسلوكيات وعقائد وأخلاق، وقدّم أرقى نموذج حضاري لا زالت أوربا إلى اليوم تعترف بأنها مدينة لحضارة الإسلام بازدهارها اليوم، فكيف يأتي هؤلاء المحسوبون على رجال الدين ويرون أن قوانين الإسلام تنافي المدنية.فهنيئاً لهذه العمائم اصطفافها مع أهل الفسق والفجور وتشجعيهم أعداء الدين على مهاجمته والانتقاص منه وتشويه صورته و (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) (الفجر/14)، وحينما يجمع الله تعالى البشر للحساب يوم القيامة (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) (الإسراء/71) سيرى بعض الناس إمامه على هيئة ثعلب ماكر أو ذئب أو خنزير أو قرد أو وزغ أو حمار يحمل أسفاراً ولا يستفيد منها ونحو ذلك بحسب حقائق أفعالهم التي كانوا يقومون بها.

ثم التحقت بهم بعض الكتل السياسية التي تدّعي التشيع(1) وقربها من المرجعية ودفاعها عنها، وإذا بها تهاجم قانون الإمام الصادق (علیه السلام) لحسابات سياسية دنيوية ولمناغمة أمريكا ودول الغرب حتى تمكّنهم من المواقع القيادية في البلد (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ) (الأحزاب/37) (فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) (المائدة/3) (فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ) (التوبة/13).

أمام هذه الهجمة التي تستهدف الدين وتريد إلغائه من حياة الناس لابد من موقف لنصرة الدين وقادته العظام (صلوات الله عليهم أجمعين) وفضح خدع الماكرين والمنافقين، ولكلٍّ دوره في هذه الوقفة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا

ص: 478


1- نحتفظ بالأسماء ونصوص البيانات لتوثيقها أمام الله تعالى والمعصومين (علیهم السلام) والناس والتاريخ.

أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ) (الصف/14) وأخصّ بالذكر الأخوات المؤمنات الرساليات (كأفراد وكمؤسسات ومدارس دينية ومنظمات مجتمع مدني) فليستثمرن المناسبة الفاطمية القريبة ليقلن للعالم أن هذه الحفنة من النساء المتحللات لا يمثلن حرائر العراق ولن يتمكنَّ من خداعهن عن دينهن، واستنكار فعل كل من يريد سلب هذا الحق من المؤمنين الموالين لأهل البيت (علیهم السلام)، وإن شرف المرأة وعزّتها وكرامتها لم يصنها أحد كما حفظها الإسلام، ولم تتحقق كرامة المرأة إلا في ظل شريعة الله ونبيه الكريم (صلی الله علیه و آله) والأئمة المعصومين (علیهم السلام)(1).إن نساء العراق شريفات عفيفات كريمات عزيزات ليست ممتهنات ومستأجرات لمؤسسات الفسق والفجور والشهوات المنفلتة التي تتاجر بحقوق المرأة من دون أن تقدّم للمرأة شيئاً ولا قدّمت حلولاً لمشكلاتها رغم مرور (11) سنة على التغيير ورغم وجود أكثر من (80) امرأة في البرلمان وتوجد وزارة باسم المرأة، ولم نر حضوراً ولا حماساً لتلك المؤسسات إلا ضد الدين في هذه المرة، وقبل مدة حينما صدرت قرارات لوضع ضوابط لفوضى انتشار الملاهي وحانات الخمور في بغداد على نحو يهدّد البنية الأخلاقية والاجتماعية

ص: 479


1- استجابت الآلاف من النسوة في مختلف المحافظات العراقية وخرجن في مظاهرات وتجمعات على مدى عدة أيام ورفعن شعارات التأييد للقانون الجعفري والتنديد بكلام رئيس بعثة الأمم المتحدة في العراق فاسكتن المعترضات وأحبطن مشروعهن في الاستمرار بالتجمع ولبس السواد حتى إجهاض القانون الجعفري.

والعقائدية للعائلة العراقية فسارعوا(1) إلى شارع المتنبي ليستنكروا ويطالبوا بإطلاق الحرية المنفلتة، ولا يهمهم بعد ذلك المشاكل الكبيرة التي تُعاني منها النساء بسبب الكوارث التي مرّ بها العراق، ككثرة العوانس والأرامل والمطلقات والأيتام وفقدان الكفيل والاضطرار إلى ممارسة المهن التي لا تناسبهنّ.فإنّا لله وإنا إليه راجعون والله المستعان على ما تصفون والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

ص: 480


1- في شهر كانون الأول/ 2010.

المرجع اليعقوبي يستنكر تعّدي ميلادينوف على حق الاغلبية الشيعية

المرجع اليعقوبي يستنكر تعّدي ميلادينوف على حق الاغلبية الشيعية(1)

9/ 3/ 2014، استنكر سماحة المرجع اليعقوبي تعّدي رئيس بعثة الأمم المتحدة في العراق ميلادينوف على حق الأغلبية الشيعية في العراق في العمل بما يعتقدون بخصوص الأحوال الشخصية .

وقال سماحته في كلمة ألقاها أمام حشد كبير من فضلاء وأساتذة الحوزة العلمية الذين يحضرون بحثه الشريف أن تصريح ميلادينوف هذا مريب وغريب حيث يصطف مع أفراد قلائل من الذين عندهم مشكلة مع الدين والتدين ويدير ظهره لمطلب الملايين من أتباع المذهب الجعفري .

وذّكر سماحته ميلادينوف بما أوصاه حينما زاره العام الماضي عقيب تسلّمه لعمله في العراق وطلبه النصح من سماحة المرجع فقال له: أن العراق يعاني من مشاكل وخلافات كثيرة وان دور بعثة الأمم المتحدة هو المساعدة على إيجاد الحلول وليس الاصطفاف مع طرف ضد آخر، أي أن يكون جزءاً من الحل لا جزءاً من المشكلة، لكنه نسي اليوم هذا التوجيه وأصبح طرفا في النزاع .

وحذّر سماحته ميلادينوف من مثل هذه المواقف التي تجعل وجوده غير مرّحب به وتعجّل بقضية إبعاده من العراق .

وكان ميلادينوف قد وصف أمس قانون الأحوال الشخصية الجعفري بانه مثير للقلق ويوجب تفتت النسيج الاجتماعي العراقي .

ص: 481


1- نشر في العدد (138) من صحيفة الصادقين الصادر في يوم الاثنين 15 ج1 1435 المصادف 17 آذار 2014.

تجمعات نسوية حاشدة نصرة للقانون الجعفري

تجمعات نسوية حاشدة نصرة للقانون الجعفري(1)

تزامناً مع ذكرى استشهاد فخر النساء الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام)، ونصرة للإمام جعفر الصادق (علیه السلام) ودفاعاً عن قانونه الشريف، وردّاً على التصرفات الشائنة لبعض النساء المتحللاّت، نفّذَ الآلاف من الأخوات المؤمنات الرساليات تجمعات واعتصامات في عدة مدن عراقية بدأت من النجف الأشرف يوم الأربعاء 10/ج1/ 1435 المصادف 12/ 3/ 2014 وامتد إلى المدن الأخرى خلال الأيام التالية.

وقد رفعن شعارات التمسك بالإسلام ونهج السيدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) ورفض التحلل والفساد والانحراف، واستنكار تعدي بعثة الأمم المتحدة ومنظمة حقوق الإنسان الدولية على حقوق الأغلبية في العراق، وان نساء العراق العفيفات الشريفات لا تمثلهن حفنة من المأجورات للماسونية العالمية والمؤسسات المعادية للإسلام التي تكاتفت لوأد القانون.

ص: 482


1- نشر في العدد (138) من صحيفة الصادقين الصادر في يوم الاثنين 15 ج1 1435 المصادف 17 آذار 2014.

خطاب المرحلة 405 :السيدة الزهراء (علیها السلام) وإقامة حكم الله تعالى

خطاب المرحلة 405 :السيدة الزهراء (علیها السلام) وإقامة حكم الله تعالى(1)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيد خلقه أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

ورد في أحاديث شريفة عديدة عن النبي (صلی الله علیه و آله) قوله: (إن لكل شيء حقيقة)(2) وهذه الحقيقة تمثل روح ذلك الشيء ومضمونه الفعلي ومحتواه الذي يتقوّم به، ولا تتحقق للشيء مصداقية إلا به، ولا يكون الشيء بدون هذه الحقيقة إلا عبارة عن شكل وظاهر بلا محتوى.

فالصلاة لها حقيقة وهي المناجاة مع الله تبارك وتعالى والارتقاء إليه والانتهاء عن الفحشاء والمنكر، وتنقص قيمة الصلاة وحقيقتها بمقدار خلوّها من هذه الحقيقة، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بُعداً)(3).

وقولنا في سورة الفاتحة [إِيَّاكَ نَعبُدُ] له حقيقة هي الطاعة التامة لله تعالى

ص: 483


1- الخطاب الفاطمي السنوي لسماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) في الآلاف من الجموع التي جاءت لزيارة أمير المؤمنين (علیه السلام) في ذكرى استشهاد الصديقة الزهراء (علیها السلام) يوم الثالث من جمادى الآخرة، عام 1435 الموافق 3/نيسان/2014 قبل انطلاقهم في التشييع الرمزي .
2- راجعها في ميزان الحكمة: 1/ 285.
3- ميزان الحكمة: 5/ 109.

والتسليم والانقياد المطلق له تبارك وتعالى في سائر أمورنا وحركاتنا وسكناتنا.وكل حقيقة تحتاج إلى دليل يبرزها ويؤكدها ويثبت وجودها، ومن دونه تكون الأشياء مجرد دعاوى، ويؤكد هذا الأمر الإمامُ الكاظم (علیه السلام) في وصيته لهشام بن الحكم، قال (سلام الله عليه): (يا هشام لكل شيء دليل ودليل العاقل التفكر ودليل التفكر الصمت)(1) فلا بد أن لا نسلّم بالأمور والدعاوى حتى نتحقق من الدليل، ولا نسترخي للأوصاف التي ندّعيها لأنفسنا ونثبتها في هويتنا كالإسلام والتشيع وولاية أهل البيت (علیهم السلام) من دون أن نراقب أنفسنا ونتفقدها باستمرار ونمتحنها لنتلمس الدليل على صدق هذه الدعاوى.

هذه المقدمة تلقي الضوء على واقع مؤسف نعيشه نحن المسلمين وهو أننا ندعي عناوين كثيرة من دون تقديم الدليل على وجود حقائقها بل قد نقوم بالعكس من ذلك، فتخالف أقوالنا أفعالنا، لذا يعلمنا الإمام الحسين (علیه السلام) في الدعاء المروي عنه في يوم عرفه الاعتراف بهذا التقصير أمام الله تبارك وتعالى: (ومن كانت حقائقه دعاوى فكيف لا تكون دعاواه دعاوى)(2) ويعلمنا الائمة (ع) ان نسال الله تعالى (استحقاق حقائق الايمان) (3).

وأهم تلك العناوين التي يجب أن نتأكد من وجود حقيقتها هو الإيمان بالله تبارك وتعالى لأنه أصل الدين وأساس الفوز والسعادة في الدنيا والآخرة، وتأكيداً لهذه الأهمية فقد كان النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة المعصومون (علیهم السلام) يلفتون

ص: 484


1- تحف العقول: 246.
2- مفاتيح الجنان، 315.
3- في الدعاء الذي اوله (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ إِخْبَاتَ الْمُخْبِتِينَ)

نظر الناس إلى تفقد هذه الحقيقة فيسألون من يقولون: (نحن مؤمنون) ويقولون لهم: (فما حقيقة إيمانكم) أو يبدؤونهم بالبيان كقول الإمام الباقر (علیه السلام): (لا يبلغ أحدكم حقيقة الإيمان حتى يكون فيه ثلاث خصال.. إلى آخر الحديث)(1).وقد بينت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة ما تكتمل به حقيقة الإيمان، قال تعالى: [فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً] (النساء : 65).

فيقسم الله تبارك وتعالى على هذه الحقيقة [فَلا وَرَبِّكَ] ويحصر الإيمان بها [لا يُؤمِنُونَ حَتى يُحَكّمُوكَ] ويعطينا قاعدة مهمة من قواعد العقيدة في الإسلام، وهي أن أهم مظهر للتوحيد والإيمان بالله هو إقامة حكم الله تبارك وتعالى في الأرض، وتطبيق شريعته في شؤون الحياة والرجوع إليه في الحكم والالتزام بمنهجه في الحياة، وإن هاتين القضيتين متلازمتان، وإن جوهر الصراع بين الإيمان وخصومه هو في من له حق الحاكمية والتشريع ورسم المنهج الذي تسير عليه البشرية، هل هو الله تعالى خالق الكون والانسان والعالم بما يصلحه ويسعده، أم الإنسان بقصوره وفقره وعجزه ومصالحة المتصارعة وأهوائه المتقلبة [وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ] (المؤمنون:71)؟.

لذا فإن الآية الكريمة تؤكد على أن الإيمان الحقيقي يكتمل بثلاثة عناصر:-

ص: 485


1- ميزان الحكمة: 1/ 286.

1-الرجوع إلى شريعة الله تعالى التي بلّغها رسول الله (صلی الله علیه و آله) والأئمة المعصومون (علیهم السلام) ومن بعدهم العلماء العاملون المخلصون [حَتَّى يُحَكِّمُوكَ] أي يرجعون إليك في كل أمورهم ويأخذون الحكم منك ولا يحكمون غيرك وغير من نصبتهم من الحجج، وإن كل قانون يضعه البشر لم يؤخذ من الشريعة فإنه باطل وينافي أصل الإيمان بالله تعالى ولا يجوز لأحد أن يشرّع ويقنن خارج النصوص الشرعية.

2-أن يسلّموا بتلك الأحكام ويذعنوا إليها ويؤمنوا بها سواء أدركوا المصلحة فيها وعرفوا أسرار تشريعها أو لم يدركوا ذاك، وأن لا يشعروا بالحرج والضيق إذا عاب أحد عليهم هذه الأحكام أو انتقصها أو زعم أنها تخالف حقوق الإنسان وتنافي الحرية والعدالة والمساواة، أو أنها رجعية وتخلف ولا تواكب الزمان الحاضر، ونحو ذلك من التهم والاستفزازات.

3-أن يلتزموا بتلك الأحكام ويطبقوها في حياتهم من دون تبعيض وانتقائية للأحكام التي توافق رغباتهم وأهوائهم ومصالحهم، ويعرضون عنها إذا كانت لا تحقق مصالحهم الضيقة وتصطدم مع أهوائهم وشهواتهم، وإنَّ صدق الإيمان يظهر عندما يكون الحكم على خلاف الهوى والمصلحة ومع ذلك يسلِّم له ويطبقه ولا يجد في نفسه حرجاً منه.

روى الشيخ الكليني في الكافي بسند صحيح عن عبد الله بن يحيى الكاهلي قال: قال أبو عبد الله الصادق (علیه السلام): (لو أن قوماً عبدوا الله وحده لا شريك له، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجوا، وصاموا شهر رمضان، ثم قالوا لشيء صنعه الله أو صنعه رسول الله (صلی الله علیه و آله): ألا صنع خلاف الذي صنع؟ أو وجدوا ذلك في

ص: 486

قلوبهم لكانوا بذلك مشركين، ثم تلا هذه الآية: [فلا وربك لا يؤمنون..] ثم قال أبو عبد الله (علیه السلام): عليكم بالتسليم)(1).ولقد أكد القرآن الكريم هذه الحقيقة في آيات كثيرة، قال تعالى: [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ] (الأحزاب : 36) وقال تعالى: [وَأَنَّ هَ-ذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ] (الأنعام: 153)، وقال تعالى: [إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ](آل عمران:19)، وقال تعالى: [وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ] (آل عمران:85) وغيرها.

والروايات الشريفة حافلة أيضاً بهذه المعاني، وقد حظيت أحكام ما يعرف اليوم بالأحوال الشخصية باهتمام كبير من الأئمة (علیهم السلام) ولم يعذروا من يطبق القوانين الوضعية ولا يرجع إلى الأحكام الشرعية لأنها تنظم أموراً أساسية في حياة الأفراد كالزواج والطلاق والمواريث وأي خلل فيها يعني وقوع الناس في المحرمات في ذرياتهم وأموالهم، ولا مجال فيها للاعتذار بالتقية ونحوها لأنها قضايا شخصية لا تتعارض مع السلطات، وتحركوا بالوسائل المتاحة لهم (ع) ليقنعوا الأمة بها(2).

ص: 487


1- الكافي: 1/ 321، ح2.
2- ويصل الاهتمام إلى درجة أن الإمام يسعى لإقامتها ولو بالقوة، في رواية صحيحة في الكافي عن الإمام الصادق (علیه السلام): (لا يستقيم الناس على الفرائض –أي المواريث- والطلاق إلا بالسيف) ومثلها عن الإمام الباقر (علیه السلام). وفي رواية أخرى عن أحدهم قال: (سألت أبا عبد الله الصادق (علیه السلام) عن النساء هل يرثن من الرباع –أي الأراضي-؟ فقال: لا، ولكن يرثن قيمة البناء، قال: قلت: فإن الناس لا يرضون بذا؟

أيها الأحبة المجتمعون لنصرة الصديقة الطاهرة (علیها السلام):إن السيدة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) حينما قامت بأمر الله تعالى في وجه الانحراف والظلم وطالبت بحقها في فدك وحاججتهم بآيات المواريث إنما أرادت أن تنطلق من هذا الحكم المتعلق بالأحوال الشخصية إلى مطلب أوسع وأعظم وهو إقامة شريعة الله تعالى في الأرض وعلى رأسها اتباع الإمام الحق والقيادة الصالحة المصلحة المتعيّنة بأمير المؤمنين (علیه السلام)، والقوم قد فهموها هكذا؛ لذا أرادوا قطع الطريق من أوله على مشروع السيدة الزهراء ((يقول ابن أبي الحديد المعتزلي في أمر فدك: وسألت علي بن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد –وهو من علماء العامة- فقلت له: أكانت فاطمة س صادقة؟ قال نعم. قلت: فلِمَ لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة؟ فتبسّم ثم قال: لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها لجاءت إليه غداً وادعت لزوجها الخلافة، وزحزحته عن مقامه، ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشيء؛ لأنه يكون قد أسجل على نفسه أنها صادقة في ما تدعي كائناً ما كان من غير حاجة إلى بينة ولا شهود. قال ابن أبي الحديد: وهذا كلام صحيح))(1).

وهذا ما يقوم به الأعداء على طول التأريخ منذ أن صدع النبي (صلی الله علیه و آله) بالدعوة الإسلامية المباركة فيعملون على إجهاض كل حركة لإيقاظ الناس وتفعيل دور الدين في حياة الأمة ويسعون لإبقاء الأغلال التي تكبّل الأمة

ص: 488


1- شرح نهج البلاغة: 16/ 284.

ويحيطون الحركة بالتشويه والتسقيط والشبهات كما حصل اليوم في مواجهة القانون الجعفري لتبقى الغشاوة على عيون الناس وإلحاق الهزيمة بالإسلام، وهذا يفسّر اجتماع كل القوى في الداخل والخارج على معارضة القانون وهو ما يزال مسودّة لم يعرض للنقاش أصلاً؛ لأنهم يخشون من آثاره المباركة اللاحقة على الأمة.لقد كانت الصديقة الطاهرة (علیها السلام) حازمة وصريحة في وعظهم وتحذيرهم بأنهم يعودون إلى جاهليتهم الأولى إذا خالفوا حكم الله تعالى، قالت (علیها السلام) في خطبتها: (وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا، أفحكم الجاهلية تبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون؟ أفلا تعلمون؟ بلى قد تجلى لكم كالشمس الضاحية أني ابنته)(1).

فتذكرهم (علیها السلام) بقوله تعالى: [أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ] (المائدة:50) ويفسّرها الإمام الباقر (علیه السلام) بقوله: (الحكم حكمان حكم الله وحكم الجاهلية وقد قال الله عز وجل: [وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ] واشهدوا على زيد بن ثابت لقد حكم في الفرائض –أي المواريث- بحكم الجاهلية)(2)، والكلام شامل لغير زيد ممن خالفوا حكم الله تعالى.

أيها الأحبة:

إن تطبيق الأحكام الشرعية وتنظيم شؤون الحياة على أساسها قضية حدية

ص: 489


1- الاحتجاج: 1/ 131.
2- الكافي: 7/ 407.

فاصلة لا تقبل المساومة والمداهنة والتبعيض أو التأجيل بحجة أن الوقت غير مناسب أو أي عذر آخر، فلا تسويف لأمر الله تعالى فإما أن يُطبَّق حكم الله تعالى وإما أن يكون الحكم حكم أهل الجاهلية، روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) قوله: (الحكم حكمان: حكم الله وحكم الجاهلية فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهلية)(1).إن فهم هذا الصراع والنهوض بمسؤولية الدفاع عن الإسلام وإقناع البشرية به وبقدرته على قيادة الحياة –كما عبّر السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) حينما عنون أحد كتبه بذلك- هو سر انقسام المرجعية الدينية والحوزة العلمية إلى خطين وقيادتين متباينتين في المنهج والسلوك، أولهما عالم فاعل عامل لا يكتفي بتنميق الكلمات على الأوراق فقط بل يتحرك ويواصل الليل بالنهار ليعيد للإسلام هيبته وعزته وللمسلمين كرامتهم وحريتهم وثقتهم بأنفسهم ويدلّهم على معالم هويتهم المسلوبة من خلال ما يقدّم من نظريات وتشريعات ومنظومات فكرية ومعرفية تثبت أن دين الإسلام هو أصلح نظام للبشرية اليوم وغداً كما كان بالأمس، فألّف الشهيد الصدر الأول (قدس سره) اقتصادنا وفلسفتنا ومجتمعنا والأسس المنطقية للاستقراء والبنك اللاربوي وغيرها، مما أبهر عقول خصومه وأصدقائه على حد سواء؛ لذا لا نستغرب قيام الحكومة الروسية رمز

ص: 490


1- التهذيب: 6/ 218، ح5، باب من إليه الحكم وأقسام القضاة والمفتين.

النظام السياسي والاقتصادي الذي استهدفه في كتبه بنصب تمثال(1) للسيد الشهيد الصدر الأول العالم العربي المسلم الوحيد الذي يكرَّم بهذا الشكل في قلب عاصمة الاتحاد السوفيتي سابقاً وفي أهم صروحها العلمية في موسكو باعتباره صاحب إنجازات إنسانية عظيمة، بينما تُعرض الحوزة النجفية عنه وعن آثاره والاحتفال به –ونحن نعيش ذكرى استشهاده الرابعة والثلاثين- وكأنه ليس مفخرتها وجوهرتها ووجهها الناصع (2).إن من أهم أشكال النصرة للسيدة الزهراء (علیها السلام) وللمعصومين جميعاً لنكون صادقين في قولنا لهم عند زيارتهم (ع): (ونصرتي لكم معدة) هو السعي الدؤوب لهداية الناس وإرشادهم، والضغط المستمر لإقرار القوانين التي تنظم حياتهم وفق الشريعة الإلهية خصوصاً في الأحوال الشخصية كالزواج والطلاق والميراث والوصية والوقف لأنها لا تتنافى مع حق أحد ولا تسلب حرية أحد ولا تكره أحداً على خلاف ما يعتقد.

إن الله تبارك وتعالى حذّرنا بشدة من العمل بالقوانين الوضعية التي تتنافى وأحكام الدين، قال تعالى: [وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ]

ص: 491


1- وُضع التمثال النصفي في جامعة موسكو الحكومية للعلاقات الدولية التابعة لوزارة الخارجية الروسية ورفع الستار عنه يوم الجمعة 28/ 2/ 2014 في احتفال حضره مثقفون وأكاديميون وسياسيون روس، ورؤساء عدد من البعثات الدبلوماسية.
2- بعد ايام من هذا النقد اللاذع اقام السيد جعفر نجل السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) مجلسا تأبينيا حوزويا وليس سياسيا كما اعتاد عليه السياسيون في السنوات السابقة، واُقيم المجلس في جامع الطوسي في النجف الاشرف يوم الاربعاء 9-4-2014 وحضره سماحة المرجع اليعقوبي ومراجع الدين وممثلوهم وعلماء وفضلاء الحوزة واعداد غفيرة من المؤمنين .

[وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] [وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ] (المائدة:44، 45، 47).ويؤكد الله تعالى على نبيه أن لا يتأثر بالمغريات والتهديدات والتسقيط الإعلامي ونحو ذلك من الضغوط لترك العمل بالقوانين الإلهية، قال تعالى: [وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ] (المائدة:49) ثم يبين الله تعالى أن أحسن الأحكام وأصلحها للبشر وأكثرها ملاءمة لطبيعة تكوينه الفردي والاجتماعي هي أحكام الله، قال تعالى: [أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ] (المائدة:50).

فلنراجع واقعنا ولننظر هل مناهج التعليم المتبعة موافقة للشريعة؟ وهل العلاقات الاجتماعية القائمة بيننا منضبطة بتعاليم الإسلام؟ وهل السنائن العشائرية التي يحكمون بها مأخوذة من الشريعة؟ وهل وهل .. مما يطول ذِكره.

لقد سجّلت المؤمنات الرساليات من حرائر العراق المتأسّيات بالسيدة الزهراء (علیها السلام) والعقيلة زينب (علیها السلام) موقفاً مشهوداً في نصرة دين الله تعالى حين عقدن تجمعات حاشدة بالآلاف في مختلف المدن العراقية للمطالبة بتصحيح مواد قانون الأحوال الشخصية وفق الأحكام الشرعية، ووجّهن صفعة شديدة لمن يريد إبقاء المجتمع العراقي المسلم المؤمن يعمل على وفق قوانين الجاهلية.

وأعادت هؤلاء النسوة للمرأة عموماً الثقة بنفسها وبقدرتها على إحداث

ص: 492

التغيير والإصلاح وانتزاع الحقوق، تلك القدرة التي سُلبت منها عبر الأجيال نتيجة لعوامل عديدة، وساعدت نفس المرأة على استلابها باستكانتها واستسلامها وخضوعها للأعراف والتقاليد والثقافات التي لا تمت إلى الإسلام بصلة، وتناست المرأة أن من أهم ثمرات ونتائج القيام الفاطمي والزينبي هو إعادة الثقة للمرأة بنفسها وأنها قادرة على انتزاع الحقوق وإيقاظ الأمة وإعادة الأمور إلى نصابها، فقامت هذه النسوة بتذكير الأمة بهذه الثمرة المباركة للقيام الفاطمي الزينبي العظيم.وها هي الانتخابات البرلمانية مقبلة بإذن الله تعالى، وتشكل النساء نصف عدد الناخبين تقريباً فهن إذن الرقم الصعب القادر على قلب الطاولة على رؤوس كل دهاقنة السياسة وتجار الحروب وأصحاب الأجندات الظالمة الفاسدة من الداخل والخارج.

لقد كان من بركات هذه اليقظة وهذا الحراك الفكري والاجتماعي وإثارة مكامن القوة الإنسانية في الشريعة الإسلامية التفات المسلمين إلى المطالبة بحقهم في تشريع القوانين الخاصة بهم وجاءت ثمرتها في بريطانيا قبل أيام حيث اعتمدت لأول مرة في محاكمها الشريعة الإسلامية في الإرث والوصية لتنظيم شؤون المسلمين فيها؛ وقد وجدت الحكومة البريطانية(1) في إعطاء هذا الحق للمسلمين خطوة تساعد على شعور المسلمين بالمواطنة وعدم الإقصاء والتهميش، فأتاح الله تبارك وتعالى هذا القرار في عنفوان الجدل حول القانون

ص: 493


1- اعلنت وزارة الخارجية البريطانية ذلك على موقعها باللغة العربية يوم 22-3-2014 ووصف بعض ذوي الشأن القرار بأنه (مدهش) ويساعد على دمج المسلمين في المجتمع البريطاني

الجعفري ليكون حجة دامغة على المهزومين والمنبهرين بالغرب وسائر المعترضين على إقرار القانون الجعفري.أليس من الغريب أن يكون الإسلام بهذه الدرجة من التأثير في بلاد غير المسلمين بينما يستضعفه أبناؤه في بلادهم ويشعرون بالهزيمة الداخلية ويخجلون من إعلان هويتهم والتحرك بمشروعهم!.

فأحيوا أيها الأحبة خصوصاً الشباب والمثقفين وطلبة الجامعات- في نفوسكم الشعور بالفخر والاعتزاز ورفعة الرأس وأنتم تنتمون إلى هذا الدين العظيم، وأحسِّوا بقيمة كلمة أمير المؤمنين (علیه السلام): (إلهي كفى بي عزّاً أن أكون لك عبداً، وكفي بي فخراً أن تكون لي ربّاً، إلهي أنت كما أحب فاجعلني كما تحب) في حين يتخذ غيرهم ارباباً من اهوائهم وشهواتهم وفراعنتهم او موروثاتهم فيطيعونها من دون الله .

أيها الإخوة والأخوات المجتمعون على ولاية أهل البيت (علیهم السلام):

اعلموا أنكم بنصرتكم للسيدة الزهراء (علیها السلام) والقانون الجعفري ساهمتم في رفع جزء من البلاء والتيه الذي كان ستقع فيه الأمة لو أجمعت على خذلان دين الله تعالى ولم يجد الدين انصار مثلكم، قال الله عز وجل: [وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ] (هود:117) وقال تعالى: [وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَ-كِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ] (البقرة:251) وقال تعالى: [فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ] (يونس:98).

ص: 494

نسأل الله تعالى أن يمدّ المؤمنين والمؤمنات بنصره ويزيد في توفيقهم ويكلل جهودهم بالنجاح ببركة إحيائكم لهذه الشعيرة المقدسة والله ولي التوفيق

ص: 495

خطاب المرحلة 406 : المشاركة في الانتخابات لاختيار القيادة الصالحة: استحقاق إنساني ووطني وواجب شرعي

خطاب المرحلة 406 : المشاركة في الانتخابات لاختيار القيادة الصالحة: استحقاق إنساني ووطني وواجب شرعي(1)

كلما اقتربنا من العملية الانتخابية يكثر السؤال حول لزوم المشاركة في الانتخابات، وهل يجب علينا ذلك ام لا، وإذا أردنا قراءة ما بين السطور لهذا السؤال فإنّه يعبّر عن الشعور بالإحباط لدى المواطن والامتعاض من أداء الكتل السياسية الحاكمة وفشلها في تحقيق تطلّعات المواطنين وتقديم الخدمات لهم وتوفير الأمن والرفاه والكرامة والازدهار ولو بالحد الأدنى منها، وإلاّ لو كان الأداء مقنعاً ومقبولاً لاندفع المواطن إلى الإدلاء بصوته ليديم هذه الحالة الإيجابية، ولا مبرّر حينئذٍ لهذا السؤال .

وجواب السؤال باختصار إنّ المشاركة في الانتخابات المشاركة في الانتخابات لاختيار القيادة الصالحة للامة استحقاق انساني ووطني وواجب شرعي.

أما كونها استحقاقاً، فمن جهتين:

1-الإنسانية: فإنّ أثمن ما وهب الله تعالى للإنسان هو حقّ الحرية بكل مواردها، حرية الاعتقاد، حرية السلوك، حرية التعبير عن الرأي، حرية الاختيار،

ص: 496


1- من حديث سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع أساتذة وطلبة جامعة الصدر الدينية فرع حي البنوك/ بغداد، يوم الثلاثاء 15/ج2/ 1435 المصادف 15/ 4/ 2014.

ومنها حرية اختيار من نفوضه في إدارة شؤوننا وولاية أمورنا وحفظ النظام الاجتماعي العام ونحو ذلك، وهذا الحق ثبّته الله تعالى في القرآن الكريم (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد/10) (لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ) (الأنفال/42) (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة/256) وفي الأحاديث الشريفة التي مضمونها (ما لكم استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً).2-المواطنة: فإنّ كلّ مواطنٍ يحمل جنسية البلد يبلغ السن القانوني يكون من حقّه المشاركة في الانتخابات، ففي هذه المشاركة إثبات للمواطنة وإعلان للانتماء والهوية الوطنية، لذلك تجد الفرحة والزهو في وجوه العراقيين المغتربين أكثر عند الإدلاء بأصواتهم لأنّ هذه الفعّالية تمثّل لهم فرصة للإحساس بمواطنتهم وهويتهم وعراقيتهم، وكذلك يوجد نفس الإحساس لدى الذين يدلون بأصواتهم لأوّل مرة لبلوغهم السن القانوني لأنهم يشعرون باكتمال شخصيتهم وهويتهم.

فالمشاركة في الانتخابات استحقاق إنساني ووطني، ونحن نعلم أنّ استيفاء الحقّ والأخذ به شيء يستحسنه العقلاء ويستقبحون إهماله وتضييعه والتفريط به كما لو كان من حقّ المواطن تملّك دار سكنيّة أو منحة مالية أو امتيازات أخرى فلم يسعَ لتحصيلها فإنّه يستقبح فعله ويستهجن لدى العقلاء، كيف والحق عظيم وهو حرية اختيار من يدير شؤون البلاد ويلي أمور العباد وتجري على يديه مصالح الناس وأمنهم وأرزاقهم وحقوقهم العامة، وتحصيل هذا الحقّ من أهم ما تسعى إليه الشعوب وتقوم بالثورات العارمة وتقدّم آلاف وملايين الضحايا على مدى التأريخ من أجل انتزاع هذا الحق الذي يسلبه الطواغيت

ص: 497

والفراعنة والمستبدون ويعطون لأنفسهم تفويضا إلهياً للتفرد بالسلطة والحكم، فالعقلاء لا يرضون بتفويت هذا الحق وإهماله وقد اُتيحت الفرصة لممارسته بلا مؤونة .وأما كون المشاركة واجباً فلعدة وجوه:

1-الحديث النبوي الشريف المشهور لدى الفريقين (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ليس وراء ذلك شيء من الإيمان)(1)، وقد شخّص كلّ مواطن عراقي المفاسد والمظالم والتقصيرات التي تُرتكب في العملية السياسية والتي يدفع ثمنها المواطن العراقي من أمنه وصحّته ورزقه ومستقبله، فلابد من قيام الكل بواجبهم في التغيير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنّ التغيير باليد مستطاع اليوم من خلال الإدلاء بالصوت ولا نحتاج إلى التغيير بالقوة والعنف كما كان تكليف الأمة من قبل.

2-قوله تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ) (البقرة/143) فمن خصائص هذه الأمة وتكاليفها أن تكون أمة شاهدة فتشير إلى هذا الفعل بأنّه حسن يجب القيام به، وإلى ذاك الفعل بأنّه قبيح يجب اجتنابه، وتشهد على هذا الشخص بأنّه صالح مؤهل لوضعه في الموقع المناسب، وذاك الشخص سيء لا يجوز له التصدي لشيء من أمور الأمة.

وأداء هذه الشهادة واجب على الأمة و {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة : 283] وهي ليست كأي شهادة واجبة أخرى في قضايا الناس ودعاواهم، لأنّها تتعلق بحقوق الأمة، قال أمير

ص: 498


1- راجع كتاب (أسمى الفرائض وأشرفها لسماحة الشيخ اليعقوبي، صفحة 390)

المؤمنين (أفظع الخيانة خيانة الأمة)(1)، فإذا تقاعست الأمة ولم تدلي بشهادتها للمؤهلين لقيادة البلاد فإنها تفسح المجال للمفسدين أن يعودوا إلى مواقعهم، والخيانة الأفظع والأسوأ أن يجدد إعطاء صوته ويمنح الثقة لنفس الذي ظلموه وغصبوه حقوقه وسرقوا ثرواته، ولم يرَ منهم خيراً إلاّ الصراعات وكان المواطن يقول سأقطع إصبعي الملوّن بالبنفسجي لما يرى من مفاسدهم ومظالمهم ولا مبالاتهم ثم يعود فينتخبهم فهذه شهادة زور على خلاف الواقع ويحاسب صاحبها ولعله يكون مشمولاً بعقوبة شاهد الزور والعياذ بالله تعالى.3-ما ذهب إليه مشهور علماء الإمامية من وجوب نصرة الأمة للفقيه الجامع للشرائط القائل بالولاية حتى يمكّن له في الأرض ويفعّل ولايته ويقيم شرع الله تعالى بمقدار ما يتيسّر له أي لتحقيق الآية الشريفة (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ) (الحج/41) ونصرته تكون بنصرة أتباعه الذين يعملون بتوجيهاته وينفذون مشاريعه على ارض الواقع، ولهذا المطلب تفصيل نتعرض له في بحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن شاء الله تعالى.

4-السيرة العقلائية البالغة حد الضرورة الاجتماعية بحسب تعبير أمير المؤمنين (علیه السلام) بقوله: (لابد للناس من أمير برٍ أو فاجر يعمل في أمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الآجال، ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو وتؤمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح بر ويستراح من

ص: 499


1- نهج البلاغة: ج3 ص27.

فاجر).(1)فاختيار السلطة التي تتولى إدارة الحكم في البلاد ضرورة عقلائية ولابد من المشاركة فيها لضمان وصول الصالحين النزيهين الكفوئين الذين يستحقون منح الثقة بهم في هذا المجال وتبرأ الذمة بانتخابهم.

ولكن لا يكفي التحري والبحث عن المرشح الذي تتوفر فيه الشروط المذكورة، بل لابد من توفرها في القائمة أيضاً المتمثلة برئيس الكيان أو الكتلة وبرنامجها وسلوكها في العملية السياسية، لأنّ المرشّح قد يكون مؤهلاً إلا أنه في قائمة ليست كذلك، وحينئذ إن فاز بمقعد في البرلمان فإنّ وجوده سيذوب في وجود الكتلة ومواقفها، لأنّنا نعلم أن القرارات يديرها رؤساء الكتل في ما يسمونه بالمطبخ السياسي أمّا الأعضاء فليس لهم إلاّ التصويت ولا تأثير للأصوات المستقلة.

وإن لم يفز فإنّ أصواته ستذهب لمرشحين آخرين في نفس القائمة وسيكون المصوّتون لهذا المرشّح مشاركين في تمكين المرشّح الآخر ويتحملون مسؤولية فساده وظلمه.

ويوجد شرط آخر وهو وجود راعي وضامن للكتلة يكون مسؤولاً عنها ويحاسب على تصرفاتها وقد سُئل أحدهم لماذا انتخبت قائمة الفضيلة قال لأنّ لهم (كبير) يحاسبهم وهذا التعبير العامي يعني وجود رأس لهم يستطيع الناس الوصول إليه ولا يحتاجون إلى طرق بابه لأنِّ بابه وقلبه مفتوح لهم ليؤدي التزاماته أمامهم ويجدون عنده القلب الكبير والتواضع وحسن الإنصات لهم

ص: 500


1- نهج البلاغة، الخطبة 40.

والتفاعل مع همومهم وآلامهم وتطلّعاتهم، إذ ليس من الإنصاف أن تلتزم الأمة بالتصويت للمرشحين ولا يوجد من يضمن لهم التزام المرشّح أمامهم بالبرامج والوعود، روي عن الامام الصادق (علیه السلام) قوله (ما قُدِّست أمة لم يؤخذ لضعيفها من قويّها غير مُتَعتَع) (1) فلا بد من مراعاة وجود من ينتصر للمظلوم وينتصف له .وفي النظام السياسي المعتمد حالياً في البلاد فإن الضامن الكبير هو المرجع الديني الجامع لشروط ولاية الفقيه من الاجتهاد والعدالة والخبرة بشؤون الناس والتفاني في العمل لإعلاء كلمة الله تعالى والنهوض بواقع الأمة والعالم بالظروف والملابسات ويمتلك الكياسة والفطنة حتى لا تهجم عليه اللوابس وأن يتصرف بحكمة ونحو ذلك.

فالولي الفقيه والمرجع الجامع لشروط القيادة ليس جزءاً من السلطة التنفيذية في الدولة، ولا هو رئيس كيان سياسي وإنما هو الراعي لها كما يرعى كل المشاريع الإصلاحية في الأمة سواء كانت دينية أو اجتماعية أو أخلاقية أو ثقافية وما هو أوسع من ذلك؛ لأنّ موقع المرجعية ووظائف المرجع أوسع من هذا بكثير بسعة متطلبات المشروع الإسلامي الذي يجب أن يقود الأمة.

ويمكن تلخيص بعض مسؤولياته تجاه العملية السياسية بنقاط:

1-ترشيد عمل السياسيين وتسديدهم على طبق القوانين الإسلامية وتقديم الأفكار والمشاريع التي تحقق الأغراض المرجوة.

ص: 501


1- وسائل الشيعة، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 1، ح 4.

2-تصحيح الأخطاء والانحرافات ومعالجتها بحزم.

3-غربلة المرشحين لمواقع الإدارة والسلطة وتأييد الصالح منهم.

4-إعطاء الشرعية للقوانين والمصادقة على نتائج الفعاليات لتكون شرعية.

5-الاحتكام اليه اذا اُشكلت الامور وأعيتهم الحيل والتدابير .

وعلى هذا فقد سجّلت اعتراضي على المقولة المتداولة على ألسنة بعض المتصدين (إن المرجعية تقف على مسافة واحدة من الجميع) فهذا موقف المداهن والمجامل على حساب الحق ويخالف المبادئ القرآنية (أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ) (السجدة/18) (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (الزمر/9) (أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى) (يونس/35) .

فلابد أن تمتلك المرجعية الدينية من الشعور بالمسؤولية والشجاعة وقوة القلب ما يكفيها لتحمل المسؤولية وإرشاد الناس لما فيه صلاحهم، أمّا دفع الناس إلى الانتخابات من دون الإشارة إلى البديل الصالح فهذا مكر بهم وظلم لهم إذ أنهم يؤدّون ما عليهم ويدلون بأصواتهم استجابة لنداء المرجعية من دون أن تعطيهم الالتزام المقابل والضمان بل تتنصّل من المسؤولية وتلقيها عليهم وتقول لهم أنّهم لم يحسنوا التصويت، وان شرائح كثيرة من الشعب لا تمتلك الرؤية الناضجة والتحليل الدقيق ازاء هذه القضايا المعقدة، لانشغالهم بمعيشتهم وهمومهم اليومية والأزمات المحيطة بهم من كل جانب فالشعب عليه الغرم بلا غُنم وزعماؤه لهم الغُنم بلا غرم و (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى) (النجم/22) ومخالفة للقاعدة العقلائية (من كان له الغنم فعليه الغُرم).

ص: 502

ونحن لا ندعي ان المرجعية قادرة على حل كل المشاكل ومعالجة كل المفاسد وتحقيق كل المطالب فهذا فوق الطاعة، ولكن المطلوب منها ان تبذل وسعها في اداء وظائفها والباقي على الله تعالى، وهذا يشبه المسؤولية عن الاهل، ففي الرواية عن الامام الصادق (علیه السلام) (لما نزلت هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم : 6] جلس رجل من المؤمنين يبكي وقال أنا عجزت عن نفسي وكُلِّفتُ أهلي، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): حسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك وتنهاهم عما تنهى عنه نفسك(1).

ص: 503


1- الكافي، البرهان في تفسير القران

ص: 504

مختارات من صحيفة الصادقين استفتاءات- أخبار - تعليقات - قصائد من الأعداد 117-139

اشارة

ص: 505

ص: 506

بيع السلاح إلى جهات مجهولة

بيع السلاح إلى جهات مجهولة(1)

أكّدت لنا مصادر متطابقة أن مدن وسط وجنوب العراق وأريافها وعشائرها تشهد طلباً مفاجئاً وواسعاً على شراء السلاح الخفيف والمتوسط وبأسعار مغرية تتجاوز المعدل المتعارف بكثير، مما ولّد مخاوف من هذه الحركة المحمومة وأهدافها وأغراضها.

ومما زاد في هذه المخاوف مجهولية الجهات التي تقف وراءها والمستفيدة من هذه الأسلحة، ولكن المؤكّد أنها فئات ضالة ترتبط بأجندات خارجية هدّامة، و جهات معادية لهذا الشعب المظلوم الذي لا زالت جراحه تنزف، ولهذا البلد الكريم الذي تعبث به أيدي الفساد والقتل والتخريب، وهذه الجهات اللئيمة هي من تريد أن تجهز على هذا الشعب بما تجمعه من هذا السلاح.

إن الحكم الشرعي من هذه الحالة واضح ومجمع عليه وهو تحريم بيع السلاح وان المال المأخوذ ثمناً هو سحت يأكله الآخذون في بطونهم ناراً.

إننا إذ نستغرب اغترار بعض أبناء العشائر بالمال المدفوع إليهم فيمكّنون العدو الداخلي والخارجي من أنفسهم ويعطونه ما يقتلهم به ويذهب عزّتهم وشرفهم، ندعو جميع الغيارى والمخلصين من أبناء الشعب إلى وأد هذه الفتنة

ص: 507


1- نشر في العدد (117) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 26 شوال 1433 المصادف 14 أيلول 2012.

والوقوف في وجه كل من تسوِّل له نفسه هذه المتاجرة المشؤومة(1).وعلى الجهات الحكومية المختصة أن تقف بحزم وقوة من هذه المؤامرة الخفيّة وتعمل على حيازة السلاح في اليد الشرعية والقانونية فقط.

كما نلزم كل الخطباء والمبلغين وأئمة الجمعة والجماعة والكتّاب والإعلاميين وصنّاع الرأي العام كافة أن لا يدخروا جهداً في بيان خطورة هذه العملية والحرمة المؤكدة لهذا الفعل المؤدي إلى القتل والخراب. قال تعالى (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال/25).

محمد اليعقوبي - النجف الأشرف

8/شوال/1433ه 27/ 8/ 2012

توجيهات الى مرشدي قوافل الحجيج

توجيهات الى مرشدي قوافل الحجيج(2)

دأب سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) على اللقاء بمرشدي قوافل الحجاج قبل انطلاقهم الى الديار المقدسة، وقد عقد الملتقى هذا العام يوم الخميس 3/ذ.ق/1433 المصادف 20/ 9/ 2012 والقى سماحته كلمة تضمنت عدة

ص: 508


1- أخذ البيان مداه في التأثير وتوقفت هذه العملية وبان للجميع صحة ما توقعه سماحة المرجع (دام ظله) إذ تكدس السلاح في المناطق الغربية واستعمل للتمرد على الدولة والاعتداء على الشعب والمؤسسات بغطاء مخيمات الاعتصام والاحتجاج.
2- نشر في العدد (118) من صحيفة الصادقين الصادر في الثالث من ذي الحجة 1433 المصادف 19 تشرين الأول 2012.

توجيهات، منها:1- ان الحاج هو اوضح مصاديق اليتيم المعنوي المنقطع عن ابيه المعنوي، لانه يؤدي اعمالاً ومناسك لا يعرفها ولم يتعرض لها سابقا وفي ديار غربة بعيدا عن الاهل والوطن، ويخشى الاخلال والتقصير حيث يتعسر المجيء مرة اخرى الى تلك البقاع المباركة، فتراه منقطعاً الى ربّه ومتشبثاً بمن يدلّه على تفاصيل عمله.

فرعاية الحجيج وارشادهم وبذل الوسع في تعليمهم وقضاء حوائجهم من الطاعات العظيمة، وتعرّضٌ للنفحات الالهية الخاصة التي وردت في الحديث الشريف عن الامام العسكري (علیه السلام) قال ((حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال: أشدُّ من يتم اليتيم الذي انقطع عن ابيه: يتم يتيم انقطع عن امامه ولا يقدر على الوصول اليه ولا يدري كيف حكمه فيما يبتلي به من شرائع دينه ألا فمن كان من شيعتنا عالما بعلومنا وهذا الجاهل بشريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا يتيم في حجره الا فمن هداه وارشده وعلّمه شريعتنا كان معنا في الرفيق الاعلى))(1)

2-يوجد شعور لدى المسلمين عامة بالضعف والانهزام امام الدول المستكبرة، وكان هذا واضحا في ردود الافعال بعد صدور الفلم والصور الكاريكاتورية المسيئة ونحوها من الافعال المشينة، فبيّنوا لهم ان الحقيقة هي عكس ذلك، وان قيام الاعداء بهذه الامور دليل انهزامهم وعجزهم عن تطويق الاسلام والحد من تقدمه وانتشاره في بلادهم، وذكّروهم بالردود العملية التي

ص: 509


1- راجع التفاصيل في: خطاب المرحلة: 6/ 229

يجب أن يقوموا بها والتي اشرنا الى بعضها في خطاب آخر، وان لا تستفزهم مثل هذه الافعال فتدفعهم الى ارتكاب ما يشين الاسلام والمسلمين، فان عرض الصورة النقية السامية للاسلام أمانة في اعناق جميع ابنائه، وأن يكونوا زينا للاسلام والنبي (صلی الله علیه و آله) وآل بيته (صلوات الله عليهم اجمعين) وليس شيناً، وحينئذ سيساهمون في بسط عزة الاسلام ورفعته وإعلاء كلمة الله تعالى.وربما سمعتم انه سُمِحَ لاول مرة في المانيا برفع الاذان علنيا من مكبرات الصوت في المسجد، فارتفع صوت المؤذن بالشهادات الثلاث علنا من على مآذن المركز الاسلامي في هامبورغ ليكون مناراً لهداية المزيد من الناس ونرى اليوم زحف الاسلام والتشيع الى كل بقاع الارض، حتى ان أحد المهتمين بالشأن الافريقي سُئِل عن عدد الشيعة في الدول الافريقية، قال كل مسلمي افريقيا من الشيعة والموالين لاهل البيت (علیهم السلام) لو حصل التفات لهم من قبل الحوزات العلمية خصوصا النجف الأشرف، وهذا ما يحمّلنا مسؤوليات اضافية واسعة.

3-ان الائمة المعصومين (علیهم السلام) لم يكونوا يكتفون بالجلوس في مقراتهم وانتظار من يأتيهم للسؤال والحوار، وانما كانوا يقصدون تجمعات الحجاج حيث يتواجدون ليوصلوا اليهم صوت الهداية والسعادة، وهكذا كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) في تبليغ دعوته حتى وصفه امير المؤمنين (علیه السلام) بأنه (طبيب دوار بطبّه).

فعلى السادة المحترمين من المرشدين والمرشدات الانتشار بين الحجيج والوصول اليهم في مقر اقامتهم حيثما كانوا خصوصا حجاج الدول النائية التي لم تسنح لها فرصة التعرف على الاسلام الحقيقي الذي جسّده أهل بيت النبوة (ع).

ص: 510

السيد الكشميري يدعو إلى نصرة المرجعية

السيد الكشميري يدعو إلى نصرة المرجعية(1)

فضيلة العلامة السيد محمد حسن الكشميري (دامت بركاته) من الخطباء الواعين الرساليين المشهورين، وقد استمر عطاؤه المثمر حوالي نصف قرن حتى الآن (أدام الله وجوده المبارك) وفي دول عديدة في العالم، وقد أخذ الخطابة في شبابه على يد المرحوم شيخ الخطباء الشيخ محمد علي اليعقوبي (جد سماحة المرجع اليعقوبي) وهو يشيد بهذا التلمّذ دائماً.

وقد دأب سماحته على زيارة الشيخ المرجع إذا ورد النجف الأشرف لزيارة مرقد جدّه أمير المؤمنين (علیه السلام) من قم المقدّسة، وكانت إحدى زيارته يوم 5/ذ.ق/1433 المصادف 22/ 9/ 2012 ورأى بعينه التفاف الشباب ومختلف طبقات المجتمع على المرجعية الرشيدة وازدحامها في مكتبه العامر فتحدث إليهم بكلمات رقيقة وشجاعة، ومما جاء فيها (لما انظر إلى قناة النعيم الفضائية واستمع إلى الأحاديث الروحية التي تهذب وتربي وتنمي روح المعرفة عند المؤمنين: اغبط سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) على هذا التوفيق، وليت هذا المنحى كان مستعملاً قبل أربعين أو خمسين سنة، إذن لتغيّر وجه المسلمين في العالم، ولتغيّر وجه الشيعة في العالم، لم يكن هذا مألوفاً عدا ما قام به الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه) في الجمهورية الإسلامية عندما كان يخاطب الشعب مباشرة، والناس تصغي إليه وتأخذ من فمه مباشرة بلا واسطة من فلان أو فلان، فقد كنا قبل خمسين سنة وكانت تصلنا توصيات وأقوال المرجع

ص: 511


1- نشر في العدد (118) من صحيفة الصادقين الصادر في الثالث من ذي الحجة 1433 المصادف 19 تشرين الأول 2012 .

الفلاني ولكن لم نكن نعرف مصدرها وجذورها وما فيها من زيادة ونقيصة.ولكن الحمد لله الآن شباب العراق وشباب الدول المجاورة حتى الدول ما وراء البحار يستمتعون بنكهة خاصة لأنهم يستمعون مباشرة إلى النصائح والاصلاحات.

حينما نشاهد على الشباب مظاهر الميوعة نشعر بالاحباط، ولكن حينما يوفقنا الله تعالى للحضور في هذا المجالس ونرى هؤلاء الشباب بين يدي مرجع من مراجع الشيعة نُعطى شحنة معنوية ودفئاً نفسياً وأعتقد بدون شك بأن هذا المشهد من أشق المشاهد عذاباً على ابليس وعلى الاستكبار العالمي لأنه لا يريدكم أن تكونوا هنا، بل يريد أن تكونوا –والعياذ بالله- في أجواء المعصية والانفلات والترهّات.

انكم بدعمكم للمرجعية العاملة كأنكم في خنادق القتال تدافعون عن رسالة الإمام الصادق (علیه السلام)، وان حضوركم هنا وما يترتب عليه بعد ذلك جزء من العمل برسالة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ورسالة الأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين)).

ص: 512

تعليق على دعوات البيعة لسماحة الشيخ اليعقوبي على مواقع التواصل الاجتماعي

تعليق على دعوات البيعة لسماحة الشيخ اليعقوبي على مواقع التواصل الاجتماعي(1)

تناهى إلى سمع سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) انتشار دعوات على مواقع التواصل الاجتماعي للاجتماع في النجف الأشرف في ذكرى بيعة الغدير والتوجه إلى سماحته لتجديد البيعة.

وقد تحمّس لهذه الحركة جمع كبير وبدأوا الاستعداد للمشاركة خصوصاً بعد حديثي سماحته قبل أيام عن لزوم الإعلان عن الهوية وتعيين السيد الشهيد الصدر الثاني (قده) الخليفة من بعده.

وقد علّق سماحته عن هذه الحركة بأن الفعاليات التعبوية الميدانية مفيدة لإدامة روح العمل في جسد الأمة، إلا أن مثل هذه الحركة الآن قليلة الجدوى، بل قد تضرُّ من بعض الجهات، واننا نكتفي من الأنصار بمشاركتهم وتعبئتهم في الزيارة الفاطمية عند أمير المؤمنين (علیه السلام).

ولفت سماحته إلى أن البيعة الحقيقية هي في الالتزام بما أمر الله تعالى ورسوله الكريم (صلی الله علیه و آله) والأئمة المعصومون (علیهم السلام)، والعمل بتوجيهات المرجعية الرشيدة التي تصدر تباعاً، ولا زال الكثير منها طيَّ النسيان والغفلة والتكاسل والتقصير.

وقال سماحته أن البديل عن هذه الحركة التي غالباً ما تكون عاطفية ينتهي

ص: 513


1- نشر في العدد (119) من صحيفة الصادقين الصادر في 16 ذ.ح 1433 المصادف 1 ت2 2012.

أثرها بانتهاء الفعالية، هو التحرك بالمشروع على الآخرين وإقناعهم بالحق الذي دلّكم الله تعالى عليه بالحكمة والموعظة الحسنة من دون استفزاز ولا تشهير ولا تسقيط ولا إتهام ولا تخوين.فإن من أبرز سمات البيعة –كالتي حصلت لرسول الله (صلی الله علیه و آله)- هي الطاعة أولاً والمؤاخاة بين المؤمنين ثانياً فحصول العكس –لا سامح الله- يعني أن البيعة لا قيمة لها. وفّق الله تعالى الجميع لما يحبّ ويرضى.

تعليق على قرار المحكمة الاتحادية حول توزيع المقاعد الشاغرة

تعليق على قرار المحكمة الاتحادية حول توزيع المقاعد الشاغرة(1)

رحّبَ سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) باستجابة المحكمة الاتحادية العليا(2) لبيان سماحة المرجع في عدم عدالة توزيع المقاعد في الانتخابات والجهد الذي قام به اتباع المرجعية في اقناع الكتل السياسية والجهات الدولية الفاعلة في العراق فأصدرت قرارها القاضي بعدم دستورية الفقرة (خامساً) من المادة (13) من قانون انتخابات مجالس المحافظات والأقضية والنواحي رقم (36) لسنة 2008 والذي كان يمنح المقاعد الشاغرة للكتل التي تجاوزت القاسم الانتخابي خلافاً لإرادة الناخبين.

وأيّد سماحته لنفس السبب ردّ المحكمة الشقّ الثاني من دعوى المعترضين

ص: 514


1- نشر في العدد (120) من صحيفة الصادقين الصادر في يوم الأربعاء 19 ذ.ح 1433 المصادف 14 ت2 2012.
2- صدر القرار بتاريخ 22/ 10/ 2012.

الذي تضمّن المطالبة لمنح تلك المقاعد للكتل التي حصلت على أعلى الأصوات دون القاسم الانتخابي والتي تُسمّى بالخاسرة.وقد كلّفت المحكمة السادة والسيدات أعضاء البرلمان بتشريع نص يؤمّن تطبيق الدستور يكون بديلاً عن الفقرة المذكورة.

وقال سماحته في تعليق على قرار المحكمة المذكور بأن التوزيع العادل للمقاعد المتبقية هو لصاحب الكسر الأعلى سواء كان من القوائم التي تجاوزت القاسم الانتخابي أو لم تتجاوزه، وهذا هو مقتضى قاعدة العدل والإنصاف وسيرة العقلاء في توزيع الأشياء غير القابلة للانكسار فلو حصلت القائمة (أ) على (3.9) مقعداً والقائمة (ب) على (3.7) مقعداً والقائمة (ج) على (1.2) مقعداً والقائمة (د) على (0.8) مقعداً، وبعد توزيع الأعداد الصحيحة من المقاعد، كانت المتبقية مقعدين أُعطي أحدهما للقائمة (أ) لأنّ كسرها المتبقي بعد اعطاء المقاعد الصحيحة (0.9)، واعطي الثاني للقائمة (د) لأنّ كسرها (0.8).

وإذا كانت المقاعد المتبقية ثلاثة اعطي الثالث للقائمة (ب) لأن كسرها (0.7)، ويُضاف هذا المقعد الممنوح للعدد الصحيح من المقاعد الذي حازته القائمة أصلاً.

وقد أوضحنا ذلك بالتفصيل والأمثلة في البيان الذي أصدرناه بتاريخ5/ 6/ 2012 والذي أوجد هذه الحركة للاعتراض على هذه الفقرة من قانون انتخابات مجالس المحافظات.

فيرجى من السادة أعضاء مجلس شورى الدولة تقديم المشورة بهذه الصيغة

ص: 515

إلى أعضاء مجلس البرلمان ليتخذوا قرارهم الموافق للدستور والحامي لأصوات الناخبين وإرادتهم، والذي يصب في بناء ديمقراطية سليمة، ويكون خطوة على طريق الإصلاح السياسي، والله الموفق.

(جامعيون) يستعيد نشاطه وحيويته

(جامعيون) يستعيد نشاطه وحيويته(1)

استقبل(2)سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) نخبة من أساتذة جامعة ذي قار ممن استجابوا لدعوة سماحته في أن يستعيد كيان (جامعيون) دوره ونشاطه، وعبّر سماحته عن ضرورة هذه الحركة لأن الكيان لم يستنفد أغراضه، ولا زالت الأهداف من تأسيسه قائمة، وذكّر سماحته بجملة منها وهي:

1-المحافظة على الهوية الإسلامية والوطنية للجامعات.

2-دعم الكفاءات العلمية والمهنية والسعي لوضعها في الموقع المناسب لكي يبنى البلد بمهنية وموضوعية.

3-مساعدة الطلبة المحتاجين والمتعففين لكي يتمكنوا من مواصلة دراستهم، والارتقاء بمستوى الخدمات المقدّمة لطلبة الجامعات.

4-تكريم المتفوقين مادياً ومعنوياً، والعمل على رفع المستوى العلمي لأساتذة وطلبة الجامعات.

5-تحقيق التواصل بين الجامعات وتبادل الخبرات وآليات العمل المثمر.

ص: 516


1- نشر في العدد (120) من صحيفة الصادقين الصادر في يوم الأربعاء 19 ذ.ح 1433 المصادف 14 ت2 2012.
2- تاريخ اللقاء 1/ذ.ح/1433، المصادف 17/ت1/ 2012.

6-توثيق العلاقات بين الجامعات والحوزات العلمية الدينية، واستضافة العلماء والخطباء في أروقة الجامعات، وإقامة المؤتمرات المشتركة.

7-إبراز العلاقة الوثيقة بين العلم والدين من خلال عقد ملتقى العلم والدين والندوات التي تعزز هذه العلاقة.

8-إشراك طلبة الإعداديات في الفعاليات المذكورة لتأهيلهم قبل الدخول في الجامعات.

9-تنظيم السفرات المبرمجة إلى العتبات المقدسة والالتقاء بمراجع الدين والعلماء والاستفادة من توجيهاتهم.

10-إقامة الفعاليات التعبوية المختلفة كمعارض الكتب وإحياء الشعائر الدينية والمناسبات الوطنية.

ونصح سماحته بعدم تحويل الكيان إلى حزب سياسي لأنه سيحجّم دوره ويعيقه عن تحقيق الأهداف النبيلة أعلاه، خصوصاً وان ثمرة المشاركة في العملية السياسية وهي تمكين الكفاءات العلمية من الوصول إلى مصادر القرار مكفولة لهم من خلال وجود إخوانهم المؤمنين بمشروعهم في العملية السياسية.

ودعاهم سماحته إلى الانفتاح على النخب المؤهلة في الجامعات الأخرى لإعادة تفعيل الكيان على صعيد المحافظات جميعاً بإذن الله تعالى.

ص: 517

سماحة الشيخ الصفار ينصر المرجع اليعقوبي في مواقفه

سماحة الشيخ الصفار ينصر المرجع اليعقوبي في مواقفه(1)

تلقى سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) اتصالاً(2) هاتفياً من سماحة المفكر الإسلامي العلامة الشيخ حسن الصفار من أبرز العلماء في شرق المملكة السعودية، وتبادل معه هموم وقضايا العالم الإسلامي عامة والشيعي خاصة.

وقال سماحة الشيخ الصفار أنه حرص في هذا الاتصال على مؤازرة سماحة الشيخ اليعقوبي في تصدّيه لإصلاح الشعائر الحسينية وتهذيبها من الطقوس الدخيلة عليها، وأثنى على شجاعة الشيخ المرجع وهو يطلق هذا النداء من نفس مدينة النجف الأشرف، وان واجب المرجعية الرسالية دائماً هو تحمل مسؤولية المحافظة على الدين نقياً من الشوائب والتحرك به لإقناع الناس بهذا المشروع الإلهي. وقال انه اتصل بجملة من العلماء في إيران والعراق والخليج ولبنان لنصرة مواقف سماحة الشيخ المرجع واستنكار المهرّجين والمحرّضين ضد سماحته.

ومن جهته فقد شكر سماحة الشيخ المرجع هذا الاتصال وهذه النصرة وأكّد على مضّيه في أداء واجباته بلطف الله تبارك وتعالى، لأن السكوت عن الانحراف يؤدي إلى توسّعه وانحداره أكثر فأكثر، وان المؤدّين للشعائر بعواطف مخلصة وصادقة وبفتاوى مرجعية يحظون بحبنا واحترامنا، وانما ننكر فعل من يتاجر بقضية الحسين (علیه السلام) حتى حوّلها إلى دكاكين يستدرّ بها الدنيا،

ص: 518


1- نشر في العدد (121) من صحيفة الصادقين الصادر في يوم الخميس 28 محرم 1434 المصادف 13 ك1 2012.
2- تاريخ الاتصال 17 محرم 1434 المصادف 2/ 12/ 2012.

واني أشفق على البعض حينما أراه مهووساً على المنبر ويدعو بحركات مبالغ فيها إلى الإصرار على فعل بعض الطقوس المبتدعة لأغراض يعلمها الله تبارك وتعالى.وقال سماحة الشيخ المرجع اننا نخشى أن يتحول ديننا إلى دين عوام يحتوي على تشريعات ما أنزل الله بها من سلطان يفتي بأحكامه منشدو المراثي الحسينية، وذكر سماحته (فتاوى) مضحكة لهؤلاء تدل على جهلهم وتخلّفهم وعدم ورعهم.

من يتصدى للمجالس الحسينية مجاناً

علّق(1) سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) على قول بعض الخطباء الحسينيين أنه يقرأ مجالسه (مجاناً)، بأنه فعل مشكور عند الله تعالى ورسوله والمؤمنين ويدل على اخلاص صاحبه بإذن الله تعالى، لكن يجب تصحيح الفكرة التي تُفهم معكوسة، لأن من يقرأ (مجاناً) من الخطباء ومنشدي المراثي الحسينية هو من يطلب الأجور على عمله لأن كل جزائه سيكون هذا المال، الذي لا قيمة له في نفسه في ميزان الأعمال الإلهية، وليس له في الآخرة من نصيب لأنه رضي بهذا الثمن جزاءً على عمله، كما ورد في زيارة العيدين في وصف الذين خرجوا لقتال الإمام الحسين (علیه السلام) (وقد توازر عليه من غرّته الدنيا وباع حظّه من الآخرة بالأدنى).

ص: 519


1- تاريخ الحديث 17 محرم 1434 المصادف 2/ 12/ 2012. ونشر في العدد (121) من صحيفة الصادقين الصادر في يوم الخميس 28 محرم 1434 المصادف 13 ك1 2012.

أما من لا يطلب الأجر على عمله ويحتسبه عند الله تعالى فإنه العاقل الذي عرف الثمن والجزاء الحقيقي للعمل الذي سيقبضه من الله تعالى ورسوله يوم الجزاء. وفي ضوء هذا يعرف من الذي أدّى هذه الوظيفة المقدّسة مجاناً.من الجدير بالذكر ان سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي يوصي الخطباء والمرشدين والمبلغين دائماً بعدم أخذ الأجرة على عملهم ليكون مخلصاً لله تبارك وتعالى وتتعهد المرجعية بدفع المصاريف والمكافآت على العاملين بإذن الله تعالى.

النظام السياسي الجديد يكرّم القتلة المجرمين ويهمل ضحايا صدام

استقبل(1) سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) الشهيد الحي السيد جبار الغالبي أحد الناجين من المقابر الجماعية التي أنشأها صدام المقبور عقب الانتفاضة الشعبانية عام 1991 والذي يظهر في كثير من الصور يقوده أزلام صدام ويضربونه ويركلونه بأمر المقبورين علي الكيمياوي ومحمد حمزة الزبيدي، فكان السيد الغالبي من الشهود النوادر على تلك الجريمة البشعة بحق الإنسانية.

وقد تحدّث جناب السيد عن ظروف اعتقاله في ضواحي مدينته الغراف عندما اجتاحت قوات الحرس الجمهوري المدن المنتفضة في وسط وجنوب

ص: 520


1- تاريخ اللقاء 18 محرم 1434 المصادف 3/ 12/ 2012. ونشر في العدد (121) من صحيفة الصادقين الصادر في يوم الخميس 28 محرم 1434 المصادف 13 ك1 2012.

العراق ثم اقتيدوا إلى معتقل الرضوانية الرهيب في بغداد مع الآلاف من أبناء الشعب العراقي الأبيّ، وكانت المجاميع تلو المجاميع تساق إلى التعذيب والإعدام أمام عينه.وبعد (54) يوماً قضاها في الاعتقال قيّض الله تعالى له ضابطاً من أبناء الموصل عرف انه من نسل رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأمّن له طريقاً للهروب من المعتقل هو وثلاثة من زملائه إلى البساتين المحيطة بالمنطقة، أراد بذلك أن يكرّم رسول الله (صلی الله علیه و آله) في ذريته، ثم قضى تلك السنين العجاف متخفياً ومتنقلاً بين المدن والقرى.

وبعد سقوط صدام اللعين ظنّ أن النظام الجديد الذي قام على دعاوى مظلومية الشعب العراقي سينصفه ويضمن له حياة كريمة تعوضه عن السير مما لاقاه من بطش النظام، إلا أن شيئاً من ذلك لم يحصل، وباءت محاولاته بالفشل ولم يحصل على شيء لأنه لا يحتفظ ب- (مقتبس حكم) ونحوها من التبريرات، مع أن الأفلام التي توثق اعتداء أزلام النظام على الأبرياء في الناصرية بقيادة المقبورين علي حسن المجيد الكيمياوي ومحمد حمزة الزبيدي، يظهر فيها السيد الغالبي وهو يتعرض للاعتداء والضرب.

وبعد أن رحب سماحة الشيخ بضيفه واستقبله بحفاوة بالغة: عبّر عن ألمه وخيبة أمله بهذا النظام السياسي الجديد الذي تسلّق السلطة رافعاً لواء المظالم التي تعرّض لها الشعب العراقي خصوصاً ضحايا المقابر الجماعية، وما إن ترسخت قدمه حتى أدار ظهره للمحرومين والمظلومين الذين عاشوا تلك المحنة التي أهلكت الحرث والنسل.

ص: 521

وقال سماحته: ان العقلاء والأمم المتحضرة تحتفظ بأي أثر لتاريخها وأحداثها فتجعل متحفاً لثياب هذا وأدوات ذاك حتى الحذاء الذي كان يلبسه، وتحتفل برموزها وتحيطهم بالرعاية الكاملة، وتوظف أقلامها وكتبها لتسجيل إفادة الشهود على العصر وتدوينها لأنها لا تمثل تاريخ شخص معين بل تاريخ أمة بكاملها خصوصاً مثل هذه الأحداث التي عاشها السيد الغالبي والتي تمثل نكسة وانحطاطاً كبيرين، سوّدا تاريخ الإنسانية.واستغرب سماحته من المفارقات التي نعيشها في ظل النظام السياسي الجديد، فبينما يقدم ضابط (سني) من أبناء الموصل الحدباء كان في خدمة صدام على إطلاق سراح (شيعة) وهو يعلم أن أقل عقوبة ستصيبه هي الإعدام بالأساليب الوحشية، لا لشيء إلا للتقرب إلى الله تعالى ورسوله، لكن النظام الجديد الذي يتزعمه الشيعة يمتنع عن توفير أبسط استحقاقات هؤلاء المحرومين.

وبينما تصدر القرارات تلو القرارات ل- (إنصاف) أزلام النظام البائد من رواتب تقاعدية ضخمة ورتب رفيعة وتعويض عن المدة من السقوط إلى الآن باسم المصالحة الوطنية وهم يقيمون في الدول المجاورة للتآمر على العراق وشعبه، ويمنحون الوظائف العسكرية والمدنية المهمة في الدولة وهم يستغلون وجودهم فيها لتخريب البلد وسرقة المال العام وإهانة الشعب وسحق كرامته.

وفي مقابل ذلك يحرم الشرفاء المضحون الذين أبوا الخضوع لصدام وانتفضوا لمواجهة بطشه وظلمه من أبسط حقوقهم، وعندما يراجعون الدوائر يسألون بسخرية: لماذا لم يعدمكم صدّام.

ص: 522

هذا هو الوضع البائس الذي نعيشهِ، والذي يضاعف علينا مسؤولية السعي لإصلاحه وإعادته إلى الوضع الطبيعي الذي يرضي الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام)، وان ابراز مثل هذه المظالم تخلق الحوافز لدى الشعب ليعي دوره وواجبه في اختيار المخلصين المتفانين في خدمته.وفي ختام اللقاء وعد سماحة المرجع ببذل الوسع في تحصيل ما يمكن من حقوقه، وتشكّر الضيف من تعاطف سماحة المرجع معه واهتمامه بأمره والحفاوة التي استقبله بها.

ص: 523

سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) يستقبل سماحة السيد مقتدى الصدر (دامت تأييداته)

سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) يستقبل سماحة السيد مقتدى الصدر (دامت تأييداته)(1)

استقبل(2) المرجع الديني سماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) في مكتبه في النجف الأشرف سماحة السيد مقتدى الصدر (دامت تأييداته) في زيارة ودية بين أبناء السيد الشهيد الصدر الثاني (قده) .

وابتدأ الحديث حول التراث العلمي والفكري للسيد الشهيد الصدر (قده) وضرورة توسيع مديات نشرهِ الى ابعد ما يمكن، واثنى سماحة الشيخ على مشروع سماحة السيد في اصدار موسوعة كاملة لآثار السيد الشهيد الصدر (قده) وابدى استعدادهُ لتقديم ما لديه من بحوث وكتابات بخط السيد الشهيد (قده) للمشاركة في هذه الموسوعة.

كما تطرق الحديث إلى الجهد العلمي المتميز الذي بذله السيد الشهيد الصدر في الحوزة العلمية في النجف الأشرف وكان لسماحة الشيخ اليعقوبي الأثر الواضح فيه من خلال تنقيحه لمختلف المواضيع في كتب الفقه والأصول.

و تحدث سماحة المرجع حول ضرورة تصدي المؤهلين لمواقع المسؤولية لكونه يمثل فرصة كبيرة ترفع الظلم عن المؤمنين ورفع الجور والحيف عنهم وتحقيق لمصالح الشعب العراقي.. وابسط ما يمكن تقديمه وهو ايجاد فرصة

ص: 524


1- نشر في العدد (123) من صحيفة الصادقين الصادر في يوم الجمعة 13 ربيع الأول 1434 المصادف 15 ك2 2013.
2- تاريخ اللقاء 27 /صفر/ 1434.

عمل لأحد المؤمنين وهي كبيرة في ميزان الاعمال لانها تُعد صدقة جارية وباب كبير من أبواب إجابة الدعاء.كذلك تطرق الحديث الى ذكريات سماحته مع أستاذه الشهيد الصدر (قده) وكيف مرّت تلك الأيام التي عاشها الذين وُفِّقوا لنصرة السيد الشهيد (قده) حيث كانت أجواء مفعمةً بالإيمان والإخلاص والرسالية والتضحية في تلك الفترة العصيبة، لكن من المؤسف غياب تلك المبادئ السامية التي كانت تحرك المجتمع وتدعوه الى العمل والمثابرة مع الاحتمالات الاكيدة لكل المخاطر.

أما اليوم فقد تبدلت الحوافز والدوافع إلى الأطماع الدنيوية وصار تقديم أي فعل مشروطاً بقبض الثمن، وكان من أسباب ذلك الانفتاح المفاجئ على مُختلف التحديات والمغريات من دون تحصيل الاستعداد الكافي للتعاطي معها، ولو قُدر للمشروع الأمريكي الذي جاء به الاحتلال أن يمضي بلا معوقات لكانت الحال أسوء بكثير، لكن التعقيدات الأمنية التي حصلت وأن كلّفت الشعب العراقي كثيراً إلا إنَ من ثمراتها إحباط المشروع الأمريكي وتحجيم مخاطره على هوية الشعب وثقافته وسيادته وحريته.

وتطّرق الطرفان الى الاحداث الراهنة و التوترات التي تعصف بالشعب العراقي ومحاولة البعض لشحنه طائفياً من اجل تحصيل مكاسب انتخابية، وأكدا على ضرورة استجابة المسؤولين للمطالب المشروعة لكل الشعب العراقي، والتزام الحكمة والرويّة في التعاطي مع مختلف القضايا، وتغليب المصلحة الوطنية العليا.

ص: 525

وان هذه مسؤوليات يشترك فيها الجميع بحسب مواقعهم في ادارة شؤون البلاد.وعبّرا بصراحة عن الامتعاض من فشل السياسيين في تقديم الخدمات للشعب وتقصيرهم في أداء واجباتهم واتخاذ النفاق في التصريحات والمواقف وسيلة للخداع و التمسك بالمواقع والامتيازات.

سماحة المرجع اليعقوبي يزور سماحة السيد مقتدى الصدر

سماحة المرجع اليعقوبي يزور سماحة السيد مقتدى الصدر(1)

قام سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (مد ظله) بزيارة سماحة السيد مقتدى الصدر (دامت تأييداته) في منزل والده السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس) ضمن تحركه لتحذير شعوب المنطقة وقادتها من الخطة الشيطانية التي أعدّت للمنطقة العربية والإسلامية لتمزيقها وتقسيمها إلى دويلات ضعيفة متناحرة وإشغال شعوبها بحرب طائفية طاحنة لا تبقي ولا تذر، وشرح سماحته مضمون بيانه الأخير(2) حول هذه القضية الخطيرة .

كما تعرض سماحة المرجع مع مضيفه إلى الأخطاء القاتلة التي ترتكبها الكتل السياسية والتي كان ضحيتها المواطن ومؤسسات الدولة كلها ، واستعرضا الخيارات المتاحة للتغيير والإصلاح وآليات تحقيقهما خلال المرحلة القادمة ،

ص: 526


1- نشر في العدد (127) من صحيفة الصادقين الصادر في يوم الجمعة 6 رجب 1434 المصادف 17 آيار 2013.
2- وهو الخطاب المعنون ب- (المشاريع الشيطانية التي أعدّت للمنطقة الإسلامية والعربية) وقد تقدَّم ص202.

وان هذا الإصلاح أصبح مطلباً عاماً ، وأكد سماحته على ضرورة تصدي المرجعيات والقيادات الدينية لشؤون الحياة العامة والإحاطة بالملابسات والظروف، لأنها ستزيد من الخبرة والقدرة على اتخاذ القرارات الحكيمة والصائبة، وأنها ستُثري عملية الاستنباط الفقهي برؤية لم يعهدها من مارس العملية نظرياً فقط بعيداً عن الميدان.وذكر سماحته شاهداً على ذلك من خلال تجربته في تدريس كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي شرع في بحثه منذ عدة أشهر.

ومن الجدير بالذكر ان سماحة السيد مقتدى الصدر قام بزيارة سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي في وقت سابق من هذا العام.

الثلاثاء 26/ج2/ 1434ه-

الموافق 7/ 5/ 2013م

إحياء الشعائر الفاطمية في سامراء

إحياء الشعائر الفاطمية في سامراء(1)

نصرة للإمامين العسكريين (ع) وإدخالاً للسرور على قلب الإمام المنتظر (أرواحنا له الفداء) وإحياءاً للشعائر الفاطمية المباركة، فقد توجه آلاف الموالين من بغداد والنجف الأشرف إلى سامراء يوم الأربعاء 15/ج1/ 1434 المصادف 27/ 3/ 2013.

وعند ترجّل الزوار من حافلاتهم ألقى فيهم أحد الفضلاء كلمة ترحيب

ص: 527


1- نشر في العدد (125) من صحيفة الصادقين الصادر في يوم الثلاثاء 21 ج1 1434 المصادف 2 نيسان2013.

وتوجيه ثم انطلق تشييع لنعش رمزي للزهراء (علیها السلام) مصحوباً بشعارات الولاء والثبات حتى الروضة العسكرية المطهّرة، حيث ارتقى المنبر عدد من الخطباء وأنشدت المراثي وتليت سيرة مختصرة للصديقة الطاهرة (علیها السلام) حتى استشهادها.وقد كانت حركة المواكب منتظمة وأداؤها رائعاً، كما قامت الأمانة العامة للعتبة العسكرية والقوات الأمنية بتأمين الخدمات والطرق المؤدية، ومما يلفت النظر ويزيد بهاء هذه الشعيرة المقدسة الحضور الكثيف لفضلاء الحوزة العلمية وأئمة المساجد، وكذا المواكب النسوية.

وانتهت الشعائر بصلاة الظهرين جماعة وشكر المشاركين على حضروهم رغم التوترات السياسية والأمنية ليقدّموا دليلاً على صدق ولائهم للائمة الأطهار (ع).

إزالة المزارات الوهمية

حذّر سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) من ظاهرة وجود وانتشار المزارات المنسوبة إلى أولاد الأئمة (علیهم السلام) والصالحين من دون التحقيق في صحة نسبتها إلى أصحابها ودراسة حال الشخص الذي يُنسب إليه المزار.

وقال سماحته لدى استقباله(1) وفد المديرية العامة للمزارات في ديوان الوقف الشيعي أن كثيراً من هذه المراقد وهمية صنعها بعض ذوي النفوس

ص: 528


1- تاريخ اللقاء السبت 18 ج1 1434 المصادف 30/ 3/ 2013. ونشر في العدد (125) من صحيفة الصادقين الصادر في يوم الثلاثاء 21 ج1 1434 المصادف 2 نيسان2013.

المريضة الذين لا ورع لهم ولا دين ليجمعوا بها الأموال من السذّج والجهلة ويروون لهم كرامات مفتعلة.وهذه ظاهرة ابتلي بها الشيعة ليس في العراق فقط بل في الدول الأخرى التي لهم وجود فيها وقد ثبت بالدليل القاطع أنها لا أصل لها وإنما نسبت إلى الصالحين لأغراض عديدة.

وقال سماحته: إن أعداء أهل البيت (علیهم السلام) يشجعون هذه الظاهرة ويفرحون بها لأنها تحقق مآربهم في تشتيت الشيعة وتحويل أنظارها إلى هذه المزارات الوهمية بدل التوجه إلى المراقد المطهّرة للأئمة المعصومين (علیهم السلام).

لذا لابد من وقفة شجاعة وواعية لاجتثاث هذه الظاهرة وإزالة هذه الأوكار للجهلة والحمقى والماكرين وعلى ديوان الوقف الشيعي أن يتحمّل مسؤوليته بمعاونة القوات الأمنية والله الموفّق.

ص: 529

في تأبين الفقيد سماحة آية الله الشيخ عبد الهادي الفضلي

في تأبين الفقيد سماحة آية الله الشيخ عبد الهادي الفضلي(1)

فُجع العالم الإسلامي برحيل سماحة آية الله الدكتور الشيخ عبد الهادي الفضلي، وفقد بوفاته عالماً رسالياً مصلحاً مثقّفاً أديباً حصيفاً، ونحن بأمسِّ الحاجة لجهود أمثاله ممن اجتمعت فيه هذه الصفات الكريمة لحل مشاكل الأمة والارتقاء بأبنائها.

عرفتُ سماحة الشيخ الفقيد منذ عقود حينما قرأت ما كان ينشر في مجلة الإيمان التي كان يصدرها والدي المرحوم الشيخ موسى اليعقوبي في النجف الأشرف منذ العام 1383/ 1963، حيث شخّص بفطرته ووعيه وإخلاصه منذ سنوات دراسته المبكرة حاجة المناهج الدراسية في الحوزة العلمية إلى

ص: 530


1- من العلماء الأعلام في المملكة العربية السعودية، ولد في البصرة سنة 1354/ 1935 ودرس مقدمات العلوم الدينية عن والده ثم التحق بالحوزة العلمية في النجف الأشرف سنة 1368 وأكمل دراسة المقدمات والسطوح والتحق بأبحاث الخارج عند السيد الخوئي والسيد الحكيم والسيد محمد باقر الصدر والشيخ محمد رضا المظفر والشيخ محمد طاهر آل الشيخ راضي وغيرهم (قدس الله أرواحهم جميعاً). التحق بالدفعة الأولى من طلبة كلية الفقه وتخرج فيها عام 1382/ 1962 وحصل على الماجستير من كلية الآداب في جامعة بغداد عام 1391/ 1971 وعلى الدكتوراه من جامعة القاهرة بدرجة امتياز عام 1396/ 1976. غادر العراق إلى جدة عام 1391/ 1971 حيث عُيِّن استاذاً في جامعة الملك عبد العزيز وبقي مدرساً حتى عام 1409 حيث أحيل على التقاعد، واستقر في الدمام شرق المملكة. أجيز بالرواية من المرحوم الشيخ آغا بزرك الطهراني عام 1374/ 1953، توفي يوم 27/ج1/ 1434 المصادف 8/ 4/ 2013. ونشرت كلمة التأبين في العدد (126) من صحيفة الصادقين الصادر في يوم الأربعاء 6 ج2 1434 المصادف 17 نيسان2013.

التحديث وإعادة النظر لتواكب متطلبات الحياة المعاصرة وتحدّياتها، ولا عجب في ميله إلى المدرسة الإصلاحية فقد كان من طلبة العلاّمة المجدد الشيخ محمد رضا المظفر (قدس سره) في الحوزة العلمية وفي كلية الفقه فتأثّر بآرائه وأفكاره، واختار صفحات مجلة الإيمان ومجلة أضواء التي كانت يصدرها جماعة العلماء في النجف الأشرف ليطلق دعواته تلك، ولم تقف عند حدود التمنّيات والتنظير بل وضع فعلاً بعض الخلاصات للمنطق وأصول الفقه تأسّياً بأستاذه المظفر (قدس سره) واستمر بالدراسة والتدريس حتى حضر بحوث الخارج عند أبرز مراجع وعلماء العصر (قدس الله أرواحهم).كما أدرك (رحمه الله) في ذلك الوقت الفجوة الكبيرة بين الحوزات العلمية والجامعات الأكاديمية بل الشباب والمثقفين عموماً الذين انخرطوا في الحركات السياسية والأيدلوجيات البعيدة عن الدين، فرأى لزاماً عليه أن يعمل ما بوسعه لردم هذه الفجوة المصطنعة بمكر أعداء الإسلام وجهل أبنائه والمدّعين لسدانة مؤسسته الإلهية المباركة، وعرف أن العمل المثمر يكون بولوج هذه الجامعات من أبوابها بأن يكون عنصراً فاعلاً وصاحب قرار فيها فالتحق بكلية الفقه التي أسسها المرحوم الشيخ المظفر وكان من طلبة الدفعة الأولى التي تخرجت عام 1962 ثم واصل دراسة الماجستير والدكتوراه وحصل عليها من القاهرة بامتياز.

ومضافاً إلى ذلك فقد كان أديباً وعضواً في جمعية الرابطة العلمية الأدبية في النجف الأشرف التي أسّسها المرحوم جدّي الشيخ محمد علي اليعقوبي ونخبة من زملائه سنة 1931 وبقي عميداً لها أكثر من 30 سنة حتى وفاته عام 1965.

ص: 531

كل هذا يدل على أنه كان ذا همّة عالية وشعور كبير بالمسؤولية وأمل عريض برفعة الإسلام وعزّة أبنائه، ولم يكتف في عطائه بعمره في الدنيا الذي ناهز الثمانين، بل أضاف له عمراً ثانياً ممتداً بإذن الله تعالى حين طبّق الحديث النبوي الشريف (إذا مات المرء انقطع عمله إلاّ من ثلاث) فترك لنا مؤلفات نافعة ومؤسسات مثمرة وأنجالاً صالحين لتكون له صدقات جارية.لقد رحل فقيدنا الجليل والجميع بحاجة إلى مساعيه الحكيمة للقضاء على الفتن والتوترات التي يعاني منها أحبتنا في أرض الحرمين الشريفين المباركة حرسها الله وأهلها من كل سوء ووقاها شر الأعداء المتربّصين، ونراهن على حكمة العقلاء من جميع الأطراف لتطويق الأزمة وفك عقدها بالحوار البنّاء والابتعاد عن الانفعال والتعصّب، وان يكون هاجس الجميع ازدهار البلد ورفاه أبنائه وعزّتهم وكرامتهم.

تغمّد الله تعالى فقدينا الراحل برحمته الواسعة وألحقه بالصالحين من عباده، وجعل روحه الطاهرة مصدر إلهام لإخواننا في المملكة ولجميع المسلمين في فعل الخيرات، والله ولي المؤمنين.

محمد اليعقوبي -- النجف الأشرف

28/ج1/ 1434ه- 9/ 4/ 2013

ص: 532

بيان حول اقتحام منزل آية الله الشيخ عيسى قاسم(دامت إفاضاته)

بيان حول اقتحام منزل آية الله الشيخ عيسى قاسم(دامت إفاضاته)(1)

قال تعالى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (النور : 36-37) .

ان المساجد ومنازل العلماء الربانيين من هذه البيوت التي أذن الله تعالى برفعها وحرمتها لازمة للجميع، لذا فإننا وسائر المؤمنين والعقلاء نرفض بشدة ما تناهى إلى أسماعنا من قيام قوات الأمن البحرينية باقتحام منزل سماحة آية الله الشيخ عيسى قاسم (دامت إفاضاته) فجر الجمعة 17-5-2013 وتفتيشه وإدخال الرعب على أهله، وهي ليست الوحيدة فقد اقتُحمت المساجد و الحسينيات ودور العلم والعبادة .

إن أي سبب يقال لهذه العملية فهو غير مبرر، وسيصيب فاعلها الندم في الدنيا و الآخرة، كما قال الخليفة أبو بكر نادماً متألماً لاقتحامه بيت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام): (إنى لا آاسى على شئ إلا على ثلاث وددت أنى لم أفعلهن، وددت أنى لم أكشف بيت فاطمة وتركته، وأن أغلق على الحرب)(2).

ص: 533


1- نشر في العدد (128) من صحيفة الصادقين الصادر في يوم الثلاثاء 8 شعبان 1434 المصادف 18 حزيران 2013.
2- ميزان الاعتدال للذهبي 3/ 109 وأوردها جملة من المؤرخين كاليعقوبي في تاريخه : 2/ 137 و الطبري في تاريخه: 2/ 619 و3/ 430 وابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه لنهج البلاغة : 20/ 24.

نحن نحذر الجميع من ارتكاب مثل هذه الأفعال المشينة لانها توجبُ غضباً واحتقاناً وثورةً وان كان ذلك بعد زمن، لذا ندعو إلى التعامل مع الأمور بحكمة ورويّة، وان يكون هذا الألم و المرارة التي اعتصرت قلوب الكثيرين حافزا للسلطة لكي تبدأ حواراً جديا للنظر في المطالب المشروعة للشعب البحريني الشقيق، فان في ذلك بلسماً لجراح المصابين، وردَّ اعتبار ومعالجة لما حصل من انتهاكات . والله ولي التوفيق

تصنيف خطابات سماحة المرجع اليعقوبي

تصنيف خطابات سماحة المرجع اليعقوبي(1)

شرعت لجنة في مكتب سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) بتصنيف خطابات سماحته في مختلف الحقول المعرفية ومجالات الحياة وهموم الأمة ومشاكلها وقضاياها وشرائحها المتنوّعة، ويهدف المشروع إلى جمع إسهامات المرجعية الرشيدة في كلّ حقل وإبرازها ليستفيد منها الباحثون في كلّ مجال وتيسير أمر الوصول إليها، وقد كشف المشروع عن سعة عطاء المرجعية وكثرة القضايا التي تناولتها وتنوّع التعاطي مع كلّ قضية وقد جهزّت اللجنة إلى الآن حوالي (15) كتاباً بفضل الله تبارك وتعالى ونلفت نظر القرّاء إليها تباعاً، ومنها:

1-قواعد في بناء الشباب (نحو تربية رسالية وأخلاقية للشباب: والكتاب يضمّ جملة ممّا قدّمه سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) من خطابات تتّصل بمشاكل يتعرّض لها الشباب المعاصر وما تستهدفهم من شبهات فكرية أو

ص: 534


1- نشر في العدد (131) من صحيفة الصادقين الصادر في يوم الخميس 19 ذ.ق 1434 المصادف 26 أيلول 2013.

أمراض أخلاقية أو ما يرفد حماستهم اليافعة باتجاه توجيهها لخدمة الإسلام والإنسان معاً.والكتاب يشتمل على قواعد مهمّة في الحياة وخصوصاً ما يتعلّق ببناء المستقبل المعنوي الذي ننتظره لشبابنا المؤمن.

كما يتميّز الكتاب بمواعظه المؤثّرة وكلماتها المركّزة النابعة من حكمة المرجعية الرشيدة في توجيه الناس للصلاح والإصلاح، وقد توزّع الكتاب على ما يقرب من (233) من العناوين الفرعية في مختلف الحقوق الاجتماعية والدينية والتنمية البشرية والأخلاقية وغيرها.

2-الدروس الرسالية من حياة الشهيدين الصدرين (قدس سريهما): يشتمل الكتاب على كلمات سماحة المرجع الديني الشيخ اليعقوبي (دام ظله) في ما نستوحيه من حياة المرجعين الشهيدين (قدس سريهما).

وضمّ الكتاب شواهد تأريخية (عاصرها سماحته) كمذكّرات عن تلك الفترة العصيبة من تأريخ الحركة الإسلامية.

ويحقّق الكتاب نقلة نوعية تعلّمناها من سماحة المرجع في الإحياء الواعي للتأريخ وتجارب العلماء ليسخّرها كشواهد حيّة وحلول ناجعة لما نعيشه اليوم من هموم ومشاكل.

وننبّه على أنّ الكتاب ضمّ في آخره ملحقاً في كلمات تأبين عدد من العلماء المعاصرين واستلهام الدروس من جملة ممّا قدّموه من العطاء العلمي والروحي.

ص: 535

مجمع المبلّغات الرساليات

مجمع المبلّغات الرساليات(1)

انطلاقاً من قوله تعالى (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً) (الأحزاب/39) انبثق (مجمع المبلغات الرساليات) للارتقاء بواقع المنبر الحسيني للنساء ليحقّق أهداف الإمام الحسين (علیه السلام) من قيامه المبارك وهو استنقاذ عباد الله من الجهالة وحيرة الضلالة ولطلب الإصلاح في أمة جدّه المصطفى (صلی الله علیه و آله) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما ورد في النصوص الشريفة.

وقد احتضنت جامعة الزهراء (علیها السلام) في النجف الأشرف المؤتمر التشاوري بحضور العشرات من المبلّغات الرساليات من النجف الأشرف وسائر المحافظات يوم 20/ذو الحجة/1434 استعداداً لإحياء شهر العزة والكرامة والحريّة والشجاعة والانتصار ولمناقشة سبل تحقيق هذه الأهداف المباركة وصناعة المبلغات الرساليات بالمواصفات التي يريدها الله تبارك وتعالى ورسوله الكريم (صلی الله علیه و آله) والأئمة الطاهرون (ع) حتى يثمر عملهنّ صلاح الأمة وسعادتها بإذن الله تعالى.

وقد أعدّت اللجنة المشرفة على المؤتمر كراساً مطبوعاً في عناصر شخصية المبلّغة الرسالية ومقوّمات نجاحها وآليات عملها لتوزيعه على المشاركات، وأُعلن عن عقد الملتقى الأول للمجمع في النجف الأشرف بعد شهرَي محرم وصفر بإذن الله تعالى.

ص: 536


1- نشر في العدد (134) من صحيفة الصادقين الصادر في يوم الاثنين 28 محرم 1435 المصادف 2 ك1 2013.

وقد باركت المرجعية الرشيدة هذه الانطلاقة وقدّم سماحة المرجع (دام ظله) بعض الرؤى والتوجيهات لعمل المجمع وطلب أن يكون لهنّ موقع وصفحة على الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي تعرض فيها أدبيات عمل المجمع ليتسنى لمن تحمل هذا الهمّ الرسالي وتشعر بهذه المسؤولية الشريفة الاطلاع عليه والانضمام إليه، والله ولي التوفيق.

آفاق العمل المشترك بين المرجعية الدينية والأمم المتحدة في العراق

آفاق العمل المشترك بين المرجعية الدينية والأمم المتحدة في العراق(1)

بمناسبة تسلّمه لعمله الجديد كرئيس لبعثة الامم المتحدة في العراق، قام السيد نيكولا ميلادينوف(2) بزيارة مراجع الدين في النجف الاشرف ومنهم سماحة المرجع الشيخ محمد اليعقوبي (مد ظله) للاستماع الى توجيهاتهم ونصائحهم.

وبعد الترحيب بالضيف تحدّث سماحة المرجع اليعقوبي عن الدور المهم

ص: 537


1- تاريخ اللقاء 3 /محرم/ 1435 المصادف 7/ 11/ 2013، و نشر في العدد (134) من صحيفة الصادقين الصادر في يوم الاثنين 28 محرم 1435 المصادف 2 ك1 2013.
2- وزير الشؤون الخارجية البلغارية (2010-2013) ولد عام 1972 وحصل على شهادة الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة الاقتصاد الوطني والعالمي في لندن ، عمل مستشار للبنك الدولي (2005-2007) وعضوا في البرلمان الاوربي عن بلغاريا (2007-2009) ووزيرا للدفاع (2009-2010) وكلّف بعدة مهام في عدة دول منها العراق حيث كان عام 2006 مستشارا للجان الدفاع والسياسة الخارجية في البرلمان العراقي ، عُيّن في 2/ 8/ 2013 رئيسا لبعثة الأمم المتحدة في العراق.

والبنّاء لممثل الامم المتحدة في العراق كوسيط بين الفرقاء السياسيين الذين يعانون من ازمة ثقة كبيرة فيما بينهم ويساعد على تقريب وجهات النظر وحلحلة المواقف الخلافية، وكعامل ضاغط لجلب الكتل النافذة الى الحلول الوطنية والانسانية التي تراعي مصلحة البلد والشعب لانشغال تلك الكتل بحسابات مصالحها الخاصة وتغليبها على المصالح الوطنية العامة، كما ان للأمم المتحدة وعموم المجتمع الدولي دوراً بناءاً في عملية التنمية التي يشهدها العراق الجديد من اجل تحقيق التقدم والازدهار باستقدام الخبراء وعقد المؤتمرات والندوات والمساهمة في وضع الخطط الادارية والاستراتيجية .وذكر سماحة المرجع ضمن توجيهاته عدة نقاط (منها) مراعاة خصوصيات الشعب العراقي والظروف التي يعيشها عند تبني بعض المواقف (ومنها) التأكيد على الوحدة الوطنية وحفظ النسيج الاجتماعي ورفض كل مشاريع التقسيم والتناحر (ومنها) المساعدة على اتخاذ القرارات التي تحفظ حقوق الشعب جميعاً على اساس المواطنة وتحقق العدالة الاجتماعية (ومنها) التروي في النظر للقضايا الخلافية وعدم التعجل في اتخاذ مواقف بإزائها لتكون البعثة جزءاً من الحل لا جزءاً من المشكلة (ومنها) المساهمة الفاعلة في عملية التنمية والقضاء على الظواهر التي يعاني منها الشعب العراقي والدولة العراقية كالفساد والفقر والأمية والصراعات المتنوعة والتخلف في جميع المجالات.

وأثنى سماحة المرجع على جملة من الانجازات التي حققتها البعثة في عدة مجالات ومنها المساعدة في اقرار قانون الانتخابات البرلمانية مؤخراً.

ثم بدأ السيد الضيف بطرح اسئلته التي كان يعبّر من خلالها عن القلق من

ص: 538

عدة مخاطر حالية او مستقبلية تحيط بالعراق، كالانزلاق بالحرب الطائفية وإمكان قيام الشيعة بردود افعال واسعة رداً على ما يتعرضون له من تفجيرات وقتل او التصعيد وتفجّر الاوضاع قُبيل الانتخابات ومساهمة اقرار بعض القوانين في استقرار الوضع في العراق وحل مشاكله كالمجلس الاتحادي وقانون الاحزاب، وماذا علينا ان نعمل لإصلاح الاوضاع في العراق.واجاب سماحته عن احتمال الحرب الطائفية بأن الشيعة متدينون وملتزمون بأحكام ربهم، والله تعالى يقول : (ولا تزرُ وازرةٌ وزرَ أخرى) فلا يؤاخذون البريء بجريرة المجرم ولا يمكن معاقبة اي واحد من ابناء السنة لمجرد ان حثالة من القتلة والمجرمين يقومون بأفعال وحشية ويدّعون انتسابهم الى هذه الطائفة، والشواهد على ذلك كثيرة كالذي حصل بعد سقوط نظام صدام الذي قتل وعذّب مئات الاف الشيعة الا ان احداً منهم لم يجعل ذلك مبرراً للانتقام أو تصفية الحسابات وكانت المرجعية حازمة وواضحة في بيان هذا الموقف ومرّت تلك الفترة بهدوء وسلام ووئام .

لكن هذا الموقف العام والثابت للمرجعية واتباعها لا يغلق الباب نهائياً لاحتمال قيام البعض بردود افعال انتقامية نتيجة الالام التي يعانونها او بدفع وتحريض من بعض الجهات .

وان الصراعات والنزاعات التي يشهدها العراق هي سياسية بامتياز - نتيجة تقاطع المصالح واصطدام الارادات وتدخل الدول الخارجية – وانما تغلف بأطر طائفية وقومية لتسويقها على الناس وتحشيد اكبر عدد منهم كوقود لهذه الصراعات، وشهد تأريخ العراق بعدم وجود مشكلة طائفية تمزّق النسيج

ص: 539

الاجتماعي ولكن صراعات السياسيين والمتطرفين من الطوائف والاعراق كافة وتأجيجهم وتحريضهم عبر وسائل الاعلام هو الذي يهدد هذا النسيج ويقطع حبال المودة .كما ان تدخل القوى الخارجية ومحاولتها تسيير الاحداث وتوجيه مؤيديها بما يخدم مصالحها ويعزز نفوذها وهيمنتها في العراق ، يصب الزيت على النار ويزيد هذه الصراعات اشتعالاً ، وان كثيرا من العنف والصراع الذي يجري بالعراق هو قتال بالنيابة عن مصالح تلك الدول وتصفية للحسابات بينها، وقد ارتضى عدد من قيادات البلاد ان يقبل بهذا العمل الدنيء ويلحق بنفسه الذل والهوان .

وامام هذه المشكلة التي نواجهها فأن سن القوانين مهما كانت صالحة بذاتها ونافعة في اصلاح الاوضاع الا انها اما لا تمرّر اصلا ككثير من القوانين المفيدة للشعب والتي اهملت في ادراج الحكومة والبرلمان ، او تُقرّ الا انها تبقى حبرا على ورق لأنها لا تحقق المصالح الضيقة للأحزاب والشخصيات المهيمنة على القرار ، او ان العمل بها بكون انتقائياً وبمكيالين كالدستور الذي يفصّله كل كيان على مقاس مصالحه وتصفية خصومه وإضعافهم .

وحينئذ يتضح الدور المشترك للمرجعية الدينية والأمم المتحدة في إيجاد الحلول لإنقاذ العراق وشعبه من الازمات الخانقة التي تعصف به وتزيد من آلامه وجروحه وخسائره ، ومن تلك الخطوات العملية:

1-إلزام قادة البلاد بمسؤولياتهم امام الشعب التي اقسموا عليها، والضغط عليهم لإقرار كل القوانين التي تنصف كل شرائح الشعب العراقي وتعطي كل

ص: 540

ذي حق حقه فان هذا وحده الذي يجعل كل مواطن يحس بالانتماء الى وطنه ودولته ويدافع عنها ويزيل الاحتقانات ويحاصر الإرهابيين والمتطرفين ويقضي عليهم ، وهو بنفس الوقت يؤدي إلى تحسين العلاقات مع الدول المجاورة وإزالة سوء الظن والاتهامات التي تعكر صفوها .2-اجراء الانتخابات في موعدها المحدد وبكل شفافية وصدق ومهنية ، ويضمن قانونها فرصة مناسبة لصعود قوى جديدة مؤثرة يمكن ان يكون لها دور مهم في تحريك التوازنات وتغيير المعادلات وضمان مشاركة اوسع بالعملية السياسية كالذي حصل في انتخابات مجالس المحافظات الاخيرة ، وقد قدّمنا مقترحات وقمنا بحركة دؤوبة لتعديل القانون بما يحقق ذلك وهو ما حصل فعلا بفضل الله تعالى .

3-تشجيع الحوار والتواصل بين كل مكونات الشعب وفعالياته السياسية والاجتماعية والدينية والاستماع الى كل الاطراف لجمعهم على قواسم وطنية مشتركة .

4-احداث نهضة تنموية تستقطب كفاءات البلد وطاقاته وايديه العاملة وإجراء اصلاح اداري شامل وفق التقنيات الحديثة لمكافحة الفساد و المحسوبية وهيمنة الاحزاب المتنفذة .

5-التحرك على الدول التي تمارس دوراً سلبياً في العراق لتحذيرهم من مغبّة اللعب بالنار ، لأنها اذا اشتعلت فإنها سوف لا تبقى داخل الحدود العراقية وانما تحرق اولئك ايضا، فليقوموا بدور ايجابي وليساعدوا العراق على مداواة جراحه واستعادة عافيته .

ص: 541

التزام المؤمنات بتوجيهات المرجعية الرشيدة

التزام المؤمنات بتوجيهات المرجعية الرشيدة(1)

أثنى سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) على التزام المؤمنات العفيفات المتأسّيات بالسيّدة الزهراء (علیها السلام) والعقيلة زينب (سلام الله عليها) بتوجيهات المرجعية الرشيدة بعدم الخروج مشياً على الأقدام من المحافظات البعيدة كالبصرة والناصرية والعمارة مما يتطلب قطع الصحاري والقفار شفقة عليهنّ وغيرة على حرمتهنّ التي هي أعظم عند الله تعالى من الكعبة الشريفة.

وهذه الاستجابة تثبت أنّ الأمة بخير وأنّ المشكلة في وجود قيادات مزيّفة وأنّ كلمة الحق والنصح والإرشاد تجد آذاناً صاغية برغم الصخب والضجيج والتشويه والكذب الذي يمارسه مرضى النفوس وقساة القلوب ممّن تلبسوا بالدين مكراً وخداعاً لاستجلاب الدنيا.

فالحمدُ لله وحده على ما أنعم ونسأله تعالى الزيادة في البصيرة والاستقامة والعمل بما يحبّ ويرضى.

أحكام بيع الدولار بالآجل

أحكام بيع الدولار بالآجل(2)

سماحة المرجع الديني آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ص: 542


1- نشر في العدد (135) من صحيفة الصادقين الصادر في يوم الخميس 15 صفر 1435 المصادف 19 ك1 2013.
2- نشر في العدد (124) من صحيفة الصادقين الصادر في يوم الجمعة 18 ربيع الثاني 1434 المصادف 1 آذار 2013.

توجد معاملة متداولة في السوق وهي بيع الدولار بالآجل، وذلك بأن يبيع ورقة فئة مئة دولار التي سعرها النقدي المتداول (125) ألف دينار مثلاً بمئة وثلاثين ألف دينار أو أقل أو أكثر بحسب الاتفاق ولمدة معيّنة كشهر مثلاً.وهنا عدة أسئلة:

1-ما حكم هذه المعاملة؟

2-هل توجد نسبة محدّدة للفرق المأخوذ على سعر الورقة؟ وما هو وجه هذا التحديد؟

3-لو لم يستطع مشتري الورقة التسديد عند حلول الشهر فهل له تمديد العقد شهراً آخر أو أكثر مع زيادة المبلغ في ذمّته كأن يمدّدها شهرين ويصبح على مشتري الورقة (135) الفاً أو (140) ألفاً وهكذا؟

4-هل لهما إجراء العقد على مدّة أطول من شهر في ابتداء العقد؟

5-هل هذا الحكم خاص بمن يرجع إليكم بالتقليد أم يعم الجميع؟

6-لو حصلت مخالفة لشروط الصحة أعلاه فما حكم الأموال المقبوضة في المعاملات السابقة؟

بسمه تعالى

الجواب:

1-المعاملة صحيحة مبدئياً لاختلاف الجنس بين الدولار والدينار مع ملاحظة شروط الصحة. ومنها الشرط التالي.

2-نحن نشترط أن لا يزيد الفرق عن 3 من السعر النقدي لمدة شهر، فالورقة التي سعرها النقدي (125) ألف دينار لا تُباع بفرق يزيد عن (3,750)

ص: 543

آلاف دينار شهرياً، والوجه في الاشتراط هو حفظ التوازن في السوق، وحماية المشتري من الفرق المجحف الذي يؤدي به إلى العجز عن التسديد وبيع ممتلكاته أو تعرضه للعقوبات القانونية أو الهرب خارج البلاد كما تشهد به الوقائع الكثيرة.فالتحديد ضروري لتطبيق قوله تعالى (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ) (الحشر/7) أي أنّ هذه الإجراءات لمنع احتكار المال بيد فئة معيّنة قليلة تسيطر على التعاملات المالية، أما الأكثر فيكونون ضحيّة.

وكان السيد الشهيد الصدر الثاني (قده) قد حدّد سقفها الأعلى 5 وأبقينا مقلّديه عليها، لأنّه كان يرى ذلك مناسباً، أما نحن فنراها كثيرة في ظل الواقع الاقتصادي الذي نعيشه.

3-لا يجوز لهما تمديد المدة تلقائياً وأخذ فرق جديد عن تمديد المدة لعدم المسوِّغ شرعاً لأخذ هذه الزيادة، بل على المدين تدبير المبلغ عند حلول الأجل وتسليمه إلى الدائن ثمّ يجدّد المعاملة بالفرق المذكور.

4-لا مانع من إجراء العقد لمدّة أكثر من شهر بشرط أن لا يزيد السقف الأعلى للفرق بين السعر النقدي والآجل عمّا ذكرناه.

5-يتّضح ممّا تقدّم أن هذه الفتوى اكتسبت صفة الحكم لأحد العناوين الملزمة كولاية الفقيه أو دفع الضرر العام أو حفظ النظام الاجتماعي العام ونحوها، فتكون ملزمة للجميع بغضّ النظر عن مرجع التقليد.

وأذكّر الجميع بالكارثة العامّة التي كادت تحلّ بالمجتمع العراقي قبل عدّة سنوات حينما انتشرت بشكل مريب شركات التسويق الشبكي وخدعت

ص: 544

الكثيرين فدفعوا إليها أموالاً طائلة تسرّبت إلى خارج العراق، وأفتى بعض المراجع بجواز التعامل معها وسكت الآخرون باعتبار عدم الإشكال على وفق قواعد الاستنباط الفقهي المعمول بها، وتصدّينا بقوّة لمواجهتها ووضّحنا المفاسد الكبيرة في عملها، وحشّدنا لذلك إعلامياً وسياسياً فتحقّق رأي ضاغط ضدّها، وحاولت تلك الشركات الاستمرار بعملها بنشر فتوى البعض بالجواز وأرسلوا معتمديهم لإقناعنا بعدم وجود تلك المخاوف، لكنّنا انتصرنا عليهم وكفى الله الناس شرّهم، ثمّ استبانت بعد ذلك للناس مصائبهم وحاول أصحاب الأموال بشتّى استنقاذ أموالهم فلم يستطيعوا.فليتعظ الجميع وليأخذ الدرس سواء كانوا يرجعون إلينا بالتقليد أو إلى غيرنا.

6-من باع بالنسبة التي كان مأذوناً بها سابقاً وهي 5 فلا شيء عليه ومن باع بأزيد من ذلك وكان أخذ الزيادة برضا المشتري بالآجل فلا شيء عليه أيضاً، وعليهم من الآن فصاعداً الالتزام بالنسب الجديدة.

وفي الختام أحبّ التعرض لإشكال أثاره البعض بأنّ هذا التحديد سوف يتضرّر منه الذين يلتزمون به في حين يكون غير الملتزم حرّاً في تحقيق ما يشاء من الأرباح، وليس في ذلك مصلحة للمؤمنين الملتزمين.

وجوابه أن هذا الإشكال لو صحّ فإنه يرد على كل المكاسب المحرّمة، وليطمئن الملتزم بالحكم الشرعي أنّه هو الرابح، أمّا في الآخرة فهذا واضح، وأمّا في الدنيا لأنّ كسبه سيكون حلالاً طيّباً، كما أنّ زبائنه سيكثرون لقلّة النسبة التي يطلبها، وحينئذٍ سيعوّض بكثرة الزبائن عن النقص في النسبة الّتي

ص: 545

حدّدناها، قال تعالى (وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (القصص/57)، وقال تعالى (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً*وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) (الطلاق/2-3).محمد اليعقوبي

12/ع2/ 1434

23 / 2/ 2013

مسائل مستحدثة في الحج لهذا العام

مسائل مستحدثة في الحج لهذا العام(1)

سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

كما تعلمون أنّ موسم الحجّ الحالي لعام 1434 ه- محفوف ببعض الصعوبات نتيجة لأعمال التوسعة الجديدة في مكة بل وفي داخل المسجد الحرام من بناء جسر حديث للطواف حول الكعبة داخل المطاف وأعمال أخرى قد تعيق حركة الحجّاج لذا فقد شخّصنا بعض المسائل التي نتوقّع أن تكون ابتلائية لعموم الحجّاج في هذا الموسم.

راجين من سماحتكم بيان أحكامها كي نوصلها إلى مقلّديكم وإلى عموم الحجّاج في الديار المقدّسة.

ص: 546


1- نشر في العدد (131) من صحيفة الصادقين الصادر في يوم الخميس 19 ذ.ق 1434 المصادف 26 أيلول 2013.

س 1: هل يجوز الطواف اختياراً حول البيت الحرام على الجسر الذي أنشأ حديثاً داخل المطاف؟بسمه تعالى

الأحوط للمختار القادر أن يطوف في الطابق الأرضي ليصدق عليه تمام عنوان الطواف.

س2: هناك بعض كبار السن من الحجّاج يُطاف بهم بعربات متحرّكة ولكن قد يُمنعون من الطواف في الطابق الأرضي لذا ينحصر أمرهم بين الطواف في الطابق الجديد (الجسر) وبين الاستنابة عنهم في الطواف فما هو التكليف الفعلي المتعيّن حينئذٍ؟

بسمه تعالى

في الحالة المفروضة يجزئهم الطواف بالعربة على المطاف المجسّر لأنه المتيسّر ولإحتمال صدق الطواف هناك بحسب الظاهر ويحسن ضم الاستنابة في الطابق الأرضي وتبقى قضية صلاة ركعتي الطواف التي تكون عند مقام إبراهيم (علیه السلام) فلابد من الإتيان بها من دون فاصل معتد به عن الطواف.

س3: لمكان وجود أعمال وتوسعة داخل المسجد الحرام يتوقّع أن يكون المطاف مزدحماً جداً وقد يتضرر الحاج من التدافع والتزاحم أثناء أداء طواف الحج بل وطواف النساء كذلك، فهل يرخص لهم تقديم أعمال مكة (طواف الحج وصلاته والسعي وطواف النساء وصلاته) عن الوقوف في عرفات أم هناك حل آخر.

ص: 547

بسمه تعالىيجوز تقديم طواف الحج قبل الخروج إلى عرفات لمن يخشى الضرر من شدّة الازدحام بعد أعمال يوم العاشر، أمّا طواف النساء فإنّ في وقته بعد يوم العاشر سعة لذا فإنّ الرخصة في تقديمه خاصة لمن يوجد عنده مانع من أدائه في الوقت المقرّر كالحائض التي يمتد عذرها إلى حين رحيل القافلة أو الشخص الذي يوجد عنده مانع من العودة إلى مكّة بعد منى لخوف ونحوه.

س4: لنفس الأسباب أعلاه لو ضاق الفضاء الذي يؤدى به صلاة الطواف (خلف مقام ابراهيم (علیه السلام)) بحيث لا يستطيع الحاج أن يحافظ على الموالاة العرفية فهل يجوز له الصلاة خارج هذا الفضاء أم عليه الانتظار لتحصيل المكان المناسب وإن فاتت الموالاة العرفية؟

بسمه تعالى

يراعى الحدّين معاً – أي الموالاة وكون الصلاة عند مقام إبراهيم (علیه السلام)- ويصلي، فيتوسع في مكان الصلاة يميناً وشمالاً عن الخط النازل من مقام إبراهيم (علیه السلام) لكن لا يصل إلى حدّ القطع بالخروج عن صدق العنوان ويتوسّع في مقدار الموالاة بعد الطواف للضرورة بحيث لا يصل إلى درجة القطع بعدم الموالاة، وهذه المعاني وجدانية وعرفية وليس لها حد دقيق.

س5: يبدو أن الجسر الحديث الذي أنشأ داخل المطاف للطواف عليه يتركز على أعمدة حديدية عريضة نوعاً ما فهل يجوز الطواف خلف هذه الأعمدة بحيث تكون هي داخل المطاف أم يضرّ ذلك بصحة

ص: 548

الطواف؟بسمه تعالى

لا يضرّ وجودها بحركة الطائفين لأنّها ليست بدرجة تجعل حركة الطائف خارج المطاف، ولا شكّ أن الطواف بينها وبين الكعبة أفضل.

استفتاء حول سب الرموز الدينية للإخوة من أهل السنة

استفتاء حول سب الرموز الدينية للإخوة من أهل السنة(1)

بسمه تعالى

سماحة المرجع الديني آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (أدام الله ظلكم)

شيخنا الجليل خرج ليلة استشهاد الإمام محمد الجواد (علیه السلام) مجموعة من الشباب في مدينة الأعظمية ببغداد وهم يسبون الرموز الدينية لإخواننا من أهل السنة، وقد نشروا مقطعاً مصوّراً للحادثة على مواقع التواصل الاجتماعي.

فما هو رأي سماحتكم في ذلك وبماذا تنصحون الأمة الإسلامية؟

بسمه تعالى

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

هذه حماقة وفعل جاهلي لا يمتُّ بصلة إلى تعاليم أهل البيت (علیهم السلام) وستكشف الحقائق والوثائق أن هذه الأفعال وبعض المنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي التي تصدر من طائفتَي المسلمين من تدبير بعض الذين

ص: 549


1- نشر في العدد (132) من صحيفة الصادقين الصادر في يوم السبت 13 ذ.ح 1434 المصادف 19 ت1 2013.

يستهدفون مكاسب(1) سياسية أو تصفية حسابات مع بعض الخصوم وهم يُؤجّجونها ويحرضون عليها ويدفعون إليها ومن ورائهم أجندات خارجية لا تريد الخير للعراق والعراقيين ولا للإسلام والتشيّع والتسنّن خيرا وإن غلّفت أفعالها ببعض العناوين المقدّسة.فلتنتبه جميع طوائف المسلمين إلى هذه الفتن المظلمة وقد نبّهنا إليها منذ مدة في خطاب (المخططات الشيطانية التي أُعدَّت للمنطقة) وحذَّرنا الشعوب منها.

محمد اليعقوبي

7/ذي الحجة/1434

الفقيه القرآني

الفقيه القرآني(2)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. سماحة المرجع الشيخ محمد اليعقوبي دامت بركاته، نرجو من سماحتكم بيان منهجكم القرآني في استنباط الحكم الشرعي والعقائدي هل له الحظ الأوفر في طرحكم الفكري أم أن القرآن يدور في باب التعارض فقط وما رأيكم في سبب تراجع اغلب فقهائنا في تقديم القرآن على روايات أهل البيت ع وإذا أمكن إرجاعنا إلى أي مصدر من

ص: 550


1- نحتفظ باسم الجهة وما كانت تخطط له.
2- نشر في العدد (132) من صحيفة الصادقين الصادر في يوم السبت 13 ذ.ح 1434 المصادف 19 ت1 2013.

مصادركم لفهم القضية بالتفصيل ولكم جزيل الشكر والامتنانبسمه تعالى

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

يعتمد سماحة المرجع (دام ظله) القرآن الكريم كمصدر أول في كل المعارف والعلوم الدينية وقد دعا إلى ذلك في وقت مبكر قبل حوالي 30 عاماً وعرض أفكاره ومشاريعه في هذا المجال على السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وعلّق عليها وهي منشورة في كتاب (الشهيد الصدر الثاني كما اعرفه) تحت عنوان (دليل سلوك المؤمن) و (الجاهلية الحديثة وأسلوب مواجهتها) ودعا سماحته إلى أن يكون الفقيه قرآنياً في كتاب (شكوى القرآن).

ولاحظ كمثال على اعتماد القرآن في الاستدلال الفقهي بسلسلة محاضرات البحث الخارج في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد عرضت على شاشة قناة النعيم .

3/ ذ.ح/1434

لا يجوز للآباء التجسس على أجهزة أبنائهم

لا يجوز للآباء التجسس على أجهزة أبنائهم(1)

قال سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) انه لا يجوز للآباء والأمهات وسائر أولياء الأمور التجسس على الاجهزة الخاصة لأولادهم وبناتهم كالهواتف المحمولة او الحاسوب أو الآيباد ونحوها بحجة متابعتهم وحمايتهم من الوقوع

ص: 551


1- نشر في العدد (137) من صحيفة الصادقين الصادر في يوم الخميس 13 ربيع الثاني 1434 المصادف 13 شباط 2014.

في المعاصي، خصوصاً إذا علم الأبناء بأن آبائهم يتجسسون على أجهزتهم سرأً.وعلّل سماحته ذلك بأن التجسس من المحرمات قال تعالى (وَلَا تَجَسَّسُوا) الحجرات12, وان الهدف قد يكون صحيحاً ولكن الوسيلة يجب أن تكون مشروعة أيضاً و(الغاية لا تبرر الوسيلة) إذا كان غير مشروعة ,وان الأب والأم قد يكتشفان خطأ في تصرف ابنائهم بهذا التجسس ويعالجانه ,إلا انهم بذلك يخسرون ثقة ابنائهم ويفقدون الصراحة والشفافية بينهم ,وهذه مرحلة خطيرة من العلاقة بين الوالدين واولادهم.

فالصحيح متابعة الابناء بحذر وفطنة ومن دون التجاوز على حرياتهم الشخصية.

ولم يغفل سماحته عن توجيه الابناء الى عدم ارتكاب ما يقلق الوالدين ويدعوهم الى الريبة والشك كإقفال باب الغرفة عليهم او التكتم على بعض الأمور ونحو ذلك مما يسبّب التوجس والشك فيدفع الوالدين الى اتخاذ الاجراءات الاحترازية.

ونفس الحكم يجري على الزوجين فلا يحق لأي منهما التفتيش في حاجيات الآخر لاحتمالات وشكوك يتوهمها كل طرف باتجاه الآخر ,لأنه يؤدي كما قلنا الى فقدان الثقة والصراحة والشفافية.

ص: 552

الشخصية المعنوية للدولة وحرمة الأموال العامة

الشخصية المعنوية للدولة وحرمة الأموال العامة(1)

سماحة المرجع الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

أما بعد فهذه مجموعة من الأسئلة تخص بحثنا في مسألة المعاملات المصرفية نرجو من سماحتكم إجابتها ليتم بها البحث .

س1: ما المقصود من الشخصية المعنوية او الحقوقية للمؤسسات التابعة للدولة ؟

وهنا يأتي السؤال هل الدولة مالكة لما يقع بيدها أو لا؟

وقمنا بتحليل هذا السؤال إلى ثلاث أسئلة كما فعل السيد الصدر الأول (قده) في مجلس بحثه الشريف وهي ؟

س2: هل الشخصية المعنوية تملك ؟

س3: هل الشخصية المعنوية لها ذمة ؟

س4: هل الشخصية المعنوية لها الحق بالتصرف أو لا يحق لها إلا بأذن الولي العام أو من نصبه؟

بسمه تعالى

نوضح الأجوبة في نقاط فنقول والله المستعان :

1-المراد من الشخصية المعنوية ما يقابل الشخصية العينية المتجسدة

ص: 553


1- نشر في العدد (139) من صحيفة الصادقين الصادر في يوم الأحد 20 جمادى الآخرة 1435 المصادف 20 نيسان 2014.

خارجا بالشخص المعلوم، أما المعنوية فهي جهة أو كيان أو تنظيم أو مؤسسة فوجودها معنوي أو اعتباري أي ليس لها واقع في الخارج وإنما وجودها في اعتبار العقلاء ويتقوّم بعنوانها لا بأشخاصها الذين يمكن أن يتبدلوا ويبقى العنوان بخلاف الشخص فإنه إذا مات انعدم وجوده وتملكه ونحو ذلك .2-يجب التفريق بين الحكومة والدولة، فالحكومة هم الأشخاص الذين يديرون شؤون الدولة من رئيس الوزراء والوزراء ورؤساء الهيئات ونحو ذلك ويعيّنون بحسب النظام السياسي المتَبّع في الدولة، وهؤلاء يُغيَّرون ويتبدلون بانتخابات أو انقلاب أو عزل ونحو ذلك، أما الدولة فهي مجموعة المؤسسات التي تحفظ مصالح البلد والشعب كالوزارات والهيئات والدواوين والأجهزة، وهذه المؤسسات باقية لا تندثر بتغيّر الحكومات، وتتعرض للتعديلات والتوسعة والتحسين بحسب تطوّر الحاجة.

3-الشخصية المعنوية والجهة تملك كالكعبة فإنها تملك ما يهدى إليها، وكذا المؤسسة فإنها تملك ما يعود إليها من ممتلكات خاصة، أما الأموال العامة والثروات الطبيعية فهي ملك الشعب عامة على حد سواء على أساس المواطنة فقط من دون دخل للجنس أو القومية أو الدين أو الطائفة أو العرق ونحو ذلك.

فالدولة لا تملك هذه الأموال العامة وإنما الشعب الموجود منه الآن ومن سيوجد لاحقاً، لكن للدولة الممثلة بالحكومة حق التصرف فيما تحت يدها وفق الصلاحيات التي خولها الشعب لها ووفق قوانين يسنّها ممثلو الشعب على أن تكون هذه القوانين في مصلحة الشعب والدولة لذا اشترطنا أن تكون هذه القوانين والتصرفات ممضاة من قبل المرجعية الدينية الجامعة لشروط ولاية أمر

ص: 554

الأمة والنظر في شؤونها باعتبارها نائبة بالنيابة العامة عن الإمام المعصوم (علیهم السلام) الذي هو ولي كل الأمور العامة .والإطار العام للتصرفات المأذون بها شرعاً في الأموال العامة ومؤسسات الدولة هو ما يندرج في حفظ النظام الاجتماعي العام ورعاية مصالح البلاد والعباد وازدهارها وكرامتها وبذلك تحصل الحكومة على المسوِّغ القانوني والشرعي للتصرف في شؤون الدولة.

ولذا فأن الفساد المالي وهدر المال العام والعبث به والتصرف فيه خارج هذا الإذن من المحرمات الشرعية مضافا إلى كونه من المخالفات القانونية، وإن اي قانون خارج هذا الإطار العام يكون باطلاً حتى لو سنّه البرلمان – انطلاقاً من مصالحه الشخصية والفئوية من دون مراعاة لمصالح الشعب والبلاد- لأنه غير ممضى شرعاً وغير حائز على موافقة المرجعية الدينية الراعية لحقوق الناس وحفظ مصالحهم .

4-وللشخصية المعنوية ذمة يجب على القائمين عليها الالتزام بها فالحكومات قد تتغير لكن كل حكومة ملزَمة بالتزامات الدولة التي اشتغلت ذمتها بها عبر الحكومات المتعاقبة وكذلك المرجعية لو تحولّت إلى مؤسسة وكذا البنوك وغيرها .

5-مادامت الشخصية المعنوية لا وجود لها في الخارج فإنها لا تملك مقومات التصرف لأنها عنوان اعتباري مجعول وإنما حق التصرفات لممثل تلك الجهة أو رئيسها أو مؤسسها أو صاحبها أو القائمين على إدارة شؤونها وهكذا، وهؤلاء يُحددّون وفق النظام الداخلي الذي أُسّس بموجبه الكيان.

ص: 555

هذا في غير المؤسسات العامة التي سُخّرت لخدمة البلاد والعباد التي أمرها موكول الى الشعب مشروطاً بإمضاء المرجع الديني الجامع لشروط النيابة عن المعصوم (علیهم السلام) كما سبق وهو يعطي الإذن لكل ما يحقق الأهداف المذكورة أعلاه، وهذا الحق اكتسبه الفقيه الجامع للشرائط، لأنه أولى الناس بالناس لعلمه الغزير بالقوانين الإلهية حتى بلغ درجة الاجتهاد، ولنزاهته وسمُوّ مؤهلاته الذاتية و خبرته في شؤون الناس ورعايتهم وبذل الوسع في مداراتهم وحفظ مصالحهم .مع دعائنا لكم بالتوفيق والرفعة.

محمد اليعقوبي

23-ع2-1435

23 -2- 2014

ص: 556

حديث الروح

حديث الروح(1)

سموتَ بالمجدِ لا يحصي ثناكَ فمُ *** وفي رحابكَ يجثو الطيب والكرمُ

ومن ملامح وجهٍ باسمٍ بشرٍ *** تشجو القلوب فيبدي شجوها القلمُ

تخاطب الروح تغذوها تواصلها *** عبر النعيم فسادت بالورى القيمُ

فأنتجت خير ما يرجو الكرام لها *** من الدروس فعاد الخير ينتظمُ

هذي الجموع أتتكَ اليوم زائرةً *** يحدو بها الشوق والآمال والهممُ

فرعٌ لجماعةٍ في الخور يقدمهم *** سليلُ طه فذاك الصادقُ الفهمُ

ترجو الدعاء لتوفيقٍ وتوصيةٍ *** بها تنور قلب الطالب الكلمُ

عذراً عن الشحّ يا شيخي ويا أملي *** فقد تعثّر في أوصافك القلمُ

واستجمدت كلماتي كلها فعيا *** بها اللسان فمنك العذر يُستلمُ

ص: 557


1- أبيات في البرنامج التلفزيوني اليومي (حديث الروح) الذي تعرض فيه قناة النعيم الفضائية خطابات وأحاديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) وهي لفضيلة الشيخ ضياء الحساني أحد أساتذة جامعة الصدر الدينية فرع خور الزبير في البصرة، أنشدها أمام سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) عند استقباله لوفد الجامعة يوم 25/ع1/ 1434المصادف 6/ 2/ 2013. ونشرت في العدد (124) من صحيفة الصادقين الصادر في يوم الجمعة 18 ربيع الثاني 1434 المصادف 1 آذار 2013.

من فكرك الأجيالُ تزدهرُ

من فكرك الأجيالُ تزدهرُ(1)

وضّاءُ من فكركَ الأجيالُ تزدهرُ *** يا صادقَ القولِ في تعليمهِ العبرُ

يا باذلَ العلمِ للطلاّبِ تنشرهُ *** والقومُ حولكَ مذهولون إذ نظروا

نوراً تنالُ به اللّذات شاكرةً *** هذي النفوسُ إذا ما شابها الكدرُ

نورٌ من الله لا تخفى عجائبُهُ *** إلاّ على مستبدٍّ فاتهُ البصرُ

يا بلسمَ الجُرح إنّ عيَّ الطبيبُ به *** وقولك الصدقُ إذ يحلو به السمرُ

يا دافعَ السوء بالحُسنى تقابلهُ *** يا طودَ صبرٍ إذا حُسّاده كثروا

يا قلعةَ الفخرِ يا عنوانَ مكرُمةٍ *** يا مركبَ المجدِ مَن ساروا به عبروا

نحوَ المكارم ليس البرقُ يسبقهُم *** فوقَ السّحائبِ مشّاؤونَ إن صبروا

ربّاك فحلٌ له الأخلاقُ عامرةٌ *** محمدُ الصدرُ ما أبقي؟ وما أذرُ؟

قد كان من معشرٍ طابت سريرتهمْ *** بغيرِ لذّةِ حُبِّ اللهِ ما سكروا

لم يبقني اللهُ إن فارقتُ نهجكمُ *** هو الأمانُ إذا ما أحدقَ الخطرُ

نهجٌ به بلغ الأحرارُ منيتهم *** منه العُطاشى بعذب الرّيِ قد صَدروا

يُحيي القلوبَ من الأدرانِ يغسلها *** كالأرضِ تورقُ أحيا مَيتَها المطرُ

برهانهُ ساطعٌ كالشمسِ حينَ علت *** كبدَ السماء بحرِّ الصّيفِ تستعرُ

أبشر بسعيكَ سعياً قد سموتَ به *** فدونك السّاطعات الأنجمُ الزهرُ

ص: 558


1- أبيات للأديب المهندس (جبّار عبد العالي الخفاجي) قالها مخاطباً سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) وقد أنشدها بمحضر جمع من الوفود التي زارت سماحته يوم الخميس 9/ج1/ 1434 المصادف 21/ 3/ 2013. ونشرت في العدد (125) من صحيفة الصادقين الصادر في يوم الثلاثاء 21 ج1 1434 المصادف 2 نيسان2013.

واستشرفِ النصرَ إنّ النصرَ مُرتقبٌ *** حتماً سيُظهرُ أمرَ الله مُنتظرُ

بنورِ وجه إمام العصر مُشرقةً *** تغدو البلادُ ومنهُ يخجلُ القمرُ

وما أقول؟ وما قدري؟ وما خطري؟ *** وذلكَ النورُ عنهُ تنبئُ السُّوَرُ

ص: 559

سل كراماً

سل كراماً(1)

سل كراماً وُسّدوا أرضَ الطفوف *** ما دعاهم جابهوا تلك الحتوف

***

هم أباة الضَيم أحباب السماء *** أولياء اللهِ نعمَ الأولياء

رفضوا ظلم الطغاةِ الطلقاء *** شرِّ خلقِ الله بئس الأدعياء

من على الإسلام قد سلّوا السيوف

يا بني الزهراء يا أهل الوفاء *** هذه حوزتكم فيض الرجاء

شادها أرباب علمٍ أتقياء *** صدرها الماضي بركب الشهداء

ثم يعقوبيُّها الفذُّ الشريف

حوزة الصدر مهاد الارتقاء *** للعلا أسسها صدر الاباء

انها مفتاح عزٍ وولاء *** لأولي الأمرِ واصحاب الكساء

تبتغي العلمَ وتوحيد الصفوف

زعماءَ الناسِ يا أهل الكساء *** خصّ مولاكم بركبِ السعداء

هذه أمُّ أبيها بالبلاء *** كابدت دنيا تجلّت بالفناء

وهي مرضيةُ رحمنٍ رؤوف

لرضاها الله يرضى لا مراء *** هي سرّ اللهِ أمّ النجباء

ص: 560


1- انشودة مواكب الوعي الفاطمي لطلبة الجامعات والمعاهد العراقية المشاركين في الزيارة الفاطمية لعام 1434/ 2013 نظمها فضيلة المقرء الأديب الشيخ علي البرهان. ونشرت في العدد (126) من صحيفة الصادقين الصادر في يوم الأربعاء 6 ج2 1434 المصادف 17 نيسان 2013.

إنّها الزهراءُ نورٌ وضياء *** فهي للمؤمنِ من نارٍ وقاء

فطمت أحبابها كلّ مخوف

إنّ في القرآنِ إرث الأنبياء *** ثابتٌ ليس به أدنى خفاء

فلتةٌ أخرى فزادت بالجفاء *** وسبيلٌ من نصيب الأثرياء

فدكٌ للآلِ رفد ورغيف

خطبة الزهراءِ لا شكّ نداء *** حجةٌ تلزمُ كلّ السفهاء

إنّ من لا يرعوي للحقّ باء *** بضلالٍ وامتهانٍ ووباء

خطبةُ الزهراءِ إمضاءٌ حصيف

إنّ طه شادَ مجداً للعلاء *** عند محو الجورِ في دنيا الشقاء

بعليٍ قام دينُ الأصفياء *** غصنُ زيتونٍ وسيفٌ وعطاء

مبدءٌ قد زانه الفعلُ العفيف

حسنٌ ثمّ حسينٌ في النقاء *** عرفا وهو سبيل الأوفياء

فهما السبطانِ أهلٌ للفداء *** وفيا حقاً فكانا الأمناء

لهما عن زهرة الدنيا عزوف

تسعةٌ بعد حسينٍ علماء *** قد حباهم ربّهم حسن الثناء

هم أولو العصمة أرضاً وسماء *** علمهم مبعث نورٍ وسناء

فهم الطودُ ومرقاهم منيف

سورةُ الكوثر من غير امتراء *** خصّت الزهراءَ في أجلى بهاء

ولها في آية البهل ثناء *** عندما جاء بها ذكر النساء

ص: 561

وهي في التطهيرِ إذكارٌ طريف

بضعةُ الهادي زهورٌ ورُواء *** عمرها كالزهرِ في القصر سواء

صبحها الزاهرُ غطّاهُ المساء *** وهي لم تبلغ حدودَ الإستواء

دخلت شرخ صباها في الخريف

حبّ أهل البيت للقلب شفاء *** لأولي الإيمانِ من سبعين داء

وهو يومَ الفصلِ أمنٌ ونجاء *** تلك بشرى لمحت الشفعاء

من له قلبٌ بلقياهم شغوف

سل كراماً قُتّلوا في كربلاء *** يوم عاشوراءَ ظمأى دون ماء

وبقيعاً ضمّ مثوى العظماء *** وغريّاً لحكيم الحكماء

ذاك من للمصطفى الهادي رديف

سل كراماً كيف ضحّوا نبلاء *** سُفكت منهم دماءٌ ودماء

سل أعاديهم جفاةَ الدهماء *** كيف للشيطانِ كانوا أولياء

حيث في النارِ لهم مثوى سخيف

ص: 562

تواريخ:

تواريخ:(1)

القصائد المؤرّخة التي أنشدها فضيلة الشيخ حميد مجيد الزركاني في مجلس سماحة المرجع الديني آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) في مكتبه الشريف بمناسبة تولي سماحته عمادة جامعة الصدر الدينية سنة 1419 وإعلان سماحته لاجتهاده بعد سقوط الصنم في حضرة الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) سنة 1424ه- وذلك في يوم الثلاثاء 17 ذ.ق 1434ه- المصادف 24/ 9/ 2013.

بك رقى عمادة الجامعة

في صَفَرِ الخير أُديلت إلى *** مُحمدٍ عمادةُ الجامعة

وأُعطيتْ له زمامُ الأمور *** مِن سيدٍ ذي غرّةٍ طالعة

فَصانها تالله من يَومه *** حقيقةُ ذا القول لا شائعة

قد ارتقتْ حتى علا صَرحُها *** مُطاولاً أنجمها اللاّمعة

جامعةُ قد رقتْ أرخ (لها *** بكَ رُقى عمادةُ الجامعة)

1419 ه-

عميدها أنت يا نعم العميدُ

ويومٌ للعمادة كنتَ أهلاً *** أتَيتهُ قائداً قد جاء عيدُ

حرصتَ على عُلوم الآلِ فيه *** بقودُك للعلا رأيٌ سديدُ

ص: 563


1- نشرت في العدد (131) من صحيفة الصادقين الصادر في يوم الخميس 19 ذ.ق 1434 26 أيلول 2013.

فأعطاكَ الأمانة خيرُ صدرٍ *** فخُذها أيّها الشيخُ المفيدُ

أأرخ (للحمى أم شاد مجدي *** عميدُها أنت يا نعمَ العميدُ)

1419ه-

قد أعلن اليعقوبي الاجتهاد

حباهُ ربُّ العرش في آيةٍ *** من علمه الفيضي نحو السدادْ

وأيَّدَ اللهُ لهُ سعَيهُ *** ببُلغةٍ كانتْ كمالَ المُرادْ

زيّنها وزانها شخصهُ *** كأنّها زينةُ سَبعٍ شدادْ

في حضرة الإمام موسى دعا *** وهوَ بن موسى آيةُ في الرشادْ

ومن عطاء اللهُ أرخ-(ت منه *** قد أعلن اليعقوبي الإجتهاد)

1424ه-

ص: 564

جامعة الصدر الدينية

جامعة الصدر الدينية(1)

أقام سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) احتفالاً في مكتبه الشريف يوم الأحد 28/ذ.ح/1434 المصادف 3/ 11/ 2013 لتكريم طلبة فروع جامعة الصدر في المحافظات المتفوّقين في الامتحان النهائي المركزي الذي أجري لهم في النجف الأشرف، وتضمن الاحتفال إلقاء فضيلة السيد علاء الموسوي –من خريجي جامعة الصدر- قصيدة رقيقة في حق هذه المؤسسة المنجبة، مطلعها:

هل بالطلول لِسائلٍ إصغاءُ؟ *** أم في جوانبها لهُ إغراءُ؟

وجاء فيها:

يممتُ كوفان الهوى لأزورها *** وأزور جامعةً بها نجباءُ

قد شادها للعلم عنوانُ التقى *** هي فرعُ جامعةِ لها أصداءُ

تلك التي قد نوّر (الصدرُ) اسمها *** إذ شادها فتبددت ظلماءُ

فبنى معالم للأصولِ وللتقى *** وأُعيدَ للدينِ الحنيفِ نَقاءُ

بدماهُ قد أحيا الذي رام العدا *** أن يطمسوه ومنه فيه جلاءُ

ربّى ليوثاً يستهاب قراعها *** يوم الطعان وهم له أبناءُ

صانوا مبادئهُ بموح لحاظهم *** للدين هم حراسهُ الأمناءُ

فأبوك إبراهيمُ أنعم منهُمُ *** مَنْ آل يعقوب له آباءُ

قد جُدِّدَت آمال شيعةِ أحمدٍ *** لما بدا في فكرهِ أحياءُ

ص: 565


1- نشرت في العدد (134) من صحيفة الصادقين الصادر في يوم الاثنين 28 محرم 1435 المصادف 2 كانون الأول 2013.

فبنى الذي قد قوضته معاولُ ال- *** -أعداءِ والبعثيةُ الهُجناءُ

كم صرحُ علمٍ شادهُ وبه غدت *** تلقى علومُ الدين والآراءُ

فأعذتهُ من شرِ كل منابذٍ *** ومنافقٍ له في العداء مراءُ

له قد بعثتُ فرائداً من أحرفٍ *** سطرتها شعراً بها الإهداءُ

فأنر بعلمك شيخنا هذي الدجى *** أربيبَ صدرٍ أهله نجباءُ

وأمن بوصل منك فيه مطامعي *** وأجز فديتك ما يقول (علاءُ)

وأجب فؤاداً ذوب شوقٍ جُلّهُ *** إن كان في اللقيا له أحياءُ

ص: 566

رزء الخميس ونكبة الثُلاثاء

رزء الخميس ونكبة الثُلاثاء(1)

ضحكت جراحك فاستبدّ بكائي *** وجرت بفيض مدامعي ودمائي

وتقطّعت أوصال جسمك عافراً *** فتيممت بترابها أشلائي

وتصدعت أضلاع صدرك خُشَّعاً *** فجبرت كسر الشرعة السمحاء

ففتحت صدرك للسهام بطعنة *** فتمزقت بسهامهم أحشائي

وشهقت تلتذّ الممات بعزة *** وزفرت ترفض ذلة الأحياء

أخضاب حناء يلوح بشيبةٍ *** في عارضيك أم اختضاب دماء

ص: 567


1- قصيدة رائعة ألقاها فضيلة الأديب الواعي علي خصاف بحضور سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) وحشد من الزوار مخاطباً الإمام الحسين (علیه السلام) يوم الأربعين 20/صفر/1435 المصادف 24/ 12/ 2013. ونشرت في العدد (136) من صحيفة الصادقين الصادر في يوم الاثنين 4 ربيع الأول 1435 المصادف 6 كانون الثاني 2014. ويقصد من نكبة الثلاثاء ما حصل من اجتماع الحكومة يوم الثلاثاء (29 محرم 1435 المصادف 3/ 12/ 2013) من تمييع ومماطلة وتسويف لإقرار قانوني الأحوال الشخصية والقضاء الجعفريين، وكان ذلك (بمباركة) المرجعية العليا التي نقل رسالتها الى الحكومة ممثلها في كربلاء المقدسة حيث عبّر برسالته عن عدم رغبة المرجعية العليا بإقرار القانونين و(بمباركة) بعض الكتل السياسية التي تدّعي الانتساب للتشيع وتحمل لواء المرجعية! كل ذلك لرفض القانونين الذين يصححان الموقف الشرعي للشيعة في العراق من خلال التحاكم الى القانون الذي ينسجم ومعتقداتهم وحق الإسلام في قيادة الحياة. وأطلق سماحة المرجع (دام ظله) نقده اللاذع عن تلك السقيفة! وأسماها برزية يوم الثلاثاء، تشبيهاً لها برزية يوم الخميس التي أقصت أهل البيت (علیهم السلام) عن قيادة الأمة وخلافة الرسول الكريم (صلی الله علیه و آله).

ورفعت طرفك للسماء بنظرة *** فاحمر وجه الكون باستحياءِ

ووقفت مكلوماً يكلم ربه *** رباه إن يرضيك هاك عطائي

إن كان ابنٌ للخليل فداءه *** فأنا وصحبي والعيال فدائي

فلتنحني لك هام املاك السما *** ولتنحني لك قامة العظماء

ولتكتحل حور الجنان وتختضب *** بتراب نعلك لا من الحنّاء

يا ذخر أجدادٍ إلى أحفادهم *** وذخيرة الآباء للأبناء

يا خير داعٍ للإله وناصرٍ *** يا خير مأمول وخير رجاءِ

يا خير مشفوعٍ به ومشفعٍ *** يا شافعاً لمعاشرِ الشفعاء

يا آخر الأنوار بعد محمد *** وعليَّ والمسموم والزهراء

كم حاربتك منابر مأجورة *** كم آلمتك مواكب السفهاء

كم قاتلتك بجهلها ونفاقها *** وبما ادعته شعائراً بغباء

واستصغروك وأنت طودٌ شامخٌ *** لا عيب في المرئي بل في الرائي

واستظهروك بمظهر حاشاكه *** يا مظهر الملكوت والعلياء

جهلٌ نفاق واكتساب منافع *** بطرٌ رياءٌ مبلغ البلهاء

فأراك تُشتم في رحابِ مجالس *** وينال منك بمجلس وعزاءِ

وأرك مذبوحاً بسيف جهالةٍ *** وعمالةٍ وحثالةٍ أمراء

قد لامني بعض الكرام تخوفوا *** بغض اللئام ولوثة الرعناء

أنا لم أخف في الله لومة لائم *** لا كيد باغٍ لا عظيم بلاء

أنا للحسين نعاله وترابه *** أنا للشعائر حارس وفدائي

ص: 568

ليس التفاخر بارتقاء منابرٍ *** كم يلعن القرآن من قرّاءِ

إن التفاخر بافتداء شريعةٍ *** غراء لا أنشودةٍ وبكاء

أنا قبل أن ترقوا منابر فتنةٍ *** أرقى منابر دعوةٍ وولاءِ

أرقى مجاهدة وليس تكسباً *** زمن الشدائد لا زمانَ رخاءِ

إن صرت تدعو للحسين فدعوتي *** أو صرت تحدوا فالحداء حدائي

أشكو لمدرسة الخطابة خطبها *** وخطابها وخطيبها الخطاءِ

سكتت بنطقك ألسن الفصحاءِ *** وهذت بصمتك السن اللكناءِ

قد حرفت دور المنابر تبتغي *** درَّ المنابر ما ارعوت لحياءِ

وتراقصت فوق الضمائر تدعي *** حفظ الشعائر يا له من داءِ

إن الشعائر عَبرةٌ بل عِبرةٌ *** ليست خواراً لا ولا برُغاءِ

ليست بأغنيةٍ ولا هي مرقصٌ *** هي منسك العباد والعرفاءِ

ليست مسيراً خالياً من حكمةً *** هي ثورة الأحرار والأمناءِ

ليست لمعتوه ولا لمخرِّفٍ *** هي مسلك الحكماء والعقلاء

أهل المنابر والشعائر ما لكم *** أموات أنتم أم من الأحياءِ

هلا خدمتم دينكم بمنابرٍ *** أم أوقفت لشتيمة العلماءِ

أين انتصاركم لدين محمدٍ *** ولفقه جعفرنا أبي الفقهاءِ

أو تفزعون لكل أمرٍ تافهٍ *** وتهوّمون لأعظمِ الأرزاءِ

إيهٍ أبا الأحرار هل من زائرٍ *** حرّ ليعلن موقف النبلاءِ

ما بال جعفر يرفضون قضاءهُ *** ويحكّمون محاكم اللقطاءِ

ص: 569

ما عيبه كي يُستهان بفقهه *** ويقدّسون شريعةِ الطلقاءِ

وقد اصطلى قلب الإمام بخنجرٍ *** علماء سوءٍ ساسة لعناءِ

أهل العراق إلى متى وإلى متى *** ينأى بكم جهلٌ عن الصلحاءِ

تذرونهم وتقبّلون أيادياً *** لعمائم الأهواء والإغواءِ

سهمان قد غرزا بقلب محمدٍ *** رزء الخميس ونكبة الثلثاءِ

ألأنّ كفّ الشيخ كانت خلفه *** أم للفضيلة مقصد الإقصاءِ

إن كان دفناً للولي فدونكم *** تأريخ أهل البيت ليس بنائي

لن تطفئوا نور الإله بوحيه *** لن تظفروا بسراجه الوضّاءِ

أو كان سلباً للفضيلة حقّها *** فهو التآمر منهج العملاءِ

إن كان ملك الري نصب عيونكم *** فجميع ما دون الحُسين ورائي

جسداً قُتلت أبا الإباء بكربلاء *** روحاً قتلت بمجلس الوزراءِ

ابن المسيح أقرّه وأجازهُ *** وكذا تكون طبائع الشرفاءِ

ص: 570

أقبل السّعدُ

أقبل السّ-عدُ(1)

أقبل السّعدُ فاغربي يا نحوسُ *** فرّ جيش الدّجى ولاحت شموسُ

هتف الفجر بالحياة أطلّي *** يوم أقبلتَ فالحياةُ عروسُ

وتناهى صوتٌ رخيمٌ، جميلٌ *** في الأعالي، وقد أُديرت كؤوسُ

هو صوتُ الولدانِ والحورِ جمعاً *** طاب صوتاً وطاب فيه الجليسُ

قد أتى منقذٌ، عظيمٌ كريمٌ *** راحمٌ واصلٌ وبرٌّ أنيسُ

وهي كأسُ الأفراحِ لا غولَ فيها *** لم يدنّس رحيقها ابليسُ

وعلى الأرضِ آيةٌ تلو أخرى *** قد دنت ساعةٌ وأمرٌ شموسُ

كيف هذا الإيوانُ صار خراباً *** وخبت نارُهم، وخاب المجوسُ

واختفى لليهودِ، دورٌ وصوتٌ *** كيف يبقَى صوتٌ لهم أو حسيسُ

***

جئتَ والعالمُ الشقيُّ شقيٌّ *** بالنواميس، والحروب ضروسُ

(داحسٌ) تارةً، تدور سجالاً *** (وفجارٌ) ومثل ذاك البسوسُ

جئت للناس، منهُمُ كلُّ فردٍ *** آثمٌ، مشركٌ، شقيٌّ تعيسُ

كلُّ ما يزدهيه صَيدٌ لضَبٍّ *** أو جرادٍ، أو كيف خبَّ العيسُ

ص: 571


1- قصيدة انشدها جناب السيد اسد الله الحسيني حفيد المرحوم اية الله السيد مسلم الحلي بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف يوم 20 ع1-1435المصادف 22-1-2014. ونشرت في العدد (137) من صحيفة الصادقين الصادر في يوم الخميس 13 ربيع الثاني 1435 المصادف 13 شباط 2014.

جئتَ للناس، والنفوس أُذلّتْ *** وقلوبٌ موتى، وروحٌ يؤوسُ

ربّ رمسٍ أحيا به الله قوماً *** وجسومٍ تسيرُ فيها الرُّموسُ

عالمٌ غارمٌ بوأدِ بناتٍ *** وعقولٍ، وذاك فكرٌ حبيسُ

غايةُ الشعرِ عندهم غزوُ جارٍ *** وبكاءٌ مُرٌّ، وطلٌّ دروسُ

ولذيذ الألفاظ من كل فظّ *** سمج نافرٍ، مقولٌ بئيسُ

مثلما (الحيزبونُ والدردبيسُ *** والطُّخا والتّفاخ والعلطبيسُ)

عالمٌ بائسٌ، وفكرٌ غبيٌّ *** وعلى هذه سواها فقيسوا

***

يا حبيباً، وجئتَ فجراً شفيعاً *** تسحقُ الفقرَ والظلامَ تدوسُ

جئت نهراً يبُلُّ جدْبَ الصّحارى *** ونهاراً، كلُّ المدى تقديسُ

***

لم تكنْ والأيامُ حالاً فحالاً *** تتنضَّى لكلِّ حالٍ لبوسُ

أنت في الضِّيقِ كالرخاءِ بشوشٌ *** باسمٌ قانعٌ سواك العبوسُ

أنت في الزُّهدِ عالمٌ لا يُدانى *** جشبٌ مالحٌ، وثوبٌ دريسُ

هدّمتْ للبناءِ كفُّك ديناً *** ضاعَ فيه القياسُ والتقييسُ

قُلتَ إنّ الإسلامَ قلبٌ سليمٌ *** ولعمري ذاك الأساسُ الرئيسُ

ليس دينُ الإسلامِ محضَ طقوسٍ *** بل حياةٌ، وغايةٌ وطقوسُ

وصنعتَ الإنسانَ خلقاً جديداً *** مظهرٌ رائعٌ وفكرٌ نفيسُ

قُلتَ إن الإنسانَ كالمشطِ شأناً *** يتساوى الرئيسُ والمرؤوسُ

ص: 572

تعرفُ الفضلَ للكرامِ فتَجزي *** غايةُ الفضلِ أن يعافَ الخسيسُ

وأنا إن نسيتُ شيئاً فإنّي *** لستُ أنسى ما قد حوى الناموسُ

قلتَ في حقِّ حيدرٍ كلماتٍ *** نيّراتٍ وكلّهنّ شموسُ

قلتَ فيهِ وكان قولاً مبيناً *** ليسَ منهُ الموضوعُ والمدسوسُ

قلتَ فيهِ أنا مدينةُ علمٍ *** وعليٌّ ذا بابها القدّيسُ

قلتَ فيه: من كنت مولىً له ه- *** ذا عليٌ مولىً له وأنيسُ

بعليٍ تمسّكوا، وبنيهِ *** وابنتي بعدُ حين يحمى الوطيسُ

لعن اللهُ من تخلّف عنهم *** فهو في الدهر عيشهُ محبوسُ

يا رسولَ المليكِ مُدَّ يداكَ *** لجراحِ العراقِ علَّ تجوسُ

وبفكرِ التسامحِ اسعَ بودٍّ *** وبنهجِ التقريبِ عقلي يسوسُ

ليس ما يدّعيهِ وهّاب حقّاً *** إنّما قول مثله تدليسُ

لا ولا كالعرعور قال صواباً *** فمهُ عاجزٌ شحيح خسيسُ

جعلوا الدين سلعةً في مزادٍ *** والكراسي مرادهم و الفلوسُ

وفتاوى من شيوخٍ حاقداتٍ *** وصمةٌ في سماها نحوسُ

أقتلوا الرافضيَّ ذبحاً ليغدو *** فوق رمحِ رأس لهُ منكوسُ

يا رسولً من المليكِ أترضى *** أمةٌ حكم دينها معكوسُ؟!

يا رسول المليكِ أدعُ عليهمْ *** طغمةُ ليس فيهم قديسُ

ص: 573

مرةً.. داعشٌ(1) تبيحُ دمانا *** ثم يغري ب-(نصرةِ) ابليسُ(2)

البدارَ البدارَ يا حجة الل- *** -هِ ستحيا اذا ظهرت النفوسُ

يملأ الأرض عدلهُ بعدما قد *** حلّ فيها التدنيسُ والتلبيسُ

عجّل اللهُ مقدماً أنتَ فيهِ *** في صِحابٍ كأنكمْ طاووسُ

بلطيفِ الشعرِ الكريمِ أعنّي *** حينَ يُتلى ستُستفادُ دروسُ

غايةُ الشعرِ أن تعيش قلوبٌ *** بالتآخي وأن تُثارَ النفوسُ

بَرِءَ الشّعرُ من قوافٍ ثقالٍ *** ضاعَ فيها الإحساسُ والمحسوسُ

إنّما هذهِ القلوبُ حديدٌ *** ولذيذُ الألفاظِ مغناطيسُ

مِقوَلُ الحقِّ خالدٌ وجميلٌ *** منهُ عبرَ الزمانِ تبقى طُروسُ

إنَّ زينَ الرؤوسِ فكرٌ نقيٌّ *** هكذا فليكنْ وتحيا الرؤوسُ

ص: 574


1- جماعات داعش والنصرة التكفيرية الإرهابية.
2- جماعات داعش والنصرة التكفيرية الإرهابية.

تحية الشيخ الكرامي

تحية الشيخ الكرامي(1)

قام سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) بزيارة سماحة المرجع الديني الشيخ محمد علي الكرامي القّمي(دام ظله) في محل إقامته بمناسبة قدومه إلى النجف الأشرف لزيارة الأئمة المعصومين (علیهم السلام) يوم الاثنين 22/ج1/ 1435 المصادف 24/ 3/ 2014 وتناولا في حديثهما شؤون المرجعية والحوزات العلمية في العراق وإيران والمسلمين عامة، ورافق سماحة الشيخ عدد من فضلاء الحوزة وأثناء اللقاء رحّب فضيلة الشيخ حسنين قفطان بسماحة المرجع الضيف وأنشد هذه الأبيات وتضمّن البيت الأخير تاريخ الزيارة فنالت استحسان وإعجاب الضيف وطلب تزويده بتسجيلها.

لذ بالغري إذا الزمانُ أساءا *** واقصدهُ تلقَ به أباً وإباءا

وارمق بطرفكَ قبة أبدية ال- *** -إشراقِ تعبقُ بهجة وسناءا

فالأرض أمٌ ليس يحمل ظهرُها *** إلا الأبرَّ وإن نأى وتناءى

تشكو إليك مرارةً من جائري- *** -ن جوارها يتنفسون عداءا

حملتكَ طيفاً في خيال منامها *** ورنّت لصوتك خيفة ورجاءا

ولأن علمكَ لم يزل متوهجاً *** يتلمس السبعين منك عطاءا

سعدت بمقدمك المعارف وأزدهى ال- *** -علم الذي قد زاد فيك نماءا

يا أنتَ والعشرون قبل بلوغها *** أعطيت حقّ العلم منك أداءا

ص: 575


1- نشرت في العدد (139) من صحيفة الصادقين الصادر في يوم الأحد 20 ج2 1435 المصادف 20 نيسان 2014.

ووقفت ضد البهلوي وبطشه *** بطلاً سقى سوح الجهاد دماءا

فمداد علمك والدماء زكية *** كانا بمدرجةِ العطاء سواءا

فكأن روح الله روحك لم تزل *** تهمي على داء القساةِ دواءا

جمع اسمك الهادي النبي وصنوه *** فجمعت فضلهما هدى وضياءا

ولكل نفس في الزمان قرينها *** فانظر لمن لبّى إليك وجاءا

مشكاة نور اللهِ في النجف التي *** تشكو زمان الظلم والظلماءا

والله شرف أرض طيبة كلها *** (بمحمدٍ) وقضى بذاك وشاءا

ولأجل حيدرةٍ أقول (مؤرخاً) *** بمحمديَّ كسا الغري بهاءا

104+81+1241+9= 1435ه-

ص: 576

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.