خطابُ المرحلة المجلد 7

هوية الكتاب

اسم الكتاب: خطابُ المرحلة / الجزء السابع

تأليف: توثيق لخطابات وبيانات سماحة

آية الله العظمى المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي

الطبعة : الثانية

السنة : 1437 ه- - 2016م

الناشر: دار الصادقين للطباعة والنشر والتوزيع

النجف الاشرف / شارع الرسول (صلی الله علیه و آله) 07808289364

المطبعة:..........

ص: 1

اشارة

خطابُ المرحلة توثيق لخطابات وبيانات سماحة

آية الله العظمى المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي

ومواقفه وتوجيهاته منذ تصديه لقيادة الحركة الإسلامية في العراق بعد استشهاد استاذه

السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) عام 1999

الجزء السابع

تشرين الثاني 2008- كانون الثاني 2011

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

خطاب المرحلة 281 :أعطوا أكبر زخم ممكن للشعائر الحسينية شكلاً ومضموناً تأسّياً بالإمام الرضا (علیه السلام)

اشارة

خطاب المرحلة 281 :أعطوا أكبر زخم ممكن للشعائر الحسينية شكلاً ومضموناً تأسّياً بالإمام الرضا (علیه السلام)(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

تصادف اليوم السابع عشر من صفر ذكرى استشهاد الإمام الرضا (علیه السلام) وقلّما يحتفل بشهادته؛ لاندماج ذكراه في المشاركة الواسعة في الزيارة الأربعينية والسير على الأقدام إلى كربلاء المقدسة،وصحيحٌ إنَ الأئمة (علیهم السلام) ذوبوا قضاياهم في القضية الحسينية الكبرى التي حفظت الإسلام وخلدت مبادئه كما قال الشاعر:

أنست رزيتُكم رزايانا التي *** سلفت وهونت الرزايا الآتية

ولكن هذا لا يعفينا من مسؤولية إحياء ذكرى الإمام الرضا(ع) في هذهِ الأجواء الحسينية، ونشير هنا إلى واحدة من بركات الإمام الرضا (علیه السلام) على هذهِ الأمة فقد كان أول من عقد المآتم الحسينية علناً وبمشاركة جماهيرية واسعة، حيث أستثمر الفرصة التي أُتيحت له حينما حاول المأمون العباسي كسب ود العلويين وتقريب الإمام الرضا (علیه السلام) وفرض ولاية العهد

ص: 5


1- من حديث سماحة الشيخ محمد اليعقوبي (مُدَ ظله) مع حشد كبير من الزوار القاصدين كربلاء المقدسة سيراً على الأقدام من مختلف المحافظات الجنوبية يوم السبت 17/صفر/1432ه- المصادف 22/ 1/ 2011م.

عليه لأهداف أراد العباسي تحقيقها لم تكن لتخفى على الإمام الرضا (علیه السلام) فرفض الولاية، ولما أكرهه عليها أشترط عليه أن لا يمارس شيئاً من صلاحيات السلطة، وأفشل بذلك مخططات المأمون، لعلم الإمام (علیه السلام) أن القضية شكلية، والظروف غير مهيأة للقيام برسالة الإصلاح، لكنه (علیه السلام) مع ذلك استثمر تلك الفرصة في عدة قضايا، منها إحياء الشعائر الحسينية بشكل علني حيث كان يعقد المآتم الجماهيرية ويطلب من دعبل الخزاعي إنشاء تائيته المشهورة وكان دعبل يجوبُ بها الأسواق والساحات العامة وينشر فضائل ومظلومية أهل البيت (علیهم السلام) وغصب حقهم، أما قبل الإمام الرضا (علیه السلام) فقد كان الأئمة(ع) يعقدون المآتم الخاصة في بيوت لهم ولأهل بيتهم وخواص أصحابهم، كما هو واضح في سيرة الإمام الصادق (علیه السلام) و الإمام الرضا (علیه السلام) نفسه قبل توفر هذهِ الفرصة.

وهكذا كان علماء الشيعة ومراجعهم (قدس الله أرواحهم) يستثمرون كل انفراج سياسي وانحسار في بطش السلطة ليوسعوا من مساحة هذه الشعائر وتفعيلها في أوساط الأمة، وخصوصاً في الفترات التي شهدت نشوء حكومات ترفع لواء التشيع وتدعم الحركة الشيعية لأمور خاصة بتلك السلطات ولا علاقة لها برسالة أهل البيت (علیهم السلام) ونوابهم كفترة حكم البويهيين في بغداد.

وقد شهدت هذه الفترة عصراً ذهبياً للحوزة العلمية وأنجبت أفذاذاً شغلوا ركيزة أساسية في تأصيل تعاليم أهل البيت (علیهم السلام) في العقيدة والفقه والأخلاق والتفسير وسائر العلوم، وقاد هذه الحركة على مدى مئة عام ابن قولويه صاحب كامل الزيارات والشيخ الصدوق ومن ثم الشيخ المفيد وبعده السيد المرتضى

ص: 6

ثم الشيخ الطوسي (قدس الله أرواحهم جميعاً)، وفي هذا العصر أصبح يوم عاشوراء عطلة رسمية تعطل فيها الأسواق وتنتشر مظاهر الحزن، وشَهدَ أول ظهور للمواكب السيارة التي ترثي أبا عبد الله وصحبه الكرام وتبرز مظلوميتهم وأهداف حركته المباركة.

وهكذا كان التقدم والتوسع يتحقق في كل فرصة تحصل سواء في أيام الدولة الفاطمية في مصر أو الدول الحمدانية في الشام أو غيرها حتى العصر الحديث.

ونحن –أيها الأحبة من زوار أبي عبد الله (علیه السلام)- نعيش اليوم أوسع فرصة لممارسة هذا الدور فلنبذل قصارى جهودنا في إعطاء أكبر زخم ممكن للشعائر الحسينية شكلاً ومضموناً.

أما شكلاً فمن خلال هذهِ المشاركة الواسعة من قبل الملايين سواء ممن شاركوا في مواكب السير على الأقدام من أقصى الأماكن وقطعوا مئات الكيلومترات في هذا البرد القارص والأمطار الغزيرة،ومعهم من قاموا بخدمة هؤلاء الزوار ووفروا لهم الطعام والمأوى وكل أسباب الراحة لمواصلة المسير، والذين انشغلوا بتوفير الخدمات الصحية والماء والحماية وكل الأمور الضرورية الأخرى، ونشهد في كل عام ازدياداً ملحوظاً للمتتبع من خلال عزاء طويريج والمسيرة المليونية لزيارة الأربعين والمآتم الحسينية العامرة بآلاف الحضور والتي تنقلها الفضائيات مباشرة أحياناً.

وأما مضموناً فمن خلال تجسيد مبادئ الثورة الحسينية وتحقيق أهدافها،فإن نداء الإمام الحسين (علیه السلام) (هل من ناصر) لا زالَ يتردد في أرجاء

ص: 7

الأرض، وهو لا يطلب أنصاراً بالسيف ونحوه لأن القضاء الإلهي جرى باستشهاده وأهل بيته (ع) وإنما يطلب أنصاراً يعينونه على إنجاز مشروعه وإكمال رسالته في إصلاح الأمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوقوف في وجه أئمة الضلال وسلاطين الجور وتحرير الناس من اسر الطواغيت وشياطين الأنس والجن.وها هي الشعوب المسلمة تتحرك في تونس وغيرها متأثرين بالإنجازات التي حققها الشعب العراقي بفضل الله تبارك وتعالى وأستنقذَ جزءاً كبيراً من حريته وكرامته، وهذا هو الواقع وأن لم تصرح تلك الشعوب بذلك لكن التأثر واضح وسيعم كل الشعوب الحرة الأبية.

أيها الأحبة نريدكم أن تُدخلوا السرورَ على قلب نبيكم (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) والزهراء والحسن والحسين وإمامكم المهدي الموعود(صلوات الله عليهم أجمعين) بالالتفات إلى المضامين الرسالية لهذه الشعائر وأولها المحافظة على الصلوات المفروضة في أوقاتها فإذا حان وقت الصلاة وقال المؤذن (حي على الصلاة) قولوا (لبيك ربنا) وأوقفوا كل حركةٍ واصطفوا للصلاة في أي موضع كنتم فيه وادعوا ربكم لكل خير ولكل حاجة وستحظون بالإجابة إن شاء الله فإن فعلتم ذلك فإن الأخوة الآخرين سيتأسونَ بكم، ولا تؤخروا الصلاة لأي مبرر كالوصول إلى موضع الاستراحة ونحوها، فإن الإمام الحسين (علیه السلام)أقامَ الصلاة جماعة في وقتها ظهر يوم عاشوراء والأعداء قد أحاطوه به وأمطروه بنبالهم. ***

والتزموا أيها الأحبة بكل فضيلة أخلاقية والتزموا بأداء الواجبات واجتنبوا

ص: 8

المحرمات.فعليكم-أيها الشباب- ببر الوالدين والإحسان إلى الآخرين،والتزمي - أيتها الأخت الفاضلة - بحجابكِ وعفافكِ وحيائكِ ولا تعطي فرصة لمن في قلبه مرض،وإذا استلزم الذهاب إلى الزيارة شيئاً من المحرمات فلا يجوز لكِ الذهاب. ***

لقد اختاركم الله تعالى أيها الأعزاء من أهل العراق لتكونوا دعامة الانطلاقة المباركة لمدرسة أهل البيت (علیهم السلام)، والطليعة في حركة التمهيد للظهور الميمون التي نلمس تأثيرها المبارك على العالم كله فصونوا الأمانة وكونوا بمستوى المسؤولية المُلقاة على عاتقكم وكل بحسب الموقع الذي أنتم فيه، فليواظب الطالب على دراسته ويجتهد لتحصيل أرقى الدرجات،وليكن الموظف دءوبا في عمله نزيهاً أميناً على ما كُلفَ به،وليقم طلبة الحوزة العلمية بدورهم في اكتساب العلوم والفضائل ونشرها في أوساط الأمة، وهكذا الجميع.

أعاننا الله تعالى وإياكم على طاعته وبلغّنا رضاه وجمعَ بيننا وبين أحب خلقه إليه أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين (صلى الله عليهم أجمعين).

ص: 9

في تأبين المرحوم العلامة الشيخ محمد علي العمري

بسم الله الرحمن الرحيم

رحل عنّا اليوم ملتحقاً بالرفيق الأعلى علمٌ من أعلام الشيعة العاملين في المدينة المنورة وغرب المملكة وهو العلامة المرحوم الشيخ محمد علي العمري(1) (رفع الله في الجنان درجته) فعظّم الله أجر سيدي ومولاي صاحب العصر والزمان (أرواحنا له الفداء) بفقد أحد أنصاره، وعظّم الله تعالى أجور المسلمين بغياب مفخرة من مفاخرهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

لقد جاهد الفقيد في إعلاء صرح مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) في المدينة المنورة ومنطقة غرب المملكة، فكان عمله المبارك مصداقاً لقول الإمام الصادق (علیه السلام): (وأما الجهاد الذي هو سُنّة فكل سُنّة أقامها الرجل وجاهد في إقامتها وبلوغها و إحيائها فالعمل والسعي فيها من أفضل الأعمال، لأنها إحياء سُنّة، وقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): من سنّ سُنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء). وكأنّ الله تعالى قد أعدّه لهذا الدور؛ إذ بسط له في العمر وفي العلم وفي الحكمة والشجاعة وفي

ص: 10


1- ولد سنة 1331/ 1913، وفي سنّ الساسة عشرة اصطحبه والده الشيخ علي بن احمد العمري إلى النجف الأشرف لدراسة العلوم الدينية حيث درس عند عدد من الأعلام كالشيخ محمد رضا والشيخ محمد حسين المظفرين والشيخ محمد جواد مغنية والسيد باقر الشخص والسيد مسلم الحلي وغيرهم. ثم عاد إلى وطنه المدينة المنورة ليكون من علمائها العاملين.. وهو من شهود هدم قبور أئمة البقيع ع عام 1344/ 1926.

الجاه الاجتماعي والودّ في قلوب المؤمنين، مما مكّنه من تحقيق هذا التقدم الكبير الذي يعجز فردٌ بل أفراد عن إنجازه، فلله دَرُّه وقد وقع على الله تعالى أجره.التقيته (رحمه الله) قبل ثلاثة أشهر حينما تشرّفت بزيارة روضة النبي (صلى الله عليه وآله الكرام) ومسجده الشريف في طريقي إلى الحجّ، وحرصت على أن يكون أول شخص أزوره، وتحدثنا معه بحضور ولده فضيلة الشيخ كاظم وجمعٍ من الفضلاء والمؤمنين، وكان قوي الذاكرة مهيب الشخصية لم تنل الأعوام المائة التي عاشها من ذاكرته، وأبدينا ما تقتضيه المسؤولية من الشكر لتضحياته الجسيمة وعمله الدؤوب في إعزاز أتباع أهل البيت (علیهم السلام) وتقوية وجودهم، والنمو المستمر في مشاريعه المباركة التي تجولت فيها فوجدتها تَسرُّ كلَّ موالٍ، ورأيت كيف أن قوافل الحجيج تتوافد على الحسينية العامرة وتتبرك بتناول الطعام في المضيف الذي أنشأه باسم الإمام الحسن (علیه السلام)، ويرى الكثيرون –علماء وفضلاء ومسؤولون ومؤمنون- أن من الواجب عليهم زيارة سماحته تثميناً لدوره المبارك وتاريخه الحافل، واعترافاً بفضله على الموالين لأهل البيت (علیهم السلام).

كان شجاعاً ذا عزيمة قوية صادقاً مع الله تعالى فيما عاهده عليه، لم يُثنهِ الخوف والوعيد والصعوبات التي اعتاد التعرض لها، ومضى قُدُماً في طريق ذات الشوكة حتى شيَّد أركان هذا المجد، وأمدّ الله تعالى في عمره المبارك ليرى بعينه ثمرة تلك الجهود وذلك الجهاد قبل أن يُريَهُ جزاءه الحسن في جنات النعيم.

ص: 11

نقدّم تعازينا لذوي الفقيد الراحل، ونخصّ بالذكر ولده فضيلة الشيخ كاظم الذي لمسنا فيه الهمّة والحماس لمواصلة هذا العمل المبارك ووعيه لمسؤولياته وعلمه بضخامة الإرث الذي تركه الفقيد، والذي أصبح مهوى أفئدة المؤمنين من كل حدب وصوب. [مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً] (الأحزاب:23).

محمد اليعقوبي – النجف الأشرف

الاثنين 19/ صفر/ 1432 - 24/ 1/ 2011

ص: 12

خطاب المرحلة 282 :ويتخذّ منكم شهداء

خطاب المرحلة 282 :ويتخذّ منكم شهداء(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تبارك وتعالى: [إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ] (آل عمران: 140).

فالشهادة لا تُنال بالتمني وإنما هو لطف من الله تبارك وتعالى يحظى به من اجتباه.

ولقد اختار الله تبارك وتعالى ثلة من عباده المؤمنين الموالين لأهل البيت النبوة (ع)، الذين قصدوا مرقد العسكريين (ع) في سامراء رغم بُعد الشُقّة، ووجود المخاطر وقلة الناصر، لكنهم مضوا في طريقهم بعزيمة وإصرار ليبرزوا مودّتهم لآل رسول الله (صلی الله علیه و آله) التي جعلها الله تعالى أجر الرسالة وليواسوا إمامهم الموعود (عجل الله تعالى فرجه الشريف) بذكرى استشهاد أبيه الإمام الحسن العسكري (علیه السلام)، وليظهروا عزّة أهل البيت (علیهم السلام) وشرفهم وكرامتهم.

ص: 13


1- بيان صدر على اثر استشهاد حوالي (33) من زوار الإمامين العسكريين في تفجير انتحاري استهدفهم بعد إنهائهم الزيارة في مدينة سامراء يوم السبت 8/ربيع الأول/1432، المصادف 12/ 2/ 2011 وأصيب حوالي (30) ومن الشهداء الشهيد أياد الفرطوسي (من العاملين في مكتب سماحة الشيخ اليعقوبي) وأخوه وعدد من أبناء الشطرة في محافظة ذي قار.

فتقبّل الله تبارك وتعالى منهم هذه المودة وهذه النصرة وهذه المواساة واتخذهم شهداء وختم لهم بالسعادة وأدخلهم في زمرة الصالحين مع النبيين والشهداء والصديقين وحسن أولئك رفيقا.لقد انهدَّ باستشهاد فضيلة الشيخ زيد الزبيدي ومن معه ركن من أركان العمل الإسلامي والإنساني المبارك فقد كان عمله يفوق ما تقدمّه مؤسسة كاملة، يتوزع وقته بين كفالة الأيتام الذين بلغوا العشرات ورعاية العوائل الفقيرة والأرامل التي زادت عن هذا العدد، ومساعدة المحتاجين وتقديم الخدمات لزائري العتبات المقدسة لأئمة أهل البيت (علیهم السلام) في النجف وكربلاء.

ومع ذلك فقد كان طالباً محصلاً للعلوم الدينية ومن المتفوقين الذين يجتازون امتحانات الإرشاد الديني لقوافل الحجيج حيث كان مثالاً يتأسى به للمرشد الذي ينذر نفسه لتعليم الحجاج وإرشادهم وتقديم كل الخدمات لهم ومساعدة الضعيف والعاجز والمرأة.

وفي خضّم ذلك كله لم ينسَ محافظته المنكوبة ديالى فكان ابناً باراً لأهلها المحرومين.

وكانت همته كبيرة في إنشاء الجوامع والحسينيات وإعمارها بصلاة الجماعة، فكان يحضر إلى الحسينية التي تصدى لبنائها في حي الرحمة في النجف الأشرف حتى في وقت الفجر ويقيم الجماعة ولو مع واحد آخر يحضر معه كما أخبرني أحد الفضلاء وبسبب ذلك كله وغيره مما علم الله تعالى فقد كثر محبّوه والمفجوعون بفقده لذا كان تشييع جثمانه والشهداء الذين قضوا معه حاشداً بمختلف الطبقات الدينية والاجتماعية.

ص: 14

وبذلك فقد ترك فقده فراغاً لا يُسدُّ إلا بلطف الله تبارك وتعالى الذي تكفّل بإعزاز دينه وإظهاره على الدين كله ولو كره الكافرون والمشركون، والتكفيريون المتحجرون الذين يساقون إلى خزي الدنيا وعذاب الآخرة.نعزي إمامنا المهدي (أرواحنا له الفداء) بفقد هذه الثلة الصالحة، ونقدّم التعازي لذوي الشهداء ونسأل الله تعالى أن يلهمهم الصبر، ويسلّيهم عن مصابهم بما أعدّ لهم من الأجر والدرجات الرفيعة، وأن يمنّ بالشفاء العاجل للجرحى والمصابين. وأن يتلقى الشهداء بالمغفرة والرحمة وينزلهم الدرجات الرفيعة ويعرِّف بينهم وبين من أحبوهم ووالوهم أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين.

محمد اليعقوبي

9/ ربيع الأول/1432ه-

ص: 15

خطاب المرحلة 283 :المبادئ الحسينية وثورات الشعوب

خطاب المرحلة 283 :المبادئ الحسينية وثورات الشعوب(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد أراد الأئمة المعصومون (سلام الله عليهم) لشهري محرم وصفر أن يكونا موسم عزةٍ وكرامةٍ وتحررٍ وانتزاع للحقوق الإنسانية، ومثار شجاعة وثورة على الظالمين وانعتاق من أسر الشهوات والمطامع الدنيوية والإخلاد إلى الأرض، وميداناً للإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وساحة للأخوة والتآلف والوحدة، وانطلاقة للحياة الحرة الكريمة، وزيادة في وعي الأمة وتثبيتاً لقلوبها، وفرصة لإظهار المودة لأهل بيت النبوة ومواساتهم أداءً لأجر الرسالة كما ورد في القرآن الكريم، فعلينا أن نقف في نهاية هذا الموسم من كل عام لنجري مراجعة ونتحقق من مقدار مطابقة أعمالنا وشعائرنا التي قمنا بها لتلك المبادئ المباركة، والآن وقت إجراء هذه المراجعة بعد أن تصرَّم هذا الموسم المعطاء.

وإذا أردنا أن نقيّم موسم هذا العام فإن المراقب سيجد تقدماً واضحاً وتزايداً من ناحية الكم والعدد الغفير الذين شاركوا في إحياء الشعائر الحسينية

ص: 16


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من أساتذة وطلبة مدرسة الإمام الخميني للعلوم الدينية في النجف الأشرف ومن شباب حي الفضيلية في بغداد يوم الثلاثاء 11/ربيع الأول/1432 الموافق 15/ 2/ 2011.

في مدنهم أو في كربلاء المقدسة، وأوضح شاهد على ذلك الموكب المليوني الهادر يوم عاشوراء المعروف بركضة طويريج، والمسيرة المليونية الراجلة إلى كربلاء، بحيث نستطيع أن نقول أنه ما من موالٍ لأهل البيت (علیهم السلام) إلا وقد كانت له مشاركة بنحو من الأنحاء وبما يناسبه.وسيجد المراقب تقدماً أيضاً من ناحية الكيف أي النوع إذ تم تصحيح جملة من السلوكيات التي استهجنت من البعض في الأعوام الماضية كعدم التزام بعض الأخوات بالحجاب الكامل غفلة أو جهلاً، وكبعض التصرفات الصبيانية من بعض الشباب،ويلاحظ أيضا اختفاء أو انحسار بعض الطقوس المتخلفة التي نسبت بدعة إلى الشعائر الحسينية، كما بدأت ظاهرة الالتزام بالصلاة في أوقاتها بالانتشار ومرافقة طلبة الحوزة العلمية للمواكب لإرشاد الناس وتوجيههم ووعظهم وتعليمهم أحكام الشريعة، وانتشار بعض هؤلاء الطلبة على مواكب الخدمة في الطريق لإقامة صلاة الجمعة والوعظ والإرشاد.

وهذا التقدم لم يحصل جزافاً بل جاء نتيجة لجهود مباركة قام بها العلماء والمبلغون والخطباء وأئمة الجمعة والجماعة وغيرهم من العاملين المخلصين الذين يواصلون عملهم الدؤوب في توعية الأمة وإرشادها، وتوجيه المسارات بالاتجاه الصحيح، ولكن علينا عدم الاكتفاء بما حصل فأمامنا طريق طويل، فما نراه من الشعور بالنشوة والزهو لمشاركة الملايين في الشعائر الحسينية سابق لأوانه لأن الأهداف لم تكتمل بعد.

وإنما يتملكنا هذا الشعور حينما نرى الناس تجسّد الإسلام في سلوكها وأخلاقها وتجعل حكمه الفيصل في قضاياها، فهل المسيرة كلها تتوقف إذا

ص: 17

دخل وقت الصلاة و ينادي المؤذن (حي على الصلاة) ليؤدي الصلاة في وقتها كلٌ في موقعه والأفضل أن تكون جماعة، لأن الأذان دعوة من الله تبارك وتعالى لعباده للقائه ومناجاته والوقوف بين يديه فكيف ينشغل العبد عن تلبيتها؟.وحينما نرى فضلاء وطلبة الحوزة العلمية ينتشرون في كل المسافات ليقدموا الزاد المعنوي للزوار وقد رأينا إقبالاً من الناس على من يرشدهم ويوجههم وتأثرهم به.

وحينما تقدر هذه الملايين بوعيها وشجاعتها على تغيير واقعها المزري الذي يفتقد إلى أبسط مقوّمات الحياة الإنسانية الكريمة بينما تهدر ثرواته الطائلة في أعمال عبثية وتضيع في جيوب الفاسدين وهو يكتفي بأن يبكي ويولول ويلطم وينادي بالويل والثبور، وهو يمتلك كل عناصر القوّة والأهلية للإصلاح والتغيير وعلى رأسها هذا الإمام العظيم سيد الشهداء وسبط رسول الله (صلی الله علیه و آله).

هل سألنا أنفسنا لماذا يعجز أكثر من عشرة ملايين ساروا مشياً إلى كربلاء من مسافات تصل إلى مئات الكيلومترات وحشد كبير ممن وفروا لهم المأوى والطعام والخدمة والتنظيم، لماذا يعجزون عن تحسين أوضاعهم القاسية ويستمر حفنة من الفاسدين المزوّرين الفاشلين في التحكم بمصيرهم ومقدراتهم، بينما يستطيع عشرات الآلاف –قبل أن يصيروا مئات الآلاف- من المحتجين المتظاهرين الذين اعتصموا في ميدان التحرير في القاهرة أن يغيروا السلطة الجاثمة على صدورهم منذ ثلاثين عاماً؟.

ص: 18

أستطيع القول: لو كان الإمام الحسين (علیه السلام) موجوداً بشخصه بيننا لقاد هذه المسيرة المليونية إلى حيث يقبع الظالمون المستبدون ليجتث جذور الفساد والظلم والاستبداد والاستئثار ويحاسب المفسدين ويعاقبهم ويقيم المبادئ التي تحرك من أجل تحقيقها ولوّجه هذه الملايين لتصوّت في صناديق الاقتراع للكفوئين النزيهين المخلصين المتفانين في عملهم. ولا يكتفي باللطم والمناداة بالويل والثبور.انظروا إلى هذه الشعوب التي حولنا والتي لا تملك مثل الإمام الحسين (علیه السلام) لكنها تأثرت به ولو من بعيد ومن دون أن تشعر بسريان الروح الحسينية الرافضة للظلم والمنكر والبغي والاستبداد والاستئثار، فلم يكن مصادفة انطلاق ثورة شباب مصر(1) يوم 25 يناير (كانون الثاني) الذي كان يوم الزيارة

ص: 19


1- كانت مصر الدولة العربية الثانية التي امتدت إليها ثورات التغيير التي عُرفت بالربيع العربي بعد تونس، وقد انطلقت التظاهرات والاحتجاجات في القاهرة والإسكندرية وغيرهما من المدن المصرية يوم 25/ 1/ 2011 الذي وافق يوم زيارة الأربعين، وبعد أكثر من أسبوعين من المصادمات والمواجهات والوعود التي أطلقها رئيس النظام حسني مبارك والتغييرات العديدة التي أجراها، وفي ليلة الجمعة 7/ ربيع الأول المصادف 11/ 2 زحف المئات من الآلاف إلى ميدان التحرير مبكرين لإحياء جمعة مليونية واجتمع المجلس الأعلى لقيادة القوات المسلحة بدون حضور مبارك الذي خرج بخطاب وعود أغضب الجماهير فزحفت الملايين يوم الجمعة وأقاموا صلوات جمعة ضخمة طالب أئمتها بتنحي مبارك، وبعد حبس الأنفاس غادر مبارك وعائلته القاهرة عصراً إلى شرم الشيخ وأعلن ناثبه عمر سليمان في بيان من سطرين تنحي مبارك عن السلطة وتولّي المجلس الأعلى لقيادة القوات المسلحة برئاسة وزير الدفاع تسيير الأمور في البلاد.

الأربعينية حيث تابع كثير منهم ما يُنقل عن الشعائر الحسينية ومعانيها عبر الفضائيات خلال الأيام التي سبقتها، فتأثر بحركة سيد الشهداء وأباة الضيم ورافضي الظلم والمنكر والبغي.أيها الأحبّة: أنتم شريحتان مهمتان في المجتمع وعليكم المعوَّل في إحداث التغيير والإصلاح: الشباب الذي هم قلب الأمة النابض الذي يتدفق بالحياة في جسدها، والحوزة العلمية التي هي عقل الأمة المفكر والمخطط والقائد لها خصوصاً الحوزة النجفية التي تتسع مسؤولياتها لتشمل العالم كله.

ويزيد من مسؤوليتكم عنوان المدرسة التي تنتمون إليها، فإن للعنوان استحقاقاً مضاعفاً، فقد كان السيد الخميني (قدس سره) أكثر من فقيه محقق كما لمسنا ذلك في كتبه المطبوعة التي نناقشها في البحث الخارج ككتابي الطهارة والبيع، وبتعبير سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) عنه أنه كان فكوراً في درسه.

فقد كان عاملاً بعلمه آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر خرج ليصلح حال أمته على خطى جدّه سيد الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام)، وكان أيضاً مربياً أخلاقياً بسيرته و سيمائه قبل كلامه، ولطالما حثّ الحوزة العلمية على الاهتمام بتهذيب النفس وسلوك طريق الكمال إلى جنب تحصيلهم العلمي، وكرّاسه المطبوع (الجهاد الأكبر) -الذي هو مجموع محاضرات أخلاقية ألقاها على طلبته في نهاية سنة دراسية- أحد الشواهد على ذلك حيث قال في افتتاحه: إن أحدكم يستطيع أن يعرف كم حصل عليه من العلوم خلال هذه السنة، لكن هل التفت إلى مقدار ما حاز من الكمال والرقي في تهذيب نفسه واكتساب

ص: 20

الفضائل والملكات المحمودة؟.ونظراً لأهمية هذه التوجيهات فقد خصصت درساً أسبوعيا لطلاب جامعة الصدر الدينية أعقب استشهاد السيد الصدر الثاني (قدس سره) اشرح لهم فيه هذا الكتاب، ولم أكن استعمل النسخة المطبوعة لأن عيون جلاوزة الأمن تلاحقنا بل أقرأ في دفتر نُقل فيه نص الكتاب، فاقرأوا سيرة هذا الرجل الفذّ وتعلموا منه وسيروا على نهجه الشريف الذي عمّت بركاته دولة إيران وغيرها.

وها هي الشعوب تحرر نفسها من ظلم الطواغيت الذين يتهاوون كعلب كارتونية تدوسها الأرجل مستلهمة حركاتها من سيد الشهداء (ع) وإن لم تلتفت إلى ذلك، ونحن أولى بالحسين (علیه السلام) من كل الشعوب وأجدر بالإصلاح لأننا شيعته ومحبّوه وخدمته ونتنفس عطر تربته الزاكية.

ص: 21

خطاب المرحلة 284 :بين إرهاصات النبوة والظهور المبارك

خطاب المرحلة 284 :بين إرهاصات النبوة والظهور المبارك(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

كانت الأمم تعيش إرهاصات ولادة نبي آخر الزمان وترى تحقق علامات إطلالته على الدنيا الواحدة بعد الأخرى بحسب ما بشرّهم بها أنبياؤهم (صلوات الله عليهم أجمعين) كما ورد في قوله تعالى [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ] (الأعراف:157) وقال تعالى [وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] (الصف:6).

وكان بعض العرب يمنّي نفسه أن يكون هو النبي الموعود كابي عامر الفاسق من الأوس والد حنظلة الشهيد في معركة احد الملقب بغسيل الملائكة، وكانت اليهود تتطاول على العرب بأن النبي الموعود منها متذرعين بما عندهم من علم الكتاب مع جهل وأمية العرب. قال تعالى [وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ] (البقرة:89) أي كانوا يطلبون الفتح

ص: 22


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع وفد أساتذة وطلبة إعدادية الشوملي في محافظة بابل يوم الخميس 13/ربيع الأول/1432 الموافق 17/ 2/ 2011 ومع أعضاء الهيئة التدريسية في قضاء الرفاعي في محافظة ذي قار 18/ربيع الأول/1432

على الكفار والمشركين بأن يكون النبي الموعود منهم فتظهر دولتهم على جميع الناس. وهذا أحد الأسباب التي تفسّر العداوة الشديدة التي أظهرها اليهود لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ومواصلة مؤامراتهم على قتله واستئصاله أو إغوائه واستدراجه من حين مولده الشريف بعد أن تأكدوا من وجود العلامات في هذا المولود المبارك الذي سطع نوره من مكة المكرمة وأيقنوا بانتهاء ملكهم وسلطتهم.

وفي الوقت الذي كان أولئك المدعّون يتكلّون على الأماني الفارغة والادعاءات الكاذبة والإشاعات دون استحقاق، كان النبي الموعود يتعرض لنفحات ربّه ويعد نفسه ليكون مؤهلاً للاختيار لهذا الموقع العظيم والاصطفاء من الله تبارك وتعالى لأداء الرسالة الخاتمة، فاجتنب ما كان عليه قومه من منكرات وضلالات وتسامى عن انحرافات الجاهلية وأباطيلها، وكان يطيل الاعتكاف في غار حراء ليتفرغ لعبادة ربّه محيياً الحنيفية التي جاء بها جّده إبراهيم الخليل (ع)، وكان الله تعالى مؤدبه ومربيه كما عبّر (صلى الله عليه وآله) (أدّبني ربي فأحسن تأديبي) إذ لم يكن أحد عنده أفضل مما عند هذا الوليد المبارك حتى يؤدبه ويسير به في طريق الكمال فكان الله تعالى هو المؤدّب الحاني الشفيق الذي يرعى عبده ويداريه ويحرسه بعينه التي لا تنام ولا يكله إلى غيره طرفة عين، وحتى حينما كانت الأقدار تسوقه (صلى الله عليه وآله) إلى ما لا يليق بالدور العظيم الذي ينتظره (كما في الرواية التي تتحدث عن عرس لعبد الله بن جدعان) كان الله تعالى يذوده عن تلك الموارد

ص: 23

ويعصمه ويرسل إليه ملكاً يصرفه عن ذلك الأمر.وهكذا إذا علم الله من العبد صدقه وإخلاصه في السير إليه أحاطه بلطفه الخاص وعصمه من الزلل، إذ أن العبد مهما كانت همّته وقوة إرادته فانه لا يصل إلى العصمة الكاملة إلا بمزيد عناية من الله تبارك وتعالى.

حتى حين أزف الموعد المبارك الذي عمّ نواله البشرية جميعاً إلى قيام يوم الدين وبعث الله تعالى الروح الأمين إليه في غار حراء ليبلّغه بأنه هو النبي الموعود في آخر الزمان، وكانت المفاجأة المذهلة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يكون هو المصطفى المختار لحمل هذه الرسالة الإلهية ويكون محط نظر ربّه العظيم الكريم فصعق لهيبة الموقف وعاد إلى منزله يرتجف وطلب من زوجته الكريمة أم المؤمنين خديجة أن تدثره وتزمّله وباركت له هذا الاصطفاء وآزرته بأنه اختيار للكفؤ المؤهل واثنت على صفاته الكريمة.

من هذا العرض المختصر لإرهاصات ولادة النبي (صلى الله عليه وآله) وبعثته الشريفة في وسط تلك الجاهلية المدلّهمة انتقل إلى جاهلية اليوم التي عمّتها المفاسد والمظالم والمنكرات ونترقب ظهور المصلح العظيم ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.

وها هي إرهاصات ظهوره المبارك تتوالى فصوت أهل البيت (علیهم السلام) طرق سمع كل بقاع الأرض، والإقبال على مذهبهم الشريف في تزايد سريع، وهاهي الشعوب تتحرر وتُسقِط الطواغيت بسرعة عجيبة لم يكن يتوقعها أحد بعد أن جثموا على صدور شعوبّهم وكبلوهم بالحديد والنار على مدى ثلاثة عقود وأربعة، وهذه الحرية النسبية للشعوب ستتيح الفرصة لأتباع أهل البيت (علیهم السلام) أن

ص: 24

يتحركوا ويتمكنوا بمقدار ما يسمح لهم بإيصال صوت الحق الذي هو كافٍ بذاته لإقناع الناس كما قال الإمام (علیه السلام) (فان الناس لو سمعوا محاسن كلامنا لاتبعونا).لقد كان الكثير يستغرب مما في الدعاء الشريف (اللهم كن لوليك الحجة ابن الحسن صلواتك عليه وعلى أبائه) بقوله (وتسكنه أرضك طوعاً) إذ كيف يمكن أن يبسط الإمام دولته الكريمة على الأرض طوعاً وسلماً وكيف سيتركه هؤلاء الطواغيت المفسدون يتحرك بحرية، لكن أحداث الأيام الحالية جاءتنا بالجواب فهذه الفضائيات التي أوصلت صوت أهل البيت (علیهم السلام) إلى العالم، وهذه المعرفة التي حصلت لجميع البشر بسمو تعاليم أهل البيت (علیهم السلام) وطهارتهم، وهذه الحركات التحررية(1) التي مرّغت أنوف المستكبرين بالوحل جعلت هذه الفقرة ممكنة التحقق والقبول بإذن الله تعالى.

ونحن ندعو على الدوام أن نكون من أنصاره وأعوانه والقادة في دولته الكريمة، فلا ينبغي أن تكون هذه الأدعية مجرد لقلقة لسان ودعاوى بلا حقائق من العمل الدؤوب للتأهل لنيل هذه المقامات الرفيعة. كما أن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) المقربين لم ينالوا تلك المراتب إلا بإعدادهم أنفسهم حتى قبل الإسلام.

فجعفر بن أبي طالب شهيد مؤتة الذي له جناحان يطير بهما في الجنة والذي كانت له حظوة خاصة عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان طاهراً

ص: 25


1- المراد بها ثورات التغيير العربي التي أطاحت بعدد من الأنظمة الطاغوتية المتفرعنة في تونس ومصر وليبيا واليمن، ولا زالت تغلي على غيرها.

عفيفاً حتى في الجاهلية فلم يقرب الخمر ولا الزنا وعلّل ذلك بأنني لا اشرب ما يفسد عقلي وان من طرق باب الناس طرق الناس بابه.وسلمان الفارسي كان رافضاً من أول عمره عبادة قومه لغير الله تبارك فهجر وطنه الأصلي فارس وتوجّه إلى الشام ثم جزيرة العرب بحثاً عن دين التوحيد حتى حظّي بقرب رسول الله (صلى الله عليه وآله).

مثل هذا الإعداد لأنفسنا والسير الطويل نحو الكمال هو ما يؤهلنا لان نكون من أنصار الإمام (علیه السلام) والقادة في مشروعه العظيم، وليس الأمر صعباً على من شمله الله تعالى بلطفه وكانت له إرادة قوية وحب لله تبارك وتعالى ولأوليائه العظام (صلوات الله عليهم أجمعين) وتسامى عمّا عليه مجتمعه من جاهلية وغفلة ومظالم ومنكرات ومفاسد، ولا تحتاج الموبقات والكبائر إلى مؤونة كبيرة لاجتنابها لأنها بطبعها مقززة ومنفرة للطباع السليمة والفطرة النقية.

وأخص بالذكر أنتم معاشر الشباب الواعين الأنقياء الموالين لأهل بيت النبوة (ع) خصوصاً إذا جالستم العلماء والفضلاء والصالحين وحُسن أولئك فانظروا لأنفسكم [وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ] (الحشر:18) والله ولي التوفيق.

ص: 26

خطاب المرحلة 285 :لن يستطيعوا هزيمة شبابنا بإذن الله تعالى

خطاب المرحلة 285 :لن يستطيعوا هزيمة شبابنا بإذن الله تعالى(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

يتحدث الكثير من الشباب وطلبة الجامعات عن أجواء الفساد والانحراف خصوصاً في أروقة الجامعات، والخشية من التأثر بها، وأنا لا أريد أن أقلّل من حجم هذا الخطر وما يستدعيه من الحيطة والحذر والتسلّح بالتقوى والوعي والأخلاق الفاضلة، لكنني أعتقد أن المد الإسلامي المتدين قد نضج بمقدار معتد به في مقاومة واحتواء تأثير هذه الانحرافات الأخلاقية التي اكتسحت المجتمع منذ عشرات السنين وأدت إلى انحراف الأغلبية الساحقة من الشباب في ستينات وسبعينيات القرن الماضي، لكن التيار الديني استعاد التوازن والصمود واحتواء هذا الخطر رغم تزايد قوته وإمكانياته ودخول التقنيات الحديثة لترويجه.

في العام الماضي زارني أحد الأطباء الشباب وأخبرني أنه حصل على زمالة

ص: 27


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع مجموعة من طلبة الجامعة التكنلوجية يوم السبت 29/ع1 المصادف 5/ 3/ 2011 ومع مدير وطلبة المدرسة القرآنية للفتيان في الحلة يوم السبت 19/ج1 /1432 المصادف 23/ 4/ 2011 وجمع من أعضاء موكب العسكريين (ع) في البصرة الذي قدموا مشياً إلى زيارة أمير المؤمنين (علیه السلام) في ذكرى استشهاد الزهراء (علیها السلام) فوصلوا يوم الأربعاء 30/ج1/ 1432 المصادف 4/ 5/ 2011. ومع موكب عشيرة البدور.

دراسية له ولزوجته للتخصص الدقيق في الطب في استراليا وانه يتخوف مستقبلاً من التأثر بأجواء الفساد هناك، فطمأنته وقلت له أن مثله يؤثر فيهم ويغيّرهم وليس العكس، وبعد التحاقه بالدراسة هناك راسلني وقال لقد صدقت فقد أثرنا بأخلاقنا وعفافنا وسلوكنا النظيف في الآخرين فأخذوا يتحلقون حولنا خصوصاً من النساء وهم من جنسيات مختلفة ليسألوا عن ديننا وكيفية حصول هذه الخصال الكريمة عندهما، والدكتور وزوجته يشرحان لهما عن الإسلام ومدرسة أهل البيت (علیهم السلام) ونوابهم من العلماء العاملين، فيصل التأثر عند بعضهم حد البكاء ويعجبون من عفاف المسلمين حيث يمتنع الرجل حتى من مصافحة غير زوجته من الأجنبيات ولا النظر إليهنّ بريبة، ولا تبدي الزوجة زينتها لغير زوجها، وتكريم المتدينين لزوجاتهم.إن تيارات الفساد والتشويه والتضليل الفكري والتشكيك في أصولنا ومبادئنا مستمرة ويوجد لها أبواق من داخل مجتمعنا حتى من بعض المعممين وليس فقط من العلمانيين، لكننا بفضل الله تبارك وتعالى وألطاف صاحب العصر (أرواحنا له الفداء)، و إقامة الشعائر الدينية بكثرة، واستمرارية وانتشار مجالس الوعظ والإرشاد والمدارس الدينية للقرآن الكريم والفقه والأخلاق وسيرة أهل البيت (علیهم السلام)، أصبح كثير من أبنائنا في حصانة من التأثر بها، وأروي لكم حادثة في المناسبة.

في نهاية خمسينيات القرن الماضي حيث كان ما عرف بالمد الشيوعي الأحمر قد اكتسح الساحة العراقية وغرّر بقطاعات واسعة من الشباب والمثقفين والكوادر التعليمية، كان جدي اليعقوبي الكبير (رحمه الله) يرتقي المنبر في مدينة

ص: 28

الشطرة فقام بعض أذناب الشيوعيين الذين غاظهم احتشاد هذا العدد الكبير تحت المنبر الحسيني بإرسال كلب وسط المجلس لإرباكه وتشتيته وكان جدي هادئاً على المنبر، فلما عاد الحشد إلى وضعه استحضر القصة التالية قائلاً: في عهد بعض الولاة العثمانيين السابقين كان الجيش يحمل المدفعية على ظهور الجمال في تحركاته، وكانت فيها ناقة خدمت طويلاً ثم عجزت فأحالوها على التقاعد وقرّر الوالي العثماني تكريمها بأن تترك بحريتها تفعل ما تشاء في أزقة وشوارع المدينة ولا يجوز لأحد التعرض لها ومنعها مما تريد، فكانت تقف عند هذا البائع فتأكل خضاره وعند ذلك فتلتهم طعامه، حتى وقفت عند صاحب محل وأخذت تلتهم ما عنده بشراهة ولم يستطع منعها خوفاً من الوالي فأخذ صفيحة معدنية وراح يضرب عليها ويحدث صوتاً عالياً لإبعادها، فمرّ عليه شخص وسأله عن فعله فأجابه بأنه يحاول إبعادها عن طعامه بهذه الأصوات، فقال له: إن تعبك هذا بلا فائدة لأن هذه الناقة قد اعتادت ضرب المدافع من على ظهرها سنين طويلة وأنت تريد إخافتها بالضرب على الصفيحة!وهنا قال جدي (رحمه الله) محل الشاهد وهو أنه على هؤلاء الأعداء أن ييأسوا من إخافتنا ومحاولات إبعادنا عن دين الله تعالى ورسوله (صلی الله علیه و آله) وولاية أهل البيت (علیهم السلام) فقد حاول كثيرون من قبلهم بكل بطش وقسوة في التاريخ الماضي كالأمويين والعباسيين والتاريخ الحديث كالاحتلال الإنكليزي وغيره فواجهناها بشجاعة وبسالة وقدّمنا التضحيات.

فيا أيها الأحبة إنكم بمواظبتكم على أداء شعائركم الدينية وصلواتكم

ص: 29

المفروضة خصوصاً صلاة الجماعة والجمعة والتردد على المساجد وحضور المجالس الحسينية والتواصل مع العلماء والفضلاء ومطالعة الكتب النافعة سوف لا تؤثر فيكم هذه الأساليب المهزومة بإذن الله تعالى.

ص: 30

خطاب المرحلة 286 :البحرين اللؤلؤة أمانة في أعناق الجميع

خطاب المرحلة 286 :البحرين اللؤلؤة أمانة في أعناق الجميع(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

نتابع بِألم وقلق بالغين الأحداث الجارية في البحرين الشقيقة، خصوصاً في الأيام الأخيرة، وما نجم عنها من قتل وجرح وترويع وتخريب للممتلكات العامة والخاصة، وتوقفٍ للعمل في القطاعات الحيوية في البلاد.

إن عدم تغليب الحكمة وصوت العقل في إدارة الأزمة المتفجّرة منذ أكثر من شهر يهدّد بانزلاق الشعب والبلد إلى هاوية لا يعلم قعرها إلا الله تبارك وتعالى، وكان من الممكن معالجة الاحتقان والعقد الاجتماعية والسياسية منذ عدة سنوات حينما اتفق البحرينيون حكومةً وشعباً على تشخيصها وطرق حلِّها.

إننا نعتقد أن هذه المشاكل والعقد لا تُحلّ بالعنف والحديد والنار،

ص: 31


1- كُتب البيان في أوج احتجاجات الشعب البحريني التي انطلقت يوم 14/ 2/ 2011، وبعد تدخل القوات السعودية تحت غطاء (درع الجزيرة) الذي أقرّه مجلس التعاون الخليجي، فحصل القتل والاعتقال العشوائي وتدمير المساجد ولم تستثنِ تلك الماكنة العسكرية الضخمة النساء والأطفال والجرحى في المستشفيات ومعالجيهم. وقد وجّه سماحته بخروج المظاهرات في المدن العراقية نصرة لإخوانهم في البحرين، وأن يتناول خطباء الجمعة هذه القضية وشرح أبعادها، كما وجّه بعض المسؤولين في الحكومة والبرلمان لإجراء تحركات دبلوماسية، والتقى بعدد من القيادات الدينية والسياسية في البحرين واستمع لهم، وقدّم لهم جملة من الإرشادات الحكيمة.

والتجارب التاريخية والآنية شاهدة على أن الشعوب الثائرة الحية خصوصاً مثل شعب البحرين، الذي له رصيده الحضاري والتاريخي والعقائدي، لا يمكن إسكاتها والقضاء عليها بهذا القمع والبطش.كما لا تُحَلّ باستقدام قوات من دول أخرى مهما كان قربها وقوة الوشائج بها، والمثل العربي الحكيم يقول (ما حكَّ جلدك مثل ظفرك)، وقد رأينا كيف أن مسار الأحداث تعقد كثيراً وارتُكبت جرائم فظيعة - بعد تدخل تلك القوات- ويهدّد بتحويل المطالب الاجتماعية والسياسية المحقَّة إلى مواجهة طائفية تُهلك الحرث والنسل، وتخّرب ما عمّرته أجيال البحرين الشرفاء، كالذي حصل في العراق حينما أجّج الحرب الطائفية طفيليون على السياسة والحكم، أرادوا ركوب الموجة لتحقيق مآربهم، وهذا ما لا يريده أي بحريني غيور على شعبه وازدهار بلده.

إن رفع سقف المطالب من لدن بعض المحتجين خارج الإطار العام المتعارف عليه لدى الجميع، لا يبرّر ممارسات البطش والقسوة ضد الأبرياء العزّل والتي فضحتها وسائل الإعلام، وستدفع الكثيرين ممن لم يتحمسوا للتظاهر والاحتجاج سابقاً إلى التخندق في مواجهة السلطة، مما يقلل فرص الحل الحكيم ويجعلها معدومة، وفي ذلك خسارة للجميع.

ورغم ذلك كله، فإن الحل مازال ممكناً وفي متناول اليد، ويبدأ من الإرادة الجدية الصادقة لمعالجة المشاكل وفك العقد وتبديد المخاوف وهواجس القلق لدى الجميع، قال تعالى [إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا] (النساء:35)، فإرادة الإصلاح شرط لتحققه بلطف الله تعالى، ولو تطلّب الأمر بعض التنازل

ص: 32

فلا ضير فيه، فإنه نُبلٌ وشرفٌ يشكره الله تعالى ورسوله (صلی الله علیه و آله) ويحفظه التاريخ لان فيه حفظاً لمصلحة العباد والبلاد.فإذا توفرت هذه الإرادة –وهي متحققة بإذنه تعالى- فبادروا إلى الحوار الشفاف الهادئ وتناولوا كل قضايا الخلاف من دون تجاوز المبادئ العامة التي اتفق عليها الشعب في مواثيقه.

ولتغادر كل القوات غير البحرينية لأن وجودها قاد الأمور نحو الهاوية، ويسبّب الامتعاض وعدم الثقة ويزيد من الاحتقان ويقطع طريق الحل.

إن حبّنا للبحرين الشقيقة وشعبها الأصيل يدفعنا إلى أن نشاطرهم الألم والقلق، ونَعرض مساعدة العراقيين مرجعيةً وحكومةً في تقريب وجهات النظر والوصول إلى حل، كما ندعو الأشقاء من دول الخليج أن يقوموا بنفس الدور، خصوصاً الذين لم يفقدوا ثقة الشعب البحريني بهم ليكونوا جزءاً من الحل وليس جزءاً من المشكلة.

نبلّغ تعازينا إلى ذوي الشهداء والضحايا الأبرياء ونسأل الله تعالى أن يتغمدهم برحمته ويعلي درجاتهم مع الصديقين والشهداء، وأن يمنّ على الجرحى والمصابين بالشفاء والسلامة، وأن لا يُضيع أجر من أحسن عملاً من ذكر وأنثى كما وعد تبارك وتعالى.

وليتذكر الجميع مسؤوليتهم أمام الله تبارك وتعالى ورسوله الكريم (صلی الله علیه و آله) والتاريخ والإنسانية ولنهبَّ جميعا لنصرة البحرين وشعبها ومؤسساتها، ليعمّها الازدهار والسلم والأمان والتآخي. والله المستعان

ص: 33

[وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] (التوبة:105).محمد اليعقوبي – النجف الأشرف

الخميس 11/ربيع الثاني/1432

الموافق 17/ 3/ 2011

ص: 34

خطاب المرحلة 287 :الطاقة الكامنة عند الشعوب

خطاب المرحلة 287 :الطاقة الكامنة عند الشعوب(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

من أساطيرنا الشعبية قصة (علاء الدين والمصباح السحري) التي تحكي عن مصباح لعلاء الدين إذا فركه بيده خرج منه عفريت من الجن يقول (شبّيك لبّيك أنا عبدك بين يديك) فيأتمر بأمره في كل ما يريد حتى لو أراد إزالة جبل من مكانه.

تحكى هذه القصة وأمثالها للتسلية والمتعة وقضاء الوقت ويعرف الجميع إنها خرافية، لكن حركة الشعوب التي نشهدها في المنطقة اليوم أثبتت أن هذه القصة تحمل رمزية لواقع يمكن تحقيقه، فإن حركة بسيطة –تضاهي فرك المصباح في القصة- للشعب يمكن أن تأتي بنتائج معجزة.

من كان يتصور أن رجلاً تونسياً بسيطاً مثل (محمد البو عزيزي) كان جل همّه أن يوف-ّر قوت عياله اليومي من عربة صغيرة لبيع الخضار في مدينة صغيرة

ص: 35


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع جمع من طلبة كلية القانون في جامعة بابل ومع وفد جامعة الصدر الدينية في ميسان وإحدى المنظمات الإنسانية في النجف يوم السبت 13/ ربيع الثاني/ 1432 المصادف 19/ 3/ 2011.

تدعى سيدي أبو زيد(1) لم تؤشّر على خارطة تونس المتداولة، وإذا به يفجّر بدمه عروش طواغيت يجثمون على صدور شعوبهم بالحديد والنار منذ ثلاثين وأربعين سنة ويستبيحون مقدرات شعوبهم، ويزيل أولئك الطواغيت.هذا ما حصل فعلاً عندما أحرق هذا الرجل نفسه احتجاجاً على مصادرة الشرطة لعربته بحجة التجاوز على القوانين العامة وألقت ما فيها على الأرض، ولم يكن باستطاعته الرد عليهم بعد أن تملكه الغضب والإحباط إلا بهذه الطريقة، فانفجر الشارع المحتقن تعاطفاً معه وانطلقت الشرارة وكسر حاجز الخوف وتشجعت المدن الأخرى ونزل أبناؤها إلى الشوارع، ولم تستطع قوات النظام المدججة بالسلاح كبح جماحهم حتى أطاحت بالنظام. ثم تلته الشعوب الأخرى. حتى مثل الشعب الليبي الذي كنا نعتقد أن طاغوت ليبيا المجنون قد مسخ هويته ومرّغ كرامته بالتراب وسلخ منه إرادته وحريته، وإذا به يقف هذه الوقفة المشرفة ويجابه تلك الماكنة العسكرية الهائلة التي تبطش وتخرب بكل قسوة وهمجية وبقي صامداً إلى اليوم وحرّر أكثر المدن الليبية.

هذه بعض مظاهر القوة التي تمتلكها الشعوب والطاقة الكامنة التي تختزنها

ص: 36


1- انطلقت الاحتجاجات من هذه المدينة يوم 17/ 12/ 2010 وأحرق آخران نفسيهما أيضاً، وبقي ألبو عزيزي في المستشفى وزاره الرئيس بن علي حتى مات يوم 5/ 1/ 2011 الموافق 29/محرم/1432 وشيّعه الآلاف في اليوم التالي، وقد وصلت التظاهرات إلى العاصمة تونس يوم 20/محرم/ الموافق 27/ 12، وظهر الرئيس في== ==عدة خطابات معتذراً ومتألماً وواعداً بالإصلاح وتغيير الفساد والمفسدين، لكن الشعب التونسي ظل حاضراً في الساحة حتى هرب الرئيس من تونس يوم الجمعة 9/صفر/1432 الموافق 14/ 1/ 2011 متوجهاً إلى المملكة السعودية بمساعدة ليبية.

وهذا ما تستطيع فعله إذا التفتت إلى عناصر قوتها الذاتية وسعت إلى انتزاع حقوقها، من دون أن تعوِّل على هذا وذاك ممن لا يريد الخير لها وإنما يبحث عن مصالحه وتنفيذ أجنداته فيجعلهم وقوداً لمشاريعه.ألا ترون التراجع الذي أصاب حركة الثوار الليبيين عندما عوّلوا على تدخّل الغرب وبقوا يتلقون الضربات منتظرين قرار فرض الحظر الجوي الذي تحدّثت عنه دول حلف شمال الأطلسي أسبوعين قبل تنفيذه وكأنهم يدعون القذافي الهمجي إلى استعمال طيرانه، وقد فهم طاغوت ليبيا الرسالة بأن يبطش بالثوار ويستخدم كل ما أوتي من قوة في الجو وعلى الأرض لأنه في سعة من أمره قبل أن يقرّر مجلس الأمن، وهذا ما حصل فعلاً فأصيب الثوار بالإحباط والنكوص حتى وصل عدوهم إلى مشارف عاصمتهم بنغازي.

وتستهدف قوى الاستكبار من ذلك توريط النظام بدرجة أكبر في الجريمة وزيادة عزلته ليكون في قبضتهم وليسهل عليهم إزالته، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ليضغطوا على الشعب والثوار أقصى درجات الضغط حتى يستجيب لمطالبهم ويوّقع لهم على ما يريدون، ولا يهمهم بعد ذلك عدد من يُقتل ويعوّق ويشرّد ويصاب، ومقدار ما يُخرّّب ويدمّر لأنه كله فداء لمصالحهم وصفقاتهم وعلى الشعوب أن تدفع الثمن، أما حقوق الإنسان وحماية المدنيين ونحوها فهي من خدعهم لتمرير قراراتهم والواقع يشهد بخلاف ذلك.

وهذا ما فعلوه في العراق أيضاً، فبعد أن كانوا قاب قوسين أو أدنى من القضاء على صدام اللعين عقب حرب الكويت عام 1991، وكان قائد القوات الأمريكية وحلفاؤها ينتظر الأمر بالانقضاض عليه، جاءت الأوامر بالانسحاب

ص: 37

وتركه وشأنه لأنهم لم يطمئنوا إلى أن يكون الشعب العراقي حليفهم ولا يستطيعون حفظ مصالحهم في هذا البلد بعدان عبّر عن هويته ومطالبه من خلال الشعارات التي رفعها في الانتفاضة الشعبانية المباركة، فاقتضت سياسة المستكبرين أن يطلقوا يد صدام ليمعن في ظلم هذا الشعب وقهره وتجويعه حتى يذعن باللجوء إلى أمريكا وحلفائها ويطلب منهم العون والتدخل ويكون شعاره أنه حتى لو حكمنا إبليس فإنه خير من صدام، وهذا ما حصل لبعض من يسمون أنفسهم بالمعارضة وتحالفوا مع الشيطان لتنقذنا الأبالسة فأصبح العراقيون كالمستجير من الرمضاء بالنار. وجاء معهم الدمار والخراب والفساد.والعراقيون الذين لم يكونوا بحاجة إلى شرارة من تونس ومصر لتوقظهم، للضيم والدمار والقتل والظلم الذي حلّ بهم، ولطالما استنهضت هممهم منذ عدة سنوات في خطابات وفعاليات، فلم يسمع ولم يستجب إلا النزر القليل الذين لا يدفع بهم باطل ولا يُصلح بهم ما فسد من أمور المسلمين، وقلت في بعض تلك الكلمات أن هؤلاء السياسيين لا ضمير لهم ولا يحبونكم وإنما يحبّون أنفسهم قد أعماهم حب الدنيا، ولا يتحركون إلاّ عندما تُحرق الأرض تحت أقدامهم وتُهدّد مصالحهم، لكن الشعب لم يفقه ما يقوله المخلصون له، وجاءته فرصة التغيير في الانتخابات ليختار من يعرف كفاءته ونزاهته وإخلاصه لكن الأغلبية الساحقة اختارت نفس المفسدين المستأثرين، ثم جاؤوا اليوم ليتظاهروا ويطالبوا بالحقوق(1) وهم من ضيّعوها على أنفسهم، وقد

ص: 38


1- إشارة إلى الدعوات التي رُوِّجت على مواقع التواصل الاجتماعي (فيس بوك، تويتر، واليوتيوب) للالتحاق بثورات الربيع العربي وإعلان يوم الجمعة 25/شباط/2011 جمعة الغضب.

حذرت في بعض خطاباتي قبيل الانتخابات أن الله تعالى لا يستجيب دعوة شعب سلّط من لا يرحمه عليه ثم يدعو الله تعالى مطالباً بتغييره.فهذه اليقظة وهذه المطالبات جاءت متأخرة وبعد فوات الفرصة لكنها مع ذلك تنفع في إيجاد ضغط على مسؤولي البلاد لكي يتحركوا ويقدّموا شيئاً لشعبهم، وعلى أبناء الشعب أن يكونوا واعين ولا يسمحوا للانتهازيين بمصادرة جهودهم وتضحياتهم، ورفع شعارات غير ما خرج المتظاهرون من أجله، وأن يعرفوا قيادتهم بالخير والصلاح ولا يسيروا خلف مجهولين لا تُعرف أجنداتهم ولا الجهات التي يعملون لحسابها ويريدون توجيه الشعب عبر مواقع الفيسبوك واليوتيوب والتويتر.

لقد التفتت شعوب المنطقة اليوم إلى قوتها وقدرتها على إصلاح أحوالها وخلعت ثوب الهزيمة والخنوع والاستسلام والذل، وارتدت لأمة الحرية والكرامة والعنفوان والأمل، وها هي تسجّل مآثر خالدة، وتستمر في حركتها نحو الانعتاق من الطواغيت والمستبدين رغم بطش وقسوة تلك الأنظمة، ففي اليمن سقط أمس (52) قتيلاً ومائتا جريح، ولم يزدهم ذلك إلاّ إصراراً على الصمود ومطالبة الرئيس بالتنحي، وكذا ما تشهده مدينة مصراتة الليبية وغيرها من المدن الباسلة في بلاد العرب والمسلمين.

والشعب العراقي يمتلك أزيد مما يملكه أولئك من عناصر القوة لأن عنده أمير المؤمنين (علیه السلام) رمز الشجاعة والعبودية لله تعالى، وعنده الحسين (علیه السلام) عنوان الإباء والتضحية في سبيل الله تعالى. فكيف يعجز عن تحقيق ما يريد بإذن الله تعالى؟

ص: 39

وتبقى كل هذه الحركات لا قيمة لها إذا لم تقترن بالإخلاص لله تبارك وتعالى وحسن النية في إعلاء كلمته وتطهّر الأرض من الشرك والفساد والظلم، وتحقيق وعد الله تبارك وتعالى، وإلا سوف لا تعدو النتيجة ذهاب ظالم ومجيء ظالم آخر أما الظلم فباقٍ، مهما كانت الشعارات برّاقة ومزوّقة كما خدع العباسيون الأمة بشعارات (يا لثارات الحسين) فلما استتم لهم أمر السلطة تنكروا لشعاراتهم وبطشوا بأهل البيت (علیهم السلام) حتى قال الشاعر.فليت جور بني مروان عاد لنا *** وليت عدل بني العباس في النارِ

ص: 40

خطاب المرحلة 288 :البنية التحتية للإنسان

خطاب المرحلة 288 :البنية التحتية للإنسان(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

روى الشيخ الصدوق (رضي الله عنه) في كتابه (من لا يحضره الفقيه) بسند صحيح عن أبي هاشم الجعفري(2) أنه قال: (أصابتني ضيقة شديدة فصرت إلى أبي الحسن علي بن محمد (ع) فاستأذنت عليه فأذن لي فلما جلستُ قال: يا أبا هاشم أيُّ نعم الله عليك تريدُ أن تؤديَّ شكرها؟ قال أبو هاشم: فوجمت فلم أدرِ ما أقولُ له، فابتدأني (ع) فقال: أن الله عز وجل رزقك الإيمان فحرّم به بدنك على النار، ورزقك العافية فأعانك على الطاعة، ورزقك القنوع فصانك عن التبذل، يا أبا هاشم إنما ابتدأتك بهذا لأني ظننت أنك تريدُ أن تشكو لي من فعل بك هذا، قد أمرتُ لك بمائة دينار فخذها) (من لا يحضره الفقيه/ 796

ص: 41


1- أقام حشد من طلبة كليات الطب والهندسة والعلوم من جامعة البصرة حفلاً لتخرجهم في النجف الأشرف يوم الجمعة 26/ ربيع الثاني/ 1432 المصادف 1/ 4/ 2011 ضمن برنامج أعدّه لهم زملاؤهم في جامعة الكوفة على مدى يومين كاملين تضمن زيارة أمير المؤمنين (علیه السلام) والحسين (علیه السلام) والمشاهد المشرّفة الأخرى، وبعد انتهائهم من الحفل وأدائهم صلاة الظهرين يوم الجمعة، زارهم سماحة الشيخ اليعقوبي في مقر إقامتهم في جامعة الصدر الدينية تثميناً لهذه المبادرة الكريمة في مقابل حفلات التخرج الماجنة، وألقى سماحته فيهم كلمة، وهذا تقرير لبعض ما جاء فيها.
2- وهو داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر الطيار من أجلاء أصحاب الأئمة (علیهم السلام).

ح 5863).بدأت حديثي بهذه الرواية لأنني قرأت في عيونكم قلقاً على مستقبلكم من حيث صعوبة الحصول على وظيفة حكومية اليوم حيث أصبحت ملكاً للأحزاب المتسلطة، وقلقاً على مستقبل البلد حيث تحدّث الأخ في كلمته التعريفية عن إناطة مواقع المسؤولية بأُناس غير كفوئين ولا مخلصين لبلدهم وشعبهم بل إن كثيرين منهم مزورون لشهاداتهم وهمهم ملأ بطونهم وأرصدتهم من المال الحرام.

وهذا القلق مشروع ومستحسن على كلا الصعيدين أي إيجاد فرصة العمل المناسبة للكسب المشروع وتمكين الرجل المناسب من الموقع المناسب، فهذا سلمان الفارسي الذي قال فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله): (سلمان منا أهل البيت) لما استغربوا منه ادخار بعض المواد لمؤونته في البيت وهو الزاهد في الدنيا، قال (إن النفس إذا أحرزت رزقها اطمأنت)، ولأن كل غيور على بلده وشفيق على إخوانه يحب لهم أن يكونوا سعداء بأفضل حال ويتمتعون بالحرية والكرامة والرفاه التي هي من حقوق كل إنسان.

أيها الأحبّة: رويت لكم هذا الحديث لأخفف عنكم هذا القلق ولألفت نظركم إلى وجود نعم هي أعظم من كل ما تفكرون به لكن الإنسان يغفل عنها لاعتياده عليها، فيكون تذكرها جزءاً من الحل لأنه يسلّي النفس وينعش الروح ويزرع الأمل بغدٍ أفضل ويرقي الطموح، ولنسدّ على إبليس والنفس الأمّارة بالسوء وشياطين الإنس منافذ إقناع الإنسان بسوء الظن بالله تعالى الرب الرحيم الكريم الحكيم العليم –وهذا ما توخّاه الإمام الهادي (علیه السلام) عندما ابتدأ أبا

ص: 42

هاشم الجعفري بهذه الكلمات لأنه (علیه السلام) نظر إليه بعين الله تعالى وقرأ فيه القلق والتبرّم من الحال، والشكوى من تقدير الله تعالى بسبب الغفلة عمّا أنعم به من نعم عظيمة لا تُعدّ ولا تُحصى.فيذكّر (ع) أن ربّك الذي تريد أن تشكوه أعطاك الإيمان بالله وما يتبعه من الإيمان برسوله وبولاية أهل البيت (علیهم السلام) المنجية من النار ومفتاح كل خير، وأعطاك الصحة والعافية التي بها قوام السعادة في الدنيا والآخرة، وأعطاك الكرامة والتفضيل على سائر مخلوقاته (ولقد كرّمنا بني آدم) هذه النعم هي أصول كل النعم الأخرى ولا تهنأ حياة الإنسان إلا بها مهما تكاثرت النعم الأخرى، أي أن هذه الثلاث يصلح أن نسميها بمصطلح اليوم (البنية التحتية للإنسان)، وهي ما يستحق أن يفرح الإنسان بحصوله عليها ويحزن إذا فقدها.

نحن الآن في يوم الجمعة وبعد الظهر وهي ساعة مباركة، وفي سورة الجمعة يقول الله تبارك وتعالى بعد قوله [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] إلى أن قال تعالى [ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ] (الجمعة: 2 -4) وقال تعالى [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] (يونس: 58) فتزكية النفس وتطهير القلب والمعرفة بالله تعالى وتدبير شؤون الحياة بالحكمة هو الفضل الحقيقي من الله تعالى الذي يُفرح به.

وعلى هذه البنية التحتية ومن هذه الأصول تنطلق الأمور الأخرى فتتوفر عندك هذه المحبة للناس والسعي لإسعادهم، وهذا الإخلاص والجد والهمة العالية والنزاهة في العمل، وهذه الغيرة على البلد وشعبه، وهذا الإبداع وإيجاد

ص: 43

كل ما هو أفضل، وهذا الطموح المشروع الذي لا يقف عند حد لأن الكمال لا متناهي.وهذا الحديث الشريف يحمّلنا عدة مسؤوليات أمام هذه النعم التي سميناها بالبنية التحتية وهي:

1-المحافظة عليها وتعزيزها وتنميتها وتعميقها في النفس والروح والعقل والجسد، وعدم الغفلة عنها والانشغال بأمور أخرى مهما تبدو مهمة فإنها ليست بأهمية هذه.

2-إنكم على أبواب التخرج وتحملون شهادات تؤهلكم لفرص عمل جيدة، و ستعرض عليكم مثل هذه الفرص إن عاجلاً أو آجلاً بإذن الله، فعليكم أن تختاروا من تلك الفرص ما لا يتنافى وهذه النعم مهما كانت العروض مغرية، فإنها صفقة خاسرة أن تُشترى دنيا زائلة فانية بدين قويم يوجب السعادة الأبدية، فراقبوا ربّكم وحاسبوا أنفسكم وكونوا أمناء على ما ائتمنكم عليه.

3-أن لا تكرّسوا كل اهتمامكم في تحصيل الوظيفة، فإن مؤسسات الدولة لا تستطيع أن تستوعب كل الشعب في الوظائف الحكومية فعليكم أن تعملوا عقولكم المبدعة لإيجاد منافذ للكسب المشروع في ما يسمى بالقطاع الخاص، وقد تناولنا أهمية هذا التوجه في أحد خطاباتنا السابقة(1).

إن وجود أمثالكم بين أبناء الشعب يجدّد فينا الأمل بغدٍ أفضل، وان سوء الحال لا يمكن أن يستمر وان الإصلاح والتغيير نحو الأحسن واقع لا محالة، ومن دون هذا فإن الإحباط واليأس سيقضي على كل أمل نتيجة تسلط

ص: 44


1- راجع خطاب المرحلة: 6/ 20.

المفسدين والمستبدين والمستأثرين الذين اتخذوا مال الله دولاً وعباده خولاً، وكأن قدر هذه الشعوب أن تكون مرتهنة بنزوات وأطماع وشره حفنة من السيئين، وقد عشنا التجربة المرة مع صدام المقبور ورأينا كيف سخّر ثروات هذا البلد المادية والبشرية لنزواته وحماقاته، وأدخل العراق والمنطقة في حروب وكوارث لا طائل تحتها.وبين أيديكم الآن ما يفعله صعلوك(1) ليبيا المثير للاشمئزاز والتقزز بتصرفاته الرعناء كيف جعل الشعب الليبي وثرواته دروعاً لحماية نفسه وبقائه في السلطة رغم استبداده بها منذ 42 عاماً.

إن تسلط مثل هؤلاء واستبدادهم بمقدرات الشعوب مظهر من مظاهر تفاهة هذه الدنيا وهوانها على الله تعالى وحماقة من طلبها وركن إليها وجعلها هدفاً له، كما ورد في الحديث الشريف (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى فيها كافراً شربة ماء). فالمغرور من غرّته، والشقي من فتنته كما قال الإمام الحسين (علیه السلام) ولو كانت لها قيمة لمكّن أنبياءه وأولياءه منها، ولما زهدهم فيها.

لكن هذا في نفس الوقت يلقي على الجميع خصوصاً الشباب مسؤولية

ص: 45


1- انطلقت حركة التغيير في ليبيا بالتظاهرات والاحتجاجات يوم 17/ 2/ 2011 الموافق 13/ع1/ 1432 وأحرقوا صوراً للقذافي ومباني لجانه الثورية في بنغازي وعدة مدن أخرى، ثم تحولت إلى مواجهات مسلحة وحرب حقيقية حيث وفّرت الدول القريبة (بريطانيا، إيطاليا، فرنسا، أمريكا) غطاءً جوياً للثوار حتى انتصرت الثورة بعد عدة أشهر بدخول الثوار طرابلس ثم مقتل القذافي وتسلّم المجلس الانتقالي السلطة فيها.

التغيير والإصلاح لأنه يبدأ منكم وقد مضت السُنّة الإلهية على [إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ] (الرعد:11) وهذا ما استشعره شباب العرب والمسلمين اليوم فسرى فيهم دم النهضة واليقظة لانتزاع حقوقهم وكرامتهم وحريتهم، وتهاوت أمام هذه النهضة عروش الطواغيت.أيها الأحبة: إن كل تقدم ونجاح تحققونه يدخل السرور على قلب إمامكم المهدي الموعود (علیه السلام) لأنكم ذخيرته وعُدّتُه وهو (ع) ينتظركم أكثر مما تنتظرونه، ويتابع أخباركم كما عبّر (ع) في رسالته إلى الشيخ المفيد (رضي الله عنه) في كتاب الاحتجاج (إنه لا يعزب عنا شيء من أخباركم).

ص: 46

خطاب المرحلة 289 :أثر الأدب في خلق المجتمع العراقي الجديد

خطاب المرحلة 289 :أثر الأدب في خلق المجتمع العراقي الجديد(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

امتنّ الله تبارك وتعالى على عباده بأن زودّهم بما يعبرون به عن مكنون حاجاتهم وأفكارهم ومشاعرهم وعلّمهم كيفية ذلك من خلال اللغة والبيان قال تعالى في سورة الرحمن (خلق الإنسان علّمه البيان) وهذا يكشف عن عظمة هذه القابلية التي أودعها الله تعالى في الإنسان.

إن للّغة وآدابها آثاراً نفسية واجتماعية وأخلاقية وتربوية وعلمية ودينية، فلا غرو أن يكون لها الدور الفعّال في بناء المجتمع، خصوصاً وإن مجتمعنا العراقي يعيش حالة التشكّل والولادة من جديد بعد عهود من التخلف والتمزق والضياع، ولكي يكون الوليد سليماً صالحاً سوياً لابد أن تأخذ اللغة وآدابها دورها في هذا البناء، وذلك لأمور:

ص: 47


1- الكلمة التي كتبها سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) إلى مؤتمر عقدته كلية الفقه في جامعة الكوفة يوم الاثنين 14/جمادى الأولى/1432 الموافق 18/ 4/ 2011 تحت العنوان المذكور حضره علماء وأساتذة جامعيون من مختلف الجامعات العراقية.

1-إن اللغة هي الوسيلة الأكثر تأثيراً في حفظ وحدة أبناء المجتمع وانشدادهم إلى كيانهم خصوصاً في مجتمعنا الذي تعدد فيه القوميات والأديان والطوائف والأيديولوجيات، وقد جرّب الكثير ممن سافروا إلى دول أجنبية أن أكثر ما يشدّهم من الآخر هو عندما يجده يتحدث بلغته، كما لمستم بوضوح الحواجز بين شمال العراق وبقية أجزائه بسبب الانفصال الذي حصل منذ عام 1991 وعدم تداول اللغة العربية بينهم فنشأ عندهم جيل لا يفهم العربية ولم يَعُد يجد قاسماً مشتركاً بينه وبين إخوته العراقيين، بينما كانت اللحمة وثيقة حينما كانوا يدرسون في جامعاتنا ويعملون في مؤسساتنا ويختلطون بمجتمعنا العربي.

2-من خلال اللغة يحس المرء بانتمائه وهويته، فاللغة وطن حقيقي للإنسان ولو انسلخ منها فإنه يعيش الغربة والضياع. فلكي يتعزز الانتماء للوطن لابد من تعزيز الارتباط باللغة.

3-إن لغتنا العربية من أرقى اللغات في الإحساس بالجمال والتعبير عن الإبداع، وهذه معانٍ تنشد إليها النفس وتسمو معها، روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله (إن من الشعر لحكمة، وإن من البيان لسحر)، لذا كان من الطبيعي أن يختارها الله تبارك وتعالى لتكون وعاءاً للمعاني العظيمة التي يريد أن يبلغ بها عباده من خلال القرآن الكريم الذي لا تنقضي عجائبه ولا تنتهي علومه حتى وصف في أحاديث المعصومين (علیهم السلام) بأن له سبعين بطناً من المعانين وما كان لغير اللغة العربية أن تستوعب بكلام واحد كل هذه المعاني من غير تكلّف ولا إسفاف.

ص: 48

4-إن منظومتنا الأخلاقية والدينية والمعرفية مستمدة من القرآن الكريم والسنة الشريفة ومما تركه السلف الصالح من تراث ضخم، ولا نتمكن من التواصل مع هذه الأصول والمحافظة على منظومتنا هذه إلا بإدامة التعاطي الرصين مع لغتنا العربية، وإلا فإننا سنتخلف عن فهم واستيعاب تلك الحقائق وضياعها منّا.

إن حاجتنا إلى ثورة أدبية لغوية ليس لأن اللغة العربية لغتنا ونعتز بها والقاسم المشترك لأبناء امتنا العربية فحسب، لأن الاهتمام بهذا المقدار شيء تشترك فيه كل الشعوب، ولكن الأهم من ذلك أنها لغة القرآن الكريم والسنة الشريفة للنبي وآله المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين) فالتفريط بها وبآدابها وضعف الاهتمام بها يعني الانفصال عن هذا المعين الصافي للعلم والمعرفة والمنهج السليم للحياة.

من هنا يكتسب مؤتمركم الشريف أهمية كبيرة، ونستثمر هذه الفرصة لنقدّم بين أيديكم الكريمة خطوات عملية في هذه الحركة المباركة.

1-إحياء (مجمع اللغة العربية) وتفعيل دوره، فقد كان وعلى مدى عقود مجمعاً لأساتذة الفن وجهابذته ممن نذروا أنفسهم لصيانة اللسان العربي ونشر علوم اللغة وآدابها فأسدوا للأمة خدمات جليلة.

2-التواصل الجدي المثمر بين الحوزات الدينية والجامعات الأكاديمية لأن لكل من المؤسسين الكثير مما ينفع الآخر ويعضّد الجهود المثمرة لهما.

3-تشجيع الباحثين في علوم اللغة وآدابها ودعمهم مادياً ومعنوياً.

4-إقامة الفعاليات الأدبية التي تثير في المتلقي حبّه لهذه اللغة وتُشعره

ص: 49

بجمالها وتعزّز انتماءه لها.5-نشر البحوث والكتابات المتعلقة باللغة وآدابها بمستوى يناسب الثقافة العامة لتتسع قاعدة المستفيدين منها.

أقول هذا وأنا أعلم أن لديكم الكثير غيره، ولكن الذكرى تنفع المؤمنين.

[وَقُل اعمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُم وَرَسُولُهُ وَالمُؤمِنُونَ].

بسم الله الرحمن الرحيم

أسماء السيدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) (1)

س1: ما العلاقة بين الاسم والمسمى؟، وبتعبير آخر: ما هي المناسبة بين الاسم ومن يحمل الاسم؟

ج: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين كثيراً ما تطلق الأسماء على الأشخاص من دون مناسبة كتسمية الشخص (كريم) وهو (بخيل) ويسمّى (خالد) وهو فإن زائل ويسمى (عبد الله) وهو عبد الشيطان وأهواء النفس الأمّارة بالسوء، فمثل هذه التسمية الارتجالية لا علاقة لها بالمسمّى ويكون الاسم مجرد مشير إلى المسمى لكي يعرف به ويشار إليه به.

أما الاسم الحقيقي فهو ما تطابق مع المسمى كما عرّفه أمير المؤمنين (علیه السلام) لأبي الأسود الدؤلي عندما وجهه بوضع علم النحو قال (علیه السلام) (الاسم ما أنبأ عن المسمى) أي ما أخبر عن المسمى، كما أن اسم الكتاب وعنوانه

ص: 50


1- حوارية أجرتها قناة النعيم الفضائية مع سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) بمناسبة ذكرى استشهاد الصديقة الزهراء (علیها السلام) ليلة الجمعة 2/ج2/ 1432 المصادف 6/ 5/ 2011.

يخبر عن محتوياته قبل أن تقرأه، لذا يتأمل المؤلف كثيراً قبل أن يسمي الكتاب لأنه يختصر الكتاب كله.س2: هل اهتم الشارع المقدس بقضية تسمية الأبناء.؟

ج: لاسم الشخص انعكاس مهم على شخصيته ونفسيته وسلوكه، فإن الاسم الجميل يعطي ثقة بالنفس لحامله ويجعله مرفوع الرأس، بعكس من كان اسمه قبيحاً فإن صاحبه يشعر بعقدة الحقارة كما يسميها علماء النفس والاجتماع، ويشعر دائماً بأنه مهان ومنبوذ اجتماعياً وخصوصاً إذا كان الآخرون يسخرون من اسمه، ويدعوه ذلك إلى الانزواء والابتعاد عن الناس أو الانتقام من المجتمع كردة فعل.

وإن الاسم قد يؤثر في صناعة شخصية الإنسان وسلوكه من خلال محاولة الشخص ليكون مطابقاً لاسمه، كشخص يكون اسمه (محمداً) أو (علياً) فيحترم هذا الاسم ويسعى لأن يكون أهلاً لحمله، أو امرأة تسمى فاطمة فتكون أمينة على هذا الاسم، بعكس ما لو كانوا على خلاف صفات صاحب الاسم فإن الآخرين ينتقدونها بأن اسمها فاطمة أو زينب وهي سافرة أو غير متدينة وهكذا، ولعل جزءاً من تكوّن شخصية البطش والعنف والصدام لدى المقبور صدام كانت بدافع من اسمه.

لذا جعل الشارع المقدس من حق الابن على أبيه أن يحسن تسميته فعن الإمام الكاظم (علیه السلام) قال (أول ما يبرُّ الرجل ولده أن يسميه باسم حسن، فليحسن أحدكم اسم ولده) وروى الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) عن آبائه (ع) (في وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (علیه السلام) قال: يا علي حق

ص: 51

الولد على والده أن يحسن اسمه وأدبه ويضعه موضعاً صالحاً)، ويظهر أن تأثير الاسم يمتد إلى يوم القيامة أيضاً، فعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): استحسنوا أسماءكم فإنكم تدعون بها يوم القيامة قم يا فلان بن فلان إلى نورك، وقم يا فلان بن فلان لا نور لك).(1)وكان من عادة أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يأتوا بالوليد إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليسمّيه تبركاً وطلباً لحسن الاسم، وتفاؤلاً لمستقبله أن يكون كما سمّاه رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ونذكر في هذه المناسبة أن الحاكم النيسابوري صاحب المستدرك على الصحيحين روى بسنده عن عبد الرحمن بن عوف قال (كان لا يولد لأحد مولود إلا أُتي به النبي (صلی الله علیه و آله) فدعا له، فأدخل عليه مروان بن الحكم فقال هو الوزغ الملعون ابن الملعون)(2) ورويت مثلها عن أئمتنا (ع) في مصادرنا.(3)

س3: هل يوجد استحباب شرعي لبعض الأسماء حتى يراعيها الآباء في تسمية أبنائهم؟

ج: أفضل الأسماء هي أسماء النبي وأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين) لأن معانيها حسنة بل في منتهى الحسن، مضافاً إلى حث أهل البيت (علیهم السلام) على التسمية بها، روى الإمام الصادق (علیه السلام) عن آبائه (ع) قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) من ولد له ثلاثة بنين ولم يسمِّ أحدهم محمد فقد جفاني) وعن الإمام

ص: 52


1- هذه الروايات في وسائل الشيعة، كتاب النكاح، أبواب أحكام الأولاد، باب22.
2- معجم رجال الحديث للسيد الخوئي (قدس سره): ج18 ص138.
3- مجمع البحرين للطريحي، مادة (وزغ).

الرضا (علیه السلام) عن آبائه عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: (إذا سميتم الولد محمداً فأكرموه وأوسعوا له في المجلس ولا تقبّحوا له وجهاً) وقال الإمام الصادق (علیه السلام) (واعلم أنه ليس في الأرض دار فيها اسم محمد إلا وهي تُقدّس كل يوم)(1) وقال الإمام الحسين (علیه السلام) (لو ولد لي مائة لأحببتُ أن لا اسمي أحداً منهم إلاّ علياً)(2)، ودخل رجل ولدت له بنت على الإمام الصادق (علیه السلام) فقال (علیه السلام): ما سميتها؟ قال: فاطمة فقال (علیه السلام) (آه آه آه ثم وضع يده على جبهته –إلى أن قال- أما إذا سميتها فاطمة فلا تسبّها ولا تلعنها ولا تضربها).(3)فالتسمية بأسماء أهل البيت (علیهم السلام) تتحقق بها أمور عديدة ففيها طاعة لتوجيهاتهم (ع) وبركة لجميع عائلة الوليد، وفيها إحياء لذكرهم (ع)، ونشر لوجودهم الشريف وردٌ على أعدائهم الذين حاولوا بشتى الوسائل طمس ذكرهم حتى منعوا من التسمية بعلي، وهذا وجه لما تقدّم من حديث الإمام الحسين (علیه السلام)، مضافاً إلى ما في ذلك من البر بهم والوفاء لهم (ع) حتى عُدَّ عدم التسمية جفاءً لهم، مضافاً إلى ذلك فهي أسماء حسنة تبعث الراحة والانشراح والرفعة لمن يتسمى بها.

بعكس أسماء أعداء أهل البيت (علیهم السلام) فإنها مذمومة كمعاوية الذي يعني كلاباً تعاوت وأبوه صخر بن حرب وأمثالها من الأسماء المثيرة للاشمئزاز والكراهية.

ص: 53


1- الرواية وما قبلها في وسائل الشيعة، أبواب أحكام الأولاد، باب24.
2- المصدر السابق، باب25.
3- المصدر السابق، باب87.

س4: نعود إلى صاحبة الذكرى: السيدة فاطمة الزهراء فنسأل: كم عدد أسماء الزهراء (علیها السلام)؟ج: إذا قصدنا بالاسم اسم الذات فاسمها (فاطمة) كما ذكرت في خطبتها الشهيرة (أيها الناس: اعلموا أني فاطمة وأبي محمد (صلی الله علیه و آله))، لكن الاسم يراد به هنا ما هو أعم من ذلك فيشمل اللقب كالزهراء (علیها السلام) والكنية كأم أبيها، وبهذا اللحاظ فإن أسماءها عديدة.

وقد اختلفت الروايات في تعدادها، ففي كتب الشيخ الصدوق (رضي الله عنه) الأمالي وعلل الشرائع والخصال بسنده عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال (لفاطمة تسعة أسماء عند الله عز وجل، فاطمة، والصديقة، والمباركة، والطاهرة، والزكية، والراضية، والمرضية، والمحدَّثة، والزهراء)(1)، ثم قال: أتدري أي شيء تفسير فاطمة؟ قلت أخبرني يا سيدي، قال فطمت من الشر) وفي الحديث عن الإمام الصادق (علیه السلام): (فمن عرف فاطمة (علیها السلام) حق معرفتها فقد أدرك ليلة القدر، وإنما سميت فاطمة لأن الخلق فطموا عن معرفتها)، وروي عن أبي هريرة أنه قال (إنما سميت فاطمة (علیها السلام)، فاطمة لأن الله فطم من أحبها من النار).

وتوجد روايات تشير إلى عدد أكبر من الأسماء للسيدة الزهراء (علیها السلام) كعشرين أو أكثر حتى تصل إلى تسعة وتسعين اسماً، وهذا واضح لأن الحديث المتقدم لم يتضمن أسماء مشهورة كالكوثر وأم أبيها وغيرها، قال ابن

ص: 54


1- راجع المصادر في الموسوعة الكبرى عن فاطمة الزهراء (علیها السلام) 18/ 329.

شهراشوب في المناقب (وصحّ في الأخبار: (لفاطمة عشرون اسماً، كل اسم يدل على فضيلة) ذكرها ابن بابويه في كتاب مولد فاطمة (علیها السلام)(1). ويمكن فهم هذا الاختلاف في الإعداد باعتبار أن الروايات ليست بصدد حصر كل الأسماء فالحديث الأول يذكر الأسماء التي سماها الله تبارك وتعالى بها، والثاني يعدد الأسماء التي تكشف عن فضائلها وصفات كمالها، باعتبار أن كل صفة تعبِّر عن فضيلة من فضائلها، وهكذا فهي لا تنفي وجود أسماء أخرى.

وقد تضمنت نصوص زيارتها الكثير من الأسماء، وقد نظم أحد العلماء الأعلام أرجوزة شعرية في أسمائها (علیها السلام) ومما قال:

ألقابها تذكر في الكتابِ *** كما أتت في كتب الأصحابِ

معصومة رضية مرضية *** صديقة ميمونة زكيّة

ذات صفات من أبيها مورثة *** والبعض من ألقابها محدَّثة

والدرة البيضاء والمباركة *** سيدة النسا بلا مشاركة

أم أبيها قيل من كُناها *** وليُطلَبُ التحقيق في معناها(2)

س5: هل في هذه الأسماء إشارة إلى معاني معينة.؟

ج: هذه الأسماء صدرت من الله تبارك وتعالى ومن رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله) أو أطلقها عليها أولادها المعصومون (علیهم السلام) فهي مطابقة للحقيقة، وهي عين الواقع كما في الحديث السابق (لفاطمة تسعة أسماء عند الله عز

ص: 55


1- المصدر السابق: 18/ 438.
2- المصدر السابق: 18/ 347 وتوجد منظومة أخرى في18/ 355.

وجل)، وهي أما تعبير عن فضيلة تتصف بها –كما في الحديث السابق- أو منقبة حبيت بها، أو تكريم منحت إياه، وكلها تعبّر عن حقائق مقدسة في سيدة العالمين، وشرحت الأحاديث الشريفة معانيها.فسميت بالطاهرة لأنها من أهل البيت الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا بنص القرآن الكريم، وسميت بالبتول لانقطاعها إلى عبادة الله تعالى كما في مجمع البيان للطبرسي، أو لانقطاعها عن نساء زمانها، أو عن نساء الأمة فضلاً وديناً وحسباً وعفافاً كما روي عن الزمخشري.

وسميت الكوثر لأنها الواسطة في تكثير نسل رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبقائه، قال الرازي في تفسير الكوثر في سورة الكوثر (الكوثر أولاده، لأن هذه السورة نزلت رداً على من عابه (صلی الله علیه و آله) بعدم الأولاد، فالمعنى أنه يعطيه نسلاً يبقون على مرّ الزمان).

وفي الكافي بسنده عن الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) (إن فاطمة (علیها السلام) صديقة شهيدة)، وعن الإمام الكاظم (علیه السلام) في حديث عن النبي (صلی الله علیه و آله) (يا علي إني قد أوصيت فاطمة (علیها السلام) ابنتي بأشياء وأمرتها أن تلقيها إليك فأنفذها، فهي الصادقة الصدوقة).

ومن ألقابها (أم الهناء) لأنها رأس كل هنيئة في الدنيا والآخرة.(1)

س6: لفت انتباهي ما ذكرتم في أسماء الزهراء (علیها السلام) (أم أبيها) فماذا يعني هذا الاسم.؟

ص: 56


1- راجع في مصادر النصوص والكلمات: الموسوعة الكاملة عن فاطمة الزهراء: 18/ 320- 442.

ج: هذه الكنية للزهراء (علیها السلام) رواها العامة والخاصة، فمن العامة الطبراني في المعجم الكبير بسنده عن مصعب بن عبد الله الزبيري وابن الأثير في أسد الغابة، وأبو الفرج في مقاتل الطالبيين، وابن حجر في الإصابة وفي تهذيب التهذيب وفي كتاب تاريخ مدينة دمشق، وهي أشهر كنى الزهراء (علیها السلام).وقد كنّاها بذلك أبوها رسول الله (صلی الله علیه و آله) ويمكن أن يكون لهذه الكنية أكثر من منشأ.

1-إن حب فاطمة (علیها السلام) لأبيها (صلی الله علیه و آله) وشفقتها وحنوها عليه كان كالذي تُغدقه الأم على ولدها، مع الالتفات إلى انه ليس مبنياً على العاطفة المجردة وإنما على المعرفة التامة التي تناسب مقامها المقدس الكامل.

2-وتأتي الأم بمعنى الأصل كما في قوله تعالى (وَإنَّهُ في أُمِّ الكِتابِ لَدَينا) (الزخرف:4) يعني في أصل الكتاب أي اللوح المحفوظ، فالزهراء (علیها السلام) أصل أبيها لأن كل نسله وذريته منها فهي أصل امتداده (صلی الله علیه و آله) إلى يوم القيامة، وهي أصل امتداد رسالته (صلی الله علیه و آله) إلى يوم الساعة لأنها (علیها السلام) بموقفها وتضحيتها حافظت على خط الإسلام الأصيل وحفظته من الانحراف والتحريف.

3-وتطلق الأم على خالصة الشيء وعصارته ومجمع محتوياته كما تسمى منطقة الدماغ من الإنسان (أم الرأس) فيقال ضربه على أم رأسه، وكما تسمى مكة أم القرى وتسمى سورة الحمد أم الكتاب لأنها اشتملت على ما في القرآن الكريم من المبادئ العامة، فالزهراء (علیها السلام) أم أبيها بهذا المعنى لأنها جمعت الخصال الكريمة لأبيها، واعترف لها بذلك أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله)

ص: 57

وأمهات المؤمنين، قالت عائشة (ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ولا هدياً وحديثاً برسول الله في قيامه وقعوده من فاطمة).(1)4-ويمكن أن يكون الرسول (صلی الله علیه و آله) قد كنّاها بذلك ليقطع الطريق على من تشعر من أزواجه بأن لها شرفاً وتفضيلاً على فاطمة (علیها السلام) باعتبار أنهن أمهات المؤمنين بنص قوله تعالى: [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ] (الأحزاب/6).

فكنى فاطمة أم أبيها رسول الله (صلی الله علیه و آله) لتتقدم على أزواجه.

كما أنه (صلى الله عليه وآله) لمّا آخى بين المهاجرين والأنصار في المدينة لم يجعل لعلي (علیه السلام) أخاً كالآخرين ولما سأله أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (صلى الله عليه وآله): ادخرتُك لنفسي وآخاه.

س7: هل من دروس عملية تتضمنها الأسماء المباركة؟

ج: قال تعالى: [وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] (النحل:60)، فالمثل الأعلى الذي يكون الوصول إليه هو الهدف والغاية هو الله تبارك وتعالى، ولذا ورد في الحديث الشريف (تخلّقوا بأخلاق الله) أي اسعوا للاتصاف بأوصاف الله تعالى التي تعبّر عنها أسماؤه الحسنى، قال تعالى: [وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا] (الأعراف: 180) وقد نفهم [فَادْعُوهُ بِها] أي فنادوه بها كما ينادى أي مسمى باسمه، وقد يكون بمعنى فاسألوه بها أي من الدعاء بمعنى فتوسلوا إليه بأسمائه المباركة، والأدعية حافلة بذلك كدعاء كميل (اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء وبقوتك التي قهرت بها كل شيء) وغيرها من

ص: 58


1- راجع المصادر من العامة: كتاب: السيدة فاطمة الزهراء: دراسة تاريخية: 521.

الدعوات المباركة الكثيرة.فالأسماء الحسنى تعبّر عن حالة سامية تمثل القمة التي يسعى الإنسان الوصول إليها، وأهل البيت (علیهم السلام) مظهر من مظاهر الصفات الإلهية في فضائلهم وخصالهم وسلوكهم على أرض الواقع، وأسماؤهم لم تطلق عليهم اعتباطاً وإنما بمصداقية تامة.

فهذه الأسماء للزهراء (علیها السلام) هي صفات وخصائص تستحق أن تُجعل أسوة حسنة لكل من يتوق إلى الكمال والسعادة.

فمن اسم (فاطمة) يتعلم الإنسان أن يفطم نفسه من الشر والمعاصي والانحراف، ومن (الصدّيقة) يأخذ درساً في الصدق، ومن اسم (الطاهرة) يستلهم معاني تطهير النفس من الأهواء والطمع، وتطهير القلب من الغل والحسد والحقد وغيرها من الرذائل ومن اسم (الراضية) يحصل على الطمأنينة بقضاء الله وقدره، ومن أسم (المباركة) يتحفز لأن يكون وجوده مباركاً ومحضره محضر خير دائماً وكلامه فيه هدى وصلاح ورشد كما قال تعالى: [وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ] (مريم:31)، وهكذا الأسماء المباركة الأخرى، وهذا باختصار، وإلا فإن كل اسم يمكن الكلام فيه مفصلاً كما تحدثنا في كتاب (شكوى القرآن) عن صفات القرآن ومعانيها وآثارها.

س8: على هذا تكون الزهراء (علیها السلام) قدوة وأسوة للرجال والنساء معاً وليس فقط للنساء؟.

ج: هذا صحيح وهي (علیها السلام) كذلك، بل هي حجة على الخلق أجمعين، وفي ذلك روي عن الإمام الحسن العسكري قوله (نحن حجج الله على خلقه،

ص: 59

وجدّتنا فاطمة حجة الله علينا)(1). وكان الأئمة يفخرون ويتشرفون بأنهم أولاد فاطمة الزهراء ويعلنون ذلك على الملأ، ولا يفخر المعصوم الكامل إلا بمن هو أسوة ومثل أعلى للخلق أجمعين وفي ذلك يقول الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) في إحدى رسائله (وفي ابنة رسول الله (صلی الله علیه و آله) لي أسوة حسنة).(2)

ص: 60


1- راجع المصادر في كتاب السيدة الزهراء (علیها السلام)، دراسة تاريخية517.
2- نفس المصدر السابق.

خطاب المرحلة 290 :السيدة الزهراء (علیها السلام) توقظ الأمة لمعرفة قادتها

اشارة

خطاب المرحلة 290 :السيدة الزهراء (علیها السلام) توقظ الأمة لمعرفة قادتها(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سادة الخلق أجمعين أبي القاسم محمد وآله الطاهرين.

ورد في حديث مشهور (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا)(2) فالناس وإن تراهم يعملون ويأكلون ويتحدثون إلا أنهم في نومٍ هو نوم الغفلة عن حقيقة وجودهم، وما يراد منهم والهدف الذي يجب أن يتوجهوا إليه، وما الذي ينتظرهم بعد موتهم والنتيجة التي سيحصلون عليها من السعادة أو الشقاء، فإذا ماتوا اكتشفوا أنهم كانوا في هذه الغفلة، وفوجئوا بعدم الاستعداد لتلك الحياة الجديدة الدائمة التي لا يستطيع أحد مهما أوتي من علم أن يدعي معرفة

ص: 61


1- كلمة سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) بمناسبة ذكرى استشهاد الصديقة الزهراء (علیها السلام) يوم السبت 3/ج2/ 1432 الموافق 7/ 5/ 2011، التي ألقاها على الجموع القادمة لزيارة أمير المؤمنين (علیه السلام) في المناسبة.
2- نسبه العلامة المجلسي (قدس سره) في بحار الأنوار (4/ 43 وفي 50/ 134) إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونسبه ابن ميثم البحراني في (شرح مائة كلمة لأمير المؤمنين (علیه السلام)، الكلمة الثانية) إلى أمير المؤمنين (علیه السلام)، ولم يذكر مصدراً لذلك فلعلها كلمة مشهورة مستفادة من أحاديث المعصومين (علیهم السلام) التي سترد في الخطبة، ولعلها مستفادة من قول الإمام علي (علیه السلام): (أهل الدنيا كركب يسار بهم وهم نيام) (نهج البلاغة، ج4).

حقيقتها إلا من عرّفهم الله تعالى، وحينئذٍ سيصاب بالذهول وتأخذه الحسرة والندامة كما قال أمير المؤمنين (علیه السلام) (ع): (اجتمعت عليهم سكرة الموت وحسرة الفوت)(1)، قال تعالى في ذلك: [وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ، وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ، لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ] (ق:19-22).لقد كنت في الدنيا غافلاً عن هذه المشاهد وهذه العاقبة منهمكاً في مشاغلها من مالٍ ومتعة ولهو ولعب وعبث وصراعات وجدلٍ فارغ من غير استعداد لهذا اليوم، وبالموت انكشف عنك غطاء الغفلة فصرت ترى بعين البصيرة النافذة الحادة حقيقة أمرك وعاقبتك بعد زوال الحجاب عنها، فما كنت تعتقد أنه حقيقة من مشاغل الدنيا ولهوها ومتعها وجدت أنه خيال ووهم زائل وسراب كنت تتعلق به يحسبه الظمآن ماءً، وما كنت غافلاً عن الاستعداد له ولا تحسب حسابه –وهو الموت وما بعده من أهوال الآخرة- قد وجدته حقيقة ثابتة، فالغفلة باتجاهين [وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ] (الزمر:47).

وبقراءة ما بين سطور الآية الشريفة نستنتج أن هذه الحقائق موجودة في هذه الدنيا؛ لأن الغفلة لا تكون إلا عن شيء موجود، لكن الإنسان لا يرى تلك الحقائق بالعين وإن كانت مفتوحة وإنما بالبصيرة والقلب الطاهر من الرجس فإذا ضرب عليه بحجاب من الغفلة والقساوة والرين فإنه سوف لا يكون مرآةً قابلة لانعكاس الحقائق الموجودة في اللوح المحفوظ.

ص: 62


1- نهج البلاغة، خطبة 109.

وفي غرر الحكم عن أمير المؤمنين (علیه السلام): (انتباه العيون لا ينفع مع غفلة القلوب)، والخطاب في الآية الشريفة [لَقَد كُنتَ في غَفلَةٍ] لا يشمل من بلغوا من المعرفة أقصاها وزالت عن بصائرهم حجب الجهل والغفلة وغشاوتها لأنهم مبصرون وليسوا غافلين، لذا فهم يرون العالم الآخر ويتحدثون عنه كرسول الله(1) (صلی الله علیه و آله)، فترى أمير المؤمنين (علیه السلام) استعمل نفس تعبير الآية الشريفة حينما قال: (لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً)(2)؛ لأنه (علیه السلام) لم يكن في غفلة عن هذه الحقائق بل كانت حاضرة عنده (ع).إن الغفلة –وكذا النسيان- وإن كانت أمراً خارجاً عن إرادة الإنسان ظاهراً، إلا أن الإنسان هو الذي يوقع نفسه فيها لقلة تحفظه وانتباهه وبارتكابه مقدماتها وإيجاده الأسباب الموجبة لها، والتي نعرفها من مضاداتها أي علاج الغفلة التي ذكرها الأئمة (علیهم السلام).

فالإنسان إذن هو الذي يحرم نفسه من معرفة الحقيقة ويحبسها في سجن الغفلة، حينما يرتكب ما يبعده ويشغله عن الله تعالى حتى يقسو قلبه فلا يتقبل المعرفة، عن الإمام الحسن (علیه السلام): (الغفلة تركك المسجد وطاعتك المفسد)(3) وهذه بعض مصاديق ما يوجب الغفلة، وعن الإمام الباقر (علیه السلام): (إياك والغفلة ففيها تكون قساوة القلب)، وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) في غرر الحكم: (من

ص: 63


1- والشواهد على ذلك كثيرة كتكليم النبي (صلی الله علیه و آله) لقتلى بدر وحكايته عما جرى لسعد بن معاذ من ضغطة القبر ولعبد الله والد جابر الأنصاري من النعيم بعد موتهما، ولعمرو بن لحي وغيرهم.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 1/ 317.
3- بحار الأنوار: 78/ 115.

غلبت عليه الغفلة مات قلبه) (دوام الغفلة تعمي البصيرة).ولقد ورد التحذير من الغفلة عن الله تبارك وتعالى قال سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ] (الحشر:19)؛ لذا وصفها أمير المؤمنين (علیه السلام) بأن (الغفلة أضرُّ الأعداء) لأن (الغفلة ضلال النفوس وعنوان النحوس) وقال (علیه السلام): (ويل لمن غلبت عليه الغفلة فنسي الرحلة ولم يستعد).

ومن هنا حرص الشارع المقدس على إيقاظ الناس من غفلتهم قبل فوات الأوان قال تعالى: [أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ] (الحديد:16)، وفي غرر الحكم عن أمير المؤمنين (علیه السلام): (ضادّوا الغفلة باليقظة) (ألا مستيقظ من غفلته قبل نفاد مدته) (تداوَ من داء الفترة في قلبك بعزيمة، ومن كرى الغفلة في ناظرك بيقظة).

وبينوا (ع) لنا ما يوقظ من نوم الغفلة كالقيام بالأعمال الصالحة ولو على مستوى النية وإن لم يفعلها فعن النبي (صلی الله علیه و آله): (يا أبا ذر: همّ بالحسنة وإن لم تعملها لكي لا تكتب في الغافلين)(1)، وتلاوة القرآن فقد روي عنه (صلی الله علیه و آله): (من قرأ عشر آيات في ليلة لم يكتب من الغافلين ومن قرأ خمسين آية كتب من الذاكرين)(2)، وتقوى الله تبارك وتعالى فعن أمير المؤمنين (علیه السلام) في نهج

ص: 64


1- بحار الأنوار: 77/ 88.
2- أصول الكافي، كتاب فضل القرآن، باب ثواب قراءة القرآن، ح5.

البلاغة: (أوصيكم بتقوى الله.. أيقظوا بها نومكم واقطعوا بها يومكم) والإكثار من ذكر الله تعالى فعنه (علیه السلام) في غرر الحكم (بدوامك ذكر الله تنجاب الغفلة) وذكر الموت، قال (علیه السلام): (أوصيكم بذكر الموت وإقلال الغفلة عنه) واستماع المواعظ ومطالعة كتب الموعظة والتذكير بالآخرة، قال (علیه السلام): (بالمواعظ تنجلي الغفلة) (أغفل الناس من لم يتعظ بتغير الدنيا من حال إلى حال)(1)، وترك اللهو والعبث والأمور الفارغة والاشتغال بما هو مفيد، قال (علیه السلام): (إن كنتم للنجاة طالبين فارفضوا الغفلة واللهو والزموا الاجتهاد والجد) والالتزام بالصلاة والمحافظة على أوقات فضيلتها، قال (علیه السلام): (أيما مؤمن حافظ على الصلوات المفروضة فصلاها لوقتها فليس هذا من الغافلين)، وقد تضمنت الأدعية المباركة طلب اليقظة من الغفلة كقولهم (ع): (اللهم نبهني من نومة الغافلين).أيها الإخوة المؤمنون:

هذه الغفلة عن الله تعالى ترتبط بها غفلة أخرى لا تقل عنها ضرراً هي عدم الاهتداء إلى الحجة المنصوب من الله تعالى لأن بها الضلال عن الدين كما في الدعاء المعروف: (اللهم عرّفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني) وفي ذلك يقول الإمام الحسين (علیه السلام): (معرفة الله هي معرفة كل أهل عصر إمامهم).

فأخطر النوم الذي سيعرف الإنسان حقيقته عندما ينكشف عنه غطاء الغفلة بالموت، هو النوم عن معرفة السبيل الذي يوصله إلى معرفة ربّه ويهديه

ص: 65


1- بحار الأنوار: 77/ 112.

إلى الصراط المستقيم وفي دعاء الندبة (وقلتَ ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً، فكانوا هم السبيل إليك والمسلك إلى رضوانك).والغفلة عن القيادة الحقة للأمة قد تكون غفلة كاملة باتباع قيادة مناقضة تماماً لها كمن اتبع معاوية ويزيد ونظراءهما وعادى علي بن أبي طالب والحسن والحسين وأولادهم المعصومين (سلام الله عليهم أجمعين)، وقد تكون على نحو الانحراف عنها باختيار غير الأكفأ والأقدر على تحمل المسؤولية.

وبحسب نوع الغفلة ودرجتها تتفاوت الآثار(1) المترتبة على ذلك ومقدار الابتعاد عمّا أمر الله تعالى، وإن كان الحق واحداً وصراطه مستقيم، وإنما تتكثر طرق الضلالة والانحراف [أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ] (يونس:35) [فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ] (يونس:32).

أيها الإخوة المجتمعون على محبة الزهراء (علیها السلام) ونصرتها:

لم تكن السيدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) حين خرجت إلى مسجد أبيها (صلی الله علیه و آله) راغبة في أن تخرج من دارها؛ لأنها القائلة حين سأل أبوها (صلی الله علیه و آله) عما هو خير للنساء فأجابت: أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل، وحينما تزوجها أمير المؤمنين (علیه السلام) وانتقلت من دار أبيها رسول الله إلى دار زوجها أمير المؤمنين (علیه السلام)، قسّم رسول الله (صلی الله علیه و آله) العمل بينهما فجعل على علي (علیه السلام) ما خلف باب

ص: 66


1- يوجد تفصيل لهذه الآثار في خطاب (ماذا خسرت الأمة حين ولّت الأمة من لا يستحق) المنشور في كتاب (من وحي الغدير).

الدار وعلى فاطمة (علیها السلام) ما دون الباب، فقالت فاطمة (علیها السلام): (فلا يعلم ما داخلني من السرور إلا الله بإكفائي رسول الله (صلی الله علیه و آله) تحمّل رقاب الرجال)(1).لكنها خرجت مرغمة لأداء واجبها في إيقاظ أمة أبيها (صلی الله علیه و آله) من الغفلة التي اعترتهم والتفريط في وصية رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأرادت أن ترفع عنهم حجاب الغفلة، وتحذّرهم يوم يكشف الغطاء عنهم، وتذكرهم بلزوم طاعة الإمام الحق أمير المؤمنين (علیه السلام)، وكانت كلماتها (علیها السلام) تقع كالصاعقة عليهم كقولها (علیها السلام): (معاشر الناس المسرعة إلى قيل الباطل، المغضية على الفعل القبيح الخاسر، أفلا تتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها؟ كلا بل رانَ على قلوبكم ما أسأتم من أعمالكم فأخذ بسمعكم وأبصاركم، ولبئس ما تأوّلتم، وساء ما به أشرتم، وشرٌّ ما منه اعتضتم(2) (اغتصبتم)، لتجدنَّ –والله- محمله ثقيلاً وغبَّه وبيلاً إذا كشف لكم الغطاء وبان ما وراءه الضراء وبدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون، وخسر هنالك المبطلون).

وبيّنت (علیها السلام) للأمة من خلال نساء الأنصار اللواتي زرنها صفات المستحق لإمامة الأمة وقيادتها (ويحهم، أنّى زحزحوها! عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة والدلالة، ومهبط الروح الأمين، والطبين(3) بأمور الدنيا والدين، ألا ذلك هو الخسران المبين. وما الذي نقموا من أبي الحسن؟ نقموا منه –والله- نكير

ص: 67


1- بحار الأنوار: 43/ 81 عن قرب الإسناد: 52/ح 170.
2- اعتضتم: من الاعتياض وهو أخذ العوض والمقصود هنا الاستبدال.
3- الطبين الحاذق الفطن العارف.

سيفه وقلة مبالاته بحتفه وشدة وطأته ونكال وقعته وتنمّره(1) في ذات الله عز وجل. والله لو تكافّوا(2) عن زمام نبذه رسول الله إليه لاعتقله ولسار بهم سيراً سُجُحاً(3) لا يكلم خِشاشُه(4) ولا يتعتع (5) راكبه، ولأوردهم منهلاً نميراً صافياً رويّاً فضفاضاً تطفح ضفتاه ولا يترنّق جانباه(6). ولأصدرهم بِطاناً(7) ونصح لهم سراً وإعلاناً، ولم يكن يحلى (8) من الغنى بطائل ولا يحظى من الدنيا بنائل، غير ريِّ الناهل وشبعة الكافل(9). ولَبان لهم الزاهد من الراغب والصادق من

ص: 68


1- التنمر: الغضب، والمقصود من ذات الله أي لوجه الله عز وجل.
2- تكافّوا: صرف بعضهم بعضاً، والزمام مقود البعير أو الخيط الذي يشد في ثقب أنف البعير، وفي رواية أخرى (لو تكافئوا على زمام نبذه رسول الله إليه لاعتقله..).
3- السير السجح: السهل اللين.
4- لا يكلم: لا يجرح، والخشاش: الخيط الذي يدخل في أنف البعير.
5- يتعتع راكبه: يقلق ويتحرك حركة عنيفة.
6- المنهل: محل ورود الماء، والنمير: الماء العذب السائغ النامي للجسد، والرويّ: الكثير، والفضفاض: الواسع، ويترنّق: يتكدر.
7- البطان: جمع بطين وهو عظيم البطن، وأوردهم: جاء بهم إلى الماء وأصدرهم: أي أرجعهم بعد الري.
8- يحلى: يصيب ويستفيد، والطائل: كثير فائدة.
9- الناهل: العطشان أو الشارب الذي روى فاعتزل فيكون شربه قليلاً بعدها، ويحتمل أن يكون الناهل بمعنى الذي ينهل قليلاً من الماء فالنهل هو أول الشرب، والكافل المسؤول عن العيال الذي يؤثرهم على نفسه فيقلل طعامه، وفي اللغة أيضاً أن الكافل هو الذي لا يأكل أو الذي يواصل الصيام. والتمثيل واضح أنه (علیه السلام) سوف لن يتناول من الدنيا إلا بما يقيم أوده كما فعلها في فترة حكومته (سلام الله عليه)، وفي اللغة أيضاً أن الكافل هو الذي لا يأكل أو الذي يواصل الصيام.

الكاذب [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَ-كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ]).وحذّرتهم (سلام الله عليها) من عاقبة فعلتهم حينما صرفوا الأمر إلى غير أهله فقالت: (أما لعمري لقد لقحت فنَظِرةٌ ريثما تُنتج(1)، ثم احتلبوا ملء القعب دماً عبيطاً(2)، وذعافاً مبيداً(3)، هنالك يخسر المبطلون، ويعرف التالون غبّ(4) ما أسسه الأولون، ثم طِيبوا عن دنياكم أنفساً(5)، واطمئنوا للفتنة جأشاً(6)، وأبشروا بسيفٍ صارم وسطوة معتدٍ غاشم، وهرْجٍ(7) شامل، واستبداد من الظالمين يدعُ فيئكم زهيداً وجمعكم حصيداً. فيا حسرةً لكم، وأنّى بكم؟ وقد عميت عليكم(8)، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون؟).

ص: 69


1- لقحت الفتنة إذا استثيرت، تشبيهاً بتلقيح الدابة، وتنتج: تلد، والنظِرة: المهلة، أي انتظروا حتى تلد الفتنة قصدت بها (علیها السلام) ما ينتظر هذه الأمة من ويلات بسبب الفتنة التي حصلت يومها.
2- القعب: إناء ضخم، والدم العبيط: الطري.
3- الذعاف: السم السريع الإفناء، والمبيد المهلك.
4- الغب: العاقبة أو الجزاء.
5- طابت نفسه عن الشيء: أي نسيه ولم يفكر فيه، إشارة إلى أنكم ستخسرون أنفسكم وهو تعبير للسخرية منهم ولتهويل خسارتهم.
6- هذا هو الموجود في المصدر الذي بين يدي، والأصل ربما (وطامنوا للفتنة جأشاً) يعرف ذلك من خبر اللغة وهو كلام سائر في كلام العرب وطامن القِدر وطأمنه أي سكّنه والجأش: القلب أو النفس من الاضطراب والروعان، وسبيل هذا التعبير من التشبيه سبيل سابقه من التهويل والاستهزاء نظير قوله تعالى: [فبَشّرهُمْ بعَذَابٍ أَلِيمٍ].
7- الهرج: الفوضى أو الفتنة.
8- أنى لكم: من أين لكم الهداية، أو: أين تذهبون وتتيهون مثل قوله تعالى: [فَأنّى يُؤفَكُونَ].

وهذا ما سار عليه أولادها المعصومون (علیهم السلام) فقد كانوا يوقظون الأمة وينبهونها إلى الإمام الحق، ومما ورد في كتاب الإمام الحسين (علیه السلام) إلى أهل الكوفة يعْلمهم بإرسال ابن عمه مسلم بن عقيل: (فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب والآخذ بالقسط والدائن بالحق والحابس نفسه على ذات الله)(1).وحذّرهم (ع) يوم كربلاء من مغبة اتباع القادة الضالين المنحرفين وترك أئمة الحق والهدى الذين تجب على الجميع نصرتهم ومن أقواله (ع): (تبّاً لكم أيتها الجماعة وترحاً، أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم (2) موجفين(3) سللتم علينا سيوفاً لنا في أيمانكم وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدونا وعدوكم، فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم، فهلا –لكم الويلات- تركتمومنا والسيف مشيم والجأش طامن والرأي لما يستحصف(4)... ويحكم أهؤلاء تعضدون وعنا تتخاذلون، أما والله لا تلبثون بعدها إلا كريثما يُركب الفرس

ص: 70


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للسيد المقرّم: 165.
2- استصرخ: استنجد، وأصرخ: لبى الاستصراخ وأنجد المستصرخ، والواله: هو المتحير أو الخائف.
3- الوجيف سرعة السير، وربما يطلق على المشي الشديد ويستعمل في المشي بجد وقصد قال تعالى: [فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ] (الحشر: 6).
4- السيف مشيم: أي مغمد، والجأش طامن: تقدم المعنى، وهو تشبيه للنفس أو القِدر بأنه مطمئن كناية عن استقرار الأمر وهمود الفتنة، والرأي لما يستحصف: لم يصبح حصيفاً واضحاً جازماً بعد: أي رأي أعدائه في قتله أي لم يكونوا ليتجرأوا عليه ولكنكم سهلتم له ذلك (فتطايرتم عليها تطاير الدبا (وهو الجراد) وتهافتم عليها كتهافت الفراش).

حتى تدور بكم دور الرحى وتقلق بكم قلق المحور، عهدٌ عهده إليّ أبي عن جدي رسول الله)(1).وترجم الشهيد زهير بن القين هذا المعنى في خطبته التي وجهها إلى جيش الأمويين يوم عاشوراء ومما جاء فيها: (فإنكم لا تدركون منهما –أي يزيد بن معاوية وعبيد الله بن زياد- إلا سوء عمر سلطانهما، ليَسملان أعينكم ويقطعان أيديكم وأرجلكم ويمثلان بكم ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقرّاءكم أمثال حجر بن عدي وأصحابه وهاني بن عروة وأشباهه)(2).

وهذا ما حصل ويحصل في كل زمان حتى يومنا الحاضر حيث لم تحصد الأجيال من تسلط وزعامة غير المؤهلين لقيادة الأمة إلا الفتن والضلال وتمزيق الشمل، والصراعات التي أهلكت الحرث والنسل، وتشويه صورة الإسلام، وضعف الوازع الديني بحيث لا يبقى من المتدينين إلا النزر اليسير، وتلكؤ حركة الإسلام لهداية البشرية، وحرمان الناس من ثروته المعنوية الهائلة، واستعباد الناس والاستئثار بثروات الأمة وهدرها على نزوات وأطماع المتسلطين وفسادهم، وغيرها من الكوارث العظيمة.

يا أنصار الزهراء..

إننا نشهد اليوم ازدهار النهضة الفاطمية المباركة وانتصار موقفها، فبعد أربعة عشر قرناً من محاولات فقهاء السلطة إخضاع الناس لإرادة السلطان الذي يسمي نفسه أمير المؤمنين، وإجبار هم على طاعته باعتباره عندهم هو المقصود

ص: 71


1- مقتل الحسين للسيد المقرم: 286-288.
2- مقتل الحسين للسيد المقرم: 283.

بأولي الأمر في الآية الشريفة [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ] (النساء:59) وحرّموا الخروج عليهم مهما بلغ فسقهم وفجورهم وظلمهم حتى قالوا عن الحسين (علیه السلام) سبط النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) (أنه قُتل بسيف جده) لأنه خرج طلباً للإصلاح في الأمر وليصحح الانحراف في مسيرة الحكام.ووقفت الزهراء (علیها السلام) من أول يوم لانقلاب الأمة لتكشف الانحراف ولتوقظ الناس من غفلتهم وترشدهم إلى الإمام الحق، وأن القيادة لا تكون بالادعاءات وإنما بالاستحقاق والمؤهلات التي يريدها الله تبارك وتعالى لكن تزوير الحقائق الذي مارسه فقهاء السلطة عبر القرون رسخ في أذهان أتباعهم فرسّخوا عقيدة أن من يتسلط على رقاب الناس ولو بالسيف والقهر والانقلابات العسكرية هو ظل الله في الأرض وخليفته، وأن الله تعالى يأمر بطاعتهم ولا يزال الكثير منهم يرددها.

لكن شعوب المنطقة اليوم بثورتها على حكامها الطواغيت ونزوعها إلى الحرية، رفضت ذلك التزوير للحقائق الذي مارسه علماء السوء فاضطر بعضهم إلى مجاملة حركة الشعوب وتأييدها، فأثبت الواقع على الأرض دحض نظرية أعداء السيدة الزهراء من أمويين وعباسين وأمثالهم، وآمن الجميع –شاؤوا أم أبوا- بصحة ما طالبت به الزهراء (علیها السلام) من تسليم الأمر إلى أهله ومستحقيه.

بل النصر أوسع من ذلك فإن ما يدور في أروقة الأكاديميات السياسية في أمريكا وأوربا هو فشل نظرياتهم في الحكم؛ لأن أساس الحكم هو العدل والهدف منه توزيع الحقوق والواجبات على الناس بالقسط والعدل، وهذا ما لم

ص: 72

تستطع تحقيقه كل أنظمة الحكم الوضعية التي صنعتها البشرية لنفسها، ففشلت الدكتاتورية أولاً؛ لأنها تجمع الامتيازات بيد الفرد على حساب الأمة، فنادوا بالديمقراطية واعتبروها أعظم الإنجازات البشرية في الحكم ثم ثبت لديهم فشلها لأنها ترعى مصالح النصف زائداً شيء على حساب النصف ناقصاً شيء، فعدلوا إلى فكرة الشراكة في الحكم ثم وجدوها بائسة تشلّ الحياة لأنها تتحول إلى محاصصة على حساب المهنية والكفاءة والنزاهة، وضاعت مؤسسات الدولة في أتون صراعات السياسيين ونخرتها أنانياتهم. فاقتنعوا الآن بما أسسه أهل البيت (علیهم السلام) بأمر الله تبارك وتعالى من ضرورة قيمومة شخص يمثل القمة في العلم والنزاهة والاستقامة والصفات الكريمة على السلطة ليوجّه عملها ويقوّم اعوجاجها ويصلح ما فسد من أمورها وهو عين ما نعتقده في من يستحق التصدي لهذا الموقع الشريف من الأنبياء والرسل والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين)، ومن بعدهم الفقهاء الجامعون لشرائط النيابة عن المعصوم (علیهم السلام).لقد أذعنت تلك الأكاديميات بصحة مذهب أهل البيت (علیهم السلام) في السلطة والحكم وحمّلوا شيعتهم مسؤولية بيان هذه الحقائق وإيصالها إلى العالم كله، فإن البشرية ستؤمن بها إذا وعتها.

وهذه من أعظم المسؤوليات التي يتوجب علينا القيام بها اليوم؛ لأن معركة الحق والباطل على مدى التأريخ تتجلى بوضوح في معركة الحاكمية والقانون الذي يجب أن يحكم في الأرض، فالله تبارك وتعالى يريد لشريعة الحق والعدل أن تسود ويتصدى المصطفون الأخيار لقيادة البشرية، بينما يريد أولياء الشيطان وأتباع الهوى والأطماع، واللاهثون وراء السلطة والجاه والنفوذ أن

ص: 73

يستأثروا ويستبدوا، ويتدافع هذان المعسكران عبر التأريخ بلا كلل أو ملل، قال أمير المؤمنين (علیه السلام) في جواب رجل قال له في وقعة صفين: ترجع إلى عراقك ونرجع إلى شامنا، قال (علیه السلام): (لقد عرفتُ إنما عرضتَ هذا نصيحةً وشفقة.. إن الله تبارك وتعالى لم يرضَ من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فوجدت القتال أهون عليّ من معالجة الأغلال في جهنم) (1).وامتداداً لهذه المواجهة خرجت الصديقة الزهراء (علیها السلام) إلى مسجد أبيها (صلی الله علیه و آله) وألقت خطابها على المسلمين وخصمتهم بالحجج الدامغة، والتزاماً بهذا الواجب توجّه الإمام الحسين (علیه السلام) إلى كربلاء حيث عبّر عن غرضه في عدة مواضع وأنه ما خرج إلا طلباً للإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتصحيح الانحراف وتقويم اعوجاج السلطة، ومن كلماته (ع) في ذلك: (أيها الناس إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله ناكثاً عهده مخالفاً لسنة رسول الله (صلی الله علیه و آله) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله) (2). وقال (علیه السلام): (إن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه) ثم قال (علیه السلام): (اللهم إنك تعلم أنه لم يكن ما كان منا تنافساً في سلطان ولا التماساً من فضول الحطام ولكن لنحيي المعالم من دينك ونُظهر الإصلاح في بلادك ويأمن المظلومون من عبادك ويعمل بفرائضك وسننك

ص: 74


1- نهج السعادة: 2/ 226.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للسيد المقرم: 218.

وأحكامك. فإنكم إن لا تنصرونا وتنصفونا قوي الظلمة عليكم وعملوا في إطفاء نور نبيكم وحسبنا الله وعليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير) (1).فهنيئاً لكم أيها السائرون على النهج الذي اختطته الصديقة الطاهرة (علیها السلام) فقد عرفتم الحق منذ عرفتم الزهراء (علیها السلام) وتمسكتم بها، فحافظوا على هذه النعمة، وكونوا يقظين، ولا تأخذكم غفلة عن معرفة قادتكم الحقيقيين الذي يأخذون بأيديكم إلى الهدى والصلاح ورضا الله تبارك وتعالى [وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ] (الأنبياء:73).

ص: 75


1- تحف العقول: 172.

حبِّبوا إلى أولادكم مطالعة الكتب

حبِّبوا إلى أولادكم مطالعة الكتب(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

تحدثت في لقاء سابق مع مجموعة من الفتيان أمثالكم عن عنصر من عناصر التربية وهي مصاحبة أولياء الأمور والمعلمين والمربين الصالحين، انطلاقاً من قوله (صلی الله علیه و آله) (اصحبوهم سبعاً)، واليوم نتحدث عن عنصر آخر مؤثر في التربية الصالحة هي مطالعة الكتب المفيدة.

ولا نتوقع من الأحبّة الصبيان وهم في هذا العمر أن يكون لهم ولع بقراءة الكتب العلمية في أي حقل من حقول المعرفة، وإنما تكون البداية مع الكتيبات والكراريس ذات الطابع القصصي التي تذكر فيها القصة لا لأجل التسلية والمتعة المجردة وقضاء الوقت كقصص المغامرات، وإنما لإيصال فكرة مفيدة أو الإقناع بالتحلي بخصلة كريمة، أو التنفير من سلوك مشين، أو تعلّم أمر نافع في الدين والدنيا، حتى إذا حصل الأنس بالكتاب والتمتع به وتوفرت لدى الصبي المؤهلات والرغبة الكافية أمكن الانتقال إلى تدريسهم كتباً مبسطة في الفقه والعقائد والأخلاق وسيرة أهل البيت (علیهم السلام).

وإنما جعلت البداية من القصص لأنها محببة للنفوس وجالبة للانتباه وتبقى راسخة في الذهن بكل تفاصيلها، وتحفظ معها محل الشاهد الذي نقلت

ص: 76


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع مدير وطلبة مدرسة أشبال المنتظر القرآنية في الناصرية يوم السبت 16/شوال/1431 الموافق 25/ 9/ 2010، وقد تأخّر تقريرها ونشرها إلى الآن.

من أجله، وكشاهد على الانجذاب للقصة، لاحظ المستمعين إلى خطيب فإنهم حالما يبدأ بالاستشهاد بقصة ينشدّون إليه ويستجمعون قواهم الذهنية أكثر مما لو كان الحديث في مطالب أخرى.إن كتب التاريخ والسيرة تضم عدداً هائلاً من القصص والحكايات والروايات التي تؤدي الغرض المذكور، ولا نستطيع أن نكلف الفتيان بأخذها من مصادرها، ومن هنا تكون وظيفة ومسؤولية الفضلاء والأدباء والمثقفين الوصول إليها في مصادرها وانتقاء ما يناسب ثقافة الصبي وفهمه وتقديمها له كغذاء جاهز مع إلفات نظره إلى ما يستخلصه من الدروس والعبر.

وقد قمنا ومعنا عدد من الأخوة العاملين –جزاهم الله خير جزاء المحسنين- عندما تصدينا للمسؤولية بعد استشهاد السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) عام 1999 بإصدار عدد من هذه الكراريس والكتيبات القصصية النافعة والمؤثرة، وقد ساهمت بدرجة ملحوظة في صناعة السلوك النظيف والوعي الرسالي لدى شريحة كبيرة ومنها مجموعة (آمنة ومؤمل، هدى والطواهر، دروس للصبي المسلم، دروس للفتى المسلم، شباب في مقبرة الجنس، حدث في الجامعة، زيارة مدرسة، حلم في مستشفى، حجاب في عتبة الباب،...) ونحوها مما لم نذكره، ولا زالت حيويتها وتأثيرها.

وتحضرني الآن بعض القصص المفيدة من التاريخ أرويها باختصار.

1-كان اسم مدينة القاهرة المصرية التي بناها الفاطميون (الفسطاط) في صدر الإسلام، وسبب التسمية على ما روي أن جيش المسلمين لما كان متوجهاً لفتح بلاد شمال أفريقيا توقف في هذه المنطقة ونصب خيم استراحة

ص: 77

وكانت الخيمة تسمى (فسطاط)، وعندما عزم على الرحيل وجد حمامة قد أنشأت عشاً لصغارها على ظهر إحدى الخيم، ولئلا يزعجوا الحمامة تركوا الفسطاط في مكانه رحمة بها وبصغارها ورحلوا.هذه القصة القصيرة تعلمنا آداب الإسلام في الرفق بالحيوان وعدم إيذائه بل الإحسان إليه، ومن باب أولى الإحسان إلى الإنسان الآخر وعدم إيذائه، والتنبيه إلى حالات مذمومة في الإساءة إلى الحيوان كضربه أو تهديم أعشاش الطيور أو رميها وقتلها لا لشيء إلا العبث واللهو، وذكر الأحاديث الشريفة الواردة في النهي عن هذه الأفعال وما يقابلها من الخصال الكريمة.

2-كان مالك الأشتر (رضي الله عنه) قائداً ميدانياً لجيوش أمير المؤمنين (علیه السلام) ولكنه كان متواضعاً لا يتميز عن بقية الناس بلباسه أو موكب الحماية والمرافقين وغيرها من المظاهر الدنيوية، ومرّ به أحد الناس في شوارع الكوفة واستخفّ به وآذاه، ولم يردَّ عليه الأشتر، فقال له بعض الناس الذين عرفوه: ويلك هذا مالك الأشتر صاحب أمير المؤمنين (علیه السلام) وسيفعل بك ما يفعل، وصُعِق الرجل المعتدي لهذه الصدمة وراح يسأل عن مالك حتى يعتذر إليه، فقيل أنه دخل مسجد الكوفة فذهب إليه ووقع على يديه وقدميه يقبّلها معتذراً فنهاه مالك عن هذا الفعل وقال له: اعلم إنني ما دخلت المجسد إلا لكي أصلي ركعتين واستغفر الله تعالى لك.

هكذا كان شيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) وأصحابه في التواضع للناس والعفو والصفح عمّن أساء إليهم، وعدم الانجرار وراء الغضب والانفعالات النفسية.

3-دخل رجل فقير رث الحال على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو بين أصحابه

ص: 78

فسلّم وجلس وكان بينهم رجل ثري فلملم ملابسه المترفة الأنيقة عن الفقير وتحاشى الجلوس إلى جنبه، فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): هل خفت أن يذهب إليه غناك إذا جلس جنبك؟ قال: لا، قال (صلی الله علیه و آله): وهل خفت أن يصل إليك فقره؟ قال: لا: فلم يجد الثري مبرّراً لتصرفه و اعترف بأنها من تسويلات الشيطان الذي يزيّن كل قبيح، ويحبّب كل معصية، ويكرّه الخير والطاعة، وكمبادرة منه لإرضاء الفقير وتأديب نفسه، قال للنبي (صلی الله علیه و آله) قد وهبت نصف أموالي له فعرضها النبي (صلى الله عليه وآله) على الفقير وقال هل تقبلها؟ فقال: لا فسأله عن السبب، فقال: أخشى أن يصيبني ما أصابه.هذه دروس في عاقبة الاغترار بالنعمة والبطر والتكبّر، وتفاهة الدنيا بحيث يرفضها الفقير المعدم، ثم حسن الاعتراف بالخطأ والسعي لتصحيحه.

إن حديثي هذا عن تجربة صقلت شخصيتي منذ الطفولة حيث بدأ أنسي بالكتاب من خلال القصص الدينية المصوّرة للأطفال ثم التحقت بالدروس الدينية في العطلة الصيفية وصارت لي القدرة على مراجعة المصادر والتأليف وأنا لم أبلغ الحلم، واعتقد أن الوسائل المتاحة اليوم هي أضعاف ما كان متاحاً آنذاك بل لا مقايسة بينهما.

وقد اط-ّلعنا من خلال أسئلة الناس والاستماع إلى مشاكلهم الدينية أن السبب الرئيسي هو عدم المطالعة وعدم القراءة والتواصل مع مصادر العلم والمعرفة، فتجده مطالباً بقضاء سنوات من الصلاة لأنه لم يتعلم غسل الجنابة، أو يدفع مبالغ للكفارات لأنه يجهل عقوبة ترك الصيام، هذا غير الأخطاء الكثيرة والمؤلمة التي لسنا بصدد بيان تفاصيلها.

ص: 79

إن قراءة الكتب ليست (هواية) كما يعبّر البعض عند الحديث عن الهوايات، بل هي مسؤولية ووظيفة، قال تعالى مؤدباً نبيّه الكريم [وقل ربّ زدني علماً] وفي حديث آخر مضمونه: إن كل يوم لم أزدد فيه علماً فليس من حياتي، وفي الحديث الآخر المروي في الخصال للشيخ الصدوق (رضي الله عنه) (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لم يُعبد الله عز وجل بشيء أفضل من العقل، ولا يكون المؤمن عاقلاً حتى يجتمع فيه عشر خصال –إلى أن قال(صلی الله علیه و آله)- لا يسأم من طلب العلم طول عمره).(1)

ص: 80


1- الخصال: 433.

الحالة السلبية في المجتمع تحفّز على العمل

الحالة السلبية في المجتمع تحفّز على العمل(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الفساد الأخلاقي والانحراف الموجود لدى الشباب حالة سلبية أكيداً، و المؤمن الرسالي لا يرضى بوجودها في المجتمع، ويعمل على إزالتها ومعالجتها، لكنه إذا لم يستطع ذلك فإنه لا يدخله اليأس والإحباط وترك العمل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنه أولاً وقبل كل شيء يؤدي وظيفته أمام الله تبارك وتعالى وحجته على خلقه، ولأن النتائج ليست بيده وإنما هي بيد مسبّب الأسباب ومدبر الأمور، وللثقة بنصر الله تعالى ووعده بغلبة الحق [بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ] (الأنبياء: 18) وفي حديث لأمير المؤمنين (علیه السلام) (قليل من الحق يغلب كثيراً من الباطل، كما أن قليلاً من النار تأكل كثيراً من الحطب).

بل إن المؤمن يرى وجود مثل هذه الحالات فرصة للطاعة، ولو لم توجد فإن باباً من أبواب الطاعة سيكون مغلقاً، فالفقر مثلاً الذي هو حاله مرضية في المجتمع ونسعى بكل جهد لتخليص الناس منها، بحيث ينسب إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) قوله: لو كان الفقر رجلاً لقتلته، لكنه في نفس الوقت موضوع لطاعات عديدة من البر والإحسان فإذا لم يوجد فقير –كما في أخبار

ص: 81


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من طلبة المعهد التقني في كربلاء المقدسة يوم الخميس 15/ج2/ 1432 المصادف 19/ 5/ 2011.

الظهور الميمون أن أحدكم يجوب البلدان بصدقته ليجد مستحقاً لها فلا يجد –فهذا يعني عدم وجود فرصة لهذه الطاعات، فهذه الحالة السلبية تحوّلت إلى حالة مُحرّكة ومحفّزة للعمل ودافعة للإصلاح والتغيير.وهكذا ننظر إلى كل الحالات السلبية بأنها ابتلاء وامتحان من الله تعالى لعباده ليميز المحسن من المسيء، والعامل من غير العامل حتى يأخذ كل إنسان استحقاقه كما أن امتحاناتكم في الجامعات والمدارس تترتب عليها هذه الآثار، قال تعالى: [الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] (الملك:2) وقال تعالى: [أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت:2).

وبنفس الوقت هي محرّكات ومحفزات للعمل الإصلاحي وتوجد فرصاً للطاعة، وبهذه النظرة ستخرجون من حالة التذمّر والإحباط إلى حالة العمل النشيط المبارك بإذن الله تعالى.

ص: 82

في الصراع على الدنيا ثلاث آفات

في الصراع على الدنيا ثلاث آفات(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

من يراقب حال البشر اليوم وقبل اليوم من لدن خلق البشرية: يجدهم في صراع مستمر وتنازع وتنافس على كل الأصعدة والمستويات، وتثار الأزمات لأتفه الأسباب، ولنيل مغانم دنيوية لا قيمة لها حقيقة، كالصراع على زعامة العشيرة أو ليكون مختار المحلة أو للاستيلاء على مكسب ما، أو الصراع على السلطة والحكم والنفوذ والجاه، وتنتهك في هذا الصراع كل المحرمات والمقدسات وأولها سمعة المسلم من خلال التسقيط والافتراء والبهتان والكذب وانتهاءً بالصراعات المسلحة التي تهلك الحرث والنسل.

ومهما خدع الإنسان الآخرين فانه لا يستطيع أن يخدع الله تعالى ولا نفسه بان هذا الصراع هو نتيجة نزوات وشهوات وأهواء النفس الأمارة بالسوء وطاعة لأوامرها التي يحرّكها الشيطان كيف يشاء، فالدخول في هذه الصراعات والتنافسات انحدار وسقوط وابتعاد عما أراده الله تبارك وتعالى، ومنشأه جهل وغفلة عن غرض وجوده في هذه الدنيا وما يراد منه ومسؤولياته أمام الله تبارك وتعالى وحجته على خلقه.

فليراجع الكيِّس العاقل نفسه وليحاسبها أشد مما يحاسب الشريك شريكه

ص: 83


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع حشد ضمّ فضلاء مدن محافظة واسط وأبناء الفضيلة فيها يوم السبت 17/ج2/ 1432 ه- المصادف 21/ 5/ 2011.

كما ورد في الأحاديث الشريفة.واذكر لكم هنا حديثاً في الموعظة روي عن النبي الكريم عيسى بن مريم سلام الله عليه قال (في المال ثلاث آفات: أن يأخذه من غير حلِّه، فقيل إن أخذه من حلِّه؟ قال (علیه السلام): يضعه في غير حقه، فقيل: إن وضعه في حقه، فقال: يشغله إصلاحه عن الله تعالى)(1).

أقول: ذُكر المال باعتباره أوضح أشكال الدنيا، وإلا فانه ليس الوحيد الذي يقع عليه الصراع، فالسلطة والجاه والنفوذ أقوى تأثيراً من المال، والصراع عليها أشد وأشرس، وأشار الحديث الشريف إلى ثلاث أفات تكفي الواحدة منها لإهلاك الإنسان والتسبب إلى شقاوة دائمة والعياذ بالله.

أولها مصدر هذه الدنيا المطلوبة أي المال هنا بحسب المثال هل إن كسبه مشروع ليس فيه فساد ولا غش ولا أي سبب محرم آخر، وهذه عقبة كؤود ورد فيها أن طلب الدرهم الحلال أهون من ألف ضربة بالسيف وقد لا يحسُّ الشخص بهذه الصعوبة ويجد في الوصف شيئاً من المبالغة لجهله وقصوره وتقصيره، ولكن الحقيقية هي هذه.

وإذا افترضنا أن المصدر كان حلالاً وطريقة الكسب شرعية مئة بالمئة، تأتي المشكلة الثانية وهي كيفية إنفاقه وموارد صرفه، لان الإنسان مستخلف على هذا المال من قبل الله تعالى قال عز من قائل [آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ] (الحديد:7) والخليفة المؤتمن على المال يجب أن لا يتجاوز ما حدّده له

ص: 84


1- كتاب (عقبات الدنيا) من (المحجة البيضاء) للفيض الكاشاني/261.

المالك الحقيقي للمال، وإلا فسيتعرض للمساءلة والعقوبة على المخالفة، كما لو بخل عن الصرف في مورد الأمر، أو صرف في مورد النهي، وحتى لو صرف في مورد محلل لكنه تجاوز الحد المسموح في الصرف بحيث أصبح مسرفاً فقد جاء فيه قوله تعالى: [وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ] (الأنعام:141) أو صرفه في غير مسوّغ عقلائي أو شرعي فأصبح مبذراً قال تعالى فيه: [وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً] (الإسراء:26-27) وهذه مرتبة شنيعة أن يكون أخاً وقرينا للشيطان.ولو فرضنا انه كان دقيقاً في صرفه وتجنب تلك العقبات المهولة، فانه توجد مشكلة أخرى لا يمكنه التخلص بها وهي الانشغال بمداراة هذا المال وتنميته واستثماره ومداولته ومتابعة السوق والتعامل مع الناس بكل ما يعنيه ذلك من خلافات ونزاعات وحيل ومشاكسات فيشغله ذلك عن ذكر الله تعالى وعن العروج في ملكوته، وكل ما يشغل العبد عن الله تعالى فهو خسران وانحطاط والعياذ بالله تعالى.

هذه هي الدنيا، وهذه ضريبة اللهاث وراءها، والصراع والتنافس على كُل شأن من شؤونها، وأقل ضريبة يدفعها هي انشغال الفكر بالأخذ والرد وتهيئة طرق التغلب على الآخر والتخطيط ووضع المقدمات وحساب النتائج.

وأول ضحية هي الصلاة بين يدي الله تعالى وذكره والتفكير في شكره على نعمه، ويضاف إليها القلق والهم، وما يستتبع هذه الخصومة من الكيد والحسد والإيقاع بالآخر، وتستمّر قائمة الموجبات للتعاسة، في أمالي الشيخ الطوسي (قدس سره) بسنده عن الإمام الباقر (علیه السلام) عن آبائه (ع) قال: (قال رسول الله صلى

ص: 85

الله عليه وآله) من كثر همه سقم بدنه، ومن ساء خلقه عذَّب نفسه، ومن لاحى الرجال سقطت مروءته وذهبت كرامته، ثم قال (صلى الله عليه وآله) لم يزل جبرائيل ينهاني عن ملاحاة الرجال كما ينهاني عن شرب الخمر وعبادة الأوثان)(1)

ص: 86


1- أمالي الطوسي: 512 المجلس 18 الحديث 1119/بحار الأنوار: 72/ 326.

خطاب المرحلة 291 :أول رجب بداية السنة المعنوية

خطاب المرحلة 291 :أول رجب بداية السنة المعنوية(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

المعروف أن بداية السنة الهجرية هو الأول من المحرم، وعند بعض المؤرخين أنه الأول من ربيع الأول باعتباره مبدأ هجرة الرسول (صلی الله علیه و آله) وعند البعض الأول من شهر رمضان بحسب ما يستفاد من بعض الأدعية، هذا ولكن السنة المعنوية عند طالبي الكمال والمشتاقين إلى رضا الله تبارك وتعالى تبدأ في الأول من رجب، البداية التي تعني الانطلاقة الجديدة، وتعبئة الهمة، وزيادة النشاط، ومراجعة صحائف الأعمال الماضية و الأمل بفتح صحائف جديدة بيضاء.

ولعل من الشواهد على ذلك أن أصحاب كتب السنن والمستحبات كمفاتيح الجنان للشيخ عباس القمي ومصابيح الجنان للسيد عباس الكاشاني (رحمه الله) يبدأون أعمال أيام وشهور السنة بأعمال شهر رجب، ويذكرون صلاة لشهر جمادى الآخرة باعتباره آخر شهر في السنة.

إن عظمة شهر رجب تأتي من جهتين (أولهما) شرفه الذاتي، والقيمة الكبرى التي أعطيت لمن أدى عملاً فيه بما لا ترقى إليه نفس الأعمال في

ص: 87


1- كلمة أفتتح بها سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) درسه الخارج في الفقه يوم الأحد 2/رجب/1432 المصادف 5/ 6/ 2011.

شهور السنة الأخرى بحسب ما ورد في الروايات الشريفة حتى سُمّي (رجب الأصب) لأن الرحمة تُصبّ فيه صبّاً، و(الثانية) أن الاستعداد لضيافة الرحمن في شهر رمضان تبدأ منه، حيث يتنعم أولياء الله تعالى بعيدهم في الشهر الكريم، فمن أراد أن يحظى بتلك الضيافة، ويفرح بعطاء الله تعالى في ذلك العيد، فلابد أن يبدأ بالعمل وتقديم الطلبات – كما يقال - من شهر رجب، لينظر فيها في شهر شعبان، ويمضي القرار الإلهي بها في شهر رمضان، وهذا هو المدخل الطبيعي لنيل الألطاف الإلهية الخاصة، وإن كانت رحمة الله تعالى أوسع من ذلك.وهذا وجه آخر غير ما ذكرناه في بعض المناسبات السابقة لمعنى ما ورد أن شهر رجب شهر أمير المؤمنين (علیه السلام) وشهر شعبان شهر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وشهر رمضان شهر الله تبارك وتعالى، فيكون معناه أن السعي لنيل رضا الله تبارك وتعالى وألطافه الخاصة تبدأ من شهر رجب عن طريق أمير المؤمنين (علیه السلام) لأنه باب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وولايته ميزان قبول الأعمال، ثم ينظر فيها في شهر شعبان بواسطة رسول الله (صلی الله علیه و آله) باب الرحمة الإلهية والوسيلة إلى رضوان الله تبارك وتعالى، ويشهد له ما ورد في تفسير قوله تعالى: [فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ] (الدخان:4) أنها ليلة النصف من شعبان، ثم يجري القضاء الإلهي بالفوز والفلاح وحسن الخاتمة في شهر رمضان بعد أن تكون مقدماته قد تحققت.

هذا هو شهر رجب في شرفه وفضله، وقد منّ الله تبارك وتعالى علينا بإدراكه، ولا شك أن الكثير من المؤمنين ملتفتون إلى ما فيه من أعمال مستحبة

ص: 88

كالصوم في بعض أيامه المخصوصة وكلما زاد كان أفضل، وكالصلاة والذكر والدعاء والتسبيح وزيارة المعصومين (علیهم السلام) كزيارتي الإمام الحسين (علیه السلام) في الأول والنصف منه وزيارة المبعث النبوي الشريف، كما تستحب فيه زيارة الإمام الرضا (علیه السلام) والعمرة، وإحياء ذكريات المعصومين (علیهم السلام).ولكن ما لا يُلتفت إليه إلا نادراً أعمال الجوانح لا الجوارح أي ما يهذّب النفس ويطهّر القلب، مع أنها المقياس الحقيقي للكمال والقرب من الله تبارك وتعالى، وانتم تعلمون أن النبي (صلی الله علیه و آله) لما انتهى من خطبته في استقبال شهر رمضان في آخر جمعة من شعبان، سأله أمير المؤمنين (علیه السلام) عن أفضل الأعمال في هذا الشهر العظيم، فأجاب (صلی الله علیه و آله) انه الورع عن محارم الله، والورع ملكة جوانحية ليست من أعمال الجوارح وإن كانت تظهر آثارها عليها فتمتنع عّما حرّم الله تبارك وتعالى.

ولنذكر شاهداً على هذه التربية المعنوية التي قام بها المعصومون (علیهم السلام)، ففي الخصال للشيخ الصدوق (رضي الله عنه) بسنده عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لم يعبد الله عز وجل بشيء أفضل من العقل ولا يكون المؤمن عاقلاً حتى يجتمع فيه عشر خصال: الخير منه مأمول، والشرُّ منه مأمون، يستكثر قليل الخير من غيره، ويستقل كثير الخير من نفسه ولا يسأم من طلب العلم طول عمره، ولا يتبرّم بطلّاب الحوائج قبله، الذلّ أحبّ إليه من العز، والفقرُ أحبّ إليهِ من الغنى، نصيبهُ من الدنيا القوت، والعاشرة وما العاشرة لا يرى أحداً إلاّ قال هو خير مني وأتقى، إنما الناس رجلان فرجل هو خيرٌ منه وأتقى وآخر هو شرٌّ منه وأدنى فإذا رأى من هو خيرٌ منه وأتقى تواضع لهُ

ص: 89

ليلحق به، وإذا لقي الذي هو شرٌّ منهُ وأدنى قال عسى خير هذا باطن وشرُّه ظاهر، وعسى أن يختم له بخير، فإذا فعل ذلك فقد علا مجده، وسادَ أهل زمانه)(1).هذه هي الصفات التي يكمل بها عقل المؤمن وتكون أفضل وسيلة لنيل رضا الله تعالى: أن يكون الخير منه متوقعاً في قوله وفعله وسائر حركاته ومعاملاته مع الآخرين، والشر منه مأمون فلا يسيء إلى أحد ولا يعتدي على أحد ولا يجرح مشاعر الآخرين ولا يظلمهم ولا يبخسهم حقوقهم ولا يبغي عليهم، ولا يشهّر ولا يسقّط ولا يفتري، حتى لو أسيء إليه فلا يتوقع منه رداً عدوانياً.

يصنع المعروف إلى الناس من دون أن يصحبه مَنٌّ أو أذى بل لا يجد في نفسه أنه قدّم شيئاً يُذكر وان كان عملاً عظيماً كإنقاذ إنسان من موت أو تفريج كربة نكّدت حياته، لكنه إذا صُنِع إليه المعروف فإنه يجد نفسه مديناً لمن فعله ولا ينساه طول حياته حتى لو كان شيئاً بسيطاً لا يستحق أن يذكر كتقديم شربة ماء له.

وهكذا يستمر النبي (صلی الله علیه و آله) في ذكر هذه الخصال الكريمة حتى يصل إلى العاشرة وما أدراك ما العاشرة، إنها التواضع للناس والذل الباطني والشعور بأنه أحقر هذا الخلق وأتفههم وأن كل الناس أفضل منه وأكرم عند الله تعالى، ويذكر (صلی الله علیه و آله) لذلك وجهين:

1-أن الآخر حتى لو كان سيئاً في جملة من أفعاله فلعل له خصلة كريمة

ص: 90


1- الخصال للشيخ الصدوق (رضی الله عنه): 433.

عرفها الله تبارك وتعالى منه ولا نعلمها كالبرِّ الشديد بالوالدين أو حب الناس وإنصافهم أو الغضب لله تعالى. قد نالت رضا الله تبارك وتعالى فعفا وصفح عن ذنوبه بينما أن المتظاهر بالصلاح، لعل له خصلة سيئة أوجبت المقت الإلهي فحبطت بها الأعمال والعياذ بالله.2-إن الأمور بخواتيمها فهذا الإنسان الذي تعتقد أنه سيئ الآن ولكنك لا تعلم كيف يُختم عمله، وكذا الإنسان الذي يظهر منه الصلاح، ولكن قد تنقلب الأمور إلى العكس، والعاقبة للمتقين والأمثلة كثيرة كالخاتمة الحسنة للحر الرياحي، والخاتمة السيئة لمن انقلبوا على الأعقاب من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما وصفتهم الآية الشريفة.

إنّ من يتأمل في هذا الحديث الشريف وفي الدعاء الوارد في شهر رجب (يا من أرجوه لكل خير، وآمن سخطه عند كل شر يا من يعطي الكثير بالقليل، يا من يعطي من سأله، يا من يعطي من لم يسأله ولم يعرفه تحنناً منه ورحمة) يجد مطابقة وانسجاماً بين جملة من فقراتهما، لأننا أمرنا بالتخلق بأخلاق الله وهذه المذكورة في الدعاء من أخلاقه تبارك وتعالى وهي نفسها التي يكمل بها عقل المؤمن، وكأنه إيحاء بأن شهر رجب باعتباره بداية انطلاقة جديدة للعمل ومراجعة للماضي لإصلاح ما فسد، وتكميل ما صلح، كأنّ هذا الشهر هو فرصة التأمل في هذه الخصال العشر والسعي الحثيث لتحقيقها بفضل الله تبارك وتعالى.

ص: 91

خطاب المرحلة 292 :المرأة تشارك الرجل في أهم قضايا الأمة

اشارة

خطاب المرحلة 292 :المرأة تشارك الرجل في أهم قضايا الأمة(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

قال المرحوم السيد صالح الحلي:

قد ورثت زينب من أمّها *** كلّ الذي جرى عليها وصارْ

وزادت البنت على أمها *** من دارها تُهدى إلى شرّ دارْ

وقال المرحوم السيد رضا الهندي:

بأبي التي ورثت مصائب أمها *** فغدت تقابلها بصبر أبيها

لم تلهو عن جمع العيال وحفظهم *** بفراق إخوتها وفقد بنيها

لم ترث العقيلة زينب (سلام الله عليها) سيدة البيت النبوي بعد أمها فاطمة (علیها السلام) سيدة نساء العالمين من أمها مصائب بالمعنى المتعارف بل ورثت مواقف خالدة يعجز أشجع الرجال وأشدهم صلابة عن تحملها.

كانت فاطمة سلوة أبيها (صلی الله علیه و آله) في محنته وسنده الذي يأوي إليه خلال عمر الرسالة: تُؤنسه وتزيل عنه الهموم وتخفّف عنه الآلام وهكذا كانت العقيلة

ص: 92


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع مواكب العزاء التي تجمّعت في النجف الأشرف لتنطلق في مسيرة عزائية مشياً على الأقدام من الكوفة يوم الثلاثاء 11/رجب/1432 المصادف 14/ 6/ 2011 إلى كربلاء المقدسة لإحياء ذكرى وفاة العقيلة زينب (سلام الله عليها) وزيارة النصف من رجب.

زينب لأبيها أمير المؤمنين (علیه السلام) بعد أمها فاطمة ولأخيها الحسين ولولده السجاد (علیه السلام).هُجّرت فاطمة قسراً من مكة مع أبيها (صلی الله علیه و آله) وأرغموها على مفارقة وطنها وأهلها، وهاجرت العقيلة زينب مع أخيها الحسين (علیه السلام) من مدينة جدهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى مكة ثم إلى العراق بسبب ظلم يزيد وتعقبه للإمام بالقتل.

شاركت الزهراء (ع) مع أبيها (صلی الله علیه و آله) في ميادين الجهاد تضمّد جراح أبيها وتمسح علق الدم عن ذي الفقار، سيف زوجها أمير المؤمنين (علیه السلام) أُحد والأحزاب وكذا العقيلة زينب (علیها السلام) شهدت مع أخيها الحسين (علیه السلام) كربلاء، وما أدراك ما كر بلاء وما تلاها.

وقفت الزهراء (علیها السلام) في مسجد أبيها (صلی الله علیه و آله) تدافع عن إمامها أمير المؤمنين (علیه السلام) وتثبّت الحق لأهله، وترد على الافتراءات بالحجج الدامغة، لتصحيح المسيرة وتحمي الدين وأهله من الضلال والانحراف، ووقفت العقيلة زينب (علیها السلام) في الكوفة والشام وكل مراحل السبي وألقت الخطب الرصينة لتفضح المدّعين لخلافة المسلمين زوراً، الذي لا يتورعون عن ارتكاب أفظع الجرائم وانتهاك أعظم المقدسات ومنها قتل ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وصور المقارنة كثيرة، لكن الذي جرى على العقيلة في كل هذه المواقف أمضّ وأألم مما جرى على الزهراء (ع)، فإن الزهراء (علیها السلام) لم تُسبَ من بلد إلى بلد لتُهدى إلى شر خلق الله تعالى، وكانت حرمتها محفوظة عندما خرجت إلى المسجد، ولم تحرق خيامها وتفرّ في البيداء، وغيرها من المصائب التي

ص: 93

صارت أعظم غصة في قلوب أهل البيت (علیهم السلام) وأشدها إيلاماً.إن موقف الزهراء (ع) لم يكن يستطيع أحدٌ أن يؤديه حتى أمير المؤمنين (علیه السلام) لأن خصومه سيقولون عنه أنه شاب مغامر يهوى السلطة والنفوذ على مشايخ قومه فيخلطون الأوراق وتضيع الحقيقة، لكن الزهراء (علیها السلام) كانت فوق أي تهمة أو إشكال، وما ثبت حق أمير المؤمنين وإمامته بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) لو لا تلك النهضة الفاطمية المباركة.

وهكذا العقيلة زينب فإن مبادئ الإمام الحسين (علیه السلام) وأهداف حركته المباركة ما كانت لتعرف وتنتشر لولا خطب العقيلة زينب التي كانت غاية في المتانة والوضوح والحجة البالغة، فإن الإعلام الأموي كان من القوة والتأثير بدرجة تقلب الحقائق تماماً، وقد جعلوا من الحسين (علیه السلام) وأصحابه مجموعة من الخارجين على الدولة المتمردين على النظام المطالبين للشغب والفتنة فاستحقوا القتل، وهكذا تذهب دماؤهم هدراً في الصحراء حيث لا ناقل للحقيقة إلاّ الجيش الأموي الظالم المجرم.

إن قضية (الإمامة) والخلافة بعد رسول الله (صلى الله وآله وسلم) وهي أعظم قضايا الإسلام بعد التوحيد، وأخطرها وأمضاها تأثيراً في الأمة تولّت بيانها وإرساء قواعدها، ونفي الزيف عنها امرأتان هما فاطمة الزهراء (علیها السلام) سيدة نساء العالمين وابنتها زينب عقيلة الهاشميين.

والنتيجة التي نريد أن نصل إليها أن للمرأة دوراً لا يقلّ عن الرجل في التصدي لأخطر قضايا الأمة وأعظم التحديات التي تواجهها جنباً إلى جنب الرجل، ولا تقعد بها همتها لمجرد أنها امرأة، لكن طبعاً مع مراعاة الدور الذي

ص: 94

يناسبها، وساحة العمل التي تتحرك فيها.والمجتمع يواجه اليوم مشاكل وتحديات كثيرة يكون للمرأة دور مهم في مواجهتها كقضية تبليغ الأحكام الشرعية ونشر تعاليم مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الناس أمور دينهم، فإن الجهل قد تفشى وخفيت على الناس خصوصاً النساء أكثر مسائل الحرام والحلال وضوحاً، وفي ذلك مخالفة صريحة لما أراده الله ورسوله والأئمة المعصومون (سلام الله عليهم أجمعين).

وللمرأة دور في إنقاذ المجتمع من مشاكله وعقده الاجتماعية ومنها ظاهرة الطلاق التي ازدادت بشكل مرعب في السنوات الأخيرة، حيث تشير إحصائيات بعض المحاكم إلى بلوغها نسبة 30 أو 40 أي أن ثلث حالات الزواج تقريباً تنتهي إلى الطلاق، وهذه نتيجة مقلقة لأن الله تعالى يبغض الطلاق بقدر حبّه للزواج، وقد جاء في الحديث عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما بني بناء في الإسلام أحب إلى الله عز وجل من التزويج)(1) فالطلاق تهديم لأحب بناء إلى الله عز وجل، وآثاره الاجتماعية السيئة على المجتمع وخصوصاً الأطفال مما لا يخفى على أحد.

فلا بد من حركة واسعة يشترك فيها الرجال والنساء ممن يغضبون لغضب الله تبارك وتعالى، ويحبّون ما يحبّه الله تعالى، لإجراء استبيان شامل ومعرفة أسباب تزايد هذه الظاهرة، ومنها ما يعود إلى ما قبل الزواج كعدم حسن الاختيار بسبب عدم ملاحظة العناصر الحقيقية لبناء زوجية صالحة سواء في

ص: 95


1- وسائل الشيعة، كتاب النكاح، أبواب المقدمات، باب1، ح4.

الرجل حيث ورد الحديث (إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)(1) وورد في اختيار الزوجة عن النبي (صلى الله عليه وآله) (ما استفاد امرئ مسلم فائدة بعد الإسلام أفضل من زوجة مسلمة تسرّه إذا نظر إليها وتطيعه إذا أمرها، وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله).(2)أما بناء الزواج على المال الكثير أو الوظيفة الجيدة أو الجمال الظاهري من دون ملاحظة الدين وحسن الخلق والعفاف والمعدن الطيب والأسرة الكريمة فهو أصل المشاكل.

أما القسم الثاني من الأسباب فهو ما حصل بعد الزواج من سوء الاستغلال الرجل لقيمومته على المرأة وتأثره بالتقاليد الاجتماعية من ضرورة التشديد على المرأة إلى حد الظلم. أما من جانب المرأة فقد يكون السبب عدم صبرها على ظروف زوجها وعدم تقديرها لحاله، أو المبالغة في بعض السلبيات أو نقل أخبار بيتها إلى أهلها وتدخلهم في شؤونها، أو اعتدادها بنفسها إلى حد التعالي على زوجها ونحوها من الأسباب.

وعلى أي حال فالقضية خطيرة وتستحق الكثير من الوقت للتأمل والدراسة والتشخيص ووضع الحلول، والسعي والحركة تشارك فيها قطاعات واسعة من الحوزة الدينية والقضاة والباحثين الاجتماعيين

ص: 96


1- وسائل الشيعة، كتاب النكاح، أبواب المقدمات، باب 28، ح1.
2- وسائل الشيعة، كتاب النكاح، أبواب المقدمات، باب9، ح10.

والنفسيين والأطباء وغيرهم.وما أعظم أن يغضب الإنسان لغضب الله تبارك وتعالى ويرضى لرضاه [فَاستَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُم أنّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنكُم مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنثَى] (آل عمران:195).

ص: 97

الامام امير المؤمنين (علیه السلام) ولغة الجسد

الامام امير المؤمنين (علیه السلام) ولغة الجسد(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

ورد في بعض الأدعية القيام بحركات في الأعضاء مقترنة مع الدعاء، كما في دعاء العهد حيث ورد في نهايته (ثم تضرب على فخذك الأيمن بيدك ثلاث مرات، وتقول في كل مرة: العجل العجل يا مولاي يا صاحب الزمان).

وكان الأئمة (علیهم السلام) يقومون ببعض الحركات في موارد معينة كالذي ورد في دعاء شهر رجب المعروف (يا من أرجوه لكل خير) حيث تقول الرواية في نهاية الدعاء (ثم مدّ الإمام الصادق (علیه السلام) يده اليسرى فقبض على لحيته ودعا بهذا الدعاء، وهو يلوذ بسبّابته(2) اليمنى ثم قال بعد ذلك: يا ذا الجلال والإكرام يا ذا النعماء والجود، يا ذا المنّ والطول حرّم شيبتي على النار).

وأرى الكثير من المؤمنين لا يلتزمون بهذه التوجيهات ويتساهلون فيها، ربما لأنهم يجهلون معناها ولا يعرفون أسرارها، وربما يستهجن فعل من يقوم بها عند من لا يفهمها، لذا أحببنا أن نلفت نظركم إلى أن هذه الحركات لها مدلولاتها المعبّرة عن الخلجات الباطنية والمعاني الروحية.

فالضرب على الفخذ المشار إليه في دعاء العهد يمكن أن يكون له أكثر من معنى:

ص: 98


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع الزائرين في مجلسه العام في ذكرى ولادة أمير المؤمنين (علیه السلام) يوم 13/رجب/1432 المصادف 16/ 6/ 2011.
2- تسمّي العرب الأصبع المجاور للإبهام (السبّابة) لما جرت عليه سيرتهم، لكن المهذبين لا يسمونه بذلك بل يقولون (الإبهام والذي يليه) أما المتشرعة فيسمونها بالمسبحة.

1-ما جرى عليه الناس حين يريد أحد أن يستعجل آخر ويطلب منه الإسراع في التنفيذ فإنه يضرب على فخذه مكرراً لحثّه على ذلك، والداعي بدعاء العهد يستعجل ظهور الإمام وإعلان دعوته المباركة.

2-إن الإنسان عندما يبكي جزعاً في مصيبة معينة، فإنه يقرن البكاء بالضرب على الفخذ، ولعل هذا معروف عند النساء أكثر ومع التسليم بحرمة جزع الإنسان في مصائبه الماديّة، فإن طول غيبة الإمام (علیه السلام) وظهور الفساد في البر والبحر وغلبة أهل الباطل واستضعاف أهل الحق موجب للأسى والألم والجزع، وهو جزع محمود لأن غايته رضا الله تبارك وتعالى، كما في دعاء الندبة (هل من جزوع فأساعد جزعه إذا خلا، هل قذيت عين فساعدتها عيني على القذى).

وهكذا في دعاء رجب المتقدم فإن القبض على اللحية يعني الاعتراف بالذنب والتقصير واستحقاق الغضب الإلهي ولذا اقترن بطلب النجاة من النار التي هي عقوبة المتمردين لأن المعروف عند الناس أن من غضب على آخر وله مقام الاستعلاء عليه أخذ بلحيته، كالذي حكاه القرآن الكريم عن فعل النبي موسى (علیه السلام) مع أخيه هرون (ع) [قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي] (طه:94)، كالتعبير بأنه (أخذ بناصيته) وهي مقدم الرأس وأول قصاص الشعر منه للإشارة إلى تمام المقدرة عليه، قال تعالى [مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا] (هود:56) أي أنها في قبضته وتحت قدرته يفعل بها ما يشاء.

أما التلويح بالمسبحة فكأنه طلب للهداية والرشاد لأن التلويح بالمسبحة علامة المنذهل الحيران الطالب للدلالة على الطريق الصحيح، ويكون مجموع

ص: 99

معنى الحركتين هو طلب النجاة من النار والفوز بالجنة وعدم الاكتفاء بالأول، وهو معنى قوله تعالى[فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ] (آل عمران:185).ومن تلك الحركات: القيام ووضع اليد على الرأس عند ذكر الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) للتعبير عن الإيمان بحياته وأننا بمحضر وجوده المبارك الشريف.

هذا في جانب الحركة، وقد يكون عدم الحركة هو المطلوب للتعبير عن حالة باطنية، كما في الصلاة لإبراز حالة الخشوع في الجوارح مع توجّه القلب قال تعالى [الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ] (المؤمنون:2)، لذا كُرِه في الصلاة العبث باللحية والأصابع، والروايات في هذا المجال كثيرة.

والهدف من هذه الحركات والسكنات هو تفاعل واشتراك كل مكونات الإنسان في العبادة والطاعة وتحقيق حالة الانسجام بين عوالم الإنسان: القلب والجسد والنفس والروح، وورد في حديث مرسل عن النبي (صلی الله علیه و آله) (لا يقبل الله من عبده عملاً حتى يشهد قلبه مع بدنه).(1)

هذا التفاعل التام في عبادة الله تبارك وتعالى وطاعته تجلى عند أمير المؤمنين (علیه السلام)، تروي كتب السير عنه (علیه السلام) انه إذا وقف للصلاة بين يدي ربه سكنت كل جوارحه واستسلم للملك العلّام ولا يتحرك منه إلا ما حركته الريح بحسب وصف الروايات ولا يشعر بما حوله مهما كان ملفتاً، وجاذباً للمشاعر.

ص: 100


1- هامش المفردات للراغب مادة (خشع) عن تخريج أحاديث الإحياء: 1/ 339.

لكنه (علیه السلام) يتحرك في المواضع الأخرى بما يناسبها من حركة البدن من دون تكلف أو رياء، بل يتحرك بوجود واحد، ففي وصف ضرار بن ضمرة وهو من أصحاب علي (علیه السلام) عندما دخل على معاوية وطلب منه أن يصف علياً (ع) قال (فأشهدُ لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وهو قائم في محرابه قابض على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين ويقول: يا دنيا يا دنيا إليك عني غرّي غيري).عليّ الأوّاه الحزين المعظّم لمقام ربّه يتقلب لا يقر له قرار كما يتقلب الملسوع الذي لدغته حية فلا استقرار له من الألم والعياذ بالله تعالى.

لقد التفت العلم الحديث مؤخراً إلى دلالة حركات الأعضاء على المشاعر الباطنية وما يدور في ذهن وقلب الإنسان، وبدأ يُعدّ الدراسات والتحليلات في ما يعرف بعلم (لغة الجسد)(1) ولا زالت نتائجهم ظنية مبنية على الاستقراء الناقص. فيفهمون من تقاسيم الجبين شيئاً، وإذا حكّ أنفه أثناء حديثه أو إذنه فلها مدلولها، وإذا نظر إلى آخر من فوق النظارات فلها معنى، وهكذا.

فطوبى لمن والى علياً الإنسان الكامل واتخذه إماماً وهادياً وسيفخر يوم يُدعى كل أناس بإمامهم فيأتي غيرهم وأئمتهم الفراعنة والطواغيت والظلمة والكفار والفاسقون، ويأتي شيعة علي (علیه السلام) وإمامهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) وأهل بيت العصمة (ع).

[الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله].

ص: 101


1- من أراد التعرف على التفاصيل فليراجع الموسوعات العلمية ودوائر المعارف.

ذنوبٌ قلّما نلتفت إليها

ذنوبٌ قلّما نلتفت إليها(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

في ذكرى ولادة الإمام السجاد (علیه السلام) نتحدث عن حالة وردت في أدعية الصحيفة السجادية وهي إلفات نظر العبد إلى ذنوبٍ يغفل عنها تماماً، فقد يرضى البعض عن نفسه، ويعتقد أنه على خير ما دام قد أدّى الواجبات الرئيسية كالصلوات المفروضة وصيام شهر رمضان ودفع ما بذمته من خمس ونحوه من الحقوق الشرعية، وما دام قد اجتنب المحرّمات الرئيسية كالزنا وشرب الخمر واللواط والسرقة والقتل بغير حق ونحوها.

وهو لعمري خيرٌ كثير أن يلتزم العبد بذلك، لكن حالة الرضا عن النفس حالة غير صحيحة لأنّ أموراً أخرى كثيرة لا يلتفت إليها الإنسان، لكنّها مؤثرة في ميزان أعماله، وقد تقلب هذا الميزان رأساً على عقب باتجاه الفوز أو باتجاه السقوط والعياذ بالله تعالى.

وكلامنا في الحالة الثانية إذ قد يظنّ الإنسان أنه على خير، ولا يعلم ما سوّد به صحائفه، ولا يلتفت إليها أصلاً إمّا لغفلته، أو لجهله بأنّ هذه ذنوب، أو انّه يعلم ذلك ولكنه يتساهل فيها ويقلّل من شأنها وتأثيرها، ولذا ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (علیه السلام) التحذير من المحقّرات من الذنوب قال

ص: 102


1- كلمة سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع طلبة الجامعات الذين انضمّوا إلى الدورة السريعة التي تنظمها جامعة الصدر الدينية في النجف الأشرف خلال العطلة الصيفية، وقد التقى بهم سماحته بعد صلاة الظهرين يوم الجمعة 6/شعبان/1432 المصادف 8/ 7/ 2011.

(ع): (اتقوا المحقرات من الذنوب فإنّها لا تغفر، قلت: وما المحقرات؟ قال: الرجل يذنب الذنب فيقول: طوبى لي إن لم يكن لي غير ذلك.)(1).وأعطى رسول الله (صلی الله علیه و آله) درساً عملياً في ذلك التأثير لأصحابه كما في الرواية عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال (أنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) نزل بأرض قرعاء، فقال لأصحابه: «ائتوا بحطب، فقالوا: يا رسول الله، نحن بأرض قرعاء! قال: فليأت كلّ إنسان بما قدر عليه. فجاؤوا به حتّى رموا بين يديه، بعضه على بعض، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله). هكذا تجمع الذنوب، ثمّ قال: إيّاكم والمحقّرات من الذنوب، فإن لكلّ شيء طالباً، ألا وإنّ طالبها يكتب ما قدّموا وآثارهم وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين) (2).

أقول: هكذا تجتمع الذنوب التي يستصغرها صاحبها ويقدم عليها بلا اكتراث وتترك آثارها عليه حتّى تطبع على قلبه فتورده النار والعياذ بالله.

حُكيَ أنّ أحد التجّار كان يصنع القماش ليبيعه فيعاد عليه لعيب يوجد فيه، ففرّغ نفسه مدة وأتقن صنع القماش لكيلا يرد عليه، وباعه بعد أن تأكّد من سلامته من العيوب، وما لبث أن رجع إليه المشتري وأخبره بعيوب قماشه، فجلس التاجر يبكي والمشتري يطيّب خاطره ويقول له سأقبل القماش ولا أرجعه فلا تتأثّر، لكن التاجر (الواعي) قال: ما لإرجاع القماش أبكي، ولكن أبكي لأعمالي إذا عُرضت على الناقد البصير، كم سيجد فيها من العيوب، وكيف سيردّها عليّ، وما موقفي غداً، إذا كان المخلوق القاصرُ يجد كل هذه

ص: 103


1- وسائل الشيعة كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب 43، حديث 1.
2- وسائل الشيعة كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب 43، حديث 3.

العيوب في قماش أتقنت صُنعه.وقد يبقى الإنسان على غفلته ولا يلتفت منها حتى يأتيه الموت [لقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ] (ق:22) وقال تعالى: [يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] (المجادلة:6) وقال تعالى: [وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ] (الأنعام:60).

وقد ذكرنا آنفاً أسباب هذه الحالة، أمّا علاجها فيمكن أن يكون بعدّة إجراءات وردت في الأحاديث الشريفة منها:

1-الاستغفار المستمر وطلب التوبة مما يعلم ومما لا يعلم من الذنوب، وقد وردت دعوات كثيرة يومية للاستغفار في تعقيبات الفرائض اليومية وفي صلاة الليل.

2-أداء الصلاة في أوقاتها لأنّها كفّارة لما بينها ولأن فيها تذكيراً بالله تعالى وعودة إليه [وأقم الصلاة لذكري] وفي الرواية عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: (قال رسول الله لو كان على باب دار أحدكم نهر فاغتسل في كلّ يوم منه خمس مرّات، أكان يبقى في جسده من الدرن شيء؟ قلنا: لا، قال: فإن مثل الصلاة كمثل النهر الجاري، كلّما صلّى صلاة كفّرت ما بينهما من الذنوب).(1)

3-الإكثار من الطاعات لأن الحسنات يذهبن السيئات، قال تعالى: [إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّ-يِّئَاتِ] (هود:114) وقال تعالى: [إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً]

ص: 104


1- وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب أعداد الفرائض ونوافلها، باب2 ح3.

(الفرقان:70).4-تجنّب الغفلة لأنّها الأصل في الوقوع بالمعاصي.

5-محاسبة النفس يومياً، لأن المحاسبة والتدقيق والمراجعة تكشف أموراً يغفل عنها لو لم يُجرِ هذه المحاسبة، وهذا معلوم بالتجربة لرجال الأعمال، وفي وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر (يا أبا ذر لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة الشريك شريكه) وعن الإمام الكاظم (علیه السلام) قال (ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسناً استزاد الله، وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب عليه، (وسائل الشيعة1 ج11)

6-مطالعة كتب الأخلاق والموعظة، وزيادة المعرفة بالله تعالى لأنّها أصل الدين وأساسه.

7-مجالسة الصالحين والتردد على المساجد والمشاهد الشريفة.

8-الاعتراف أمام الله بالتقصير وكثرة الذنوب مما نعجز عن عدّه وإيكال الأمر إلى عفوه ومغفرته وصفحه وإحسانه وكرمه.

وكما أنّ الحسنات يذهبن السيئات، فإن بعض السيئات تُذهب الحسنات وتُحرقها، ففي كتاب الأمالي(1) للشيخ الصدوق (قدس سره) بسنده عن الإمام الصادق (علیه السلام) عن آبائه (ع) قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) من قال سبحان الله غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال الحمد لله غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال لا إله إلا الله غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال الله أكبر غرس الله له بها شجرة في الجنة، فقال رجلٌ من قريش يا رسول الله إنّ شجرنا في

ص: 105


1- أوردها عنه في البحار: 93/ 168.

الجنة لكثير، قال نعم ولكن إيّاكم أن تُرسلوا عليها نيراناً فتحرقوها، وذلك إنّ الله عزّ وجل يقول: [يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تُبطلوا أعمالكم] (محمد:33) ومن تلك النيران المناسبة للرجل من قريش إنكار ولاية علي بن أبي طالب (علیهما السلام) وبقرينة الآية التي استدل بها رسول الله (صلی الله علیه و آله) الآمرة بطاعة الله تعالى ورسوله (صلی الله علیه و آله)، ومن تلك الذنوب الغيبة فعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الآكلة في جوفه).(1)وأنقل لكم نصاً من الصحيفة السجادية يلفت نظرنا إلى ذنوب نغفل عنها وهي تتعلق بالعلاقات مع الآخرين، ولك أن تقيس عليها غيرها مما لا يعلمه إلاّ الله تبارك وتعالى، قال (علیه السلام) في الاعتذار من تبعات العباد ومن التقصير في حقوقهم (اللهم إنّي اعتذر إليك من مظلوم ظُلم بحضرتي فلم أنصره، ومن معروف أسدي إليّ فلم أشكره، ومن مسيء اعتذر إليّ فلم أعذره، ومن ذي فاقة سألني فلم أوثره. ومن حقّ ذي حقٍ لزمني فلم أوّفره، ومن عيب مؤمن ظهر لي فلم أستره، ومن كل إثم عرض لي فلم أهجره).

فالسيئات لا تقتصر على ما صدر منه من أمثالها، بل على ما فوّت مما ينبغي فعله، فلا ينشغل الإنسان بالنظر إلى ما قدّم من طاعة أو معروف بين الناس، بل إلى ما كان يجب عليه فعله ولم يفعله. كالشخص يفرح بما أنفق في سبيل الله، ويغفل عن مورد قصده فيه صاحب حاجة وكان قادراً على قضائها فلم يفعل،

ص: 106


1- أصول الكافي، ج2، باب الغيبة والبهتان، ح1، وفي القاموس المحيط: أنّ الآكلة داء في العضو يأكل منه.

ووردت في ذلك روايات شديدة كالذي روي عن أبي الحسن(ع) قال(من أتاه أخوه المؤمن في حاجة فإنّما هي رحمة من الله تبارك وتعالى ساقها إليه، فإن قبل ذلك فقد وصله بولايتنا وهو موصول بولاية الله وإن ردّه عن حاجته وهو يقدر على قضائها سلّط الله عليه شجاعاً من نار ينهشه في قبره إلى يوم القيامة مغفوراً له أو مُعذّباً فإن عذره الطالب(1)كان أسوأ حالاً).(2)فهذا شكل من السيئات يخفى على الإنسان، مضافاً إلى ما صدر منه فعلاً، ومن دعاء الإمام السجاد (علیه السلام) ليوم الاثنين (وأسألك في مظالم عبادك عندي، فأيّما عبد من عبيدك أو أمةٍ من إمائك كانت له قبلي مظلمة ظلمتها إياه في نفسه أو في عرضه أو في ماله أو في أهله وَولده، أو غيبةٌ اغتبته بها، أو تحامل عليه بميل أو هوى، أو أنفة أو حميّة أو رياء أو عصبية، غائباً كان أو شاهداً، وحيّا كان أو ميتاً، فقصرت يدي، وضاق وسعي عن ردّها إليه، والتحلل منه، فأسألك يا من يملك الحاجات وهي مستجيبة لمشيئته، ومسرعة إلى إرادته، أن تصلّي على محمد وآل محمد وأن ترضيه عني بما شئت، وتهب لي من عندك رحمة).

وفي ضوء هذه الحقيقة التي لا يلتفت إليها إلاّ الأقلّون، يمكن أن نفهم ما ورد في الحديث الشريف عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال (لم يعبد الله عز وجل بشيء

ص: 107


1- قال الشارع: (أي المطلوب منه الحاجة، ووجهه إنه إذا عذره صاحبها لم يندم ولم يتب ولم يستغفر، بل ظن عدم تقصيره في حق الطالب فاجترأ على منع غيره).
2- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب فعل المعروف، باب 25، ح9.

أفضل من العقل، ولا يكون المؤمن عاقلاً حتى يجتمع فيه عشر خصال) إلى أن قال (صلی الله علیه و آله) (والعاشرة وما العاشرة لا يرى أحداً إلا قال هو خير مني وأتقى) وقد شرحت بعض فقرات الحديث في محاضرة سابقة.نسأل الله تعالى أن ينبّهنا من نومة الغافلين المُبعدين بعفوه وكرمه.

ص: 108

خطاب المرحلة 293 :توجيهات تتعلّق بالزيارات والمناسبات الدينية

خطاب المرحلة 293 :توجيهات تتعلّق بالزيارات والمناسبات الدينية(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

تشهد المناسبات الدينية والزيارات المخصوصة للأئمة الأطهار (ع) زخماً جماهيرياً هائلاً يُقدَّر بالملايين يتوافدون على مدى أيام، وكان آخرها ذكرى استشهاد الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) حيث شهدت بغداد زحفاً إيمانياً قُدِّرَ بالملايين أدخلوا به السرور على قلب النبي (صلى الله عليه وآله الأطهار) وأظهروا عزة أولياء الله تعالى وكرامتهم وجلالة شأنهم، كما أدخلوا اليأس على أعدائهم وشانئيهم الناصبين لهم العداوة، الذين حاولوا ثني عزيمة المؤمنين وليّ إرادتهم بالتفجيرات الإرهابية التي قاموا بها قبل المناسبة بأيام(2)، لكن ردّ الفعل جاء حاسماً وقاصماً لظهورهم.

هذا كلّه مما لا شكّ فيه، ولكن يجب أن لا نكتفي بتقييم الظواهر والشكليات، وإنّما علينا أن ننفذ إلى عمق الحقيقة، ونتقبّلها بشجاعة حتى لو

ص: 109


1- خطاب وجهّه سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) إلى عموم الأمة بمناسبة قرب حلول الزيارة الشعبانية المباركة إلى الإمام الحسين (علیه السلام) عام 1432، ووافق النصف من شعبان 17/تموز/2011.
2- كان منها ثلاثة انفجارات استهدفت سوقاً شعبية في حي الشرطة الرابعة في بغداد يوم الخميس 20/رجب/1432 الموافق 23/ 6/ 2011 فاستشهد حوالي (20) وجرح آخرون.

كانت في بعض جوانبها على خلاف رغباتنا وأهوائنا.إنّ أي عمل يراد تقييمه وتحديد نسبة نجاحه، فلابد أن يكون ذلك بلحاظ مقدار النتائج التي حقّقها، وفق الأهداف المرجوّة منه، كفريق كرة القدم فإن نتيجته تُحدّد في ضوء الكرات التي أدخلها في شباك الخصم مهما كان لعبه حسناً وجميلاً.

وهكذا تُعرف قيمة العبادات وكلّ الأعمال من خلال آثارها في حياة الفرد والمجتمع، كقوله تعالى في الصلاة [إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ] (العنكبوت:45) وورد في تفسير القمي قولهم (ع): (من لم تنههُ الصلاة عن الفحشاء والمنكر لم تزدهُ من الله عزّ وجل إلاّ بعداً).

فإذا أردنا أن نُقيّم هذه الزيارات المليونية فلابد أن نُحدّد أهدافها أولاً، ومنها:

1-إعلان المودّة والولاء للنبي (صلى الله عليه وآله) الأطهار(ع) التزاماً بقوله تعالى [قل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى] (الشورى:23) وإدخال السرور عليهم، وإظهار عزّتهم وكرامتهم.

2-استذكار سيرتهم العطرة ومواقفهم النبيلة لإعلاء كلمة الله تعالى وهداية البشر جميعاً، واستلهام الدروس والعبر من صفحات تاريخهم النقيّة.

3-تجديد العهد معهم (ع) للمضي على نهجهم وسيرتهم، وبذل الغالي والنفيس من أجل إحياء أمرهم وإدامة ذكرهم.

4-إعلان البراءة من أعدائهم، وظالميهم، ورفض كل ظلم ومنكر وفساد وانحراف صدر ويصدر من مخالفيهم.

ص: 110

5-أن تكون هذه المناسبات سبباً لتجديد الروح الإيمانية ومراجعة النفس وتصحيح الأخطاء والبداية الجديدة نحو الكمال، وتطهير القلب.

وإذا أردنا تقييم هذه الفعاليات المليونية المباركة في ضوء الأغراض المطلوبة منها، فسنجدها قد نجحت في تحقيق جملة منها، وفشلت في البقية، ورغم التنبيهات والتوجيهات المتكرّرة للزوار بتجنب أمور تنافي قدسية المناسبة ومكانة الإمام المزور، إلاّ أن هذه الزيارات تشهد الكثير من المخالفات الشرعية التي يأنف منها كل ّ غيور وتكون بمثابة طعنات توجّه إلى قلب الإمام (علیه السلام) لا تقل إيلاماً عن الطعنات التي وُجّهت إلى جسده الشريف.

وأذكر لكم رواية تبيّن جانباً من الأذى الذي يدخل على قلب الإمام (علیه السلام) فقد روي أن رجلاً (دخل على الإمام الجواد (علیه السلام) وهو مسرور فقال: ما لي أراك مسروراً؟ قال: يا ابن رسول الله سمعت أباك يقول: أحقّ يوم بأن يُسَرَّ العبد فيه يوم يرزقه الله صدقات ومبرّات ومدخلات من إخوان له مؤمنين، فإنه قصدني اليوم عشرة من إخواني الفقراء لهم عيالات فقصدوني من بلد كذا وكذا فأعطيت كل واحد منهم، فهذا سروري. فقال محمد بن علي (علیه السلام): لعمري إنك حقيق بأن تُسَرَّ إن لم تكن أحبطته أو لم تحبطه فيما بعد، فقال الرجل: كيف أحبطتُه وأنا من شيعتكم الخلّص؟، قال: هاه قد أبطلت برّك بإخوانك وصدقاتك، قال: وكيف ذاك يا ابن رسول الله؟ قال له محمد بن علي (علیه السلام): اقرأ قول الله عز وجل: [يَا أيُُّها الذِينَ آمَنُوا لا تُبطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالمَنِّ وَالأذَى] (البقرة:264) قال: يا ابن رسول الله ما مننت على القوم الذين تصدقت عليهم ولا آذيتهم، قال له محمد بن علي (علیه السلام): إن الله عز وجل إنما قال: لا

ص: 111

تُبطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالمَنِّ وَالأذَى] ولم يقل بالمن على من تتصدقون عليه وبالأذى لمن تتصدقون عليه، وهو كل أذى، اَفَتَرَى أذاك القوم الذين تصدقت عليهم أعظم أم أذاك لحَفَظَتِك وملائكة الله المقربين حواليك أم أذاك لنا، فقال الرجل: بل هذا يا ابن رسول الله، فقال: لقد آذيتني وآذيتهم وأبطلت صدقتك، قال: لماذا؟ قال: لقولك: وكيف أحبطتُه وأنا من شيعتك الخلّص، ثم قال: ويحك أتدري من شيعتنا الخلّص؟ قال: لا، قال: فإن شيعتنا الخلص .. سلمان وأبو ذر والمقداد وعمار، سوّيت نفسك بهؤلاء، أما آذيت بهذا الملائكة وآذيتنا، فقال الرجل: أستغفرُ الله وأتوب إليه، فكيف أقول؟ قال: قل أنا (من) مواليك ومحبيك ومعادي أعدائك، قال: فكذلك أقول وكذلك أنا يا ابن رسول الله، وقد تُبتُ من القول الذي أنكرتَه وأنكَرتهُ الملائكة فما أنكرتم ذلك إلا لإنكار الله عز وجل، فقال محمد بن علي (علیه السلام): الآن قد عادت إليك مثوبات صدقاتك وزال عنها الإحباط)(1).فماذا سيكون مقدار الأذى الداخل عليهم (ع) مما يرتكب من محرمات، ونحن نسجّل هنا بعض تلك المخالفات الشرعية للتذكير، فإن الذكرى تنفع المؤمنين وهي لا تخفى على من شارك في تلك المناسبات ولاحظها بعين الناقد البصير، ومنها:

1-عدم التزام النساء بتمام الحجاب العفيف الذي يريده الشارع المقدّس سواءٌ في هيئتها ومظهرها الخارجي أو في حركاتها أو في كلماتها.

2-الاختلاط غير المحتشم بين الجنسين، والاحتكاك المريب، وصعودهن

ص: 112


1- بحار الأنوار: 68/ 159-160.

مع الرجال في سيارات الحمل والآليات العسكرية، وقد يستند بعضهم على بعض عندما تتوقف السيارة بشكل مفاجئ، خصوصاً وإنّ كثيراً من النساء لا يرافقهن محرم.3-إنّ ما يفرحنا هو أن الغالبية العظمى من الزوار هم من فئة الشباب، لكن الذي يحزننا إن كثيراً منهم لا يجسد الإسلام في مظهره وسلوكه، ابتداء من القميص الذي يرتديه، والعلامات المرسومة عليه إلى أجزاء جسمه التي يبديها، إلى الكلمات التي يتبادلونها، إلى الحركات غير المؤدبة التي يقومون بها وكأنّ بعضهم في ملعب كرة القدم أو صالة السينما، ولا تتوقف قائمة المخالفات عند النظرات الخائنة والابتسامات المتبادلة بين الجنسين.

4-لا يوجد اهتمام واضح بشعيرة الصلاة، إذ لا يتوقف الجمع عن المسير والحركة عند حلول وقت الصلاة المفروضة لأدائها، مع أنّ أداء الصلاة في أوقاتها خصوصاً إذا كانت جماعة هي من أهم العلامات على صحة المسيرة ونجاحها في تحقيق أهدافها.

5-غياب دور المرشدين والمبلغين من الحوزة العلمية أو المثقفين والواعين الرساليين، ولعلّ هذا هو أحد أسباب حصول هذه المخالفات لأنّ صدورها غالباً عن جهل أو غفلة تزولان بالتذكير والتعليم وهما وظيفتا الأنبياء والرسل والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) والهداة السائرين على نهجهم.

إذا كان كلّ هذا يحصل في مناسبة حزينة مؤلمة –وهي ذكرى استشهاد الإمام الكاظم (علیه السلام)-، فما الذي ينتظرنا في المناسبات المفرحة؟ ونحن مقبلون على الزيارة الشعبانية العظيمة، والتي اعتاد بعض أتباع الهوى والنفس

ص: 113

الأمّارة بالسوء على القيام بأفعالٍ مشينة يزيّنها لهم الشيطان اللعين، يضيّعون بها دينهم ويخسرون هذه الفرصة العظيمة للتقرّب إلى الله تبارك وتعالى ويتصورون أنهم يحسنون صنعاً.لقد وردت روايات(1) عديدة في فضل زيارة أهل البيت (علیهم السلام) خصوصاً الإمام الحسين (علیه السلام) كالرواية المعتبرة عن معاوية بن وهب عن الإمام الصادق (علیه السلام) وغيرها، لكن هذا الثواب لا يُعطى إلاّ لمن التزم بواجبات الزيارة وحقوق الإمام المزور لذا جاء في بعضها (جئتك زائراً عارفاً بحقك)، فإن هذه المراتب الجليلة لا ينالها كلّ من هبّ ودب، فلا تخدعنكم الأوهام والكلمات المعسولة، بل إنّ بعض الزوار يعود إلى أهله وقد أثقلت ظهره الذنوب، وهو يظن أنّه قد أحسن عملا وأدّى طاعة لله تعالى.

وكتاب الله تعالى ينطق بذلك، قال تبارك وتعالى [إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ] (المائدة:27)، وقد جعل تعالى مقياس النجاح في الامتحان هو إتقان العمل وإحسانه وليس الإتيان به على أي نحو كان، قال تعالى [لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] (هود:7).

نلفت نظر أعزائنا من طلبة العلوم الدينية والمثقفين والعاملين الرساليين وكل المؤمنين الذين يشعرون بمسؤوليتهم تجاه ربهم وأئمتهم أن لا تفتر هممهم ولا تلين عزائمهم في إرشاد الناس ووعظهم وتوجيههم، والانتشار بينهم لإقامة صلاة الجماعة وإلقاء كلمات الموعظة والتعليم والتذكير، فإنّها من أعظم الوظائف الإلهية،

ص: 114


1- راجعها في كتاب مفاتيح الجنان ووسائل الشيعة نهاية كتاب الحج.

وبيان عظمة الأئمة (علیهم السلام) وما يليق بهم من أدب للتعاطي معهم، وشرف هذه المناسبات الدينية وسعة رحمة الله تعالى بها فلا يعودوا بالخسران، فإن الشقي من حرم غفران الله ورحمته في مثل هذه الأزمنة والأمكنة المباركة.محمد اليعقوبي- النجف الأشرف

7 شعبان 1432 ه- - 9/ 7/ 2011

ص: 115

خطاب المرحلة 294 :[ثُمَّ لَتُسألُنّ يَومَئِذٍ عَن النَعِيمِ]

خطاب المرحلة 294 :[ثُمَّ لَتُسألُنّ يَومَئِذٍ عَن النَعِيمِ](1)

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تبارك وتعالى في أكثر من موضع من كتابه الكريم [وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا] (إبراهيم:34) (النحل:18)، ولو أجهد الإنسان نفسه لإحصاء هذه النعم فإنه يعجز فعلاً، بل إن كل نعمة يذكرها –كصحة وسلامة البدن- هي في الحقيقة مجموعة من النعم لا تُعدّ ولا تحصى، فكل نفس من الهواء يستنشقه هو نعمة، وكل قطرة دم تسري في عروقه هي نعمة وكل نبضة من قلبه هي نعمة وهكذا، وإذا أراد الإنسان أن يعرف أهمية هذه النعم التفصيلية فليلتفت إلى ما يحصل لو حُرم منها.

وهكذا كل نعمة كرغيف الخبز الذي يأكله كل إنسان يومياً ويعتبره أمراً عادياً، فليتأمل كيف وصل إليه وكم نعمة اشتركت في إعداده، من الأرض التي جعلت صالحة للزراعة والماء الذي يسقيها، والحب الذي ينبت في تلك الأرض، والزارع الذي يصلح الأرض ويداري الزرع إلى أن يحصده ويخرج الحب من سنبله، ثم التاجر الذي ينقله، إلى الطحان والعجان والخباز والبائع، وأودع الله تعالى في هؤلاء غرائز تدفعهم إلى القيام بهذه الأعمال

ص: 116


1- كلمة سجّلها سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) إلى قناة النعيم الفضائية لمباركة انطلاقتها تزامناً مع حلول شهر رمضان المبارك يوم الجمعة 27/شعبان/1432 المصادف 29/ 7/ 2011.

وتحمل المشاق والصعوبات كحب البقاء.ولكن الإنسان يغفل عن هذه النعم، وحتى لو التفت إليها فإنه لا يشكرها ولا يؤدي حقها، قال تعالى في ذيل الآية في موضعها الأول من سورة إبراهيم [إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ] (إبراهيم:34) فهو يظلم ربّه إذ لا يوفيه حقه، ويظلم نفسه لأنه يوقعها في الخسران العظيم، وهو كفار لأنه جاحد و متنكر لهذه النعم، لكن الله الرحمن الرحيم خالق هذا الإنسان والعالم بمكوناته غفر له هذا التقصير، قال تعالى في ذيل الآية في موضعها الثاني من سورة النحل [إنّ اللهَ لغفورٌ رحيم].

ومن رحمته أن جعل الاعتراف بالقصور والتقصير عن إحصاء النعم فضلاً عن شكرها هو حق الشكر له تبارك وتعالى، كما روي في أخبار الرسول الكريم موسى بن عمران (ع) أن الله تعالى أوحى إليه أن يا موسى اشكرني حق شكري، قال (علیه السلام) وأنّى لي أن أشكرك حقّ شكرك، فأوحى الله إليه: إن هذا الاعتراف بالعجز هو حق شكري.

وفي الكافي (كان الإمام علي بن الحسين (علیه السلام) إذا قرأ هذه الآية [وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا] يقول: سبحان الذي لم يجعل في أحد من معرفة نعمة إلا المعرفة بالتقصير عن معرفتها، كما لم يجعل في أحد من معرفة إدراكه أكثر من العلم أنه لا يدركه، فشكر جل وعز معرفة العارفين بالتقصير عن معرفة شكره فجعل معرفتهم بالتقصير شكراً، كما عَلِم عِلْم العالمين أنهم لا يدركونه فجعله علماً).

وفي مناجاة الشاكرين للإمام السجاد (علیه السلام) (فآلاؤك جمّة ضعف لساني

ص: 117

عن إحصائها، ونعمائك كثيرة قصُر فهمي عن إدراكها، فضلاً عن استقصائها، فكيف لي بتحصيل الشكر وشكري إياك يفتقر إلى شكر، فكلّما قلتُ لك الحمد وجب عليّ لذلك أن أقول لك الحمد).هذا كله في النعم المادية –إذا أمكن تسميتها- وهي ملتفت إليها في الجملة، لكن ما لا نلتفت إليه إلا نادراً النعم المعنوية وعلى رأسها الإيمان بالله تعالى وبرسوله (صلی الله علیه و آله) وما جاء به، الذي هو وسيلة النجاة والفلاح في الحياة الباقية، وهو من أعظم النعم على الإنسان، بل به يصبح الإنسان إنساناً، أما غير المؤمنين فهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً.

ثم نعمة ولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) والأئمة من بنيه (صلوات الله عليهم أجمعين)، في الكافي وتفسير القمي (قال أمير المؤمنين (علیه السلام) في قوله [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ] (إبراهيم:28-29).

قال (علیه السلام): ما بال أقوام غيّروا سنة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعدلوا عن وصيّه ولا يتخوّفون أن ينزل بهم العذاب: ثم تلا الآية ثم قال: نحن النعمة التي أنعم الله على عباده وبنا يفوز من فاز يوم القيامة)(1) وورد في هؤلاء المبدلين لنعمة الله تعالى من طرق الفريقين عن علي بن أبي طالب (علیهما السلام) وعمر بن الخطاب (هما الأفجران من قريش بنو أمية وبنو المغيرة، فقطع الله دابرهم يوم بدر وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين) وعن الإمام الصادق (علیه السلام) (عنى بها قريش قاطبة الذين

ص: 118


1- تفسير الصافي4/ 240 عن الكافي، باب أن النعمة التي ذكرها الله عز وجل في كتابه الأئمة (علیهم السلام).

عادوا رسول الله ونصبوا له الحرب وجحدوا وصيه).وهذا التفسير شاهد على أن النعمة المقصودة هي الإيمان بالله تعالى وبرسوله الكريم (صلی الله علیه و آله)، وقد جاءت الآية محل البحث في ختام هذا السياق من الآيات المباركة.

وفي ضوء هذا فقد كان الأئمة (علیهم السلام) يصححون هذا الفهم لدى الناس وينبهونهم من غفلتهم، فقد ورد في تفسير قوله تعالى [ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ] (التكاثر:8) عن أمير المؤمنين (علیه السلام) (إن النعيم الذي يُسأل عنه: رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومن حلّ محله من أصفياء الله، فإن الله أنعم بهم على من أتبعهم من أوليائهم).

وفي تفسير العياشي عن الصادق (علیه السلام) (أنه سأله أبو حنيفة عن هذه الآية، فقال له: ما النعيم عندك يا نعمان؟ قال: القوت من الطعام والماء البارد، فقال: لئن أوقفك الله يوم القيامة بين يديه حتى يسألك عن كل أكلة أكلتها أو شربة شربتها ليطولّن وقوفك بين يديه، قال: فما النعيم جعلت فداك؟ فقال: نحن أهل البيت النعيم الذي أنعم الله بنا على العباد، وبنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين(1)، وبنا ألّف الله بين قلوبهم وجعلهم إخواناً بعد أن كانوا أعداءً. وبنا هداهم الله للإسلام، وهو النعمة التي لا تنقطع، والله سائلهم عن حق النعيم الذي أنعم به عليهم، وهو النبي (صلی الله علیه و آله) وعترته (ع)).

وفي رواية: (انه (علیه السلام) قال له: بلغني انك تفسّر النعيم في هذه الآية بالطعام،

ص: 119


1- هذا تطبيق منه (علیه السلام) لقوله تعالى [وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً] (آل عمران:103).

والطيب، والماء البارد في اليوم الصائف؟ قال: نعم، قال: لو دعاك رجل وأطعمك طعاماً طيباً وسقاك ماءً بارداً ثم امتنّ عليك به إلى ما كنت تنسبه؟ قال: إلى البخل، قال (علیه السلام): أفيبخل الله تعالى؟ قال فما هو؟ قال(ع): حبنا أهل البيت (علیهم السلام))(1).وروايات أخر بهذه المضامين(2).

ومن هذه النعم المعنوية حُسن الخلق وبها امتدح الله تعالى نبيه الكريم [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] (القلم:4) والناس لا تلتفت إلى هذه النعم ولا تعيرها اهتماماً ولذا فإنهم لا يحسدون صاحبها عليها، وقد ورد في التواضع ما مضمونه انه نعمة لا يحسد عليها صاحبها، فهل يلتفت المجتمع إلى تهنئة من يكتسب خلقاً كريماً أو يؤدي طاعة عظيمة كصلاة الليل أو بر الوالدين أو قضاء حوائج الناس أو المواظبة على صلاة الجماعة في المساجد كما يهنئون من يرزق مالاً أو ولداً، وهل يعزّون أحداً على فوات شيء من ذلك كنومه عن صلاة الصبح أو عقوق الوالدين أو الإفطار في شهر رمضان كما يعزون على فقدان عزيز أو حصول خسارة.

ص: 120


1- أقول: ذكر الإمام (علیه السلام) هذا لتصحيح فهم أبي حنيفة وإلا فإن الإنسان يُسأل عن ماله مم اكتسبه وفيم أنفقه، وعن أولاده كيف ربّاهم ومم أنفق عليهم وهكذا، نعم لا يُسأل عن ضرورات حياته وهذا وجه للجمع بين الروايات، ويشهد له صحيح الحلبي عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (ثلاثة أشياء لا يحاسب عليهن المؤمن: طعام يأكله، وثوب يلبسه، وزوجة صالحة تعاونه ويحصن بها فرجه) (وسائل الشيعة، أبواب مقدمات النكاح، باب9، ح1).
2- نقلها تفسير الصافي: 7/ 547-548 عن تفسير القمي والعياشي وعيون أخبار الرضا (علیه السلام) والكافي والمحاسن.

ومن هذه النعم الزوجة الصالحة، ففي الحديث الشريف عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال (ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد الإسلام أفضل من زوجة مسلمة تسرّهُ إذا نظر إليها، وتطيعه إذا أمرها، وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله).(1)هذه النعم المعنوية (الإيمان بالله وبرسوله وولاية أهل البيت (علیهم السلام) وحسن الأخلاق) هي الأوضح في عدم قبولها الإحصاء والاستقصاء لأنها تمتد إلى الحياة الباقية الخالدة، ولان بركاتها وأثارها واسعة، ولأنها مستمرة بالعطاء لا تنقطع كما عبّر الإمام (علیه السلام) في حديثه مع أبي حنيفة وهذه النعم هي التي طلب الله تعالى من عباده أن يتحدثوا بها وينشروها ويدعوا الناس إليها لتغمرهم سعادتها، قال تعالى [وأمّا بنعمةِ ربّك فحدّث].

عن الحسين بن علي (علیه السلام) قال: (أمره أن يحدِّث بما أنعم الله عليه من دينه)(2).

ولا نتوقع أن المطلوب أن يتحدّث الإنسان بما عنده من أموال وعقارات وأولاد ونحوها، نعم ورد في تطبيق الآية على هذا المستوى أن يُظهر الإنسان نعمة الله عليه، لأن التظاهر بعكسها كذب في الفعل وإخفاء لنعمة الله عليه، ففي الكافي عن الصادق (علیه السلام) قال (إذا أنعم الله على عبده بنعمة فظهرت عليه سمي حبيب الله محدّثاً بنعمة الله، وإذا أنعم الله على عبده بنعمة فلم تظهر عليه، سمي بغيض الله مكذّباً بنعمة الله).(3)

ص: 121


1- وسائل الشيعة، كتاب النكاح، أبواب مقدماته وآدابه، باب9، ح10.
2- تفسير الصافي: 70/ 504 عن المحاسن للبرقي.
3- المصدر نفسه عن الكافي: باب التجمّل وإظهار النعمة.

ومن تلك النعم المعنوية التي أكرمنا الله تعالى بها شهر رمضان الذي أطلّ علينا. بفضل الله تبارك وتعالى، فاستقبلوه بمعرفة فضله، وعظيم نعمة الله تعالى به، وأنّى لنا أن نعرفه حق معرفته لولا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الكرام، فاعرفوا حقه وقدره من خطبة النبي (صلی الله علیه و آله) في آخر جمعة من شعبان(1) وتأملوا فيها جيداً.واعرفوه أيضاً من دعاء الإمام السجاد (علیه السلام) في استقباله، ودعائه في وداع شهر رمضان الذي نصحتُ مراراً بقراءته قبل دخول الشهر لنزداد بصيرة بعظمة هذا الشهر الشريف ونستعد له، والدعاءان موجودان في الصحيفة السجادية.

ومما ورد في ثانيهما في بيان عظيم نعمة الله تعالى بهذا الشهر الشريف قوله (علیه السلام) (ما أفشى فينا نعمتك، وأسبغ علينا منّتك، وأخصّنا ببرّك، هديتنا لدينك الذي اصطفيت، وملتّك التي ارتضيت، وسبيلك الذي سهّلت، وبصّرتنا الزلفة لديك، والوصول إلى كرامتك) ثم قال (علیه السلام) (اللهم وأنت جعلت من صفايا تلك الوظائف وخصائص تلك الفروض شهر رمضان الذي اختصصته من سائر الشهور، وتخيّرته من جميع الأزمنة والدهور، وآثرته على كل أوقات السنة، بما أنزلت فيه من القرآن والنور. وضاعفت فيه من الإيمان، وفرضت فيه من الصيام، ورغّبت فيه من القيام) إلى أن قال (علیه السلام) (وقد أقام فينا هذا الشهر مُقام حمد، وصحبنا صحبة مبرور، وأربحنا أفضل أرباح العالمين)، وقد شرح النبي (صلی الله علیه و آله) هذه الأرباح في خطبته التي اشرنا إليها، وهي حقاً أفضل أرباح العالمين.

ص: 122


1- راجعها في مفاتيح الجنان في فضلِ شهر رَمضان وأعمالِه.

والتزاماً بالآية الشريفة (وأما بنعمة ربك فحدّث) ينبغي لنا أن نستقبل هذا الشهر الشريف وهذه النعمة المباركة بمعرفته والاستعداد له بالتوبة والاستغفار والعزم على مضاعفة الهمة في الطاعات والورع عما حرّم الله تعالى، وصيام الأيام الأخيرة من شعبان ولو للقضاء عما في الذمة، وأن نضع لنا برامج نقضي بها أيامه ولياليه الشريفة تتضمن أداء صلوات مستحبة وأدعية وتلاوة القرآن لأنه شهر رمضان ربيع القرآن،وتتضمن حضور المساجد لأداء صلاة الجماعة والاستماع إلى محاضرات الوعظ والإرشاد مباشرة أو التي تنقلها الفضائيات بفضل الله تبارك وتعالى.وان نتحدث بفضل هذا الشهر وعظمته، وندعو الناس إلى أداء حق الله تعالى فيه أكثر مما في غيره من لزوم الطاعات واجتناب المعاصي، وان نقيم الفعاليات التي تحفّز المجتمع على طاعة الله تبارك وتعالى وذم معصيته بنشر اللوحات الجدارية والبوسترات التي تتضمن الأحاديث الشريفة.

ونذكركم بما قلناه سابقاً من وضع مكبرات الصوت على السيارات وتجوب شوارع المدن مرحبّة بالشهر الشريف ومبيّنة لعظمته وثواب الطاعة فيه وعقوبة المخالفين، إقامة المسيرات والمهرجانات الاحتفالية بقدوم هذا الشهر المبارك وتلبية الدعوة لضيافة الرحمن والتزوّد من الموائد الإلهية، أقول كلامي هذا:

1- لنلتفت إلى النعم الحقيقية التي تبقى ونعمل على تحصيلها.

2- ولنزهد في ما سواها من النعم الزائلة التي يفني الغافل عمره في جمعها والعناية بها ومتابعتها فيكون خادماً لها بدل أن تكون هي خادمة له، فصاحبها لا

ص: 123

يحسد عليها حقيقة.3- وأن نبذل الوسع في التحدث بهذه النعم الحقيقية وندعو الناس إليها ونرغّبهم فيها.

4- ولنتجنّب هذا التزاحم والتغالب والصراع على تلك الأمور الوهمية التي يُخدع بها الغافلون.

قال تعالى في المقارنة بين النوعين من النعم [زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ، قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ] (آل عمران:14-15)

إن اختيار اسم (النعيم) لهذه الفضائية التي أنطلق بثها تزامناً مع حلول شهر رمضان المبارك، يحملّها مسؤولية التحدث بهذه النعم العظيمة.

أسأل الله تعالى أن يجعل هذه القناة منبراً لبيان النعم الحقيقية ودعوة الناس إليها وخلق الحوافز لديهم للتمسك بها مع عدم إهمال الحديث عن النعم المادية كسعة المال وصحة البدن والأمن والعافية والولد والاستقرار وكيفية استثمارها في طاعة الله تبارك وتعالى.

وأن تكون هذه القناة نافذةً يُطلّ منها العلماء والمفكرون والعاملون المخلصون على الدنيا لتسمع منهم وتهتدي بهم ويحققوا أمل الأئمة

ص: 124

الأطهار (ع) عندما حثوا شيعتهم على إيصال صوتهم للبشرية جمعاء وقالوا (ع) (فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا) فلتتحدث القناة بهذه النعم الإلهية وتدعو الناس إليها، فإن اختيار الاسم للقنّاة جاء منسجماً مع هذه المسؤولية [وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ] (المطففين:26).

ص: 125

خطاب المرحلة 295 :تذكرة في العشر الأواخر من شهر رمضان

خطاب المرحلة 295 :تذكرة في العشر الأواخر من شهر رمضان(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

تمثّل العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك روح الشهر وخلاصته، وفيها يحصد العبد ثمرة أعماله الصالحة ويستشعر نتائجها بفضل الله تبارك وتعالى، ويهب الله تبارك وتعالى فيها من الألطاف والمنن لعباده، والبركات على موائده ما يزيد على ما قدّمه في سائر أيام الشهر ولياليه.

ويكفي في شرفها وعظمتها أن فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وفيها الليلة الأخيرة التي ورد أن الله تعالى يعتق فيها رقاباً من النار كمثل ما أعتق في جميع الشهر(2).

ولذا حظيت هذه العشرة باهتمام كبير من لدن رسول الله (صلی الله علیه و آله) والأئمة الطاهرين (علیهم السلام)، ففي رواية صحيحة عن الحلبي عن أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) قال: (كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا كان العشر الأواخر اعتكف

ص: 126


1- كلمة وجهها سماحة آية الله العظمى الشيخ اليعقوبي من خلال قناة النعيم الفضائية استعداداً لدخول العشر الأواخر من شهر رمضان 1432 الموافق آب/2011.
2- الكافي: 4/ 68، التهذيب: 4/ 193، من لا يحضره الفقيه: 2/ 60، ثواب الأعمال: 90، أمالي الصدوق: 56.

في المسجد، وضربت له قبة من شعر، وشمّر المئزر وطوى فراشه)(1).وروي عن الإمام الصادق (علیه السلام) عن آبائه قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): اعتكاف عشر في شهر رمضان تعدل حجتين وعمرتين)(2).

ومن الواضح أن المراد من الاعتكاف: روحه وجوهره، وهو الانقطاع عن كل ما يشغل عن الله تبارك وتعالى فضلاً عن المعاصي، وهذا ما قد يستطيع المؤمن تحقيقه في غير المسجد، أي في داره أو محل عمله، لكن الاعتكاف في المسجد الجامع الذي أقلّهُ ثلاثة أيام هو الراجح شرعاً وفضلاً في الشكل والمضمون.

وعلى هذا سار السلف الصالح متأسّين بنبيهم الكريم (صلی الله علیه و آله) حيث كانوا يخففون كثيراً من علاقاتهم الاجتماعية ويغيّرون نمط حياتهم ويتركون غير الضروري من المباحات ليتفرّغوا لعبادة ربّهم ومناجاته والاشتغال بما يقرّبهم إلى الله تبارك وتعالى.

إن الألطاف الإلهية الإضافية التي يمن الله تعالى بها على عباده في العشر الأواخر ليستشعرها المؤمن من خلال الشحنة الإضافية التي تدبّ فيه فينشط لطاعة الله تبارك وتعالى أكثر من غيرها، وتزيد همته للإتيان بما عجز عنه في غيرها.

وقد تضمنت كتب السنن والمستحبات أعمالاً لهذه الليالي تشكل برنامجاً يأنس به المؤمنون، ويشتاق إليه طلاب القرب من الله سبحانه، وهي موزعة تحت عدة عناوين في كتب الأدعية والمستحبات كالأعمال العامة لشهر

ص: 127


1- و (2) وسائل الشيعة: كتاب الاعتكاف، باب 1، ح1، 3.

رمضان، والأعمال المشتركة للعشر الأواخر، والأعمال الخاصة بكل ليلة منها، مضافاً إلى الأعمال المشتركة والخاصة لليالي القدر في الليالي التي تحتملها.وينبغي الالتفات إلى أنواع أخرى من الطاعات المعنوية كمحاسبة النفس وتذكر ما صدر من معاصي والندم عليها والاستغفار منها، والتفكر في العلاقة مع الله تبارك وتعالى بكل جوانبها كحب الله تعالى أو الشعور بالتقصير أمام عظيم نعمه أو الخجل من عدم أداء وظائف العبودية، ومن الأعمال أيضاً سماع الموعظة وما يرقق القلب، ومطالعة وصايا المعصومين (علیهم السلام) وسير الصالحين للتأسّي بهم، وقضاء حوائج الناس وإدخال السرور عليهم.

إن أول شعور للإنسان المؤمن حينما يبلّغه الله تبارك وتعالى العشر الأواخر من شهر رمضان هو العجز عن أداء الشكر لله تعالى على بلوغ هذه الأيام الشريفة ولم يجعله من السواد المخترم قبلها، أي الذين جاءهم الموت واخترمهم الأجل فلم يدركوا هذه الليالي الشريفة، فإن هذه العشرة أولى بالفضل والشكر من العشرة الأولى من شهر ذي الحجة التي ورد في أدعيتها (اللهم هذه الأيام التي فضّلتها على الأيام وشرّفتها قد بلّغتَنيها بمنّك ورحمتك فأنزل علينا من بركاتك وأوسع علينا فيها من نعمائك).

إن مما يؤسف له أن الحالة العامة للناس هي التراخي والفتور في هذه الليالي على عكس ما هو مطلوب من زيادة الهمة ومضاعفة النشاط وتكريس الإنسان نفسه لطاعة الله تبارك تعالى، حتى أن البعض يتوقف عن تلاوة القرآن بعد أن يختمه في ليلة القدر، مع أن شهر رمضان كله هو ربيع القرآن، ولعل لهذا الفتور عدة أسباب:

ص: 128

1- الغفلة عن عظمة هذه الليالي وشرفها وما أعد الله تبارك وتعالى فيها للعاملين.

2- إرهاصات العيد والاستعداد له بشراء الملابس وتهيئة الأطعمة ووضع برامج الاحتفال.

3- التعب من فريضة الصوم واشتياق الإنسان للعودة إلى ممارسة المباحات.

4- انتهاء مجالس الوعظ والإرشاد والتوجيه والتبليغ والشعائر الدينية حيث تختم هذه المجالس في ليلة (21) أو(23) ونادراً ما تتجاوز ليلة (25).

5- تحول برامج التلفزيون بشكل ملحوظ نحو المجون والفسق والفجور.

فتساهم هذه الأسباب وغيرها في عزوف الناس عن ارتياد المساجد وسماع الكلمات التي تشدهم إلى الطاعة.

لذا ينبغي لنا ونحن نستقبل هذه الليالي أن لا نفرط في استثمارها من خلال عدة نشاطات:

1- المواصلة على حضور المساجد وإقامة صلوات الجماعة والأدعية الجماعية الحاشدة.

2- الحث على القيام بعبادة الاعتكاف لمن يتيسّر له ذلك، فإنها من أعظم السنن وعقدها في المساجد الجامعة لأهل المدينة مع الالتفات إلى الاعتكاف المعنوي الذي ذكرناه، ومراقبة النفس بشدة خشية وقوعها في العجب والرياء والتباهي أمام الناس؛ لأن هذه الفعالية مظنة للوقوع في تلك الآثام فيفسد الإنسان على نفسه.

ص: 129

3- الاستمرار بمجالس الوعظ والإرشاد والتوجيه وإحياء الشعائر الدينية وإلقاء المحاضرات.

4- استثمار فترة إقبال النفس للقيام ببعض الأعمال التي اشرنا إليها.

5- الإكثار من الدعاء والتوسل إلى الله تبارك وتعالى وطلب الفوز بالجنة والعتق من النار والتعجيل لظهور بقية الله الأعظم وطلب قضاء حوائج الدنيا والآخرة له ولسائر المؤمنين.

6- اجتناب موارد الغفلة واللهو والعبث والصد عن ذكر الله تعالى كلعبة المحيبس ومتابعة التلفزيون وحضور مجالس البطالين.

فإذا علم الله تعالى منا الإخلاص ورأى حركة جماعية بهذا الاتجاه فسيرفع عنّا البلاء وسيعطينا فوق سؤلنا فإنه الكريم الرحيم الذي لا تنقص خزائنه ولا تزيده كثرة العطاء إلا جوداً وكرماً.

ص: 130

خطاب المرحلة 296 :ليلة القدر خير من ألف شهر

خطاب المرحلة 296 :ليلة القدر خير من ألف شهر(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تبارك وتعالى في فضل وشرف ليلة القدر التي هي أفضل ليالي السنة: [لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ] (القدر:3) والمشهور في فهمها أن العمل فيها يتضاعف برحمة الله تعالى وفضله ليكون خيراً من عمل ألف شهر، وهو معنى صحيح مَنَّ الله تعالى به على عباده ليزيدهم من عطائه كرماً منه، وقد دلت عليه الروايات ففي الكافي عن أبي عبد الله الصادق (علیه السلام)، (قال له بعض أصحابنا: كيف تكون ليلة القدر خيراً من ألف شهر؟ قال: العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر)، ويدلّ عليه وصفها بالمباركة في قوله تعالى: [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ] (الدخان:3) ومن بركاتها زيادة الأجر على الأعمال عن غيرها من الليالي والأيام.

وهذا المعنى مأخوذ من اسمها؛ لأن القدر –الذي هو بمعنى الشأن العظيم فيقال عالي القدر- متحقق فيها فلها قدر عظيم، كما أنه متحقق في غيرها بدرجات متفاوتة من الفضل في أمكنة وأزمنة متعددة كالصلاة في المساجد

ص: 131


1- أصل الكلمة تقرير لحديث سماحة المرجع الديني الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من زوار أمير المؤمنين (علیه السلام) مساء يوم 21/رمضان/1431 ثم أضاف إليها سماحته ليتحدث بها من خلال قناة النعيم الفضائية في رمضان /1432 الموافق آب/2011.

الأربعة وعند أمير المؤمنين (علیه السلام) فإنها بآلاف الصلوات، وفي ليلة الجمعة ويومها وليالي شريفة متعددة تتضاعف الأعمال أيضاً.وهناك معنى آخر لهذه الليلة مأخوذ من اسمها بالمعنى الآخر وهو القدر بمعنى التقدير أي اتخاذ القرار والبت في الأمر وقد ورد هذا التفسير في الكافي بإسناده عن الإمام الباقر(ع) في رواية جاء فيها: (يقدّر في ليلة القدر كل شيء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل: خير وشر وطاعة ومعصية ومولود وأجل أو رزق فما قدّر في تلك الليلة وقضي فهو المحتوم ولله عز وجل فيه المشيئة).

ويكون معنى الآية حينئذٍ، أن الله تعالى يقدِّر في ليلة القدر مصائر العباد وأرزاقهم وأمورهم المستقبلية قال تعالى: [فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ] ومعنى كونها خيراً من ألف شهر أن العبد قد يحظى بالتفاتة من ربه ويناله لطف خاص فيقدّر الله تبارك وتعالى له في هذه الليلة أمراً يساوي حياته كلها التي تمتد في المعدل ألف شهر وهي حوالي 83 سنة.

ولذا ورد في أدعية هذه الليلة (وإن كنت من الأشقياء فامحني من الأشقياء واكتبني من السعداء فإنك قلت في كتابك المنزل على نبيك المرسل صلواتك عليه وآله: [يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] فمثل هذا التغيير في القضاء إذا حصل في هذه الليلة فإنه يعادل العمر كله؛ لأن غاية سعي الإنسان في حياته هو بلوغ السعادة الحقيقية بفضل الله تبارك وتعالى.

وكان الأئمة (علیهم السلام) يعطون لهذه الليلة أهمية خاصة ويوجّهون شيعتهم لإحيائها بما يقرّبهم إلى الله تبارك وتعالى. روى الشيخ الطوسي (قدس سره) في

ص: 132

التهذيب بسند معتبر عن زرارة عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (سألته عن ليلة القدر، قال: هي ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين، قلت: أليس إنما هي ليلة؟ قال: بلى، قلت: فأخبرني بها، قال: وما عليك أن تفعل خيراً في ليلتين)(1).وعن الفضيل بن يسار قال: (كان أبو جعفر (علیه السلام) إذا كانت ليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين أخذ في الدعاء حتى يزول الليل، فإذا زال الليل صلّى)(2).

وروي عن الإمام الباقر (علیه السلام) أنه قال: (أتى رسولَ الله (صلی الله علیه و آله) رجلٌ من جهينة فقال: يا رسول الله إن لي إبلاً وغنماً وغُلمة وعمَلةً فأحب أن تأمرني بليلة أدخل فيها فأشهد الصلاة، وذلك في شهر رمضان، فدعاه رسول الله (صلی الله علیه و آله) فسارّه في أذنه، فكان الجهني إذا كانت ليلة ثلاثة وعشرين دخل بإبله وغنمه وأهله فبات تلك الليلة بالمدينة فإذا أصبح خرج بمن دخل به فرجع إلى مكانه)(3).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (إن ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان هي ليلة الجهني فيها يفرق كل أمر حكيم وفيها تثبت البلايا والمنايا والآجال والأرزاق والقضايا، وجميع ما يُحدث الله عز وجل فيها إلى مثلها من الحول، فطوبى لعبد أحياها راكعاً وساجداً ومثّل خطاياه بين عينيه ويبكي عليها فإذا

ص: 133


1- التهذيب: 3/ 58.
2- الكافي: 4/ 155، الخصال: 519.
3- التهذيب: 4/ 330، الدعائم: 1/ 282، بحار الأنوار: 83 /128.

فعل ذلك رجوت أن لا يخيب إن شاء الله تعالى)(1).ولذلك ينبغي للمؤمن أن يلح في مثل هذا الطلب في ليلة القدر لعله يحظى بالقبول، فإن رحمة الله واسعة وفضله مبذول لمن سأله وأن يكون دعاؤه بالحال الذي وصفه رسول الله (صلی الله علیه و آله) (فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة) وينبغي أن يقوم بالأعمال التي تحقق له أهلية الاستجابة والقبول في ليلة القدر –كالإكثار من الصلوات المستحبة كصلاة مائة ركعة والدعاء والرحمة بالآخرين وسماع الموعظة وذكر فضائل أهل البيت (علیهم السلام) ومصائبهم- مما يحيي القلب وينقيه ويخلص النية، ومن أعمالها المؤكدة زيارة الإمام الحسين (علیه السلام) ولو من بُعد لمن يتعذر عليه زيارة تربته المقدّسة فقد وردت فيها روايات عديدة منها ما في التهذيب عن الإمام الصادق (علیه السلام) وفيها: (نادى منادٍ تلك الليلة من بطنان العرش إن الله قد غفر لمن أتى قبر الحسين (علیه السلام) في هذه الليلة).

وإذا وجد في عمل رتابة وملل فلينوِّع ولينتقل إلى عمل آخر، فإن الأعمال المذكورة لهذه الليالي كثيرة ومتنوعة، وأحد أهداف تنوعها هو منع الكسل والملل والرتابة، ولإحداث الحيوية، ولإعطاء الفرصة لكل شخص أن يأخذ ما يناسبه ويتفاعل معه من أعمال الجوارح والجوانح.

وينبغي الاستعداد لليلة القدر من قبلها بالورع عن معاصي الله تبارك وتعالى والإقبال على طاعته، ومن أشكال الاستعداد أن يأتي بأعمالها منذ ليلة التاسع عشر كما هو مقرَّر مع أنها لا يحتمل أن تكون ليلة القدر لأنها تقع في العشر

ص: 134


1- دعوات الراوندي: 207.

الأواخر من شهر رمضان لكنها جعلت منها وشملت بأعمالها ليوفّق المؤمن لليلة القدر، ومن يتهاون بها فلعله يحرم من شيء من فضل ليلة القدر إلا أن يتداركه الله تعالى بفضله وكرمه.ولتوضيح مسألة دخول ليلة التاسع عشر في أعمال ليالي القدر –مع أن الليلة متعينة في العشر الأواخر من شهر رمضان- نقول: إن أي طلب يمر بعدة مراحل من النظر فيه ثم دراسة كيفية تلبية وتهيئة ظروف استجابته، ثم اتخاذ القرار بالاستجابة له، ثم تنفيذ هذا القرار وتحقيق المراد، ففي الليلة التاسعة عشرة يبدأ المؤمنون بتقديم طلباتهم ويُنظر في تلبيتها لهم، وفي الليلة الحادية والعشرين: تتخذ القرارات بالاستجابة لمن يشمله اللطف الإلهي الواسع، لكن يبقى قلم المحو والإثبات لم يجفّ، وفي الليلة الثالثة والعشرين: تمضى تلك الأوامر نفياً أو إثباتاً، ولذا تكرر وصف القضاء الإلهي في ليلة القدر بأنه لا يرد ولا يبدَّل كما في دعاء الإمامين الصادق والكاظم (علیه السلام) بعد كل فريضة، وفيه: (اللهم إني أسألك في ما تقضي وتقدّر من القضاء الذي لا يرد ولا يبدل) إلى آخر الدعاء.

وهذا المعنى ورد في رواية ذكرها الشيخ الكليني في الكافي بإسناده عن زرارة قال: (قال أبو عبد الله (علیه السلام): التقدير في تسع عشرة، والإبرام في إحدى وعشرين، والإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين).

ويكفي دليلاً على عظمة التغييرات التي تحصل للفرد وللبشرية جميعاً في ليلة القدر أن نزول القرآن كان فيها، القرآن الذي قلَبَ حياة البشرية وسما بها من حيوانية الجاهلية إلى قمة التوحيد وفتح آفاقاً واسعة للعلوم والمعارف والحضارات وأرسى أسس الحياة السعيدة، فكانت تلك الليلة خيراً من آلاف

ص: 135

الشهور والسنين –لأن الألف لم تذكر للتحديد وإنما للتعبير عن الكثرة - التي قضتها البشرية في ظلمات الجاهلية.وتبقى الأمة سعيدة ما دامت ملتفتة إلى عظمة ليلة القدر والقرآن الذي نزل فيها وملتزمة به ومستفيدة منه، وإلا فإنه لا يغنيها ما أصابته من عرض الدنيا وحطامها.

وبهذا المعنى كان من ألقاب الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) أنها ليلة القدر؛ لأن موقفها صحّح مسيرة الأمة إلى قيام يوم الساعة، فهذا الانقلاب الإيجابي المضاد الذي أحدثته الزهراء (علیها السلام) بموقفها يعدل عمل الأمة آلاف السنين إلى آخر عمرها فيما لو لم تهتدِ إليه.

وكان لليلة القدر مكانة في قلب الزهراء (علیها السلام)، فقد روي (أن فاطمة (علیها السلام) كانت لا تدعْ أحداً من أهلها ينام تلك الليلة (ليلة القدر) وتداويهم بقلة الطعام وتتأهب لها من النهار، وتقول: محروم من حُرِمَ خيرها)(1).

وعلى أي حال فإن الاهتمام بليلة القدر والتركيز على إحيائها لا يعني أن الإنسان يتكاسل في أيامه كلها ويتهاون ويفرّغ نفسه في الليالي المحتملة لليلة القدر، فهذا لا يناسب العاملين الراغبين فيما عند الله تبارك وتعالى، ولا أن ييأس إذا لم يشعر أنه قد وفق لإحياء ليلة القدر؛ لأن هذه الليلة وشهر رمضان وغيرها من أبواب اللطف الإلهي فإذا انقضت فإن رب شهر رمضان ورب ليلة القدر باقٍ ورحمته واسعة.

إنَّ نفس هذا المعنى الذي شرحنا به الآية ورد في موضوع آخر ففي

ص: 136


1- بحار الأنوار: 97/ 10.

الرواية (تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة) وهو مضافاً إلى معناه المنسبق إلى الذهن وهو أن التفكير والتأمل والفهم هو حقيقة العمل والغاية المنشودة منه لا الحركات الخارجية التي إنما تكتسب قيمتها من محتواها وهو التفكر والتأمل المنتج للخشوع والحب والرغبة والرهبة.فإن للحديث معنى آخر كالذي ذكرناه عن ليلة القدر وهو أن الإنسان قد يقف ساعة للتفكر والمراجعة والتحقيق في مسيرة حياته وهدفه الذي يريد أن يصل إليه، ونيته في أعماله، والقيادة التي يرجع إليها في أموره، وإذا به يتخذ قراراً يقلب كل مسيرة حياته ويغير وجهتها إلى الهدف الصحيح، فتكون هذه الساعة من المراجعة والتأمل خيراً من كل ما يؤديه خلال حياته عن غير بصيرة وهدى وكان يظن أنه يحسن صنعاً.

وأوضح مثال على هذه الحالة الحر الرياحي الذي أمضى ستين سنة من عمره بعيداً عن ولاية أهل البيت (علیهم السلام) وإتباع منهجهم، فوقف ساعة يوم عاشوراء وتأمل في حاله وأرجع نفسه واتخذ القرار الشجاع بالانتقال إلى معسكر الحسين (علیه السلام) وتحول من الشقاوة الأبدية إلى السعادة الأبدية، فقد كانت هذه الساعة هي كل حياته وليس تلك السنين الطويلة التي قضاها بعيداً عن الحق.

ومما ينبغي التركيز عليه في هذه الليلة الدعاء للإمام صاحب العصر (أرواحنا له الفداء) لأنه صلوات الله عليه وسلامه هو صاحب هذه الليلة ويزداد فيها شرفاً وكرامة، سُئل الإمام الباقر (علیه السلام) عما إذا كان يعرف ليلة القدر؟ قال

ص: 137

(ع): (كيف لا نعرف والملائكة تطوف بنا فيها)(1)، وعليه (ع) تنزَّل الملائكة وتعرض عليه ما قضى الله تبارك وتعالى به على العباد في تلك الليلة إلى العام المقبل فينظر (ع) فيها ويدعو لأصحابها بما يناسبهم، لأنه حجة الله تعالى الفعلية على المخلوقات، ويستحب الإكثار من دعاء (اللهم كن لوليّك الحجة بن الحسن) عسى أن نحظى بنظرة كريمة منه نستكمل بها الكرامة عند الله تبارك وتعالى ثم لا يصرفها عنا بجوده وكرمه.وينبغي الالتفات أيضاً إلى أن أعمال ليلة القدر منتشرة في كتب السنن والمستحبات ك-(مفاتيح الجنان) و(مصابيح الجنان) تحت أكثر من عنوان، فتوجد أعمال خاصة بالليلة وتوجد غيرها تحت عنوان (الأعمال المشتركة لليالي القدر وأخرى تحت عنوان العشر الأواخر من شهر رمضان وأخرى تحت عنوان الأعمال العامة لشهر رمضان، فالتهيؤ والاستعداد يشمل تجميع هذه المفردات في برنامج عمل يأخذ منه كل شخص بما يناسبه وما ييسّره الله تبارك وتعالى.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل ليلة القدر وأن يقسم لنا فيها خير ما قسم لأحد من عباده الصالحين إنه واسع كريم.

ص: 138


1- تفسير البرهان: 4/ 488، ح29.

خطاب المرحلة 297 :القدس في ضمير النجف الأشرف

خطاب المرحلة 297 :القدس في ضمير النجف الأشرف(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

رسالة النجف الأشرف التي هي رسالة المرجعية الدينية والحوزة العلمية الشريفة إنسانية عالمية لا تقتصر على إغاثة الشيعة في العالم، ولا على عموم المسلمين، بل إن اهتماماتها وشعورها بالمسؤولية يمتد ليشمل البشرية كلها، لأنهم ورثة الأئمة المعصومين (علیهم السلام) الذين هم ورثة جدهم المصطفى (صلی الله علیه و آله)، وقد خاطبه ربّه الكريم [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ] (الأنبياء:107) وليس للمسلمين فقط.

ويظهر من الآية منشآن لهذه الرحمة العالمية، أولهما من طبيعة التكليف من الله تعالى بالرسالة العالمية، والثاني من الخصال الكريمة لشخص النبي (صلی الله علیه و آله) كونه بنفسه مملوءاً رحمة للعالمين، وهو مظهر تتجلى فيه الرحمة الإلهية، وهذان الأمران موجودان بدرجة من الدرجات في ورثة الأنبياء والرسل (سلام الله عليهم)، وهم مراجع الدين.

هذه الحقيقة يؤكدها أمير المؤمنين (علیه السلام) في عهده الذي كتبه لمالك

ص: 139


1- حديث سماحة الشيخ اليعقوبي إلى قناة النعيم الفضائية بمناسبة يوم القدس العالمي في شهر رمضان/1432ه- المصادف آب/2011، واختار العنوان مع كون الشواهد من شعر جدّه اليعقوبي (رحمه الله) بناءً على طلب اللجنة المنظمة لمهرجان النجف عاصمة الثقافة الإسلامية عام 2012.

الأشتر لما ولاه مصر، قال (علیه السلام) فيه: (وأشعِرْ قلبَك الرحمةَ للرعية، والمحبةَ لهم واللطفَ بهم، فإنهم صنفان: إما أخٌ لك في الدين، أو نظير لك في الخَلْقِ) أي أن الناس الذين يعيشون معك على هذه الأرض الواسعة، إما يرتبطون بك برابطتين وهي الإنسانية والأخوة في الدين، أو برابطة واحدة وهي الإنسانية وعلى كلا التقديرين فهم يستحقون منك الرحمة والعطف واللطف.وفي ضوء هذا فإن اهتمام النجف بقضايا الأمة العربية والإسلامية بل العالم كله نابع من صميم مسؤوليتهم، وسأتعرض للشواهد من شعر جدي الشيخ محمد علي اليعقوبي (رحمه الله) (1896-1965) الذي كان عالماً محققاً موسوعياً وله عدة مؤلفات، وعُرف بإبداعه في الخطابة حتى لُقّب ب-(شيخ الخطباء) وكان واجهة وناطقاً باسم النجف الأشرف يُعرِّفها للوفود الزائرة من علماء ومفكرين وأدباء وملوك وقادة سياسيين، ويشرح لهم تأريخها وتأريخ رجالها وإسهاماتها في مختلف العلوم والفنون والآداب.

ورغم صعوبة الاتصالات يومئذٍ، إلا أن النجف كانت تتابع أولاً بأول أحداث العالم وتبرز انطباعاتها ومواقفها إزاء تلك الأحداث، وكان لجمعية الرابطة الأدبية –التي ترأّسها جدي اليعقوبي أكثر من ثلاثين عاماً حتى وفاته- حضورٌ في مختلف الفعاليات والقضايا، ولها مهرجان يسمّى بمهرجان الأدب الحي، وواضح من عنوانه أنه يلاحق القضايا والأحداث الحية.

لما عزم الحلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الثانية على عقد مؤتمر للسلام عام 1945 من ممثليها في سان فرانسسكو للنظر في شؤون ما بعد الحرب الثانية، قال جدي (رحمه الله):

ص: 140

يا ساسةً قد عقدوا المؤتمرْ *** اللسلم رفقاً ببقايا البشرْ

وهتْ قوى المدفعِ فاستنجدوا *** قوة آرائكمُ والفكرْ

أبادت الحرب نفوس الورى *** فاستنقذوها من عظيم الخطر

إلى أن قال:

متى نرى الظلم هوى ناكصاً *** متى نرى العدل علا وانتصر

فأطفئوا النار التي أوقدت *** فاتقدَ الكون بها واستعرْ

ستة أعوامٍ عليها خلت *** وليس للرحمة فيها أثر

لم يُرحمِ الشيخ على ضعفه *** فيها ولا الطفل حماهُ الصغر

تلك التي ما سُجِلت مثلها *** الأيام في تأريخها والسير

حسبكَ يا غربُ بها عبرة *** تنسيك ما عِشتَ جميع العبر

كانت النجف تتعاطى مع أحداث الوطن العراقي والعالمين العربي والإسلامي على حد سواء، ففي الوقت الذي ترثي مراجعها وعلماءها وتحتفل بهم وتحيي مناسباتها الوطنية والدينية فإنها ترثي بنفس القوة مفكري الأمة وقادة الثورات في البلاد العربية وتتفاعل مع حركة الشعوب.

قال جدي (رحمه الله) في هجوم فرنسا وإسبانيا على المغرب الذي يعرف بالريف:

أتتْ زُمر (الإسبان) تترى وخلفها *** الفرنسيس في جيشٍ على الريف حاشدِ

ص: 141

فيا دولتي بغيٍ حدا الظلم فيهما *** إلى حرب شعبٍ ما له من مساعدِ

حناناً على الريف الضعيف فإنه *** (من الظلمِ سعي اثنين في قتل واحدِ)(1)

وقال (رحمه الله) بحلول أحد الأعياد والبلاد العربية ترزح تحت احتلال الدول الغربية بعنوان (أعياد أم مآتم):

أرى الناس في عيد يُحيّي به الفتى *** أخاه عناقاً والثغور بواسمُ

وقد أحدقت في الشرق من كل وجهةٍ *** مصائبُ تبكيها العلى والمكارمُ

من الأرض ترمى بالقذائف والسما *** فلم تدرِ أي القوتين تقاومُ

إذا استنجدت لم تلقَ عوناً ومنجداً *** أو استرحمتْ لم يُلفَ في القوم راحمُ

فما هذه الأفراح إلا كآبةٌ *** وما هذه الأعياد إلا مآتمُ

وقال يوم إجلاء القوات البريطانية من قناة السويس في حزيران 1956:

يهنيكَ يا مصرُ عيدُ *** قد تمَّ فيه الجلاء

قد وحّدتنا جميعاً *** مبادئ وإخاء

يومٌ تحمّل فيه *** أضيافك الثقلاء

مودّعين ولكن *** ما في الوداع احتفاء

(ورب ثاوٍ بأرضٍ *** يُملّ منه الثواء)(2)

وأقيم في باكستان عام 1957/ 1376 ه- احتفال رسمي مهيب بذكرى مرور

ص: 142


1- هو للقاضي الأرجاني وصدره: (أعينيَّ كُفّا عن فؤادي فإنه).
2- تضمن مطلع معلقة الحارث بن حلزة اليشكري: آذنتنا ببينها أسماءُ *** رُب ثاوٍ يملّ منه الثواءُ

أربعة عشر قرناً على ميلاد أمير المؤمنين (علیه السلام) وحضره وفد من علماء النجف بينهم الشيخ محمد رضا المظفر والسيد علي نقي الحيدري والسيد محمد تقي الحكيم والسيد إبراهيم اليزدي حفيد صاحب العروة الوثقى وصهر مرجع الطائفة السيد محسن الحكيم وجدي الشيخ اليعقوبي، ووقف هناك على قبر محمد علي جناح قائد باكستان ومؤسس دولتها عندما استقلت عن الهند عام 1947 وقال:

بلادُك يا جناحُ بك استقلتْ *** وتمَّ على يديكَ لها النجاحُ

لئن نهضت وطارت للمعالي *** فإن جناحَ نهضتها (جناحُ)

ورثى (رحمه الله) عمر المختار وعبد الكريم الخطابي وعبد القادر الجزائري وسعد زغلول وغيرهم كما رثى مراجع الدين وعلماء النجف، ولا أريد الاسترسال في الشواهد لأننا لا نريد سوى التمهيد لعنوان البحث(1).

ومما تقدم يظهر أن اهتمام النجف بالقضية الفلسطينية والقدس هو جزء من مسؤوليتها وشعورها العربي والإسلامي والإنساني، إذ أن الأواصر مع فلسطين عموماً والقدس خصوصاً عديدة.

الأولى: آصرة الدين، فالقدس أولى القبلتين للمسلمين قبل أن ينزل الأمر بالتوجه في الصلاة شطر المسجد الحرام، والمسجد الأقصى ثالث المساجد المعظمة الأربعة عند المسلمين بعد المسجد الحرام والمسجد النبوي ورابعها مسجد الكوفة، وهو منتهى إسراء النبي (صلی الله علیه و آله) ومحل عروجه إلى السماء بنص

ص: 143


1- راجع ديوان الشيخ محمد علي اليعقوبي.

الآية الشريفة [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ] (الإسراء:1)، وهي الأرض المقدسة التي كانت مسرحاً لحركة جمّ غفير من الأنبياء والمرسلين (سلام الله عليهم)، ومضافاً إلى ذلك فإن شعبها مسلمون إخوة لنا في الإيمان، وفي الحديث الشريف: (من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم).الثانية: العروبة، فالفلسطينيون أشقاء عرب لنا، تربطنا بهم لغة القرآن وأن رسول الله (صلی الله علیه و آله) والأئمة (علیهم السلام) من العرب.

وأنهم شركاؤنا في هذه الأرض المباركة، وهذه خصوصيات توجب مزيداً من العلقة أُمرنا بمراعاتها، كخصوصية الجوار حيث طُلب منا حسن الجوار، أو خصوصية القرابة إذ الأقربون أولى بالمعروف، وهذا ما نعنيه بالعروبة وليس الشعارات القومية التي رُوِّجَ لها في فترة ما لخداع الشعوب حتى تُمرَّر عليها أجندات معينة.

الثالثة: الإنسانية، فإن مأساة الشعب الفلسطيني قلَّ نظيرها في التأريخ، وما جرى عليهم وصمة عار في جبين الغرب أدعياء الديمقراطية حيث قامت بالتقاط شذاذ من آفاق الأرض وأسكنوهم هنا بقوة الحديد والنار، وهجّروا شعباً بأكمله وقتلوه وخرّبوا دياره واستولوا على أراضيه وحرموه حتى من حق العودة إلى أرضه وتركوه في الشتات يستجدي عطف دول العالم، فلا يسع أي إنسان يمتلك مشاعر إنسانية إلا أن يتعاطف معهم.

من هنا كانت فلسطين والقدس حاضرة في قلب النجف على جميع المستويات، فحينما انعقد المؤتمر الإسلامي في فلسطين عام 1931/ 1350ه-

ص: 144

بمشاركة واسعة من زعماء المسلمين، كانت المرجعية حاضرة بنفسها ممثلة بالمرحوم الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء الذي ألهب حماس الحضور بخطاب ارتجالي بليغ استمر حوالي ساعتين –على ما نُقل- وجعل مسؤولياتهم نصب أعينهم، فلم يسعهم حين حلول وقت الصلاة إلا تقديمه أمامهم لإمامة الصلاة.وعندما رجع إلى النجف الأشرف وأقيم له احتفال تكريمي كان جدي اليعقوبي (رحمه الله) مشاركاً فيه وقال مرحباً:

حياكَ يشكرُ سعيكَ الإسلامُ *** وزهتْ بمطلع سعدك الأيامُ

لبيتَ داعيْ الحقّ حين سمعتَهُ *** وعليكَ تلبية الدعا إلزامُ

عظّمتّه فعظُمتَ عند أولي النهى *** قدراً وحقَ لمثلكَ الإعظامُ

ما قمتُ عنه مناضلاً في حجهِ *** إلا وأعجزَ خصمَك الإفحامُ

يا واحد العلماء قمتَ بواجبٍ *** يجزيكَ عنه الواحد العلامُ

ورأيت فرضاً أن تجيبَ ولم تكن *** تصغي لأقوامٍ نهوكَ ولاموا

حنّت فلسطين لمقدمك الذي *** بيروت فيه استبشرتْ والشامُ ***

وتشوّقت مصرٌ إليكَ وأوشكت *** تهتزُّ من طربٍ بها الأهرامُ

ما ذاكَ إلا أنكَ النورُ الذي *** ينجابُ فيه الظلمُ والإظلامُ

إلى أن يقول مشيراً إلى تقديمه لإمامة الصلاة:

قد قدّموك أمامهم بصلاتهم *** علماً بأنك في الزمان إمامُ

وكانت كل أحداث فلسطين تلقى صدى في النجف على شكل مهرجانات

ص: 145

أو مؤتمرات أو بيانات أو مظاهرات احتجاجية تواجهها أجهزة السلطة أحياناً.وكان قرار مجلس الأمن بتقسيم فلسطين عام 1947 ذا وقع أليم على النجف وأهلها، ومما قال (رحمه الله) في ذلك قصيدة لا زلت أحفظ أبياتها منذ حوالي 40 عاماً حينما كنت طالباً في الابتدائية وشاركت في احتفال أقامته المدرسة بمناسبة ذكرى وعد بلفور، وقد غابت مثل هذه الفعاليات الوطنية والعربية عن المدارس اليوم ولم يعد الطلبة يحملون تلك الروح الكبيرة التي تتجاوز الحدود الجغرافية وتهتم بكل قضايا الأمة، ومما جاء فيها:

متى يا شرقُ تبلغُ ما تريدُ *** وتبدوا في مطالعك السعودُ

وجوه العيش كانت فيك بيضاً *** فكيف اليوم عادت وهي سودُ

شعوبُ العرب محكومٌ عليها *** وتحكم في (فلسطين) اليهودُ

جنوا فيها فضائع ليس يجدي *** عليها الإحتجاجُ ولا يفيدُ

وماذا ينفع (الإضرابُ) فيها *** عن الأعمال أو تغني الوفودُ

وكان أول ما ينظم أدباء النجف المعاصرون عندما تتفتق قابلياتهم الأدبية بعد نهضة الإمام الحسين (علیه السلام) هي القضايا السياسية وعلى رأسها نكبة فلسطين، وأذكر بهذا الصدد قصيدة نظمها والدي الشيخ موسى (1926-1982) وهو في سن الحادية والعشرين عام 1947 بمناسبة انعقاد المؤتمر العشائري في لواء الحلة لبحث مشكلة فلسطين، قال في مطلعها:

أبَني العروبةِ من مضرْ *** قد حانَ يومكمُ الأغرْ

حان الجهادُ فلا مقا *** مَ على الهوان ولا مقرْ

ص: 146

هبُّوا كأُسْدِ الغاب تد *** رأُ عن مرابضها الخطرْ

لكمُ مواقفُ جم-ّةٌ *** طفحتْ بذكراها السيَرْ

ثم يتعرض لقرار مجلس الأمن بتقسيم فلسطين فيقول:

ذا (مجلس الأمن) الذي *** لم تأخذوا منه الحذرْ

لم يصغِ سمعاً لاحتجا *** جكمُ الذي هزَّ الحجرْ

قد أصدرتْ أعضاؤه *** ذاك القرار المنتظرْ

قَ-سَ-مَ-تْ فلسطيناً وت- *** -لك جريمةٌ لا تغتفرْ

ثم يستنهض الإمام الحجة المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) فيقول:

يا ابن النبيِّ ومَنْ بهِ *** الآيات جاءت والسوَرْ

انشر لنا العلمَ الذي *** ما رفَّ إلا وانتصرْ

تجد الجميع لدى الكريهة *** طوعَ أمرك إن صدَرْ

أنقذْ (فلسطينَ) الشقي- *** -قة إنها رهن الخطرْ

وبعد نكسة 5 حزيران 1967 واحتلال القدس بأسبوعين تقريباً حلّت ذكرى المولد النبوي الشريف فاغتنمت المرجعية الدينية هذه الفرصة لتطلق مواقفها وبياناتها الحاسمة، فأقيم احتفال مهيب في جامع براثا ببغداد وحضرته مختلف الطبقات الدينية والثقافية والعشائرية والسياسية وكانت الحكومة ممثلة بأعلى مستوياتها، وقد خصّص والدي (رحمه الله) الذي كان يصدر مجلة الإيمان في النجف يومئذٍ عدداً خاصاً منها لقضية فلسطين وضمّنه ما ألقي في ذلك الاحتفال من بيانات وخُطَب وقصائد.

ص: 147

وحظي العمل الفدائي الفلسطيني منذ انطلاقته في ستينيات القرن الماضي بتأييد المرجعية وأفتى بعضهم كالسيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) بجواز صرف الحقوق الشرعية لدعم تلك العمليات واستمرت هذه النصرة حتى المعاصرين، ومواقف السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في خطب الجمعة في مسجد الكوفة المعظّم مشهورة ومنها نداءاته: (كلا كلا إسرائيل) وكانت حناجر عشرات الآلاف تردد خلفه.وقد شغلت القضية الفلسطينية حيّزاً من خطاباتي المنشورة في مجلدات عديدة بعنوان (خطاب المرحلة) ومنها بيان مفصّل في رثاء المرحوم الشيخ أحمد ياسين الذي اغتاله الصهاينة بعد أدائه صلاة الفجر.

وقبل أن أنهي كلامي فإن لي شقشقة أريد البوح بها وهي أن الإخوة في فلسطين لم يكونوا لنا كما كنا لهم إخوة أوفياء، فقد وقفوا إلى جانب صدام المقبور وجعلوا منه رمزاً للبطولة والشجاعة، كما دعموا الإرهاب الذي قتل الشعب العراقي بحجة مقاومته الاحتلال، لكن الغالبية العظمى من ضحايا أدعياء المقاومة هم الأبرياء من الشعب، وقد

ظهر أن عدداً من الإرهابيين القتلة الذين ألقي القبض عليهم كانوا فلسطينيين، ولا أريد أن أعمّ بكلامي لكل الشعب الفلسطيني لكن هؤلاء القلة على أي حال أساؤوا إلى العلاقة بين الشعبين وأوجدوا كراهية وفجوة، لكنها لا تلبث أن تزول بإذن الله تعالى لعمق المشاعر تجاه فلسطين في الوجدان الشيعي.

ص: 148

خطاب المرحلة 298 :بركة الإقامة عند أمير المؤمنين (علیه السلام) في العشر الأواخر من شهر رمضان

خطاب المرحلة 298 :بركة الإقامة عند أمير المؤمنين (علیه السلام) في العشر الأواخر من شهر رمضان(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

يُشبِه الأخلاقيون اثر مصاحبة الصالحين في تهذيب الأخلاق و السير نحو الكمال بالنبات المتسلق الذي إذا تُرك وحده فانه ينمو ولكن قريباً إلى الأرض لا يستطيع أن يقف قائماً ويرتفع نحو الأعلى، ولكنه إذا أُسند إلى الحائط أو أي قائم ثابت فانه يتسلق نحو الأعلى ويرتفع، هذا مثال لتأثر مريد الكمال بالأجواء الإيمانية إذا آوى إليها وكان قريباً من أهلها وان لم يسمع منهم كلمة، كما أن مطالعة سير الصالحين تؤثر في روحية الإنسان وتدله على طريق الكمال،وان لم يسمع ولم يلتقِ بصاحب الكلام في الكتاب لكنه يلتقيه روحياً من خلال هذه الكلمات فكأنما يعيش معه.

فمن نعم الله تعالى عليكم إقامتكم إلى جوار أمير المؤمنين الذي لم تنقطع رعايته لمجاوريه ولشيعته بعد استشهاده كما ورد عن النبي (صلی الله علیه و آله) في تفسير قوله تعالى: [وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ] (التوبة:105)

ص: 149


1- من حديث سماحة المرجع الديني آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) يوم السبت 26-رمضان- 1432ه- الموافق 27-8-2011 مع الشباب الذي استضافتهم الحوزة العلمية في النجف الأشرف عشرة أيام ووضعت له برامج عبادية وأخلاقية ولقاءات مع المراجع و العلماء.

وعلي (علیه السلام) هو أمير المؤمنين فهو مطلع على أعمال العباد ويدعو الله تعالى بالزيادة والقبول لحسناتهم بالمغفرة والصفح لسيئاتهم، وإن القلوب لتتلقى بحسب استعدادها من فيوضاته المباركة وهو (ع) باب مدينة علم رسول الله (صلی الله علیه و آله).وبذلك فقد اخترتم المكان الأفضل و الزمان الأفضل وهي العشر الأواخر من شهر رمضان، وانتم بهذا العمر المفعم بالحيوية والنقاء والقرب من الفطرة والنشاط في العمل فكثير منكم لم يبلغ العشرين أو تجاوزها بقليل، وإذا عدنا إلى مثال النبات المتسلق، فإن إسناد هذا النبات إلى ما يُقوِّم نموه ويرفعه نحو الأعلى في أول تكوينه يكون أكثر إعطاء للنتائج المرجوة، مما لو حصل بعد أن نمى وكبر متشبثاً بالأرض وكثرت التواءاته وعقده.

ولا شك أنكم أحسستم وجداناً بركات هذه المجاورة لأمير المؤمنين (علیه السلام) وللعلماء والحوزة العلمية، وليس حالكم خلال هذه الأيام كحالكم قبل شهر رمضان وقبل قدومكم، ولكن عليكم أيها الأحبة أن تديموا هذا الآثار المباركة، ولا تجعلوها مرهونة بهذا الزمان وهذا المكان الشريفين، وانتم تعلمون أن قيمة الأعمال هي بمقدار آثارها المعنوية، فالصوم لا تُنال حقيقته بالامتناع عن المفطرات الظاهرية المدونة في كتب الفقه كالأكل و الشرب وان كان هذا المقدار مبرئاً للذمة، وإنما بكف النفس والجسد عّما حرّم الله تعالى وتفريغهما لطاعة الله تبارك وتعالى وإذا انضم إليهما القلب كان الحال أكمل بفضل الله تبارك وتعالى.

فإذا استطعنا التقدم في شهر رمضان في هذا المجال فلنحافظ عليه حتى ما

ص: 150

بعد شهر رمضان لأنها أمور مطلوبة على الدوام، وما شهر رمضان إلا باب من أبواب اللطف الإلهي لإعانة الإنسان وإعطائه دفعة كبيرة إلى الإمام، ولطف الله تعالى مبذول على الدوام وأبوابه مفتوحة، وإذا أغلقت باب شهر رمضان بانتهائه فتح الله تبارك وتعالى بكرمه ورحمته أبواب أخرى قد تكون أوسع، وإذا رفعت موائد شهر رمضان وليلة القدر و العشر الأواخر، وحصل كلُ واحد من الناس على مقدار ما يسره الله تعالى له، فإن موائد رب شهر رمضان الكريم مستمرة، وقد يتاح للعبد الحصول منها على أفضل مما حصل عليه غيره في شهر رمضان.ولتقريب الفكرة نقول: عندما يدعو عالم عامل مخلص ناساً إلى مأدبة طعام، فإن من المدعوين من يتشرف بالتناول من مائدته ويخرج، ومنهم – وهم الخاصة – من ينتظر ما هو أفضل مما بذل على مائدة الطعام فيبقى بعد انفضاض عامة الناس ليتزود من الغذاء المعنوي ولذة مجالسة هذا العالم والأنس بلقائه والأخذ منه.

أليس غفران الذنوب من أعظم ما يطلبه المؤمنون في ليلة القدر كما نطقت به الأدعية الشريفة، فإن عندك على طول السنة سبباً للمغفرة بل أرقى من ذلك فانه سبب لتبديل تلك السيئات إلى حسنات: وهي الصلوات اليومية المفروضة في أوقاتها خصوصاً إذا صُليت جماعة في المساجد قال تعالى [وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّ-يِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ] (هود:114)، ورد في تفسيرها عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه قال (سمعت حبيبي رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: أرجا آية في كتاب الله – ثم ذكر

ص: 151

الآية وقال – يا علي والذي بعثني بالحق بشيراً ونذيراً إن أحدكم ليقوم إلى وضوئه فتتساقط من جوارحه الذنوب فإذا استقبل الله بقلبه ووجهه لم ينفتل وعليه من ذنوبه شيء كما ولدته أمه، فإن أصاب شيئا بين الصلاتين كان له مثل ذلك حتى عَدَ الصلوات الخمس. ثم قال: يا علي إنما مثل الصلوات الخمس لأمتي كنهر جار على باب احدهم فما يظّنُ احدهم إذا كان في جسده درن ثم اغتسل في ذلك النهر خمس مرات أكان يبقى في جسده درن؟ فكذلك والله الصلوات الخمس لأمتي)(1).

وهكذا نُديم الآثار المباركة الأخرى، فمن استطاع أن يتجنب الغيبة شهر كاملاً احتراماً لصومه ولشهر رمضان وطلباً لرضا الله تعالى، فليأخذ شحنة إيمانية لبقية أيامه فيتجنب الغيبة دائماً، والنظر إلى ما لا يحل، وسماع ما حرمه الله تعالى، وسوء الأخلاق وسائر الأمور المذمومة الأخرى، وليستمر على ما وُفَق له في هذا الشهر كصلاة الليل وتلاوة القرآن ومساعدة الناس وزيارة الأئمة المعصومين (علیهم السلام).

ص: 152


1- تفسير الصافي: 4/ 84.

خطاب المرحلة 299 :الاستقامة

خطاب المرحلة 299 :الاستقامة(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي هدانا لحمده، وجعلنا من أهله، لنكون لإحسانه من الشاكرين، وليجزينا على ذلك جزاء المحسنين، والحمد لله الذي حَبانا بدينه، واختصنا بملّته، وسبَّلنا في سُبُل إحسانه، لنسلكها بمنِّه إلى رضوانه، حمداً يتقبله منّا، ويرضى به عنّا، وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

البعض يقرأ القرآن بلسانه طلباً للثواب الذي أفادته الروايات الكثيرة، والبعض يقرأ القرآن بعقله ليستخرج منه نظرية علمية أو يستدل به على مطلب ما، كاستدلال الأصولي بآية النفر(2) على حجية خبر الواحد، أو استدلال النحوي على بعض القواعد الإعرابية، والبعض يقرأ القرآن ليتدبر في آياته، ويثير مكنوناته ليأخذ منه علاجاً لأمراضه المعنوية، وبرنامجاً لسيره التكاملي

ص: 153


1- الخطبة الأولى التي ألقاها سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) لصلاة عيد الفطر السعيد عام 1432 يوم الأربعاء الموافق 31/ 8/ 2011 م
2- يعني بها سماحة الشيخ (دام ظله) قوله تعالى: [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمَْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] (التوبة:122) والاستدلال بها مذكور في كتب أصول الفقه.

لنيل رضا الله تعالى. فالذي يريد أن يكون من المفلحين الفائزين بما عند الله تبارك وتعالى يجد وصفة العلاج المتضمنة لعدة فقرات في قوله تعالى في أول سورة المؤمنون: [قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ.. ] إلى قوله تعالى: [أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] (المؤمنون: 1-11).

وهكذا الآيات التي تصف عباد الرحمن أو المتقين وغيرهم.

واليوم نقف عند آية مباركة تتحدث عن امتيازات جليلة ومنن عظيمة وهي قوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ، نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ] (فصلت30-31-32) ووردت بتفصيل أقل في موضع آخر [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ] (الأحقاف: 13) فنحن أما مفردة قرآنية هي (الاستقامة) تتحقق بها آثار عظيمة نطقت بها آية سورة فصلت:-

تتنزل عليهم الملائكة فتطمّئنهم أن لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، وقد قيل في الفرق بين الخوف والحزن أن الأول من الأمور القادمة والثاني من الأسى على ما مضى، فلا يخافون من القادم في القبر أو أهوال يوم القيامة أو مما يخوفونهم به في الدنيا بسبب رفضهم الانصياع لما سوى الله تعالى من

ص: 154

طواغيت أو تقاليد اجتماعية وغيرها، ولا يحزنون على ما فاتهم في الدنيا من أمورها الزائلة؛ لأنهم سيجدون أن الله تعالى قد عوّضهم بكرمه بما هو خير وأبقى.وقيل إن ((الخوف إنما يكون من مكروه متوقع كالعذاب الذي يخافونه والحرمان من الجنة الذي يخشونه، والحزن إنما يكون من مكروه واقع وشر لازم كالسيئات التي يحزنون من اكتسابها، والخيرات التي يحزنون لفوتها عنهم، فتطيّب الملائكة أنفسهم أنهم في أمن من أن يخافوا شيئاً أو يحزنوا لشيء فالذنوب مغفورة لهم والعذاب مصروف عنهم))(1).وتبشّرهم الملائكة بالجنة التي وُعدوا بها على لسان القرآن الكريم والناطقين به (صلوات الله عليهم أجمعين) بما تتضمن من نِعم وما لا عين رأت ولا أذن سمعت خالدين فيها.

وتتولى أمورهم الملائكة بإذن الله تعالى مدبر الأمور وليسوا هم البشر الضعيف الجاهل الضال العاجز عن أن يتولى أموره، وإذا تولّتها الملائكة فإنها لا تأتي إلا بالخير وترعاهم وتداريهم أكثر مما تداوي الأم الشفيقة ولدها،وتجنّبهم كل سوء، في كل المواطن التي يحتاج فيها إلى المعونة حيث لا ناصر إلا الله تعالى في صعوبات الدنيا وعند سكرات الموت وعندما يترك وحيداً في قبره وفي أهوال القيامة وعتباتها، وتعوّضهم عما سيفقدونه من إخوان وأصدقاء وأصحاب بسبب استقامتهم على الحق وسقوط الآخرين وابتعادهم عن الاستقامة، كما نُسِب إلى أبي ذر (رضي الله عنه): (ما ترك الحق لي

ص: 155


1- الميزان في تفسير القرآن، تفسير الآية 30 من سورة فصلت.

صديقاً)(1).لهم في الجنة ما تشتهي أنفسهم بل أوسع من ذلك فلهم كل ما يتمنون من النعم المعنوية والحسّية من دون أن يطلبها، عن الإمام الباقر (علیه السلام) من حديث عن نعم الله تعالى في الجنة قال (علیه السلام) فيه: (فإذا دعا وليُّ الله بغذائه أُتي بما تشتهي نفسه عند طلبه الغذاء من غير أن يسمي شهوته)(2) وهكذا ما يدّعي.

وأعظم النعم التي ذكرتها الآية الكريمة لهم أنهم يَحُلُّون ضيوفاً عند الله الغفور الرحيم معززين مكرمين مرَحَبّاً بهم وتكون النُزُل التي تقّدم للضيوف كما يليق بأي ضيف كريم عند الرب العظيم.

هذه المواهب الجليلة لا تُعطى للإنسان لمجرد أن يؤمن بالله تعالى بلسانه من دون استقامة على التوحيد ورفض الخضوع والانقياد لكل الآلهة المصطنعة من دونه، وأولها النفس الأمّارة بالسوء، وهذا أمر طبيعي، إذ لا يبقى للتوحيد معنى إذا لم يستقم عليه، ويلتزم بمتطلباته.

والإيمان الحقيقي يدعو إلى الاستقامة وهي من ثمراته كما يدعو إلى العمل الصالح، قال أمير المؤمنين (علیه السلام) بعد أن تلا الآية الشريفة المتقدمة: (وقد قلتم [رَبُّنَا اللهُ] فاستقيموا على كتابه، وعلى منهاج أمره، وعلى الطريقة الصالحة من عبادته، ثم لا تمرقوا منها، ولا تبتدعوا فيها، ولا تخالفوا عنها، فإن أهل المروق منقطع بهم عن الله يوم القيامة)(3).

ص: 156


1- بحار الأنوار: 31/ 180.
2- الكافي: 8/ 99.
3- نهج البلاغة: الخطبة (176).

وفي ضوء كلمة أمير المؤمنين (علیه السلام) يظهر أن الاستقامة تتضمن عدة معانٍ:(أولها) الثبات وعدم الميلان والانحراف تحت ضغط الشهوة أو الخوف أو الحرص على منصب أو المجاملة أو التقليد ونحوها فيخرج عن حد الاستقامة، في حديث عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعد أن تلا هذه الآية قال (صلی الله علیه و آله): (قد قالها الناس – أي كلمة الإيمان - ثم كفر أكثرهم فمن قالها حتى يموت فهو ممن استقام عليها)(1)، فعلامة الاستقامة عدم الزيغ والانحراف باتجاه المعصية أو التقصير في الطاعة، يقول الإمام الصادق (علیه السلام) في معنى قوله تعالى: [اهدِنَا الصِرَاطَ المُستَقِيمَ] يعني أرشدنا إلى لزوم الطريق المؤدي إلى محبّتك، والمبلّغ إلى جنتك، والمانع من أن نتبع أهواءنا فنعطب، أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك)(2).

(ثانيها) المداومة على الطاعة وعمل الخير والاستمرارية فيه؛ إذ لا يصل الإنسان إلى الهدف بمجرد وضع قدمه على الطريق الصحيح بل لا بد من الحركة الصحيحة باستمرار على الطريق الصحيح، عن علي (علیه السلام) في معنى قوله تعالى: [اهدِنَا الصِرَاطَ المُستَقِيمَ]: (يعني أدِم لنا توفيقك الذي أطعناك به في ماضي أيامنا، حتى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا)(3).

(ثالثها) الاعتدال فلا إفراط ولا تفريط، لأن كلاً منهما ابتعاد عن الاستقامة، قال تعالى: [فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]

ص: 157


1- مجمع البيان في ذيل تفسير آية (30) من سورة فصلت.
2- معاني الأخبار: صفحة 33.
3- معاني الأخبار: صفحة 33.

(هود: 112) والطغيان هو الخروج عن حد الاعتدال.(رابعها) الوضوح في الإيصال إلى الهدف فلا شبهات ولا شكوك ولا غموض ولا التفاف ولا حيرة أو تردد، كما أن من صفات استقامة الطريق ذلك ليتحقق المطلوب منه بشكل كامل ولا يضل السائر عليه.

(خامسها) الإخلاص، فالاستقامة لا تكون إلا إذا كانت لله تبارك وتعالى وعلى الصراط الذي أمر باتباعه، وليس لنيل غاية معينة من شهرة أو مال أو منصب أو جاه، قال تعالى: [فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ] لا كما تشتهي ولا أي نحو آخر.

إن الوصول إلى النجاح أو القمة أيسر من الثبات عليها والمحافظة على التمسك بها، وهذا معروف لدى المتنافسين في كل المجالات وهو أمر شاق لا ينال إلا بلطف من الله تبارك وتعالى؛ لذا يظهر من الآية الشريفة أن الخطوة الأولى من العبد بأن يستقيم وحينئذٍ يستحق مزيداً من اللطف الإلهي فتنزل عليه الملائكة لتتولى أمره وتقوده إلى الخير، وتثبته على الاستقامة، قال تعالى: [وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً] (النساء: 66).

ويكون الأمر أشق حينما يكلَّف الإنسان بأن يأخذ بيد من معه في طريق الاستقامة، قال تعالى: [فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] (هود: 112)، روى في الدر المنثور بسنده عن الحسن (علیه السلام) قال: (لما نزلت هذه الآية [فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ] قال (صلی الله علیه و آله): شمِّروا شمِّروا، فما رؤي ضاحكاً) وفي مجمع البيان في قوله تعالى [فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ] ((قال ابن عباس: ما نزل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) آية كانت أشدَّ

ص: 158

عليه ولا أشقّ من هذه الآية، ولذلك قال لأصحابه -حيث قالوا له: أسرعَ إليك الشيب يا رسول الله-: (شيّبتني هود والواقعة))(1).وأرجع البعض سبب ذلك إلى تكليفه بمن معه؛ لأن آية أخرى أمرت بالاستقامة وليس فيها هذا الذيل فلم يذكرها رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وهو قوله تعالى: [فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ] (الشورى:15).

فالمسؤوليات شاقة وعديدة، إذ عليه الاستقامة في كل لحظة وفي كل قول وفعل، وهو أمر شاق، وأن يكون كل ذلك خالصاً لله تعالى وهو أشق، ثم عليه أن يقوّم الآخرين على هذا الطريق على اختلاف طباعهم وتباين مستوياتهم وتنوع اتجاهاتهم، وتتسع هذه المسؤولية وتزداد المشقة بسعة من كلّف بقيادتهم، حتى تكون بمستوى ولاية أمر المسلمين، وبمستوى المواجهة التي نشهدها اليوم حيث برز الشرك والكفر والفسوق والظلم والاستبداد بكامل عدته وعدده.

هذه الاستقامة على الصراط الذي ارتضاه الله تعالى وسار عليه الصالحون من عباده، علّمنا الله تبارك وتعالى أن نسأله إياها ونطلبها منه يومياً عشر مرات على الأقل في صلاتنا، لأنه متضمن لكل خصال الخير قال تعالى: [اهدِنَ-ا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ] (الفاتحة:6)، ويعرفنا الله تبارك وتعالى بهذا الصراط ويدلنا

ص: 159


1- سورة الواقعة ليس فيها أمر بالاستقامة ووجه الاشتراك مع سورة هود أنها متشابهة في ذكر أهوال يوم الفصل وأحوال القيامة الأمر الذي يخشاه رسول الله (صلی الله علیه و آله) على أمته لما علمه من عدم استقامة الكثير منهم على الصراط من بعده رغم أنهم أقروا بالإيمان بالله لساناً) (لجة التحقيق).

على معالمه فيصفه بأنه: [صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ] (الفاتحة:7) ومَن هؤلاء الذين أنعم الله عليهم؟، قال تعالى: [وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَ-ئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَ-ئِكَ رَفِيقاً] (النساء:69).فالاستقامة تتحقق بطاعة الله تبارك وتعالى ورسوله (صلی الله علیه و آله) ومَن أمر بطاعته بعده وهم الأئمة المعصومون (علیهم السلام) ثم نوّابهم بالحق، فاتباع القيادة الدينية الحقة ضمان للبقاء على الاستقامة على الصراط المستقيم، وفي مجمع البيان عن الرضا (علیه السلام) (أنه سُئل: ما الاستقامة؟ قال: هي والله ما أنتم عليه) وفي تفسير القمي في تفسير قوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا] قال: ثم استقاموا على ولاية علي أمير المؤمنين)، وفي الكافي بسنده عن محمد بن مسلم قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله عز وجل [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا] فقال أبو عبد الله (علیه السلام): استقاموا على الأئمة واحداً بعد واحد [تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ..].وفي معاني الأخبار في تفسير قوله تعالى [اهدِنَ-ا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ] (الفاتحة:6) عن الصادق (علیه السلام) (وهي الطريق إلى معرفة الله، وهما صراطان: صراط في الدنيا، وصراط في الآخرة، وصراط في الأخرى، فأما الصراط الذي في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة من عرفه بالدنيا واقتدى بهداه مَّر على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة، ومن لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه عن الصراط في الآخرة فتردّى في نار جهنم(1).

ص: 160


1- معاني الأخبار:2 ح1، تفسير الصافي:1/ 126.

إن الإنسان إذا استقام على طاعة الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) والأئمة الطاهرين (علیهم السلام) من بعده يتنعم في الدنيا فضلاً عن امتيازات الآخرة التي ذكرناها، قال تعالى: [وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً] (الجن:16) في الكافي بسنده عن الباقر (علیه السلام) (في قوله تعالى [وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً] قال: يعني لو استقاموا على ولاية علي بن أبي طالب أمير المؤمنين والأوصياء من وُلدِه (ع) وقبلوا طاعتهم في أمرهم ونهيهم لأسقيناهم ماءً غدقاً، يقول: لأشربنا قلوبهم الإيمان، والطريقة هي الإيمان بولاية علي والأوصياء.أيها الأحبة:

إن تحقق الاستقامة والثبات عليها التي نطلبها يومياً في صلاتنا –مما يعني أنها شيء يجب السعي لتحصيله- تتطلب أموراً:-

1.العزم والإرادة الصادقة والشجاعة في اتخاذ القرارات والمواقف وإنجاز الأعمال المطلوبة.

2.الوعي والمعرفة والمطالعة الواسعة لروايات المعصومين (علیهم السلام) وآثار السلف الصالح لأن أي عمل لا بد أن تسبقه معرفة، وبعد العمل يكتسب معرفة جديدة.

3.الالتفات إلى موجبات الانحراف عن صراط الاستقامة مقدمة لاجتنابها وهي اتباع الشهوات والركون إلى الدنيا بزخارفها الباطلة أو الخوف من فقدان شيء أو القلق من فوات أمور، ومن موجبات الانحراف أيضاً أمور تبدو خارجة عن إرادة الإنسان، لكن مقدماتها بيده فيستطيع تجنبها بإزالة مقدماتها

ص: 161

كالجهل والنسيان والغفلة والسهو فقد يشذّ الإنسان عن الصراط المستقيم لا عن عمدٍ بل جهلاً وغفلة، وبالنتيجة فقد فاته خير كثير.ولذلك فإن الإنسان يدعو يومياً عشر مرات على الأقل في صلواته بعد طلب الهداية للصراط المستقيم أن يعصمه الله ويحميه من كلا النوعين من موجبات الانحراف عن الاستقامة، ابتداءً واستدامة لأنه معرض في أي لحظة للزلل والانحراف والإغواء إلا أن يمدَّه الله تعالى بلطفه ونوره.

ولتحصيل الاستقامة مفردات عملية وبرامج ذكرتها الآيات الكريمة والروايات الشريفة، ولو التفتنا فإن الآيات التالية لقوله تعالى: [فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ] تتضمن مفردات أساسية لهذا البرنامج وهي عدم الركون إلى الظالمين والمحافظة على الصلاة في أوقاتها والصبر، قال تبارك وتعالى: [وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ، وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّ-يِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ، وَاصْبِرْ فإن اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ] (هود: 113-115).

وأُورد هنا للموعظة والتذكير روايتين تتضمنان وصفتين مهمتين لتطهير القلب وتهذيب النفس لمن أراد الكمال على طريق تحقيق الاستقامة.

(الأولى): رواية صحيحة رواها الثقات في كتبهم جميعاً كالكليني والصدوق والشيخ الطوسي (قدس الله أسرارهم والبرقي في المحاسن عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (علیه السلام): يا علي أوصيك في نفسك بخصال فاحفظها، ثم قال: اللهم أعنه، أما الأولى: فالصدق لا يخرجن من فيك كذبة أبداً، والثانية: الورع لا تجترين على خيانة

ص: 162

أبداً، والثالثة: الخوف من الله كأنك تراه، والرابعة: كثرة البكاء من خشية الله عز وجل يبنى لك بكل دمعة بيت في الجنة، والخامسة: بذل مالك ودمك دون دينك، والسادسة: الأخذ بسنتي في صلاتي وصيامي وصدقتي، أما الصلاة فالخمسون ركعة، وأما الصوم فثلاثة أيام في كل شهر خميس في أوله، وأربعاء في وسطه، وخميس في آخره، وأما الصدقة فجهدك حتى يقال: أسرفت ولم تسرف، وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الليل، وعليك بصلاة الزوال، وعليك بقراءة القرآن على كل حال، وعليك برفع يديك في الصلاة، وتقليبهما، عليك بالسواك عند كل وضوء وصلاة، عليك بمحاسن الأخلاق فاركبها، عليك بمساوي الأخلاق فاجتنبها، فإن لم تفعل فلا تلومنّ إلا نفسك)(1).(الثانية) وصية الإمام الصادق (علیه السلام) لعنوان البصري وكان شيخاً كبيراً حضر عند مالك بن أنس ثم هداه الله إلى الإمام الصادق (علیه السلام) وجاء في الرواية (ثم قال (علیه السلام): ما مسألتك؟ فقلت: سألت الله أن يعطف قلبك علي ويرزقني من علمك، وأرجو أن الله تعالى أجابني في الشريف ما سألته، فقال: يا أبا عبد الله (وهي كُنية عنوان البصري أيضاً) ليس العلم بالتعلم، إنما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه، فإن أردت العلم فاطلب أولاً في نفسك حقيقة العبودية، واطلب العلم باستعماله، واستفهم الله يفهمك. قلت: يا شريف فقال: قل يا أبا عبد الله، قلت: يا أبا عبد الله ما حقيقة العبودية؟ قال: ثلاثة أشياء: أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله الله ملكاً، لأن العبيد لا يكون لهم

ص: 163


1- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس وما يناسبه، باب 4، ح2.

ملك يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله به، ولا يدبّر العبد لنفسه تدبيراً، وجملة اشتغاله فيما أمره تعالى به ونهاه عنه، فإذا لم يرَ العبد لنفسه فيما خوّله الله تعالى ملكاً هان عليه الإنفاق فيما أمره الله تعالى أن ينفق فيه، وإذا فوض العبد تدبير نفسه على مدبره هان عليه مصائب الدنيا، وإذا اشتغل العبد بما أمره الله تعالى ونهاه لا يتفرغ منهما إلى المراء والمباهاة مع الناس، فإذا أكرم الله العبد بهذه الثلاثة هان عليه الدنيا، وإبليس، والخلق، ولا يطلب الدنيا تكاثراً وتفاخراً، ولا يطلب ما عند الناس عزاً وعلوّاً، ولا يدع أيامه باطلاً، فهذا أول درجة التقى، قال الله تبارك وتعالى: [تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ]. قلت: يا أبا عبد الله أوصني، قال: أوصيك بتسعة أشياء فإنها وصيتي لمريدي الطريق إلى الله تعالى، والله أسأل أن يوفقك لاستعماله، ثلاثة منها في رياضة النفس، وثلاثة منها في الحلم، وثلاثة منها في العلم، فاحفظها وإياك والتهاون بها، قال عنوان: ففرغت قلبي له. فقال: أما اللواتي في الرياضة: فإياك أن تأكل ما لا تشتهيه(1) فإنه يورث الحماقة والبله، ولا تأكل إلا عند الجوع، وإذا أكلت فكل حلالاً وسمّ الله، واذكر حديث الرسول (صلى الله عليه وآله): ما ملأ آدمي وعاءً شرّاً من بطنه فإن كان ولا بد فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه. وأما اللواتي في الحلم: فمن قال لك: إن قلت واحدة سمعت عشراً فقل: إن قلت عشراً لم تسمع واحدة، ومن شتمك فقل له: إن كنت صادقاً فيما تقول فأسأل الله أن يغفر لي، وإن كنت كاذباً فيما تقول فالله أسأل أن يغفر لك، ومن

ص: 164


1- أي لا تأكل شيئاً قبل أن تجوع فتشتهي.

وعدك بالخنى(1) فعده بالنصيحة والرعاء. وأما اللواتي في العلم: فاسأل العلماء ما جهلت، وإياك أن تسألهم تعنتاً و تجربة وإياك أن تعمل برأيك شيئاً، وخذ بالاحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلاً، و اهرب من الفتيا هربك من الأسد، ولا تجعل رقبتك للناس جسراً.

قم عني يا أبا عبد الله فقد نصحت لك ولا تفسد علي وِردي، فإني امرؤٌ ضنين بنفسي)(2).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، اللَّهُ الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ]

ص: 165


1- الخنى: الفحش في الكلام.
2- بحار الأنوار: 1/ 224.

خطاب المرحلة 300 :درس حركي من كلمة أمير المؤمنين (علیه السلام) (فزت ورب الكعبة) وصلح الإمام الحسن (علیه السلام)

خطاب المرحلة 300 :درس حركي من كلمة أمير المؤمنين (علیه السلام) (فزت ورب الكعبة) وصلح الإمام الحسن (علیه السلام)(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله كما هو أهله وصلى الله على نبيه وسيد رسله أبي القاسم محمد وعلى اله المعصومين.

يوم العيد هو يوم قادة الإسلام العظام، يزدادون فيه شرفا ومقاماً محموداً عند الله تعالى كما ورد في الأدعية الشريفة، ونقف اليوم عند موقفين لأعظم قائدين في الإسلام بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهما أمير المؤمنين والحسن المجتبى (صلوات الله عليهما) لنتأمل فيهما ونأخذ منهما درساً حركيا في بناء الأمة الصالحة المطيعة لربها.

عندما وقع أمير المؤمنين (علیه السلام) في محراب الشهادة في مسجد الكوفة مضمخاً بدمه الشريف فقال (فزتُ ورب الكعبة) كان(ع) يريد انه فاز ببلوغه المقام المحمود الذي وعده الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) أوانه فاز بلقاء الله تعالى و رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله) والزهراء

ص: 166


1- الخطبة الثانية لصلاة عيد الفطر المبارك التي أمّها سماحة المرجع الشيخ محمد اليعقوبي يوم الأربعاء 31-8-2011.

(صلوات الله عليها)، وفاز لأنه نجح في الامتحان وأنهى كل حياته على الاستقامة التي أرادها الله تبارك وتعالى ورسوله (صلی الله علیه و آله) وغيرها من المعاني.ولكننا ألان نريد أن نبين وجهاً آخر لهذه الكلمة الشريفة، نستفيد منه في العمل الحركي الإسلامي، ومن هذا الوجه ننطلق لفهم موقف الإمام الحسن (علیه السلام) مع معاوية مما سمي صلحاً أو هدنة أو غيرها.

وبيان هذا الوجه يحتاج إلى مقدمة ملخصها: إننا نعتقد أن الإمام المعصوم (علیهم السلام) أولى من الناس بأنفسهم وأموالهم، وان ولاية أمر الأمة ثابتة له (ع) واقعاً سواء قام بالأمر أو قعد عنه لمانع ما، ولذا ورد في الحديث النبوي الشريف (الحسن و الحسين إمامان قاما أو قعدا).

ولأن ولاية أمر الأمة ممارسه عملية واسعة تدير شؤون الحياة بكل تفاصيلها فإنها تحتاج إلى مؤازرة ونصرة، وقدرة لدى الأنصار على تحمل المسؤوليات على مختلف مستوياتها كالعسكرية، و السياسية، والاقتصادية، و الإدارية، و الفكرية، والإعلامية، و الاجتماعية، وغيرها، وما لم يجد الإمام العدد الكافي من القادرين على النهوض بمفاصل المشروع المخلصين له و المطيعين لأوامره، فإنه لا يتحرك بمشروعه في ولاية أمر الأمة وإدارة شؤونها مع انه حق حصري به، خوفاً على الرسالة من الفشل و الضياع وتعريضها لضربةٍ قاضيةٍ من الأعداء.

لذا نعتقد إن عرض الأمة نصرتها الصادقة للمعصوم (علیهم السلام) وقناعته بقدرتها على تحمل المسؤولية شرط ومقدمة لإعمال المعصوم هذا الحق وتنفيذه على الأرض، والشاهد على ذلك أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لم يقم دولته المباركة

ص: 167

ويمارس صلاحياته في سياسة أمر الأمة في مكة بل في المدينة المنورة بعد أن بايعه أهلها في العقبة الأولى و الثانية واشترط عليهم أن ينصروه ويحموه كما يحمون نسائهم وأموالهم.ولما لم يجد أمير المؤمنين (علیه السلام) عدداً كافياً من الأنصار بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) اعتزل أمر الناس وتركهم لما أرادوا فانقلبوا على أعقابهم مع الاستمرار في وظائف الإمامة الأخرى.

ولما وجد الأنصار بعد مقتل الثالث وانثال الناس عليه بالبيعة نهض بالأمر وولي أمر الأمة، وقال (علیه السلام) في خطبته الشقشقية (أما والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما اخذ الله على العلماء ألاّ يقارّوا على كظّةِ ظالم، ولا سَغَبِ مظلوم، لألقيت حَبلها على غاربها، ولسقيتُ آخرها بكأس أَوّلِها، وألفيتم دنياكُم هذه ازهد عندي من عفطَة عنز).

وقد ورد في عدة روايات أن الأصحاب كانوا يطلبون من الأئمة (علیهم السلام) القيام بالأمر خصوصاً في فترة الإمام الصادق (علیه السلام)، وكان الإمام (علیه السلام) يُرجع السبب إلى قلة الأنصار، وهو لا يعني بالضرورة قلة عدد الأصحاب والمضحين، وإنما قد يكون لقلة الأصحاب القادرين على النهوض بمسؤولية بناء الدولة وتطبيق شريعة الله تعالى في كل مفاصل الحياة، وولاية شؤون الأمة، ولذا لم يصح مقايسة الأمر مع نهضة الإمام الحسين (علیه السلام) لان النتائج المطلوبة من الحركتين مختلفة و البحث عميق.

وهذا الشرط كما هو ملاحظ في بداية النهوض بالأمر، كذلك هو مطلوب لاستدامة التصدي، فمتى ما شعرت القيادة الدينية إن الأمة قد تغيرت، وأنها لا

ص: 168

تريد هذه القيادة وهذا النظام، ولم تعد مستعدة للدفاع عنهما ونصرتهما، بسبب شقوتها وسوء اختيارها ولانسياقها وراء الشهوات وحب الدنيا والإخلاد إلى الأرض وتزيين الشيطان وتضليل الأعداء، فإن الإمام و القائد يعيد إليها أمرها وليتولاه من تشاء إن كانت لها أراده، أو يتولاها من يقهر إرادتها ويتسلط عليها بالقوة.هذا النكوص و الانقلاب على الأعقاب عاشته الأمة في النصف الثاني من خلافة أمير المؤمنين (علیه السلام) بعد أن تثاقلت إلى الأرض وأصغت إلى المرجفين، وبعد أن استشهد خيارها وصلحاؤها كعمار بن ياسر وذي الشهادتين وابن التيّهان ومالك الأشتر ونظرائهم، وخَفَتَ بريق الحماس و الوهج الذي استُقبِلت به حكومة أمير المؤمنين (علیه السلام)، وتقوضت أطراف دولته المباركة وانحسرت سلطته حتى حوصر في الكوفة وسط مجتمع متباين مشكك متردد متخاذل، فمن خطبةً له (ع) لما تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد وقدم عليه عاملاه على اليمن، فقال (علیه السلام) موبخاً أصحابه لتثاقلهم عن الجهاد (ما هي إلا الكوفة: اقبضها وابسطها، وان لم تكوني إلا أنت تهًبُّ أعاصيرك فقبحكِ الله)(1).

وكان هذا الخط التنازلي لطاعة الأمة وصلاحها مستمراً بالهبوط والانحدار، وانه سيصل في لحظة ما إلى الانهيار قال (علیه السلام) في نفس الخطبة (وإني والله لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم، وبمعصيتكم إمامكم في الحق، وطاعِتهم إمامهم في الباطل، وبأدائهم

ص: 169


1- نهج البلاغة، ج1، خطبة /25.

الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم). ولو وصلوا إلى تلك النقطة، فلا يكون أمام أمير المؤمنين (علیه السلام) إلا إرجاع أمرهم إليهم وفك الميثاق الغليظ بينه وبينهم بعد أن نكلوا بواجباتهم، وهذا يعني تسلط معاوية على الأمة لأنه متربص بالأمر وأعدَّ له عُدتهَّ من الأموال و الجيوش و المعدات و الإعلام المضلِّل و الدعاوى المقدسة لنفسه – ككونه خال المؤمنين و المطالب بدم الخليفة المقتول عثمان-، وهذا ما كان يخشاه أمير المؤمنين (علیه السلام) على الأمة، ويدعو الله تبارك وتعالى أن لا يريه هذا الموقف ففي نفس الخطبة قال (علیه السلام) (اللهم إني قد مللتهم وملوني، وسئمتهم وسئموني، فأبدلني بهم خيراً منهم، وأَبدلِهم بي شراً مني).

وهذا الدعاء منه (علیه السلام) ليس فراراً من تحمل أي ذلة ومهانة ظاهرية في سبيل الله تعالى لأنه (علیه السلام) كان مستعداً لتحمل أي شيء في طاعة الله تعالى كما صبر على عدوان القوم على بضعة المصطفى (صلی الله علیه و آله) فاطمة الزهراء (علیها السلام) نصب عينيه، وإنما لان قيامه (ع) هو شخصياً بهذا الموقف يعرض الإسلام و التشيع إلى خطر جسيم.

وقد حقق الله تعالى له (ع) أمنيته واستجاب دعائه فرزقه الشهادة قبل أن يبتلى بهذا الموقف، فقوله (علیه السلام) (فزت ورب الكعبة) أي نجوت بفضل الله تبارك وتعالى من هذا البلاء العظيم، ولم أبقى إلى اليوم الذي أرى فيه معاوية يتحكم بأمور المسلمين، وهو (ع) يرى الموت أهون عليه من رؤية فعل من أفعال معاوية فكيف يطيق تسلطه على رقاب المسلمين، فمن خطبة له (ع) لما أغارت خيل معاوية على الأنبار وقتلوا وسلبوا وعادوا إلى أهلهم سالمين

ص: 170

قال (علیه السلام) (فلو إن امرأ مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوماً، بل كان به عندي جديرا)(1).لكن الله تبارك وتعالى ادّخر هذا البلاء العظيم للإمام الحسن السبط المجتبى (ع)، إذ إن حال الأمة رجع إلى التقاعس والخذلان وحب الدعة والسلامة والإخلاد إلى الأرض، ولم تنفع في إصلاحه الصدمة القوية باستشهاد أمير المؤمنين (علیه السلام)، ولا الجرعة القوية بتصدي الإمام الحسن (علیه السلام) سبط رسول الله (صلی الله علیه و آله) وسيد شباب أهل الجنة الذي لم يستطع حتى معاوية وإعلامه المضلل من التشكيك في أهليته واستحقاقه.

ولم تمض إلا عدة أشهر حتى وصل الحال بالإمام الحسن (علیه السلام) إلى ما سأل أبوه (ع) من الله تعالى أن يعفيه منه، حيث استسلم اقرب الناس إليه وقائد جيوشه إلى إغراءات معاوية، وكتب بعض قادة جيشه إلى معاوية (أن إذا شئت تسليم الحسن سلمّناه إليك) ودبَّ اليأس و الشك و التردد في قواعده الشعبية، وكان تكليفه (ع) أن يعيد أمر الأمة إليها ويلقي حبلها على غاريها كما عبَّر أمير المؤمنين (علیه السلام) ليقودها من يقودها إلى الضلال.

وكان معاوية المتربص بالأمر قد قويت شوكته وازداد نفوذه وكثرت أنصاره وأمواله لذا كان من الواضح إن الأمر سيؤول إليه بحسب المعطيات الموجودة على ارض الواقع، وهنا تصرف الإمام الحسن (علیه السلام) بحكمة وشجاعة ورحمة للبقية الباقية من شيعة أبيه (ع) وأنصاره،فحول هزيمة الأمة هذه إلى نصر وتحقيق مكاسب، ولم يترك الأمر مجاناً ومن دون مقابل يحفظ

ص: 171


1- نهج البلاغة، ج1، خطبة /27.

كيان الإسلام ويحمي أبناءه البررة فعقد اتفاقاً مع معاوية وأملى عليه شروطه التي تقتضي تسليم الأمر بعده إلى الإمام الحسن (علیه السلام)، وان لا يتعرض لشيعة أبيه بالسوء، وان لا يمنع عنهم أرزاقهم وان يخصّص مبالغ لعوائل الشهداء مع أبيه (ع)، وان يحكم على طبق كتاب الله وسنة رسوله (صلی الله علیه و آله) وبذلك فقد صنع الإمام الحسن (علیه السلام) من تقاعس الأمة وخيانتها وتخاذلها نصراً حققه (ع) له ولشيعته. وأقل ما يتحقق من هذا النصر إذا لم يفِ معاوية بالشروط – والإمام يعلم انه لا يفي بشيء منها – هو فضح معاوية وكشف زيف دعواه ورفع الغشاوة عن أبصار المضلَلينَ به إلى قيام يوم الدين، وأحسَّ معاوية في الأيام الأولى بالفضيحة التي أوقعه فيها الإمام الحسن (علیه السلام) لذا كشف عن حقيقته بمجرد دخوله الكوفة بعد توقيعه على شروط الإمام الحسن (علیه السلام) وقال لهم ((إني ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا واني اعلم إنكم تفعلون ذلك، وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم)).

فموقف الإمام الحسن (علیه السلام) لم يكن صلحاً مع معاوية ولا هدنة ولا أي شيء آخر مما يرتبط بمعادلة الصراع معه، وإنما هو مرتبط بطاعة الأمة و التفافهم حول قيادتهم وبمقومات قيامه بولاية أمر الأمة، وإذا ورد لفظ الصلح في الوثيقة فليس هو معنى الصلح بالمصطلح العسكري و السياسي، بل بالمعنى المعروف فقهياً الذي هو الاتفاق بين طرفين على أمر ما.

وهذا المعنى لا يفهمه إلا من مارس القيادة وفهم بمقدار استحقاقه سيرة الأئمة المعصومين (علیهم السلام)، وتعرض لمستوى من المستويات لما تعرضوا له.

ص: 172

ومن نتائج هذا الدرس: 1.تصحيح فهم موقف الإمام الحسن (علیه السلام) ودفع ما قيل من الشبهات.

2.بيان وحدة الهدف و المسؤولية التي تحملها الأئمة المعصومون (علیهم السلام)، وإن كانت مواقفهم مختلفة ظاهراً بحسب اختلاف ظروفهم ولو كان أيُّ منهم مكان الآخر لاتخذ نفس الموقف.

3.إيضاح هذا الشرط لإعمال ولاية المعصوم (علیهم السلام) ومن بعده نائبه الفقيه الجامع للشرائط، وبذلك نجيب عن جملة من الإشكالات كتعدد الولي الفقيه أو وجوب طاعته إذا أعلن عن نفسه كولي لأمر المسلمين ونحوها.

4.إعطاء درس للأمة لكي تلتفت إلى إن تخاذلها وتقاعسها واستسلامها للشكوك و الظنون يجعل أمير المؤمنين يتمنى الموت ويرى ضرب رأسه بالسيف فوزاً، ويدفع تخاذل الأمة الإمام الحسن (علیه السلام) إلى اتخاذ ذلك الموقف الذي لم يستطع تحمله الكثير من أصحابه المقربين، والله ولي التوفيق.

اللهم إنا نتوب إليك في يوم فطرنا الذي جعلته للمؤمنين عيداً وسرورا ولأهل ملّتك مجمعاً ومحتشدُ من كل ذنب أذنبناه أو سوء أسلفناه أو خاطِر شرًّ أضمرناه، توبة من لا ينطوي على الرجوع إلى ذنب ولا يعود بعدها في خطيئة توبة نصوحاً خلصت من الشك و الارتياب فتقبلها مّنا وارضَ بها عنّا وثبتنّا عليها(1)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، اللَّهُ الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ]

ص: 173


1- من دعاء الإمام السجاد (علیه السلام) في الصحيفة السجادية عند وداع شهر رمضان.

خطاب المرحلة 301 :السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وتصحيح المفاهيم

خطاب المرحلة 301 :السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وتصحيح المفاهيم(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين..

السلام عليكم أيّها الحفل الكريم ورحمة الله وبركاته..

كثيرة هي المسؤوليات التي اضطلع بها السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) انطلاقاً من استشعاره لعظمة موقع نيابة المعصوم (علیهم السلام) وسعة ما أنيط به من أدوار في حياة الأمة.

ونشير اليوم بمناسبة الذكرى الثالثة عشرة لشهادته إلى أحد تلك الأدوار وهو تصحيح بعض المفاهيم التي تؤثر في حركة الأمة، وذلك لأن كثيراً من الأعمال والسلوكيات يقوم بها أصحابها نتيجة لقناعة بنيت على فهم خاطئ لفكرة معينة، وقد تصل إلى حد ارتكاب الجرائم الشنيعة، ولو صحح المفهوم في أذهانهم لغيّروا طريقة حياتهم.

ص: 174


1- الكلمة التي ألقاها سماحة الشيخ (دام ظله) على الفضلاء والأساتذة في درس البحث الخارج يوم الأحد 3/ذ.ق/1432 المصادف 2/ 10/ 2011 وألقيت بالنيابة عنه في الحفل التأبيني الحاشد الذي أقيم في اليوم السابق على قاعة المسرح الوطني ببغداد (راجع الخبر صفحة 424 ضمن مختارات صحيفة الصادقين).

ومن أمثلتها اليوم ما تتعرض له البلاد من تخريب ودمار وقتل للأبرياء تحت عنوان المقاومة الذي هو بنفسه عنوان برّاق ومثير للحماس لكنهُ جُعِل غطاءاً لمثل تلك الجرائم، وغرّر بالكثيرين من البسطاء والجهلة والمخدوعين فانخرطوا فيه، وعنوان المقاومة بريء من هذه الأفعال المنكرة.فيكون حينئذٍ جزء كبير من الحل مبنياً على تصحيح هذه المفاهيم وإزالة الخلط والغموض، لما سُئل أمير المؤمنين (علیه السلام) عن قتال الخوارج مع من بعده، قال (علیه السلام): (لا تقاتلوا الخوارج بعدي فإن من طلب الحق فأخطأه ليس كمن طلب الباطل فأدركه).

يقصد بالأول الخوارج وبالثاني من قاتلوه في صفين أي أن الخوارج ممن اختلطت عليهم الأوراق فظنوا أن ما يفعلوه حقاً فلا يجوز قتالهم إلا مع إمام الحق، أما البغاة عليه في صفين فيعرفون بطلان ما هم عليه، ويُنسب للسيد الخميني (قدس سره) قوله: (إن بعض ما يسميه الشباب استشهاداً هو انتحار).

فمن مسؤولية القادة والعلماء والمفكرين وصنّاع الرأي وثقافة الأمة أن يتصدوا لبيان المعاني الصحيحة للمصطلحات وإزالة الغبار عنها، وهذا ما قام به السيد الشهيد (قدس سره) واذكر بعض الموارد لذلك:

1-مفهوم الانتظار الذي اقترن في أذهان الأجيال بالسلبية والانكماش والتخلي عن ممارسة وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو في الحقيقة عكس ذلك إذ يتضمن معناه في بعده العملي السعي الجاد للإصلاح والتغيير والتمهيد لإقامة دولة العدل الإلهي، قال (قدس سره) (هذا الانتظار الكبير ليس إلاّ انتظار اليوم الموعود باعتبار ما يستتبعه من الشعور بالمسؤولية والنجاح

ص: 175

في التمحيص الإلهي والمشاركة في إيجاد شرط الظهور في نهاية المطاف) وقال (قدس سره) (ونستطيع بكل وضوح أن نعرف أنه لماذا أصبح هذا الانتظار أساساً من أسس الدين، لأنّه مشاركة في الغرض الأساسي لإيجاد البشرية، ذلك الغرض الذي شارك فيه ركب الأنبياء والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً) (1).2-(الاجتهاد) فإنه يعرّف مشهورياً بملكة استنباط الحكم الشرعي من مداركه الأصلية، وهو بهذا المقدار وإن كان كافياً لتحقيق إبراء الذمة أمام الله تبارك وتعالى في مقام العمل، إلاّ انه لا يثري مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) ولا يعمّق هذا العلم الشريف ولا يستطيع تقديم الإسلام كمشروع حضاري قادر على قيادة الحياة بكل شؤونها وتفاصيلها ومواجهة المشاريع والنظم الأرضية، ما لم ينضم إليه الإبداع والأصالة، لذا سمعتُه (قد سره) يعرّف الاجتهاد (بالنابعية) أي القدرة الذاتية على التأصيل والتقنين، وليس الالتقاطية من آراء الأساطين وأفكارهم وانتقاء ما يطمئن إليه.

روى أحد المراجع المعاصرين (قدس سره) عن المحقق النائيني (قدس سره) أنّه سأل تلامذته يوماً عن الذي يحفظ كيان الحوزة العلمية، فأجابوا بأنّه الاجتهاد لكنه (قدس سره) صحّح لهم وأجاب بأنّه التحقيق، وتعرف من لحن كلامه (قدس سره) أنّه لم يكن يخاف من خلّو الساحة من المجتهدين، ولكنه يخشى عدم وجود محققين مبدعين فيهم، لأنّه (قدس سره) يدرك أكثر من غيره أن الذي يديم الحركة العلمية ويعمّقها هو التحقيق والإبداع والنابعية على تعبير السيد الصدر (قدس سره).

ص: 176


1- تاريخ الغيبة الكبرى: 363.

وهذا المعنى تبنّاه من ق-َبلُ السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) فيُنقل عن أحد تلامذته المبرّزين أنّه استجازه في الاجتهاد فوعده بأنّه سيحصل على الملكة بعد خمس سنوات من حضور البحث، وبعد انقضائها طلب السيد التلميذ تلك الشهادة، فقال (قدس سره) له إن هذه المدة كانت بلحاظ ملكة الاجتهاد على المستوى المتعارف، أمّا الاجتهاد بمستوى مدرسة الشهيد نفسه فإنّه يحتاج إلى مدة عشرين عاماً.3-الجهاد الذي يتبادر منه مواجهة الطواغيت والسعي لتغيير نظام الحكم والانخراط في العمل الاجتماعي ونشر الوعي الإسلامي، ولا شك أن هذه أعمال مباركة ثقيلة الميزان عند الله تبارك وتعالى لكن بشرط أن تبنى على الإخلاص لله تبارك وتعالى، ولا يحصل ذلك إلاّ بعد جهد وجهاد طويلين في ميدان تهذيب النفس وتطهير القلب والسير في مدارج الكمال، أمّا الانهماك في العمل الاجتماعي من دون النجاح في جهاد النفس فإنّه يجعل صاحبه من الأخسرين أعمالاً [الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً] (الكهف:104).

وقد أولى (قدس سره) هذا المعنى اهتماماً كبيراً وتذكيراً مستمراً وكان يرثي لحال الغافلين عنه، وهو معنى مأخوذ من وصية رسول الله (صلی الله علیه و آله) لسريّة من المقاتلين بالالتفات إلى الجهاد الأكبر - وهو جهاد النفس - وعدم الاقتصار على الجهاد الأصغر.

ومن كلماته (قدس سره) في هذا المجال (وبحسب فهمي وتجاربي من الاتجاه الإسلامي الاجتماعي هو اهتمامه بمصالح المجتمع أكثر من اهتمامه بمصالح

ص: 177

الفرد أو قل: اهتمامه بتربية الآخرين أكثر من اهتمامه بتربية النفس مع العلم أن النفس التي لم تصل في التربية إلى درجة معينة فإنها لا تكون صالحة لتربية الآخرين بالمرة أو في حدود تربية ناقصة وفاسدة، ولن يكون التلميذ أحسن من أستاذه ما لم تدركه رحمة الله عز وجل أو حسن التوفيق، وهذا حسب فهمي من الأخطاء أو النقصان الذي عاناه ولا زال يعانيه الاتجاه الاجتماعي الإسلامي، الأمر الذي يجعل أفراده أقل صبراً وأضعف تحملاً من تحمل ما سيواجهون من مصاعب وبلاء في طريقهم الطويل.وهناك نتيجة أخرى مهمة في هذا الصدد نفسه وهو أن الهدف الأعلى للاتجاه الاجتماعي الإسلامي دنيوي بطبيعته، وهو الذي يجعله الناس مشجعاً ومرغباً للآخرين في تحمل المصاعب والصبر على الشدائد، وانك ستنال شهرة ومنصباً وقوة وكذا وكذا.. وسوف لن ينال الآخرون من خيراتنا ومن أنفسنا ومن التحكم فينا، ومع احترامي الشديد لهذه الأهداف، إلاّ أنها بطبيعتها دنيوية.)(1)

وقال مستشهداً بكلام للسيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) منبهاً إلى النقص في التربية (وأريد أن أقول كلاماً أكثر صراحة، وهو أن التجارب السابقة مع المتدينين والواعين فيها وجدنا الأغلب منهم يتهاوون ويضعفون أمام الدنيا بمختلف الأسباب: أما المال أو الخوف في المجتمع أو التعذيب داخل السجون، وأكاد أقول: انه حتى كثير ممن قتل منهم إنما تم قتله بعد اخذ

ص: 178


1- من بحث بعنوان (في تربية الدين للنفس والمجتمع) نشرته في كتاب (الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) كما أعرفه) ص297.

الاعتراف الكاذب منه ثم إدانته المحكمة باعتبار اعترافه، ولم يكن صامداً على طول الخط !!(ولذا صدر من سيدنا الأستاذ –يعني الشهيد الصدر الأول (قدس سره)-: أننا استطعنا أن نربي الآخرين إلى نصف الطريق ولم يقل إلى نهايته لأنه لو كان الأمر كذلك، لما حصلت أي شيء من تلك النتائج).

ولو كان أولئك المتدينون قد أصلحوا أنفسهم قبل إصلاح الآخرين، ومارسوا المقدمات المنتجة لصفاء النفس ونور القلب وعمق الإخلاص وقوة الإرادة وعفة الضمير، لما عانوا ما عانوا بل ولعلهم لم يحتاجوا في الحكمة الإلهية إلى كل هذا البلاء الذي وقع عليهم، وإنما كانوا مع شديد الأسف مصداقاً لقوله تعالى [وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] (محمد:38) ولم يكونوا مصداقاً لقوله تعالى [الذِينَ إنْ مَكّنَّاهُم في الأَرْضِ أَقَامُوا الصَلاةَ وَآتَوا الزَكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَنَهَوا عَنِ المُنكَرِ وَلله عَاقِبَةُ الأُمُورِ] (الحج:41)، وليس ذلك إلا لأن الأفراد التامين الجهات الكاملين الأوصاف الجامعين للشرائط عددهم قليل، وأقل من الحاجة بكثير).(1)

هذه أمثلة وشواهد على قيام السيد الشهيد الصدر (قدس سره) بهذا الجزء من المسؤولية الملقاة على المراجع القادة.

ولقد سرنا على هذا النهج إذ أن الحاجة إلى هذا التصحيح أوسع اليوم وأخطر وأعقد حيث تحوّل الاختلاف في المفاهيم والمعاني إلى خلاف وتطور الخلاف إلى صراع وقتال يدفع ثمنه الأبرياء والشعب المستضعف

ص: 179


1- الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) كما أعرفه: 302.

المغلوب على أمره، فحرّرت في خطاباتي معاني لجملة من المصطلحات محل الخلاف والجدل كالطائفية والفدرالية والعلمانية والشراكة في الحكم وحقوق المرأة وحقوق الإنسان والحرية والديمقراطية وولاية الفقيه وغيرها مما هو مبثوث في المجلدات العديدة من كتاب (خطاب المرحلة).أسأل الله تعالى أن ينوّر بصائرنا فيرينا الحق حقاً ويرزقنا إتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يرفع درجة الشهيدين الصدرين وكل شهداء الإسلام وينعم على هذا الشعب بالسعادة والازدهار.

والحمد لله رب العالمين وصلّى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

ص: 180

خطاب المرحلة 302 :أعمال تكون كالقشة التي تقصم ظهر الجمل

خطاب المرحلة 302 :أعمال تكون كالقشة التي تقصم ظهر الجمل(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلّى الله تعالى على خير خلقه أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين

وصفت الأحاديث الشريفة المؤمن بأنه (كيِّس فطن) ومن كياسته ما ورد في أحاديث أخرى أن (الكيّس من اتعظ بغيره)، وهذا الغير الذي دعينا للاتعاظ به قد يكونون أشخاصاً وقد تكون حالات أو مواقف أو مشاهد.-

ومن تلك الحالات ما نراه في السوق عندما يشتري أحد وزناً معيناً من الدقيق أو السكر فإن كيلة كبيرة منهما يغترفها البائع المحترف لا تنزل الميزان بالوزن المطلوب لكن حبات يضعها البائع في الكفّة يقطّرها بعد ذلك تنزل بها كفة الميزان، محل الشاهد أن نأخذ من هذه الأمثال درساً، وهو أن الإنسان قد تصدر منه معاصي فيمهله الله تبارك وتعالى ويحلم عنه بطول أناته في غضبه (الحمد لله الذي يحلم عني حتى كأني لا ذنب لي) بل يواصل نعمه عليه والعبد

ص: 181


1- من حديث سماحة المرجع اليعقوبي في ملتقى مرشدي قوافل الحجيج الذي يعقده في مكتبه سنوياً يوم الخميس 7/ذ.ق/ 1432 المصادف 6/ 10/ 2011 ومن حديث سماحته مع طلبة جامعة الصدر الدينية فرع الكوت ومعهد الإمام الجواد (علیه السلام) للعلوم الدينية في الصويرة يوم السبت 9/ذ.ق.

يجازيها بالمعصية ويسوّد صحائف أعماله بها ثم يصدر منه فعل قد لا يراه من الكبائر إلا انه يقع بعين المقت والغضب من الله تبارك وتعالى فتنزل عليه العقوبة الإلهية والعياذ بالله، ويكون هذا الفعل كما قيل في المثل (القشة التي قصمت ظهر الجمل).هذا في جانب السيئات، والأمر كذلك في جانب الحسنات، فإن الإنسان قد يقوم بطاعات يحصل عليها ثواب لكنها لا تجعله من أهل رضا الله تبارك وتعالى ورضوانه (ورضوان من الله أكبر)، وهذه مراتب عالية في الجنان أسمى من جنة الحور العين ولحم طير مما يشتهون، ومن امتيازاتها أن صاحبها يحاسب حساباً يسيراً، لأن أهل رضا الله تبارك وتعالى كالطالب الذي يُعفى من الامتحانات النهائية بعد أن حصل بجهده على درجة الإعفاء.

وكالطالب الذي عُرف بنيله الدرجات الكاملة في الامتحانات فإن المدرِّس لا يدقق في ورقته الامتحانية وبمجرد أن يرى اسمه يضع علامة الإجابة الصحيحة على كل أجوبته من دون أن يقرأها لأنه يعلم أن الطالب أهل لهذه الدرجة حتى لو وقعت في أجوبته أخطاء فإنه لا يحاسبه عليها لأنها لا تضرّ بمستواه العام وإنما وقعت لظروف خاصة.

ولذا ورد أن الله تعالى (أخفى رضاه في طاعته، وغضبه في معصيته) فمع أن جملة من الأعمال هي من الطاعات التي يؤجر عليها الإنسان لكنه لا يعلم أي عمل منها الذي يحقق رضا الله تبارك وتعالى، ومع أن جملة من الأعمال هي معاصي يعاقب عليها الإنسان إلا انه لا يعلم أي منها الذي يوجب المقت والسخط والعياذ بالله.

ص: 182

وأذكر لكم مورداً لكل منهما مستفاداً من الروايات الشريفة، فمن موجبات الرضا كفالة اليتيم المادي والمعنوي كما شرحناه في إحدى خطب الزيارات الفاطمية، ومما ورد فيه قول النبي (صلی الله علیه و آله): (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة إذا أتقى الله عز وجل)(1) وأشار بالمسبحة والوسطى. أو ما ورد في إدخال السرور على المؤمن ونحوها من الأفعال البسيطة.ومن موجبات المقت والطرد أمر يستسهل فعله الكثير من المتدينين ولكن ورد فيه ما لم يرد حتى في الكبائر، وهو تسقيط المؤمنين ففي الكافي عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال (من روى على مؤمن رواية يريد بها شينه وهدم مروءته ليسقُط من أعين الناس أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان فلا يقبله الشيطان).(2)

لذا على الإنسان الذي يعرف قيمة نفسه أن لا يقصّر في استثمار فرص الطاعة مهما اعتقد بضآلتها فلعل ذلك العمل يكون موجباً لتحصيل الرضا الإلهي، وأن لا يستخف بمعصية فلعلها تكون موجبة للغضب الإلهي والعياذ بالله ولا يغرّه توالي النعم عليه فيظن أن له حظوة عند الله تبارك وتعالى، بل عليه أن يخشى من ذلك إذ ربما كان من المستدرجين إلى الهلاك بهذه النعم.

فمن كلمات أمير المؤمنين (علیه السلام) في نهج البلاغة قوله: (إنّه من وُسِّع عليه في ذات يده فلم ير ذلك استدراجاً فقد أمن مخوفاً) وروي عن الإمام الصادق (علیه السلام) قوله (كم من مغرور بما قد أنعم الله عليه، وكم من مستدرج يستر الله

ص: 183


1- تفسير نور الثقلين: 5/ 587.
2- أصول الكافي، ج2، باب الرواية على المؤمن، ج1.

عليه، وكم من مفتون بثناء الناس عليه). وورد عنه (علیه السلام) في تفسير قوله تعالى [وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ] (الأعراف: 182-183) قوله (علیه السلام) (هو العبد يذنب الذنب فتجدّد له النعمة معه، تلهيه تلك النعمة عن الاستغفار عن ذلك الذنب).

وفي كتاب الكافي ورد عنه (علیه السلام) قوله (إن الله إذا أراد بعبد خيراً فأذنب ذنباً أتبعه بنقمة ويذكره الاستغفار، وإذا أراد الله بعبد شراً فأذنب ذنباً أتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار ويتمادى بها، وهو قوله عز وجل [سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ] (الأعراف:182) بالنعم عند المعاصي)(1).

فتواتر النعم من مواطن الحذر من الاستدراج الإلهي نحو المقت والسخط، ومن مواطنه أيضاً غفلة الإنسان ووقوعه في المعاصي بعد مواسم الطاعة وتمتعه بنعم الرحمن وموائده المعنوية، فهذا الذي يُحصل في عيد الفطر بعد مائدة شهر رمضان المعنوية، أو ما يحصل في عيد الأضحى بعد يوم عرفة وأيام ذي الحجة المباركات، أو يقضي الإنسان صلاة الجماعة في المسجد ولا يقدّر هذه النعمة المعنوية وغيرها فهذه كلها من مواطن الحذر والخشية، ويطبق بعضهم على هذه الموارد قوله تعالى في طلب حواريي المسيح عيسى (ع) مائدة من السماء (قال عيسى ابن مريم اللهم أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين، قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعدُ منكم فإني أُعذّبه عذاباً لا أُعذّبه أحداً من العالمين) (المائدة:

ص: 184


1- جمع هذه الأحاديث من مصادرها في تفسير الأمثل: 4/ 587.

114- 115).وموائد النعم المعنوية أولى من الموائد المادية في ترتيب هذه الآثار القاسية والعياذ بالله تعالى.

وينبغي الالتفات أيضاً إلى أن المقصود بالطاعة الموجبة للرضا الإلهي ما يشمل اجتناب المحرّم، كالذي ورد في غض البصر عن المرأة الأجنبية، روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) قوله (النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، من تركها لله عز وجل لا لغيره أعقبه الله آمناً وإيماناً يجد طعمه)(1) وعنه (علیه السلام) قال (من نظر إلى امرأة فرفع بصره إلى السماء أو غض بصره لم يرتدّ إليه بصره حتى يزوجه الله من الحور العين).

وكذا تشمل المعصية الموجبة للغضب الإلهي ترك الطاعة والتقصير فيها، كالذي ورد في التقاعس عن قضاء حاجة المؤمن، وقد وردت في ذلك عدة روايات منها قول الإمام الكاظم (علیه السلام) (من أتاه أخوه المؤمن في حاجة فإنما هي رحمة من الله تبارك وتعالى ساقها إليه، فإن قبل ذلك فقد وصله بولايتنا، وهو موصول بولاية الله، وإن ردّه عن حاجته وهو يقدر على قضائها سلّط الله عليه شجاعاً من نار ينهشه في قبره إلى يوم القيامة مغفوراً له أو معذباً).(2)

وانتم بفضل الله تبارك وتعالى بين يديكم فرص عظيمة لنيل رضا الله تبارك وتعالى، فكثير منكم مرشدون لقوافل الحجيج هذا العام، وأكثركم من طلبة

ص: 185


1- والحديث الذي بعده وسائل الشيعة، كتاب النكاح، أبواب مقدماته وآدابه، باب 104، ح5،9.
2- وسائل الشيعة، كتاب الأمر بالمعروف، أبواب فعل المعروف، باب25، ح9.

العلوم الدينية والباقون من الشباب المتفقهين الرساليين فعندكم فرصة كفالة أيتام آل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين) بالموعظة والإرشاد والتوجيه وتعليم الأحكام، وعندكم فرصة إدخال السرور عليهم وقضاء حوائجهم، وقد اختاركم الله تبارك وتعالى لحمل هذه الأمانة فاستثمروا هذه الفرص، كلٌ منكم بحسب موقعه وساحة عمله. والله الموفق.

ص: 186

خطاب المرحلة 303 :الإمام الرضا (علیه السلام) في مواجهة الانشقاق الداخلي

خطاب المرحلة 303 :الإمام الرضا (علیه السلام) في مواجهة الانشقاق الداخلي(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

في ذكرى الإمام أبي الحسن الرضا (علیه السلام) نشير إلى صفحة من سفر حياته المباركة آلمت قلبه الشريف واستنزفت الكثير من وقته وجهده الثمينين، وهي الفتنة التي قادها جملة من رموز أصحاب أبيه الإمام الكاظم (علیه السلام) المؤثرين في اتباع أهل البيت (علیهم السلام) مما أدى إلى انشقاق داخل الكيان الشريف ونشوء فرقة ضمت عدداً كبيراً من حملة علم أهل البيت (علیهم السلام) عبر أكثر من جيل سُمّوا بالواقفة، لا لسبب إلا الطمع في الدنيا وحطامها الزائل وعناوينها الزائفة وجاهها الخادع.

روي عن يونس بن عبد الرحمن –وهو من كبار أصحاب الإمامين الكاظم والرضا (علیه السلام) والفقهاء الأجلاء –قال: (مات أبو الحسن (علیه السلام) وليس من قوامه أحد إلا وعنده المال الكثير فكان ذلك سبب وقوفهم وجحودهم موته طمعاً في الأموال، كان عند زياد بن مروان القندي سبعون ألف دينار وعند علي بن

ص: 187


1- كلمة ألقاها سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي(دام ظله) ضمن بحثه الشريف يوم 11/ذق/1432 المصادف 10/10/ 2011 في ذكرى ميلاد الإمام الرضا (علیه السلام).

أبي حمزة ثلاثون ألف دينار)(1).قال الشيخ الطوسي (قدس سره) في الكلام عن الواقفة (أول من أظهر هذا الاعتقاد علي بن أبي حمزة البطائني وزياد بن مروان القندي وعثمان بن عيسى الرؤاسي، طمعوا في الدنيا، ومالوا إلى حطامها واستمالوا قوماً فبذلوا لهم شيئاً مما اختانوه من الأموال) وممن بذلوا له يونس بن عبد الرحمن حيث أطمعوه بمبلغ ضخم جداً وهو عشرة آلاف دينار إلا أنه رفض مفارقة الإمام الحق.

وكان الإمام الكاظم (علیه السلام) يقرأ في سلوك ابن أبي حمزة حبّه للدنيا، وتزلفه إلى الإمام (علیه السلام) ليكون له جاه يخدع به الناس، فقد كان يلازم أبا بصير –وهو من كبار أصحاب الإمامين الباقر والصادق وأدرك إمامة الكاظم (علیه السلام) – ويقوده لأنه كان كفيف البصر، وينقل عنه علوم أهل البيت (علیهم السلام) لذا أخذ عن البطائني كبار الأصحاب لأنهم يجدون عنده ما لا يجدون عند غيره لطول ملازمته، لكن الإمام الكاظم (علیه السلام) كان يشبهه منذ ذلك الوقت المبكر بأنّه كالحمار مطبقاً عليه قوله تعالى في سورة الجمعة [مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً] (الجمعة:5) إشارة إلى أن ابن أبي حمزة يحمل علماً جماً إلا أنه لم يستفد منه، ووقع فيما وقع فيه.

روى أبو داود المسترق قال: (كنت أنا وعيينة بياع القصب عند علي بن أبي حمزة، فسمعته يقول: قال لي أبو الحسن موسى (علیه السلام) إنما أنت يا علي وأصحابك أشباه الحمير، قال: فقال عيينة أسمعت؟ قال: قلت أي والله قال:

ص: 188


1- الروايات المذكورة كلها أوردها الكشي في رجاله والشيخ الطوسي (قدس سره) وغيرهما، وقد جمعها من مصادرها السيد الخوئي (قدس سره) في معجم رجال الحديث: 11/ 229-241.

فقال: لقد سمعت والله لا أنقل قدمي إليه ما حييت) أي أن ابن أبي حمزة لا ينقل قدمه ولا يذهب إلى الإمام الرضا (علیه السلام) ما دام حياً رغم أنه بنفسه يروي ما قاله الإمام الكاظم (علیه السلام).وكان الإمام الرضا (علیه السلام) لا يتوقف عن إظهار ألمه لحصول هذا الانحراف لدى أتباعه والتنديد به وبأهله، فعن محمد بن سنان قال (ذكر علي بن أبي حمزة عند الرضا (علیه السلام) فلعنه ثم قال: إن علي بن أبي حمزة أراد أن لا يعبد الله في سمائه وأرضه فأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون ولو كره اللعين المشرك، قلت المشرك؟ قال نعم والله وإن رغم انفه كذلك هو في كتاب الله يريدون أن يطفئوا نور الله وقد جرت فيه وفي أمثاله أنه أراد أن يطفئوا نور الله..).

وعن يونس بن عبد الرحمن قال: (دخلت على الرضا (علیه السلام) فقال لي: مات علي بن أبي حمزة؟ قلت نعم، قال: قد دخل النار! قال: ففزعت من ذلك! قال: أما انه سئل عن الإمام بعد موسى أبي فقال: لا أعرف إماماً بعده!! فقيل لا؟! فضرب في قبره ضربة اشتعل قبره ناراً.).

لكن الإمام (علیه السلام) كان يستغرب في نفس الوقت من الذين انخدعوا بهذه الدعوة الفاسدة أو أصابهم التشكيك والتردد مع وضوح ضلالها وكذب ادعاءاته، روى محمد بن الفضيل عن الإمام الرضا (علیه السلام) قال: (سمعته يقول في ابن أبي حمزة: أما استبان لكم كذبه؟ أليس هو الذي يروي أن رأس المهدي يُهدى إلى عيسى بن موسى وهو صاحب السفياني؟.

وقال: إن أبا الحسن –يعني أباه الكاظم (علیه السلام) يعود إلى ثمانية أشهر؟!!)

ص: 189

ولم يحصل شيء من ذلك، بينما كان الإمام (علیه السلام) يقيم لهم البينات ويخبرهم بالمغيبات التي يثبت صدقها كإخباره بأن هارون العباسي لا يمسُّه سوء.وكان (ع) يصبّر شيعته ويقوي عزيمتهم ليثبتوا على الصراط المستقيم، وأن لا تستفزهم تلك الحركات وأن يقابلوها بالحكمة والموعظة الحسنة والحوار المبني على الدليل، روى محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا قال: (قلت: جعلت فداك إني خلفت ابن أبي حمزة وابن مهران وابن أبي سعيد اشد أهل الدنيا عداوة لك!! فقال لي: ما ضرك من ضل إذا اهتديت إنهم كذبوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكذّبوا أمير المؤمنين (علیه السلام) وكذبوا فلاناً وفلاناً وكذبوا جعفراً وموسى (علیه السلام)، ولي بآبائي (ع) أسوة قلت جعلت فداك إنا نروي أنك قلت لابن مهران: اذهب الله نور قلبك وادخل الفقر بيتك؟ فقال: كيف حاله وحال بنيه؟ فقلت: يا سيدي أشد حال، هم مكروبون ببغداد لم يقدر الحسين أن يخرج إلى العمرة فسكت) وإنما سكت لأنّه (ع) لم يكن يحب أن يراهم بهذا الحال.

وقال (علیه السلام) (إنه لما قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) جهد الناس في إطفاء نور الله فأبى الله إلا أن يتم نوره بأمير المؤمنين (علیه السلام) فلما توفي أبو الحسن (علیه السلام) جهد علي بن أبي حمزة في إطفاء نور الله فأبى الله إلا أن يتم نوره. وإن أهل الحق إذا دخل فيهم داخل سروا به وإذا خرج منهم خارج لم يجزعوا عليه وذلك أنهم على يقين من أمرهم وإن أهل الباطل إذا دخل فيهم داخل سروا

ص: 190

به(1) وإذا خرج منهم خارج جزعوا عليه وذلك أنهم على شك من أمرهم إن الله جل جلاله يقول: (فمستقر ومستودع) قال: ثم قال أبو عبد الله (علیه السلام): المستقر الثابت والمستودع المعار).وبقي الإمام (علیه السلام) يحاور أولئك المنحرفين ويقيم عليهم الحجج الدامغة انطلاقاً من مسؤوليته في هداية الخلق جميعاً والأخذ بأيديهم إلى ما يسعدهم في الدنيا والآخرة، خصوصاً إذا كانوا من داخل الكيان الموالي لأهل البيت (علیهم السلام) لأن الخطر عندما ينطلق من الداخل يكون أشد فتكاً في بناء الأمة وقد نجح (ع) في إرجاع كثيرين إلى جادة الصواب.

روى أحد أصحاب الإمام الرضا (علیه السلام) قال: كنت عند الرضا (علیه السلام) فدخل عليه علي بن أبي حمزة، وابن السرّاج، وابن المكارى، فقال له ابن أبي حمزة: ما فعل أبوك؟ قال: مضى، قال: مضى موتاً؟ قال: نعم، قال: إلى من عهد؟ فقال: إلىّ، قال: فأنت إمام مفترض الطاعة من اللّه؟ قال: نعم، قال ابن السراج وابن المكارى: قد واللّه أمكنك من نفسه، قال: ويلك وبما أمكنت، أتريد أن آتي بغداد وأقول لهارون أنا إمام مفترض الطاعة، واللّه ما ذلك عليّ وإنّما قلت ذلك لكم عندما بلغني من اختلاف كلمتكم وتشتّت أمركم لئلاّ يصير سرّكم في يد عدوّكم،قال له ابن أبي حمزة: لقد أظهرت شيئاً ما كان يظهره أحد من آبائك ولا يتكلّم به، قال: بلى لقد تكلّم خير آبائي رسول اللّه

ص: 191


1- فرّق سماحته بين سرور أهل الحق وأهل الباطل في الغرض، فإن الأول نابع من حبهم الخير والهداية لكل الخلق، أما الثاني فلاغترارهم بكثرتهم وشكهم في أمرهم فيجعلون التحاق الغير بهم دليلاً على سلامة موقفهم.

صلّى اللّه عليه وآله لمّا أمره اللّه تعالى أن ينذر عشيرته الأقربين، جمع من أهل بيته أربعين رجلاً وقال لهم: أنا رسول اللّه إليكم، فكان أشدّهم تكذيباً له وتأليباً عليه عمّه أبو لهب، فقال لهم النبيّ صلّى اللّه عليه وآله: إن خدشني خدش فلست بنبي، فهذا أوّل ما أبدع لكم من آية النبوة، وأنا أقول: إن خدشني هارون خدشاً فلست بإمام فهذا أوّل ما أبدع لكم من آية الإمامة، فقال له على: إنّا روينا عن آبائك أنّ الإمام لا يلي أمره إلاّ أمام مثله، فقال له أبو الحسن(ع): فأخبرني عن الحسين بن علي ع، كان إماماً أو كان غير إمام؟ قال: كان إماماً،قال: فمن ولي أمره؟ قال: علي بن الحسين، قال: وأين كان علي بن الحسين (علیه السلام)؟ قال: كان محبوساً في يد عبيد اللّه بن زياد في الكوفة، قال: خرج وهم كانوا لا يعلمون حتى وليّ أمر أبيه ثم انصرف، فقال له أبو الحسن (علیه السلام): إنّ هذا الذي أمكن علي بن الحسين (علیه السلام) أن يأتي كربلاء فيلي أمر أبيه فهو أمكن صاحب هذا الأمر أن يأتي بغداد فيلي أمر أبيه ثم ينصرف، وليس في حبس ولا في إساءة، قال له على: إنّا روينا أنّ الإمام لا يمضي حتى يرى عقبه(1)، قال: فقال أبو الحسن (علیه السلام): أما رويتم في هذا الحديث غير هذا؟ قال: لا، قال: بلى واللّه لقد رويتم إلاّ القائم وأنتم لا تدرون ما معناه ولم قيل، قال له على: بلى واللّه إنّ هذا لفي الحديث، قال له أبو الحسن (علیه السلام): ويلك كيف اجترأت على شي ء تدع بعضه، ثم قال: يا شيخ اتّق اللّه ولا تكن من الصّادين عن دين اللّه تعالى).

ص: 192


1- ولد الإمام الجواد (علیه السلام) لأبيه الرضا (علیه السلام) بعد أن تجاوز السادسة والأربعين من عمره الشريف مما وفّر فرصة لأصحاب الفتن ليثيروا هذه الإشكالات.

وروى الشيخ الصدوق (قدس سره) بسنده عن أبي مسروق قال: (دخل على الرضا (علیه السلام) جماعة من الواقفة فيهم علي بن أبي حمزة البطائني، ومحمد بن إسحاق بن عمّار، والحسين بن مهران، والحسن بن أبي سعيد المكارى، فقال له علي بن أبي حمزة جعلت فداك أخبرنا عن أبيك (ع) ما حاله، فقال له: إنه قد مضى، فقال له: فإلى من عهد؟ فقال إلىّ: فقال له: إنّك لتقول قولاً ما قاله أحد من آبائك علي بن أبي طالب (علیهما السلام) فمن دونه، قال: لكن قد قاله خير آبائي وأفضلهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله،فقال له: أما تخاف هؤلاء على نفسك؟ فقال: لو خفت عليها كنت عليها معيناً(1)، إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أتاه أبو لهب فتهدّده، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: إن خدشت من قبلك خدشة فأنا كذّاب، فكانت أوّل آية أنزع نزع بها رسول اللّه (صلی الله علیه و آله)، وهي أوّل آية لكم إن خدشت خدشة من قبل هارون فأنا كذّاب، فقال له الحسن بن مهران: قد أتانا ما نطلب أن أظهرت هذا القول، قال: فتريد ماذا؟ أتريد أن أذهب إلى هارون فأقول له: إنّي إمام وأنت لست في شي ء، ليس هكذا صنع رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) في أوّل أمره،إنّما قال ذلك لأهله ومواليه ومن يثق به، فقد خصّهم به دون الناس، وأنتم تعتقدون الإمامة لمن كان قبلي من آبائي، ولا تقولون إنه أنّما يمنع علي بن موسى أن يخبر أنّ أباه حيّ تقية، فإنّي لا أتقيكم في أن أقول: إنّي إمام فكيف أتقيكم في أن أدعي أنه حيّ لو كان حيّاً).هذا ما حصل في زمان الإمام الرضا (علیه السلام) بعد رحيل سلفه الإمام الكاظم

ص: 193


1- شرح سماحته وجهاً لهذه الفقرة في كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية).

(ع) وحصل مع أجداده من قبل، وفي كل زمان، ما دامت النفوس الأمّارة بالسوء المحبة للدنيا الزائلة الزائفة والطموحة إلى تقمّص هذه المواقع المقدسة [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ] (آل عمران:144). وقد قلنا في كلمة سابقة إن الله تعالى عندما يخاطب النبي (صلی الله علیه و آله) بوصفه رسولاً –كقوله تعالى يا أيها الرسول بلغ- فإنها ليست خاصة بشخصه الشريف وإنما هي سنة إلهية ترتبط بموقعه المبارك.

ص: 194

خطاب المرحلة 304 :اللهم اجعلنا من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك

اشارة

خطاب المرحلة 304 :اللهم اجعلنا من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

علّمنا الإمام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) مجموعة من الأدعية لندعو بها في زمن الغيبة، وأقول لندعو بها وليس لنقرأها، لأن مجرد قراءة الدعاء وتحريك اللسان به لا يحقّق معناه وتأثيره وإن كان هذا العمل لا يخلو من ثواب، لكن حقيقة الدعاء هي الطلب فلابد أن نحقق صدق الطلب في أنفسنا ليكون دعاءاً حقيقة. فهل يُعقل أن يطلب الإنسان الذرية الصالحة وهو لا يسعى للتزويج وتهيئة مقدماته، أو يقرأ دعاءاً لطلب الرزق وهو كسول جالس في مكانه لا يتحرك لكسب الرزق واستثمار الفرص المتاحة، فلا معنى للدعاء إلا إذا وفّر حقيقته وهو الطلب الصادق. والعمل الجدي لتحقيق ما دعا به وحينئذ سيجد الله تعالى حاضراً ومُلبياً طلبه بإذن الله تعالى.

ومن تلك الأدعية المباركة المشهورة (اللهم إنّا نرغب إليك في دولة كريمة) هذا الدعاء الجليل الذي يلخص الهدف من بعثة الأنبياء والرسل وإنزال الشرائع بل الهدف من خلقة البشرية وهو إقامة التوحيد والعدل [وَمَا

ص: 195


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع مجموعة طلبة العلوم الدينية من مدغشقر الذين يدرسون في النجف وعددهم (21) طالباً مع مدير المدرسة يوم الخميس 14/ذ.ق/1432 الموافق 13/ 10/ 2011.

خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات:56) ليعبد الله حق عبادته وتسود كلمة التوحيد والحكم بالعدل، ولا يتحقق المعنى الكامل لهذا الغرض إلا حينما تقام دولة العدل الإلهي المباركة.ومن فقرات هذا الدعاء (وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك) وقد قلنا أن المطلوب في الدعاء حقيقة الطلب والسعي الجدي لتهيئة مقدمات الاستجابة، ولكي يكون من الدعاة إلى طاعة الله تبارك وتعالى والقادة إلى سبيله عليه أن يوفّر في نفسه جملة من الصفات والمؤهلات، ومن أبرزها التفقه في الدين وتحمّل علوم أهل البيت (علیهم السلام)، وإلا فكيف يكون بدونها دليلاً إلى الله تعالى وهادياً إلى رضوانه.

ومن الغريب أن تقرأ ملايين الشيعة هذا الدعاء ولا يندفع إلا اليسير منهم لتحقيق مقدماته، ولكن هذا الاستغراب يزول عندما نعلم أن الانضمام إلى هذا الكيان الشريف (الحوزات العلمية) وتلّقي علوم أهل البيت (علیهم السلام) وتحمّلها ونقلها إلى الناس من الألطاف الإلهية الخاصة التي لا يؤتاها الإنسان إلا باصطفاء من الله تبارك وتعالى.

وأنتم –يا طلبة العلوم الدينية من مدغشقر- لم توفقوا إلى تحصيل العلوم في النجف الأشرف وتأتون من البلد الأفريقي البعيد (مدغشقر) مع بعد الشُقّة وضعف الإمكانيات واختلاف اللغة والثقافة وصعوبة الحياة إلا لخصلة كريمة فيكم ارتضاها الله تبارك وتعالى أو فعل كريم صدر منكم كالبر الشديد بالوالدين أو خوف الله تعالى في موقف عرض فيه الشيطان الحرام وزيّنه لكم فاتقيتم الله تبارك وتعالى، أو عمل إنساني نبيل أو غيرها مما لاحظه الله تعالى

ص: 196

فيكم وأكرمكم عليه وأوجب رضاه، وليس اعتباطاً أن توفّقوا أنتم مع الصعوبات التي ذكرناها للدراسة في النجف ويحرم منها أهل النجف أنفسهم وهم على مقربة من أمير المؤمنين (علیه السلام) والمرجعية الدينية والحوزة الشريفة.وحينما أقول هذا فإنه لا يعني أن تلتفتوا إلى أنفسكم لتبحثوا عن هذا الشيء الحسن الذي فيكم، لأن المخلص لا يعطي قيمة لنفسه ويزدريها دائماً، وإذا كان فينا شيء حسن فالله تعالى هو الذي يعرفه والحسن ما نال رضاه تبارك الله.

وأول شعور ينتابكم أمام هذه الألطاف الإلهية الخاصة هو الشكر لله تعالى وإدامة هذا الشكر والشعور بالامتنان لله تبارك وتعالى، والتقصير والعجز عن أداء حق هذه النعم التي لا تعد ولا تحصى، وأن يكون شكرنا شكراً عملياً بمعنى أن نكون بمستوى النعمة التي حبانا الله تبارك وتعالى بها فنبذل وسعنا في تحصيل هذه العلوم المباركة التي هي علوم أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة، ألا ترون بركة هذه النعمة والسعادة التي حققها الله تعالى لكم، فتكحلون أعينكم يومياً بالحرم العلوي المطهر وتطالعون في كتبكم يومياً أسماء الأئمة الطاهرين (علیهم السلام) وأصحابهم الكرام، وتلتقون يومياً بأقرانكم من المؤمنين الصالحين المتعلمين على سبيل نجاة، وتترددون بين المساجد والمشاهد المشرّفة وبيوت العلماء، فأي بركة أعظم من هذه.

فاحرصوا على أن تكونوا أهلاً لهذه النعم ومن أهل هذا العنوان (الدعاة إلى طاعة الله والقادة إلى سبيله) ولا ينال ذلك إلا بالإخلاص لله تبارك وتعالى وتنقية العمل من الشوائب والأشواك الداخلية والخارجية.

ص: 197

أما الداخلية فهي النابعة من داخل النفس كطلب العلم للتباهي والاستعلاء على الناس وتحصيل مكانة مرموقة، أو استدرار المال، أو لكي يحظى بقداسة وجاه ونفوذ في المجتمع ونحوه، وشيئاً فشيئاً تنمو هذه الشجرة الخبيثة في داخل الإنسان ويستدرجه الشيطان إلى ما هو أسوأ وأشقى حتى يصير كل همه طلب الدنيا ويطلب العلم لأجلها فيكون من الأخسرين أعمالا [الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً] (الكهف:104).وأما الخارجية فنعني بها الصعوبات التي تواجهكم في هذا الطريق الشريف وتعيق مسيرة طلبة العلم حتى قيل: (العلم آفاته كثيرة) حيث إن قلة ممن بدأ مسيرة تحصيل العلم وصل إلى نهايته المرجوّة.

نسأل الله تعالى أن يسدّد خطاكم وأن يزيدكم علماً نافعاً وعملاً صالحاً وأن يجعلكم من أهل هذا العنوان المبارك: الدعاة إلى الله تعالى والقادة إلى سبيله، وما عليكم إلا الصبر والمصابرة والمثابرة والجد وإخلاص النية إن شاء الله تعالى. وستجدون عند الله تعالى وعند رسوله (صلی الله علیه و آله) وعند أمير المؤمنين (علیه السلام) ما يسركم ويقر أعينكم بفضل الله تبارك وتعالى.

ص: 198

بسمه تعالى

التوازن بين سُبل الإيمان ووسائل الانحراف

التوازن بين سُبل الإيمان ووسائل الانحراف(1)

يتحدث الشباب كثيراً عن انتشار وسائل الفساد والانحراف بتنوعها وتطورها وتأثيرها القوي وضغطها على النفوس، لكن التركيز على هذا الحديث والالتفات إليه فيه معنى إيجابي وآخر سلبي.

أما الإيجابي فهو أن نلتفت إلى هذا الخطر ونشخّص أسبابه ونضع العلاجات النظرية والعملية له، وهي جزء من وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما السلبي فهو ما نخشاه من كون الدافع إلى هذا الكلام هو إعطاء المبررات لضعف النفس وانسياقها وراء الشهوات والمعاصي بحجة الضغط القوي وعدم استطاعة المقاومة.

ونحن لا ننكر انتشار وسائل الفساد وقوة تأثيرها بعد الانفتاح الإعلامي وتطوّر وسائل الاتصالات وتقنياتها العالية، لكن مقتضى العدل الإلهي انه كلما قويت شوكة الفساد والانحراف والضلال فإن سبل الإيمان وطاعة الله تبارك وتعالى تقوى بموازاتها بحيث تحصل حالة من التوازن وتكون حالة الاختيار والإرادة متعادلة بكلا الاتجاهين تطبيقاً لقوله تعالى [لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ] (الأنفال:42) [وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ] (البلد:10) [إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً] (الإنسان: 3).

ص: 199


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من طلبة الإعداديات في قضاء الرفاعي مع بعض أساتذتهم يوم الخميس 21/ذق/1432 الموافق 20/ 10/ 2011م.

بل أن مقتضى اللطف والكرم الإلهيين ورحمة الله الواسعة زيادة وسائل الإيمان وأدواته وتحبيبه إلى القلوب وتزيينه إلى النفوس [وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ] (الحجرات:7).ومن الشواهد عليه ما نطقت به الآيات والروايات الشريفة من أن الحسنة بعشر أمثالها (والله يضاعف لمن يشاء)، ومن همّ بالحسنة ولم يفعلها كتبت له حسنة ومن عمل سيئة لم تكتب عليه وأعطي مهلة للتوبة والاستغفار، فإن لم يتب ولم يندم كتبت عليه بواحدة ويمحوها الاستغفار والتوبة والقيام بالأعمال الصالحة، فالجزاء على الحسنة أضعاف العقاب على السيئة.

إذن التركيز على قوة انتشار وسائل الفساد والانحراف مما لا ينبغي الانشغال به، وأمام كل هذه الوسائل بدائل مشابهة للإيمان والصلاح، فإذا قلت انه توجد قنوات فضائية كثيرة للفسق والفجور فإن فضائيات كثيرة أيضاً للهداية والصلاح والوعظ وفيها تنوع في البرامج بين المحاضرات والحوارات النافعة والندوات وغيرها.

وإذا قلت أن مجلات وصحف الفساد منتشرة قلنا أن كتب ومجلات وصحف الهداية والرشاد أكثر منها وبتنوع كبير وتخاطب جميع الفئات والشرائح وفيها مرغّبات وإخراج فني جاذب. وهكذا، والإنسان باختياره يختار هذه القناة أو تلك، وهذه المجلة أو تلك.

أيها الأحبة: إن أول صدمة يواجهها الإنسان قبل ضغطة القبر ووحشته وحساب منكر ونكير وكل هذه الشدائد العظيمة هو عندما يُفاجأ أنه قد مات،

ص: 200

لأنه لا يدري أنه ميّت ويظن أن حالة من الإغماء أو النوم أو فقدان الوعي ونحوها مما تعودّه في الدنيا قد طرأت عليه، حتى ينبّهه الملقن أنه ميت وأن أيامه في الدنيا قد انتهت وهو في أول أيام الآخرة، وحينئذ سيصاب بالصدمة لأن فرصة العمل قد أغلقت أمامه وترك خلفه الكثير مما كان يستطيع أن يقدمه في سبيل الله تبارك وتعالى لكنه بخل به واليوم تركه وذهب إلى الآخرة [وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ...] (الأنعام:94).وأنتم أيها الشباب في قمة العطاء والعمل وعندكم فرصة أن تكونوا ممن يفاخر بكم الله الملائكة إذا استقمتم على طاعة الله تبارك وتعالى والتزمتم بأحكام الشريعة كما ورد في الحديث الشريف، لأن الملائكة مجبولة على الطاعة ومخلوقة لها، أما الشباب فتتنازع فيه قوى الخير والشر وهو بإرادته ولطف الله تبارك وتعالى ينحاز إلى قوى الخير فيكون أفضل عند الله تعالى من الملائكة.

أما إذا كبرتم وتجاوزتم مرحلة الشباب فإن هذا التنافس سيزول موضوعه وتفقدون الفرصة لنيل مثل هذه الخطوة عند الله تبارك وتعالى، ولا تعاد الفرصة ولا تتكرر ولا ينفع الندم والتأسّف فاغتنموها، خصوصاً وإنكم تتمتعون بحرية لا حدود لها من عمل الخير، عكس الفترة التي عاشها الشباب في ثمانينات القرن الماضي حيث كانت أكثر الفرص معدومة لقسوة النظام وبطشه بكل ما يمّت إلى الدين بصلة، وكنّا نتوقع كل سيء من جلاوزة صدام حينما كنا نقتني الكتاب الديني أو نؤدي الشعائر الدينية، فاشكروا الله تعالى حق شكره واعملوا ما يرضيه سبحانه.

ص: 201

خطاب المرحلة 305 :التحديات التي واجهها الإمام الرضا (علیه السلام)

خطاب المرحلة 305 :التحديات التي واجهها الإمام الرضا (علیه السلام)(1)

لقد واجهت الإمام الرضا (علیه السلام) مجموعة معقدة من التحديات وبمختلف الاتجاهات، أحدها باتجاه السلطة التي بلغت ذروة النفوذ والاتساع في الإمكانات البشرية والمادية والعسكرية في عصري هارون والمأمون العباسيين وكانت ترى في الأئمة (علیهم السلام) الضد النوعي والبديل المعارض فتراقبه وتحاصره وتحسب عليه أنفاسه.

والتحدي الآخر كان الانفتاح الفكري والعلمي على الحضارات الأخرى كالإغريق والرومان والصين والهند والفرس حيث اتسعت حركة الترجمة وتبادل الإرث العلمي وسادت روح الإعجاب بتلك الحضارات ونقل آثارها وتجاربها وكثير منها مناقض للدين ويطرح نظريات تعارض عقيدة الإيمان وتدعو إلى الإلحاد والكفر بالرسالات السماوية وكان لها مروّجون ودعاة، فوقف الإمام (علیه السلام) لهم بالمرصاد وناظرهم وأبطل نظرياتهم، وقد حفل كتاب الاحتجاج للطبرسي بجملة من تلك المناظرات، التي كانت مظهراً من مظاهر (صراع الحضارات) الذي يتبنونه اليوم.

والتحدي الثالث هو انهيار القيم الأخلاقية وانتشار الفساد والخلاعة

ص: 202


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع ممثلي هيئة المواكب الحسينية في الناصرية يوم السبت 23/ذ.ق/1432ه- المصادف 22/ 10/ 2011.

والمجون ومجالس اللهو والطرب وكانوا يتقربون إلى السلطة بالجواري والمغنين والغلمان ليحظوا بالجوائز والامتيازات ولسعة هذه الحالة في ذلك العصر، ألّف أحدهم كتاباً من عدة مجلدات اسمه (عصر المأمون) يتناول جوانب الحياة في ذلك العصر.مضافاً إلى ذلك فقد واجهته (ع) مشاكل وتحديات داخل الكيان الشريف أي من داخل أتباع مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) وأحدها الانشقاق الداخلي الذي تحوّل إلى فرقة اسمها (الواقفة) اقتطعت جزءاً مهماً من علماء المدرسة ورواتها وقواعدها، وأضيفت إلى قائمة الفرق المنشقة (الزيدية) التي قالت بإمامة زيد بن علي السجاد (علیه السلام) دون الإمام الصادق (علیه السلام)، و (الفطحية) الذين قالوا بإمامة عبد الله الأفطح ابن الإمام الصادق (علیه السلام) دون أخيه موسى بن جعفر (علیه السلام)، وكانت الواقفة تقول بعدم وفاة الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) وبالتالي فإن علي بن موسى ليس إماماً ولا نسلّم ودائع أبيه الضخمة إليه ولا نرجع إليه في الأحكام والمواقف العامة.

ومن التحديات الداخلية التشكيك بالإمام (علیه السلام) وقراراته فجعلوا من أنفسهم قيمين على الإمام ولا يطيعونه إلا عندما يتبع إرادتهم ويأخذ بمواقفهم، كالذي حصل عند وقوع الصراع بين الأمين والمأمون على السلطة، واستطاع المأمون خداع جملة من الشيعة لينضموا إليه من دون الرجوع إلى الإمام (علیه السلام) من باب دفع الأفسد بالفاسد، أو أن المصلحة تقتضي ذلك فجعلوا من أنفسهم وقوداً لهذه الحرب الشيطانية بحماقتهم وغرورهم، ولما انتصر المأمون جازى الشيعة بكل بطش وقسوة وقتل إمامهم و إمام الخلق أجمعين الرضا

ص: 203

(ع).هذا كله والإمام لا يستطيع أن يقول كل ما عنده وإنما يكتفي بالإشارات والتوجيهات العامة لأن السلطات تتربص به الدوائر وتكيد له، وهو لا يبخل بنفسه على الله تبارك وتعالى لكنه صاحب رسالة ومشروع إلهي، ولا بد من البقاء للمضي فيه ولم ينتهي دوره حتى يقدم على الشهادة التي أقدم عليها بكل طمأنينة حينما حلّ وقت البديل.

وشككوا بصحة إمامته من جهة عدم وجود ولد له، ولابد للإمام أن يكون له خلف من أهله، وقد تأخرت ولادة الإمام الجواد (علیه السلام) إلى سنة 195ه- والإمام الرضا (علیه السلام) في السابعة والأربعين من العمر، ثم اتهموه بصحة انتساب ولده الجواد (علیه السلام) وطلبوا التحاكم إلى القافة –من القيافة وهي فراسة إحراز التشابه بين شخصين لإلحاقه به وكانوا في الجاهلية يعتمدونها لإثبات الأنساب، وإذا علمنا أن الإمام الكاظم (علیه السلام) استشهد سنة 183 فهذا يعني أن الإمام الرضا قضى (12) سنة من إمامته بهذه التشكيكات حتى ولد ابنه الجواد (علیه السلام)،.

تعرضنا على نحو الاختصار لهذه المحطات من حياة الإمام الرضا (علیه السلام) لنعيش معه همومه وآلامه ومسؤولياته بمقدار فهمنا وإدراكنا، ولنعلم أن هذه الأحداث ليست تاريخاً يقرأ على المنابر لاستدرار العواطف وإنما هي دروس نستفيد منها في حياتنا الحاضرة.

فكم من اتباع أهل البيت (علیهم السلام) وقفوا إلى جانب الاحتلال الأمريكي والغربي عام 2003 بحجة دفع الأفسد وهو صدام – بالفاسد ولا أدري ما الذي

ص: 204

جعلهم يعتقدون ذلك؟وكم من أتباع أهل البيت (علیهم السلام) وضعوا أيديهم بأيدي الإرهابيين القتلة بعنوان مقاومة المحتل ونحوه فنشروا الخراب والدمار وأهلكوا الحرث والنسل ونخروا كيان الدولة وضاع الشعب وثرواته ومؤسساته بين هذا وذاك.

أما التشكيك بالمرجعية والقيادة فمستمر. لماذا لم تفعل كذا، ولماذا فعلت كذا؟ وهل تعلم بكذا أو لا تعلم وكأنهم هم القيمون عليها وأن المرجعية أُمرت بطاعتهم لا العكس.

ونتيجة هذا التشكيك التقاعس والتخاذل والتنازع والتمرد وهي أسباب لانهيار الكيان واضمحلاله [وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] (الأنفال:46) والأمة هي التي تدفع ثمن هذه النتائج كما تشهد به وقائع التاريخ.

ص: 205

خطاب المرحلة 306 :عصر انتصار الإسلام وإيمان الشعوب به

خطاب المرحلة 306 :عصر انتصار الإسلام وإيمان الشعوب به(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

نحتفل اليوم بتتويج عدد معتدٍ به من طلبة جامعة الصدر الدينية فرع بغداد الجديدة بالعمامة والزي الروحاني ليكونوا دعاة إلى الله تبارك وتعالى وأدلاء على طاعته، ومن حقنا أن نفرح ونفتخر بهذا الانجاز المبارك لأنه يمثل مظهراً لانتصار الإسلام وامتداده وسعة العودة إلى الله تبارك وتعالى، فمنطقة مثل بغداد الجديدة كانت ساحة للفساد والانحراف وإذا بها تصبح اليوم ساحة لأكثر من حوزة علمية دينية ومناراً للهدى والإصلاح.

إننا نشهد اليوم تجليات واضحة وواسعة لانتصار الإسلام وعزته وكرامته بعد أن غُيِّب صوته عن الأمة وشُوِّهت صورته حتى أصبح مثاراً للتشكيك والرفض والازدراء، ولكننا نشهد اليوم عودة الشعوب إلى الإسلام واقتناعها به وإيمانها الراسخ بأنه لا حلَّ إلا بالعودة إلى الله تبارك وتعالى والرجوع إلى دينه القويم.

وهذا الأمر لا يختص بالساحة العراقية بل في كل بلاد المنطقة، فهاهي ثورات الشعوب العربية أو ما يسمى بالربيع العربي إنما تكتسب قوتها وامتدادها

ص: 206


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من طلبة جامعة الصدر الدينية فرع بغداد الجديدة وإدارتها يوم الثلاثاء 26/ذ ق/1432 المصادف 25/ 10/ 2011.

من الإسلام، ولم تنتظم وتجتمع قوتها وتزلزل الأرض تحت أقدام الطاغوت إلا عندما ترفع شعارات الإسلام وعلى رأسها (الله أكبر، لا اله إلا الله) وتقيم شعائره وعلى رأسها صلاة الجمعة، وقد كان ذلك واضحاً في حركة الشعبين المصري والليبي وغيرهما.وما إن تنتصر تلك الحركات وتتاح الفرصة للشعوب كي تختار بحرية من يحكمها حتى تكون الغلبة للإسلاميين، وقد تابعنا نتائج أول انتخابات تونسية بعد زوال الطاغوت وكانت النتيجة فوز الحركة الإسلامية بالمرتبة الأولى وحصدت أكثر من 40 من المقاعد وتلاها غيرها بفارق كبير، وصَوَّتَ للإسلاميين الكثير من الليبراليين واليساريين ثقة بالمشروع الإسلامي.

إذن نحن في هذا العصر أمام تجليات واسعة ومتسارعة لعزة الإسلام وعظمته، وقد كانت الأجيال السابقة تعيش عقوداً أو قروناً لتشاهد نصراً واحداً وقد لا يحصل ما يبشّر بخير وليس لهم إلا رثاء أحوالهم، واليوم تتوالى هذه الانتصارات ويتحقق هذا التقدم المستمر بمشيئة الله تبارك وتعالى.

إن هذه الانتصارات وهذا التقدم فيه امتحان واختبار للإسلاميين – علماء ومثقفين وسياسيين ومتدينين – ليبلوهم الله تبارك وتعالى أيهم أحسن عملا، وهل هم بمستوى هذه النعم وتحمل هذه المسؤوليات؟.

إن لله تعالى سنناً في عباده [فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلا سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً] (فاطر:43) ومن سنته تبارك وتعالى في هذا المجال أن يتم نصره على عباده المؤمنين إن أقاموا دين الله تعالى وأجروا أحكامه وكانوا من أهل الآية الشريفة [الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا

ص: 207

الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ] (الحج:41).وهؤلاء وعدهم الله تبارك وتعالى في الآية التي سبقتها [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحج:40).

وإن لم يكونوا كذلك جرت فيهم سنة أخرى أشارت إليها الآية الشريفة [وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] (محمد:38) فالله غني عن كسل المتقاعسين وخذلانهم وتلكؤهم وسوف يأتي بقوم آخرين ينهضون بالمشروع الإلهي ولا يبالي بهؤلاء السيئين أين يصيرون.

وهذا الكلام إنما نوجّهه لمن يسموّن بالنخب من علماء وصناع الفكر والثقافة ومتفقهين – كحضراتكم – لان التمكين المذكور في الآية الأولى إنما يكون لهم، وعليّهم المعوّل في إقامة أحكام الله تبارك وتعالى، وليس على عامة الناس المساكين الذين همهم تدبير شؤون حياتهم الخاصة مع القيام بواجباتهم الدينية، فأنتم المعنيون بهذا الامتحان الإلهي الذي تتجلى مظاهره بقوة هذه الأيام. وقد نقلنا لكم في بعض الخطابات السابقة روايات في هذا المجال ومنها ما روته الصديقة الزهراء س عن أبيها (صلى الله عليه وآله) (إن علماء شيعتنا يحشرون فيُخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجدِّهم في إرشاد عباد الله) (1).

إن من المؤسف ضعف كثير من المتصدين لقيادة الحركة الإسلامية في

ص: 208


1- بحار الأنوار: 2/ 3 عن تفسير الإمام العسكري (علیه السلام).

البلاد العربية والإسلامية وهزيمتهم داخل نفوسهم إما مجاملة للغرب وكسب ودهم أو لتيسير وصولهم إلى السلطة.وعملاً بالبراغماتية التي تتطلبها السياسة من وجهة نظرهم، ففي عشية الانتخابات التونسية(1) يظهر زعيم حركة النهضة الإسلامية على وسائل الإعلام ويعلن تخليه عن بعض أحكام الإسلام فيما يُدعى بحقوق المرأة.إن الله تبارك وتعالى أحق أن تخشوه والحق أحق أن يتبَّع وليس الغرب، إنها مفارقة غير منصفة أن نستحي من إعلان هويتنا الإسلامية والتزامنا بما شرّعه الله تبارك وتعالى، بينما لا يستحي الغرب من إصدار مؤسساته بشكل رسمي قوانين تبيح زواج المثليين والشذوذ الجنسي واستباحة المنكرات التي يعلمون هم قبل غيرهم أخطارها الصحية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية، فهل من المعقول أن نستحي نحن ونجاملهم على حساب شريعة الله تبارك وتعالى وهم بهذه الضعة والدناءة؟ من أجل أن لا يضعوا (فيتو) على تصدي الإسلاميين، مع أن هذا الأمر ليس بأيدي الغرب، وإنما الشعوب هي التي تختار من يمثلها.

إن هذه مؤشرات مقلقة تنبئ عن عدم أهلية المتصدين لتحمل مسؤولية التقدم بالمشروع الإسلامي العظيم، وتشجع الغرب على فرض أملاءاته على المسلمين [وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم

ص: 209


1- جرت الانتخابات يوم الأحد 24/ذ ق /1432 المصادف 23/ 10/ 2011 وفاقت المشاركة كل التوقعات حيث تجاوزت 90 وفازت حركة النهضة الإسلامية برئاسة الشيخ راشد الغنوشي بأزيد من 41 من عدد المقاعد.

مَّيْلَةً وَاحِدَةً] (النساء:102) وأي سلاح أمضى وأقوى من سلاح الإسلام وإرادة الشعوب فلماذا نغفل عنها ونتخلى عنها؟ وماذا يبقى بأيدينا في المواجهة مع الغرب؟.وإذا كانت الغفلة متصورة في حق غيرنا لأسباب غير خافية، فأننا – أتباع أهل البيت ع والمرجعية الواعية الرشيدة – غير معذورين، ولا يُتوقع منّا التقصير لما نملك من آثار ضخمة ومستوعبة من روايات أهل البيت ع وكتب علمائنا الصالحين.

ص: 210

خطاب المرحلة 307 :استقبال شهر ذي الحجة الحرام

خطاب المرحلة 307 :استقبال شهر ذي الحجة الحرام(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيد خلقه أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين

يحلّ علينا بإذن الله تعالى بعد أيام شهر ذي الحجة الحرام وهو شهر شريف، تضاهي بعض أيامه أيام شهر رمضان المبارك في الفضل وعظيم البركة –على ما قيل- لذا روي أن صلحاء الصحابة والتابعين والسلف الصالح كانوا يترقبونه ويهتمون به ويضعون لهم برامج من العمل والعبادة.

ومن أيامه المباركة ذات الشأن العشر الأوائل منه وقد ورد في الروايات أنها الأيام المعلومات التي حث الله تبارك وتعالى عباده على ذكره فيها بكل ما تيسر من أشكال الذكر والطاعة والعبادة ففي معاني الأخبار روى الشيخ الصدوق (رضي الله عنه) بسنده عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال (قال علي (علیه السلام) في قول الله عز وجل [وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ] (الحج:28) قال: أيام العشر)(2).

ص: 211


1- كلمة وجهها سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) من خلال قناة (النعيم) الفضائية بمناسبة قرب حلول شهر ذي الحجة الحرام/ 1432.
2- معاني الأخبار: 296 باب معنى الأيام المعلومات والأيام المعدودات.

وورد في فضيلة هذه الأيام عن النبي (صلى الله عليه وآله) قوله (ما من أيام أزكى عند الله تعالى ولا أعظم أجراً من عشر الأضحى، قيل: ولا الجهاد في سبيل الله قال (صلی الله علیه و آله): ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء)(1)فينبغي للمؤمن المراقب لنفسه الراغب في ما عند الله عز وجل أن يتحرى هذا الشهر ويتعرف على أوله حتى لا تفوته فرصة الأعمال المسنونة لهذه العشرة: وأول ذي الحجة لهذه السنة 1432 سيكون على الأرجح بمشيئة الله تعالى يوم السبت 29/ 10/ 2011 فمساء يوم الجمعة أي ليلة السبت ستكون الليلة الأولى من ذي الحجة بإذن الله تعالى عندها تبدأ أعمال العشرة الأولى من شهر ذي الحجة:

ومنها: صلاة كل ليلة بين المغرب والعشاء ركعتين يقرأ في كل منهما بعد الحمد سورة التوحيد وقوله تعالى [وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ] (الأعراف:142) فقد ورد أن من صلاّها شارك الحجاج في ثوابهم وإن لم يحج.

ولا يخفى وجه ارتباط الآية بهذه العشرة، حيث ورد في الروايات أن الثلاثين هي شهر ذي القعدة والعشرة هي الأولى من ذي الحجة(2) وقد ذكر أكثر من وجه لأفراد العشرة عن الثلاثين وكان يمكن القول أربعين ليلة في

ص: 212


1- المراقبات للمرحوم ملكي تبريزي: 273.
2- تفسير الصافي: 3/ 235.

جملة واحدة، والوجه الذي أقوله منسجماً مع ما نحن فيه، وملخّصه أن أفراد العشرة لإظهار الاعتناء بها والالتفات إلى فضلها الخاص.ومنها صوم الأيام التسعة الأولى ويكره صوم يوم عرفة لمن يضعفه الصوم عن الدعاء أو إذا كان خلاف في أول الشهر خشية أن يكون عيداً ففي رواية الشيخ الصدوق عن الإمام موسى بن جعفر أن من صام التسع كتب الله عز وجل له صوم الدهر(1).

ومن لم يتيسر له صومها كلها لضعف أو انشغال أو تقديم الأهم فليصم أول يوم فإنه يعدل صوم ستين أو ثمانين شهراً. ويصوم اليوم الثامن المسمى بيوم التروية فقد ورد فيه أن صومه كفارة سنة.

ومنها الأدعية والأذكار الموجودة في كتب السنن والمستحبات وقد ذكر بإزاء كل منها ثواب عظيم.

وينبغي مضاعفة الهمة أكثر ليلة عرفة ويومها وليلة العيد ويومه وتوجد أدعية ذات مضامين عالية في هذه الأوقات المباركة الشريفة، كما ينبغي عدم تفويت زيارة الإمام الحسين (علیه السلام) المخصوصة في يوم عرفة ويوم العيد ولو من بعد لمن لم يتيسر له التشرف بلثم تربته المباركة.

وكذا ينبغي إحياء شعائر أهل البيت (علیهم السلام) ومنها ذكرى استشهاد الإمام الباقر (علیه السلام) في السابع من ذي الحجة.

إن من أعظم نعم الله تعالى على الإنسان توفير هذه الفرص الخاصة للألطاف الإلهية ليسرِّع الله تبارك وتعالى لعباده التكامل والرقي ويطوي لهم

ص: 213


1- وسائل الشيعة، أبواب الصوم المندوب، باب 18 وكذا ما بعدها من الروايات.

المسافات المعنوية نحو الكمال، لذا فإن من الذكر الذي أمرنا به في هذه الأيام المباركة، الالتفات إلى هذه النعم الخاصة والشكر عليها قولاً وفعلاً ولذا ورد في أدعية الأيام العشرة الأولى (اللهم هذه الأيام التي فضلتها على الأيام وشرّفتها وقد بلغتنيها بمنك ورحمتك فأنزل علينا من بركاتك وأوسع علينا فيها من نعمائك) ولتكن طلباتك سامية كالتي ذكرها الدعاء لأن عطاء الله تعالى واسع فيها.وأوّد ألفات نظر الأحبّة إلى انه توجد أعمال للشهر القمري كشهر بغضّ النظر عن أعمال أيامه، يستحب المواظبة عليها في كل شهر قمري، وإذا لم يتسنّ الالتزام بها في كل شهر فلا أقل من العمل بها في مثل هذه الأشهر الشريفة حتى لا يكون تاركاً لها، فللملتزم بعمل –كصلاة الليل- منزلة، ولمن لم يكن من تاركي العمل منزلة، فإن لم تكن من أهل الأولى فكن من أهل الثانية.

ومن الأعمال المتعلقة بكل شهر قمري:

1-صلاة أول الشهر وهي ركعتان يقرأ في الأولى الحمد مرة والتوحيد ثلاثين وفي الثانية الحمد مرة وسورة القدر ثلاثين، ثم يتصدق بما يتيسر ليشتري سلامة ذلك الشهر، والسلامة المذكورة مطلقة فلا تختص بالسلامة من الآفات والكوارث والمصائب وإنما تشمل السلامة المعنوية من الذنوب والمعاصي والتقصيرات والانشغال عن الله تبارك وتعالى.

وإنما يُذكر الثواب بإزاء العمل لتحفيز البعض من المؤمنين وإلا فإن مجرد كون العمل محبوباً عند الله تعالى ومطلوباً عنده كافٍ للمبادرة إلى فعله.

ص: 214

2-صوم ثلاثة أيام من الشهر والأفضل أن تكون أول خميس وآخر خميس والأربعاء في العشرة الوسطى وهذه سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) التي علّمها أمير المؤمنين (علیه السلام) وواظب عليها حتى وفاته (صلى الله عليه وآله).

3-ختم القرآن مرة واحدة كما ورد في الكافي عن الإمام الصادق (علیه السلام) وإن لم يتيسّر في سائر الشهور ففي شهرين مرة.

إن هذه الأيام الشريفة محل للحديث النبوي الشريف (إن لربكم في أيام دهركم نفحات، إلا فتعرضّوا لها، ولا تعرضوا عنها) والعياذ بالله، والتعرض لها إنما يكون بالتعرض لأسبابها، والإعراض عنها إنما يكون بالأعراض عن أسبابها، فإن الفرص تمرّ مرَّ السحاب والعاقل من اغتنم الفرصة قبل أن يندم لفواتها ولا ينفع الندم. والله ولي التوفيق.

ص: 215

خطاب المرحلة 308 :في تأبين الداعية الإسلامي الدكتور جابر العطا

خطاب المرحلة 308 :في تأبين الداعية الإسلامي الدكتور جابر العطا(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

[مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً] (الأحزاب:23)

(الدكتور جابر العطا) اسم لامع في الحركة الإسلامية في العراق على مدى العقود الستة الماضية، فمنذ خمسينيات القرن الماضي عندما تخرّج في كلية الطب وعُيّن في مدينة البصرة جعل من تلك المدينة الخصبة الطيبة الموالية ساحة للعمل الإسلامي المبارك وشارك مع ثلة من المثقفين الرساليين في تفعيل الدعوة إلى الله تبارك وتعالى ونشر تعاليم أهل البيت (علیهم السلام)، وقد أخبرني (رحمه الله) أنّه من شجّع الشهيد الشيخ عارف البصري يومئذ على الالتحاق بالحوزة العلمية في النجف فأغنى الحركة الإسلامية بذلك البطل الشهيد.

ثم انتقل إلى محافظة ديالى ومارس مهنته كطبيب واستمر في نشاطه وإحياء الاحتفالات الدينية الواعية التي كانت ساحة للمواجهة مع التيارات الفكرية الضالّة والأيديولوجيات المنحرفة، وكانت أوّل معرفتي به من خلال ما

ص: 216


1- د. جابر العطا ولد عام 1930 وتخرج في كلية الطب في جامعة بغداد عام 1956 وعُيّن في البصرة وكان من المؤسسين لحزب الدعوة الإسلامية فيها ومن قادتها الأوائل. اعتُقل عام 1986 وأُفرج عنه عام 1991م، وقد حُرر البيان يوم وفاته (رحمه الله) في 5/ 11/ 2011.

تنشره مجلة الإيمان النجفية التي كان يُصدرها والدي (رحمه الله) في الستينيات، وكان اسم الدكتور العطا يطالعني فيها كمشارك فاعل في ما يلقى في تلك الاحتفالات، وكانت له مسؤوليات قيادية في تنظيم العمل الإسلامي في المحافظات.ولما اشتدّ بطش النظام الصدامي بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م كان الدكتور العطا هدفاً لجلاوزة النظام فاعتُقل هو وولده أخونا الحاج محمد وابنته وقضوا سنين من التعذيب والسجن حتى أُفرج عنهم تباعاً في العفو العام عام 1986م وما بعده واتخذوا سكناً في منطقة الكرادة الشرقية ببغداد ومن ذلك التاريخ تعرفنا على المرحوم الدكتور وأسرته بشكل مباشر لأنّ أخي المرحوم الشيخ علي كان معتقلاً معهم في سجن أبي غريب لعدة سنوات.

وبقيت الأسرة تحت المراقبة وأحياناً الاحتجاز كلما يحس النظام بالخطر والتهديد.

وعندما بدأ السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) حركته المباركة بعد انتفاضة 1991م كان الدكتور العطا وأولاده من المناصرين المتحمسين لها والمشاركين في فعالياتها، وكان الدكتور العطا يعقد الآمال على إحياء المشروع الإسلامي على يد السيد الشهيد (قدس سره).

وبعد استشهاد السيد الصدر (قدس سره) عام 1999م استمر الدكتور المرحوم وأولاده في مؤازرته لنا ونشر كراريسنا واستفتاءاتنا وتوجيهاتنا الاجتماعية والأخلاقية قناعة منه (رحمه الله) بضرورة مواصلة الحركة الإسلامية والمحافظة على

ص: 217

مكاسبها التي تحققت على يد السيد الشهيد ومراعاة التنوّع في آليات العمل.وعندما سقط النظام المقبور عام 2003م استجد عنده الأمل بأن يأخذ المشروع الإسلامي مداه وتُحقق دماء الشهداء ثمارها وفرح كثيراً بحضوري في بغداد في الأيام الأولى من السقوط وإقامة صلاة الجمعة المباركة في الكاظمية وإعلان برنامج العمل للمرحلة المقبلة ومنها العمل السياسي فحضر صلاة الجمعة واستضافني في داره.

وطيلة السنوات الأخيرة فقد استمر في عمله الرسالي وكان مهتماً بنشر الكتب وإقامة دورات لتعليم القرآن والفقه ومساعدة المحتاجين وقضاء حوائجهم.

لقد مضى المرحوم الدكتور نقياً طيباً ثقيل الميزان بما أدّى من أعمالٍ صالحة وبما لاقى من أذى في سبيل الله صابراً محتسباً، فلله درُّه وعلى الله أجرُه وألحقه الله تعالى بأوليائه المعصومين ع.

نعزّي ولده الكبير الحاج المهندس محمد العطا وبقية أسرته وكلّ العاملين الرساليين، ونسأل الله تعالى أن يعظّم لهم الأجر ويلهمهم الصبر ويجعلهم خلفاً صالحاً لسلفٍ صالح.

محمد اليعقوبي – النجف الأشرف

8 ذي الحجة 1432ه- - 5/ 11/ 2011 م

ص: 218

خطاب المرحلة 309 :سعة كرم الله تعالى

خطاب المرحلة 309 :سعة كرم الله تعالى(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

تذكر الروايات الشريفة ثواباً جزيلاً يُعطى لمن قام بطاعة ما كصلاة معينة أو زيارة المعصومين (علیهم السلام) أو صوم أيام معيّنة، كاعتبار صوم اليوم يعادل صوم الدهر أو كفارة ستين سنة ونحوها، وهذا يشكّل حافزاً للمؤمنين لكي يندفعوا للقيام بهذا العمل المستحب غير الواجب، وهذا تحرك مرضي لله تعالى ولرسوله (صلی الله علیه و آله) ما دام قد رضيه الله ورسوله ودعا إليه المعصومون (علیهم السلام)، وإن كانت النية الأكمل أن يقوم العبد بالفعل لأن الله تعالى يحبّه ويريده ولأن المعصومين (علیهم السلام) دعوا إليه بغضّ النظر عمّا رصد له من ثواب.

وعلى أي حال فإن سؤالاً هنا يجري تداوله قد يصل إلى مستوى الإشكال بأنه هل يُعقل إعطاء مثل هذا الثواب العظيم لعمل بسيط بالنسبة لذلك الثواب، ويدفع هذا الإشكال البعض إلى التشكيك في صحة هذه الروايات.

وهذا الإشكال مردود لأن العمل إذا حظي بالقبول والرضا من الله تبارك

ص: 219


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع مئات من طلبة الجامعات والإعداديات أقلتهم ثمان حافلات كبيرة وقضوا ثلاثة أيام تضمنت زيارة أمير المؤمنين والمشاهد المقدسة في النجف والكوفة والزيارة المخصوصة للإمام الحسين (علیه السلام) في يوم عرفة والعيد وفق برنامج عبادي وثقافي، والتقوا بسماحة المرجع يوم عرفة 9/ذ.ح./1432 المصادف 6/ 11/ 2011م.

وتعالى فإنه لا حدود لعطائه ويزكيه وينميه حتى يكون مثل جبل أحد –كما في بعض الروايات- ويضرب الله تعالى لنا مثالاً لذلك قال تعالى [مَثَلُ الذِينَ يُنفِقُونَ أمْوَالَهُم في سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أنبَتَتْ سَبعَ سَنَابِلَ في كُلِّ سُنبُلِةٍ مِئَةُ حَبّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] (البقرة:261).يُحكى أن النبي الكريم يوسف الصديق (ع) لما استتب له ملك مصر كان له مجلس عام للناس يقضي حوائجهم ويرفع عنهم ظلاماتهم، وفي احد الأيام كان هناك شاب متواضع لا يُلتفت إليه وكان الروح الأمين جبرائيل إلى جانب النبي يوسف (علیه السلام) فسأله أتعرف هذا الشاب؟ قال (علیه السلام): ومن يكون؟ قال (علیه السلام) هذا الطفل الصغير الذي شهد ببراءتك عندما راودتك امرأة العزيز واستبقتما الباب وألفيتما العزيز لديها.

فاهتم به يوسف (علیه السلام) وأكرمه وخلع عليه الهدايا، وهنا تبسّم الروح الأمين وقال ليوسف: إن شهادة واحدة بالتنزيه والبراءة لك أوجبت هذا العطاء الكثير فكيف سيكرّم الله تعالى عباده الذين يشهدون له تبارك وتعالى يومياً عدة مرات بالتنزيه والبراءة من الشركاء ويسبّحونه.

أقول: لعلكم تتفقون معي أن يوسف الصديق (ع) مهما أعطى إلى هذا الشاب فإنه قليل بإزاء قيمة الشهادة التي أدلى بها ذلك الشاب عندما كان طفلاً حين أنقذ يوسف (علیه السلام) مادياً من القتل ومعنوياً بتبرئته من الفاحشة والظلم وتنزيه ساحته. هذا ويوسف (علیه السلام) مهما كان ملكه عظيماً فهو مخلوق لا يملك لنفسه شيئاً، فكيف هو عطاء الله تبارك وتعالى الخالق العظيم مالك السماوات والأرض الجواد الكريم لعباده الذين يسبحون بحمده وله يسجدون.

ص: 220

وفي ضوء هذا نعرف فضل النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة المعصومين (علیهم السلام) لأنهم علّمونا ما نعبد الله تعالى به وما نسبحه به ونحمده، يكفي أن صلاة واحدة –وهي صلاة جعفر الطيار فيها ثلاثمائة تسبيحة: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر بالكيفية المعروفة –وأفضل أوقاتها ضحى يوم الجمعة ولا تأخذ وقتاً أزيد من ثلاثة أرباع الساعة بالمعدل فالمفروض أن نشعر بالشكر والامتنان لرسول الله (صلی الله علیه و آله) كلما أدّينا هذه الصلاة لأنه (صلی الله علیه و آله) علمنا إياها وكذا بقية الأعمال.وتصوّروا حينئذٍ أن هذا العطاء لمن أدى الشهادة لله تبارك وتعالى بلسانه أو بقلبه وحركة بدنه، فماذا يكون عطاء الله تبارك وتعالى لمن أدى الشهادة بروحه ودمه وهو الشهيد في سبيل الله تبارك وتعالى وإنّما سُمّي شهيداً، لأنه يشهد على مبادئه ومعتقداته التي آمن بها بدمه وروحه ونفسه التي هي أعز ما عنده (والجود بالنفس أقصى غاية الجود) حينما اكتفى غيره بالشهادة باللسان أو حركات البدن.

وسُمّي شهيداً لأنه يشهد على الأمة ويقيم الحجة عليها بتضحيته بنفسه في سبيل الله تبارك وتعالى، فلا نستغرب ما أعدّ الله تبارك وتعالى من الكرامة والدرجة الرفيعة للشهداء، وأعظم هذا العطاء الذي لا حدود له استحقه سيد الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام) لأن عطاءه كان بلا حدود، وجسّد شهادته لله تبارك وتعالى بنفسه الشريفة وأولاده وإخوته وعشيرته وأصحابه وتعريض نسائه للسبي وهُنَّ ودائع النبوة.

ولعل هذا يفسّر لنا تشريع زيارات مخصوصة للإمام الحسين (علیه السلام) في كل

ص: 221

أيام الله تبارك وتعالى كالأول والنصف من رجب والنصف من شعبان وليلة القدر ويوم عرفة والعيدين لان شهادته (ع) أعظم شهادة على المبادئ الحقّة.ونحن اليوم في واحد من تلك الأيام المباركة وهو يوم عرفة وقد قضيتم زيارة أمير المؤمنين (علیه السلام) في النجف الأشرف وعدداً من الأعمال الصالحة وانتم متوجهون إلى كربلاء المقدسة لزيارة الإمام الحسين (علیه السلام) المخصوصة ليوم عرفة والعيد فاشكروا الله تعالى على هذه النعم العظيمة وأكثروا من الدعاء لإخوانكم المؤمنين فإن الله تعالى تكفّل بالإجابة، ولتكن مطالبكم سامية تليق بكرم الله تعالى وشاملة لخصال الخير في الدنيا والآخرة كما ورد في بعض الأدعية (ربِّ أدخلني في كل خير أدخلت فيه محمداً وآل محمد (صلى الله عليه وعليهم أجمعين) وأخرجني من كل سوء أخرجت منه محمداً وآل محمد (صلى الله عليه وعليهم أجمعين) وما ورد في أدعية رجب (أعطني بمسألتي إياك جميع خير الدنيا وجميع خير الآخرة، واصرف عني بمسألتي إياك جميع شر الدنيا والآخرة فإنه غير منقوص ما أعطيت وزدني من فضلك يا كريم).

ص: 222

خطاب المرحلة 310 :لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ

خطاب المرحلة 310 :لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ(1)

(الفتح : 2)

ورد في دعاء الإمام الحسين (علیه السلام) يوم عرفة: (ثم إني يا إلهي المعترف بذنوبي فاغفرها لي، أنا الذي أخطأت أنا الذي هممت، أنا الذي جهلت..) إلى أن يقول (ع): (إلهي أمرتني فعصيتك ونهيتني فارتكبت نهيك).

ومثل هذا الاعتراف بالذنب بين يدي الله تبارك وتعالى تكرر كثيراً في أدعيتهم ومناجاتهم (سلام الله عليهم) كقول الإمام السجاد (علیه السلام) في دعاء أبي حمزة: (أنا يا رب الذي لم أستحيك في الخلاء ولم أراقبك في الملأ أنا صاحب الدواهي العظمى أنا الذي على سيده اجترا، أنا الذي عصيت جبار السما، أنا الذي أعطيت على معاصي الجليل الرُشى، أنا الذي حين بُشرت بها خرجت إليها أسعى، أنا الذي أمهلتني فما ارعويت وسترت عليَّ فما استحييت وعملت بالمعاصي فتعديت).

وهنا يُثار سؤال أو إشكال من جهة المنافاة ظاهراً بين ما نعتقده من عصمة الأئمة (علیهم السلام) وعدم صدور الذنب والمعصية منهم، وبين الإقرار والاعتراف الوارد في هذه الأدعية والمناجاة.

ويقال في الجواب أحياناً أنهم إنما يتحدثون بلسان الناس الآخرين لأنهم

ص: 223


1- الخطبة الأولى لصلاة عيد الأضحى السعيد لعام 1432 الموافق 7/ 11/ 2011م.

(ع) في مقام التعليم للناس فيلقنونهم ما يقولون عندما يقفون بين يدي الله تبارك وتعالى، كما علّم الله تعالى عباده في سورة الحمد ما يقولون عندما يقفون بين يدي الله تبارك وتعالى في الصلاة وغيرها.وهذا الجواب قد يناسب صدور بعض تلك الأدعية لكنه لا يفسّرها كلها، لأن الإمام (علیه السلام) يعبر فيها فعلاً عن وجدانه وعن مشاعره تجاه الخالق العظيم.

ويروى هذا الجواب عن ابن طاووس، فقد قال الأربلي في كشف الغمة: ((كنت أرى الدعاء الذي كان يقوله أبو الحسن موسى (علیه السلام) في سجدة الشكر وهو (ربِّ عصيتك بلساني ولو شئت وعزّتك لأخرستني، وعصيتك ببصري ولو شئتَ وعزتك لأكمهتني.. وعصيتك بجميع جوارحي التي أنعمتَ بها عليّ لم يكن هذا جزاك مني) فكنت أفكر في معناه وأقول كيف يتنزل على ما تعتقده الشيعة من القول بالعصمة وما اتضح لي ما يدفع التردد الذي يوجبه)).

فاجتمع بالسيد علي بن طاووس (قدس الله روحه) وسأله عن ذلك فقال: ((إن الوزير مؤيد الدين العلقمي رحمه الله سألني عنه فقلت كان يقول هذا ليعلم الناس، ثم إني فكرت بعد ذلك فقلت هذا كان يقوله في سجدته في الليل وليس عنده من يعلّمه)).

((ومات السيد ابن طاووس رحمه الله فهداني الله إلى معناه ووفقني على فحواه فكان الوقوف عليه والعلم به وكشف حجابه بعد السنين المتطاولة والأحوال المحرمة والأدوار المكررة من كرامات الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) ومعجزاته ولتصح نسبه العصمة إليه (ع) وتصدق على آبائه وأبنائه البررة

ص: 224

الكرام وتزول الشبهة التي عرضت من ظاهر هذا الكلام. وتقريره أن الأنبياء والأئمة ع تكون أوقاتهم مشغولة بالله تعالى وقلوبهم مملوءة به وخواطرهم متعلقة بالملأ الأعلى وهم أبداً في المراقبة كما قال (علیه السلام) اعبد الله كأنك تراه فإن لم تره فإنه يراك.

فهم أبداً متوجهون إليه ومقبلون بكلهم عليه فمتى انحطوا عن تلك الرتبة العالية والمنزلة الرفيعة إلى الاشتغال بالمأكل والمشرب والتفرغ إلى النكاح وغيره من المباحات عدوه ذنباً واعتقدوه خطيئة واستغفروا منه.

ألا ترى أن بعض عبيد أبناء الدنيا لو قعد وأكل وشرب ونكح وهو يعلم أنه بمرأى من سيده ومسمع لكان ملوماً عند الناس ومقصراً فيما يجب عليه من خدمة سيده ومالكه فما ظنك بسيد السادات وملك الأملاك. وإلى هذا أشار (ع) أنه ليران على قلبي وأني لأستغفر بالنهار سبعين مرة ولفظه السبعين إنما هي لعد الاستغفار لا إلى الرين وقوله حسنات الأبرار سيئات المقربين))(1).

ثم قال: ((ونزيده إيضاحاً من لفظه ليكون أبلغ من التأويل ويظهر من قوله (علیه السلام): (وعصيتك بفرجي ولو شئت وعزتك لأعقمتني) أعقمتني والعقيم الذي لا يولد له والذي يولد من السفاح لا يكون ولداً فقد بان بهذا أنه كان يعد اشتغاله في وقت ما بما هو ضرورة للأبدان معصية يستغفر الله منها وعلى هذا فقس البواقي وكلما يرد عليك من أمثالها)).

وقد ذكر العلامة المجلسي (قدس سره) هذا الوجه ووجوهاً أخرى لفهم صدور هذه الأقوال منهم (ع)، قال (قدس سره): ((فأما ما يوهم خلاف ذلك –أي عصمتهم

ص: 225


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: 3/ 47-48.

(ع)- من الأخبار والأدعية وهي مؤولة بوجوه:-1- ((أن ترك المستحب وفعل المكروه قد يسمى ذنباً وعصياناً بل ارتكاب بعض المباحات أيضا بالنسبة إلى رفعة شأنهم وجلالتهم ربما عبروا عنه بالذنب لانحطاط ذلك عن سائر أحوالهم كما مرت الإشارة إليه في كلام الأربلي رحمه الله.

2- إنهم بعد انصرافهم عن بعض الطاعات التي أُمروا بها من معاشرة الخلق وتكميلهم وهدايتهم ورجوعهم عنها إلى مقام القرب والوصال ومناجاة ذي لجلال ربما وجدوا أنفسهم لانحطاط تلك الأحوال عن هذه المرتبة العظمى مقصرين، فيتضرعون لذلك وإن كان بأمره تعالى، كما أن أحداً من ملوك الدنيا إذا بعث واحداً من مقربي حضرته إلى خدمة من خدماته التي يحرم بها من مجلس الحضور والوصال فهو بعد رجوعه يبكي ويتضرع وينسب نفسه إلى الجرم والتقصير لحرمانه عن هذا المقام الخطير.

3- إن كمالاتهم وعلومهم وفضائلهم لما كانت من فضله تعالى، ولولا ذلك لأمكن أن يصدر منهم أنواع المعاصي، فإذا نظروا إلى أنفسهم وإلى تلك الحال أقروا بفضل ربهم وعجز نفسهم بهذه العبارات الموهمة لصدور السيئات فمفادها أني أذنبت لولا توفيقك، وأخطأت لولا هدايتك)).

أقول: هذا المعنى ذكره الأئمة (علیهم السلام) في أدعيتهم كما في دعاء الصباح عن أمير المؤمنين (علیه السلام): (إلهي إن لم تبتدئني الرحمة منك بحسن التوفيق، فمن السالك بي إليك في واضح الطريق؟ وإن أسلمتني أناتك لقائد الأمل والمنى فمن المقيل عثراتي من كبوات الهوى؟ وإن خذلني نصرك عند محاربة النفس والشيطان فقد وكلني خذلانك إلى حيث النصب والحرمان).

ص: 226

4- ((إنهم لما كانوا في مقام الترقي في الكمالات والصعود على مدارج الترقيات في كل آن من الآنات في معرفة الرب تعالى وما يتبعها من السعادات فإذا نظروا إلى معرفتهم السابقة وعملهم معها اعترفوا بالتقصير وتابوا منه، ويمكن أن ينزل عليه قول النبي (صلی الله علیه و آله): (وإني لاستغفر الله في كل يوم سبعين مرة))).

أقول: هذا معنى مجرَّب في حياتنا فالعالم أو الباحث الذي ينضجّ علمه ويتعمق ويتسع تدريجياً عندما يراجع ما كتبه وما قدّمه قبل سنين فإنه يخجل منه ويعترف بالتقصير إزاءه وربما يطلب إتلافه وتغييبه مع أنه كان يمثل قدراته في ذلك الوقت وكان مقتنعاً به، إلا أنه لما ترقّى صار يراه موجباً للخجل والاعتذار.

أما كونهم (صلوات الله عليهم أجمعين) في ارتقاء وزيادة حتى بعد وفاتهم فهذا ما نطقت به الروايات لذا ورد الحث على الدعاء لهم بطلب الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود والصلاة عليهم، وورد في ذلك قول الإمام الصادق (علیه السلام): (لولا أنّا نزداد لأنفدنا)(1).

5- إنهم ع لما كانوا في غاية المعرفة لمعبودهم فكل ما أتوا به من الأعمال بغاية جهدهم ثم نظروا إلى قصورها عن أن يليق بجناب ربهم عدوا طاعاتهم من المعاصي واستغفروا منها كما يستغفر المذنب العاصي.

ومن ذاق من كأس المحبة جرعة شائقة لا يأبى عن قبول تلك الوجوه الرائقة، والعارف المحب الكامل إذا نظر إلى غير محبوبه أو توجه إلى غير

ص: 227


1- أصول الكافي: ج1، كتاب الحجة، باب: لو أن الأئمة يزدادون لنفد ما عندهم.

مطلوبه يرى نفسه من أعظم الخاطئين، رزقنا الله الوصول إلى درجات المحبين))(1).وهذا المعنى عرفي أيضاً فإن من حلّ به ضيف عالي الشأن وقدّم له غاية جهده إلا أنه يواصل اعتذاره عن التقصير؛ لأنه يرى أن ما قدّمه وإن كان كل ما يستطيع تقديمه إلا أنه بلحاظ مقام ذلك الضيف يرى كل ما قدّمه موجباً للخجل والاعتذار.

ونضيف وجوهاً أخرى إلى ما ذكره (قدس سره) مع المحافظة على الترتيب.

6- إنهم (ع) يستغفرون من الذنوب التي تحسب عليهم بما اجترح أتباعهم، وهذا معنى أخلاقي جرت عليه السيرة العقلائية، فإن المرجع يتحمل أوزار أتباعه إذا أساؤوا، والأب يعتبر نفسه مسؤولاً عما جناه ابنه، والمدير لمؤسسةٍ ما يعتبر نفسه مسؤولاً عن تقصير أحد موظفيه، أو خيانتهم، فيقدم الاعتذار ويتحمّل التبعة وقد يستقيل من موقعه.

فالمعصومون (علیهم السلام) يستغفرون الله تعالى من التبعات التي لحقتهم بسبب سوء تصرفات أتباعهم بل هم آباء لهذه الأمة بنص الحديث النبوي الشريف: (يا علي أنا وأنت أبوا هذه الأمة)، فما يصدر من الأمة يحسب عليهم.

ووردت في بعض الروايات كما في تفسير القمي بسنده عن عمر بن يزيد قال: (قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) قول الله عز وجل في كتابه [لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ] قال (علیه السلام): ما كان له ذنب ولا همَّ بذنب ولكن الله

ص: 228


1- بحار الأنوار: 25/ 210.

حمّله ذنوب شيعته ثم غفرها له)(1).لذا وردت الوصايا عن المعصومين (علیهم السلام) لشيعتهم: (كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً).

7- إنهم (ع) يعتبرون أنفسهم مذنبين ومقصّرين ما دام يوجد فرد في هذه الدنيا لم يتكامل ولم يحقق العبودية الكاملة في حياته؛ لأن هذا يعني أنهم (ع) لم يحققوا هدفهم ولم تنجح وظيفتهم بشكل كامل وهي بسط التوحيد الخالص في الأرض، فكيف إذا كانت أكثر البشرية ضالة [وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ] (يوسف: 103).

وهذا النقص في تحقيق الغرض وإن كان بسبب خارج عنهم وهو سوء اختيار المتلقي من الناس وعدم استجابتهم لداعي الحق، أي في قابلية القابل وليس في فاعلية الفاعل كما يعبّرون، إلا أنهم (ع) على أي حال يشعرون بالذنب والتقصير وحرقة القلب لعدم اكتمال أهداف رسالتهم، ويطلبون من الله تعالى العفو والصفح.

ولذا وردت تطمينات من الله تبارك وتعالى لنبيه وعفو عن مسؤولية هذه النتائج المؤسفة، وتطييب لقلبه (صلی الله علیه و آله)، قال تعالى: [فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ(2) نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً] (الكهف:6) وقال تعالى: [لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ] (الشعراء:3).

8- في ضوء الحديث المروي عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) قال: (قال رسول

ص: 229


1- تفسير القمي: 2/ 290 وأوردها عنه العلامة المجلسي في البحار: 17/ 89 ح19.
2- باخع: أي قاتل.

الله (صلی الله علیه و آله): لم يُعبد الله عز وجل بشيء أفضل من العقل، ولا يكون المؤمن عاقلاً حتى يجتمع فيه عشر خصال) إلى أن قال (صلی الله علیه و آله): (والعاشرة وما العاشرة: لا يرى أحداً إلا قال: هو خير مني وأتقى، إنما الناس رجلان فرجلٌ هو خير منه وأتقى، وآخر هو شر منه وأدنى، فإذا رأى من هو خير منه وأتقى تواضع له ليلحق به، وإذا لقي الذي هو شرٌّ منه وأدنى قال: عسى خير هذا باطن وشره ظاهر، وعسى أن يختم له بخير، فإذا فعل ذلك فقد علا مجده، وساد أهل زمانه)(1).أقول: عقول المعصومين (علیهم السلام) هي أكمل العقول فهذا التواضع وهذا الشعور بأنه أقل الخلق أمام الله تعالى في أعلى درجاته عندهم (ع)؛ لأنهم لا ينظرون إلى أنفسهم ولا يتّكلون على أعمالهم مهما عظمت وخلصت ولا يأمنون مكر الله تعالى وهم يتلون خطاب الله لجدهم المصطفى (صلی الله علیه و آله) سيد الخلق: [وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ] (الزمر:65) ويقول (صلی الله علیه و آله): (لو عصيت لهويت).

والحكاية المروية عن كليم الله موسى بن عمران (ع): (إن الله سبحانه أوحى إلى موسى (علیه السلام): إذا جئت للمناجاة فاصحب معك من تكون خيراً منه، فجعل موسى لا يعترض (يعرض) أحداً إلا وهو لا يجسر (يجتري) أن يقول: إني خير منه، فنزل عن الناس وشرع في أصناف الحيوانات حتى مر بكلب أجرب فقال: أصحب هذا فجعل في عنقه حبلا ثم جرّ به فلما كان في بعض الطريق شمر الكلب من الحبل وأرسله، فلما جاء إلى مناجاة الرب

ص: 230


1- الخصال للشيخ الصدوق (رضوان الله عليه): 2/ 433 أبواب العشرة، ح17.

سبحانه قال: يا موسى أين ما أمرتك به؟ قال: يا رب لم أجده فقال الله تعالى: وعزتي وجلالي لو أتيتني بأحد لمحوتك من ديوان النبوة)(1).9- إن استغفار المعصومين (علیهم السلام) إنما هو من وجود مقتضيات الذنب والمعصية فيهم وإن كانت عندهم الملكة القدسية الرادعة عن توظيفها إلا في طاعة الله تبارك وتعالى، فتعتبر الشهوة الجنسية شراً بمعنى من المعاني، وكذا الغضب لأنها مناشئ الذنوب، ففي الخصال بسنده عن هشام بن الحكم في تفسير عصمة الإمام قال: ((إن جميع الذنوب لها أربعة أوجه لا خامس لها: الحرص والحسد والغضب والشهوة فهذه منتفية عنه))(2).

فالأئمة يستغفرون من وجود هذه المقتضيات للذنوب عندهم وإن كانوا بلطف الله تبارك وتعالى لا يستعملونها إلا في ما يرضي الله تبارك وتعالى كما في معاني الأخبار بسنده عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (المعصوم وهو الممتنع بالله من جميع محارم الله وقد قال تبارك وتعالى: [وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] (آل عمران:101))(3).

10- إن الله تعالى يقول: [وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا] (إبراهيم:34) فإذا كان الإنسان عاجزاً عن معرفة نعم الله وعدّها فكيف يتسنى له شكرها فهو عن أداء الشكر أعجز وفي ذلك ورد في دعاء للإمام السجاد (علیه السلام): (ونعماؤك كثيرة قصُر فهمي عن إدراكها فضلاً عن استقصائها، فكيف لي بتحصيل الشكر

ص: 231


1- عدة الداعي لابن فهد الحلي: 204
2- الخصال: 1/ 215 أبواب الأربعة، ح36.
3- معاني الأخبار: 132 باب 64، ح2.

وشكري إياك يفتقر إلى شكر، فكلما قلت لك الحمد وجبَ عليَّ لذلك أن أقول لك الحمد)(1).فإذا ضممنا إلى ذلك مقدمة أخرى مأخوذة من وصية الإمام الكاظم (علیه السلام) المشهورة لهشام بن الحكم وفيها (يا هشام إن كل نعمة عجزت عن شكرها بمنزلة سيئة تؤاخذ بها)(2) ينتج وجه جديد لفهم الذنوب وهو العجز عن أداء شكر النعم، ويكون الشعور بالذنب أكبر كلما كانت النعم أكثر، ولذا يشعر الأئمة المعصومون (علیهم السلام) أنهم أكثر الخلق ذنوباً كقوله (علیه السلام): (وما في الورى شخص جنا كجنايتي) لأنهم حُبوا بأعظم النعم فقد أعطاهم الله تعالى منزلة يغبطهم عليها الأولون والآخرون وخلق الكون لأجلهم.

أيها الأحبة:

حينما نذكر هذه الوجوه التي هي صحيحة وقد يناسب بعضها بعض الموارد وبعضها موارد غيرها، فإنما نريد تحصيل عدة أمور:-

1- دفع هذا الإشكال والدفاع عن عقيدتنا في عصمة أهل البيت (صلوات الله عليهم) التي هي ثابتة بأدلة قطعية تفوق الحصر والاستقصاء.

2- أن نتعرف على طبيعة العلاقة مع الله تبارك وتعالى من خلال التأسّي بما كان يقوم به المعصومون (علیهم السلام).

ص: 232


1- مفاتيح الجنان: 198 مناجاة الشاكرين.
2- تحف العقول: 383-402.

3- أن نستشعر المسؤولية تجاه أفعالنا بل أفعال كل من يمكن أن تُحسب تصرفاته علينا، وتزداد سعة التبعة بسعة دائرة المسؤولية، فلا بد أن نكون مراقبين متابعين محاسبين حازمين والله المستعان.

ص: 233

خطاب المرحلة 311 :فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ

اشارة

خطاب المرحلة 311 :فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ(1)

(التوبة : 122)

يشكو النبي (صلی الله علیه و آله) من أمته يوم القيامة لهجرهم كتاب الله تعالى، قال تعالى: [وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً] (الفرقان:30)، وورد مثله في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (علیه السلام): (ثلاثة يشكون إلى الله عز وجل: مسجد خراب لا يصلي فيه أهله، وعالم بين جهال، ومصحف معلّق قد وقع عليه غبارٌ لا يُقرأ فيه)(2)، والهجران الذي يشكو منه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليس فقط من ترك قراءته وتلاوته، بل الأخطر من ذلك هو هجران العمل به، قال الإمام الباقر (علیه السلام) وهو يذكر أنواع قرّاء القرآن: (ورجل قرأ القرآن فحفظ حروفه وضيّع حدوده وأقامه إقامة القدح(3)، فلا كثّر

ص: 234


1- الخطبة الثانية لصلاة عيد الأضحى المبارك سنة 1432.
2- الخصال: 1/ 142 باب الثلاثة، ح163.
3- القِدْح هو السهم، وكان العرب يستقسمون بالأزلام باستعمال القِداح، وقال الطريحي في المجمع (كأنه الذي يستقسم ويلعب به –يعني القرآن في الحديث أعلاه- كما يستقسم بالقداح، والله العالم) ولعل استعمال الإمام (علیه السلام) للتشبيه من باب أن السهم يوضع بالمقلوب في جفير السهام. وربما يكون اللفظ (القَدَح) وهو الإناء الكبير قال الطريحي: (وفي حديث النبي ص (لا تجعلوني كقَدَح الراكب) يعني لا تؤخروني في الذكر، لأن الراكب يعلق قدحه في آخر رحله

الله هؤلاء من حملة القرآن).وليس فقط القرآن ككل يشكو بل تشكو كل آية من آياته التي لم يُعمل بمضمونها، فتشكو آية [قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى] (الشورى:23) من الذين ناصبوا عترة النبي (صلی الله علیه و آله) العداء ولم يعرفوا قدرهم، ناهيك بالذين تتبعوهم تحت كل حجر ومدر قتلاً وسجناً وتعذيباً وتشريداً أو أقصوهم عن مقامهم الذي يستحقونه.

وتشكو آية [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] (المائدة: 67) من الذين انقلبوا على الأعقاب ولم يعملوا بوصية رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الأئمة من بعده.

وتشكو آية [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (البقرة:179) من الذين عطلوا هذا الحكم ولم يوقّعوا(1) على إعدام الإرهابيين القتلة رغم ثبوت الجرائم الفظيعة عليهم بحجة معاهدات حقوق الإنسان ونحوها. وهكذا بقية الآيات الشريفة.

ونحن اليوم بين يدي شكوى آية كريمة وهي قوله تعالى: [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ

ص: 235


1- تعريض بهيئة رئاسة الجمهورية العراقية التي تتلكأ في التوقيع على قرارات الإعدام التي تصدرها المحاكم العراقية في حق عتاة المجرمين القتلة.

يَحْذَرُونَ] (التوبة:122).ففي الآية دعوة لنخب من الأمة لكي ينفروا لطلب العلم والتفقه في الدين ثم التحرك بهذا العلم والفقه إلى سائر الناس ليرشدوهم ويعلموهم ويأخذوا بأيديهم إلى ما فيه صلاحهم، ففي الآية تكليفان الأول لعموم الأمة، والثاني للنخبة الذين التحقوا بمعاهد العلم والحوزوات الدينية ليؤدوا الرسالة التي تحملوها، والتقصير متحقق بكلا الاتجاهين، وسنتحدث هنا عن التكليف الأول وهو حث الأمة على التفقه في الدين؛ لأن الثاني نوجهه إلى الحوزة العلمية.

وإنما قلت للنخب من الأمة لأنه ليس الكل مؤهلين لهذه الوظيفة الإلهية وهذا التشريف المبارك، كالآية الأخرى في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى: [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ] (آل عمران:104) ثم شرحت الرواية صفات هذه الجماعة المكلفة بهذه الوظيفة(1).

إن هذا الحث الإلهي [فَلَوْلاَ نَفَرَ] مصداق لقوله: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ] (الأنفال:24) والتفقه في الدين هو الذي يحيي العقول ويطهر القلوب ويهذب النفوس ويسمو بالروح، فلا يسع الأمة إلا الاستجابة لهذه الدعوة.

وتحدد الآية النسبة المعقولة لعدد النافرين إلى الحوزات العلمية للتفقه في الدين بطائفة من كل فرقة والطائفة في اللغة أقلها ثلاثة، ومعدل الفرقة ثلاثة آلاف، فالنسبة المعقولة هي واحد من كل ألف، وأن لا يقتصر الانضمام إلى

ص: 236


1- راجع وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب2.

الحوزة العلمية على فئة أو شريحة أو مدينة أو أسرة بل المطلوب أن تنفر طائفة من كل فرقة من المسلمين سواء أكانت الفرقة عشيرة أو أهل مدينة أو ريف أو حي سكني ونحوها.وما زالت الأمة بعيدة كل البعد عن تحقيق الاستجابة لهذه الدعوة على صعيد شعبنا في العراق فكيف إذا لاحظنا مسؤوليتها عن حركة الإسلام في العالم كله لأن النجف الأشرف والعراق عاصمة الإسلام ومنطلق الدعوة العالمية لدولة الحق والعدل.

ألسنا جميعاً ندعوا بما علمنا به الإمام المهدي (علیه السلام) في زمان الغيبة أن ندعوا: (اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة) وفيه (وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك) فكيف نكون من طالبي هذه الدولة الكريمة والممهدين لها والدعاة إلى طاعة الله تعالى والقادة إلى سبيله من دون التفقه في الدين وتحصيل العلوم الدينية الشريفة.

وتتحدث الآية عن تكليف موجه للنخب من الأمة ليتفقهوا في الدين وهو غير تكليف عموم الأمة بمعرفة أساسيات دينها، حيث تحفل كتب الحديث بالروايات التي تلزم الناس بالتفقه في الدين، والحد الأدنى منه الذي لا يعذر فيه أحد هو التفقه في العقائد والأحكام الابتلائية كأحكام الطهارة والصلاة والصوم والخمس ونحوها، والأحكام المختصة بالعمل الذي يعمل فيه كالتاجر في تجارته، والمعلم في مدرسته والطبيب في مستشفاه والسياسي عند ممارسة عمله المليء بالمزالق والمرديات وهكذا.

في الكافي بسنده عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (عليكم بالتفقه في دين

ص: 237

الله ولا تكونوا أعراباً فإن من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة، ولم يزكِّ له عملاً).وعنه (علیه السلام) قال: (لوددت أن أصحابي ضُربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا).

وروي أنه (قال له رجل: جُعلتُ فداك رجل عرف هذا الأمر –إمامتهم (ع)- لزم بيته ولم يتعرف إلى أحدٍ من إخوانه، قال: فقال: كيف يتفقه هذا في دينه؟).

وسُئل الإمام الكاظم (علیه السلام) (هل يسع الناس ترك المسألة عما يحتاجون إليه؟ فقال: لا)(1).

وروى الإمام الصادق (علیه السلام) عن جده رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أُفٍّ لرجل لا يُفرِّغ نفسه في كل جمعة لأمر دينه فيتعاهده ويسأل عن دينه)(2).

وعن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: (تذاكر العلم دراسةٌ والدراسة صلاةٌ حسنةٌ).

وورد في لزوم تفقه التاجر في أعمال السوق قول الإمام الصادق (علیه السلام): (من أراد التجارة فليتفقه في دينه ليعلم بذلك ما يحل له مما يحرم عليه، ومن لم يتفقه في دينه ثم اتجر تورط في الشبهات)(3) وبحسب مناسبة الحكم

ص: 238


1- هذه الأحاديث في الكافي: ج1، كتاب فضل العلم، باب 1.
2- هذا الحديث والذي يليه في أصول الكافي، ج1، كتاب فضل العلم، باب سؤال العام وتذاكره، ح5، 9.
3- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، باب 1، ح4.

والموضوع يُعلم أن الوجوب متوجه لكل شخص لكي يتفقه في عمله.فهذا هو النحو من التفقه الذي يشمل بوجوبه كل الناس وله مستويان، عام: أي في المسائل الابتلائية التي يشترك فيها كل الناس كالطهارة والصلاة والصوم والخمس، وخاص: أي بخصوص مسؤولياته كعمله أو إدارة أسرته كالعلاقة مع الوالدين أو الزوجة أو الأبناء وتربيتهم وهكذا.

ومن نعم الله تعالى على أهل هذا الزمان وجود منافذ كثيرة لهذه المعرفة كالمحاضرات الدينية في المساجد وخطب الجمعة والمجالس الحسينية والكتب والنشرات وما تعرضه الفضائيات الدينية من برامج نافعة.

أما النحو الآخر من التفقه وهو الالتحاق بالحوزات العلمية لتحصيل علوم أهل البيت (علیهم السلام) في العقائد والأخلاق وأحكام الشريعة ثم إيصالها إلى عموم الناس لهدايتهم فهو تكليف نخب من الأمة.

وقد ذكرنا أن العدد الذي يريده الله تبارك وتعالى لم يتحقق بعد ولا زالت الحاجة على أشدها لالتحاق النخب المخلصة الواعية المثقفة العارفة بأمور زمانها بالحوزة العلمية، حتى لو قلنا أنه وجوب كفائي كما قيل فإنه لا يسقط حتى يتحقق الواجب وإلا يأثم الجميع وقد اتضح أن العدد لم يتحقق، فهل نفر من المحافظة التي سكانها مليونان ألفان لطلب العلم؟ إذن لا زالت المسافة بعيدة لنخرج من عهدة هذا التكليف.

ولقد اتخذنا هنا عدة خطوات لتوسيع هذه الفرصة أمام الجميع فنشرنا فروع جامعة الصدر الدينية في لمحافظات حتى تجاوزت عشرين فرعاً، فمن لم يتيسر له الإقامة في النجف للدراسة نقلنا حوزة النجف إليه ووفرنا المتطلبات

ص: 239

التي تُيَسِّر الدرس والتحصيل، مع تشجيع المؤهلين لمواصلة الدراسة في النجف الأشرف، كما تتوفر الأقراص المدمجة التي تضم دروس أساتذة متخصصين لجميع مراحل الدراسة ولكل مفرداتها، وهذا أسلوب آخر ميسّر لتحصيل العلوم الدينية والارتقاء فيها.وينبغي الالتفات إلى أن سلوك هذا الطريق لا يتيسر لكل أحد إلا بلطف خاص من الله تعالى، وليس كل أحد يوفق إليه ويوفق فيه، فألحّوا في الدعاء والطلب من الله تعالى وأصلحوا أنفسكم وأخلصوا نياتكم كي يختاركم الله تعالى لحمل هذه الأمانة الإلهية العظيمة، لما ورد من الفضل العظيم والدرجة الرفيعة لحملة العلم، وأنقل لكم رواية واحدة تغنيكم عن الباقي وهي كافية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

ففي رواية صحيحة عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً به، وإنه يستغفر لطالب العلم مَنْ في السماء ومن في الأرض حتى الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورّثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر)(1).

وأنقل لكم رواية في منزلة أحد حملة علوم أهل البيت (علیهم السلام) ورواة أحاديثهم لتكونوا كلكم مثله وفي منزلته ولا يكلفكم ذلك شيئاً كما كلفهم في ذلك الزمان، ففي رواية صحيحة أن الإمام الصادق (علیه السلام) لما بلغه وفاة بكير

ص: 240


1- أصول الكافي: ج1، كتاب فضل العلم، باب ثواب العالم والمتعلم.

بن أعين قال: (أما والله لقد أنزله الله بين رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما) وعن عبيد بن زرارة بن أعين قال: (كنت عند أبي عبد الله (علیه السلام) فذكر بكير بن أعين فقال: رحم الله بكيراً، وقد فعل، فنظرت إليه وكنت يومئذٍ حديث السن، فقال: إني أقول إن شاء الله)(1).إن مسؤوليتنا لا تقف عند حدود تلقّي العلوم المتعارفة في الحوزة العلمية والتي تختص بالأحكام الشرعية وما يرتبط بها، مع أن المطلوب في الآية الشريفة هو التفقه في الدين كل الدين(2) كالعقائد وتفسير القرآن والمعرفة بالله تعالى وتهذيب النفس بالأخلاق الفاضلة وسيرة المعصومين (علیهم السلام) وكل ما يتصل بالدين من علوم ومعارف وما نحتاجه في حركة الإسلام العالمية ونشره وإقناع البشرية به والدفاع عنه ورد الشبهات ومواجهة الفتن والحوار مع الأديان والحضارات والأيديولوجيات الأخرى، وهذا باب واسع ينكشف منه بوضوح الجهل والتقصير اللذان يكتنفان الأمة بكل طبقاتها.

إن أيسر شيء اليوم وأبخس الأشياء ثمناً هو الكتاب ووسائل التثقيف والتعلم والاطلاع، فلا عذر لأي أحد في عدم التفقه في الدين، في حين كان أحدهم في الأزمنة السابقة يدفع حياته ثمناً للحصول على كتاب ديني وكانوا يتبعون مختلف أساليب التمويه والتستر للوصول إلى المعلومة.

إن للمسلمين أن يفخروا بأن دينهم سبق المجتمع البشري بقرون في

ص: 241


1- الروايتان أوردهما الكشي في رجاله ونقلهما السيد الخوئي (قدس سره) في معجم رجال الحديث: 3/ 353.
2- شرحنا معنى مفردة (الفقه) بحسب المصطلح القرآني في كتاب (شكوى القرآن).

الاهتمام بالعلم والعلماء وتفضيلهم ولزوم طلب العلم وإلزام العلماء بتعليم الأمة وإرشادها مما يعرف اليوم بالتعليم الإلزامي ومكافحة الأمية.إن وظائف المرجعية والحوزة العلمية المرتبطة بالمرجعية ليست علمية فقط بل هي مسؤولة عن قيادة الأمة والدفاع عن كيانها وهويتها وتحقيق مصالحها وحل مشاكلها ورفع الحيف والظلم عنها مضافاً إلى الدور العالمي في إعلاء كلمة الله تبارك وتعالى ونشر الإسلام وتعاليم أهل البيت (علیهم السلام) وهذا يتطلب قاعدة واسعة من العاملين الرساليين المخلصين، ولذا قلنا بعدم الاستغناء بوسائل تحصيل العلوم الدينية عن الالتحاق بالحوزات العلمية.

وهذا كله يكشف عن فظاعة التقصير في تطبيق هذه الآية الشريفة ويدعونا إلى يقظة وحركة نحو رفد الحوزات العلمية بالكفاءات المخلصة الواعية ونشر الكتاب الديني وتحبيب مطالعته إلى الناس والله الموفق.

ص: 242

القلق من الدعوات لتشكيل الأقاليم

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد انتابنا القلق إثر دعوة جمع من أعضاء مجلس محافظة صلاح الدين إلى إعلان المحافظة إقليماً، خوفاً على وحدة العراق أرضاً وشعباً، التي سعى الكثير من أعداء العراق وشعبه الأصيل الكريم لتمزيقها وتفتيتها بعناوين متعددة كالطائفية وتشكيل الأقاليم وأمثالها.

وقد حذّرنا من خطورة مشروع تشكيل الأقاليم منذ اللحظات الأولى، أي منذ كتابة الدستور عام 2005 والذي لم نصوّت عليه لما فيه من المواد التي اعترضنا عليها آنذاك واعتبرناها قنابل موقوتة وفخوخاً أُريد لها تفجير الوضع في العراق وإدامة الصراع بين أبنائه ومسخ هويته، لكننا عملنا على تثبيت مادة تعطي الحق للشعب في تشكيل الأقاليم حينما تتوفر الظروف الموضوعية لذلك بحيث تصب في مصلحة الشعب والبلد.

وحينما تحمّست بعض القوى المهيمنة على البرلمان لإقرار قانون تشكيل الأقاليم عام 2008 عارضناها بقوة وأبطلنا حججهم؛ لأننا كنا نعتقد أن سنّ القانون يعطي الضوء الأخضر في تشكيل الأقاليم وهو أمر سابق لأوانه، وكنا دائماً نكرّر أن الحل في منح صلاحيات واسعة على نحو الإدارة اللامركزية للمحافظات لتخطط لنفسها المشاريع التي تقدّر الحكومات المحلية أولويتها والحاجة إليها لأنها أعرف بذلك، وكل ذلك مثبت في بياناتنا وخطاباتنا للمرحلة السابقة.

ص: 243

لكن التخبط وسوء التخطيط وافتقاد الرؤية الصحيحة الدقيقة لدى المتصدين من القيادات وغلبة المصالح الخاصة وعدم الاستماع إلى النصيحة وانعدام روح المواطنة كانت هي السائدة في المرحلة السابقة والتي أفرزت وضعاً مزرياً يصعب إصلاحه كلما امتد الزمن، وبدأ البعض يصحو من غروره وهوسه بالسلطة وجمع الغنائم وبدأ الجميع يتحدثون عن ضرورة تعديل الدستور ومعالجة القنابل الموقوتة فيه ونحو ذلك من الإصلاحات السياسية التي نادينا بها ووجهناها لهم ولجميع الأمة خلال السنوات السابقة.ولا سلوة لنا ونحن ننظر بألم إلى ما آلت إليه الأمور إلا المواقف النبيلة والوطنية المخلصة التي تصدر من عدد من عشائرنا الغيورة وبعض النخب الواعية التي لم يُغرها بريق المطامع ولم تثنها التهديدات وبقيت مصرّة على وحدة العراق واللحمة الوطنية التي تشد أبناءه.

وأخص بالذكر المؤتمر العام لعشائر الجبور الذي عقد اليوم في مدينة القيارة في محافظة نينوى واجتماع شيوخ عشائر الأنبار وعدد من تصريحات السياسيين والمثقفين المدركين لخطورة هذه المشاريع على مستقبل العراق ووحدة أهله.

إننا نقدِّر المعاناة التي حلَّت بالمحافظات وعدم تحقق إنجازات تذكر لإخواننا من أبنائها لكن الحل ليس في ابتعاد العراقيين عن بعضهم وانفراد كل منهم بأموره، ولا بد أن يكون الحل مناسباً للمشكلة، ويمكن أن تُحَلَّ هذه المشاكل بتوسيع صلاحيات الحكومات المحلية وسن القوانين الواضحة التي تضمن ذلك ووجود حوار بنّاء ومشاورات لاتخاذ القرارات بينها وبين

ص: 244

الحكومات المركزية .إن قوة الدولة وعزة شعبها وكرامتها منوطة بوجود نظام سياسي قوي أمين في العاصمة، فأعيذ إخواني في المحافظات التي نادى بعض أبنائها بالأقاليم أن يكونوا ممن يعمل على إضعاف العراق وتفتيت شعبه.

وبدوري فقد سعيت لتقريب وجهات النظر ودعوة كبار المسؤولين في الحكومة المركزية للاستماع إلى إخواننا في تلك المحافظات وتفهّم طلباتهم وزيارتهم للاطلاع عن كثب على معاناتهم وتأكيد الوحدة الوطنية بين الجميع(1)، ورأيت خلال الأيام السابقة حركة محمودة في هذا الاتجاه، نرجو أن تتحقق ثمراتها الإيجابية في القريب العاجل.

نسأل الله تعالى أن ينوّر بصائر الجميع ويهديهم إلى ما فيه صلاح الأمة وسعادة وازدهار هذا البلد الكريم.

محمد اليعقوبي- النجف الأشرف

15/ذي الحجة/1432- 12 / 11 / 2011

ص: 245


1- تحققت العديد من هذه الخطوات العملية واللقاءات والتطمينات وزيادة الصلاحيات، كما انطلقت مظاهرات وتجمعات مناهضة لهذه المشاريع حتى أجهضت جميعاً.

خطاب المرحلة 312 :المرجع اليعقوبي يقلّل من تأثير الانسحاب الأمريكي على حل مشاكل البلاد

اشارة

خطاب المرحلة 312 :المرجع اليعقوبي يقلّل من تأثير الانسحاب الأمريكي على حل مشاكل البلاد(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

أكد المرجع الديني سماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) قلقه من أجواء عدم الثقة والصراع التي تسود الكتل السياسية وانشغالهم بإدارة هذه الصراعات لإزاحة الأخر بدلاً من انشغالهم بإدارة البلد بحكمة وإخلاص ونزاهة ومهنية، لتحقيق الازدهار للعراق والرفاه للشعب.

جاء ذلك في معرض إجابة سماحته على سؤال رئيس بعثة الأمم المتحدة في العراق (مارتن كوبلر) عن تقييمه لقرار سحب القوات الأمريكية من العراق وتداعياته على مجمل الحياة وقال سماحته لدى استقباله له في مكتبه في النجف الأشرف:

إن هذه المشكلة أصل كل معاناة الشعب والتعقيدات التي تكتنف المشهد السياسي، فكلما تجدد الأمل بحلِ مشكلةٍ ما، تستجدُ أخرى أكثر منها خطورة وفي ضوء ذلك قلّل سماحته من تأثير قرار سحب القوات على حل المشكلات التي يعاني منها البلد وعلى تقدّم البلاد وازدهارها ما دام الزعماء السياسيون غير

ص: 246


1- تاريخ اللقاء 24- ذ ح – 1432 الموافق 21 – 11 – 2011.

مكترثين بحلها بل هم الأصل فيها وسبب وقوعها، وهمُّهم الأكبر تحقيق مغانمهم الخاصة.وضرب سماحته مثلاً في دعوة مجلس محافظة صلاح الدين لإقامة إقليم للمحافظة(1)، فانه لم يكن قراراً ناشئاً من قناعةٍ راسخةٍ مدروسةٍ، وإنما جاء كردِ فعلٍ على بعض الإجراءات، فلو استطعنا فك تلك العقد والاحتقانات لتبددّتْ هذه المخاوف.

واستغرب سماحته من دعم البعض للمشاريع المؤدية إلى التقسيم عاجلاً أو آجلاً مع أن العالم يتجه إلى التكتلات وتوحيد الدول كالاتحاد الأوروبي الذي وحّد العملة وألغى سمة الدخول بين دوله.

وفي ضوء هذا التجذّر للمشاكل قلّل سماحته من تأثير قرار سحب القوات الأمريكية على حل المشكلات التي يعاني منها البلد، وعلى تقدّم البلاد وازدهارها.

ووصف سماحته قرار الانسحاب بأنه أمريكي مبني على حسابات سياسية ومالية تتعلق بالداخل الأمريكي وعلى حسابات إستراتيجية اقتضتها التغييرات الجارية في المنطقة وإعادة ترتيب الأوراق فيها.

ولم يجد سماحته فرقاً بين وجود القوات الأمريكية في البصرة أو العمارة وبين انتشارها في الدول المجاورة للعراق خصوصاً مع وجود النفوذ السياسي

ص: 247


1- صوّت ثلثا أعضاء مجلس محافظة صلاح الدين لطلب إعلانها إقليماً ورفعوه إلى الحكومة لاتخاذ الإجراءات، وعقدوا مؤتمراً صحفياً لبيان الأسباب يوم الخميس== ==28/ذ.ق./1432 الموافق 27/ 10/ 2011، وأعقب ذلك عقد اجتماعات ومظاهرات شعبية لدعم المطلب ومعارضته.

والاقتصادي في القرار العراقي.وتمنى سماحته أن لو كان شكل العلاقة بين العراق والقوى المتقدمة على غير النهج الذي سارت عليه في السنوات السابقة، ليستفيد من إمكانياتها المتطورة وتجاربها في بناء بلد مزدهر وهو ينهض من ركام الخراب والدمار الذي خلفه النظام البائد، بدلاً من الحالة التي عشناها طيلة السنوات العجاف التي تركت البلاد نهباً لكل طامع وساحة لكل مجرم قاتل حاقد.

كما أكد سماحته على مقبولية بعثة الأمم المتحدة لدى جميع الجهات، مما يجعلها قادرة على لعب دور العامل المساعد المقرّب بين الأطراف المتنازعة، وتقديم المشورة ومشاريع القوانين التي تُسهِم في إيجاد الحلول. وإن كنّا نعتقد أن العامل المساعد وحده لا يكفي ما لم تتوفر النية الصادقة والجادة لحل المشكلات وهذا ما يتطلب وجود جهة أو حالة ضاغطة تدفعهم إلى الجلوس على طاولة الحل والتقدم.

وقد شكرَ المبعوث الأممي سماحة المرجع اليعقوبي على حسن استقباله وتشخيصه الدقيق لأساس المشاكل وتقديمه جملة من الحلول والمقترحات، وأعرب عن حرصه على زيارة المرجعية الدينية والاستماع إلى توجيهاتها وهو في بداية عمله في العراق.

وعرض مساعدة الأمم المتحدة في معالجة جملة من مشاكل العراقيين كانتشار البطالة بين الشباب (نصف سكان العراق دون سن 19 سنة) والأزمة مع الكويت حيث عرض قيامه بزيارتها قريباً للمساعدة في تقريب وجهات النظر.

كما ناقش الطرفان قضية تعطل مشاريع الاستثمار في العراق، وكيفية اعتماد

ص: 248

العراقيين على أنفسهم، وقرب إتمام سحب القوات الأمريكية من العراق وتداعيات ذلك على الوضع فيه. وطلب سماحة الشيخ تكثيف البعثة الدولية للندوات والدورات التي تقام للشباب كي يتطلعوا لبناء مستقبل متحضر بعيداً عن العقد والاحتقانات، التي خلّفها النظام المقبور وبنى عليه عدد من السياسيين الموجودين الآن، كي يتجدد الأمل بمستقبل أفضل يبنيه هؤلاء الشباب.

ص: 249

المشارطة والمحاسبة في أول السنة وآخرها وإحياء الشعائر الحسينية

المشارطة والمحاسبة في أول السنة وآخرها وإحياء الشعائر الحسينية(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

ذكر علماء الأخلاق ثلاث آليات للوصول إلى الاستقامة والثبات عليها التي ندعو الله تبارك وتعالى بالهداية إليها يومياً في صلواتنا، وهي المشارطة والمراقبة والمحاسبة، فالأولى قبل العمل والثانية أثناء العمل والثالثة بعده.

ولنوضّح الفكرة بتطبيقها على مفردة في حياتنا وهو اليوم والليلة، فعندما يقوم الفرد من نومه صباحاً يشارط نفسه على أن لا يفعل إلا خيراً وطاعة ويجتنب كل ما يسخط الله تبارك وتعالى ويتعهد أمام الله تعالى بأن يبذل ما بوسعه لتحقيق ذلك فهذه هي المشارطة.

ثم يأتي دور المراقبة أثناء الفعاليات اليومية بالالتفات إلى كونها مطابقة للشريعة ولا يغفل عن شيء منها، وهكذا في كل مفردات حياته وبرنامجه اليومي وتكون المراقبة أكمل لو لاحظ حتى المستحبات والمكروهات، فيؤدي الأولى ويجتنب الثانية، والمراقبة المستمرة تضمن هذه المطابقة والموافقة.

وبعد انتهاء اليوم يأتي دور المحاسبة ليراجع نفسه وما قدّمت خلال اليوم،

ص: 250


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من طلبة جامعتي ميسان وواسط يوم 29/ذ.ح/1432 الموافق 26/ 11/ 2011.

فإن وجد عملاً صالحاً شكر الله تعالى وسأله القبول والزيادة، وإن وجد سيئة استغفر الله تعالى وعقد العزم على عدم العودة بالاعتصام بالله تبارك وتعالى.وإذا التزم الإنسان بهذه الآليات الثلاث فإنه سيقلّل الفجوات التي ينفذ منها الشيطان فيوقعه في الخطأ، والمطلوب الالتفات إليها يومياً، ولكن هذه المحطات اليومية تتعرض للغفلة والقصور والتقصير لذا أضيفت إليها محطات أخر.

إذ يظهر من آداب الشريعة إن الأسبوع والشهر والسنة لها أيضاً كيانات وشخصيات غير كيان اليوم، ولكل واحد منها التزاماته وتطبيق الآليات الثلاث عليه لتكثيفها وغلق المزيد من فرص الغفلة وغلبة الهوى والشيطان.

فتوجد مثلاً للأسبوع محطة تجديد ومراجعة وانطلاق للأسبوع المقبل يوم الجمعة وعلى رأسها صلاة الجمعة المباركة، ومنها صلاة ركعتين بالحمد مرة والتوحيد سبعاً لكل منها ثم دعاء من سطر(1) واحد ليوم الجمعة بين الظهر والعصر، وصلاة جعفر الطيار ضحى يوم الجمعة (راجع تفاصيل هذه الأعمال في مفاتيح الجنان/ أعمال يوم الجمعة).

وللشهر مثل ذلك من خلال صلاة أول الشهر بالحمد مرة والتوحيد ثلاثين

ص: 251


1- في مفاتيح الجنان (ص73 أعمال يوم الجمعة): (قال الشيخ في المصباح: روي عن الأئمة (علیهم السلام) أن من صلّى الظهر يوم الجمعة وصلى بعدها ركعتين، يقرأ في الأولى الحمد والتوحيد سبعاً وفي الثانية مثل ذلك وبعد فراغه يقول: (اللهم اجعلني من أهل الجنة التي حشوها البركة وعمّارها الملائكة مع نبيّنا محمد (صلی الله علیه و آله) و أبينا إبراهيم (علیه السلام) لم تضرّه بلية ولم تصبه فتنة إلى الجمعة الأخرى وجمع الله بينه وبين محمد (صلی الله علیه و آله) وبين إبراهيم (علیه السلام).

في الأولى، والحمد مرة والقدر ثلاثين في الثانية. فإذا أتمّها تصدق بما تيسّر فإنه يشتري بذلك سلامة الشهر، وصيام ثلاثة أيام في الشهر؛ الذي يعدل صوم الشهر كله، واستحباب العمرة في كل شهر.وفي ضوء هذا المنهج توجد صلاة (1) في اليوم الأخير من ذي الحجة باعتباره اليوم الأخير من السنة على المشهور يكون بمثابة مراجعة ومحاسبة ووقفة تأمل فيما صدر من العبد خلال العام، ونقطة انطلاق جديدة لعام جديد، فيسأل الله تعالى أن يغفر له ما سلف في عامه المنصرم وأن يعينه على ملأ الصحائف البيضاء للعام الجديد بما يرضي الله تبارك وتعالى، فإن العبد هو الذي يملي على الملكين ما يكتبان في صحيفة أعماله (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) (الحشر/18) ومن ثمرات هذه الصلاة والدعاء بعدها أن السنة تشهد عند الله تعالى أن هذا الرجل قد ختمها بخير.

فالمؤمن في مثل هذا اليوم الأخير من سنة منقضية سيُغلق ملفها ويحفظ إلى

ص: 252


1- في مفاتيح الجنان (أعمال اليوم الأخير من ذي الحجة/ ص325) (ذكر السيد في الإقبال طبقاً لبعض الروايات، أنه يُصلّى فيه ركعتان بفاتحة الكتاب والتوحيد عشراً وآية الكرسي عشراً ثم يُدعى بعد الصلاة بهذا الدعاء. (اللهم ما عملت في هذه السنة من عمل نهيتني عنه ولم ترضه، ونسيُته ولم تنسه، ودعوتني إلى التوبة بعد اجترائي عليك اللهم فإني أستغفرك منه فاغفر لي وما عملت من عملٍ يُقرّبني إليك فاقبله مني ولا تقطع رجائي منك يا كريم). فإذا قلت هذا قال الشيطان: يا ويلي ما تعبت فيه هذه السنة هدّمه أجمع بهذه الكلمات، وشهدت له السنة الماضية انه قد ختمها بخير).

أن يعرض يوم النشور ويشهد بما فيه على صاحبه. وعلى مشارف سنة جديدة لم يسوّد صحائفها شيء، تكون له عينان، عين إلى تلك السنة المنصرمة هي عين المراجعة والمحاسبة فيها ندم على ما صدر منه من ذنوب وتقصيرات وشكر على ما وفق له من طاعات لكنه لا يصل إلى درجة الفرح للقلق من كونه مقبولاً أو لا.وعين راجيه راغبة إلى السنة المقبلة هي عين المشارطة تسأل الله تعالى أن تكون أفضل من سابقتها وثقيلة الميزان بما يرضي الله تبارك وتعالى. والأمر راجع إلى العبد نفسه فهو الذي بيده قلم العمل يملي به صحائف الليالي والأيام بكامل إرادته.

ومن لطف الله تعالى أن سنتنا تفتتح بذكرى الإمام الحسين (علیه السلام) وفي أجواء التضحية والفداء والعشق الإلهي حيث نحر الإمام الحسين (علیه السلام) وأهل بيته وأصحابه في محراب الحب والفناء في الله تبارك وتعالى، وهذه الأجواء لها أثرها الذي لا ينكر في تقريب النفوس إلى الطاعة، حتى الفسقة والعصاة يتركون آثامهم في هذه الأيام ببركة الإمام الحسين (علیه السلام)، فتكون هذه الأيام في مفتتح السنة حافزاً لنجاح المشارطة والتعهد أمام الله تبارك وتعالى بأن لا نفعل في سنتنا إلا خيراً مستمدين العزم وقوة الإرادة والتضحية بشهوات النفس وأهوائها وإدامة ذكر الله تعالى من الإمام الحسين (علیه السلام).

ويندرج في ذلك أن يكون إحياؤنا لشعائر الإمام الحسين (علیه السلام) واعياً ملتفتاً إلى الأهداف الإصلاحية التي تحرك الإمام (علیه السلام) لتحقيقها لأن قيمة الأعمال بمضامينها وتحقيق أغراضها وليس بأشكالها، فهذه الصلاة التي هي

ص: 253

عمود الدين واستشهد الإمام الحسين (علیه السلام) لإقامتها حق إقامتها (أشهد أنك قد أقمت الصلاة) لا تكون لها قيمة إذا خلت من مضمونها الذي ذكرته الآية الشريفة (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) العنكبوت 45 وقد ورد في رواية صحيحة عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال (والله إنه ليأتي على الرجل خمسون سنة وما قبل الله منه صلاة واحدة، فأي شيء أشدُّ من هذا، والله إنكم لتعرفون من جيرانكم وأصحابكم من لو كان يصلي لبعضكم ما قبلها منه لاستخفافه بها، إن الله لا يقبل إلا الحسن، فكيف يقبل ما يستخف به).(1)فلا بد أن نفهم إن المشاركة في الشعائر الحسينية والبكاء على الحسين (علیه السلام) لا يكفي وحده ما لم تجتمع فيه شروط القبول كما قال تعالى (إنما يتقبل الله من المتقين) المائدة 27 ولن تنال شفاعة الحسين (علیه السلام) وجده وأبيه وأمه وأخيه والأئمة المعصومين من بنيه (صلوات الله عليهم أجمعين) إلا بالتقوى.

ومن علاماتها الاهتمام بالصلاة في أوقاتها وأن يحسن أداءها، ففي رواية صحيحة عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال (لا تتهاون بصلاتك فإن النبي (صلى الله عليه وآله) قال عند موته: ليس مني من استخف بصلاته لا يرد علي الحوض لا والله) وعنه (علیه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لكل شيء وجه ووجه دينكم الصلاة فلا يشيننّ أحدكم وجه دينه).(2)

فما يصوّره بعض الخطباء من أن اللطم على الإمام الحسين (علیه السلام) والبكاء

ص: 254


1- وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب أعداد الفرائض ونوافلها، باب 26 ح2.
2- المصدر السابق، نفس الباب.

عليه ولو جناح بعوضة يدخل الجنة بغير حساب وان ملأ الشخص صحيفة أعماله بالآثام كلام مخالف للقرآن الكريم والروايات الثابتة عن المعصومين (علیهم السلام) وانحراف في الفهم وخداع للعامة، وهذا الطرح خطير على الدين لأنه يشوهه ويمحقه، وخطير على المجتمع لأنه يؤدي إلى التمادي في الانحراف ويعطي مشروعية للعكوف على المعاصي ما داموا قد حصلوا على صك الغفران. فاحذروا أيها الأخوة من هذا الطرح المضلل.

وهنا أسجل استغرابي واستنكاري من حصول بعض حالات الفساد في المجتمع كالذي ينقل عما يجري في المقاهي من أعمال منكرة وتعاطي مخدرات، أو ما يجري في محلات المساج والعلاج الطبيعي من اختلاط منكر ودعوة إلى الرذيلة، أو انتشار الفساد المالي وهدر الأموال العامة التي هي ملك الشعب، أو وجود مافيات وميليشيات القتل والاختطاف والابتزاز والسرقة، كل ذلك يحصل في مدن وسط وجنوب العراق التي فيها أغلبية ساحقة من الموالين لأهل البيت (علیهم السلام)، فإذا كان المشاركون في شعائر الحسين (علیه السلام) ثمانية ملايين أو أكثر بحيث نستطيع أن نقول إن كل شيعي موالي لأهل البيت ع في هذه المدن يشارك بشكل أو بأخر في الشعائر كالمشي إلى مرقده الشريف أو خدمة الزوار أو المشاركة في مواكب العزاء أو المجالس الحسينية، إذن فمن الذي يقوم بتلك الأفعال المنكرة في المجتمع التي ذكرنا نماذج منها، وماذا استفاد هؤلاء من مبادئ الحسين (علیه السلام) وماذا فهموا من حركته المباركة؟ وهل يتوقعون قبول أعمالهم من الله تبارك وتعالى في ضوء الآيات

ص: 255

الكريمة والروايات الشريفة.إن هذا الذي نقوله لا يقلل من أهمية إقامة هذه الشعائر المباركة وفضلها عند الله تبارك وتعالى وعند النبي وآله الكرام (صلى الله عليهم أجمعين) ولا من تأثيرها في هداية الناس إلى ولاية أهل البيت (علیهم السلام)، بل بلغني أن غير المسلمين تأثروا بها من خلال متابعتها على الفضائيات واعتنقوا عقيدة أهل البيت (علیهم السلام) ببركة هذه المسيرة الصامتة التي تتوجه إلى زيارة الأربعين التي لا يمكن تأويلها وتفسيرها بغير المبادئ الإنسانية النبيلة التي انطلقت من أجلها تلك الثورة المباركة ولا يمكن التشكيك فيها أو تزييفها.

إن الحسين (علیه السلام) عندما كان يردد يوم عاشوراء (هل من ناصر) لم يكن يتوقع من أولئك الطغاة الذين طبع الله على قلوبهم هداية ولا صلاحاً وإنما كان يريد لها أن تبقى صرخة مدويّة لجميع الأجيال على مدى الأزمنة والدهور لينصروه في تحقيق أهدافه، ويبقى النداء ما دام الواقع الفاسد والظلم الذي قام الإمام الحسين (علیه السلام) لتغيره وإنشاء البديل الصالح عنه –فلينصره كلٌ بحسبه ومن موقعه وبما يناسبه من عمل.

فقد يُقبل من البعض شكل من أشكال إحياء الشعائر الحسينية ولا يقبل من آخر لأن المطلوب منه غير ذلك فالتفتوا جيداً.

وبما أنكم من طلبة الجامعات فأذكر لكم شكلاً من أشكال النصرة لله ولرسوله وللإمام (علیه السلام)، بأن تنظموا في الأقسام الداخلية أي محل إقامتكم وسكنكم ثلاث محاضرات أسبوعياً على مدى ثلاثة أيام وسط الأسبوع، كل يوم محاضرة بعد صلاة المغرب والعشاء جماعة، إحداها في الفقه والأخرى

ص: 256

في العقائد والثالثة في السيرة والأخلاق والمعارف القرآنية، وقد أبدى فضلاء الحوزة العلمية استعدادهم للقيام بهذه الخدمة إن شاء الله، ولعلكم توفَّقون بعد ذلك لإكمال دراستكم الدينية في أروقة الحوزة العلمية الشريفة.واعلموا أنكم بذلك تقتربون من معرفة الإمام الحسين (علیه السلام) لينطبق عليكم ما ورد في زيارته (ع) (عارفاً بحقه) وفقنا الله تعالى وإياكم لأن نكون من أنصار الإمام الحسين (علیه السلام) وممن يدخل السرور على قلبه الشريف بالسعي لتحقيق أهدافه بفضل الله تبارك وتعالى.

ص: 257

خطاب المرحلة 313 :الإمام السجاد (علیه السلام) يدعونا إلى استثمار الوقت

خطاب المرحلة 313 :الإمام السجاد (علیه السلام) يدعونا إلى استثمار الوقت(1)

هذه الأيام أيام الإمام السجاد (علیه السلام) بامتياز لأن فيها ذكرى استشهاده، ولأنها أيام مصائبه وآلامه التي عجزت الجبال الرواسي عن تحملها، ولأنها أيام مكارمه ومآثره ومواقفه العظيمة في الكوفة والشام والمدينة التي شابهت مواقف جديه رسول الله وأمير المؤمنين وأبيه الحسين (صلوات الله عليهم أجمعين).

وبهذه المناسبة نقول: عندما يتناول الخطباء والمتحدثون ذكر الإمام السجاد (علیه السلام) فإنهم يركزون على جانب المأساة في حياته أي قضية كربلاء وما تلاها من أحداث، وهي لعمري صفحة مؤلمة في تأريخ الإنسانية اهتزت لها مشاعر الأعداء قبل الموالين، كما تشهد بذلك جملة من الروايات التأريخية في كربلاء وما بعدها مما اضطر يزيد اللعين أن يتبرأ مما جرى ويرمي بمسؤوليته على ابن زياد.

أي المحاجر لا تبكي عليك دماً *** أبكيتَ والله حتى محجر الحجرِ

فهذا النمط من تناول الأحداث مشكور ومأجور وضروري لإبقاء الوهج

ص: 258


1- كلمة ألقاها سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي على طلبة البحث الخارج يوم الأحد 29 محرم 1433 المصادف 25/ 12/ 2011 وتحدث ببعض أفكارها في لقائه مع وفد كلية الطب في جامعة البصرة وطلبة إعدادية الفجر في ناحية الفجر يوم الجمعة 27/محرم/1433.

والزخم للحادثة ولتوسيع قاعدة المتأثرين بها، واندفاعهم بسبب ذلك إلى الإيمان بمبادئ الإمام الحسين (علیه السلام) ومدرسة أهل البيت (سلام الله عليهم) عموماً، على أن يخلو من الإسفاف الذي لا يليق بالمقام المقدس للأئمة المعصومين (علیهم السلام) كإنشادهم عن حال الإمام السجاد (علیه السلام):ويصيح وا ذلاه أين عشيرتي *** وسراة قومي أين أهل ودادي

في حين أن الله تعالى يقول رداً على المنافقين: [يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ] (المنافقون:8)، ويقول الإمام السجاد (علیه السلام) في بعض أدعية الصحيفة السجادية (فأولياؤه بعزته يعتزون)، وما خرج الإمام الحسين (علیه السلام) إلا لرفض الذلة وتحصيل العزة حتى أصبحت كلمته شعاراً (هيهات منا الذلة) وقال (علیه السلام): (لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ لكم إقرار العبيد).

فإثارة العاطفة أمر محمود ومنتج بشرط تهذيبه وتصحيحه، وهو من جملة الأمور التي يجب تنزيه المنبر الحسيني عنها.

مضافاً إلى أن الاقتصار عليه يحرمنا الكثير مما ينبغي أن نتعلمه ونتزود به لديننا ودنيانا وآخرتنا، فحياة الإمام السجاد (علیه السلام) حافلة بالعطاء في مختلف شؤون الحياة وكان له تأثير فاعل في حياة الأمة جميعاً وليس فقط في شيعته ومواليه، ففي الحادثة المعروفة التي أنشأ فيها الفرزدق قصيدته الميمية المشهورة، حينما انكشف الناس جميعاً عن الحجر الأسود وأصبحوا صفين ومشى الإمام السجاد (علیه السلام) بهدوء وسكينة ووقار ليلثم الحجر الأسود في حين عجز الملك الأموي بكل جبروته وبطشه وعدته العسكرية وجيوشه أن يتقدم

ص: 259

نحو الحجر، وربما لم يكن في ذلك الجمع من الموالين لأهل البيت (علیهم السلام) إلا القليل كما هو المعروف على مرّ السنين، لكن هيبة الإمام السجاد (علیه السلام) فُرضت على الجميع وحبّه ومودته ألقيا في قلوب الجميع فلم يتمالكوا أنفسهم، وهذا شاهد على سعة عطائه وعمق تأثيره في الأمة كلها.هذا ما يجب إظهاره من حياة الإمام السجاد (علیه السلام)، وإن حالة واحدة من حالاته (ع) وهي الدعاء تملأ مجلدات من الشرح والبيان، فضلاً عن حالاته المباركة الأخرى سلام الله عليه.

ولنقف الآن عند فقرة من دعائه (ع) في طلب مكارم الأخلاق المملوء بالمبادئ والأخلاق وبرامج العمل للحياة الإنسانية المثلى التي تجلب السعادة في الدنيا والآخرة، وهي فقرة تعالج مشكلة خطيرة تعاني منها كل المجتمعات حتى المتحضرة فضلاً عن المتخلفة والجاهلة وهي مشكلة الفراغ وتضييع الوقت وملئه بأي شيء بلا تخطيط لجعله منتجاً هادفاً، قال (علیه السلام): (اللهم صلّ على محمد وآله واكفني ما يشغلني الاهتمام به، واستعملني بما تسألني غداً عنه، واستفرغ أيامي فيما خلقتني له).

فالإمام (علیه السلام) يبين أهمية الوقت ويدلنا على ما يجب أن نملأ أوقاتنا به، وهو ما يحقق الغرض الذي خلقنا لأجله [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات: 56) بالمعنى الواسع للعبادة الذي لا يقتصر على العبادات المعروفة، بل ليجعلوا محور حياتهم في كل حركاتهم وسكناتهم ما يرضي الله تبارك وتعالى ويقرّبهم إليه ويسمو بهم، وهي رسالة الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم) جميعاً [وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ

ص: 260

إِلَ-هٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ] (هود: 61) هذه رسالتهم باختصار التي بلغوها لأقوامهم، توحيد الله تعالى الذي طلب منكم إعمار الحياة وفق المنهج الإلهي لأن فيه سعادتكم وفوزكم وفلاحكم.هذا ما يجب أن نكرّس له أوقاتنا في حياتنا كلها.

من دعاء أمير المؤمنين (علیه السلام) المعروف بدعاء كميل (يا ربّ أسألك بحقك وقدسك وأعظم صفاتك وأسمائك أن تجعل أوقاتي من الليل والنهار بذكرك معمورة وبخدمتك موصولة) وفي دعاء الإمام السجاد (علیه السلام) يوم الثلاثاء (واجعل الحياة زيادة لي في كل خير والوفاة راحة لي من كل شر) وفي دعائه (ع) ليوم السبت (وتوفقني لما ينفعني ما أبقيتني).

قال أمير المؤمنين (علیه السلام): (واعلموا أنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها)(1).

إن الجنة التي عرضها السماوات والأرض والتي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ثمنها أن تستثمر هذه اللحظات وهذه الساعات، عن أمير المؤمنين (علیه السلام): (إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما، ويأخذان منك فخذ منهما) ويقول (ع): (إن المغبون من غبن عمره، وإن المغبوط من أنفد عمره في طاعة ربه).

فرأس مال الإنسان في هذه التجارة التي لن تبور: عمره ووقته وإضاعة أي جزء –ولو للحظة- بغير تحصيل الغرض المطلوب خسارة توجب الندامة؛ لأن

ص: 261


1- نهج البلاغة: الكلمة 456.

اللحظة يمكن أن تكون فيها تسبيحة تغرس له بها شجرة في الجنة كما في بعض الأحاديث الشريفة، أو أي حسنة ترجّح كفّة حسناته يوم تنصب الموازين بالقسط.عن أمير المؤمنين (علیه السلام): (احذروا ضياع الأعمار في ما لا يبقى لكم، ففائتها لا يعود).

تجد الكثير من الناس يحزن لضياع مال أو تلفه، أو فوت فرصة فيها ربح وفير، مع أنه يمكن أن يعوضه، وأن فائدته هو ما يرتبط بحياته الزائلة، ولا يكترث لفوت شيء من عمره في غير طاعة الله تبارك وتعالى فيه، عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (بادروا العمل وخافوا بغتة الأجل، فإنه لا يرجى من رجعة العمر ما يرجى من رجعة الرزق) ومن وصايا النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر (رضي الله عنه): (يا أبا ذر كن على عمرك أشحَّ منك على درهمك ودينارك).

هذا إذا لم نفترض أن الكثير من الوقت يقضى في معصية الله تبارك وتعالى فتباً لها من صفقة خاسرة.

أذكر لكم باختصار حكاية لنأخذ منها العبرة رواها أحد الفضلاء الأساتذة عن أبيه وهو أحد مراجع الدين في كربلاء المقدسة عن شخص ثري تعرّض لسجن واضطهاد في بعض البلدان وكانت له أموال وتجارات فهاجر مع أهله إلى كربلاء قبل سبعين عاماً تقريباً وبسبب تلك الضغوط والآلام أصيب بلوثة في عقله فكان إذا أراد أن يسخّن الماء ليصنع قدحاً من الشاي يحرق الدنانير –كان كل دينار يعادل مثقالاً من الذهب يومئذٍ- في الموقد إلى أن ينضج الشاي، ثم يحتسي القدح فرحاً منتشياً ويقول هذا القدح من الشاي قيمته عشرة

ص: 262

آلاف دينار.ربما نسخر من هذا ونستقبح فعله ولا نعلم –وشر البلية ما يضحك- أننا أسوأ حالاً منه؛ لأننا نحرق ساعاتنا وأيامنا وليالينا التي هي رأس المال في التجارة التي لن تبور مع الله تعالى، ويمكن أن نحصل بها على الدرجات العليا في الجنان والنعم العظيمة ومصاحبة النبي وآله الكرام (صلوات الله عليهم أجمعين) نحرقها في ما لا قيمة له، بل أحياناً في ما يسخط الله تبارك وتعالى ويوجب عقابه والعياذ بالله.

وإذا كنا دقيقين أكثر فإن علينا أن نقدّم الأهم على المهم والأعلى رتبة على الأقل رتبة وإن كان كل منهما طاعة، تصوروا لو أن شخصاً مريضاً ويجب عليه تناول دواء معين وعنده ثمنه لكنه لا يفعل ذلك بل صرف الثمن على شراء أكلة يشتهيها وترك نفسه عرضة للأوجاع وتداعيات المرض مع أن الأكل في نفسه مفيد، قال أمير المؤمنين (علیه السلام) (من اشتغل بغير المهم ضيع الأهم) وفي غرر الحكم عن أمير المؤمنين (علیه السلام): (من شغل نفسه بما لا يجب ضيّع من أمره ما يجب)، ومن أمثلتها عندنا نحن –الحوزة العلمية- اشتغال البعض بمطالب علمية ترفية لا دخل لها في وظيفتنا الإلهية.

هذه هي أهمية الوقت، لكننا نشهد أن أتفه شيء عند الإنسان هو الوقت وآخر ما يحرص عليه وقته، بل إنه يقوم بأفعال عبثية ولهوية كثيرة مما يسمى بالهوايات أحياناً كتربية الطيور أو جمع الطوابع أو حل الكلمات المتقاطعة أو بعض الألعاب المسلية ويقول بصراحة ووضوح إنه يفعل ذلك لقتل الوقت أو حرق الوقت وفي الحقيقة فإنه إنما يقتل نفسه ومستقبله الحقيقي وما يقوم به

ص: 263

أسوأ من هذا الرجل الذي حكينا قصته في حرق الدنانير.ومما يزيد الحالة سوءاً أن البعض لا يكتفي بتضييع وقته وهدر عمره، بل يقوم بتضييع أوقات الآخرين بالأحاديث الفارغة والأعمال العبثية ويدفع الآخرين ليكونوا مثله.

أيها الأحبة:

إننا إذن أمام مسؤولية كبيرة وهي إدراك أهمية عمرنا وما يجب أن نستثمره فيه لنحصل على أرقى الدرجات وهذه حقيقة تكشف لنا واقعنا المؤلم لأن العمر يجري مع كل نفس ولا ينتظرنا، ويمر بسرعة قال تعالى: [وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ] (الروم: 55) وقال تعالى: [كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا] (النازعات: 46) وفي قصص الأنبياء أن النبي نوح (ع) وهو الأطول عمراً شبّه عمره الطويل بانتقالته لحظة من الشمس إلى الظل.

وهذا ما يعلمنا إياه الإمام السجاد (علیه السلام) في فقرة من دعاء مكارم الأخلاق فيدعونا إلى أن نصرف أوقاتنا بما نحن مسؤولون عنه يوم القيامة [وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ] (الصافات: 24) وأن نستفرغ أيامنا بالسير في الاتجاه الصحيح نحو الهدف.

ويعلمنا (ع) كيف يمكننا تحقيق ذلك مع كثرة الخطوط والمسارات وتعدد الخيارات وتداخل الاتجاهات والرؤى والبرامج فيقول (ع): (واكفني ما يشغلني الاهتمام به) فالطريق أن تصفي ذهنك وبرامج حياتك من كل شيء زائد عما يشغلك الاهتمام به عن السير نحو الغاية، وإلا سيضيع وسط هذه

ص: 264

الفوضى ولا يصل إلى النتيجة المطلوبة، وفي غرر الحكم لأمير المؤمنين (علیه السلام) (اشتغال النفس بما لا يصحبها بعد الموت من أكبر الوهن).لاحظوا الفرق بين ما نحن عليه، وما يريد الله تبارك وتعالى منّا، إننا نضيّع رأس مالنا بما يضرّ ولا ينفع، والله تعالى يريد لنا أن لا نقف عند حدود استثمار أعمارنا بل يدعونا إلى أن نكون مباركين معطائين حتى بعد وفاتنا فنحصل على عمر مديد من العطاء أو قل لنحصل على رأس مال إضافي كالشيخ الطوسي (قدس سره) الذي مر على وفاته ألف عام تقريباً وهو يزداد تألقاً وعطاءً، وكالشيخ الحر العاملي الذي مرّت على وفاته قرون ولا يستطيع فقيه أو عالم الاستغناء عن كتابه وسائل الشيعة، وهذا ما دعانا إليه الحديث النبوي الشريف (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له).

وفي الحديث الشريف المشهور (من سنّ سنّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة) ومن هذا الباب تفضل الله تعالى بكتابة الحسنة لمن نواها ولم يوفَّق لفعلها، وكذلك ما ورد من أن من أحبّ عمل قومٍ أُشرك في أجورهم وحشر معهم.

كل ذلك من أجل مضاعفة الربح لهذه التجارة النفيسة مع الله تبارك وتعالى لمن استثمر عمره ووقته. فالمطلوب من المؤمن الملتفت أن لا يكتفي باستثمار عمره فقط، وإنما يضيف لنفسه عمراً ثانياً لاكتساب الحسنات من خلال ما يؤسس من مشاريع الخير والطاعة والعبادة، أو كتاب يؤلفه، أو مسجد يبنيه، أو أولاد صالحين يعقبهم، وهكذا.

ص: 265

خطاب المرحلة 314 :الاحتفال في رأس السنة لمن استثمر وقته خلالها

خطاب المرحلة 314 :الاحتفال في رأس السنة لمن استثمر وقته خلالها(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

من كلمات الإمام الحسن السبط المجتبى (ع) وقد مرّ في يوم فطر بقومٍ يلعبون ويضحكون، فوقف على رؤوسهم فقال: (إنّ الله جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه فيستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته فسبق قوم ففازوا وقصّر آخرون فخابوا، فالعجب كل العجب من ضاحك لاعبٍ في اليوم الذي يُثابُ فيه المحسنون ويخسرُ فيه المبطلون، وأيم الله لو كشف الغطاء لعلموا أنّ المحسن مشغولٌ بإحسانه والمسيء مشغولٌ بإساءته) ثمّ مضى (ع).

علينا أن نستحضر هذه الموعظة في كل لحظات حياتنا، لأنّها كلّها مضمار للتنافس واستباق الخيرات لنيل أفضل الدرجات عند الله تعالى، وها نحن اليوم في نهاية سنة ميلادية 2011 –وفق حساباتهم- وعلى أبواب سنة جديدة 2012 بإذن الله تعالى.

وقد كانت السنة المنقضية مضماراً تسابق فيه الخلق فالعجب كل العجب مما يشهده العالم من شرقه إلى غربه من احتفالات صاخبة بمناسبة يسمونها

ص: 266


1- من حديث سماحة الشيخ (دام ظله) مع طلبة جامعة الصدر الدينية فرع الكرخ الثانية في بغداد/ حي المعارف يوم الثلاثاء 2/صفر/1433 الموافق 27/ 12/ 2011 ومع فرع كربلاء وحشد من أبنائها يوم الأحد 7/صفر/1433 الموافق 1/1/ 2012.

رأس السنة الميلادية، وتهدر فيها المليارات من الدولارات، وتُعطّل فيها الأعمال عدة أيام في بعض الدول، وهذه خسائر إضافية، وتعرض الفعاليات المنوّعة كالألعاب النارية والرقص والغناء والحفلات الماجنة، ويشارك فيها المسلمون أيضاً من دون مراعاة لأخلاقهم وتعاليم دينهم ووصايا أئمتهم، وفي مثل هذه السنة 2012 سيكون أولها يوم استشهاد الإمام الحسن السبط المجتبى (ع).وقد توسّع الاحتفال ليشمل كل شخص بعيد ميلاده السنوي.

وبغضّ النظر عن الأخطاء المتعددة في التاريخ الميلادي الذي بيّناه في بعض محاضراتنا السابقة(1) من حيث السنة والشهر واليوم، فإننا نريد أن نتساءل عن معنى هذا الاحتفالات والفرح والسرور، وهل لها واقعية أم لا؟

إذ إننا نجد أن الأحرى بهم أن يحزنوا ويندموا ويتأسفوا لأن سنة مرّت عليهم ونقصت من أعمارهم، مما يعني أنهم اقتربوا من آجالهم من دون أن يستعدوا لها، بل عملوا على عكس ما يراد منهم وضيّعوا هذا الرصيد الذي تُشترى به الجنة ورضا الله تبارك وتعالى، واشتروا به سخط الله تعالى والنيران إلا من شملهُ الله تعالى بلطفه ورعايته الخاصة، فكانت الحياة لمثله زيادة له في كل خير كما في أدعية الإمام السجاد (علیه السلام)، ومع ذلك فإنه (علیه السلام) يقف بين يدي ربّه ذليلاً متواضعاً ويقول (ويلي كلما كبر سني كثرت معاصيّ! ويلي كلما طال عمري كثرت ذنوبي).

إن الإنسان عبارة عن رصيد من السنين والأيام يقدرها الله تبارك وتعالى

ص: 267


1- راجع كتاب (نحن والغرب) وخطاب المرحلة: 1/ 370-372.

فكلما انقضى يوم أو مرّت سنة فانه يعني أنه فقد جزءاً منه حتى ينتهي بالموت ويصبح بلا قيمة إلا بمقدار ما قدّم لآخرته، مثل رصيد الهواتف المحمولة الذي يساوي عدداً من الدقائق فكل دقيقة من الاتصال تعني ذهاب جزء منه، قال أمير المؤمنين (علیه السلام) (إنما أنت عدد أيام فكل يوم يمضي عليك يمضي ببعضك فخفّض في الطلب وأجمل في المكسب) وفي غرر الحكم لأمير المؤمنين (علیه السلام) (العمر أنفاس معدودة) وعنه (علیه السلام) (نفس المرء خطاه إلى قبره).وقد تحدثنا في كلمة سابقة عن أهمية الوقت وضرورة إشغاله بما يحقق رضا الله تبارك وتعالى ويقرّبنا منه لأنه هو الثمن الوحيد الذي يستحق صرف العمر فيه.

وقد اهتمّ الشارع المقدس بالوقت وربط به أغلب فعالياته ليكون الإنسان ملتفتاً إليه ومراقباً له حتى لا يضيع منه، فالصلاة التي هي عمود الدين لها أوقات خمسة محددة يومياً تجب مراعاتها وفي ذلك قول الإمام الصادق (علیه السلام) (امتحنوا شيعتنا في أوقات الصلاة) أي ليس المطلوب منه المحافظة على أصل الصلاة فقط بل على أوقاتها الخمسة، وهكذا بقية الطاعات فالصوم مرتبط بشهر رمضان في عدد أيامه وبالفجر والغروب يومياً، والحج مرتبط بأشهر الحج وأيامه، والخمس والزكاة مرتبطان بالحول، وهناك الشعائر الدينية والمناسبات والأدعية والزيارات المرتبطة بالأوقات، حتى جعل لكل يوم من أيام الأسبوع دعاء وكل يوم من أيام الشهر دعاء بل لكل ساعة من ساعات الليل والنهار دعاء، وكانت بعض الأوقات تعرف ببعض الأوراد المقرّرة لها،

ص: 268

كالذي نقل عن بني الحسن (علیه السلام) في سجن المنصور العباسي أنهم كانوا يعرفون أوقات الصلاة بأوراد مرتبة لعلي بن الحسن المثلث حفيد الإمام السبط (ع).وللقيمة الكبرى للوقت فقد وردت الوصايا باغتنامه واستثماره، كما في وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر (رضي الله عنه) (يا أبا ذر: اغتنم خمساً قبل خمس، شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك) وفيها (يا أبا ذر نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ).

قد يتصوّر الإنسان صعوبة الاستمرار على الطاعة وان إدامتها شاقة لا تطاق وهذا نابع من غفلته، ويهوّل الشيطان له هذا الأمر، أما الواقع فهو خلاف ذلك لأنه لا يعيش عمره كله في هذه اللحظة حتى يستحضر كل الصعوبات فيها، بل هو يعيش لحظته وهي مما لا يعسر تحمّل العمل فيها، أما الزمان السابق فقد مرّ وانتهى، والزمان اللاحق لم يأت بعد فلماذا يحمل همَّه، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (علیه السلام) (إن عمرك وقتك الذي أنت فيه) وقال (علیه السلام) (المرء ابن ساعته). وفي الحديث الشريف (العمر ثلاث ساعات، ساعة مضت لست بقادر على إرجاعها، وساعة تأتي لست بضامن لها و ساعة أنت فيها فعليك بها) وفي حديث آخر (الطاعة صبر ساعة).

ولأن الله تعالى يعلم إن الإنسان تعتريه الغفلة والنسيان والكسل مما يضيع عليه كثيراً من رأسماله الثمين وهو عمره ووقته، مضافاً إلى النوم الذي هو ضروري للبدن لكن كثرته مذمومة وهو من أوسع أسباب تضييع العمر فإنه

ص: 269

يستغرق ثلث العمر أو أكثر أي عشرين سنة ممن عمره ستون سنة، لذا ورد عن الإمام الكاظم (علیه السلام) (إن الله يبغض العبد النوّام) وفي غرر الحكم لأمير المؤمنين (علیه السلام) (أربعٌ القليل منها كثير: النار والنوم والمرض والعداوة) وفيها (بئس الغريم النوم يفني قصير العمر ويفوّت كثير الأجر).أقول لأن الله تعالى يعلم ذلك من الإنسان فقد دلّه بكرمه على ما يحوّل هذا النوم إلى وقت مثمر بأن ينام على طهور حتّى ورد في الحديث (إن من نام متطهراً كان فراشه مسجده، ومن مات في نومه على طهور مات شهيداً) خصوصاً إذا سبقه بتلاوة بعض الآيات والأدعية المباركة وان لا يتجاوز المقدار اللازم لتجديد نشاط البدن، وورد في نوم الصائم في شهر رمضان (ونومكم فيه عبادة).

كما ورد التطمين بلطف الله تعالى وكرمه أن من ضيّع جزءاً من عمره بما لا ينفع وقد يضرّ فإن الله تعالى سيكتبه عمراً صالحاً إذا رجع إلى ربّه والتفت وأصلح حاله فيما استقبل من عمره، عن النبي (صلی الله علیه و آله) (من أحسن فيما بقي من عمره لم يؤاخذ بما مضى من ذنبه، ومن أساء فيما بقي من عمره أخذ بالأول والآخر)(1)، قال تعالى [إلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيئَاتِهِم حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (الفرقان:70).

هذا كله مضافاً إلى ما ذكرناه في المحاضرة السابقة من إعطاء عمر جديد فوق العمر الطبيعي يستزيد فيه من الخيرات بعد الموت ولا ينقطع عمله به.

ولأهمية حياة الإنسان وعمره في اكتساب الطاعات وإنه كلما زاد عمره

ص: 270


1- بحار الأنوار: 77/ 113.

كثرت فرص الطاعة عنده وتحقيق السعادة قال النبي (صلی الله علیه و آله): (خير الناس من طال عمره وحسن خلقه) (سنن الترمذي/ 2330) وفي غرر الحكم لأمير المؤمنين (علیه السلام) (من سعادة المرء أن يطول عمره ويرى في أعدائه ما يسرّه)، قدّم لنا الأئمة المعصومون (سلام الله عليهم) الأسباب المادية والمعنوية لإطالة العمر.وأعني بالمادية: ما يحفظ صحة البدن ويجنّبه ما يضرّه ويديم قدرته على القيام بالطاعات، كالتوازن في الطعام والشراب كما وكيفا قال تعالى [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسرِفُوا] (الأعراف:31)، وفي الحديث الشريف (ما ملأ ابن آدم وعاءاً شراً من بطنه) والوصية بالصوم كقوله (علیه السلام) (صوموا تصحوا)، واستحباب صيام ثلاثة أيام في الشهر وهو عين ما توصل إليه العلم الحديث تواً حيث نصحوا بالإمساك عن الطعام يوماً كل عشرة أيام للحفاظ على الصحة، مضافاً إلى الوصايا الكثيرة في تناول أطعمة وأشربة معينة وتجنب غيرها، وكذلك الأمر ببعض الحالات والفعاليات الحياتية وتجنب غيرها مما لسنا بصدده(1).

وأما الوصايا المعنوية فمنها الدعاء بإطالة العمر في خير وعافية وسعة رزق وسلامة في الحواس، وأن يكون كل ذلك مكرساً لطاعة الله تعالى وطلب رضاه (اجعل قوتي في طاعتك ونشاطي في عبادتك) (سلامة أقوى بها على طاعتك)(2)، ومن الأسباب المعنوية لإطالة العمر ما ذكرته الأحاديث الشريفة

ص: 271


1- راجع كتاب (مكارم الأخلاق) للطبرسي وكتاب الأطعمة والأشربة من وسائل الشيعة.
2- من دعائي الأربعاء والخميس في الصحيفة السجادية.

كقول النبي (صلى الله عليه وآله) (أكثر من الوضوء يزيد الله في عمرك)(1) وقوله (صلی الله علیه و آله) (من سرّه أن يُبسَط في رزقه ويُنسأ له في أجله فليصل رحمه)(2) وفي غرر الحكم لأمير المؤمنين (علیه السلام) (من أراد البقاء فليباكر الغذاء وليقل غشيان النساء) وعن الإمام الصادق (علیه السلام) (من حسنت نيته زيد في عمره)(3) وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال (من حسن بره بأهل بيته زيد في عمره)(4).إن الطريق لتحقيق الاستثمار الأمثل للوقت هو في المبادرة إلى العمل وعدم التسويف والتأجيل لأن الفرص تمرّ مرّ السحاب، ومن وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر (إياك والتسويف بعملك، فإنك بيومك ولست بما بعده، فإن يكن غدٌ لك فكن في الغد كما كنت في اليوم، وإن لم يكن غداً لك لم تندم على ما فرّطت في اليوم).

وكذلك في تنظيم الوقت وتوزيعه بدقة على الأولويات بعد تحديدها طبعاً، فتبرمج أولاً أوقات الفرائض اليومية وما يتيسر معها من مقدماتها وتعقيباتها وتلاوة القرآن، ووقت العمل والكسب، ووقت العائلة ومسؤولياتها، ووقت المطالعة وتجديد المعنويات والتأمل والتفكير، ووقت الالتزامات الاجتماعية الأخرى وهكذا.

هذا على صعيد وظائفه الفردية، وهناك وظائف اجتماعية لعلها الأكثر

ص: 272


1- بحار الأنوار: 69/ 396.
2- بحار الأنوار: 74/ 89.
3- بحار الأنوار: 69/ 408.
4- بحار الأنوار: 70م 205.

إيصالاً إلى رضوان الله تبارك وتعالى، كالعمل الإنساني والخدمي وقضاء حوائج الناس وإدخال السرور عليهم وكفالة الأيتام ورعاية المحتاجين والمسنين وإصلاح ذات البين بين الأفراد أو العشائر وغيرها كثير، وقد شجّعنا مراراً على تأسيس منظمات المجتمع المدني لبلورة جهد جماعي يغطّي هذه الفعاليات والنشاطات.وفي وصايا النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر (وعلى العاقل أن لا يكون ظاعناً –أي قاصداً ومتحركاً- إلا في ثلاث: تزوُّدٌ لمعاد، أو مرّمة لمعاش، أو لذة في غير محرّم، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه مقبلاً على شأنه، حافظاً للسانه، ومن حسب كلامه من عمله قلّ كلامه إلا فيما يعنيه) هذا هو الإطار العام لما يجب أن يكون عليه الإنسان في جميع حالاته ليكون في الاتجاه الصحيح بفضل الله تبارك وتعالى.

ويُحسن الاستفادة من تجارب وخطط العلماء الأكاديميين المتخصصين في إدارة الوقت (Tme Ma"axeme"t) وهم وإن كانوا يقصدون بها وقت العمل والكسب والإنتاج إلا أنها في خطوطها العامة يمكن أن تنفع في المجالات الأخرى من حيث كيفية تقسيم الوقت على الأعمال ووضع سقف زمني لإنجاز كل منها وهكذا، وإن كنّا مستغنين عنها لو التزمنا بوصايا أهل البيت (علیهم السلام) وتعليماتهم.

ومن دون تنظيم الوقت ومراقبته يضيع الكثير في الفوضى وعدم التخطيط والارتباك بحيث تفقد القدرة على استثمار الوقت إذا لم تضع برنامجاً، ويتحقق الغبن في العمر الذي تحدّث عنه رسول الله (صلی الله علیه و آله).

ص: 273

في بعض الروايات أن أجزاء عمر الإنسان وأوقاته تعرض عليه يوم القيامة على شكل صناديق فما قضاه في خير سرّه منظره، وما قضاه في سوء أفزعه مرآه، والأكثر يراها فارغة ضاعت عليه ولم يستثمرها، فتشتد حسرته لكثرة ما ضاع منه وكان يكفيه اليسير منها لو شغلها بالطاعة كتسبيحه في ثوانٍ أو الصلاة على النبي وآله أو قراءة سورة قصيرة من القرآن الكريم أو استماع لموعظة أو التحدث بأمرٍ مفيد. والعاقل هو من اتعظ بهذا وهو في الدنيا ليتمكن من التعويض. في غرر الحكم عن أمير المؤمنين (علیه السلام) (لو اعتبرت بما أضعتَ من ماضي عمرك لحفظت ما بقي).

إن لقاءنا هذا وحديثنا هو نمط مثمر لما يمكن أن تكون عليه الاحتفالات أي أننا احتفلنا أيضاً لكن بطريقتنا الخاصة كما يقال.

ص: 274

خطاب المرحلة 315 :إحياء الشعائر الحسينية والتمهيد للظهور الميمون

خطاب المرحلة 315 :إحياء الشعائر الحسينية والتمهيد للظهور الميمون(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

التعاطي مع القضية الحسينية وإحياء شعائرها –على كل الأصعدة كالمنبر الحسيني والمواكب الحسينية والكتابة والتأليف في القضية الحسينية وغيرها- يحتاج باستمرار إلى مراجعة ومراقبة وتمحيص لأمرين على الأقل:

(أولهما) تنقيتها مما يدخل فيها وهو ليس منها سواء على صعيد المفاهيم أو الممارسات إما بحسن نية كطلب الأجر والثواب وإن أخطأوا الطريق أو جهلاً أو حماساً أو انسياقاً وراء من يصنعها من دون تفكير فيها وهذا كله يشوه الصورة الناصعة لقيام الإمام الحسين (علیه السلام) ويؤخر مسيرته في بلوغ أهدافه.

وقد نبّهنا إلى جملة منها، مثلاً على صعيد المفاهيم ما يردده الخطباء من أنّ من بكى أو تباكى على الحسين (علیه السلام) دخل الجنة بغير حساب ويروونها عن الأئمة (علیهم السلام) بقولٍ مطلق حتى لو فعل ما فعل من دون أن يقيدوها بشرطها وشروطها كالالتزام بالصلاة لقوله (صلی الله علیه و آله): (لن تنال شفاعتنا مستخفاً بصلاته)

ص: 275


1- كلمة سماحة الشيخ (دام ظله) في مجلس البحث الخارج يوم الاثنين 8/صفر/1433 الموافق 2/ 1/ 2012 وورد بعضه في حديث سماحته مع حشد من طلبة الكلية التقنية الإدارية في بغداد بحضور بعض زوار الأئمة الطاهرين (علیهم السلام) القادمين من الولايات المتحدة الأمريكية يوم الجمعة 5/صفر/1433 الموافق 30/ 12/ 2011.

وتجنّب ظلم الآخرين، لقول الإمام السجاد (علیه السلام) آخر ما أوصاني به أبي الحسين (علیه السلام) يوم عاشوراء (اتقّي ظلم من لا يجد ناصراً عليك إلاّ الله تبارك وتعالى).وعلى صعيد الممارسة ذكرنا التطبير والمشي حفاة على الجمر وضرب الظهر بسكاكين حادة تقطع لحم الظهر ونحوها، في حين نستطيع تحقيق المواساة بفعاليات هادفة كالتبرع بالدم لضحايا التفجيرات الإرهابية والأطفال المصابين بفقر الدم (الثلاسيميا) مواساة لنزف أبي عبد الله (علیه السلام) دمه لإنقاذ الإنسان وإصلاحه.

وإنشاء مؤسسات رعاية الأرامل والأيتام والمحتاجين لمواساة العقيلة زينب (علیها السلام) والهاشميات وأيتام الشهداء بدل مواساتهم بالمشي على الجمر والنار أو تقطيع لحم الظهر بالسكاكين ونحو ذلك من المشاريع الخيرية التي تكون صدقة جارية للإمام الحسين (علیه السلام).

ونذكر الآن مورداً آخر وهو ما يتداول بأنّ الرياء مذموم إلاّ في ما يتعلق بقضية الحسين (علیه السلام) ونسبوه إلى الرواية.

ولم يقع نظري على مثل هذا الحديث ولو وجد فإنه مخالف لكتاب الله تعالى وسنة نبيّه وكلّ حديث هكذا فقد وصفه الأئمة (علیهم السلام) أنّه (زُخرُفٌ من القول لم نقله).

نعم يمكن أن نفهمه بمعنى إيجابي، وهو أنّ شعائر الإمام الحسين (علیه السلام) باعتبارها أموراً علنيّة ممدوحة ويشار إلى صاحبها بالثناء في المجتمع فتكون عرضة لحصول الرياء بشكل كبير، والنفس أمّارة بالسوء إلا ما رحم ربّي، فهذه

ص: 276

المقولة تدعو إلى الاستمرار بأداء هذه الشعائر وعدم جعل الخوف من حصول الرياء سبباً للانقطاع عنها لكن مع بذل الوسع في مجاهدة النفس لإخلاص النية، وأنّ الله تعالى كتب على نفسه الرحمة، وللكرامة الخاصة للإمام الحسين (علیه السلام) فإنّه تبارك وتعالى يجعل ملائكة خاصة تطلب من الله تعالى أن يُنقّي نيّات المشاركين ويخلصها له تعالى ويبلغ بنياتهم أحسن النيات كما ورد في الدعاء، كما أنّ حشداً من الملائكة يدعون لهم بقضاء الحوائج، وآخرون بالقبول، ويدعو ملائكة آخرون بالمغفرة وآخرون بالخلف عليهم وعلى أهلهم وأموالهم وآخرون بردهم إلى أهلهم سالمين وهكذا.وهذا المعنى ليس ببعيد على سعة رحمة الله تعالى وكرامة الإمام الحسين (علیه السلام) لكنه يتطلب مجاهدة في إخلاص النية قدر الإمكان.

(ثانيهما) تحديثها وتجديدها بما يناسب خلود الثورة الحسينية ودوام دورها في حفظ الإسلام النقي الأصيل ونشره في ربوع الأرض وإقناع كل الأمم به حتى يُظهر الله تعالى دينه على الدين كله بظهور بقيته الأعظم (أرواحنا له الفداء)، ولذا يكون شعاره (يا لثارات جدي الحسين (علیه السلام)).

إن تبني الإمام (علیه السلام) لهذا الشعار ليس مستنداً إلى زخم العاطفة فقط وإنما لأن وسيلته الفاعلة التي ينفذ منها إلى قلوب وعقول كل الناس هي قضية جدّه الحسين (علیه السلام) لذا لابد من عرض القضية الحسينية بالنحو الذي يمهّد لقيام الإمام (علیه السلام) وينصر حركته المباركة.

لاحظوا مثلاً ما تشهده البلاد العربية من ثورات وحركات شعبية سموها (الربيع العربي) وبغضّ النظر عمّا أدّت إليه من نتائج وتداعيات سياسية

ص: 277

واجتماعية وثقافية واقتصادية فلسنا الآن بصدد تقييمها، لكن أبرز نتائجها هو انتصار مبادئ الإمام الحسين (علیه السلام) في من يستحق ولاية أمر الأمة، وفشل النظرية المقابلة لمدرسة أهل البيت (علیهم السلام) التي أسّسوها على مدى ألف وأربعمائة عام وثقّفوا عليها أتباعهم ولفّقوا أحاديث مكذوبة على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأنّه يجب على الأمة أن تطيع الحكّام ولو كان أحدهم فاسقاً فاجراً مستبداً ظالماً منتهكاً لكل الحرمات والمقدّسات كيزيد ابن معاوية وفسّروا بذلك قوله تعالى (وأطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم) وإنّ أولي الأمر هم الحكام وان تسلّطوا قهراً على الأمة بالحديد والنار.لكنّ أتباع تلك المدرسة هم من انتفض عليها اليوم وثار وداس بأقدامه تلك الأطروحات البائسة التي خدّروا بها أتباعهم ونوّموهم، حتى استيقظوا اليوم ورفضوا ما كان يقول لهم المستأكلون بعلمهم الذين يطلبون الدنيا بالدين. وجسّدت هذه الشعوب عملياً انتصار مبادئ الإمام الحسين (علیه السلام) والتي أعلنها بصرخات مدوّية ومنها قوله (علیه السلام) (أيها الناس إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً عهده مخالفاً لسنة رسول الله (صلی الله علیه و آله) يعمل في عبادِ الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعلٍ ولا قول كان حقاً على الله أن يدخلهُ مدخله، ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام الله وحرموا حلاله وأنا أحقُّ ممّن غيّر).(1)

هاتان المسؤوليتان يجب أن نستشعرهما دائماً فنعزّز ونديم ما يحقّق الغرض

ص: 278


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للمقرّم: 218.

المطلوب، كهذه المسيرة المليونية(1) التي هزّت بصمتها الإنسانية كلها فتابعتها بإعجاب وذهول مقترنين بالتساؤل عن صاحب الذكرى وسر عشق هذه الملايين المضحّية المتدافعة له، وتفسير استدامة هذه العاطفة الجيّاشة على مدى القرون الكثيرة، وستوصلهم هذه التساؤلات إلى الإيمان بالله تعالى وبولاية أهل البيت (علیهم السلام)، وفي ذلك تمهيد عظيم لظهور الإمام (علیه السلام)؛ لأن الظهور المبارك لابد أن تسبقه معرفة بالإمام وقضيته وأهدافه وأسباب حركته، أما مع الجهل بكل ذلك فكيف سنتوقع حصول الفتح. وبين أيدينا مثال وهي البعثة النبوية الشريفة حيث كان للإرهاصات والأخبار التي سبقتها مبشرة بقرب زمان النبي الخاتم (صلی الله علیه و آله) دور وحافز في دفع عدد من السابقين إلى الإسلام والإيمان.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا في عداد من نصر الإمام الحسين (علیه السلام) وعرف حقّه والله وليّ التوفيق.

ص: 279


1- يراد بها سير الملايين مشياً على الأقدام من المدن كافة إلى زيارة أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) في الأربعين.

خطاب المرحلة 316 :لا تكتمل السعادة بالعمل الصالح إلاّ بعناصِر ثلاثة

خطاب المرحلة 316 :لا تكتمل السعادة بالعمل الصالح إلاّ بعناصِر ثلاثة(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

يقوم الإنسان بأعمال بدنية شاقة ويتعرض لصعوبات كثيرة ويتحمل أعباء مالية باهظة مما طلبه منه الله تبارك وتعالى ومع ذلك يشعر بالسعادة واللذة، خذ لذلك مثلاً حجاج بيت الله الحرام فإنهم يصرفون أموالاً طائلة ويفارقون الأهل والوطن ويتعرضون لمشاق السفر، ويؤدون أعمالاً شاقة ومع ذلك فإنهم يشعرون باللذة والارتياح وحينما يعودون تكون عيونهم شاخصة إلى بيت الله الحرام يفارقونه بحرقة سائلين الله تعالى العودة إليه.

ولعل أوضح مثال نعيشه هو نهضة الأمة كلها في أيام الزيارة الأربعينية للإمام الحسين (علیه السلام)، فيقطع الكثيرون مسافات بمئات الكيلومترات مشياً على الأقدام في العراء تحت ظروف جوية قاسية بلا اصطحاب أي شيء مما يحتاجه من يقطع مثل هذه المسافات، وآخرون يجنّدون أنفسهم وأهليهم للخدمة ويبذلون ما عندهم من أموال ويواصلون الليل والنهار لتوفير الطعام

ص: 280


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع موكب العسكريين (ع) الذي وصل من البصرة مشياً على الأقدام يوم 16/صفر/1433 الموافق 10/ 1/ 2012 بعد أربعة عشر يوماً متوجهاً إلى زيارة الإمام الحسين (علیه السلام)، ومع جمع من طلبة جامعة ميسان يوم السبت 1/ج1/ 1433 الموافق 24/ 3/ 2012.

والراحة والمعونة للزائرين، ومع ذلك يشعر الجميع بالسعادة والسرور، وإذا انقضت الزيارة يفارقون أيامها بألم وأمل لإدراكها في العام المقبل.وهكذا الأعمال الأخرى كصوم رمضان ودفع الحقوق الشرعية وغيرها.

وهذه السعادة والارتياح والاطمئنان هو الأجر المعجل للعمل الصالح وما عند الله خير وأبقى، قال تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] (الرعد:28)، فإن السعادة الحقيقية إنما تتوفر بالارتباط بالله تبارك وتعالى لا في المتع المادية والتوسع في أمور الدنيا كما يتوهّم الغافلون فيبحثون عنها ولا يجدونها ويبقون يعيشون الحياة الضنكى.

لكن الملاحظ أن هذه السعادة وهذه النتائج الطيبة للعمل الصالح تتفاوت في درجاتها عند الناس كما تتفاوت في استمرار تأثيرها، فقد تنتهي بمجرد انتهاء العمل، وقد تستمر فترة أطول وتزول، وقد تبقى ثابتة، والسر في ذلك هو أن السعادة لا تكتمل بالعمل الصالح وحده بل لابد من تحقق أمرين آخرين:

1- إحسان العمل بأن يأتي به بشروطه وحدوده التي أرادها الله تبارك وتعالى، ولا يخدع نفسه ويتوهم بأنه يقوم بعمل صالح وهو في الحقيقة من الخاسرين، كما لو قام به رياءً أو على غير وجهه الشرعي كالمرأة تذهب إلى الزيارة بدون إذن زوجها أو لا تراعي الحجاب العفيف، وكالشاب يخرج إلى الزيارة وعينه على أعراض الناس أو يكون عاقاً لوالديه، أو شخص يشارك في العمل السياسي والاجتماعي لتحصيل الجاه والسمعة والامتيازات الدنيوية وليس لتحقيق الأهداف الإلهية العليا، أو شخص يتصدّق ويمّن بصدقته ويؤذي الآخر، قال تعالى [لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى] (البقرة:264)، أو يذهب

ص: 281

إلى الحج ويملأ وقته بالغيبة ولغو الحديث والجدال، والله تعالى يقول [فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ] (البقرة:197)، أو ينفق ماله في أعمال البر والإحسان وإقامة الشعائر وهو لم يخرج الحقوق الشرعية الواجبة.فهذه كلها تجعل العمل غير مثمر وغير منتج للسعادة ولا يؤدي إلى نيل رضا الله تبارك وتعالى بل هو فشل ذريع، كإبليس الذي عبد الله تعالى ستة آلاف سنة –كما في الروايات- وكان متميزاً بعبادته على الملائكة إلا أنه فشل في اختبار السجود لآدم لأنه أراد أن يطيع الله تعالى من حيث هو يريد لا من حيث ما يريده الله تبارك وتعالى فكتب عليه الطرد واللعن.

وكأحبار اليهود الذين حملوا علماً جماً إلا إن الله تعالى وصفهم بأنهم كالحمار يحمل أسفاراً إلا أنه لا ينتفع بها لأنهم لم ينتفعوا بعلمهم ولم يستعملوه في الوصول إلى الحق والكمال، فالله تعالى مطلّع على حقائق الأعمال ودوافعها وتفاصيلها ولا يقبل ولا يعطي الأجر إلا لمن أخلص وأحسن عمله [ليَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] (الملك:2) كالذي يجري بيننا نحن البشر، فإن البضاعة إن لم تكن متقنة ومستوفية لكل الشروط والمواصفات فإنها تردّ على صاحبها ويتحمل الخسائر.

2- إدامة العمل بإدامة آثاره والتزاماته وما يقتضيه ذلك العمل من مسؤوليات أخلاقية وشرعية، مثلاً المؤمن المصلي عليه أن يديم أثرها بأن يجتنب الفحشاء والمنكر، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ] (العنكبوت:45).

والصائم يديم أثره بقوة الإرادة في اجتناب المعاصي وكل ما يبعده عن الله

ص: 282

تبارك وتعالى وبمواساة الفقراء والمحرومين وتذكّر معاناتهم، وتذكر أحوال القيامة من جوع وعطش وغيرهما-.والذي يعود من الحج يديم حالة الإخلاص لله تعالى والتجرد عما سواه، ومحورية التوحيد في حياته، ورجم شياطين الجن والإنس.

والذي يعود من زيارة الإمام الحسين (علیه السلام) يديم حالة الإيثار والأخوة والمحبة والسعي الحثيث لإصلاح الأمة ورفض الظلم، والتضحية في سبيل الله تعالى بكل غالٍ ونفيس.

بهذه العناصر الثلاثة تكتمل وتدوم سعادة الإنسان بأعماله الصالحة، وينال الجنة في الدنيا قبل الآخرة، وقد اختصرها الإمام الحسين (علیه السلام) في دعائه يوم عرفة بكلمة واحدة هي التقوى، قال (علیه السلام): اللهم أسعدني بتقواك ولا تشقني بمعصيتك) والتقوى لا تتحقق إلا إذا اجتمعت هذه العناصر.

ولكي نوفّق لهذا كله لابد أن نتفقه ونتعرف على معالم الدين وسيرة أهل البيت (علیهم السلام) لأن العمل يسبقه العلم، فمن جهل شيئاً فإنه لا يفعله، وإذا فعله فإنه لا يحسنه، فاهتموا بطلب العلم ومعرفة ما يسعدكم وما يقرّبكم إلى ربكم إنه ولي التوفيق.

ص: 283

خطاب المرحلة 317 :الإمام الحسن العسكري (علیه السلام) يصون عقيدة الناس من الانحراف

خطاب المرحلة 317 :الإمام الحسن العسكري (علیه السلام) يصون عقيدة الناس من الانحراف(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

رغم قصر مدة الإمامة الفعلية لأبي محمد الإمام الحسن العسكري (علیه السلام) وهي ست سنوات (254-260ه-)، والحصار الصارم والاعتقال الذي فرضه عليه ملوك عصره وتآمرهم المستمر على قتله لقطع نسله، حيث كانوا يعتقدون بأن الإمام المهدي الموعود الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً هو ابنه.

ورغم احتجابه عن الناس إلا نادراً إما بسبب الرقابة الشديدة للسلطة، أو لتهيئة شيعته لقبول غيبة الإمام القادم وتدريبهم على كيفية التعاطي مع الواقع الجديد إلى درجة أن أقربائه لم يكونوا يرونه، روى الكليني بسنده عن محمد بن علي بن إبراهيم بن الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) قال: (ضاق بنا الأمر فقال لي أبي: امضِ بنا حتى نصير إلى هذا الرجل يعني أبا محمد (ع) فإنه قد وصف عنه سماحته، فقلت: تعرفه؟ قال: ما أعرفه ولا رأيته) فهذا من أولاد عمه، وهو لم يعرفه ولم يره.

ورغم ابتلائه بالمشككين من شيعته والمقصرين في معرفة حقه حتى روي

ص: 284


1- كلمة لسماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) في مجلسه العام بمناسبة ذكرى استشهاد الإمام الحسن العسكري (علیه السلام) يوم 8/ع1/ 1433 المصادف 1/ 2/ 2012.

عنه قوله (علیه السلام) (ما مُني أحد من آبائي بمثل ما منيت به من تشكيك هذه العصابة بي).أقول: رغم ذلك كله فقد ترشح عنه الكثير من الأعمال المباركة في حياة الأمة، ونقف الآن عند واحد منها وهو حرصه (ع) على سلامة معتقدات الناس وتحصينهم من الضلالات والشبهات، وتوجد عدة شواهد على ذلك من حياته الشريفة.

(منها) تحركه (ع) لمنع محاولة أبي إسحاق الكندي الذي سُمي بفيلسوف العراق تأليف كتاب في متناقضات القرآن فَعَلَّم أحد أصحابه كيف يتقرب منه وينال ثقته التامة ثم يسأله: هل يمكن أن يكون مراد المتكلم بالقرآن غير المعاني التي فهمتها أنت فيرتفع التناقض الذي ظننته، وفعل الرجل ذلك وأثَّّرت الكلمة في الكندي فمزّق مسودات الكتاب(1) وقد ذكرتُ تفصيل الحادثة وتحليلها في كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية).

(ومنها) ما حصل حينما تزعزعت عقيدة كثيرين وارتد بعضٌ منهم في زمان المعتمد العباسي –الذي قتل الإمام (علیه السلام)- فقد ذكر المؤرخون أن الناس أصابهم قحط شديد، فأمر المعتمد العباسي بالخروج إلى الاستسقاء ثلاثة أيام فخرجوا ولم يغاثوا، وخرج النصارى ومعهم راهب كلما مدَّ يده إلى السماء هطلت، وفعل ذلك مكرراً، فشكّ بعض الجهلة في دينهم، وارتد البعض الآخر، وشقّ ذلك على المعتمد ففزع إلى الإمام أبي محمد (ع)، وكان في سجنه وقال له: أدرك أمة جدك رسول الله (صلی الله علیه و آله) قبل أن يهلكوا، فقال له الإمام

ص: 285


1- بحار الأنوار: 50/ 311 عن مناقب آل أبي طالب عن أبي القاسم الكوفي في كتاب التبديل.

(ع) (يخرجون غداً، وأنا أزيل الشك عنهم إن شاء الله تعالى).وأخرجه المعتمد من السجن، واشترط الإمام أن يطلق سراح أصحابه جميعاً فاستجاب له وأخرجهم، وفي اليوم التالي خرج الناس للاستسقاء، فرفع الراهب يده إلى السماء، فغيّمت ومطرت، فأمر الإمام بتفتيش يده وأخذ ما فيها، وإذا فيها عظم آدمي فأخذه منه وأمره بالاستسقاء فرفع يده إلى السماء فزال ما فيها من غيم، وطلعت الشمس، فعجب الناس من ذلك.

فسأله المعتمد عن سرِّ ذلك، فأجاب الإمام (علیه السلام) (هذا عظم نبيّ ظفر به هذا الراهب من بعض القبور، وما كُشِف عظم نبي تحت السماء إلا هطلت بالمطر).

وتفحّص المعتمد عن ذلك فكان كما أخبر الإمام (علیه السلام) فزالت الشبهات وانتفى الشك(1).

إن هذه الرواية وإن كانت تتضمن منقبة وفضيلة للإمام العسكري (علیه السلام)، إلا أننا لا نكتفي بالسرد المناقبي لأهل بيت العصمة (ع) لأنهم أعلى من أن نكتشف مقاماتهم عند الله تعالى بهذه المناقب، فإذا أردنا أن ندخل السرور على قلب الإمام (علیه السلام) ونقول له إن تضحياته وجهوده أثمرت عن معرفة عميقة بمسؤولياتنا أمام الله تعالى، وبرامج عمل نتقرب بها إلى الله تعالى وتصلح بها الأمة وتحيى بها البلاد. وتمهّد لدولة ولده المهدي (علیه السلام) المباركة، إذا أردنا ذلك فعلينا أن نتأمّل في هذه السيرة المباركة ونقتبس منها ما يوجّه بَوْصَلة حياتنا، وهذا هو الإحياء الواعي لشعائر أهل البيت (علیهم السلام)

ص: 286


1- بحار الأنوار: 50/ 270 عن مناقب آل أبي طالب والخرائج والجرائح.

ومناسباتهم.لقد تضمنت هذه الرواية عدة دروس وعبر ينبغي الالتفات إليها للتأسي بها:

1-ممارسة الإمام وظيفته في حفظ عقائد الإسلام ودفع الشبهات عنه.

2-فضح المضللين والماكرين الذين يضلّون الناس عن دينهم بأساليبهم الشيطانية، سواء من داخل الكيان الإسلامي أو من خارجه، ولا يجامل أحداً حتى لو كان من خواصه، كالذي صدر منه (علیه السلام) في عروة بن يحيى الدهقان الذي كان في أول أمره وكيلاً وثقة للإمام (علیه السلام) لكنه انحرف واختلس أموال الإمام (علیه السلام) فصدر من الإمام (علیه السلام) لعنه وأمر شيعته بلعنه والدعاء عليه.(1)

3-نبل الإمام (علیه السلام) وسمو أخلاقه فلم يرضَ بالإفراج عنه حتى اشترط إخراج جميع أصحابه.

4-حرصه على هيبة الدولة الإسلامية رغم أن من يملك زمامها مجرمون فاسدون قتلوه وقتلوا آباءه الطاهرين وهو في معتقلهم حينما وقعت الحادثة. إلا أنه (علیه السلام) كان ينظر إلى المصلحة الإسلامية العليا و لهذا الحرص شواهد عديدة في حياة أجداده الطاهرين ذكرنا جملة منها في كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية).

5-الاهتمام بقضايا الناس وبذل الوسع لقضائها وإدخال السرور عليهم، وفي ذلك روى ابن شهراشوب في المناقب وكذا ورد في كتاب الخرائج والجرائح عن أبي هاشم الجعفري –من نسل الشهيد جعفر الطيار- انه سمع الإمام العسكري (علیه السلام) يقول (إن في الجنة لباباً يقال له المعروف، لا يدخله

ص: 287


1- معجم رجال الحديث 11/ 150 عن رجال الكشي.

إلا أهل المعروف)، فقال أبو هاشم: فحمدت الله في نفسي وفرحت مما أتكلَّفه من حوائج الناس، فنظر إليّ أبو محمد (ع) وقال (نعم فدُمْ على ما أنت عليه، وان أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة)(1).6-عدم أهلية المتصدين لولاية أمر الأمة وعجزهم عن مواجهة التحديات، وإقرارهم بذلك، بل واعترافهم بأن أصحاب الحق هم أئمة أهل البيت (علیهم السلام)، إلاّ أنهم غصبوهم حقهم بالحديد والنار، وتوجد في هذا المجال اعترافات للمتسلطين من لدن زمان أمير المؤمنين (علیه السلام)، كقول قائلهم (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن).

7-حث الإمام (علیه السلام) الناس على اللجوء إلى الله تبارك وتعالى في جميع أمورهم والتوجه إليه بطلب حوائجهم للدنيا والآخرة مهما كانت ضئيلة أو كبيرة من دون إهمال الأسباب والوسائل الطبيعية التي هيأها الله تعالى للإنسان.

وبهذه المناسبة أقول لكم: قصدني أكثر من شخص خلال الأيام الماضية وشكا من الجدب في هذه السنة وشحّة الأمطار والوضع المزري للزراعة والثروة الحيوانية بسبب ذلك، وطلبوا مني إقامة صلاة الاستسقاء، فقلتُ له ممازحاً: إن أهل المدن لا يريدون المطر لأنفسهم لما يسبب من إرباك للحياة الطبيعية وتعطيل لبعض مصالحهم وتضرّر الطرق فهم لا يتفاعلون مع صلاة الاستسقاء ولا يصدقون في الدعاء؛ لأن همّ أكثر الناس بمصالح أنفسهم ولا يأخذون بهذا الخلق من الإمام الحسن العسكري (علیه السلام)، فلوا أقمتموها عندكم ليتحقق التوجّه والصدق في الدعاء، ولو لم تقيموها فإن الدعاء

ص: 288


1- بحار الأنوار: 50/ 258.

والتوسل بالمعصومين (علیهم السلام) كفيل باستنزال الرحمة الإلهية ولم تمضِ أيام حتى أغاث الله تعالى الناس بالمطر هذه الأيام عشية ذكرى استشهاد الإمام الحسن العسكري (علیه السلام) صاحب حادثة صلاة الاستسقاء التي ذكرناها.هكذا ينبغي أن نقرأ سيرة المعصومين (علیهم السلام) ونستفيد منهم، ونحن نعيش اليوم عصر انتشار الضلالات والأفكار المنحرفة وأنواع الادعاءات الماكرة التي يريد منها أصحابها ركوب رقاب الناس والتسلط عليهم، ويكون الخلاص منها والنجاة من لججها المظلمة بركوب سفن النجاة التي أرشدنا إليها الأئمة (علیهم السلام) وهم مراجع الدين الرساليون العاملون العارفون بزمانهم الذين يفنون أعمارهم لإنقاذ الناس من الجهالة وحيرة الضلالة.

وهذه المسؤولية لا تختص بالعلماء والحوزات العلمية الدينية بل هي مسؤولية الجميع وكل شخص بحسبه وبما يناسب من الآليات المؤثرة، وإذا عجز أحدكم فليلجأ إلى من هو أعلى منه معرفة، ولا يتوقف عن أي جهد يستطيع بذله، ولابد أن يسبق هذا تفقه في الدين ولو بالمقدار الذي ينفعه في إصلاح نفسه ومن يليه ليتمكن من أداء هذا الدور المبارك ويحظى بشفاعة الإمام الحسن العسكري وولده المهدي الموعود (علیه السلام).

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

ص: 289

خطاب المرحلة 318 :كونوا من الكنوز التي يكشف عنها الإمام (علیه السلام)

خطاب المرحلة 318 :كونوا من الكنوز التي يكشف عنها الإمام (علیه السلام)(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

هذه أيام مباركة شهدت بدء الإمامة الفعلية لإمامنا صاحب العصر والزمان (عجل الله فرجه الشريف) وقيامه بالأمر بعد استشهاد أبيه الإمام الحسن العسكري في الثامن من ربيع الأول، وبهذه المناسبة نذكر رواية من أخبار دولته المباركة مفادها انه في عصر الظهور يكشف الفرات عن كنوز ليست من الذهب ولا من الفضة، والفرات كناية عن العراق لأنه النهر الأشهر كما يعبّر عن مصر ببلاد النيل ونحوه.

وقد فسّرتُ الكنوز بالأنصار الصالحين المخلصين للإمام (علیه السلام) لأن لحن سياق الحديث ظاهر في أن المراد بالكنوز شيء معنوي وليس مادياً.

ووجدت في الأخبار ما يؤيد ذلك ففي كتاب البحار (أن عيسى (ع) كان مع بعض الحواريين في بعض سياحته، فمروا على بلد، فلما قربوا منه وجدوا كنزا على الطريق، فقال من معه: ائذن لنا يا روح الله أن نقيم ها هنا ونحوز هذا الكنز لئلا يضيع، فقال (علیه السلام) لهم: أقيموا ها هنا وأنا أدخل البلد ولي فيه كنز أطلبه، فلما دخل البلد و جال فيه رأى دارا خربة فدخلها فوجد

ص: 290


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من الأطباء وفدوا لزيارة سماحته والاستماع إلى توجيهاته من عدة محافظات يوم الجمعة 10/ع1/ 1433 المصادف 3/ 2/ 2012.

فيها عجوزة، فقال لها: أنا ضيفك في هذه الليلة، وهل في هذه الدار أحد غيرك؟ قالت: نعم لي ابن مات أبوه وبقي يتيما في حجري، وهو يذهب إلى الصحارى ويجمع الشوك ويأتي البلد فيبيعها ويأتيني بثمنها نتعيش به، فهيأت لعيسى (ع) بيتا، فلما جاء ولدها قالت له: بعث الله لنا في هذه الليلة ضيفا صالحاً، يسطع من جبينه أنوار الزهد والصلاح، فاغتنم خدمته وصحبته، فدخل الابن على عيسى (ع) وخدمه وأكرمه فلما كان في بعض الليل سأل عيسى (ع) الغلام عن حاله ومعيشته وغيرها، فتفرس (ع)(1) فيه آثار العقل والفطانة والاستعداد للترقي على مدارج الكمال، لكن وجد فيه أن قلبه مشغول بهم عظيم، فقال له: يا غلام أرى قلبك مشغولا بهم لا يبرح فأخبرني به لعله يكون عندي دواء دائك، فلما بالغ عيسى (ع) قال: نعم في قلبي هم وداء لا يقدر على دوائه أحد إلا الله تعالى، فقال: أخبرني به لعل الله يلهمني ما يزيله عنك، فقال الغلام: إني كنت يوما أحمل الشوك إلى البلد فمررت بقصر ابنة الملك فنظرت إلى القصر فوقع نظري عليها فدخل حبها شغاف(2) قلبي وهو يزداد كل يوم ولا أرى لذلك دواء إلا الموت، فقال عيسى (ع): إن كنت تريدها أنا أحتال لك حتى تتزوجها، فجاء الغلام إلى أمه وأخبرها بقوله، فقالت أمه: يا ولدي إني لا أظن هذا الرجل يعد بشيء لا يمكنه الوفاء به، فاسمع له وأطعه في كل ما يقول، فلما أصبحوا قال عيسى (ع) للغلام: اذهب إلى باب

ص: 291


1- الفراسة: التثبت والنظر والتأمل للشيء والبصر به، وتفرس في الشيء: توسّمه. (لسان العرب 10: 221).
2- غلاف القلب. (لسان العرب7: 146).

الملك، فإذا أتى خواص الملك ووزراؤه ليدخلوا عليه قل لهم: أبلغوا الملك عني أني جئته خاطبا كريمته، ثم ائتني وأخبرني بما جرى بينك وبين الملك، فأتى الغلام باب الملك، فلما قال ذلك لخاصة الملك ضحكوا وتعجبوا من قوله و دخلوا على الملك وأخبروه بما قال الغلام مستهزئين به، فاستحضره الملك، فلما دخل على الملك وخطب ابنته قال الملك مستهزئا به: أنا لا أعطيك ابنتي إلا أن تأتيني من اللآلي واليواقيت والجواهر الكبار كذا وكذا، ووصف له ما لا يوجد في خزانة ملك من ملوك الدنيا، فقال الغلام: أنا أذهب وآتيك بجواب هذا الكلام، فرجع إلى عيسى (ع) فأخبره بما جرى، فذهب به عيسى (ع) إلى خربة كانت فيها أحجار ومدر كبار(1)، فدعا الله تعالى فصيرها كلها من جنس ما طلب الملك وأحسن منها، فقال: يا غلام خذ منها ما تريد واذهب به إلى الملك، فلما أتى الملك بها تحير الملك وأهل مجلسه في أمره، وقالوا لا يكفينا هذا، فرجع إلى عيسى (ع) فأخبره، فقال: اذهب إلى الخربة وخذ منها ما تريد واذهب بها إليهم، فلما رجع بأضعاف ما أتى به أولا زادت حيرتهم، وقال الملك: إن لهذا شأنا غريبا، فخلا بالغلام واستخبره عن الحال، فأخبره بكل ما جرى بينه وبين عيسى (ع) وما كان من عشقه لابنته، فعلم الملك أن الضيف هو عيسى (ع)، فقال: قل لضيفك: يأتيني ويزوجك ابنتي، فحضر عيسى (ع) وزوجها منه، وبعث الملك ثيابا فاخرة إلى الغلام فألبسها إياه وجمع بينه وبين ابنته تلك الليلة، فلما أصبح طلب الغلام وكلمه فوجده عاقلا فهما ذكيا ولم يكن للملك ولد غير هذه الابنة فجعل الغلام ولي عهده

ص: 292


1- المدر: قطع الطين اليابس. (لسان العرب 13: 53).

فلما كانت الليلة الثانية مات الملك فجأة وأجلسوا الغلام على سرير الملك وأطاعوه وسلموا إليه خزائنه، فأتاه عيسى (ع) في اليوم الثالث ليودعه، فقال الغلام: أيها الحكيم إن لك علي حقوقا لا أقوم بشكر واحد منها لو بقيت أبد الدهر، ولكن عرض في قلبي البارحة أمر لو لم تجبني عنه لا أنتفع بشيء مما حصلتها لي، فقال: وما هو؟ قال الغلام: إنك إذا قدرت على أن تنقلني من تلك الحالة الخسيسة إلى تلك الدرجة الرفيعة في يومين فلم لا تفعل هذا بنفسك، وأراك في تلك الثياب وفي هذه الحالة فلما أحفى(1) في السؤال قال له عيسى (ع): إن العالم بالله وبدار كرامته وثوابه والبصير بفناء الدنيا و خستها ودناءتها لا يرغب إلى هذا الملك الزائل وهذه الأمور الفانية، وإن لنا في قربه تعالى ومعرفته ومحبته لذات روحانية لا نعد تلك اللذات الفانية عندها شيئا، فلما أخبره بعيوب الدنيا وآفاتها ونعيم الآخرة ودرجاتها قال له الغلام: فلي عليك حجة أخرى لم اخترت لنفسك ما هو أولى وأحرى وأوقعتني في هذه البلية الكبرى؟ فقال له عيسى: إنما اخترت لك ذلك لامتحنك في عقلك وذكائك، وليكون لك الثواب في ترك هذه الأمور الميسرة لك أكثر وأوفى، وتكون حجة على غيرك، فترك الغلام الملك، و لبس أثوابه البالية، وتبع عيسى (ع) فلما رجع عيسى إلى الحواريين قال: هذا كنزي الذي كنت أظنه في هذا البلد فوجدته.والحمد لله).(2)أقول: حينما سرّدت هذه الرواية لا أريد منها تحبيب العزلة والترهب لأنها

ص: 293


1- أحفاه في المسألة: ألح عليه في المسألة: (لسان العرب3: 250).
2- بحار الأنوار: 14/ 280- 282.

أمور مذمومة في الإسلام، وإنما أريد أن نزيد همّتنا لنكون من هذه الكنوز التي ينتقيها الإمام ويصطفيها لنفسه ويجعلها من خاصّته، وهذا أمرٌ في متناول كل أحد، إذا صدق في إيمانه وبذل السعي المناسب للهدف وأدركته الألطاف الإلهية قال تعالى [وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً] (الإسراء:19) كمن يريد أن يصبح طبيباً فإنه لابد أن يبذل السعي المناسب فيتفوق في دراسته الإعدادية ويحصل على معدلٍ عالٍ ثم يدرس في كلية الطب ويتابع بقية السعي حتى نهايته.ولا نتصور أن السبيل الموصل إلى الله تعالى منحصر بالعبادات المتعارفة كالصلاة والصوم والحج والزيارة، بل يُفهم من الأحاديث الشريفة أنه يوجد ما يمكن أن يكون أسرع في طي مراحل التكامل، قال الإمام الحسن العسكري (علیه السلام) ليست العبادة كثرة الصيام والصلاة وإنما العبادة كثرة التفكر في أمر الله)(1) فالعبادة أن تشعر وتحسّ بوجدانك أن الله تبارك وتعالى حاضر عندك مطّلع عليك أقرب إليك من حبل الوريد يحنو ويشفق عليك ويحبّك ويداريك ويدفع عنك، ولازم ذلك أن تفعل كل ما يحبّبك إليه ويقرّبك منه وأن تتعرف إليه تبارك وتعالى أكثر وأكثر وتفهم حقائق أسمائه الحسنى وتسعى لتحقيق تلك الصفات في حياتك كالرحمة والعفو والعلم والكرم وغيرها.

يسأل شخص الإمام (علیه السلام) عن الدليل على وجود الله تعالى فيجيبه بما يناسبه ويقول له: هل ركبت البحر يوماً فانكسرت بك السفينة في لججه المظلمة وأيقنت بالهلاك؟ قال الرجل نعم قال (علیه السلام) فهل تعلّق قلبك بقوة

ص: 294


1- تحف العقول: 488.

قادرة على أن تنجيك وتنقذك مهما استحال الأمر بالوسائل الطبيعية؟ قال: نعم قال (علیه السلام) ذلك هو الله تعالى فأنت تؤمن به وإن كنت لا تعرفه.أقول: هذا التعلق بالله تبارك وتعالى واللجوء إليه يجب أن تستشعره دائماً وليس فقط في وقت الاضطرار، وهذه العلاقة الطيبة العامرة مع الله تبارك وتعالى هي حقيقة الدين لا الشكليات والمظاهر.

وهنا أودّ الإشارة إلى مصطلح مبتدع تحوّل إلى ظاهرة لا تنسجم مع هذا الفهم لحقيقة الدين حيث أسيء استخدامه وهو عنوان (المتدين) وجعلوه مرادفاً لعنوان (المؤمن)، وهو غير صحيح، لأن عنوان المؤمن مصطلح قرآني تكرّر كثيراً يعبّر عن سلوك صالح وعقيدة صحيحة وأخلاق سامية، أما عنوان المتدين فإنهم جعلوه يركّز على شكليات ومظاهر، كإطلاق اللحية ومسك المسبحة ولبس الخاتم باليمين وأداء بعض الطقوس الدينية، وهذا كله من الشريعة بالتأكيد، لكن أن يكون هو المقياس بغّض النظر عن الجوهر وسلامة الباطن والاستقامة في التعامل مع الآخرين فهذا تديّن مزيّف روّج له من يريد خداع السذّج لتحقيق أجندات خاصة به والمتاجرة بالدين للوصول إلى مآربه والحصول على المواقع الدينية والسياسية، حتى تحمّل الدين إساءات كثيرة بسبب تصرفات بعض المتديّنين.

ومن أعظم القربات إلى الله تعالى الإحسان إلى خلقه لأنهم عياله وصنيعته والإحسان إليهم إحسان إليه تبارك وتعالى، قال الإمام الحسن العسكري (علیه السلام) (إنّ في الجنة لباباً يقال له المعروف، لا يدخله إلا أهل المعروف، وإن أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة).

ص: 295

وأنتم معاشر الأطباء من مظاهر الرحمة والمعروف والإنسانية فأمامكم فرصة واسعة لتكونوا من هذه الكنوز التي يبحث عنها الإمام (علیه السلام) وينتظر نضجها وتكاملها ليفتح بهم العالم ويقيم دولته المباركة.نحن نقدّر الصعوبات التي تواجهكم في حياتكم ومنها ما نسمعه من جرأة البعض عليكم حينما يموت لهم شخص في المستشفى فيهدّدون الطبيب ويطالبونه بالتعويض المالي، وهو عمل يعتبر جريمة شرعاً وقانوناً؛ لأن الطبيب لا يضمن ما يحصل للمريض أثناء المعالجة قضاءً وقدراً ما دام مجازاً بممارسة المهنة ومؤهلاً للعمل الذي يقوم به، وما دام قد بذل وسعه و ما يقتضيه واجبه بلا تفريط ولا إهمال ولا تجاوز الحدود المقرّرة وهذا ما نفتي به فقهياً خصوصاً إذا حصل على براءة من الضمان من المريض أو ذويه قبل العملية.

وهنا نهمس في ذهن الأطباء ونطالبهم بأن يتقنوا عملهم ويكونوا أمينين على مسؤولياتهم ومخلصين في مهنتهم لا تؤثر عليهم دوافع أخرى كإيكال الأمور إلى غير الأكفّاء، أو عدم التأنّي في إجرائها، إمّا لتحصيل المال بانجاز عدد أكبر من العمليات أو للمباهاة وإظهار التفوق على أقرانه أو لطلب الراحة ونحوها.

ص: 296

خطاب المرحلة 319 :معجزة النبي (صلی الله علیه و آله) في أخلاقه

خطاب المرحلة 319 :معجزة النبي (صلی الله علیه و آله) في أخلاقه(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

روى لنا أمير المؤمنين (علیه السلام) معجزة تحققت لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وكان شاهداً عليها، نذكرها تبركاً وإحياءً لهذه المنقبة العظيمة ولنأخذ منها بعض الخصائص النفسية والسمو الأخلاقي عند رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فمن خطبة جليلة لأمير المؤمنين(ع) تسمى القاصعة قال (ولَقد كُنتُ مَعَهُ صلى اللّه عليه و آله لَمَّا أتاهُ المَلأُ مِن قُرَيشٍ، فَقالوا لَهُ: (يا مُحَمَّدُ، إنَّكَ قَدِ ادَّعَيتَ عَظيماً لَم يَدَّعِهِ آباؤكَ، ولا أحَدٌ مِن بَيتِكَ، ونحنُ نَسألُكَ أمراً إن أنتَ أجَبتَنا إلَيهِ، وأرَيتَناهُ عَلِمنا أنَّكَ نَبِيٌّ ورسولٌ، وإن لَم تَفعَل عَلِمنا أنَّكَ ساحِرٌ كَذَّابٌ). فَقالَ صلى اللّه عليه و آله: (وما تَسألونَ؟) قالوا: (تَدعو لَنا هذهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى تَنقَلِعَ بِعُروقِها وتَقِفَ بَينَ يَدَيكَ)، فَقالَ صلى اللّه عليه و آله: (إنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ، فإن فَعَلَ اللّهُ لَكُم ذلِكَ أتُؤمنونَ وتَشهَدونَ بِالحَقِّ؟) قالوا: (نَعَم). قالَ: (فَإنِّي سَأُريكُم ما تَطلُبونَ، وإنِّي لَأعلَمُ أنَّكُم لا تَفيؤونَ إلى خَيرٍ، وإنَّ فيكُم مَن يُطرَحُ فِي القَليبِ، ومَن يُحَزِّبُ الأحزابَ) ثُمَّ قالَ صلى اللّه عليه و آله: (يا أيَّتُها الشَّجَرَةُ إن كُنتِ

ص: 297


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع عدد من الوفود، بينهم مدرسة الإمام الصادق (علیه السلام) في مدينة الصدر ببغداد ومدرسة أئمة البقيع للفتيان يوم الثلاثاء 21/ع1/ 1433 المصادف 14/ 2/ 2012م.

تُؤمنينَ بِاللّهِ وَاليَومِ الآخِرِ، وتَعلَمينَ أنِّي رَسولُ اللّهِ، فَانقَلِعي بِعُروقِكِ حَتَّى تَقِفي بَينَ يَدَيَّ بِإذنِ اللّهِ).فَوَالَّذي بَعَثَهُ بِالحَقِّ لَانقَلَعَت بِعُروقِها، وجاءَت ولَها دَوِيٌّ شَديدٌ، وقَصفٌ كَقَصفِ أجنِحَةِ الطَّيرِ، حَتَّى وَقَفَت بَينَ يَدَي رَسولِ اللّهِ صلى اللّه عليه و آله مُرَفرِفَةً، وألقَت بِغُصنِها الأعلى عَلى رَسولِ اللّهِ صلى اللّه عليه و آله، وبِبَعضِ أغصانِها عَلى مَنكِبي، وكنتُ عَن يَمينِهِ صلى اللّه عليه و آله. فَلَمَّا نَظَرَ القَومُ إلى ذلِكَ قالوا عُلُوَّا وَاستِكبارا: (فَمُرها فَليَأتِكَ نِصفُها ويَبقى نِصفُها)، فَأمَرَها بِذلِكَ، فَأقبَلَ إلَيهِ نِصفُها كَأعجَبِ إقبالٍ وأشَدِّهِ دَوِيَّا، فَكادَت تَلتَفُّ بِرَسولِ اللّهِ صلى اللّه عليه و آله، فَقالوا كُفرا وعُتُوَّا: (فَمُر هذا النِّصفَ فَليَرجِع إلى نِصفِهِ كَما كانَ، فَأمرَهُ صلى اللّه عليه و آله فَرَجَعَ، فَقُلتُ أنا: (لا إلهَ إلا اللّهُ، إنِّي أوَّلُ مُؤمنٍ بِكَ يا رَسولَ اللّهِ، وأوَّلُ مَن أقرَّ بِأنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَت ما فَعَلَت بِأمرِ اللّهِ تَعالى تَصديقا بِنُبُوَّتِكَ، وإجلالا لِكَلِمَتِكَ)، فَقالَ القَومُ كُلُّهُم: (بَل ساحِرٌ كَذَّابٌ، عَجيبُ السِّحرِ خَفيفٌ فيهِ، وهَل يُصَدِّقُكَ في أمرِكَ إلا مِثلُ هذا؟) (يَعنونَني))(1).

أقول: مما نستفيده منها باختصار:-

1-أدبه (صلی الله علیه و آله) مع ربه تبارك وتعالى ومعرفته التامة بالله تعالى وأنه لا يملك شيئاً أمام ربّه وأنّه (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) فيقول للمشركين لما سألوه (فإن فعل الله لكم ذلك) ولم ينسب الفعل إلى نفسه فما من شيء يتحقق له إلا بلطف الله تعالى وفضله وكرمه، بعكس منطق الغافلين

ص: 298


1- نهج البلاغة: 2/ 412 الخطبة/ 190.

والبعيدين عن الله تعالى فإنّهم يرون لأنفسهم شيئاً ويتبجحون به ويتفاخرون ويطغون، كما حكى الله تعالى عن قارون قوله [قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي] (القصص:78)، ويأتي التعليق الإلهي [أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ] (القصص:78).والقرآن الكريم حرص كثيراً على ترسيخ هذه المعرفة قال تعالى [وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَ-كِنَّ اللّهَ رَمَى] (الأنفال:17) وقال تعالى في فرعون وقومه [فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ] (الشعراء:57-58) مع أن فرعون وجيوشه هم الذين قرروا الخروج لكن بتدبير إلهي.

2-عدم اليأس من هداية الناس والدعوة إلى الله تبارك وتعالى وإصلاح الأمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوعظ والإرشاد والتوجيه، حتى لو كان يعلم بعناد الآخر وإصراره على الخطأ فيقول (صلی الله علیه و آله) (وإني لأعلم أنكم لا تفيئون إلى خير) فلم يتوقف ويقول ما الفائدة من دعوة هؤلاء وهم لا يُرجى منهم خير؟ لأن الأمور والنتائج والعواقب بيد مدبّرها الحقيقي، وليس على الإنسان إلا السعي الحثيث بكل ما أتاه الله تعالى، وقد مدح الله تعالى قوماً وأنجاهم من العذاب لأنّهم لم يتقاعسوا عن أداء وظائفهم الإلهية مع اليأس ظاهراً من هدايتهم، قال تعالى [وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ] (الأعراف:164).

3-اعتماد لغة الحوار والحجة والبينة مع الآخر لتحصيل القناعة بالأمر وعدم إكراههم على شيء أو استخدام وسائل العنف والضغط لإجبارهم على

ص: 299

اعتناق ما تعتقد به، ولو كنت تملك القوى الخارقة الغيبية، فهؤلاء المشركون لم يؤمنوا رغم قيام المعجزة والحجة الدامغة عليهم، ولم يستخدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) هذه القدرات الخارقة للعادة ضدّهم. وهذا هو منطق القرآن الكريم [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] (البقرة:256) [اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ] (الأحقاف:4).4-قساوة القوم الذين بُعث لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهمجيتهم بحيث يجري لهم كل هذه المعجزات وهم يصرّون على عنادهم واستكبارهم قال تعالى فيهم [ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ] (البقرة:74) وقلوب أولئك كانت من القسوة بحيث لم تسمح بتفجير شيء من ينابيع المعرفة والإيمان فيها، فالجبل يتصدع من هذه الكلمات وهم موتى لا حراك فيهم [لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ] (الحشر:21) وإلى اليوم نرى مثل هؤلاء الأقوام الذين تقام عليهم الحجج والبيّنات الدامغة، ولا جواب لهم إلا العناد والاستكبار والمضي على منهجهم المنحرف ومثل هؤلاء أتذكرهم عندما أصل إلى قوله تعالى [أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] (البقرة:75).

5-شفقة رسول الله (صلی الله علیه و آله) التي لا حدود لها وقلبه الكبير بحيث لا يتوانى عن تقديم أي عمل ما دام يُرجى منه صلاح الآخرين وهدايتهم رحمةً بهم لإنقاذهم مما هم فيه من الضلال حتى لو كانوا من أسوأ خلق الله تعالى وأقساهم فلم يكن (صلی الله علیه و آله) كأسلافه الصالحين من الأنبياء الذين دعوا على

ص: 300

أقوامهم بالهلاك (لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً) (نوح/26) وغاية ما كان يقول (صلی الله علیه و آله) عندما يصيبوه بالأذى والتكذيب (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) ولم يثنه (صلی الله علیه و آله) عن المضي معهم استهزاؤهم وسخريتهم الواضحة من مطلبهم التعجيزي وكأنهم يتهكمون برسول الله (صلی الله علیه و آله) ويسفّهون دعوته.إن وجود مثل هذا القلب الشفيق الرحيم خير حافز على العمل الإنساني النبيل، وهو موجود لدى الكثيرين ولكنه يحتاج إلى تحريك وإثارة والدليل على ذلك انه عندما يوجد إنسان مبتلى أو مصاب بنكبة أو عاهة أو معدم يحتاج إلى مساعدة فإن الكثيرين تهتز قلوبهم بالشفقة والرحمة ويهبون لنجدته ومساعدته، وهذا عمل عظيم ولكن أليس أهم منه أن نهَّب لهداية الضّال وفاقد البصيرة والمنحرف والجاهل وهؤلاء أولى بالمساعدة والشفقة والرحمة، لأن حياتهم الباقية الدائمة في خطر، وهي أهم من حياتهم الدنيا.

6- والدرس الأخير نأخذه من أمير المؤمنين (علیه السلام) بروايته لهذه المنقبة النبوية الشريفة، ولعلها كانت تضيع علينا لو لم ينقلها لنا أمير المؤمنين (علیه السلام)، فلنتعلم منه أن لا نبخل على الناس بما نتعلمه من مسألة شرعية أو موعظة أو نصيحة أو منقبة وفضيلة لأهل البيت (علیهم السلام) أو شيء من سيرتهم الصالحة وأخلاقهم السامية، أو كلمات العلماء ومواقفهم ومآثرهم وبذلك تنتشر الهداية ويزكو العلم والعمل الصالح وينمو ففي الحديث (العلم يزكو بالإنفاق).

ص: 301

خطاب المرحلة 320 :قواعد بناء المستقبل المعنوي للشباب

خطاب المرحلة 320 :قواعد بناء المستقبل المعنوي للشباب(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الناس خصوصاً الشباب يهتمون عادة ببناء مستقبلهم في هذه الدنيا لضمان حياة كريمة سعيدة لائقة فيسعون لإكمال دراستهم وتحصيل مهنة مناسبة وزوجة صالحة ودار فارهة وسيارة مريحة ونحوها، وهو حق مشروع كفله الله تعالى لكل إنسان لأنه أكرم مخلوق [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ...] (الإسراء:70) وضمن له كل ما يحقق له الحياة الكريمة، وهي صفة الدولة الموعودة على يد الإمام المهدي (عج الله تعالى فرجه الشريف) (اللهم إنّا نرغب إليك في دولة كريمة).

هذا كله واضح والذي نريد أن نؤسس له في حديثنا هذا هو أنه على الإنسان أن يلتفت إلى وجوب ضم التفكير في إعمار مستقبله المعنوي لتضمين الحياة الكريمة في الآخرة.

وهذا البناء له أدوات نظرية وعملية، أي معرفية وتطبيقية، وحديثنا اليوم في الأولى من خلال وضع أُطر و محددات وقواعد تضبط بوصلة حياته وسلوكه العملي، وهذه الأطر والقواعد العامة تُؤخذ من القرآن الكريم والسنة الشريفة

ص: 302


1- من حديث سماحة الشيخ (دام ظله) مع حشد من طلبة الجامعات في بغداد يوم الأربعاء 22/ع1/ 1433 المصادف 15/ 2/ 2012.

والأدعية المباركة وكلمات الحكمة الصادرة من العلماء والعارفين.إن أول آية في القرآن الكريم وهي [بِسمِ اللهِ الرَحمَنِ الرَحِيمِ] هي أول هذه القواعد تتعلم منها أن تفتتح كل أعمالك ومشاريعك وخطواتك باسم الله تعالى ليكون عملك مباركاً، وفي سبيل الله تعالى حتى يكون صالحاً مقبولاً منتجاً، لذا ورد عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): (كُلُّ أمْر ذِي بَال لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ اسْمُ اللهِ فَهُوَ أَبْتَرُ)(1) منقوص لا يحقق أهدافه المرجوّة. فإذا أردت أن تبدأ الطعام فافتتح بالبسملة، وإذا أردت الانطلاق من دارك إلى عملك أو أي شيء آخر فابدأ بالبسملة، وإذا تحركت بالسيارة فابتدأ بالبسملة وهكذا لتكون في رعاية الله تعالى ولطفه وتأييده، وقد ورد في كل ذلك روايات شريفة فراجعها.

والآية الثانية بعد البسملة [الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ] قاعدة أخرى، أن الحمد والثناء فعلاً وحقيقة هو لله تبارك وتعالى لأنه مسبب الأسباب ومدبّر الأمور وهو الذي يجري الأمور على يد من يشاء من خلقه، فالحمد والشكر له تبارك وتعالى، فمن الخطأ الشائع أن يقول البعض (لولا فلان لما قضي لي الأمر الفلاني ولما حصل الشيء الكذائي) لأن الله تعالى هو السبب، وهؤلاء المخلوقون وسائط لإنفاذ التقدير الإلهي، وينبغي شكرهم لما ورد في الحديث (من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق) ولتشجيع سبيل المعروف، لكن في ضمن شكر الله تعالى، وليس على نحو الاستقلالية فقد عُدَّ هذا في بعض الأحاديث من أقسام الشرك الخفي.

فالله تعالى هو الذي أجرى الأمور وفق هذه السنن الطبيعية فالالتفات إليها

ص: 303


1- بحار الأنوار، ج 16، باب 58. نقلا عن تفسير البيان، ج 1، ص 461.

من دون الله تعالى هو نصف الحقيقة، وتمام الحقيقة أن الله تعالى هو المحرّك الأول وهو المخطّط الأول وهو المدبّر الأول.وقوله تعالى [إيَّاكَ نَعبُدُ وَإيَّاكَ نَستَعِينُ] قاعدة أخرى، فلا عبادة ولا طاعة إلا لله تبارك وتعالى، ولا نطيع أحداً سواه إلا إذا كانت طاعته من طاعة الله تبارك وتعالى، قال تعالى في الوالدين [وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا] (العنكبوت:8)، فلا انسياق وراء الشيطان ولا وراء الشهوات ولا وراء التقاليد والأعراف البالية ولا وراء الأيدلوجيات والأجندات البعيدة عن الله تعالى، ولا طاعة لمن يحكم بغير ما أنزل الله تعالى ومن دون الرجوع إلى شريعة الله تبارك وتعالى سواء كانوا قادة سياسيين أو زعماء عشائر أو وجهاء مجتمع أو حتى قادة متلبسين بالدين فإنهم جميعاً أئمة ضلال [يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ] (هود: 98).

فأنت أيها الموظف إذا دعاك مدير دائرتك إلى إنجاز عمل فيه فساد وهدر لأموال الشعب فلا تطعه، وأنت أيها الطالب الجامعي وغيره إذا دعتك فتاة إلى علاقة غير شرعية فأرفضها، وأنتِ أيتها المرأة إذا أمركِ زوجكِ بخلع الحجاب أمام الأجانب فأعصيه، وهكذا.

ولا استعانة إلا بالله تعالى لأن بيده أزمّة الأمور وهو المدبّر الحقيقي فالاستعانة بغيره لجوء إلى العاجز الذي لا يملك لنفسه شيئاً إلا ضمن السوائل الطبيعية التي جعلها الله تعالى، فحينما يمرض الإنسان يذهب إلى الطبيب للمعالجة ولكن مع الاعتقاد الجازم بأن الله تعالى هو مسبّب الأسباب وهو الطبيب الحقيقي، فإنه هو خلق المواد التي يُصنع منها الدواء وأعطاها القدرة

ص: 304

على المعالجة، وهو الذي جعل الجسم يبدي أعراضاً تساعد الطبيب على تشخيص المرض بدقة، وجعل الجسم يتفاعل مع الطبيب، وأودع في الإنسان القدرات الذهنية التي تمكنه من أن يصبح طبيباً وهكذا فمفاتيح الأمور بيده تبارك وتعالى.وقوله تعالى [وَتَزَوَّدُواْ فإن خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] (البقرة:197) تؤسس قاعدة أخرى، فأمامنا رحلة طويلة إلى العالم الآخر الذي نجهل كل شيء عنه، والمسافر يحتاج أن يهيئ مقدمات السفر ولوازمه في هذه الدنيا مع انه سفر قصير معلوم يمكن تلافي أي نقص فيه ولو بمساعدة الآخرين، أما سفر الآخرة فهو حياة دائمة ينشغل فيها كل إنسان عن أمه وأبيه وبنيه وكل متعلقاته، فمن الذي يُعلمنا بما يجب أن نتزود به لهذا السفر؟ إنه الله تبارك وتعالى العالم بحقائق الأمور، فيخبرنا بصدق رحمة بنا أن [خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ] (البقرة:197).

وقوله تعالى [إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّ-ا إِلَيْهِ رَاجِعونَ] (البقرة:156) قاعدة أخرى تعلمك أن لا تأسى على شيء يفوتك ولا تبخل بشيء يريده الله تعالى منك حتى نفسك في الجهاد ومالك في دفع الحقوق الشرعية لأنك بالنتيجة أنت وكل ما هو لك يرجع إلى الله تعالى ولا تملك شيئاً من ذلك ولا يبقى لك شيء منه.

والقواعد المأخوذة من القرآن الكريم كثيرة، وكذا الموجودة في الأحاديث الشريفة وأذكر مثالاً لذلك ما ورد في وصايا النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر (يا أبا ذر: اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) فهذه الوصية تؤسس لحالة مهمة في الحياة وهي أن تتعامل مع الله تعالى وتعبده وتطيعه وكأنك تراه

ص: 305

لا بالعين لأنه لا تدركه الأبصار، ولكن بالبصيرة والوجدان وبالقلب السليم فتجده حاضراً عندك [أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] (فصّلت:53)، فإن لم تكن تراه لغشاوة أو رين أو ذنوب أو غفلة، فلا شك أنك تعتقد انه يراك وانك تحت نظره في كل حركاتك وسكناتك فانظر كيف تكون وأنت في محضر الرب المتعال، وكقول الإمام الحسين (علیه السلام)، (من حاول أمراً بمعصية الله كان أفوت لما يرجو وأقرب لما يحذر) وهي كلمة تختصر الطريق وتحدّد وسائل الوصول إلى الهدف وتحقيق الغاية بدل التورط في الوسائل غير الشريفة ثم لا يجني منها غير الخسران، كما لو أحب فتاة وحاول الارتباط بها بعلاقة غير شريفة يورّط نفسه ولا يحقق مبتغاه الذي يمكن تحقيقه من أبوابه المتعارفة.وقد احتوت الأدعية الشريفة على كمٍّ كبير من هذه القواعد للسلوك والتربية والتهذيب والوصول إلى الكمال فراجعوا دعاء الصباح لأمير المؤمنين ودعاء عرفة للإمام الحسين ودعاء مكارم الأخلاق للإمام السجاد (علیه السلام)

ولا نحتاج الإطالة في الأمثلة بعد أن اتضحت الفكرة فأتعبوا أنفسكُم في وضع سجل بهذه القواعد لتراجعوه باستمرار وتجدّدوا معنوياتكم بمطالعته.

هذا شرح مختصر لأصل الفكرة واستعراض سريع لبعض الأمثلة وإلا فإنها تحتاج إلى كتاب مفصل يشرح لنا معنى أن نضع لأنفسنا قواعد، والحاجة إلى مثل هذه القواعد، ومن أين تؤخذ، وشرح مفصل لجملة من تلك القواعد لتكون خارطة طريق لمريد الكمال والسمو بإذن الله تعالى.

ص: 306

خطاب المرحلة 321 :ما أقبح المؤمن أن تكون له رغبة تُذلُّه

خطاب المرحلة 321 :ما أقبح المؤمن أن تكون له رغبة تُذلُّه(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

عرضت في حديث سابق فكرة مهمة وهي توجيه الشباب إلى بناء مستقبلهم المعنوي وأحب الآن أن أستمر في بيانها، وقلنا أن من وسائل ذلك التعرف على الأطر العامة والقواعد التي تحدّد كيفية إعمار هذا المستقبل المعنوي، وهي تؤخذ من القرآن الكريم وأحاديث المعصومين (علیهم السلام) وما رشح من كلمات حكيمة عن العلماء العارفين.

هذا كله ذكرته سابقاً، واليوم أود التعرض لقاعدة أخرى من تلك الأطر والمحددات، وهي كلمة للإمام الحسن العسكري (علیه السلام) قال (ما أقبح المؤمن أن يكون له رغبة تُذّله)(2)، فالكلام مع المؤمن لأنه عزيز بعزة الله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] (المنافقون:8)، ولا يحق للمؤمن أن يفرط بعزته وكرامته ويمتهنها، فعن الإمام الصادق (علیه السلام) (إنّ الله تبارك وتعالى فوّض إلى المؤمن كل شيء إلا إذلال نفسه)(3)، أما غير المؤمن فيكفيه ذلة: انغماسه في

ص: 307


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع تجمع المهندسين الإسلامي فرع البصرة يوم الجمعة 1/ع2/ 1433 الموافق 24/ 2/ 2012.
2- تحقق العقول: 363.
3- ميزان الحكمة للريشهري: 3/ 441.

المعاصي وانسياقه وراء شهوات النفس وطاعة الشيطان.والحديث الشريف لم ينكر على الإنسان أن تكون له رغبة، لأن الرغبات من النوازع النفسية التي أودعها الله تبارك وتعالى لدى الإنسان –كالخوف- لتدفعه إلى ما ينفعه ويُصلح شأنه ويحميه من الخطر والضرر ولتحفزّه على طلب الكمال، مضافاً إلى ما يأمر به العقل، وكأن القناعة التي تحصل من النظر العقلي غير كافية لدفع الإنسان ما لم تتحرك النفس بذلك الاتجاه فانضمت إليه الرغبة، وهذا ما يوحي به معناها الأصلي فإن (أصل الرغبة: السعة في الشيء، يقال: رَغُبَ الشيء: اتسع، والرغبة والرغب: السعة في الإرادة)(1) قال تعالى [وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً] (الأنبياء: 90)

فالمشكلة ليست إذن في أن تكون لك رغبات، وإنما المشكلة في أن تكون للمؤمن رغبة تُذله وتحط من كرامته وتعيق سعيه نحو الكمال، وليس المقصود الرغبة في المعاصي والمحرمات فهذه خارجة عن نطاق الحديث الشريف لأنها غير متصورة في المؤمن، وإنما الكلام في الرغبات المباحة التي تأسر صاحبها وتضغط عليه وتشوش عليه فكره حتى ينهار تحت إلحاحها وضغطها فيرتكب ما لا يليق به.

كالشخص الذي يحب أن تكون له حياة مرفهة كالآخرين من دار مزخرفة وسيارة بأحدث موديل ومصالح مالية ونحوها، فيكرّس تفكيره في الحصول عليها بغضّ النظر عن مشروعية الوسيلة المتخذة لتحقيقها، فيقع في المحرّمات الشرعية والمخالفات القانونية ويتعرض لخسارة الدنيا والآخرة والعار

ص: 308


1- المفردات للراغب؛ 358 مادة (رغب).

الاجتماعي، كهذا الفساد الذي فاحت رائحته التي تزكم الأنوف من بعض المتصدّين لإدارة أمور العباد والبلاد.ولذا نزلت الآية الكريمة في وقت مبكر لتحذّّر من هذه الرغبات، قال تعالى [وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى] (طه: 131) فالآية الشريفة تشير إلى أن التوسع في طلب الدنيا يكون على حساب الفوز في الآخرة ويكون ثمنه النصب والتعب في الدنيا من أجل أمور زائلة.

من غرر كلمات أمير المؤمنين (علیه السلام) (الرغبة مفتاح النصب) وقال (علیه السلام) (الرغبة في الدنيا توجب المقت) وقال (علیه السلام) (الراغب: دعته إلى الدنيا نفسه فأجابها، وأمرته بإيثارها فأطاعها، فدنّس بها عرضه، ووضع لها شرفه وضيَّع لها آخرته) وقال (علیه السلام) (إن النفس التي تطلب الرغائب الفانية لتهلك في طلبها وتشقى في منقلبها) وقال (علیه السلام) (أكرم نفسك عن كل دنيّة وإن ساقتك إلى الرغائب فإنك لن تعتاض عما تبذل من نفسك عوضاً) وقال (علیه السلام) (إن الدنيا كالشبكة تلتف على من رغب فيها).(1)

إن الكثير من الوقائع والحوادث تشهد على نتيجة مفادها أنّ من ينساق وراء رغباته بدون تعقل وحكمة وحساب للعواقب يخسر ويسقط في النهاية كبعض الطامحين بالشهرة الذين يقومون بمغامرات الصعود إلى هملايا أو مصارعة الحيوانات الهائجة أو قيادة السيارات بجنون، أو القفز من ارتفاع شاهق ونحوها فيُقتلون دونها، وكالكثير من المصابين بجنون العظمة الذي

ص: 309


1- غرر الحكم: 25، 48، 86، 132، 179، 191.

يريدون أن يتسيدوا على الناس ويتسلطوا فيهلكون الحرث والنسل ويهلكون أنفسهم من أجل هذه النزوات الحمقاء.ما الذي دفع بأولئك المتمردين على رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى منعوه من كتابة وصيته في رزية يوم الخميس ثم انقلبوا على أعقابهم بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وفتحوا باب الفتنة والشقاق والخلاف والتقاتل إلى قيام يوم الساعة فحملوا على ظهورهم كل هذه الأوزار: انه الانسياق وراء الرغبات المذلّة المهينة رغم مخالفتها لشريعة الله تبارك وتعالى.

وإذا أردتُ أن أذكر مثالاً على هذا الحديث الشريف فهم بعض المبتلين بالعادة المشهورة التي تحولّت إلى ظاهرة تسعى كل الدول إلى تحجيمها والتحذير منها وهي التدخين، يروي بعض أفاضل الخطباء والكتّاب انه في موسم من مواسم الحج المباركة حدّثه أحد المؤمنين الذين كانوا قد عانوا آلام السجون ومحنة التعذيب، أن مؤمناً كان ثابتاً على موقفه، وواجه جلاّديه بشجاعة نادرة أذهلت الجميع، ولما تعب أحد الجلاّدين من تعذيب هذا المؤمن، راح يترجم حنقه على هذا المعذب بشرب سيكارة، وإذا بالمعذَّب ينهار لرؤية الدخان، فناداه متوسلاً، سيدي ناولني سيكارة!! فدهش الجلّاد وقال: على أن تتكلم بما تعرف! فقال: أجل وما هي إلا لحظات حتى اعترف ذلك الرجل على خمسين مؤمناً جاء بهم إلى ساحات التعذيب وأثكل عوائلهم وسبب الألم واليتم لأطفالهم.

فعلينا –أيها الأحبة- أن نعرض رغباتنا على ما يريده الله تبارك وتعالى فننفذ منها ما يرضيه عز وجل ونعرض عمّا يسخطه أو يبعدنا عنه ويعرقل سيرنا

ص: 310

نحو تبارك وتعالى، فالرغبة في الشيء بقدر الأعراض عن نقيضه، قال أمير المؤمنين (أصل الزهد حسن الرغبة فيما عند الله) وقال (علیه السلام) (إن الزهد في الجهل بقدر الرغبة في العقل).(1)وهذه الرغائب الحقيقية يمكن نيلها بالتقوى والصبر والعمل الدؤوب والمعرفة، قال أمير المؤمنين (علیه السلام) (إن تقوى الله.. بها تنال الرغائب) وقال (علیه السلام) (بالصبر تدرك الرغائب) وقال (علیه السلام) (توكّلوا على الله عند ركعتي الفجر بعد فراغكم منها ففيها تعطى الرغائب).(2)

وتحتاج أيضاً إلى إرادة للسيطرة على جموح الرغبات، يروى أن أحد العلماء أصيب بمرض صدري فأمره الطبيب بالإقلاع عن التدخين، فقال العالم: لا أستطيع ذلك، فاستغرب الطبيب منه، وقال أنتم تطالبون شارب الخمر بتركها وقد أدمن عليها وأصبحت جزءاً من بدنه، وتطالبون معاقري اللهو والمجون والليالي الحمراء بتركها وهو يجد لذته وأنسه فيها، ولا تعذرونهم إذا قالوا: لا نستطيع، وأنت تقول: لا أستطيع، فاستحيا العالم وأصر على ترك التدخين، ومن الله تعالى نستمد العون والتسديد والتوفيق.

ص: 311


1- غرر الحكم: 160، 174.
2- غرر الحكم: 186، 322، 345.

خطاب المرحلة 322 :تعليق حول ما نقل من تعرض أتباع الإيمو للقتل

بسم الله الرحمن الرحيم

تناقلت بعض وسائل الإعلام(1) خبر تعرض عدد من الشباب المقلدين لما يسمى بظاهرة (الإيمو) للقتل في بغداد و المحافظات، ولم نتأكد من مدى صحة الخبر ومصداقيته ودقة الأرقام المذكورة فيه، بعد أن نفت مصادر الشرطة وصول أي تبليغ لها أو رفع دعوى من قبل ذوي الشخص المجني عليه لهذا السبب، كما نفت مصادر مرتبطة بالطب العدلي وصول جثث مجني على أصحابها ضمن هذا الإطار.

وقد ألصقت التهمة بما وُصِفوا أنهم جهات دينية متشددة، كما حُمّلت وزارة الداخلية جزءاً من المسؤولية باعتبار تزامن حصول موجة القتل هذه خلال الأيام الثلاثة الماضية مع بيانها في التحذير من

ص: 312


1- ورد في النشرات الأخبارية لبعض الفضائيات يوم 13/ع2/ 1433 المصادف 7/ 3/ 2012 أن عدد قتلى (الإيمو) بلغ (90) وقيل لاحقاً بأنهم (150) وأكثرهم في بغداد وبابل، لكن الذي عُرف مقتله واحد أو أكثر لأسباب جنائية تتعلق بالشرف فيما بينهم، وقد أصدر زعيم بعض الميليشيات بياناً هاجم فيه أتباع الإيمو، وطلب من الجهات المختصة القضاء عليهم. و(الإيمو) مختصر كلمة (Emotصonal) وتعني الحساس أو العاطفي أو المتهيج وهي ظاهرة منتشرة في العالم ولهم نمط معين من الموسيقى وتسريحة الشعر ويرتدون ملابس سوداء وسراويل ضيقة جداً وأغطية المعصم.

انتشار ظاهرة الإيمو ودعوة أولياء الأمور للوقوف في وجهها و المحاسبة على عدم مراعاة الآداب الاجتماعية.ونحن نسجل هنا النقاط التالية:

1-إن الدين براء من ارتكاب مثل هذه الجرائم – لو صحّ وقوعها – وان من يقتل إنساناً خارج الإطار القانوني المشروع فقد اعتدى على الله تبارك وتعالى واستخّف بحرماته، لان الإنسان خليفة الله في أرضه، وهو تعالى الذي صنعه وأوجده فلا يجوز لأحد أن يمس إنساناً بأذى، حتى أن الشخص ليس له سلطان على جسده نفسه فضلاً عن غيره، ولذا كانت جريمة القتل من أعظم الكبائر، قال تعالى: [مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا] (المائدة: 32).

2-إن التصرف المشروع إزاء الانحرافات الاجتماعية لا يعدو النصيحة و الإرشاد و التوعية، وبيان الآثار السيئة للانحراف ومخالفة منظومة الأخلاق و الآداب الإنسانية و الاجتماعية السامية، ولا يُكره أحدُ على عقيدةٍ ما أو سلوكٍ ما، قال تعالى: [لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ] (البقرة: 256)، وأن تكون النصيحة بلين ورفق مراعياً في ذلك الظروف التي يعيشها الآخر و منطلقاته الفكرية و الأخلاقية و الاجتماعية، قال الله تعالى مخاطباً نبيه الكريم موسى (علیه السلام) وأخاه هارون (ع) وهما يتوجهان إلى فرعون الطاغية لدعوته إلى التوحيد [اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى]

ص: 313

(طه: 43-44) فإذا كان التصرف مع فرعون الذي ادعى الربوبية وافسد في الأرض هو هذا، فكيف يكون التعامل مع غيره؟.3-إننا لا نستبعد وقوف جهات وراء هذه الضجّة المبالغ فيها لها أجندة لتشويه صورة الملتزمين بالدين ومحاصرة الدين وتنفير الناس منه، بالاشتراك مع جهات لها مشاكل مع النظام السياسي الجديد في العراق وتريد إرجاع عقارب الزمن إلى الوراء، وكان لها تاريخ من الفوبيا المفتعلة كقضية (أبو طبر) التي خلقت هلعاً عاماً لدى الناس في بغداد عام 1973 تقريباً، فأطلقت لوسائل الإعلام العنان في التحريض أولاً لدفع الجهلة و المخدوعين و المتعصبين من كلا الطرفين فصّورت شباب الإيمو بأنهم واجهات للماسونية يريدون نشر الرذيلة و الشذوذ و الإباحية، لتغري بهم بعض المأجورين أو الجهلة أو المتعصبين للاستفزاز و العنف، ثم تنسب الفعل إلى جهات دينية لتحقيق أجندتها.

4-إن الشباب معروفون بالحماس و الاندفاع وحب التميّز و التفوق و الظهور وهذه عناصر كالسلاح ذي الحدين، فيمكن جعلها عناصر محفّزة لفعل الخير و الإبداع و العطاء المثمر، ويمكن أن تكون أدوات ووسائل مؤدية إلى العنف و الصدام و التمرد على المقدسات والمجتمع و الانشقاق، لذا فإن المأمول بشبابنا أن يوظفّوا هذه الطاقات الشبابية لما فيه نفع الأمة وصلاحها وبناء مستقبلها الزاهر، وليس لاستيراد التقليعات البائسة و المظاهر المنبوذة وان لا ينسلخوا من هويتهم الفكرية و الوطنية و الاجتماعية، وان لا يقوموا بأفعال

ص: 314

استفزازية فيها خروج فاضح على ثوابت الأمة خشية الوقوع في ردود الأفعال الانفعالية الهوجاء.عصمنا الله تعالى جميعا من الزلل ووفقنا لما يحب ويرضى.

محمد اليعقوبي

15- ربيع الثاني- 1433ه-

9-3-2012م

ص: 315

خطاب المرحلة 323 :قوى الشباب غنيمة للفرد و الأمة

اشارة

خطاب المرحلة 323 :قوى الشباب غنيمة للفرد و الأمة(1)

نِعمُ الله تعالى على الإنسان كثيرة، ومنها نعمة الفتوة و الشباب بما تعني من حيوية ونشاط، وصحة وعافية، وقوة إرادة وسعة طموح وعواطف جياشة وغرائز متدفقة وحماس واندفاع وصفاء ونقاء وأريحية وذهن وقّاد، وغيرها من القوى وهذه القوى مشمولة بأمر الله تعالى [وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ] (الأنفال:60) والقوة المطلوب إعدادها تكون ملائمة للعدو المقصود، فهذه القوى مما يُعدُّ لمواجهة النفس الأمّارة بالسوء (أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك) والشيطان، قال تعالى [إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ] (يوسف:5).

إن الصفات والخصائص التي ذكرناها للشباب توفّر فرصة واسعة للتكامل مع ما فيه من مضاعفة الأجر و الثواب والمحبة الإلهية التي اختص بها الشباب، ففي الحديث الشريف عن النبي (صلی الله علیه و آله)(ما من شاب يدع لله الدنيا ولهوها واهرم شبابه في طاعة الله إلا أعطاه الله أجر اثنين وسبعين صدّيقاً).

فهذه المرحلة من العمر من أعظم النعم على الإنسان واهم الفرص التي تتاح له لذا وردت الوصية باغتنامها، فمن وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر (يا أبا ذر: اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك

ص: 316


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي(دام ظله) مع جمع من طلبة الكليات العلمية والإنسانية في جامعة بغداد يوم الجمعة 22/ع2/ 1433 الموافق 16/ 3/ 2012.

قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)(1) ومن الملاحظ أن هذه الخمسة كلها متوفرة عند الشباب غالباً فهو قوي البدن صحيح معافى، وغني لأنه مكفول المعيشة في أسرته، وعنده فراغ من المسؤولية، لكن هذه الفرص تقل بمرور الزمان فتزداد مسؤوليته ومشاغله ومشاكله ومعوّقات التكامل وتضعف قواه.لكن أكثر الشباب لا يلتفتون إلى هذه الغنيمة ولا يستثمرونها، ويضيعون هذه النعم في أمور تافهة وربما محرّمة، ولا يعطون هذه الثروة العظيمة حقها وقدرِها، فتارة يعبّرون عن فتوتهم وشبابهم بالتمرد على المجتمع أو الانخراط في جماعات العنف أو الخروج عن النظام العام، أو يوظّفون طاقاتهم المتدفقة في فعاليات جنونية وهو ما أشار إليه النبي (صلی الله علیه و آله) في بعض خطبه قال: (الشباب شعبة من الجنون)(2) أو يعتنقون بعض الدعوات الضالة فينساقون وراء أصحابها من دون روّية أو تدبّر في محتواها أو عواقبها.

وهذا كله له أسبابه فمنها ما يعود إلى أولياء الأمور وقادة الأمة و البلاد إذ لا يوجد لهم اهتمام بهذه الشريحة المهمة و الواسعة ولا يضعون برامج لتوجيههم وإرشادهم والاستفادة منهم في العمل المثمر.

ومنها ما يعود إلى الشاب نفسه، حينما يستسلم لهواه وعواطفه وشهواته وغروره واعتداده بنفسه ونشوته بما فيه من صحة وفراغ وتوفر لمتطلبات الحياة، قال الشاعر:

ص: 317


1- بحار الأنوار: 77/77.
2- بحار الأنوار: 77/ 135.

إن الفراغ والشباب و الجدة *** مفسدة للمرء أي مفسدة

ومن كلمات أمير المؤمنين (علیه السلام) (أصناف السكر أربعة: سكر الشباب وسكر المال وسكر النوم وسكر الملك)(1) فللشباب نشوة وغرور وطيش يطغى على العقل ويسكر صاحبه فيرتكب الحماقات وينساق وراء الشهوات، والى أن يصحو من هذا السكر، فيكون قد فقد الكثير وتورط في أمور يصعب تلافيها، وقد يقسو قلبه فلا يكون قابلاً للإحياء بالموعظة و النصيحة، ولذا يجب على الشباب العودة وبسرعة إلى طريق الهداية ليقللّوا من الخسائر وليحظوا بالمحبة الإلهية ففي الحديث النبوي الشريف (إن الله يحب الشاب التائب)، قال تعالى: [إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى] (الكهف: 13).

لقد أحاط الأئمة المعصومون (علیهم السلام) هذه الشريحة من الأمة بتوصيات كثيرة، لاجتذابهم واحتضانهم وخلق الأجواء والمشاريع المناسبة ليعبروا عن وجودهم وأهميتهم ويستفرغوا طاقاتهم، فأوصوا بمشاورتهم والاستئناس بآرائهم وإشراكهم في القرار بما يعرف اليوم ب-(برلمان الشباب) كفكرة بغض النظر عن تطبيقها، فمن وصية لأمير المؤمنين (علیه السلام) قال (إذا احتجت إلى المشورة في أمر قد طرأ عليك فاستبدهِ ببداية الشبان فإنهم أحدُّ أذهاناً وأسرع حدساً، ثم ردّه بعد ذلك إلى رأي الكهول والشيوخ ليستعقبوه، ويحسنوا الاختيار له فإن تجربتهم أكثر)(2).

يسأل الإمام الصادق (علیه السلام) أحد أصحابه الأجلاّء الذين لهم منزلة رفيعة

ص: 318


1- غرر الحكم: 237.
2- غرر الحكم: 219.

وهو أبو جعفر الأحول الملقب ب-(مؤمن الطاق) وكان المخالفون يسمونه (شيطان الطاق) لقوة حججه وأدلتهُ ونشاطهُ في نشر تعاليم أهل البيت ع، فسأله الإمام (علیه السلام)(أتيت البصرة؟ قال: نعم، قال: كيف رأيت مسارعة الناس في هذا الأمر ودخولهم فيه، فقال: والله إنهم لقليل، وقد فعلوا وان ذلك لقليل، فقال (علیه السلام): عليك بالأحداث فإنهم أسرع إلى الخير)(1).إننا نتألم حينما نرى الكثير من شبابنا يسقطون وينحرفون ويلتقطون مظاهر الفساد و الانحلال(2) من حثالات الغرب المنبوذين في بلادهم قبل بلادنا، أو ينخرطون في جماعات ضالة(3) فاسدة من دون الالتفات إلى أجندات أصحابها والأهداف التي يريدون تحقيقها، وقد تكلفهم حياتهم فيخسر نفسه وتخسره الأمة وهو في عنفوان العطاء و التألق.

أيها الأحبة: إن لكم دوراً مهماً في استنقاذ زملائكم وأقرانكم وتوجيههم وهدايتهم إلى السلوك العفيف النظيف، فانتم تصلون إلى ساحات للعمل لا نصل إليها نحن، ومشتركاتكم مع الشباب من أقرانكم أكثر، ولغة التفاهم بينكم أوضح فاستثمروها في كسبهم ولا تضيّعوا هذه الفرصة الثمينة بلطف الله تبارك وتعالى.

ص: 319


1- بحار الأنوار: 23/ 236 عن كتاب قرب الإسناد.
2- إشارة إلى دخول بعض الشباب في جماعة (الإيمو).
3- إشارة إلى جماعات أدعياء المهدوية والبابية ونحوها من دعاوى الارتباط بالإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف).

في ذكرى السيد عبد الوهاب الطالقاني شهيد انتفاضة شهر صفر/ 1977

في ذكرى السيد عبد الوهاب الطالقاني شهيد انتفاضة شهر صفر/ 1977(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على خير خلقه المبعوث رحمة للعالمين أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

كنت عام 1977 طالباً في الدراسة الإعدادية في بغداد وكان والدي الشيخ موسى (رحمه الله) يقيم كعادته مجالس الوعظ والإرشاد الحسيني في شهر صفر/ 1397 في مناطق متعددة من بغداد خطيباً واعظاً ذاكراً لفضائل أهل البيت (علیهم السلام) ومصائبهم.

وكان في تلك الأيام منشّداً بقوة إلى ما تغلي به النجف الأشرف من روح الولاء لأهل البيت (علیهم السلام) والاندفاع الشجاع لمقاومة محاولات السلطة الجائرة للقضاء على الشعائر الحسينية، وكان (ره) يتتبع الأخبار ويحفي السؤال عنها، وكنّا نطّلع من خلال ذلك على تطورات الأحداث في النجف.

وكان اسم المرحوم الشهيد السيد عبد الوهاب الطالقاني من الأسماء

ص: 320


1- تنادى جمع من الأدباء والكتّاب في النجف الأشرف لإحياء ذكرى شهداء انتفاضة النجف الأشرف في الزيارة الأربعينية صفر/1397 الموافق شباط/1977، وقد طلب صاحب المشروع من سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) كتابة خاطرة عن المرحوم الشهيد السيد عبد الوهاب الطالقاني فاستجاب سماحته بهذه الكلمة.

اللامعة التي تميزت بالشجاعة والإقدام في تلك الأحداث، حتى بلغنا نبأ اعتقاله واستشهاده مع ثلّة من الذين مضوا على طريق ذات الشوكة وصانوا الدين ورسالة أهل البيت بدمائهم وضحوا بزهرة دنياهم وشبابهم شوقاً للقاء الأحبة محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين).ومنذ ذلك اليوم أحببت هذا الشهيد المؤمن الصابر المحتسب، وأحببت موكب (علي بن الحسين) الذي أسّسه في النجف ليكون رائداً في الإحياء الواعي للشعائر الحسينية والحركة المنظمة وتوسيع قاعدة المشاركة، بعيداً عن الأطر الحزبية والجماعات التنظيمية، لكنه تفوّق عليها في همّته وشعاراته الواعية وإجهاره بعقائده الحقّة وقيادته للجماهير النجفية في المناسبات الدينية لأهل البيت (علیهم السلام) أو لإظهار مكانة المرجعية الدينية وعمق تأثيرها في الناس.

وقد عرفت المرجعية الدينية وعلماء الحوزة العلمية له هذا الإخلاص والحركة المباركة فأشادوا به، وأيّدوا حركته، وأمدوا نشاطاته بالدعم المادي والمعنوي.

لقد مرّت الأمة في تلك الأيام من صفر عام 1397/ شباط- 1977/ في أوج عنفوان السلطة وتفرعنها بمنعطف مهم في حياتها ومفترق طريق، أما أن تسير نحو المجد والخلود والبقاء ورضا الله تبارك وتعالى والنبي وآله (صلى الله عليهم أجمعين) بما يتطلب ذلك من تضحيات جسيمة، أو المضي في حالة الخنوع والاستسلام ظناً منها أن ذلك يخلصها من بطش النظام وقسوته مع ما فيه من محق لهويتها ودينها وإلغاء لوجودها.

ص: 321

وفي مثل هذه المنعطفات تجتمع شياطين الجن والإنس وتحشد كل قواها لتصدِّ الناس عن طريق الحق وتقودهم إلى طريق الضلال والانحراف [قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ. ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ] (الأعراف:16- 17).وفي مثل تلك اللحظات الحاسمة تحتاج الأمة بشدة إلى الرجال الذين ملئوا معرفة وإخلاصاً وشجاعة لتتغلب على هذه الشياطين ووسوستها للنفوس الأمّارة بالسوء، ولتدل الأمة على طريق الهداية والصلاح أي الطريق المستقيم الموصل إلى الغاية، وتجنب الطرق الزائغة المنحرفة، وكان الشهيد السيد عبد الوهاب الطالقاني وإخوانه البررة وبدعم كامل من المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) أبطال ذلك الزمن الصعب، وأسّسوا بذلك للضربات المتلاحقة التي وُجِّهت للنظام حتى أصبح خاوياً وسقط بلا مقاومة تذكر عام 2003.

فالأمة مدينة بوجودها وحياتها واستقامتها على الصراط لأولئك الصادقين الذين وفوا بما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا.

[وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ] (القصص:5) .

محمد اليعقوبي- النجف الأشرف

5/ ج1/ 1433 - 28/ 3/ 2012

ص: 322

خطاب المرحلة 324 :التذبذب في المواقف علامة الانحراف

خطاب المرحلة 324 :التذبذب في المواقف علامة الانحراف(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

لا شكّ أن الحديث عن فضل العلم وطلبه، وفضل العلماء ودرجاتهم لا ينقضي، والأقلام التي تكتب عنه لا تجف ولن تجف إن شاء الله تعالى، لكنّ الحديث عن العلم وحده لا يكفي، لأنّ العلم وحده لا يكفي، ولا بد أن ينضم إليه الحديث عن العمل بهذا العلم، وإلاّ فإن الكثير ممن ضلوا وانحرفوا وأضلّوا لم تكن مشكلتهم في نقص العلم، بالعكس فقد كان لديهم علم كثير، وما استطاعوا أن يخلقوا فتنة في المجتمع، ويضلّوا أمة كثيرة من الناس إلاّ من جهة أنّ عندهم علماً فاستطاعوا التأثير في الناس، وبدون ذلك العلم لم يكن أحدٌ يعبأ بهم.

فالعلم قد يكون وبالاً على صاحبه، والأحاديث في ذلك كثيرة حتى جعلت أشد الناس حسرة يوم القيامة شخصاً حمل علماً ونقله إلى الآخرين فاستفادوا منه، لكنّه هو لم ينتفع منه ولم يعمل به.

وقد ذكرنا في حديث سابق مثالاً على ذلك وهو علي بن أبي حمزة البطائني الذي تزعّم انشقاقاً على الإمام الرضا (علیه السلام)، وكان عنده علمٌ كثير

ص: 323


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع إدارة وطلبة جامعة الصدر الدينية فرع الحسينية في بغداد يوم الأربعاء 12/ج1/ 1433 المصادف 4/4/ 2012.

ورواياته تملأ الكتب وشبّهه الإمام الكاظم (علیه السلام) هو وأصحابه بالحمير ليذّكره بالآية الشريفة [مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ] (الجمعة:5).والعمل بالعلم له ميادين (أولها) النفس فيصلحها ويهذبها ويكاملها (ثمّ) المجتمع فينقل ما تعلمه وعمل به إلى الآخرين ليساعدهم على الصلاح والهداية، فإن زكاة العلم إنفاقه وبذله للآخرين، والعلم يزكو وينمو ويباركُ فيه بالإنفاق.

ومع وضوح هذه المقدّمة، إلاّ إننا نشهد اليوم أمثلة كثيرة على عدم العمل بالعلم وعدم تحويله إلى واقع نعيشه ونتمثله في حياتنا، في أوساط من يسمَونَ بالمتدينين فضلاً عن غيرهم، والمورد الذي أريد أن أذكره محاولة البعض منهم أن يخوض في الدنيا ويغمض في طلبها مع زعمه المحافظة على دينه وآخرته، وهو أعجز من تحقيق ذلك؛ لأن الآخرة والدنيا بهذا الشكل ضرّتان لا تجتمعان كما ورد في الأحاديث الشريفة، وكان يمكنه أن يجعل الدنيا مزرعة للآخرة، فإن الكمالات والجنان لا تنال إلاّ بهذه الدُنيا.

فتوجد فئة من الناس تحاول أن تنال الدنيا التي فتحت أبواب كثيرة لها اليوم من الامتيازات والمصالح من خلال العمل مع جهة ما، لها نفوذها وتسلطها ومواقعها ومناصبها، مع الاعتراف بأنها لا توصل للآخرة بل تصد عنها، ويقول إنني ما زلت أرجع في الأمور الدينية إلى الجهة الفلانية التي يعتقد أنها مبرئة للذمة أمام الله تعالى، وكأنّه لا تنافي بين الأمرين، وأنّه يمكن

ص: 324

أن يكون مع جهة في دينه، ومع جهة أخرى في دنياه، وهو بذلك يخدع نفسه [يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ] (النساء:142) فهم ممن وصفهم الله تعالى [مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَ-ؤُلاء وَلاَ إِلَى هَ-ؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً] (النساء:143).فمثل هذا الشخص يسقط ولا يستطيع المقاومة حتى النهاية، فإذا أراد الخير لنفسه فليحزم أمره وليتخذ موقفاً حاسماً بأن يجعل الله تعالى نصب عينيه ويختار ما فيه سلامة دينه ويتّبع الجهة التي تبرأ ذمته وتوصله إلى الفلاح فيما يحب ويكره، فيأتمر بأمرها وينتهي بنهيها ويعمل ضمن إطارها.

وأمامنا مثالان من كربلاء وهُما يعبّران عن حالة التنازع هذه والنتيجة التي انتهوا إليها.

أحدهما: عمر بن سعد فقد حاول أن يتجنّب قتال الحسين (علیه السلام) ويبتعد عن هذه الجريمة العظمى بالتوجه إلى إحدى الولايات، لكنّه بقي محباً للدنيا مع ابن زياد وله طمعٌ في نيل ولاية الري وجرجان، حتى وصل إلى مفترق الطريق عندما كلّفه ابن زياد بقيادة الجيش الذي خرج لقتال الحسين (علیه السلام)، وبات تلك الليلة في حيرة وترددٍ شديدين كما يظهر من أبياته الشعرية التي قالها:

أأترك ملك الري والري مُنيتيأم ارجع مأثوماً بقتل حسينِ

وخرج إلى كربلاء على رأس الجيش ولكنّه ظلّ يتأمل أن يأخذ الدنيا بيد من دون أن يخسر الآخرة باليد الأخرى وبقي أياماً في كربلاء يجتمع مع الحسين (علیه السلام) في خيمة نصبت لهما ويتبادلان الأحاديث، والإمام (علیه السلام)

ص: 325

يبذل المحاولات لإقناعه بالعدول عن هذا الخسران المبين، حتى جاء الشمر بكتابٍ من ابن زياد يأمره بمناجزة الحسين (علیه السلام) الحرب أو ترك قيادة الجيش للشمر، وهنا سقط ابن سعد واختار الدنيا فخسر آخرته ودنياه ولم يستطع الجمع بينهما.ثانيهما: الحرّ الرياحي الذي كان قائداً في الجيش الأموي وخرج على رأس ألف فارس لاعتراض الإمام (علیه السلام) في الطريق بعد دخوله العراق والمجيء به إلى الكوفة، وحاول أيضاً أن يحتفظ بموقعه وامتيازاته من دون أن يتورّط في دم الحسين (علیه السلام)، فنفّذ أوامر قيادته بمنع الحسين (علیه السلام) من الرجوع إلى الحجاز، إلاّ أنّه طلب منه (علیه السلام) أن يذهب باتجاه لا يمر بالكوفة فاختار (ع) طريق كربلاء وظلّ الحر يسايره، وهو يتمنى العافية والسلامة وأن لا تنتهي الأمور إلى القتال ويبقى محتفظاً بامتيازاته، إلاّ أنه في النهاية وصل إلى ساعة الحسم يوم عاشوراء حينما وقع القتال، فعاش صراعاً قاسياً ومريراً جعله يرتعد ويرتجف بدرجة استغربها من حوله وظنوا أنّه جبنٌ من المواجهة، فقال له أحدهم: لو قيل من أشجع أهل الكوفة لما عدوناكَ فما هذا الخوف؟ قال: ويلك إنّي أخيّر نفسي بين الجنة والنار ولا أختار على الجنة شيئاً، وأدركه اللطف الإلهي واستنقذه من النار ونقله إلى حيث السعادة الأبدية، ولم يستطع أي أحد غيره أن يتخذ نفس الموقف لشدته وصعوبته.

ولو كان كل من هذين النموذجين قد ترك طلب الدنيا وتخلّى عن زينتها الزائفة ليضمن آخرته من أول الأمر لما وقع في هذا المأزق الكبير الذي لا ينجح فيها إلاّ من عصم الله تعالى.

ص: 326

وهنا تبرز الفئة الثالثة التي حسمت أمرها من البداية واتبعت الحق ولم تؤثر عليه شيئاً كعلي بن الحسين الأكبر (صلوات الله عليهما) الذي يجيب أباه لما علم منه أنّهم سائرون إلى الموت قال: أو لسنا على الحق، إذن لا نبالي أوقعنا على الموت أم وقع الموت علينا.فمثل هذا الفريق نجح من أول الأمر ولا يعاني ولا يجد صعوبة ولا تردداً ويمضي قدماً.

فعلينا –أيّها الأحبة- أن نحذر أنفسنا ثم الآخرين من الإقدام على ما يوجب زلل الأقدام ويقرّب من حافة الهاوية مغترين بالقدرة على النجاة في ساحة الحسم والامتحان، فإنّها مجازفة غير مأمونة العواقب حينما نضع رجلاً هنا ورجلاً هناك، والدنيا مليئة بالامتحانات والفتن.

وهذا ما حاوله من قبل أبو هريرة فينقل أنّه كان يصلّي مع علي (علیه السلام) ويأكل من موائد معاوية فإذا وقعت المعركة انحاز إلى الجبل، فقيل له في ذلك قال: الصلاة مع علي أتم والأكل مع معاوية أدسم والجبل أسلم، وحاول بحسب زعمه أن يحصل على الآخرة مع علي (علیه السلام) وعلى الدنيا مع معاوية، لكن هذا غير ممكن وما كان لمعاوية أن يدعه يتمتع بدنياه بلا ثمن.

وعلينا أن نستفيد من علمنا لأنفسنا وللآخرين ونحسم أمرنا باتباع الحق وسوف يجمع الله تعالى لنا الدنيا والآخرة بفضله وكرمه.

ص: 327

خطاب المرحلة 325 :القرآن الكريم يوقظ الإنسان من غفلته

خطاب المرحلة 325 :القرآن الكريم يوقظ الإنسان من غفلته(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

لا ينبغي لكم وأنتم مثقفون واعون وشباب رساليون أن تكتفوا من قراءة القرآن بتلاوة حروفه، بل لابد من التدبر في معانيه للوصول إلى حقائقه، وقد قدّمت في أحاديث سابقة أنماطاً للتدبر، ومنها ما أذكره اليوم وذلك بأن تلتفت بلطف الله تعالى إلى قضية معينة لها مساس بالواقع المعاش، ثم تجمِّع ما ورد فيها من آيات شريفة حتى تكتمل صورتها، وسيفتح الله عليك وستظهر أمامك حقائق عن تلك القضية، لم تكن ملتفتاً إليها عندما كنت تقرأ كل آية على حدة فتعرف كيفية تشخيصها، وأسباب حصولها، والآثار المترتبة عليها وهكذا.

وليس من الصعب تجميع الآيات المتعلقة بقضية معينة من خلال مراجعة معاجم وفهارس ألفاظ القرآن الكريم كفهرس الألفاظ الملحق بتفسير شبر أو تفسير المعين.

ثم تنتقل بنفس الطريقة إلى معاجم كلمات المعصومين ككتاب (غرر الحكم) و (ميزان الحكمة) لتأخذ منها ما يزيد الأمر وضوحاً.

ص: 328


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من طلبة كليتي الطب والقانون في جامعة البصرة، وطلبة جامعة الصدر الدينية في مدينة الصدر ببغداد ومعهد الإمام الصادق (علیه السلام) للعلوم الدينية في الناصرية يوم الخميس 13/ج1/ 1433 الموافق 5/ 4/ 2012.

وأشير اليوم إلى واحدة من هذه القضايا المهمة وهي غفلة الإنسان عن نفسه، فالإنسان في هذه الدنيا في غفلة (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا) وقد تحدثنا في خطاب سابق عن غفلة الإنسان عن قيادته الحقة وهو أمر متصور بسبب الجهل والتشويش والشبهات، ولكن أن يغفل الإنسان عن نفسه أعز الأنفس عليه وأثمن شيء عنده لأنه يستطيع أن يكتسب بها الجنان، فهذا أمر مستغرب.ومن خلال الآيات الكريمة ستجد التباين الواسع بين البشر في التعاطي مع أنفسهم، فمن مستثمر لها كأفضل ما يكون يقول عنه الله تعالى [وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ] (البقرة:270) فتساعده نفسه على الطاعة والتثبيت على الاستقامة [يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ] (البقرة:265) فيخاطبهم الله تعالى [يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ، وَادْخُلِي جَنَّتِي] (الفجر:2730).

إلى آخرين فشلوا في الاستفادة منها فكانوا كما وصفهم الله تعالى [وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ] (الأنعام:26) [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَ-كِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] (النحل:18) [وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم] (البقرة:9) [قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ] (الأعراف:53)، ويبيّن القرآن الكريم سبب انحدارهم إلى هذه النتيجة وذلك لأنهم [نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ] (الحشر:19) [يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ] (البقرة:9)، [انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ] (الأنعام:24) فهذه أسباب خسران الإنسان نفسه من خلال مخادعة

ص: 329

الإنسان نفسه ونسيان الله تبارك وتعالى والركون إلى الدنيا، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) (إن الصفاة الزلال الذي لا تثبت عليه أقدام العلماء الطمع)(1).وتنتهي النتيجة إلى أعظم الخسارة وهي خسارة الإنسان نفسه، فيجعل ثمنها نار جهنم وكان يستطيع أن يجعلها سبباً لنيل جنات المقربين [قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ] (الزمر: 15).

وإذا انتقلنا إلى أحاديث المعصومين (علیهم السلام) فسنجد مواعظ قيمة، فعن علي أمير المؤمنين (علیه السلام) (إنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها) وعنه (علیه السلام) (من باع نفسه بغير الجنة فقد عظمت عليه المحنة) وعنه (علیه السلام) (من باع نفسه بغير نعيم الجنة فقد ظلمها)(2) وفي نهج البلاغة (عباد الله... الله الله في أعزّ الأنفس عليكم، وأحبّها إليكم، فإن الله قد أوضح لكم سبيل الحق، وأنار طرقه فشقوة لازمة، أو سعادة دائمة).(3)

وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) (أما ترحم من نفسك، ما ترحم من غيرك، فلربما ترى الضاحي من حر الشمس فتظلله، أو ترى المبتلى بألم يمض جسده فتبكي رحمة له، فما صبرك على ذاتك، وجلدك على مصابك، وعزاك عن البكاء على نفسك، وهي أعز الأنفس عليك).(4)

ص: 330


1- ميزان الحكمة: 2/ 1740.
2- غرر الحكم
3- نهج البلاغة، خطبة 157.
4- نهج البلاغة: خطبة 233.

وعن الصادق (علیه السلام): (كتب رجل إلى أبي ذر (رضي الله عنه): يا أبا ذر أطرفني بشيء من الحكمة، فكتب إليه أن العمل كثير، ولكن إن قدرت أن لا تسيء إلى من تحبّه فافعل.قال: فقال الرجل: وهل رأيت أحداً يسيء إلى من يحبّه؟ فقال له: نعم، نفسك، أحب الأنفس إليك، فإذا أنت عصيت الله فقد أسأت إليها)(1).

وفي غرر الحكم عن أمير المؤمنين (علیه السلام) (عجبتُ لمن ينشد ضالته، وقد أضلَّ نفسه فلا يطلبها).

ولرحمة الله تعالى الواسعة بعباده فإنه لم يكتفِ بالواعظ الخارجي وهم الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) وحملة علومهم، فجعل لهم واعظاً من داخل أنفسهم ينبِّههم إلى الخطأ وهو ما يعرف ب-(الضمير) يحذره من الخطأ قبل وقوعه، ويؤنبه بعد ارتكابه لردعه عن تكراره، بحيث انتشر مصطلح (وخز الضمير) أو (تأنيب الضمير) وهي عبارة عن حالة تألم ورفض داخل النفس تؤدي إلى كربة في القلب، تدعو صاحبها لمراجعة نفسه والعودة إلى رشده.

ولكن الإنسان لسوء اختياره يصمّ أذنه عن سماع الواعظ الخارجي ويكبت واعظه الداخلي، إما بمخادعة نفسه وقلب الحقائق ليوهم نفسه إنه ليس على خطأ، وربما يحاول الهروب من صراعه الداخلي من خلال احتساء الخمر وتناول المخدرات، أو بالتكثير من ارتكاب الأخطاء ليعتاد عليها ويميت ضميره.

ص: 331


1- الكافي: 2/ 458.

كثير من الناس يتصور أنه يخدع الآخرين ولكنه في الحقيقة يخدع نفسه، مثلاً شابٌ ينشئ علاقة غير شريفة مع فتاة فيتبجح أمام زملائه بذلك وكأنّه حقق انتصاراً واستدرج هذه الفتاة، ولا يعلم أنها هي التي استدرجته وخدعه الشيطان بها لأنها سلبت منه دينه وخسر نفسه.يروى أن أحد الوعّاظ في بلد مقدس يقصده الزوار من دول العالم جمع التجار والكسبة في السوق وقال لهم إنني أحذركم من هؤلاء الزوار أن يخدعوكم، قالوا: كيف ذلك وهم غرباء لا يعلمون شيئاً ونحن نخدعهم ونبيع إليهم الأشياء بأضعاف سعرها، قال لهم: هذا ما عنيته بكلامي فلا يخدعونكم ويورطونكم في المعصية.

وأنتم –أيها الشباب- أكثر المراحل العمرية عرضة للانخداع والغفلة عن النفس، فقد ورد في الحديث الشريف (السكر في أربعة) أحدها سكر الشباب، فمرحلة الشباب سبب للغفلة والطيش والغرور.

إن الشباب والفراغ والجدهمفسدة للمرء أي مفسدة

ولا نغفل تأثير الجو الاجتماعي العام الذي يساهم بشكل كبير في هذا التمويه والخداع وقلب الحقائق فيقول لك أنت شاب وعليك أن تتمتع وتلهو وتلعب، ليس هذا وقت الجدِّ والعمل، وإذا أراد الموظف أن يكون نزيهاً قيل له: حشر مع الناس عيد، وهل تستطيع بنزاهتك أن تقضي على الفساد، وهكذا حتى يموت الضمير ويخمد بريقه.

ص: 332

خطاب المرحلة 326 :الفجوة المصطنعة بين العلماء والشباب

خطاب المرحلة 326 :الفجوة المصطنعة بين العلماء والشباب(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

يحاول الكثيرون ممن لهم أجندات معيّنة أن يصطنعوا حواجز بين العلماء والمجتمع خصوصاً الشباب، فيشيعون بينهم أنّ العلماء في بروج مشيّدة ولا يمكن الوصول إليهم وإن لغتهم غير مفهومة، ولا يعرفون مخاطبتكم حتى لو وصلتم إليهم، وإنهم يعيشون في زمان وعوالم غير ما أنتم فيه ونحو ذلك من الأفكار، فيعزف الشباب عن الوصول إلى العلماء والجلوس معهم والتحدث إليهم والاستفادة منهم.

وهدف أولئك المخادعين مزدوج، فمن جهة يريدون عزل المرجعية عن الناس خصوصاً الشباب لتجريدها من أهم عناصر القوة لدى المرجعية وهي قوة تأثيرها ونفوذ كلمتها وسلطتها الروحية التي تعيق مشاريعهم الاستكبارية الشيطانية في السيطرة على الشعوب ونهب خيراتها بتغيير هويتها لتسيير أبنائها وفق ما يريدون.

ومن جهة أخرى يريدون إبقاء الناس عرضة للسقوط في الفتن والشبهات

ص: 333


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من طلبة إعدادية الجزيرة في النجف الأشرف الذين زاروا سماحته برفقة بعض أساتذتهم يوم السبت 15/ج1/ 1433 المصادف 7/ 4/ 2012.

والضلالات ويعبث بهم كل فاسد وضال، لأنّ العلماء حصون الأمة والدين فإذا ابتعد الناس عن العلماء كانوا مكشوفين للأعداء بلا حصون، تحمي عقائدهم من الشبهات والعقائد المنحرفة والدعوات الضالة، وتحمي أخلاق الأمة من الفساد والانحرافات والسلوكيات البعيدة عن الدين والأخلاق الفاضلة، وتحمي فكر الأمة من الأفكار الهدّامة والهجينة والمستوردة من الأعداء والتي يعلبونها بعناوين برّاقة ليسهل تسويقها على الناس ويخلطون عليهم الأمور، كالمنكرات التي يدعون إليها تحت عناوين الحداثة والحرية والمساواة والتحضّر والتقدم ونحوها.وأنتم –أيّها الأحبة الشباب- بحضوركم في مجالس العلماء واستماعكم إلى توجيهاتهم تذوّبون هذه الحواجز المصطنعة وتزيلونها، وتنقلون إلى إخوانكم أنّ العلماء ولدوا من رحم هذه الأمة وهم جزء لا يتجزأ منها، بل لا يستطيعون أن يمارسوا مسؤولياتهم ودورهم إلاّ حينما يكونون في وسط هذه الأمة فيتعلمون من معاناتها وتجاربها ويستفيدون من إبداعاتها وأفكارها، وفي بوتقة هذه الأمّة يصاغ العالم العامل ولا يُصنع في كوكبٍ آخر أو في الدهاليز المظلمة ويُفرض على الناس بالإكراه.

وحينما تلتفون حول العلماء وتأخذون منهم فإنّكم ستجدون عندهم العين البصيرة والفكر الثاقب والمعرفة بأحوال الناس والتمييز الدقيق بين الأمور فتسود تصرفاتهم الحكمة كما في الحديث (العالم العارفُ بزمانه لا تهجم عليه اللوابس).

وقد جعل الله تعالى للأمة أعلاماً منصوبة للهداية على الدوام من لدن النبي

ص: 334

(صلی الله علیه و آله) والأئمة المعصومين (علیهم السلام) ومن ثمّ مراجع الدين الجامعين للشرائط، وهذا هو صمام أمان الناس وحبل الله المتصّل بين الأرض والسماء الذي أمروا بالتمسّك به والاعتصام به، ولا يكونوا كالأمم السابقة التي لم تحظ بهذا الحبل المتين فضلّت وانحرفت.وإذا حصلت هذه الفجوة فإن الجميع سيخسر ويفقد العلم أهميته عندما لا يجد ساحة للعمل به بابتعاد الناس عن العلماء وعدم عمل العلماء بعلمهم، وسيخسر الدين أيضاً لأنّه يفقد تأثيره في حياة الناس ودوره الذي هو كالبوصلة التي توجّه أمورهم كلّها.

وما نشوء هذه الظواهر المنحرفة –كظاهرة الإيمو وتقليد الغرب في هوسه ومجونه ولهوه وعبثه- والدعاوى الباطلة –كالدعاوى المرتبطة بالإمام المهدي (علیه السلام) زوراً وكذباً ومكراً- إلاّ بسبب هذه الفجوة وهذا الابتعاد والعياذ بالله.

ص: 335

خطاب المرحلة 327 :السيدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) وتثبيت الأمة على الصراط المستقيم

خطاب المرحلة 327 :السيدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) وتثبيت الأمة على الصراط المستقيم(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المخلوقات وسادتهم أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

السلام عليكم أيها الإخوة المؤمنون ورحمة الله وبركاته

ثلاثة أيام في الإسلام أراد الله تبارك وتعالى لها أن تثبّت عقيدة الأمة وتصحح مسيرتها وتحفظ الإسلام نقياً ناصعاً سليماً من الزيغ والانحراف الذي يريده طلاب الدنيا لتحقيق مصالحهم الذاتية، ومثّلت هذه الأيام أهم منعطفات في حياة الأمة:

الأول: يوم الغدير وبيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیهما السلام) إماماً للأمة وخليفة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) ومكملاً لرسالته المباركة، فجعله الله تعالى يوم إكمال الدين وإتمام النعمة؛ لأنه يوم خلود الرسالة وعدم اندثارها بموت صاحبها رسول الله (صلی الله علیه و آله).

ص: 336


1- الخطاب السنوي الذي يلقيه سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على عشرات الآلاف من المؤمنين الذين توافدوا لإحياء شعائر الزيارة الفاطمية عند أمير المؤمنين (علیه السلام) في النجف الأشرف يوم 3/جمادى الثانية/ 1433 الموافق 25/ 4/ 2012.

الثاني: يوم القيام الفاطمي حينما انقلبوا على الأعقاب بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) كما أخبر به الله تعالى: [أفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] (آل عمران:144)، وهو يوم الفرقان في معركة التأويل التي خاضها أمير المؤمنين (علیه السلام) بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) بحسب ما ورد في حديث النبي (صلی الله علیه و آله) لأمير المؤمنين (علیه السلام): (تقاتل على التأويل كما قاتلتُ على التنزيل)(1) أي تخوض حربَ تصحيح المفاهيم والسلوكيات وتقويم الانحراف ووضع النقاط على الحروف وبيان التفاصيل.الثالث: يوم عاشوراء، يوم التضحية بالقرابين النفيسة لفضح الحكام المستبدين الفاسقين المحاربين لله ولرسوله (صلی الله علیه و آله)، ومن بعد يوم عاشوراء تميّز خط الإمامة والخلافة الإلهية عن خط الملك والسلطنة والصراع على الحكم [لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ] (الأنفال:42) وانتهى عصر خلط الأوراق وتداخل الخنادق.

ولو أطاعت الأمة ربّها وما أنزله على رسوله الكريم (صلی الله علیه و آله) في ما بلَّغ في اليوم الأول (يوم الغدير) لما احتاجت إلى اليوم الثاني وهو يوم القيام الفاطمي الذي دفعت فيه الزهراء (علیها السلام) حياتها ثمناً له وهي في عمر الزهور حيث لم تتجاوز ثمانية عشر ربيعاً.

ولو استُمعت نصيحة الزهراء (علیها السلام) في قيامها المبارك وأعادت الأمة الحق إلى نصابه ودفعته إلى أهله وأذعنت لحق أمير المؤمنين (علیه السلام)، لما حصل

ص: 337


1- بحار الأنوار: 37/ 191، وفي السنن الكبرى للنسائي: 5/ 154: (علي يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلتُ على تنزيله).

الانحراف والانحدار بالأمة حتى تطلَّب تقويمُ المسار سفكَ دم سبط رسول الله (صلی الله علیه و آله) وسيد شباب أهل الجنة وسبي عقائل النبوة من بلدٍ إلى بلدٍ يتصفح وجوههن الأعداء.ولأجل الحفاظ على الإسلام النقي الأصيل لا بد من إحياء هذه الأيام الثلاثة بما تستحقه، وإظهار معانيها الحقيقية، وقد مرّت قرون على الأمة لم يشهد فيها اليومان الأولان حقهما من الاهتمام الواسع إما تقيةً أو مجاملة لئلا تجرح مشاعر الآخرين (والحق أحق أن يُتَّبع) [وَاللهُ أحَقُّ أنْ تَخشَاهُ].

وبقي يوم الحسين (علیه السلام) وحده معطاءً كريماً حفظ عقيدة الأمة وحماها من الانحراف والزيغ، فلو نال اليومان الآخران ما ناله يوم الحسين (علیه السلام) لاتسعت البركات ولتحقق الفتح بإذن الله تعالى، وهو ما نشهد علائمه وطلائعه اليوم.

فالأمة مدينة بصلاحها واستقامتها وثباتها على الدين وسعادتها في الدنيا والآخرة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأمير المؤمنين ولفاطمة الزهراء (صلوات الله عليهما) وللقلة القليلة التي ثبتت معهم وحفظت نهجهم وآثارهم للأجيال، وهم قليلون بالعدد إلا أن عطاءهم كبير عمّ ببركاته كل الأجيال.

لقد كان للسيدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) الأثر الحاسم في تثبيت الأمة عندما انزلقت يوم الانقلاب على الأعقاب، ولم يستطع أحد أن يقف موقفها فقد ضعفت الهمة وجبنت القلوب وخارت القوى وارتفع صوت الشيطان، وعمّت الشبهات وتبلّدت العقول فلم تدرك خطورة الموقف والنتائج الكارثية المترتبة عليه، وكان كل همّها (علیها السلام) أن تحفظ مسيرة الإسلام على الصراط المستقيم.

ص: 338

أيها الأحبة:إن مفردة الثبات والتثبيت من القضايا التي اهتم القرآن الكريم بمعالجتها لأن الإنسان يتعرض في هذه الدنيا إلى ابتلاءات كثيرة ومزالق خطيرة لا ينجيه منها إلا طلب التثبيت من الله تعالى والعمل على تحصيل ذلك، لذا كان مطلب المؤمنين في ساحات المواجهة مع الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء والأعداء من الناس هو [رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] (البقرة:250) [وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ، وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] (آل عمران:147).

وكانت صفة الثبات عند مزالّ الأقدام هي من الصفات البارزة في رسول الله (صلی الله علیه و آله) التي وصفه بها أمير المؤمنين (علیه السلام) في دعاء الصباح: (والثابت القدم على زحاليفها في الزمن الأول)(1)، وجسّد هذا الثبات في حياته الشريفة حيث لم يجامل ولم يداهن ولم يضعف ولم يقصّر، والشواهد على ذلك كثيرة.

وتأسى به أهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين) والصالحون من أتباعه،

ص: 339


1- الزحاليف: جمع زحلوفة وهو المكان شديد الزلق لانحداره وملسه، والزمن الأول بحسب الظاهر هو زمن الخلق والإشهاد وأخذ العهد [وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُرِهِم ذُرِّيَّتَهُم وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِم أَلَستُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أنْ تُقُولُوا يَومَ القِيَامَةِ إنّا كُنَّا عَن هذا غَافِلِينَ] (الأعراف:172).

وكان ديدنهم الثبات والمداومة والصبر والمصابرة حتى آخر نفس ولا معنى ل-(التقاعد) في حياتهم، وبهذا أمرت الأحاديث الشريفة بحيث جاء عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها)(1).ونحن في هذا الزمان بأمسّ الحاجة إلى التثبيت لكثرة الشبهات وانتشار الضلال والفساد واجتماع الأعداء وتفرّق الإخوان، ولا يتحقق الفوز وحسن الخاتمة إلا بالثبات على الاستقامة، عن الإمام زين العابدين (ع) قال: (من ثبت على ولايتنا في غيبة قائمنا أعطاه الله أجر ألف شهيد، مثل شهداء بدر وأحد) وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: والذي بعثني بالحق بشيراً، إن الثابتين على القول به في زمان غيبته لأعز من الكبريت الأحمر)(2).

ولا ينال ذلك إلا بالألطاف الإلهية الخاصة والعمل الجاد لتحصيلها، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (إن الله عز وجل إن شاء ثبّتك فلا يجعل لإبليس عليك طريقاً)(3)، وفي الرواية عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (ستصيبكم شبهة فتبقون بلا علم يرى ولا إمام هدى، لا ينجو منها إلا من دعا بدعاء الغريق قلت: وكيف دعاء الغريق؟ قال: تقول: يا الله يا رحمن يا رحيم، يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)(4)، ومن أدعية القرآن الكريم [رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا

ص: 340


1- ميزان الحكمة: 2/ 1410.
2- الحديثان في ميزان الحكمة: 1/ 180.
3- الكافي: 2/ 425.
4- ميزان الحكمة: 1/ 181.

بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا] (آل عمران:8) وفي مجمع البيان: (قيل: لما نزلت آية [وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ] (الإسراء: 74) قال النبي (صلى الله عليه وآله): اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عينٍ أبداً)(1).فلا يجوز لنا أن نغترّ بمقدار الإيمان الذي نحن عليه والالتزامات الظاهرية التي نؤديها ما لم تقترن بالثبات على الإيمان والاستقامة في موارد الامتحان والابتلاء عندما تتعرض الأقدام للانزلاق بسبب اتباع الهوى والركون إلى الدنيا والتفرّق عن الهادين إلى الحق.

وقد دلّتنا الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) على ما يثبّت الإيمان في قلوبنا ويدفعنا إلى العمل الصالح وهو اتباع أمير المؤمنين (علیه السلام) والسير على نهجه والتمسك بولايته، عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: (ما ثَبَّتَ الله حبَّ علي في قلب مؤمن فزلَّت به قدم إلا ثبَّتَ الله قدماً يوم القيامة على الصراط)(2).

وعنه (صلی الله علیه و آله): (أثبَتُكم على الصراط أشدُّكم حباً لأهل بيتي)(3)، وورد عن الإمامين الباقر والصادق (علیه السلام) في تفسير قوله تعالى: [وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً] (النساء:66) عن الصادق (علیه السلام): (ولو أن أهل الخلاف فعلوا ما يوعظون به في علي (علیه السلام))(4).

ولقد أمرنا الله تعالى بالثبات والصمود على الدوام ودعانا إلى تحصيل

ص: 341


1- تفسير الصافي: 4/ 436.
2- ميزان الحكمة: 1/ 136.
3- ميزان الحكمة: 2/ 1610.
4- تفسير الصافي: 2/ 266 عن أصول الكافي.

أسباب الثبات والاستقامة على الإيمان، بطاعة الله تبارك وتعالى وطاعة رسوله (صلی الله علیه و آله) والصبر وترك التنازع والخلاف المؤدي إلى الانهيار والفشل والإحباط [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ، وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] (الأنفال: 45-46) [وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً] (النساء:66).ومن الوسائل الوثيقة لتحصيل الثبات هي التقوى، قال أمير المؤمنين (علیه السلام): (إنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق)(1).

والورع عن محارم الله تعالى، عن الإمام الصادق (علیه السلام) وقد سئل عما يثبت الإيمان في العبد، قال: (الذي يثبته فيه الورع، والذي يخرجه منه الطمع)(2).

ولا يثبت الإيمان ويؤتي ثماره إلا بالعمل الصالح، عن الإمام الصادق (علیه السلام): (ولا يثبت الإيمان إلا بعمل)(3) وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (مرّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) برجل يغرس غرساً في حائط له، فوقف له وقال: ألا أدُلّك على غرس أثبت أصلاً وأسرع إيناعاً وأطيب ثمراً وأبقى؟ قال: بلى فدُلَّني يا رسول الله، فقال: إذا أصبحت و أمسيت فقل: سبحان الله والحمد الله ولا إله

ص: 342


1- نهج البلاغة: 3/ 171 من كتاب له (ع) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وهو عامله على البصرة وقد بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها.
2- ميزان الحكمة: 1/ 200.
3- الفصول المهمة في أصول الأئمة للحر العاملي: 1/ 434.

إلا الله والله أكبر، فإن لك إن قلته بكل تسبيحة عشر شجرات في الجنة من أنواع الفاكهة وهن من الباقيات الصالحات)(1).وعن أمير المؤمنين (علیه السلام): (من زهد في الدنيا، ولم يجزع من ذلها، ولم ينافس من عزها، هداه الله بغير هداية من مخلوق، وعلمه بغير تعليم، وأثبت الحكمة في صدره وأجراها على لسانه) وفي الحديث (من زار الحسين في بقيعه ثبته الله على الصراط يوم تزل فيه الأقدام)(2).

إن التثبيت على الإيمان والاستقامة لطفٌ يؤتيه الله من يشاء من عباده [وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً] (الإسراء:74) [قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ] (النحل:102) [وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ] (الأنفال:11) [كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ] (الفرقان: 32).

ولكنه مع ذلك ينطلق من داخل النفس المطمئنة بالإيمان والمحبة لله تبارك وتعالى الذين ذكرهم في كتابه الكريم ووصفهم بأنهم يقومون بأفعال الخير انطلاقاً من رغبتهم النفسية في التثبيت والمداومة على الطاعة: [وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فإن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] (البقرة: 265).

فإذا صدق العبد مع ربّه وسعى بالدعاء والعمل للثبات على الإيمان والهدى

ص: 343


1- الكافي: 2/ 506.
2- الحديثان في ميزان الحكمة: 2/ 1172.

ثبّته الله تعالى وآمنه وأسعده في الدنيا والآخرة [يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ] (إبراهيم: 27)، وورد في تفسيرها عن الإمام الصادق (علیه السلام): (إن الشيطان ليأتي الرجل من أوليائنا عند موته عن يمينه وعن شماله ليضلّه عما هو عليه فيأبى الله عز وجل له ذلك)(1).وهذا الخير للأمة هو ما أرادته الصديقة فاطمة الزهراء (علیها السلام) في خطبتيها فدعتهم إلى أن يأووا إلى الركن الشديد الثابت أمير المؤمنين (علیه السلام) وحذَرت من مخالفته: (ويحهم أنّى زعزعوها عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوة والدلالة، ومهبط الروح الأمين، والطَبِين بأمور الدنيا والدين، ألا ذلك هو الخسران المبين) [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَ-كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ] (الأعراف:96) وقد حذّرتهم من عاقبة انقلابهم وأنهم بذلك يؤسسون لواقع فاسد وفتنة عظيمة تحرق بشررها كل الأجيال اللاحقة: (أما لعمري لقد لَقِحت، فَنَظِرَةٌ ريثما تُنتج(2)، ثم احتلبوا ملء القُعْب(3) دماً عبيطاً وزعافاً مبيداً، هنالك يخسر المبطلون، ويعرف التالون غبَّ ما أسس الأولون).

وأنتم أيها الفاطميون الموالون بإحيائكم للشعائر الفاطمية ونصرتكم لله تعالى ورسوله (صلی الله علیه و آله) وإظهار المودة لأهل البيت (علیهم السلام) تتمسكون بحبل وثيق

ص: 344


1- تفسير الصافي: 4/ 239 عن الفقيه وتفسير العياشي.
2- تنتج أي تلد والنتاج هو الوضع أو الولادة للبهائم. لسان العرب: مادة (نتج).
3- القُعْب: القدح الضخم، وقيل: قدح من خشب مقعّر، وقيل: هو قدح إلى الصغر. لسان العرب: مادة (قعب)، واللوحة التشبيهية التي رسمتها الزهراء (علیها السلام) بليغة للغاية صورّت فيها الفتنة وكأنها دابة ستولد بعد حين من لقاح الفتنة ثم يكون جميع ما يجنونه ويحتلبونه منها الدم العبيط.

من التثبيت الإلهي عند المزالق في الدنيا، وعلى الصراط في الآخرة، قال تعالى: [إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] (محمد:7).وأي نصرة لله تعالى أعظم من نصرة أوليائه وإظهار حقّهم، وإنصافهم من ظالميهم، فنصرة الزهراء (علیها السلام) وإنصافها من أعظم موارد الحديث الشريف عن رسول (صلی الله علیه و آله): (من مشى مع مظلوم حتى يثبت له حقه، ثبّت الله تعالى قدميه يوم تزل الأقدام)(1).

وقد منّ الله تعالى عليكم بسبب فاعل آخر للتثبيت وهو انتظار فرج إمامنا المهدي المنتظر (أرواح العالمين له الفداء) والأمل بإقامة الدولة الكريمة على يديه، روى علي بن يقطين عن الإمام الكاظم (علیه السلام) قال: (قال لي أبو الحسن (علیه السلام): الشيعة تُربّى بالأماني منذ مائتي سنة) وشرحها علي بن يقطين بقوله: (فلو قيل لنا: إن هذا الأمر لا يكون إلى مائتي سنة أو ثلاث مائة سنة لقست القلوب ولرجع عامة الناس عن الإسلام، ولكن قالوا: ما أسرعه وما أقربه تألّفاً لقلوب الناس وتقريباً للفرج))(2).

ولكم أيها الثابتون على الحق في زمان الغيبة وردت البشرى من رسول الله (صلی الله علیه و آله) في كتب الشيعة والسنة قال: (سيأتي قومٌ من بعدكم، الرجل الواحد منهم له أجر خمسين منكم، قالوا: يا رسول الله نحن كنّا معك ببدر وأُحُد وحنين ونزل فينا القرآن! فقال: إنكم لو تُحمَّلون ما حُمِّلوا لم تصبروا صبرهم)(3).

ص: 345


1- ميزان الحكمة: 1/ 659.
2- الكافي: 1/ 369 والغيبة للطوسي: 207 وعنهما البحار: 52/ 102.
3- الغيبة للطوسي: 275 والخرائج: 284 وعن الطبراني الكبير: 10/ 225 وسنن أبي داود: 4/ 123 وابن ماجة: 2/ 1330 والترمذي: 5/ 257 وغيرها.

خطاب المرحلة 328 :إبداع الطالب العراقي

خطاب المرحلة 328 :إبداع الطالب العراقي(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

لا شك أن البشرية شهدت اكتشافات وانجازات عظيمة عبر تاريخها نقلتها من تلك العهود البدائية الأولى التي كانت حياتها فيها أقرب إلى حياة الحيوانات إلى العصر الحاضر الذي نجد فيه هذه الثورة التقنية الهائلة في كل المجالات، ولا شك أن هذه الانجازات لم تأتِ من فراغ، وإنما تحققت بفضل تظافر جهود وتراكم خبرات شاركت فيها الحضارات الإنسانية المتعددة.

ولو سُئِلنا عن أعظم تلك الانجازات البشرية لأجبنا بلا تردد إنها الكتابة واستعمال القلم والقدرة على التعبير ونقل المعلومة، لأنها أساس كل هذا التقدم الذي ذكرناه، ولولا أن العلوم وحصيلة التجارب البشرية تدوَّن وتنقل من جيل إلى جيل ومن حضارة إلى أخرى لما حصل هذا التراكم وهذا النمو، ولرأيت كل جيل يبدأ من الصفر ومن حيث بدأ الآخر من دون تكامل، ويبقى المجتمع يراوح في مكانه.

ولذا فإن الأمم التي لم تعرف القلم والكتابة –كالعرب في الجاهلية- بقيت

ص: 346


1- من حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع طلبة الصف الرابع الإعدادي في إعدادية حسين علي محفوظ من النجف الأشرف الذين أُعفوا من الامتحانات النهائية بكل الدروس وقد ناهز عددهم الثلاثين، وكان اللقاء يوم الثلاثاء 23/ج2/ 1433 الموافق 15/ 5/ 2012.

متخلفة وإلى جوارها أمم قطعت أشواطاً بعيدة في التمدّن والحضارة لأنّها عرفت القلم والكتابة واستفادت منهما.إن هذه الإنجازات ما كان البشر ليحققها وحده لولا الألطاف الإلهية التي كانت تلهم الإنسان المؤهل لنقل هذه المعلومة إلى البشرية –سواء كان مؤمناً أو غيره- تلك الاكتشافات وتدلّه عليها في الوقت المناسب الذي تكون فيه البشرية مستعدة لتلقّيها والاستفادة منها، ومن دون هذه الألطاف لا يهتدي الإنسان إلى شيء، وإن ظن بغروره انه هو وحده المكتشف والمبدع، وقد اعترف عدد من العلماء المخترعين، إنهم وإن توصّلوا إلى مكتشفاتهم وحوّلوها إلى واقع إلا أنهم لا يعرفون كنهها ولا كيفية حصولها –كحقيقة الطاقة الكهربائية مثلاً-، ولكن الله تعالى يريد أن يصل هذا الخير إلى البشرية على يد من يشاء من عباده.

ولكن الإنسان المغرور لا يكتفي أحياناً بالاعتقاد أنه مستقل في تحقيق هذه الانجازات العلمية، بل يتكبّر على إلهه وربه، وربما ينكر وجود الخالق العظيم.

((وفي قصص الأنبياء أن نبي الله إدريس (ع) أول من خط بالقلم، وأول من خاط الثياب ولبسها وكانوا يلبسون الجلود، وكان كلما خاط سبّح الله وهلّله وكبّره ووحده ومجدّه، وسُمِّيَ إدريس لكثرة درسه الكتب))(1) وهو (ع) من أقدم الأنبياء عاش في الفترة ما بين آدم ونوح (ع)، وهكذا فإن أصول العلوم تعود إلى الأنبياء والأئمة (علیهم السلام) مباشرة، أو إلى الإلهامات الإلهية.

ص: 347


1- سفينة البحار: 3/ 38 بحار الأنوار: 11/ 279.

وقد سجّل القرآن الكريم هذا الاهتمام بالقلم والكتابة، وأقسم بهما، قال تعالى [ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ] (القلم:1) أما الآيات الكريمة في فضل العلم والعلماء والحث على طلب العلم وذم الجهل وما يقود إليه ونحوها من المعاني فقد قيل أنها بلغت خمسمائة آية.لذا فنحن نفرح ونفخر بكل إنجاز علمي يحققه أبناؤنا ونعتبره إنجازاً للأمة كلها، ومن ذلك حصول هذا العدد الكبير منكم على درجات الإعفاء من الامتحانات النهائية في الدراسة الإعدادية في مدرسة واحدة مما يكشف عن نبوغ علمي وذهنية مبدعة رغم الصعوبات التي تكتنف حياتكم والتي يمرُّ بها البلد ككل وأوّلها الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي بحيث يلتجئ الطلبة إلى الشوارع والساحات العامة ليطالعوا كتبهم على أضويتها.

ورغم عدم الاهتمام بالكفاءات العلمية الواعدة وتوقف دور الرعاية العلمية عن عملها، إلا إننا رأينا في المعرض الذي أقيم الأسبوع الماضي في بغداد للإنجازات العلمية للشباب أكثر من ألف وخمسمائة معروض لشباب وشابات في الجامعات والمرحلة الإعدادية حملت اكتشافات وتطويرات للأجهزة والمعدات بشكل ملفت للنظر وكان كل ذلك بإمكانيات ذاتية وربما استدان بعضهم مالاً ليحقق حمله في إنجاز علمي مفيد للمجتمع من دون أن يتوقع مكافأة أو مساعدة من الجهات المسؤولة.

بل حصل قبل أسبوعين تقريباً ما هو أغرب من ذلك حين اعتقلت القوات الأمنية في محافظة المثنى شاباً نجح في صنع طائرة صغيرة طارت أمتاراً، وهو يعمل مصلّحاً للمولدات الكهربائية الصغيرة، وكان منذ الصغر يحلم أن يكون

ص: 348

طياراً مدنياً أو عسكرياً، لكن ظروفه المعيشية الصعبة حالت دون إكماله الدراسة فاتجه إلى الكسب، وظل هذا الحلم يراوده حتى صنع من أدوات محله هذه الطيارة، واستدان مبلغاً مقداره مليون وربع مليون دينار (ألف دولار) ليتم عمله، وفوجئ باعتقاله واحتجاز طيارته لأنه لم يأخذ رخصة من القوات الأمنية، فكان هذا جزاءه بدل التكريم والرعاية وتوفير ورشة عمل تتضمن كل مستلزمات تطوير إمكانياته.لكنكم بفضل الله تعالى تجاوزتم الصعاب وضعف الإمكانيات وتردّي الوضع في أغلب المدارس وحققتم هذا التفوّق العلمي، وزدتم في قيمته حيثما ضممتم إليه التزامكم الديني وحسن مسيرتكم وأخلاقكم، والتفاتكم إلى ما يعمق صلتكم بالله تبارك وتعالى، ومنها الفعالية المباركة بتوجه جمع كبير منكم برفقة بعض الفضلاء إلى مسجد السهلة وأداء صلاة الجماعة وإحياء مجالس الذكر والدعاء والإرشاد والتوجيه، وعلمت أنكم التقيتم هناك بنخبة ممن يحملون الشهادات العلمية الراقية كالطب والصيدلة والهندسة وقد جمعوا إليها العلوم والمعارف الدينية، وهذا بالتأكيد يعطيكم زخماً كبيراً للتقدم في كلا الميادين.

إن العلوم الأكاديمية تبني حضارة الإنسان وتوفر له أسباب الرفاهية والسعادة، إلا أنها لا تبني إنسانية الإنسان إلا إذا انضمت إليها العلوم الدينية والمعرفة بالله تبارك وتعالى.

وحينئذٍ تتحقق السعادة الحقيقية والفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.

واجعلوا على رأس أولوياتكم الاهتمام بالقرآن الكريم وتلاوته كلما تسنح

ص: 349

لكم فرصة –وما أكثرها- ليس فقط لنيل الثواب في الآخرة ونحوها، بل انه يساعدكم أيضاً على التفوق في دراستكم لأنه يساعد على تصفية الذهن ونقائه ويؤهله لتلقي العلوم، وقد جعلتُ ضمن هديتكم (تفسير شبّر) أو (التفسير المعين) لكي لا تكتفوا بتلاوة القرآن بل تتعرّفوا على معاني مفرداته وآياته باختصار، وطالما نصحت الشباب بذلك.إنكم بهذا التفوق والإبداع تدخلون السرور على قلب الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) لأنه يحب أن يرى في شيعته أمثالكم من الصالحين المهتدين النافعين لأمتهم، وهذه من أعظم الهدايا التي تقدمونها لإمامكم وتخفّفون بها عنه آلامه وجراحه.

ص: 350

خطاب المرحلة 329 :كيف نكون من المقرّبين

خطاب المرحلة 329 :كيف نكون من المقرّبين(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

أهل الجنة ليسوا على نمط واحد من النعيم يوم القيامة وإن كانت الآيات الكريمة تقسّمهم إلى [فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ] (الشورى:7)، وفي سورة الواقعة إلى (المقرّبين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال) وإنما تتفاوت منازلهم يومئذ على أنماط ومراتب لا حصر لها، وهذا كله فرع تفاوتهم في كيفية استثمار فرصة وجودهم في الحياة الدنيا [وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً] (الإسراء:21).

وقد وردت الأحاديث الشريفة في مراتب الإسلام و الأيمان و الورع والتقوى مما يعطي رؤية عن التفاوت الواسع في درجات الناس في الدنيا.

والمؤمن الطامح للكمال يرنو ببصره إلى أعلى تلك الدرجات ويسعى إليها، وهو متيسّر لكل أحد بكرم الله تعالى وفضله، وقد وصل إلى تلك الدرجات ناس ليسوا من المعصومين (علیهم السلام) حتى يقال إننا لا نصل إلى درجتهم (صلوات الله عليهم)، وكان وصولهم بأسباب ووسائل متعددة، فبعضهم بموقف جهادي

ص: 351


1- من حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع رابطة خطباء وأئمة مساجد مدينة الحرية ببغداد في يوم السبت 8/ربيع الثاني/1433 ومع جمع من أساتذة وطلبة المرحلة الثانية في جامعة الصدر الدينية في النجف يوم الثلاثاء 23/ج2/ 1433 الموافق 15/ 5/ 2012.

والشهادة في سبيل الله تعالى كأنصار الحسين (علیه السلام)

قد جاوروه هاهنا بقبورهم *** وقصورهم يوم الجزا متدانية

وبعضهم بعلوّ الهّمة وحسن الظّن بالله تعالى كعجوز بني إسرائيل التي روى النبي (صلی الله علیه و آله) قصتها مع كليم الله موسى (على نبينا وعليه الصلاة و السلام) وقال لها أطلبي ما تشائين فأني أرجو أن يحقق الله تعالى لك، فقالت أريد أن أكون معك في درجتك في الجنة، فأثنى النبي (صلی الله علیه و آله) على علو همتها.

وبعضهم بالمعرفة الكاملة بأهل البيت (علیهم السلام) وولايتهم كسلمان الفارسي الذي ورد فيه الحديث النبوي الشريف (إن الجنة لأعشق لسلمان من سلمان للجنة)(1)

وعن عبد العزيز القراطيسي قال: (دخلت على أبي عبد الله (علیه السلام) فذكرت له شيئا من أمر الشيعة ومن أقاويلهم، فقال: يا عبد العزيز الأيمان عشر درجات بمنزلة السلم له عشر مراقي وترتقى منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولنَّ صاحب الواحدة لصاحب الثانية لست على شيء، و لا يقولنَّ صاحب الثانية لصاحب الثالثة لست على شيء حتى انتهى إلى العاشرة قال: وكان سلمان في العاشرة، وأبو ذر في التاسعة، والمقداد في الثامنة يا عبد العزيز لا تسقط من هو دونك فيسقطك من هو فوقك، إذا رأيت الذي هو دونك فقدرت أن ترفعه إلى درجتك رفعا رفيقا فافعل، ولا تحملنَّ عليه ما لا يطيقه فتكسره فإنه من كسر

ص: 352


1- بحار الأنوار: 22/ 341

مؤمنا فعليه جبره، لأنك إذا ذهبت تحمل الفصيل حمل البازل فسخته)(1).ومنهم من يصل تلك الدرجات السامية بكفالة الأيتام فاقدي الأبوين أو الأيتام المعنويين وهم الناس المقطوعون عن إمام زمانهم فيأخذ بأيديهم ويرشدهم، وورد في ذلك الحديث النبوي الشريف (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة إذا اتقى) وأشار بالوسطى و التي تليها، فقد خصصنا خطابا لبيان هذا المعنى في إحدى الزيارات الفاطمية (2).

وأنتم – يا طلبة العلوم الدينية – ممن هيأ الله تعالى لهم هذا السبيل للارتقاء إلى درجات المقربين، وفي ذلك يقول الأمام الحسن العسكري (علیه السلام) (حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) انه قال: اشدُّ من يتم اليتيم الذي انقطع عن أبيه يتم يتيم انقطع عن إمامه ولا يقدر على الوصول إليه ولا يدري كيف حكمه فيما يُبتلى به من شرائع دينه، ألا فمن كان من شيعتنا عالما بعلومنا وهذا الجاهل في شريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا يتيم في حجره، ألا فمن هداه وأرشده وعلمّه شريعتنا كان معنا في الرفيق الأعلى)(3).

وكلما ذكرنا مثل هذه المعاني استغربنا كيف لا يلتحق كل الناس بالحوزات العلمية الدينية لينالوا هذه المرتبة العظيمة.

وأذكر لكم أحد المباركين الذين نالوا هذه الدرجة، ولم يكن من سادات

ص: 353


1- الخصال للصدوق باب العشرة ج2 ص 448، الفصيل: ولد الناقة إذا فُطِم من اللبن وانفصل عن أمّه، والبازل إذا بلغ 8-9 سنوات من العمر.
2- خطاب المرحلة: 6/ 228
3- بحار الأنوار: 2/ 2-6 الباب 8 من كتاب العقل و الجهل الأحاديث 1-11

بني هاشم ولا من علية القوم ولا من الأسر المعروفة، انه بُكير بن أعين، وكان أبوه عبداً رومياً لرجل من بني شيبان تعلم القران ثم اعتقه فكان من موالي بني شيبان ولم يلتحق بنسبهم وكان جده راهبا في بلد الروم، وأنجب أعين أولاد فقهاء أفذاذ وهم زرارة وبكير وعبد الملك وحمران، ورووا عن الإمام السجاد و الباقر و الصادق (صلوات الله عليهم أجمعين)، لما بلغ خبر موت بكير الإمام الصادق (علیه السلام) قال (أما والله لقد أنزله الله بين رسول الله وأمير المؤمنين (صلوات الله عليهما)(1).فهذا قدوة وأسوة لكم وفقه الله تعالى لمسلك أهل العلم فتحّمل علوم أهل البيت (علیهم السلام) ونشرها بين الناس بحسب استطاعته، إذ لم تكن الفرصة متاحة لقسوة الأمويين و العباسيين وبطشهم بكل من يتشيع لعلي واله (صلوات الله عليهم أجمعين)، فثبت هذا الفقيه الكبير وواصل نشر علوم أهل البيت (علیهم السلام) وكان لهم الفضل الكبير على كل أجيال المسلمين إلى قيام يوم الساعة بما حفظوا ونقلوا من أحاديث أهل البيت (علیهم السلام) ولولاهم لضاعت تلك الأحاديث.

لقد بذل العلماء وحملة الأحاديث الكثير من الجهود و تحمّلوا أذى كثيراً على هذا الطريق ولكنهم ثبتوا و واصلوا، طلب هارون العباسي من محمد بن أبي عمير – وهو من الرواة الأجلاء الثقات الذين قبل الأصحاب رواياتهم وان لم يسندها – أن يلي القضاء فرفض فراراً بدينه، فحبسه وعذبوه في السجن ليدل على مواضع الشيعة وأصحاب الإمام موسى بن جعفر(ع) فلم يخضع، حتى بلغ منه الألم مبلغا عظيما فكاد أن يقرّ فسمع محمد بن يونس بن عبد

ص: 354


1- معجم رجال الحديث: 3/ 353

الرحمن وهو يقول: اتق الله يا محمد ابن أبي عمير، فصبر ففرّج الله تعالى (1).ونحن اليوم وإن زال عنّا بلاء السجن والاعتقال والإعدام بالقضاء على المجرم المقبور، إلاّ أن ألواناً من البلاء تحفُّّ بنا قد تكون أشد من ذلك.

وأنتم فاشكروا الله تعالى على توفيقه لكم لحمل هذه الرسالة [ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ] (عبس:20) واثبتوا [اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (آل عمران:200) [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] (يونس:58).

ص: 355


1- معجم رجال الحديث: 14/ 296

خطاب المرحلة 330 :بمناسبة حلول أيام الله تبارك وتعالى في شهر رجب

خطاب المرحلة 330 :بمناسبة حلول أيام الله تبارك وتعالى في شهر رجب(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى [وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ] (إبراهيم:5) ولاشك أن شهر رجب من أيام الله تعالى لما ورد من أن الرحمة تُصَبُّ فيه صبّاً حتى سُمِّي رجب الأصب.

فهو شهر مبارك من حين إطلالة هلاله ومن أول ليلة منه فقد روى الإمام الصادق (علیه السلام) عن آبائه عن أمير المؤمنين (صلوات الله عليهم أجمعين) قال (كان يعجبه أن يفرِّغ نفسه أربع ليال في السنة، وهي أول ليلة من رجب، وليلة النصف من شعبان، وليلة الفطر، وليلة النحر)(2).

وليس هذا وحده، فبحلوله تبدأ أشهر ضيافة الله تعالى التي تبلغ ذروتها في شهر رمضان المبارك، فمن أراد أن يحظى بكرامة الله تبارك وتعالى وشرف دعوته فليهيّئ نفسه من شهر رجب؛ لأن بطاقة الدعوة إلى ضيافة الرحمن في شهر رمضان تُقدّم من شهر شعبان من قبل رسول الله (صلی الله علیه و آله)، والدخول إلى حضرة رسول الله (صلی الله علیه و آله) يكون من خلال أمير المؤمنين (علیه السلام) في شهر رجب، وهذا واحد من معاني الحديث أن شهر رجب شهر أمير المؤمنين

ص: 356


1- كلمة ألقاها سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) عل الفضلاء الذين يحضرون بحثه الخارج يوم الأحد 28/ج2/ 1433 الموافق 20/ 5/ 2012.
2- مفاتيح الجنان: 222 أعمال الليلة الأولى من رجب.

وشعبان شهر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وشهر رمضان شهر الله تعالى، فالنظر في مستحقي ضيافة الرحمن في شهر رمضان تكون من شهر رجب بواسطة أمير المؤمنين (علیه السلام) وتُقدّم إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) لينظر فيها في شهر شعبان ويقدّمها إلى الله تبارك وتعالى وهو الذي وسعت رحمته كل شيء.وهذا الترابط بين الأزمنة بحيث يكون القضاء في وقت والتقدير في وقت آخر يحلُّ لنا بعض الإشكالات، فمثلاً من المعلوم الذي وردت فيه الروايات الشريفة أن ليلة القدر تقدر فيها الأرزاق والآجال والعواقب، وورد في تفسير قوله تعالى [فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ] (الدخان:4) أنها ليلة النصف من شعبان، وهذا تعارض بحسب الظاهر بينهما، إلا أنه يندفع التعارض بين التفسيرين: بأن في ليلة النصف من شعبان يُنظر في قضاء الأمور وتوزيع الاستحقاقات والأرزاق في الدنيا والآخرة، أي يجري فيها القضاء من دون قدر أي حسم، وتقدم بما يسمى (مطالعة) في العرف المتداول، ثم تُحسم ويتحتم فيها القضاء والقدر في ليلة القدر، وفي بعض أدعية شهر رمضان إشارة إلى هذا الترابط (اللهم إني أسألك أن تجعل فيما تقضي وتقدِّر من الأمر المحتوم في الأمر الحكيم من القضاء الذي لا يردُّ ولا يُبدّل أن تكتبني من حجاج بيتك الحرام إلى آخره...).

وبهذا أيضاً يجاب على دخول ليلة التاسع عشر من شهر رمضان في ليالي القدر مع أن الروايات الصحيحة دلّت على كونها في العشر الأواخر من شهر رمضان، وتفسير ذلك أن في ليلة التاسع عشر من شهر رمضان تُقدّم الطلبات وتُرفع الدعوات، وفي الليلة الحادية والعشرين يُنظر في الاستحقاقات وتقدَّر

ص: 357

القواعد العامة لها من دون تطبيق تلك القرارات على الأفراد، حتى تُحسم في ليلة القدر، فمن أراد أن يكون من أهل ليلة القدر فلا يفوِّت العمل منذ ليلة التاسع عشر ولا يتوهم أنها ليست من ليالي القدر فيتهاون في العمل فيها، فإن تلك الليالي تبدأ بها فعلاً وتُقدَّم فيها الطلبات.وإذا أردنا أن نمثل لمورد من الفقه للقضاء بقدر وللقضاء بدون قدر فهي الحدود والتعزيرات، فإن موجباتهما تشترك بأنها جنايات وجرائم وجنح تستحق العقوبات، فهي جميعاً مما قضى الله تعالى فيها بالعقوبات، إلا أنها تفترق بأن في موارد الحدود قُدّرت العقوبة، أما في التعزيرات فلم تقدَّر وترك تقديرها إلى ولي الأمر، فاجتمع في الحدود القضاء والقدر، أما في التعزيرات فقضاء بلا قدر.

ومن هذه المقدمة نتعرف على أهمية شهر رجب بأنها ليست فقط ناشئة من شرف نفس الشهر وكرامته والألطاف الإلهية العظيمة المتاحة للعباد فيه، بل لأنه بداية أشهر ضيافة الرحمن التي تكتمل في شهر رمضان.

فعلينا أن نؤهل أنفسنا لتلقي هذه الألطاف الإلهية، بمزيد من الالتفات والذكر والمراجعة لعلاقتنا مع الله تبارك وتعالى، وتكون هذه المراجعة والمحاسبة على عدة محاور وبعدّة اتجاهات، فالأعمال الصالحة التي كنّا نؤدّيها نداوم عليها ونحسِّن أداءها، والتي كنّا لا نؤديها نبادر إلى الإتيان بها، والتي كنا نؤدي جزءاً منها نكملها، وإذا وُجد في برامج حياتنا تضييع وتفريط بالوقت الثمين من أعمارنا فيما لا ينفعنا في الآخرة فعلينا أن نتجنبه ونحوّله إلى وقت مثمر ومنتج بالأعمال الصالحة.

ص: 358

فمن كان يؤدي الصلاة في أوقاتها وفي المساجد ويؤدّيها جماعة فليحافظ عليها وليواظب فإنّها كالدواء الذي له وقت معين لتناوله وإذا لم يلتزم بالوقت المحدّد فإنه يفقد جزءاً كبيراً من منفعته.ومن كان لا يؤدي صلاة الليل أو يكتفي بركعتي الشفع والوتر منها ليضاعف همّته ويواظب عليها فإن المقامات المحمودة عند الله تبارك وتعالى لا تُنال بغير التهجّد بالليل قال تعالى مخاطباً نبيّه العظيم (صلی الله علیه و آله) [وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً] (الإسراء:79).

ومن كان لا يؤدي النوافل اليومية ليقم ولو ببعضها كركعتي نافلة العشاء والصبح والغفيلة بعد صلاة المغرب وركعتين من نافلة الظهر والعصر حتى لا يُعدُّ من التاركين لها على الأقل.

وليتذكر أداء صلاة أول الشهر في أول يوم منه وهي ركعتان بالحمد و30 مرة سورة التوحيد في الركعة الأولى، والحمد وثلاثين مرة سورة القدر في الركعة الثانية ثم يقرأ دعاءً قصيراً موجوداً في الكتب المخصّصة ثم يتصدق بما يتيسّر فإنه يشتري بذلك سلامة هذا الشهر.

وإذا لم يكن ممن يتصدق فليكن من أهل الآية الشريفة [يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ] (البقرة:274) فيعزل مقداراً ولو يسيراً في أول الليل –أي بعد صلاة المغرب- ومقداراً في أول النهار –أي بعد صلاة الصبح- حباً لله تعالى ما دام هذا الفعل محبوباً لله تعالى وليدفع عنه وعن أهله السوء.

ولا يغفل عن صلاة جعفر الطيار ضحى يوم الجمعة فإنها تسمى الإكسير الأعظم لما فيها من أثر في الارتقاء والتكامل.

ص: 359

ومن الأعمال المميّزة في هذا الشهر الصوم، وكلما أكثر منه فهو خير بحسب ما تسمح قوته الجسمية وظروفه المحيطة به كطبيعة عمله، والمعدّل المناسب هو ثمانية أيام في مجموع الشهر لقول الإمام الباقر (ومن صام ثمانية أيام من رجب فتحت له أبواب الجنة الثمانية فيدخلها من أيِّها شاء)(1).وليحرص على توقيتها في الأيام الشريفة وهي:

1- اليوم الأول فيه فضل عظيم.(2)

2- ثلاثة أيام في الشهر التي أوصى بها رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمير المؤمنين (علیه السلام) ودعاه إلى الالتزام بسنّته فيها، وهي أول خميس من الشهر والأربعاء في العشرة الوسطى وآخر خميس من الشهر فمن صامها فكأنما صام الشهر كله، ومن واظب عليها في جميع الشهور فكأنما صام الدهر كلّه كما ورد في بعض الروايات.

3- الأيام البيض الثلاثة (13، 14، 15)

4- يوم السابع والعشرين وهو يوم المبعث النبوي الشريف،

5- آخر ثلاثة أيام من الشهر

6- ثلاثة أيام (الخميس والجمعة والسبت) من الأسبوع لما ورد من استحباب صوم مثل هذه الثلاثة في الأشهر الحرم ورجب منها.

فتحقق بذلك الثمانية مضافاً إلى الثواب المخصوص لبعض الأيام.

روى الشيخ الصدوق بسنده عن سالم قال (دخلت على الصادق (علیه السلام) في

ص: 360


1- وسائل الشيعة، أبواب الصوم المندوب، باب26 ح5.
2- مفاتيح الجنان أعمال اليوم الأول من شهر رجب.

رجب وقد بقيت منه أيام، فلما نظر إليَّ قال لي: يا سالم: هل صمت في هذا الشهر شيئاً، قلت: لا والله يا ابن رسول الله، فقال لي: فقد فاتك من الثواب ما لم يعلم مبلغه إلا (الله عز وجل) إن هذا شهر قد فضّله الله وعظّم حرمته وأوجب للصائمين فيه كرامته، قال: فقلت له: يا ابن رسول الله، فإن صمت مما بقي منه شيئاً، هل أنال فوزاً ببعض ثواب الصائمين فيه؟ فقال: يا سالم من صام يوماً من آخر هذا الشهر، كان ذلك أماناً من شدة سكرات الموت، وأماناً له من هول المطلّع وعذاب القبر، ومن صام يومين من آخر هذا الشهر كان له بذلك جوازٌ على الصراط، ومن صام ثلاثة أيام من آخر هذا الشهر أمن يوم الفزع الأكبر من أهواله وشدائده وأعطي براءة من النار)(1)وروايات كثيرة في (وسائل الشيعة) وغيرها محفزة على هذا العمل الصالح.

ولا يغفل عن ليلة الرغائب وهي أول ليلة جمعة من شهر رجب ولها أعمال مذكورة بعد أن يصوم أول يوم الخميس من الشهر.

ومما ينبغي المواظبة عليه في هذا الشهر الشريف إقامة الشعائر الدينية وزيارة الأئمة المعصومين (علیهم السلام) لوجود عدة مناسبات فيه لأهل البيت (علیهم السلام) ففي الأول منه ولادة الإمام الباقر (علیه السلام) وفي الثالث منه شهادة الإمام الهادي (علیه السلام) وفي العاشر ولادة الإمام الجواد (علیه السلام) وفي الثالث عشر ولادة أمير المؤمنين (علیه السلام) وفي النصف منه وفاة العقيلة زينب (علیها السلام) وفي الخامس والعشرين شهادة الإمام الكاظم وفي السابع والعشرين ذكرى المبعث النبوي

ص: 361


1- راجع (مفاتيح الجنان) للشيخ عباس القمي في (أعمال شهر رجب)، ورواها في وسائل الشيعة، أبواب الصوم المندوب.

الشريف.وفيه زيارتان مخصوصتان مهمتان للإمام الحسين (علیه السلام) في الأول والنصف منه وسميت بالغفيلة لغفلة عامة الناس عن فضلها، وفيه الزيارة المخصوصة لأمير المؤمنين في المبعث النبوي الشريف.

وأكثروا من تلاوة القرآن الكريم كلما تيسّر لكم ذلك والأدعية الشريفة واذكروا الله تعالى في أوقات الغفلة.

واغتنموا هذه الأشهر لمراجعة النفس والعلاقة مع الأهل ومنهجهم في الحياة ومدى مطابقة سلوكهم لما يريده الله تبارك وتعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] (التحريم:6) برّوا بوالديكم وأظهروا لهم المودة والشفقة والرحمة، و صلوا أرحامكم وأصلحوا ذات بينكم وما فسد من أمور مجتمعكم، وأكثروا من الدعاء لصاحب الأمر الحجة الخلف الهادي المهدي (أرواح العالمين له الفداء)، وحسّنوا أخلاقكم، وادعوا الناس إلى كل خير وساعدوهم على اجتناب كل سوء أعاذنا الله وإيّاكم.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل رضاه ومن أهل طاعته في هذه الأشهر الكريمة وفي كل آن، والحمد لله الذي هذا لهذا وما كنّا لنتهدي لولا أن هدانا الله، وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

ص: 362

خطاب المرحلة 331 :أما آنَ وقت ترك التدخين

خطاب المرحلة 331 :أما آنَ وقت ترك التدخين(1)

الحمدُ لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

توجد حقيقة اجتماعية مؤسفة في حياة البشر، وهي أنّه كلّما أنقذهم الله تعالى من بلاءٍ معنوي أو مادي أعادوا أنفسهم إلى مثله أو أسوأ منه، ولذا ورد في أدعية التوسل إلى الله تعالى بعدم الوقوع في مثل هذه الحالة (اللهم لا تنزع عنّا صالحاً ولا تردَّنا في سوء استنقذتنا منه أبداً).

فمن البلاءات المعنوية نذكر مثالاً وهو أن الناس كانوا يعيشون جاهليةً مليئة بالظلم والفساد والقتل والانحطاط فأنقذهم الله تعالى بالإسلام وبرسول الله (صلی الله علیه و آله) لكنّهم ما لبثوا أن انقلبوا على الأعقاب بعد وفاته (صلی الله علیه و آله) ثم عادوا إلى جاهليتهم الأولى.

والشواهد كثيرة، وهذه القضية تحتاج إلى بحث وتحليل عقائدي اجتماعي سايكولوجي مفصّل.

ومن البلاءات المادية ما نحن بصدده، إذ أنّني وبمناسبة اليوم العالمي لمكافحة التدخين أريد أن أدخل من هذه المقدمة إلى قضية مكافحة

ص: 363


1- كلمة ألقاها سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) في مجلسه العام يوم الخميس 31/ 5/ 2012 المصادف 9/رجب/1433 بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة التدخين.

التدخين، فقد كانت البشرية تعاني في العصور السالفة من أمراض فتّاكة كانت تودي بحياة الآلاف وتقف عاجزة أمامها، وقد أنقذ الله تعالى البشرية اليوم منها بفضل التقدّم العلمي بالطب والعلاج، لكنّهم ابتدعوا التدخين ليعودوا إلى ما كانوا عليه من البلاء وأكثر، حيث تقول منظمة الصحة العالمية: إن عدد الذين يلاقون حتفهم بسبب استعمال التبغ بأشكاله يفوق بلا ريب ولا أدنى شك عدد الذين يموتون نتيجة للإصابة بأمراض الطاعون والكوليرة والتيفوس والتيفوئيد والسل والجدري والجذام مجتمعة كلها في كل عام.أترى كيف عاد الإنسان ليقضي على نفسه ويوجد بديلاً فتّاكاً بعد أن نجّاهُ الله تعالى من تلك الأمراض الفتّاكة، وتقول التقارير أنّ ثلاثة من كل عشرة يدخنون سيلاقون حتفهم بسبب أمراض ناتجة عن التدخين، وان أغلب الباقين سيعانون من أمراض لها علاقة بالتدخين، وجاء فيها: إنّ كمية النيكوتين الموجودة في سيجارة واحدة كفيلة بقتل إنسان في أوج صحّته لو تمّ حقنه بالوريد.

وفي تقرير هذا العام لمنظمة الصحة العالمية (WHO) إن حوالي (6) ملايين شخص يلقون حتفهم سنوياً بسبب استهلاك التبغ الذي تدخل في مكوناته أكثر من 4000 مادة كيميائية، وما يفوق ال60 منها يعتبر مواداً سامة.

وقد تم مؤخراً طرح السيجارة الالكترونية في الأسواق كبديل لمنتجات التبغ، والتي تندرج تحت ما يسمى بالنظام الإلكتروني البديل لتوصيل النيكوتين، حيث يتم تسويقها كوسيلة مساعدة للإقلاع عن التدخين، إلاّ أنها على العكس تماماً تعمل على عرقلة عملية الإقلاع عن التدخين، وتفتح المجال

ص: 364

للإدمان عليها حيث توفر جرعات مستنشقة من النيكوتين.إن ضرر التدخين لا يختص بالرئتين والجهاز التنفسي ولا بالقلب فقط بل يمتد إلى الكليتين وأعضاء الجسم الأخرى حتى النشاط الجنسي حيث يصاب بالعنّة لتلف بعض الشرايين والأوردة.

ولا يقتصر ضرر المدخن على نفسه بل على من حوله، خصوصاً الأطفال، إذ يقول الخبراء أنّ كل طفلٍ يدخّن أحد والديه في المنزل ما بين عشرة إلى عشرين سيجارة يومياً يكون هذا الطفل قد دخّن ربع هذا العدد، وإنّ تدخين الوالدين يساعد على إصابة الأطفال بأمراض عديدة وأوضحها الأمراض التنفسية خاصة الربو، وأمراض أخرى قد لا يبدو لها ارتباط بالتدخين كالصمم حيث تقول الإحصائيات أن ثلث حالات الصمم في الأطفال ترجع إلى تدخين الوالدين أو أحدهما، ويشرح المختصون كيفية حصول هذا التأثير.

ولا نحتاج أن نطيل في ذكر أضرار التدخين على صحة الفرد والمجتمع فالإعلانات عنها كثيرة ومنتشرة وقد كُتب على كل علبة سيكائر أن التدخين سبب رئيسي لسرطان الرئة والأمراض التنفسية وتصلب الشرايين المؤدي إلى الجلطة والذبحة الصدرية وسرطان الفم والحنجرة وغيرها، وحتى الأجنّة في بطون الأمّهات.

وإذا انتقلنا إلى الأضرار الأخرى، كهدر الأموال الضخمة على نفس العملية أو تداعياتها كتلوث البيئة أو نفقات العلاج من آثارها والإدمان عليها أو المشاكل الناتجة بسببها، أو تكاليف تصنيعها وغيرها كثير، فإنّنا سنقف أمام أرقام المليارات.

ص: 365

وللتدخين أضرار اجتماعية حيث ينظر كثيرون إلى هذه الحالة باشمئزاز وينفرون من صاحبها، وقد سمعنا كثيرين ممن يريد الزواج أنّه يشترط على الطرف الآخر أن لا يكون مدخناً.ولا نغفل عن النقص الأخلاقي، لأنّ التدخين يوجب الاعتياد والإدمان، والخضوع للعادة والاستجابة لمتطلباتها منقصة أخلاقية؛ خصوصاً إذا تحوّلت إلى قوة ضاغطة لا يستطيع أن يتحرر منها، وقد ذكرنا في حديث سابق شرحنا فيه قول الإمام الحسن العسكري (علیه السلام): (ما أقبح المؤمن أن تكون له رغبة تذله) قضية واقعية كانت فيها عادة التدخين سبباً لإعدام واعتقال العشرات من المؤمنين.

وبعد كل هذا يحق لنا أن نسأل المدخنين (حتى متى التدخين)(1)، ونتساءل باستغراب وشفقة (ألم يأنِ للذين يدخنون أن يقتنعوا بأن التدخين عادة ضارّة يجب الإقلاع عنها)، على صيغة الآية الشريفة مع الفارق في المورد [أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ] (الحديد:16).

وقد تسأل هنا: إذا كان الأمر كذلك فلماذا لا يكون هناك تحريم صريح وواضح للفقهاء (أعلى الله مقامهم)؟!

وأقول في الجواب: إنّ الفقهاء يتبعون الدليل الشرعي ويفتون بمقتضاه ويستعملون صيَغه وتعابيره، وبيان الشرع المقدس لحكم قضية معيّنة قد يكون

ص: 366


1- عنوان كتيب صدر بإشراف ومراجعة سماحة الشيخ (دام ظله) أيام النظام المقبور ضمن سلسلة (نحو مجتمع نظيف).

نصاً واضحاً وصريحاً كقوله (الصلاة واجبة) و(صوم شهر رمضان واجب) و (الخمر حرام) و (الزنا حرام)، وقد لا يكون كذلك وإنّما يذكر الحكم لعناوين عامّة، ويجري هذا الحكم على كل ما انطبق عليه هذا العنوان، وهذه من صيغ خلود الشريعة الإسلامية، لأنّ كثيراً من الأمور لم تكن موجودة في عصر صدور النصوص الشرعية فكيف يذكر أحكامها؟ مثلاً بعض أنواع المسكرات الموجودة اليوم لم تكن معروفة يومئذٍ، لكن ورد نص عام (كل مُسكر حرام) وهذا يكفي لتطبيقها على هذا النوع من المسكر ونفتي بحرمته.وهناك صيغة أخرى لبيان الحكم من خلال ذكر أسباب الحكم وعلله فمتى وُجدت هذه العلة في الشيء اكتسب ذلك الحكم، كما لو قال أنّ كل شيء يضر البدن بشكل لا يقبله العقلاء فهو حرام، فمتى ما توفّر هذا الملاك –على تعبيرهم- كان الشيء حراماً.

فحكم التدخين وإن لم يرد بالشكل الأول لعدم وجود موضوعه في زمان صدور النصوص، إلاّ أنّه قد يدخل في بعض العناوين الأخرى، فقد أعطينا فكرة عن:

1-ضرره على المدخّن نفسه من جهات عديدة، وقد عرفنا أن ضرره أكثر من كثير من الأمراض الفتّاكة حتى الايدز، ففي الإحصائيات الدولية أنّ الذين ماتوا بمرض الايدز منذ ظهوره عام 1981 إلى عام 1992 أي في أكثر من عشر سنوات أقل من الذين يموتون بسبب استعمال التبغ في سنة واحدة.

2-ضرره على الآخرين وهو محرّم.

3-تبذير الأموال، وقد قال تعالى: [إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ]

ص: 367

(الإسراء:27)، والإسراف في إنفاقها بغير وجهٍ معقول، والله تعالى [لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ] (الأنعام:141).فالفقهاء إذن يضعون هذه الحقائق أمام الإنسان ويوكلون التطبيق إليه في هذا المورد وفي كل قضية لم ترد بعنوانها الخاص في النصوص الشرعية، خصوصاً وان الناس يختلفون فيما بينهم في قابلياتهم وأحوالهم.

إنّ وعي هذه المشكلة والالتفات ببصيرة ومعرفة إلى آثارها هي المرحلة الأولى في طريق المكافحة والعلاج وهذه المرحلة مسؤولية كل صنّاع الرأي العام والثقافة المجتمعية كعلماء الدين والخطباء والمُفكّرين والمؤسسات الصحيّة والإعلامية وبمختلف الوسائل المتاحة والمؤثرة.

ولكي يتحرر المدخن من أسر هذه العادة الضارة يحتاج إلى إرادة قوية وعزم وتصميم فيتخذ قرار الإقلاع عنها ولا يتردد ولا يقع تحت تأثير المشكّكين والمثبطين، وحينئذٍ سيجد لذة الانتصار مضافاً إلى ما سيشعر به من تحسّن في صحته وتذوقه لطعم الحياة.

ولا مانع لمن يجد صعوبة أو مانعاً من الامتناع الكلّي أن يتدرّج في التقليل حتّى يتحقق الامتناع الكلّي،وعلى من حوله أن يشجعوه ويؤازروه على نفسه.

ونحن مقبلون على شهر رمضان المبارك فليغتنم المدخنون فرصة الامتناع عن التدخين في نهار كل أيام الشهر أثناء الصوم ليستمدوا منها القوة والعزم لتركه نهائياً، فإن علة تشريع الصيام تحصيل التقوى، قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (البقرة:183) والتقوى هي صفة القابلية على الامتناع عن ممارسة الخطأ

ص: 368

والوقوع فيه.وهنا يأتي أيضاً دور المؤسسات والجهات النافذة باتخاذ التشريعات الكفيلة لتضييق الدائرة على هذه الظاهرة، كإصدار المرجعيات الدينية فتوى بمنع التدخين في المساجد والحسينيات والعتبات المقدسة والتجمعات العامة لما فيه من إضرار بالآخرين ومضايقة لهم وهذا غير جائز.

وقد استجاب البرلمان قبل عطلته الفصلية هذه وقرر المنع من التدخين في مؤسسات الدولة وسيارات النقل العام ونحوها ومعاقبة المخالفين(1).

ص: 369


1- دخل القرار حيِّز التنفيذ ابتداءً من 1/ 7/ 2012.

خطاب المرحلة 332 :ربيبة القرآن العقيلة زينب (علیها السلام) تعيد للأمة بصيرتها

خطاب المرحلة 332 :ربيبة القرآن العقيلة زينب (علیها السلام) تعيد للأمة بصيرتها(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

يستفاد من القرآن الكريم أن من سمات المجتمع البعيد عن التربية الإيمانية هو فقدان البصيرة والقدرة على تمييز الحق من الباطل، وانقلاب موازين النظر عنده في الأمور كلها.

ولنأخذ مثالاً على ذلك حيث نجد المجتمع الجاهلي البعيد عن النظرة الإلهية يعيش لدنياه ويراها غاية أمله فيصارع من أجل الاستزادة منها [وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ] (الجاثية:24).

لكن المجتمع الرباني يعتقد بوجود الآخرة ويعمل لها لأنها الحياة الباقية، ويرى الحياة الدنيا مزرعة، قال تعالى [وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] (العنكبوت:64).

والمورد الآخر اغترارهم بما عندهم من قوة وإمكانيات ماديّة هائلة فيظنون أنهم الرب الأعلى المدبّر لأمور الناس [وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ]

ص: 370


1- من حديث سماحة الشيخ مع مجموعة المواكب التي تجمّعت في النجف الأشرف يوم السبت 11/رجب/1433 الموافق 2/ 6/ 2012 للانطلاق مشياً على الأقدام إلى كربلاء المقدسة لإحياء زيارة النصف من رجب وإقامة التشييع الرمزي في ذكرى وفاة العقيلة زينب، وقد دأبوا على إقامتها منذ سنين ويشارك فيها حشد من الرجال والنساء.

(الشعراء:44).أما المنطق الرباني فيؤكد حقيقة [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ] (المنافقون:8) و [إَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً] (البقرة:165) ويصف أولئك المغرورين بأنّهم [مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] (العنكبوت:41).

وقد حذّر رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمته من الرجوع إلى هذه الحالة بعد أن أنقذهم الله تعالى بالإسلام، ووقوعهم مرة ثانية في فتنة فقدان البصيرة وانقلاب موازين النظر في الأمور واعتبرها (صلی الله علیه و آله) الحالة الأشد خطورة من وقوع المنكر والفساد نفسه، ففي الحديث عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (قال النبي (صلی الله علیه و آله): كيف بكم إذا فسدت نساءكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟ فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟ فقال: نعم وشرُّ من ذلك كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ فقيل له يا رسول الله ويكون ذلك؟ قال: نعم وشرُّ من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً).(1)

وقد وقعت الأمة في هذه الفتنة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبلغت ذروتها في عهد يزيد بن معاوية، ولهذا كان من الأدوار المهمّة التي أدّتها ربيبة القرآن والنبوّة والإمامة العقيلة زينب (علیها السلام) هي إعادة الأمة إلى وعيها وبصيرتها، وتصحيح موازين النظر عندها.

ص: 371


1- وسائل الشيعة، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب1 ح12.

ولنأخذ مثالاً على ذلك جانباً من خطابها، فقد كان يزيد وابن زياد وأزلامهم يعتقدون أنّهم هم المنتصرون فأخذتهم سكرة الغلبة ونشوتها كما وصفتهم العقيلة زينب (فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة والأمور متّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا).وتصبح مشكلة المفاهيم المقلوبة أخطر حينما تُستغل لخداع الناس وتُجعل دليلاً على شرعية حكم أولئك الطواغيت وسلطتهم، وهذا ما نبّهت إليه العقيلة زينب (صلوات الله عليها) (أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نُساق كما تُساق الإماء أنّ بنا على الله هوناً وبك عليه كرامة!! وأنّ ذلك لعظيم خطرك عنده، فمهلاً مهلاً، أنسيت قول الله عز وجل [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ] (آل عمران:178).

فهي (سلام الله عليها) لم تكتفِ بالإدلاء بحقيقة أنّ هذا ملكنا وسلطاننا خاصة ونحن أحقّ بالأمر من هذا الظالم المدّعي، ولكن فضحت هذه الأساليب لخداع الناس بأنّ هؤلاء المتسلّطين هم أصحاب الحق، ولا يزال إلى اليوم من يموّه على الناس ويكتسب شرعيته من كثرة الأتباع وشهرة العنوان وإغداق الأموال لفرض الأمر الواقع وإقناعهم بأنّ سلطته شرعية وإبعاد الحق عن أهله.

فتواجه العقيلة زينب الطاغية يزيد بالحقيقة الدامغة وبيان المنتصر الحقيقي (فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحونَّ ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترخص عنك عارها. وهل رأيُك إلاّ فند، وجمعك إلاّ بدد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين فالحمد لله الذي ختم

ص: 372

لأوّلنا بالسعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة).ووقفت نفس الموقف في الكوفة أمام الطاغية عبيد الله بن زياد حينما قال شامتاً: (الحمدُ لله الذي فضحكم وقتلكم وأبطل أحدوثتكم).

فتصدت له بشجاعة وبلاغة أخذتهما من أبيها أمير المؤمنين (علیه السلام) قائلة: (الحمدُ لله الذي أكرمنا بنبيّه، وطهّرنا من الرجس تطهيرا، إنما يُفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا يا ابن مرجانة).

وحاول أن يغطي فشله وهزيمته بمزيد من الشماتة قائلاً: ((كيف رأيتِ صنع الله بأخيكِ)) فأجابت (سلام الله عليها): (ما رأيتُ إلاّ جميلاً، هؤلاء قومٌ كتب الله عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاجَّ وتخاصم، فانظر لمن الفلح يومئذٍ، ثكلتك أمّك يا بن مرجانة).

هكذا أعادت العقيلة زينب الأمور إلى نصابها وبيّنت من هو المنتصر الحقيقي وهزمت هؤلاء الطواغيت وجيوشهم الجرّارة التي غلبت بالسيف لكنّها هُزِمت بالبيان والحجة الدامغة فقلبت أفراحهم أحزاناً.

وعلينا نحن أن نستفيد من هذا الدرس الزينبي ونُصحِّح جملة من المفاهيم والرؤى والنظريات التي أُريد بها خداع الناس وتسييرهم بالاتجاه الذي يريده أصحاب تلك الأجندات الهدّامة، ولنأخذ على ذلك مثالاً من عالم المرأة ممّا حاولوا به خداعها ودفعوها إلى ما يريدون من الانحلال والفساد ومزاحمة الرجال وترك وظيفتها الأساسية في بناء الأسرة الصالحة وتنشئة الجيل الصالح وهو شعار (المساواة).

فهل المساواة مطلب عقلائي؟ وبتعبير آخر هل إن المساواة حق دائماً؟

ص: 373

والجواب هو النفي، نعم إذا كان المطلوب مساواة الرجل والمرأة بالاستحقاق والجزاء فهذا حق وقد كفله الشارع المقدّس [أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ] (آل عمران:195) [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] (الحجرات:13) سواء كان ذكراً أو أنثى.أما إذا أرادوا بالمساواة مماثلة المرأة للرجل في الوظائف والأعمال التي يؤديانها فهذا مطلبٌ غير عقلائي، بل فيه ظلمٌ للمرأة، لأن طبيعة خلقها وفسيولوجيتها وسايكولوجيتها تنسجم مع وظائف غير ما كُلّف به الرجل، فالمساواة هنا من الظلم وليس من العدالة، ومثله كمثل الطبيب الذي يعطي نوعاً واحداً من الدواء إلى مرضى متنوعين، وكالمدرّس الذي يعطي درجة واحدة لكل طلبته في الامتحان مع تفاوت إجاباتهم، وهذا هو الظلم بعينه والمطلوب تحقيق العدالة وهي قد تقتضي المساواة وقد لا تقتضي المساواة بحسب الموارد وهذا ما كفلته الشريعة المقدسة، فلو أعطينا للولد ميراثاً بقدر البنت لكان ظلماً، لأن الرجل هو الذي يصرف على المرأة ويكفل لها كل احتياجاتها فهي تشاركه في حصته، ولا يشاركها في حصتها فكيف يتساويان في الاستحقاق.

فهذه المراعاة لتكوين كل من الرجل والمرأة وطبيعة وظائفهما مما تقتضيه الفطرة، وجرت عليه سيرة العقلاء، ويشهد به الواقع وخذ نماذج عشوائية من تركيبة مجتمعات الغرب المدعيّة للتحضّر وانظر هذه المراعاة، كتشكيلة الحكومة أو عدد الطيارين أو عدد قادة الوحدات العسكرية وقيادات الجيش وانظر نسبة النساء إلى الرجال ستجدها ضئيلة فأين المساواة التي يريدون

ص: 374

تسويقها إلينا؟.وبهذه المناسبة نشير إلى مصطلح متداول يخصّ المرأة وهو ((سنّ اليأس)) الذي يراد به عمر الخمسين للمرأة وتُسمى المرأة باليائس، وهو قد يكون له منشأ صحيح حيث يحصل فيه اليأس من الإنجاب لانقطاع الدورة الشهرية، إلاّ أنّ هذا العنوان اُخذ على إطلاقه وكأنّه سن اليأس من الحياة، مما ولّد شعوراً عندها بالإحباط وفقدان الأمل وأنّها أصبحت لا قيمة لها وانتهى دورها في الحياة وأحيلت على التقاعد كما يُقال، فتعتريها أعراض نفسية وعصبية قد تفاقم المشكلة عليها، وهذه الأعراض ليس لها أصلٌ فسيولوجي أو عضوي كما يشهد به الأطباء، أي أن بلوغ المرأة هذا العمر لا يصاحبه أي تغيير في جسمها يقتضي هذه الأعراض، وإنما هي نتائج صنعتها المرأة بنفسها بسبب ذلك الشعور الذي غذاهُ المصطلح البائس.

فالأليق أن يُسمى هذا العمر للمرأة (سن الكمال والنضج وتمام الرشد) لاكتمال تجربة المرأة في الحياة بعد أن تكون قد ربّت جيلاً كاملاً وتعلّمت الكثير، وهو سن التفرغ لنفسها ولآخرتها ولزوجها بعد أن انتهت من وظائف الحمل والإنجاب والتربية، وشبّ أبناؤها وبناتها فهم يعينونها على قضاء حوائجها، فهذا العمر فرصة مثمرة لكي يجتمع الزوجان من جديد على حياة زوجية يتفرغان لبعضهما ويلتفتان لآخرتهما وينشغلان لما يقرّبهما إلى الله تعالى من الطاعات والقربات مما لم تكن مشاغلهما السابقة تسمح لهما بها، كالسفر لأداء الحج

ص: 375

والعمرة وزيارة المعصومين (صلوات الله عليهم) والصلاة المستحبة والصوم وقضاء ما فات ومطالعة الكتب، والمساهمة في الأعمال الخيرية والتبليغ الديني والوعظ والإرشاد وغيرها من فرص الكمال.

ص: 376

خطاب المرحلة 333 :الأمراض المعنوية للنساء

خطاب المرحلة 333 :الأمراض المعنوية للنساء(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الإنسان –كل إنسان سواء كان ذكراً أو أنثى- مكرَم عند الله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً] (الإسراء:70) وهو خليفة الله تعالى في الأرض بكل ما تعني الخلافة الإلهية من امتيازات وتشريفات ومن مسؤوليات وتكاليف [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] (البقرة:30) وسخّر له كل ما في الأرض [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً] (البقرة:29).

وبنو آدم – ذكوراً كانوا أو إناثاً- متساوون في الحقوق والواجبات [أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى] (آل عمران:195) وقال تعالى [وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَ-ئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً] (النساء:124) وقال تعالى [مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ] (النحل:97) وقال تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] (الحجرات:13) بلا فرق

ص: 377


1- حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) في الملتقى العام لإدارات وتدريسيات فروع جامعة الزهراء (عليها السلام) للعلوم الدينية في النجف الأشرف ومختلف المحافظات، الذي عُقد في النجف الأشرف يوم الأربعاء 22رجب 1433 المصادف 13/ 6/ 2012.

بين المرأة والرجل.في مجمع(1) البيان أن أسماء بنت عميس لما رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب دخلت على نساء رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالت: هل نزل فينا شيء من القرآن؟ قلن: لا، فأتت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالت يا رسول الله إن النساء لفي خيبة وخسار! فقال (صلی الله علیه و آله): ومِمَّ ذلك؟ قالت: لأنهنّ لا يذكرنَ بخير مما يذكر فيه الرجال، فأنزل الله تعالى [إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً] (الأحزاب:35).

وفي الدر المنثور: أخرج البيهقي عن أسماء بنتَ يزيد الأنصارية أنها أتتِ النبي (صلی الله علیه و آله) وهوَ بين أصحابه، فقالت: بأبي أنت وأمي إني وافدةُ النساء إليك، واعلم –نفسي لك الفداء- أنه ما من امرأة كائنة في شرق أو غرب سمعت بمخرجي هذا إلا وهي على مثل رأيي، إن الله بعثك بالحق إلى الرجال والنساء، فآمنّا بك وبإلهك الذي أرسلك، وإنا معاشر النساء محصورات مقصورات قواعد بيوتكم ومقضى شهواتكم وحاملات أولادكم، وإنكم معاشر الرجال فُضِّلتم علينا بالجمعة والجماعات وعيادة المرضى وشهود الجنائز والحج بعد الحج وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله، وإن الرجل منكم إذا خرج حاجاً أو معتمراً أو مرابطاً حفظنا لكم أموالكم وغزلنا لكم أثوابكم وربّينا لكم

ص: 378


1- مجمع البيان: 8/ 560.

أولادكم فما نشارككم في الأجر يا رسول الله؟.فالتفت النبي (صلی الله علیه و آله) إلى أصحابه بوجهه كله، ثم قال: هل سمعتم مقالة امرأةٍ قط أحسن من مُساءلتها في أمر دينها من هذه؟

فقالوا: يا رسول الله ما ظنّنا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا!

فالتفت النبي (صلی الله علیه و آله) إليها ثم قال لها: انصرفي أيتها المرأة، وأعلِمي من خلفكِ من النساء أن حسن تبعّل إحداكنّ لزوجها وطلبها مرضاته واتّباعها موافقته يعدِل ذلك كله فأدبرت المرأة وهي تهلّل وتكبّر استبشاراً(1).

فالآيات الشريفة واضحة وصريحة في تكافؤ الفرص والاستحقاقات بين المرأة والرجل، إلا أنه قد يختلف الرجال عن النساء بنوع المسؤوليات والواجبات بحسب اختلاف تركيبتهم التكوينية أي الفسيولوجية، وبحسب الدور الذي أنيط بهم في هذه الحياة قال تعالى [الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ] (النساء:34).

فالقيمومة لم تُعطَ للرجال من باب تفضيل الذكور على الإناث، وإن المجتمع الإسلامي (ذكوري) كما يزعمون، بل لأمرين: بعض الخصائص التي اتّصفوا بها مما يؤهلهم للقيام بهذه المسؤوليات، ولأنّهم المسؤولون عن الإنفاق على الأسرة، ولكن هذا لا ينافي العدالة في توزيع المسؤوليات ومنح الاستحقاقات من الثواب والعقاب، لأن العدالة لا تعني بالضرورة المساواة أي التماثل بنحوٍ مطلق، والمطلوب هو تحقيق العدالة، أما المساواة فقد تكون من

ص: 379


1- الدر المنثور: 2/ 518.

العدالة وقد لا تكون(1)، مثلاً هل من العدالة أن يساوى المحسن بالمسيء؟ أو أن يعطى الطلبة الذين يجرى لهم امتحان درجات متساوية؟ أو أن يعطي الطبيب لجمع المرضى الذين يراجعونه دواءً موحداً وإن اختلفت أمراضهم؟ فلا معنى للمساواة إلا إذا تحققت بها العدالة، وهي متحققة بين الرجال والنساء، فهذه الصيحات المطالبة بالمساواة إما منافقة أو جاهلة أو مأجورة تنفّذ أجندات معيّنة.هذه مقدمة لما نريد أن نقوله، وهو أنه إذا كانت المرأة لا تختلف عن الرجل في الحقوق والواجبات ولهما فرص متكافئة لنيل الكمالات والقرب من الله تعالى وقد زُوِّد الرجل والمرأة على حد سواء بما يعينهم على التكامل من قوى ذهنية وجسدية.

إذن كيف نفهم الأحاديث الكثيرة الواردة في ذم النساء، خصوصاً ما ورد عن أمير المؤمنين (علیه السلام)؟ وهل هي عبارة عن رد فعل –كما قيل- لما لاقاه من مصائب من بعض النساء اللاتي لهنّ عنوان كبير في المجتمع الإسلامي؟

والجواب: لا بالتأكيد لأن أمير المؤمنين (علیه السلام) منزّه عن تأثير الأهواء والعواطف ولا يفعل ولا يتكلم إلا بأمر الله تعالى، فهو مع الحق والحق معه وهو لا ينطق عن الهوى.

وهنا يمكن أن نعرض أكثر من وجه لحمل جملة من الأحاديث الشريفة بعيداً عن الانتقاص من النساء.

(منها) أن بعض الأحاديث محمولة على امرأة معيّنة ضلّت وأضلّت مستفيدة

ص: 380


1- راجع كلمتنا في ذكرى وفاة العقيلة زينب (عليها السلام).

من عنوانها الكبير في المجتمع الإسلامي، فيوجد في كلماته (ع) تقييم لهذه المرأة كقوله (علیه السلام) (وأما فلانة فأدركها رأي النساء، وضغن غلا في صدرها كمرجل القين –أي الحداد-، ولو دُعيت لتنال من غيري ما أتت إليَّ لم تفعل)(1). وإن كان الحديث الشريف لا يخلو من تعميم للسلوك، فإن الإمام (علیه السلام) يعلل صدور تلك الأفعال منها بأنها أدركها رأي النساء وكأن هذه النوازع والدوافع والانفعالات أصبحت حالة عامة مميزة للنساء وراسخة فيهن.

(ومنها) أن أحاديث شريفة أخرى ظاهرها ذم النساء إلا أنها في الحقيقة لا تحمل هذا المعنى وإنما وردت لتحذير الرجال من الوقوع في فتنة النساء وارتكاب المعصية بسببهنّ، كالحديث النبوي الشريف (ما لإبليس جند أعظم من النساء والغضب)(2) وعن الصادق (علیه السلام) قال (في كتاب علي (علیه السلام) الذي أملى رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن كان الشؤم في شيء ففي النساء)(3) وفي غرر الحكم عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (ليس لإبليس وهق –وهو الحبل- أعظم من الغضب والنساء)(4) فهذه الأحاديث ليس فيها منقصة أو ذم للمرأة، لأن مسؤولية الافتتان والوقوع في حبائل الشيطان ومصائده تقع على الرجل نفسه الذي فشل في الاختبار، كما لو سقط في امتحان المال أو أي فتنة من فتن

ص: 381


1- نهج البلاغة، خطبة 156 خاطب بها أهل البصرة.
2- فروع الكافي: 5/ 515، الدرجات.
3- البحار: 103/ 227 عن بصائر الدرجات.
4- غرر الحكم: 547.

الدنيا فلا يلومنَّ إلا نفسه ولا ذنبَ للمال نفسه ولا شرّ فيه، وكذا التحذير من الدنيا مع أنّها مزرعة الآخرة، فاللوم على من افتتن واغترّ بها.وكذا أيضاً يمكن فهم بعض الأحاديث الشريفة بعيداً عن الانتقاص من المرأة كقول أمير المؤمنين (علیه السلام) (المرأة شر كلّها، وشرُّ ما فيها أنّه لابد منها)(1) لأن الرجل هو المسؤول عن الوقوع في هذا الشر فلماذا لم يعصم نفسه؟ ويمكن توجيه الكلمة بحملها على امرأة معينة تقدمت الإشارة إليها بأن تكون اللام عهدية.

(ومنها) أن تكون الأحاديث غير مطلقة وإنما ناظرة إلى حالات معينة، كالنهي عن مشاورة النساء وقد تكرّرت هذه النصيحة كثيراً، ومنها ما ورد في وصية أمير المؤمنين (علیه السلام) لولده الحسن (علیه السلام) (وإياك ومشاورة النساء فإن رأيهنّ إلى أفن –أي النقص- وعزمهنّ إلى وهن- أي ضعف)(2)، ومما دلّ على عدم عمومية هذه النصيحة الاستثناء الوارد في كلام له (ع) قال (إياك ومشاورة النساء إلا من جُرِّبت بكمال عقل فإن رأيهنّ يجر إلى الأفن وعزمهنّ إلى الوهن)(3).

أقول: وبذلك فقد تحصّل عندنا أكثر من فهم لهذه الروايات ليس فيها انتقاص من النساء، خلاصتها:

1-إنّها تشير إلى امرأة معيّنة لا كل امرأة كحديث (فلانة) و (المرأة شرٌ

ص: 382


1- نهج البلاغة، قصار الكلمات، رقم 238.
2- نهج البلاغة، قصار الكلمات، رقم405.
3- بحار الأنوار: 103/ 253 عن كنز الكراجكي.

كلها).2-إنّها موجّهة لتحذير الرجال من الوقوع في فتنة النساء كأي فتنة دنيوية أخرى كوصفهن بحبائل الشيطان.

3-إنّ الروايات ليست مُطلقة وإنما مقيّدة بحالات معيّنة فلا تشمل كل النساء كالنهي عن مشاورتهنّ.

وبالرغم من هذه التوجيهات لكلام المعصومين (علیهم السلام) إلا أنه مما لا يمكن إنكار حقيقة في النساء تمثّل الوجه الرابع الذي هو ظاهر بعض هذه الأحاديث، وهي أن الحالة العامة للنساء عدم الاهتمام بالأمور المعنوية والنزوع إلى الارتقاء في مدارج الكمال.

فهذا الذم للنساء بلحاظ الحالة الغالبة وليس بالضرورة أنه يشمل كل امرأة، فمن لا تردّ أن تكون مشمولة بهذا الذم فلتكن من الاستثناء لا الحالة العامة كما كانت خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت أسد استثناءً من نساء قريش(1).

ولتقريب الفكرة نأخذ مثلاً قوله تعالى [إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ] (العصر:2) ثمّ استثنى منها فئة خاصة، فليس الإنسان بمفهومه وتكوينه في خُسر لكثرة من تكامل من بني الإنسان وإنّما الغالب في الإنسان، بحسب المصاديق الخارجية الموجودة له هي أنّهم في خُسر لتغليبهم جنبتهم الشهوية الحيوانية على الإلهية الروحية.

فالنساء كذلك بحيث يرد عن النبي (صلی الله علیه و آله) قوله (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع: آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم ابنة

ص: 383


1- راجع أحاديثنا عن هاتين المرأتين الجليلتين.

عمران، وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد (صلی الله علیه و آله)(1)، وما ذلك إلا لكثرة ابتلائهنّ بالأمراض المعنوية من دون همّة ملحوظة لعلاجها.لذا نحن بحاجة إلى نساء يتخصصن بطب الأمراض المعنوية للنساء كما تخصصت الكثير منهن في الأمراض الجسدية للنساء، مع أهمية الحقل الأول لتعلقه بالحياة الباقية.

ويُعوّل عليكن –يا طالبات العلوم الدينية في الحوزات العلمية- في التصدي لهذه الوظيفة الإلهية، ابتداء من تشخيص هذه الأمراض ومعرفة عللها وأسبابها ومناشئها، ثم وضع العلاجات النظرية والعملية لها.

وكما أن أمراض الجسد لها أدوات وآثار لتشخيصها يعرفها المختصون، فإن هذه الأمراض المعنوية يمكن التعرّف عليها وتشخيصها بعدة وسائل:

1-الاستفادة مما ورد في روايات أهل البيت (علیهم السلام) من إشارات لمناشئ هذه الأمراض في النساء كالذي ورد في كلمات أمير المؤمنين (علیه السلام) عن المرأة فإنهم الأطباء الذين يدلّونا على ما خفي علينا.

2-استقراء الحالات الموجودة ودراستها وتحليلها وضم المعلومات بعضها إلى بعض للوصول إلى السبب مستعينين ببعض الدراسات والبحوث النفسية والاجتماعية والسلوكية.

3-مطالعة كتب أهل الفن في مجال السلوك الصالح والأخلاق.

ونذكر هنا مجموعة من مناشئ تلك الأمراض المعنوية وأسبابها، بحسب ما أفادته بعض الروايات الشريفة.

ص: 384


1- مجمع البيان: 10/ 320.

1-قلة التفقّه في الدين، بل الجهل حتّى في الأمور الأساسية، ومع هذا الجهل كيف يتوقّع منها التكامل، وقد قال أمير المؤمنين (علیه السلام): (أوّل الدينِ معرفته).

2-تركيز الأنا الأنثوية عندها وحب الذات عندها والتفاتها إلى ما يبرّزها ويلفت الأنظار إليها، وليس إلى الأهداف الواقعية التي خُلقت لأجلها، أي أنها تلتفت إلى كونها أنثى أكثر من كونها إنساناً، فتحب أن تمدح ويثنى على جمالها ومظهرها الخارجي وتفوّقها على قريناتها، وهذا ما يُسبب للكثير من النساء الوقوع في الخطيئة بسبب كلمة مدح أو إطراء يلقيها هذا الرجل العابث أو ذاك، فتفقد عقلها وحكمتها، ومن كلمات أمير المؤمنين (علیه السلام): (لا ينبغي لعاقل أن يمدح امرأة حتى تموت)(1) ونتيجة لهذه الصفة فإنّها تعطي اهتماماً زائداً بتزيين وتجميل الظاهر، قال أمير المؤمنين (علیه السلام) (وإن النساء همهنّ زينة الحياة الدنيا والفساد فيها)(2).

3-الغيرة إلى حد الاندفاع نحو الظلم والعدوان وانظروا كمثال فلانة التي قادت الجيوش ضد أمير المؤمنين (علیه السلام) والبيت النبوي الطاهر حسداً وحقداً وغيره من خديجة الكبرى التي كان يذكرها رسول الله (صلی الله علیه و آله) بكل حب ووفاء فيشتد غيظ فلانة وواجهته بعدة كلمات كما ذكرنا في حديثنا عن خديجة بنت خويلد، قال أمير المؤمنين (علیه السلام) (غيرة المرأة عدوان) وقال

ص: 385


1- غرر الحكم: 574.
2- نهج البلاغة: خطبة 153.

(ع) (غيرة المرأة كفر وغيرة الرجل إيمان)(1).4-عدم القناعة والرضا بما عندها ومدّ عينيها إلى ما عند الأخريات، خلافاً لقوله تعالى [وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً] (النساء:32) وقال تعالى [وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى] (طه:131). فتجد الواحدة منهنّ لها ما لا يعد ولا يُحصى من النعم التي حباها الله تعالى، ومع ذلك فإنّها تعرض عنها وتُركّز على شيءٍ موجود عند غيرها فتحسدها وتكيد لها أو تنتقص منها لتحط من منزلتها ونحو ذلك فتقع في عدة كبائر.

فالتصرف الصحيح أن تشكر الله تعالى على ما أعطاها وتسأل الله من فضله كما وجّهت الآية.

5-الانسياق وراء الانفعالات العاطفية مما يجعلها عرضة للانخداع والزلل بكلمة معسولة، وهذه العاطفة الجياشة والمشاعر المتدفقة إنما أعطاها الله تعالى لها لتؤدي وظيفتها في رعاية الأسرة والأطفال وتربيتهم على أكمل وجه، وليس لتنساق وراءها بلا تعقّل، قال تعالى في سبب جعل شهادة امرأتين بشهادة رجل واحد [أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى] (البقرة:282) قال أمير المؤمنين (علیه السلام): (المرأة إذا أحبتك آذتك، وإذا أبغضتك خانتك وربما قتلتك، فحبّها أذى وبغضها داء بلا دواء)(2).

ص: 386


1- غرر الحكم: 464، 467.
2- غرر الحكم: 100.

6-القصور الذاتي، من خطبة أمير المؤمنين (علیه السلام) بعد فراغه من حرب الجمل (معاشر الناس، إن النساء نواقص الإيمان، نواقص الحظوظ، نواقص العقول. فأما نقصان إيمانهن فقعودهن عن الصلاة والصيام في أيام حيضهن، وأما نقصان عقولهن فشهادة امرأتين كشهادة الرجل الواحد، وأما نقصان حظوظهن فمواريثُهن على الأنصاف من مواريث الرجال. فاتقوا شرار النساء وكونوا من خيارهن على حذر، ولا تطيعوهن في المعروف حتى لا يطمعن في المنكر)(1).

وقد تقول: أن هذه أمور خارجة عن إرادتها فليس من العدل أن تكون معوّقاً لها، والجواب أن هذا صحيح إلا أن معوقيتها من جهة عدم قيامها بما يتدارك هذا النقص الذاتي، فلو كانت مواظبة على صلاة الليل أو صوم ثلاثة أيام في الشهر فإنه يكتب لها أجر العمل إذا طرأ عليها العذر، مع أن طاعات كثيرة لا ترتبط بالأعذار كالذكر والتفكّر فلتداوم عليها.

7-الثرثرة وكثرة اللغو في الكلام، وهذا الفضول من الكلام يوقع في الباطل بلا ريب، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): (أكثر الناس ذنوباً أكثرهم كلاماً فيما لا يعنيه)، وعن أمير المؤمنين (علیه السلام): (إيّاك والهذّر فمن كثر كلامه كثرت آثامه) وعنه (علیه السلام) لمّا مرّ برجل يتكلّم بفضول الكلام (إنّك تملي على حافظيك كتاباً إلى ربّك، فتكلّم بما يعنيك ودع مالا يعنيك)(2).

إن تشخيص هذه النقائص في النساء إلاّ من عصم الله تعالى يُراد منه قطع

ص: 387


1- نهج البلاغة، خطبة 80.
2- هذه الأحاديث في منتخب ميزان الحكمة 552 رقم الموضوع 348.

الخطوة الأولى في طريق التكامل، فلا ينبغي أن يُقابل بالاحتجاجات والاعتراضات ودعاوى امتهان المرأة وظلمها واحتقارها، فعن الإمام الصادق (علیه السلام): (أحبّ إخواني إليّ من أهدى إليّ عيوبي)(1).وما من شريحة في الأمة إلاّ وقد ورد فيها كلمات التحذير والتهديد، خُذ مثلاً العلماء الذين فضّلهم الله تعالى على سائر الناس حتى الشهداء وانظر ماذا ورد في ذم المُستأكل بعلمه، والذي يطلب الدنيا به، أو يماري به السفهاء، أو العالم غير العامل بعلمه وهكذا، فهذا لا يوجب تحسساً وشعوراً بالإذلال إن خوطبوا بذلك، لأنه تحذير وموعظة.

بل حتى الأنبياء الذين هُم أشرف الخلق وأكرمهم خوطبوا بهذه اللغة قال تعالى مخاطباً نبيه الكريم (صلی الله علیه و آله): [وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ] (الزمر:65) وقال تعالى [وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ] (الأحزاب:37).

فالموقف الصحيح من هذه البيانات والتوجيهات وعيها واستيعابها والاستفادة منها لتكون المرأة من الاستثناء لا الحالة العامة.

أعاننا الله تعالى وإياكم على طاعته وبلّغنا رضاه إنه ولي النعم.

ص: 388


1- تحف العقول: 366.

خطاب المرحلة 334 :من أراد الآخرة فليسعَ لها سعيها

خطاب المرحلة 334 :من أراد الآخرة فليسعَ لها سعيها(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

مما يوجب حذر المؤمن في هذه الحياة الدنيا ويجعله في توجّس ويدفعه إلى مزيد من الاعتصام بالله تعالى، هو أن لا يختم له بخير، وإن كان عمله بحسب الظاهر صالحاً الآن إلاّ أنه لا تعرف خاتمته والأمور بخواتيمها، روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله ((لا يزال المؤمن خائفاً من سوء العاقبة لا يتيقن الوصول إلى رضوان الله حتى يكون وقت نزع روحه وظهور ملك الموت له))(2).

وقد ينجح الإنسان في امتحانات عديدة لكنه يسقط في أحدها سقوطاً نهائياً والعياذ بالله، عن النبي (صلی الله علیه و آله) (أن العبد ليعمل عمل أهل الجنة فيما يرى الناس وإنه لمن أهل النار، وإنه ليعمل عمل أهل النار فيما يرى الناس وإنه لمن أهل

ص: 389


1- كلمة سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله الشريف) في الاحتفال الذي أقامه في مكتبه يوم الجمعة 8/شعبان/1433 الموافق 29/ 6/ 2012 لتكريم الطلبة المتفوقين في الامتحان المركزي الذي أجري في النجف لطلبة فروع جامعة الصدر الدينية في المحافظات، وحضر الاحتفال مدراء فروع الجامعة، وقد استمع سماحته إلى مداخلاتهم بعد الكلمة.
2- بحار الأنوار: 71/ 366 ح13.

الجنة وإنما الأعمال بالخواتيم)(1) وعنه (صلى الله عليه وآله سلم): (الأمور بتمامها والأعمال بخواتيمها).وهذه الحقيقة لها شواهد قرآنية تاريخية كثيرة، ولنذكر مثالاً (حوزوياً) وهو أحمد بن هلال العبرتائي من كبار العلماء والرواة فقد قال عنه الشيخ الطوسي ((روى أكثر أصول أصحابنا)) ناهز التسعين من العمر (180-267)، حجّ (54) حجة، عشرون منها ماشياً على قدميه، قال عنه الكشي ((وقد كان رواة أصحابنا بالعراق لقوه، وكتبوا منه)) وقال العلامة (قدس سره) أنه سمع منه ((جل أصحاب الحديث واعتمدوه فيها)).

وكان من أصحاب الإمامين الهادي والعسكري (علیه السلام) إلاّ أنّه مرّ بامتحان بعد استشهاد الإمام العسكري (علیه السلام) ففشل فيه وغلبه هواه وحسده وحبّه للرئاسة والزعامة فورد التحذير أولاً من الإمام المهدي (علیه السلام) من الانخداع بظاهره فقد كتب الإمام (علیه السلام) إلى نوابه (قوّامه) بالعراق في ابتداء أمره (احذروا الصوفي المتصنّع) ثم جاء لعنه من الإمام المهدي (علیه السلام)، فقد ورد في كتاب الغيبة في ذكر المذمومين الذين ادّعوا البابية ((قال أبو علي بن همام: كان أحمد بن هلال من أصحاب أبي محمد(ع)، فأجمعت الشيعة على وكالة محمد بن عثمان (رضي الله عنه) بنص الحسن (علیه السلام) في حياته، ولما مضى الحسن (علیه السلام)، قالت الشيعة الجماعة له: ألا تقبل أمر أبي جعفر محمد بن عثمان، وترجع إليه، وقد نصّ عليه الإمام المفترض الطاعة؟ فقال لهم لم أسمعه ينصّ عليه بالوكالة، وليس أنكر أباه، يعني عثمان بن سعيد، فأمّا أن

ص: 390


1- كنز العمال ح950.

أقطع أنّ أبا جعفر وكيل صاحب الزمان فلا أجسر عليه، فقالوا: قد سمعهُ غيرك، فقال: أنتم وما سمعتم، ووقف على أبي جعفر، فلعنوه وتبرئوا منه، ثم ظهر التوقيع على يد أبي القاسم حسين بن روح، بلعنه، وبالبراءة منه في جملة من لُعن)).ولم يتحمل كثير من الأصحاب هذا الخبر في حق ابن هلال لما ذكرنا من منزلته عندهم وأنكروا ما ورد في مذمّته ((فحملوا القاسم بن العلاء على أن يُراجع في أمره فخرج إليه توقيع طويل جاء فيه (ونحن نبرأ إلى الله تعالى من ابن هلال لا رحمه الله وممن لا يبرأ منه، فأعلم الإسحاقي وأهل بلده مما أعلمناك من حال هذا الفاجر، وجميع من كان سألك ويسألك عنه)(1).

فهذا وأمثاله كثير ممن كان له ظاهر تمتد إليه الأعناق، لكن قدمه زلّت ولم يتب ولم يصلح خطأه وأصرّ عليه فكان من الملعونين لذا ورد في الحديث النبوي الشريف (لا عليكم أن تُعجبوا بأحدٍ حتى تنظروا بما يُختمُ له، فإن العاملَ يعمل زماناً من عمره أو بُرهة من دهره بعملٍ صالحٍ لو مات عليه دخل الجنة، ثمّ يتحوّل فيعمل عملاً سيئاً)(2) وعنه (صلی الله علیه و آله): (إنّ الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة، ثمّ يختم له بعمل أهل النار)(3).

ولأهميّة حسن الخاتمة فقد أشير إليها كثيراً في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، وتكرّر طلبها في الأدعية المباركة، وأجاب القرآن

ص: 391


1- هذه النصوص نقلها من مصادرها: السيد الخوئي (قدس سره) في معجم رجال الحديث: 2/ 367- 370.
2- و (3) منتخب ميزان الحكمة: 206 عن كنز العمّال: 545، 589.

الكريم باختصار عن كيفية ضمان الفوز بحسن الخاتمة في قوله تعالى [تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] (القصص:83) وبتفصيل أكثر قال تعالى [وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً] (الإسراء:19).فالفوز بالآخرة يتطلب بحسب الآية الشريفة.

أولاً: إرادة جديّة وقصد حقيقي لنيل رضوان الله تبارك وتعالى وليس مجرد لقلقة لسان كما وصفهم الإمام الحسين (علیه السلام) (الناس عبيد الدُنيا، والدين لعقٌ على ألسنتهم يحيطونه ما درّت معائشهم، فإذا مُحصّوا بالبلاء قلّ الديانون)، وأن تكون إرادته مبنية على قصد الوصول إلى الهدف الحقيقي وهو رضا الله تبارك وتعالى وليس طاعة لغيره أو لأي هدفٍ آخر سواه.

ثانياً: السعي الجاد الدؤوب بما يصلح الآخرة ويضمن الفوز فيها، فقوله تعالى [وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا] يتضمن عدة خصائص لهذا السعي، منها كونه حثيثاً ودؤوباً فقد قيل في معنى السعي أنّه ((المشي السريع ويستعمل للجد في الأمر))، ((وأكثر ما يُستعمل السعي في الأفعال المحمودة))، ولتأكيد ذلك فقد أضافت الآية السعي إلى الآخرة أي أن يكون السعي مناسباً للآخرة بكل ما يعني ذلك، لتختصر كل ما تطلبه الآخرة من نوع السعي ومقداره وخصوصياته، قال السيّد صاحب الميزان ((والمعنى وسعى وجدّ للآخرة السعي الذي يختص بها ويُستفاد منه أنّ سعيه لها يجب أن يكون سعياً يليق بها ويحقّ لها كأن يكون يبذل كمال الجهدِ في حسن العملِ وأخذه من عقلِ قطعي أو حجة شرعية))(1).

ص: 392


1- الميزان في تفسير القرآن: 13/ 65.

ثالثاً: أن يقترن ذلك بالإيمان بالله تعالى وبرسول الله (صلی الله علیه و آله) لأنّه شرط القبول ونيل الجزاء، ولأنّه باب الله الذي لا يُؤتى إلاّ منه [وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا] (البقرة:189) وأن يتعزز الإيمان بالمعرفة بالله تعالى وإخلاص النية له سبحانه، إذ القيام بعمل أهل الآخرة من دون هذا الإيمان يجعلها بلا قيمة، كالخوارج الذين كانت لهم عبادة ملحوظة حتى سُمُّوا أهل (الجباه السود) إلا أنهم لم يكن لهم إيمان، مرَّ أمير المؤمنين (علیه السلام) على قومٍ منهم وهم يتعبدون، فقال (علیه السلام): (نومٌ على يقين خير من عبادة على شك).وهذا الإيمان والمعرفة لابد أن تكون لها حقيقة، فيعتقد أن هذا كله لطفٌ من الله تعالى وأنّه لا يستقل بشيء عن ربّه، وأن يكون خائفاً مشفقاً إذا نظر إلى العمل من زاويته الشخصية، فإذا قُبل عمله فبفضل الله ورحمته، وهذا ما أكدته الآية اللاحقة [كُلاًّ نُّمِدُّ هَ-ؤُلاء وَهَ-ؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً] (الإسراء:20) ونحو ذلك من المعاني.

وقد بيّنت الروايات الشريفة بعض مظاهر هذه المعرفة وهذه الأعمال الصالحة الموجبة لحسن الخاتمة، منها: عن أمير المؤمنين (علیه السلام) (إذا أردت أن يؤمنك الله سوء العاقبة فاعلم أن ما تأتيه من خير فبفضل الله وتوفيقه، وما تأتيه من سوء فبإمهال الله وإنظاره إياك وحلمه وعفوه عنك)(1).

ومن كلام الإمام الصادق (علیه السلام) لبعض الناس (إن أردت أن يُختم بخير عملك حتّى تُقبض وأنت في أفضل الأعمال فعظّم لله حقّه أن تبذل نعمائه في معاصيه، وأن تغتر بحلمه عنك، وأكرم كلّ من وجدته

ص: 393


1- بحار الأنوار: 70/ 392 ح60.

يذكر منّا أو ينتحل مودّتنا)(1). عن الإمام الكاظم (علیه السلام): (إنّ خواتيم أعمالكم قضاء حوائج إخوانكم والإحسان إليهم ما قدرتم وإلاّ لم يُقبل منكم عمل، حنّوا على إخوانكم وارحموهم تُلحقوا بنا)(2).

فمثل هؤلاء يكون سعيهم مشكوراً، وقد أطلق لفظ الشكر ليكون لا حدود له لأنّ صفات الله تبارك وتعالى لا حدود لها، ومن أسمائه الشكور.

وشدّدت الآية على أن الجزاء لا يتخلف عن السعي بل يكون نتيجة حتمية له، بعكس من يطلبون الدُنيا الذين ذكرته الآية السابقة على هذه، قال تعالى [مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً] (الإسراء:18) فلا يتحقق له ما يريد بل ما يريده الله تبارك وتعالى، وليس لكل أحدٍ بل لمن يشاء الله تعالى أن يعطيه.

وبهذا المعنى الذي شرحناه لسعي الآخرة لا بد أن نفهم كل قضايانا، ومنها معنى انتظار الإمام صاحب الأمر (ع) والدعاء بقيام دولته المباركة، فلابد أن يقترن بالسعي الخاص به والمناسب له، فتقيّد أحاديث ثواب الانتظار والمنتظرين بأن يُسعى له سعيه.

وهكذا كل قضية في حياتنا يُراد تحقيقها فلابد أن يسعى لها سعيها

ص: 394


1- عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 2/ 4 ح8.
2- بحار الأنوار، 75/ 379.

المناسب لها، كمن يريد أن يصبح طبيباً أو مهندساً فلابد أن يبذل الجهد المطلوب كماً ونوعاً ويسير وفق الآليات التي توصله إلى هدفه، ولا ينال كل ذلك إلاّ بلطف الله تعالى وتوفيقه ومدده.

ص: 395

خطاب المرحلة 335 :لا تُقبل الدعوى إلا بدليل

خطاب المرحلة 335 :لا تُقبل الدعوى إلا بدليل(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

ما دمنا نعيش أجواء الولادات الشعبانية المباركة للأئمة المعصومين الأطهار (ع) فلنأخذ درساً من كلمات الإمام الحسين (علیه السلام)..

فمن دعائه (ع) يوم عرفة (إلهي.. ومن كانت حقائقه دعاوي فكيف لا تكون دعاويه دعاوي) هذه هي الحقيقة المُرّة التي لا يلتفت إليها الإنسان، وهي أنه يدّعي كثيراً من الأمور، من دون أن يقيم الدليل عليها ليطمئن هو أولاً على مصيره ومستقبله وليصدّقه الآخرون ثانياً، والأسوأ من ذلك أن يطلب من الآخرين معاملته على أساس هذا العنوان المدعى ويرتّبوا عليها الآثار، في حين يجمع العقلاء على أن أي دعوى لا تثبت إلاّ بدليل.

من وصية الإمام الكاظم (علیه السلام) لهشام بن الحكم (يا هشام لكل شيء دليل، ودليل العاقل التفكر، ودليل التفكر الصمت)(2).

وقد جرت سيرة العقلاء على مطالبة المدعي بالدليل لتصديقه، كمن يدعى

ص: 396


1- حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع حشد كبير من الطلبة والشباب، الذين أُعدَّ لهم برنامج ديني وتوعوي في النجف ومنها زيارة سماحته يوم الأحد 10 شعبان 1433 المصادف 1/ 7/ 2012، ثم الانطلاق مشياً إلى كربلاء المقدسة لإحياء الزيارة الشعبانية المباركة.
2- تحف العقول: 285.

أنه حصل على شهادة الدكتوراه في العلم الفلاني فإنه يطالب بالوثائق التي تثبت ذلك.فالإمام الحسين (علیه السلام) يكشف في الفقرة المتقدمة عن مظهر من مظاهر النقص لدى الإنسان، وهو إدعاؤه لعناوين ومقامات ومراتب من دون أن يجسِّد في واقعه حقائق تلك الإدعاءات أو تظهر عليه آثارها، ولنترك الآن العناوين الكبيرة كالمرجعية والأعلمية والقيادة والولاية ونحوها، ولنأخذ عناوين عامة.

مثلاً يعتقد أنه مؤمن متدين ويمنّي نفسه الفوز بالجنة ورضا الله تبارك وتعالى من دون أن يتأكد من وجود هذه الحقيقة في نفسه بحسب ما تعرضه الآيات الكريمة والروايات الشريفة التي تتحدث عن حقيقة الإيمان، وتبيّن شروطه كقوله تعالى [فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً] (الكهف:110) فبلوغ هذه النهاية السعيدة تتطلب القيام بأعمال صالحة من دون أن يخالطها ما ليس لله تبارك وتعالى من النيات المختلفة كنيل رضا الناس أو تحصيل المال أو أي مكسب دنيوي آخر.

وقال تعالى [وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً] (الإسراء:19) فهنا شروط لمن يريد أن يكون سعيه مشكوراً في الآخرة شرحناها في حديث سابق، وهي باختصار:

(أولاً) أن تكون له إرادة قوية وقصد جدّي وعزم راسخ –فمن أراد الآخرة-

(ثانياً) أن يكون له عمل دؤوب وحركة مستمرة عُبِّر عنها بالسعي وهو السير الحثيث الذي يناسب النتيجة التي يريد أن يصلها –وسعى لها سعيها –

ص: 397

(ثالثاً) أن يكون مؤمناً بالله ورسوله عارفاً بالطريق الموصل إلى الله تعالى وسائراً عليه ولا يتخبط ويسير بغير هدى –وهو مؤمن-.ومن كلمات الإمام الصادق (علیه السلام) في هذا المجال قوله (لا يبلغ أحدكم حقيقة الإيمان حتى يحب أبعد الخلق منه في الله ويبغض أقرب الخلق منه في الله)(1)، فهل نحن كذلك أم نحابي ونجامل ونداهن؟

والمثال الآخر للدعاوى التي لم نتحقق من مصداقيتها عندنا دعوى (التشيع)، فللأئمة (علیهم السلام) أحاديث كثيرة في بيان حقيقة التشيّع والشيعة، جمع منها الشيخ الصدوق (71) حديثاً في كتيب سماه (صفات الشيعة)، وتوجد أحاديث كثيرة غيرها، وقد جمعت بعضها في خطاب سابق بعنوان (عناصر شخصية المسلم في روايات أهل البيت (علیهم السلام))(2).

منها ما روي عن الإمام الباقر (علیه السلام) (ما شيعتنا إلاّ من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون إلاّ بالتواضع والتخشّع وأداء الأمانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة والبر بالوالدين وتعهّد الجيران من الفقراء وذوي المسكنة والغارمين والأيتام وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكفّ الألسن عن الناس إلاّ من خير وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء)(3).

ومنها قول الإمام الصادق (علیه السلام) (إنما شيعة علي من عفّ بطنه وفرجه، واشتدّ جهاده، وعمل لخالقه، ورجا ثوابه، وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك

ص: 398


1- تحف العقول: 272.
2- راجع خطاب المرحلة: 1/ 305.
3- تحف العقول: 215.

فأولئك شيعة جعفر)(1).ولأجل ذلك نهى الأئمة المعصومون (علیهم السلام) عن ادّعاء ما لم تستكمل حقيقته، عن الإمام الحسن (علیه السلام) –في جواب رجل قال له: إني من شيعتكم-: يا عبد الله، إن كنتَ لنا في أوامرنا وزواجرنا مطيعاً فقد صدقتَ، وإن كنت بخلاف ذلك فلا تزد في ذنوبك بدعواك مرتبة شريفة لستَ من أهلها، لا تقل: أنا من شيعتكم ولكن قل: أنا من مواليكم ومحبيكم، ومعادي أعدائكم، وأنت في خير وإلى خير)(2).

وهذا ما وعظنا به الله تعالى قال سبحانه [لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] (آل عمران:188).

وورد هذا الأدب في الدعاء الذي يدعو به من يمدحه الآخرون، لأن المدح غالباً يتضمن مبالغة في الصفات الحميدة مما ليس بواقع، وجاء فيه (اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، واغفر لي ما لا يعلمون، واجعلني خيراً مما يظنون).

وكان السلف الصالح لا يكتفي بالامتناع عن ادعاء العناوين والصفات الحميدة، بل يكره أن يوصف بها لأنه يتهم نفسه بعدم الاستحقاق، ففي تفسير الإمام العسكري (علیه السلام) (قيل للصادق (علیه السلام) أنّ عمار الدهني (والد الراوي المعروف معاوية بن عمار) شهد اليوم

ص: 399


1- الكافي: 2/ 233 ح9.
2- منتخب ميزان الحكمة: 356عن تنبيه الخواطر: 2/ 606.

عند ابن أبي ليلى قاضي الكوفة بشهادة فقال له القاضي: قم يا عمّار فقد عرفناك لا تقبل شهادتك لأنّك رافضي، فقام عمّار وقد ارتعدت فرائصه واستفزعه البكاء، فقال له ابن أبي ليلى: أنت رجلٌ من أهل العلم والحديث، إن كان يسوؤك أن يقال لك رافضيّ فتبرّأ من الرفض فأنت من إخواننا، فقال له عمّار: يا هذا ما ذهبت والله حيث ذهبت ولكن بكيت عليك وعليّ، أما بكائي على نفسي فإنّك نسبتني إلى رتبة شريفة لست من أهلها زعمتَ أنّي رافضي، إلى أن قال: وأمّا بكائي عليك فلعظم كذبك في تسميتي بغير اسمي، وشفقتي الشديدة عليك من عذاب الله إن صرفت أشرف الأسماء إليّ وان جعلته من أرذلها كيف يصبر بدنك على عذاب كلمتك هذه؟ فقال الصادق (علیه السلام): لو أنّ على عمّار من الذنوب ما هو أعظم من السماوات والأرضين لمحيت عنه بهذه الكلمات)(1). وقد ذكر الشيخ الصدوق(2) (قدس سره) أن مثل هذا الموقف حصل لعدد من أصحاب الأئمة (علیهم السلام) كأبي كهمس وابن أبي يعفور وفضيل سكرة.

إننا مبتلون في هذا الزمان وفي كل زمان بأدعياء العناوين الكبيرة كذباً وزوراً ليطلبوا بها الدنيا وليخدعوا السذج والجهلة والمهوسين، وأذكر من هؤلاء أصحاب الدعوات المرتبطة بالإمام المهدي الموعود

ص: 400


1- بحار الأنوار: 68/ 156.
2- من لا يحضره الفقيه: ج3، باب نوادر الشهادات، ح152، معجم رجال الحديث: 12/ 276.

(ع)، والسياسيين الذين يحملون اللافتات الإسلامية، [فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً] (النساء:9)، وليستفيدوا من هذا الدرس الحسيني المبارك.

ص: 401

خطاب المرحلة 336 :احذروا مدّعي الزعامة بغير حق

خطاب المرحلة 336 :احذروا مدّعي الزعامة بغير حق(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

كثر في هذا الزمن مدعو الزعامات سواءً على الصعيد الديني أو السياسي أو الاجتماعي، وهي قضية خطيرة بل لعلها أخطر القضايا التي تواجهها الأمة، لأن بها صلاح الأمة وفسادها في دينها ودنياها وآخرتها، ففي الحديث عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال: (صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل يا رسول الله ومن هما؟ قال (صلی الله علیه و آله): الفقهاء والأمراء)(2).

فللزعامة والقيادة والرئاسة على الناس شروط ومواصفات وخصائص يجب توفّرها ليكون مؤهلاً لهذا الموقع الشريف والروايات في ذلك كثيرة لا يسع المجال ذكرها، وإنما نورد شيئاً منها للاتعاظ والتدبر.

ومن تلك الشروط: توفّر ملكة الاجتهاد والإحاطة العلمية التامة بأصول الشريعة وكيفية تحصيل الحكم الشرعي والموقف إزاء أي قضية تواجه الأمة

ص: 402


1- كلمة سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع حشد الطلبة والشباب الذي يقضون المعايشة، مدّتها عشرة أيام في العشر الأواخر من شهر رمضان إلى جوار مرقد أمير المؤمنين (علیه السلام) وتعدّ لهم برامج دينية وتوعويّة وقد استقبلهم سماحته يوم الثلاثاء 25 رمضان 1433 الموافق 14/ 8/ 2012.
2- الخصال للشيخ الصدوق (قدس سره)، باب الاثنين، حديث 12.

من تلك المصادر، ففي رواية صحيحة في الكافي بسنده عن العيص بن القاسم قال: (سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول : عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له وانظروا لأنفسكم ، فوالله إن الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلاً هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها، والله لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرب بها ثم كانت الأخرى باقية تعمل على ما قد استبان لها، ولكن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة فأنتم أحق أن تختاروا لأنفسكم، إن أتاكم آت منا فانظروا على أي شيء تخرجون) (1).وفي رواية صحيحة أخرى له بسنده عن عبد الكريم بن عتبة الهاشمي عن الإمام الصادق (علیه السلام)، جاء فيها (وأنتم أيها الرهط فاتقوا الله فإن أبي حدثني وكان خير أهل الأرض وأعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه (صلی الله علیه و آله) إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: من ضرب الناس بسيفه ودعاهم إلى نفسه وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضال متكلّف)(2).

ومن مؤهّلات الزعامة: الخصائص والملكات النفسية والمعنوية، روى الشيخ الصدوق (قدس سره) في الخصال بسنده عن الإمام الصادق (علیه السلام) عن أبيه (ع) قال (إن الإمامة لا تصلح إلا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن المحارم، وحلم يملك به غضبه، وحسن الخلافة على من وُلّي حتى يكون

ص: 403


1- وسائل الشيعة، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 13 ح1.
2- وسائل الشيعة، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب9، ح2.

له كالوالد الرحيم)(1).وقد ورد التحذير الشديد من دعوى الزعامة والقيادة والرئاسة بغير حق، والتحذير موجّه إلى الشخص نفسه ليثوب إلى رشده ويقلع عن فتنته ويتّقي ربَّه، وموجّه أيضاً إلى الناس لكي لا يتبّعوا مثل هذه الزعامات البائسة الخاوية الحمقاء، قال الإمام الصادق(ع) (إياكم وهؤلاء الرؤساء الذين يترأسّون، فوالله ما خفقت النعال خلف رجل إلا هلك وأهلك) (2).

وعن الإمام الرضا (علیه السلام) –بعد ما ذكر الإمام (علیه السلام) رجلاً وقال إنه يحب الرئاسة- (ما ذئبان ضاريان في غنم قد تفرّق رعاؤها بأضرّ في دين المسلم من الرئاسة)(3).

ومما ورد فيما ناجى الله تعالى به موسى (علیه السلام) (لا تغبطنّ أحداً برضا الناس عنه حتى تعلم أن الله راضٍ عنه ولا تغبطنّ أحداً بطاعة الناس له فإنّ طاعة الناس واتباعهم إياه على غير الحق هلاك له ولمن تبعه) (4).

وهذا التحذير يجب أن نستحضره دائماً لكثرة الطامحين إلى مواقع الزعامة والرئاسة في هذا اليوم وفي كل يوم، وهم يعلمون أنهم ليسوا من أهلها، ولأنهم فاشلون لا يستطيعون السعي لبلوغ هذا الاستحقاق، فإنهم يسلكون أساليب ملتوية وماكرة تخدع السذّج من الناس والمهوسين باتباع كل ناعق من

ص: 404


1- الخصال: 116 أبواب الثلاثة ح97.
2- منتخب ميزان الحكمة: 263 عن أمالي الصدوق: 131.
3- منتخب ميزان الحكمة: 263 عن أمالي المفيد: 283.
4- بحار الأنوار: 73/ 72.

أصحاب هذه الدعوات، أو الذين يبحثون عن عناوين ومواقع تحقق لهم الجاه والامتيازات.وهذه الأساليب الماكرة الخادعة للناس لا يصعب إيجادها مع وجود شياطين الجن والإنس، كالذي حدث بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، روى ابن هشام في السيرة بسنده عن أبي هريرة قال: (لما توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله) قام عمر بن الخطاب، فقال: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد توفى، وإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات؛ ووالله ليرجعن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) مات.

قال : وأقبل أبو بكر حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر، وعمر يكلم الناس، فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة، ورسول الله (صلى الله عليه وآله سلم) مسجى في ناحية البيت، عليه برد حبرة، فأقبل حتى كشف عن وجه رسول الله (صلی الله علیه و آله).

قال: ثم أقبل عليه فقبله، ثم قال: بأبي أنت وأمي، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبداً. قال: ثم رد البرد على وجه رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ثم خرج وعمر يكلم الناس، فقال: على رسلك يا عمر، أنصت، فأبى إلا أن يتكلم، فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر؛ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إنه من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن

ص: 405

الله حي لا يموت. قال: ثم تلا هذه الآية: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين. قال: فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ؛ قال: وأخذها الناس عن أبي بكر، فإنما هي في أفواههم ؛ قال: فقال أبو هريرة: قال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعقرت حتى وقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي ، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات) (1).

أقول بهذه الحيلة قطعوا الطريق على كل من يفكر بتنفيذ وصية رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الخليفة من بعده حتى يحبكوا مؤامرتهم ويرتّبوا وضعهم ويأتي خليفتهم المزعوم الذي كان خارج المدينة، فهل كان الرجل يعتقد فعلاً أن محمد (صلی الله علیه و آله) لن يموت؟ فهو جاهل بكتاب الله تعالى إذ يقول [إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ] (الزمر:30) ويقول سبحانه [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] (آل عمران:144) وبعمومات الكتاب [أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ] (النساء:78)، وأين كان حين نعى رسول الله (صلی الله علیه و آله) نفسه مرات بقوله (يوشك أن ادعى فأجيب) وذكر (صلی الله علیه و آله) شاهداً على ذلك أن جبرائيل كان يعارضه بالقرآن في كل سنة مرة وعارضه هذه السنة مرّتين، ووصيته بالتمسك بالثقلين بعد وفاته (صلی الله علیه و آله).

ص: 406


1- السيرة النبوية لابن هشام: ج4، ص224.

وإذا كان جاهلاً بكل هذه الواضحات فكيف جاز له أن يكون خليفة على المسلمين وكيف يسيّر أمورهم؟.إذن هو لا يخفى عليه ذلك لذا كان من الفارّين يوم أحد حينما صاح أحدهم أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد قتل، ولكن هذه الدعوى كانت لكسب الوقت حتى يجري ترتيب الأمور لمن يريدون، كالذي تفعله بعض الحكومات اليوم حينما تؤجّل إعلان موت الحاكم حتى تمهّد الأمور لولي عهده، وإلى اليوم توجد مثل هذه الحيل للاستمرار في خداع الناس وتوجيههم إلى ما يريدون.

ومن أساليب الخداع التي يتبعها الطامعون في الرئاسات التظاهر بالقداسة والابتعاد عن الدنيا، وهم إنما يتركون بعض متع الدنيا الزهيدة ليفوزوا بدنيا أهم وأوسع، وهنا رواية مهمة عن الإمام السجاد (علیه السلام) يجب أن نستفيد منها دائماً؛ روي عن الإمام الرضا (علیه السلام) قال (قال علي بن الحسين إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه وتماوت في منطقه وتخاضع في حركاته فرويداً لا يغرنكم، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها لضعف نيته ومهانته وجبن قلبه، فنصب الدين فخاً لها فهو لا يزال يختل الناس بظاهره فإن تمكن من حرامٍ اقتحمه.

وإذا وجدتموه يعف عن المال الحرام فرويداً لا يغرنّكم، فإن شهوات الخلق مختلفة فما أكثر من ينبو عن المال الحرام وإن كثر ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة فيأتي منها محرما.

فإذا وجدتموه يعف عن ذلك فرويداً لا يغركم حتى تنظروا ما عقده عقله،

ص: 407

فما أكثر من ترك ذلك أجمع ثم لا يرجع إلى عقل متين فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله.فإذا وجدتم عقله متيناً فرويداً لا يغركم حتى تنظروا أمع هواه، يكون على عقله أو يكون مع عقله على هواه، وكيف محبته للرئاسات الباطلة وزهده فيها، فإن في الناس من خسر الدنيا والآخرة، يترك الدنيا للدنيا ويرى أن لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللّة، فيترك ذلك أجمع طلباً للرئاسة حتى َإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ، فهو يخبط خبط عشواء، يقوده أول باطل إلى أبعد غايات الخسارة، ويمده ربه بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه، فهو يحل ما حرم الله ويحرّم ما أحلّ الله لا يبالي بما فات من دينه إذا سلمت له رئاسته التي قد يتقي من أجلها، فأولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم عذاباً مهيناً.

ولكنّ الرّجل كلّ الرجل نِعْمَ الرجل ، الذي جعل هواه تبعاً لأمر الله، وقواه مبذولة في رضى الله، يرى الذلّ مع الحقّ أقرب إلى عزّ الأبد من العزّ في الباطل، ويعلم أنّ قليل ما يحتمله من ضرّائها يؤدّيه إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفد، وأنَّ كثير ما يلحقه من سرَّائها – إن اتبّع هواه - يؤدِّيه إلى عذابٍ لا انقطاع له ولا يزول، فذلكم الرجل نِعْمَ الرجل، فبه فتمسّكوا، وبسنّته فاقتدوا، وإلى ربّكم به فتوسّلوا، فإنّه لا تُردّ له دعوة، ولا تخيب له طلبة)(1).

أقول: يبيِّن الإمام السجاد (علیه السلام) في هذه الرواية بعض أساليب المكر والخداع للوصول إلى الزعامة والرئاسة، وهي متنوعة وعديدة، ومحورها

ص: 408


1- بحار الأنوار: 2/ 84-85 عن الاحتجاج وتفسير العسكري.

جميعاً أناس يفشلون في الوصول إلى المرتبة التي تؤهلهم لقيادة الأمة، فيبتدعون الطرق التي تستهوي العامة وتنطلي عليهم، فبعضهم يتجه إلى معارضة السلطة وحمل السلاح لمواجهتها كبعض العلويين في زمان الأئمة (علیهم السلام) وواجهوا أئمتنا بكلمات وقحة.وبعضهم يدعي الانتساب إلى الإمام المهدي مع أن مراجعة بسيطة لسجل الأحوال المدنية يكشف زيف دعواه.

وبعضهم يلتجئ إلى الغيبة والاحتجاب عن الناس وإطلاق الادعاءات الغيبية.

وبعض يتلفع بثياب القداسة والزهد في الدنيا لخداع الناس ويشتري ضمائر جماعة يضفون عليه أسمى الألقاب طمعاً بفتات الدنيا الذي يرميه إليهم.

ناهيك بأساليب بعض أبناء مراجع الدين عند وفاة آبائهم فيبتكرون الأفكار التي تحافظ على استمرار استفادتهم من امتيازات واستحقاقات المرجعية مع وضوح أن هذه الامتيازات هي للموقع فتنتقل إلى المؤهل له، وليست لشخص المرجع حتى يرثها أبناؤه.

والعجب كل العجب ليس من هؤلاء المدّعين المتقمصين ما ليس لهم، وإنما ممن يصدقهم ويتبعهم بغير دليل ولا مراجعة وفحص عن مصداقيتهم، ومع وضوح بطلان دعاواهم لتنافيها مع ما أسّسه الأئمة الأطهار (ع) من الرجوع إلى العلماء المجتهدين العاملين الذين وصفهم الحديث السابق بأنّهم يشفقون على الأمة كالوالد الرحيم، لذا وصفهم الحديث الشريف بأن أشد الناس حسرة يوم القيامة من باع آخرته لدنيا غيره، فالله الله في دينكم ولا تقعوا في فخوخ الدجالين.

وإلى الله المشتكى وعليه المعوَّل في الشدة والرخاء.

ص: 409

خطاب المرحلة 337 :كل يوم لا يُعصى الله فيه فهو عيد

اشارة

خطاب المرحلة 337 :كل يوم لا يُعصى الله فيه فهو عيد(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

قال الله تعالى: [وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ] (البقرة:197).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): (عبادَ الله، الله الله في أعزِّ الأنفس عليكم، وأحبِّها إليكم، فإن الله قد أوضح لكم سُبُل الحق، وأنار طُرُقَه، فَشَقْوَةٌ لازمة، أو سعادةٌ دائمة، فتزودوا في أيام الفناء لأيام البقاء، قد دُللتم على الزاد، وأمرتم بالظعن، وحثثتم على المسير، فإنما أنتم كركبٌ وقوف، لا يدرون متى يؤمرون بالسير، ألا فما يصنع بالدنيا من خُلق للآخرة، وما يصنع بالمال من عمّا قليل يُسلَبُه، وتبقى عليه تبعته وحسابه.

عبادَ الله، احذروا يوماً تُفحص فيه الأعمال، ويكثُر فيه الزلزال، وتشيب فيه الأطفال)(2).

ص: 410


1- خطبتا عيد الفطر السعيد للعام 1433 المصادف 20/ 8/ 2012، والعنوان كلمة لأمير المؤمنين وردت في نهج البلاغة، الحكمة (428).
2- نهج البلاغة: الخطبة (157).

ومن خطبة له (ع): (أوصيكم عباد الله بتقوى الله التي هي الزاد وبها المعاذ، زاد مبلغ، ومعاذ منجح) (فبادروا العمل، وخافوا بغتة الأجل، فإنه لا يرجى من رجعة العمر ما يرجى من رجعة الرزق، ما فات اليوم من الرزق رُجي غداً زيادته، وما فات أمس من العمر لم يُرجَ اليوم رجعته، الرجاء مع الجائي، واليأس مع الماضي ف-[اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ] (آل عمران:102))(1).سُئل الإمام الصادق (علیه السلام) عن معنى التقوى وتفسيرها، فاختصر (ع) الجواب بقوله: (أن لا يفقدك الله حيث أمرك، ولا يراك حيث نهاك)(2).

فللتقوى ركنان:

(الأول) ترك ما يكره الله تبارك وتعالى ويسخطه، وهو أوسع من المحرمات فيشمل المكروهات المؤثرة في تكامل الإنسان وتقربه من الله تعالى.

(الثاني) فعل ما يحبه الله تعالى ويرضاه وهو أعم من الواجبات فيشمل المستحبات الموجبة لرضا الله تبارك وتعالى ومحبته.

فمن أراد الكمال سار بهذين الطريقين معاً، ولا يغني أحدهما عن الآخر، فمن قام ببعض الطاعات لكنه لم يجتنب المعاصي والعياذ بالله، فإنه يهدم ما بناه بتلك الطاعات وسوف لا يقوم له بناء أبداً، روي عن المعصومين (علیهم السلام) قولهم: (جدّوا واجتهدوا، وإن لم تعملوا فلا تعصوا، فإن من يبني ولا يهدم يرتفع بناؤه

ص: 411


1- نهج البلاغة: الخطبة (114).
2- بحار الأنوار: 70/285، ح8.

وإن كان يسيراً، وإن من يبني ويهدم يوشِك أن لا يرتفع بناؤه)(1).ونفس المعنى يجري في الأمراض البدنية، فإن من ابتلي بمرض معين –كالسكري أجاركم الله تعالى منه- فإن الطبيب يأمره بأخذ بعض العلاجات وينهاه عن ارتكاب بعض الأفعال أو تناول أطعمة تضره بكميتها أو نوعها، فإذا أراد الحفاظ على صحته فلا بد أن يأخذ بهما معاً.

ولو حاولنا ترجيح أحد الركنين على الآخر أو قل بيان أيهما أهم وأكثر تأثيراً في تحصيل التكامل فإن الجواب يكون لصالح الاجتناب عما يسخطه الله تبارك ويكرهه، وقد دلّت عليه بعض الأحاديث الشريفة كقول أمير المؤمنين (علیه السلام) (ع): (اجتناب السيئات أولى من اكتساب الحسنات)(2)، ومنها ما ورد في خطبة النبي (صلی الله علیه و آله) في آخر جمعة من شعبان لاستقبال شهر رمضان، وسأله علي (علیه السلام) عن أفضل الأعمال في هذا الشهر قال (صلی الله علیه و آله): (الورع عن محارم الله).

فمعرفة الذنوب –بمداها الواسع ومراتبها الكثيرة بحسب مستويات الأشخاص- وتحصيل القدرة على اجتنابها –صغيرها وكبيرها- مما يهتم به الساعون إلى الكمال، لذا فقد شُغل حيز كبير من القرآن الكريم ببيان الذنوب وآثارها في الدنيا وعاقبتها في الآخرة والتحذير منها وبيان ما يكفّرها ويزيل آثارها، وقصص الأمم التي عكفت على المعاصي ولم تجتنبها وما حلّ بها من العذاب بسبب ذلك، والحياة السعيدة لمن اجتنبها، ولو حاولنا جمعها لوجدنا أن

ص: 412


1- بحار الأنوار: 70/ 286، ح8.
2- غرر الحكم: 1522.

القرآن الكريم كله يعالج هذه القضية بشكل مباشر أو غير مباشر.

لماذا يذنب العبد؟

لا يمكن التقليل من قوة ضغط الذنوب والخطايا على الإنسان حتى يندفع إلى ارتكابها مع كثرة ما يعرف عن آثارها الوخيمة في الدنيا وعاقبتها الفظيعة في الآخرة، يقول أمير المؤمنين (علیه السلام) (ع): (ألا وإن الخطايا خيلٌ شُمُسٌ حُمل عليها أهلها وخُلعت لُجُمها فتقحّمت بهم في الناس)(1) فالخطايا كالخيول العنيدة المتمردة على صاحبها ولا لجام لها ليمسك بها فتقتحم بصاحبها إلى المخاطر.

وهنا يأتي السؤال: من أين جاءت هذه القوة للخطايا؟ أو قل: إذا كانت الذنوب بهذه الخطورة وهذا التأثير المدمر في حياة الإنسان فلماذا يرتكبها، وهذا بحث نفسي واجتماعي وقد يحتاج إلى إجراء استبيان، ولكن يمكن استفادة بعض مناشئ الذنوب مما ورد في الروايات الشريفة، ينفع الالتفات إليها في اجتنابها وتوقيها، عن الإمام الباقر (علیه السلام): (توقّي الصرعة خير من سؤال الرجعة)(2):-

1-الجهل وهو على أشكال، منها الجهل بمقام الربوبية ووظائف العبودية، فإن من يعرف الله تعالى يتجنب المعاصي بمقدار تلك المعرفة ويؤتيه الله تعالى فرقاناً يميز به بين الحق والباطل [إنْ تَتقوا اللهَ يَجعَل لَكُم فُرقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُم

ص: 413


1- بحار الأنوار: 78/ 3، ح51.
2- بحار الأنوار: 78/ 18، ح31.

سَيئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ] (الأنفال:29)، حتى إذا اكتملت عنده المعرفة –كالمعصومين (علیهم السلام)- أصبح عبداً خالصاً لله تعالى ينفر بطبعه من المعصية ويتقزز منها، فمن رأى الغيبة على حقيقتها ووجدها أكلاً للحم أخيه ميتاً هل يقدم عليها؟ ومن رأى الدنيا جيفة قد اجتمعت عليها الكلاب هل يتنافس عليها، وهكذا.ثم الجهل بأمور الدين، فما دام الإنسان لم يتفقه في دينه ولم يتعرف على ما يقربه إلى الله تعالى ويجنبه سخطه فإنه يتورط في المعاصي من حيث يعلم أو لا يعلم، عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (جهل المرء بعيوبه من أكبر ذنوبه)(1)؛ وكتطبيق لهذا المبدأ فقد ورد في التجارة قول الإمام الصادق (علیه السلام): (من أراد التجارة فليتفقه في دينه ليعلم بذلك ما يحلُّ له مما يحرم عليه، ومن لم يتفقه في دينه ثم اتجر تورط في الشبهات)(2).

والتحذير لا يختص بالتجارة وإنما يعم كل شؤون الحياة؛ لأنها كلها مقنَّنة بأحكام في الشريعة، فالجهل بها يوقع في المعصية كجهل ربِّ الأسرة بأن كثيراً مما يفعله في البيت هو ظلم لزوجته وأسرته، والظلم ذنب لا يغفر حتى يرضى المظلوم.

2-وجود الدوافع وأصول الذنوب في النفس الإنسانية المعبَّر عنها بالغرائز والشهوات والتي خلقت أصلاً لتؤدي أدواراً إيجابية في حياة الإنسان ولتكمّل قواه الأخرى كالعقلية والجسدية والقلبية، لكنها إذا خرجت عن حدّها إلى

ص: 414


1- بحار الأنوار: 78/ 91، ح 95.
2- وسائل الشيعة: 12/ 283، كتاب التجارة، أبواب،/ آداب التجارة، باب 1، ح4 .

جانب الإفراط أو التفريط كان سبباً للوقوع في المعاصي، أشار إلى هذه القوى هشام بن الحكم في ما نقل عنه ابن أبي عمير في الاستدلال على عصمة الإمام (علیه السلام) قال: (إن جميع الذنوب لها أربعة أوجه لا خامس لها: الحرص والحسد والغضب والشهوة، فهذه منتفية عنه –أي المعصوم- ثم بيّن ذلك) فراجعه(1).3-ويعاضدها الشيطان بالتزيين والإغواء والتطمين والتهوين من الأمر حتى يقارف الذنب والمعصية قال تعالى حاكياً عن إبليس: [قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ] (الحجر: 3-40). وفي دعاء للإمام السجاد (علیه السلام): (فلولا أن الشيطان يختدعهم عن طاعتك ما عصاك عاصٍ، ولولا أنه صوَّر لهم الباطل في مثال الحق ما ضلَّ عن طريقك ضال)(2). وفي مناجاة الإمام السجاد (علیه السلام): (إلهي أشكو إليك عدواً يضلني، وشيطاناً يغويني .. يعاضد لي الهوى ويزيّن لي حبّ الدنيا، ويحول بيني وبين الطاعة والزلفى)(3) وقد ورد التحذير من إغراء الشيطان وإغوائه كثيراً في القرآن الكريم والروايات الشريفة مما لا يخفى على أحد.

هذا التزيين الشيطاني وهذه الموافقة لأهواء النفس وشهواتها جعل للخطايا تأثيراً ساحراً يسكر صاحبه حتى يتورط فيها، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (احذروا

ص: 415


1- بحار الأنوار: 25/ 192، ح1 عن كتب الشيخ الصدوق (قدس سره) معاني الأخبار والعلل والأمالي والعيون.
2- الصحيفة السجادية: الدعاء 37.
3- مفاتيح الجنان: 167، مناجاة الشاكين.

سكر الخطيئة، فإن للخطيئة سكراً كسكر الشراب، بل هي أشدُّ سكراً منه، يقول الله تعالى: [صُمٌّ بُكمٌ عميٌّ فهم لا يرجعون] (البقرة: 18))(1).4-الاغترار بالستر الإلهي على العاصين وعدم فضح الإنسان بذنبه (فلو اطلع اليوم على ذنبي غيرك ما فعلته ولو خفتُ تعجيل العقوبة لاجتنبته، لا لأنك أهون الناظرين إليّ وأخفُّ المطلعين عليّ بل لأنك يا ربِّ خير الساترين.. وأكرم الأكرمين .. تستر الذنب بكرمك وتؤخر العقوبة بحلمك) (الحمد لله الذي يحلم عني حتى كأني لا ذنب لي)(2).

وذلك كله لسعة رحمة الله وطول أناته على ذنوب عباده رحمة بالعباد وإعطاءهم مزيداً من الفرص للندم والرجوع والإقلاع عن الذنب، وحبّاً من الله لعباده وشفقة عليهم، فيتمادى الإنسان ويغتر، ظاناً أن الفرصة مفتوحة على الدوام، ولا يعلم أنه قد يوصله تماديه واغتراره إلى حد هتك الستر وانغلاق الباب وسدّ الفرصة، قال تعالى: [إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَ-ئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً، وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَ-ئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً] (النساء: 17-18).

5- استصغار الذنب والاستخفاف به لما ارتكز في الذهن من أن الذنوب الموعود بها النار هي الكبائر أما غيرها فيمكن ارتكابها، وهذا التفكير بحد ذاته

ص: 416


1- بحار الأنوار: 77/ 102، ح1.
2- المقطعان من دعاء الإمام السجاد (علیه السلام) المعروف بدعاء أبي حمزة الثمالي.

من الكبائر لما فيه من الجرأة على الله تعالى وعدم الاعتبار بعظمته وعلو شأنه وهو موجب لسخط الله وسلب اللطف عن العبد فتؤدي به هذه الصغائر إلى الوقوع في الكبائر والعياذ بالله.لذا كثر التحذير من استصغار أي ذنب، قال أمير المؤمنين (علیه السلام): (لا تستصغروا قليل الآثام فإن الصغير يُحصى ويرجع إلى الكبير)(1)، وروي عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: (إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) نزل بأرض قرعاء فقال لأصحابه: ائتوا بحطب، فقالوا: يا رسول الله نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب، قال: فليأت كل إنسان بما قدر عليه، فجاؤوا به حتى رموا بين يديه بعضه على بعض، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): هكذا تجتمع الذنوب، ثم قال: إياكم والمحقرات من الذنوب، فإن لكل شيء طالباً، ألا وإن طالبها يكتب ما قدموا وآثارهم وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين)(2)، وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: أعظم الذنوب عند الله سبحانه ذنب صغر عند صاحبه)(3) وعنه (علیه السلام): (إن الله أخفى سخطه في معصيته، فلا تستصغروا شيئاً من معصيته، فربما وافق سخطه وأنت لا تعلم)(4).

6-الغفلة، فإن كثيراً من الذنوب –وبعضها من الكبائر- ترتكب لا للجهل بها وإنما للغفلة كالغيبة التي يُعلم أنها من الكبائر ووصفها الله عز وجل بأشنع

ص: 417


1- الخصال: 616، ح10.
2- الكافي: 2/ 288، ح3.
3- غرر الحكم: رقم 3141.
4- بحار الأنوار: 73/ 349، ح43.

الأوصاف وهي إدام أهل النار، ومع ذلك فقد أصبحت الغيبة فاكهة المجالس والمادة الرئيسية للأحاديث، فينبغي للمؤمن أن يتجنب الغفلة بترك المقدمات الموجبة لها، وإذا عرضت عليه فليخرج منها فور التفاته؛ بذكر الله تعالى، قال عز وجل: [إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ] (الأعراف:201) وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (الغفلة ضلالة)(1) وعنه (علیه السلام): (إياك والغفلة والاغترار بالمهلة، فإن الغفلة تفسد الأعمال)(2). ومن وصايا النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر: (هُمَّ بالحسنة وإن لم تعملها لكيلا تكتب من الغافلين)(3).7- سوء الخلق، عن النبي (صلی الله علیه و آله): (لكل ذنب توبة إلا سوء الخلق، فإن صاحبه كلما خرج من ذنب دخل في ذنب)(4). ***

8-الاختلاط الكثير مع الناس ومجالسة البطّالين، والخوض في فضول الكلام، فهذه الأمور كلها مظنة الوقوع في الذنوب والمحرمات؛ لذا ورد التحذير من حضور هذه المجالس والمشاركة في اللغو الباطل [وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ] (المدثر:45)، عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (مجالسة أهل الهوى منسأة(5) للإيمان ومحضرة للشيطان)(6)، وفي الحديث عن رسول الله

ص: 418


1- غرر الحكم: 196، 2717.
2- ميزان الحكمة: 3/ 2287.
3- مكارم الأخلاق: 2/ 378.
4- بحار الأنوار: 77/ 48، ح3.
5- منسأة بفتح الميم والهمزة: أي تأخير وتأجيل.
6- نهج البلاغة: الخطبة: 86.

(صلی الله علیه و آله): (أكثر الناس ذنوباً أكثرهم كلاماً في ما لا يعنيه)(1) وعن أمير المؤمنين (علیه السلام): (إياك والهذر، فمن كثر كلامه كثرت آثامه) وعنه (علیه السلام): (الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به، فإذا تكلمت به صرت في وثاقه، فاخزن لسانك كما تخزن ذهبك وورِقك، فرُبّ كلمة سلبت نعمة وجلبت نقمة). 9-سوء فهم بعض ما ورد في الروايات الشريفة من الثواب على بعض الأفعال كدخول الجنة بالبكاء على الحسين (علیه السلام) وإقامة شعائره وشفاعة أهل البيت (علیهم السلام)، فقد أعطى الله تعالى هذه الكرامات لأهل البيت (سلام الله عليهم) رحمة بالعباد لكي تسدّ الخلل والتقصير والقصور مع حسن النية والعزم على فعل الخير والطاعة وبذل الوسع في ذلك، وليس بأن تكون سبباً للتمادي والجرأة والعناد واللجاجة، قال تعالى: [وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى] (الأنبياء:28) وقال تعالى: [وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَ-اةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ] (الأعراف: 156)، وكما عبّر الإمام الرضا (علیه السلام) عن إعطاء هذه الدرجات أنه (بشرطها وشروطها) في حديث سلسلة الذهب المعروف.

وقد حذّر الإمام الصادق (علیه السلام) في وصيته عند وفاته وقد جمع أقرباءه ومتعلقيه: (إن شفاعتنا لا تنال مستخفاً بالصلاة)(2) وقال الإمام الباقر (علیه السلام): (لا تتهاون بصلاتك، فإن النبي (صلی الله علیه و آله) قال عند موته: ليس مني من

ص: 419


1- و الحديثان بعده في منتخب ميزان الحكمة: 552.
2- مستدرك الوسائل: 3/ 25، ح2923.

استخف بصلاته)(1). وقد لخّص الإمام السجاد (علیه السلام) ذكر هذه الأسباب لمقارفة الذنوب بما ورد عنه في الدعاء المعروف بدعاء أبي حمزة الذي يدعى به في أسحار شهر رمضان، قال (علیه السلام): (إلهي لم أعصك حين عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد ولا بأمرك مستخف ولا لعقوبتك متعرض ولا لوعيدك متهاون، لكن خطيئة عرضت وسوّلت لي نفسي وغلبني هواي وأعانني عليها شقوتي، وغرّني سترك المرخى عليّ) وقال (علیه السلام): (إلهي ما لي كلما قلت قد صلحت سريرتي، وقرب من مجالس التوابين مجلسي، عرضت لي بلية أزالت قدمي ... سيدي لعلك عن بابك طردتني، وعن خدمتك نحيتني، أو لعلك رأيتني مستخفاً بحقك فأقصيتني أو لعلك رأيتني معرضاً عنك فقليتني، أو لعلك وجدتني في مقام الكاذبين فرفضتني، أو لعلك رأيتني غير شاكر لنعمائك فحرمتني، أو لعلك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني، أو لعلك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني، أو لعلك رأيتني آلف مجالس البطالين فبيني وبينهم خليتني أو لعلك لم تحب أن تسمع دعائي فباعدتني، أو لعلك بجرمي وجريرتي كافيتني أو لعلك بقلة حيائي منك جازيتني..)(2).

كيف نحصل القدرة على اجتناب الذنوب؟

إن اجتناب الذنوب يحتاج أولاً إلى معرفة تفصيلية بها لأن بعضها وإن كان

ص: 420


1- الكافي: 3/ 269، ح7.
2- دعاء أبي حمزة الثمالي، تجده في مفاتيح الجنان، أعمال أسحار شهر رمضان.

معلوماً كالكبائر إلا أن الكثير منها غير معلوم وبعضها لا يلتفت إليها أحد كعدم قضاء حوائج المؤمنين والاهتمام بها، ففي رواية عن الإمام الصادق وولده الكاظم (علیه السلام): (من أتاه أخوه في حاجة يقدر على قضائها فلم يقضها له سلّط عليه شجاعاً ينهش إبهامه في قبره إلى يوم القيامة مغفوراً له أو معذباً)(1) وهكذا غيرها مما ذكرناه في خطاب سابق وذكرنا أمثلة عليها من دعاء الإمام السجاد (علیه السلام) في الاستغفار من كل نعمة لم يشكرها أو ظُلم أحدٌ عنده فلم ينصره وهكذا، ناهيك بالمحرمات المعروفة، وهذا يتطلب تفقهاً واطلاعاً مستمراً على كتب السلف الصالح والاستماع دائماً إلى المحاضرات الإرشادية والوعظية.ومما يقلل فرصة ارتكاب الذنب زيادة المعرفة بالله تعالى وتقوية العلاقة به تبارك وتعالى، كتذكر أنه محسن إلينا بما لا يعد ولا يحصى من النعم، و [هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ] (الرحمن:60) و[أَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ] (القصص:77) وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): (لو لم يتوعد الله على معصيته لكان يجب ألا يُعصى شكراً لنعمته)(2)، وعن الإمام الرضا (علیه السلام) في حديث قال: (ولو لم يخوِّف الله الناس بجنة ولا نار لكان الواجب عليهم أن يطيعوه ولا يعصوه لتفضله عليهم وإحسانه إليهم وما بدأهم به من إنعامه الذي ما استحقوه)(3).

ص: 421


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب فعل المعروف، باب 25، ح5، 9، 10.
2- نهج البلاغة: الحكمة 290.
3- عيون أخبار الرضا: 2/ 180.

أو الالتفات إلى أن الذنوب تمنع بعض عطاء الله تبارك وتعالى ونحن محتاجون إليه، عن أمير المؤمنين (علیه السلام) المؤمنين (علیه السلام): (لو لم يرغّب الله سبحانه في طاعته لوجب أن يطاع رجاء رحمته)(1).أو تذكر أنك بمحضر الله تبارك وتعالى وتحت نظره ولا تخفى عليه خافية في السماوات والأرض [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] (غافر:19)، فمعصيته والحال هذه جرأة على جبار السماوات والأرض وتحدٍ لعظمته، من وصايا النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر: (يا أبا ذر لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت) ومن كلماته (صلی الله علیه و آله): (لا تنظروا إلى صغر الذنب ولكن انظروا إلى من اجترأتم)(2).

أو أن يلتفت إلى أن هذا الذنب قد يوجب هتك الستر الذي ضربه الله تعالى عليه فتفضحه الذنوب، أو أن ينال به سخط الله تعالى وغضبه بحيث لا تنفعه توبة ولا تدركه الألطاف الإلهية، فقد أخفى الله غضبه في معصيته، فلا يُعلم أي معصية توجب ذلك فعلى العبد أن يتوفاها جميعاً، من دعاء الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام): (وإن خذلني نصرك عند محاربة النفس والشيطان فقد وكلني خذلانك إلى حيث النصب والحرمان). في الحديث عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (للمؤمن اثنان وسبعون ستراً فإذا أذنب ذنباً انهتك عنه ستر، فإن تاب رده الله إليه وسبعةً معه، وإن أبى إلا قدماً قدماً في المعاصي تهتك أستاره، فإن تاب ردها الله إليه ومع كل ستر منها سبعة، فإن أبى إلا قدماً قدماً في المعاصي تهتك

ص: 422


1- غرر الحكم: 7564.
2- بحار الأنوار: 77/ 168، ح6.

أستاره وبقي بلا مستر وأوحى الله تعالى إلى ملائكته أن استروا عبدي بأجنحتكم)(1).وفي الكافي عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (من همّ بسيئة فلا يعملْها فإنه ربما يعمل العبد السيئة فيراه الرب تعالى ويقول: وعزتي وجلالي لا أغفر لك بعد ذلك أبداً)(2).

ومما يساعد على تجنب المعاصي أن يعلم بأن في ارتكاب الذنب إيذاءً وإساءة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) ولأمير المؤمنين (علیه السلام) ولفاطمة الزهراء (عليها السلام) والأئمة المعصومين (سلام الله عليهم) ونحن نحبهم ولا نريد إيذاءهم وهم مطّلعون على أعمال العباد، كما نطقت به الآية الكريمة: [وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ] (التوبة:105)، روي عن الإمام (علیه السلام) قال: (ما لكم تسوؤون رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟ فقال رجل: جُعلتُ فداك وكيف نسوؤه؟ قال: أما تعلمون أن أعمالكم تعرض عليه فإذا رأى فيها معصية الله ساءه ذلك، فلا تسوؤوا رسول الله وسرّوه)(3).

ومن المعرفة الموجبة لتجنب المعاصي الالتفات إلى الهدف من وجودنا في هذه الدنيا وما ينبغي أن نصرف أعمارنا فيه مما يوصل إلى الغاية، وحينئذٍ سوف لا يكون للإنسان مجال للعب والعبث واللهو فضلاً عن ارتكاب المعاصي، عن الإمام الكاظم (علیه السلام): (إن العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف

ص: 423


1- بحار الأنوار: 73/ 63، عن نوادر الراوندي: 6.
2- سفينة البحار: 3/ 216، بحار الأنوار: 73/ 308.
3- مجالس المفيد: 196، المجلس 23، ح29.

الذنوب؟ وترك الدنيا من الفضل، وترك الذنوب من الفرض)(1).

آثار الذنوب على النفس والمجتمع في الدنيا والآخرة:

ومما يحفّز على ترك الذنوب معرفة آثارها في الدنيا والآخرة، ونتعرض هنا لبعض آثارها في الدنيا، أما في الآخرة ابتداءً من الموت وما بعده من أهوال البرزخ والحساب ويوم القيامة فإن في القرآن الكريم ما يكفي لبيان تلك العظائم [يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ] (الحج:2) [يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً] (المزمل:17) [بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَ-ئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] (البقرة:81) [قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ] (الأنعام:15) [وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] (النمل:90) وأهون ما يذكر من تلكم الآثار الحجب عن النعيم مدة قد تطول كثيراً، في الكافي عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن العبد ليُحبس على ذنب من ذنوبه مائة عام وإنه لينظر إلى أزواجه في الجنة يتنعمن)(2).

إن معرفة هذه الآثار الوخيمة للذنوب توجب على كل عاقل اجتنابها، عن الإمام علي (علیه السلام): (عجبت لأقوام يحتمون الطعام مخافة الأذى كيف لا

ص: 424


1- بحار الأنوار: 78/ 301، ح 1.
2- الكافي: 2/ 272، باب الذنوب، ح19.

يحتمون الذنوب مخافة النار)(1) وعن الإمام الباقر (علیه السلام): (عجبت لمن يحتمي من الطعام مخافة الداء كيف لا يحتمي من الذنوب مخافة النار)(2).وقد حصلنا من الروايات على جملة من تلك الآثار:

1-قصر العمر وتعجيل الفناء بحيث يظهر من أقوال المعصومين شيء عجيب وهو: أن أكثر الناس لا يبلغون أعمارهم المقدرة بسبب الذنوب مما يسمى بالأجل المخروم، قال أمير المؤمنين (علیه السلام): (موت الإنسان بالذنوب أكثر من موته بالأجل، وحياته بالبر أكثر من حياته بالعمر)(3)، وقال الإمام الصادق (علیه السلام): (من يموت بالذنوب أكثر ممن يموت بالآجال، ومن يعيش بالإحسان أكثر ممن يعيش بالأعمار)(4)، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (تجنبوا البوائق يُمَدُّ لكم في الأعمار)(5).

ومن الذنوب التي اشتهر أنها تعجل الفناء قطيعة الرحم، وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): (ثلاثة من الذنوب تعجل عقوبتها ولا تؤخَّر إلى الآخرة، عقوق الوالدين، والبغي على الناس، وكفر الإحسان)(6).

2-إن الذنوب سبب للمصائب والآلام والنكبات التي يتعرض لها الفرد والمجتمع، في الكافي عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (أما إنه ليس من عرق

ص: 425


1- تحف العقول: 204.
2- بحار الأنوار: 62/ 269، ح 60.
3- سفينة البحار: 3/ 217، بحار الأنوار: 78/ 83.
4- سفينة البحار: 3/ 217، بحار الأنوار: 5/ 140.
5- عيون أخبار الرضا: 2/ 36.
6- ميزان الحكمة: 3/ 383، ح6857.

يُضرب ولا نكبة ولا صداع ولا مرض إلا بذنب، وذلك قول الله عز وجل في كتابه: [وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ] (الشورى:30) ثم قال (علیه السلام): (وما يعفو الله أكثر مما يؤاخذ به)(1)، وفي الكافي عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: (إن أحدكم ليكثر به الخوف من السلطان وما ذلك إلا بالذنوب فتوقوها ما استطعتم ولا تمادوا فيها) وقد تستحدث لهم بلاءات لم يكن يعرفونها من قبل، في الكافي عن الإمام الرضا (علیه السلام) قال: (كلما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعملون أحدث الله لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون)(2).3-إنها توجب اسوداد القلب وانغلاقه فلا يستجيب للهداية، في الكافي عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (كان أبي يقول: ما من شيء أفسد من خطيئة، إن القلب ليواقع الخطيئة فلا تزال به حتى تغلب عليه فيصير أعلاه أسفله)(3) أي يصبح كالإناء المقلوب فلا يحتفظ بشيء من الحق والهدى ولا تؤثر فيه الموعظة، وفيه عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء فإن تاب انمحت وإن زاد زادت حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبداً) وشاهده من كتاب الله قوله تعالى: [كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا

ص: 426


1- أصول الكافي: 2/ 269، باب الذنوب، ح3، وللمزيد من الاطلاع راجع قائمة بالذنوب التي تغيّر النعم والتي تنزل النقم والتي تهتك العصم والتي تعجل الفناء والتي ترد الدعاء في بحار الأنوار: 73/ 375-376 عن معاني الأخبار للصدوق: 270-271.
2- الكافي: 2/ 272، باب الذنوب، ح29.
3- أصول الكافي: 2/ 268، باب الذنوب، ح1.

كَانُوا يَكْسِبُونَ] (المطففين:14).4-نقص الرزق، في الكافي عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (إن العبد ليذنب الذنب فيُزوى –أي يقبض ويصرف- عنه الرزق)(1) وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إذا غضب الله عز وجل على أمة ولم يُنزل بها العذاب غلت أسعارها وقصرت أعمارها ولم تربح تجّارها ولم تُزك ثمارها ولم تغزر أنهارها وحبس عنها أمطارها وسُلِّط عليها شرارها)(2).

5-الحرمان من الطاعات خصوصاً المهمة منها كصلاة الليل أو النوم عن صلاة الصبح، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (إن الرجل يذنب الذنب فيُحرم من صلاة الليل وإن العمل السيئ أسرع في صاحبه من السكين في اللحم)(3).

6-زوال النعم، قال تعالى: [إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ] (الرعد:11) في الكافي عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (إن الله قضى قضاءً حتماً ألا ينعم على العبد بنعمة فيسلبها حتى يحدث العبد ذنباً يستحق بذلك النقمة)(4) وعنه (علیه السلام): (إن الله عز وجل بعث نبياً من أنبيائه إلى قومه وأوحى إليه أن قل لقومك إنه ليس من أهل قرية ولا ناس كانوا على طاعتي فأصابهم فيها سراء فتحولوا عما أحب إلى ما أكره إلا تحولت لهم عما يحبون إلى ما يكرهون، وليس من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على معصيتي فأصابهم فيها

ص: 427


1- أصول الكافي: 2/ 268، باب الذنوب، ح 8.
2- ثواب الأعمال: 305، الخصال: 2/ 360، الباب 7، ح 48.
3- أصول الكافي: 2/ 268، باب الذنوب، ح 16.
4- أصول الكافي: 2/ 273، باب الذنوب، ح22.

ضراء فتحولوا عما أكره إلى ما أحب إلا تحولت لهم عما يكرهون إلى ما يحبون). وضرب القرآن الكريم مثلاً في سبأ(1) [لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ، ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ، وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ، فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ، وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ] (سبأ: 15-21).

وقد ورد في الأحاديث الشريفة أن من الذنوب التي تغيِّر النعم وتعجَّل عقوبتها البغي على الناس.

7- عدم استجابة الدعاء والإبطاء في تحقيق ما يطلبه الداعي، قال الباقر

ص: 428


1- بيان الشاهد: أنه كان لأهل سبأ بساتين ورياض غنّاء عن يمين بلادهم وشمالها وطلب منهم ربّهم أن يشكروا نعمه فأعرضوا فأرسل عليهم سيلاً من المطر الشديد والجرذ الذي نقب السد جزاءً لتمردهم، وجعل لهم على طول المسافة بينهم وبين الشام قرىً ليستريحوا ويتزودوا لسفرهم فكانوا يقيلون في قرية ويبيتون في أخرى حتى يصلوا آمنين من المخاوف والمضار فقال العصاة: باعد بين أسفارنا أي أزل القرى واجعل المسافات شاسعة في الصحراء ليصعب على غير التجار والمتمولين والمترفين السفر والتجارة ويحرموا الفقراء ويتباهون عليهم باتخاذ المراكب.

(ع): (إن العبد ليسأل الحاجة من حوائج الدنيا فيكون من شأن الله قضاؤها إلى أجل قريب أو وقت بطيء فيذنب العبد عند ذلك ذنباً فيقول الله للملَك الموكَّل بحاجته لا تنجز له حاجته واحرمه إياها فإنه تعرَّض لسخطي واستوجب الحرمان مني)(1).8- نكد الحياة وشقاؤها وتعاستها، قال تعالى: [وَمَن أَعرَضَ عَنْ ذِكرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحشُرُهُ يَومَ القِيَامَةِ أعمَى] (طه:124) وقال تعالى: [وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ، حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ، وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ] (الزخرف: 36-40) فمن يتعامى عن الحق واتباعه يخلّي الله تعالى بينه وبين شيطانه يغويه ويصده (ع) سبيل الله ويكون ملازماً له فيشقيه ويتعبه [وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ] (فصلت: 25).

9-تشوّش الفكر وانشغال الذهن وسوء الحفظ والحرمان من العلم النافع المقرِّب إلى الله تعالى، بسبب الصراع الذي يعيشه ووخز الضمير وخوف الفضيحة والعقاب، والذلة الباطنية التي يحسّ بها، ولحرمانه من لطف الله تعالى، روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله: (اتقوا الذنوب فإنها ممحقة للخيرات، إن العبد ليذنب الذنب فينسى به العلم الذي كان قد علمه)(2)، وهو ما عبّر عنه

ص: 429


1- الاختصاص: 31.
2- بحار الأنوار: 73/ 377، ح14.

الشاعر:

شكوتُ إلى حكيمٍ سوء حفظي *** فأرشدني إلى ترك المعاصي

وعلّله بأن العلم نورٌ *** ونور الله لا يؤتى لعاصي

10-ويعم أثر الذنوب حتى يتضرر به الآخرون وربما المجتمع كله، قال تعالى: [وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً] (الأنفال: 25)، وروي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله: (الذنب شؤم على غير فاعله، إن عيَّره ابتلي، وإن اغتابه أثم، وإن رضي به شاركه)(1).

والخلاصة:

أنه إذا أراد الإنسان أن يوفقه الله تعالى للمزيد من طاعته فليترك الذنوب.

وإذا أراد أن يحيى حياة مطمئنة سعيدة صافي البال فليترك الذنوب.

وإذا أراد طول العمر بخير وعافية وسعة رزق فليترك الذنوب.

وإذا أراد أن تدوم عليه نعم الله وتقل عليه المصائب فليترك الذنوب.

وإذا أراد سلامة القلب واللحاق بالصالحين فليترك الذنوب.

ولذا كان يوم العيد الحقيقي هو كل يوم لم تجترح فيه ما يكرهه الله تبارك وتعالى، قال أمير المؤمنين (علیه السلام) في بعض الأعياد: (إنما هو عيدٌ لمن قبِل الله صيامه وشكر قيامه، وكل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد)(2).

ص: 430


1- منتخب ميزان الحكمة: ح2420.
2- نهج البلاغة: الحكمة 428.

العواصم من الذنوب:

وعلى رأس العواصم من الذنوب –وهو الأصل فيها- اللطف الإلهي الذي به عصم الله تعالى أنبياءه ورسله والصالحين من عباده قال تعالى: [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ] (يوسف:24)، وقال تعالى: [وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً] (الإسراء: 74).

في رواية عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: (إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى داوود النبي (ع) أن ائت عبدي دانيال فقل له: إنك عصيتني فغفرت لك وعصيتني فغفرت لك، وعصيتني فغفرت لك، فإن أنت عصيتني الرابعة لم أغفر لك، قال: فأتاه داوود (ع) فقال له: يا دانيال، إني رسول الله إليك وهو يقول لك: إنك عصيتني فغفرت لك وعصيتني فغفرت لك، وعصيتني فغفرت لك، فإن أنت عصيتني الرابعة لم أغفر لك. فقال له دانيال: قد بلغت يا نبي الله.

قال: فلما كان في السَحَر قام دانيال وناجى ربه فقال: يا رب إن داوود نبيك أخبرني عنك: إني عصيتك فغفرت لي، إني عصيتك فغفرت لي، وأخبرني عنك أني إن عصيتك الرابعة لم تغفر لي، فوعزتك لأعصينك ثم لأعصينك، ثم لأعصينك، إن لم تعصمني)(1)، أي: يا رب إنك إن وكلتني إلى نفسي فإني لا أستطيع أن أعصمها من الذنوب إلا أن تعصمني أنت برحمتك.

ومن العواصم الدعاء والذكر واليقظة كلما اعترته غفلة، قال تعالى: [إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ] (النحل:99)، قال أمير

ص: 431


1- بحار الأنوار: 73/ 362، ح90.

المؤمنين (علیه السلام): (أكثر الدعاء تسلم من سَورة الشيطان)(1)، وقال (علیه السلام): (تحرّز من إبليس بالخوف الصادق)(2).(ومنها) الشوق إلى الله تبارك وتعالى ومحبّته، من مناجاة الإمام السجاد (علیه السلام) (وأن تجعل حبّي إياك قائداً إلى رضوانك، وشوقي إليك ذائداً عن عصيانك)(3)، ومن كلمات أمير المؤمنين (علیه السلام) في بيان دعائم الإيمان قال: (فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار اجتنب المحرمات)(4).

(ومنها) تجنب الحضور والتواجد في الأجواء المساعدة على المعصية لقطع منافذ الشيطان والنفس الأمارة بالسوء بحيث يصبح ارتكاب المعصية متعذراً، عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (ثلاث من حفظهن كان معصوماً من الشيطان الرجيم ومن كل بليةٍ: من لم يخلُ بامرأة ليس يملك منها شيئاً، ولم يدخل على سلطان، ولم يُعِن صاحب بدعة ببدعته)(5)؛ والإكثار من الوجود في المساجد ومجالس الصالحين فإنها تمنع من الوقوع في الذنب، قال علي (علیه السلام): (من العصمة تعذر المعاصي)(6)، وعنه (علیه السلام): (من اختلف إلى المساجد أصاب

ص: 432


1- بحار الأنوار: ج78/ 9، ح64.
2- بحار الأنوار: 78/ 64، ح1
3- مفاتيح الجنان: 173، مناجاة المحبّين.
4- نهج البلاغة، قصار الكلمات، رقم (31).
5- بحار الأنوار: 74/ 197، ح32.
6- نهج البلاغة: 535، الحكمة 345.

إحدى الثمان: ... أو يترك ذنباً خشيةً أو حياءً)(1).(ومنها) المراقبة والمحاسبة الدقيقة والمستمرة للنفس، والأحاديث الآمرة بذلك كثيرة، روى الشيخ الطوسي (قدس سره) في كتاب الغيبة بسنده إلى أبي هاشم الجعفري قال: (سمعت أبا محمد (ع) يقول: من الذنوب التي لا تغفر قول الرجل: ليتني لا أؤاخذ إلا بهذا، فقلت في نفسي: إن هذا لهو الدقيق ينبغي للرجل أن يتفقد من أمره ومن نفسه كل شيء، فأقبل عليَّ أبو محمد (ع) فقال: يا أبا هاشم صدقت فالزم ما حدثت به نفسك فإن الإشراك في الناس أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء ومن دبيب الذر على المسح الأسود)(2).

(ومنها) استعظام الذنب واستفضاع عاقبته، روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله: (إن الله تبارك وتعالى إذا أراد بعبدٍ خيراً جعل ذنوبه بين عينيه ممثلة والإثم عليه ثقيلاً وبيلاً، وإذا أراد بعبدٍ شراً أنساه ذنوبه)(3).

وعنه (صلی الله علیه و آله): (إن المؤمن ليرى ذنبه كأنه تحت صخرة يخاف أن تقع عليه، والكافر يرى ذنبه كأنه ذباب مرَّ على أنفه).

(ومنها) عدم الإعجاب بالنفس، وما يصدر منها من طاعات؛ لأن ذلك يوجب إيكال العبد إلى نفسه فيذنب حتى يكون له واعظاً ومؤدباتً من نفسه، في الكافي بسنده عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (إن الله علم أن الذنب خير

ص: 433


1- الخصال: ج2، باب الثمانية، ح10.
2- بحار الأنوار: 73/ 359، ح78.
3- والذي بعده تجدهما في ميزان الحكمة: 3/ 375، ح 6794، 6795.

للمؤمن من العجب ولولا ذلك ما ابتلي مؤمن بذنب أبداً)(1).

مكفّرات الذنوب:

إن الله تعالى يعلم ضعف العبد عن مسك زمام نفسه الأمّارة بالسوء ومقاومة غواية الشيطان وتزيين الشهوات ويعلم بجهل الإنسان بعواقب أفعاله، وهو أشفق على عباده وأرحم بهم من أنفسهم، وأكرم من أن يقابلهم على سيئاتهم بمثلها، قال تعالى: [وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً] (فاطر:45)، قال الإمام الصادق (علیه السلام): (وما يعفو الله أكثر مما يؤاخذ به)(2)، في تفسير قوله تعالى: [وَمَا أصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَت أيدِكُم وَيَعفُو عَن كَثِيرٍ] (الشورى: 30).

فضاعف سبحانه وتعالى لهم الحسنات وتمهل في تسجيل السيئات، في الخصال عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (إذا همّ العبد بحسنة كتبت له حسنة، فإذا عملها كتبت له عشر حسنات، وإذا همّ بسيئة لم تكتب عليه فإذا عملها أُجّل تسع ساعات فإن ندم عليها واستغفر وتاب لم تكتب عليه وإن لم يندم ولم يتب كتبت عليه سيئة واحدة)(3)، وفي رواية أخرى: قال الله تبارك وتعالى: (قد جعلت لهم التوبة أو بسطت لهم التوبة حتى تبلغ النفس الحنجرة، قال يا

ص: 434


1- أصول الكافي: 2/ 313، باب العجب، ح1.
2- أصول الكافي: 2/ 269، باب الذنوب، ح3.
3- الخصال: 2/ 418، باب التسعة، ح11.

ربّ حسبي)(1) أي قال آدم (ع) حسبي تلك الفضائل لذريتي مما كان للشيطان من التأثير عليهم. ثم لم يكتف سبحانه بكرمه ورحمته بذلك بل جعل لهم مكفرات لذنوبهم حتى يخفف عنهم أوزارهم التي احتملوها على ظهورهم بسوء أفعالهم ويلاحظ على تلك المكفرات أن بعضها اختيارية وبعضها غير اختيارية، فالاختيارية أفعال ينبغي للإنسان أن يقوم بها ليكفّر بها عن سيئاته وإن لم يفعل ابتلي بغير الاختيارية وهي أشق عليه، لذا ورد في بداية دعاء أبي حمزة الثمالي عن الإمام السجاد (علیه السلام): (إلهي لا تؤدبني بعقوبتك)، أما غير الاختيارية –كالأمراض- فهي أمور تعرض للإنسان بسبب منه أو من غيره فيعتبرها الله تعالى بكرمه كفارة لذنوب من تعرض لها، فعلى الإنسان أن يسعى بجد في طلب المغفرة والتكفير عن ذنوبه بالأسباب الاختيارية، وأن لا يجزع إذا حصل له ما يكفّر الذنوب، فإن بقاء ذنب واحد عليه إلى يوم القيامة كافٍ لفضيحته وإيلامه.

لذا ورد في أدعية شهر رمضان الاستعاذة من انقضائه أو انقضاء الليلة التي هو فيها وقد بقي عليه ذنب أو تبعة يؤاخذه بها: (إلهي وأعوذ بوجهك الكريم وبجلالك العظيم أن ينقضي أيام شهر رمضان ولياليه ولك قبلي تبعة أو ذنب تؤاخذني به أو خطيئة تريد أن تقتصها مني لم تغفرها لي سيدي سيدي سيدي)(2).

ص: 435


1- بحار الأنوار: 71/ 249، ح11.
2- من أدعية العشر الأواخر في شهر رمضان.

من وصايا النبي (صلی الله علیه و آله) لابن مسعود: (يا ابن مسعود: لا تحقرن ذنباً ولا تصغّرنّه، واجتنب الكبائر، فإن العبد إذا نظر يوم القيامة إلى ذنوبه دمعت عيناه قيحاً ودماً، يقول الله تعالى: [يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً] (آل عمران:30)، يا ابن مسعود: إذا قيل لك: (اتقِ الله) فلا تغضب فإنه يقول: [وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ] (البقرة:206))(1).

أما مكفرات الذنوب فهي:

1- التوبة والاستغفار بصدق:

والتي تتضمن بحسب بيان أمير المؤمنين (علیه السلام) لمعنى الاستغفار الندم على ما صدر منه وعقد العزم بصدق على عدم العود ورد المظالم إلى أهلها وتدارك ما فاته من التقصير، وحينئذٍ يكفّر الله سيئاته وينسي الملائكة الحافظين ما كتبوا وكل الشهود بما فيهم جوارحه ويمحو عنه آثار تلك الذنوب والخطايا، ويكتب له بدل ذلك كله حسنات، قال تعالى: [إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً] (الفرقان:70).

2- القيام بالأعمال الصالحة والطاعات:

قال تعالى: [وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّ-يِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ] (هود:114) [ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ

ص: 436


1- بحار الأنوار: 77/ 101.

وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً] (الطلاق:5).قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (إذا عملت سيئة فاعمل حسنة تمحها)(1)، وعنه (صلی الله علیه و آله): (أوصيكم بتقوى الله .. وارحضوا بها ذنوبكم وداووا بها أسقامكم).

وورد هذا الأثر في أعمال كثيرة كزيارة الحسين (علیه السلام) وإحياء ليلة القدر وصوم بعض الأيام المعينة وبعض الصلوات المستحبة، وهي مذكورة في كتب السنن والمستحبات، نذكر منها ما روي عن الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) قال: (ثلاث ليالي من زار فيها الحسين (علیه السلام) غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر: ليلة النصف من شعبان والليلة الثالثة والعشرون مهر رمضان وليلة العيد) وورد في صوم ثلاث أيام الخميس والجمعة والسبت من الأشهر الحرم وهي (محرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة) أنها كفارة ذنوب تسعمائة عام وهكذا.

3-الصلاة في أوقاتها:

عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (لو كان على باب أحدكم نهر فاغتسل منه كل يوم خمس مرات هل كان يبقى على جسده من الدرن شيء؟ إنما الصلاة مثل النهر الذي ينقي، كلما صلى صلاة كان كفارة لذنوبه إلا ذنب أخرجه من الإيمان مقيم عليه)(2).

وننبه دائماً إلى أن مثل هذه الأمور تلحظ مع شروطها كقول رسول الله (صلی الله علیه و آله): (لو صلّيتم حتى تكونوا كالأوتار، وصمتم حتى تكونوا كالحنايا لم

ص: 437


1- الحديثان تجدهما في ميزان الحكمة: 3/ 387-388، ح6893، 6895.
2- بحار الأنوار: 82/ 236، ح66.

يقبل الله منكم إلا بورع)(1)، وكقول الإمام الصادق (علیه السلام): (من صلّى ركعتين يعلم ما يقول فيهما، انصرف وليس بينه وبين الله ذنب)(2).

4- الابتلاءات والمصائب والمصاعب في الدنيا:

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (إن المؤمن إذا قارف الذنوب ابتلي بها بالفقر، فإن كان في ذلك كفارة لذنوبه وإلا ابتلي بالمرض، فإن كان في ذلك كفارة لذنوبه وإلا ابتلي بالخوف من السلطان يطلبه، فإن كان في ذلك كفارة لذنوبه وإلا ضيق عليه عند خروج نفسه، حتى يلقى الله حين يلقاه وما له من ذنب يدعيه عليه فيأمر به إلى الجنة)(3).

وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (إذا أراد الله بعبد خيراً عجّل عقوبته في الدنيا، وإذا أراد بعبد سوءاً أمسك عليه ذنوبه حتى يوافي بها يوم القيامة)(4).

5- رعاية حرمة شهر رمضان:

من دعاء الإمام السجاد (علیه السلام) في وداع شهر رمضان (السلام عليك ما كان أمحاك للذنوب وأسترك لأنواع العيوب) (السلام عليك كما وفدت علينا بالبركات وغسلت عنا دنس الخطايا) حتى روي عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: (سمّي شوال شوالاً لأنّ فيه شالت –أي ارتفعت وذهبت- ذنوب المؤمنين فلم يبق فيه ذنب إلا غفره الله تعالى ببركة صيام شهر رمضان فإن أجر كل أجير

ص: 438


1- بحار الأنوار: 84/ 258، ح65.
2- الكافي: 3/ 226، ح12.
3- ميزان الحكمة: 3/ 385، ح6869.
4- ميزان الحكمة: 3/ 385، ح6873.

يعطى عند ختمه للعمل)(1).

6- الأمراض:

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (السقم يمحو الذنوب)(2)، وقال (صلی الله علیه و آله): (ساعات الوجع يذهبن ساعات الخطايا)، وقال (صلی الله علیه و آله): (حمى ليلة كفارة سنة).

7- الأحزان والهموم:

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (إذا كثرت ذنوب المؤمن ولم يكن له من العمل ما يكفرها ابتلاه الله بالحزن ليكفرها به عنه)(3)، وقال (صلی الله علیه و آله): (ساعات الهموم ساعات الكفارات، ولا يزال الهم بالمؤمن حتى يدعه وما له من ذنب).

8- إتيان المساجد:

عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (عليكم بإتيان المساجد، فإنها بيوت الله في الأرض، ومن أتاها متطهراً طهره الله من ذنوبه وكتب من زوّاره، فأكثروا فيها من الصلاة والدعاء)(4).

9- العفو والصفح عن أخطاء الآخرين وتقصيراتهم:

لأن هذه من أخلاق الله تبارك وتعالى وهو يجازي من اتصف بها بأكثر منها، قال تعالى: [وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ

ص: 439


1- مصابيح الجنان: 599 عن السيد في الإقبال.
2- الأحاديث الثلاثة في ميزان الحكمة: 3/ 386، ح6876، 6877، 6868.
3- الحديثان تجدهما في ميزان الحكمة: 3/ 386-387، ح6885، 6888.
4- منتخب ميزان الحكمة: 307، ح2928.

رَّحِيمٌ] (النور:22)، روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله: (من عفا عند المقدرة عفا الله عنه يوم العسرة)(1)، ولكن مع الالتفات إلى معنى العفو ومنه ما قاله أمير المؤمنين (علیه السلام): (ما عفا عن الذنب من قرَّع به)(2). وفي دعاء الإمام السجاد (علیه السلام): (اللهم إنك أنزلت في كتابك العفو وأمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا وقد ظلمنا أنفسنا فاعفُ عنا فإنك أولى بذلك منا)(3).

10- اتباع رسول الله (صلی الله علیه و آله) والاستنان بسنته الشريفة في الأفعال والأقوال:

قال تعالى: [قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] (آل عمران:31).

وقد حفلت المصادر بذكر سنن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كصوم ثلاثة أيام في الشهر وصلاة الليل وبقية النوافل، وأخلاقه (صلی الله علیه و آله) في الأقوال والأفعال.

11- إغاثة الملهوف:

قال أمير المؤمنين (علیه السلام): (من كفارات الذنوب العظام: إغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب)(4).

ص: 440


1- منتخب ميزان الحكمة: 439، ح 4329.
2- غرر الحكم: 9567.
3- من دعاء أبي حمزة الثمالي.
4- ميزان الحكمة: 3/ 388، ح6899.

12- كفارات خاصة:

إن بعض الذنوب والتقصيرات لها كفارات خاصة، فقد روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله: (إن من الذنوب ذنوباً لا يكفّرها صلاة ولا صوم، قيل يا رسول الله، فما يكفرها؟ قال: الهموم في طلب المعيشة)(1).

وكقول الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) لعلي بن يقطين –وكان وزيراً لهارون العباسي: (كفارة عمل السلطان الإحسان إلى الإخوان) (2).

وما في قول النبي (صلی الله علیه و آله): (من الذنوب ذنوب لا تغفر إلا بعرفات)(3).

ومن الكفّارات الخاصة ما ورد عند القيام من أي مجلس أو انفضاض أي لقاء أو اجتماع كان مشوباً بالغفلة عن الله تعالى فيقول: [سُبحَانَ ربِّكَ رّبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى المُرسَلِينَ، وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ].

13- حسن الخُلُق:

قال الإمام الصادق (علیه السلام): (إن حسن الخلق يذيب الخطيئة كما تذيب الشمس الجليد، وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل)(4).

14- كثرة السجود:

قال الإمام الصادق (علیه السلام): (جاء رجل إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: (يا رسول الله كثرت ذنوبي وضعف عملي، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أكثر من

ص: 441


1- ميزان الحكمة: 3/ 387، ح6886.
2- تحف العقول: 410، بحار الأنوار: 10/ 247.
3- ميزان الحكمة: 3/ 389، ح6902.
4- ميزان الحكمة: 3/ 388، ح6898.

السجود فإنه يحط الذنوب كما تحط الريح ورق الشجر)(1).

15- الحج والعمرة:

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحجة المتقبلة ثوابها الجنة، ومن الذنوب ذنوب لا تغفر إلا بعرفات)(2)، وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (إن أفضل ما توسل به المتوسلون إلى الله .. حج البيت واعتماره، فإنهما ينفيان الفقر ويرحضان الذنب).

16- افتتاح صحيفة العمل واختتامها بالخير:

قال الإمام زين العابدين (ع): (إن الملك الموكل على العبد يكتب في صحيفة أعماله فأملوا بأولها وآخرها خيراً يغفر لكم ما بين ذلك)(3).

17- الصلاة على محمد وآله:

قال الإمام الرضا (علیه السلام): (من لم يقدر على ما يكفر به ذنوبه فليكثر من الصلاة على محمد وآله فإنها تهدم الذنوب هدماً)(4).

18- سكرات الموت:

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (الموت كفارة لذنوب المؤمنين)(5).

ص: 442


1- ميزان الحكمة: 3/ 389، ح6901.
2- الحديثان تجدهما في ميزان الحكمة: 3/ 389، ح6902، 6903.
3- ميزان الحكمة: 3/ 389، ح6904.
4- ميزان الحكمة: 3/ 389، ح6905.
5- ميزان الحكمة: 3/ 389، ح6906.

19- الصدقة:

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (الصدقة تطفئ غضب الرب) (1)، وقال الإمام الصادق (علیه السلام): (إن صدقة الليل تطفئ غضب الرب، وتمحو الذنب العظيم).

ص: 443


1- منتخب ميزان الحكمة: صفحة 292، ح 3518.

ص: 444

مختارات من صحيفة الصادقين استفتاءات- أخبار - تعليقات - قصائد من الأعداد 97-116

اشارة

ص: 445

بسم الله الرحمن الرحيم

استفتاء حول المشاركة في تظاهرات الجمعة

استفتاء حول المشاركة في تظاهرات الجمعة(1)

سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الشريف)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

يتساءل الكثير ممن يرجعون إليكم بالتقليد والاتباع حول الموقف من المظاهرات المزمع إقامتها في بغداد وغيرها من المدن العراقية يوم الجمعة المقبل (25 شباط)، فنحن لا نقوم بأي فعل إلا بعد الرجوع إلى مرجعيتنا الرشيدة، أفيدونا يرحمكم الله تعالى.

جمع من أتباعكم ومقليدكم

بسمه تعالى

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

لقد كنت من السباقين إلى المطالبة بالإصلاح ومكافحة الفساد ومعاقبة المفسدين وعدم التصدي لمواقع المسؤولية إلا لمن كانت له الأهلية من حيث الكفاءة والنزاهة والإخلاص والتفاني في خدمة الناس، وكنت ولا زلت شديد الوطأة على المسؤولين منذ عدة سنوات ومطالباً بحق الشعب في حياة حرة كريمة يُحترم فيها الإنسان وتوفَّر له حقوقه المكفولة في الشرائع السماوية والدساتير الوضعية، وكان هدفي هو الضغط على المسؤولين ليصححوا ما فسد

ص: 446


1- نُشر بعد صدوره بأيام في العدد (97) صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 22/ر1/ 1432 الموافق 26 شباط 2011.

من أمورهم، وللارتقاء بمستوى الوعي لدى الأمة، وقمنا بفعاليات عديدة خلال هذه المدة لتأكيد هذه المطالب المشروعة.أما مظاهرات يوم الجمعة المقبل فيحيطها الكثير من التوجس والشك والقلق؛ لأننا لا نعلم الجهات التي تقف وراءها، ومن الذي سيتولى تنظيمها؟ ومن الذي يتعهد بتوجيه المتظاهرين وضبط حركتهم حتى لا تتعرض مؤسسات الدولة التي هي ملك الشعب والممتلكات الخاصة إلى التخريب والاعتداء؟ بل وجدنا بعض الشعارات المغرضة التي تخدم أجندات غريبة عن الواقع، هذا إذا أردنا عدم التصديق بما يقال من وجود مخربين ومندسين يريدون استغلال التظاهرة لإحداث الفتنة والفوضى والتخريب.

وقد نهانا الأئمة المعصومون (علیهم السلام) أن ندخل في كل أمر مريب بقولهم المشهور: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك). وهذا النهي يجعلنا لا نتحمل مسؤولية المشاركة في خصوص مظاهرات يوم الجمعة التي لا نعلم لها أصلاً إلا دعوات انتشرت عبر مواقع الفيسبوك وتويتر التي رأيناها كيف وجّهت الأحداث الأخيرة في عدة دول.

أعتقد أن المظاهرات التي شهدتها المدن العراقية خلال الأسابيع الأخيرة، وأجواء الضغط والشد التي وفرتها الدعوة إلى التظاهر يوم الجمعة قد أوصلت الرسالة إلى المسؤولين وأيقظتهم وأجبرتهم على الخروج من حالة الاستخفاف بعقول الناس وإنسانيتهم وبدأوا يستجيبون لمطالب الناس المشروعة وبدأوا يحسبون الحساب لغضبة الجماهير، وعليهم الآن أن يتعهدوا أمام الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) والشعب بإجراء إصلاحات جذرية في طريقة الإدارة

ص: 447

والحكم وصرف الأموال ورعاية المصالح العليا للدولة والشعب.[يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَقُوا اللهَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ] (آل عمران: 200).

محمد اليعقوبي – النجف الأشرف

19 / ربيع الأول / 1432ه-

بسم الله الرحمن الرحيم

استفتاء حول التظاهرات في بعض الدول الإسلامية

استفتاء حول التظاهرات في بعض الدول الإسلامية(1)

اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم

سماحة آية الله العظمى (الشيخ محمد اليعقوبي) دامت إفاضاته

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أفيدونا في موقفنا الشرعي في سؤالنا التالي:

السؤال: يعيش العالم الإسلامي والعربي حالة المطالبة بحقوقه المشروعة مما يضطر الشباب إلى الخروج والتظاهر مطالبين بحقوقهم المسلوبة فهل يجوز شرعاً هذا الخروج في الحالات التالية:

أ- إذا كان يحتمل الضرر كأن يُجرح أو يُسجن.

ب- إذا كان يطمئن بحصول الضرر المذكور.

ص: 448


1- نشر في العدد (98) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 11/ج1/ 1432 الموافق 15/ 4/ 2011.

مع ملاحظة أن التظاهر حتى السلمي ممنوعٌ في قوانين بعض هذه البلاد.ودمتم لنا عزاً وفخراً

مجموعة من المؤمنين- الإحساء

1/ 4/ 1432ه-

بسمه تعالى

المطالبة بالحقوق الإنسانية مشروع لكل البشر وأقرّته الشرائع السماوية، لكن آليات ووسائل هذه المطالبة تختلف بحسب الزمان والمكان والظروف والإمكانيات المتيسرة، لذا فإننا نوكل أمر النظر في التفاصيل إلى علماء وعقلاء القوم في كل بلد بحسب ما يناسبه، والرجوع إلى المرجع العارف بملابسات الزمان والمكان في تحديد الأطر العامة والمطالب المشروعة في ضوء ما تقتضيه مصلحة تلك البلاد وشعبها وما يحقق لهم الحياة الكريمة، والله المستعان.

مع دعائنا لكم بالتوفيق والتأييد.

محمد اليعقوبي

2/ربيع الثاني/1432 ه-

ص: 449

الزيارة الفاطمية وملتقى العلم والدين

الزيارة الفاطمية وملتقى العلم والدين(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

تُطِّل علينا خلال الأيام المقبلة ذكرى استشهاد الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) حيث يستعد المؤمنون الموالون لإحيائها بما يليق وعظمة المناسبة.

لقد شهدت القضية الفاطمية انتعاشاً في السنين الأخيرة سواء على صعيد إقامة المجالس أو الفعاليات المتنوعة أو التأليف والكتابة والبحث والنشرات، وبذلت جهود مشكورة ممن يتوق لنيل شفاعة الصديقة الطاهرة (علیها السلام)، ولا زال المطلوب أكثر من هذا للتغييب الذي عانت منه هذه القضية المرتبطة بصميم العقيدة الحقة.

وتبلغ الفعاليات ذروتها في النجف الأشرف يوم الثالث من جمادى الثانية الذي يصادف هذا اليوم السبت 7/5 حيث يشترك عشرات الآلاف من المؤمنين المفجوعين بالشهيدة المظلومة في التشييع الرمزي، ويتوجهون إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) لزيارته وتعزيته.

ويتضمن برنامج الاحتفال مساء الجمعة وصباح السبت مسرحيات تجسد جوانب من حياة السيدة الطاهرة، ومهرجانات شعرية تبيّن عظمة الزهراء (علیها السلام)، ومجالس خطابية ومسابقات ومعارض، كما عزم المنظمون لمواكب الوعي الفاطمي للجامعات والمعاهد العراقية على إقامة مسيرة حاشدة بهذه المناسبة

ص: 450


1- نُشر في العدد (98) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 11/ج.1/ 1432 الموافق 15/ 4/ 2011.

ضمن المسيرة العامة، ويقام عصر الجمعة ملتقى العلم والدين في رحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) باب مدينة العلم وسيد العارفين بإذن الله تعالى بمشاركة المئات من أساتذة وطلبة الجامعات.نهيب بجميع المؤمنين المشاركة في هذه الحركة المباركة، وليعلموا أن كل عمل صالح يُقدم لإحياء ذكرى الصديقة الزهراء (علیها السلام) وبيان شرفها وعظمتها فإنه يحظى بلطف الله تعالى وحسن جزائه ورعاية إمام العصر (أرواحنا له الفداء).

بسمه تعالى

كيف يكون منزلك بين رسول الله وأمير المؤمنين (صلوات الله عليهما)

كيف يكون منزلك بين رسول الله وأمير المؤمنين (صلوات الله عليهما)(1)

سأنقل لكم رواية تكفي [لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ] (ق:37) [وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ] (الحاقة: 12)، ليتوجه إلى طلب العلوم الدينية والتفقه في دين الله تعالى، ونشره بين الناس.

وقد وصلت الرواية بسند وُصِف بالصحة وهي في حق بُكير بن أعين أخي زرارة وعبد الملك وحمران بني أعين وهم من العلماء الرواة الثقاة وفيها (إن أبا عبد الله –الصادق (علیه السلام)- لما بلغه وفاة بكير بن أعين قال: أما والله لقد أنزله

ص: 451


1- خاطرة ذكرها سماحة الشيخ اليعقوبي في حفل التتويج بالعمامة لعدد من طلبة جامعة الصدر الدينية فرع الحسينية/ بغداد يوم22/ ج1/ 1432 المصادف 26/ 4/ 2011، ونشرت في العدد (99) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 6/ج2/ 1432 الموافق 10/ 5/ 2011.

الله بين رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما)(1).فما الذي يقعدنا عن بلوغ هذه المنزلة، وبكير لم يكن من المعصومين حتى يقال أن درجتهم لا يمكن الوصول إليها، بل كان رجلاً عادياً يعمل ويكسب لكنه امتلك همة ورغبة في تحصيل علوم أهل البيت (علیهم السلام) ونشرها بين الناس ومع أن الظروف اليوم مؤاتية وميسّرة، وليست بتلك القساوة التي عاشها أولئك الأصحاب في زمن الأمويين والعباسيين.

المرجع اليعقوبي يحذر من خطورة إطلاق منح الجنسية العراقية لمن كان أحد والديه عراقياً

المرجع اليعقوبي يحذر من خطورة إطلاق منح الجنسية العراقية لمن كان أحد والديه عراقياً(2)

حذّر سماحة المرجع اليعقوبي من خطورة قرار المحكمة الاتحادية بإمكانية منح الجنسية العراقية لمن كان أحد والديه عراقياً على الهوية العراقية، وسيكون منفذاً لاختراق أمن العراق وثقافته وقيمه.

ووصف سماحته القرار بأنه غير دستوري؛ لأن الدستور اشترط في تطبيق هذه المادة منه أن ينظم ذلك بقانون، وهو ما لم يحصل إلى الآن، فلا يجوز العمل بهذه المادة وأضاف سماحته في تعليق إعلامي له حول القرار: إن القرار غير شرعي أصلاً لان النسب والنسبة تكون بلحاظ الأب لا بلحاظ الأم، قال تعالى (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ) الأحزاب5.فهذا القرار غريب على ثقافتنا ومبادئنا.

ص: 452


1- معجم رجال الحديث للسيد الخوئي (قدس سره): 3/ 353.
2- نُشر الخبر في العدد (101) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 12/شعبان/1432 الموافق 14/ 7/ 2011.

وذكّر سماحته بموقفه من التصويت على الدستور حيث لم يوافق عليه لوجود ثغرات فيه، ومنها هذه المادة وكانت المادة مطلقة فأضافوا إليها فقرة (وينظم ذلك بقانون) لمعالجتها واستمر سماحته برفضها.وكان رئيس المحكمة الاتحادية قد عقد مؤتمراً صحفياً يوم 4/تموز قال فيه (أن المحكمة الاتحادية العليا أصدرت العديد من القرارات بمنح الجنسية العراقية لمن كان احد والديه عراقياً) مؤكداً (إن القرار جاء بعد أن امتنعت الجهات المختصة عن ذلك) مضيفاً (أن القرار لم يبتعد عن الدستور والقانون العراقي كون ابن العراقي وابن العراقية هما عراقيان ويجب أن يتمتعا بحق المواطنة).

وتنص المادة 18 من الفرع الأول للحقوق المدنية والسياسية في الدستور العراقي على (أن الجنسية العراقية حق لكل عراقي، وهي أساس مواطنته، ويُعَّد عراقياً كل من ولد لأب عراقي أو لام عراقية، وينظم ذلك بقانون).

اللوم الكثير على الفعل إغراء به

اللوم الكثير على الفعل إغراء به(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

في الحديث النبوي المشهور (إن من الشعر لحكمة)، وأحد من مصاديق

ص: 453


1- تعليق لسماحة الشيخ (دام ظله) في مجلسه العام يوم الاثنين 12/ج2/ 1432 على اتهام جهة معينة بفعل ما وقع في حينها، نشر في العدد (100) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 7/رجب/1432 الموافق 10/ 6/ 2011.

ذلك قول الشاعر المشهور:

دع عنك لومي فإن اللومَ إغراءُ *** وداوني بالتي كانت هي الداءُ

وبغضّ النظر عن الشطر الثاني، فإن الشطر الأول فيه حكمة مفيدة في تقويم السلوك الاجتماعي، فإن في كثرة لوم الآخر على فعلٍ ما: إغراءً له ودفعاً له باتجاه القيام بذلك العمل.

فقد يكون الشخص متستراً بفعل ما –كشرب الخمر والعياذ بالله- أو قد يكون راغباً فيه لكنه لم يقم به حياءً أو لأي مانع آخر، فإذا قام شخص آخر علم بفعل هذا الشخص أو برغبته في فعله بلومه وتقريعه والحديث عنه علناً فإنه سيدفعه إلى القيام بذلك الفعل ويتحمل اللائم المسؤولية لأنه هو الذي أغراه بالفعل بعد أن هتك ستره وأزال عنه ما كان يمنعه من الفعل.

والتطبيقات الاجتماعية لهذه الحكمة كثيرة، كزوج يُسمع زوجته باستمرار كلمات الشك بها كلما رنّ الهاتف أو خرجت زوجته لقضاء حاجة أو سمع ذكر رجل أمامه وهكذا وهي بريئة من ذلك كله، فإنه سيدفع ذات النفس الضعيفة المتردّدة إلى الانحراف بعد أن لم يبقِ زوجها لها كرامة وعفاف باتهاماته وتشكيكاته.

أو امرأة تكثر الشك بزوجها بأن له علاقة مع امرأة أخرى وهو لم يفعل ذلك حباً بزوجته ودفعاً للمشاكل، لكن زوجته لما جعلت هذه المشاكل أمراً واقعاً بشكها وهواجسها وأوهامها. لم تبقِ له شيئاً يحذر منه ويخاف من وقوعه فيندفع لفعل ما كان يفكر فيه.

فهذا درس اجتماعي علينا تعلمه والاستفادة منه في سلوكنا وتعاملنا مع

ص: 454

الآخرين والله الموفق.

المرجعية ترعى المؤتمر الإسلامي لعشائر العراق

المرجعية ترعى المؤتمر الإسلامي لعشائر العراق(1)

تزامناً مع الولادات الميمونة للأئمة الأطهار (ع) في شعبان المعظمّ، تنادى جمع كبير من زعماء العشائر ورؤساء الأفخاذ لعقد مؤتمر عام لهم في بغداد لتجديد البيعة والولاء للمرجعية الرشيدة، ومطالبة الحكومة لتحسين الخدمات والأوضاع المعيشية للمواطن العراقي ورفض تمديد بقاء القوات الأجنبية بعد انتهاء مدتها في نهاية هذا العام، وقد أضاف سماحة المرجع اليعقوبي عدة فقرات ودعا المؤتمرين إلى تبنيها كمطالب مرجعية وجماهيرية لان فيها حفظ هوية البلد وازدهاره ورقي أبنائه والتفاعل مع قضايا الشعوب الشقيقة ومنها:

1- التأكيد على المواطنة وبث الروح الوطنية في وسائل الإعلام ومناهج الدراسة ورفض أن يكون قرار المحكمة الاتحادية الصادر قبل أيام بمنح الجنسية العراقية لمن كان أحد أبويه عراقياً مطلقاً بلا ضوابط؛ لخطورته على هوية الشعب العراقي وأمنه، ولأنه غير دستوري حيث اشترط تنظيمه بقانون.

2- ندعو قادة البلاد إلى التحلي بالحكمة والصبر والإخلاص للشعب ونبذ خلافاتهم ومواقفهم الانفعالية، والالتفات إلى مصلحة شعبهم و إعمار بلدهم.

3- ندعو دول الجوار إلى عدم تنفيذ أي مشاريع مضرّة بالشعب العراقي

ص: 455


1- نُشر الخبر في العدد (101) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 21 شعبان 1432 الموافق 14/ 7/ 2011.

ومصالحه في البر والبحر(1) فإن ذلك يعكّر صفو العلاقات بين الدول الشقيقة.4- الجدية في مكافحة الفساد ومحاكمة المفسدين واستعادة أموال الشعب وتوظيفها لما فيه إعمار البلاد وتحسين أوضاع المواطنين.

5- دعوة الحكام والسلطات في المنطقة إلى احترام إرادة الشعوب وعدم قمعها، والاستماع بإذن واعية لمطالبهم، وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى إلا بما فيه مصلحة الشعوب.

6- دعم انطلاق جلسات الحوار بين مكونات الشعب البحريني الشقيق، والدعوة لكونها جادّة ومنصفة ومراعية للأولويات في القضايا المطروحة.

بسمه تعالى

قناة النعيم الفضائية

قناة النعيم الفضائية(2)

ببركة حلول شهر رمضان الفضيل انطلقت قناة النعيم الفضائية ببث برامجها، وقد بارك سماحة المرجع اليعقوبي للقناة انطلاقتها وحلول شهر رمضان بكلمةٍ عنوانها [ثُمّ لَتُسألُنَّ يومئذٍ عَن النَعِيمِ] حيث بين فيها معاني كلمة

ص: 456


1- إشارة إلى ما تقوم به تركيا من إقامة سدود تقلّل من كمية المياه الواصلة إلى العراق، وقيام الكويت بإنشاء ميناء مبارك الكبير الذي يخنق الملاحة البحرية للعراق، وقيام إيران بتحويل مسار عدد من روافد الأنهار العراقية إلى داخل بلادها فجفّت تلك الأنهار وتحويل مياه البزل والنفايات إلى شط العرب، وقيام سوريا والسعودية باحتضان الإرهاب ودعمه وتسهيل أمر دخوله إلى العراق.
2- نُشر الخبر في العدد (102) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 16 رمضان 1432 الموافق 17/ 8/ 2011.

النعيم ومناشئها.هدف القناة عرض الإسلام كمشروع حضاري مستوعب لكل شؤون الحياة وعلى مدى الأزمنة يتكفل بتحقيق السعادة المادية والمعنوية للإنسان ويدحض المشاريع المادية التي يضعها الإنسان الناقص العاجز.

كما تعمل القناة على ربط الإنسان بخالقه وإدامة ذكره حتى يكون حاضراً في قلبه ووجدانه لتحقيق معنى العبودية الحقة ورفض الذين يعبدون من دونه من الآلهة التي يصطنعها البشر بنفسه وهي لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً ومثلها كمثل بيت العنكبوت اوهن البيوت.

وتدعو القناة جميع العلماء والمفكرين والفنانين للمساهمة في رفد القناة بكل ما يحقق هذه الأهداف النبيلة تمهيداً لإقامة دولة الحق بإذن الله تبارك وتعالى.

بسمه تعالى

الصدر فكر متجدد وإبداع متميز

الصدر فكر متجدد وإبداع متميز(1)

برعاية المرجع الديني سماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) أقام مكتب المرجعية في بغداد حفلاً تأبينياً بمناسبة الذكرى الثالثة عشرة لاستشهاد المرجع الديني السيد محمد محمد صادق الصدر (قدس الله روحه الزكية) تحت شعار (الصدر فكر متجدد وإبداع متميّز) على قاعة المسرح الوطني ببغداد يوم

ص: 457


1- نشر في العدد (104) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 15/ذ.ق./1432 الموافق 14/ 10/ 2011.

السبت 2/ذ.ق/1432 المصادف 1/ 10/ 2011.وقد كان الحفل ناجحاً ورائعاً بكل المقاييس وحضره حشد كبير من العلماء والفضلاء وممثلي مكاتب المرجعيات الدينية ومسؤولي البلاد من بينهم دولة رئيس الوزراء السيد نوري المالكي وسماحة السيد عمار الحكيم رئيس المجلس الإسلامي الأعلى وممثل السيد رئيس الجمهورية ووزراء العدل والنفط والبيئة والداخلية وكالة وعدد من البرلمانيين ورؤساء الهيئات والدوائر وكبار المسؤولين في الدولة وسفراء بعض الدول العربية والإسلامية وجماهير غفيرة من المؤمنين لم تسعهم قاعة المسرح.

وابتدأ الحفل في الساعة 30/9 صباحاً بالنشيد الوطني العراقي، ثم عطّر الأسماع وطهر القلوب المقرئ رائد القيسي بآيات مباركة من القرآن الكريم، وقف بعدها الحاضرون لقراءة سورة الفاتحة على روح السيدين الشهيدين الصدرين (قدس الله سرهما) وكل شهداء الإسلام والوطن.

ثم أُلقيت كلمة المرجع اليعقوبي وكانت بعنوان (السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وتصحيح المفاهيم) وذكر فيها ثلاثة عناوين موضحاً معانيها الحقيقية في فكر السيد الشهيد (قدس سره) وقد اختارها بعناية ليوجه من خلالها رسائل إلى الأمة كي تتحرك نحو الصلاح والإصلاح من خلال المعنى الإيجابي للانتظار، وإلى الحوزة العلمية لتعمّق العلوم وتنهض بمسؤوليتها الحضارية اليوم، وإلى السياسيين ليعيشوا سمو الهدف.

بعدها كان للمدعوّين مساهمات تليق بالمناسبة، فتحدث السيد رئيس الوزراء عن التعبوية التي تميزت بها حركة السيد الشهيد (قدس سره) وكانت مصدر

ص: 458

قلق النظام وان الأعداء ما زالوا متربصين فلا بد من المحافظة على هذه الحالة. ثم لخّص سماحة السيد عمار الحكيم الأبعاد التي تميز بها السيد الشهيد الصدر (قدس سره) وحركته المباركة ثم أكد على الوحدة والاهتمام بالشعب ورسم المسارات الصحيحة، وجعل الأحزاب والكيانات الإسلامية أمام مسؤولياتها لأن نجاحها وفشلها ينعكس على الدين نفسه.

ثم ألقى الدكتور محمد رضا نجف مستشار رئيس الجمهورية كلمة فخامته التي ذكّر فيها بالمواقف النبيلة والشجاعة للسيد الشهيد (قدس سره) في مواجهة الطغيان والظلم والاستبداد، ودعا جميع النخب الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية لتوحد جهودها لإزالة ذلك الإرث الديكتاتوري البغيض والعمل بروح الأسرة الواحدة: أسرة العراق الذي يجمعنا بالخير والعدل والسلام.

ثم عرض فيلم وثائقي قصير بعنوان (قل هو الصدر) من إنتاج مؤسسة الرحمن الإسلامية يحكي سيرة الشهيد الصدر (قدس سره) مما ألهب مشاعر الحاضرين وجعل المسرح يضج بالبكاء والأسى.

ثم جاء دور الشيخ خالد الملا رئيس جماعة علماء العراق فرع الجنوب ليتحدث عن ذكرياته عن نهضة السيد الشهيد ودوره الكبير في ترسيخ الهوية الوطنية منتقداً في الوقت ذاته الأصوات النشاز التي تنتقص من مكونات الشعب العراقي تحت عناوين طائفية بغيضة.

واختتم الدكتور صلاح عبد الرزاق محافظ بغداد كلمات التأبين حيث سلط الضوء في كلمته على السيرة الناصعة للشهيد الصدر وفق منهج بحثي

ص: 459

متميز مستذكراً مواقفه الخالدة وشعاراته الهادرة التي هزّت عروش الظالمين.وكان مسك الختام مع الشعر والشعراء الذين ألهبوا حماس الحاضرين وأسالوا دموعهم فقد كانت المنصة لفرزدق الصدر الشاعر الحلي الفصيح عباس العجيلي بعدها ضج المسرح بحماس الشاعر الشعبي الكبير محسن الجوراني الذي عزف قصيده بعنوان سيمفونية الألق راثياً الشهيد الصدر(قدس سره).

ولم يسع الوقت لإلقاء كل المساهمات، حيث انتهى الاحتفال مع أذان الظهر.

أهل البيت (علیهم السلام) هم السبيل إلى الله تعالى

أهل البيت (علیهم السلام) هم السبيل إلى الله تعالى(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد وضعتم بفضل الله تبارك وتعالى أقدامكم على الطريق الموصل إلى الله تبارك وتعالى بولايتكم لأهل البيت (علیهم السلام) واتباع تعاليمهم وقد أمركم الله تعالى أن تأتوا البيوت من أبوابها، والباب هم علي (علیه السلام) وبنوه المعصومون.

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) (أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة والحكمة فليأتها من بابها).

والأدلة على صحة هذا المعتقد كثيرة، لكنني اذكر لكم وجهاً واحداً من القرآن الكريم، قال تعالى [قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ

ص: 460


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من المستبصرات من تركيا زرن سماحته مع أحد الفضلاء الأتراك يوم الخميس 9/ع1/ 1433 المصادف 2/2/ 2012، ونشرت في العدد (109) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 19/ر1/ 1433 الموافق 12/ 2/ 2012.

إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً] (الفرقان:57) فأجر الرسالة أن تتخذوا إلى الله تعالى سبيلاً، وقال تعالى في آية أخرى [قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى] (الشورى:23) فأجر الرسالة هي مودّة أهل بيت النبي (صلی الله علیه و آله) وبضمّ الآيتين إلى بعضهما تكون النتيجة أن السبيل إلى الله تعالى هم أهل البيت (علیهم السلام). فكانوا (سلام الله عليهم) هم السبيل إلى الله تعالى والوسيلة إلى رضوانه.إن الفوز والفلاح في الآخرة، والجواز على الصراط المستقيم إلى الجنة، ورضوان من الله أكبر هو حصيلة الاستقامة على ولاية أهل البيت (علیهم السلام) في الدنيا، سُئِل الإمام الصادق (علیه السلام) عن الصراط فقال (هو الطريق إلى معرفة الله عز وجل، وهما صراطان: صراط في الدنيا وصراط في الآخرة، وأما الصراط الذي في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة، من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه مرَّ على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة، ومن لم يعرفه في الدنيا زلَّت قدمه عن الصراط في الآخرة فتردّى في نار جهنم).(1)

ويتطلب هذا الأمر تفقهاً ومعرفة بأحكام الدين وتعاليم أهل البيت (علیهم السلام) والعمل بما تتعلمونه.

بسمه تعالى

تكريم المواقف النبيلة

تكريم المواقف النبيلة(2)

أشاد المرجع الديني سماحة الشيخ محمد اليعقوبي (مد ظله) بالموقف

ص: 461


1- معاني الأخبار للشيخ الصدوق: 32.
2- نشر في العدد (109) من صحيفة الصادقين.

النبيل المشرف الذي تناقلته وسائل الإعلام للشهيد الملازم نزهان الجبوري والشهيد نائب العريف علي السبع، الذين منعا الإرهابي الانتحاري من تفجير نفسه وسط الزائرين المتوجهين إلى كربلاء المقدسة في ناحية البطحاء بمحافظة ذي قار يوم الخميس الماضي(1) بمناسبة ذكرى أربعينية الإمام الحسين (علیه السلام).وقال سماحته لدى استقباله مجموعة من زوار الإمام الحسين (علیه السلام) بمكتبه في النجف الأشرف يوم الاثنين 15/صفر/1433 الموافق 9/ 1/ 2012: إن من يجسّد في سلوكه قيم الإيثار والشجاعة والإخلاص والوفاء، يستحق أن نقف احتراماً له، وينبغي التركيز على هذه المواقف النبيلة البطولية وتكريم أصحابها وتسليط الأضواء عليها، فإنها من أوضح مصاديق اللحمة الوطنية، بدل النفخ في نار التفرقة والتناحر في ظل الظروف الراهنة التي تمر بها البلاد.

ودعا سماحته الجهات التنفيذية والتشريعية إلى تكريم(2) هذا الرمز وأمثاله

ص: 462


1- قالت وسائل الإعلام إن المرحوم نزهان –وهو من أبناء العامة- شك في الإرهابي المجرم فأراد إبعاده عن حشد الزوّار لكن اللعين فجّر نفسه فاستشهد ما لا يقل عن (47) وجرح أكثر منهم، وكان الأكثر من مواكب أهالي البصرة القاصدين كربلاء مشياً، وقد شهد نفس اليوم الخميس 11/صفر الموافق 5/ 1/ 2012 انفجار عبوتين ودراجتين مفخختين في مدينة الصدر ببغداد، وسيارتين مفخختين قرب مسطر العمال في ساحتي العروبة والزهراء في الكاظمية فاستشهد (28) وجرح (60)، هذا غير الحوادث الإجرامية في الأيام الأخرى.
2- قررت الحكومة في اجتماعها يوم الثلاثاء 10/ 1 منح أسرة كل من الشهيدين مبلغ (20) مليون دينار ودار سكن وتسمية إحدى ساحات الناصرية باسميهما، وقد توافد الكثير من المسؤولين والزعماء السياسيين والوجهاء خلال الأيام التالية على ذوي الشهيد لتعزيتهم.

والوقوف إلى جنب ذويه ومواساتهم بجميع أنواع المواساة الممكنة، مستغرباً في الوقت نفسه غياب التمثيل الحكومي (الرسمي) عن مراسيم تشييع جثمان الشهيد في مدينته كركوك يوم الأحد، وانشغال وسائل الإعلام بصراعات السياسيين وتناحراتهم على تقاسم كعكة الوطن وثروات الشعب، ولا تركّز على المواقف الوطنية والإنسانية التي تجمع الشعب وتحيي الأمل في مستقبل زاهر.

أحب أن يُرى في شيعتي مثلُك

أحب أن يُرى في شيعتي مثلُك(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

كان أبان بن تغلب جليل القدر عظيم المنزلة، لقي ثلاثة من الأئمة (السجاد والباقر والصادق(ع)) وروى عنهم وكانت له عندهم حظوة ومنزلة، وقال له أبو جعفر الباقر (علیه السلام) (أجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس، فإني أحب أن يُرى في شيعتي مثلُك).

نريد أن نأخذ درساً من هذا الوسام الرفيع الذي قلّده الإمام الباقر (علیه السلام) لهذا العالم الجليل وهو أن يقوم كل من له إبداع في مجال ما ينفع به المجتمع

ص: 463


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من طلبة السادس الإعدادي في مدينة قلعة سكر يوم 30/ج1/ 1433 المصادف 23/ 2/ 2012، ونشر في العدد (110) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 22/ر2/ 1433 الموافق 16/ 3/ 2012.

وينصر به الدين وينشر به الصلاح فليبرزه وليظهره ولينشره، لأن إمام العصر يحب أن يَرى في شيعته مبدعين نافعين في كل مجالات الحياة وليس في الفقه فقط، كالسياسة والاقتصاد والاجتماع والطب والهندسة والقانون والعلاقات الدولية والمنظمات الإنسانية وهكذا. وهذا يحتّم علينا أن نبذل أقصى الجهود ونحسن اختيار المجال المثمر والمناسب لقدراتنا وقابلياتنا لنبرز فيه ونتفوق ونتميز، فندخل السرور على قلب الإمام (علیه السلام) ونكون مصداقاً لدعوة الإمام الصادق (علیه السلام) (كونوا لنا دعاة صامتين) ونكون فخراً وزيناً لمدرسة أهل البيت (علیهم السلام).

خصوصاً أنتم الشباب في مقتبل العمر وعلى أبواب الجامعات، فضاعفوا هِمَّتَكم وجهدكم لتملأوا كل الاختصاصات بإبداعاتكم وتفوقكم، وسيشملكم الإمام (علیه السلام) بألطافه ويرعاكم بإذن الله تعالى.

استفتاء عن تقليد المراجع الماضين (قدس الله أرواحهم) والعمل بالاحتياط الوجوبي

استفتاء عن تقليد المراجع الماضين (قدس الله أرواحهم) والعمل بالاحتياط الوجوبي(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دامت بركاته)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أفتونا مأجورين:

1- هل تجيزون البقاء على تقليد السيد الأستاذ أبو القاسم الخوئي (قدس سره)

ص: 464


1- نشر في العدد (110) من صحيفة الصادقين.

وغيره من مراجع الدين الماضين (قدس الله أرواحهم)؟2- هل يمكن الرجوع إلى غيركم في مسائل الاحتياط الوجوبي في الرسالة العملية؟

مجموعة من مقلدي سماحة

السيد الخوئي (قدس سره) في بغداد

بسمه تعالى

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

1- نجيز لمن كان مقلداً لأحد الأعلام: السيد الخوئي والسيدين الشهيدين الصدرين (قدس الله أرواحهم) أن يستمر على العمل برسائلهم العملية الشريفة، والرجوع إليَّ في المسائل المستحدثة، والمسائل التي عُلِم الخلاف فيها بين الأعلام، وتبقى هذه الإجازة حتى إشعار آخر بإذن الله تعالى.

2- نحن نلزم المكلف بالعمل بمقتضى الاحتياط الوجوبي المذكور في الرسالة العملية.

فإذا وجد في ذلك حرجاً وأراد فسحة من الأمر فليراجعنا إذ لعل المورد مما نجيز فيه الرجوع إلى الغير ممن يقع في دائرة الأعلمية الذين وُجِدت على أتباعهم حجة بإذن الله تعالى. وليس كل موارد الاحتياط الوجوبي قابلة للرجوع إلى الغير.

جزاكم الله خير جزاء المحسنين

محمد اليعقوبي

6/ ع2/ 1433

ص: 465

السفير الهولندي يزور سماحة المرجع اليعقوبي

السفير الهولندي يزور سماحة المرجع اليعقوبي(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

استقبل سماحة المرجع الشيخ محمد اليعقوبي (مُد ظله) سعادة السفير الهولندي في بغداد رودنبيرك بمكتبه في النجف الأشرف.

وقد أعرب السفير عن شكره للوقت الذي منحه سماحة المرجع له والموافقة على استقباله وقال أنه حضر إلى هنا ليستمع إلى توجيهات المرجعية الحكيمة والاستفادة منها.

وقال سماحة المرجع: إن الشعب العراقي يُكِنُّ لمملكة هولندا حكومة وشعباً احتراماً وتقديراً كبيرين لأمرين:

أولهما: احتضان هولندا لآلاف العراقيين المضطهدين المظلومين الذين تركوا بلدهم قسراً وهاجروا بسبب بطش النظام الصدامي وقسوته واحتضنتهم الدولة والشعب واندمجوا فيهما ووجدوا ما عوّضهم عما في بلادهم.

ثانيهما: النظام السياسي القائم في هولندا والذي يوفر للشعب بدرجة كبيرة حقوقه في الحرية والحياة السعيدة وحرية التعبير عن الرأي، ولكن ينبغي التشديد على أن هذه الحرية لا تعني التجاوز على حقوق الآخرين والنيل من مقدساتهم، لذا فإننا لا نجد ما يبرّر ما صدر من أحد البرلمانيين الهولنديين من الإساءة للإسلام ولقادته، وفي الوقت الذي نثني فيه على إدانة الحكومة

ص: 466


1- جرى اللقاء بتاريخ الأربعاء 6/ربيع الثاني/1433 الموافق 29/ 2/ 2012 وقد تناقلته وسائل الإعلام وأرسل العراقيون المقيمون في هولندا وفي غيرها من دول المهجر شكرهم إلى سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) لدفاعهم عن قضيتهم. نشر في العدد (110) من صحيفة الصادقين.

الهولندية لهذا الفعل المشين نطالبهم بإجراءات أكثر حزماً لكي لا يسيء أمثال هؤلاء- وهم قلة- لعلاقات هولندا مع البلدان والشعوب الإسلامية.وأبدى سماحته استغراباً من غياب الوجود الهولندي على الساحة الاقتصادية العراقية الجاذبة لامتلاكها ما يبحث عنه المستثمرون، ونحن نعلم أن هولندا كانت حاضرة في كثير من المجالات الزراعية وتصدير المواشي وبناء السدود وتقنيات الري وغيرها، والعراق بحاجة إلى هذه الخبرات والإمكانيات.

من جانب آخر لفت سماحته إلى خطورة ما يقوم به أذناب النظام البائد بتشويه صورة العراق الجديد بقوله:

إن بعض المتضررين من النظام السياسي الجديد في العراق والذين تربّوا على الاستئثار والظلم والاستبداد يشوهون صورة العراق وشعبه ويلصقون التهم بالطائفة المظلومة ويتباكون على ما تقوم به هذه الطائفة، وهو كلام مخالف للواقع يراد منه تحشيد الرأي ضد النظام الجديد وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وأذكر لك شاهداً وهو أن هذه الطائفة تعرضت للكثير من الظلم والاضطهاد خلال العقود السابقة فقتل علماؤهم وشبابهم وهُجّر الملايين منهم، فهل سمعت أنهم قاموا برد فعل من قبيل هذه العمليات الإرهابية التي يقوم بها المجرمون ويقتلون الأبرياء من الناس ويدمّرون كل شيء؟ فلماذا لمّا نالوا بعض حقوقهم انقلبت الدنيا وكشّر المجرمون عن أنيابهم؟

وأضاف سماحته:إن هذا يكشف عن الفرق الواسع بين أخلاقيات الفريقين، ونحن إنما أخذنا أخلاقنا السامية ومحبّة الناس وعدم التفريق بينهم في الحقوق والواجبات واحترام جميع الديانات والمقدّسات من نبينا وأئمتنا (صلوات الله

ص: 467

عليهم أجمعين) وقادتنا.كما وطالب سماحة المرجع الحكومة الهولندية من خلال سفيرها - وعموم دول المهجر- بعدم إلزام العراقيين المقيمين هناك بالعودة إلى بلادهم ضمن اتفاقيات مع الحكومة العراقية بحجة استقرار الوضع الأمني، فهذه حركة إعلامية تحاول بعض أطراف الحكومة إظهار نجاحات مُبالغُ فيها وتجعل العراقيين وقوداً لها، بقوله - اتركوا الناس ليختاروا قرارهم بالعودة وعدمه - بحرية وبحسب الظروف المناسبة لكل واحد منهم.

وعلّق السفير على كلام سماحة المرجع اليعقوبي بالإعجاب بهذه الخلاصة المستوعبة للوضع الهولندي وعناصر القوة الاقتصادية في المملكة والعلاقة بين الدولتين، وأخبر سعادته عن شروع الشركات الهولندية في الاستثمار في العراق وكانت البداية من النجف حيث تقوم إحدى الشركات بإنشاء ناظم إروائي قرب منطقة أبي صخير ونظام للري فيها، والبقية تأتي.

كما طمأن السفير سماحة المرجع بعدم إجبار أي عراقي على العودة، فيوجد في هولندا حوالي 50 ألف عراقي لم يعد منهم خلال العام الماضي إلا 100 فقط وهم مندمجون في الحياة والمؤسسات هناك، وان من يقوم بتشويه صورة الوضع في العراق هم قلة قليلة ليسوا من المقيمين في هولندا بل هم طارئون عليها.

وأكّد موقف الحكومة الهولندية الرافض للإساءة إلى الإسلام ورموزه.

ص: 468

المرجع اليعقوبي: يبدي أسفه الشديد لتأجيل مشروع اتخاذ النجف عاصمة للثقافة

المرجع اليعقوبي: يبدي أسفه الشديد لتأجيل مشروع اتخاذ النجف عاصمة للثقافة(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

أبدى سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) أسفه الشديد لتأجيل مهرجان النجف عاصمة للثقافة الإسلامية المقرر إجراء فعالياته هذا العام 2012وقال: ((لقد خسرنا فرصة ثمينة لإطلالة مدينة النجف على أخواتها من مدن العالمين العربي و الإسلامي، نجف أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب، ونجف المرجعية الدينية والحوزة العلمية العريقة، ونجف الحضارة الضاربة بأطنابها في أعماق التاريخ، ونجف الإنتاج الغزير لما تحتاجه الأمة، ونجف الفكر و الثقافة و العلم والأدب و الفنون و الجهاد و المواقف الوطنية والعربية و الإسلامية المجيدة، وخسرنا فرصة إعادة جسور الصلة الوثيقة مع كل الطوائف و القوميات، تلك الجسور التي قطعتها أيدي المعتدين الذين حاولوا حصار النجف وقطع صلتها بأخواتها من حواضر العالمين العربي و الإسلامي)).

وقال سماحته لدى استقباله(2) جمعاً من الأدباء والكّتاب من محافظة البصرة ((إننا لا نتفّهم المبررات لقرار التأجيل أو الإلغاء(3) لان قرار اتخاذ النجف عاصمة للثقافة الإسلامية اُتخذ منذ عام 2008 والميزانية التي رصدت للإعداد لاستضافة هذا المؤتمر كبيرة جداً تجاوزت 550 مليون دولار، و التفاعل الذي

ص: 469


1- نشر في العدد (111) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 14/ج1/ 1433 الموافق 6/ 4/ 2012.
2- تاريخ اللقاء يوم الأربعاء، 27/ع2/ 1433 المصادف 21/ 3/ 2012.
3- تلقى رئيس الوزراء مكالمة هاتفية من مكتب المرجعية (العليا) تدعوه إلى إلغاء المهرجان.

تلّقت به الأوساط الثقافية و الفكرية والدينية هذا القرار كان جيداً، فلماذا يأتي هذا الموقف اللامسؤول في اللحظات الأخيرة؟)).إن هذا القرار وأمثاله مؤشر على تدنّي الاهتمام بالثقافة والفكر وتوعية الأمة، مع أن منشأ ما تعانيه الأمة من مشاكل هي الثقافة المشوّهة وعدم المعرفة وفقدان البصيرة واختلاط الرؤية، ويتجلى هذا النقص والتشوه في مشاكل سياسية وأمنية واقتصادية وتولّد الإرهاب والعنف والتخريب.

أليس من المعيب أن تنشا الجمعيات والروابط الأدبية والعلمية والثقافية في النجف منذ أكثر من ثمانين عاماً –كجمعية الرابطة العلمية والأدبية التي أُسّست عام 1931- ونعود اليوم بعد ثمانية عقود إلى فقر وخواء ثقافي وأدبي، بينما سُنّة الحياة التطوّر والتكامل والنضج؟

لقد أفسدت صراعات السياسيين على كعكة المصالح الشخصية والفئوية هذا المهرجان المرتقب، وذهب ضحية الأنانيات وعدم الشعور بالمسؤولية وتصدّي غير المؤهّلين.

وتضمّن حديث سماحته تعضيد المطلب الذي أطلقه الأدباء و الكتّاب والمثقفون من هذا اللقاء بتأسيس هيئة وطنية عليا للثقافة تضم وزراء معنيين ومفكرين وأدباء ومبدعين عراقيين وتأخذ على عاتقها وضع استراتيجية وطنية بعيدة المدى للعمل الثقافي، أسوة بالملفات الحيوية الأخرى كالأمن و الاقتصاد و الخدمات و السياسة، لان مفعول الثقافة هو التحصين من الخطأ قبل وقوعه و (الوقاية خير من العلاج)، وقال المتحدث باسم الوفد الزائر الأديب و النائب السابق جابر خليفة ((لقد عمل النظام بسياساته على تشويه الثقافة

ص: 470

ومصادرتها والفصل بين الأديب و المبدع العراقي وبين الشعب مما أدى إلى إصابة المجتمع العراقي بمرض نقص المناعة الثقافية فالمواطن المحصن بالعلم النافع و المعارف الصحيحة لا يمكن أن ينجر إلى صراع طائفي وهو ابعد ما يكون عن الفساد المالي و الإداري و المواطن المثقف هو المواطن الأصلح لبناء وطنه ومنفعة وطنه وشعبه)).

المرجع اليعقوبي يدعو إلى تأسيس مركز للدراسات الفاطمية

المرجع اليعقوبي يدعو إلى تأسيس مركز للدراسات الفاطمية(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

دعا المرجع الديني سماحة الشيخ محمد اليعقوبي إلى إنشاء مركز مشترك بين الحوزة العلمية والجامعات الأكاديمية يتخصّص بالدراسات المتعلقة بالصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام).

جاء ذلك في كلمته التي ألقيت بالنيابة عنه في المؤتمر الحاشد الذي أقامته(2) جامعة الصدر الدينية في قاعة جامعة الكوفة تحت شعار (الحوزة والجامعة نهوض متواصل لبناء المجتمع الصالح) وحضره حشد كبير من أساتذة وفضلاء الحوزة العلمية وممثلي المرجعيات الدينية ورؤساء الجامعات وعمداء الكليات والأساتذة، وعدد من الشخصيات الحكومية والبرلمانية.

وقال سماحته (... نحن مدعوّون لإحياء مواقف الطاهرة الزهراء (علیها السلام)

ص: 471


1- نشر في العدد (112) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 5/جمادى الآخرة/1433 الموافق 27/ 4/ 2012.
2- عقد يوم السبت 29/ج1/ 1433 الموافق 21/ 4/ 2012

والتأمل في كلماتها الشريفة والاستفادة من سيرتها المباركة، وما مؤتمركم هذا إلا مظهر من مظاهر تلك الحركة المباركة، فالمأمول منكم أن لا تقفوا عند هذا الحد، بل تديموا هذه الفعاليات بأنواعها، ومنها إنشاء مركز مشترك بين الحوزة العلمية وأساتذة الجامعات متخصص بالدراسات الفاطمية، وستجدون حينئذٍ أن سيرة الزهراء (علیها السلام) وكلماتها لا تختص بالقضايا الأخلاقية والعقائدية والفقهية، بل إنها تتسع لتشمل المعارف الإنسانية والعلمية [وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ] (المطففين: 26).

الدور العالمي للنجف الأشرف والمرجعية الدينية فيها

الدور العالمي للنجف الأشرف والمرجعية الدينية فيها(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

أجرت الباحثة الفرنسية صابرينا ميرفان(2) لقاءً موسعاً مع سماحة المرجع

ص: 472


1- نشرت في العدد (112) من صحيفة الصادقين.
2- جرى اللقاء بتاريخ 2 محرم/1433 الموافق 28/ 11/ 2011 ورافقها د.صلاح مهدي الفرطوسي وجاء في تعريفها أنها مستشرقة فرنسية مختصة بالتاريخ وقد عاشت سنين في لبنان والتقت عن قرب بمرجعيتها وعلمائها وبحثت عن الشيعة والتشيع في التاريخ المعاصر، والحركة الإصلاحية في جبل عامل منذ أواخر العهد العثماني إلى استقلال لبنان وطبعت الدراسة في كتاب وقد ترجم، وتهتم الآن بالبحث عن المرجعية والحوزة العلمية كما تشتغل بدراسة الشعائر الحسينية من ناحية إنسانية أنثروبولوجية، وقد استفادت الباحثة من لقائها مع سماحة المرجع في محاضرتها التي ألقتها في مؤتمر عقد في فرنسا برعاية منظمة اليونسكو وجامعة السوربون أوائل سنة 2012 عن الجانب الجيوسياسي لمدينة النجف بمناسبة اختيار النجف عاصمة للثقافة الإسلامية، كما ألقى في المؤتمر باحثون وأكاديميون كبار محاضرات فيها معلومات دقيقة ومنهم رئيس جامعة

الشيخ اليعقوبي (دام ظله)، وتضمن اللقاء محاور عديدة عن المرجعية ومسؤولياتها ودورها في حياة الأمة وعن الحوزة النجفية واهتماماتها ومظاهر التجديد فيها ومناهجها، والعلاقة بين حوزتي النجف وقم المقدستين وقد أرجعها سماحته إلى جملة من مؤلفاته وخطاباته التي تجيب عن كثير من التساؤلات، ككتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية) ومقدمة الرسالة العملية (سبل السلام) لمعرفة دور المرجعية –التي هي امتداد للإمامة- في حياة الأمة، وكتاب (الرياضيات للفقيه) و (المعالم المستقبلية للحوزة الشريفة) لمعرفة معالم التجديد والتطوير في الحوزة العلمية والخطوات العملية التي أنجزت على أرض الواقع وثمراتها بفضل الله تبارك وتعالى.وتعضيداً لانشغالها بدراسة الشعائر الحسينية من ناحية إنسانية وأنثروبولوجية فقد أبدى سماحته اهتمامه بهذا المنحى من الدراسات وحثّه على الاستفادة من هذا العلم، وذكر لها مثالاً للتعاطي مع أحاديث المعصومين (علیهم السلام) وفق منهاج هذا العلم، ما ذكره في محاضرته(1) عن مكافحة مرض الأيدز التي أعدّت في نفس زمن اللقاء لعرضها في اليوم التالي بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الإيدز.

وأجاب سماحته على سؤالها عن الفرق بين الحوزة التقليدية والمدارس المجدّدة بأن الأسس والمنطلقات واحدة فكلانا نستند إلى القرآن الكريم

ص: 473


1- أصل المحاضرة في كتاب خطاب المرحلة: 3/ 441، وقد أجرى سماحته عليها بعض الإضافات والتعليقات وسجلها لقناة النعيم الفضائية في نهاية عام 2011.

والسنة الشريفة وندرس نفس العلوم، إلا أن المدرستين تختلفان في الرؤية للحياة والمستقبل وللمسؤوليات المناطة بهم ودورهم في الأمة، فالحوزة التقليدية ترى أن وظيفتها تقتصر على البحث والتدريس وقبض الحقوق الشرعية وإنفاقها في مواردها وكتابة الرسالة العملية.أما الحوزة الحركية أو الناطقة أو الرسالية أو الصالحة بحسب اختلاف العناوين التي أطلقها زعماء هذه المدرسة فإنها ترى أن مسؤولياتها أوسع من ذلك وقد بيّناها في مقدمة الرسالة العملية (سبل السلام) وتعطي هذه المدرسة أهمية كبرى للفقيه المرجع وولايته لشؤون أمر الأمة، لأنّهم يرون فيه الشخص الأجدر بقيادتها لاجتماع المؤهلات فيه، وهو يضع الآليات المناسبة لإدارة شؤون البلاد والعباد.

ونتيجة لاختلاف الرؤية والمسؤوليات فإن القدرة على مخاطبة الأمة وتنوع الخطاب يختلف بين المدرستين، فبينما تقتصر الحوزة العلمية التقليدية على اللغة العلمية الصرفة، فإن المدرسة الحركية تضيف إلى رصانة الطرح في المسائل العلمية، عمومية الخطاب وشموليته واستيعابه عندما تتناول قضية عامة، وهذا واضح من تنوع مؤلفات علماء المدرسة الحركية، واقتصار آثار المدرسة التقليدية على العلوم الحوزوية المتداولة.

وتحدّث سماحته عن الدور السياسي للمرجعية وحدوده بما يوافق وظائفهم الإلهية وذكر أمثلة من سيرة المعصومين (علیهم السلام)، وعن الفوارق بين مدرستي النجف وقم وعن كيفية استحقاق موقع المرجعية والوصول إليه بالانتخاب الطبيعي إذا صحت التسمية.

ص: 474

بسمه تعالى

تعديل قانون الانتخابات

تعديل قانون الانتخابات(1)

الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين

من أجل توسيع قاعدة المشاركة في العملية السياسية.

ولتحقيق الديمقراطية المرجوّة من خلال أفضل تمثيل لأصوات الناخبين.

وللوصول إلى تفسير أدق وتطبيق أعدل للقاسم الانتخابي.

وبمناسبة قرب مناقشة البرلمان لقانون الانتخابات، نبيّن كيفية توزيع المقاعد المتبقية بعد منح المقاعد الصحيحة للكتل الفائزة بها، حيث تُرتَّب الكسور المتبقية للكتل الفائزة والتي حصلت على جزء مقعد، تنازلياً من الكسر الأعلى إلى الأقل على عدد المقاعد المتبقية، ويمنح مقعد كامل لمن يقع ضمن الترتيب.

ونطبق هذا التفسير –كمثال- على نتائج محافظة البصرة في انتخابات مجالس المحافظات التي جرت عام 2009 مع مقارنتها بنتائج التفسير الذي عُمِل به حينئذٍ.

ص: 475


1- نُشر في العدد (115) من صحيفة الصادقين.

بسمه تعالى

محافظة البصرة عدد المقاعد: 34 (زائداً مقعد واحد للأقليات)

عدد المصوتين: 645.447

القاسم الانتخابي: 18.984

ص: 476

صورة

ملاحظات:

1- يقلل هذا التفسير بدرجة كبيرة من الأصوات المهملة التي بلغت في الانتخابات السابقة حوالي ثلث الأصوات في مجموع العراق، وتجاوزت نسبتها نصف الأصوات في بعض المحافظات كواسط وكربلاء وبابل.

2- يعطي هذا التفسير الدور الصحيح للقاسم الانتخابي وهو حساب عدد المقاعد الصحيحة وكسر المقعد، وليس ما كان معمولاً به وهو تحديد العتبة

ص: 477

وإهمال من لم يصلها فإن فيه إجحافاً بكثير من الكتل وحقوقها ومنح أصوات الناخبين لغير من صوّتوا لهم خلافاً لإرادتهم ولما يقتضيه الدستور وحقوق الإنسان.14 رجب 1433 - 5/ 6/ 2012

بمحمدٍ حُفظتْ علومُ محمدٍ

بمحمدٍ حُفظِتْ علوم محمدٍ *** وقفاهُ في فرضٍ وفي مندوبِ

وإذا أردت النص غيرَ مأوّلٍ *** فالصدرُ وارثُ علمه اليعقوبي

السيد عبد الستار الحسني

9 صفر /1433 الموافق 3/ 1/ 2012

ص: 478

شموس فكرك ما خبت

شموس فكرك ما خبت(1)

خبت الشموس تئن تحت سحابة *** وشموس فكرك ما خبت أنوارها

هذي الحقيقة روضة خلابة *** من ماء علمك قد نمت أشجارها

أكرم بمن بقر العلوم وإن دعا *** وافته من بحر العلوم كبارها

كأبٍ رعى كل العلوم وصاغها *** حسناء تربو في يديه صغارها

روح تسامت كالغمام كبيرة *** تعلو وتعلو والسموّ شعارها

أرض الغريّ حبتك أوسمة العلى *** وحباك صكّ شهادة كرارها

طوبى لنفس لا تُضام وقد رأت *** إنّ الحياة مع الأسافل عارها

بغداد يا صدر العراق أسيرة *** طُمست بآنية الدما أزهارها

ويُهان زاهدها ويقطع رأسه *** ويُجلّ رُغم شذوذه خمّارها

وإذا الجريمة أخفيت أدواتها *** حتماً ستكشف لاحقاً آثارها

من للعقيدة والعقيدة سلعة *** عُرضت وزاد بسوقها تجارها

عذراً أبا الثوار إنّ بلادنا *** قد سار صوب المهلكات قطارها

لو كنت في كنف البلاد لأجرمت *** ولجزّ جيدك سيدي منشارها

يا صدر (أمريكا) تذبّح شعبنا *** ظلماً ويستحيي النساء جبارها

وعلى تراب الرافدين شراذم *** عصفت بكل مدينة أضرارها

ص: 479


1- أبيات من قصيدة أنشدها الأستاذ الأديب عباس العجيلي (فرزدق الصدر) في مجلس سماحة الشيخ اليعقوبي يوم 9/ 4/ 2011 في ذكرى استشهاد المرجع السيد محمد باقر الصدر (قدس سره)، ونشرت في العدد (98) من صحيفة الصادقين.

نشيدٌ في حضرة الشهيد الصدر

نشيدٌ في حضرة الشهيد الصدر(1)

فداءً لعينيك عَيني فِدا *** فَعيناكَ شمسٌ تُضيءُ المَدى

وذكراكَ أُنشودةُ الثائرين *** لَها في ضَميرِ الليالي صَدى

يُغنّيكَ قلبي وَبَعضُ الغِناء *** يُعَدُّ بُكاءً إذا أُنشِدا

أنا (باقرُ الصدرِ) رَمزُ الفداءِ *** بهِ كُلُّ حُرٍ سَما واقتدى

أنا الصدرُ صَدرُ العراق الجريح *** وصدرُ الحُسين ذبيحِ المُدّى

أنا ثورةُ الدين ضدَّ الطغاة *** رَفَعتُ لِواها برغم العِدا

وكُنتَ الحسين بيوم الطفوف *** تُعيدُ له مَشهداً مَشهدا

فللهِ درّكَ من ثائِرٍ *** بهِ دربُنا للعلاءِ ابْتَدا

ولله درَّكَ من مُبصرٍ *** يَرى الفجرَ من قبلُ أن يولدا

تُضحّي بنفسكَ كيما تصيرَ *** لمن ضلَّ عن دربهِ مُرشدا

تساميتَ يا صدرَ دينِ الإله *** وقُدّسَ سِرُّكَ أنّى بدا

بيومكَ حكمُ الطغاةِ امّحى *** وهدّامُ زالَ وما خُلّدا

ستبقى الملايين يا سيدي *** تراكَ لثورتها سيدا

تراك (أبا جعفرٍ) مشعلاً *** يضلُّ مضيئاً ولن يُخمدا

ص: 480


1- أبيات من قصيدة رقيقة نظمها فضيلة الأديب السيد عبد الأمير جمال الدين في ذكرى استشهاد السيد محمد باقر الصدر (قدس الله سره) التي تصادف 9/ 4 من كل عام، وأنشدها في مجلس سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله)، ونشرت في العدد (98) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ الصادر بتأريخ 11/ج.1/ 1432 الموافق 5/ 4/ 2011.

أشيخَ الفضيلة أنتَ الرجاءُ *** إذا حاديَ الركبُ فينا حَدا

وفيٌ لذكرى الإمام الشهيد *** تُغيضُ بها الخصمَ والحُسّدا

فأنتَ المُسدّدُ في خطوهِ *** على منهج الصدرِ قَد أنجَدا

عِراقُكَ هذا عراقُ الحسين *** أرى كُلّ باغٍ عليهِ اعتدى

(فَجرِّدْ حُسامَكَ من غمدهِ *** فَليسَ لهُ بَعدُ أن يُغمدا)

حُسامٌ به العِلمُ شَقَّ الظلامُ *** وما جَمَعَ الجَهلُ أو بَدّدا

تجذّر فيكَ الوفاءُ الأصيل *** وفاضَ على راحتيكَ الندى

فيا حامِلَ الجُرحَ في صدره *** ويا مُبحراً في بحارِ الصَدا

تأملْ هوَ الجرحُ في رحمهِ *** ولادةُ شعبٍ وفجرٍ بدا

على كُلِّ أرض نرى ثورةً *** يمِدُّ لها (الصدرُ) منهُ اليدا

يُرتِّلُ قُرآنَهُ خاشعاً *** فتصغى لهُ النفسُ أنّى شَدا

يفيضُ سلاماً وحُباً كما *** على حبِّهِ الناسَ قد عَوّدا

سلامٌ عليه على روحهِ *** فمنها علينا يفيضُ الهُدى

بذكراهُ يُختمُ هذا النشيد *** فقد كانَ من قبلُ فيهِ إبتدا

ص: 481

صحيفة الصادقين

صحيفة الصادقين(1)

يا حبذا بنشرة الصادقين *** تكتب في حرف جليّ مبين

فتنشر الأخبار موثوقة *** وتدحض الشك بنور اليقين

بخط أهل البيت لم تنحرف *** إلى يسار في الهوى أو يمين

تدعو إلى الإسلام من نهجها *** تمسكاً فيه بحبل متين

قد قطعت عمراً بأعدادها *** الخمسين تغنيك بدنيا ودين

نرجو لها مستقبلاً زاهراً *** بالمرجع الأعلى بأقسى السنين

المرحوم أحمد الشيخ محمد الحسناوي

ص: 482


1- نشرت في العدد (100) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 7/رجب/1432 الموافق 10/حزيران/2011.

حلّق بأجنحة الهدى

حلّق بأجنحة الهدى(1)

عندما يتجرأ الرعاديد على نائب الإمام (عجل الله فرجه) لا بدّ للشاعر النحرير أن يُجرّد قلمه:

جسّدتَ زُهدَ أبي تُرابٍ *** فشَغفتَ أفئدةَ الشبابِ

ونهلتَ كأس حقيقةٍ *** فهزمت داعية السرابِ

وملكت لبّ مسهدٍ *** سحرته آيات الكتابِ

ولبست ثوب تواضع *** وسواك بان بلا ثيابِ

وأجلّ من أن تُشترى *** أو أن تُداهن أو تُحابِ

تلتذ بالوجعِ الرهيبِ *** وتكتوي بلظى الصعابِ

مثل الحسين عزمتَ أن *** تمشي على جمر العذابِ

لا غرو مثلك أن يُرى *** قمراً بحاضنة السحابِ

تمضي كما الشمس التي *** طلعت لتعصف بالضبابِ

هوَ ذا حُسامكَ من سنى *** وحسام خصمك من تُرابِ

إني وإن أفرطتُ في *** حُزني أبثك بعض ما بي

كم قد صرخت ولم أزل *** ما بين ثورتي واغترابي

كُلُّ القصائد لم تكن *** حرفاً بملحمة اكتئابي

فالدين يُذبحُ بالمدى *** والحقُّ يُطعنُ بالحرابِ

ص: 483


1- نُشرت في العدد (100) من صحيفة الصادقين.

والشعبُ ضاقَ بزُمرةٍ *** حمقاء يفتي لها مرابي

والبعض عاث بمذهب *** الحق المكلل بالخضابِ

وعلى التشيّع بعضهم *** أدهى وأخطر من وهابي

مذ كنتُ كنتُ كدعبلٍ *** فمتى سأشنقُ يا صحابي

أسفي على بعض الورى *** بانوا ببغضك كالذئابِ

طعنوكَ لا لمعيبةٍ *** لكن لأنّكَ كالشهابِ

أو هل يظنّ أخ التقى *** غير النباح من الكلابِ

لله درك من فتىً *** يحيا بغابٍ وسط غابِ

حلّق بأجنحة الهدى *** بين المنائر والقبابِ

طُر أيّها النسر الذي *** تركَ الوليمة للغرابِ

أطل الحديث فإنّه *** كالشهد للناس السغابِ

ما للعتاة تجحفلوا *** حول القمامة كالذبابِ

شتان بين مجدّد *** أنف وساع ٍ للخراب

إن الزعيم بفعله *** لا بالتشدق والخطابِ

تعس الزمان فكم سما *** زوراً بأمّعة وكابِ

شُلت يد الزمن الذي *** يسقي المحنك كأس صابِ

دع من تقوّل وافترى *** فالكائنات إلى حسابِ

قسماً بدمع سكينة *** وبحزن زينب والربابِ

سأظل أهزأ بالردى *** وأصيح في وجه اليبابِ

ص: 484

إن الحسين مدينتي *** (ومحمد اليعقوبي) بابي

عباس العجيلي

(فرزدق الصدر)

2/ 3/ 2011

ص: 485

شيخ الفضيلة

شيخ الفضيلة(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

أبيات من الشعر انشدها فضيلة الأديب السيد عبد الأمير جمال الدين في مجلس المرجع الشيخ اليعقوبي مهنئاً بذكرى البعثة النبوية الشريفة يوم 27/رجب/1432 ه-

سلمت للدين للإسلام للمُثلِ *** يا فخر يعقوب يا ناراً على جبلِ

أزكى التهاني بهذا اليوم أنشدها *** بمبعثٍ سرّنا في خاتم الرسلِ

يومٌ عظيم به لله قد سجدت *** أبهى الجباه ولم تسجد إلى هُبلِ

محمدُ يا حبيب القلب إنّ لنا *** بشخصك الفذِّ ما نقفوه من مثلِ

علّمتنا أنّ دينَ الله معرفةٌ *** بالحقّ والعدلِ، لا يُبنى على الجهلِ

وأنّ أمتنا والخيرُ رائدها *** ما غيرُ دينك يشفيها من العللِ

وحسبُنا أن نراكَ اليومَ ترشدنا *** لخير نهجٍ تحاشى أيّما زللِ

نهجٌ قويمٌ كما أوصاكَ تسلكهُ *** فرحتَ تسموا بدنيانا على زحلِ

محمدٌ فيكَ صدر الدين مؤتلقاً *** وهو الوليُّ فما أبهاكَ من رجلِ

في الناس تأمر بالمعروف ملتمساً *** رضا الإله، كما تنهى عن الدجلِ

شيخُ الفضيلة والإصلاح غايتكم *** ليرتقي شعبنا المظلوم الدولِ

حييتَ يا علماً أضحت مكارمهُ *** تفيضُ خيراً كفعل الوابل الهطلِ

ص: 486


1- نُشرت في العدد (101) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 12/شعبان/1432 الموافق 14/ 7/ 2011.

ولتسلمنَ لنا حِصناً نلوذُ بهِ *** وأُعذَرُ إنْ قَصّرتْ في مدحكم

جُمَليفأنتَ أكبر من شعري وقافيتي *** إن لم يوفِّ جميل القول بالعملِ

ص: 487

عمَّ السرور

عمَّ السرور(1)

عمَّ السرور قلوبنا في ملتقى *** أُستاذنا بعد الغياب (محمدِ)

أهلاً بمقدمه المباركِ انهُ *** نفحٌ لطيب ورودهِ المتوددِ

منَّ الإله عليه بفضلِ تلطفِ *** بزيارة المولى (الرضا) في المشهدِ

وحَباهُ من أفضاله في نعمةٍ *** يسمو بها دوماً بعيشٍ أرغدِ

قد زادَهُ وَرعاً بعلمٍ فائقٍ *** من فيضِ جودهِ بالعلاء الأسعدِ

نرجو له الفخرَ المديدَ بوافرٍ *** من صحةٍ فيها بنيل المقصدِ ***

ويزيده علماً بمذهب دينِنا *** لينالَ من عليائه نيل الهَدي ***

هديِ الأنام لفقه آل المصطفى *** الأكرمين أولي العُلى والسؤددِ

فتقبل الله الزيارة..إنها *** تُقضى حوائجك بها من سيدي

اللهم فأحفظ شيخنا بحراسةٍ *** من جندك من كلِ باغٍ معتدي ***

واجعله في حصنٍ وحرزٍ دائماً *** من كل سوءٍ أو بلاءٍ أنكدِ

صلِ على الهادي النبي المصطفى *** والمرتضى وبتوله الغصنِ الندي

والآلِ عترتهِ الذين بحبهم *** نيل الشفاعة في الرعيل الأمجدِ

لم نرجُ غيرهم بيومِ معادنا *** فهمُ لنا الأسوارُ رغم المعتدي

ص: 488


1- أبيات أنشدها فضيلة الشيخ عبد الحسن الكرعاوي مهنئاً سماحة الشيخ اليعقوبي بزيارة الإمام الرضا (علیه السلام) وعودته سالماً إلى أهله ومحبيه وقد استغرقت الزيارة خمسة أيام من الخميس 19/شعبان الموافق 21/ 7/ 2011 حتى الثلاثاء 24 شعبان. نشرت في العدد (103) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 6/شوال/1432 الموافق 5/5/ 2011.

يا سِبطَ يعقوبٍ

يا سِبطَ يعقوبٍ(1)

فِقهُ الشريعةِ والأصولِ وصيدُها *** حلّتْ بحوزةِ عيلَمٍ موهوبِ

أعني بهِ كنزَ العلومِ "مُحمداً" *** مَن فاضَ بالأحكامِ كالشؤبوبِ

سيظلُّ مفخرةَ الزمانِ لأُمةٍ *** نالتْ من الويلاتِ كُلَ غريبِ

يا سبطَ "يعقوبٍ" ووارِثَ نجلِهِ *** همماً تُنفِّسُ لوعَةَ المكروبِ

ما كان "موسى" للمُحبِ سوى أخٍ *** برٍّ –كصادِقها- خليّ عيوبِ

هتفَ الغريُّ لكمْ سلمتُمْ قلعةً *** للفضلِ زاخِرةً بكلِ عجيبِ

تتزاحَمُ القُدراتُ في باحاتِها *** مِن عالمٍ ومُجاهدٍ وأديبِ

حتى يعمَّ الخافِقينِ عطاؤها *** ورياضُها تزهو بكلِ رطيبِ

وأظلُ أصدَحُ كالهزارِ مُردِداً *** قولي وصِدقَ مودتي كوجيبي

ص: 489


1- أبيات ألقاها بين يدي سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) فضيلة السيد علي الحيدري عندما زاره في داره العامرة يوم الجمعة 22/ذ ق/ 1432 الموافق 21/ 10/ 2011. والسيد الحيدري شاعر مبدع ومؤرخ ينحدر من أسرة علوية موسوية بغدادية ولد في قلعة سكر التابعة لقضاء الرفاعي عام (1355ه-/ 1936م) وحصل على خلفيته الأدبية عن مجلس أبيه وبقية المجالس بمدينتي قلعة سكر والرفاعي وطلبة العلم والخطباء والشعراء من أصدقاء أبيه. نظم الشعر بكافة فنونه وهو حدث وأبدع وأكثر من أدب التاريخ ومن بين كتبه العديدة كتاب ضخم في شعر التاريخ، كان نشيطاً في العمل الاجتماعي والأدبي منذ نهاية خمسينيات العام الماضي حتى الآن. ممن حضر مجالس المرحوم الشيخ محمد علي اليعقوبي (جد سماحة الشيخ محمد اليعقوبي) وأنس بها واستفاد منها كما كان صديقاً للمرحوم الشيخ موسى (والد الشيخ المرجع اليعقوبي) ووكيلاً لمجلته (الإيمان).

إرثُ الفقاهةِ والبلاغةِ فيكمُ *** "إرثُ النبوة في بني يعقوبِ"

وجهادِكُمْ يبقى بآفاقِ الذُرى *** عبرَ العصورِ مُضمخاً بالطيبِ

ما غابَ بدرُ الفضلِ إلا نوركُمْ *** يحتلُ دارتَهُ بكُلِّ مغيبِ(1)

ص: 490


1- نُشرت المقطوعة في العدد (105) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 6/ذو الحجة/1432 الموافق 3/ 11/ 2011.

اشتياق لوجود المرجع في موسم الحج

اشتياق لوجود المرجع في موسم الحج(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

استقبل سماحة المرجع الديني الشيخ اليعقوبي (دام ظله) في آخر ذي الحجة جمعاً من مرشدي قوافل الحجاج لموسم 1432 بعد القيام بوظيفتهم خير قيام أوجبت الشكر والدعاء، وقد ألقى أحدهم وهو جناب الشيخ محمد السيلاوي أبياتاً كان قد نظم أولها في المدينة المنورة جوار حضرة النبي المصطفى (صلی الله علیه و آله) حيث افتقد مكان سماحة الشيخ المرجع (دام ظله) عندما كان في موسم الحج العام الماضي، وقد ساعده في نظم بقية الأبيات جناب الشيخ حسنين قفطان.

هام الفؤاد لوصلِكم متشوقاً *** فالروح قد لاذت بآمال اللقا

فالنبت لا يقوى على بعد الندى *** إلا إذا وصْل الأحبةِ قد سقا

يا شيخنا جئناك والآمال تح- *** -دونا لنشهد نورك المتألقا

يا سيدي أبناؤكم في مكةٍ *** أعطوا لإرشاد البرية موثقا

عمروا المجالس والمدارس واغتدوا *** طلاب صدق فيهم العلم ارتقا

من فيض علمك ينهلون ومن *** أبي الأحرار قد نهلوا الوفاء المعلقا

ص: 491


1- نُشرت في العدد (107) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 13 محرم/1433 الموافق 9/ 12/ 2011.

بسم الله الرحمن الرحيم

سيادة الأخلاق

سيادة الأخلاق(1)

أرى وجهاً له ولهت قلوبُ *** لكهلٍ زان منظرهُ المشيبُ

وشيخاً أن تراهُ وتلتقيه *** ترى خلقاً به غضٌ وطيبُ

ونورٌ قد تخالط بالمعالي *** وتبعدُ عن محياهُ العيوبُ

علا نور الهداية في جبينٍ *** فصار الحاسدون لهُ تهيبُ

سليل طيّبُ الأنساب فخراً *** فلا دغلٌ بنسبته يشوبُ

وعى للعلمِ حقاً في شبابٍ *** وجافى الفاتنات وما يريبُ

توثق بالولاية في ثباتٍ *** ولم تثني تمسكه الخطوبُ

وعاهد ربه للآل يرعى *** وذكراه البتولة لا تخيبُ

يراعُ في أناملهِ كسيفٍ *** وفي علم إذا أملى يصيبُ

فجاءَ الوالهون له وروداً *** إلى أسفاره كلًٌّ يؤوبُ

فأترع هائماً عذباً وأروى *** زلالُ من خواطره سكيبُ

وشيخٌ حبهُ شغل الفؤادا *** بقى في روح عاشقه دبيبُ

ص: 492


1- أبيات أنشدها المهذب عبد علي ناجي آل سهيل وهو من زملاء سماحة الشيخ (دام ظله) منذ نهاية السبعينيات، هاجر من العراق بعد الانتفاضة الشعبانية عام 1991 وهو الآن مقيم في الولايات المتحدة، ويزور العراق سنوياً في ذكرى الزيارة الأربعينية ليشارك السائرين مشياً إلى الإمام الحسين (علیه السلام)، ونشرت في العدد (108) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 11/صفر/1433 الموافق 5/ 1/ 2012.

فأنت محمدٌ تابعت هدياً *** بهدي محمدٍ تبقى تجوبُ

فلا أخفي الهوى فيكم بسري *** وفي الإعلان لا يُخشى رقيبُ

وأسلافٌ لكم بلغوا المعالي *** ومن ساحاتهم خلت العيوبُ

فذاك محمدٌ وتلاهُ موسى *** وجاءَ محمدٌ لهم الربيبُ

بحبل الله حقاً قد تواصوا *** وحبل رسوله حقاً يؤوبُ

أيا شيخاً لك الأرواح تهفوا *** فلو سائلتها حقاً تُجيبُ

وفي أقوالكم للناسِ رشداً *** فلا يبدو بها شيء مريبُ

لتحيا شامخاً بحياة علم *** ويبقى نجم علمك لا يغيبُ

وتبني جاهداً للناس فقهاً *** تحذرُ فيه إن تعمى القلوبُ

فهذا جهدكم في الله يبقى *** ونسأل ربنا أن لا تخيبوا

فهذا شيخنا بالخلق يزهو *** ففي أخلاقه وصفٌ عجيبُ

فما بلغ العلا إلا خلوقٍُ *** حباهُ الله في علم يصيبُ

لقد سادت بأخلاقِ شعوبٌ *** كما سقطت بأدناها شعوبُ

ص: 493

تحية إلى محيي الزيارة الفاطمية عند أمير المؤمنين (علیه السلام)

تحية إلى محيي الزيارة الفاطمية عند أمير المؤمنين (علیه السلام)(1)

لأمِّ أبيها.. لخيرِ النساءِ *** لفاطمة الطهرِ.. طهر السماءِ

سأرسلُ قلباً كَواهُ الجوى *** فإنّ هواها جرى في دمائي

مِنَ اللهِ فرضٌ غدا حُبّها *** كحبَِ أبيها، وأهل الكساءِ

فيا مَن إليها دَعاكَ الولاءُ *** تمهَّل ولو لحظةً في دُعائي

ظَلامَتها أن في مَوتها *** شهادةُ قديسةُ الأنبياءِ

فَهل تنصِفوها ولو بعد حينٍ *** بيوم حِدادٍ وحفلِ عزاءِ

نُعزّي علياً وطه الرسولِ *** وأبناءَهُ صَفوةً الأولياءِ

فيا عاشقيها، هَلمّوا إليها *** لكي نَفتَديها بصدقِ الوَلاءِ

سلامٌ عليها على حُرّةٍ *** كساها الإله بثوبِ الحياءِ

فقلبُ أبيها يُصلّي عليها *** وهَل كأبيها سما للعَلاءِ

تموتُ وفي قلبها غُصّةً *** وتُدفنُ مقهورةً في خفاءِ

ص: 494


1- قالها فضيلة الأديب السيد عبد الأمير جمال الدين عشية استشهاد الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) مُحيياً المؤمنين المبادرين لإحياء الزيارة الفاطمية عام 1433، ونشرت في العدد (112) من صحيفة الصادقين.

أمُّ أبيها..

أمُّ أبيها..(1)

ماذا أقولُ بفاطم الزهراءِ *** والشعرُ كمْ يَعصي على الشعراءِ؟!

أأقولُ فيها نفحةٌ قدسيةً *** أنسية من معجزِ الإسراءِ

أمِنَ الملائكِ وهي أعلى منهمُ *** شرفاً سَمَتْ فيهِ على الجوزاءِ

هيَ بضعةُ الهادي الرسول وروحهُ *** فيها استقرّت فهيَ نبعُ ضياءِ

يؤذيهِ مَن يؤذي الزكيّة والذي *** يؤذيهِ يُؤذي اللهَ بالبَغضاءِ

هيَ كَوثرٌ يَروي القلوبَ نميرُهُ *** عذبٌ غدا يجري بأطهرِ ماءِ

وهي البتولُ وفاطمٌ وهي التي *** تسمو بمحتدِها على العذراءِ

الله شرَّفها وعظّمَ شأنها *** بينَ النساءِ بأجملِ الأسماءِ

أمُّ النبي وأمُّ سادات الورى *** تزهو بثوبِ الطهر خيرِ رِداءِ

ما كانَ لولاها وجودُ أئمةٍ *** تُنمى لخير الخلقِ في الأمناءِ

أوتادُ هذي الأرض بل عُمّارُها *** بالدين والإيمان دونَ مِراءِ

كُلٌ لهُ فيها مقامٌ شامخٌ *** مُتَضَوِّعٌ بالعطرِ واللألاءِ

هُم جَنةُ الدنيا وبهجة أنسها *** بل جَنةُ المأوى بدار بَقاءِ

لهمُ الخلودُ على المدى وعدوّهُم *** ألقت بهِ الدنيا لشرِّ فناءِ

ص: 495


1- القصيدة التي انشدها فضيلة الأديب السيد عبد الأمير جمال الدين في المؤتمر العلمي المشترك بين الحوزة العلمية و الجامعات حول السيدة الزهراء (علیها السلام) الذي أقيم على قاعة رئاسة جامعة الكوفة يوم السبت 29/ج1/ 1433 الموافق 21/ 4/ 2012، ونشرت في العدد (112) من صحيفة الصادقين.

أعطتهمُ الزهراء سرَّ نقائها *** إرثاً من الآباءِ للأبناءِ

ويلٌ لمن عاداهمُ ولأمهمْ *** أخفى العداء بخسَّةِ الجبناءِ

ما كان أجرأهُم على ربِّ السما *** في ظلمها وبقيَّةِ الأرزاءِ

في الليل تُدفنُ وهوَ أعظمُ شاهدٍ *** ماذا جرى في الليلة الظلماءِ؟!

زهراءُ يا زهراءُ يا بنتَ الهدى *** يا لحنَ حزنٍ قد جرى بدمائي

أنا ذلك المكسورُ قلباً مثلما *** كسرَ العِدا ضلعاً من الزهراء

يا منصفَ الزهراء(1) من أعدائها *** يحميك ربُّكَ من أذى الأعداءِ

ألزمتَ نفسك أن تسير بنهجها *** قمراً يضيء بليلةٍ ظلماءِ

واليومُ أنتَ نصيرُها ومحبّها *** وغداً تنالُ شفاعةَ الزهراءِ

فاصدح بنهجكَ وهو نهجُ محمدٍ *** بعقيدةٍ علويةٍ ومضاءِ

فالله آثرها على كلِّ الورى *** لمّا حباها أشرفَ الأبناءِ

ص: 496


1- توجّه الشاعر بهذا الخطاب إلى سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله).

مَلَكوتُ الزائرين

مَلَكوتُ الزائرين(1)

ما كُلُّ منْ كَتَبَ القريضَ يَنالُ-ها *** قَدْ أعْجَزَ الشعراءَ طُرّاً حالُها

كيفَ الزمانُ وَإنْ تطاوَلَ عَهْدُهُ *** بجميع مَدحِ العالمينَ يَطالُها

هِيَ زينبُ الكُبرى وَإنْ سُبِيَتْ فَقَدْ *** أسِرَ الجيوشَ كمالُها وَجلالُها

لَمْ تَنْكَشِفْ، فالعرشُ كانَ حِجابَها *** وَحِيالَ غُرْبَتِها تَحَشَّدَ آل-ُها

جبريلُ.. ميكائيلَ.. إسرافيلُ.. وال- *** -مَلأُ الملائِ-كُ كُلُّهمْ سُؤّال-ُها

هاهي عباءَتُ-ها تَلُفُّ نِساءَنا *** شَرَفاً، وَيَسْتُرُ كلَّ عِرْضٍ شالُها

فَتَحَتْ بجَيْشٍ مِنْ يَتامى شامَ-هُمْ *** وَبِخُطْبَةٍ عصْماءَ كانَ قِ-تالُها

وَطَأَتْ رؤوسَ أميَّةٍ.. وَعروشَهُمْ *** بِنِعالِها..عُذراً يَجِلُّ نِ-عالُها

لِلآنَ تيجانَ الملوكِ تَؤُم-ُّهُ *** وَتَطوفُ حَوْلَ شموخِهِ أجيالُها

ما نحنُ نَحْمِلَ نَعْشَ-ها.. هو يحمِل ال- *** -دنيا لِجَ-ن-ّاتٍ فَت-ِلْكَ ظِلالُها

تمضي لزُوَارِ الحسينِ تَحوطُهُ-مْ *** فَيْضاً لِيُشْرِقَ في القلوبِ جَمالُها

تلكَ الوجوهَ وَقدْ تَغَ-يَّرَ لوْن-ُها *** بِلَظى الشموسِ تَنَوَّرَتْ أشكالُها

فَبِ-كُلِّ ذَرَّةِ ت-ُرْبَةٍ في مَشْيِهِ-مْ *** تبدو الحدائقُ، قدْ صفا سَي-ّالُها

عَشقوا الحسينَ فما أجلُّ مَسيرَهمْ *** إذْ بعْضَ أمتارٍ غَدَتْ أمْيالُ-ها

ص: 497


1- قصيدة ألقاها الأستاذ الشاعر حيدر الناصري في مكتب سماحة المرجع اليعقوبي (مُد ظله) بمناسبة ذكرى استشهاد الحوراء زينب (علیها السلام) في حشد من الجموع المعزيّة، يوم السبت 11/رجب/1433 المصادف 2/ 6/ 2012، ونشر في العدد (113) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 16/رجب/1433 الموافق 7/7/ 2012.

وَمِزاجُ ماءِ الوَردِ إذْ يُس-ْقَوْن-َهُ *** مِنْ عَيْنِ تَسْنيمٍ جَرى سَلْسالُها

عجباً يُقالُ لِكُلِّ ساقٍ مِنْهُ-مُ *** سَلِمَتْ يَداكَ، وَقُدِّرَتْ أف-ْضالُها

في حينَ ساقي الطَّفِّ تُقْطَعُ كَفُّهُ *** وَلِعَيْنِهِ اسْتَ-بَقَتْ هناكَ نِبال-ُها

أبداً سَنَ-بْقى في العَزا وَقُلوبُنا *** عند الشهادةِ (يا حسينُ) مَقال-ُها

وَإذا المجالِسُ لَمْ تَسَعْ أحزانَ-نا *** مَعَ فاطمٍ يومِ الحِسابِ كَمال-ُها

ص: 498

سيد النقباء

سيد النقباء(1)أدعو وأسألُ بارئ الأشياءِ *** لك أن أخطّ قصائدي بدمائي

يا من لمحتك للأنام معلماً *** درساً ينير مسالك الجهلاءِ

أقفرتَ من نفس الغرور وطالما *** عبث الغرور بأنفس العلماءِ

وسموت أنت وقد هبطت تواضعاً *** إن التواضع سلّم العظماءِ

فبمثلك الأخلاق تزهر يا فتى *** فلذا دعتك بسيد النقباءِ

ما كنت أُثني عن هوىً أو نزوة *** بل كان فرضاً في هواك ثنائي

حسبي وحسب الشعر فضلاً أنني *** أهجو بمدحك في الورى أعدائي

فتّشت في سقر العراق فلم أجد *** إلاّك يُثلج خافق البؤساءِ

يأوي إليك المعوزون فتحتفي *** بهمُ حفاوة زاهد بكّاءِ

فيعود من قد جاء يذرف دمعة *** فرحاً تراه بهيئة الأمراءِ

إن أنكروك وأنت سارية السنى *** فلأنهم جهِلوا مداك النائي

وإذا الزمان تقهقرت أخلاقه *** يختار أسياداً من البلهاءِ

ولرب مهذارٍ عرته جهالة *** نصرته شِرذمة من الغوغاءِ

ولرب مجنون ربا خلطاؤه *** ولرب ذي لبّ بلا خلطاءِ

ص: 499


1- قصيدة ألقاها الأديب الفاضل عباس العجيلي (فرزدق الصدر) مخاطباً سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) في مجلسه العام يوم السبت 2/شعبان/1433 الموافق 23/ 6/ 2012 وقد وصفها سماحته بأنّها تفيض بالحكمة، نشرت في العدد (115) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 13/شعبان/1433 الموافق 4/ 7/ 2012.

إن ابن آدم خالد في زهده *** لا بالضياع وكثرة الصفراءِ

لو لم تحُز إلاّ التواضع خِصلة *** لرفعت للإسلام ألف لواءِ

فالصدق ملعبك المسوّر بالتقى *** والافتراء ملاعب الجبناءِ

دعهم إذا قلبوا الحقائق واصطبر *** لا يُرتجى ورع من اللقطاءِ

قد يسكر الباغي الدنيء بإثمه *** حتى يُفيق مُعاقرَ الصهباءِ

إن طال شيطان القريض سواي ما *** أغراني منه النزغ كالشعراءِ

لا يقدر الشيطان مسّ متيّم *** وقف القريضَ لسيد الشهداءِ

دعني أغرد ما استطعت فإنني *** شادٍ يهيم بروضة غنّاءِ

ما هذه الأبيات فيض قريحتي *** بل هذه الأطلال من أحشائي

إن كنتُ نجماً يُهتدى بقريضه *** هذا لأنك في القريض سمائي

كم من صديق كنتُ أملِك لُبّه *** فإذا عشقتك صار من خصمائي

إني رأيت الشعر عاراً بيّناً *** إن لم يكن وقفاً على النجباءِ

ورأيت إن العمر مثل سفينة *** والصدق كان لظهرها كالماءِ

لو كان مثلُك كلَ راعٍ في الملا *** لتساقطت تترى قوى الفحشاءِ

طوبى لشيخ فُتّحت أبوابه *** كيما يرجّح كفة البسطاءِ

و(حديث روحٍ)(1) في النعيم لمن ظما *** كالسلسبيل لساكن البيداءِ

ودعابة نزلت عليك بطيبها *** من بعل أمّ الظامئ الزهراءِ

ص: 500


1- عنوان البرنامج اليومي في قناة النعيم الفضائية الذي يعرض خطب وأحاديث سماحة المرجع اليعقوبي.

إني لأفخر أن أكون مقلّداً *** لك في زمان متخم من داءِ

ما مال إلاّ للزنيم وما قلى *** إلاّ الأباة وصحبة الشرفاءِ

ولقد سكبت على القُمامة خمرتي *** وقتلت حين سكبتها ندمائي

يأبى الكريم وإن تخلّق ثوبه *** أن يستعير ملابس الحرباءِ

وإذا تعرّى الفذّ فرط صموده *** صار الصمود لعريه كرداءِ

من رام نيل المجد دون شروطه *** كمن ارتجى شهداً من الرقطاءِ

لا تعجبنّ إذا الذئاب تكالبت *** تسعى إلى جيف بغير حياءِ

نظرت لهم بغداد نظرة مذهَلٍ *** فبكت دماءً مقلة الزوراءِ

ذُبح الفقير من القفا في موطني *** والجاني والسكّين في الخضراءِ

تالله لا يعلو ويشمخ ذو هوىً *** إن رام بيتاً في ذرى الجوزاءِ

وإذا الوزير سرى العُضال بدينه *** والله لا يشفيه أيّ دواءِ

تبّاً لشعر لا يزمجر غاضباً *** حتى يقِضَّ مضاجع الرؤساءِ

وإذا نآى الفقهاء حيث نرومهم *** ماذا إذن نجني من الفقهاءِ

والأمر بالمعروف جوهر ديننا *** فمتى سنهدم قلعة الخبثاءِ

ومتى تُقدّ أصابع قد طالما *** عبثت بدين الله والآلاءِ

ولرب مالٍ قد يصير وإن ربا *** مثل التراب بقبضة البخلاءِ

قسماً بصرخة ثائر في كربلا *** وبصبر قاهرة الأسى الحوراءِ

مُرني تجدني صارماً في صارم *** إني إليك مدى الزمان فدائي

إن كنتَ تُبصرُني بمقلة حاذق *** أفهل أحنّ لمقلة عوراءِ

ص: 501

هو ذا نُهاك غدا الدليل لحائرٍ *** وغدا فؤادُك مسكن الفقراءِ

ص: 502

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.