خطابُ المرحلة المجلد 6

هوية الكتاب

اسم الكتاب: خطابُ المرحلة / الجزء السادس

تأليف: توثيق لخطابات وبيانات سماحة

آية الله العظمى المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي

الطبعة : الثانية

السنة : 1437 ه- - 2016م

الناشر: دار الصادقين للطباعة والنشر والتوزيع

النجف الاشرف / شارع الرسول ص 07808289364

المطبعة:.........

ص: 1

اشارة

خطابُ المرحلة توثيق لخطابات وبيانات سماحة

آية الله العظمى المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي

ومواقفه وتوجيهاته منذ تصديه لقيادة الحركة الإسلامية في العراق بعد استشهاد استاذه

السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) عام 1999

الجزء السادس

تشرين الثاني 2008- كانون الثاني 2011

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

خطاب المرحلة 207 :الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وإعداد البديل

خطاب المرحلة 207

بسم الله الرحمن الرحیم

الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وإعداد البديل(1)

إن التعبير عن المشاعر وردود الأفعال إزاء مثل هذه المناسبات الحزينة المؤلمة مختلفة بحسب مستويات الناس، فأنتم الفضلاء والأساتذة وطلبة البحث الخارج يكون تعبيركم المناسب هو ما نفهمه من ذيل الحديث الشريف (إذا مات العالم ثُلم في الإسلام ثُلمة لا يسدّها شيء إلا عالمٌ مثله) بوجوب مضاعفة الجهد وبذل الوسع لتحصيل ملكة الاجتهاد حتى نسدَّ هذه الثُلمة.

وهذا ما يقتضيه منهج أهل البيت (سلام الله عليهم أجمعين) فإنهم أرجعوا الأمة في زمان غيبة الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) إلى المجتهد الجامع للشرائط ليقوم ببعض وظائف ومسؤوليات الإمام وهي تلك التي لا يستطيع القيام بها لأنها تتنافى مع المصلحة في غيبته أما وظائفه(سلام الله عليه) الأخرى فهو قائم بها وعلى رأسها لطف وجوده المبارك.

إن اللطف الإلهي اقتضى أن لا تخلو الأرض من حُجة وإلا لساخت الأرض بأهلها كما ورد في الأحاديث الشريفة والمصداق الأكمل للحجة موجود

ص: 5


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع الفضلاء الذين يحضرون بحثه الشريف في الفقه بمناسبة الذكرى العاشرة لاستشهاد السيد محمد محمد صادق الصدر (قدس سره) في 3/ ذو القعدة /1429المصادف 2/ 11/ 2008.

(عجل الله تعالى فرجه) حتى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ويقيم دولته المباركة، لكن الأمة بحاجة إلى نوع آخر من الحجة يكون نائباً للمعصوم (سلام الله عليه) ويقوم بتصريف الشؤون التي لا يستطيع مباشرتها بنفسه وبدونه تضّل الأمة عن الصراط المستقيم، لذا ورد في الدعاء (اللهم عرّفني نفسك فإنك إن لم تعرّفني نفسك لم أعرف نبيَّك، اللهم عرّفني رسولك فإنك إن لم تعرّفني رسولك لم أعرف حجتك، اللهم عرّفني حجتك فإنك إن لم تعرّفني حجتك ضللتُ عن ديني). فمن مسؤولية الحوزة العلمية وخصوصاً المرجعية أن لا تُخلي الأرض من حجة بهذا المعنى الثاني بلطف الله تبارك وتعالى.

نعم، هذا الوجوب كفائي وإذا تصدى أحد للمسؤولية فإنه يسقط عن الآخرين ويمكن أن يكتفي به غيره، لكن علينا الاستعداد المبكر لمثل هذا اليوم لأن شروط المرجعية لا تتوفر إلا بعد جهد وجهاد طويلين قد يستمران عقوداً ولا تُعذر الحوزة العلمية أمام الله تبارك وتعالى إذا قصّرت في إعداد البديل، لقد كان السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) منصفاً في الإشادة بكل نبوغ علمي واجتهاد ويرى من مسؤولياته الإشارة إليه، ويشجّع السائرين الذين يؤمَّل لهم الوصول، كنتُ أناقشه باستمرار بعد انتهاء محاضرات البحث الخارج في الأصول وفي أحد الدروس سنة 1417هجرية عرض رأياً للسيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) وناقشته (حيث كان يرّكز في بحثه على مناقشة آراء أستاذيه السيدين الصدر والخوئي (قدس الله سرهما) فقلت له بعد الدرس إن هذه المناقشة ليست تامة لكذا وكذا والصحيح أن يُردَّ على كلام الشهيد الصدر

ص: 6

(قدس سره) بكذا وكذا فنظر إلي مبتسماً وعليه علامات الفخر بتلميذه (إن هذه المناقشات تفرحني لأنها تقربك من الاجتهاد) هذا غير الكلمات التي نشرت بقلمه وبصوته (قدس الله نفسه).وسأكون إن شاء الله تعالى منصفاً كأستاذي وكما أمر الله تبارك وتعالى فأشيد بكل نبوغ واجتهاد وأشير إليه تحملاً لهذه الأمانة لأن حبس الاعتراف باستحقاق الآخرين ظلم لهم والله لا يحب الظالمين فاغتنموا فرصة وجود المنصفين لأن العقود الأخيرة شهدت - بكل أسف - حبس هذا الحق لذا لم تصدر شهادة اجتهاد واحدة في الحوزة النجفية منذ أكثر من ثلاثين عاماً، فهل هذا يعني إفلاس هذه الحوزة وعجزها عن أداء دورها فليعلنوا ذلك بشجاعة وموضوعية؟ أم أن وراء الأكمة ما وراءها، إذ أن الحوزة النجفية منجبة بفضل الله تبارك وتعالى وفيها عدد يُفتخر به من الطاقات الواعدة.

إن من المفارقات المؤلمة أن نجد أساتذة الجامعات من الأكاديميين لا يبخلون على طلابهم بالاعتراف بنيل الشهادات العليا بعد الإشراف عليهم ومناقشة رسائلهم فيمنحونهم ما يستحقون وبتقديرٍ عال ٍ رغم أن ذلك يعني منافسة هؤلاء الأساتذة الجدد لهم في مواقعهم التدريسية والوظيفية ولم يمنعهم ذلك من الشهادة بإنصاف لهم، مع أنهم في الغالب علمانيون، فهل هؤلاء أنبل وأكثر إنصافا من مما يجري في أروقة الحوزة العلمية؟ هذا إذا عقدنا المقارنة على هذا المستوى وإلا فبين أيدينا شواهد على قيام كبراء الحوزة العلمية بقتل الإبداع والنبوغ ووضع العراقيل في طريقه وتسقيط صاحبها وتطويق مسيرته فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ص: 7

ولكن الأمل بالله تبارك وتعالى أن يرعى بلطفه هذه الحوزة المباركة ويقيّض لها في كل جيل أمناء على حلاله وحرامه حتى يسلّموا الراية لبقيته وحجته في أرضه المهدي الموعود (أرواحنا له الفداء).

ص: 8

خطاب المرحلة 208 :مواجهة التحديات بمعرفة قيمة النفس

خطاب المرحلة 208 :مواجهة التحديات بمعرفة قيمة النفس(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

لعلماء الأخلاق جهود وآثار قيمة في تهذيب النفس من الرذائل وتحليتها بالفضائل وبيان الوسائل والآليات التي تعين الإنسان على النجاح في (الجهاد الأكبر) - وهو جهاد النفس كما سمّاه رسول الله (صلی الله علیه و آله)- وهو الصراع الذي ميدانه الأول النفس الإنسانية الذي تتصارع فيها الأهواء والميول والنزعات والإرادات بين العقل والشهوة وبين الخير والشر وبين الحق والباطل وهو صراعٌ مرير طويل يستمر إلى أن تبلغ النفس التراقي وقد ورد في الحديث (أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك) وقد يتخلص الإنسان من رذيلة في مرحلة معينة لكنه لا يلبث أن يجد نفسه مبتلى بغيرها، فمثلاً تراه بعد أن يجتاز مرحلة الشباب تقوى عنده السيطرة على ميوله الجنسية لكنه قد يبتلى بالطمع أو الأنانية أو حب الجاه والسلطة، وهذه أمراض أخطر وأشد فتكاً بالأمة وما الدماء التي تسفك بغير حق والبلاد التي تُخرّب إلا بسبب هذه الرذيلة.

وقال العلماء والعارفون إن كل فضيلة تقع بين رذيلتين يمثلان جانبي

ص: 9


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من طلبة كلية الطب في جامعة البصرة ومواكب عشيرة البدور في الناصرية يوم 9 ذ.ق 1429 المصادف 8/ 11/ 2008.

الإفراط والتفريط فيها، فالشجاعة فضيلة بين رذيلتي التهوّر والجبن، والكرم فضيلة يقع بين الإسراف والبخل، وهكذا...ورسموا برامج لعلاج الرذائل وقسموها إلى علاج نظري وعملي، ويريدون بالأول مجموعة التصورات والعقائد والمفاهيم التي تسهم معرفتها والاقتناع بها في الحل، أما الثاني فيقصد به الخطوات العملية والتطبيقية التي تؤدي إلى القضاء على الرذيلة الخلقية كإجبار النفس على الإنفاق لكسر البخل، وكالإكثار من الصوم لكبح جماح الشهوة الجنسية. وهكذا.

ونحن نريد أن نشير اليوم إلى مفردة في العلاج النظري تعينكم على تقوية إرادتكم وعزمكم في مواجهة التحديات وقمع الأهواء والشهوات وذلك بأن يعرف الإنسان قدره، كما ورد في الحديث (من عرف قدر نفسه لم يوردها موارد الهلكة) وهو حديث يمكن أن يفهمه كل شخص بحسب مستواه ومجاله، فالقائد العسكري عليه أن يعرف عدد قواته وعدّتها قبل أن يخوض أيَّ معركة وإلا فإنه سيهلك نفسه وجيشه وهكذا.

ونريد نحن الآن تطبيقه عليكم لنستفيد منه في التقويّ على تجاوز الصعاب والنجاح في مواجهة التحديات الأخلاقية والاجتماعية والفكرية التي تتعرضون لها في الجامعات. فإن الواحد منكم إذا التفت إلى قدر نفسه وكرامته عند الله تبارك وتعالى بحيث ورد في الحديث أن الله تبارك وتعالى يباهي الملائكة بالشاب المؤمن الذي نشأ في طاعة الله تعالى، فهل يرضى شاب يفخر الله تعالى به ويباهي الملائكة وتقرّ به عينا الإمام الحجة المنتظر(عجل الله تعالى فرجه الشريف) قد ملأ قلبه حب الله تعالى والنبي وأهل بيته (صلوات الله عليهم

ص: 10

أجمعين) وعُجنت طينته بولايتهم المباركة، وقد نجح في حياته حتى بلغ الدراسة الجامعية وأنتم في أرقاها، أقول: هل يمكن لهذا الشاب بعد التفاته لهذه المعاني أن يكون أسير شهواته أو يقع ضحيّة لغواية من شياطين الجن والإنس وهم لا سلطة لهم على الإنسان إلا بمقدار التزيين والدعوة إلى المعصية حيث يحكي القرآن الكريم: [وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم] (إبراهيم:22) ويلخّص هذه الفكرة الحديث الشريف (من كرُمت عليه نفسه هانت عليه الدنيا).ولذا يوصي الإمام السجاد (علیه السلام) (وإنما هي نفس واحدة فلا تعطوها إلا بثمنٍ وثيق وهي الجنة) إذ لا يملك الإنسان نفسين وحياتين حتى يمكن أن يفعل ما يحلو له في الأولى ويجرب النتائج ثم يصحّح في الثانية، وإنما هي حياة واحدة ونفس واحدة فلا بد أن يبرمجها على ما ثبت بالدليل الصحيح أنه طريق للفوز والفلاح.

إن الله تبارك وتعالى يقدّر شدة الابتلاءات التي يتعرض لها الإنسان في جهاده الأكبر، وقد أشار الأئمة المعصومون (علیهم السلام) إلى جملة منها لإلفات نظرنا إليها والحذر والاستعاذة بالله تبارك وتعالى منها وطلب العون منه عظمت آلاءه للصمود في وجهها لاحظ على سبيل المثال مناجاة الشاكين للإمام السجاد (علیه السلام) في كتاب (مفاتيح الجنان) ويقول (ع) فيها (إِلهي إليك أشكو نَفْساً بِالسُّوءِ أمارة، وَإِلَى الْخَطيئَةِ مُبادِرَةً، وَبِمَعاصيكَ مُولَعَةً، وَلِسَخَطِكَ مُتَعَرِّضَةً، تَسْلُكُ بي مَسالِكَ الْمَهالِكِ، وَتَجْعَلُني عِنْدَكَ أهون هالِك) ويقول (ع) فيها

ص: 11

(إِلهي أشكو إليك عَدُوّاً يُضِلُّني، وَشَيْطاناً يُغْويني...) ويقول (ع) (إِلهي: إليك أشكو قَلْباً قاسِياً مَعَ الْوَسْواسِ مُتَقَلِّباً، وَبِالرَّيْنِ وَالطَّبْعِ مُتَلَبِّساً، وَعَيْناً عَنِ الْبُكاءِ مِنْ خَوْفِكَ جامِدَةً، و إلى ما يَسرُّها طامِحَةً).

ص: 12

خطاب المرحلة 209 :الدعاء أفضل العبادة وسلاح المؤمن

اشارة

خطاب المرحلة 209 :الدعاء أفضل العبادة وسلاح المؤمن(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وآله الطاهرين.

الأعمال بآثارها وخواتيمها:

روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: (من أحبَّ أن يعلم قُبلت صلاته أم لم تقبل، فلينظر هل منعته صلاته عن الفحشاء والمنكر؟ فبقدر ما منعته قُبلت صلاته)(2).

والإمام (علیه السلام) ناظر إلى قوله الله تبارك وتعالى: [أُتلُ مَا أُوحِيَ إِلَيكَ مِن الكِتَابِ وَأَقِم الصَلاةَ إنَّ الصَلاةَ تَنهَى عَن الفَحشَاءِ وَالمُنكَرِ وَلَذِكرُ اللهِ أكبَرُ وَاللهُ يَعلَمُ مَا تَصنَعُون] (العنكبوت: 45).

وروي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً).

وروي أن فتىً من الأنصار كان يصلي الصلوات مع رسول الله (صلی الله علیه و آله)

ص: 13


1- الخطبة الأولى لصلاة عيد الأضحى المبارك للعام 1429 المصادف 9/ 12/ 2008.
2- هذا الحديث والذي يليه من البحث الروائي الملحق بتفسير الآية (45) من سورة العنكبوت في كتاب الميزان في تفسير القرآن.

ويرتكب الفواحش فوُصِف ذلك لرسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: (إن صلاته تنهاه يوماً ما).فقيمة العمل تقاس بما يحقق من الغرض الذي جُعل من أجله، وبمقدار ما يحسن من العمل ويرتب عليه الآثار المرجوّة تزداد قيمة العمل وتزداد تبعاً له قيمة الإنسان العامل نفسه وإلا فلا قيمة للعمل، قال أمير المؤمنين (علیه السلام): (قيمة كل امرئٍ ما يحسنه).

تحصيل التقوى هو الغرض من التشريع:

والمتتبع لأغراض الشارع المقدس من جعل الأعمال والتكاليف يجد أن الهدف هو تحصيل ملكة التقوى وذكر الله تبارك وتعالى ومراقبته في السر والعلن، كما تقدم في أثر الصلاة على سلوك الإنسان، وقال الله تبارك وتعالى في الصوم: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلى الذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ] وقال عز من قائل في الهدي الذي يتقرب به الحاج: [لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُها وَلَكِن يَنَالُه التَقوَى مِنكُم] وقال تعالى في عموم الشعائر من حج وغيره: [ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّم شَعَائِرَ اللهِ فإنَّهَا مِن تَقوَى القُلُوبِ] حتى في المعاملات فإن الله تبارك وتعالى يذكّر عباده بالتقوى ففي سورة الطلاق المؤلفة من اثنتي عشرة آية وردت مفردة التقوى خمس مرات.

وهذا التركيز على التقوى لأنها خير وسيلة لتحصيل الكمال والفوز والفلاح قال تعالى: [وَتَزَوَّدُوا فإن خَيرَ الزَادِ التَقوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألبَابِ] وقال تعالى: [إنَّ اللهَ مَعَ الذِينَ اتّقَوا وَالذينَ هُم مُحسِنُونَ] وإذا كانت الأمور والأعمال

ص: 14

بخواتيمها فإن الله تبارك وتعالى يقول: [وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ].

يوم عرفة يوم التوبة:

وبالأمس كان يوم عرفة وهو يوم دعاء وتوبة واستغفار فإذا أردنا أن نعرف أننا ممن قبلهم الله تبارك وتعالى في ذلك اليوم واستجاب لهم وجعلهم من أهل طاعته فلا بد أن تنعكس آثار هذا اليوم على سلوكنا وتصرفاتنا بالندم عما تقدم منا مما لا يليق بوظائف العبودية لله تبارك وتعالى وعقد العزم على أن لا نعود لأمثالها وأن نبذل الوسع لرد المظالم إلى أهلها والاستحلال منهم والبدء بصفحة جديدة بفضل الله تبارك وتعالى.

ومن وسائل تحصيل التقوى بل تحقيق كل أمنية وطلب: الدعاء قال تعالى: [ادْعُونِي أستَجِبْ لَكُم] وقال تعالى: [وإذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدَاعِ إذَا دَعَانِ فَليَستَجِيبُوا لِي وَليُؤمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ] (البقرة: 186).

ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام) في تفسير قوله تعالى: [مَا يَفتَحِ اللهُ للنَاسِ مِنْ رَحمَةٍ فَلا مُمسِك لَهَا] قال (علیه السلام): (الدعاء)(1).

الدعاء أيسر الوسائل إلى أعظم الخزائن:

أيها الأحبة..

هذه حقيقة نغفل عنها وهي امتلاكنا لهذه الوسيلة التي تفتح خزائن رحمة

ص: 15


1- الروايات الواردة في الخطبة موجودة في كتاب بحار الأنوار، المجلد التاسع عشر، عن مصادرها الأصلية، وأصول الكافي.

الله تبارك وتعالى التي وسعت كل شيء من خلال الدعاء، تصوروا لو أن لأحدكم وسيلة إلى مسؤول كبير وشخصية ذات نفوذ وقوة فإنه سيكون حريصاً على إبقاء تلك الوسيلة والاستفادة منها، وها نحن نمتلك أيسر الوسائل إلى أعظم الخزائن وهو الدعاء، ولا نستثمره، يقول الإمام السجاد (علیه السلام): (ولو دلّ مخلوق مخلوقاً من نفسه على مثل الذي دللت عليه عبادك منك، كان موصوفاً بالإحسان ومنعوتاً بالامتثال ومحموداً بكل لسان، فلك الحمد ما وُجِد في حمدك مذهب، وما بقي للحمد لفظ تُحمد به، ومعنى ينصرف إليه)(1)، يقول الإمام الصادق (علیه السلام): (فأكثر من الدعاء فإنه مفتاح كل رحمة ونجاح كل حاجة ولا ينال ما عند الله إلا بالدعاء، فإنه ليس من باب يكثر قرعه إلا أوشك أن يُفتح لصاحبه).وللدعاء أهمية كبرى في كتاب الله تبارك وتعالى والأحاديث الشريفة عن أهل بيت العصمة (صلوات الله وسلامه عليهم) ففي خبر صحيح عن الإمام الباقر (علیه السلام) في تفسير قول الله تبارك وتعالى: [إَنَّ الذِينَ يَستَكبِرُونَ عَن عِبَادَتِي سَيَدخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ] (غافر: 60) قال (علیه السلام): (هو الدعاء وأفضل العبادة الدعاء) ويشهد لذلك صدر الآية [ادْعُونِي أَستَجِبْ لَكُم]، وفي تفسير قوله تعالى: [إنَّ إِبرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ] (التوبة: 144) قال (علیه السلام): (الأواه هو الدَعّاء) وقال الإمام الصادق (علیه السلام): (وكان أمير المؤمنين رجلاَ دَعّاءً).

وقال تعالى: [قُلْ مَا يَعبَؤ بِكُم رَبّي لَولا دُعاؤُكُم فَقَد كّذّبتُم فَسَوفَ يَكونُ لِزَاماً] (الفرقان: 77) وقال تعالى: [وَاسأَلُوا اللهَ مِن فَضلِهِ، إنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شيءٍ

ص: 16


1- الصحيفة السجادية، من دعائه (عليه السلام) في وداع شهر رمضان.

عَلِيماً] (النساء: 32).

الدعاء لكل حاجة:

والدعاء لكل حاجة مهما صغرت ونحن في كل نفس وكل طرفة عين محتاجون إلى الله تبارك وتعالى الغني فلا نتوقف عن اللجوء إلى الله تبارك وتعالى في كل شيء حتى إذا كان تافهاً بنظرك أو أن الحصول عليه سهل يسير فقد روي عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: (سلوا الله عز وجل ما بدا لكم من حوائجكم حتى شسع النعل فإنه إن لم ييسره لم يتيسر) وقال: (ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع) وعنه (صلی الله علیه و آله) قال: (ألا أدلّكم على سلاح ينجيكم من عدوكم ويدرّ أرزاقكم؟ قالوا: نعم، قال: تدعون بالليل والنهار فإن سلاح المؤمن الدعاء) وروي أن الإمام الكاظم سئل عما قيل: لكل داء دواء فقال (علیه السلام): (لكل داء دعاء فإذا أُلهم العليل الدعاء فقد أُذن في شفائه)، وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (عليكم بالدعاء فإنكم لا تتقربون بمثله ولا تتركوا صغيرة لصغرها أن تسألوها فإن صاحب الصغائر هو صاحب الكبائر).

الدعاء في كل زمان:

والدعاء في كل زمان حتى زمان اليسر والرخاء ويشتد في زمان العسر والضيق والبلاء، يروي أحد أصحاب الإمام الكاظم (علیه السلام) الثقات في شدة المحنة التي فرضها المنصور العباسي بعد استشهاد الإمام الصادق (علیه السلام) وسيفه يقطر دماً من شيعة أهل البيت يقول: (دخلت على أبي الحسن موسى (علیه السلام)

ص: 17

بالمدينة وكان معي شيء فأوصلته إليه فقال: أبلغ أصحابك وقل لهم: اتقوا الله عز وجل فإنكم في إمارة جبار -يعني أبا الدوانيق- فأمسكوا ألسنتكم وتوقّوا على أنفسكم وادفعوا ما تحذرون علينا وعليكم منه بالدعاء، فإن الدعاء - والله- والطلب إلى الله يرد البلاء وقد قدّر وقضي ولم يبق إلا إمضاؤه فإذا دعي الله وسئل: صُرف البلاء صرفاً، فألحوا في الدعاء أن يكفيكموه الله، قال أبو ولاّد: فلما بلّغت أصحابي مقالة أبي الحسن (علیه السلام) قال: ففعلوا ودعوا عليه وكان ذلك في السنة التي خرج فيها أبو الدوانيق إلى مكة فمات عند بئر ميمون قبل أن يقضي نسكه فأراحنا الله منه، قال الراوي: وكنت تلك السنة حاجاً فدخلت على أبي الحسن (علیه السلام) فقال: يا أبا ولاد كيف رأيتم نجاح ما أمرتكم به وحثثتكم عليه من الدعاء على أبي الدوانيق، يا أبا ولاد: ما من بلاء ينزل على عبد مؤمن فيلهمه الله الدعاء إلا كان كشف ذلك البلاء وشيكاً، وما من بلاء ينزل على عبد مؤمن فيمسك عن الدعاء إلا كان ذلك البلاء طويلاً فإذا نزل البلاء فعليكم بالدعاء).وقد ورد عن الإمام الهادي في حق دعاء (يا من تُحَلُّ به عُقَدُ المكاره) وهو من أدعية الصحيفة السجادية: (إن آل محمد صلى الله عليهم أجمعين يدعون بهذه الكلمات عند إشراف البلاء وظهور الأعداء وخوف الفقر وضيق الصدر وغيرها).

الدعاء يمنع اليأس والإحباط:

ولمنع الإنسان من الوقوع في حالة اليأس والإحباط والقنوط والاستسلام لما

ص: 18

يصيبه فقد نبّه الأئمة سلام الله عليهم إلى أن الدعاء يبقى مؤثراً وكفيلاً بتغيير الحال حتى لو أحكم القضاء والقدر ومهما كان التغيير عسيراً قال الإمام الصادق (علیه السلام): (ادعُ ولا تقل: إن الأمر فُرغ منه، إن عند الله منزلة لا تنال إلا بمسألة، ولو أن عبداً سدّ فاه ولم يسأل لم يعطَ شيئاً فسل تعطَ) وعن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: (الدعاء يرد القضاء بعدما أُبرم إبراماً).وعن أمير المؤمنين (علیه السلام): (ما زالت نعمة عن قوم ولا نضارة عيش إلا بذنوب اجترحوها، إن الله ليس بظلاّم للعبيد، ولو أنهم استقبلوا ذلك بالدعاء والإنابة لم تنزل، ولو أنهم إذا نزلت بهم النقم وزالت عنهم النعم فزعوا إلى الله بصدق من نيّاتهم ولم يهنوا ولم يسرفوا: لأصلح الله لهم كل فاسد ولرد عليهم كل صالح).

ظروف استجابة الدعاء:

ولا شك أن ليس كل لقلقة لسان هو دعاء بل لا بد من توفّر ظروف لاستجابة الدعاء، روي أن رجلاً من أصحاب الإمام الصادق (علیه السلام) (قال: إني لأجد آيتين في كتاب الله أطلبهما فلا أجدهما، قال (علیه السلام): وما هما؟ قال الرجل: [ادْعُونِيْ أَسْتَجِبْ لَكُمْ] فندعوه فلا نرى إجابة، قال: أفتَرى الله أخلف وعده؟ قلت: لا، قال (علیه السلام): فمه؟ قلت: لا أدري، قال (علیه السلام): لكني أخبرك: من أطاع الله فيما أمر به ثم دعاه من جهة الدعاء أجابه، قال الرجل: وما جهة الدعاء؟ قال (علیه السلام): تبدأ فتحمد الله وتمجّده وتذكر نعمه عليك فتشكره ثم تصلّي على النبي (صلی الله علیه و آله) ثم تذكر ذنوبك فتقرّ بها ثم تستغفر منها فهذه جهة

ص: 19

الدعاء، ثم قال (علیه السلام): وما الآية الأخرى؟ قلت: قوله: [وَمَا أَنفَقتُم مِن شَيءٍ فهُوَ يُخلِفُهُ] وأراني أنفق ولا أرى خلفاً، قال (علیه السلام): أفتَرى الله أخلف وعده؟ قلت: لا، قال: فمه؟ قلت: لا أدري، قال: لو أن أحدكم اكتسب المال من حله وأنفقه في حقه لم ينفق درهما إلا أخلف الله عليه).وهنا نصحح فكرة وهي أننا حينما نقول: إن لاستجابة الدعاء ظروفاً فهذا لا يعني تضييقاً في كرم الله تبارك وتعالى وأنه سبحانه يشترط شيئاً لعطائه فإن نعمه تفضلٌ ويبتدئ بها من لا يستحق كما ورد في أدعية شهر رجب (يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنناً منه ورحمة)، والإنسان الكريم لا يشترط ثمناً لعطائه فكيف يشترطها الكريم الحقيقي، يقول الإمام الحسين (علیه السلام) في دعاء يوم عرفة: (إلهي تقدس رضاك أن يكون له علّة منك، فكيف يكون له علة مني) وهكذا كل صفاته عز شأنه ومنها الكرم تقدست أن يكون لها علة منه تبارك وتعالى لأنها ذاتية فكيف يكون لكرمه سبب من خلقه. وإنما أراد الأئمة (علیهم السلام) بذكر تلك الظروف تربية الإنسان وتكامله ليسعد وليكون لائقاً بمقام العبودية لله تبارك وتعالى ومحلاً قابلاً لنزول الفيوضات الإلهية، هذا المقام الذي يفخر به أمير المؤمنين (علیه السلام) حين يقول: (إلهي كفى بي فخراً أن تكون لي ربّاً، وكفى بي عزّاً أن أكون لك عبداً، إلهي أنت كما أحب فاجعلني كما تحب).

ويمكن من خلال الأحاديث الشريفة الحصول على ظروف الاستجابة.

فمنها: زمانية، كليلة الجمعة ويومها وما بين الطلوعين وعند الزوال وأيام الأعياد كهذا اليوم وغيرها من المذكورات في كتب السنن والمستحبات.

ص: 20

ومنها: مكانية، كالروضات الشريفة للمعصومين (سلام الله عليهم) والمساجد خصوصاً الأربعة المعظمة وعند قبر الوالدين ونحوها.ومنها: حالية، كحال نزول المطر وإذا كان الدعاء جماعياً وإذا كان يدعو لغيره.

ومنها: ذاتية مرتبطة بنفس الشخص، ككونه متطهراً وفي حالة السجود وبعد الصلاة خصوصاً الفريضة فإن للمؤمن دعوة مستجابة إثر كل صلاة مفروضة(1) وأن يسبق الدعاء بالحمد والثناء على الله تبارك وتعالى والصلاة على النبي وآله (صلوات الله عليهم أجمعين) وأن يعترف بذنبه ويستغفر وأن يكون متوجهاً لما يقول وليس ساهياً(2) غافلاً ويلحّ في الدعاء ولا يمل من تكراره وأن يكون بحال الاضطرار ومن تقطعت به الأسباب واثقاً بالإجابة وإن تأخرت فلعل تأخيرها خير له(3) وأن يدعو لإخوانه المؤمنين أولاً بالمغفرة والرحمة وقضاء

ص: 21


1- عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (من أدّى فريضة فله عند الله دعوة مستجابة).
2- عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إن الله لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساهٍ، فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثم استيقن الإجابة).
3- في صحيحة البزنطي عن الإمام الرضا (عليه السلام): (والله لَمَا أخَّرَ اللهُ عن المؤمنين مما يطلبون في هذه الدنيا خير لهم مما عجل لهم منها) ثم قال (عليه السلام) له: (أخبرني عنك لو أني قلت قولاً كنت تثق به مني؟ قلت له: جعلت فداك: وإذا لم أثق بقولك فبمن أثق وأنت حجة الله تبارك وتعالى على خلقه، قال: فكن بالله أوثق فإنك على موعد من الله، أليس الله تبارك وتعالى: [وَإذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدَاعِ إذا دعَانِ] وقال: [وَلا تَقنَطُوا مِن رَحمَةِ اللهِ] وقال: [وَاللهُ يَعِدُكُم مَغفِرَةً مِنهُ وفَضلاً] فكن بالله عز وجل أوثق منك بغيره، ولا تجعلوا في أنفسكم إلا خيراً فإنكم مغفورٌ لكم.

الحوائج(1) وأن يطلب من الغير أن يدعو له(2) خصوصاً الإمام العادل والوالدين(3).إن من مفاخر شيعة أهل البيت (سلام الله عليهم) هذا العطاء المبارك الوفير من الأدعية التي صدرت عن أهل بيت العصمة وغطّت كل حاجات الإنسان، ولولا أنهم (سلام الله عليهم) علّمونا كيف ندعو الله تبارك وتعالى وأدب الوقوف بين يديه لما علمنا كيف نناجي ربنا، وماذا تقتضي وظائف العبودية لله العظيم سبحانه.

لقد تضمنت تلك الأدعية أرقى معاني المعرفة بالله تبارك وتعالى وأسمى الأخلاق الكريمة وأفضل العلاقات الإنسانية وأعمق العلوم مما لا يمكن صدوره عن غيرهم (سلام الله عليهم) وليتأمل من يطلب الشواهد على ذلك في

ص: 22


1- عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (إذا دعا أحد فليعم فإنه أوجب للدعاء ومن قدم أربعين رجلاً من إخوانه قبل أن يدعو لنفسه استجيب له فيهم وفي نفسه) وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): (ما من مؤمن أو مؤمنة مضى من أول الدهر أو هو آتٍ إلى يوم القيامة إلا وهم شفعاء لمن يقول في دعائه: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات وإن العبد ليؤمر به إلى النار يوم القيامة فيسحب، فيقول المؤمنون والمؤمنات: هذا الذي كان يدعو لنا فشفّعنا فيه فيشفعهم الله فينجو).
2- روي أن الله سبحانه أوحى إلى موسى (عليه السلام): (يا موسى ادعني على لسان لم تعصني به، فقال: أنى لي بذلك؟ فقال: ادعني على لسان غيرك)، وبذل الإمام الهادي (عليه السلام) مالاً لأحد أصحابه كي يذهب إلى كربلاء ويزور جده الحسين (عليه السلام) ويدعو له.
3- عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (أربع لا ترد لهم دعوة: الإمام العادل لرعيته، والأخ لأخيه بظهر الغيب يوكل الله به ملكاً يقول له ولك مثل ما دعوت لأخيك، والوالد لولده، والمظلوم يقول الرب عز وجل: وعزّتي وجلالي لأنتقمن لك ولو بعد حين).

الأدعية الواردة عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين والإمام الحسين والإمام السجاد (سلام الله عليهم أجمعين) ومنها الأدعية التي ورد الحث على المواظبة عليها كدعاء كميل ودعاء الصباح والمناجاة الشعبانية ودعاء الإمام الحسين (علیه السلام) يوم عرفة.

فوائد الدعاء:

إن الأدعية المأثورة لا تتلى فقط لأنها عبادة بل أفضل العبادة كما ذكرنا ولا طلباً للثواب المرصود لها وإن كان عظيماً وإنما للتزود مما فيها من علوم ومعارف، وللتعرض للنفحات والألطاف الإلهية المودعة فيها فيطلب من الله تبارك وتعالى أن يحققها له ويتحفه بها، ولمعرفة الحلول لكل المشاكل والعقد النفسية والاجتماعية والفكرية والعقائدية والأخلاقية، بل حتى السياسية والاقتصادية.

وخلاصة ما تقدم أن نكثر من الدعاء في كل صغيرة وكبيرة وأن نحرص على توفير ظروف استجابته وهي يسيرة ومتوفرة وأيسرها أن لا ننفتل من صلاتنا المفروضة حتى نسبّح تسبيح الزهراء (علیها السلام) ونسجد شكراً لله تعالى ثم نقول: (يا أرحم الراحمين) سبعاً ونصلّي على النبي وآله أجمعين ثم نستغفر الله تعالى مما صدر منا ونطلب العصمة منه تبارك وتعالى لما يأتي وندعو لإخواننا المؤمنين والمؤمنات بحوائجهم العامة والخاصة ثم ندعو لأنفسنا.

والأفضل أن نضم إليه مجالس الدعاء الجماعي في المساجد وعقيب صلاة الجماعة وغيرها وبذلك تحققون أكثر ظروف الاستجابة المذكورة.

ص: 23

اللهم صلِ على محمد وآل محمد (صلاة لا يقوى على إحصائها إلا أنت، وأن تشركنا في صالح من دعاك في هذا اليوم من عبادك المؤمنين يا ربَّ العالمين، وأن تغفر لنا ولهم إنك على كل شيء قدير، اللهم إليك تعمدّت بحاجتي، وبك أنزلت اليوم فقري وفاقتي ومسكنتي، وإني بمغفرتك ورحمتك أوثق مني بعملي، ولَمغفرتك ورحمتك أوسع من ذنوبي، فصلّ على محمد وآل محمد وتولَّ قضاء كل حاجة هي لي بقدرتك عليها، وتيسير ذاك عليك، وبفقري إليك، وغناك عني، فإني لم أُصِب خيراً قطّ إلا منك، ولم يَصرف عني سوءاً قط أحدٌ غيرك، ولا أرجو لأمر آخرتي ودنياي سواك)(1).وأفضل الدعاء وأكمله لسيدنا ومولانا صاحب العصر والزمان (أرواحنا له الفداء) أن يجمع الله تبارك وتعالى له الخير كله.

ص: 24


1- الصحيفة السجادية، من دعاء الإمام السجاد (عليه السلام) في يوم الأضحى.

خطاب المرحلة 210 :تنشيط القطاع الخاص والمواجهة الحضارية

اشارة

خطاب المرحلة 210 :تنشيط القطاع الخاص والمواجهة الحضارية(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الكسب عبادة:

في خبر صحيح عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (إن محمد بن المنكدر كان يقول: ما كنت أظن أن علي بن الحسين (علیه السلام) يدع خلفاً أفضل منه حتى رأيت ابنه محمد بن علي، فأردت أن أعظه فوعظني، فقال أصحابه: بأي شيء وعظك؟ قال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة فلقيني أبو جعفر محمد بن علي، وكان رجلاً بادناً ثقيلاً وهو متكئ على غلامين أسودين أو موليين، فقلت في نفسي: سبحان الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على مثل هذه الحال في طلب الدنيا أما أني لأعظنّه، فدنوت منه فسلمّت عليه فرد علي بنهر وهو يتصابّ عرقاً فقلت: أصلحك الله شيخٌ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا، أرأيت لو جاء أجلك وأنت على هذه الحال، فقال: لو جاءني الموت وأنا على هذه الحال جاءني وأنا في طاعة من طاعات الله عزّ وجل أكف بها نفسي وعيالي عنك وعن الناس، وإنما أخاف لو أن جاءني الموت وأنا على معصية من معاصي الله، فقلت: صدقتَ يرحمك

ص: 25


1- الخطبة الثانية لصلاة عيد الأضحى المبارك للعام 1429 المصادف 9/ 12/ 2008.

الله أردت أن أعظك فوعظتني)(1).وهذا المعنى ثابت أي كون الكسب طاعة وعبادة لله تعالى من أجل الإنفاق على العيال والتعفف والاستغناء عما في أيدي الناس وانفتاح فرص كبيرة للطاعة كمساعدة المحتاجين وتشييد المشاريع الخيرية.

التجارة والمهن الحرة أفضل وسائل الكسب:

ولكننا الآن نريد أن نعرف أولويات طرق الكسب والارتزاق بحسب ما ورد عنهم (سلام الله عليهم).

ولو استقرأنا الأحاديث الشريفة الواردة في مصادر الكسب والارتزاق لوجدنا الأئمة (سلام الله عليهم أجمعين) يحثّون على التجارة أكثر من غيرها فقد ورد عنهم (علیهم السلام) أن (تسعة أعشار الرزق في التجارة)(2) وقال الإمام الصادق (علیه السلام): (التجارة تزيد العقل) لأنها تكسب خبرة وتجربة وحنكة ونضجاً ومعرفة بأحوال الناس وصفاتهم وسلوكياتهم، واعتبروها عنوان عز الإنسان ففي خبر صحيح عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال لمولى له: (يا عبد الله احفظ عزَّك، قال: وما عزّي جعلت فداك؟ قال (علیه السلام): غدوُّك إلى سوقك وإكرامك نفسك).

وحذّروا من عاقبة تركها ففي خبر صحيح عن الفضيل بن يسار قال: (قلت

ص: 26


1- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب مقدماتها، باب 4، ح1.
2- هذا الحديث والحديثان بعده تجدها في وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب مقدماتها، باب1.

لأبي عبد الله (علیه السلام): إني قد كففتُ عن التجارة وأمسكت عنها، قال (علیه السلام): ولمَ ذاك؟ أعجزٌ بك؟ كذلك تذهب أموالكم، لا تكفّوا عن التجارة والتمسوا من فضل الله عز وجل)(1).وقال (علیه السلام) عن رجل ترك التجارة: (أما علم أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قدمت عير من الشام فاشترى منها واتّجر فربح فيها ما قضى دينه).

وكان عدد من أصحاب الأئمة (علیهم السلام) يمتلكون ما يشبه اليوم الشركات المساهمة التي تستثمر أموالاً للناس ومنهم بريد العجلي وهو من وجوه أصحاب الإمامين الباقر والصادق (علیه السلام) وفي رواية صحيحة أنه أوصل سؤالاً إلى الإمام الصادق (علیه السلام) عن طريق صهره محمد بن مسلم –وهو من أفقه أصحاب الإمامين (سلام الله عليهما) (سل لي أبا عبد الله (علیه السلام) عن شيء أريد أن أصنعه إن للناس في يدي ودائع وأموال أتقلب فيها، وقد أردت أن أتخلّى من الدنيا وأدفع إلى كل ذي حق حقه) فأجابه الإمام (علیه السلام) بالنهي.

وفي الروايات عن سبب نشوء فرقة الواقفة أنه (مات أبو الحسن موسى بن جعفر (علیه السلام) وليس من قوّامه أحد إلا وعنده المال الكثير وكان ذلك سبب وقفهم وجحدهم موته وكان عند زياد بن مروان القندي سبعون ألف دينار وعند علي بن أبي حمزة ثلاثون ألف دينار)(2) الحديث.

وحادثة سعي علي بن إسماعيل بن جعفر الصادق (علیه السلام) بعمّه الإمام الكاظم (علیه السلام) لدى هارون العباسي خير شاهد على سعة أموال الإمام (علیه السلام)

ص: 27


1- هذا الحديث والحديثان بعده تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الحج، باب 2، ح8، 10، 9.
2- معجم رجال الحديث: 7/ 318.

ومما قال: (إن من كثرة المال عنده أنه اشترى ضيعة تسمى البشرية بثلاثين ألف دينار فلما أحضر المال قال البائع: لا أريد هذا النقد أريد نقد كذا وكذا فأمر بها فصُبّت في بيت ماله وأخرج منه ثلاثين ألف دينار من ذلك النقد ووزنه في ثمن الضيعة)(1).وبحسب بعض القرائن فإن هذه الأموال كانت نتيجة استثمارات حرّك بها الإمام (علیه السلام) أصحابه وليست من الحقوق الشرعية ونحوها، ومن تلك القرائن:

1- إن الروايات دلّت على أن الأئمة (علیهم السلام) إلى زمان الإمام الجواد (علیه السلام) كانوا متوقفين عن قبض الحقوق الشرعية إلا في حدود ضيقة جداً للتقية التي كانوا يعيشونها والمراقبة الشديدة من السلطات وتعرض دورهم باستمرار للمداهمة والتفتيش.

وتشير الروايات إلى أن الإمام الكاظم (علیه السلام) وآل أبي طالب عموماً كانوا في ضيق ففي إحدى استدعاءات هارون للإمام (علیه السلام) واستجوابه عن عدة أمور منها جبي الخراج من الشيعة له، قال (علیه السلام): (وقد علم أمير المؤمنين ضيق ما نحن فيه وكثرة عدونا وما منعنا السلف من الخمس الذي نطق لنا به الكتاب فضاق بنا الأمر وحرمت علينا الصدقة وعوضنا الله عز وجل عنها الخمس واضطررنا إلى قبول الهدية)(2).

وفي رواية أخرى إن هارون حمل إلى الإمام الكاظم (علیه السلام) خلعاً وأموالاً، فقال الإمام (علیه السلام): (والله لولا أنّي أرى أن أزوج بها من عزاب بني أبي طالب

ص: 28


1- بحار الأنوار للمجلسي، مج 11، صفحة 441.
2- بحار الأنوار للمجلسي، مج 11، صفحة 404.

لئلا ينقطع نسله ما قبلتها أبداً)(1).2- إن الإمام (علیه السلام) قضى شطراً كبيراً من فترة إمامته في سجون العباسين قيل إنها بلغت أربعة عشرة سنة مما لا يتيح له فرصة اللقاء بالأمة وقبض الحقوق منها.

3- إن الخبر السابق الذي تحدث عن أموال الإمام (علیه السلام) عند أصحابه سمّاهم (قوّامه) بمعنى أنهم كانوا قائمين على رعاية الأموال وتحريكها بما فيه صلاحها.

والنتيجة أن الأموال الكبيرة التي وضعها الإمام (علیه السلام) عند أصحابه وتقدمت الإشارة إليها لم تكن حصيلة تلك الهدايا والنزر اليسير من الحقوق الشرعية وجعلها أمانات عند أصحابه وإنما كانت نتاج مؤسسة اقتصادية ضخمة بناها الإمام (علیه السلام) من تلك الهدايا والهبات ونمّاها لشيعته ليديروا بها شؤونهم ويستغنوا عن الظلمة ويدفعوا بها شرّهم.

مشكلة البطالة لا تحل إلا بتنشيط القطاع الخاص:

نعاني اليوم مشكلة كبيرة وهي البطالة وكثرة العاطلين عن العمل، وكثير منهم من حملة الشهادات الجامعية، ولهذه المشكلة تداعيات اجتماعية ونفسية واقتصادية وحضارية وحتى أمنية لسنا بصدد تحليلها، وإن أي حكومة عاجزة عن استيعاب كل القادرين عن العمل في مؤسساتها وتوفير وظائف لهم، وقد بلغ عدد موظفي الدولة اليوم حوالي (2.5 مليون) عدا المتعاقدين وغيرهم وهذا

ص: 29


1- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب 51، ح11.

لا يتناسب مع حجم مؤسسات الدولة مما يؤدي إلى ترهل وبطالة مقنّعة وأعباء كبيرة على ميزانية الدولة، فالعراق ربما هو البلد الوحيد الذي تزيد ميزانيته التشغيلية أربعة أضعاف الميزانية الاستثمارية(1).وحل هذه المشكلة لا شك هو من واجبات الحكومة بإيجاد منافذ لتشغيل العاطلين ومن أهمها تنشيط القطاع الخاص ودعم المشاريع الزراعية والصناعية والثروة الحيوانية وغيرها وهذا الجزء من الحل له همومه وآلامه ومعوقاته.

لكننا نريد أن نتحدث عما نحن مسؤولون عنه من المشكلة وذلك لأن الأعم الأغلب من القادرين على العمل جعلوا همّهم كله في تحصيل وظيفة لدى الدولة وسدّوا على أنفسهم أبواب التفكير في منافذ أخرى ضمن القطاع الخاص أو ما يسمى بالمهن الحرة، أقول هذا وأنا أعلم أن صعوبات جمة تحيط بهذه الأعمال، لكن من الضروري أن نفكر ونخطط ونناقش الخيارات وندرسها ثم نشرع في الفرصة المتيسرة مع مساعدة بعضكم لبعض وكل بحسبه وحينئذٍ ستجدون البركات وتتأكدون كيف أن تسعة أعشار الرزق في التجارة والاستثمار.

وإذا أردتُ أن أتعمّق وأتوسع في بيان الحاجة وجدوى التوجه لتنشيط القطاع الخاص فأقول: أننا أمام مشاكل وتحديات خطيرة:

منها: أن عدد الأيتام والأرامل والمعوقين والمعوزين والمرضى وغير القادرين على الزواج والمحتاجين للوحدات السكنية بلغ الملايين ولا شك أن مسؤولية الجميع مساعدتهم ورفع معاناتهم وأن كل المؤسسات الخيرية

ص: 30


1- لاحظ اعتراف وزير التخطيط في الهامش صفحة 52.

ومنظمات المجتمع المدني تقريباً تعتمد على المبالغ المخصصة لها فتستهلكها وتبقى مكتوفة الأيدي وهذا لا يحل المشكلة ولا بأبسط صورها وإذا بقيت هذه المؤسسات استهلاكية فإنها ستفشل في أداء وظائفها بينما إذا فكرت بجانب الاكتفاء الذاتي وتوفير الأموال بالدخول في أعمال اقتصادية فإنها ستنجح في سد الكثير من الاحتياجات.ومنها: إن الأمن والاستقرار كلما ازداد في العراق فإن الشركات الأجنبية ستأتي إلى العراق وتسحب البساط من تحت أهله شيئاً فشيئاً وهذا ما بدأ فعلاً على ارض الواقع حيث انتشرت الأيدي العاملة الأجنبية وذكرت وسائل الإعلام قبل عدة أسابيع أن الحكومة العراقية طلبت من الحكومة الفلبينية رفع الحظر عن استقدام العمالة إلى العراق فما لم يتدارك العراقيون أمرهم وتصبح لهم قدرة المنافسة فإنهم سوف لا يجدون لهم مكاناً على أرضهم لا سامح الله.

تنشيط القطاع الخاص والمواجهة الحضارية:

إن السير في هذا الاتجاه أي تنشيط القطاع الخاص يحقق لكم خير الدنيا والآخرة من خلال الالتفات إلى أمور:

1- استيعاب الأيدي العاملة والقضاء على البطالة بدرجة كبيرة.

2- إنها مساهمة كبيرة في ازدهار البلاد وإعمارها وتطويرها إذ من المعلوم اقتصادياً أن مساهمة القطاع الخاص في اقتصاد وإعمار الدولة لا يقل شأنا عن مساهمة القطاع العام الذي ترعاه الدولة خصوصاً في العراق الناهض من ركام الحروب والدمار والقتل والتخريب.

ص: 31

3- إنها خطوة لمعالجة الفساد المالي والإداري الذي تعاني منه الدولة بسبب تصدي التجار والفاسدين والشركات الطفيلية لمقاولات البناء والإعمار والتجهيز وغيرها فيكون الحل بتسلم البديل الصالح لهذه المسؤولية.

4- إن التوجه في العراق الجديد يسير نحو الاقتصاد الحر وسيكون في يوم ما مسرحاً لتنافس الشركات العالمية بكل ما تحمله من تأثيرات أخلاقية وثقافية واجتماعية واقتصادية فلا بد لأبناء هذا البلد من الاستعداد لملء الفراغ بالمقدار الذي يمنع التداعيات والتأثيرات السلبية لهذا الانفتاح الذي تقتضيه العولمة.

وهذه المنافسة لا تولد في لحظة وإنما تتطلب شروعاً مبكراً وتضافر جهود الجميع.

5- إن لدى الناس فوائض نقدية لا تنتج شيئاً بمفردها لقلتها كمليون أو مليوني دينار وهم يرغبون باستثمارها فيكون الحل بتأسيس شركات مساهمة تجمع هذه الأموال وتشغلها في مشاريع تعود بالنفع على الجميع وإلا فإنهم لحرصهم على عدم تجميد أموالهم يقعون في فخوخ الشركات الوهمية والمحتالة التي تعتمد التسويق الشبكي وأمثالها فنتحمل نحن مسؤولية إيجاد البديل.

6- إن الأزمة المالية العالمية المستمرة إلى اليوم منذ أشهر وتعرض النظام الاقتصادي الرأسمالي للنقد والإشكال دفع الخبراء إلى دراسة المشروع الإسلامي في الاقتصاد وإدارة الأموال الذي كان الناجي الوحيد من هذه الأزمة، ومن مقومات النظام المالي في الإسلام البنوك التي لا تعتمد الفائدة الربوية ولكي تنجح هذه البنوك في إقناع زبائنها وتقديم الأرباح لهم لا بد أن

ص: 32

تهيئ فرص استثمار هذه الأموال قبل تسلمها من المشتركين، فتكون الخطوة الأولى إذن قبل تأسيس المصارف الإسلامية هي تأسيس الشركات الاستثمارية وتنمية قدراتها على تشغيل تلك الأموال وتكون هذه الحركة المباركة وسيلة من وسائل المواجهة في الصراع الحضاري مع الذين أعلنوه.7- إن بعض الوظائف الحكومية سواء كانت مدنية أو عسكرية فيها ظلم وعدوان وارتكاب للمحرمات الشرعية وإن الموظف المنتسب لا يمكنه التخلف عن تنفيذ الأوامر فهو مضطر للاستجابة وإلا يفصل من وظيفته وهكذا يتحول إلى أداة للظلم وهو ما حذّر منه الأئمة (سلام الله عليهم) والقرآن الكريم وأن عاقبته أليمة فالأسلم للإنسان المؤمن أن يبتعد عن مثل هذه الوظائف ويطلب الرزق الحلال في غيرها.

8- من المعلوم أن الاقتصاد عصب الحياة ومن يملك زمام الاقتصاد ويكون له دور مؤثر فيه فإنه سيكون مؤثراً في كل معالم الحياة الأخرى السياسية والاجتماعية وحتى العقائدية، ولقد كان من تخطيط أئمة أهل البيت (علیهم السلام) لأتباعهم هو استقلالهم اقتصادياً عن الحكومات مما ساعدهم على حفظ هويتهم وخصوصياتهم وجنّبوا أنفسهم من الذوبان في الأنظمة الحاكمة التي التفتت إلى عنصر القوة هذا في مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) فعملوا دائماً على تجفيف المنابع المالية لأتباع أهل البيت ومصادرة أموالهم فكان الاستقلال الاقتصادي وسيلة لحريتهم وكرامتهم.

9- إن رواتب الموظفين الحكوميين غالباً -عدا ذوي الدرجات الخاصة- لا تكفي لسد الاحتياجات الأساسية للمعيشة فضلاً عن تلبية متطلبات الحياة

ص: 33

الكريمة لذا فالموظف إما أن يبقى يعيش حالة الكفاف وجشوبة العيش، أو يتوجه إلى الوسائل غير الشريفة والعياذ بالله أما التوجه إلى القطاع الخاص فإنه يفتح فرصاً وآفاقاً واسعة للكسب والاسترباح بلطف الله تعالى.لقد تضمن عهد الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى مالك الأشتر لما ولاه مصر اهتماماً خاصاً بتنشيط القطاع الخاص، فإنه (علیه السلام) بعد أن ذكر شرائح المجتمع من الجنود والقضاة والعمال والكتاب قال (علیه السلام): (ولا قوام لهم جميعاً إلا بالتجار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم، ويقيمونه من أسواقهم).

ولا شك أن التجارة والأعمال الصناعية ونحوها من الفنون لا يجيدها كل أحد ف-(الإنسان ميسّر لما خلق له) كما في الحديث فهذا المشروع الذي نذكره الداعي إلى نهضة واسعة في القطاع الخاص موجه إلى من عنده الكفاءة والفطنة لمباشرته وإلى المتمولين وذوي النفوذ الذي يستطيعون مد يد العون لإخوانهم لمساعدتهم في مرحلة التأسيس، وقد قلت هذا الكلام لرفع الهمة والحماس والطموح وعدم الاقتصار على الحالة الوظيفية الرتيبة، لأن الأنظمة الجائرة خصوصاً نظام صدام المقبور قتل كل طموح لدى العراقيين وأحبط كل همة عالية، حتى استرخى الأكثر لحالة هي دون الكفاف فضلاً عن الحياة الكريمة التي ورد طلبها في الدعاء. وهذه الحالة أكثر وضوحاً عند العراقيين الذين لم يتركوا العراق ولم يطّلعوا على العالم الخارجي.

لقد أشرنا في خطبة عيد الفطر الفائت إلى أن من المعاني الإيجابية للانتظار والتمهيد للظهور الميمون: هذه الحركة المباركة.

ص: 34

اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات تابع اللهم بيننا وبينهم بالخيرات إنك مجيب الدعوات بحق محمد وآله الطاهرين.

ص: 35

خطاب المرحلة 211 :يوم النزاهة والعدالة والنظام الأمثل للحكم

خطاب المرحلة 211 :يوم النزاهة والعدالة والنظام الأمثل للحكم(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

يمكن أن نسمي هذا الأسبوع (بين الثامن عشر من ذي الحجة والخامس والعشرين منه) بأسبوع أمير المؤمنين (علیه السلام) وإن كانت الأيام كلها تشهد لأمير المؤمنين (علیه السلام) بالمناقب والفضائل، حتى أحدهم سُئل عن فضل أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: ما أقول في رجل كانت له في ليلة واحدة ثلاثة آلاف منقبة، قيل له وكيف كان ذلك قال: أليس أن سلام الملائكة على الإنسان منقبة، وقد روينا أنه في ليلة معركة بدر حينما أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (ع) ليجلب الماء من آبار بدر التي سيطر عليها المشركون وفي طريق عودته كانت تأتي ريح عاصف تأخذ القربة من يده وتريق ماءها على الأرض وتكرّرت الحادثة ثلاث مرات وفي الرابعة أوصل الماء إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأصحابه وسأل النبي (صلی الله علیه و آله) عن سبب تأخره (وكم سائلٍ عن أمره وهو يعلمُ) وشرح له الحال قال (صلی الله علیه و آله) والصحابة يسمعون: اعلم يا علي أن الريح الأولى كان فيها جبرئيل وألف من الملائكة نزلوا للسلام عليك وكان في الثانية والثالثة ألفان

ص: 36


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي في مجلسه العام يوم الخميس 26/ ذ.ح/ 1429 بعد أن ألقى شاعر قصيدة في المناسبات المذكورة.

آخران مع ميكائيل وإسرافيل.لكن العادة جرت بتحديد أيام للاحتفال بعظماء الأمم والقضايا المؤثرة في مسيرة حضارتها. وقد شهد هذا الأسبوع كما هو معلوم بيعة الغدير وتنصيب أمير المؤمنين (علیه السلام) ولياً وهادياً وإماماً للأمة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وفي الرابع والعشرين والخامس والعشرين منه تصدّق أمير المؤمنين بالخاتم و باهَلَ النبي (صلی الله علیه و آله) به وبزوجه الصديقة الطاهرة الزهراء وولديه الحسنين (سلام الله عليهم أجمعين) نصارى نجران ونزلت سورة (هل أتى) أو (الدهر) أو (الإنسان) في حقّهم.

وسائلٍ هل أتى نصٌ بحق عليٍ *** أجبته (هل أتى) نص بحق علي

وتوجد مناسبة أخرى قلَّ من يلتفت إليها وهي مناسبة إعادة حقه في الخلافة الظاهرية - كما يعبّرون - وبيعة الناس له بإجماعٍ لم يكن له نظير، قال ابن الأثير في تاريخه (الكامل): قتل الخليفة عثمان يوم الجمعة الثامن عشر من ذي الحجة وبويع لعلي (علیه السلام) يوم الجمعة الخامس والعشرين سنة 35 للهجرة، ويوم تسلّم أمير المؤمنين (علیه السلام) الحكم هو بحق يوم العدالة والنزاهة والمبادئ والفضائل ونظام الحكم الأمثل وإقامة دولة الحق والعدل لو وجد من استثمر تلك النعمة وحافظ عليها وعمل على إدامتها وصيانتها، وكان من كلماته (ع) لمّا بويع بالخلافة معلناً إعادة الأموال العامة والعقارات والأراضي الزراعية التي أقطعها عثمان لحاشيته ومستشاريه وأقربائه (ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مالٍ أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال، فإن الحق القديم لا يبطله شيء، والله لو وجدته قد تزوج به النساء، وملك به الإماء، لرددتُه،فإن في

ص: 37

العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل، فالجور عليه أضيق)(1) وقال (علیه السلام) في تفسير تصدّيه لإدارة شؤون الأمة (اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان، ولا التماسَ شيءٍ من فضول الحطام، ولكن لنردَّ المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمَنُ المظلومون من عبادك، وتقام المعطّلة من حدودك)(2) فإذا وجد يوم أو أسبوع يستحق أن تحتفل به الإنسانية يوماً للعدالة والنزاهة والشفافية مع الأمة وإعادة الحق إلى نصابه فهو يوم الخامس والعشرون من ذي الحجة الذي يُتوّج أسبوع أمير المؤمنين(ع).

ص: 38


1- نهج البلاغة،ج1، الخطبة 15، وذكرت بقية الخطبة من مصادرها الأصلية في كتاب (مصادر نهج البلاغة وأسانيده) :1/ 350
2- نهج البلاغة، ج1، الخطبة 131

خطاب المرحلة 212 :حياة الحسين كلها مواقف خالدة

خطاب المرحلة 212 :حياة الحسين كلها مواقف خالدة(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

كلما يذكر الحسين (علیه السلام) تذكر معه كربلاء وكلما تذكر كربلاء يذكر معها الحسين (علیه السلام)، ويذكر معهما عاشوراء، وهذا الترابط الوثيق لان هذا المكان والزمان سَجَّلا للإمام الحسين (علیه السلام) وأصحابه موقفاً عقمت الأيام عن الإتيان بمثله في كل أبعاده خصوصاً المبدأي الذي جسده الإمام الحسين (علیه السلام) بأقواله وأفعاله وفي جميع مراحل مسيرته المباركة. والعاطفي الذي فجرته المأساة، فقد ورد في رواية عن الإمام الرضا (علیه السلام) (إن يوم الحسين أقرح جفوننا وأسبل دموعنا وأذل عزيزنا، بأرض كرب وبلاء، وأورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين فليبكِ الباكون)

أنست رزيُتكم رزايانا التي *** سلفت وهونت الرزايا الآتية

وفجائع الأيام تبقى مدة وتزول *** وهي إلى القيامة باقية

وموقفٌ واحد مما تضمنته صحائف البطولة والمبادئ الإنسانية العليا في واقعة كربلاء كفيلٌ بتخليد صاحبه، لأن الإنسان يبقى بآثاره التي يُذكر بها

ص: 39


1- الكلمة التي كتبها سماحة الشيخ اليعقوبي تلبية لطلب الأخوة القائمين على موقع المرجعية باللغات الألمانية والانكليزية والتركية لترجمتها ونشرها بمناسبة ذكرى عاشوراء وتاريخها 7 محرم 1430 الموافق 4/ 1/ 2009.

(والذكرُ للإنسان عمرٌ ثاني) فها هو الحر الرياحي (رضوان الله تعالى عليه) قضى حياته في خدمة الطواغيت لكنه التفت في لحظة إلى عاقبة أمره وخيّر نفسه بين الجنة التي ثمنها نصرة الحسين (علیه السلام) والشهادة بين يديه، والنار التي تعقب ملك بني أمية ونعيمهم المزيَف، ولم يكن ليختار على الجنة شيئاً أبدا.وهذا وهب بن حباب الكلبي رجل مسيحي لا يعرف عن الإسلام شيئاً لكن أخلاق الإمام الحسين (علیه السلام) وسمو ذاته صعقته فأنقاد إليه وأسلم على يديه وقاتل دونه حتى أستشهد.

وهذا زهير بن القين كان عثماني الهوى بعيداً عن أهل البيت (علیهم السلام) لكن كلماتٍ من الإمام الحسين (علیه السلام) ملأت عليه قلبه وعقله وروحه فتعلق بالإمام (علیه السلام) وصحبه حتى قضى نحبه شهيداً.

وهذا (جون) عبد أسود مولى لأبي ذر الغفاري رخّص له الإمام الحسين (علیه السلام) بالانصراف ليلة العاشر من محرم وقال (علیه السلام) له (إنك إنما تبعتنا طلبا للعافية) لكن جون أراد أن يختلط دمه بدماء السادة الكرام من آل النبي (صلی الله علیه و آله) فقاتل حتى استشهد ووقف الإمام (علیه السلام) على مصرعه وأكبّ عليه يدعو الله تبارك وتعالى أن يطيب ريحه ويجمعه مع النبي وآله (صلى الله عليهم أجمعين).

فهؤلاء لم يكن لديهم شيء يُذكرون به إلا موقفهم مع الإمام الحسين (علیه السلام) لكنه - لعظمته- كان كافياً لتخليدهم

ص: 40

نصروا ابن بنت نبيّهم طوبى لهم *** نالوا بنصرته مراتب سامية

قد جاوروهُ هاهنا بقبورهم *** وقٌصوُرهم يوم الجزا متحاذية

وقد ملكوا التاريخ بهذا الموقف ولم يملكوه بعدد من قتلوهم أو قاتلوهم أو أي شيء آخر، وليفهم هذه الحقيقة من يستشكل على من يعدد فضائل أمير المؤمنين (علیه السلام) بقتله عمرو بن عبد ود في معركة الخندق ومرحبا اليهودي في خيبر بان عنترة بن شداد قتل أيضاً الإبطال والأقران، فهذا لا يفهم إن العظمة في الموقف الذي من ملكه ملك المفاصل التاريخية لأنها مفاتيحه كالجيش الذي يمسك بممر استراتيجي أو ثغر قاتل لخصمه فينتصر.

وإذا كان موقف مثل يوم كربلاء كافٍ للخلود فإن حياة الحسين (علیه السلام) كلها مواقف وما يوم كربلاء إلا يوماً واحداً من أيام حياته الشريفة التي امتدت (57) عاماً.

فمنذ كان طفلاً صغيراً يذهب هو وأخوه الإمام الحسن المجتبى (ع) مع أبيهما أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى مسجد جدهما رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيستمعان إليه (صلی الله علیه و آله) يبين ما أوحى إليه وينقلانه إلى أمهما فاطمة الزهراء (علیها السلام) حتى رحل جدهّما وأمهما صلوات الله عليهما وكانت لهما مواقف مع غاصبي حق أبيهما أقاما فيها الحجة والدليل على الظالمين.

وكان مع أبيه أمير المؤمنين (علیه السلام) في جميع معاركه ومراحل حياته حتى أستشهد في محراب مسجد الكوفة المعظم ومع أخيه الإمام الحسن (علیه السلام) مؤازراً ومسلّيا ومدافعاً حتى أستشهد سلام الله عليه. وعُرف وأخوه الإمام

ص: 41

الحسن (علیه السلام) بالكرم والعطاء الجزيل الذي كان يغني الآخذ، وكان يعول بالكثير من العوائل التي فقدت أولياء أمورها في المعارك مع الذي خرجوا على أمير المؤمنين (علیه السلام) فأزهقت أرواح الآلاف.وكانت له حلقة علمية لتفسير القرآن في مسجد النبي (صلی الله علیه و آله) فيجيب على المسائل التي تستعصي على كبار الصحابة كما ورد في الرجل الذي سأل عن تفسير قوله تعالى (وشاهد ومشهود).

وكان (ع) لا تأخذه في الله لومة لائم يقول كلمة الحق في وجه الطغاة والظالمين ورسالته إلى معاوية لما قتل الكرام من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) حُجر بن عدي الكندي وعمرو بن الحمق الخزاعي ذكر فيها مثالب معاوية(1) وأسرته وحذرّه من مغبة عمله، لكن الذي منعه من الخروج على معاوية بالسيف التزامه بالوثيقة التي وقعها أخوه الإمام الحسن (علیه السلام) مع معاوية لإنهاء القتال ولم يفِ معاوية بشيء منها.

حتى كان ما كان من أمر تولي يزيد أمور المسلمين بعد وفاة معاوية فصدع الإمام (علیه السلام) بمعارضته ورفضه طاعة اللئام فآثر مصارعة الكرام (ألا وإن

ص: 42


1- مما جاء فيها (ألستَ القاتل حجر بن عدي أخا كندة؟ والمصلين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ويستعظمون البدع، ولا يخافون في الله لومة لائم، ثم قتلتهم ظلما وعدوانا، بعدما كنتَ أعطيتهم الإيمان المغلظة، والمواثيق المؤكدة، لا تؤاخذهم بحدثٍ كان بينك وبينهم، ولا بإحنةٍ تجدها في نفسك)وفيها (أولستَ قاتل عمر بن الحمق صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحلت جسمه، وصفرت لونه، بعدما أمنته وأعطيته من عهود الله ومواثيقه ما لو أعطيته طائرا لنزل إليك من رأس الجبل، ثم قتلته جرأة على ربّك واستخفافا بذلك العهد).

الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلةِ والذلةِ وهيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك ورسوله وحجور طابت وطهرت ونفوس أبية من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام).كان (ع) حنوناً عطوفاً حلو المعاشرة شمل برحمته حتى أعداءه حيث بكى على قاتليه شفقة من دخولهم النار بسبب جرأتهم على قتله.

وكان يغدق بالعطاء بمسألة وبغير مسألة ولا يظهر أمام السائل وإنما يعطيه من وراء الباب ويفسر (ع) ذلك بأنه كان لا يريد أن يرى في نفسه عزة المسؤول ولا في الآخر ذلة السؤال.

التفَّ الناس حوله وأحبّوه حتى وُصِف يوم وصول خبر استشهاده إلى المدينة المنورة أنه كيومٍ مات فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأن المدينة ضجّت بأهلها حزناً على فقده حتى أن مثل مروان بن الحكم الباغي عليهم والذي قسى قلبه فهو كالحجارة أو أشد قسوة كان يحضر إلى البقيع ويستمع إلى البكاء والمراثي التي كانت تنشدها أم البنين زوجة أمير المؤمنين أم العباس وأخوته فيبكي معهم كما روى أبو الفرج في مقاتل الطالبيين.

وكان متواضعاً يمشي وسط الناس ويجالس العبيد ويأكل معهم، مشى من المدينة إلى مكة المكرمة (480 كيلومتراً) حاجا عشرين حجة ماشيا على قدميه وإن النجائب (الخيول الأصيلة) لتقاد بين يديه لإركاب العاجز والضعيف تعظيما للبيت الحرام وتواضعا لله تبارك وتعالى، وكان لا يسير في الطريق العام خشية أن يتهافت عليه الناس تعظيما وتقديسا له وتبركا به ويقول (ع) (لا أريد أن أأخذ من رسول الله ص أكثر مما أعطيه).

ص: 43

وأما معرفته برّبه فهو سيد العارفين وابن سيد العارفين، ويتعلم من دعائه الشريف يوم عرفة العرفاء الشامخون وفيه يخاطب ربه راهباً متضرعاً (كيف يُستدل ُّ عليك بما هو في وجوده مفتقرٌ إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المُظهِرُ لك، متى غبتَ حتى تحتاج إلى دليلٍ يدلُّ عليك، ومتى بعُدتَ حتى تكون الآثارُ هي التي توصل إليك، عميت عين لا تراك عليها رقيبا، وَخسرت صفقة عبدٍ لم تجعل له من حُبكَ نصيباً) ويناجي ربه وهو صريع قد فَقَدَ أحبته وأولاده وإخوانه (إلهي إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى، لك العتبى يا رب).هكذا كانت أيام الحسين (علیه السلام) كلها عظمة ونبل وسمو وأخلاق فاضلة وشجاعة وبطولة وكرم وإباء وهداية إلى السعادة والكمال. فلننهل من سِفرِ الحسين (علیه السلام) كل هذه المآثر ولنأخذ من كل أيام الحسين (علیه السلام) وإن كان يوم الطف وحده كافياً ولذا قيلت الكلمة المشهورة (سُفرةُ الحسين واسعة) لأن كل من طلب الكمال والعظمة بكل جوانبها وجدها في سِفرِ الحسين (علیه السلام).

السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين ورحمة الله وبركاته.

ص: 44

خطاب المرحلة 213 :توجهات الناخبين أثبتت انتصار مشروع المرجعية

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد أثبتت توجهات الناس في انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة(1) نجاح المشروع الوطني ومبادئ الإصلاح السياسي التي عرضتها المرجعية الرشيدة خلال السنوات الماضية في خطاباتها وأحاديثها، وجاهدت من أجل توعية الناس بها وتثبيتها كمعايير لتقييم المتصدين لإدارة البلاد، ولم تثنها عن المضي في طريق الأنبياء والأئمة (علیهم السلام) الإغراءات ولا ما لاقته بسبب ذلك من العنت والمشقة والتسقيط والتشويه، كما تعرّض أتباعها إلى الحرمان والإقصاء والتصفية. لأن مصالح البعض كانت مبنية على إبقاء العقد والأزمات والتناحر والضعف والتشتت.

واليوم يرى جميع المراقبين كيف تحولت تلك الأفكار والمشاريع إلى ثقافة عامة حتى أن الذين سخروا من تلك المبادئ حين عرضها وقاوموها بكل ما أوتوا من سلطة وإعلام وأموال تبنّوها اليوم وأصبحت مادتهم في الدعاية الانتخابية وأصبحت هي الفيصل في كسب أصوات الناخبين ففاز في الانتخابات من تبنّاها، وخسر من بقي على ثوبه القديم.

ص: 45


1- بعد تأجيلات عديدة جرت انتخابات مجالس المحافظات يوم 4 صفر 1430 المصادف 31/ 1/ 2009، وصدر هذا البيان عن مكتب المرجعية يوم 21 صفر 1430 المصادف 17/ 2/ 2009.

وسنذكّركم بجملة من تلك المبادئ والآليات العملية وتجدون تفصيلاتها في خطابات المرحلة والأحاديث والخطوات العملية التي أعلنتها المرجعية الرشيدة خصوصاً تلك التي أعقبت اشتعال الفتنة الطائفية مطلع عام 2006 حتى اليوم ومنها:1- نبذ الطائفية والخروج من التخندق الطائفي وتفكيك الائتلافات المكوّنة على أساس طائفي أو عرقي وتشكيل الكتل على أسس الوطنية والبرامج الصالحة.

2- صيانة وحدة العراق ورفض كل أشكال التقسيم. وتأجيل النظر في تطبيق الفيدرالية.

3- تقوية الحكومة المركزية مع إدارة لا مركزية للمحافظات لتقويتها وتنمية كوادرها وإصلاح شؤونها.

4- إقامة دولة القانون وحكومة ملتزمة به وليس حكومة أحزاب.

5- حل الميلشيات والقضاء على الإرهاب والجماعات المسلحة وحصر السلاح بيد السلطة الشرعية.

6- الجدّية في إجراء المصالحة الوطنية ومعالجة كل القرارات الخاطئة التي صدرت في الفترة السابقة كحل الجيش والتوظيف السياسي لقانون الاجتثاث ونحوها.

7- بناء قوات مسلحة قوية وقادرة على حفظ أمن البلاد وحماية حدوده وسيادته تمهيداً للانسحاب الكامل للقوات الأجنبية.

8- التوزيع العادل للثروة فإنها ملك الشعب وضمان الحياة الكريمة للإنسان.

ص: 46

9- تعديل الدستور ومعالجة كل الفقرات التي تسبب الاحتقان وتبقى قنابل موقوتة تثير التوترات باستمرار.

10- مكافحة الفساد المالي والإداري.

11- جعل معايير التقييم وتقلّد المناصب هي الكفاءة والنزاهة والوطنية والإخلاص للشعب، وأن يكون معيار نجاح المسؤول هو مقدار خدمته للناس وإسعادهم.

12- إعطاء العشائر دورها الذي تستحقه في المساعدة على استتباب الأمن والإعمار.

13- تنشيط القطاع الخاص وإصلاح الواقع الزراعي والصناعي والتعليمي لأنها الثروة الحقيقية والبنية التحتية للبلد.

14- عدم المتاجرة بالدين وتوظيفه للأغراض السياسية.

15- تحسين الخدمات ليشعر المواطن بالتغيير خصوصاً في الصحة والكهرباء والماء والمجاري والتعليم.

إننا حينما نذكر هذه النقاط نستهدف:

1- إنها أمانة تاريخية أن تحفظ الحقوق لأهلها.

2- ليجعل الشعب نصب عينيه هذا البرنامج حتى يحاسب المتصدين في المرحلة الجديدة على تنفيذهم لهذه الوعود.

3- لألفات نظر الناس خصوصاً الواعين إلى أن يميّزوا (فأن من طلب الحق فأخطأه ليس كمن طلب الباطل فأدركه) على تعبير أمير المؤمنين (علیه السلام).

نسأل الله تعالى أن يسدد خطى ولاة الأمور لما فيه مرضاته وصلاح العباد والبلاد.

ص: 47

خطاب المرحلة 214 :لن نُصابَ بمثلك يا رسول الله

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سادة الخلق أجمعين أبي القاسم محمد المبعوث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين.

تستوقفنا في ذكرى وفاة رسول الله(1) (صلی الله علیه و آله) عدة أمور:

الأول: كانت وفاته (صلی الله علیه و آله) شهادة على أن البقاء لله وحده قال تعالى: [إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ] (الزمر:30) وقال الإمام الحسين (علیه السلام) ليلة عاشوراء لأخته العقيلة زينب (علیها السلام): (إن أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون) ولو استحق أحد أن يبقى لكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأنه أكمل الخلق وأفضلهم وجعل الكون بما فيه طوع إرادته وهو عند الله تعالى أكرم من نبيه سليمان بن داود الذي قال فيه أمير المؤمنين (علیه السلام): (ولو أن أحداً يجد إلى البقاء سلّماً، أو لدفع الموت سبيلاً، لكان ذلك سليمان بن داود (علیه السلام)، الذي سُخّر له مُلك الجن والإنس، مع النبوة وعظيم الزلفة. فلما استوفى طُعمته، واستكمل مدّته، رمَته قِسيُّ الفناء بنبال الموت، وأصبحت الديار منه خالية والمساكن معطّلة،

ص: 48


1- حديث سماحة الشيخ اليعقوبي من قناة (أهل البيت) الفضائية ليلة وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في 28 صفر 1430 المصادف 24/ 2/ 2009.

وورثها قومٌ آخرون)(1) وفي ذلك موعظة للخلق جميعاً.الثاني: هوان الدنيا على الله تبارك وتعالى حين يُخليها من رسول الله (صلی الله علیه و آله) فما قيمتها بدونه (صلی الله علیه و آله) فأصبحت الدنيا بفقده مظلمة، والآخرة بنوره مزهرة، وفي ذلك عبرة لمن تطمح عينه إلى الدنيا ويجعلها هدفاً لحياته، قال أمير المؤمنين (علیه السلام): (ولقد كان في رسول الله (صلی الله علیه و آله) كافٍ لك في الأسوة، ودليل لك على ذم الدنيا وعيبها، وكثرة مخازيها ومساويها، إذ قُبضت عنه أطرافها، وَوُطِّئت لغيره أكنافها، وفُطمَ عن رضاعها، وزوي عن زخارفها) (فتأسَّ بنبيِّك الأطيب الأطهر (صلی الله علیه و آله) فإن فيه أسوةً لمن تأسّى، وعزاءً لمن تعزّى. وأحبُّ العباد إلى الله المتأسّي بنبيه والمقتصّ لأثَرِه) (عُرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها، وعلمَ أن الله سبحانه أبغضَ شيئاً فأبغضه، وحقَّر شيئاً فحقّره، وصغّر شيئاً فصغّره. ولو لم يكن فينا إلا حبُّنا ما أبغضَ اللهُ ورسولُه وتعظيمُنا ما صغّرَ اللهُ ورسولُه، لكفى به شقاقاً لله، ومحادَّةً عن أمر الله)(2)

الثالث: انقطاع جملة من البركات كانت مرتبطة بشخصه المبارك ووجوده بين الناس (منها) الوحي المباشر الذي كان ينزل عليه (صلی الله علیه و آله) (ومنها) ارتفاع ألوان من العذاب، قال تعالى: [وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ] (الأنفال:33) وورد في أخبار الفريقين أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (أنزلَ الله عليَّ أمانين لأمتي: [وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ] فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم

ص: 49


1- نهج البلاغة، الخطبة 182، صفحة 262، شرح د. صبحي الصالح، بيروت 1967.
2- نهج البلاغة، الخطبة 160، صفحة 226-228.

القيامة)(1) ومع ذلك فإن خيره وبركاته متواصلة حتى بعد وفاته، عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): مقامي بين أظهركم خير لكم فإن الله يقول: [وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ]، ومفارقتي إياكم خير لكم. فقالوا: يا رسول الله مقامك بين أظهرنا خير لنا فكيف يكون مفارقتك خير لنا؟ فقال: أما مفارقتي لكم خير لكم فإن أعمالكم تعرض علي كل خميس واثنين فما كان من حسنة حمدت الله عليها، وما كان من سيئة أستغفر الله لكم)(2).الرابع: انفتاح باب الظلم والعدوان على آل بيت النبي (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) وقد قال (صلی الله علیه و آله) لأهل بيته: (أنتم المستضعفون بعدي) وحصل ما حصل على دار علي وفاطمة (صلوات الله عليهما وآلهما) - لذا لا يكاد ينفك الحديث عن وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الحديث عما تعرضت له الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام)- مخالفين بذلك قول الله تبارك وتعالى: [قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى] (الشورى: 23) ووصايا نبيه الأكرم (صلی الله علیه و آله) الكثيرة.

الخامس: الانقلاب على الأعقاب ومخالفة وصية رسول الله (صلی الله علیه و آله) في أمير المؤمنين (علیه السلام) بالإمامة والخلافة، قال تعالى: [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ] (آل عمران:144) وهذه أهم قضية بلّغها رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأدّاها عن ربه بنص القرآن الكريم قال تعالى: [يَا أَيُّهَا

ص: 50


1- الميزان في تفسير القرآن، في ذيل الآية 33 من سورة الأنفال.
2- الميزان في تفسير القرآن: 9/ 86.

الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ] (المائدة:67).وكل واحد من هذه الأمور يستحق أن نطيل الوقوف عنده والتأمل فيه، ولكن الوقت لا يسع لذلك فنقتصر على الأخير لأهميته.

إن قضية الإمامة والخلافة أعظم قضية في الإسلام فهي مفتاح كل خير لو أن الأمة اهتدت إليها وأخذت بها، ومفتاح كل شرّ - والعياذ بالله- من سفك دماءٍ وتخريب ديار وانحرافٍ عن الدين، عندما يتخلفون عنها، وقد كان النبي (صلی الله علیه و آله) بدأ التصريح بها والدعوة إليها منذ أيام الإسلام الأولى عندما نزلت الآية الشريفة [وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] (الشعراء:214) فقد روى الفريقان أن النبي (صلی الله علیه و آله) جمع بني عبد المطلب وكانوا أربعين رجلاً ودعاهم إلى الإيمان ومؤازرته واختار علياً ليكون وصيه وخليفته(1) ثم والى (صلی الله علیه و آله) الإعلان والتبليغ بها حتى دعاه الله تبارك وتعالى إلى إكمال الدين وإتمام النعمة بإلزام المؤمنين بولاية علي بن أبي طالب (علیهما السلام) في غدير خم قبل وفاته (صلی الله علیه و آله) بشهرين وعشرة أيام، لكن بعض الصحابة ولأسباب معلومة نكثوا البيعة، وعندما حاول (صلی الله علیه و آله) تأكيدها قبل وفاته بأربعة أيام أي يوم الخميس الذي سبق وفاته يوم الاثنين حصل لغط وخلاف بين الصحابة فقال (صلی الله علیه و آله) لهم: قوموا، ثم أوصى أهل بيته بالاستعداد للبلاء واتخاذ الصبر جلباباً، هذه الحادثة التي أطلق عليها عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن: (رزيّة يوم الخميس) لأنها أساس المصائب والانحراف عن خط الرسالة.

ص: 51


1- الميزان في تفسير القرآن: ذيل تفسير الآية 214 من سورة الشعراء.

الانحراف الذي بدأ –كأي خط مائل عن الخط المستقيم- يسيراً ثم ازداد بعداً كلما تقدم الزمن فبدأت عُرى الإسلام تُنقَض، ومقدساته تنتهك ولم تبق حرمة له حتى آلت الخلافة إلى أناس يقتلون أولاد النبيين ويحرقون الكعبة ويشربون الخمر ويفعلون المنكرات جهاراً على منابر المسلمين، ونشأت أجيال من المسلمين لا تفقه من أحكام الإسلام شيئاً لأن الناس على دين ملوكهم، ولا سبيل للوصول إلى الأئمة الهداة الحقيقيين فهم معتقلون ومعذبون ومحاصرون، وكان الداخلون الجُدد في الإسلام من الأمم التي غزاها المسلمون لا يرون من الإسلام إلا ما يظهر على سلوك الأمراء، ولولا جهاد وجهود الأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) والثلة المباركة من أصحابهم لما بقي للدين عين ولا أثر كأبان بن تغلب الذي قال فيه الإمام الصادق (علیه السلام) لما بلغه موته: (لولا أبان لمات فقه أبي).وكان لهذا الانقلاب على وصية رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مستحقي الإمامة والخلافة من بعده وإقصاء القادة الحقيقيين للأمة آثار(1) كارثية وويلات عظيمة على الأمة:

منها: تصدي غير المؤهلين للخلافة بل الفاسدين من بني أمية وبني العباس وأضرابهم مما أدى إلى:

1- تشوّه صورة الإسلام نفسه لأن أي دين أو نظام أو آيديولوجية تُقيَّم من خلال سلوك القائمين عليها لعدم التفكيك بين النظرية والممارسة والتطبيق، فلما

ص: 52


1- تجد تفصيل هذه النقاط في خطاب سابق لسماحة الشيخ اليعقوبي بعنوان (ماذا خسرت الأمة حينما ولّت أمرها من لا يستحق) وهو منشور في كتاب (الأسوة الحسنة).

يتصدى للحكم باسم الإسلام قتلةٌ ومجرمون وفاسدون فإنهم يشوّهون صورته.2- طمع أعداء الإسلام في الكيد له واستئصال قواعده وتعاليمه حيث وجدوا لهم منفذاً بل حظوة لدى أولئك المتسلطين الجبابرة.

3- ضياع مقاييس ومعايير الاستحقاق لهذا المنصب العظيم فأصبحت هدفاً لكل الطامعين في السلطة والحكم ولو بالقهر والسيف ما دام الحكم لمن غلب.

ومنها: ابتداع وسائل من صنع الإنسان للوصول إلى التشريعات كالقياس والشورى وأمثالها لابتعادهم عن مصادر التشريع الأصلية ولحاجتهم إلى قوانين تؤصّل لسلطتهم وتعطيهم الشرعية؛ لذا تبدلت الأحكام وصارت القوانين التي تحكم الحياة وضعية وليست إلهية.

ومنها: عرقلة تربية البشرية وتكاملها، لأن المعلم يجب أن يكون عالماً والواعظ متّعظاً والمصلح صالحاً فكيف يربي الأمة من يتبع هواه ويطلق لنفسه الأمارة بالسوء العنان وقد جعل الشيطان ولياً له من دون الله العظيم فافتقدت الأمة الأسوة الحسنة والمربي الصالح الحنون إلا القليل ممن اهتدى إلى الحق ورزقه الله اتباعه، وعلى العكس من ذلك فقد شجعت تلك السلطات الفساد والانحراف وكانت تمارسه علناً وتوفّر أسبابه.

ومنها: تمزّق الأمة وتشتتها إلى فرق وأحزاب وطوائف متناحرة يستحل بعضهم دماء البعض الآخر [كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ] (المؤمنون: 53) ولم يلتفتوا إلى وصية الله تبارك وتعالى: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا] (آل عمران:103) وقوله تعالى: [وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] (الأنفال:46) وقد فسّرت الأحاديث الشريفة حبل الله بالقرآن الكريم وعترة

ص: 53

النبي (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته.ومنها: انحسار دور الدين عن التأثير في حياة الأمة، فبعد أن كانت رسالته تنظيم شؤون الحياة كلها اقتصر أثره على عدد من المتدينين من خلال طقوس وعبادات يؤدونها، وقد عمل الطغاة على ذلك لأنهم يعلمون أن إعطاء دور شامل للدين يعني الحاجة إلى الرجوع إلى القيّمين الحقيقيين عليه مما يعني خسارة الحكام الجائرين لسلطتهم ومواقعهم فقرروا عزل الدين ليعزلوا أئمته والأدلاّء عليه.

ومنها: تأخر ركب الحضارة الإنسانية، لأن أوصياء النبي (صلی الله علیه و آله) كان لديهم كل ما تحتاجه البشرية من علوم وقد احتوت المصادر على نظريات علمية في الفيزياء والفلك والرياضيات والفسلجة والكيمياء والطب وغيرها لأئمة أهل البيت (علیهم السلام) (راجع كتاب قضاء أمير المؤمنين (علیه السلام) وتوحيد المفضّل ورسائل جابر بن حيّان في الكيمياء) فلو أُتيحت الفرصة لأئمة أهل البيت (علیهم السلام) لإظهار علومهم وثنيت لهم الوسادة، لما احتجنا إلى أربعة عشر قرناً لنصنع الطائرة والكومبيوتر والإنسان الآلي والتكنولوجيا النووية وغيرها مما يضمن للبشرية حياةً أفضل وأهنأ وأسعد.

وعلى أي حال فقد كانت خسارتنا برسول الله (صلی الله علیه و آله) عظيمة بعظم النتائج التي حصلت بوفاته (صلی الله علیه و آله) فما أصيبت البشرية بمثل رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعلى مثله فليبك الباكون وليندب النادبون:

أنسَتْ رزيّتُكم رزايانا التي *** سلفتْ وهوّنت الرزايا الآتية

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 54

خطاب المرحلة 215 :كيف نخرج من حالة الفشل والتقاعس

خطاب المرحلة 215 :كيف نخرج من حالة الفشل والتقاعس(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

من وصايا أمير المؤمنين (علیه السلام) لجيشه في ساحة القتال (أجزأ امرؤٌ قِرنه، وآسى أخاه بنفسه، ولم يَكِلْ قِرنَه إلى أخيه فيجتمع عليه قِرنهُ و قِرنُ أخيه)(2)

القِرنْ: هو الخصم الذي يبارز الرجل ويقاتله باعتبار أن صيغة القتال يومئذٍ هي بالمبارزة رجلاً لرجل، فالإمام(ع) يطلب منهم أن يواجه كل رجل خصمه، ولا يتقاعس عنه، لأن عدم مواجهته تعني تفرغه فينضمّ إلى آخر من أصحابه ويجتمعان على مقاتلة واحد من أصحاب الإمام (علیه السلام) وتكون المهمة أصعب، بينما يطلب الإمام(ع) من كل جندي من أصحابه أن يكفيهم خصمه، ثم يواسي أخوته ويؤازرهم على مواجهة أقرانهم، قال (علیه السلام) (وأيُّ امرئٍ منكم أحسّ من نفسه رباطة جأشٍ عند اللقاء، ورأى من أحدٍ من إخوانه فشلاً، فليذبَّ عن أخيه بفضل نجدته التي فُضِّل بها عليه، كما يُذبُُّ عن نفسه، فلو شاء الله لجعله مثله).

وهذه الوصية منه (علیه السلام) وإن كانت واردة في المواجهة العسكرية، إلا أنها

ص: 55


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع وفد ضمّ إدارة وطلبة جامعة الصدر الدينية / فرع البنوك في بغداد يوم 2 ربيع الأول 1430 المصادف 28 /2/ 2009.
2- نهج البلاغة ج2/ص2، رقم الخطبة1221.

في الحقيقة جارية في كل المواجهات والمسؤوليات، فإذا لم يقم أحدٌ بواجبه فستحصل إحدى نتيجتين: إما إهمال ذلك الواجب وتضييعه، أو اجتماع هذا الواجب على أخيه الذي يشاطره المسؤولية إضافة إلى واجبه الأصلي، وفي كل من النتيجتين ظلم وقد قيل في الأدب (من الظلم سعي اثنين في قتل واحدٍ).وكمثال على ذلك فإن العائلة التي فيها عدة أفراد يختلفون بينهم بالشعور بالمسؤولية، والمفروض توزيع واجبات الأسرة عليهم كالإنفاق عليها أو قضاء حوائجها وتسيير شؤونها، فالمتكاسل من هؤلاء يترك واجباته ويبقى نائماً حتى الظهر مما يضطر الشاعر بالمسؤولية إلى قيامه بواجبه وواجب أخيه الذي ضيّعه لعدم إمكان التفريط به فلا يدعه ضميره وشعوره بالمسؤولية قبول الإهمال والتضييع.

ونحن اليوم في منعطف تاريخي يحدّد ملامح المستقبل لفترة لا يعلم مداها إلا الله تبارك وتعالى، وتواجهنا تحديات ضخمة ومنوعة وهي تقتضي قيامنا بمسؤوليات واسعة.

لا يسع الإنسان المؤمن الرسالي المخلص الغيور على دينه ومجتمعه وحضارته ومستقبله أن يتخلى عنها فإذا تقاعس عنها الآخرون فإنه لا يعدّ ذلك التقاعس مبرراً لترك واجباته بل يحاول أن يسدَّ الفراغ الذي تركه الآخرون ويحمل نفسه ما لا تطيق. لأنه لا يستطيع أن يقف مكتوف الأيدي إزاء تلك التحديات.

ومما يبعث على الأسى ويملأ القلب ألماً إصابة الأمة بحالة من التقاعس والكسل والفشل تقرب من الموت وإذا أردتُ الاستفادة من التاريخ الذي

ص: 56

يصفونه بأنه سياسة ماضية باعتباره يسجل تاريخ حركة الأمم والحكومات والصراع على السلطة والأحداث التي مرت عليها، ويصفون السياسة بأنها تأريخ حاضر باعتبار أن التاريخ يعيد نفسه وأن السنن التي جرت في الأمم السالفة جارية في الأمم اللاحقة لأن الدوافع واحدة والمنطلقات التي تقود إلى الأحداث والسلوكيات واحدة، أقول إذا أردت تشبيه حالة الأمة اليوم بحالة سابقة فإنها تحكي حالتها في أخريات أيام أمير المؤمنين (علیه السلام) وزمان الإمام الحسن (علیه السلام)، حين عصفت بها الفتن والشبهات ولعب حب الدنيا بعقولها، ومالت إلى الدعة والراحة والسكون والترهل والاكتفاء بترتيب أحوالها الخاصة واللامبالاة بأمور الدين والمصالح العامة، وأمير المؤمنين (علیه السلام) يستنهض الهمم ويثير العزائم بكل ما أوتي من عناصر التأثير والهداية والإصلاح فلا يجد مجيباً حتى أصبح يتمنى الموت ليتخلص منهم ويدعو (ع): (اللهم إنني قد مللتهم وملّوني وسئمتهم وسئموني، فأبدلني بهم خيراً منهم وأبدلهم بي شراً مني) فاختاره الله تبارك وتعالى لجواره وخلّف عليهم معاوية، واستمرت تداعيات ذلك التقاعس حتى اضطرّ الإمام الحسن(ع) إلى توقيع وثيقة الهدنة وإيقاف القتال، وانطلق معاوية ليعيث فساداً فقتل خيار شيعة أمير المؤمنين(ع) وقطع أرزاقهم وشتّت شملهم وولّى عليهم يزيد من بعده، ثم آل الأمر إلى أن يقدّم الإمام الحسين(ع) نفسه الشريفة وأهل بيته وأصحابه قرابين لإصلاح حال الأمة وبعث الصحوة والحياة فيها، وهكذا استمرت التداعيات.ونقرأ في التاريخ أن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب وكان القائد العام لجيش الإمام الحسن (علیه السلام) أرسل له معاوية أربعمائة ألف درهم ووعده

ص: 57

بوعود إن ترك الإمام والتحق بمعاوية، فاتبع هواه والتحق بمعاوية، ونعجب من مثل هذا التصرف ولكن أشهدكم بالله كم من شخص اليوم حصل على موقع سياسي أو وظيفي أو ديني أو اجتماعي باسم المرجعية، فلما استقر وضعه أدار ظهره لها وللناس الذين رفعوه إلى هذا المقام وانشغل بمصالحه الشخصية وأنانيته فما الفرق بين الموقفين؟إنني أعيذكم أيها الإخوة أن تستمروا على هذا الحال وتكونوا كذلك الجيل، وسبباً في نفس النتائج - والعياذ بالله - فإن التاريخ سيسجّل، والله ورسوله والمؤمنون مطّلعون [وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ] لقد بلغ الكسل حداً حتى عن حضور صلاة الجمعة الشعيرة المقدسة الواجبة التي لم يضاهها شيء من الواجبات، مضافاً إلى الثواب العظيم والمغفرة التي أُعدّت لمن سعى إليها مثل (ما من قدم سعت إلى الجمعة إلا حرّمها الله على النار) و(من صلى الجمعة عاد مغفوراً له) وغيرها كثير. فبماذا نصف من لا يحركه وجوب ولا مثل هذا الثواب العظيم، ولا الشعور بالمسؤولية تجاه المشروع الإسلامي المبارك ليحضر صلاة الجمعة التي هي أبسط عمل يؤديه؟

وإذا سألت ما أنا وما خطري حتى أطالب بالنهوض بالمسؤولية الضخمة؟ فإن جوابك بسيط يبدأ من الكلمة التي افتتحنا بها الحديث وذلك بان يقوم كل شخص بمسؤوليته وواجبه المكلف به بحسب وضعه، وسيفتح الله تبارك وتعالى له آفاق جديدة للعمل، ولنبدأ بالمثال الذي ذكرناه وهو صلاة الجمعة فاعزم على حضورها والالتزام بها وعدم التقاعس عن المشاركة فيها، وحينئذٍ ستلتقي مع إخوة مؤمنين وستتبادل معهم الأحاديث والهموم والقضايا وحينئذٍ

ص: 58

ستجدون أمامكم أفكاراً ومشاريع ورؤى تتوسع تدريجياً بفضل الله تبارك وتعالى، فلربما ستهتدون إلى مشروع اقتصادي أو مؤسسة اجتماعية أو خيرية لمساعدة الناس، أو تقتني كتاباً مفيداً أو تطلع على مسألة ابتلائية تنفع بها إخوانك وهكذا.وقد دلّنا أمير المؤمنين (علیه السلام) على هذا الأسلوب من الاهتداء للعمل، قال (علیه السلام) في خطبة الوسيلة(الاهتمام بالأمر يثير لطيف الحيلة)(1) فإن الإنسان قد يجد نفسه لأول وهلة عندما يريد كتابة بحث أو تأليف كتاب أو إنشاء مشروع اقتصادي في السوق وكأنه لا يعرف ماذا يعمل ومن أين يبدأ، ولكنه حينما يفكّر في المطلوب ويكرّس نفسه له ويضع قدميه على خط البداية يجد ضوءاً يدلّه على الخطوة التالية وهكذا تتوالى الخطوات وتثار في ذهنه (لطائف الحيل) والتدابير والبرامج والخطط العملية حتى يجد نفسه وقد أسس شيئاً لم يكن يتوقعه، كالتاجر مثلاً يدخل السوق ويجالس التجار ويعرف أساليب العمل ومداخلات السوق والعناصر المؤثرة فيه والمساحات الناجحة والثغرات والمعوّقات وهكذا مع همّة وإخلاص وإذا به في النهاية يرى قد حقّق له وجوداً محترماً في السوق.

وإذا أضفنا إلى ذلك أنك لست وحدك في الميدان بفضل الله تبارك وتعالى بل لك إخوة عاملون وتسندك مرجعية لا تتوقف عند حدود المواقف العريضة. بل تشاركك حتى النظر في التفاصيل وآليات العمل وخذ لك مثلاً الخطبة الثانية لعيد الأضحى المبارك عن تنشيط القطاع الخاص وإيجاد البدائل.

ص: 59


1- بحار الأنوار للمجلسي 74/ 289.

واليوم وبعد عدة أشهر وبعد تصاعد الأزمة المالية العالمية وضيق الخناق الذي فرضته على ميزانية هذا العام عقدت الحكومة (مؤتمر بدائل التنمية)(1) في بغداد وأعادوا نفس الأفكار التي تحدثنا بها في الخطبة.نسأل الله تعالى رضاه وحسن العاقبة والتوفيق لما يحب وأن يصلح حالنا بحسن حاله، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

ص: 60


1- عقد في بغداد يوم الأربعاء 29 صفر المصادف 25/ 2/ 2009 بحضور رئيس الوزراء نوري المالكي ووزراء التخطيط والنفط والتجارة والعلوم ومتخصصون دعوا إلى دعم القطاع الخاص وإيجاد بدائل للنفط كمصدر للثروة، وقال وزير التخطيط: قبل نصف قرن كان 80 من وارد النفط يصرف على الاستثمار و20 في التشغيلية واليوم بالعكس. أقول: هو عين ما أورده سماحة المرجع في خطبة عيد الأضحى ص 20

خطاب المرحلة 216 :مسؤوليتنا عن إيصال صوت أهل البيت (علیهم السلام) إلى العالم كله

خطاب المرحلة 216 :مسؤوليتنا عن إيصال صوت أهل البيت (علیهم السلام) إلى العالم كله(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

قال الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] (التوبة:122) وهذا الطلب موجّه إلى جميع المسلمين في أصقاع الأرض، لكن استجابة وتلبية هذه الدعوة تحتاج إلى ألطاف إلهية خاصة لا ينالها إلا ذو حظ عظيم، وبإحصائية بسيطة تدرك ذلك فعدد المسلمين تجاوز اليوم المليار ومائتي مليون، لكن كم هو عدد النافرين إلى حواضر العلم والفقه والتقوى لينهل من معين آل محمد (صلى الله عليه وآل وسلّم) ربما يصل في أحسن الحالات إلى مائة ألف أو يزيدون فالنسبة واحد إلى عشرة آلاف، وليس كل هؤلاء ممن

ص: 61


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع مجموعة من علماء وفضلاء الهند وباكستان الذين قدموا إلى النجف الأشرف وزاروا سماحته يوم الخميس 6 ع2 1430 ومن حديث سماحته مع عدد من العلماء والزوار من العلويين الأتراك المقيمين في ألمانيا وبلجيكا والنمسا وقد زاروا سماحته يوم 13 ع2 1430.

استفادوا حقيقة ثم رجعوا إلى قومهم لينذروهم ويدلوهم على طريق الهداية والفلاح.وانتم ممن حظي بهذه الألطاف بل إن ما نالكم منها أكثر من غيركم لبعد الشقة عليكم فلغتكم غير العربية وثقافة بلادكم مختلفة وأمكنتكم بعيدة وتحيطكم ظروف قاسية ومع ذلك نفرتم إلى معاهد العلم في قم المقدسة والنجف الأشرف وغيرهما وبلغتم بفضل الله تبارك وتعالى مراتب سامية في العلم والفضيلة وعدتم إلى بلادكم لتواصلوا طريق ذات الشوكة وهي الدعوة إلى الله تبارك وتعالى ونشر تعاليم مدرسة أهل البيت (سلام الله عليهم أجمين) مع شدة ما تلاقونه من قسوة الإرهاب وقلة ذات اليد فطوبى لكم وحسن مآب.

إن الإسلام النقي الناصع المتمثل بمدرسة أهل البيت (علیهم السلام) يستنهض همم الرساليين من جميع القوميات والأعراق ومن صنوف اللغات ليوصلوا هذه المبادئ السامية إلى كل شعوب العالم وستجدون أن الناس يدخلون في دين الله أفواجاً بلا مؤونة منكم سوى إيصال هذا الصوت المبارك، وهذا وعد قطعه المعصومون (علیهم السلام) (فعن أبي الصلت قال : سمعت أبا الحسن على بن موسى الرضا (علیه السلام) يقول :رحم الله عبدا أحيا أمرنا فقلت له : وكيف يحيى أمركم؟ قال : يتعلم علومنا ويعلمها الناس فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا)(1) وقد أذن الله تبارك وتعالى اليوم بانطلاق هذا الصوت المبارك من العراق ليفتح العالم كله حيث تجد الإقبال على التشيع لأهل البيت (علیهم السلام) واتباع تعاليمهم التي أخذوها من جدهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد تحدّث لي بعض

ص: 62


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) - الشيخ الصدوق ج2 صفحة 275.

العاملين في الطبع والنشر في بيروت أن نهماً شديداً لا سابق له لاقتناء الكتب الشيعية في جميع دول العالم وعلى رأسها الدول التي أغلقت أسماعها عن سماع صوت الحق.وبدلاً من أن يذعن هؤلاء للحق فإن من [يهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ] (يونس:35) تراهم يولولون ويبكون ويحشّدون لوقف المد الشيعي ودخوله إلى عقر دورهم ويصيحون (أنقذونا من التشيّع) ! إنه التعصب الأعمى للآباء والأجداد الذي يعمي عن الحق والعياذ بالله.

إن هذا الصوت المبارك لأهل البيت (علیهم السلام) الذي بدأ يجلجل في أروقة العالم كله رغم مرور أربعة عشر قرناً من الخنق والكبت والقتل وأخذت الأفئدة تهوى إليهم تصديقاً من الله تعالى لدعوة خليله إبراهيم (علیه السلام) [فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ] (إبراهيم:37) يضاعف علينا المسؤولية في أن نحسن أداءه وإيصاله وأن تتطابق أفعالنا مع أقوالنا لنكون زيناً لهم (صلوات الله عليهم أجمعين) ومرآة عاكسة لسيرتهم العطرة ومبادئهم السامية.

وهذه الفرصة العظيمة المتاحة لنا حجة علينا، وليكن في كل قوم ومن أهل كل لغة دعاة إلى هذا الحق المبين [خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ] (المطففين:26).

ص: 63

خطاب المرحلة 217 :من أين نبدأ

خطاب المرحلة 217 :من أين نبدأ(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

إن مثل هذه اللقاءات والاجتماعات والمؤتمرات مهمة وذات فوائد عظيمة، أولها نفس الاجتماع والتلاقي وتبادل الأفكار ووجهات النظر بغض النظر عما تسفر عنه من نتائج، وهي تندرج في مصاديق قول الإمام الصادق (علیه السلام) (أحيوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا).

وهي فرصة للمراجعة والتقييم والنقد البنّاء وتحديد مواطن النجاح والفشل.

وقد اخترت عنواناً لحديثي هو (من أين نبدأ) وهو لا يعني طبعاً إننا لازلنا لم نبدأ بعد، فإن جهوداً مشكورة كثيرة قدمّت ولا زالت، ولكننا أمرنا بمراجعة أنفسنا (ليس منّا من لم يحاسب نفسه) والنفس التي تحاسب شاملة لنفس الفرد والمؤسسة والكيان والمشروع وحتى الدولة، وبعد كل محاسبة تكون هناك بداية لانطلاقة جديدة نحو العمل وفق نتائج هذه المحاسبة فنديم كل عناصر الخير والنجاح وننميها، ونعالج كل مواطن الفشل وتصليحها، فعن هذه البداية أتحدث وأقول من أين نبدأ.

ووجدت كلمة مختصرة لبعض الأعاظم- وهو العالم العامل المرحوم الشيخ

ص: 64


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع الفضلاء والخطباء المشاركين في ملتقى أئمة الجمعة والجماعة في محافظات العراق يوم الثلاثاء 10/ ربيع الثاني / 1430 ه- المصادف 7/ 4/ 2009

محمد حسين آل كاشف الغطاء (قدس سره) - تصلح أن تثبت هذه البداية والأساس الذي ننطلق منه نحو النجاح والفلاح، قال (قدس سره) : (بني الإسلام على كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة) وقد لخصها (قدس سره) ببلاغته المعروفة من وصايا القرآن الكريم والأئمة الطاهرين (علیهم السلام). وأقول هنا إن الأساس والمنطلق بالدقة هو واحد وهي كلمة التوحيد أما توحيد الكلمة فهو أثر من آثار الصدق في تبني عقيدة التوحيد، والقائل يعرف ذلك لكنه أراد إلفات النظر إلى أهمية توحيد الكلمة في بناء الجماعة الصالحة المؤمنة وتشييد كيانها.

وقد نبهنا أمير المؤمنين إلى هذه الحقيقة بقوله (علیه السلام) (أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له) فمن هنا يبدأ البناء وعلى هذا الأساس يستقر، إنها المعرفة بالله سبحانه المستندة إلى توحيده تبارك وتعالى، وعلامة التوحيد الصادق الذي يتجاوز مرحلة لقلقة اللسان إلى انعقاد القلب على التسليم لله تعالى والإخلاص له، فأصبح الإخلاص هو خلاصة التوحيد الذي هو تمام المعرفة بالله سبحانه وكمالها.

والإخلاص - لغة- يعني التصفية، قال تعالى [بيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ] (النحل:66)، أي مصفى من الفرث والدم وآثارهما اللذين خرج من بينهما.

ولكن معنى الإخلاص هنا في المصطلح تجريد النية والغرض والهدف عن كل ما سوى الله تبارك وتعالى سواء على مستوى الأفعال والسلوكيات

ص: 65

والعلاقات مع الآخرين، أو على مستوى المشاعر والأحاسيس التي تكتنف القلب وتملأه فيكون الحب في الله والبغض في الله، والغضب لله، والعمل لله، وهكذا.والإخلاص له مراتب، كما أن ضدّه وهو الشرك له مراتب قال تعالى: [وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ] (يوسف:106)، وقد تختلط مراتبهما وتتداخل وتتشابك في أعماق الإنسان في عملية معقدة تخفى حتى على صاحبها، لذا سمي بالشرك الخفي وشبهه الحديث الشريف بأنه أخفى من دبيب النمل بين الصخور في الليلة الظلماء ولذا وصف الصراع داخل الإنسان من اجل تحقيق الإخلاص بأنه (الجهاد الأكبر) ومحلهما معاً القلب الذي إن نقي عما سوى الله تبارك وتعالى كان قلباً سليماً، قال تعالى [إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ] (الشعراء:89).

والحديث عن تعريف الإخلاص وحقيقته وحدوده ومراتبه وكيفية امتحان تحققه وما هي معوّقات الحصول عليه، ومسارب الشيطان لتشويشه ومعالجة هذه المشاكل حديث طويل تعرضت له كتب الأخلاق والمعرفة وقد نصحنا بمراجعتها باستمرار كموسوعة الفيض الكاشاني (قدس سره) (المحجّة البيضاء) وجامع السعادات والقلب السليم.

وتدل الأحاديث على أن الإخلاص هو مفتاح الفلاح والفوز بالألطاف الإلهية ففي الكافي عن الإمام الباقر (علیه السلام) (ما أخلص العبد الإيمان بالله عز وجل أربعين يوماً إلا زهّده الله في الدنيا وبصرّه داءها ودواءها، فأثبت الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه).

ص: 66

لذا أمرنا بالإخلاص في إعمالنا ونيّاتنا، قال تعالى : [وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ] (البينة:5)، وقال عزمن قائل [أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ] (الزمر:3)، وقال تعالى [إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لله] (النساء:146).ولا ينجو إنسان أو شريحة من البشر من هذا الصراع حتى العلماء والمنشغلون بالعمل الإسلامي إلا من عصم الله تبارك وتعالى، قال سبحانه حكاية عن إبليس اللعين [قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ] (ص:82-83). فقد يطلب بعضهم العلم ليستأكل به أو ليماري به الناس أو ليبرز ويشار إليه وغيرها من النيات الباطلة والعياذ بالله.

وإما الركن الثاني الذي ننطلق منه ونؤسس عليه فهو توحيد الكلمة لأنه يحفظ الكيان وعزته وهيبته وتأثيره، وإذا حصل التفرق آل الكيان إلى الضياع فلا تبقى حتى كلمة التوحيد إلا أن يشاء الله شيئاً، قال تعالى [وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] (الأنفال:46) وهذه الآية تؤكد الحقيقة التي قلناها وهي أن كلمة التوحيد (طاعة الله ورسوله) هي الحبل الذي إن تمسكت به الأمة واعتصمت به حفظت وحدتها وكيانها، ولا يقع التنازع بينها إلا إذا كان هناك خلل في إخلاصها وتوحيدها وعندئذ تأتي المرحلة الثانية وهي التنازع والتقاطع والتشاجر ثم المرحلة الثالثة وهي الفشل والخذلان وحينئذ تكون النتيجة الحتمية الانهيار الكامل وذهاب الكيان والقوة والدولة.

إن التنازع والخلافات لا مكان لها ولا يمكن تبريرها إذا توفر الإخلاص،

ص: 67

وحينما يحصل اختلاف في الرأي أو في آليات العمل فيحلُ بالحوار البناء الواعي وتغير القناعات وليس بالصراع. فالاختلاف و التنوع حالة طبيعية بل وايجابية بناءه تدل على عافية الأمة وحيويتها، أما الخلاف فهو حالة سلبية هدامة لا مبرر لها.لنأخذ درساً في قصة النبي موسى (علیه السلام) وأخيه النبي هارون لما استخلفه على قومه وذهب إلى مناجاة ربّه، فأضل قومه السامري وجعل لهم عجلاً جسداً له خوار ودعاهم إلى اتخاذه رباً وعبادته ووقف هارون في وجه هذا الانحراف والفساد وواجهه إلا انه لم ينشق عنهم وقال لأخيه موسى لما رجع إليهم [قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي] (طه:94) فكانت المحافظة على وحدة قومه هو المشروع الأهم لديه لأنه وعاء حفظ العقيدة والكيان والمشروع، وفي ضوء هذا يمكن أن نفهم وجهاً لما جرى على النبي يونس حين انشق عن قومه وخرج مغاضباً فالتقمه الحوت وهو مليم، قال تعالى [وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاّ إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ] (الأنبياء 87- 88).

حتى المباينة والاعتزال والمقاطعة التي أمرنا بها مع أهل المعاصي لا تعني الانشقاق والانفصال لأنه ابتعاد عن تحمل المسؤولية وتخلّي عن أداء الواجب لأن هؤلاء هم ساحة عمل الرسالي الذي يدعو إلى إعلاء كلمة الله تعالى وإذا هجرهم فسيضيع على نفسه فرصة هداية الآخرين إلى تبارك وتعالى. وإنما

ص: 68

تعني المباينة والاعتزال في الأخلاق والأفعال والسلوكيات بحيث تتضح معالم الفرق بين المنهجين والسلوكين وان كانا مختلطين بأبدانهم. ولم يبعث الأنبياء (ع) ولا استخلف الأئمة لكي يتقاطعوا مع الآخرين فيعتزلوا الناس ويقبعون في بيوتهم، بل بُُعثوا بالحركة والمخالطة والعمل لكن من دون ذوبان أو اندماج وخلط أرواق ومداهنة مع أهل المعاصي والفسق والكفر.وعلى هذا فالتواصل مع إخوانك المؤمنين الذين قد تختلف معهم بالرأي أو قد لا تفهم ما صدر منهم على وجه صحيح أولى وأوجب وأحق، وكلنا خطّاءون وخير الخطائين التوابون، لكن هذا لا يبرر التنافر والتقاطع أو الانزواء والتقاعس، لان نتيجته ذهاب الكيان والقوة والمنعة وحينئذ يدفع الثمن الباهظ حتى من لم يكن سبباً في هذه النتائج قال تعالى [وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً] (الأنفال:25). وحينما تنازعت الأمة وشككت وتقاعست في بعض مفاصلها التاريخية كان ضحية ذلك أمير المؤمنين (علیه السلام) والإمام الحسن (علیه السلام) والإمام الحسين (علیه السلام) والطاهرين من أولاده (ع).

ومن هنا كانت وصيتي بأن يكون الأساس الذي ننطلق منه في عملنا المبارك ونشيّد عليه المشروع الإلهي هو الإخلاص في العمل وحفظ وحدة الكلمة، والله المستعان.

ص: 69

خطاب المرحلة 218 :الاقتصار على الاحتفال السياسي في ذكرى الشهيد الصدر (قدس سره) ظلم له

خطاب المرحلة 218 :الاقتصار على الاحتفال السياسي(1)في ذكرى الشهيد الصدر (قدس سره) ظلم له

بسم الله الرحمن الرحيم

لا زلنا في أجواء ذكرى استشهاد المرجع والمفكر والقائد والأسوة ومثال العالم العامل وهو السيد محمد باقر الصدر(قدس سره)، وقد ساءنا الاقتصار في إحياء ذكراه على الاحتفالات السياسية إذا كان التعبير دقيقاً.

وهذا المنحى - أعني اتخاذ الجهات السياسية للمراجع العظام والعلماء الكرام رموزاً للمتاجرة بها والتسلّق إلى مواقع السلطة من خلالها وتأطيرها بهذه الفئوية الضيقة - ظلم لأولئك الأعاظم وتحويل الإخلاص الذي عاشوه والهم الإنساني والإسلامي الذي حملوه إلى دنيا زائفة يتصارعون إليها، وربما جرّ صراعهم إلى محاولة تنقيص كل جهة من رمز الجهة الأخرى وغيرها.

وهذا المعنى التفت إليه السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) وحذر منه في آخر محاضراته عن حب الدنيا، وكان أكثر شيء آلمه وهو في أيامه الأخيرة بحسب ما يروي صاحب كتاب (سنوات المحنة وأيام الحصار) هو عندما عرض مشروع القيادة النائبة التي تخلف قيادة الحركة الإسلامية على بعض

ص: 70


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من الزوار من بينهم وفد عشائر بني زيد في الناصرية يوم الخميس 20/ربيع الثاني/1430 المصادف 16/ 4/ 2009.

المقرّبين منه فيسأله عن موقعه فيها فإن كان رأساً لها فهو وإلا فلا.هذه الدنيا التي حذر من الوقوع في شراكها أغوت الكثيرين ووظ-ّفوا كل شيء لها حتى ذكرى السيد الشهيد الصدر (قدس سره) فلم تشهد اهتماماً يُذكر بإبراز العظمة والإبداع في آثاره العلمية أو الفكرية أو الاجتماعية أو الأخلاقية ، أو الجهادية وغيرها، مع أننا مطالبون بإحياء هذه الجوانب لتتأسى بهم الأمة فتهتدي بهداهم وتسير على دربهم.

لا شك أن الأئمة المعصومين (علیهم السلام) هم الأسوة الأعلى لأنهم الأكمل لكن هذا لا يغني عن دراسة سير العلماء الأعلام والمراجع العظام والشهداء الكرام وإحياء ذكراهم وإبراز مكامن القوة فيهم لأمور:

1- الوفاء لهم بإدامة ذكرهم بالخير والدعاء لهم والترحم عليهم (والذكر للإنسان عمرٌ ثاني).

2- لأنهم مظهر لصفات الكمال عند المعصومين (علیهم السلام) فإذا كان الشهيد الصدر(قدس سره) وهو أحد أتباع مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) وممن نهل من علومهم بهذه الدرجة الرفيعة من العلم والأخلاق الكريمة والجهاد والتضحية فما هي درجة هذه الصفات عند الأئمة (سلام الله عليهم)؟.

3- إن حياتهم وآثارهم وسيرتهم تمثل قراءة وتجسيداً عملياً لسيرة المعصومين(ع) إذ إن أغلب الناس إلا من ندر يحتاجون إلى من يقرأ لهم سيرة المعصومين ويقدّمها لهم ولا يستطيعون فهمها مباشرة أو استيعابها فضلاً عن الإحاطة بها، فيكون دور العلماء تقريب تلك الصورة إلى الأجيال من الناس فمثلاً هناك إشكال يتردد بأنه لماذا صالح الإمام الحسن(ع) معاوية ويرفع

ص: 71

الإمام الحسين (علیه السلام) السيف في وجه يزيد فيقدّم لنا السيد الشهيد الصدر (قدس سره) قراءة لذلك الواقع ويشرحه بأنه (تنوع أدوار ووحدة هدف) والهدف دائماً هو الإصلاح [إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ] (هود:88) وهو ما عبّر عنه الإمام الحسين(ع) بقوله: (إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمد(صلی الله علیه و آله)) ولذا فنحن بحاجة دائماً إلى فكر العلماء وعلمهم والاختلاط بهم واستجلاء سيرتهم ليعكسوا لنا من خلالها سيرة وعلم الأئمة (علیهم السلام) وعلى هذا نجد أن قدر هؤلاء العلماء يزداد بمقدار أخذهم من الأئمة المعصومين (علیهم السلام) وتجسيدهم لسيرتهم

وفي الحقيقة فإن الأكمل في هذا أن ننتقل من صور المعصومين (علیهم السلام) وصفاتهم إلى الصفات الإلهية فإنهم مظهر لها بحسب ما يناسب إدراكاتنا المحدودة، فإن المثل الأعلى الذي يجب أن يتّخذ هو الله تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى [وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] (النحل:60).

فكان المعصومون (سلام الله عليهم) مظهرين لتلك الصفات الحسنى على أرض الواقع ليتعرف الناس على صور بمقدار ما من الصفات الإلهية الحسنى فحينما تطّلع على رحمة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعفوه وصفحه وكرم أخلاقه وهو يعفو عن قاتليه ويدعو لأعدائه بالمغفرة والهداية فإنك تأخذ فكرة مبسطة عن صفات الله تبارك وتعالى.

وهكذا أمرنا أن نأخذ من صفات الله تبارك وتعالى ونتخلّق بأخلاقه، فإن قيمة الإنسان تزداد بمقدار ما يتصف به من أخلاق الله، وهو وجه شرحنا به

ص: 72

الحديث الشريف (قيمة كل امرئ ما يحسنه).فمثلاً من صفات الله تبارك وتعالى (سريع الرضا) وهكذا يجب أن نكون في علاقاتنا مع الآخرين، لا ندع الغضب يتملّكنا ويسيطر علينا إذا أساء لنا الآخرون وإنما سرعان ما يتبدد ويتلاشى.

ومن صفات الله تبارك وتعالى أنه [لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ] (الأنفال:51) فلنجتنب الظلم بكل أشكاله ابتداءً من ظلم النفس بالمعاصي وعدم إتباع الحق والتقصير في الواجبات، إلى الظلم داخل البيت للزوجة والأطفال وسائر أفراد العائلة، إلى ظلم الآخرين خلال التعاطي معهم وعلى رأسه ظلم المسؤولين والموجودين في السلطة للناس وعدم الإخلاص والتفاني في خدمتهم وانشغالهم بمصالحهم الشخصية والفئوية.

والظلم بكل هذه الأشكال ضارب بأطنابه عند كل الناس وإذا كان بعض الظلم مما يغفر ويعالج بالتوبة والندم وعقد العزم على عدم العود وتدارك ما فات كظلم الإنسان نفسه بالمعصية وظلمه لربه بالشرك والكفر [إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] (لقمان:13)، فإن بعضه مما لا يغفر وهو ظلم الآخرين وعدم تأدية حقوقهم والقيام بالواجبات تجاههم إلا بمعالجة كل هذه التقصيرات وتداركها وإلا فإن الحساب قاسٍ يوم القيامة ففي الحديث عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) قال (الظلم ثلاثة: ظلم يغفره عز وجل، وظلم لا يغفره، وظلم لا يدعه، فأما الظلم الذي لا يغفره فالشرك بالله عز وجل، وأما الظلم الذي يغفره الله فظلم الرجل نفسه بينه وبين الله عز وجل، وأما الظلم الذي لا يدعه فالمداينة بين العباد).

ص: 73

وما دمت بخدمة أبناء العشائر اليوم فلا بد أن أشير إلى المظالم المؤلمة في الأعراف والقوانين التي تحكم علاقاتهم خصوصاً ما يتعلق بالمرأة مع أن الحديث الشريف يقول (ما أكرمهن إلا كريم ، وما أهانهن إلا لئيم) فهي تعاني من قسوة التعامل داخل البيت وتحميلها ما لا تطيق، ومن أشكال الظلم (النهوة) التي تحرم المرأة من حق مقدس في الحياة وهو اقترانها بالرجل المناسب لها لمجرد أن أحد أعمامها نهى عن ذلك لا لشيء سوى الرغبة في الانتقام والإيذاء وهي من الشيطان.وبعض العشائر من السادة تحرم بناتها من نفس الحق للمنع من تزويج غير السادة العلويين مما يؤدي إلى إعضال المرأة وتركها كشيء لا قيمة له في البيت في الوقت الذي يعطي الرجل (السيد) لنفسه الحق في التزويج بمن يشاء من النساء.

ص: 74

خطاب المرحلة 219 :في تأبين المرجع العارف الشيخ محمد تقي بهجت

خطاب المرحلة 219 :في تأبين المرجع العارف الشيخ محمد تقي بهجت(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

إنا لله وإنا إليه راجعون.

نقلت لنا وسائل الإعلام خبر رحيل المرجع العارف والعالم العامل سماحة الشيخ محمد تقي بهجت (أعلى الله درجته) إلى جوار ربه الكريم عن عمر ناهز (96) عاماً.

كان الفقيد آخر من بقي من ثمار مدرستين عظيمتين:

(الأولى) في الفقه والأصول التي شيدها الأساطين الثلاثة الميرزا النائيني (ت 1355 ه-) والشيخ محمد حسين الأصفهاني (ت 1361) والشيخ ضياء الدين العراقي (ت 1363) وخرّجت الفحول من المراجع والعلماء وقد أدركها الفقيد الراحل حيث وصل النجف مهاجراً من مدرسة قم عبر مدرسة كربلاء عام 1354 ه- وحضر عند هؤلاء الأعاظم واستفاد منهم وعاد إلى قم عام 1364 مكتفياً عن الحضور إلا قليلاً وكان مشاركاً فاعلاً في مجلس البحث الخاص الذي كان يعقده المرجع الراحل السيد البروجردي (قدس سره) ويشارك فيه المراجع

ص: 75


1- تقرير الكلمة التي تحدث بها سماحة الشيخ إلى طلاب بحثه الخارج في الفقه يوم الاثنين 22/ج1/ 1430 بمناسبة وفاة المرجع الشيخ بهجت الذي وافته المنية عصر الأحد ودفن يوم الثلاثاء إلى جوار حرم فاطمة المعصومة في قم المقدسة.

العظام كالسيد الخميني والسيد الكلبايكاني (قدس الله سريهما) واشتغل بالبحث والتدريس والتأليف طيلة خمسين عاماً حتى وافاه الأجل وترك آثاراً مباركة.(الثانية) مدرسة السلوك والعرفان التي انتهت إلى المرحوم السيد علي القاضي الطباطبائي والشيخ الطالقاني (قدس الله سريهما) وقد استفاد منها الفقيد الراحل إيّما استفادة ووجد فيها بغيته إذ كان منذ صباه نقياً طاهراً مقبلاً على عبادة ربه تبارك وتعالى، ويتحدث أقرانه في هذه المدرسة –وهم من أهل المعرفة كالشيخ عباس القوجاني والسيد محمد حسين الطهراني- عن مرتبة سامية بلغها الفقيد الراحل، ثم أضاف إليها بعد عودته إلى قم ما حباه الله تبارك وتعالى من ألطاف وفتح له من آفاق المعرفة وسبل الوصول إلى الكمال، ولم تكن سيرته وتوجيهاته (قدس سره) إلى الآخرين تخرج عمّا سنّة المعصومون (سلام الله عليهم)، لذا كان ينتقد من ينصبون أنفسهم شيوخاً ومعلمين للسلوك ويبتدعون برامج وأعمال لمريديهم وأتباعهم، ويقول (قدس سره) ساخراً: لو كان شيء من هذا خيراً لأخبرنا به المعصومون (علیهم السلام) لأن غرضهم كان هداية الخلق وسعادتهم فلم يخفوا شيئاً مما يحصّل هذا الغرض.

وحينما نحاول دراسة شخصية المرجع الراحل لنتلمّس العناصر التي صنعته نجد على رأسها إخلاصه لله تبارك وتعالى وإعراضه عن الدنيا وهمّته العالية والجد والاجتهاد في تحصيل العلم والمعرفة ومراقبته نفسه، واجتنابه مضيعة الوقت بما لا ينفعه في طريق الكمال حتى المباحات التي يمكن أن تأخذ عنواناً راجحاً كالترويح عن النفس، يروى عنه أن أحد مريديه كان يكرر الدعوة عليه ليزور بستانه يوم العطلة والشيخ يسوّف إلى أن استجاب له وحضر في الموعد

ص: 76

المحدد ومعه دفتر وقلم ليستغل الوقت بالبحث.كان (قدس سره) يرى أن خير معلم هو العمل بما تعلم تطبيقاً للحديث الشريف (من عمل بما علم، ورّثه الله علم ما لم يعلم) والحديث (العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل)، ويوجه إلى تصيد الموعظة والاتعاظ بها، وما أكثر المواعظ في أنفسنا وفي الآفاق ولكن ما أقل الاتعاظ. وكما يروى عن أمير المؤمنين (علیه السلام): (ما أكثر العبر وأقل الاعتبار).

إن المدّعين للسلوك والعرفان كثيرون لكن الصادقين قليلون ومنهم الفقيد الراحل (قدس سره) لأنه استقاه من العين الصافية وهم أهل بيت النبوة (صلوات الله عليهم أجمعين)، وكان ينصح من يطلب منه برنامجاً لتهذيب النفس أن يفتح أبواب (آداب العشرة) من كتاب الحج وكتاب (جهاد النفس) وكتاب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) في وسائل الشيعة ويلتقط حديثاً ثم لا يفارقه إلى غيره حتى يعوّد نفسه على مضمونه، وإذا احتاج المبتدئون إلى شرح فليستفيدوا من كتاب (جامع السعادات) للنراقي و (المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء) للفيض الكاشاني (قدس الله سريهما).

فلا يشكُوَنَّ أحدٌ من عدم وجود المعلم أو المربي وبين أيدينا هذه الكتب الناطقة التي حملت إلى الأجيال غرر كلمات المعصومين (سلام الله عليهم) فهم حاضرون بيننا بآثارهم المباركة، أترى لو أننا كنّا في زمانهم (ع) هل سنحصل على أكثر من سؤال فيجيبونه أو مشكلة يحلونها أو يبتدأوننا بكلمة تنفعنا وهذه كلها قد وصلت إلينا عبر هذه الأحاديث المباركة.

ولا أستغرب أن أجد توجيهاته (قدس سره) متطابقة مع ما استفدناه من سيدنا

ص: 77

الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وما نوصي به فإن الأصل واحد.وكان (قدس سره) يهتم كثيراً بطلب العلوم الدينية ويراه أكمل الطرق للوصول إلى الحق تبارك وتعالى ويحثّ الكلّ عليه، ومع تحرّزه من التصرف بالحقوق الشرعية إلا أنه (قدس سره) كان يرى صرف طالب العلم منه على نفسه أمراً راجحاً إذا كان يعينه على التفرغ له.

وحينما نقرأ في بداية تحصيله (قدس سره) أنه أخذ مقدمات العلوم في مدينة (فومن) التي ولد فيها وهي من مدن محافظة كيلان شمال إيران نسجّل بإكبار هذا السبق للحوزة العلمية في إيران التي أخذت على عاتقها نشر حوزاتها ومدارسها في كل مدن إيران وأتاحت بذلك الفرصة لكل من يرغب بالدراسة، وفتحت أعين الناس على هذا المسلك المبارك، ولو بقيت محصورة في قم المقدسة لما وردها إلا قليل لجهل الناس بتفاصيلها، ولكنها لما وصلتهم أينما كانوا واحتضنتهم ووفرت لهم أسباب التحصيل وعرفوها فعشقوها فالتحقوا بها فاكتسبت بذلك جماً غفيراً من العلماء والفضلاء تلقّى أكثرهم المقدمات في مدنهم البعيدة وخففوا بذلك على حواضر العلم التي يفترض فيها أن تكون معهداً للدراسات العالية.

وهذا ما سعينا لتحقيقه من خلال نشر فروع جامعة الصدر الدينية وجامعة الزهراء (علیها السلام) في مدن وسط وجنوب العراق بلطف الله تبارك وتعالى عسى أن تنضج وتتحول إلى حوزات علمية متكاملة في جميع مدن العراق بلطف الله تبارك وتعالى.

إن فقد الشيخ بهجت العالم العامل سبّب ثغرة وثلمة في الإسلام لا يسدّها

ص: 78

شيء أبداً إلا بمواصلتكم طريق العلم والعمل الصالح حتى تصبحوا مثله بلطف الله تبارك وتعالى [ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ واللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ] (الحديد: 21).

ص: 79

خطاب المرحلة 220 :الزهراء (عليها السلام): الأسوة الحسنة

خطاب المرحلة 220 :الزهراء (عليها السلام): الأسوة الحسنة(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

س1: ما الذي يضيفه وجود الزهراء (علیها السلام) على الرسالة الإسلامية في مجتمع يرى الرجل مقدّماً على المرأة في أغلب الأمور؟

سماحة الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سادة الخلق أجمعين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين.

بُعث النبي الأمين (صلی الله علیه و آله) في مجتمع جاهلي مليء بالفواحش والمنكرات وقد أعطينا صورة عن حاله في كتاب (الأسوة الحسنة)، ومن تلك المنكرات: احتقار المرأة وامتهانها ووصل بهم الأمر إلى قتلها ودفنها وهي حيّة للتخلص منها، وقد وصف الله تبارك وتعالى مشاعرهم عندما تولد لهم بنت بقوله: [وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ] (النحل:59).

وقد عالج الشرع المقدس هذا الظلم بعدة أشكال منها:

1- التأكيد في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة على حقيقة المساواة

ص: 80


1- لقاء قناة الفرقان الفضائية مع سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الشريف) الذي أذاعته ليلة 3/ج2/ 1430.

بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات، والثواب والعقاب، ومنها قوله تعالى: [فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى] (آل عمران:195).2- ضرب الأمثلة من نساء فضليات لكي يتأسى بها الرجال والنساء وليعلم الرجال قبل النساء أن المرأة يمكن أن تبلغ مراتب سامية يغبطها عليها الرجال كمريم ابنة عمران وامرأة فرعون، قال تعالى: [وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ] (التحريم:11-12) والآية تصرّح أنهما ضُربتا مثلاً لكل الذين آمنوا سواء كانوا من الرجال أو النساء.

3- التهديد والوعيد لمن يقتل المرأة مادياً بوأدها أو معنوياً بإهانتها وظلمها وسحق شخصيتها قال تعالى: [وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ] (التكوير:8-9) وفي الحديث الشريف عن النساء: (ما أكرمهنّ إلا كريم وما أهانهن إلا لئيم)(1).

4- منح الدرجات الرفيعة لمن فرح بكون المولودة بنتاً وأكرم المرأة وأحسن رعايتها، فقد روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) بسند عالي الصحة قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): من عال ثلاث بنات أو ثلاث أخوات وجبت له الجنة، فقيل: يا رسول الله واثنتين؟ فقال: واثنتين، فقيل: يا رسول الله وواحدة؟ فقال:

ص: 81


1- فقه السنة، الشيخ سيد سابق: ج2، ص 185.

وواحدة)(1) وعن الإمام الصادق (علیه السلام) أيضاً: (البنات حسنات، والبنون نعمة، والحسنات يثاب عليها، والنعمة يسأل عنها(2)) وعن الإمام الرضا (علیه السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): (إن الله تبارك وتعالى على الإناث أرق منه على الذكور، وما من رجل يدخل فرحة على امرأة بينه وبينها حرمة إلا فرّحه الله تعالى)(3).5- جعل رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو أكرم الخلق وسيدهم أبا بنات، ففي رواية صحيحة عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) أبا بنات)(4) بل جعل ذريته من بنته الزهراء (علیها السلام) وسماها بالكوثر التي تعني الخير الكثير، قال تعالى: [إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ] (الكوثر:1).

وأهم تلك المعالجات ما منَ الله تبارك وتعالى على المسلمين بل جميع الناس بسيدة كريمة هي أكمل الخلق أجمعين بعد أبيها رسول الله (صلی الله علیه و آله) وزوجها أمير المؤمنين (علیه السلام) وهي الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام)، فهي سيدة العالمين من الرجال والنساء، ولا يتوهم أحد أنها سيدة نساء العالمين، وإنما هي سيدة العالمين جميعاً من الرجال والنساء لكنها من النساء، وأذكر دليلاً واحداً على ذلك، فقد ذكرت الآيتان في الفقرة (2) أعلاه أن الله تبارك وتعالى جعل مريم ابنة عمران وامرأة فرعون مثلاً وأسوة لجميع الذين آمنوا، ولا شك أن الزهراء (علیها السلام) هي أفضل منهما وأحرى بالتأسي بها.

ص: 82


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب أحكام الأولاد، باب 4، ح3.
2- المصدر، باب 5، ح7.
3- المصدر، باب 7، ح1.
4- المصدر، باب 4، ح3.

س2: يتردد على ألسنة الخطباء وفي بعض الكتب أن الزهراء سميت فاطمة لأنها فُطمت هي ومحبوها من النار، فهل هذا معنى يمكن قبوله وأن مجرد حب فاطمة (علیها السلام) ينجي الشخص من دون عمل؟سماحة الشيخ: يمكن الجواب على عدة مستويات:-

1- إن هذا المعنى قد ورد في روايات معتبرة وإذا كان الأمر كذلك فعلينا التسليم والقبول لما يصدر عن النبي (صلی الله علیه و آله) وآله المعصومين (علیهم السلام) ولو كان سند الحديث غير معتبر لشككنا في صدوره، ومن الطرق المعتبرة ما رواه محمد بن مسلم قال: (سمعت أبا جعفر (علیه السلام) يقول: لفاطمة (علیها السلام) وقفة على باب جهنم، فإذا كان يوم القيامة كتب بين عيني كل رجل: مؤمن أو كافر فيؤمر بمحب قد كثرت ذنوبه إلى النار فتقرأ فاطمة بين عينيه محباً فتقول: إلهي وسيدي سمّيتني فاطمة وفطمت بي من تولاني وذريتي من النار ووعدك الحق وأنت لا تخلف الميعاد، فيقول الله عز وجل: صدقتِ يا فاطمة إني سميتك فاطمة وفطمت بك من أحبك وتولاك وأحب ذريتك وتولاهم من النار ووعدي الحق وأنا لا أخلف الميعاد، وإنما أمرت بعبدي هذا إلى النار لتشفعي فيه فأشفّعك وليتبين لملائكتي وأنبيائي ورسلي وأهل الموقف موقفك مني ومكانتك عندي فمن قرأتِ بين عينيه مؤمناً فخذي بيده وأدخليه الجنة)(1).

2- إن نقل هذا الحديث لم يقتصر على علماء الشيعة بل نقله علماء السنة أيضاً بطرق متعددة، وقد ذكر منها صاحب كتاب (فضائل الخمسة من الصحاح

ص: 83


1- علل الشرائع للشيخ الصدوق (رضوان الله عليه): 1/ 142: العلة التي من أجلها سميت فاطمة فاطمة، ح6.

الستة: 3/ 151) عدة مصادر كتاريخ بغداد للخطيب البغدادي في ترجمة غانم بن حميد الشعيري: 6772 بسنده عن ابن عباس وفي ذخائر العقبى وكنز العمال.3- لماذا نستكثر على الله تبارك وتعالى، أن يعطي من غير استحقاق إكراماً لأكمل عباده ولتعريف الخلائق بقرب منزلة الزهراء (علیها السلام) منه تبارك وتعالى، والله تعالى متفضّل منّان يبتدئ بالنعم من غير استحقاق، نَعم المنافي لعدله أن يعاقب من غير ذنب، أما التفضّل بالعطاء من غير استحقاق فهذا مناسب لكرمه.

وأضرب لك مثلاً من عملكم في الفضائيات، فإن لبعضها برامج مسابقات وإعطاء الجوائز للفائزين، وأحياناً تريد إدارة القناة إعطاء الجوائز بأي شكل لغرضٍ ما كالترويج لها أو لمساعدة الناس، فتسأل الشخص سؤالاً ما فلا يجيب فتبسّط له السؤال فلا يجيب، إلى أن تسأله: ما اسمك؟ وهو يعرفه قطعاً فإذا أجاب هللوا له فرحاً واعتبروه فائزاً وأعطوه الجائزة.

4- إن الحب الوارد في الرواية لا يراد به الميل العاطفي الذي ربما ينشأ من تعصّب لموروث اجتماعي أو تقليد الآباء والأجداد وهذه مناشئ لا قيمة لها، وإنما يراد به الحب المبني على المعرفة والذي تقترن به ملازماته من اتباع سيرة المحبوب وإدخال الرضا عليه، كما قال الشاعر:

تعصي الإله وأنت تزعم حبه *** هذا لعمرك في الفعال بديعُ

لو كان حبّك صادقاً لأطعته *** إن المحبَّ لمن أحبَّ مطيعُ

س3: هل تعد الامتيازات التي حظيت بها الزهراء (علیها السلام) حكراً عليها باعتبارها ابنة رسول الله (صلی الله علیه و آله) أم أن من الممكن أن توجد هذه الصفات (الامتيازات) في امرأة أخرى؟

ص: 84

سماحة الشيخ: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لا يحابي أحداً أو يجامله على حساب الحق، لأنه كما وصفه ربه: [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى] (النجم:3-4) وقال تعالى: [وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ،لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ] (الحاقة:44-46). وإن موازين التكريم والتفضيل محددة في كتاب الله تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] (الحجرات:13) أما النسب فلا اثر له بذاته قال تعالى: [فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ] (المؤمنون:101-103).

وقد نزلت سورة كاملة في ذم أبي لهب عم رسول الله (صلی الله علیه و آله).

فالزهراء (علیها السلام) لم تحظَ بهذه المنزلة الرفيعة لمجرد بنوتها لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وإنما نالتها بما وصلت إليه من درجات الكمال.

نعم إن كونها بنتاً لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وفّر لها ظروفاً للتكامل من طيب الولادة إلى الأجواء الصالحة داخل الأسرة إلى حسن التربية إلى الرعاية المباشرة من لدن رسول الله (صلی الله علیه و آله).

وفي ضوء ذلك فإن فرصة التكامل غير المتناهي متوفرة برحمة الله ولطفه لكل الناس، لكن سبق في علمه تبارك وتعالى أن لا يصل إلى مرتبة الزهراء إلا هي (سلام الله عليها).

س4: من بين جميع الأمور التي اتصفت بها الزهراء (علیها السلام) هو كثرة نقلها لأحاديث أبيها، في حين يعتقد البعض أن هذا الجانب مغيّب من

ص: 85

حياة الصديقة فما رأيكم؟سماحة الشيخ: هذا صحيح فإن الزهراء (سلام الله عليها) استفادت علماً جمّاً من أبيها (صلی الله علیه و آله) مباشرة ومن خلال استنطاق ولديها الحسنين يومياً عند عودتهما من مسجد جدهما رسول الله (صلی الله علیه و آله) عما نزل عليه من القرآن وما تحدث به في المسجد، وكانت لديها صحائف تدون فيها تلك الإفادات النبوية الشريفة، ولكن لم يصل إلينا إلا النادر، وبقي هذا المجموع من الصحائف الذي عُرف ب-(مصحف فاطمة) متوارثاً عند أولادها الحجج الميامين (سلام الله عليهم) ويأخذون منه ويحتجّون به، وقد ورد عن الإمام العسكري (علیه السلام): (نحن حجج الله على الناس، وجدتي فاطمة حجة الله علينا)ولكنه أُخفي عن الأمة كما أُخفي قبر الزهراء (علیها السلام) وحرموا من هذه البركات العظيمة.

وممن اطلع عليه الصحابي الجليل عبد الله الأنصاري ورأى فيه أسماء الأئمة الاثني عشر منصوصاً عليهم بالأسماء. ففي رواية معتبرة عن الإمام الباقر (علیه السلام) عن جابر قال: (دخلت على فاطمة (علیها السلام) وبين يديها لوح فيه أسماء الأوصياء من ولدها فعددتُ اثني عشر آخرهم القائم ثلاثة منهم محمد وأربعة منهم علي)(1).

س5: كثر الأخذ والرد والشبهات على شيء اسمه فاطمة؟ هل يوجد مثل هذا الكتاب؟ وهل هذا الكتاب موجود في وقتنا الحاضر؟ ما هو هذا الكتاب إن وجد؟ وما هي مضامينه؟

ص: 86


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 33، ح20.

سماحة الشيخ: قد أوضحنا في جواب السؤال السابق معنى مصحف فاطمة وأنه كتاب دوّنت فيه الزهراء (علیها السلام) ما استفادته من أبيها (صلی الله علیه و آله) من تفسير الآيات و بيان للأحكام و مواعظ وأخبار ما سيقع في المستقبل و نحوها. وليس هو مصحفاً أي قرآناً غير هذا الذي في أيدنا والذي تلقيناه جيلاً بعد جيل حتى زمان المعصومين (علیهم السلام) الذين أمرونا أن نقرأ كما يقرأ الناس ونتلوه في صلواتنا ومساجدنا ونطهّر بتلاوته قلوبنا ونفوسنا، وقد استشهدت في كلامي الآن بآيات عديدة فهل وجدت فيها شيئاً غير ما في هذا المصحف الكريم؟ وأما الذي يلقي هذه الشبهات لتمزيق صف المسلمين و [حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ] (البقرة: 109) فليس عليه إلا أن يذهب لأي مسجد أو مكتبة أو دار لأتباع أهل البيت (علیهم السلام) أو يستمع لمقرئيهم فهل يجد عندهم قرآناً غير هذا المتداول؟

إن اهتمام أئمتنا (ع) بالقرآن وصدور مئات الأحاديث عنهم في تعظيمه والحث على تلاوته والتدبر في آياته والعلوم المكنونة فيه وشكواه (القرآن) من هجرانه، وحادثة الإمام العسكري (علیه السلام) الذي وقف بحزم بوجه فيلسوف العرب إسحاق الكندي الذي ألف في متناقضات القرآن حتى مزّق ما كتب.

كل هذا ينفي أي تشكيك في كون هذا القرآن المتداول هو ما أنزله الله تبارك وتعالى على نبيه (صلی الله علیه و آله).

نعم كانت للصحابة مصاحب فيها اختلاف عما هو موجود كمصحف أم المؤمنين حفصة ومصحف عبد الله بن مسعود الذي حذف المعوذتين اجتهاداً منه بأنهما ليستا سورتين من القرآن وإنما هما تعويذتان نزلتا على رسول الله

ص: 87

(صلی الله علیه و آله) ليعوّذ بهما الحسنين (ع)، ونقل المؤرخون أن الخليفة عثمان أحرق كل تلك المصاحف وأبقى على نسخة واحدة هي المتداولة.س6: تعوّدنا منك سماحة الشيخ ومن خلال كتبكم (الأسوة الحسنة) و (دور الأئمة في الحياة الإسلامية) وغيرهما أن تركّزوا على الدروس المستفادة من سيرتهم (صلوات الله عليهم أجمعين) باعتبارهم المثل الأعلى الذي يُتأسّى به ولا تكتفون بالسرد التأريخي لحياة المعصومين فهل يمكنكم الإشارة إلى مثل هذه الدروس من حياة الزهراء (علیها السلام)؟

سماحة الشيخ: تحدثنا في ذلك الكتاب عن أهمية الأسوة الحسنة في أية رسالة إصلاحية ومنها رسالة الإسلام لإقناع الناس بها وإلا ما قيمة أن يعرض الإنسان كلاماً طيباً لكنه يخالفه في العمل، ولذا كان دور أهل البيت (علیهم السلام) عظيماً في تثبيت عقائد الإسلام وأحكامه والحفاظ عليه لأنهم جسّدوا الشريعة على أرض الواقع.

وهكذا كانت فاطمة الزهراء (علیها السلام) أسوة حسنة للعالمين جميعاً من الرجال والنساء، وسيرتها المباركة غنية بالدروس والعبر، وفيها الكثير مما يطلبه التواقون إلى الصعود في مدارج الكمال:

(الأول) فناؤها في ربّها وإخلاصها في طاعته تبارك وتعالى وبلوغها أعلى مراتب المعرفة، لأن منازل الناس تتفاوت في الجنان على قدر معرفتهم بربهم –كما في الحديث الشريف- وقد بلغت أعلى المراتب بعد أبيها وزوجها (صلوات الله عليهما) وكانت تفرّغ لعبادتها الكثير من وقتها، روى الإمام الحسن (علیه السلام) لأخيه الحسين (علیه السلام) قال: (رأيت أمي فاطمة (علیها السلام) قامت في محرابها

ص: 88

ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح)(1).ويقول الحسن البصري: (ما كان في هذه الأمة أعبد من فاطمة كانت تقوم حتى تورم قدماها)(2).

ومن كلماتها (سلام الله عليها): (من أصعد إلى الله خالص عبادته أهبط الله عز وجل عليه أفضل مصلحته)(3).

ومن نتائج هذه المعرفة المتكاملة بالله تعالى الإعراض عما سواه كما وصف أمير المؤمنين (علیه السلام) المتقين: (عظُم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم)(4) لذا عاشت فاطمة (علیها السلام) زاهدة في دنياها ورسول الله (صلی الله علیه و آله) يشجعها على ذلك؛ عن الإمام السجاد (علیه السلام) قال: (حدّثتني أسماء بنت عميس قالت: كنت عند فاطمة جدتك إذ دخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) وفي عنقها قلادة من ذهب كان علي بن أبي طالب (علیهما السلام) اشتراها لها من فيء له فقال النبي (صلی الله علیه و آله): لا يغرّنك الناس أن يقولوا بنت محمد وعليك لباس الجبابرة، فقطّعتها وباعتها واشترت بها رقبة فأعتقتها فسرّ رسول الله (صلی الله علیه و آله)بذلك)(5).

(الثاني) الالتزام الدقيق بسنة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو أبوها، قالت أم المؤمنين عائشة: (ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاّ ً وهدياً برسول الله (صلی الله علیه و آله) في قيامها

ص: 89


1- علل الشرائع للصدوق (رضوان الله عليه)، ج1/ 182، باب 145، ح1.
2- بحار الأنوار: ج43، الباب 4، ح7.
3- بحار الأنوار: 67/ 249.
4- نهج البلاغة، الخطبة 193 في وصف المتقين.
5- بحار الأنوار: 43، باب 3، ح28.

وقعودها من فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله). قالت: وكانت إذا دخلت على النبي (صلی الله علیه و آله)قام غليها فقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان النبي (صلی الله علیه و آله) إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته في مجلسها)(1).وكانت (صلوات الله عليها) لا تكتفي بإتيان ما ترغب فيه (صلی الله علیه و آله) واجتناب ما يكرهه (صلی الله علیه و آله) بل إنها تتحرك للامتثال لمجرد علمها برغبته (صلی الله علیه و آله) وإرادته وإن لم يعبّر عنها، فقد روي أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قدم من سفر وكان أول ما يأتي إلى دار فاطمة فيسلم عليها وكانت (علیها السلام) قد علّقت ستراً وزينة احتفالاً بقدوم أبيها وزوجها (صلوات الله عليهما) فعرفت في وجهه عدم الرضا فتصدقت بالستر والزينة، فقال (صلی الله علیه و آله): (فعلت فداها أبوها -ثلاث مرات-، ليست الدنيا من محمد ولا من آل محمد ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى فيها كافراً شربة ماء)(2).

(الثالث) طاعتها لإمامها وهو زوجها أمير المؤمنين (علیه السلام) ودفاعها عن حقه ونصرته بكامل ما تملك ومواقفها بعد وفاة أبيها رسول الله (صلی الله علیه و آله) خير دليل على ذلك.

(الرابع) علاقتها بأسرتها، فقد جسّدت في علاقتها مع زوجها الحديث الشريف: (جهاد المرأة حسن التبعّل) وبذلت غاية الوسع في خدمة البيت والأسرة وكان أمير المؤمنين (علیه السلام) يذكر لها ذلك، واستشهدته عندما دنت

ص: 90


1- فضائل الخمسة من الصحاح الستة: 3/ 152، وقد نقله عن صحيح الترمذي وأبي داود ومستدرك الصحيحين.
2- بحار الأنوار، ج43، باب 3، ح7.

منها الوفاة وقالت له: (يا ابن العم هل عهدتني كاذبة أو خائنة مذ عاشرتني؟ قال (علیه السلام): أنت أبرّ وأوفى من أن أوبّخك بكلمة يا بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولقد عزّ علي فراقك)(1).وأحسنت تربية أولادها وكانت تبعث الحسنين (ع) مع أبيهما أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى مسجد جدهما رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتسألهما إذا عادا عن كل ما قال أو فعل رسول الله (صلی الله علیه و آله) وكانت تعينهما على طاعة الله تبارك وتعالى، ففي كتاب مفاتيح الجنان في أعمال ليلة القدر أنها كانت تنيمهما في النهار مقداراً ليقويا على إحياء الليل بالعبادة، وكانت تخاطبهما: يا ولدي ويا قرة عيني، فخلقت أجواء غاية في السعادة والانسجام داخل الدار مع صعوبة الحياة يومئذٍ وشدة الحاجة والمحن التي مرّت على المسلمين في صدر الإسلام.

(الخامس) وضربت أروع الأمثلة في العفة والحياء فقد روي عن الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) عن آبائه (ع) قال: (قال علي (علیه السلام): استأذن أعمى على فاطمة (علیها السلام) فحجبته، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لها: لم حجبتيه وهو لا يراك؟ فقالت (علیها السلام): إن لم يكن يراني فإني أراه وهو يشم الريح، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أشهد أنك بضعة مني).

وبهذا الإسناد قال: (سأل رسول الله (صلی الله علیه و آله) أصحابه عن المرأة: ما هي؟ قالوا: عورة، قال: فمتى تكون أدنى من ربها؟ فلم يدروا، فلما سمعت فاطمة (علیها السلام) ذلك قالت: أدنى ما تكون من ربها أن تلزم قعر بيتها، فقال رسول الله

ص: 91


1- بحار الأنوار: 43 الباب 7، ح20.

(صلی الله علیه و آله): إن فاطمة بضعة مني)(1).وروى علماء الشيعة والسنة أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال لها: (أي شيء خير للمرأة؟ قالت: أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل، فضمها إليه وقال: ذرية بعضها من بعض)(2).

(السادس) إظهار كرامة المرأة في الإسلام، ومن معالم ذلك كفاية مؤونتها على الرجل، قال الإمام السجاد (علیه السلام) في دعاء مكارم الأخلاق: (واكفني مؤونة الاكتساب، وارزقني من غير احتساب، فلا أشتغل عن عبادتك بالطلب، ولا أحتمل إصر تبعات المكسب) وبهذا الصدد روى الإمام الصادق (علیه السلام) عن أبيه الباقر (علیه السلام) قال: (تقاضى علي وفاطمة إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الخدمة، فقضى على فاطمة بخدمة ما دون الباب، وقضى على علي بما خلفه، قال: فقالت فاطمة: فلا يعلم ما داخلني من السرور إلا الله بإكفائي رسول الله (صلی الله علیه و آله) تحمل رقاب الرجال)(3).

(السابع) اعتماد أسلوب الحوار والمحاججة والوسائل السلمية للمطالبة بالحقوق عند من يحترم هذه الأساليب وهذا ما تكشفه خطبها على أصحاب أبيها (صلی الله علیه و آله) المملوءة بالحجج الدامغة المستندة إلى كتاب الله وسنة رسوله (صلی الله علیه و آله).

(الثامن) تقديم المصلحة العليا وحفظ كيان المسلمين ودولة الإسلام على

ص: 92


1- بحار الأنوار: 43، الباب 4 ح 16
2- بحار الأنوار: 43 الباب 4، ح7.
3- بحار الأنوار: 43، الباب 4، ح1

المصالح الشخصية فعندما غُصبت حقوقها وزوجها (سلام الله عليه) ولم تُجدِ الخطابات عُرضت عليهما النصرة بالخيل والرجال لكن أمير المؤمنين (علیه السلام) علم أن مراد هؤلاء الفتنة وشق الصف في وقت كانت الأعداء والمرتدّون يتربصون بالمدينة وأهلها لنقض عرى الإسلام بمساعدة المنافقين في داخلها.(التاسع) الإيثار على نفسها، ومن الشواهد على ذلك ما أنزل الله تعالى فيه سورة (هَلْ أَتَى) حيث تصدّقوا (سلام الله عليهم) بطعامهم وبقوا طاوين من الجوع ثلاثة أيام، وما ورد عن الإمام الحسن (علیه السلام) وهو يتحدث لأخيه الحسين (علیه السلام) عن أمهما فاطمة (علیها السلام): (وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسمّيهم وتكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: يا أماه لِمَ لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بني الجار ثم الدار)(1).

وغيرها كثير، ويجب أن نعترف بوجود التقصير الكبير مضافاً إلى القصور في التعريف بالزهراء (علیها السلام) ولو أجريت كشفاً بما كتب عن الزهراء (علیها السلام) للتعريف بها وبسيرتها المباركة والتأسي بها لوجدت أنه مقدار ضئيل، مضافاً إلى التقصير العملي وأعني تجسد حياة الزهراء (علیها السلام) على أرض الواقع.

لكنني متفائل بهذه الصحوة العالمية المباركة تجاه قضية الزهراء ولا شك أنها فتح عظيم وتساهم بدرجة كبيرة في إعادة الحق على نصابه والتمهيد للدولة الكريمة والله ولي التوفيق.

ص: 93


1- المصدر، باب 4، ح3.

خطاب المرحلة 221 :فاطمة: يغضب الله لغضبها

اشارة

خطاب المرحلة 221 :فاطمة: يغضب الله لغضبها(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده، والحمد حقه كما يستحقه حمداً كثيراً، وأفضل الصلاة والسلام وأتمهما وأحسنهما وأزكاهما وأنماهما وأطيبهما وأطهرهما على سادة الخلق أجمعين: أبي القاسم محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والتسعة المعصومين أجمعين.

السلام عليكم أيها الحشد المبارك ورحمة الله وبركاته.

لقد وصف الأئمة المعصومون (سلام الله عليهم) فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأعظم الأوصاف وأنزلوها أعظم المنازل ورتّبوا عليها أعظم البركات والآثار، روي عن الإمام الباقر (علیه السلام) قوله: (إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء، ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب وتحل المكاسب وترد المظالم وتُعمر الأرض ويُنتصف من الأعداء ويستقيم الأمر)(2).

ص: 94


1- خطاب الزيارة الفاطمية الذي ألقاه سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) على الآلاف الذين تجمعوا في ساحة ثورة العشرين في النجف الأشرف قبل الانطلاق في التشييع الرمزي للزهراء فاطمة (عليها السلام) في ذكرى استشهادها يوم 3 جمادى الثانية 1430 المصادف 28/ 5/ 2009.
2- وسائل الشيعة، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 1، ح6

وعن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) قال: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خَلْقان من خَلْقِ الله، فمن نصرهما أعزّه الله، ومن خذلهما خذله الله)(1).وفي مقابل هذه الآثار المباركة على الأمة التي تقوم بالفريضة، فإن عواقب وخيمة تنزل بها إن تقاعست وتخاذلت، روي عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: (لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر والتقوى، فإذا لم يفعلوا ذلك نُزعت منهم البركات وسُلّط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء)(2).

وعن الإمام الرضا (علیه السلام) قال: (لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهُنَّ عن المنكر أو ليُستَعملَنَّ عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم)(3).

وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (ما قُدِّست أمة لم يؤخذ لضعيفها من قويّها غير مُتَعتَع)(4).

وخطب أمير المؤمنين (علیه السلام) فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أما بعد فإنه إنما هلك من كان قبلكم حيثما عملوا من المعاصي ولم ينههم الربانيون

ص: 95


1- وسائل الشيعة، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 1، ح 20.
2- وسائل الشيعة، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 1، ح 18.
3- وسائل الشيعة، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 1، ح 18.
4- وسائل الشيعة، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 1، ح 4.

والأحبار عن ذلك، وأنهم لما تمادوا في المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار عن ذلك نزلت بهم العقوبات، فأْمُ-رُوا بالمعروف وانهَوا عن المنكر واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لن يقرّبا أجلاً ولن يقطعا رزقاً)(1).وهذا كله في آيات كثيرة من كتاب الله تبارك وتعالى، قال سبحانه: [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] (آل عمران:104) وقال عز من قائل: [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ] (آل عمران:110) وقال تعالى: [وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ] (المائدة:62-63).

أيها الأحبة:

إن هذه الفريضة المباركة العظيمة تحركها على أرض الواقع صفتان قلبيتان متلازمتان إذا ضمّهما القلب حرَّك الأعضاء هما: الغضب لله إذا عصي، والرضا إذا أُطيع، عن الإمام الصادق (علیه السلام) من حديث: (إذا رأى المنكر ولم ينكره وهو يقوى عليه فقد أحبَّ أن يُعصى الله، ومن أحبَّ أن يُعصى الله فقد بارز الله بالعداوة، ومن أحب بقاء الظالمين فقد أحب أن يعصى الله، إن الله تبارك وتعالى حمد نفسه على إهلاك الظالمين، فقال: [فَقُطِعَ دَابِرُ القَومِ الذِينَ ظَلَمُوا

ص: 96


1- المصدر، باب1، ح9، 7.

وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ])(1). وعن أبي عبد الله الحسين (علیه السلام): (لا يحلّ لعين مؤمنة ترى الله يعصى فتطرف حتى تغيّره)(2).

وعن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) قال: (أوحى الله إلى شعيب النبي (ع) أني مُعذِّب من قومك مائة ألف أربعين ألفاً من شرارهم، وستين ألفاً من خيارهم، فقال (علیه السلام): يا رب هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ فأوحى الله عز وجل إليه: داهَنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي)(3).

وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (إن الله عز وجل بعث ملكين إلى أهل مدينة ليقْلباها (على أهلها)، فلما انتهيا إلى المدينة فوجدا فيها رجلاً يدعو ويتضرع (إلى أن قال:) فعاد أحدهما إلى الله، فقال: يا رب إني انتهيت إلى المدينة فوجدت عبدك فلاناً يدعوك ويتضرع إليك، فقال: امضِ لما أمرتك به، فإن ذا رجل لم يتمعّر وجهه غيظاً لي قط)(4).

ويكون المنكر أفظع والغضب الدافع لتغييره أشد إذا أُعطي مشروعية ممن يتزيى بزيّ الدين ويلبس لباس الإسلام وحينئذٍ يختلط الحق بالباطل وتعصف الفتن والشبهات بالأمة ويصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، ويقوم علماء السوء هؤلاء بتزييف الأحكام وإفراغها من محتواها لتخدم مصالحهم

ص: 97


1- المصدر، باب 1، ح25.
2- المصدر، باب 8، ح1.
3- المصدر، باب 6، ح2.
4- المصدر، باب 17، ح9.

وأغراضهم الدنيوية، ويعود الإسلام النقي الأصيل غريباً مستضعفاً تحوم حوله الشكوك.عن الإمام الرضا (علیه السلام) قال: (إن ممن ينتحل مودتنا أهل البيت مَن هو أشد فتنة على شيعتنا من الدجال، فقلت: بماذا؟ قال: بموالاة أعدائنا، ومعاداة أوليائنا إنه إذا كان كذلك اختلط الحق بالباطل، واشتبه الأمر فلم يُعرف مؤمن من منافق)(1).

وعن أبي جعفر الباقر (علیه السلام): (يكون في آخر الزمان قوم يُتّبَعُ فيهم قومٌ مراؤون يتقرّؤون ويتنسّكون حدثاء سفهاء لا يوجبون أمراً بمعروف ولا نهياً عن منكر إلا إذا أمنوا الضرر يطلبون لأنفسهم الرخص والمعاذير يتّبعون زلات العلماء وفساد عملهم، يُقبلون على الصلاة والصيام وما لا يكْلِمُهُم في نفسٍ ولا مال، ولو أضرّت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها كما رفضوا أسمى الفرائض وأشرفها)(2).

وروي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله: (كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟ فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله، فقال: نعم، وشرّ من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ فقيل له: يا رسول الله ويكون ذلك، قال: نعم، وشر من ذلك، كيف

ص: 98


1- فروع الكافي: كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح1.
2- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 1، ح12.

بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً؟)(1).وروي عن النبي (صلی الله علیه و آله) قوله: (ليجيئنّ أقوام يوم القيامة لهم حسنات كأمثال الجبال فيأمر بهم إلى النار، فقيل: يا نبي الله أمصلون كانوا؟ قال: نعم، كانوا يصلون ويصومون ويأخذون وهناً من الليل، لكنهم إذا لاح لهم شيء من أمر الدنيا وثبوا عليه)(2).

ويكون وجوب هذه الفريضة أأكد حينما يتعلق الأمر بهداية الناس إلى أعظم قضية في الإسلام وهي إمامة الأمة وخلافة رسول الله (صلی الله علیه و آله) التي أمر الله تبارك وتعالى نبيه إعلانها بأشد لهجة بقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] (المائدة:67) لأن بها عصمة الناس من الانحراف والأخذ بأيديهم نحو السعادة والكمال وإرشادهم إلى الصواب، وقد أولى الله تبارك وتعالى الدفاع عن هذه القضية كل اهتمام بحيث أن مجرد الجلوس في مجلس ينتقص فيه من أئمة الإسلام فإنه يعرّض صاحبه لعذاب الله تبارك وتعالى، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: (من قعد في مجلس يسَبّ فيه إمام من الأئمة يَقدِر على الانتصاف فلم يفعل ألبسه الله الذل في الدنيا وعذّبه في

ص: 99


1- بحار الأنوار: 74/ 186.
2- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 38، ح10

الآخرة، وسلبه صالح ما منَّ به عليه من معرفتنا)(1).وعن مثل هذه المجالس قال الإمام الصادق (علیه السلام): (فمن ابتلي من المؤمنين بهم، فإذا خاضوا في ذلك فليقم ولا يكن شرك شيطان ولا جليسه، فإن غضب الله لا يقوم له شيء ولعنته لا يردّها شيء، ثم قال (علیه السلام): فإن لم يستطع فلينكر بقلبه وليقم ولو حلب شاة أو فواق ناقة)(2).

ويقول (ع): (فإذا رأيتهم يخوضون في ذكر إمام من الأئمة فقم، فإن سخط الله ينزل هناك عليهم)(3).

أيها المحبّون للزهراء (علیها السلام) المجتمعون لنصرتها:

لمواجهة كل هذه الفتن والانحرافات، وللنهوض بهذا الواجب العظيم ولإحياء هذه الفريضة المباركة ولنصرة إمامها الحق أمير المؤمنين (علیه السلام) خرجت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) حين خرجت (في لُمَّةٍ من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى دخلت على حشد المهاجرين والأنصار وغيرهم)(4) في مسجد أبيها رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولم يكن خروجها للمطالبة بنخيلات فدك، وقد كانت فدك تحت يدها في حياة أبيها (صلی الله علیه و آله) أكثر من ثلاث سنين وما سمعنا أنها تنعمت بشيء

ص: 100


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 38، ح 12.
2- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 38، ح 13.
3- الاحتجاج للطبرسي: 1/ 132.
4- علل الشرائع للصدوق (قدس سره): 2/ 366.

من حطام الدنيا وإنما وجدناها كما وصفها زوجها أمير المؤمنين (علیه السلام): (أنها استقت بالقربة حتى أثّر في صدرها، وطحنت بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرّت ثيابها، وأوقدت النار تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فأصابها من ذلك ضرر شديد) (1).وهي وزوجها وولداها الحسنان (صلوات الله عليهم أجمعين) الذين أطعموا المسكين واليتيم والأسير طعامهم وبقوا طاوين على الجوع ثلاثة أيام فنزلت في حقهم سورة (هل أتى).

وهي التي لما علمت أن أباها (صلی الله علیه و آله) قد انتابه شعور من الترفع والزهد لم يعلم أصحابه معناه حين دخل دارها فوجدها قد صنعت مسكتين من ورق - أي فضة- وقلادة وقرطين وستراً لباب البيت لقدوم أبيها وزوجها (صلوات الله عليهما) فتصدقت بها جميعاً، فقال (صلی الله علیه و آله): (فعلت، فداها أبوها - ثلاث مرات- ليست الدنيا من محمد ولا من آل محمد ولو كانت الدنيا تعدل عند الله من الخير جناح بعوضة ما سقى فيها كافراً شربة ماء) (2).

فهل ترى الزهراء (علیها السلام) غضبت لغصبهم فدكاً منها ومن زوجها أمير المؤمنين (علیه السلام) القائل: (بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلّته السماء، فشحّت عليها نفوس قوم، وسَخَتْ عنها نفوس قومٍ آخرين، ونعم الحكم الله، وما أصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانُّها في غدٍ جَدَثٌ، تنقطع في ظلمته آثارها، وتغيب أخبارها، وحفرةٌ لو زِيد في فُسحتها وأوسعت يدا حافرها،

ص: 101


1- بحار الأنوار: 43، 20 عن أمالي الصدوق.
2- نهج البلاغة، من كتاب له (عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف، تسلسل 285.

لأضغطها الحجر والمدر، وسدّ فُرَجَها التراب المتراكم) (1).إنها (سلام الله عليها) وقفت ذلك الموقف الخالد لتعيد الحق إلى نصابه ولتقوّم مسيرة الأمة، وكان غضبها كل غضبها لله تبارك وتعالى ورضاها كل رضاها لله تبارك وتعالى، لذا كان من الطبيعي أن يقلّدها أبوها (صلی الله علیه و آله) وساماً رفيعاً يعلّم الأجيال إلى يوم القيامة ويأخذون منه الدروس والعبر، وهو قوله (صلی الله علیه و آله): (إن الله ليغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها)(2) لأنها (سلام الله عليها) لم تغضب إلا له تبارك وتعالى ولم ترضَ إلا له سبحانه. وترى كل همّها ومحور خطابها إيصال هذه الرسالة، وأداء هذه الأمانة وهداية الأمة إليها وهي رسالة الأنبياء جميعاً [إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصلاح مَا اسْتَطَعْتُ] (هود:88).

وتجد اللوعة كل اللوعة تعتصر قلبها الرحب الرحيم حين تعود إلى دارها والأمة مصرّة على الانقلاب على وصية نبيّها (صلی الله علیه و آله) وعدم الاستجابة لما يحييها مخلّفة وراء ظهورها قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ] (الأنفال: 24).

وتجد الأسى بادياً على كلماتها (سلام الله عليها) حينما تزورها نساء المهاجرين والأنصار يتفقدن حالتها في مرضها ولما سألنها: (كيف أصبحت من علّتك يا بنت رسول الله؟) لم تُجب بما هو المتعارف من الشكوى وبيان الحال

ص: 102


1- الحديث مجمع عليه عند الشيعة وتجد نصوصه وأسانيده في مصادرهم ومنها كتاب بحار الأنوار: 43/ 19، وقد رواه علماء السنة في صحاحهم (راجع كتاب فضائل الخمسة من الصحاح الستة: 3/ 180).
2- الاحتجاج للطبرسي: 1/ 148.

وإنما أجابت (علیها السلام) بهدفها الأسمى فقالت بعد الحمد والثناء على الله تبارك وتعالى والصلاة على أبيها رسول الله (صلی الله علیه و آله): (ويحهم أنّى زعزعوها! عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوة والدلالة، ومهبط الروح الأمين، والطبين بأمور الدنيا والدين؟! ألا ذلك هو الخسران المبين! وما الذي نقموا من أبي الحسن؟! نقموا والله منه نكير سيفه وقلة مبالاته لحتفه وشدة وطأته ونكال وقعته)(1) إلى آخر كلامها (سلام الله عليها).وبذلك فقد شخّصت الصديقة الطاهرة (علیها السلام) داءً عظيماً ابتليت به الأمم وستظل تعاني منه وهو سبب كل معاناتها وكوارثها وهو سوء اختيار من يحكمهم ويتولى أمورهم والإعراض عن القيادة الصالحة والالتفاف حول من يريدهم للدنيا، قالت (سلام الله عليها): (استبدلوا والله الذنابى بالقوادم، ويحهم أفمن يهدي إلى الحق أحقّ أن يتّبع أم من لا يهدِّي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون) فهم بدل أن يحلّقوا نحو الأعلى ونحو الكمال بالقوادم، هبطوا نحو الأسفل بالذنابى.

هذا الانحراف الخطير في التفكير الناشئ من حب الدنيا واتباع الشهوات والجهل والتعصب الذي ابتليت به الأمم عبر التأريخ فاستبدلت معاوية بأمير المؤمنين علي (علیه السلام)، واستبدلت يزيداً بالحسين (علیه السلام)، واستبدلت الطغاة والجبابرة بالأئمة المعصومين (علیهم السلام) والعلماء الصالحين، عبّر عنها الله تبارك وتعالى بقوله: [يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ] (يّ-س:30).

ص: 103


1- الاحتجاج للطبرسي: 1/ 148.

وكانت صرخة الزهراء (علیها السلام) صدى لتلك الحسرة ومظهراً لذلك الغضب الإلهي.ولم يكن أحدٌ قادراً على إطلاق ذلك الصوت المدويّ في أعماق التأريخ إلا الزهراء (علیها السلام) في طهارتها وشجاعتها وسمو منزلتها وقربها من رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ولو كان أمير المؤمنين (علیه السلام) الذي قالها لقالوا إنه رجل طامع في الخلافة وطامح إلى السلطة أو كما قالوا: إنه يجرُّ النار إلى قرصه.

ولما قام الإمام الحسين (علیه السلام) بعدئذٍ بمواصلة هذا الدور قالوا إنه قُتل بسيف جده. أما الزهراء (علیها السلام) فلم يستطع أحد من الأولين والآخرين أن يرد عليها بكلمة، وغاية ما فعلوه هو التشكيك بوقوع بعض تفاصيل المظالم على الطاهرة الزهراء (علیها السلام). لذا فإن إحياء مواقف الزهراء (علیها السلام) والانتصار لمظلوميتها من أعظم الوسائل لنشر مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) وإقناع الناس باستحقاقهم إمامة الأمة وقيادتها.

أيها التواقون لشفاعة الزهراء (عليها السلام):

إن في حياتها الشريفة الكثير مما يمكن أن تتعلمه البشرية وتتأسى به، وها نحن أمام درس منها: وهو الغضب لله تبارك وتعالى إذا عصي وإنكار المنكر وبذل الوسع لتغيير الواقع الفاسد على جميع الصُعُد والوقوف في وجه الظلم والانحراف عسى الله أن يدخلنا في شفاعة الزهراء (علیها السلام)، ولا يُنال ذلك بالكسل والتقاعس عن أداء المسؤولية، وقد روي في حديث معتبر عن الإمام الصادق (علیه السلام) عن آبائه (ع) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال: (إن الله عز

ص: 104

وجلّ ليُبغِضُ المؤمن الضعيف الذي لا دين له، فقيل: وما المؤمن الذي لا دين له؟ قال: الذي لا ينهى عن المنكر)(1).وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (من ترك إنكار المنكر بقلبه ولسانه ويده فهو ميت بين الأحياء)(2).

وعن الإمام الحسين (علیه السلام): (لا يحل لعين مؤمنة ترى الله يعصى فتطرف حتى تغيّره)(3).

فتأسّوا بالزهراء (علیها السلام) وأدخلوا السرور على قلبها الشريف بإحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل الدؤوب لإعلاء كلمة الله تبارك وتعالى وإصلاح الناس وهدايتهم، وليكن عملكم هذا خالصاً لوجه الله تبارك وتعالى ومنضبطاً بتوجيهات المرجعية الرشيدة كما أوصاكم أئمتكم (سلام الله عليهم): (غير طالبين سلطاناً ولا باغين مالاً ولا مريدين بظلمٍ ظفراً)(4) فقد وعدكم الله تبارك وتعالى النصر والتثبيت ما دمتم في طاعته ونصرة دينه وأوليائه قال تعالى: [إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] (محمد: 7).

وإن تقاعس أحدٌ أو مال إلى الراحة والأنانية وحب الدنيا فسوف يسلبه الله تبارك وتعالى هذه الكرامة: [وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا

ص: 105


1- فروع الكافي: كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح15، ووسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 1، ح23 بتغيير طفيف.
2- المصدر، باب 3، ح4.
3- المصدر، باب 1، ح25.
4- فروع الكافي: كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح1.

أَمْثَالَكُمْ] (محمد:38) [وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ] (التوبة:46).والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعترته الطيبين الطاهرين

ص: 106

خطاب المرحلة 222 :تدجين الشعب العراقي ليستسلم للظلم والإذلال

بسم الله الرحمن الرحيم

استقبل(1) سماحة الشيخ اليعقوبي الدكتور رئيس جمعية أطباء الأمراض النفسية والعصبية، ومما دار في الحديث تحليل ظاهرة السكون وعدم اتخاذ أي رد فعل لدى العراقيين إزاء الكوارث التي تحلُّ بهم.

واتفق سماحته مع الدكتور الضيف على أن صبرهم في الموارد التي يُحمد فيها الصبر ناشئ من إيمانهم وتأسيهم بعظماء صبروا على أقسى المصائب والكوارث فسنّوا طريق الصبر لشعبهم وهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين وفاطمة الزهراء والحسن والحسين(ع) وأهل بيتهم.

لكن الصمت والسكوت إزاء مظالم كبيرة ليس من الصبر المحمود بل هو من الخنوع والاستسلام للذل والهوان ولم يكن أهل البيت(ع) خانعين مستسلمين ولا رضوا بالذل والهوان وما أكثر المظالم اليوم حيث يُقتل الأبرياء ويعتقلون ويسرق قوتهم ويهجّرون ويسكنون العراء ويحرمون من ابسط حقوق الإنسان كخدمات الماء والكهرباء ويأكلون ويشربون مالا يصلح للاستهلاك البشري ويعيشون في حالٍ بئيس من دون أن يقولوا (لا) لمن ظلمهم وإذا تحدثوا فيقولون [حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] مع أن الله تعالى لا يرضى لعباده الذل

ص: 107


1- تاريخ اللقاء الخميس 2 رجب 1430 المصادف 25/ 6/ 2009.

والهوان والحرمان وقد أوكل إلى الإنسان كل شيء إلا كرامته فليس من حقه أن يتنازل عنها.في حين نرى شعوباً حية في المنطقة وفي العالم تمتاز بالشجاعة وقوة الإرادة تنتفض وتزلزل الأرض تحت أقدام الظالمين إذا أهينت وصودرت إراداتها أو اتخذت قرارات مجحفة في حقهم كرفع أسعار المواد الغذائية والأساسية كالمشتقات النفطية.

فهلاّ كانوا كتلك الشعوب الحية التي يفتخر بمواقفهم الأحرار في العالم.

ولو أردنا أن نحلّل سبب حصول هذه الظاهرة السيئة فسنجد أسباباً عديدة كطول زمان القهر والإذلال التي مارسته الديكتاتورية واليأس من الإصلاح والتغيير وغيرها، وعلى رأس الأسباب التدجين الذي مارسه بعض من يسمّون بعلماء الدين ويوجد من يسمع لهم في الشارع فأخذوا في شرعنة ظلم الظالمين وفسادهم وطغيانهم واستئثارهم بأموال الشعب والتدمير والخراب تحت عناوين مختلفة ودعوة الناس إلى الاستسلام والرضا بالقتل والتشريد والذل والحرمان.

وبحسب فطرة الناس وإيمانهم بمرجعيتهم وأنها تقودهم إلى الهدى والصلاح فإنهم يسلّمون لمواقفها بلا نقاش، تصوروا أنه حينما كان يحاسب(1) وزير التجارة بكل شفافية وموضوعية أمام البرلمان على الفساد والتلاعب بقوت الشعب وأمام أنظار الناس وبالوثائق وأعطي الفرصة الكاملة للدفاع عن نفسه

ص: 108


1- قامت كتلة الفضيلة في البرلمان باستجواب وزير التجارة وفضح الفساد الكبير الذي عم أرجاء الوزارة على حساب قوت الشعب، وقد حوكم الوزير بعد ذلك واستقال من الوزارة، وقد تم استجوابه في البرلمان يومي السبت والأحد 20،21 ج1 1429 المصادف 16،17/ 5/ 2009.

وكان الرد البائس لزملاء الوزير المهزومين أمام تلك الحجج: إن هذا استجواب لأهداف سياسية، يخرج إمام الجمعة في مكان مقدس(1) ليردد نفس هذه الكلمة التي قالها السياسيون بدلاً من أن يصطف إلى جانب المحرومين والمظلومين والمطالبين بالعدالة ومكافحة الفساد.وهكذا يتحول حملة العلم من قادة إلى الهدى والصلاح إلى وعاظ سلاطين يتخذونهم جسراً للوصول إلى مآربهم بتطويع الشعب المغلوب على أمره.

بينما كان المفروض بهم أن يوعّوا الشعب ويبصرونهم بالصالحين الذين يعملون بإخلاص لخدمة الناس وإسعادهم ورفع الظلم عنهم لينتخبوهم عسى أن تكون صناديق الاقتراع باباً للتغيير نحو الأحسن.

وفي ختام الحديث دعا سماحته إلى الكتابة بالتفصيل في هذه الظاهرة وأسبابها وعلاجها.

ص: 109


1- طالب إمام الجمعة في الصحن الحسيني الشريف في خطبتي الجمعة 12 ج1 1430 المصادف 8/ 5/ 2009 بعدم التوظيف السياسي لفتح ملفات الفساد خلال تصعيد المطالبة بمساءلة وزير التجارة في البرلمان وبعد أيام من إطلاق حماية الوزير النار على قوة حكومية جاءت إلى مبنى الوزارة يوم الخميس 4 ج1 المصادف 30/ 4/ 2009 لتنفيذ حكم قضائي بإلقاء القبض على عدد من كبار مسؤولي الوزارة بتهمة الفساد بينهم إخوة الوزير الذين هُرّبوا ثم قبضت عليهم إحدى المفارز الأمنية.

خطاب المرحلة 223 :تعرضوا لنفحات ربكم

خطاب المرحلة 223 :تعرضوا لنفحات ربكم(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

ورد حديث عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): (إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرّضوا لها لعله أن يصيبكم نفحة منها فلا تشقُّوُنَّ بعدها أبداً)وفي حديث مماثل (اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرضوا لنفحات الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده).

والحديث يشير إلى نوع خاص من الألطاف الإلهية وليست الألطاف العامة الشاملة لكل الناس، والدليل عليه وجهان:-

1- التعبير بالنفحات، والنفحة هي القطعة من الشيء أو هي الدفعة منه وليس كله ولا معظمه، كما في قوله تعالى [وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ] (الأنبياء:46) وهذا القول منهم إذا كان رجوعاً وتوبة في وقت قبولها فهو موقف حسن وإلا فإن الأغلب يكون موقفهم التمادي والاستكبار، قال تعالى [وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ

ص: 110


1- تقرير لحديث سماحة الشيخ اليعقوبي في حشد من الإخوة والأخوات الذين تعوّدوا منذ سنتين أن ينطلقوا مشياً من الكوفة إلى كربلاء لإحياء ذكرى وفاة العقيلة زينب وزيارة النصف من رجب وتأسياً بالعقيلة التي قطعت هذه المسافة، وكان اللقاء يوم 11 رجب 1430 المصادف 4/ 7/ 2009.

يَسْتَهْزِئُونَ] (هود:8).2- الأثر العظيم المترتب على التعرض لها والتوفيق للشمول بها بحيث أن من تناله تلك النفحات لا يحتاج إلى ابتلاء ويحسم آمره في الصالحين والسعداء بحيث لا يشقى بعدها أبداً ولتوضيحه بمثال نقول أنه يصبح كالطالب الذي يحرز درجات عالية في السعي السنوي فيُعفى من الامتحانات النهائية ولا يحتاج إلى اختبارات أخرى كأقرانه.

على أي حال فالمراد من النفحات ألطاف إلهية خاصة بدلالة التعبير عنها بالنفحات إذ أن الألطاف الإلهية العامة متواصلة على طول الدهر ولولاها لما خلق الإنسان والكون ولا استمر وجودهما.

وفي ضوء هذا فقد حث رسول الله (صلی الله علیه و آله) على التعرض لتلك النفحات، ويكون ذلك بالتعرض لأسبابها واقتناص فرصها وهي غير معروفة بالتحديد لأن الله تبارك وتعالى أخفى رضاه في طاعته كما أخفى سخطه في معصيته لذا فحريٌّ بطالب الكمال والسعادة أن يتعرض لكل ما يتيسر له من سبل الطاعة وفرص الخير عسى أن تكون إحداها سببا لنيل تلك الألطاف الخاصة، ولذا جاء في الحديث عنه (صلی الله علیه و آله): (تعرضوا لرحمة الله بما أمركم به من طاعته) وفي الكافي عن الإمام الصادق (علیه السلام): (إذا همّ أحدكم بخير فلا يؤخره فإن العبد ربما صلى الصلاة أو صام اليوم فيقال له: اعمل ما شئت بعدها فقد غفر الله لك) وعن الإمام الصادق (علیه السلام): (إذا هممت بشيء من الخير فلا تؤخّره فإن الله عز وجل ربما اطلع على العبد وهو على شيء من الطاعة فيقول: وعزّتي وجلالي لا أعذبك بعدها أبداً، وإذا هممت بسيئة فلا تعملها، فإنه ربما اطلع على العبد وهو

ص: 111

على شيء من المعصية فيقول: وعزّتي وجلالي لا أغفر لك بعدها أبداً) كالطالب الذي يفشل خلال السنة الدراسية فيحرم من فرصة المشاركة في الامتحانات العامة فكأن تقصيره ذلك أوجب نهايته مبكراً ولم يسمح له باستمرار فرصة الامتحان والسعي لنيل النجاح.وعنه (علیه السلام) (إذا أردت شيئاً من الخير فلا تؤخره، فإن العبد يصوم اليوم الحار يريد ما عند الله فيُعتقهُ الله به من النار، ولا تستقلّ ما يُتَقرّبُ به إلى الله عز وجل ولو شقَّ تمرة)(1)

وهذه المسارعة إلى فعل الخير لها ما يبررها من أكثر من جهة:

1- إن الفرص تمرُّ مرّ السحاب وقد لا تتكرر بل هي فعلاً لا تتكرر لأن الفرصة الثانية هي غير الأولى وإضاعة الفرصة غصة وإن عمر الإنسان هو رأس ماله في المتاجرة مع الله تبارك وتعالى وكل ثانية من عمره يمكن أن ترفعه درجة عند الله تبارك وتعالى.

2- إن التأخير يعطي فرصة للشيطان والنفس الأمارة بالسوء للوسوسة والتثبيط وإضعاف الهمّة، عن أبي جعفر الباقر(ع): (من همَّ بشيء من الخير فليعجّله، فإن كل شيء فيه تأخير فإن للشيطان فيه نظرة)(2) .

3- إن القلوب لها أحوال متغيرة فتارة تكون في إقبال على الطاعة وأخرى في إدبار فإذا لم يستغل الحال الأول - أي حال إقبال القلب- فقد يقع في

ص: 112


1- هذا الحديث واللذان سبقاه في أصول الكافي، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب تعجيل فعل الخير.
2- نفس المصدر.

الثاني - أي حال إدبار القلب - فلا يجد في نفسه إقبالا على الطاعة، سأل حمران بن أعين الإمام الباقر (علیه السلام): (أخبرك –أطال الله بقاءك لنا وأمتعنا بك- أنّا نأتيك فما نخرج من عندك حتى ترقَّ قلوبنا وتسلوَ أنفسنا عن الدنيا ويهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال، ثم نخرُجُ من عندك فإذا صرنا مع الناس والتجار أحببنا الدنيا؟ فقال أبو جعفر (علیه السلام): إنما هي القلوب مرة تصعُبُ ومرةً تسهُل)(1).4- إن الطاعة مهما تبدوا شاقة فإنما هي جهد اللحظة التي أنت فيها، ومهما تبدو المعصية لذيذة فإنما هي لذة اللحظة التي هو فيها وهذا ييّسر المضي على الطاعة واجتناب المعصية ففي موثقة سماعة عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (سمعته يقول اصبروا على طاعة الله، وتصبّروا عن معصية الله فإنما الدنيا ساعة فما مضى فليس تجد له سروراً ولا حزناً وما لم يأت فليس تعرفه فاصبر على تلك الساعة التي أنت فيها، فكأنك قد اغتبطت)(2).

وسببية التعرض للنفحات للحصول عليها وشمولها أمر طبيعي، كما أن البائع الذي يتعرض للناس ببضاعته فينوّعها ويتفنن في عرضها ويحاكي أذواق الناس بها يكون الإقبال عليه أكثر من التاجر الساكن الجامد الخامل، مع أن الله تبارك وتعالى قد تكفّل للجميع بالرزق، ولكن ألطافاً خاصة تعطى للمتعرض لها دون غيره.

ومع أن الطاعات كلها شكل من أشكال التعرض للنفحات الإلهية إلا أن

ص: 113


1- المصدر، باب: في تنقل أحوال القلب.
2- المصدر، باب: محاسبة العمل.

لبعض الموارد مزيد عناية ومظنّة لتلك النفحات، وبعض هذه الموارد (مكانية) كالمساجد والعتبات المقدسة وفي حلقات العلم ومجالس الموعظة والإرشاد، وبعضها (زمانية) كليلة الجمعة ويومها والأشهر الشريفة رجب وشعبان ورمضان، و بعضها (حالية) كاجتماع المؤمنين والدعاء للغير وحال التوجّه والاضطرار وانكسار القلب خصوصا إذا امتزج الحزن بالبكاء وعند مجالسة العلماء وبعد الصلوات المفروضة وفي حال السجود.ولا شك أن لطف الله تبارك وتعالى وكرمه متاح لكل أحد كما في أدعية شهر رجب (يا من يعطي من سأله، يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنناً منه ورحمة) (بابك مفتوح للراغبين، وخيرك مبذول للطالبين، وفضلك مباح للسائلين، ونيلك متاح للآملين، ورزقك مبسوط لمن عصاك، وحلمك معترض لمن ناوآك) لكن بعض النفحات تتطلب تعرضاً لها وصعوداً إليها.

أتذكر أنني عندما كنت أحضر بحث الأصول للسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في مباحث المشتق وكان يفسر آية [وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] (البقرة:124) فقال (قدس سره): ((إن الآية عبّرت [لا ينال] ولعل في ذلك إشارة إلى هذه المراتب وغيرها من مراتب الكمال إنما تنال بالتكامل والتصاعد في عالم الملكوت الأعلى فكلما تكامل الفرد إلى درجة معينة استحق فيضاً مناسباً لتلك الدرجة ومنها الإمامة فهم يصعدون إليها لاهي تنزل إليهم))(1) فقلت له بعد الدرس على هذا لا بد من أن يكون ذيل الآية (الظالمون) ليكون

ص: 114


1- المشتق عند الأصوليين: 343.

فاعلاً وساعياً لنيل العهد وعهدي مفعول به وليس العكس كما في الآية، فأيّد الاعتراض لكنه - لإيمانه بصحة فكرته- عرض حلاً وسطاً يجمع بين الفكرة والإشكال وهو أن الألطاف تنزل من الله تعالى إلى مرتبة معينة ويصعد إليها الفرد إلى تلك المرتبة.وإذا تهيّب الفرد أو تردّد ولم يقتنص الفرصة ويبادر إليها فإنه سيحرم بركتها ففي الحديث (قرنت الهيبة بالخيبة، والحياء بالحرمان، فاغتنموا فرص الخير).

وليكن تعرّضك وطلبك مناسباً لكرم الله تعالى، وتوجد في بعض الأدعية طلبات جامعة لخصال الخير كله كما في أدعية رجب (أعطني بِمَسْأَلَتي إِيّاكَ جَميعَ خَيْرِ الدُّنْيا وَجَميعَ خَيْرِ الآخرة، وَاصْرِفْ عَنّي بِمَسْأَلَتي إِيّاكَ جَميعَ شَرِّ الدُّنْيا وَشَرِّ الآخرة، فَاِنَّهُ غَيْرُ مَنْقُوص ما أعطيت، وَزِدْني مِنْ فَضْلِكَ يا كَريمُ) وفي دعاء آخر (اللهم إني أسألك أن تدخلني في كل خير أدخلت فيه محمد وآل محمد (صلى اله عليه وآله وسلّم) وان تخرجني من كل سوء أخرجت منه محمد وآل محمد (صلى اله عليه وآله وسلّم))، روي أن النبي (صلى اله عليه وآله وسلّم) قال لرجل في حادثة معين: أسأل تُعطَ فطلب مئة شاة فسأل النبي (صلى آله عليه وآله وسلّم) بربه أن يعطيه ذلك فأعطاه، فقال هلاّ كنت كعجوز موسى فإنه لما قال لها مثل ذلك قالت: أريد أن أكون معك في درجتك في الجنة.

وأنتم أيها الإخوة والأخوات بزيارتكم لأمير المؤمنين (علیه السلام) والمساجد المعظمة في الكوفة والسهلة والانطلاق منها سيراً على الأقدام إلى كربلاء

ص: 115

لزيارة الإمام الحسين (علیه السلام) في النصف من رجب التي تسمى (الغفيلة) لغفلة الناس عن ثوابها وقطعكم هذه المسافة التي قطعتها عقيلة الهاشميين زينب بنت علي (علیها السلام) لإحياء ذكرى وفاتها، تكونون قد تعرضتم لكثير من نفحات الله تبارك وتعالى وأتيتم بأسبابها في هذا الشهر الشريف فأرجوا أن يشملكم الله تبارك وتعالى بألطافه ونفحاته الخاصة. ويشرِك معكم كل من أحبَّ عملكم وأيّده وقدّم الخدمة لكم فإن من أحب عمل قوم شاركهم في أجورهم. ***

ص: 116

خطاب المرحلة 224 :لا يستعبدكم غيركم وقد أرادكم الله أحراراً

خطاب المرحلة 224 :لا يستعبدكم غيركم وقد أرادكم الله أحراراً(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

نعيش اليوم بين مناسبتين عظيمتين هما ذكرى البعثة النبوية المباركة وذكرى ميلاد الأمام الحسين (علیه السلام).

فما هي المشتركات يبين هاتين المناسبتين، أو قل بين هاتين الشخصيتين العظيمتين؟

ويكفينا لمعرفة سعة الاشتراك والتطابق بل الاتحاد قول النبي (صلی الله علیه و آله) في سبطه الحسين (علیه السلام): (حسين مني وأنا من حسين).

ولكنني أستغل هذه الأيام الشريفة للإشارة إلى الهدف المشترك لهاتين الحركتين المباركتين حركة النبي (صلی الله علیه و آله) في البعثة النبوية وحركة الإمام الحسين (علیه السلام) نحو الشهادة في كربلاء، والهدف هو تحرير الإنسان قال تعالى [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَ-ئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ]

ص: 117


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من أبناء مدينة الشعلة والجوادين والرحمانية وفدوا لزيارة سماحته يوم السبت 2 شعبان 1430/المصادف 25/ 7/ 2009.

(الأعراف:157) فالهدف تخليص الإنسان وتحريره من القيود والأغلال والأوزار التي تكبله وتثقل ظهره نتيجة تخبطه في الجاهلية الظلماء وإتباع الهوى وشياطين الإنس والجن لذا كانت أول كلمة صدع بها رسول الله(صلی الله علیه و آله) أمام قريش وأهل مكة (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) وهذه الجملة فيها محتويان أو عقدان كما يقال في المصطلح، عقد سلبي وهو نفي الإلوهية عن كل شيء، وعقد إيجابي وهو إثبات الإلوهية لله تبارك وتعالى، والتوحيد ينعقد بضمهما والاعتقاد بهما معاً، وإلا فإن المشركين كانوا يعتقدون بالإلوهية والربوبية لله تبارك وتعالى لكنهم أشركوا حينما لم يسلبوا هذه الصفات عن غيره تبارك وتعالى.وهذا ما فهمه طواغيت قريش من دعوة النبي(صلی الله علیه و آله) إلى التوحيد فإنه لو اكتفى بعبادة الله وحده ولم يتعرض لرفض عبادة غيره لتركوه، فقد كان الأحناف بين ظهرانيهم مدة طويلة يتعبدون لله تبارك وتعالى على دين إبراهيم الخليل (ع) ولم يتعرض المشركون لهم.

وقد جاؤوا بعرض أو صفقة مع رسول الله(صلی الله علیه و آله) بأن يعبدوا إلهه يوماً ويعبد آلهتهم يوماً لكن الجواب الإلهي جاء حاسماً لا مجال فيه لأنصاف الحلول [بِسمِ اللهِ الرَحمَنِ الرَحِيمِ، قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ] فهم إذن لم يكن عندهم اعتراض على عبادة الله تبارك وتعالى. وإنما تصدوا لرسول الله (صلی الله علیه و آله) لأنه (صلی الله علیه و آله) رفض العبادة والطاعة لغير الله تبارك وتعالى من الآلهة التي صنعوها بأيديهم وخدعوا الناس بالقداسة المزيفة التي منحوها لها، للمتاجرة بها والتنعم بالامتيازات التي يحصلون عليها

ص: 118

مما يقدمه المخدوعون بها من نذور وهدايا والتزامات وطقوس، فالقضاء عليها يعني تجريدهم من كل تلك الامتيازات لذا قاوموا رسول الله (صلی الله علیه و آله) بكل وسائل البطش والقسوة واللؤم.وهذا –أي تحرير الإنسان- هو الهدف الذي سعى لتحقيقه الإمام الحسين (علیه السلام) وصرّح به في كلماته كقوله (يا شيعة آل أبي سفيان: اتركوا التعرض لحرمي فإنه إن لم يكن لكم دين فكونوا أحراراً في دنياكم إن كنتم عُرُباً كما تزعمون).

وقال (علیه السلام): (ألا إن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: السلة والذلة، وهيهات منّا الذلة) وقال (علیه السلام): (يأبى الله لنا ذلك وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام) وقال (علیه السلام): (الناس عبيد الدنيا والدين لعق على أنفسهم يحوطونه ما درت معائشهم فإذا محصوا بالبلاء قلَّ الديّانون).

ولأجل أهمية العبادة والتي تعني الطاعة والانقياد ولزوم تكريسها لله تبارك وتعالى ومن أمر بطاعتهم فقد تكفل القرآن الكريم والأئمة المعصومون (سلام الله عليهم) إيضاح معناها وشرح أبعادها، فقد ورد في تفسير قوله تعالى [اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَ-هاً وَاحِداً لاَّ إِلَ-هَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ] (التوبة:31) قول الإمام الصادق (علیه السلام) في الكافي (أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم ما أجابوهم، ولكن أحلوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالاً فعبدوهم من حيث لا يشعرون) وقد وصل التدقيق لديهم (ع) في هذا المعنى إلى حد

ص: 119

قولهم (صلوات الله عليهم) (من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان ينطق عن الرحمن فقد عبد الرحمن وإن كان ينطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان).أيها الأحبة: علينا أن نأخذ هذا المعنى ونستفيد من هذا اللطف الإلهي ونحن نحيي هذه المناسبات الشريفة، ونستحضره دائماً ما دام هو الهدف من بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) وحركة الإمام الحسين (علیه السلام) لنكون أحراراً لا نطيع إلا الله تبارك وتعالى ولا نعبد إلا إياه، هذه العبودية التي يفتخر بها مثل أمير المؤمنين (علیه السلام) ويعتز بها، قال (علیه السلام): (إلهي كفى بي عزاً أن أكون لك عبداً وكفى بي فخراً أن تكون لي رباً، إلهي أنت كما أحب فاجعلني كما تحب).

وهذه هي الدعوة التي أطلقها الأئمة المعصومون (علیهم السلام) (لا يستعبدكم غيركم وقد خلقكم الله أحراراً)، فقد خلقكم الله تبارك وتعالى أحراراً واقتضت إرادته ذلك ويسّر لكم كل أسباب الحرية، فمن الغريب أن يكون هذا عبداً لأهوائه وأطماعه وأنانيته، وذاك عبد لشياطين الإنس والجن يزيّنون له المعاصي والموبقات فيقتحمها ويعرض عن طاعة ربه الكريم، وآخر رضي لنفسه أن يكون عبداً للطواغيت والظالمين وجندياً مخلصاً لهم يأتمر بأمرهم ولا يرقب في الله تعالى إلاً ولا ذمة، ورابع خدعته القداسات المزيفة لهياكل بشرية صنعتها لها أبواق الكهنة والسدنة والمستفيدين وأموالهم وسلطانهم فصار المعروف ما عرفوه والمنكر ما أنكروه وجعلوا تلك الهياكل مقياساً لمعرفة الحق وليس الحق معياراً لمعرفة الرجال، وخامس اتخذ رئيس عشيرته رباً يعبده ويطيعه من دون الله تبارك وتعالى فالمهم طاعة هذا الرئيس والالتزام بالسنينة العشائرية وإن كان مخالفة لله تبارك وتعالى وما جاء به الذكر الحكيم، والله

ص: 120

تعالى يقول: [وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَ-هاً وَاحِداً لاَّ إِلَ-هَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ] (التوبة:31).وهذا التعدد في العناوين التي تطاع من دون الله تبارك وتعالى هو الذي أوجب هذا التشتت والضياع والتفرقة بين أبناء الدين الواحد والمذهب الواحد وحتى البيت الواحد، ولو كانوا أحراراً في دنياهم لا يطيعون إلا من أمر الله بطاعته لتوحّدوا ولكنهم تفرقوا فسُلِبت البركات منهم والعياذ بالله.

إن الحرية التامة والانعتاق الحقيقي هي في العبودية التامة والتسليم المطلق لله تبارك وتعالى فكلما أزاد العبد طاعة وتسليماً لله تبارك وتعالى تحرر من الرق لغيره أكثر [فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً] (النساء:65).

نسأل الله تبارك وتعالى أن يستخلصنا لنفسه وأن لا يجعل لغيره سلطاناً علينا ًأبداً ولا طرفة عين.

ص: 121

خطاب المرحلة 225 :النية تزكي العمل وتنمّيه

خطاب المرحلة 225 :النية تزكي العمل وتنمّيه(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

يستطيع الإنسان تنمية عمله وتزكيته وتكثيره بالنية، وهذا أحد معاني الحديث الشريف (نية المؤمن خير من عمله) لأن العمل واحد ولكن النية تكثره وتنوّعه وتضاعفه، فتكون النية حينئذٍ خيراً من العمل نفسه.

خذ لذلك مثلاً حينما يريد الشاب أن يتزوج، فإنه عمل مبارك يقيم به سنة الله تبارك وتعالى وسنة رسوله (صلی الله علیه و آله) (النكاح سنتي) فيؤجر على ذلك، ولكن أجره يمكن أن يزداد بإضافة نية أخرى وهي أنه بزواجه وإنجابه سيزيد من عدد النسمات الصالحة في البشرية وعدد الموحدين الذين يثقلون الأرض بكلمة (لا إله إلا الله) ويكون مشمولاً بشكل من الأشكال بحديث رسول الله (صلی الله علیه و آله) (يا علي لئن يهدي الله بك رجلاً خير مما طلعت عليه الشمس وما غربت) لأن إنجاب ولد صالح إسهامة في زيادة عدد الصالحين كما لو أصلح رجلاً فاسداً ومنحرفاً.

ويمكن أن يزيد أجره بإضافة نية أخرى وهي إدخال السرور على قلب المؤمنة التي يتزوجها حيث أنها بالزواج تجد نفسها وتعزّز مكانتها وتزيد من

ص: 122


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من المواكب المتوجهة إلى كربلاء المقدسة من عدة مدن في الجنوب لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) مشياً على الأقدام يوم الاثنين 11 شعبان 1430 المصادف 6/ 8/ 2009.

قيمتها، والزوج يوفر لها هذه الفرصة ويحقق أمنيتها ويدخل السرور عليها، فيحصل على ما وعد به المعصومون (سلام الله عليهم) من الثواب العظيم على هذا العمل بحيث ورد في بعض الأحاديث ما مضمونه (من سرَّ مؤمناً فقد والله أدخل السرور أولاً على الله تبارك وتعالى وعلى رسوله (صلی الله علیه و آله)).ويمكن أن يضيف نية أخرى بأنه من خلال التزويج يساهم في إصلاح المجتمع وعلاج مفاسده الأخلاقية لما في الزواج من إحصان واطمئنان واستقرار ففي الحديث (إلا تفعلوه –أي التزويج - تكن فتنة في الأرض وفساد كبير).

وهكذا نلاحظ أن عملاً واحداً - وهو الزواج في المثال - كيف ضاعفت النية الصالحة ثوابه وعظمت شأنه فإذا استطعنا أن نلتفت إلى هذا اللطف الإلهي في كل أعمالنا فإنه سيكون سبباً لنيل مزيد من الثواب ورضا الله تبارك وتعالى ونعوّض بذلك قصر أعمارنا في هذه الدنيا وعدم استيعابها لكثير من فعل الخيرات، وهذه كلها من ثمرات ذكر الله تبارك وتعالى في أغلب الأحوال والحياة في حضرته المقدّسة، فإن المؤمن لا يستطيع أن يستحضر كل هذه النيات إذا لم يكن ذاكراً لله تبارك وتعالى وحاضراً عنده تبارك وتعالى.

وهذه الالتفاتة من أسباب زيادة الهمّة في العمل الصالح والمسارعة إليه وعدم الاكتراث بصعوباته ومعوقاته، تذكّروا –أيها الأحبة- وأنتم تتوجهون إلى كربلاء المقدّسة مشياً على الأقدام من مدن بعيدة تصل إلى مئات الكيلومترات للتشرف بزيارة الإمام أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) في ليلة النصف من شعبان وإحياء ذكرى ميلاد المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه)، تذكّروا ما أعدّ

ص: 123

الله تعالى من الكرامة لمن زار الحسين (علیه السلام) معتقداً بولايته عارفاً بحقه ناصراً له ولقضيته التي خرج من أجلها وهو الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتشملكم بذلك دعوات الإمام الصادق (علیه السلام) لزائري قبر جدّه.فإذا كانت هذه الزيارة هي زيارة النصف من شعبان التي ورد فيها أن (من أراد أن يصافحه مئة وأربعة وعشرون ألف نبي فليزر الحسين (علیه السلام) ليلة النصف من شعبان فكم سيتضاعف الأجر؟

وإذا كان الزائر يسير على قدميه ولو لمسافة قصيرة فإن الحديث الشريف يعده بكتابة حسنة كلما رفع قدماً ومحو سيئة كلما وضعها وغيرها من الأجر.

وإذا أضاف لذلك نية تعظيم الشعائر وإظهار عزة أهل البيت (علیهم السلام) وعلو مكانتهم وإظهار حقهم ومظلوميتهم والفرح بميلاد منقذ البشرية من الضلالة ومقيم دولة الحق والعدل فإن قيمة عمله ستزداد بلطف الله تبارك وتعالى.

وله أن يزيد قيمة العمل أكثر بإهدائه إلى المعصومين الأربعة عشر (سلام الله عليهم) فإنهم بكرمهم سيتقبّلون الهدية ويباركونها ويردُّون الفعل الجميل بأجمل وأحسن منه.كما ورد في الدعاء (مني ما يليق بلؤمي ومنك ما يليق بكرمك) وكما قال إخوة يوسف لأخيهم لما وردوا مصراً [وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ] لكنه (علیه السلام) أكرمهم ورفع من شأنهم بما يليق بكرمه وليس بما يليق بفعلهم.

وهذه الالتفاتة تنفعكم –أيها الأحبة- على صعيد الأحكام الشرعية من خلال تداخل الأعمال والنيات، كمن أجنب يوم الجمعة فإنه ينوي بغسله الجنابة والجمعة فيؤجر لهما وقد ينوي أيضاً غسل التوبة أو غسل يوم المبعث

ص: 124

النبوي أو الغدير إذا صادفا ذلك وهكذا.أو على صعيد الصلاة فلو فرضنا أن همّته قصرت عن صلاة أربع ركعات نافلة المغرب وركعتي صلاة الغفيلة بين المغرب والعشاء فيجوز له أن ينوي بصلاة الغفيلة أنها ركعتان من نافلة المغرب، وهذا طبعاً في الموارد القابلة للتداخل.

وهذا الباب الواسع من الألطاف الإلهية يحتاج إلى التفات وحضور وقبل كل شيء يحتاج إلى معرفة لذا ورد في كلمات أمير المؤمنين (علیه السلام) (أول الدين معرفته) وبدون معرفة كيف سيلتفت الإنسان إلى مثل هذه الأمور.

وزيادة على ما مضى فإن مجرد النية الصالحة لأعمال الخير توجب الثواب للإنسان وإن لم يعمل، كما لو نوى أن لا يظلم أحداً وأضمر في نفسه الخير والرحمة لكل الناس لذا ورد عن المعصومين (علیهم السلام) أن من أهم الأعمال أن يصبح الإنسان ويمسي وهو لا يهمّ بظلم أحد.

وهكذا ينوي أن يبرَّ والديه وأن يحسن إلى جيرانه وأن يقضي حوائج الناس وغيرها من الأعمال الصالحة فيؤجره الله تبارك وتعالى حتى لو لم تتيسّر له الأسباب لإنجازها ما دام صادقاً في عزمه مخلصاً في نيته.

وقد ورد أن أحد أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) قال بعد نصر الله الحق في معركة الجمل: وددت أن أخي فلاناً كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله به على أعدائك.

فقال (علیه السلام): أهوى أخيكَ معنا؟

قال: نعم يا أمير المؤمنين.

ص: 125

قال (علیه السلام): فقد شهدنا، ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء سيرعف بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان.

ص: 126

خطاب المرحلة 226 :لا يحقّ للشباب الرسالي أن يخلّفوا الحوزة العلمية وراء ظهورهم

خطاب المرحلة 226 :لا يحقّ للشباب الرسالي أن يخلّفوا الحوزة العلمية وراء ظهورهم(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

أثرنا أكثر من مرة سؤالاً: ما الذي يقرّبنا من الإمام المنتظر (أرواحنا له الفداء) ؟ وما الذي يساعد على تعجيل ظهوره الميمون؟

وقد أجبنا بعدة وجوه بحسب ما تقتضيه المناسبة.

ويمكن الجواب باختصار فيقال: كن صالحاً وهو جواب صحيح ولكنه مختصر لا يلبي حاجة السائل لأننا نعرف جميعاً أن هدف بعثة آلاف الأنبياء والأوصياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) والعلماء على آثارهم إنما هو هذا [إنْ أُرِيدُ إلا الإصْلاحَ مَا استَطَعتُ] فلا بد أن يتقدم المجيب خطوة في التفصيل، وهنا يقول علماء الأخلاق: إن عملية الإصلاح والوصول إلى النتائج المرجوّة تتضمن محاور ثلاثة (التخلية، التحلية، التجلية) والأولان يتناولهما علم السير والسلوك والأخلاق والثالث يتناوله العرفان.

ونحن إنما يهمّنا عملياً علم السلوك لأنه الوصفة العملية باتجاه تهذيب النفس وتطهير القلب والسير نحو الكمال أما الثالث فيتعلق بالآثار والنتائج التي

ص: 127


1- من حديث سماحة الشيخ مع حشد من الزوار الذين قدموا للتهنئة بميلاد صاحب العصر والزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف) يوم الخميس 14 شعبان 1430 المصادف 6/ 8/ 2009.

يمنّ الله تبارك وتعالى بها على عباده الصالحين.ويراد بالتخلية: تطهير النفس من الرذائل والأغلال والآصار التي تنشأ من إتباع الهوى والنفس الأمارة بالسوء وتسويلات شياطين الجن والإنس، أما التجلية فيراد بها تعويد النفس على الفضائل وانطواء القلب على معاني الخير وسعي الجوارح للأعمال الصالحة التي ذكرها علماء الأخلاق وبعض هذه الأمور ملزمة كفعل الواجبات وترك المحرمات، وبعضها راجحة كفعل المستحبات وترك المكروهات.

وهذه الخطوة في الجواب وإن كانت مختصرة أيضاً إلا أنها وضعت ما يسمونه ب- (خارطة الطريق) التي يضعها كل باحث –وأولاهم الباحث عن الحقيقة والكمال- لتكون دليلاً له في مسيرته نحو الحق.

ولسنا الآن بصدد بيان التفاصيل إلا أنني قدمت هذه المقدمة العامة لأصل إلى تشخيص حالة لدى الشباب الرسالي تدخل في باب التخلية فيجب نبذها واجتنابها والتخلي عنها، ذلك أننا لما أثنينا على ثقافة ووعي الرساليين وأهليتهم ليكون لهم دور ريادي في بعض مؤسسات المشروع الرسالي لإعطائهم زخما له و ليشعروا بالثقة بأنفسهم وأنهم قادرون على أن يكونوا جزءاً منه وليسوا مجرد أرقام لتكثير السواد لأننا نرى فيهم فعلاً القدرة على ذلك ولتحقيق عدة أهداف:

1- توفير فرصة العمل الرسالي لهم من خلال مؤسسات المشروع.

2- إبراز طاقاتهم وإمكانياتهم وتطويرها من خلال الممارسة وتحمّل المسؤولية.

3- إعطاء المشروع الرسالي زخماً بإشراك هذه الطاقات وعدم الاقتصار

ص: 128

على فضلاء وطلبة الحوزة العلمية كما هو المعروف تقليدياً.4- ملء مساحات العمل الرسالي الواسعة بسعة التحديات والمسؤوليات والأهداف مما لا تستطيع شريحة معينة شغلها لوحدها.

وقد تحققت الكثير من هذه النتائج بفضل الله تبارك وتعالى، لكن الذي حصل أن جملة من هؤلاء الشباب تعاظمت لديه الثقة بالنفس حتى بلغ حد الغرور والتعالي وعدم الإنصات للآخرين، وربما بلغ الغرور ببعضهم أن تعالى عن فضلاء الحوزة العلمية وطلبتها ويرى نفسه أفضل منهم فلا يرجع إليهم وربما لا يصلي خلفهم ويجعل نفسه قيّماً عليهم وحسيباً عليهم وهو بذلك يضع نفسه على حافة الهاوية، لأن العلماء ومن يأخذ منهم من طلبة العلم هم الأدِلاء على الخير، وإن مساحات من العلم والعمل الصالح لا يعرفها غيرهم ولا يهتدي إليها إلا من خلالهم لأنه لم يأخذ من المعين الذي نهلوا منه، وإن جملة من الوظائف الدينية المقدسة جرى العرف على أن لا يتصدى إليها إلا من درس في الحوزة العلمية وأخذ بسيرتها، فالترفع عنهم يعني الحرمان من بركات تلك الوظائف المقدسة، فلا هو استفاد بهذا الابتعاد، ولا الحوزوي يستطيع أن يؤدي دوره إذا لم يجد المناخ المناسب للعمل فيخسر الجميع.

فلا بد أن تحفظ مكانة الحوزة العلمية الشريفة ودورها، وبنفس الوقت طلبنا من الحوزويين أن يطوروا قابلياتهم العلمية والفكرية والاجتماعية ويتكاملوا أخلاقياً ليحافظوا على أهليتهم لممارسة هذا الدور الشريف ويحافظوا على مقامهم وليكون عندهم شيء لا يجده الناس إلا عندهم حتى يقصدوهم لحاجتهم إليهم.

ص: 129

علينا جميعاً أن نعي الحديث (رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه فلم يوردها موارد الهلكة) وأنتم تعرفون عدداً ممن شكّكوا وأشكلوا وأساؤوا الظن وتمردوا واغترّوا وتعالوا عن العمل بتوجيهات المرجعية: سقطوا وانحرفوا وفي أحسن الأحوال وصلوا إلى طريق مسدود ولم يعودوا يعرفون ماذا يصنعون فانزووا وتركوا بعض ما عليهم من واجبات تجاه دينهم وأمتهم وأنفسهم، فعادوا يلقون التهم والتشكيك هنا وهناك وربما أشكلوا على المرجعية، مع أنهم هم السبب [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَ-كِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]، إذ أن المرجعية امتداد لأهل بيت النبوة الذين وصفهم الدعاء في شعبان بأن (المتقدم لهم مارق والمتأخر عنهم زاهق واللازم لهم لاحق). ***

ص: 130

خطاب المرحلة 227 :خلق أجواء عامة للطاعة لتحفيز المجتمع عليها

خطاب المرحلة 227 :خلق أجواء عامة للطاعة لتحفيز المجتمع عليها(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

نستقبل خلال الأيام القريبة شهر الله الأكبر وعيد أوليائه شهر رمضان شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن والمغفرة والرحمة، ونستذكر بألم أن العام الماضي شهد حالة واسعة من الإفطار العلني والتحدي السافر لأوامر الله تبارك وتعالى وأشرنا إلى تلك الظاهرة السيئة وأسبابها في خطبة عيد الفطر المبارك للعام الماضي وحمّلنا الجميع مسؤولية ذلك التدهور الأخلاقي وخلال هذه الأيام تنادت أصوات خيّرة في البرلمان لمنع تكرار تلك الحالة واتخاذ القرارات المناسبة للحفاظ على قدسية هذا الشهر العظيم ومساعدة المؤمنين على تأدية فروضه(2)

وقد وجهنا المؤمنين لإقامة الحفلات لاستقبال هذا الشهر الشريف وتسيير مواكب الفرح لقدومه المبارك ورفع الصوت من على المآذن ومكبرات

ص: 131


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع وفد من منطقة المدائن وبسمايا جنوب شرق بغداد يوم الاربعاء27 شعبان 1430 المصادف 19/ 8/ 2009.
2- قررت وزارة الداخلية منع الإفطار العلني والمحاسبة علية ومنع إقامة الحفلات الفنية المنافية لقدسية هذا الشهر العظيم وغلق محلات الخمور والملاهي الليلية ونحن إذ نثني على كل قرار يصب في احترام الشريعة المقدسة ويمنع من الفساد والانحراف كما يقتضيه الدستور نطالب بمراعاة هذه الحرمة على مدار السنة.

الصوت المحمولة على السيارات الجوالة وهي تصدح بذكر الأحاديث الشريفة التي ترغّب في مراعاة حرمة هذا الشهر والالتزام بما أمر الله تعالى وتحذر من عاقبة العصيان والتمرد، ونشر اللوحات على جوانب الطرق التي تشير إلى هذه المعاني الجليلة، وإقامة المسرحيات والأمسيات الأدبية والثقافية والفكرية والدينية وغيرها من الفعاليات التي تهيّئ أجواء الطاعة وتزيد من الحافز والدافع للالتزام بها، وتحاصر المعصية والانحراف وتغلق منافذها حتى لا يتجرأ أحد على اقتحامها إما خوفاً من الله تعالى أو حياءً من الناس ومن الجو العام، كالذي حصل أبّان الحركة المباركة للسيد لشهيد الصدر الثاني (قدس سره) عند إقامته لصلاة الجمعة المباركة.إن الإنسان حينما يتحرك نحو فعل معين أو يجتنب شيئاً ما فإنما ينطلق من الصورة التي يحملها في ذهنه عن ذلك الفعل سلباً كان أو إيجاباً ونفعاً أو ضرراً ومصلحة أو مفسدة، فإذا تصور في شيء مصلحة ونفعاً له رغب فيه وانبعثت إرادته نحوه فتتحرك أعضاؤه لنيله وتحقيقه، وإذا تصور في شيء مفسدة زهد فيه وهرب منه واجتنبه، أو توهم أن عدواً أو حيواناً مفترساً يترصّده فإنه سيخاف ويندهش وربما لا يكون الأمر حقيقياً وقد لا تكون هذه الصورة الذهنية مطابقة للواقع [وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ] وقد يعلم الإنسان أن هذه الصورة الذهنية غير واقعية ومع ذلك فإنه يسير بناءاً عليها كمن يعلم أن الميت لا يضر ولا ينفع ومع ذلك فإنه يخاف منه ومن المقبرة، أو يخاف من الظلمة وهو يعلم أنها بذاتها لا تمثل شيئاً ضاراً.

ص: 132

وربما لم يكن جمال النبي يوسف الصديق (ع) بالدرجة التي توجب قطع الأيدي لكن الصورة الذهنية والهالة العظيمة التي رسمتها النسوة في مخيّلتهن جعلتهن مذهولات الألباب عند دخوله عليهن، بدليل أن كثيرين عاشوا مع النبي يوسف (علیه السلام) ولم تبلغ الحالة بهم هذا الذهول وإن جمال النبي الخاتم محمد (صلی الله علیه و آله) كان أكثر من يوسف (علیه السلام) –بحسب بعض الروايات- ولم تقطع واحدة من النسوة يدها عند رؤيته، فنقول على نحو الأطروحة لتقريب الفكرة: إن الهالة العظيمة التي سبقته عند النسوة هي التي أذهلتهن وليس الواقع.وعلى أي حال فالفكرة لا تحتاج إلى مزيد من الإيضاح والدليل وإنما ذكرناها للاستفادة منها عملياً فإن من آليات تحفيز المجتمع على الطاعة وغلق أبواب المعصية تحقيق هذه الصورة الذهنية لدى الناس لتحريكهم نحو الخير ويكون ذلك بخلق أجواء عامة للطاعة بالفعاليات التي ذكرنا جملة منها وغيرها وهذه تقع مسؤوليتها على جميع المؤمنين ليشارك كل ٌ منهم بحسب موقعه وإمكانيته، خصوصاً فضلاء وطلبة الحوزة العلمية الشريفة وأئمة المساجد والمبلغين، وليعلم كل من يساهم في أي مشروع خيري يرضي الله تبارك وتعالى ورسوله (صلی الله علیه و آله) إنه يحسن لنفسه قبل أن يصل إحسانه إلى الآخرين [إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ].

واستمروا على تذكير الناس وتنبيههم خلال الشهر المبارك إلى ما يجب فعله أو يستحب وإلى ما يحرم فعله أو يكره فإن أفضل أعمال هذا الشهر الورع عن محارم الله تبارك وتعالى وإن (الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر

ص: 133

العظيم) وضاعفوا جهودكم خلال العشر الأواخر من شهر رمضان وليحيي من يقدر سنة الاعتكاف الجليلة في جميع المساجد.أعانكم الله تبارك وتعالى على طاعته وجنبكم معصيته ومنّ عليكم برضاه وجعلكم من ضيوفه في هذا الشهر العظيم.

ص: 134

خطاب المرحلة 228 :إنما بلغ علي (عليه السلام) منزلته بالصدق وأداء الأمانة

خطاب المرحلة 228 :إنما بلغ علي (عليه السلام) منزلته بالصدق وأداء الأمانة(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والحمد حقه كما يستحقه حمداً كثيراً، وأعوذ به من شر نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربي.

والصلاة والسلام على أشرف خلق الله تبارك وتعالى وأحبِّهم إليه وأكرمهم عليه أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين.

لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیهما السلام) منزلة عند الله تبارك وتعالى ورسوله (صلی الله علیه و آله) لا يعرفها إلا الله تعالى ورسوله، كما ورد في الحديث الشريف: (يا علي لا يعرفك إلا الله وأنا)، ونختصرها بأنه نفس رسول الله (صلی الله علیه و آله) بنص القرآن الكريم في آية المباهلة: [وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ] (آل عمران: 61)، فبمَ بلغ علي (علیه السلام) هذه المنزلة؟ وأي طالب للكمال لا يريد أن يعرف كيف أصبح علي (علیه السلام) بهذه المنزلة ليتأسى به ويقتفي آثاره.

لا يحق لنا أن نجيب لأننا لا نعرف علياً (ع) حق معرفته، ولولا أن الجواب جاءنا عن أهل بيت العصمة (سلام الله عليهم) لما أجبنا، فقد روى

ص: 135


1- الخطبة الأولى لصلاة عيد الفطر السعيد عام 1430 المصادف 21/ 9/ 2009، وأصلها كلمة تحدث بها سماحته إلى حشد من الزوار ليلة استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام) في 21 رمضان 1430.

الكليني (رضوان الله عليه) بسنده عن أبي كهمس (الهيثم بن عبد الله الشيباني) قال: (قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): عبد الله بن أبي يعفور يقرؤك السلام، قال: وعليك وع، إذا أتيت عبد الله فاقرأه السلام وقل له: إن جعفر بن محمد يقول لك: انظر ما بلغ به علي عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) فالزمه، فإن علياً (ع) إنما بلغ ما بلغ عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) بصدق الحديث وأداء الأمانة)(1).وهذا جزء من برنامج عملي ومنهج للتكامل وضعه رسول الله (صلی الله علیه و آله) لتربية أمير المؤمنين (علیه السلام) وصناعته [وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَينِي] (طه: 39) ومن أهل البيت (علیهم السلام) تؤخذ وسائل التكامل وليس من أدعياء السلوك والمعرفة الذين يبتدعون مناهج وبرامج لا وجود لها في سنة أهل البيت (صلوات الله عليهم)، وهذه الوصفة الإلهية التي قدّمها النبي (صلی الله علیه و آله) إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) رويت بسند صحيح في أصول الشيعة كالكافي ومن لا يحضره الفقيه والتهذيب وكتاب المحاسن للبرقي عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): يا علي أوصيك في نفسك بخصال فاحفظها، ثم قال: اللهم أعنه، أما الأولى: فالصدق لا يخرجن من فيك كذبة أبداً، والثانية الورع لا تجترين على خيانة أبداً، والثالثة الخوف من الله كأنك تراه، والرابعة كثرة البكاء من خشية الله عز وجل يبنى لك بكل دمعة بيت في الجنة، والخامسة بذل مالك ودمك دون دينك، والسادسة الأخذ بسنتي في صلاتي وصيامي وصدقتي، أما الصلاة فالخمسون ركعة، وأما الصوم فثلاثة أيام في كل شهر خميس في أوله، وأربعاء في وسطه، وخميس في آخره، وأما الصدقة فجهدك حتى يقال: أسرفت ولم

ص: 136


1- وسائل الشيعة: كتاب الوديعة، باب 1، ح1.

تسرف، وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الليل، وعليك بصلاة الزوال، وعليك بقراءة القرآن على كل حال، وعليك برفع يديك في الصلاة، وتقليبهما، وعليك بالسواك عند كل وضوء وصلاة، وعليك بمحاسن الأخلاق فاركبها، وعليك بمساوئ الأخلاق فاجتنبها، فإن لم تفعل فلا تلومنّ إلا نفسك)(1).ونعود إلى الحديث الذي بدأنا به وأن علياً (ع) بلغ ما بلغ بالصدق وأداء الأمانة، وحينئذٍ قد يقال بأن هاتين الخصلتين مما يتيسر الاتصاف بهما مع أن منزلة علي مما لا يبلغها أحد من بعده كما قال (علیه السلام): (ألا وأنكم لا تقدرون على أن تصيروا مثلي) لذا فإن الأمر يحتاج إلى شيء من الإيضاح والتفصيل، وسنتحدث هنا عن أداء الأمانة، حيث ينصرف الذهن إلى قضية وضع أموال الناس وممتلكاتهم عند بعضهم واستردادهم عند مطالبة أصحابها، فأداء الأمانة يعني رد الحقوق وإيصالها إلى أهلها.

وبهذا المعنى يتساوى كثيرون مع علي بن أبي طالب، لكن الأمانة لها معنى أوسع من هذا بكثير وأداء الأمانة يقتضي مسؤوليات كبرى.

وأول أمانة وأعظمها هي تلك التي عرضها الله تبارك وتعالى على جميع المخلوقات فاعتذرت عن تحملها وحملها الإنسان قال تعالى: [إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً] (الأحزاب:72) وهي أمانة العهد والميثاق الذي أخذه الله تبارك وتعالى على عباده ليمنحهم بمقتضاه خلافة الله تعالى في

ص: 137


1- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب 4، ح2.

الأرض بأن يكون الإنسان مخلوقاً عاقلاً رشيداً ويُسخَّر له الكون كله على أن يكون موحداً لله تبارك وتعالى ومن ثم تعريضه للجزاء والحساب ليثاب على إحسانه بجنة عرضها السماوات والأرض ويحاسب على سيئاته، قال تعالى: [وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ] (الأعراف:172).ويعيد الإنسان التأكيد على هذا الميثاق عندما يصافح الحجر الأسود فيقول: (اللهم أمانتي أديتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة).

تلك الخلافة التي تعني أن يكون الإنسان مظهراً للصفات الإلهية والأسماء الحسنى فيجعل الله تعالى المثل الأعلى الذي يبذل وسعه للاتصاف بصفاته [وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى] (النحل: 60) وورد في الحديث الشريف (تخلقوا بأخلاق الله) وهي لا تقتصر على الأسماء الحسنى كالرحيم والكريم والغفار والعليم، بل تشمل كل الصفات الإلهية التي نطق بها القرآن الكريم والأدعية الشريفة والروايات المأثورة كقوله (علیه السلام) في دعاء الافتتاح: (فلم أرَ مولىَ كريماً أصبرَ على عبدٍ لئيمٍ منك عليّ يا ربِّ إنك تدعوني فأولّي عنك، وتتحبب إليّ فأتبغّضُّ إليك، وتتودد إلي فلا أقبل منك، كأن لي التطول عليك، فلم يمنعك ذلك من الرحمة لي والإحسان إلي، والتفضل علي بجودك وكرمك)، فهذه صفة لله تبارك وتعالى علينا أن نسعى للتخلق بها وهكذا غيرها.

وبأداء هذه الأمانة أوصى أمير المؤمنين (علیه السلام) من خطبة له: (ثم أداء الأمانة، فقد خاب من ليس من أهلها، إنها عُرضت على السماوات المبنية

ص: 138

والأرضين المدحوة، والجبال ذات الطول المنصوبة، فلا أطول ولا أعرض ولا أعلى ولا أعظم منها. ولو امتنع شيء بطول أو عرض أو قوة أو عز لامتنعن، ولكن أشفقن من العقوبة، وعقلن ما جهل من هو أضعف منهن، وهو الإنسان [إنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً])(1).وقد تمثلت في رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) كل الصفات الحسنى المتاحة للمخلوقات فقد ورد في الحديث أن أهل البيت (علیهم السلام) حازوا اثنين وسبعين حرفاً من الاسم الأعظم ذي الثلاثة والسبعين حرفاً وبقي حرف واحد اختص تبارك وتعالى به لنفسه وكانوا مظهراً لكل الصفات الإلهية المتاحة لهم كمخلوقين، فأدى أمير المؤمنين (علیه السلام) هذه الأمانة خير أداء.

ويعني أداء هذه الأمانة الإيمان والالتزام بكل العقائد الحقة التي أشهد الله تبارك وتعالى عباده عليها [وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ] (الأعراف:172) والأحكام الشرعية التي حدها لعباده والشهادة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) بالرسالة والنبوة ولأمير المؤمنين (علیه السلام) بالولاية ولأهل بيته بالمودة والإتباع، ولذا ورد في الكافي تفسير الآية أن (الأمانة هي ولاية أمير المؤمنين).

ومن مصاديق الأمانة نفسك التي بين جنبيك، يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): (عباد الله، الله الله في أعز الأنفس عليكم، وأحبها إليكم: فإن الله قد أوضح لكم سبيل الحق وأنار طرقه، فشقوةٌ لازمة، أو سعادة دائمة! فتزودوا في أيام الفناء

ص: 139


1- نهج البلاغة من الخطبة (199).

لأيام البقاء، قد دُللتم على الزاد وأمرتم بالظعن وحُثثتم على المسير)(1) فهي أعز أمانة استودعك الله إياها أو ائتمنك عليها لتهذبها وتحميها من إتباع الهوى ونزغات الشيطان وأن لا تسلس القياد لها فتوردك موارد الهلكة فإن إعطاءها ما تريد –وهي الأمارة بالسوء- يقود إلى الهلاك. في دعاء الصباح لأمير المؤمنين (علیه السلام): (فبئس المطية التي امتطت نفسي من هواها، فواهاً لها لما سولت لها ظنونها ومناها). وهي قد تبدو مفارقة أن تكون رعاية النفس والإحسان إليها بمنعها مما تشتهيه وكبح جماحها، وعدم إطلاق العنان لها في اللهو واللعب كالذين قضوا ساعات شهر رمضان المباركة –التي جعلها الله تبارك وتعالى ميداناً لأوليائه يتسابقون فيها إلى رضوانه- يقضونها بمتابعة المسلسلات الماجنة ولعبة المحيبس وأمثالها، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (علیه السلام) في المناجاة الشعبانية: (إلهي قد جُرتُ على نفسي في النظر لها، فلها الويل إن لم تغفر لها) ويقول (ع): (وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبُت على جوانب المزلق)(2)، وقال (علیه السلام): (وأيمُ الله - يميناً أستثني فيها بمشيئة الله- لأرُوضَنَّ نفسي رياضةً تَهِشُّ معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً)(3) وفي ذلك يوصي الإمام الصادق (علیه السلام) شيعته خصوصاً الذين يسوّفون التوبة والندم والاستغفار والذين يتلفون أنفسهم فيما

ص: 140


1- المصدر، الخطبة (157).
2- نهج البلاغة، قسم الرسائل، العدد: 45.
3- المصدر السابق، نفس الموضع.

يسمونه (جهاداً) أو (ثورة) أو (مقاومة) ونحوها دون الرجوع إلى البصير بأمور الشريعة وما يصلح الأمة، قال (علیه السلام): (عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له وانظروا لأنفسكم، فوالله إن الرجل لَيكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلاً هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها، والله لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرب بها، ثم كانت الأخرى باقية يعمل على ما قد استبان لها، ولكن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة، فأنتم أحقّ أن تختاروا لأنفسكم، إن أتاكم آتٍ منّا فانظروا على أي شيء تخرجون) (فنحن نشهدكم أنا لسنا نرضى به وهو يعصينا اليوم وليس معه أحد، وهو إذا كانت الرايات والألوية أجدر أن لا يسمع منا)(1).ومن مصاديق الأمانة: جسدك الذي ائتمنك الله تبارك وتعالى وصنعه لك بأحسن تقويم لتتخذه وسيلة للكمال والوصول إلى الغاية وأمرك بالاعتناء به وحفظه وتوظيفه لهذا الهدف السامي وهو طاعة الله تبارك وتعالى وعبادته فهو وسيلة وليس غاية، ومما ورد في مناجاة الخائفين للإمام السجاد (علیه السلام): (إلهي هل تسوّدُ وجوهاً خرَّتْ ساجدة لعظمتك، أو تُخرسُ ألسنةً نطقت بالثناء على مجدك وجلالتك، أو تطبع على قلوبٍ انطوت على محبتك، أو تُصِمُّ أسماعاً تلذذت بسماع ذكرك في إرادتك، أو تغلّ أكفاً رفعتها الآمال إليكَ رجاء رأفتك، أو تعاقب أبداناً عملت بطاعتك حتى نحلت في مجاهدتك، أو تعذب أرجلاً سعت في عبادتك).

ص: 141


1- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 13، ح1.

فمن الخيانة توظيف الجسد في الحرام كاللواتي يتاجرن به أو الذين يستخدمون بعض جوارحهم في الحرام ومن الخيانة إيلام الجسد وإيذاؤه ولو بمثل التدخين الضار فضلاً عن المحرمات كشرب الخمر والزنا أو إيذاؤه تحت عناوين مبتدعة كبعض ما يأمر به أدعياء السلوك إلى الله تعالى والمعرفة ولو كان في ما يفعلونه خيراً لما توقف الأئمة المعصومون (علیهم السلام) عن بيانه وهم كجدهم (صلی الله علیه و آله) [بِالمُؤمِنِينَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ] فلا يحبسون عنهم ما ينفعهم، ومن الإيذاء ما يفعله البعض باسم شعائر الحسين (علیه السلام) والتفجّع لمصابه وهي براءٌ منه [قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ] (يونس: 59).ومن الخيانة إغراق الجسد في الراحة والترف والاعتناء بمتع الجسد وكمالياته بعيداً عن الهدف، لأنه وسيلة وليس غاية، فلا يعقل إمضاء الوقت المقرر للسفر بالاعتناء بواسطة النقل وترتيبها وتجميلها حتى ينتهي الوقت المقرر لبلوغ الغاية. وهكذا عمر الإنسان المخصص للسفر إلى الملكوت فلا يقضيه في إمتاع الجسد وراحته، قال أمير المؤمنين (علیه السلام): (أريحوا أجسادكم بالتعب ولا تتعبوها بالراحة)، وكان (ع) لا يعطي لجسده إلا ما يقويه على طاعة الله تبارك وتعالى لذلك كان جسده قوياً متيناً قادراً على الانسجام مع ما يقتضيه مقام أمير المؤمنين (علیه السلام) من الفناء في طاعة الله تبارك وتعالى والجهاد في سبيله حتى قال بعض المتخصصين عندما اطلع على نظام حياة أمير المؤمنين (علیه السلام) وغذائه: ((لولا ضربة ابن ملجم لكان من الممكن أن يعيش علي (علیه السلام) إلى آخر الدهر)) ويجيب (ع) على من يستشكل عليه ويرى أن قوة الجسد في الترف والتنعم، قال (علیه السلام): (وكأني بقائلكم يقول: إذا كان هذا قوت ابن

ص: 142

أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشجعان، ألا وإن الشجرة البرّيّة أصلب عوداً والروائع الخضرة أرق جلوداً والنباتات البدوية أقوى وقوداً وأبطأ خموداً)(1)، ويقول (ع): (فما خُلقتُ ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها، أو المرسلة شغلها تقمُّمها تكترش من أعلافها وتلهو عما يُراد بها، أو أترك سدى، أو أهملَ عابثاً، أو أجُرُّ حبل الضلالة أو أعتسف طريق المتاهة)(2).وإذا انتقلنا إلى أداء الأمانة للآخرين؛ فمن مصاديقها الزوجة فإنها أمانة عند زوجها كما ورد في الدعاء المأثور عند إدخال الزوجة على زوجها: (اللهم على كتابك تزوجتها، وفي أمانتك أخذتها، وبكلماتك استحللت فرجها) إلخ، ولم تأتِ إلى بيت الزوج إلا بعقد وصفه الله تبارك وتعالى بأنه ميثاق غليظ قال تعالى: [وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً] (النساء: 21) وهو وصف ميثاقه تبارك وتعالى مع الأنبياء والرسل [وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً] (الأحزاب:7) وواجبه تجاه هذه الأمانة إكرامها ومعاشرتها بالمعروف ففي الحديث: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهله) (ما أكرمهن إلا كريم وما أهانهن إلا لئيم) فمن ظلم زوجته وقصّر في إكرامها فقد خان الأمانة.

وعيالك أمانة عندك تنفق عليهم وتهذبهم وتحسن تربيتهم وتوجيههم إلى الأخلاق الفاضلة وفعل الخير.

ص: 143


1- نهج البلاغة قسم الرسائل، العدد: 45.
2- نهج البلاغة، قسم الرسائل، نفس الموضع.

والزوج أمانة عند زوجته تحفظه في ماله ونفسها وتطيعه إذا أمرها.والعلم أمانة تعمل به وتبذله لمن يستحقه فإن بذل العلم لأهله صدقة وفي قصص بني إسرائيل أن جليساً لموسى (علیه السلام) وعى علماً كثيراً عذّبه الله تبارك وتعالى بمسخه قرداً في عنقه سلسلة فسأل موسى (علیه السلام) ربه عنه فأوحى إليه: (إني كنت حمّلته علماً فضيّعه وركن إلى غيره).

والموقع السياسي والإداري والاجتماعي والعشائري هو أمانة يُسأل الإنسان عن أدائها والقيام بحقوقها وليس غنيمة يستأكل بها، وإن الله تبارك وتعالى مسائله عن حسن سيرته مع من ولاه عليهم، وهذا المعنى ركّز عليه أمير المؤمنين (علیه السلام) لرسوخ معنى الغنيمة و (تقاسم الكعكة) –بمصطلح الحكام والسلطات- ففي كتابه إلى عامله على آذربيجان أشعث بن قيس يقول (ع): (وإن عملك ليس لك بطعمةٍ ولكنه في عنقك أمانة، وأنت مسترعىً لمن فوقك. ليس لك أن تفتات في رعية، ولا تخاطرَ إلا بوثيقة، وفي يديك مالٌ من مال الله عز وجل، وأنت من خزانه حتى تسلمه إليّ، ولعلي ألا أكون شرّ ولاتك لك، والسلام)(1).

ويعلّم (ع) مالك الأشتر أوصاف الذين يختارهم للولاية والإدارة والحكم: (ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً، ولا تولّهم محاباةً وأثَرة، فإنهم جِماعٌ من شعب الجور والخيانة، وتوخَّ منهم أهل التجربة والحياء)(2).

وكان يحاسب عماله أشدَّ المحاسبة إذا علم منهم تقصيراً أو خيانة، ولم

ص: 144


1- المصدر، العدد: 5.
2- المصدر، العدد 53.

ينقل التأريخ خيانة بعض عمال أمير المؤمنين (علیه السلام) إلا من خلال كشفه (ع) لهم، في حين أن الحكام الآخرين كانوا فاسدين لكنهم لم يحاسبهم من هو فوقهم، فقد كتب إلى زياد بن أبيه وهو خليفةُ عاملِه على البصرة وتوابعها كالأهواز وفارس وكرمان عبد الله بن عباس: (وإني أقسم بالله قسماً صادقاً، لئن بلغني أنك خُنتَ من فيء المسلمين شيئاً صغيراً أو كبيراً لأشدَّنَّ عليك شدةً تدعك قليل الوفر ثقيل الظهر ضئيل الأمر، والسلام)(1).وكتب (ع) إلى المنذر بن الجارود العبدي، وقد خان في بعض ما ولاه من أعماله: (أما بعد، فإن صلاح أبيك غرني منك، وظننت أنك تتبع هديه وتسلك سبيله، فإذا أنت –فيما رُقِّيَ إليّ عنك - لا تَدَعُ لهواك انقياداً ولا تُبقي لآخرتك عتاداً، تعمر دنياك بخراب آخرتك، وتصل عشيرتك بقطيعة دينك، ولئن كان ما بلغني عنك حقاً، لَجَمَلُ أهلك وشسع نعلك خير منك، ومن كان بصفتك فليس بأهل أن يُسَدَّ به ثغر أو يُنفَذَ به أمر، أو يُعلى له قدر أو يُشركَ في أمانة، أو يؤمن على جباية، فأقبل إليَّ حين يصل إليك كتابي هذا، والسلام)(2).

أيها الأحبة:

هذا بعض ما يمكن أن نفهمه من معنى الأمانة التي أُمرنا بأدائها، قال تعالى: [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا] (النساء:58) والتي ورد في فضلها وأهميتها الكثير كقول الصادق (علیه السلام): (لا تغترّوا بكثرة صلاتهم ولا بصيامهم فإن الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم حتى لو تركه استوحش، ولكن اختبروهم

ص: 145


1- المصدر، العدد 20.
2- المصدر، العدد 71.

عند صدق الحديث وأداء الأمانة)(1).وبإزاء هذا المعنى الواسع للأمانة وأدائها يكون معنى الخيانة واسعاً فهي تشمل كل تفريط أو تقصير في أداء حق واجب على الإنسان، وهو ظاهر قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ] (الأنفال:27) فعن الإمام الباقر (علیه السلام) في تفسير الآية: (فخيانة الله والرسول معصيتهما، وأما خيانة الأمانة فكل إنسان مأمون على ما افترض الله عز وجل)(2).

وقد وردت في الروايات أمثلة لخيانة الأمانة تتجاوز المعنى المتعارف كقول الصادق (علیه السلام): (أيما رجل من أصحابنا استعان به رجل من إخوانه في حاجة فلم يبالغ بكل جهده فقد خان الله ورسوله والمؤمنين)(3) وعن أمير المؤمنين (علیه السلام): (الخائن من شغل نفسه بغير نفسه وكان يومه شراً من أمسه)(4).

وأعظم الخيانة خيانة الأمة في أي موقع ديني أو اجتماعي أو سياسي أو مالي أو إداري.

ومما كتب أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى بعض عماله بعد أن بيّن له ما يجب فعله قال (علیه السلام): (وإلا تفعل فإنك من أكثر الناس خصوماً يوم القيامة، وبؤسىً لمن خصمه عند الله: الفقراء والمساكين والسائلون والمدفوعون والغارمون وابن

ص: 146


1- وسائل الشيعة: كتاب الوديعة، باب 1، ح2.
2- تفسير نور الثقلين:2/ 144.
3- بحار الأنوار: 72/ 177.
4- غرر الحكم للآمدي، الحديث 2013.

السبيل.ومن استهان بالأمانة، ورتع في الخيانة ولم ينزه نفسه ودينه عنها؛ فقد أحل بنفسه الذل والخزي في الدنيا وهو في الآخرة أذلّ وأخزى، وإن أعظم الخيانة خيانة الأمة، وأفظع الغش غش الأئمة، والسلام)(1).

ص: 147


1- نهج البلاغة، قسم الرسائل، العدد 26.

خطاب المرحلة 229 :دور المسجد في حياة الأمة والفرد

خطاب المرحلة 229 :دور المسجد في حياة الأمة والفرد(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى أئمة المسلمين من آله الطيبين الطاهرين.

أجرينا استطلاعاً عن الحالة الدينية والالتزام بشريعة الله تبارك وتعالى خلال شهر رمضان المنقضي وقد اتفقت الإجابة على وجود تحسن قياساً بشهر رمضان العام الماضي الذي شهد انتهاكاً واضحاً لقدسية الشهر ولحرمات الله تبارك ناقشنا أسبابه في خطبة عيد الفطر يومئذٍ.

ومن مظاهر التحسن الإقبال على المساجد ومجالس الوعظ والإرشاد وانحسار ظاهرة الإفطار العلني والحفلات والتجمعات التي ترافقها محرمات.

وكان لهذا التحسن أسباب نشير إلى بعض أسبابها بإيجاز:

1- ارتفاع الهمة والحماس لدى ثلة من المؤمنين للقيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ هذه الفريضة التي بها تقام الفرائض وتحيى السنن وتأمن المذاهب وتحل المكاسب ويستجاب الدعاء ويحكم الأخيار وغيرها من الآثار المباركة.

2- الاحتفالات والحملات الإعلامية التي جرت لاستقبال شهر رمضان

ص: 148


1- الخطبة الثانية لصلاة عيد الفطر السعيد عام 1430ه- المصادف 21/ 9/ 2009

والتعريف بحرمته والحث على طاعة الله تبارك وتعالى فيه مما خلق أجواءً محفزّة على الطاعة.3- تفعيل دور المساجد والحسينيات وتجمعات المؤمنين مما ساهم في جذب الناس إليها والتفاعل مع الشعائر الدينية ولو من منطلق السلوك الجمعي.

4- استجابة بعض الجهات الحكومية لمطالب المؤمنين واتخاذ قرارات تمنع انتهاك قدسية هذا الشهر الشريف.

وعلى أي حال فإن اتضاح الفرق لدى الناس بين الدين والجهات الدينية -كالمرجعية والحوزة العلمية- من جهة وبين الأحزاب الحاكمة والمتسلطين باسم الدين الذين أساؤوا وافسدوا وظلموا مما قلّل من تحول الاستياء والنفور والرفض لهؤلاء إلى نفوذ ورفض للدين والتدين فنحن من واجبنا كمؤمنين دعم الحالة الإيمانية وتنميتها والمحافظة عليها، واتخاذ كل التدابير الكفيلة بذلك ونحن سنتحدث هنا عن نقطة واحدة من المجموعة أعلاه وهي أثر المساجد في دعم وانتشار التدين والالتزام بالأخلاق وإن كان هذا الدور للمساجد مما لا يخفى على أحد ولكن الذكرى تنفع المؤمنين.

للمساجد أهمية كبيرة في الشريعة من خلال الحث الأكيد على إعمار المساجد مادياً - ببنائها وتشييدها- ومعنوياً - بإقامة الصلوات والشعائر الدينية والحلقات العلمية ونحوها فيها- وفضل الصلوات فيها خصوصاً لصلاة الجماعة، وثواب المواظبة على الحضور فيها حتى أن مجرد الوجود في المسجد عبادة يثاب عليها وإن لم يفعل شيئاً، ومن خلال بيان بركة الآثار المترتبة على التواصل مع المساجد وغيرها، وسأنقل لكم بعض الروايات الشريفة في ذلك:

ص: 149

1- في بناء المساجد ولو برصف أحجار لتحديد أرض المسجد، صحيحة أبي عبيدة الحذّاء قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: من بنى مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة. قال أبو عبيدة: فمر بي أبو عبد الله (علیه السلام) في طريق مكة وقد سويت بأحجار مسجداً فقلت له: جعلت فداك نرجو أن يكون هذا من ذاك؟ قال: نعم)(1).

2- فضل صلاة الجماعة والسعي إليها في المساجد، صحيحة زرارة قال: (قلت لأبي عبد الله: ما يروي الناس أن الصلاة في جماعة أفضل من صلاة الرجل وحده بخمس وعشرين صلاة، فقال: صدقوا)(2).

وفي خبر آخر عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): (فما من مؤمن مشى إلى الجماعة إلا خفف الله عليه أهوال يوم القيامة، ثم يؤمر به إلى الجنة).

وفي فضل المشي إلى المساجد عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (من مشى إلى المسجد لم يضع رجلاً على رطب ولا يابس إلا سبحت له الأرض إلى الأرضين السابعة)(3) وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (ما عُبد الله بشيء مثل الصمت والمشي إلى بيته) وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (من مشى إلى مسجد من مساجد الله فله بكل خطوة خطاها حتى يرجع إلى منزله عشر حسنات

ص: 150


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساجد، باب 8، ح1.
2- هذا الحديث والذي يليه تجدهما في وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة، باب 1، ح3، 10.
3- هذا الحديث والحديثان بعده في وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساجد، باب 4، ح1، 2، 3.

ومحى عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات).3- المتواصل مع المسجد ولو بالنية في ظل الله تبارك وتعالى، فعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): (سبعة في ظل عرش الله عز وجل يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل، ورجل تصدق بيمينه فأخفاه عن شماله، ورجل ذكر الله عز وجل خالياً ففاضت عيناه من خشية الله، ورجل لقي أخاه المؤمن فقال: إني لأحبك في الله عز وجل ورجل خرج من المسجد وفي نيته أن يرجع إليه، ورجل دعته امرأة ذات جمال إلى نفسها فقال: إني أخاف الله رب العالمين)(1).

4- سر عظمة المساجد وكرامة زائرها: عن أبي بصير قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن العلة في تعظيم المساجد فقال: إنما أمر بتعظيم المساجد لأنها بيوت الله في الأرض)(2) وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: مكتوب في التوراة أن بيوتي في الأرض المساجد فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي ألا أن على المزور كرامة الزائر) وعن الصادق (علیه السلام) أيضاً أنه قال: (عليكم بإتيان المساجد فإنها بيوت الله في الأرض ومن أتاها متطهراً طهره الله من ذنوبه وكُتب من زواره فأكثروا فيها من الصلاة والدعاء وصلوا من المساجد في بقاع مختلفة فإن كل بقعة تشهد للمصلي عليها يوم القيامة)(3).

5- الجلوس في المسجد عبادة: عن الإمام الصادق (علیه السلام) عن آبائه

ص: 151


1- بحار الأنوار: 84/ 2، أبواب مكان المصلي وما يتبعه، باب فضل المساجد وأحكامها وآدابها.
2- الحديث والذي يليه تجدهما في بحار الأنوار: 84/ 6.
3- بحار الأنوار: 83/ 384.

(صلوات الله عليهم) قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): الجلوس في المسجد لانتظار الصلاة عبادة ما لم يحدث، قيل: يا رسول الله وما الحدث؟ قال: الاغتياب)(1). وعنه (علیه السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (من كان القرآن حديثه والمسجد بيته بنى الله له بيتاً في الجنة)(2).6- فوائد التردد على المساجد: عن علي بن أبي طالب (علیهما السلام) أنه كان يقول: (من اختلف إلى المسجد أصاب إحدى الثمان: أخاً مستفاداً في الله، أو علماً مستطرفاً، أو آية محكمة، أو يسمع كلمة تدل على هدى، أو رحمة منتظرة، أو كلمة ترده عن ردى، أو يترك ذنباً خشيةً أو حياءً)(3).

7- تحذير من لم يحضر الصلاة في المسجد من غير علة: عن علي (علیه السلام): (لا صلاة لمن لم يشهد الصلوات المكتوبات من جيران المسجد إذا كان فارغاً صحيحاً)(4) وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (اشترط رسول الله (صلی الله علیه و آله) على جيران المسجد شهود الصلاة وقال: لينتهين أقوام لا يشهدون الصلاة أو لآمرنّ مؤذناً يؤذّن ثم يقيم ثم لآمرن رجلاً من أهل بيتي وهو علي بن أبي طالب فليحرقنّ على أقوام بيوتهم بحزم الحطب لأنهم لا يأتون الصلاة).

8- الجلوس في المسجد خير من الجلوس في الجنة: عن علي (علیه السلام) قال: (الجلسة في الجامع خير لي من الجلسة في الجنة، لأن الجنة فيها رضا نفسي

ص: 152


1- بحار الأنوار: 83/ 384.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساجد، باب 3، ح2.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساجد، باب 3، ح1.
4- الحديثان تجدهما في وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أحكام المساجد، باب 2، ح3، 6.

والجامع فيه رضا ربي)(1). 9- المسجد أحب البقاع إلى الله وفضل تطويل البقاء فيها: ففي الكافي عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لجبرائيل (ع): يا جبرائيل أي البقاع أحب إلى الله عز وجل؟ قال: المساجد وأحب أهلها إلى الله أولهم دخولاً وآخرهم خروجاً منها)(2).

أيها الأحبة:

هذا بعض ما ورد في عظمة المساجد وبركتها على الفرد والمجتمع، وقد لمسنا ذلك على أرض الواقع، لذا فنحن مطالبون اليوم ب- (صحوة) و (يقظة) من هذه الغفلة والتقصير في حق المساجد بل في حق أنفسنا إذ لم نستثمر هذه الفرصة العظيمة للطاعة التي أتاحها الله تبارك وتعالى حتى لا نكون ممن يشكوهم المسجد كما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (علیه السلام): (ثلاثة يشكون إلى الله عز وجل: مسجد خراب لا يصلي فيه أهله، وعالم بين جهال، ومصحف معلق قد وقع عليه الغبار لا يقرأ فيه)(3).

إن الفرصة متاحة اليوم لنشر المساجد ومحالّ العبادة وإقامة الشعائر الدينية ومجالس الوعظ والإرشاد في كل مكان ولو بأبسط صورها من دون تصور الأبنية الضخمة، مثلا يوجد كثير من الساحات المتروكة يمكن تسويتها وتحديدها أو تسقيفها لتكون محلاً لاجتماع المؤمنين، أو تهيئة بعض غرف

ص: 153


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساجد، باب 3، ح6.
2- الكافي: ج3، صفحة 489، ح14، باب النوادر.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب حكام المساجد، باب 5، ح1.

الاستقبال والمضايف في الدور لتؤدي الغرض، أو الوصول إلى مستوى تبرع الأشخاص أو الجهات بإنشاء المساجد وتأسيسها على التقوى [لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ] (التوبة:108).والأهم من الإعمار المادي هو الإعمار المعنوي الذي تشكو منه المساجد في الحديث المتقدم، وإعمارها يكون بإقامة الصلوات فيها والذكر والدعاء وبيان الأحكام الشرعية والأخلاق الفاضلة وتهذيب النفوس ومجالس الوعظ والإرشاد وذكر فضائل أهل البيت (علیهم السلام) ومظلوميتهم والشعائر الدينية وتجنيبها ما ينافي قدسيتها من المحرمات واللغو واللهو وأعمال الدنيا، وفي ذلك ورد عن أبي ذر (رضوان الله عليه) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (يا أبا ذر الكلمة الطيبة صدقة وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة، يا أبا ذر من أجاب داعي الله وأحسن عمارة مساجد الله كان ثوابه من الله الجنة، فقلت: كيف يعمر مساجد الله؟ قال: لا ترفع الأصوات فيها ولا يُخاض فيها بالباطل ولا يشترى فيها ولا يباع واترك اللغو ما دمت فيها، فإن لم تفعل فلا تلومن يوم القيامة إلا نفسك)(1).

وفي الحديث الشريف: (يأتي في آخر الزمان قوم يأتون المساجد فيقعدون حلقاً ذكرهم الدنيا وحب الدنيا، لا تجالسوهم فليس لله فيهم حاجة)(2).

ومن وصايا النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر (رضوان الله عليه): (يا أبا ذر: كل جلوس في المسجد لغو إلا ثلاثة: قراءة مصلٍّ أو ذكر ذاكر الله تعالى أو سائل عن

ص: 154


1- المصدر، باب 27، ح3.
2- المصدر، باب 14، ح4.

علم)(1).إن من بركات إعمار المساجد وإحيائها دفع البلاء عن الأمة وما أحوجنا إليه، روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال: (إن الله تبارك وتعالى ليريد عذاب أهل الأرض جميعاً حتى لا يحاشي منهم أحداً إذا عملوا بالمعاصي واجترحوا السيئات، فإذا نظر إلى الشيّب ناقلي أقدامهم إلى الصلوات، والوُلدان يتعلمون القرآن رحمهم اله فأخّر ذلك عنهم)(2) ومن وصايا النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر: (يا أبا ذر: يقول الله تعالى: إن أحب العباد إليّ المتحابون بجلالي المتعلقة قلوبهم بالمساجد المستغفرون بالأسحار، أولئك إذا أردت بأهل الأرض عقوبة ذكرتهم فصرفت العقوبة عنهم)(3).

فسارعوا أيها المؤمنون [إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] (آل عمران:133) [إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ] (التوبة:18) [وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً] (الجن:18).

ولنستثمر التوجه الحاصل في شهر رمضان فنديمه ونخلق الحوافز الإضافية له وليقم طلبة العلوم الدينية والخطباء والمبلغون بدورهم وواجبهم في هذه الحركة المباركة. ويحسن مراجعة كتاب (شكوى المسجد) وآخر فصل من

ص: 155


1- بحار الأنوار: 83/ 370.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساجد، باب 3، ح3.
3- بحار الأنوار: 83/ 370.

كتاب (نحن والغرب) لمعرفة أسباب عزوف الناس عن المساجد وكيفية علاجها وأمور مفيدة أخرى والحمد لله رب العالمين.

ص: 156

خطاب المرحلة 230 :معايير التقليد في المدرسة الصدرية

خطاب المرحلة 230 :معايير التقليد في المدرسة الصدرية(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى على خير خلقه وأحبهم إليه وأكرمهم عليه أبي القاسم محمد واله الطيبين الطاهرين..

تقليد المجتهد الجامع للشرائط منهج وسلوك عملي سنه الأئمة المعصومون (علیهم السلام) لشيعتهم ليضبطوا حركتهم وفق الشريعة المقدسة في زمن غيبة الإمام الحجة (أرواحنا له الفداء) ولينالوا رضا الله تبارك وتعالى. وهو لا يخرج عن الإطار الذي سار عليه العقلاء في حياتهم بأن يرجعوا في كل اختصاص إلى الخبير فيه والفقه واحد من تلك الاختصاصات.

وفد ذكر الفقهاء (قدس الله أرواحهم) في رسائلهم العملية خصائص وصفات مرجع التقليد كالاجتهاد والعدالة والأعلمية ونحوها، لكن هذه الشروط تمثل الحد الأدنى مما يجب توفره لتحقيق براءة ذمم المكلفين ولذا فإن التواقين للكمال ولنشر راية الإسلام وإعلاء كلمة الله تبارك وإقامة دولة الحق والعدل في الأرض وإصلاح ما فسد من أمور المسلمين وإنصاف

ص: 157


1- تقرير اللقاء الذي أجرته قناة (العراقية) الفضائية مع سماحة الشيخ مساء الخميس 2 ذ.ق 1430 المصادف 22/ 10/ 2009 عشية الذكرى الحادية عشرة لاستشهاد السيد الصدر الثاني (قدس سره) وقد عُمّم ليكون خطبة صلاة الجمعة الموحدة التي صادفت 3 ذ.ق 1430.

مظلوميهم ومحتاجيهم، أقول إن مثل هؤلاء لا يكتفون بتوفر تلك الخصائص لأنها وحدها لا تكفي لتحقيق تلك الأهداف السامية، ولان المرجعية الدينية في مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) ليست مقاما علميا فقط يكون مسؤولاً عن بيان الحكم الشرعي وطبع الرسالة العملية ونشرها. وإنما هي قيادة وارثة للائمة المعصومين (علیهم السلام) ووظيفة الإمامة لا تكتفي بإراءة طريق الحق والهدى للناس وإنما تأخذ بأيديهم وتوصلهم إلى الكمال، وفرق شاسع بين من يدل على الطريق وبين من يأخذ باليد ويوصل السائر إلى الغاية.وانطلاقا من هذا النزوع نحو الكمال فإن من المؤمنين من يقلد المجتهد لأنه عارف بالطرق الموصلة إلى الله تبارك وطبيب لأمراض النفس ومعالج لقساوة القلوب، قد سحق أنانية نفسه وهواه واعرض عن الدنيا بكل زخارفها ومظاهرها.

ومنهم من يقلد المجتهد لأنه ثائر مصلح رافض للظلم والفساد، ساع إلى تغييرهما، جاد في إحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بكل ما توفرت لديه من وسائل لا تأخذه في الله لومة لائم.

ومنهم من يقلد المجتهد لأنه رسالي يتحرك بمشروع الإسلام (دوّار بطبه) على وصف أمير المؤمنين (علیه السلام) لرسول الله (صلی الله علیه و آله) ولا يقر له قرارا حتى يقيم دولة الحق والعدل أو يختار الله تبارك وتعالى له دار البقاء.

ومنهم من يقلد المجتهد لأنه مفكر مجاهد بقلمه وبيانه يدافع عن العقيدة والشريعة ويرد شبهات المضلّلين ويقوي قلوب المؤمنين من أيتام آل محمد (صلی الله علیه و آله) كما وصفهم الحديث الشريف (ليهلك من هلك عن بينه ويحيى من حيي عن بينه).

ص: 158

وهذه التوجهات ليست عاطفية أو انفعالية تابعة للأهواء بل هي تستند إلى أحاديث أهل البيت (علیهم السلام) الكثيرة. والتي لم يتم إبرازها بوضوح في المدرسة التقليدية لسبب أو لآخر.فمما ورد في وظيفة الفقيه الأخلاقية قول رسول الله (صلی الله علیه و آله): ألا أخبركم بالفقيه حقا؟ من لم يقنط الناس من رحمة الله ولم يؤمنهم من عذاب الله ولم يؤيسهم من روح الله...)(1) إلى آخر الحديث.

وفي الوظيفة الأخرى ورد قول الإمام الحسين (علیه السلام) وهو متوجه إلى كربلاء الشهادة عندما اعترضته طلائع الجيش الأموي في الطريق فخطب فيهم وقال: أيها الناس إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله (صلی الله علیه و آله) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله وأنا أحق من غيري.(2)

وإذا كانت واحدة من هذه الصفات تقتضي التفاف الناس حول المرجع القائد فإننا وجدناها مجتمعه في أستاذنا الشهيد السيد محمد الصدر (قدس الله روحه الزكية)، وليس عسيراً على الباحث المنصف أن يجد الشواهد الكثيرة على ذلك في أقواله وسيرته المباركة.

ص: 159


1- كتاب ثلاثة يشكون :73.
2- المجلد السابق من هذا الكتاب، خطاب 176 صفحة 211.

وإذا كان الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس الله روحه الزكية) هو من أسس لهذه المعايير في عصرنا الحاضر وأرسى قواعد المدرسة الصدرية المباركة فإن الشهيد الصدر الثاني(قدس سره) هو من تقدم بالمسيرة إلى الأمام حينما لم يكتف بالعموميات والأطر العامة، وإنما وضع النقاط على الحروف وكشف الغبار عن هذه الحقائق وميز هذه المدرسة وأعطاها اسم (الحوزة الناطقة) وأرجع أصولها إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين والأئمة الطاهرين (علیهم السلام) فوصفهم جميعا بأنهم من الحوزة الناطقة، ثم لم يكتف بذلك حتى لبس الكفن ونزل إلى الميدان ليخوض المواجهة مع الباطل وليقاوم الظلم والفساد والانحراف.لقد كان (قدس سره) يؤكد على أتباعه للبحث عن صفتين في المرجع القائد ويدعو إلى تحقيقهما بدرجة من الدرجات ويعتبرهما خلاصة وصايا الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) والعلماء الصالحين وهما طيبة القلب وقوة القلب. وإنهما لتستحقان هذا الاهتمام والتركيز لأنهما مبعث حصول خصال الخير والكمال ومنهما تترشح.

فطيبة القلب تبعث على الرحمة وحب الآخرين والتسامي عن الحقد والغل والأنانية والحرص وغيرها وتدعوا إلى بذل الوسع في قضاء حوائج الناس وإدخال السرور عليهم، ووصاياه (قدس سره) في تحصيل هذه الصفة كثيرة من خلال خطاب الجمعة ولقاءاته الأخرى وورد في رسالته الكريمة الموجهّة إلي قبل استشهاده بعام ونصف تقريبا وجاء فيها ((أنت تعلم إنني كنت ولا زلت أعتبرك أفضل طلابي وأطيبهم قلبا وأكثرهم إنصافا للحق بحيث لو دار الأمر

ص: 160

في يوم من الأيام المستقبلية بين عدة مرشحين للمرجعية ما عَدوتك لكي تبقى المرجعية في أيدي منصفين وقاضين لحوائج الآخرين لا بأيدي أناس قساة طالبين للدنيا))(1).وقوة القلب مبعث الشجاعة والإقدام والحزم وقوة الإرادة والغضب لله تبارك وتعالى ورفض الظلم والباطل والانحراف ونحوها من الصفات، وكان (قدس سره) يصرح بان لدي من قوة القلب ما يكفي لاتخاذ القرارات التي يعجز الآخرون عن اتخاذها ولكشف الحقائق التي يداهن الآخرون في إخفائها. وفي إحدى خطبه المباركة في مسجد الكوفة قال ما مضمونه أن الاستقامة على جادة الشريعة صعبة للغاية لكنها في نفس الوقت سهلة للغاية لأن حقيقتها قوة الإرادة والعزم الصادق.

وهاتان الملكتان (طيبة القلب وقوة القلب) هما قوام القلب السليم الذي ينجو من أتى الله به يوم القيامة [إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ](الشعراء: 89).

إن السيد الشهيد الصدر (قدس سره) حينما بيّن هذه الحقائق كان ينطلق في مسؤوليته في بيان معالم المدرسة الصدرية التي وضع أسسها الشهيد الصدر الأول (قدس سره) وشاد أركانها الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) والتي تجسّد مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) في العصر الحاضر، وقد قدّم (قدس سره) لنا بذلك فهما للحديث المشهور (إن الإمام المهدي ع سيأتي بدين جديد وقرآن جديد) مع انه ع سوف لا يأتي بغير دين وقرآن جده المصطفى (صلی الله علیه و آله) ولكنه ع سيزيل الغبار المتراكم عن حقائق هذا الدين المودعة في القرآن الكريم وآثار

ص: 161


1- طبعت الصفحة الأولى من الرسالة في بداية كتاب قناديل العارفين.

المعصومين وسيقدم الفهم الصحيح لها بعد أن يعود الإسلام غريبا والقرآن مهجورا في أوساط عدد هائل من المتسمّين باسمه فيتراءى لهم وكأنه ع جاء بدين وقرآن جديدين.فالسيد الشهيد الصدر (قدس سره) لم يبتدع هذه المعايير ولم يضفها من عنده وإنما أعاد الحياة إليها ولفت الأنظار إليها بعد طول الهجران.

وانطلاقا من مسؤولياته هذه فقد كان (قدس سره) يحذر من الرجوع إلى الأنانيين وطلاب الدنيا المتلفعين بعباءة القداسة المصطنعة ليحتجبوا بها عن عامة الناس، لأنهم لا ينظرون إلى هؤلاء الناس إلا كهمج رعاع يقبّلون أيديهم ويدفعون إليهم أموالهم التي تضيع في فيافي بني سعد كما قال (قدس سره) في بعض حواراته المسجلة. وليس لهم هم إلا مداراة مصالح الخاصة من ذوي النفوذ والمال والجاه الذين يسميهم القرآن الكريم (الملأ) والذين كانوا يقفون دوما ضد الحركات الرسالية الإصلاحية وعلى رأسها رسالة الإسلام المباركة ولا يريدون للأمة أن تكون واعية بصيرة بالأمور لان ذلك يعني رفضها للتخلف والجهل والتكبر والاستئثار والامتيازات غير المنصفة للمستبدين.

فعمل (قدس سره) بشكل لا يعرف المداهنة والمجاملة على فضح هذه العلاقة غير الشريفة التي يحصل من خلالها الملأ على مصالحهم وإدامة نفوذهم وشرعية استئثارهم مقابل صنع الهالة المقدسة الزائفة لأصنامهم البشرية مخالفين بذلك وصايا أئمتنا سلام الله عليهم في بذل الوسع لخدمة عامة الناس وقضاء حوائجهم وإدخال السرور عليهم، وإن سخط المترفون والمستأثرون ومنها ما ورد في عهد أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى مالك الأشتر لما ولاه مصر (وَلْيَكُنْ

ص: 162

أَحَبَّ الأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ، فإن سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخَاصَّةِ، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ. وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ، أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَؤُونَةً فِي الرَّخَاءِ، وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاَءِ، وَأَكْرَهَ لِلإِنْصَافِ، وَأَسْأَلَ بِالْإِلْحَافِ ، وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الإِعْطَاءِ، وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ، وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ. وَإِنَّمَا عَمُودُ الدِّينِ، وَجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعُدَّةُ لِلأَعْدَاءِ، الْعَامَّةُ مِنَ الأُمَّةِ، فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ، وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ)(1) ومن ضمن تحذيراته قوله(قدس سره): (لقد حررتكم من مخططات ألف عام فلا يستعبدكم احد بعدي). لقد وعى (قدس سره) ببصيرته النافذة أن هذا الزمان هو كزمان جده الإمام الصادق (علیه السلام) الذي تشكلت فيه المدارس والمذاهب والملل والنحل فانبرى الإمام (علیه السلام) لبيان معالم مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) وصفات شيعتهم لئلا تختلط الأوراق ويضيع أهل الحق ولا تميّز هويتهم وخصائصهم ويدعّي الانتساب إليها من هي بريئة منه. وبسبب هذا الجهد المبارك منه ع سمي المذهب باسمه.

وهكذا سميت الحوزة الناطقة في عصرنا الحاضر باسم الصدرين الشهيدين (قدس الله سريهما) فقيل المدرسة الصدرية لما قدمّاه من جهد وجهاد توجّاه بالشهادة من اجل إرساء دعائم هذه المدرسة المباركة.

إن من حق الذين وعوا مبادئ السيد الشهيد الصدر (قدس سره) وعرفوه حق معرفته واتبعوه عن بصيرة والتزموا بوصاياه في حياته وبعد استشهاده (قدس سره) أن يفرحوا بفضل الله تبارك وتعالى وبرحمته [قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ

ص: 163


1- نهج البلاغة / قسم الرسائل: رقم 53.

فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ] (يونس:58) وأن يرفعوا رؤوسهم ويطاولوا بها السحاب لأنهم نهلوا من المعين العذب والمنبع الصافي فليشكروا الله تبارك وتعالى وليثبتوا على ما هداهم إليه والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 164

خطاب المرحلة 231 :الشهيدان الصدران واستشراف المستقبل

خطاب المرحلة 231 :الشهيدان الصدران واستشراف المستقبل(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

مما يتميز به القائد عن غيره استشراف المستقبل ومعرفة متطلباته فيستعد له وينجز الأعمال المناسبة له إضافة إلى ما يقتضيه الواقع الحاضر، ولأن هذا المستقبل مجهول عند غيره فإن من حوله سيعترض ويشكك ويتمرد وكان عليه الإذعان والطاعة لقائده مادام قد وثق به واعتقد بجدارته.

خذ لذلك مثلاً الإمام الحسين (علیه السلام) فإنه كُشف له وعَلِم النتائج الباهرة التي ستتحقق بناءاً على حركته المباركة المضمّخة بالدماء الزكية فأقدم (ع) مسروراً على الشهادة، ولم يكتف بذلك بل كشف عن بصائر أصحابه بعد أن امتحن إخلاصهم وثباتهم فأراهم منازلهم في الجنة التي تعني على بعض الوجوه الآثار المباركة المترتبة على نصرتهم وثباتهم وتضحيتهم يوم عاشوراء والمستمرة إلى يوم القيامة وهي حسنات تضاف إلى رصيدهم والجنة هي تلك الأعمال الصالحة التي يوفق إليها المؤمن.

ولأن هذه الصورة غير واضحة لغير الإمام الحسين (علیه السلام) وأصحابه فقد اعترض عليه كثيرون ومنهم بعض أولاد عمومته ورأوا أن حركته لا جدوى

ص: 165


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من المواكب والوفود القادمة لزيارته وتعزيته يوم السبت 4 ذ.ق 1430 المصادف 24/ 10/ 2009.

منها إذ ليس من المعقول أن يغيّر نظاماً طاغوتياً تمتد سلطته على بلاد مترامية الأطراف بعشرات من الأصحاب ومثلهم من النساء والأطفال، واعتراضهم هذا ناشئ من اقتصار نظرهم على واقعهم الحاضر من دون استشراف المستقبل ومتطلباته.وإذا أردنا أن نتقدم خطوة إلى الإمام في هذا التفكير فنقول أن القائد هو الذي يصنع المستقبل ويحدّد مسار الأحداث ومآل الأمور بلطف الله تبارك وتعالى من خلال المشروع والبرنامج الذي يسير عليه، وهنا أتذكر أن السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) سألني في اليومين الأولين من الانتفاضة الشعبانية عام 1991 عن موقف المرجعية المعروفة يومئذٍ من الأحداث فقلت يسوده الترقب وانتظار ما ستؤول إليه الأحداث، قال (قدس سره): حبيبي ومن الذي يصنع الأحداث؟!

من هذه المقدمة أريد أن أركّز على نقطة وردت في الخطاب الذي وجّهته إلى صلوات الجمعة الموحدة في أنحاء العراق أمس في ذكرى استشهاد السيد الصدر (قدس سره) وفحواها أن الشهيدين الصدرين (قدس الله روحيهما) أدركا ببصيرتهما الثاقبة أن هذا العصر وما يليه هو كزمان الإمام الصادق (علیه السلام) من حيث تشكّل المذاهب والمدارس والأيديولوجيات التي ستتصارع لاجتذاب البشرية وإقناعها بها والتأثير عليها وتوجيهها، والإسلام المحمدي الأصيل الذي نقله لنا أهل البيت (سلام الله عليهم) في وسط هذا التحدي بل هو المستهدف الأول، ولم يعُد كافياً أن نحيلهم إلى الرسالة العملية إذا سألونا عن مختلف قضايا الاقتصاد والاجتماع والسياسة والحكم والعلاقات الإنسانية والأخلاق

ص: 166

وغيرها وسينفضّ الناس عن هذا الدين الحق إذا شعروا بالعجز عن إجابة الأسئلة وحل الإشكالات، فشعرا بالحاجة إلى بيان المعالم التفصيلية لهذا الدين ومواقفه من كل شؤون الحياة حيث عنون الشهيد الصدر الأول (قدس سره) عنوان أحد كتبه (الإسلام يقود الحياة).كما أن مذهب التشيع لأمير المؤمنين (علیه السلام) وأهل البيت (سلام الله عليهم) كان معروفاً منذ عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وكانت علامته الولاء لعلي وأهل بيت النبي (صلوات الله عليهم أجمعين) والأخذ عنهم لكن هذا البيان والطرح لم يكن كافياً في عهد الإمام الصادق (علیه السلام) حيث بدأت الحضارات والأيديولوجيات تتلاقح وتتصارع فتصدى الإمام (علیه السلام) إلى بيان حكم كل حالة والموقف من كل قضية وعلى رأسها التوحيد والإمامة والأخلاق والعلاقات الاجتماعية وأحكام الحلال والحرام فكانت عصا موسى التي تلقف ما يأفكون.

وهكذا رأى الشهيدان الصدران (قدس الله روحيهما) أن المدارس تتصارع وقد ألقى أتباع كل مدرسة عصاهم التي يخيّل إليهم من سحرهم أنها تسعى ليسحروا الناس ويجتذبوهم فلا بد لقادة الإسلام أن يلقوا بعصاهم التي تلقف ذلك السحر وتفضحه وتبين معالم الحق وأهله.

وهذا الاستشراف هو الذي دفع السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) إلى أن يبيّن مجموعة من الحقائق ويضع خصائص منهج الحوزة الناطقة مما جهله الآخرون فنصبوا له العداوة والبغضاء وافتروا عليه وخذلوه.

وهو (قدس سره) حينما قال: (لقد حرّرتكم من مخططات ألف عام) لا يريد

ص: 167

بذلك الإساءة إلى السلف الصالح الذين بذلوا جهوداً جبارة في حفظ علوم أهل البيت (سلام الله عليهم) بمقدار ما سمحت به الظروف، ولكنه (قدس سره) أراد أنه وضع للأمة منهجاً جديداً مواكباً لتحديات العصر فيه إضافة للمنهج السابق الذي لا يغني الاقتصار عليه لتحقيق هذه المواكبة فلا يرجعوا إليه.

ص: 168

خطاب المرحلة 232 :كيفية الاعتصام من الذنوب

خطاب المرحلة 232 :كيفية الاعتصام من الذنوب(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

سألني أحدكم أن أتحدث عن كيفية المحافظة على حالة التوبة والاعتصام من الذنوب التي يتوجه إليها الإنسان في يوم عرفة يوم الدعاء وطلب التوبة، وقد ذكّرني سؤاله بفقرة وردت في أحد أدعية شهر رجب(2) وهي (واعصمنا من الذنوب خير العصم) وهذا يعني وجود أشكال عديدة من العواصم عن الذنوب بعضها خير من بعض، وهو معنىً صحيح إذا التفتنا إلى أنَّ من العواصم أن يفقد الإنسان النعمة التي يرتكب بها الذنب كفقد نعمة البصر فيتخلص من النظرة المحرمة، أو يفقد الإحساس بالشهوة الجنسية التي هي نعمة أودعها الله تبارك وتعالى في الإنسان ليدفعه نحو الزواج والإنجاب ولولاها لما أقدم البعض على تحمل مسؤولية الأسرة والأطفال ومشاق التربية والرعاية، فإذا فقد هذه

ص: 169


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من طلبة كلية العلوم/ جامعة ذي قار الذين التقوا سماحته يوم الخميس 8 ذو الحجة 1430 المصادف 27/ 10/ 2009 قبل توجههم إلى كربلاء لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عرفة، ووردت بعض الفقرات في حديث سماحته مع وفود من كلية الهندسة / جامعة ذي قار يوم الجمعة 2/ذ.ح/ ومن كلية الهندسة جامعة البصرة يوم 3 ذ.ح.
2- وهو الدعاء الوارد عن الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) بواسطة سفيره محمد بن عثمان بن سعيد وأوله (اللهم إني أسألك بمعاني...) إلخ.

النعمة فستزول تلقائياً فرصة ارتكاب جريمة الزنا والعياذ بالله تعالى.لكن الإنسان لا يريد بالتأكيد هذه الطريقة من الاعتصام من الذنوب لأنه يدعو الله تبارك وتعالى أن يمتعه بالعافية وبحواسه من السمع والبصر وغيرهما (اللهم متعني بسمعي وبصري واجعلهما الوارثين)..إلخ.

ومع ذلك قد تكون هذه الطريقة هي ما يختارها الله تبارك وتعالى لبعض عباده، يروى أن أبا بصير –وهو مكفوف- دخل على الإمام الصادق (علیه السلام) وسأله أن يدعو الله تبارك وتعالى ليرفع عنه البلاء ويعيد إليه بصره، فدعا الإمام (علیه السلام) له فردّ الله تعالى بصره وصار يبصر وفرح بذلك، فقال له الإمام (علیه السلام) إن شئت مضيت على حالتك الجديدة هذه وتحاسب يوم القيامة كما يحاسب الخلق أو ترجع إلى حالتك الأولى وتدخل الجنة بغير حساب، فاختار أن يعود إلى حالته الأولى ليضمن له الإمام (علیه السلام) الجنة.

وعلى أي حال فهذا شكل من أشكال الاعتصام من الذنوب، ومن الأشكال الأخرى أن يكون للإنسان رادع من نفسه عن الذنوب أما حياءً من الله تعالى لما انعم عليه من النعم التي لا تعد ولا تحصى، أو خوفاً منه عز وجل، أو خشية الفضيحة والعار خصوصاً يوم القيامة عندما تعرض الأعمال أمام الأشهاد وتبدو السرائر، نسأل الله تعالى عفوه وستره، وهذا الرادع يؤتاه الإنسان بفضل الله تبارك وتعالى حينما يخلص لله تعالى ويكون صادقاً معه ففي الحديث الشريف (إذا أحبَّ الله عبداً جعل له واعظاً من نفسه وزاجراً من قلبه يأمره وينهاه)(1).

ومن العواصم عن الذنوب ذكر الله تعالى على كل حال والتفات الإنسان

ص: 170


1- بحار الأنوار: 70/ 26

إلى أنه دوماً في محضر ربّه وإن ربّه مطّلع عليه [أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] [مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ] [مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا] فمع حالة الالتفات هذه لا يُقدم الإنسان على الذنب وإلا كان مستخفاً بربه، وإنما يرتكب الذنب بغفلة وجهالة فإذا التفت وتذكّر ندم وتاب [إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ].ومن العواصم أن يلتفت الإنسان إلى قبح الذنب ونتن صورته الواقعية التي تُدرك بالبصيرة لا بالبصر كما ورد في القرآن الكريم من تصوير الغيبة بأكل لحم الأخ ميتاً وهي صورة مقززة تنفر منها النفوس، وكتصوير الدنيا في كلام أمير المؤمنين (علیه السلام) بالجيفة لميتة الحيوان وحولها الكلاب تنهشها وتقطعها فمن يرضى أن يشارك الكلاب في هذه الجيفة، أو تصوير أكل الحرام بأنهم [يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً] أو تصوير حبس الحقوق الشرعية والبخل بها بأنها [يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَ-ذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ] (التوبة : 35) وغيرها من الصور المرعبة التي وردت في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة فكيف يُقدم عليها الإنسان بعد معرفته بحقيقتها؟

ومن العواصم أن يشغل الإنسان نفسه بالمباحات والأعمال الأخرى فضلاً عن الطاعات كالدراسة ومطالعة الكتب واللقاء مع الإخوان وحينئذٍ لا يبقى مجال ولا فرصة للمعصية والذنب لأن من أسباب ارتكابها الفراغ، قال الشاعر:

إن الشباب والفراغ والجِدَة *** مفسدة للمرء أي مفسدة

ص: 171

ولله تبارك وتعالى مع أوليائه حالات من العصمة عن الذنوب لا يعرفها إلا أهلها، ولا يُنال كل ذلك إلا بالاعتصام بالله تعالى والتوسل إليه بطلب التسديد كما ورد في الدعاء (اللهم ارزقني توفيق الطاعة وبعد المعصية).

ص: 172

خطاب المرحلة 233 :أحبوا الله تعالى وحبّبوه وتحبّبوا إليه

اشارة

خطاب المرحلة 233 :أحبوا الله تعالى وحبّبوه وتحبّبوا إليه(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله كما هو أهله وكما يستحقه حمداً كثيراً، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وأكملهم أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

ورد في حديث نبوي شريف أنه توجد فئة من الناس لهم مقام رفيع يوم القيامة يغبطهم عليه الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، وتشرأبُّ أعناق طالبي الكمال إزاء مثل هذه الأحاديث ويقبلون عليها بكلّهم، والحديث الشريف عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: (إني لأعرف ناساً ما هم أنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء بمنزلتهم يوم القيامة: الذين يحبّون الله ويحببونه إلى خلقه يأمرونهم بطاعة الله فإذا أطاعوا الله أحبهم الله)(2).

فمن الغريب أنك تجد بعض الناس يتحمّس في الدعوة إلى محبة حزبه أو فريقه الرياضي الذي يشجعه، أو الشخص الذي يعجبه، ويغفل عن الدعوة إلى محبة خالقه الكريم ويزهد في هذا المنزلة الرفيعة وهي منزلة قد لا يبدو من الصعب وصول الإنسان إليها بلطف الله تبارك وتعالى وتوفيقه إذ ليس عليه إلا

ص: 173


1- خطبة سماحة آية الله الشيخ اليعقوبي (دام ظله) في صلاة عيد الأضحى سنة 1430 التي أقيمت بتأريخ 28/ 11/ 2009.
2- مجمع الزوائد للهيثمي: 1/ 126.

أن يحبّبَّ الله تعالى إلى مخلوقاته.يأمر الله تعالى النخبة من عبادة ليكونوا من الدعاة إلى محبة الله تعالى، ففي حديث عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: (أوحى الله تعالى إلى موسى (علیه السلام): أحببني وحببني إلى خلقي، قال موسى: يا رب إنك لتعلم أنه ليس أحدٌ أحبُّ إلي منك فكيف لي بقلوب العباد؟ فأوحى الله إليه: فذكّرهم نعمتي وآلائي فإنهم لا يذكرون مني إلا خيراً)(1)، وورد مثله(2) عن النبي داود (علیه السلام).

وهذا الحديث يبين طريقاً لتحبيب الله تعالى إلى خلقه بتذكيرهم بنعمه التي لا تُعدّ ولا تحصى، ولا تحتاج معرفتها إلى مؤونة كبيرة، وليقم الإنسان بمراجعة لنفسه وحاله ليعرف سعة النعم، فمثلاً إذا جلس على الطعام ورأى أنواع المواد الداخلة في إعداده، وكم بُذل عليها من جهود لتصل إليه بهذا الشكل، ولننظر في الخبز الذي هو طعام مشترك لكل الناس كيف تعب الزرّاع لإنتاج حبات القمح ثم طحنت ونقلت وعُجنت وخبزت، وكل مرحلة من هذه المراحل يقوم عليها عمال ومكائن ولوازم أخرى كالوقود والماء وغيرها، فإذا تأمل الإنسان في هذه المنظومة الواسعة من النعم التي تشترك لتقدم له رغيف الخبز، أحبَّ الإنسان خالقه الذي هيّأ له كل هذه الأسباب وذلّل له كل الصعوبات، وإذا تأمل في الأنواع الأخرى من طعامه وشرابه فإنه سيعجز عن إدراكها فضلاً عن استقصائها. لذلك حكي عن البعض أنه كان يبكي حينما يقدَّم له الطعام لما يراه من أعظم النعم.

ص: 174


1- بحار الأنوار: 13/ 351.
2- بحار الأنوار: 14/ 38.

وهذا لا يعني اقتصار النعم على المطعم والمشرب، ومن ظن ذلك فهو جاهل، فإن لله تبارك وتعالى على عبده نعماً لا تحصى على رأسها الإيمان بالله تعالى وتوحيده ونعمة الإسلام وولاية النبي وأهل بيته الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) وقد تضمن دعاء الإمام الحسين (علیه السلام) يوم عرفه جملة من تلك النعم من قبل خروجنا إلى هذه الدنيا، ولو تعرّف الإنسان على عجائب بدنه لرأى عجباً. في أمالي الشيخ الطوسي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (من لم يعلم فضل الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قصر علمه ودنا عذابه)(1) فإذا علم الإنسان بعض ما أنعم عليه ربه –وهي لا تعد ولا تحصى- أحبه، لأن الإنسان مجبول فطرياً على حب من أحسن إليه، ولو أن شخصاً وفّر لآخر واحدة من نعم الله كالحياة بإنقاذه من غرق أو موت محقق أو وفّر له نعمة البصر أو السمع أو الطعام لأحبه وكان مديناً له طول حياته بذلك الإحسان. فكيف لا يحب الله تعالى الذي وفّر له كل هذه النعم. ومن الوسائل الأخرى لتحبيب الله تعالى إلى خلقه بيان صفاته الحسنى وتعريفه إلى خلقه بما هو أهله من الكمال فإن الإنسان ينجذب فطرياً إلى الجمال والكمال، وذلك يتطلب معرفة فإنه لا حب إلا بمعرفة، فنحن لم نرَ رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولا أمير المؤمنين (علیه السلام) ولا الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء والحسن والحسين والأئمة المعصومين والأنبياء والرسل (صلوات الله عليهم أجمعين) ولم نعايشهم ولكنهم وُصفوا لنا بمحاسن الأخلاق واطلعنا على سيرتهم الكريمة وسمو ذواتهم ومواقفهم النبيلة فأحببناهم، أما الجاهل بهم فإنه

ص: 175


1- بحار الأنوار: 20/ 69.

لا يعرفهم حتى يحبهم، وهكذا العلماء من السلف الصالح (قدس الله أرواحهم) فإن العامي الذي لا يعرف قيمة إنجازاتهم العظيمة يكون حبه هامشياً مجملاً، أما العلماء الذين وقفوا على مؤلفاتهم وسبروا أغوار علومهم وعلموا قوة ملكاتهم والجهود المضنية التي بذلوها فإنهم يحملون لهم كل الحب والإجلال والتعظيم.وهكذا إذا تعرّف الإنسان على الصفات الحسنى لخالقه أحبّه، فمثلاً إذا عرف سعة عفوه عن المذنبين وقرأ قوله تعالى: [قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ] (الزمر:53) وقرأ بعض الروايات في ذلك كقول الإمام الكاظم (علیه السلام) في الشاب الذي قتل مائة بريء وكان يائساً من عفو الله عنه فقال (علیه السلام): (إن يأسه من رحمة الله أعظم من قتله مائة نفس محرمة).

أو عرف سعة رحمة الله تبارك وتعالى بعباده وأنه تعالى وزّع جزءاً من مائة جزء من رحمته على مخلوقاته فبها تتراحم)، تصوروا أن رحمة الأمهات والآباء بأبنائهم لدى الإنسان والحيوان والمشاعر النبيلة التي تتدفق عند رؤية مبتلى أو عاجز أو ذوي عاهة، تشكّل هذه كلها جزء من مائة جزء من رحمة الله تعالى التي لا حدود لها، والقصص في رحمة الله تعالى وتدبيره لأمر خلقه ورعايتهم عجيبة.

أو عرف كيف أن الله يستر على المذنبين والخاطئين ويحفظ كرامتهم ويصون سمعتهم بين الناس كقصة السيد بحر العلوم (قدس سره) الذي أمره الإمام المهدي (أرواحنا له الفداء) بأن يزور رجلاً عادياً من عامة الناس ويبشره بعلو

ص: 176

منزلته لخصلة أحبّها الله تعالى فيه وهي أنه لما تزوج امرأة لم يجدها باكراً فطلبت منه الستر عليها وعدم فضحها فاستجاب لطلبها قربة إلى الله تعالى.أقول: إذا تعرف الإنسان على مثل هذه الصفات لخالقه أحبه قطعاً.

ومما يحبّب الله تعالى إلى عباده التعرف على سيرة أنبيائه ورسله وأوصيائهم المنتجبين وسمو أخلاقهم وطهارة نفوسهم، فإن رباً يكون رسله وسفراؤه إلى خلقه مثل نبينا الأكرم محمد (صلی الله علیه و آله) ويكون أولياؤه مثل علي بن أبي طالب (علیهما السلام) لجدير بأن يستأثر بحب عباده، لأنهم يعكسون صورة عن صفات ربهم. وكمثال على ذلك أن بعض الناس يحبون مرجعية ما ويقلدونها لأن وكيلها ومعتمدها عندهم حسن السيرة محبوب عندهم.

حب الله تعالى:

ولا بد للإنسان قبل أن يحبب الله تعالى إلى خلقه أن ينطوي قلبه على حب الله تعالى، ويظهر من الآيات الكريمة والروايات الشريفة أن هذا الحب علامة الإيمان، بل لا يؤثر عليه حب غيره، قال تعالى: [قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ] (التوبة:24) وقال تعالى: [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ] (البقرة: 165) وقال تعالى: [فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ] (المائدة: 54).

ص: 177

وروي أنه سئل رسول الله (صلی الله علیه و آله): (يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليك مما سواهما)(1) وفي حديث آخر (لا يؤمن العبد حتى أكون أحبَّ إليه من أهله وماله والناس أجمعين). ويحصل الحب لله تبارك وتعالى بعد تحقق مقدمتين، كلما قويتا قوي الحب وكمُل:الأولى: تطهير القلب من حب الدنيا وتهيئته بتفريغه لحب الله تعالى، فإن القلوب أوعية لا تستوعب أمراً ما حتى تخليها من غيره، قال تعالى: [مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ] (الأحزاب: 4) وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): (إن كنتم تحبون الله فأخرجوا من قلوبكم حب الدنيا) وعن الإمام الصادق (علیه السلام): (إذا تخلى المؤمن من الدنيا سما ووجد حلاوة حب الله تعالى) ولذا وردت الوصية فيه عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (القلب حرم الله فلا تسكن حرم الله غير الله).

وروي أن النبي (صلی الله علیه و آله) نظر إلى مصعب بن عمير مقبلاً وعليه إهاب كبش قد تنطق به فقال (صلی الله علیه و آله): (انظروا إلى هذا الرجل الذي قد نوّر الله قلبه، لقد رأيته بين أبويه يغذونه بأطيب الطعام والشراب فدعاه حب الله وحب رسوله إلى ما ترون)(2).

الثانية: المعرفة بالله تعالى، فإنه لا حب إلا بعد المعرفة، ولا يحب الإنسان شيئاً يجهله؛ ويكرر القرآن الكريم كثيراً الأمر بالتدبر والتأمل والتفكر في آيات الله للوصول إلى المعرفة، قال تعالى: [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ

ص: 178


1- الحديث والذي يليه تجده في مجموعة ورّام (تنبيه الخواطر ونزهة النواظر): 1/ 223.
2- المحجة البيضاء، كتاب مقامات القلب: 114.

حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] (فصلت:53).وتفاوت الناس في حبهم لله تبارك وتعالى بمقدار تفاوتهم في هاتين المقدمتين، وتبعاً لذلك تتفاوت درجاتهم عند الله تبارك وتعالى.

آثار حب الإنسان لله تعالى وعلاماته:

إذا كان الحب صادقاً فإن آثاره ستظهر على سلوك الإنسان وعلاقته بالآخرين، فهذه الآثار تكون علامات على صدق الحب، ومن دون تحققها يكون ادعاء الحب وهماً:

1- طاعة المحبوب والقيام بكل ما يقربه من محبوبه ويطبّق ما يكسبه رضاه ويجتنب ما يسخطه، ففي الحديث: (قال رجل للنبي (صلی الله علیه و آله): يا رسول الله علّمني شيئاً إذا أنا فعلته أحبني الله من السماء وأحبني الناس من الأرض، فقال (صلی الله علیه و آله) له: ارغب فيما عند الله عز وجل يحبّك الله، وازهد فيما عند الناس يحبّك الناس)(1) قال الله تبارك وتعالى: [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] (آل عمران:31)، قال الإمام الصادق (علیه السلام): (ما أحب اللهَ عز وجل من عصاه، ثم تمثّل فقال:

تعصي الإله وأنت تُظهرُ حبّهُهذا لعمري في الفعال بديعُ

لو كان حبّ-ك صادقاً لأطعتَهإن المحب لمن أحبَّ مطيعُ (2)

ص: 179


1- بحار الأنوار: 70/ 5 عن ثواب الأعمال والخصال.
2- بحار الأنوار: 70/ 15 عن أمالي الصدوق.

ولا يجتنب المحرمات فقط بل يترك المكروهات لأن الله تعالى لا يحبها.2- إدامة ذكر الله تبارك وتعالى، فإن المحب لا يغفل عن ذكر حبيبه ومن أحب شيئاً أكثر ذكره بلسانه أو بقلبه وعقله وأحبّ ذكر الله تعالى، عن الرسول (صلی الله علیه و آله): (علامة حب الله تعالى حب ذكر الله، وعلامة بغض الله تعالى بغض ذكر الله تعالى)(1)، ودوام ذكر الله تعالى حصن الإنسان من الوقوع فيما يسخط الله تعالى ويبعد منه ومفتاح الارتقاء في الكمالات وسبب لذكر الله تعالى إياه [فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ] (البقرة: 152).

3- إيثار محبة الله على ما يحبه العبد، فإذا خُيِّر بين أمرين اختار أرضاهما لله تبارك وتعالى وإن كان على خلاف هواه وما تشتهيه نفسه، لأن المحب يؤثر رضا محبوبه على رضا نفسه ففي البحار عن الإمام الصادق (علیه السلام): (دليل الحب، إيثار المحبوب على من سواه).

4- إنه سيحب كل ما يرتبط بمحبوبه فيحب الأنبياء والرسل (صلوات الله عليهم أجمعين) لأنهم مبعوثون من الله تبارك وتعالى، ويحب الأئمة والأوصياء (ع) لأنهم منتجبون من الله تبارك وتعالى، ويحب القرآن لأنه رسالة ربه إلى عباده، عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) للناس وهم مجتمعون عنده: أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمة وأحبوني لله عز وجل وأحبوا قرابتي لي)(2) ويحب العلماء والفقهاء لأنهم يهدونه إلى الله تبارك وتعالى، ويحب الشعائر والمشاعر المقدسة لأنها تذكّره بالله تعالى، ويحب المؤمنين

ص: 180


1- ميزان الحكمة: 1/ 510.
2- بحار الأنوار: 70/ 16 عن علل الشرائع والأمالي للصدوق.

لأنهم أهل طاعة الله تعالى، عن الإمام الباقر (علیه السلام): (إذا أردت أن تعلم أن فيك خيراً فانظر إلى قلبك فإن كان يحب أهل طاعة الله عز وجل ويبغض أهل معصيته ففيك خير والله يحبك، وإن كان يبغض أهل طاعة الله ويحب أهل معصيته فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع من أحب).5- وإذا أحبَّ العبدُ ربَّه نشطت الأعضاء للعبادة ولم يستثقلها واستزاد منها فلم يقتصر على الواجبات، بل يكثر من المستحبات لأنها محبوبه عند الله تعالى، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (كان فيما ناجى الله عز وجل به موسى بن عمران (ع) أن قال: يا بن عمران كذب من زعم أنه يحبني فإذا جنه الليل نام، أليس كل محب يحب خلوة حبيبه، هذا أنا ذا يا بن عمران مطلع على أحبائي إذا جنّهم الليل حوّلت أبصارهم من قلوبهم ومثلت عقوبتي بين أعينهم، يخاطبوني عن المشاهدة، ويكلموني عن الحضور، يا بن عمران هب لي من قلبك الخشوع ومن بدنك الخضوع ومن عينيك الدموع في ظلم الليل وادعني فإنك تجدني قريباً مجيباً)(1).

6- ومن علامات حب الله تعالى أن العبد لا يكره الموت قال تعالى: [قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] (الجمعة:6) في الرد على زعمهم [وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ] (المائدة:18)، وكيف يكرهه وبه ينتقل الإنسان من سجن الدنيا إلى حظيرة القدس ولقاء ربه وأوليائه ((وإذا علم أنه لا وصول إلى هذا اللقاء إلا بالارتحال عن الدنيا بالموت، فينبغي أن يكون

ص: 181


1- بحار الأنوار: 70/ 14 عن أمالي الصدوق.

محباً للموت غير فارٍ منه، فالمحب لا يثقل عليه السفر عن وطنه إلى مستقر محبوبه ليتنعم بمشاهدته. والموت مفتاح اللقاء وباب الدخول إلى المشاهدة قال النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله): (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه)))(1).نعم قد يحب الإنسان البقاء في الدنيا للاستزادة من طاعة الله تبارك وتعالى ونيل رضاه وهذا لا ينافي الحب ((وفي الخبر المشهور أن إبراهيم (علیه السلام) قال لملك الموت إذ جاءه لقبض روحه: هل رأيت خليلاً يميت خليله؟ فأوحى الله تعالى إليه: هل رأيت محباً يكره لقاء حبيبه، فقال: يا ملك الموت الآن فاقبض))(2).

[بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، وَالْعَصْر، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ].

7- ومن علامات حب الله تعالى وآثاره أنه يسعى للاتصاف بصفاته الحسنى، فالمحب يتمثل في حياته كل حركات وسكنات بل رغبات محبوبه، كما نجد من يحب عالماً أو بطلاً فيقلّده في ملبسه ومشيته ومطعمه وحركاته ونحوها، فالعبد إذا أحب ربه اتصف بصفاته الحسنى.

8- ومن علامات حبّ الله تعالى حبّ عباده ومخلوقاته والرحمة بهم والشفقة عليهم لأنهم من صنع ربه وإبداعه ولأنهم رعاياه فيسعى لإسعادهم وقضاء حوائجهم وتفريج كربهم ورفع الظلم عنهم. فالذي يقابل حاجة الناس ومعاناتهم بقسوة قلب وعدم اكتراث لا يحلّ في قلبه حبّ الله تعالى.

ص: 182


1- المحجة البيضاء للفيض الكاشاني، كتاب مقامات القلب.
2- مجموعة ورام: 1/ 223.

9- ومن علامات حب الله تعالى الرضا بقضائه والتسليم لأمره روي (إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) مرّ بقومٍ فقال لهم: ما أنتم؟ فقالوا: مؤمنون. فقال: ما علامة إيمانكم؟ قالوا: نصبر على البلاء ونشكر عند الرخاء ونرضى بمواقع القضاء، فقال (صلی الله علیه و آله): مؤمنون برب الكعبة)(1) وقال أيضاً: (إذا كان يوم القيامة أنبت الله لطائفة من أمتي أجنحة فيطيرون من قبورهم إلى الجنان يسرحون فيها ويتنعمون كيف شاؤوا فتقول لهم الملائكة: هل رأيتم حساباً؟ فيقولون: ما رأينا حساباً، فيقولون: هل جزتم على الصراط؟ فيقولون: ما رأينا صراطاً، فيقولون لهم: هل رأيتم جهنم؟ فيقولون: ما رأينا شيئاً، فتقول الملائكة: من أمة من أنتم؟ فيقولون: من أمة محمد (صلی الله علیه و آله)، فيقولون: نشدناكم الله حدثونا ما كانت أعمالكم في الدنيا فيقولون: خصلتان كانتا فينا فبلّغنا الله هذه المنزلة بفضله ورحمته، فيقولون: وما هما؟ فيقولون: كنا إذا خلونا نستحي أن نعصيه ونرضى باليسير مما قسم لنا، فتقول الملائكة: يحق لكم هذا)(2).

10- وأن يكون الحب ممزوجاً بالخوف من الإعراض أو الإبعاد أو أن يستبدل به غيره، يروى أن الإمام (علیه السلام) إذا أحرم ولبى وقال: (لبيك اللهم لبيك) كانت ترتعد فرائصه ويقول: أخشى أن يجيبني الله تبارك وتعالى: لا لبيك. وقد يكون الخوف من التوقف وعدم التوفيق لمزيد القرب من الله تعالى فيكون من أهل الحديث: (من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان يومه شراً من أمسه فهو

ص: 183


1- مجموعة ورام: 1/ 229.
2- مجموعة ورام: 1/ 230.

ملعون)(1).

جزاء من يحب الله تبارك وتعالى:

1- إذا أحب العبد ربه أحبه وقرّبه منه وأدخله جنته قال تعالى: (يُحِبَّهُم وَيُحِبُّونَهُ)، عن الإمام الصادق (علیه السلام): (من أحب أن يعلم ماله عند الله فلينظر ما لله عنده)(2) ويشرح الحديث الآخر كيفية معرفة ذلك عن أمير المؤمنين (علیه السلام): (من أراد منكم أن يعلم كيف منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله منه عند الذنوب كذلك منزلته عند الله تبارك وتعالى)، وفي حديث آخر عن علي (علیه السلام) قال: (من أحب أن يعلم كيف منزلته عند الله فلينظر كيف منزلته عنده فإن كل من خيِّر له أمران أمر الدنيا وأمر الآخرة فاختار أمر الآخرة على الدنيا فذلك الذي يحب الله ومن اختار الدنيا فذلك الذي لا منزلة لله عنده)(3).

وروي في أخبار داود (علیه السلام) (يا داود أبلغ أهل أرضي أني حبيب من أحبني، ما أحبني أحد أعلم ذلك يقيناً من قلبه إلا قبلته لنفسي وأحببته حباً لا يتقدمه أحد من خلقي، من طلبني بالحق وجدني ومن طلب غيري لم يجدني، فارفضوا يا أهل الأرض ما أنتم عليه من غرورها وهلموا إلى كرامتي ومصاحبتي ومجالستي ومؤانستي وآنسوني أؤانسكم وأسارع إلى محبتكم)(4).

ص: 184


1- معاني الأخبار للصدوق: 242.
2- الحديث وما بعده في بحار الأنوار: 70/ 18 عن معاني الأخبار والخصال.
3- بحار الأنوار: 70/ 26.
4- الحديث والذي يليه في بحار الأنوار: 70/ 26.

2- وإذا أحب الله عبده: وفقه لطاعته وجنّبه معصيته، روي أن موسى (علیه السلام) قال: (يا رب أخبرني عن آية رضاك عن عبدك فأوحى الله تعالى إليه: إذا رأيتني أهيئ عبدي لطاعتي وأصرفه عن معصيتي فذلك آية رضاي)، وعن الإمام الصادق (علیه السلام): (إذا أحب الله عبداً ألهمه طاعته). وفي حديث آخر (إذا أحبّ الله عبداً جعل له واعظاً من نفسه وزاجراً من قلبه يأمره وينهاه).

3- وإذا أحب الله عبده: تولى أمره وتدبير شؤونه، ونصره على أعدائه، وأولهم نفسه التي بين جنبيه فلا يخذله ولا يكله إلى نفسه وشهواته، وفي الحديث عن النبي (صلی الله علیه و آله): (عن جبرئيل قال: قال الله تبارك وتعالى: وإن من عبادي المؤمنين لمن يريد الباب من العبادة فأكفّه عنه لئلا يدخله عجب فيفسده، وإن من عبادي المؤمنين لمن لم يصلح إيمانه إلا بالفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا بالغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك)(1) إلى آخر الحديث.

4- وإذا أحب الله عبده: كان دليله وسدد خطاه وأنار بصيرته وما أحوجنا إلى دليل يسدّدنا ويميّز بين الحقّ والباطل ويبصّرنا بحقائق الأمور، في الحديث النبوي المتقدم: قال الله تبارك وتعالى: (وما يتقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يبتهل إليّ حتى أحبه، ومن أحببته كنت له سمعاً وبصراً ويداً وموئلاً إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته)(2).

ص: 185


1- علل الشرائع: 12 الباب 9، ح7.
2- وفي المحاسن: (كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها) (بحار الأنوار: 70/ 22).

5- وإذا أحبّ الله عبداً حشره مع من أحب، جاء إعرابي إلى النبي (صلی الله علیه و آله) (فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ فقال (صلی الله علیه و آله): ماذا أعددت لها؟ فقال: ما أعددت كثير صلاة ولا صيام إلا أنّي أحب الله ورسوله، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): المرء مع من أحب. قال: فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بذلك)(1).

ما يحببكم إلى الله تعالى:

من خلال استقراء الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة تحصل على قائمة طويلة بما يحببك إلى الله تعالى، قال تعالى: [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ] (البقرة: 222) وقال تعالى: [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ] (الصف:4).

ومن الأحاديث الشريفة(2) عن النبي (صلی الله علیه و آله): (ثلاثة يحبها الله سبحانه: القيام بحقه، والتواضع لخلقه والإحسان لعباده) وعنه (صلی الله علیه و آله): (ثلاثة يحبها الله: قلة الكلام، وقلة المنام، وقلة الطعام، ثلاثة يبغضها ا لله: كثرة الكلام، وكثرة المنام، وكثرة الطعام) وعنه (صلی الله علیه و آله) قال: (يقول الله تعالى: إنّ أحبَّ العباد إلي المتحابون بحلالي المتعلقة قلوبهم بالمساجد المستغفرون بالأسحار، أولئك إذا أردت بأهل الأرض عقوبة ذكرتهم فصرفت العقوبة عنهم).

وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): (أحب العباد إلى الله عز وجل رجل صدوق في

ص: 186


1- مجموعة ورام: 1/ 223.
2- هذه الأحاديث نقلت من بحار الأنوار ومجموعة ورام.

حديثه محافظ على صلواته وما افترض الله عليه مع أدائه للأمانة) وعنه (صلی الله علیه و آله): (أحب المؤمنين إلى الله من نصب نفسه في طاعة الله ونصح لأمة نبيه وتفكّر في عيوبه وأبصر وعقل وعمل) وعن الإمام الباقر (علیه السلام): (ما عبد الله بشيء أحب إلى الله عز وجل من إدخال السرور على المؤمن) وعن الإمام الصادق (علیه السلام): (ألا وإن أحب المؤمنين إلى الله من أعان المؤمن الفقير من الفقر في دنياه ومعاشه ومن أعان ونفع ودفع المكروه عن المؤمنين)، وعن الإمام الباقر (علیه السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (ما بني بناء في الإسلام أحب إلى الله عز وجل من التزويج)(1).أيها الأحبة:

إن الله تبارك وتعالى يحبُّكم لأنه خالقكم وصانعكم وأبدع في صنعكم وجعلكم في أحسن تقويم وكرّمكم وفضلكم على كثير ممن خلق وسخّر لكم ما في الأرض جميعاً ويباهي بكم ويتحدى بكم من اتخذوهم أرباباً من دونه وأنداداً له [هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ] (لقمان:11) يروى أن أبا تمام الشاعر المشهور يقول إن كل بيت من شعري عندي كابني، أقول: هذا وهو بيت من الشعر مهما كان بديعاً، فما هو محل هذا الكائن العجيب عند خالقه ومبدعه.

أتحسب أنّك جرمٌ صغيروفيك انطوى العالم الأكبر

فأحبوا الله تبارك وتعالى وحببوه إلى عباده وأحبوا عباد الله ومخلوقاته، واجعلوا دليلكم في من تحبون ومن تبغضون حب الله لهم وبغضه إياهم، في

ص: 187


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، باب استحبابه، ح4.

الكافي عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (مِن أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله وتعطي في الله وتمنع في الله)(1) وفي المحاسن عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع له فهو ممن كمل إيمانه).

ص: 188


1- الحديث والذي يليه في بحار الأنوار: 69/ 238-239.

خطاب المرحلة 234 :مما يقوّي عزيمة الفتيان والشباب في مواجهة المغريات

خطاب المرحلة 234 :مما يقوّي عزيمة الفتيان والشباب في مواجهة المغريات(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

مما يقوّي عزيمتكم على طاعة الله تعالى و مواجهات المغريات الكثيرة التي تتعرضون لها في هذا العمر المرهف بالإحساسات والذي يموج بالأماني والأحلام:

1- أن تستحضروا صور الفتيان والشباب الرساليين الذين امتلأت قلوبهم بحب الله تعالى فتنازلوا عن كل ملذاتهم الدنيوية لعلمهم بأنها فانية ليفوزوا باللذة الدائمة كالمسلمين الأوائل الذين واجهوا عتو قريش وطغيانها وإغراءاتها والتحقوا برسول الله (صلی الله علیه و آله) وتعرضوا معه لألوان العذاب والأذى ومنهم علي بن أبي طالب (علیهما السلام) (10 سنوات) وصحابة آخرون في عمر (16 سنة) ومنهم الفتى المدلل المترف مصعب بن عمير الذي عاش في وسط أسرة ثرية لكنه تنازل عن كل ذلك وتحمّل الجوع والفقر مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) وصاحبه حتى استشهد في معركة أحد ورقّ له رسول الله (صلی الله علیه و آله) أو تستحضر صور فتيان الحسين (علیه السلام) كعلي الأكبر والقاسم وعبد الله ابني الحسن السبط والفضل بن العباس بن أمير المؤمنين وأبناء مسلم بن عقيل بين الحادية عشرة والتاسعة عشرة

ص: 189


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد كبير قارب المائتين من طلبة المدارس الإعدادية في الناصرية الذين وفدوا لزيارته وتهنئته بالعيد يوم السبت 10 ذ.ح 1430.

من العمر وكان أحدهم يبرز وحده لمقاتلة سبعين ألفاً غير مكترث بجمعهم حتى أن القاسم يقف ليصلح شسع نعله غير آبه بأمة الضلال التي احتشدت لتقطيع أوصاله، أو ذلك الفتى من الأصحاب الذي دفعته أمه ليستأذن من الإمام الحسين (علیه السلام) ويذهب للقتال فلم يأذن له وقال (علیه السلام) إن هذا الفتى قد قتل أبوه الآن في المعركة ولا أريد أن افجع أمه بهما فرجع إلى أمه التي ظنت أن الإمام الحسين (علیه السلام) استصغره حيث كان سيفه يخط في الأرض لصغر جسمه فقصرّت حمائل سيفه وإعادته إلى الإمام (علیه السلام) قائلاً إن أمي هي أمرتني بالقتال فأذن له الإمام (علیه السلام) فاستشهد.فحينما يشعر الشاب والفتى انه بطاعة الله تبارك وتعالى يكون جزءاً من هذا المعسكر الشريف الناصع فلا شك انه سترتفع همته للحاق بهم خصوصاً وانه لم يكلف بما كُلف به أولئك من التضحية بالنفس وخوض المواجهة الرهيبة.

2- أن تتذكر أن اللذة التي تحصل لكم بتجنبكم لبعض اللذات التي تقترن بالمعاصي هي أكبر وأحلى فإن لذة المعصية زائلة وتبقى تبعتها وتكون مشوبة بالكدر وخوف الفضيحة وغيرها من الآثار السيئة. بل هي في الحقيقة لا لذة فيها ولكن الشيطان والنفس الأمارة بالسوء تزيّن المعصية، أما إذا انتصر الشاب على نفسه فسيجد في قلبه حلاوة ولذّة سامية كما ورد في الحديث (النظرة سهمٌ مسموم من سهام إبليس فمن تركها أبدله الله تعالى نوراً وإيماناً يجد حلاوته في قلبه).

3- ما قلناه في بعض أحاديثنا السابقة وهو الالتفات إلى عظمة مقامكم وسمو منزلتكم بحيث ورد في الحديث (إن الله تعالى يباهي الملائكة بالشاب

ص: 190

المؤمن الذي نشأ في طاعة الله تبارك وتعالى) فهل يليق بمن يباهي به ربه ملائكته أن يجده ربه على معصية؟ أو أن يهبط إلى مستوى الأشرار والسيئين.4- التزود المستمر من الألطاف الإلهية والدفعات الإيمانية التي تشملكم حينما تتعرضون لها بزيارة مراقد المعصومين (علیهم السلام) والحضور في المساجد والاستماع إلى مجالس الوعظ والإرشاد والتوجيه والمشاركة في الشعائر الدينية وأمثالها، ولا شك أنكم الآن بقضائكم يومين في رحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) والإمام الحسين (علیه السلام) في يومين شريفين هما عرفة ويوم العيد قد حصلتم على زاد روحي يمدكم بالطاقة والحصانة فهنيئاً لكم، وتزودوا من هذه الألطاف التي يفيضها الله تبارك وتعالى عليكم.

ص: 191

خطاب المرحلة 235 :تزوّدوا بالموعظة والوعي

خطاب المرحلة 235 :تزوّدوا بالموعظة والوعي(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

نحن في نهاية عام هجري هو 1430 ونتطلّع مع هلال محرم الحرام إلى عام جديد هو 1431 بناء على ما هو الجاري بين الناس، وإلا فإن في بعض الأدعية ما يشير إلى أن بداية العام تكون في أول رمضان، وقيل أن العام الهجري يبدأ من الأول من ربيع الأول باعتبار أن هجرة النبي (صلی الله علیه و آله) كانت في ذلك التاريخ.

وعلى أي حال فإن نهاية العام تمثل محطة للمراجعة وتقييم الأعمال والاتعاظ بما مرّ خلال العام وتصحيح الأخطاء والاستزادة من الأعمال الصالحة، وهو أقل ما يمكن من المحاسبة المأمور بها شرعاً، ومن غفل عنها كثرت سيئاته وتراكم الرين على قلبه حتى يسوّد والعياذ بالله فلا تنفع الموعظة عندئذٍ، كما ترون كيف أن كثيراً من المتدينين بحسب الظاهر لما تصدّوا للحكم وأقبلت عليهم الدنيا واستطيبوا طعمها انهمكوا في اتباع الهوى ولم تنفع فيهم الموعظة حتى انتشر الفساد والظلم وحانات الخمور والملاهي بشكل لم يسبق له نظير حتى في العصور السابقة.

ص: 192


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد كبير من طلبة كلية الطب/ جامعة البصرة وجامعة الصدر الدينية في كربلاء المقدسة يوم الخميس 29 ذي الحجة 1430 المصادف 17/ 12/ 2009.

فاجعلوا زادكم الموعظة واحيوا بها قلوبكم ولا تغفلوا عن ذكر الله تبارك وتعالى. واعقدوا العزم على أن تكون الصفحات البيضاء التي تنشر لكم مع بداية السنة الجديدة مليئة بالأعمال الصالحة وكل ما يقربكم إلى الله تعالى. والجأوا إلى الله تبارك وتعالى بطلب الصفح والمغفرة عما مضى فانه غفور رحيم ويغفر الذنوب جميعاً لمن عزم بصدق على التوبة.ومع بداية العام الجديد اعتاد الناس على إقامة الأفراح وتبادل التهاني، خصوصاً في بداية العام الميلادي حيث يعمّ الفسق والفجور ولا أدري بماذا يفرحون، وهل جزاء فضل الله تعالى عليهم بإبقائهم أحياء أصحاء معافين أن يعصوه بهذا الفظائع؟

إن من يحقّ له الفرح هو من بلغ الهدف وحقق النتائج المرجوّة كالطالب الذي نجح في الامتحان ويتفوّق فانه يفرح أما أن يفرح الفاشل فهذا ضرب من الجنون، فهؤلاء الفرحون بالعام الجديد هل نجحوا في امتحانهم في هذه الدنيا؟ وهل حققوا الأهداف التي خلقوا من أجلها؟ الجواب: لا طبعاً فبماذا يفرحون؟.

أما شيعة أهل البيت (علیهم السلام) فإنهم يفتتحون العام الجديد بذكرى استشهاد أبي عبد الله (علیه السلام) فيحيون شعائرها ويستلهمون الدروس من تلك الثورة المباركة.

وكيفية التعاطي مع قضية أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) تختلف أشكالها بحسب الأشخاص فقد يُقبل من العامة ما لا يقبل من النخب المثقفة الواعية، وعلى الإنسان أن لا ينساق وراء بعض السلوكيات الاجتماعية مهما كانت صالحة في نفسها ويغفل عن دوره المطلوب منه، ونحن في عالم مليء

ص: 193

بالتحديات المتنوعة فلا يعذر أحد عندما يترك موقعه من العمل اللائق به ويذهب ليؤدي دور غيره فتحصل ثغرة في كيان الإسلام والمسلمين وإضرار بالمصالح العامة وأقرب مثال اذكره لذلك هو هل يجوز لرجل الأمن المكلف بحماية الزوار من هجمات الإرهابيين المتوحشين أن يذهب للمشاركة في توزيع الطعام أو اللطم على الصدور ويترك ظهور المؤمنين معرضة لرصاص الغدر؟ فانتم من الطلائع الواعية للمجتمع ولا بد أن تكون نصرتكم لأبي عبد الله الحسين (علیه السلام) بالشكل الذي يناسبكم والذي يُعرف من خلال القراءة الواعية لتلك الثورة المباركة، مثلاً مواجهة الشبهات التي يلقيها أعداء أهل البيت (علیهم السلام) والفتن التي تعصف بالمجتمع، فلا يزال يوجد من يتهم الشيعة بتحريف القرآن ويظهر على شاشات الفضائيات وهو يعلم أنه مفتر آثم فهاهي إذاعات القرآن الكريم والفضائيات في البلاد الشيعية هل تتلو غير هذا القرآن الموجود في أيدي جميع المسلمين والمطبوع في القاهرة ودمشق والرياض، ويحجّ مئات الآلاف من الشيعة إلى الديار المقدسة فهل وجدوا عندهم غير هذا القرآن؟ وها هي كتب الشيعة وأحاديثهم التي تستدل بآيات القرآن فهل وجدوا فيها حرفاً زائداً؟

وعلى صعيد آخر ترون كيف أن أدعياء المهدوية والمولوية والسفارة والسلوكية لا يقطع منهم رأس حتى يبرز آخر مستغلين الجهلة والقلقين والمندفعين والمتعصبين وأمثالهم.

وترون الدول المستكبرة كيف تخلق الأزمات لشعوب العالم لابتزازها

ص: 194

وإخضاعها فمن أنفلونزا الطيور إلى أنفلونزا الخنازير إلى أنفلونزا الماعز الذي أعلنوا عنه قبل أيام بعد أن كسبوا المليارات من إشاعة الرعب والقلق من سابقه.وخلاصة ما تقدم أن تتسلحوا لصلاح دنياكم والفلاح في أخراكم بالموعظة والوعي، وتوجد مصادر كثيرة لتحصيلهما كالكتب والمحاضرات والمجالس الحسينية فاستفيدوا منها.

ص: 195

خطاب المرحلة 236 :قضية الحسين (عليه السلام) عنوان حياتنا

خطاب المرحلة 236 :قضية الحسين (عليه السلام) عنوان حياتنا(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أصحاب الحسين الذين بذلوا مهجهم دون الحسين (علیه السلام) رزقنا الله وإياكم شفاعتهم وصحبتهم يوم الورود.

شاء الله تبارك وتعالى أن يفتتح سنتنا الهجرية بأيام عاشوراء التضحية والفداء والإصلاح، وكأنها تعني فيما تعني جعل قضية الحسين (علیه السلام) عنواناً لقضايانا، والعنوان كما تعلمون يختزن كل تفاصيل ومضامين المعنون، كما أن عنوان الكتاب يتكون من كلمتين أو ثلاث لكنه يعطي فكرة عن الكتاب كله وكأن الله تعالى أراد منّا أن نجعل من قضية الحسين (علیه السلام) مضمون حياتنا الذي يجب أن نسير عليه، ولا عجب في ذلك فقضية الحسين (علیه السلام) هي قضية التوحيد الكبرى والإسلام المحمدي الأصيل والمبادئ الإنسانية النبيلة التي يتفق جميع الناس عليها.

وهكذا فإن قضية الحسين (علیه السلام) تصلح لأن تغطي كل حياتنا بتفاصيلها وتنوّعها، وقضية الحسين (علیه السلام) لا تقتصر على يوم عاشوراء وإن كان هو اليوم

ص: 196


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع وفود من طلبة الكلية التقنية والمعهد التقني في النجف الأشرف وأهالي حي الزهراء في بغداد يوم السبت 2 محرم 1431 المصادف 19/ 12/ 2009.

الذي خطف التاريخ ويستحق ذلك، إلا أن يوم عاشوراء يوم من أيام الحسين (علیه السلام) التي امتدت سبعاً وخمسين عاماً وموقف من حياته المباركة التي هي كلها مواقف.فقد تنوّعت أدواره المباركة في حياة الأمة جميعاً والشواهد كثيرة لسنا بصدد ذكرها فمن العلم والتدريس في مسجد جده (صلی الله علیه و آله) والإفتاء إلى تجسيد الأخلاق الإلهية في حياته العملية إلى مساعدة المحتاجين ورعاية أيتام وأرامل الشهداء في معارك أبيه أمير المؤمنين (علیه السلام) خصوصاً في صفين إلى ممارسة وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتصحيحه للكثير من السلوكيات الاجتماعية المنحرفة إلى مواجهة الفتن والمشاكل التي تعصف بالأمة، إلى حماية الحق وأهله إلى إعلان كلمة الحق في وجه السلطات الحاكمة وعلى رأسها معاوية، ورسالته (ع) إليه بعد قتل الأجّلاء مثل حجر بن عدي الكندي ورشيد الهجري وعمرو بن الحمق الخزاعي.

وهكذا فإن حياة الحسين (علیه السلام) سفر خالد ومتنوع تنهل منه الأجيال إلى قيام يوم الساعة، ولنقف عند ظاهرة واحدة في حياته المباركة وهي - بالمصطلح المتداول- وعي الظروف التي يعيشها وتشخيص القرار الصائب المناسب لها الذي يجب أن يتخذه، وعندئذ تستطيع الإجابة عن سؤال مثار وهو إنه لماذا خرج الحسين (علیه السلام) على يزيد بن معاوية ولم يخرج على أبيه معاوية الذي ارتكب الموبقات في الإسلام وسفك الدماء المحرمة وقاتل الإمام الحق أمير المؤمنين(ع) وقتل سبط رسول الله (صلی الله علیه و آله) الحسن المجتبى (ع) ولاحق شيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) تحت كل حجر ومدر فهدّم دورهم وقطع

ص: 197

أرزاقهم وقتل رجالهم؟وهكذا كان الإمام السجاد (علیه السلام) بعد أبيه لما دخل الكوفة مع عقائل بيت النبوّة وخطبوا بأهل الكوفة ندم هؤلاء وارتفعت أصواتهم بالعويل والبكاء وقالوا للإمام (علیه السلام): مرنا بأمرك قال (علیه السلام): هيهات أتريدون أن تأتوني كما أتيتم أبي من قبل، ولو استفاد المتصدون اليوم لأمور الأمة صغيرها وكبيرها سواء على الصعيد الديني أو السياسي أو الاجتماعي أو غيرها من سفر الحسين (علیه السلام) الواسع ووعوا الظروف المحيطة والتحديات المعقدة التي تواجه الأمة لاتصّفوا بالحكمة ولجنبوا الأمة كثيراً مما حلّ بها.

لقد كان السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) واعياً لمتطلبات مرحلة ما بعد السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) فتصرف بحكمة وأسَّس لانطلاقة جديدة للحركة الإسلامية المباركة فقام –وهو فرد- بأمر الله تعالى وقدّم ما عجز عنه مجموع الآخرين فبارك الله تعالى في عمله لإخلاصه وتفانيه.

وبعد استشهاد السيد الصدر الثاني (قدس سره) اجتمع الأخوة الذين كانوا يعملون معه (قدس سره) وطلبوا منّي إمامة الجمعة في الكوفة وتصعيد الموقف رغم المنع الذي بلّغه لنا في مجلس العزاء كبار مسؤولي النظام الذين أوفدهم صدام المقبور لحضور مجلس العزاء، فاستحضرت موقف الإمام السجاد (علیه السلام) المتقدم وقلت لهم: ليس من الحكمة المضي بنفس الأسلوب وأزلام صدام متربصون بمن يخلف السيد الشهيد الصدر (قدس سره)، تصوّروا لو أن الإمام السجاد استجاب للاندفاعة العاطفية التي سادت أهل الكوفة النادمين ونقترض انه سيطر على الكوفة، هل سيكون عمر هذه الحركة أكثر من أيام ويحصل له كما

ص: 198

حصل لمسلم بن عقيل (رضوان الله تعالى عليه) بينما استطاع بتسديد الله تعالى ولطفه اللبث في الأمة (34) سنة بعد أبيه وتجاوز بهم تلك الأزمات الماحقة وسحب البساط من تحت الطغاة.وقد قدّر الله تبارك وتعالى أن لا تخلو الأرض من حجة حتى في أشدّ النكبات وأقساها، خصوصاً في هذا البلد الكريم الذي قدّر الله تعالى له أن يحتضن عاصمة الإمام (علیه السلام) ويكون منطلق حركته لتأسيس دول الحق والعدل العالمية، وعليكم أن تبحثوا بوعي وبصيرة عن قيادتكم الحكيمة بعيداً عن الأهواء والتفرق والتشويش والإعلام المضلل ولا تذهبوا شرقا وغرباَ. والله الهادي.

ص: 199

خطاب المرحلة 237 :من تاريخ الحركة الإسلامية والسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) 1985م – 1990

خطاب المرحلة 237 :من تاريخ الحركة الإسلامية والسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) 1985م – 1990(1)

س1: متى كان لقاؤكم المباشر لأول مرة مع السيد الشهيد الصدر (قدس سره) وكيف؟

ج: بسم الله الرحمن الرحيم: كان ذلك في سنة 1987 حيث بدأ السيد الشهيد الصدر بالخروج عن عزلته الاجتماعية وأخذ يحضر بعض المناسبات الدينية كالمجالس الحسينية التي تقام في بعض البيوتات وكنت أراه لكنني لم أتحدث معه حتى استأذنته في بعض رسائلي إليه، فأجاب بالإيجاب ولكنه طلب مني صورة شخصية ليتعرّف علي إذا سلمتُ عليه لأنه كان يتوقع كل شيء فيحتمل أن رسائله وقعت بيد جلاوزة النظام وأن أحدهم تقمص شخصيّتي وجاء للإيقاع به، وقد أرسلت صورة حديثة إليه ومع ذلك طلب مني أن أعرّف نفسي حين ألقاه، وقد أرسل (قدس سره) صورته إليّ على العرف الجاري بين المتحابين في تهادي الصور التذكارية.

وبعد ذلك كنت ألتقيه في تلك المجالس وأخصّه بالسلام والحديث

ص: 200


1- حوارية أجريت مع سماحة الشيخ اليعقوبي يوم 4/محرم/1431 الموافق 21/ 12/ 2009 لتغطية أحداث هذه الفترة وتتميم كتاب (الشهيد الصدر الثاني كما أعرفه) لسماحة الشيخ اليعقوبي.

المقتضب دون غيره من العلماء الذين يجتمعون في مكان مخصص لجلوسهم رغم إن لي علاقات خاصة مع عددٍ منهم ومثل هذا التصرف غير مألوف لكنني لم أكن استطع تمالك نفسي دون أن أسلّم عليه.ثم بدأت بزيارته (قدس سره) في داره واللقاء به، كما بدأ بإقامة مجالس العزاء في ذكرى وفاة المعصومين (علیهم السلام) وكان بيته في الحنانة يزدحم بالحضور وأغلبهم من المصلين في جامعة النجف الدينية حيث كان والده (قدس سره) يقيم صلاة الجماعة فيها وتزوّج اثنان من أولاد عميدها السيد محمد الكلانتر (قدس سره) من بنتي السيد الشهيد الصدر (قدس سره).

وكنت أرافقه في بعض المناسبات وندعوه في بعض مناسباتنا الاجتماعية كعقد قران بعض الأقرباء كما زارني في داري وفي محل الكسب الذي اتخذته لاحقاً، وصحبناه مرة أنا وأخي المرحوم الشيخ علي بسيارته إلى كربلاء المقدسة لزيارة الإمام الحسين (علیه السلام) في ليلة الجمعة، وكان يذهب –كما قال في إحدى رسائله- في السنة مرة أو مرتين وكنت أستشيره حتى في أموري الشخصية والاجتماعية كقضية تزويجي وأن تكون علوية، فأيد مطلبي هذا وقال: الأفضل أن تكون علوية من جهة الأبوين وهو ما قسمه الله تبارك وتعالى، وأبدى لي استعداده في دعمي - على حسب تعبيره- عند الخطبة من أي أسرة أرغب فيها.

س2: هل يعني هذا أن السيد الشهيد الصدر (قدس سره) هو الذي عقد قرانكم؟

ج: لم يتيسر لي ذلك، والأصح إنني لم اطلب منه (قدس سره) ذلك، لأن عقد

ص: 201

قراني كان في بغداد ولم أشأ مزاحمته (قدس سره) وكنت أتوقع أن السفر إلى بغداد محرج له، وكانت لنا علاقة وطيدة بعدد من العلماء، وقد أجرى العقد المرحوم آية الله السيد محيي الدين الغريفي (قدس سره).س3: ما الذي حدث عام 1987 وصار السيد الشهيد (قدس سره) يأخذ حريته في الحركة والمشاركة في المناسبات الدينية و الاجتماعية ولو بشكل محدود بعد أن كان منعزلاً تماماً بحيث قال في احد لقاءاته المسجلة أبان مرجعيته، انه لا يسلم على أحد ولا يسلّم عليه أحد في تلك المرحلة.

ج: التغيرات الاجتماعية لا تحصل دفعه وإنما بالتدرج، لذا لا يمكن تحديد تاريخ معين للتغير في الظروف المحيطة بنا يومئذ والتي أوحت إلى السيد (قدس سره) بإمكان أخذ حريته النسبية، والعام المذكور كان تاريخاً للحديث عن لقائنا المباشر.

وهذه التغيرات تحتاج إلى عناية خاصة من الباحثين و المفكرين لدراستها وتحليلها ومعرفة عوامل حصولها لأنها فترة مهمة من تاريخ الحركة الإسلامية خاصة والعراق المعاصر عامة وقد أسست لانطلاقة جديدة لها بعد أن خمدت مطلع الثمانينات وأضرمت بانطلاقتها هذه انتفاضة عام 1991 وكسرت شوكة نظام صدام حتى إسقاطه عام 2003 وأعطاها السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) زخماً كبيراً عندما تصدى للمرجعية بعد الانتفاضة حتى توّجها باستشهاده عام 1999.

ولا زالت هذه الفترة مجهولة بل يتعمد الكتّاب تجاهلها لأن أكثرهم كان

ص: 202

خارج العراق في حينها ويدّعي زعامة المعارضة العراقية، فإبراز تاريخ الحركة الإسلامية داخل العراق في تلك الفترة يفضحهم ويظهر زيف معارضتهم المزعومة. على أي حال استطيع القول أن المعارك الكبيرة التي شهدتها الحرب بين نظام صدام وإيران خلال سنوات 1982-1985 كبدّت العراقيين خسائر جسيمة بالأرواح وعمّت المصائب أغلب البيوت تقريباً وقد وقعت الخسائر في الشيعة الذين جعلهم صدام المقبور وقوداً للحرب، لذا كان رد الفعل الطبيعي هو التوجه إلى الله تعالى والتوسّل بأهل البيت (علیهم السلام) وقصد مراقدهم المقدسة وإحياء الشعائر الدينية ولأكثر من سبب(1) فإن تحولاً نوعياً بدرجة ما قد حصل في كيفية تعاطي النظام مع نمو الظاهرة الدينية (وأسميها بهذا الإسم تمييزاً عن الحركة الإسلامية التي تعني بروز النخبة وقصدها للعمل الذي يكون نخبوياً عادة أما الظاهرة الدينية فهي حالة شعبية عامة).وأقصد بالتحول النوعي غضّ النظر عن جملة من الممارسات التي كان يعتبرها جريمة يعاقب عليها القانون كالتدين خصوصاً عند الشباب وارتياد المساجد وحضور صلوات الجماعة والشعائر الدينية وزيارة العتبات المقدسة ووجود الكتاب الديني التقليدي ونحوها التي كانت توجد مادة في قانون

ص: 203


1- منها شعور النظام بعدم وجود تهديد جدي في الداخل بعد القضاء على رموز المعارضة، أما المعارضة في الخارج فقد كان يسخر منها ومن عملياتها التي لا تملك أي قيمة في تهديده ولا تعدو إثبات الوجود ولضمان استمرار الدعم من الدول المساندة لتلك المعارضة، كما أن الحرب مع إيران لم تعد تهدد وجود نظامه وشعر بتوازن القوى بعد استخدامه للأسلحة الكيمياوية في عمليات هور الحويزة في شباط 1984 وغيرها من الأسباب

العقوبات تقضي بالسجن سبع سنوات على هذه الأمور بتهمة الطائفية.فصرنا بعد عام 1985 نشهد المجالس الحسينية الضخمة في المساجد والبيوت مما لم يكن مألوفاً من قبل وكان للسادة آل بحر العلوم (الذين قضى كثيرٌ منهم في السجن بعد الانتفاضة الشعبانية) دور بارز في إحياء تلك المجالس على طيلة شهري محرم وصفر وفي وفيات المعصومين (سلام الله عليهم) وأخصّ بالذكر الأعلام الأجلاء السيد علاء الدين والسيد عز الدين والسيد جعفر والسيد حسن الذين اعتقلهم النظام في الانتفاضة مع أولادهم وإخوانهم ومضوا شهداء على طريق ذات الشوكة.

ولشعور النظام بالثقة بنفسه فقد اصدر في مايس/1986 عفواً عاماً عن السجناء وأكثرهم من الشباب المتدينين، ونقل أخي المرحوم الشيخ علي الذي كان أحدهم أن عدد المفرج عنهم بلغ ثلاثين ألفاً، وكان على هؤلاء الالتحاق بالجيش الصدامي الذي دُعي للخدمة فيه كل من تقع أعمارهم بين 18-40 سنة، أما غيرهم فيجنّدون في ما يسمى بالجيش الشعبي.

وكنت التقي بمجاميع من هؤلاء الشباب المتدينين في كربلاء عند زيارة الإمام الحسين (علیه السلام) ليلة الجمعة ولما لم يستطع بعضهم التعايش مع النظام فقد غادر قسم منهم العراق بشكل أو بآخر وشكل عدد آخر مجاميع مسلحة لمواجهة النظام، وكانت المجموعة (1) التي ترأسها المرحوم الشهيد حسين

ص: 204


1- كانت للمجموعة عدة نشاطات غير العمل المسلح كمساعدة المحتاجين خصوصاً عوائل الشهداء والسجناء وتزويج الشباب المؤمنين ومساعدة المتخلفين عن الخدمة العسكرية

علوان اليعقوبي في النجف الأشرف من أشدها تهديداً للنظام وقامت بتصفية عدد من رموزه وازداد قلقه من عدم العثور على خيط يوصلهم إلى رجالها، حتى تمكنوا من ذلك واعتقلوا الشهيد المذكور وعذّبوه بأقسى وأشرس ألوان التعذيب الوحشي وحبسوا عائلته في البيت(1) واتخذوه مقراً لجلاوزة الأمن الصدامي للقبض على كل من يطرق الباب ومكثوا فيه أسابيع اعتقل فيها عدد من الأصدقاء والأقرباء بينهم عدد من النساء.وإنصافا نذكر هنا أن المرحوم آية الله السيد حسين بحر العلوم (قدس سره) كان يدعم هذا العمل مادياً ومعنوياً، كما كان للمرحوم الشهيد الخطيب الشيخ عبد الأمير أبو الطابوق الدور البارز في رفع مستوى الوعي والهمة والحماس في نفوس المؤمنين بما يلقيه من محاضرات رسالية تعبوية لم تكن معتادة خصوصاً في مثل تلك المجالس العلنية العامة كالمجلس الذي كان يقام في جامع الطوسي في العشرة الأولى من محرم الحرام ويمتلئ الحرم والساحة ويُفرش الشارع الخارجي (شارع الطوسي) ويتقطع مرور السيارات لامتلاء المكان بالناس، وقد دسّ إليه جلاوزة الأمن سماً قاتلاً آنذاك لكنه لم يمت ببركة دعاء المؤمنين وإنما شُلّت أعضاؤه وسقط شعر رأسه ثم قبض عليه في الانتفاضة ومضى شهيداً.

ص: 205


1- وهو دار أسرة آل اليعقوبي التاريخي في مدخل المدينة القديمة وتتوارثه الأسرة منذ أكثر من (160)عاماً.

على أي حال لقد استطردت إلى ذكر هذه الأجواء للأمانة التاريخية ولحثّ الكتّاب والمفكرين على تغطية هذه الفترة المهمة، ومحل الشاهد منها إن السيد الشهيد الصدر (قدس سره) أدرك أن جملة من النشاطات يمكن أن يقوم بها ولم تعُد محظورة من قبل النظام فبدأ بالظهور الاجتماعي، ثم عاود التدريس في جامعة النجف الدينية وكان يرغب بتدريس البحث الخارج إلا أن خلو الجامعة –بحسب نظامها الداخلي- من هذا المستوى من البحث دفع السيد الشهيد (قدس سره) إلى القبول بتدريس عدد من الطلبة –كان عددهم ثلاثة- كتاب الكفاية في الأصول على أمل أن يبدأ معهم بحث الخارج عند إكماله. لكن الفرصة سنحت له لافتتاح البحث في أروقة الحوزة إلى جوار أمير المؤمنين (علیه السلام).س4: تتمة للاستطراد السابق هل أثّر هذا النمو للظاهرة الدينية على وضع الحوزة العلمية في النجف الأشرف؟

ج: نعم أثر إيجاباً فقد بدأ عدد من العراقيين بالالتحاق بالحوزة العلمية بعد أن انتهى وجودهم تقريباً وتفرّقوا بين إعدام واعتقال وتهجير ومن بقي سيق إلى الخدمة العسكرية أو توارى عن الناس، كما أن توقف الحرب مع إيران عام 1988 فتح الباب لمجيء طلبة العلم من الخليج وغيرها، وعاد إلى التدريس من كان منكفئاً عنه كالسيد الشهيد الصدر (قدس سره)، فكان نمو الحراك العلمي في الحوزة واضحاً، كما تحسّن الوضع المالي بتوافد الزوار من دول العالم وكنت أتردد على مقر إقامة السيد الخوئي (قدس سره) في الكوفة وأرى هذه الوفود، وكذا في بيوت كبار العلماء كالسادة آل بحر العلوم والسيد محيي الدين الغريفي وغيرهم، لكن غزو صدام للكويت قضى على كل هذا التحسن وأعاد عقارب

ص: 206

الزمن إلى الوراء.س5: ورد في بعض رسائله (قدس سره) معكم المنشورة انه طلب مساعدتكم في تأليف كتابه القيم (ما وراء الفقه) فما وجه هذه المساعدة وما حدودها؟.

ج: ذكر (قدس سره) في بعض رسائله بتواضعه المعروف انه يستفيد من رسائلي وذكر عدة فوائد، منها: أنها تفتح ذهنه على أفكار جديدة، وعنوان كتابه (ما وراء الفقه) جاء بعد ما بعثت له بمشروع للكتابة في (ما وراء النص) أي النص الفقهي، وأصل البحث وتعليقاته (قدس سره) منشورة في كتابي (الشهيد الصدر (قدس سره) كما أعرفه).

ولما كان الكتاب يتناول المسائل الفقهية من جهة ارتباطها بالعلوم الأخرى ومنها العلوم العصرية، ويعرف السيد الشهيد (قدس سره) أنّ لي حصيلة مفيدة في هذا المجال فطلب مني مساعدته في توفير مثل هذه المعلومات وتدقيق ما يأخذه من المصادر، ومراجعة ما يكتب، ويوجد طلبه في تلك الرسائل.

فكان (قدس سره) يبعث بدفاتر المسودات التي وصلت إلى حوالي (28) كل منها فئة (200) ورقة حيث كان يكتب بصفحة واحدة هي اليسرى ويترك اليمنى المقابلة للإضافات والهوامش والتعليقات وقد اتبعته في ذلك في كتاباتي اللاحقة.

وكنت أؤشر بتعليقاتي على تلك المسودات وكانت التعليقات على كتاب الميراث غزيرة تعجب (قدس سره) من كثرتها وقد بقي بعضٌ منها ذكرته في كتاب (الرياضيات للفقيه).

ص: 207

وقد استفدت من مراجعة مسودات الكتاب كثيراً لأنها كانت أول قراءة منظمة لكتاب فقهي من أول الفقه إلى آخره حيث كنت لا أزال اعتمد على مطالعاتي الشخصية ولم انضمّ إلى كيان الحوزة العلمية. كما تولّد لي خلال المراجعة شعور بحاجة الحوزة العلمية إلى كتاب يقدّم لهم ما يحتاجون من علم الرياضيات في المسائل الفقهية ويراعى فيه الوضوح في إيصال المعلومة، فألّفتُ (الرياضيات والفقه) حيث نال رضاه (قدس سره) ورغب بطبعه في الجزء الثامن وإلحاقه بكتاب الميراث وأضفت له فقرة (التباديل والتراكيب) جواباً على طلبه (قدس سره) بأنه هل يمكن وضع قانون أو قاعدة لاستقصاء مسائل الميراث بدل الطريقة المتبعة لدى الفقهاء (قدس الله أرواحهم) بافتراض مسائل لا حدود لها وحلها، وقد كتبت أكثره في أوقات الفراغ في محل الكسب.

وبعد التحاقي بالدراسات الحوزوية عمّقت الكتاب وأضفت له موارد جديدة فكان كتاب (الرياضيات للفقيه) ولله الفضل والحمد أولاً وآخراً.

س6: ما وقع قرار إيقاف الحرب بين العراق وإيران على السيد الشهيد الصدر (قدس سره) وعليكم؟

ج: كان السيد الشهيد (قدس سره) من المعارضين لاستمرار الحرب وكان يتمنى على القادة الإيرانيين لو قبلوا بقرار مجلس الأمن لإيقافها منذ عام 1982 بعد أن حرّروا جميع أراضيهم في أواخر مايس من تلك السنة وقد أشرتُ إلى هذا في كتاب (السيد الشهيد الصدر (قدس سره) كما أعرفه) لأنه كان يرى استمرار الحرب استنزافاً لطاقات البلدين المادية والبشرية وكانت الخسائر تقع في الشيعة الذي

ص: 208

كان يرميهم صدام المقبور في الجبهات الأمامية، وكان (قدس سره) يدرك المؤامرة الدولية التي تريد إنهاء الشيعة في البلدين وثرواتهم، وكتب في هذا المجال بحثاً بعنوان (فلسفة الأحداث في العالم المعاصر) وبعثه إليّ للاطلاع والتعليق عليه، وقد ذكرتُ ذلك في الكتاب المذكور وهو مطبوع.وكان الخلاف موجوداً بين القادة الإيرانيين أنفسهم حيث كان يرى البعض عدم وجود مبرر لدخول الأراضي العراقية (الذي بدأ في عمليات شرق البصرة في تموز/1982 الذي صادف شهر رمضان المبارك) فيما كان يرى البعض الآخر ضرورة ملاحقة صدام في عقر داره وإنزال العقوبة به وإزاحته، وقد نجح الفريق الثاني في إقناع السيد الخميني (قدس سره) الذي كان صاحب القرار النهائي واستمرت الحرب حتى قبِل السيد الخميني (قدس سره) بقرار مجلس الأمن (598) ببيانه التاريخي الذي أصدره في 20/ 7/ 1988 الموافق السادس من ذي الحجة بمناسبة الذكرى الأولى لسقوط المئات من الحجاج الإيرانيين شهداء وجرحى أثناء قيامهم لمسيرة البراءة في مكة المكرمة.

أما بالنسبة لي فقد شُغلتُ بنفسي و تخلّيت في حينها عن أغلب اهتماماتي ومنها مجريات الحرب فلم أتابع ما حصل من العمليات عام 1988، ولم اسمع بقرار وقف الحرب إلا من بعض أقربائي الذين قصدوني للتهنئة بانتهائها والسلامة وكنتُ قد انتقلت بسكني إلى النجف الأشرف منذ أوائل عام 1988. وسمعت خطاب السيد الخميني (قدس سره) المتضمن لقبول قرار مجلس الأمن من التلفزيون العراقي.

ص: 209

خطاب المرحلة 238 :في تأبين المرجع الراحل الشيخ المنتظري (قدس سره)

خطاب المرحلة 238 :في تأبين المرجع الراحل الشيخ المنتظري (قدس سره)(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

لم ينحدر الفقيد الراحل الشيخ المنتظري (قدس سره) من أسره علمية فأبوه قروي بسيط لكنه متديّن طيب كان شغوفاً بأن يسلك ولده طريق العلماء فوَّجهه إلى ذلك وبذل ما يمكنه لتحقيق هذه الأمنية، ورافقت تحصيله صعوبات جمّة لا تقتصر على الجوع والفقر والحرمان.وهي على ما يبدو سنة جارية في كيفية صنع العلماء والعظماء، وطلاب الكمال عموماً حتى يتأسى بهم المتأسون ولا يستوحشوا الطريق الوعر وإن قلّ سالكوه.

ورغم ذلك فقد ارتقى الفقيد الراحل في مدارج العلم والعمل حتى فاق اقرأنه وأصبح علماً من أعلام العصر، ولا أستبعد ما سمعته من بعضهم حين نقل عن السيد الخوئي (قدس سره) قوله في الشيخ المنتظري: أنه احذق فقهاء عصره، فالفقيه لا يعرفه إلا فقيه مثله.

لقد نبغ مبكراً وطويت له مسافة تحصيل العلوم فحظي باهتمام أستاذه المرجع الكبير السيد حسين البروجردي (قدس سره) (توفي 1380ه- /1961م) وقد

ص: 210


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي(دام ظله) في تأبين المرجع الشيخ المنتظري الذي وافته المنية يوم 2/ محرم/ 1431 وكانت الحوزة العلمية في تعطيل أيام عاشوراء ولما بدأت الدراسة يوم 17/ محرم افتتح سماحة الشيخ بحثه الشريف بتأبين المرجع الراحل.

قرّر أبحاث أستاذه في الفقه فحرّر كتاب (البدر الزاهر في صلاة المسافر) عام 1368 أي قبل أكثر من ستين عاماً وهو في الثامنة والعشرين من العمر (ولد عام 1340ه-).ولم تقتصر آثاره على الفقه والأصول فقد اعمل فكره الشريف في قضايا عقائدية واجتماعية وسياسية وفكرية.

وصفه احد المجتهدين من تلامذته لي قبل سنتين تقريباً بأنه (حر) وهذا الوصف على اختصاره بكلمة واحدة إلا أنه يختزن الكثير من خصال الخير والملكات الشريفة.

فمن علامات ذلك نبذه منذ صغره لحياة أقرانه وحبس نفسه على حياة طلب العلم وسائر الكمالات وتحمّل الصعوبات، ومن ذلك رفضه الظلم والاستبداد منذ نعومة أظفاره وانخراطه في العمل الإسلامي فلحقه من الأذى ما لحقه فسُجن سنين وعُذّب وحكم عليه بأقسى العقوبات.

وكان من المتحمّسين لوحدة المسلمين والتقريب بين طوائفهم ومتواصلاً مع جهود دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة من خلال سكرتيرها الشيخ محمد تقي القمي الذي اختاره السيد البروجردي (قدس سره) لها.

وكان متفاعلاً مع قضايا الأمة الإسلامية حتى خارج إيران وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

وكان متحمساً أيضاً للإصلاح في الحوزة العلمية والنهوض بواقعها لتكون بمستوى تحمّل المهام الواسعة المطلوبة منها وساعياً لحل المشاكل والاختلاف في وجهات النظر التي تحصل أحياناً كما يروي في مذكراته عن مساعيه لدى

ص: 211

السيد البروجردي (قدس سره) والسيد الطباطبائي صاحب الميزان بسبب ما حصل لبعض الطلبة من تدريس الأخير لكتاب (الأسفار الأربعة).وكان السيد الخميني (قدس سره) يعرف مكانة الشيخ المنتظري (قدس سره) وجهاده فعيّنه خليفة له بعد انتصار الثورة الإسلامية كما تولى مهام ثورية عديدة حتى عزله السيد الخميني قبل عدة أشهر من وفاته عام 1989 إلا أنه وجّه الفضلاء للاستفادة من علمه، وإن عزله كان من أدواره السياسية فقط لمصالح رآها السيد (قدس سره) ولا يؤثر ذلك على منزلة الشيخ العلمية.

إنه ليحزننا أن يرحل عنّا الشيخ المنتظري في مثل الظرف الذي رحل فيه فلم ينل ما يستحقه من التأبين والرثاء والتكريم وعرفان الجميل، وهذا من أخطار السياسة على الدين، فنحن وإن كنّا نؤمن بشمول الدين لكل نواحي الحياة ومنها السياسة والحكم ، إلا أن العلاقة بين العلماء والحكام أو كما يقال بين السياسة والدين لا بد وأن تُحكم بقوانين وضوابط وحدود، ومتى ما تجاوزت السياسة حدودها وأرادت توظيف الدين لمصلحتها أضرّت بالدين وأهله، ولا شيء عندنا يعدل الدين، فكل شيء لا بد أن يوظف لإعلاء كلمة الله تبارك تعالى وهداية الناس وصلاح شؤونهم.

لقد كان الشيخ المنتظري (قدس سره) من حفاّظ الشريعة وأمناء الأمة ومن الرعيل الأول من الفقهاء الذين افنوا أعمارهم في إرساء دعائم مدرسة أهل البيت(سلام الله عليهم) ونقول فيه: كما قال الإمام الصادق (علیه السلام) في بعض أصحابه (لقد أوجع قلبي موت أبان) (لولا زرارة لمات فقه أبي).

كنّا نعرض آراءه الشريفة في بحثنا ونناقشها ونقول عنه(دام ظله الشريف)

ص: 212

واليوم نقول عنه(قدس الله سره الشريف) وفي ذلك عبرة لنا ف- [كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ] كما قال أمير المؤمنين(ع) ليلة وفاته وهو مسجى بين أهله وأصحابه(أنا بالأمس صاحبكم، واليوم عبرة لكم، وغداً مفارقكم) فإِنَّا لِلّهِ وَإِنَّ-ا إِلَيْهِ رَاجِعونَ، ونسأل الله تعالى أن يجمعنا وإياهم في مستقر رحمته تحت ظلّه، يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه.

ص: 213

خطاب المرحلة 239 :الإساءة الأشد جرماً لمقام المرجعية

خطاب المرحلة 239 :الإساءة الأشد جرماً لمقام المرجعية(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

خرجت هنا وهناك مظاهرات تندد بكلمات نابية صدرت من بعض وعّاظ السلاطين في المملكة العربية السعودية تجاه مراجع الدين الشيعة في النجف الأشرف، وهذا الموقف واحد من حقوق المرجعية على أتباعها، ونحن مع تقديرنا للنوايا الحسنة، والعاطفة النبيلة لعامة الناس الذين شاركوا فيها، نلفت النظر إلى أن الكثير من القائمين عليها هم من المتاجرين بالدين الذين يوظفون كل شيء لمصالحهم ويغلّفون تصرّفاتهم بعناوين براقة تخدع الناس وتسوقهم إلى حيث يريد أولئك الذين وصفهم الإمام الحسين (علیه السلام) (الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درَّت معائشهم فإذا مُحصّوا بالبلاء قلَّ الدّيانون).

لقد مارس بعض من ينتحل التشّيع وينسب نفسه إلى مدرسة آهل البيت (علیهم السلام) أقذر الأساليب للإساءة إلى المرجعية التي لا تخدم دنياه بل تنكر عليه أفعاله البعيدة عن تعاليم آهل البيت (علیهم السلام) وتفضح زيف تلبّسه بالدين فلم يتورعوا عن الكذب والتشويه والتسقيط وافتراء التهم وتلفيق الأمور وانطلقوا

ص: 214


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع هيئة الشباب الرسالي في الغزالية بغداد وجمع من الزوار يوم30 محرم 1431 المصادف 16/ 1/ 2010

بجرائمهم هذه إلى شرق الأرض وغربها لا لشيء إلا لكي يبقوا يلعقون مع الكلاب جيفة الدنيا - كما وصفهم أمير المؤمنين (علیه السلام)- فهم لا يطيقون سماع صوت الواعظ الناصح المشفق الذي يذودهم عمّا يهلكهم ويهديهم إلى سواء السبيل.فلننظر أيهم أشد جرماً وأعظم ذنباً بإساءته إلى المرجعية؟ ذاك الناصبي البعيد الذي يثير بعدوانه الهمم للدفاع ويوحّد الصفوف ويحرّك مشاعر النصرة ويصنع من المظلوم رمزاً؟ أم هذا المنافق المرائي الذي يخدّع الناس بتدينه الزائف فيحملهم على التصديق بما يفتري ويكذب؟.

إن الجواب موجود في كتاب الله تعالى حينما أعلن بوضوح [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ] (البقرة:191) [وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ] (البقرة:217) فالقتل المعنوي أعظم جرماً عند الله من القتل المادي، أو قتل الشخصية أشد من قتل الشخص. فما لهم كيف يحكمون؟.

إن الإمام الحسين (علیه السلام) وإن قتلته أسياف جيش عمر بن سعد على صعيد كربلاء، إلا أن الذي قتله قبل ذلك من أصدر الفتاوى في جواز قتله من علماء السوء الذين باعوا آخرتهم لدنيا غيرهم فاعتبروا الإمام الحسين (علیه السلام) خارجاً على إمام زمانه ومفرقاً لجمع المسلمين وحكمه القتل حتى قالوا (لقد قتل الحسين بسيف جده)! ولم ندر كيف أصبح يزيد إمام الزمان وزبانيته هم جمع المسلمين؟ وبأي فتوى أبيح قتل الأطفال حتى الرضيع وسبي عقائل النبوة وغيرها من الفظائع؟.

فالذي نرجوه أن يكون الناس واعين ولا ينخدعوا بالمظاهر البرّاقة ويغفلوا

ص: 215

عن الحقائق والمضامين، فإن الكثير ممن أجّج المسيرات والمظاهرات استنكاراً للرسوم المسيئة إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) هم من أسَّس لهذه الإساءة بإصدار فتاوى القتل والتفجير والتدمير والذبح باسم الإسلام ونبيَّه البريء من هذه الجرائم والموبقات لكنهم حمّلوا النبي (صلی الله علیه و آله) هذه الأوزار بسوء صنيعهم وأعطوا المبرّر لغير المسلمين بأن يسيئوا إلى شخصه المبارك ثم يصيحون بالويل والثبور ويتباكون للرسوم المسيئة إلى النبي (صلی الله علیه و آله).من اجل هذا كان المنافقون المراؤون أشد خطراً على المجتمع الإسلامي من الكفار والمشركين، وتوعّدهم الله تعالى بأنهم في الدرك الأسفل من النار، ولذا كانت معارك أمير المؤمنين (علیه السلام) أشرس وأشد تعقيداً من معارك رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأن قتاله (ع) كان على التأويل الذي تشتبه فيه الأمور وتختلط الأوراق بينما قاتل النبي (صلی الله علیه و آله) على التنزيل الذي أمره واضح.

ص: 216

خطاب المرحلة 240 :إدامة آثار الشعائر الحسينية ضمانة التقدم

خطاب المرحلة 240 :إدامة آثار الشعائر الحسينية ضمانة التقدم(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

كانت الزيارة الأربعينية هذا العام ظاهرة عظيمة لا نظير لها عبر التاريخ، وقد تضمنت صفحات مشرقة من المواقف الإنسانية النبيلة ينبغي تدوينها لتنتهل منها الأمم الأخرى، ولم يكن اعتباطاً أن يحظى هذا الشعب الكريم باحتضان مرقد أبي الأحرار الإمام أبي عبد الله الحسين (علیه السلام). لينطلق بمبادئه إلى العالم كله حينما يأذن الله تعالى بالفرج.

كان الشعب كخلية نحل في حركة دائبة وأدوار متنوعة لا تجد فراغاً في خدمة لم يسدُّه أحد، ولو جنّدت دولة عظيمة كل إمكانياتها المادية والبشرية لعجزت عن إدارة هذه المسيرة بالشكل الذي كانت عليه، وكان محبّو أبي عبد الله (علیه السلام) يتسابقون لتقديم الخدمات ويتفانون في سبيل الآخرين ويتفننّون في نوع الخدمة التي يقدّمونها مما يحتاج إلى كتاب ضخم لتدوين تلك المشاهد، ولم ترهبهم الأعمال الإجرامية التي نفذها أعداء الإنسانية وذهب ضحيتها الكثير من الشهداء والجرحى(2) بل كان يزداد حماسهم واندفاعهم عقب كل تفجير.

ص: 217


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي(دام ظله) مع حشود الزوار الذين وفدوا للسلام على سماحته وهم متوجهون مشياً على الأقدام من مختلف المحافظات لزيارة أبي عبد الله الحسين(عليه السلام) يومي 16،17 صفر 1431.
2- كان الأعنف ما قامت به انتحارية من تفجير نفسها قرب موكب في منطقة بوب الشام لخدمة الزوار القادمين من مناطق شمال شرق بغداد وكانت الحصيلة (46) شهيد وأكثر من (100) جريح وأكثرهم من محافظة ديالى.

إن السعادة التي كان يعيشها المؤمنون في أجواء المناسبة هي أول جزاء يناله المشاركون فيها، بل هي الجنة التي وُعد المؤمنون أن يروها في الدنيا قبل الآخرة، وهل يبحث الإنسان في حياته إلا عن السعادة؟ بينما تجد البعيدين عن الله تعالى وعن ولاية أهل البيت(ع) لا يجدون هذه السعادة مع توفر كل أسباب الرفاه لهم، بحيث تزداد بينهم نسبة القتل والانتحار والجرائم والأمراض النفسية.لقد وعد الله تعالى كل من أدى عملاً صالحاً بالأجر قال تعالى: [إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً]، ولكن مع تفاوت الدرجات يحسب استحقاق العاملين وإتقانهم للعمل [فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا] كالطلبة الذين يدخلون الامتحانات وينجحون، فإنهم وإن اشتركوا في أصل النجاح والصعود إلى المرتبة اللاحقة إلا أنهم تفاوتوا في درجات النجاح [وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً].

وإن من تمام إتقان العمل وإحسانه أن يحتفظ الإنسان بالآثار التي حصلت له خلال العمل ويديم وجودها، لأن بعضاً يكتسب تلك الآثار ما دام في العمل وبمجرد انتهائه يعود إلى طريقته الأولى، وآخر يحتفظ بها مدة أكثر وتضعف تدريجياً إلى أن يفقدها ثم يجدّدها بعمل آخر، وآخر تختلط مع روحه ودمه فتثبت فيه وتسري منه بركاتها إلى الآخرين، كالأجسام التي تلامس النار، فبعضها يفقد الحرارة بمجرد إبعاده عنها، وأخرى تحتفظ بها مدة ثم تفقدها، وأخرى - كالفحم - تتحول إلى جمرة متقدة تهب النور والدفء إلى الآخرين.

ص: 218

إن قيمة العبادات والشعائر التي نؤديها بمقدار تحقيقها لتلك المضامين العالية، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ] [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] [لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ] [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ]. فإذا تجردت عن المضامين فإنها ستفرغ من القمية إلا أن يتداركها الله تعالى بفضله وكرمه.خذ لذلك مثالاً قشور الفاكهة فإنها ما دامت محتوية على اللب وحافظة له فلها كل القيمة، ولكنها إذا نزعت عنها فلا قيمة لها وترمى في سلة النفايات.

فالمأمول هو أحياء هذه الشعائر بشكل واعٍ مع استحضار للأهداف التي أسست من أجلها، والمبادئ التي أراد الأئمة المعصومون (علیهم السلام) تركيزها من خلال إحيائها، فلم يستشهد الإمام الحسين (علیه السلام) من أجل أن نبكي عليه فقط أو لنتفجّع ونحزن، وإن كان هذا مطلوباً في نفسه، ولكن الهدف هو توظيف هذا الحزن والبكاء والألم في رفض الظلم والانحراف والفساد والسعي بهمة عالية نحو الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

والمأمول أيضاً إدامة هذه الآثار المباركة التي عاشها الجميع خلال أيام المناسبة لتكون خصالاً ثابتة في سلوكنا، مثلاً رغم مشاركة الملايين في الزيارة إلا أنه لم يحصل خلاف أو شجار بين الزوار بل إذا وقع خطأ –كارتطام سيارتين مثلاً- كان المجني عليه يسبق الجاني للاعتذار منه وتحمّل نفقات إصلاح سيارته. أقول: هذا السمو وهذا النبل لماذا نتخلى عنه عندما نعود إلى أهلنا وديارنا فتحصل النزاعات لأمور تافهة عند الله تبارك وتعالى، أليس هذان

ص: 219

المختلفان هنا هما من تعاملا بذلك النبل في رحاب أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) وكلاهما شيعة علي والحسين (علیه السلام)؟ فما حدا مما بدا !إن الإنسان حينما يحسن فإنه أول المستفيدين، مع انتفاع غيره بإحسانه، فالحسين(ع) الذي نحيا ببركات شهادته المقدسة كان هو أول من قبض الثمن كما ورد في خطاب جده المصطفى (صلی الله علیه و آله) إليه (إن لك مقامات عند الله لن تنالها إلا بالشهادة). قال تعالى: [إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا] وكل ما يعتقد الإنسان أنه قدمه لله تعالى أو لغيره فإنه إنما قدمه لنفسه حقيقة، والله هو المتفضل المنان الذي لا يجازى إحسانه.

إن ديمومة هذه الخصال الكريمة والتحلي بالآثار المباركة للزيارة هي الضمانة لبقاء الأمة حية وفي عزة وكرامة وتقدم وازدهار، وعدم العودة إلى عصور الظلم والاستبداد والديكتاتورية، وليست الضمانة أن يجتثَّ هذا ويفصل ذاك(1)، فما دامت النفوس الأمارة بالسوء التي تنادي (أنا ربكم الأعلى) موجودة، وما دام إبليس يمارس غوايته للبشر، فلا يفرحنا إعدام صدام أو علي الكيمياوي وسائر المقبورين من الطغاة، لأن المصنع الذي ينتجهم موجود، فلا تغرنّكم هذه الضجة المفتعلة التي يراد منها ما يراد في حساب المصالح ولنا في حياة الأئمة(ع) شواهد وأمثلة، فما قيمة زوال حكم بني أمية إذا كان خلفهم بني العباس، حتى قال الشاعر:

ص: 220


1- أساءت بعض الأحزاب المتسلّطة استعمال قانون اجتثاث البعث فجعلته وسيلة للتخلص من خصومها السياسيين وتشويه سمعتهم مع احتضانها لكثير من الصداميين وتمكينهم من مقدرّات الأمة لأنهم يتملقون لهم.

فليت جور بني مروان عاد لنا *** وليت عدل بني العباس في النار

إن عظمة الإمام الحسين (علیه السلام) تتجلى في هذه الديناميكية والحركية التي يبعثها في حياة الأمة منذ ألف وأربعمائة عام فترهب أعداء الله ورسوله والإنسانية، فيقومون بأقذر الأساليب لتعويق هذه الحركة المباركة، لكنهم يعودون خائبين خاسئين، يسخرون منّا أن نتفجّع لرجل قضى قبل أربعة عشر قرناً شهيداً لتحيى الأمة إلى قيام يوم الساعة، ولا يسخرون من أنفسهم إذ يخشون هذا الرجل رغم مرور هذه المدة على شهادته.

ص: 221

خطاب المرحلة 241 :الحوزة العلمية وأداء شكر النعمة

خطاب المرحلة 241 :الحوزة العلمية وأداء شكر النعمة(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أكمل الخلق أجمعين أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

السلام على رسول الله أمين الله على وحيه، وعزائم أمره، الخاتم لما سبق، والفاتح لما استقبل، والمهيمن على ذلك كله ورحمة الله وبركاته.

السلام على صاحب السكينة، السلام على المدفون بالمدينة، السلام على المنصور المؤيد، السلام على أبي القاسم محمد بن عبد الله ورحمة الله وبركاته.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

عظم الله تعالى أجورنا وأجوركم بمصابنا المتجدد بفقد رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي لم تُصَب الدنيا بمثله وفيه قال أمير المؤمنين (علیه السلام): (بأبي أنت وأمي طبتَ حياً وطبت ميتاً، انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد ممن سواك من النبوة والإنباء، خصصتَ حتى صرتَ مسلياً عمن سواك، وعممت حتى صار الناس فيك سواء)(2).

ص: 222


1- خطاب سماحة آية الله العظمى الشيخ اليعقوبي (دام ظله) في المؤتمر العام الثالث لجماعة الفضلاء المنعقد في النجف الأشرف في الذكرى السابعة لتأسيسها بمناسبة وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يوم السبت 28/صفر/1431 الموافق 13/ 2/ 2010.
2- بحار الأنوار: 22/ 527 عن المجالس للشيخ المفيد.

وعن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) قال: (لما قُبضَ رسول الله (صلی الله علیه و آله) بات آل محمد (صلی الله علیه و آله) بأطول ليلة حتى ظنوا أن لا سماء تظلّهم ولا أرض تقلّهم)(1).لقد انقطع بموته (صلی الله علیه و آله) التنزيل، ورفع أمان لأهل الأرض [وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأنتَ فِيهِم] (الأنفال: 33).

واستضعف أهل الحق وعلى رأسهم أهل بيته الطاهرون كما أخبر (صلی الله علیه و آله): (أنتم المستضعفون بعدي) وانقلبت الأمة على الأعقاب [أفَئِنْ مَاتَ أو قُتِلَ انقَلبْتُم عَلى أَعقَابِكُم] (آل عمران: 144).

وفي هذه المناسبة نستذكر حديثاً مروياً عنه (صلی الله علیه و آله) فقد خطب في أصحابه يوماً فقال: (أيها الناس إن في القيامة أهوالاً وأفزاعاً وحسرة وندامة...) إلى أن قالوا: يا رسول الله ما النجاة من ذلك؟ فقال: (اجثوا على ركبكم بين يدي العلماء تنجوا منها ومن أهوالها فإني أفتخر يوم القيامة بعلماء أمتي، فأقول: علماء أمتي كسائر الأنبياء قبلي، ألا لا تكذبوا عالماً ولا تردّوا عليه ولا تبغضوه وأحبُّوه، فإن حبهم إخلاص وبغضهم نفاق، ألا ومن أهان عالماً فقد أهانني ومن أهانني فقد أهان الله ومن أهان الله فمصيره إلى النار، ألا ومن أكرم عالماً فقد أكرمني، ومن أكرمني فقد أكرم الله ومن أكرم الله فمصيره إلى الجنة).

أيها الأحبة:

إن القدر المتيقن من العلماء المشار إليهم في الحديث هم المعصومون من أهل بيت النبي (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) وإنما تشمل عموم علماء الأمة باعتبارهم مبلغين عن الأئمة الطاهرين (سلام الله عليهم) وناقلين لرسالتهم

ص: 223


1- بحار الأنوار: 22/ 537.

ومتأسّين بهم وقائمين بوظائفهم ومتحملين لمسؤولياتهم.والتكليف العام الذي يجب تلقيه من الحديث الشريف هو وجوب طاعة العلماء السائرين على نهج الأئمة الأطهار والأخذ منهم وإكرامهم وحسن الظن بهم والتحذير من مغبّة الإعراض عنهم والقدح فيهم وتوهينهم.

لكن النخبة الرسالية من الأمة يفهمون منه تكليفاً آخر وهو الالتحاق بركب العلماء وأن يكونوا منهم، فإنهم لا يكتفون بنجاة أنفسهم وإنما يعملون بما ييسر الله لهم من الأسباب لإنقاذ الأمة من الأهوال والفتن والأخذ بأيديهم نحو الفوز والفلاح. ويتحقق ذلك في أوضح أشكاله بالانخراط في سلك الحوزة العلمية الشريفة وبذل الوسع في تحصيل العلوم وتهذيب النفس وتحصيل الكمالات حتى يصبح من العلماء الذين وصفهم الحديث الشريف وبيّن دورهم.

وقد حباكم الله تعالى بفضله فجاء بكم من شتى بقاع الأرض على تنوع ثقافاتكم وانتماءاتكم لتكونوا جزءاً من هذا الكيان الشريف الممتد في أعماق التأريخ والضارب بأطنابه في جذور الأرض [ألَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء] (إبراهيم: 24).

إن الشعور بالانتماء إلى سلسلة من الشموس والكواكب يقف في رأسها رسول الله (صلی الله علیه و آله) والأئمة الطاهرون والأنبياء والرسل (صلوات الله عليهم أجمعين) والشهداء والصديقون والعلماء الصالحون حتى تصل إلى جيلنا الحاضر، إن هذا الشعور يزيد الهمة ويعطي مزيداً من الثقة بالنفس وبالمنهج الذي ينتمي إليه.

إذن كم هو عظيم فضل الله تبارك وتعالى على من انتمى إلى هذا الخط

ص: 224

الشريف [قَلْ بِفَضلِ اللهِ وَبِرَحمَتِهِ فَبِذَلكَ فَليَفرَحُوا هُوَ خَيرٌ مِمَا يَجمَعُونَ] (يونس: 58) [وَفي ذَلِكَ فَليَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ] (المطففين: 26) حتى أنني أستغرب من غفلة أكثر الناس عن هذا الفضل العظيم، وأتساءل ماذا يوجد في غيره من خير لا يوجد فيه حتى يعرض عنه من يعرض؟أيها الأساتذة والفضلاء وطلبة العلم:

من حق الله تعالى علينا أن نعرف عظيم نعمته، ونقدّم بين يديه عجزنا عن الشكر، وأن نكون أوفياء لنعمته ونقوم بحقوقها وما تقتضيه من واجبات والتزامات تجاه خالقنا تبارك وتعالى ونبينا وأئمتنا (صلوات الله عليهم) خصوصاً إمام العصر الشاهد على أفعالنا وأقوالنا (عجل الله تعالى فرجه ومكن له) وتجاه أمتنا التي تنتظر الكثير من الحوزة العلمية الشريفة.

إن نجاة الأمة على يد العلماء لا تتحقق بالقعود والكسل والاكتفاء بتعاطي المصطلحات العلمية، وإنما تتحقق بالعمل الدؤوب ورصد الثغور التي يتسلل منها شياطين الإنس والجن ليثيروا الشبهات والفتن والفساد، وليحرفوا مسيرة الأمة عن صراطها المستقيم الذي حدده لها الله تبارك وتعالى، وفي ذلك قال إبليس: [قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ] (الأعراف: 16-17) وحكى تعالى عنه قوله: [قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ] (ص: 82-83).

إن الله تبارك وتعالى ذم المتقاعسين المتواكلين الذين لا يريدون أن يقدّموا جهداً أو تضحية وينتظرون من الغير إنجاز العمل وينشغلون هم

ص: 225

بالتشكيك والاعتراض، ولقد ذكر الله تبارك وتعالى مثالاً لهم من قوم موسى [يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فإن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ] لكن الله تبارك وتعالى أثنى على المبادرين إلى العمل المستجيبين لأوامر نبيهم [قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ]. فكانت عاقبة التخاذل والتمرد والتشكيك التيه جيلاً كاملاً حتى استبدل بهم ربهم غيرهم [قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ] (المائدة: 21-26).لذا فإننا بحاجة إلى بذل المزيد من الجهود لننهض بهذه المسؤوليات الإلهية. وقد مرّت سبع سنوات على تأسيس هذه الجماعة المباركة وأثمرت جهودها عن مشاريع مهمة أذهلت المطلعين عليها، حين يرون وجود عشرات الفروع من جامعتي الصدر والزهراء (علیها السلام) والعشرات من المؤسسات الإنسانية والثقافية والدينية وإقامة العشرات من صلوات الجمعة وإنشاء العديد من المراكز المشتركة بين الحوزات العلمية والجامعات الأكاديمية، واعترفوا بأن مرجعياتٍ لها إمكانياتُ دولة عجزت عن مثل هذه الإنجازات، لكن همم العاملين وزهدهم في الدنيا وقناعتهم بأن ما عند الله تعالى خير وأبقى هو الذي بعث الحياة في كل هذه المشاريع النبيلة وأدامها بفضل الله تبارك وتعالى.

ويبقى طموحنا أكبر بكثير مما أنجز، لأن الكمال لا حدود له فطالِبوه لا يقفون عند حد، ولأن التحديات التي تحيط بنا والمسؤوليات الملقاة علينا

ص: 226

والأمانة الثقيلة التي تحملناها لا زالت تستنهض المزيد من الجهود.إننا نأمل من مؤتمركم الشريف هذا أن يحقق نقلة في طريق العمل الصالح ويغنينا بالأفكار والخطوات العملية التي ينبغي اتخاذها في المرحلة القادمة، وفي محاور متعددة منها:

1- الاهتمام بالتبليغ الإسلامي وانتشار الخطباء والمبلغين والمرشدين في أصقاع الأرض داخل العراق وخارجه وأن يأخذ الطلبة والطالبات في فروع جامعات الصدر والزهراء في المحافظات وسائر المدارس الدينية دورهم في أداء هذه الرسالة الشريفة، وقد كانت تجربة عدد من الإخوة العاملين المخلصين الذين انتشروا في محافظة ديالى خلال الموسمين الماضيين تجربة مثيرة للفخر والاعتزاز وتستحق التأسي والثناء.

2- الارتقاء بشخصية الحوزوي ليكون قائداً حقيقياً في المساحة التي يشغلها وهذا يتطلب جدّاً واجتهاداً في التحصيل العلمي وفي تهذيب النفس والسلوك والانفتاح على حاجات المجتمع ومشكلات العصر وأنواع الثقافات السائدة والاطلاع الواسع على الكتب والنشرات والمجلات وسائر وسائل المعلومات العصرية ليكون مواكباً لعصره ويحافظ على تقدمه على المجتمع حتى يجد الناس عنده ما يحتاجون إليه، وإلا فهم سيخلّفونهم وراء ظهورهم.

3- نشر الحوزات العلمية والمدارس الدينية والمعاهد القرآنية في جميع المدن لتعليم الفقه والعقائد والأخلاق والتعريف بفضائل أهل البيت (علیهم السلام) وسيرتهم المباركة، فإن مثل هذه الحوزات هي مصدر الإشعاع ومفتاح البركات للمجتمعات التي تحتضنها.

ص: 227

4- إغناء خطاب الجمعة بكل ما يلامس واقع الأمة وهمومها والانسجام مع وظائف هذا المنبر المقدس وتوجّهات المرجعية الدينية، وأن يكون ملبياً لتنوع الحضور ومستوياتهم.

5- محافظة الحوزة العلمية على وحدتها وألفتها مهما اختلفت وجهات النظر والتعاطي معها بحسن الظن ما دامت تصب في الهدف الإلهي المبارك، والتعامل مع هذا الاختلاف في الأساليب على أنه تنوع أدوار بحسب ما تقتضيه ظروف العمل، ولا يمكن أن يكون ذلك سبباً للتقاطع والتباعد فإنه غير مشروع وهو سبب فشل المؤسسات وانهيارها، قال تعالى: [وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] (الأنفال: 46).

6- النهوض بواقع الشعائر الدينية وخصوصاً الشعائر الحسينية لتكون محققة للأهداف التي سالت تلك الدماء الزواكي الطواهر من أجل تحقيقها، لأننا نلمس مع الأسف تسطيحاً لهذه الشعائر وتراجعاً في الممارسات لتصبح غالباً خالية من تلك الأهداف ولا تترك تأثيراً حقيقياً على نفوس الملايين إلا في وقت ممارستها، مع الإشادة التامة بالنبل والمواقف الكريمة التي تجلت في الزيارة الأربعينية والتي تستحق أن يُفرد لها كتاب خاص لتطلع البشرية على التجليات الإنسانية فيها. لكن هذه المسيرة المليونية يمكن أن تساهم بشكل كبير في تعجيل الظهور الميمون المبارك إذا أبرَزت بشكل أكبر الأهداف والمبادئ التي أعلنها الإمام الحسين (علیه السلام)، وإنما يتحقق التأسي به (علیه السلام) بمقدار تجسيد تلك المبادئ والمحافظة عليها وليس بمقدار شجّ الرؤوس بالسيوف وإدماء الظهور بالسلاسل والمشي على الجمر وبعض الممارسات التي

ص: 228

تشوه الصورة الناصعة لمدرسة أهل البيت (سلام الله عليهم).7- إن من وظيفة الحوزة العلمية الإصلاح وتغيير الواقع الفاسد ومقاومة الظلم والانحراف على جميع الأصعدة، ومنها السلطة والحكم، وقد أتيحت لهذا الجيل فرصة لم تكن متاحة من قبل لتحقيق ما يمكن تحقيقه من خلال صناديق الاقتراع في الانتخابات، ورغم وجود تحفظات لدينا على سير هذه العملية وملابساتها، إلا أنها تبقى الطريق المتيسر الآن للتغيير، ولا يعذِر المجتمع من حاول التغيير بغيرها، ولا شك أنه يوجد في المرشحين من يُؤمَّل منه الخير ويُرجى فيه الصلاح والإصلاح. كما لا يُعذر من تقاعس عنها لسبب أو لآخر، وقد جرّب من تخلّف عن المشاركة فلم يجنِ إلا الضعف والتقصير ووخز الضمير.

أيها السادة المحترمون:

إن الأمة تكون بخير ما دامت الحوزة العلمية بخير وتؤدي دورها بشكل فاعل وتأثيرها في صلاح الأمة وفسادها –والعياذ بالله- أشد من تأثير الحكام، وقد قربنا ذلك في بعض كتبنا(1) عندما شرحنا الحديث الشريف عن الإمام الصادق (علیه السلام) عن أبيه (ع) قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي، وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل: يا رسول الله ومن هما؟ قال: الفقهاء والأمراء)(2).

وإن من تابع تاريخ الأمم السالفة وحتى أمة الإسلام يجد أن سنة الله تعالى

ص: 229


1- المعالم المستقبلية للحوزة العلمية: 13.
2- الخصال للشيخ الصدوق: 36 باب الاثنين.

جارية فيهم على حد سواء [فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً] (فاطر: 43) فما دام هناك امتداد صالح للأنبياء والرسل فإن الأمة تبقى عصية على الانحراف والابتعاد عن الشريعة، وإذا لم يكن مثل هؤلاء العلماء الصالحين من أمناء الرسل على شرائعهم فإن الأمة تضيع وتغرق في التيه وتخلّف الحق وراء ظهورها ولا تنفعها البينات والحجج التي جاءهم بها نبيهم الكريم، كأهل مصر بعد يوسف (علیه السلام) على رغم ما رأوه على يديه من معجزات وكرامات وإنقاذ حياتهم من الجوع والقحط وتخليصهم من جور الظلمة، قال تعالى: [وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ] (غافر: 34)، وهكذا الأمم الأخرى، أما شريعة سيد المرسلين (صلی الله علیه و آله) فقد حفظها الله تبارك وتعالى بأئمة معصومين هداة مهديين ومن بعدهم بعلماء عاملين مخلصين صادقين حتى يظهر الله تعالى دينه على يد بقية الله الأعظم (عجل الله تعالى فرجه)، ولذا ورد في الحديث الشريف الذي بدأنا به الكلام أن النجاة في الدنيا والآخرة تكون بمتابعة العلماء، فكونوا منهم ليس فقط بالزي والشكل والعناوين البراقة وإنما بالعلم والعمل الصالح والسير على خطى رسولنا الكريم (صلی الله علیه و آله) والأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين).

ص: 230

خطاب المرحلة 242 :لا تنسوا الغاية في كل الحالات

خطاب المرحلة 242 :لا تنسوا الغاية في كل الحالات(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

القرآن الكريم رسالة هداية وإصلاح وتكامل من الله تبارك وتعالى إلى خلقه، فما أحرى بالعباد أن يطيلوا النظر والتعمق والتأمل والإعادة في سطور هذه الرسالة الصادرة من الحبيب جل وعلا.

ومن دروس القران الكريم ما أدب به نبيه المصطفى (صلی الله علیه و آله) في سورة النصر، حيث أن للنصر نشوة وسكرا تتبعها غفلة وانسياقاً وراء نزوات النفس وشهواتها خصوصا في مثل النصر الذي تحقق لرسول الله (صلی الله علیه و آله) على طواغيت قريش ودخل مكة فاتحا منتصرا وأذعنت له جزيرة العرب، فماذا كان التوجيه الذي صدر من الله تبارك وتعالى لرسوله (صلی الله علیه و آله) وهو في ذروة ذلك النصر [فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاستَغفِرهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّاباً]. أن تسبح الله وتنزهه عن كل ما يخالط النفس من أهواء ونزوات وشياطين تطاع من دون الله، وان تحمد ربك الذي ما أصابك من خير إلا بلطفه ورعايته، واستغفره من كل ما خالطك من غفلة أو شعور بالزهو والخيلاء، واعتقاد بأن لك يداً في تحقيق النصر أو ما

ص: 231


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي يوم 29 ربيع الأول 1431ه- المصادف 13/ 3/ 2010 م مع حشد من أبناء المرجعية جاؤوا للتعبير عن سرورهم بفوز مرشحيهم بالانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت يوم 7/ 3/ 2010.

صادف من تصرف لا يليق بالعبد في محضر ربه المتعال.وقد كان رسول الله ص الذي يقول (أدبني ربي فأحسن تأديبي) في مستوى ما يريده الله تبارك وتعالى منه، ففي الروايات انه ص دخل مكة وقد طأطأ رأسه الشريف حتى يكاد يلصق برحله تواضعا لله تبارك وتعالى وامتناناً لفضله واحتراما لبيته وخشية منه تبارك وتعالى. *** والقاسم المشترك لكل هذه التوجيهات هو أن تتذكر الهدف والغاية الحقيقية التي خلقت لأجلها، ولا يشغلك شيء عنه مهما كان ذلك الشيء مهماً وعظيما كالنصر المؤزر على الخصوم، لأن قيمة ما تناله من الأشياء إنما تكون بمقدار ما تؤدي إلى تلك الغاية وهو رضا الله تعالى والقرب منه والزلفى لديه.

أما الغافلون عن ذلك الهدف فتراهم سادرين في غيّهم فرحين بما لا يدوم لهم بل يكون وبالاً عليهم، وربما ساقهم ذلك إلى التنافس غير الشريف والصراع المحموم الذي تنتهك فيه الحرمات ويُعتدى خلاله على المقدّسات ويُظلم الأبرياء، وهذا هو شأن الفريقين، فريق يعمّر دار آخرته ويوظف كل ما عنده لإعمار حياته الباقية، وآخر يعمّر دار فنائه التي وصفها الإمام الحسين (علي السلام) بأنها دار بلاء وزوال متغيرة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرّته والشقي من فتنته.

ويشبّه بعض الأخلاقيين حال الفريقين بصورتين من السجناء الذين تدفع لهم الحكومات عادة مبالغ يسيرة أو كبيرة كمصروف جيب، فمنهم من يصرف منها بمقدار الضرورة على نفسه ويرسل الباقي مع أهله عندما يأتون لمواجهته ليشتروا له داراً أو يفتحوا له مشروعاً تجارياً ينفعه عند خروجه من سجنه

ص: 232

ويصرف منه على أهله فعندما يخرج يجد له وضعاً مريحاً ويبدأ بحياة سعيدة، وفريق آخر من السجناء يصرف كل ما يأتيه على إعمار موضعه من السجن وتزيينه ووضع النقوش عليه وفجأة يقال له أخرج من السجن فلا يجد أمامه شيئاً يمكن أن يبدأ به حياته فيندم على ما ضيّع من أموال وجهود على شيء لا يدوم له.وهكذا نحن في هذه الدنيا، فإنها سجن للبشر لا بد أن يتحرّر منه الإنسان في يومٍ ما ويموت وينتقل إلى العالم الآخر [وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ] [وَتَزَوَّدُواْ فإن خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ] وقد ضرب الله تبارك وتعالى لنا في القرآن الكريم الكثير من الأمثلة، وحث على التدبر فيها والتأمل في حقائقها، ومن فائدة الأمثال أنها تقرّب الفكرة وتقنع الإنسان بها لأنسه بالصورة المحسوسة عنده.

فالإنسان المغرور الذي يقول (أنا ربكم الأعلى) ويعتقد أنه قادر على فعل ما يريد ويعيش نشوة السلطة وسكر الجاه والقوة وكثرة الأتباع، ولا يقتنع بحقيقته العاجزة القاصرة التي لا تملك ضراً ولا نفعاً، ولكن إذا ضرب له مثل لضعفه وعجزه [يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ] (الحج:73) فإنه يصحو من غروره وجهله ويذعن إلا من يجحد الحقائق، وقد استيقنت بها أنفسهم ظلماً وعتوّا.

ومما يضرب به الأخلاقيون من أمثال لحقيقة الفريقين الذين ذكرناهما، بشخصين كتب عليهما السفر لأداء فريضة الحج واتخذا راحلتيهما للسفر،

ص: 233

فواحدٌ جهّز راحلته بما يحتاج لسفره وحينما حان وقت السفر خرج إلى مقصده فوصل وأدى ما عليه وبلغ أمنيته، وآخر انشغل بتزيين دابته والاعتناء بها وبمظهرها حتى فاته وقت السفر وفاتته الرحلة، فانشغل بالوسيلة عن الهدف.هذه الأمثلة قد تبدوا غريبة لكنها حاكية بدقة عن واقع الناس اليوم فهم ينشغلون بالوسائل التي مكنّهم الله تبارك وتعالى منها كالمال والجسد ويغفلون عن الهدف الذي خلقوا من أجله وهو رضا الله تبارك وتعالى، فلا بد من اليقظة من الغفلة، ولا بد من المعرفة ومن المراقبة ومن الموعظة المستمرة، ونشر هذه المواعظ والمعارف في المجتمع خصوصاً من قبل الفضلاء والمبلّغين وأئمة الجماعة وخطباء الجمعة والمنبر، و المثقفين الرساليين، والله الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 234

خطاب المرحلة 243 :فرص التكامل للشباب أكثر

خطاب المرحلة 243 :فرص التكامل للشباب أكثر(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

مما قاله لي السيد الصدر الثاني(قدس سره) في مراسلاته الأخلاقية - وأنا كنت في العشرينيات من عمري - أن من نعم الله عليك أن تلتفت إلى تهذيب نفسك وتربيتها في وقت مبكر، لأن العمر كلما طال ازداد الرين على القلب، مما يؤدي إلى قسوته واستكباره عن سماع الموعظة وقبول الحق حتى يطبع عليه والعياذ بالله تعالى، لذا ورد في أدعية الإمام السجاد ع (ويلي كلما طال عمري كثرت ذنوبي، ويلي كلما كبر سني كثرت خطاياي)، فهذه أول الفرص للشباب أنهم قريبون إلى الفطرة والنقاء لم يطبع على قلوبهم فتكون استجابتهم للحق سريعة كما تشهد بذلك الحركات الرسالية عبر التاريخ.

والفرصة الأخرى: الامتيازات التي تعطى إليهم، فقد ورد في الحديث (إن الله تبارك وتعالى يباهي الملائكة بالشاب الذي ينشأ في طاعة الله) فعندكم فرصة أن تكونوا ممن يباهي به الله ملائكته ويحتج بكم عليهم، وهذا يزيد من دافعكم نحو الالتزام بالدين وحسن السيرة.

ص: 235


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من طلبة إعدادية الحنانة في النجف الأشرف ومدرسة الإمام الصادق(عليه السلام) في مدينة الصدر ببغداد يوم السبت 4 ع2 1431 المصادف 20/ 3/ 2010.

والفرصة الثالثة: وجود موارد للطاعة عندكم لا تتوفر لغيركم كبرّ الوالدين وأكثر الشباب لهم والدان وهذه تمثل فرصة عظيمة للطاعة من خلال البر بهما والإحسان إليهما بينما من هو مثلي لا والدين له يكون قد حُرم من هذه الفرصة إلا من خلال الإحسان إليهما بعد وفاتهما بالأعمال الصالحة.والفرصة الرابعة: قلة المشاغل والمشاكل التي تورث الهم وتشوش البال وهذه كلها معوقات للتكامل فالشباب في سلامة منها لأنه عادة مكفول المعيشة وكل لوازم الحياة بوالديه حيث يأتيه رزقه من طعام وشراب وملبس ومصروف يومي جاهزاً بلا مؤونة في الغالب.

والفرصة الخامسة: أنه غالباً في صحة وقوة بدنية ونشاط وهمة عالية وهذه كلها من مقوّمات الأعمال الصالحة أما من تقدّم به السن فإن الأمراض تظهر عليه وقوته تضعف فيعجز عن أداء الكثير من الطاعات.

وهكذا تتكاثر فرص الخير أمام الشباب، لذا ورد في وصايا النبي(صلی الله علیه و آله) لأبي ذر(رضوان الله تعالى عليه) (يا أبا ذر: اغتنم خمساً قبل خمس: صحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وشبابك قبل هرمك، وحياتك قبل موتك).

فإن إضاعة أي من هذه الفرص للطاعة غصة توجب الحسرة والندامة.

نعم إن المغريات أمام الشاب كثيرة، لكن هذه كلها ليست معوقات للتكامل بلطف الله تعالى، بل ربما هي مفيدة للتكامل لأنها تزيد من الهمة والإرادة لمواجهتها حتى يشعر بزهو الانتصار عليها.

فالشباب يحبون اقتحام الصعوبات حتى يحققوا الانتصارات ويفرحوا بها

ص: 236

ولا يحتاج الأمر من الشباب إلا إلى الاعتصام بالله تبارك وتعالى وتقوية إرادته. فإذا جعل أمام عينيه مثلاً الحديث الشريف(من غضّ بصره عما حرّم الله تعالى، أبدله الله تعالى إيماناً يجد حلاوته في قلبه) فإنه سيكون أكثر إصراراً على مواجهة هذه الإغراءات.ومن الوسائل التي تعينكم في حياتكم التكاملية هذه أن تتخذوا لأنفسكم مفكرة أو دفتر ملاحظات يدوّن فيها أحدكم ما يؤثر فيه ويتفاعل معه من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة والكلمات الحكيمة القصيرة كالذي يعرض في الشريط أسفل الشاشة على بعض الفضائيات، فإن مثل هذا التفاعل يعني أن هذه الكلمة رزق ساقه الله إليك، وأقول لكم هذه الخاطرة لأنني استفدت منها في صباي قبل أن أبلغ الحلم، ولا زلت احتفظ ببعضها وكنت اكتب التاريخ تحت كل كلمة مختارة والموجود عندي مؤرخ شهر 11/ 1974، وكنت أقلبها بين حين وآخر فتتجدد المعنويات وتتحفز الهمم بلطف الله تبارك وتعالى. وقد ضمّ حديثنا اليوم عدداً من هذه الأحاديث التي توجّه بوصلة حياتكم إلى ما يرضي الله تبارك وتعالى.

يقول بعض الأخلاقيين إن أول صدمة يواجهها الإنسان حين موته قبل صعوبات القبر والبرزخ وغيرها، هو حينما يعلم أن ما نزل به هو الموت وإن عمره قد انتهى وهذا يعني أن باب العمل قد أغلق عليه، فلا يستطيع أن يستزيد ولو ذرة من عمل الخير إلا ما يهدى إليه من أهله أو أحبائه، فيصاب بالذهول والألم والندامة والحسرة على كل لحظة أضاعها بغير عمل صالح، فبينما أفنى عمره في اللهو والغفلة والانشغال بالدنيا الزائلة وزينتها وقضى عمره يخطط

ص: 237

لأفكار ومشاريع لا تنتهي حتى خطف منه الموت كل تلك الأحلام، فيضغط عليه هذا الألم بقوة وتعصره الندامة، فيكون ممن قال فيهم رب العزة والجلال [أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ، أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ] (الزمر:5658)ومما انصح أن تثبتوه في دفتر ملاحظاتكم قول الإمام الحسين (علیه السلام) (من حاول شيئاً في معصية الله كان أفوت لما يرجوا وأقرب لما يحذر) لأنكم قد تعرض عليكم رغبات وأمور تريدون تحقيقها وربما يحاول البعض ذلك ولو بأساليب محرمة ككسب المال، أو العلاقة مع الجنس الآخر فينشئان علاقة حب غير شرعية ويتواعدان ويخلوان خلوة محرمة وهكذا تزل بهم الأقدام، بينما يمكنهم أن يصبروا ويطرقوا البيوت من أبوابها التي أحلها الله تبارك وتعالى، فهذه الكلمة القصيرة من الإمام الحسين (علیه السلام) توفر عليكم الوقت والجهد وتعطيكم النتيجة قبل العمل، بأن من حاول أن يحقق ما يريد بأساليب محرمة فإن ما أراد تحقيقه سيفوته، ويتحقق له عكسه وهي النتائج التي يحذر منها، فمثل هذين الشابين الذين خدعهما الشيطان سيفتضح أمرهما ويتعرضان للإهانة الاجتماعية وربما للعقوبات ويدمّر مستقبلهما ولا يحققان ما أرادا، وإن صوّر لهما الشيطان غير ذلك، فهذه الكلمات المباركة هي خلاصة معرفة إلهية وخبرة حياة وحكمة عميقة.

ص: 238

خطاب المرحلة 244 :الجاه نعمة يُسأل عنها الإنسان

خطاب المرحلة 244 :الجاه نعمة يُسأل عنها الإنسان(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

يظنُّ أكثر الناس أن الرزق هو خصوص المال، وربما بالغ بعضهم فاعترض وسخط لأنه لم يرزق المال الذي يريده، ولا شك إن المال من أعظم الرزق، لان الإنسان يستطيع بالمال أن يقضي حوائجه ويحفظ كرامته، ويستثمره في الكثير من فرص الطاعة لله تبارك وتعالى كالحج والعمرة وزيارة العتبات المقدسة وأداء الحقوق الشرعية ومساعدة الناس وغيرها.

لكن معنى الرزق أوسع من ذلك، وإن بعضه مادي وبعضه معنوي ، من الأرزاق المعنوية : نعمة الإسلام وولاية أهل البيت (علیهم السلام) والالتزام بالدين والزوجة الصالحة والذرية الطيبة وغيرها كثير، ومن الرزق الجاه الاجتماعي والسمعة الطيبة والقدرة على التأثير على الآخرين وإقناعهم.

وهذا رزق عظيم لا يقل تأثيره عن المال، ويستطيع صاحبه فعلاً أن يوظفه في كثير من الطاعات التي لا يتمكن غيره من أدائها، كالإصلاح بين الناس الذي هو أفضل من عامة الصلاة والصيام بحسب ما روي في بعض الأحاديث الشريفة، وكالسعي لقضاء حوائج الناس لدى المسئولين أو المتنفذين ولو جاء

ص: 239


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من زعماء عشائر ووجهاء ونخبة من المثقفين في منطقة الحسينية - الراشدية في بغداد يوم السبت 24 ربيع الثاني 1431ه- المصادف 10/ 4/ 2010.

غير ذي الجاه بها لما وجد من يستمع إليه، وكالتوسط في تزويج المؤمنين الذي هو أعظم بناء في الإسلام كما في الحديث الشريف، أو حلّ الخصومات واستنقاذ الحقوق لأهلها وغيرها من القربات العظيمة عند الله تبارك وتعالى.وقد منّ عليكم بهذه النعمة باعتباركم زعماء عشائر ووجهاء في مجتمعكم كما منّ به على الحوزة العلمية الشريفة حيث يتمتع العالم الديني بمثل هذا الجاه.

وهذه النعمة يُسأل عنها الإنسان، كما يسأل عن المال : مم أكتسبه وفيم أنفقه، قال تعالى [ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ] (التكاثر: 8) وهو كل ما أنعم به الله تبارك وتعالى على الإنسان لذا ورد في الحديث الشريف (الولد نعمة يُسأل عنها الإنسان) والجاه نعمة فيسأل الإنسان عنه نُقل أن أحد العلماء شوهد متألماً ساعة احتضاره، فقيل له لماذا أنتم متألم ولم تدّخر مالاً أو علماً إلا أنفقته في سبيل الله تعالى، قال نعم. ولكن عندي جاه أيضا وأخشى ألاّ أكون قد بذلت كل جاهي في سبيل الله تعالى.

إن هذا السؤال وهذه المسؤولية تدفع الإنسان للتفكير ملياً في ما يستخدم فيه جاهه، فقد يُحسِن في استعماله كما في الموارد التي ذكرناها، وقد يُسيء كما سمعنا في الانتخابات الأخيرة أن بعضاً من زعماء العشائر والوجهاء بذلت لهم أموال للتصويت لأشخاص أو جهات فاسدة أساءت إلى الشعب ولا يُرجى منها الخير، من دون الالتفات إلى أن الصوت أمانة ومسؤولية لان الناخب عندما يصوّت إلى شخص فهو شريك له في إحسانه إن أحسن، وإساءته - والعياذ بالله- إن أساء لأنه هو وغيره ممن صوّتوا له أجلسوه في هذا المجلس.

ص: 240

ومثل الجاه أيضاً في النعم : القدرة على التأثير على الآخرين وإقناعهم، وهذه نعمة لان صاحبها يستطيع أن يوفّّر بقدرته هذه جهود كبيرة ووقتاً كثيراً ويحقّق ما لا يستطيع أن يحقق غيره. وقد جربتم انتم كزعماء عشائر ووجهاء تأثير الإنسان المتكلم الذي يستطيع أن ينتزع من الأخر الحق الذي يريد.وهكذا يجب على الإنسان أن يكون دقيقاً في تصرفاته وملتفتاً إلى عناصر القوة التي زودّه الله تبارك وتعالى فإن الغافل يتورط في معصية الله تبارك وتعالى من حيث يشعر ومن حيث لا يشعر، والله الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 241

خطاب المرحلة 245 :يتحقق التكامل بالعمل بما نتعلم

خطاب المرحلة 245 :يتحقق التكامل بالعمل بما نتعلم(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الذين يتكلمون كثيرون، والمعلومات المبذولة وفيرة من خلال الكتب والنشرات والفضائيات والإذاعات وغيرها، لكن العلم وحده لا يكفي، والمطلوب هو العمل بذلك العلم، كما أن العمل وحده لا يكفي وإنما لا بد من أن يقترن بالإخلاص، لذا ورد في الحديث الشريف (الناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم).

إذا كان أهم ما يتقرب به العبد إلى ربه من الأعمال وهي العبادات موجبة للاستغفار كما ورد في الأدعية، كدعاء الإمام الحسين (علیه السلام) يوم عرفة (إلهي كم من طاعة بنيتها، وحالة شيّدتها، هدم اعتمادي عليها عدلك، بل أقالني منها فضلك) وفي بعض الأدعية عقيب الفرائض (إلهي إن كان فيها خلل أو نقص من ركوعها أو سجودها فلا تؤاخذني وتفضّل عليَّ بالقبول والغفران)، فإذا كانت العبادات والطاعات تقتضي طلب المغفرة والعفو فما هو حال الأعمال الأخرى؟

ص: 242


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع عدد من الوفود التي زارته يوم الخميس 2 ع2 1431 المصادف 18/ 3/ 2010.

إن الواعين والملتفتين يحولون كل معلومة إلى عمل، فمثلاً ينقل عن بعض الصالحين أنه كان لا يؤدي جميع ركعات صلاة الليل دفعة واحدة بل يؤدي بعضاً ثم ينام قليلاً ثم يقوم ليؤدي بعضاً آخر وهكذا إلى أن يتمها، ولم يذكر الناقل الوجه في ذلك، لكن يمكن أن نذكر الآن وجهاً واحداً، وهو أن هذا الرجل لما بلغه الخبر الشريف: (إن العبد إذا قام من نومه إلى صلاة الليل فإن الله تبارك وتعالى يباهي به الملائكة، ويقول لهم: ألا ترون عبدي المؤمن كيف ترك لذة النوم من أجل عمل لم افترضه عليه) فأراد هذا الرجل الصالح أن يفعل ما يحبّه ربّه عدة مرات بدل المرة الواحدة.وهكذا انتم تستطيعون تحويل العلم إلى عمل،مثلاً ورد في الحديث القدسي ما مضمونه (من أحدث ولم يتطهر فقد جفاني، ومن تطهر ولم يصلي فقد جفاني، ومن صلى ولم يدعني فقد جفاني، ومن دعاني ولم أجبه فقد جفوته، ولست بربٍ جافٍ) والحديث صريح باستحباب الكون على الطهارة، ولكن المعنى العملي الذي يمكن أن نحصل عليه هو أن الإنسان إذا كانت عنده حاجة عسرت عليه بالأسباب الطبيعية أو مريض يطلب شفاءهُ أو طلب يريد تحقيقه –وما أكثرها- فليتوضأ إذا أحدث وليصلي ركعتين في غير وقت الفريضة وليطلب من الله تبارك وتعالى حاجته بعدها، فإن الله تبارك وتعالى سيحقق له مراده لأنه تبارك وتعالى ليس بربٍ جافٍ.

وحينما يبلغك الحديث الشريف في فضل سورة الفاتحة أنها (إذا قرأت سبعين مرة على ميت فقام حياً لم يكن عجيباً) نستفيد منه عملاً وهو قراءة سبعين مرة سورة الفاتحة إذا أردنا من الله تبارك وتعالى قضاء حاجة أو شفاء

ص: 243

مريض أو تحقيق شيء نطلبه، لأنها كلها دون إرجاع الحياة إلى الميت الذي يقبل التحقق بهذا العمل بإذن الله تعالى.وبهذه العين وهذه البصيرة يمكن النظر في كثير من هذه الأحاديث الشريفة بفضل الله تبارك وتعالى.

ص: 244

خطاب المرحلة 246 :الدنيا بحر عميق فما هي سفينة النجاة؟

خطاب المرحلة 246 :الدنيا بحر عميق فما هي سفينة النجاة؟(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

كان لقمان الحكيم كثير المواعظ لولده وحكى لنا القرآن الكريم جملة منها في سورة لقمان، ونقل الأئمة المعصومون سلام الله عليهم لنا عنه مواعظ كثيرة، ومن تلك المواعظ ما أحفظه منذ أربعين عاماً عندما كنت أرافق والدي (رحمه الله تعالى) في مجالسه، وهي مروية عن الإمام الصادق (علیه السلام) أن لقمان وعظ ولده فقال (يا بني أن الدنيا بحر عميق، قد هلك فيه عالم كثير، فاجعل سفينتك فيها الإيمان بالله، واجعل شراعها التوكل على الله، واجعل زادك فيها تقوى الله، فإن نجوت فبرحمة الله وان هلكت فبذنوبك)(2).

نعم الدنيا بحر متلاطم الأمواج، بحر في مغرياته وشهواته وأهوائه وميوله وأحلامه فمن حب المال إلى حب النساء إلى حب الجاه والسلطة إلى اللهو واللعب وغيرهما مما يزيّنه الشيطان.

وبحر في مسؤولياته، فالإنسان مكلف بواجبات ومسؤوليات أمام خالقه العظيم وأمام إمام زمانه (علیه السلام) وأمام نفسه وعائلته ومجتمعه وأمام الملائكة

ص: 245


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من الوفود والزوار، بينهم هيئة الشباب الرسالي في الشعلة والغزالية، وأساتذة وطلبة جامعة الصدر الدينية – فرع مدينة الصدر ببغداد، وموكب شباب أنصار المصطفى في ذي قار يوم الخميس 15 ع2 1431 المصادف 1/ 4/ 2010.
2- بحار الأنوار: 13/ 411.

والتاريخ وغيرها.وبحر في تحدياته التي تتجاذب الإنسان في كل اتجاه وتجعله يعيش صراعات متنوعة.

فالدنيا بحر عميق حقاً لا يقوى الإنسان وحده على امتطائه بسلام ليصل إلى الغاية لذا (هلك فيه عالم كثير) ولم يكتب النجاة إلا لقلة القليلة، كما أخبر تعالى ([ثُلّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ] [وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَكُورُ] [وَمَا أكثَرُ النَاسِ وَلَوْ حَرَصَتَ بِمُؤمِنِينَ].

وتستطيع أن تدقّق بلغة الأرقام فدّون عدد البشر اليوم ثم أبدأ بإنقاص أهل الملل والنحل والديانات لتصل إلى النتيجة المرعبة.

وإذا عرفنا أن الدنيا بحر عميق ونحن في عمق هذا البحر، فإن السؤال الطبيعي هو كيف ننجو؟ أو ما هي سفينة النجاة؟ وهنا يكمل لقمان الحكيم فيذكر السفينة وهي الإيمان بالله تعالى وتوحيده حقاً وفعلاً، وهذا ما ورد في أول كلمة أطلقها رسول الله (صلی الله علیه و آله) (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) وردّدها أبناؤه المعصومون (علیهم السلام) (لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمِنَ من عذابي) وشراعها التوكل على الله [وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ] وزادك فيها التقوى [وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ].

وهذه الكلمات العميقة من لقمان الحكيم تحتاج إلى من يفسّرها ويفصّل معانيها ويُبيِّن تطبيقاتها وحدودها وأحكامها، وهذا ما تميزت به شريعة الإسلام حتى جعلها الله تعالى خاتمة الرسالات وأكملها، فهي تتواصل مع الشرائع السماوية السابقة بالمبادئ السامية والقيم النبيلة إلا أنها تزيد عليها تفصيلاً وبياناً

ص: 246

وسعة وشمولاً، وهذا العنوان في مواعظ لقمان وهي (السفينة) وردت على لسان النبي (صلی الله علیه و آله) (مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق وهوى).وسُميّ العلماء الصالحون الهداة في الأحاديث (سفن النجاة) لأنهم خلفاء الأئمة المعصومين (سلام الله عليهم) والأمناء على شريعتهم والمبلغون لرسالتهم. وهكذا تجد التواصل والوراثة مستمرة بين حلقات هذه السلسلة الكريمة من الرسل والأنبياء والأئمة والعلماء الصالحين.

ويستطيع كل واحد منكم أن يكون سفينة نجاة بدرجة من الدرجات حينما يعلِّم غيره مسألة شرعية يجهلها أو يوصل له موعظة ينتفع بها، أو يصدّه عن معصية أو انحراف أو ظلم، أو يهديه إلى ما فيه رضا الله تبارك وتعالى وصلاح العباد.

ولا ينال ذلك أيها الأحبة إلا بلطف الله تبارك وتعالى وتوفيقه لأنه من الأرزاق المعنوية التي لا تنال بالأسباب الطبيعية، أي أنها تختلف عن الأرزاق المادية، قال تعالى [وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ] (الأنبياء:73) [فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ] [وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً].

فمن شمله هذا اللطف أضاء في قلبه وعقله وجوارحه نور من الله تبارك وتعالى، [وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ] وستزل قدمه، ويضل الطريق في دنياه وآخرته. [قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً].

وكونوا - أيها الأحبة - على ثقة بأن الله تعالى كريم يعطي من غير

ص: 247

احتساب، وهو رحيم بعباده، وكلما ظن العبد أن الأبواب مغلقة في وجهه، ولا سبيل إلى النجاة، وإذا بباب رحمة الله تعالى تفتح له [حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ] (يوسف 110). ويشبّه بعض الأخلاقيين الحالة بما موجود اليوم في الأبنية الراقية حيث تكون الأبواب الخارجية مغلقة فإذا وصل القادم أليها انفتحت تلقائياً، فالعارف بالحال يتوجه نحو الباب وإن رآها مغلقة لأنه يعلم أنها ستفتح له عندما يتوجه إليها، أما الجاهل فيرى عدم الجدوى في التوجه نحو الباب لأنها موصدة في وجهه.

ص: 248

خطاب المرحلة 247 :الحوزة العلمية والعمل الاجتماعي

خطاب المرحلة 247 :الحوزة العلمية والعمل الاجتماعي(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

أودُّ أن اعرض عليكم اليوم بعض الأحاديث التي تحفز فضلاء الحوزة العلمية لبذل أقصى الوسع في إرشاد الناس إلى الحق واستنقاذهم من المعصية والانحراف وتعليمهم ما يقرّبهم إلى الله تبارك وتعالى. ومن تلك الأحاديث ما ورد في الاحتجاج وتفسير العسكري قال : قال علي بن أبي طالب (علیهما السلام) : من كان من شيعتنا عالماً بشريعتنا فأخرج ضعفاء شيعتنا من ظلمة جهلهم إلى نور العلم الذي حبوناه به : جاء يوم القيامة وعلى رأسه تاج من نور يضيء لأهل جميع العرصات ، وعليه حُلّةً لا يقوم لأقل سِلْكٍ منها الدنيا بحذافيرها ، ثم ينادي منادٍ يا عباد الله : هذا عالم من تلامذة بعض علماء آل محمد (صلی الله علیه و آله) : ألا فمن أخرجه في الدنيا من حيرة جهله فليتشبث بنوره ليخرجه من حيرة ظلمة هذه العرصات إلى نزه الجنان فيخرج كل من كان علمه في الدنيا خيراً أو فتح عن قلبه من الجهل قفلاً أو أوضح له عن شبهة)(2).

وهناك جملة من الروايات في نفس المعنى موجودة في المصدر نفسه ،

ص: 249


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع المشاركين في المؤتمر العام الثاني لأئمة الجمعة والجماعة ومدراء مكتب التنسيق الحوزوي في محافظات العراق , وقد انعقد في النجف الأشرف يوم الاثنين 4 ج1 1431ه- المصادف 19/ 4/ 2010.
2- بحار الأنوار : 2/ 2 الحديث الثاني.

ولعلنا سنتناول جوانب منها في مناسبات(1) قادمة بإذن الله تعالى.أفبعد هذه الجوائز والمكافئات المعدًّة لمن قام بخدمةٍ من هذا القبيل يمكن لأحد ممن تعلّم شيئاً نافعاً للأمة أن يتقاعس ويعتريه الكسل عن القيام بهذه الوظيفة الإلهية؟

ولو أردنا أن نحلل سبب عدم قيام بعض أفراد الحوزة العلمية بهذه الواجبات الاجتماعية لأمكن تشخيص أكثر من سبب:

1- التأسي بنمط موروث لدى شريحة من الحوزة العلمية من علاماتها الترفّع عن مخالطة الناس والحديث معهم بل حتى السلام عليهم ، وإذا أحرجهم أحد فسلَّم عليهم أكتفوا برده بالإشارة والإيماء ليحيطوا أنفسهم بهالة من القداسة المصطنعة.

وهذا النهج مخالف لسنة رسول الله (صلی الله علیه و آله) والأئمة الطاهرين (علیهم السلام) فقد كانوا يجالسون العبيد ويؤاكلونهم ويبتدئون الناس بالسلام ، ويشاركونهم في أفراحهم وأحزانهم وهمومهم ويتفقدونهم ، وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) طبيباً دواراً بطبّه ويجلس مع الأعرابي في معاطن الإبل.

2- التهرّب من إبراز هوّيته والتعرف على الجهة التي يرجع إليها ، إما خوفاً من أن يصيبه ضررهم أو يحرموه عطائهم ونحوها وهذا من قلة الثقة بالله تبارك وتعالى ، والمداهنة المنهي عنها شرعاً وإلا فإنهم ينتمون إلى جهة جامعة لشروط المرجعية والقيادة الاجتماعية والفكرية، ولنتذكر هنا قوله تعالى [الَّذِينَ

ص: 250


1- وقد تحقق ذلك في خطبة الزيارة الفاطمية الآتية صفحة 225 بعنوان (هل تريد أن تكون من الصديقة الزهراء (عليها السلام) في درجتها؟).

قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ] (آل عمران: 173-174).3- تسويلات النفس التي تميل إلى الدعة والراحة والتنصّل عن المسؤولية فتتذرع بما هو حجة عليها كالانشغال بطلب العلم ، مع إن العلم إنما يطلب للعمل به وليس للمراء والجدال، والعلم يزكو بالإنفاق، وأشد الناس حسرةً يوم القيامة من تعلّم علماً ولم يعمل به.

إن المجتمع توّاق للهداية والصلاح ، وقد جرّب بعض الفضلاء العاملين الرساليين - جزاهم الله خير الجزاء- حينما انطلقوا بكلمة الهداية والصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كيف أستقبلهم الناس وأخذوا عنهم واندفعوا إلى التطبيق، بل اهتدى إلى مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) من كان بعيداً عنها كما حصل في محافظة ديالى في المواسم الأخيرة بفضل الله تبارك وتعالى.

ومن أكثر وسائل الاتصال بالمجتمع بركة هي صلاة الجمعة مع ما يرافقها من الشعائر الدينية وأشيد هنا بجهود الأخوة الفضلاء الذين نشروا صلاة الجمعة في أصقاع عديدة ، خصوصاً وأنني أفتي بوجوب إقامتها إذا توفر العدد وإمام يخطب مع مراعاة المسافة عن الصلوات الأخرى.

لقد أطلعت على التوصيات التي خرج بها مؤتمركم وهي خطوة بل خطوات في الاتجاه الصحيح من حيث مضامين الخطب وتنوعها وشمولها لشؤون الحياة كافة ومواكبتها للحدث والتفاعل مع القرآن الكريم وسنة

ص: 251

المعصومين (سلام الله عليهم). وبيان المستجدات سواء على صعيد الفتاوى المستحدثة أو المواقف العامة وغيرها.أسأل الله تبارك وتعالى أن يسدّدكم في القول والعمل وينفع بكم إنه ولي النعم.

ص: 252

خطاب المرحلة 248 :الإصلاح مسؤولية كل إفراد المجتمع

خطاب المرحلة 248 :الإصلاح مسؤولية كل إفراد المجتمع(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

تحدثتم عن صور من عدم مراعاة حرمة مدينة الكاظمية المقدسة، وحرمة الإمامين الكاظمين الجوادين (سلام الله عليهم)، ولا شك أن مسؤولية الإصلاح تقع على جهات عديدة، احدها أمانة العتبة الكاظمية الشريفة، والمسؤولين والمتنفذين في تلك المدينة المقدسة.

لكن المشكلة أكبر من ذلك فقد دبّ الفساد والانحراف في شرائح المجتمع في المدن المقدسة وغيرها، مما يلقي بالمسؤولية على جميع المؤمنين ولا تنحصر الوظيفة برجال الحوزة العلمية.

وأعرض عليكم الآن واحدة من آليات العمل لإصلاح المجتمع وتطويق الفساد وتحجيمه حتى القضاء عليه، وهي أن نتعهد مع أنفسنا على أن يقوم كل واحد منا بنقل أي مسألة شرعية يتعلمها أو موعظة يتأثر بها أو نصيحة نافعة أو قصة هادفة، ينقلها إلى أهله وأصدقائه وزملائه في العمل والمحلة وأقرانه، وحينئذ سيحصل عندنا انتشار على شكل متوالية هندسية تتضاعف فيها أعداد المستفيدين، وتتضاعف معها حسنات العاملين، فالواحد يعلّم عشرة، والعشرة

ص: 253


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من أبناء الكاظمية المقدسة وشبابها الرسالي يوم السبت 9 ج1 1431 المصادف 24/ 4/ 2010.

يعلمون مئة وهكذا، وستلمسون بركة هذا العمل الشريف.ولا تقتصر هذه الآلية على الرجال فقط بل تعم النساء، فأنكم تتحدثون عن سفور أو حجاب غير مطابق للحدود الشرعية عند الحرم الشريف، فلو جنَّدت بعض الأخوات أنفسهن للزيارة يومياً أو في الأيام التي يكثر فيها الزوار، وكلما شاهدت امرأة أو أكثر غير محتشمة اقتربت منها وسلمت عليها وعرضت خدماتها عليها كقراءة الزيارة أو أية مساعدة وبعد حصول الألفة بينهنّ توجهها برفق وتعلمها، لأنني أعتقد أن السبب الأكبر للابتعاد عن الدين هو الجهل والغفلة وهما يزولان بالتعليم والموعظة الحسنة.

ولنطبق هذه الفكرة بأن أروي لكم قصة نافعة وعليكم بالاتعاظ بها ونقلها للآخرين، فقد حكي أن رجلاً فقيراً لم يكن يملك ما يشتري به شيئاً لأهله إلا اليسير جداً، فرأى سمكة متعفنة عند بائع لم يرغب بها أحد فاشتراها منه وسلّمها لأهله كي تعدّها للطعام، فلما شقت بطنها وجدت في بطنها لؤلؤة فرحوا بها، وذهب ليبيعها في سوق الصاغة، فقالوا له أنها ثمينة جداً ولا نستطيع تدبير ثمنها فاذهب إلى الحاكم فانه يملك خزائن البلد ولعله يقدر على دفع ثمنها، فذهب إلى الحاكم وعرضها عليه، فاستشار الحاكم خبراء الصنعة، فقالوا له أنها لا تقدّر بثمن، والحل أن تفتح له خزائن الملك ليأخذ منها ما يشاء، فقال الحاكم للرجل الفقير؛ هذه ثلاث خزائن وهذه مفاتيحها وأمنحك ثلاث ساعات لتأخذ من الخزائن ما تشاء وليس لك حق بعد الساعات الثلاث، ففتح الرجل الفقير الخزينة الأولى فوجد فيها ذهباً وجواهر وأشياء ثمينة، وفتح الثانية فوجد فيها أفرشة الحرير الناعمة التي تتنعم فيها بنوم مريح، ووجد في الثالثة ما لذ

ص: 254

وطاب من الأطعمة.ففكر ماذا يصنع، ثم قرر أن يقسّم الساعات الثلاث إلى ساعة للأكل وساعة للنوم والاستراحة وساعة يجمع فيها ما يستطيع من الجواهر، فتلذذ بالأطعمة في الساعة الأولى وملأ بطنه، ثم جاء واسترخى على الفراش الوثير في الثانية فأخذه النوم حتى أيقظه الحراس في نهاية الساعة الثالثة، وقالوا له لقد انتهت المدة فاذهب، فتوسّل إليهم أن يمهلوه ولو لحظة ليأخذ جوهرة تنفعه لتحسين حاله فلم يسمحوا له بشيء لانتهاء اجله، فراح يعض يديه ندماً وحسرة حيث لا ينفعه الندم.

قد نسخر جميعاً من عقل هذا الرجل ونعتبره مجنوناً إذ ترك الذهب والجواهر التي كان يمكن له أن يعيش بها بأحسن حال ويشتري باليسير منها ما لذّ من الأطعمة والراحة، وانشغل بدلاً من ذلك بما لا ينفعه إلا وقتياً.

لكن يا أخوتي هذا هو حالنا في هذه الدنيا التي وصفها أمير المؤمنين بأنها جيفة تنهشها الكلاب من طلاّبها ومنحنا الله تعالى فيها لؤلؤة ثمينة هي العمر الذي نستطيع به اكتساب الجنان حيث لا عين رأت ولا أذن سمعت، لكن اغلب أهل الدنيا انشغلوا بمتاعها الزائل الذي سيفارقونه حتى إذا حلّ أجلهم وجاء ملك الموت لم يمهلهم لحظة ليكتسبوا بها حسنة تنفعهم يوم القيامة، وكان يمكنهم أن يستثمروا كل ساعة بل كل دقيقة بل كل ثانية باكتساب حسنة كتسبيحة أو استغفار، نسأل الله تعالى أن يوقظنا من نومة الغافلين ويدخلنا في الصالحين.

ص: 255

خطاب المرحلة 249 :درس من سيرة الأنبياء (ع)

خطاب المرحلة 249 :درس من سيرة الأنبياء (ع)(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

تتكرر في سيرة الأنبياء (صلوات الله عليهم أجمعين) مقولة حكاها لنا القرآن الكريم، وهي قولهم [فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ] (يونس: 72) [قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] (سبأ:47) [يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ] (هود: 51).

وهكذا ينبغي لكل من يتأسى بالصالحين ويريد أن يكون منهم أن لا يبتغي من أحدٍ أجراً على إحسانه فضلاً عن المنّ على من أحسن إليه، لأنه إنما يحسن لنفسه أولاً قبل أي أحد [إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ]، وتكون درجته أرقى حينما يحسن إلى الناس بل إلى الحيوان باعتبارهم خلق الله تبارك وتعالى وعياله، ومن كانت هذه نيته فسيجزيه الله تبارك وتعالى على إحسانه بأضعافه، لأن الله تعالى يعتبر الإحسان إلى خلقه إحساناً إليه، كما أن الأب مثلاً يعتبر الإحسان إلى أولاده إحساناً إليه.

نعم ورد في رسولنا الكريم (صلی الله علیه و آله) أنه اشترط أجراً على الرسالة، نقله قوله

ص: 256


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع وفد مركز برير بن خضير القرآني في ديالى يوم 21 ج1 1431 المصادف 6/ 5/ 2010.

تعالى [قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى] (الشورى: 23) لا لأنهم قربى نسبيون بل لأنهم حملة الرسالة وامتدادها ومودتهم من مودّة الله تبارك وتعالى ورسوله، ولإقامة الحجة البالغة على الأمة التي علم الله تبارك وتعالى أنها ستظلم آل النبي (صلی الله علیه و آله).فمودة أهل البيت (علیهم السلام) من صميم الرسالة لأنهم الصراط المستقيم بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) والسبيل الموصل إلى الله تبارك وتعالى، قال تعالى [قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً] (الفرقان: 57) والمتأدب بأدب رسول الله (صلی الله علیه و آله) يعمل بهذه الآية فلا يطلب أجراً ممن أحسن إليه إلا أن يحسن هذا إلى سائر المؤمنين لأنهم أقرباؤنا الحقيقيون بآصرة الدين وولاية أهل البيت (علیهم السلام).

وهذا ما أقوله لمن يشعر بأنني أحسنتُ إليه بشكل أو بآخر كالذين حصلوا على مواقع في السلطة بدعم المرجعية وأقول له إن جزائي أن تُحسن إلى الناس وتخدمهم بكل ما تستطيع لأنهم قرباي الذين جعلت مودتهم والإحسان إليهم أجراً وجزاء للإحسان.

وفرص الإحسان للناس موجودة بشكل واسع وعلى كافة المستويات المادية والمعنوية خصوصاً في مثل محافظة ديالى المحرومة المنكوبة بتقديم الخدمات الأساسية لهم أو توظيف أبنائهم أو تحسين أحوالهم أو نشر التبليغ الإسلامي والشعائر الدينية في مدنهم وقراهم وغيرها.

ص: 257

خطاب المرحلة 250 :هل تريد أن تكون مع الصديقة الزهراء (عليها السلام) في درجتها؟

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم(1)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

قد يبدو توجيه السؤال غريباً ومعروف الجواب سلفاً، إذ لا يوجد عاقل لا يريد أن يكون مع الصديقة الطاهرة الزهراء (علیها السلام) في درجتها، ولكن وجه السؤال هو معرفة ما يصل به الإنسان إلى تلك الدرجة.

وأين هي درجة الزهراء (علیها السلام)؟ إنها مع أبيها (صلی الله علیه و آله) وبعلها وبنيها (صلوات لله عليهم أجمعين) [فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ] (القمر:55) [أُوْلَ-ئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَ-ئِكَ رَفِيقاً] (النساء:69)، بل هم (صلوات الله عليهم وسلامه) الجنة الحقيقية، قال تعالى: [وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ] (التوبة: 72) ورضا الله تعالى رضاهم كما ورد في الحديث النبوي المتواتر: (إن الله يرضى لرضا فاطمة ويغضب لغضبها)

ص: 258


1- الخطاب الذي ألقاه سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) على الآلاف من المؤمنين الذين احتشدوا في ساحة ثورة العشرين في النجف الأشرف صباح يوم الثلاثاء 3 ج2 1431 المصادف 18/ 5/ 2010 قبل انطلاق التشييع للنعش الرمزي للصديقة الطاهرة الزهراء في الزيارة الفاطمية.

وقال الإمام الحسين (علیه السلام): (رضا الله رضانا أهل البيت).وقد أخبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن هذه المعيّة والملازمة بينه (صلی الله علیه و آله) وبينهم (صلوات الله عليهم أجمعين) في حديث الثقلين المشهور عن النبي (صلی الله علیه و آله): (إني تاركٌ فيكم الثقلين كتاب الله عز وجل وعترتي، كتاب الله حبلٌ ممدودٌ من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإن اللطيف أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض فانظروا بمَ تخلّفوني فيهما)(1).

وفي حديث النبي (صلی الله علیه و آله) مع أمير المؤمنين علي (علیه السلام): (وأنت معي في قصري في الجنة مع فاطمة ابنتي)(2) وحينما يقول النبي (صلی الله علیه و آله) في ابنته الزهراء :(فاطمة بضعة مني فمن أغضبها فقد أغضبني)(3) فإنه (صلی الله علیه و آله) لا يريد أن الزهراء (علیها السلام) ابنته وتولدت منه فهي جزء منه، لأن هذا المعنى عام يشترك فيه كل الناس ولا خصوصية لفاطمة من هذه الناحية حتى تستحق البيان، فكل ابن وبنت هما بضعة من والديهما، وإنما يريد (صلی الله علیه و آله)، أن فاطمة (علیها السلام) جزء من وجوده المعنوي وامتداد مبارك له وأنها شعاع من شمسه المنيرة. لذا فرّع على هذا المعنى أن من أغضبها فقد أغضبه (صلی الله علیه و آله).

وقد أكّد الإمام الحسين (علیه السلام) هذا المعنى في خطابه الذي ألقاه في مكة

ص: 259


1- الحديث من مسند أحمد بن حنبل، وتجد مصادره من كتب العامة في كتاب (فضائل الخمسة من الصحاح الستة): 2/ 52-62.
2- كنز العمال: 5/ 400 الحديث 36345 ومصادر الحديث من كتب العامة في (فضائل الخمسة من الصحاح الستة): 3/ 129-131.
3- هذا نص البخاري في صحيحه وتوجد مصادره في المصدر السابق.

المكرمة قبل خروجه إلى العراق ومما قال (علیه السلام): (رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله لحمته، بل هي مجموعة له في حظيرة القدس تقرّ بهم عينه، وينجز بهم وعده)(1).أيها الأحبة:

لقد كفانا رسول الله (صلی الله علیه و آله) مؤونة البحث عن إجابة السؤال الذي جعلناه عنواناً للخطاب، ودلّنا على ما يوجب اللحوق به (صلی الله علیه و آله) وببضعته الطاهرة (علیها السلام) في أحاديث عديدة، كالذي رواه الترمذي في صحيحه وأحمد بن حنبل في مسنده وغيرهم من علماء العامة عن أمير المؤمنين (علیه السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه (أخذ بيد حسن وحسين (علیه السلام) فقال: من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة)(2) ولكن هذه الأحاديث يجب أن تُفهم في سياقاتها الطبيعية أي المعنى الحقيقي للحب ولوازمه وآثاره.

من كفل يتيماً كان مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) والزهراء (علیها السلام):

والذي نريد أن نجعله محوراً لكلامنا اليوم ما رواه الإمام الصادق (علیه السلام) عن آبائه (صلوات الله عليهم أجمعين) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (من كفل يتيماً وكفل نفقته كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وقرن بين إصبعيه المسبّحة والوسطى)(3).

ص: 260


1- مقتل الحسين (عليه السلام): للسيد المقرم: 193.
2- تجد مصادر الحديث في كتاب (فضائل الخمسة من الصحاح الستة: 1/ 299-300.
3- بحار الأنوار: 75/ 3 عن قرب الإسناد بسند مقبول.

وفي رواية أخرى قال (صلی الله علیه و آله): (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة إذا اتقى الله عز وجل) وأشار بالوسطى والتي تليها)(1)، والحديث مشهور، وإن كان ينقل من دون جزئه الأخير الذي هو شرط قبول الأعمال، قال تعالى: [إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ] (المائدة:27) لكنه هنا شرط لكون كافل اليتيم في درجة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وليس شرطاً لإعطاء الجزاء، لأن أعمال البر والإحسان يثاب عليها الإنسان ولو لم يقصد بها وجه الله تعالى.إذن هذا سبيل يوصلك لتكون مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) في درجته بلطف الله تبارك وتعالى وكرمه، وقد تواترت الأحاديث في فضل كفالة اليتيم ورعايته منها ما روي عن رسول الله قوله: (إن في الجنة داراً يقال لها دار الفرح لا يدخلها إلا من فرّح يتامى المؤمنين)(2) وقوله (صلی الله علیه و آله): (من قبض يتيماً من بين المسلمين إلى طعامه وشرابه أدخله الله الجنة ألبتة إلا أن يعمل ذبناً لا يغفر)(3).

وعن أبي الدرداء قال: (أتى النبيَّ (صلی الله علیه و آله) رجل يشكو قسوة قلبه، قال (صلی الله علیه و آله): أتُحبُّ أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك)(4).

وعن أمير المؤمنين (علیه السلام): (ما من مؤمن ولا مؤمنة يضع يده على

ص: 261


1- تفسير نور الثقلين: 5/ 597.
2- كنز العمال: ح6008.
3- الترغيب والترهيب: 3/ 347.
4- الترغيب والترهيب: 3/ 349.

رأس يتيم إلا كتب الله له بكل شعرة مرّت يده عليها حسنة)(1).وعن الصادق (علیه السلام) عن آبائه (ع): (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): من عال يتيماً حتى يستغني عنه أوجب الله عز وجل له بذلك الجنة كما أوجب الله لآكل مال اليتيم النار)(2).

الأيتام المعنويون:

ويوجد أيتام من نوع آخر هم أكثر عدداً يكاد يمثلون أغلب الناس، وكفالتهم لا تحتاج إلى المال، بل إلى الجهد والهمة والإخلاص، وكافلهم يكون أقرب إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الأول، تعرّفهم لنا جملة من الأحاديث الشريفة(3) وتبين منزلتهم (الكافلين) عند النبي (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته المعصومين (علیهم السلام) عن الإمام أبي محمد الحسن العسكري (علیه السلام) قال: (حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال: أشد من يُتم اليتيم الذي انقطع عن أبيه يتم يتيم انقطع عن إمامه ولا يقدر على الوصول إليه ولا يدري كيف حكمه فيما يبتلى به من شرائع دينه ألا فمن كان من شيعتنا عالماً بعلومنا وهذا الجاهل بشريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا يتيم في حجره ألا فمن هداه وأرشده وعلمه شريعتنا كان معنا في الرفيق الأعلى)(4).

ص: 262


1- بحار الأنوار: 75/ 4.
2- بحار الأنوار: 75/ 4.
3- هذه المجموعة من الأحاديث أثبتها العلامة المجلسي (قدس سره) في بحار الأنوار: 2/ 2-6 في الباب 8 من كتاب العقل والعلم والجهل، أبواب العقل والجهل، عن التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السلام) وكتاب الاحتجاج للطبرسي.
4- الأحاديث من بحار الأنوار الباب المذكور على التسلسل: 1، 4، 5، 9، 10، 11.

وعن أبي محمد العسكري (علیه السلام) قال: (قال الحسن بن علي (علیه السلام): فضل كافل يتيم آل محمد المنقطع عن مواليه الناشب في رتبة الجهل يخرجه من جهله، و يوضح له ما اشتبه عليه، على فضل كافل يتيم يطعمه ويسقيه كفضل الشمس على السها(1)).وعنه (علیه السلام) قال: (قال الحسين بن علي (علیه السلام) من كفل لنا يتيماً قطعته عنا محبتنا(2) باستتارنا فواساه من علومنا التي سقطت إليه حتى أرشده وهداه، قال الله عز وجل: يا أيها العبد الكريم المواسي أنا أولى بالكرم منك، اجعلوا له يا ملائكتي في الجنان بعدد كل حرف علّمه ألف ألف قصر، وضموا إليها ما يليق بها من سائر النعم).

وعنه (علیه السلام) قال: (قال موسى بن جعفر (علیه السلام): فقيه واحد ينقذ يتيماً من أيتامنا المنقطعين عنا وعن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه أشد على إبليس من ألف عابد؛ لأن العابد همّه ذات نفسه فقط، وهذا همّه مع ذات نفسه ذات عباد الله وإمائه لينقذهم من يد إبليس ومردته، فذلك هو أفضل عند الله من ألف ألف عابد، وألف ألف عابدة).

وعنه (علیه السلام) قال: (قال علي بن موسى الرضا (علیه السلام): يقال للعابد يوم القيامة: نِعم الرجل كنت همتك ذات نفسك وكفيت الناس مؤونتك فادخل الجنة، ألا

ص: 263


1- السها في لغة العرب كويكب صغير خفي الضوء، والناس يمتحنون به أبصارهم لصغره وخفائه.
2- أي كان سبب انقطاعه عنا رغبتنا في الاستتار رعاية لحكمة إلهية عظمى. وفي نسخة (محنتنا) وهو أظهر.

إن الفقيه من أفاض على الناس خيره، وأنقذهم من أعدائهم، ووفّر عليهم نعم جنان الله وحصل لهم رضوان الله تعالى. ويقال للفقيه: يا أيها الكافل لأيتام آل محمد الهادي لضعفاء محبيهم ومواليهم قف حتى تشفع لمن أخذ عنك، أو تعلَّم منك فيقف فيدخل الجنة معه فئاماً وفئاماً وفئاماً(1) حتى قال عشراً).وعنه (علیه السلام) قال: (قال محمد بن علي الجواد (علیه السلام): من تكفل بأيتام آل محمد المنقطعين عن إمامهم المتحيرين في جهلهم، الأُسراء في أيدي شياطينهم، وفي أيدي النواصب من أعدائنا فاستنقذهم منهم، وأخرجهم من حيرتهم، وقهر الشياطين برد وساوسهم، وقهر الناصبين بحجج ربهم ودليل أئمتهم لَيُفضّلون عند الله تعالى على العباد بأفضل المواقع بأكثر من فضل السماء على الأرض و العرش والكرسي والحجب على السماء، وفضلهم على هذا العابد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كوكب في السماء).

الصديقة الزهراء (عليها السلام) تكفل كلا النوعين من الأيتام:

وقد كانت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) تحذو حذو أبيها (صلی الله علیه و آله) في أقواله وأفعاله وخصاله الكريمة وهديه وسمته، ومع أن علم الله تعالى سابق بأنها (صلوات الله عليها) في درجة أبيها (صلی الله علیه و آله) في الجنة إلا أنها مع ذلك كانت حريصة (صلوات الله عليها) على أن تقوم بكل ما يقربها إلى الله تعالى ورسوله (صلی الله علیه و آله) ويجعلها معه في درجته ولم تتكل على ذلك الاستحقاق والعطاء السابق، بل عزّزته بالمثابرة والعمل الدؤوب وتحمّل كل المشاق في

ص: 264


1- فئام: الجماعات الكبيرة من الناس، وطبقت في بعض الموارد –كيوم الغدير- على مئة ألف.

القيام بمسؤولياتها والصبر عليها، فتأكد استحقاقها لتلك الدرجة الرفيعة، وقد ورد في زيارتها (سلام الله عليها) يوم الأحد (السلام عليك يا ممتحنة، امتحنك الذي خلقك قبل أن يخلقك، وكنت لما امتحنك به صابرة) فقد أدت ما عليها ووفت بما عاهدت ربها عليه من الالتزامات فنجحت في الامتحان بأعلى درجات النجاح.ومن مورد صدقها فيما امتُحنت به كفالة الأيتام بالمستويين اللذين ذكرناهما.

أما الأول فقد شهد الله تبارك وتعالى لها ولزوجها أمير المؤمنين وولديها الحسن والحسين (صلوات الله عليهم) في القرآن الكريم بإطعامهم اليتيم مع حاجتهم للطعام حباً لله تبارك وتعالى وإخلاصاً لوجهه الكريم [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُوراً] (الإنسان: 8-9).

ونقرأ في سيرتها (صلوات الله عليها) أنها طحنت بالرحى حتى مجلت يداها وأشعلت التنور حتى دكنت ثيابها وما ذلك لإطعام زوجها وبنيها لأنهم خمص البطون، وكانوا يكتفون من الطعام بما يسد رمقهم، وإنما كان ذلك لكثرة من تطعمهم وتتكفل بهم كما تشهد به روايات أخر، ولم تغب عنها الوصية بالأيتام وهي تودع الحياة الدنيا، روي أنه جاء في وصيتها (علیها السلام) لأمير المؤمنين (علیه السلام) بالحسن والحسين (علیه السلام): (يا أبا الحسن ولا تَصِحْ في وجهيهما فإنهما سيصبحان يتيمين من بعدي، بالأمس فقدا جدهما واليوم يفقدان أمهما)(1).

ص: 265


1- بحار الأنوار: 43/ 178.

وأما على المستوى الثاني لكفالة الأيتام فقد كانت لها حركة دؤوبة وهمة لا تعرف التواني والتقصير، روي عن الإمام أبي محمد العسكري (علیه السلام) أنه قال: (حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء (علیها السلام) فقالت: إن لي والدة ضعيفة وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بعثتني إليك أسألك، فأجابتها فاطمة (علیها السلام) عن ذلك، فثنت فأجابت ثم ثلثت إلى أن عشّرت فأجابت ثم خجلت من الكثرة فقالت: لا أشق عليك يا ابنة رسول الله، قالت فاطمة: هاتي وسلي عما بدا لك، أرأيت من اكترى يوماً يصعد إلى سطح بحمل ثقيل وكراه مائة ألف دينار يثقل عليه؟ فقالت: لا. فقالت: اكتريت أنا لكل مسألة بأكثر من ملء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤاً فأحرى أن لا يثقل عليّ، سمعت أبي (صلی الله علیه و آله) يقول: إن علماء شيعتنا يحشرون فيخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجدهم في إرشاد عباد الله حتى يخلع على الواحد منهم ألف ألف حلة من نور ثم ينادي منادي ربنا عز وجل: أيها الكافلون لأيتام آل محمد (صلی الله علیه و آله)، الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الذين هم أئمتهم، هؤلاء تلامذتكم والأيتام الذين كفلتموهم ونعشتموهم فاخلعوا عليهم خلع العلوم في الدنيا فيخلعون على كل واحد من أولئك الأيتام على قدر ما أخذوا عنهم من العلوم حتى أن فيهم يعني في الأيتام لمن يخلع عليه مائة ألف خلعة وكذلك يخلع هؤلاء الأيتام على من تعلم منهم، ثم إن الله تعالى يقول: أعيدوا على هؤلاء العلماء الكافلين للأيتام حتى تتموا لهم خلعهم، وتضعفوها لهم فيتم لهم ما كان لهم قبل أن يخلعوا عليهم، ويضاعف لهم، وكذلك من يليهم ممن خلع على من يليهم. وقالت فاطمة (علیها السلام): يا أَمَة الله إن سلكة من تلك الخلع لأفضل مما

ص: 266

طلعت عليه الشمس ألف ألف مرة وما فضل فإنه مشوب بالتنغيص والكدر)(1).وروي عنه (علیه السلام) قال: (قال علي بن أبي طالب (علیهما السلام): من قوّى مسكيناً في دينه ضعيفاً في معرفته على ناصب مخالف فأفحمه لقنه الله يوم يُدلى في قبره أن يقول: الله ربي، ومحمد نبيي، وعلي وليي، والكعبة قبلتي، والقرآن بهجتي وعدتي، والمؤمنون إخواني. فيقول الله: أدليت بالحجة فوجبت لك أعالي درجات الجنة فعند ذلك يتحول عليه قبره أنزه رياض الجنة)(2).

مسؤوليتنا عن كفالة كلا النوعين من الأيتام:

أيها الأخوة والأخوات:

لنتأسّ بالصديقة الطاهرة الزهراء (علیها السلام) حتى نكون معها ومع أبيها الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما) في درجتهما في الجنة بكفالة كلا النوعين من الأيتام.

فبلدنا اليوم يعج بمئات الآلاف من الأيتام بسبب ما تعرض له من جرائم القتل والبطش والحروب والمقابر الجماعية في عهد صدام ولجرائم القتل المنظم والإرهاب والفوضى المتعمدة والقتل العشوائي في عهد الاحتلال، وهؤلاء الأيتام في الوقت الذي يشكّلون فيه مسؤولية على الأمة جميعاً تقتضي احتضانهم ورعايتهم وتربيتهم، وإلا تحولوا إلى جيل كامل من المجرمين والقتلة والمرضى النفسيين والمنحرفين أخلاقياً والحاقدين على المجتمع، في

ص: 267


1- بحار الأنوار: الموضع السابق، ح3.
2- بحار الأنوار: الموضع السابق، ح14.

الوقت نفسه هم يمثلون فرصة عظيمة للطاعة امتثالاً للتوجيهات النبوية الشريفة المتقدمة.أما النوع الثاني من اليتيم فهو صفة أكثر الناس فإنهم بين جاهل بالشريعة لا يعرف حتى الأحكام الأساسية التي يبتلى بها يومياً كالوضوء والصلاة والغسل وبعض المعاملات، وبين مفتون قد اضطربت في ذهنه الأفكار وعصفت به الضلالات، وبين متورط في المعاصي بسبب غفلته وعدم وجود من يعظه ويذكره بالله تعالى، وبين إمّعةٍ ينعقون مع كل ناعق -كما وصفهم الحديث الشريف- وبين ضعيف أو مستضعف يحتاج إلى من يقوي فيه عقائده ويشدّ إيمانه، ولعلكم تعرفون أكثر مني مصاديق ذلك من خلال احتكاككم بالناس واطلاعكم على البيئة التي تعيشون فيها، ولعل بعضكم اطلع على الكثير مما ذكرت من خلال التجمعات الكبيرة التي تحصل في بعض المناسبات الاجتماعية والدينية وغيرها.

فأمامكم فرصة واسعة لنيل القرب من رسول الله (صلی الله علیه و آله) والصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء برعاية الأيتام من النوع الأول وكفالتهم بالمساعدات المالية ورعايتهم وتربيتهم وإنشاء مؤسسات الحضانة والتعليم والترفيه لهم ونحوها، وقد أذنت المرجعية بصرف قسم كبير من الحقوق الشرعية لكفالة الأيتام.

والفرصة الأوسع التي أمامكم هي كفالة الأيتام من النوع الثاني وهي متاحة للجميع إذ ما من أحد منا إلا ويعرف مسألةً شرعيةً أو حديثاً شريفاً أو نصيحةً مفيدةً فلنُنظّم جميعاً ببركة الزهراء (علیها السلام) حملة واسعة نقوم خلالها بتعليم الناس كل كلمة مفيدة أو موعظة تسمعونها أو مسألة شرعية تتعلمونها أو عمل صالح

ص: 268

تهتدون إليه، أو نصيحة ترشدهم وتصحح أخطاءهم وغيرها كثير.فلا تبخلوا بكل ذلك على الناس سواء داخل الأسرة أو لزملائكم في العمل أو المنطقة أو رفقائك في السفر، وانقلوها لأكبر عدد منهم ليزداد أجركم وتحظون برضا الله تبارك وتعالى والمنزلة الرفيعة عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) والصديقة الطاهرة الزهراء (صلوات الله عليها)، فهذه الوظيفة ليست حكراً على الحوزة العلمية ونحوها بل هي مسؤولية كل من تعلم ولو مسألة واحدة وأنتم شيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) فاحفظوا وصيته بالأيتام عند وفاته (صلوات الله عليه) وقد رويت في الكافي بسند صحيح ومما جاء فيها: (الله الله في الأيتام؛ فلا تغبّوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم، فقد سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: من عال يتيماً حتى يستغني أوجب اله عز وجل له بذلك الجنة كما أوجب الله لآكل مال اليتيم النار)(1).

وتأسّوا بإمامكم المهدي الموعود (صلوات الله عليه) فإنه مع ما يعانيه من ألم الغيبة عن ممارسة دوره الكامل في حياة الأمة فإنه لم يغفل لحظة عن رعاية شيعته، قال (علیه السلام): (نحن وإن كنا ناوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسب الذي أرانا الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الفاسقين، فإننا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يعزب عنا شيء من أخباركم، ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم، مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون. إنا غير

ص: 269


1- الكافي: 7/ 51-52 باب صدقات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفاطمة والأئمة (علیهم السلام) ووصاياهم، ح7.

مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء فاتقوا الله جل جلاله..)(1).

إحياء المناسبات الفاطمية لا يقتصر على ذكر مظلوميتها (عليها السلام):

أيها الأحبة:

إننا نركز في إحيائنا لقضية الزهراء (علیها السلام) على جانب المظلومية، وهي لعمري صفحة مهمة في حياتها لأنها تلقي الضوء على كثير من قضايا الأمة وتميز الحق والباطل وتؤسس للمعتقدات الحقة والمسار الصحيح الموصل إلى رضا الله تبارك وتعالى وقد اهتدى من خلالها خلق كثير، لكن الاقتصار عليها يحرم الأمة من الصفحات الأخرى من حياة الزهراء (علیها السلام) التي هي بحق مدرسة لكل الناس، وسفر خالد تنهل منه الأجيال، فلا تحرموا أنفسكم من الاستفادة من هذه المدرسة المباركة بإذن الله تعالى وبفضله وبرحمته.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 270


1- الاحتجاج للطبرسي: 2/ 323.

خطاب المرحلة 251 :وقائع اليوم تصدق ما حصل بالأمس

خطاب المرحلة 251 :وقائع اليوم تصدق ما حصل بالأمس(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

حينما يعرض الخطباء أو الكتاب قضية الزهراء (علیها السلام) وما جرى عليها من مظالم، ينكرها الآخرون ويقولون ليس من المعقول أن يقوم أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) بتلك الأفعال النكراء، وكيف يقف أمير المؤمنين (علیه السلام) مكتوف اليد وهو يرى عقيلته بضعة النبي المصطفى(صلی الله علیه و آله) يجري عليها ذلك.

وحينما نقول إن الأمة انقلبت على أعقابها بعد رحيل رسول الله (صلی الله علیه و آله) وخلّفت وصيته في أمير المؤمنين وراء ظهرها ولم يثبت عليها إلا ثلة قليلة بعد أن بايعه سبعون ألفاً منهم في غدير خم قبل وفاته (صلی الله علیه و آله) بشهرين وعشرة أيام، يقولون: هذا غير ممكن صدوره فهذه الوصية غير صحيحة.

وحينما نقول أن الإمام الحسن(ع) اضطر لتوقيع عقد صلح مع معاوية لخذلان أصحابه وقادة جيشه وعلى رأسهم ابن عمه عبيد الله بن العباس بن عبد المطّلب الذي خان الإمام وترك قيادة الجيش والتحق بمعاوية قاتل ولديه بثمن دفعه إليه. يقولون: هذا غير معقول فلعلكم تخلقون المبررات لما قام به الإمام

ص: 271


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من أبناء مدينة كربلاء المقدسة وغيرها زاروا سماحته يوم السبت 7 ج2 1431 المصادف 22/ 5/ 2010 بمناسبة الذكرى الثانية عشرة لإعلان السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وصيته بأن يمسك الشيخ اليعقوبي الحوزة من بعده في لقائه (قدس سره) مع طلبة جامعة الصدر الدينية في النجف الأشرف يوم 5 ج2 1419.

الحسن (علیه السلام).وحينما نستعرض الفضائح التي ارتكبها الجيش الأموي في معركة كربلاء والجرائم التي لا تصدر من بشر كمنعهم الماء وحرق الخيام وترويع النساء وقتل الأطفال حتى الرضع ورض أجساد الشهداء الطاهرة بحوافر الخيل، يقولون: هذا من نسج خيال الخطباء الخصب لاستدرار العواطف والدموع وتحشيد الموالين.

وهكذا غيرها مما رواه المؤرخون لنا، وأقول لهم في الجواب، دعونا من إقامة الأدلة على صحة هذه الحوادث التي لا مسوّغ لإنكارها إلا استبعاد صدورها، وخذوا من وقائع اليوم في عراق التضحية والحرمان شواهد على صدق ما حصل.

ألم يقم الإرهابيون من تكفيريين وصداميين بقتل الأبرياء العزّل والتمثيل بجثثهم ولم يرحموا صغيراً ولا امرأة؟

ألم ينتهك الصداميون كل الحرمات والبيوت المقدسة والتي أذن الله لها أن ترفع ويذكر فيها اسمه؟ فقتلوا مراجع الدين والعلماء والفضلاء وخيرة الشباب وفجّروا العتبات المقدسة وعطّلوا المساجد واحرقوا المصاحف؟

ألم يتنكر السياسيون للأمانة التي حمّلها إياهم الشعب، ويخونوا مرجعيتهم التي أوصلتهم إلى المواقع التي يتنعمون بها بامتيازاتها ثم تنكّروا للمرجعية والشعب وعصوها وأداروا لها ظهورهم وانقلبوا على أعقابهم ولم يصغوا إلى توجيهاتها ونصائحها؟

ألم ينقلب على وصية السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في تعيين المرشح

ص: 272

الوحيد الذي يقود الحوزة من بعده ويقود المجتمع كله، لأن الحوزة هي من تقود المجتمع، وقد سمعوا وصيته بآذانهم وحضروا ذلك المجلس أو استمعوا إلى تسجيله الصوتي؟فلماذا نستغرب ما حصل؟ ولماذا نستبعد حصوله؟ وها هي وقائع اليوم تصدّق ما حصل بالأمس.

بل هكذا في كل جيل وفي كل عصر، ما دامت النفوس الأمارة بالسوء والمتّبعة للأهواء والمطامع هي المتحكمة في تفكير هؤلاء وسلوكهم وهي تقودهم، وسيجد كل من كان كذلك عن قريب مغبَّة فعله، قال الإمام الحسين (علیه السلام) (إن الدنيا دار بلاء وزوال، متغيرة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرّته والشقي من فتنته).

من حقكم –أيها المؤمنون الثابتون على ما هداكم الله تعالى إليه- أن تفرحوا بفضل الله وبنعمته إذ ثبتت أقدامكم بعد أن زلت أقدام كثيرين ممن يدّعون تأريخاً حافلاً ويجدون في أنفسهم رموزاً، ويرون فيكم ناساً بسطاء لا تضاهوهم في مكانتهم، لكن تصرفاتهم تلك تكشف زيف دعاواهم، وأنكم أنتم أهل الحظوة والكرامة، فالمقياس الحقيقي للكمال والقرب من الله تعالى هي التقوى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ].

يروى باختصار أن يهودياً كان يتعاطى الصياغة في بلدٍ مسلم، فضاعت منه خواتم ثمينة، فجاء إلى عالم المدينة- باعتباره الزعيم المتنفّذ فيها- وأعلمه بالأمر وطلب مساعدته في العثور عليها، وقام العالم بدوره بإعلام الناس وإنّ من عثر على الخواتم فليجلبها إليه، وبينما هو في مجلسه إذ دخل عليه رجل بسيط

ص: 273

رث الثياب وقدّم إليه الخواتم، فأكبر العالم في نفسه أمانة الرجل لكنه أراد أن يمتحنه فسأله عن عمله ومقدار كسبه فوجده لا يكاد يكفي لسد رمقه وعائلته فقال له: هلاّ تصرّفت بالخواتم حيث لا يعلم أحد بأنك وجدتها، وإن واحداً منها يكفي ثمنه لتحسّن وضعك المعاشي، ومالكها رجل غير مسلم؟ فقال الرجل - وهو يظن أن العالم جادٌ بعرضه ذاك- ما كنت أظنك تقول مثل هذا الكلام! أتريد أن يدخل الحياء والخجل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم القيامة حينما يقول له النبي موسى (علیه السلام) أمام الملأ : إن رجلاً من أمتك سرق خواتم من رجل من أمتي! فبماذا أجيب رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟إن هذا الرجل البسيط بالمقاييس الدنيوية أكرم عند الله تعالى من الذين يتلبسون بالدين وينتسبون إليه ويتبجحون بأوصاف أضفوها على أنفسهم ثم يتنكرون لشعبهم الذي مكّنهم من مقاليد الأمور وانهمكوا في مصالحهم وأنانيتهم.

ص: 274

خطاب المرحلة 252 :واصحبوهم سبعاً

خطاب المرحلة 252 :واصحبوهم سبعاً(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

من الأخطاء في تربية الأبناء حصول حواجز من الحياء أو الخوف أو الجهل أو عدم التوافق والانسجام بين الوالدين والأبناء تمنعهم من الانفتاح بصراحة وشفافية على الأبوين في حل مشاكلهم الخاصة والإجابة على تساؤلاتهم واستفهاماتهم، خصوصاً في مرحلة المراهقة التي يشهد فيها الصبي والصبية تغيّرات جسمية ونفسية يحتاج إلى الاستفهام عنها ومعرفة التصرف الصحيح إزاءها، فإذا كان الفتى والفتاة لا يستطيعان مفاتحة الوالدين بذلك، فإن كلاً منهما سيلجأ إلى أقرانه وسيأخذ منه ويتأثّر به، وهو - أي ذلك المستشار من أقرانهم- مثلهم وربما أقل منهم، بل الغالب فيه أن يكون متمرداً مشاكساً كذاباً يدعو إلى مخالفة الأخلاق و الدين والتقاليد الاجتماعية، لأن من يتصف بالتمرد والعناد والمشاكسة تكون عنده مبادرة وإقدام وبطولات زائفة يصنعها من نسج خياله، فيصوّر نفسه بطل العلاقات الغرامية مع الجنس الآخر، والرافض لما عليه الكبار، والقادر على كسر طوق التقاليد ونحوها، وهذه ونحوها تميل

ص: 275


1- من حديث سماحة الشيخ مع حشد من طلبة المتوسطات الذين انضمّوا إلى مدارس وحلقات دينية وأخلاقية وأساتذتهم في ناحية النصر/ الناصرية يوم الثلاثاء 17 ج2 1431 المصادف 1/ 6/ 2010.

إليها نفوس المراهقين والمراهقات فيلتفون حوله ويأخذون منه ويقودهم نحو الفساد والانحراف والعياذ بالله منه.وهذه المقدمة توضّح أهمية التفات الوالدين إلى أن يكونا صديقين لأولادهما منسجمين مع تفكيرهم ولا يشعرونهم بالفوارق بينهم - مع مراعاة الآداب طبعاً- وينزلان إلى مستوى اهتماماته وتوجهاته لينفتح عليهما بكل شيء ولا يلتجأ إلى أقرانه السيئين، وفي أحسن الأحوال هم جهلة وقاصرون مثله.

فيقوم الأبوان تارة بابتداء ولدهما بتعليمه وإرشاده وإلفات نظره إلى بعض الأمور، وأحياناً بالاستماع إلى أسئلته واستفهاماته والإجابة عليها بما يناسبه، ومن هنا وردت الوصايا عن المعصومين ع في تربية الأولاد ومنها (اتركوهم سبعاً، وأدّبوهم سبعاً، واصحبوهم سبعاً) فإن التعليم والتأديب ينبغي أن يقترن بمصاحبة الصبي والصبية واتخاذهما صديقين وصاحبين لإلغاء الحواجز النفسية، وأن يصحبوهم معهم إلى الأماكن والتجمعات واللقاءات والزيارات التي تعزّز تلك التربية والتأديب والتعليم، وتمارس تلك الأفكار على ضوء تطبيقات عملية ومشاهدات.

وقد لا يكون الوالدان بهذا المستوى من المعرفة والوعي والقدرة على إدارة العملية التربوية، فيكون من واجب الأخوة والأخوات الرساليين الواعين احتضان مثل هؤلاء الصبية - ذكوراً وإناثاً- في مدارس أخلاقية تربوية دينية يغذونهم فيها بما ينفعهم ويصلحهم ويقوّم مسيرتهم، وليكون هؤلاء المعلمون هم البديل الذي يتوجه إليه الفتى والفتاة في حلّ مشاكله والإجابة عن المتغيرات والاستفهامات التي تعرض له. وهذا شكل من أشكال كفالة أيتام آل

ص: 276

محمد (صلی الله علیه و آله) الذي ورد فيه أنه مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) في درجته.وهنا ألفت نظر أحبّتي الفتيان إلى النعمة العظيمة التي توفرت لهم بوجود هؤلاء المعلمين والمدّرسين الذين تدفعهم رحمتهم وشفقتهم وشعورهم بالمسؤولية تجاه الله تبارك وتعالى وإمامهم صاحب العصر والزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ومجتمعهم إلى تحمّل هذا العناء ومواصلة هذا العمل المبارك، فالتزموا بما يقولون لكم ويوجهونكم ولا تخفوا عنهم شيئاً فإن أكثركم في عمر مقارب للبلوغ وهذا يعني حاجتكم إلى معرفة الكثير عن أنفسكم وما يحصل لكم من متغيرات والأحكام الشرعية التي لم تكونوا تعرفونها وستجدون بركة هذه المصاحبة وستتذكرون طول عمركم حلاوة هذه الأيام وتأثيرها الفعّال في تنشئتكم نشأة صالحة بإذن الله تعالى. وانصح الإباء والأمهات بدعم مثل هذه المدارس ونشرها وتشجيع أبنائهم على الحضور فيها.

إن كثيراً من الأخلاق والأعمال الصالحة والسنن التي يلتزم بها المتدينون لم نقرأها في كتاب أو نتعلمها في مدرسة وإنما أخذناها بمصاحبتنا للكبار الصالحين واعتدنا عليها وصارت جزءاً من حياتنا، ولو ترك أحد هو ونفسه ليحاول تحصيلها من الكتب لأفنى العمر قبل أن يتعرف عليها، وأقول كل ذلك عن تجربة مررت بها في طفولتي حيث استفدت كثيراً من صحبة والدي وأخي الكبير (رحمهما الله تعالى) وغيرهما من الصالحين.

ص: 277

خطاب المرحلة 253 :أنتم في امتحان دائم فأحسنوا العمل

خطاب المرحلة 253 :أنتم في امتحان دائم فأحسنوا العمل(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

ما دام الإنسان في هذه الدنيا فهو في امتحان وابتلاء قال تعالى: [الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] فالابتلاء سنة ثابتة من السنن الإلهية، ولا يفهم منها معنى القهر وإظهار الغلبة والانتقام، فإن الله تعالى غني عن ذلك، وإنما أجرى هذه السنة لمصلحة العباد، واضرب لكم مثلاً من الحياة الأكاديمية فإن السنة الدراسية تشتمل على امتحانات متنوعة من أولها إلى آخرها، ومهما أشكل بعض التربويين وعلماء النفس على الامتحانات وتأثيرها على نفسية الطالب، وإنها ليست معبّراً حقيقياً عن مستويات الطلبة، إلا أن هذا الإجراء هو لمصلحة الطالب من أكثر من جهة:

1- إن الامتحان يميّز مستويات الطلبة ويبين استحقاق كل طالب ليكرّم الناجح ويُحفَّز الفاشل ويأخذ كل ذي حق حقه.

2- أنه يحفز الطلبة على القراءة والمراجعة، ولو خلت الدراسة من الامتحانات فإن النادر من الطلبة سيبذل جهداً لمراجعة دروسه واستيعابها حباً

ص: 278


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من طلبة جامعة الصدر الدينية في النجف الأشرف من المرحلتين الخامسة والسادسة، يوم 24 ج2 1431 المصادف 8/ 6/ 2010 بمناسبة الامتحانات النهائية وقرب العطلة الصيفية.

للعلم لا أكثر.وهذا الابتلاء الذي يجري على الإنسان في هذه الدنيا فإنه لمصلحته لكي يثاب المحسن على إحسانه ويعاقب المسيء على إساءته، وليلتزم الناس بالحقوق والواجبات، ولو شعر الناس بأنه لا ثواب ولا عقاب ينتظرهم لانتشر الظلم والعدوان والفساد، ولعمَّ اليأس الحياة.

وكما أن الدروس تتفاوت في ثقل احتسابها لإخراج المعدل العام للدروس - وهذا يعرفه طلبة الجامعات- أو تفاوت الدرجات الموضوعة بإزاء الأسئلة في الامتحانات فسؤال عليه درجة كاملة، وآخر فرع بمثابة نصف سؤال وآخر أقل منه، فكذلك الابتلاءات التي يمر بها الإنسان متفاوتة الدرجات والتأثير في ميزان الأعمال، فقد ورد في الحديث الشريف (إن الصبر على المصائب بثلاثمائة درجة، والصبر على الحرام بستمائة درجة، والصبر على الطاعة بتسعمائة درجة) فهذه الأمور كلها تحتاج إلى الصبر لكن درجات الصبر متفاوتة فالصبر على الطاعة - كالقيام من النوم اللذيذ الدافئ في الشتاء لأداء صلاة الصبح، وكبذل المال وفراق الأحبة وتحمل أعباء السفر لأداء الحج - أعلى من الصبر على الحرام - كمن تعرض له امرأة متبرجة فيصرف نظره عنها أو الذي يعرض له مال مغري إلا أنه من طريق غير مشروع فلا يمدُّ يده إليه - وهذا أعلى من الصبر على النوائب كفقد عزيز.

وكما أن الامتحانات في الدراسة الأكاديمية على نوعين، فبعضها ثابتة معلومة مسبقاً ومحدّدة المواعيد كالامتحانات الفصلية والنهائية، وبعضها يفاجئ الأستاذ بها الطالب من دون إشعار مسبق كالامتحانات اليومية ليكشف عن

ص: 279

الاستعداد المتواصل والتحضير اليومي، ولا يعذر الطالب فيه أن يقول: لا أعلم بموعده وأنني لو علمت لحضّرت له، لأن وظيفته التحضير باستمرار والاستعداد لمثل هذه الامتحانات فكذلك الامتحانات التي تمر بالإنسان في الحياة الدنيا ويراد منه تأديتها بنجاح على نوعين:فبعضها ثابتة معلومة كالصلوات اليومية وصوم شهر رمضان والحج عند الاستطاعة وحرمة الخمر والزنا ووجوب بر الوالدين ونحوها.

وبعضها تعرض له وتتهيأ فرصتها أمامه امتحاناً له، قال تعالى [إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ] (القمر:27)، فإن أحسن استغلال الفرصة فقد أصاب الخير وأدركته الرحمة، وإلا فقد ضاعت عليه الفرصة وإضاعتها غصّة، كما لو قصده صاحب حاجة وهو يقدر على قضائها ولو بالتعاطف مع صاحب الحاجة والتفاعل مع قضيته، وكالشاب الذي يتعرض لغواية امرأة متبرجة فيتركها خوفاً من الله وحباً وطاعة لله تبارك وتعالى فهذه كلها امتحانات عارضة له.

وكما أن بعض الامتحانات في الدراسة الأكاديمية ذات أنماط معروفة متداولة كالامتحانات التحريرية والشفهية، وبعضها لا يشعر بها الطالب وإنما يحدّد معايير التقييم فيها المدرّس البصير كمشاركاته في المناقشات خلا ل الدرس ونوعية أسئلته وإشكالاته وهكذا، فإن من الامتحانات في هذه الدنيا ما تخفى على صاحبها، ولكنها لا تخفى على الله تبارك وتعالى (فإن الناقد بصير) كما ورد في كلمات أمير المؤمنين (علیه السلام)، وشبّهت بعض الأحاديث خفاء الشرك في النفس بأنه أخفى من دبيب النملة بين الصخور في الليلة الظلماء،

ص: 280

ويوم تبدو السرائر وتنكشف الحقائق سيتفاجأ الإنسان مما يجده في كتابه الذي لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وهذه الامتحانات هي الأخطر لعدم الالتفات إليها إلا ممن بصّره الله تبارك وتعالى.وقد ورد ذكر الفتنة والابتلاء التي هي بمعنى الامتحان في آيات كريمة وروايات شريفة كثيرة كما ورد نفس لفظ الامتحان في كثير من الموارد، نذكر واحداً منها لإلفات النظر إلى أننا فعلاً في امتحان مستمر أولاً ومنوّع في أشكاله ثانياً، ومتفاوت في درجاته ثالثاً.

في الخصال بسنده عن جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام) قال (امتحنوا شيعتنا عند ثلاث: عند مواقيت الصلاة كيف محافظتهم عليها، وعند أسرارهم كيف حفظهم لها عند عدوّنا، وإلى أموالهم كيف مواساتهم لإخوانهم فيها).

وإزاء هذه الامتحانات فإن وظيفتكم هو إحسان العمل وإتقانه والإتيان به على وجهه، فإن الله تعالى لا ينظر إلى كثرة الأعمال بل إلى حسنها كما في الآية التي أوردنا في بداية الكلمة [لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] وليس أكثر ولا أي شيء آخر، وأمامكم الآن - وانتم على أبواب العطلة الصيفية فرص للعمل فاغتنموها، لأن الشباب منتظرون لعودتكم إليهم حتى تقيموا لهم الدورات الصيفية لتعلموهم فيها الفقه والقرآن والأخلاق والعقائد وسيرة أهل البيت (علیهم السلام) وهي تتزامن مع هذه الأشهر المباركة (رجب وشعبان ورمضان) مما يزيد الحافز إلى العمل ويوجب عظيم الأجر.

وعندكم الكثير من المساجد والحسينيات المعطلة فالفرصة متاحة لإعمارها بصلوات الجماعة والشعائر الدينية ومجالس الوعظ والإرشاد، وفي المجتمع

ص: 281

انحرافات ومفاسد وتقصيرات يراد منكم أن تعالجوها وتصلحوا أحوال الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، وتوجد بينهم نزاعات ومشاكل تستطيعون التوسط لحلّها والإصلاح بين المتخاصمين، ومن الناس من هم أصحاب حوائج يطلبون مساعدتكم بما تقدرون عليه فهذه كلها امتحانات تمر بكم ليبلوكم الله تعالى كيف تتصرفوا إزاءها، وهكذا كل الشرائح في المجتمع لها امتحاناتها، فالشباب ممتحن بوالدين يراد منه البر بهما والإحسان إليهما بأقصى الدرجات، وممتحن بشهوات تعرض له والمطلوب منها اجتنابها، وهكذا.ونؤكد ما قلناه سابقاً من أن هذه الامتحانات ليست لقهر الإنسان وإثبات الغلبة عليه وإفشاله والانتقام منه، بل هي لإعطائه المزيد من الكرامات والألطاف الإلهية وإظهار جدارته واستحقاقه لها.

وقد عرضت عليكم فرصة ثمينة لعمل الخير مع بساطتها، وهي أن يقوم كل واحد بتعميم رسالة قصيرة على من يحتفظ بأرقام هواتفهم المحمولة ويوصيهم بتعميمها تتضمن الرسالة القصيرة تعليم مسألة شرعية أو موعظة أو إرشاد إلى عمل الخير كالتنبيه على زمن شريف قريب - كالأول من رجب، والنصف منه، والمبعث الشريف أو آخر أيام من رجب - والأعمال الواردة فيه ليستعد لها ولا تفوته بسبب الغفلة عنها، أو تتضمن الرسالة مسألة شرعية غير ملتفت إليها فيتورط فيها الناس - كحرمة الزواج بأخت وبنت من لاط به آخر على اللائط، أو حرمة الزواج بامرأة لم تطلق بشكلٍ صحيح - فإن الالتفات إلى مثل هذه المسائل لاحقاً يوقع الزوجين في الحرج وهكذا.

أو يبعث بموعظة قصيرة توقظه وتحيي قلبه من الأحاديث الشريفة المباركة

ص: 282

المؤثرة في النفوس، كأن يبعث على الشباب المبتلين بالنظر إلى النساء الأجنبيات قوله (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس فمن تركها لله تعالى أبدله نوراً يجد حلاوته في قلبه) فلعل شاباً يتأمل بهذه الكلمات فيستحقر هذه النظرة ويتركها لاكتساب ذلك النور الإلهي.والخلاصة أن الإنسان المؤمن الواعي الراغب بالكمال عليه أن يكون ملتفتاً دائماً إلى أن كل ما يجري له ويتعرض إليه هو امتحان له وعليه أن يحسن في اتخاذ التصرف المناسب بإزائه وان ينتهز فرص الخير بلطف الله تبارك وتعالى.

ص: 283

خطاب المرحلة 254 :من البلاء ما تستطيع دفعه بنفسك

خطاب المرحلة 254 :من البلاء ما تستطيع دفعه بنفسك(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

كلنا أصحاب حوائج ندعو الله تبارك وتعالى قضاءها، فالبعض يعاني من مرض ويسأل الله الشفاء والعافية، وآخر حرم من الذرية ويسأل الله تعالى أن يرزقه ذرية صالحة، وآخر يمر بضيق وشدة ويدعو الله تعالى بالفرج، وآخر يعاني من فقر وصعوبات مالية ويدعو الله تعالى بالغنى وسدِّ الحاجة، ونحوها كثير مما لا يخفى عليكم.

ولكن الذي يخفى على الكثيرين أن جملة من هذه الصعوبات التي يمرّ بها الإنسان هي من صنعه وكسب يديه، فلو أراد التخلص منها فليتجنب الأسباب التي أدّت إليها.

قال تعالى: [ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ] (الروم:41) والباء هنا سببية أي بسبب ما كسبوا، وإن ما حصل لهم هو نتيجة لبعض ما جنت أيديهم، وإلا فإن استحقاقهم أكثر لكن الله تعالى يعفو بكرمه وحلمه عن كثير، قال تعالى [أَوْ

ص: 284


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع طلبة جامعة الصدر الدينية فرع السماوة، وموكب عشاّق الحسين (عليه السلام) من الناصرية الذين زاروا سماحته يوم السبت 6 رجب 1431 المصادف 19/ 6/ 2010.

يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ] (الشورى:34) أي يهلكهن –وهي السفن في البحر- بأهلهن بإرسال الرياح العاتية عليها بما كسبوا من الذنوب، ولكن الله تعالى يعفو عن الكثير وقال تعالى [وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ] (الشورى:30).والخلاصة أن كثيرً من البلاء يستطيع الإنسان دفعه قبل حصوله، وليس فقط دفعه بعد حصوله من خلال اجتناب مسبّباته، ولكن الإنسان لا يلتفت إلى هذه الحقيقة، أو لا يلتفت إلى ما تكسبه يداه من أعمال، وإذا التفت فإن الكثيرين يستصغرون ما يصدر منهم ولا يقدّرون عواقبها، بينما حذر المعصومون من الاستهانة بالذنوب (لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر لمن عصيت)، فيتساهلون فيما يصدر منهم من كلام مع أن كلمة غير مسؤولة قد تقال هنا وهناك تسبّب سفك الدماء وهتك الأعراض وإهلاك الحرث والنسل وكما يتساهلون في التجاوز على المال العام، الذي هو ملك عموم الناس الذين هم أيتام آل محمد (صلی الله علیه و آله) المقطوعون عن إمامهم فمن أكل أموالهم كان مشمولاً بالآية الشريفة [إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً] (النساء:10)، ولكي نقرب فكرة أن خطأً بسيطاً قد يؤدي إلى عواقب وخيمة، بما يحصل أحيانا من أن غفلة صغيرة من سائق السيارة أو التفاته تؤدي إلى حادث مفجع.

ولذلك تجد في الكثير من الأدعية أن الأئمة المعصومين (علیهم السلام) يعلموننا الاستغفار مما نعلم ومما لا نعلم من الذنوب، وما ظهر منها وما بطن.

وهنا نبيّن عدة ملاحظات لإيضاح الفكرة المتقدمة:

ص: 285

1- إن بعض البلاء يجريه الله تعالى على عباده الذين اصطفاهم ليرفع درجاتهم ولينالوا المقام المحمود عند الله تعالى قال تعالى [وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً] وفي أخبار مقتل الإمام الحسين (علیه السلام) إن جده رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال له: إن لك عند الله مقامات لن تنالها إلا بالشهادة فهذا نوع آخر من البلاء لا تجري فيه الفكرة السابقة.

2- إن الله تبارك وتعالى حينما يؤاخذ العباد ببعض ذنوبهم فليس ذلك انتقاماً منهم سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً وإنما يريد لهم الخير وما يصلح حالهم فقد يكون الفقر أصلح لحال شخص من الغنى لأن الغنى يبطره ويبعده عن الله تعالى ويوقعه في المعاصي، ويحرم آخر من الذرية لأنه لو رزق منها لكانت شريرة وبالاً عليه بسبب الظروف المحيطة بهم وهكذا.

نعم إن الله تعالى ينتقم من الظالمين لتعد يهم على الآخرين، ولو كانت ذنوبهم بينهم وبين الله تعالى لكان لها حساب آخر.

3- بعض الذنوب اجتماعية عامة لا تقتصر في آثارها على مرتكبيها فقط بل تشمل كل الناس حتى الصالحين قال تعالى [وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً] ومثل هذه الابتلاءات يدفع ضريبتها ناسٌ لم يكونوا السبب فيها.

فهذه العواصف الترابية التي تحصل ويقال أنها ستستمر لسنين طويلة بسبب التصحر، وهذا الجفاف في الأنهار، وهذا الارتفاع في درجات الحرارة كلها بسبب حماقات وسياسات ظالمة لبعض المتصدين لكن شرها عمّ الجميع وإن كان أكثر الناس يستحقون ذلك لأنهم هم من انتخب أولئك الحمقى الأنانيين وأجلسوهم في مواقع المسؤولية.

ص: 286

خطاب المرحلة 255 :موجبات الرحمة الإلهية

خطاب المرحلة 255 :موجبات الرحمة الإلهية(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

ورد في الدعاء الشريف (اللهم إني أسألك موجبات رحمتك) وطلب الرحمة أمر طبيعي لأنه لا نجاة ولا توفيق إلا برحمة الله تعالى، عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال (لن يدخل الجنة أحد إلا برحمة الله، قالوا: ولا أنت؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني برحمته).

فما هي موجبات الرحمة الإلهية؟ وهل تحتاج الرحمة الإلهية إلى موجبات وأسباب وقد وسعت كل شيء؟

في الحديث الشريف عن الإمام السجاد (علیه السلام) قال (لا يهلك مؤمن بين ثلاث خصال: شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وشفاعة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وسعة رحمة الله عز وجل)(2).

(وقيل له (ع) يوماً أن الحسن البصري قال: ليس العجب ممن هلك كيف هلك، وإنما العجب ممن نجا كيف نجا، فقال (علیه السلام): أنا أقول ليس العجب

ص: 287


1- كلمة سماحة الشيخ اليعقوبي في المواكب التي تجمّعت يوم الخميس 11 رجب 1431 المصادف 24/ 6/ 2010 للانطلاق من النجف الأشرف إلى كربلاء مشياً على الأقدام لإحياء ذكرى وفاة العقيلة زينب وزيارة النصف من رجب للإمام الحسين (عليه السلام).
2- بحار الأنوار: 78/ 159.

ممن نجا كيف نجا، وإنما العجب ممن هلك كيف هلك مع سعة رحمة الله)(1).وتصديق هذا في كتاب الله تعالى فإن السؤال يوم القيامة لا يكون عن الناجين كيف نجوا، وإنما [عَنِ الْمُجْرِمِينَ، مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ] (المدثر: 41-42).

وقد أشارت عدة آيات كريمة إلى سعة رحمة الله تبارك وتعالى، قال عز من قائل [وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَ-اةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ] (الأعراف156).

وقال تعالى [ربَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ] (غافر:7).

ويقرّب لنا النبي (صلی الله علیه و آله) سعة رحمة الله تعالى بقوله (إنّ لله تعالى مئة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخّر الله تعالى تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة) فتصوروا سعة رحمة الله تعالى التي كتبها على نفسه وألزم تبارك وتعالى نفسه بها، قال تعالى [قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ] (الأنعام:12) وقال تعالى [وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً

ص: 288


1- المصدر: 78/ 153. ملاحظة: أكثر الأحاديث مما لم نشر إلى مصادرها موجودة في بحار الأنوار ج77، 78، مجموعة ورّام، نهج البلاغة، غرر الحكم، الخصال، ومن كتب العامة: صحيح البخاري، صحيح مسلم، كنز العمّال.

بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] (الأنعام:54) بل إن الله تعالى إنما خلق الخلق ليرحمهم بأن يجعلهم أمة واحدة متفقة على التوحيد، قال تعالى [وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ، إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ] (هود 118- 119).ولكن - اعلموا أيها الأحبة- أن لله تبارك وتعالى رحمة عامة لكل مخلوقاته وهي التي أشير إليها في موارد كثيرة كما في أدعية رجب (يا من يعطي من سأله، يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنناً منه ورحمة) وفي دعاء آخر (ورزقك مبسوط لمن عصاك، وحلمك معترض لمن ناواك، عادتك الإحسان إلى المسيئين وسبيلك الإبقاء على المعتدين) فجميع خلقه حتى الذين يبارزونه بالمعصية والإنكار يرفلون بنعمه التي لا تعد ولا تحصى.

وهناك رحمة خاصة يمنُّ بها على عباده المؤمنين الذين عرفوه ودلّهم عليه بفضله وكرمه وهداهم إلى طاعته فراحوا يتحروّن رضاه، وهي التي أشير إليها في الحديث النبوي الشريف (اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرّضوا لنفحات الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده) وعنه (صلی الله علیه و آله) (تعرّضوا لرحمة الله بما أمركم به من طاعته) والتعرض لها يعني التعرض لأسبابها وموجباتها، كما في الدعاء (اللهم إني أسألك موجبات رحمتك).

وقد ورد في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة ذكر الكثير من هذه الموجبات للرحمة الإلهية، فنحن لا يمكن أن نعرفها ونهتدي إليها إلا أن يهدينا الله تبارك وتعالى [الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَ-ذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ].

ص: 289

وبعض هذه الأسباب لا يكون الإنسان مسؤولاً عن توفيرها وإنما جعلها الله بكرمه وفضله وليس على العاقل الكيِّس إلا استثمارها والتعرض لها كالأضرحة المقدسة للمعصومين (سلام الله عليهم) وقد حبانا الله تعالى نحن العراقيين بالعديد من أبواب الرحمة هذه، ومنها عموم المساجد، ومنها صلاة الجمعة والجماعة وحلقات العلم والمذاكرة، وعموم التجمعات الإيمانية، والأزمنة الشريفة كليلة الجمعة ويومها، ومنها هذا الشهر الشريف: شهر رجب الذي لقب في الأحاديث الشريفة بالأصّب لأن الرحمة تُصبّ فيه صبّاً.ومن أسباب الرحمة الإلهية ما يوفرها الإنسان بفضل الله تبارك وتعالى، وقد وجدت من أهل تلك الموجبات الاتصاف بالرحمة بحيث تكون محركة لأفعاله ومنبعاً لمشاعره وتبنى عليها علاقاته مع الآخرين من خلال الرحمة بهم والشفقة عليهم والرفق بهم ومداراتهم والتفاعل مع قضاياهم وحوائجهم عن أمير المؤمنين (علیه السلام): (أبلغ ما تُستّدر به الرحمة أن تضمر لجميع الناس الرحمة)، لأن الرحمة من صفات الله تبارك وتعالى، وقد وصف الله عباده الذين رضي عنهم بأنهم [رُحَمَاء بَيْنَهُمْ] (الفتح:29) [وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ] (البلد:17) [وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً] (الحديد: 27) وقال تعالى [إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ] (الأعراف: 56).

وفي الأحاديث الشريفة عن النبي (صلی الله علیه و آله): (من لا يرحم لا يُرحم) (إنما يرحم الله من عباده الرحماء) (من رحم ولو ذبيحة عصفور رحمه الله) (الراحمون يرحمهم الرحمن يوم القيامة، أرحم من في الأرض يرحمك من في السماء) (قال رجل للنبي (صلی الله علیه و آله): أحب أن يرحمني ربّي قال (صلی الله علیه و آله): ارحم

ص: 290

نفسك وارحم خلق الله يرحمك الله).والرحمة بالآخرين تبدأ من رحمة نفسه بأن يجنبّها ما يضرّها في الدنيا ككثير من الحماقات والأفعال اللاعقلائية كالتدخين وصرف الأموال الطائلة في اللهو والعبث، وما يضرّها في الآخرة كارتكاب المعاصي والعياذ بالله) وصرف العمر في التفاهات وعدم التفقه في أمور الدين والمعرفة الضرورية.

ثم تتوسع الرحمة إلى من يليه في بيته كوالديه، قال تعالى [فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً] (الإسراء 23-24).

ثم الرحمة بالزوجة والزوج بالنسبة للمرأة، قال تعالى ممتناً على عباده [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ] (الروم:21) وورد في الحديث الشريف (اتقوا الله في الضعيفين المرأة واليتيم) ثم الرحمة بالأقرباء وقد اشتق لهم اسم من الرحمة فيقال لهم الأرحام والأوامر في صلة الرحم كثيرة والنواهي عن قطعه شديدة.

ثم الرحمة بالآخرين خصوصاً إذا كانوا من ذوي الحاجة والمرضى والفقراء والمبتلين ببلاء ما، وهكذا حتى يمتلئ قلبه رحمة وشفقة على كل الموجودات، ومنبع هذه الرحمات كلها تقوى الله تبارك وتعالى وحب الله تبارك وتعالى، فالتقوى تردعه عن ظلم الآخرين والإساءة إليهم والتقصير في أداء حقوقهم وحب الله يترشح منه حب الخير لجميع الخلق حتى أعدائه بأن يسأل الله تعالى لهم الصلاح والهدى لأن الجميع عيال الله تبارك وتعالى، وخلقه فيحبهم حباً

ص: 291

لخالقهم وربّهم ومدبر شؤونهم وفي بعض الأحاديث ما مضمونه (الخلق عيال الله، فأحب خلقه إليه أنفعهم لعياله) وفي حديث آخر عن الإمام الكاظم عن مثل هذا الشخص أنه معنا في درجتنا.وكلما ازدادت ساحة مسؤولية الفرد، ازداد مقدار الرحمة الواجب توفرها، سواء كانت المسؤولية دينية - كالمرجعية الدينية ومعتمديها- أو سياسية - ككبار مسؤولي الدولة- أو اجتماعية - كزعماء العشائر أو وجهاء المجتمع- أو إدارية - كمدير الدائرة أو المدرسة- أو تعليمية- كالمدرس مع طلبته- في كتاب الخصال بسنده عن الإمام الصادق (علیه السلام) عن أبيه (ع) قال (إن الإمامة لا تصلح إلا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن المحارم، وحلم يملك به غضبه، وحسن الخلافة على من وُلّيَ حتى يكون له كالوالد الرحيم) والحديث مطلق يشمل أي إمامة ورئاسة وزعامة مما ذكرنا.

وللرحمة الإلهية موجبات أخرى، وهي كثيرة نذكر منها شيئاً مختصراً لإلفات نظركم.

منها: طاعة الله ورسوله قال تعالى [وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] (آل عمران: 132) وقال تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] (النور: 56) وقال تعالى [فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً] (النساء: 175).

ومنها: الصبر على المصائب قال تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّ-ا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ، أُولَ-ئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَ-ئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ] (البقرة: 156-157).

ص: 292

ومنها: الاستغفار قال تعالى [لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] (النمل:46).ومنها: الإصلاح بين الإخوة المتخاصمين، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ](الحجرات: 10).

ومنها: ما ورد في الأحاديث الكثيرة من قولهم (ع) رحم الله امرءاً كذا وكذا، كقول أمير المؤمنين (علیه السلام) (رحم الله امرءاً أحيا حقاً وأمات باطلاً، وأدحض الجور وأقام العدل) وقوله (رحم الله امرءاً علم أن نفسه خطاه إلى أجله فبادر عمله وقصّر أمله)

ومنها: ما عن النبي (صلی الله علیه و آله)أنه قال (سبعة يُظلهم الله عز وجل في ظله يوم لا ظلّ إلا ظلُّه: إمام عادل، وشابٌ نشأ في عبادة الله عز وجل، ورجل قلبه متعلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان كانا في طاعة الله عز وجل فاجتمعا على ذلك وتفرّقا، ورجل ذكر الله عز وجل خالياً ففاضت عيناه من خشية الله عز وجل، ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال، فقال: إني أخاف الله عز وجل، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما يتصدق بيمينه)(1) .

نسأل الله تعالى أن يتغمدنا برحمته في الدنيا والآخرة وأن يوفقنا لموجبات رحمته إنه لطيف بعباده.

ص: 293


1- الخصال للصدوق: 2/ 342

خطاب المرحلة 256 :تأبين الفقيد الكبير المرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله (قدس الله سره)

بسم الله الرحمن الرحيم

(إذا مات المؤمن الفقيه ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء) الإمام الصادق (علیه السلام).

إن انثلام الإسلام يعني غلق نافذة كانت تطل منها البشرية النكدة المتعبة على الإسلام لتقتبس من نوره ما يضيء لها درب السعادة والطمأنينة.

ويعني حصول ثغرة في حصن الإسلام والمسلمين حيث يقف العلماء العاملون عليها للدفاع عن عقائد الأمة ومبادئها وأخلاقها وحاضرها ومستقبلها.

ويعني النقص في العلوم والمعارف والبركات والألطاف التي كانت تنزل على الأمة بإفاضة العلماء الربانيين.

هذا ما حصل اليوم عندما رحل عنّا صاحب النفس المطمئنة فقيدنا الكبير سماحة المرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله (قدس الله روحه الزكية) ورجع إلى ربّه راضياً مرضياً فألحقه الله تبارك وتعالى بدرجة آبائه الصالحين.

لقد كان الفقيد الراحل مثالاً للعالم العامل بعلمه، والطبيب الدّوار بطبّه، ولسمو الذات، وعفّة السلوك، فقد تسامى عن الأمور الدنيّة وترفّع حتى عن الرد على من أساء إليه.

ص: 294

لم توقفه المحن والصعوبات والإرهاب ومحاولات التصفية الجسدية والمعنوية عن مواصلة درب الجهاد وتوعية الأمة ومسيرة الإصلاح واستمر على ذلك أكثر من خمسين عاماً، ويجد الكثير من الرساليين العاملين أنفسهم مدينين لجهاده وجهده المباركين، وتشهد بكل ذلك كتبه التي أنتجتها أنامله الشريفة في مختلف العلوم والمعارف، ومؤسساته الخيرية والثقافية في أصقاع المعمورة التي تساهم في إعلاء كلمة الله تبارك وتعالى ونشر مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) ونصرة المظلومين والمستضعفين، ومساعدة المحرومين وبهذه المناسبة نرفع أحرّ التعازي إلى مقام مولانا صاحب العصر والزمان (أرواحنا له الفداء) ولذوي الفقيد وللعلماء العاملين الذين عرفوا فضل الراحل الكبير وثمّنوا عطاءه، ولعموم المسلمين خصوصاً أتباعه ومريديه ومحبّيه.وعزاؤنا أن يسدّ هذه الثلمة الخلف الصالح من العلماء السائرين على طريق ذات الشوكة، لأنه من الصعب التعويض بمثله لأنه كان أمة وحده.

وأملنا أن تبقى المؤسسات الخيرية والعلمية والثقافية التي شادها بروحه وعمره الشريف وآزره عليها ثلة من المؤمنين الصالحين الذين هداهم الله تعالى إلى فعل الخير بإذنه، وأن تستمر بأداء دورها المبارك المعطاء.

ونقول لذوي الفقيد الراحل: لكم في مصائب أجدادكم الطاهرين سلوة وفي صبرهم الجميل أسوة، وما عند الله خير وأبقى ولنعم دار المتقين.

أنستْ رزيتكم رزايانا التي *** سلفت وهوّنت الرزايا الآتية

محمد اليعقوبي – النجف الأشرف

21/رجب/1431 الموافق 4/ 7/ 2010

ص: 295

خطاب المرحلة 257 :الألطاف الإلهية في البعثة النبوية الشريفة

خطاب المرحلة 257 :الألطاف الإلهية في البعثة النبوية الشريفة(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

من الأسماء الحسنى (اللطيف) ومنشأه أكثر من وجه:

الأول: إن اللطيف هو كل ما دقّ وصغر وشف بحيث تعجز العين عن إدراكه، والله تبارك وتعالى لطيف بهذا المعنى فهو لا تدركه الأبصار وبعُد حتى عن خطرات الظنون، وهو لطيف لعلمه بالأشياء اللطيفة فهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وفي الحديث (الله لطيف لعلمه بالشيء اللطيف).

الثاني: من اللطف وهو الرفق، والله لطيف بعباده ومخلوقاته أي رفيق بهم.

ويمكن إرجاع أحد المعنيين إلى الآخر، فالألطاف الإلهية بالعباد خفية لا يدركونها وهم يتنعمون فيها ولذا قيل (وكم لله من لطف خفي).

واللطف في المصطلح هو كل ما يقرّب من الطاعة ويبعّد عن المعصية من دون أن يصل إلى درجة الإلجاء وسلب الاختيار ولذا ورد في الرواية (لا جبر ولا تفويض، قلت: فماذا؟ قال: لطف من ربك بين ذلك).

وألطاف الله تبارك وتعالى على العبد لا تعد ولا تحصى، فوجوده لطف إذ

ص: 296


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع طلبة الجامعات الذين انتظموا في دورات سريعة خلال العطلة الصيفية لتحصيل العلوم الدينية في الحوزة العلمية في النجف يوم الأحد 28 رجب 1431 المصادف11/ 7/ 2010.

لو كان معدوماً لما استطاع أن يعمل ويتكامل، والهداية إلى الإيمان بالله ورسوله (صلی الله علیه و آله) لطف، فلو لم يهدنا الله تبارك وتعالى لما عرفنا الطريق الموصل إلى الكمال (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله)، وأعضاء البدن لطف إذ لو لم يكن له بدن لما استطاع أن يقوم بالعبادات المقرّبة لله تبارك وتعالى، والمال لطف فبدونه لا يستطيع الإتيان بالكثير من القربات كالحج والزيارة والإنفاق في سبيل الله تعالى والتوسعة على العيال إلى مالا يحصى من الألطاف المقربة من الطاعة والمعينة عليها.والأدعية والمناجاة وسائر الأذكار لطف، إذ بدونها لا نعرف ماذا نقول بين يدي الله تبارك وتعالى وما هو مقتضى آداب العبودية، بل لا نعلم هل يحق لنا أن نقف بين يديه تبارك وتعالى ونخاطبه، ونحن نرى أن إنساناً وضيعاً يتبوأ موقعاً لا قيمة له كوزير أو ملك، يوضع (أتكيت) لزيارته ومحادثته والآداب الواجب إتباعها بحضرته، بينما نخاطب رب العالمين متى شئنا وبما شئنا وبأي لغة نشاء وهو جل جلاله يقبل علينا ويسمع منا ويبادلنا من الحب والرحمة أكثر مما نعطي، لذا ورد في مناجاة الذاكرين (ومن أعظم النعم علينا جريان ذكرك على ألسنتنا، وإذنك لنا بدعائك وتنزيهك وتسبيحك).

ومن أعظم الألطاف الإلهية البعثة النبوية الشريفة التي نعيش عبق ذكراها، فقد شكلت أعظم نقلة في تاريخ البشرية لأمة كانت متهرئة متخلفة يقتل بعضها بعضاً وتتفاخر بالموبقات والجرائم كوأد البنات والزنا وشرب الخمر وهي مشتتة متفرقة أحاطت بها دول قوية تنهشها، حوت جميع المنكرات والمفاسد، فأصبحت ببركة رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمة متحضرة مدنية تقود العالم وتهدي

ص: 297

البشرية وتقدم لبني الإنسان أعظم قانون يكفل السعادة والصلاح.ولو لم يبعث النبي (صلی الله علیه و آله) وتُركت الجاهلية على حالها فإنه لا يعلم إلا الله تعالى ما صرنا إليه اليوم، إذا كان حال أولئك وهم أقرب عهداً للرسالات والديانات السماوية ولهم فرص أقل من الفساد هو ما ذكرناه فكيف إذا طال بهم الأمد إلى اليوم من تنوع أدوات الضلال والفساد والجريمة وتقنينه بالشكل الذي نعاصره.

فكل خير يصل إلينا وكل مكرمة يمكن أن توجد فينا بل كل وجودنا فنحن مدينون بفضله لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وبركات بعثته الشريفة، التي هي من الألطاف الإلهية الخاصة لهذه الأجيال، فاعرفوا حق رسول الله(صلی الله علیه و آله) وأكثروا من الصلاة عليه والدعاء له.

وهنا نشير إلى نكتة وهي أن اسم (اللطيف) يستعمل في موارد اللطف، وهذا من بلاغة القرآن الكريم حيث تنتهي الآية بما يناسب مضمونها، فإذا كان المضمون حكماً صارماً وموقفاً حازماً –كآية القطع في السرقة- فإنها تنتهي بالعزيز الحكيم، وإذا كان مورد رحمة ورفق انتهت بالرؤوف الرحيم، وعلى هذا جرت السنة الشريفة، فدققوا في الموارد التي ذكر فيها اسم (اللطيف) لتعرفوا موارد اللطف، وأوضحها في أذهانكم حديث الثقلين المشهور الذي ألزم الأمة بالتمسك بالثقلين وفيه (وقد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض).

وأي لطف أعظم على الأمة بعد البعثة النبوية الشريفة من لطف حبلي القرآن والإمامة؟

ص: 298

ونريد هنا أن نأخذ درسين من هذا الاسم المبارك (اللطيف): 1- إننا أمرنا بالتخلق بأخلاق الله تبارك وتعالى وأن نتصف بأسمائه الحسنى، ومنها هذا الاسم المبارك (اللطيف) فإن الله تعالى لطيف بعباده يقربهم من الطاعة ويبعدهم عن المعصية، قال تعالى [حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ] (الحجرات:7) وخصوصاً أنتم أتباع أهل البيت (علیهم السلام) فإنكم تحظون بألطاف خاصة دون غيركم لذا تجدون هذا الحماس والاندفاع والتضحية في سبيل الله تعالى مما لا يوجد عند غيركم وهذا يكشف عن هذه الألطاف الخاصة.

وقد مرّت علينا في الأسبوع الماضي ذكرى وفاة الإمام الكاظم (علیه السلام) ورأيتم قد زحفت الملايين رغم الحر الشديد الذي تجاوزت فيه درجة الحرارة نصف درجة الغليان - كما وصفت بعض القنوات- في الظل أما في الشمس فتتجاوز 70 درجة مئوية ورغم عمليات القتل الذي نفذها المجرمون طيلة ثلاثة أيام المناسبة، ومع ذلك لم يتوقف هذا الزحف المبارك، فهذا كله ناشئ من هذا التزيين الذي لطف به الله تبارك وتعالى.

فليكن كل منا لطيفاً بهذا المعنى أي يكون مقرباً للناس من الطاعة ويزينها لهم ويحثهم عليها، ويبعدهم عن المعصية ببيان مساوئها وأضرارها وأخطارها في الدنيا والآخرة ويوجد البدائل الصالحة عنها، وليعرف من يعمل على عكس ذلك أنه بعيد عن الله تعالى وغير متصف بأسمائه، كما نرى من بعض المتدينين صدور بعض التصرفات المنفرة عن الدين بحيث أن البعض ممن يراد هدايتهم ودعوتهم إلى الالتزام بالدين يجيب: لا حاجة لي بالدين وانظر إلى المتدينين

ص: 299

كيف يفعلون كذا وكذا.وهو مخطئ طبعاً بهذا التصور، ولكن هذه النتيجة قد حصلت على أي حال.

وقد يحصل التنفير من الطاعة بأن نحمل الناس ما لا يطيقون ولا نراعي الدرجات المتفاوتة لإيمانهم، فنثقل مثلاً على الشباب المهتدي حديثاً للإيمان بقائمة طويلة من المستحبات والمكروهات ونحاسبه على بعض تصرفاته التي يمكن غض النظر عنها فينفر منها ومن الواجبات أيضاً.

إن كلاً منكم يستطيع أن يحقق صفة (اللطيف) بحسب عنوانه وموقعه ومساحة تأثيره ولا أقل من نفسه أولاً ثم أسرته وأصدقائه وزملائه في العمل، ولعل الحوزة العلمية تتمتع بأوسع الفرص من هذه الناحية، وأنتم كذلك يا طلبة الجامعات الذين قضيتم دورة سريعة في العلوم الدينية في رحاب الحوزة العلمية في النجف الأشرف خلال العطلة الصيفية فتزودّتم بما يعينكم على هداية الناس وتقريبهم للطاعة.

2- إن اللطف واجب على الله تعالى كما يقولون في كتب العقائد. بمعنى أنه نفسه كتب على نفسه اللطف بعباده وقد ظهر هذا - فيما ظهر- في بعث الأنبياء وإرسال الرسل وإنزال الكتب، ثم واصلها بنصب الأئمة الطاهرين (سلام الله عليهم).

ولا ينقطع اللطف بانقطاع الوجود الظاهري للائمة (ع) لأن أسماء الله الحسنى ثابتة له تبارك وتعالى، فاللطف يقتضي وجود امتداد لهذه السلسلة المباركة من الأنبياء والأئمة متمثلاً بالعلماء السائرين على نهجهم والمقتفين لآثارهم ولا تخلوا الأرض منهم، ومرور أربعة عشر قرناً حافلة بالأساطين منهم

ص: 300

شاهد على ذلك وسيبقى حتى ظهور القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وحينئذٍ فمن يقول: أننا لا نحتاج إلى المرجعية، أو أنه لا توجد مرجعية نقلدها، أو أن لدينا فقه يكفينا لكذا من السنين فلا نحتاج للرجوع إلى احد، فمثل هذا بعيد عن الصواب ولو حللنا كلامه فإنه ينكر هذا الاسم من الأسماء الحسنى والعياذ بالله.

ص: 301

خطاب المرحلة 258 :مائدة شعبان

خطاب المرحلة 258 :مائدة شعبان(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

ورد في الرواية عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قوله: (هذا يوم غرّة شعبان الكريم سمّاهُ ربّنا شعبان لتشعّب الخيرات فيه، قد فتح ربّكم فيه أبواب جنانه وعرض عليكم قصورها وخيراتها بأرخص الأثمان وأسهل الأمور)(2)، وفي نفس الرواية قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأصحابه: (فقولوا الحمدُ لله ربّ العالمين على ما فضّلكم به من شهر شعبان) .

إذن سُمّيَ هذا الشهر (شعبان) لتشعب الخيرات فيه من لدن الله تبارك وتعالى ويصفه الإمام السجاد (علیه السلام) في صلواته الشعبانية بقوله (وهذا شهر نبيك سيد رسلك شعبان الذي حففته منك بالرحمة والرضوان الذي كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يدأب في صيامه وقيامه في لياليه وأيامه بُخوعاً لك في إكرامه وإعظامه إلى محل حِمامِه).

ص: 302


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي(دام ظله) مع وفد شبابي من ناحية الفهود في محافظة الناصرية ضم مؤسسة العلم نور الطلابية ومؤسسة الرحمة الإنسانية وموكب الإمام الصادق(عليه السلام)، يوم الاربعاء 1/شعبان/1431 المصادف 14/ 7/ 2010، وقد أعاد سماحته تسجيله لقناة النعيم الفضائية في شعبان 1434 الموافق حزيران 2013.
2- بحار الأنوار: 97/ 55 عن تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) وورد هذا المعنى في رواية أوردها الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا (عليه السلام): 2/ 71.

وتشعب الخيرات يمكن ان يكون له أكثر من معنى.الأول: إيجاد أسباب للخير خاصة بهذا الشهر الشريف وهو صحيح ويكفيه شرفا أن فيه ليلة تضاهي ليلة القدر و هي النصف منه، في أمالي الشيخ الطوسي عن الصادق (علیه السلام) قال: (سُئل الباقر (علیه السلام) عن فضل ليلة النصف من شعبان فقال: هي أفضل ليلة بعد ليلة القدر، فيها يمنح الله تعالى العباد فضله ويغفر لهم بمنّه، فاجتهدوا في القربة إلى الله تعالى فيها فإنّها ليلة آلى الله تعالى على نفسه أن لا يردّ سائلاً له ما لم يسأل معصيةً، وإنّها التي جعلها الله لنا أهل البيت بأزاء ما جعل ليلة القدر لنبينا، فاجتهدوا في الدعاء والثناء على الله تعالى فإنه من سبّح الله تعالى فيها مائة مرة وحمده مئة مرة وكبّره مئة مرة غفر الله تعالى ما سلف من معاصيه وقضى له حوائج الدنيا والآخرة)(1).

مع تضمن هذا الشهر المبارك لمناسبات جليلة تتجدد فيها أفراح النبي (صلی الله علیه و آله) وعترته ومواليه بمواليد الأئمة الأطهار الإمام الحسين (علیه السلام) والإمام السجاد (علیه السلام) ومنقذ البشرية الإمام المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، وهذه المناسبات تكون سبباً لإفاضة الخيرات.

وفيه أيضا أعمال مخصوصة من أدعية ومناجات وزيارات ،فهذه كلها أسباب لتشعب الخيرات خاصة بهذا الشهر وفي الرواية السابقة عن امير المؤمنين (علیه السلام) قال: (وإنّ الله عزَّ وجلَّ يبث ملائكته في أقطار الأَرْض وآفاقها يقول لهم: سدّدوا عبادي وأرشدوهم وكلّهم يسعد بكم إلاّ من أبى وطغى فإنه يصير في حزب إبليس وجنوده).

ص: 303


1- سفينة البحار: 4/ 439.

ومن موارد تلك العطايا الخاصة ما ورد في كامل الزيارة في فضل زيارة الإمام الحسين (علیه السلام) ليلة النصف من شعبان عن علي بن الحسين وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قالا: (من أحبّ أن يصافحه مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي فليزر قبر أبي عبد الله الحسين بن علي (علیه السلام) في النصف من شعبان فإنّ ارواح النبيين يستأذنون الله تعالى في زيارته فيُؤذن لهم منهم خمسة أولوا العزم)(1).الثاني: أن الإنسان يوفق فيه إلى الطاعات أزيد مما يوفق إليها في غيره من الشهور وفي نفس الرواية عن أمير المؤمنين (علیه السلام) يشرح معنى تشعّب الخيرات فيه، قال (علیه السلام):(وشعب خيراته الصلاة والصوم والزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبرّ الوالدين والقرابات والجيران وإصلاح ذات البين والصدقة على الفقراء والمساكين) فالصلاة و الصوم و الصدقة والبر بالوالدين وصلة الرحم وقضاء حوائج المؤمنين و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها كثير كلها طاعات ومستحبة في جميع الأزمنة لكن اندفاع الإنسان للقيام بها يكون في هذا الشهر أزيد بما لا يقاس به غيره، مما يعني ان هذا الشهر كان سبباً للتعرض لتلك الخيرات الموجودة أصلاً.

الثالث: إن الأجر الذي يعطى للعاملين في هذا الشهر يكون أزيد مما يعطي لهم في غيره من الشهور على نفس الأعمال ، فالصوم حسن في كل زمان إلا انه في شعبان أحسن، والصلاة حسنة في كل زمان إلا أنها في شعبان أحسن، ففي رواية عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال (وإنّما سُمّيَ شعبان لأنّه يتشعّب فيه أرزاق

ص: 304


1- سفينة البحار: 4/ 439.

المؤمنين وهو شهرٌ العمل فيه مضاعف، الحسنة بسبعين والحسنة مقبولة والجبّار جلّ جلاله يباهي فيه بعباده وينظر صوّامه وقوّامه فيباهي بهم حملة العرش(1) .وفي عيون أخبار الرضا (علیه السلام) عنه (علیه السلام): (من استغفر الله تعالى في شعبان سبعين مرّة غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل عدد النجوم، وروي: إنّ من استغفر في شعبان كلّ يوم سبعين مرة كان كمن استغفر في غيره من الشهور سبعين ألف مرّة، قيل: فكيف أقول؟ قال: قُل أستغفر وأسأله التوبة)(2) وهكذا كل الأعمال الصالحة الأخرى وتفاوت الدرجات يوم القيام إنما يكون بحسب حسن العمل قال تعالى (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (الملك /2).

الرابع: إنّ خيرات وبركات شهر الله الأكبر شهر رمضان تتفرّع وتتشعّب من هذا الشهر الشريف لأنّ الأعمال التي قرّرت في شعبان تُؤهل لضيافة الله تعالى في شهر رمضان، وكلّما كان الإستعداد أفضل في شهر شعبان كان فوزه أكمل في شهر رمضان، لذا قُرن بين الشهرين في روايات المعصومين (علیهم السلام) ففي ثواب الأعمال عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال (صومُ شعبان وشهر رمضان واللهِ توبة من الله) وروى علي (علیه السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله في شهري شعبان ورمضان (هما شهرا الله هما كفّارة ما قبلهما وما بعدهما)(3).

وهذه المعاني كلها متحققة في شعبان ، فالإنسان الساعي نحو الكمال يعمل

ص: 305


1- بحار الأنوار: 97/ 69.
2- سفينة البحار: 4/ 440.
3- بحار الأنوار: 97/ 80

لتحصيلها جميعا ، ومن أتى بأي شعبة من شعب الخير هذه يكون قد تعلق بغصن من أغصان شجرة طوبى كما ورد في الرواية الشريفة عن أمير المؤمنين (علیه السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: وانّ الله عز وجل اذا كان اوّل يوم من شعبان يأمر باب الجنّة فتفتح، ويأمر شجرة طوبى فتدني أغصانها من هذه الدّنيا، فتعلّقوا بها لترفعكم إلى الجنّة، وهذه أغصان شجرة الزّقوم فإيّاكم وايّاها لا تؤديكم إلى الجحيم.قال : فو الذي بعثني بالحقّ نبيّاً انّ من تعاطى باباً من الخير في هذا اليوم فقد تعلّق بغصن من أغصان شجرة طوبى فهو مؤدّيه إلى الجنّة، وانّ من تعاطى باباً من الشرّ في هذا اليوم فقد تعلّق بغصن من أغصان شجرة الزّقّوم ، فهو مؤديّه إلى النّار ، ثمّ قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): فمن تطوّع لله بصلاة في هذا اليوم فقد تعلّق منه بغصن، ومن صام في هذا اليوم تعلّق منه بغصن، ومن أصلح بين المرء وزوجه، والوالد وولده، والقريب وقريبه، والجار وجاره، والأجنبيّ والأجنبيّ، فقد تعلّق بغصن منه، ومن خفّف عن معسر من دَينه، أو حطّ عنه فقد تعلّق منه بغصن، ومن نظر في حسابه فرأى دَيناً عتيقاً قد أيس منه صاحبه فأدّاه فقد تعلّق منه بغصن، ومن كفل يتيماً فقد تعلّق منه بغصن، ومن كفّ سفيهاً عن عِرض مؤمن فقد تعلّق منه بغصن، ومن تلا القُرآن أو شيئاً منه فقد تعلّق منه بغصن، ومن قعد يذكر الله ونعماءه ليشكره فقد تعلّق منه بغصن، ومن عاد مريضاً فقد تعلّق منه بغصن، ومن برّ فيه والديه أو أحدهما في هذا اليوم فقد تعلّق منه بغصن، ومن كان أسخطهما قبل هذا اليوم فأرضاهما في هذا اليوم فقد تعلّق منه بغُصن، وكذلك من فعل شيئاً من سائر أبواب الخير في هذا اليوم فقد تعلّق منه

ص: 306

بغصن، ثمّ قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) (والذي بعثني بالحقّ نبياً وإن من تعاطى باباً من الشر والعصيان في هذا اليوم فقد تعلق بغصن من أغصان شجرة الزقّوم فهو مؤديه إلى النار) ثمّ ذكر (صلی الله علیه و آله) أمثلة لذلك من ضيّع فريضته كالصلاة والصوم أو فرّق بين اثنين أو شدّد على معسر في أداء الدين، أو قصر في قضاء حوائج الناس ومساعدة فقرائهم من غير عذر وهو قادر على ذلك، إلى أن قال (صلی الله علیه و آله) (ومن قعد يعدد قبائح أفعاله في الحروب وأنواع ظلمه لعباد الله فيفتخر بها فقد تعلق بغصن منه ، ومن كان جاره مريضا فترك عيادته استخفافا بحقه فقد تعلق بغصن منه ، ومن مات جاره فترك تشييع جنازته تهاونا به فقد تعلق بغصن منه ، ومن أعرض عن مصاب وجفاه إزراء عليه واستصغارا له فقد تعلق بغصن منه ، ومن عق والديه أو أحدهما فقد تعلق بغصن منه ومن كان قبل ذلك عاقا لهما فلم يرضهما في هذا اليوم ، وهو يقدر على ذلك فقد تعلق بغصن منه ، وكذا من فعل شيئا من سائر أبواب الشر فقد تعلق بغصن منه (1).وفي ضوء هذا لا نستطيع تقديم طاعة على طاعة فكلّها لها أجرها وثوابها، وإن كان الصوم هو الأبرز كالصلاة والدعاء والاستغفار ووردت في ذلك روايات كثيرة فعن صفوان الجمّال قال (قال لي أبو عبد الله (علیه السلام) حثّ في ناحيتك على صوم شعبان)، وفي كتاب ثواب الأعمال بسنده عن إسماعيل بن عبد الخالق قال (جرى ذكر شعبان عند أبي عبد الله (علیه السلام) وصومه قال: فقال: إنّ فيه من الفضل كذا وكذا وفيه كذا وكذا حتّى إنّ الرجل ليدخل في الدم

ص: 307


1- بحار الأنوار: 97/ 61-62.

الحرام فيصوم شعبان فينفعه ذلك ويغفر له)(1).فهذه هي مائدة شعبان التي أعدّها الله تبارك وتعالى ولو نظرت حولك وفي داخلك لوجدت ما لا يعد ولا يُحصى من الخيرات وسبل الطاعة الموصلة إلى رضا الله تبارك وتعالى بعكس ما يصوّر البعض من امتلاء الدنيا والناس بالفساد والمعصية، وهذا صحيح لكنك انظر إلى العالم الأول لا الثاني. كمن ينظر من خلال عدسة بيضاء شفافة فانه يرى الدنيا منيرة مشرقة، وآخر ينظر إليها من خلال عدسة سوداء قاتمة فيراها مظلمة، بل يستطيع الإنسان أن يجعل من نفس دنيا الفساد والمعصية والانحراف ساحة للطاعة من خلال ممارسة الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والهداية إلى الحق وغلق منافذ الفساد وأدواته.

إن نفس وجود هذا العدد من الشباب الرساليين العاملين في ناحية من نواحي محافظة الناصرية لهو دليل على سعة مساحة الخير وأهله، في حين مرّ على الأئمة (سلام الله عليهم) وأصحابهم دور لم يستطيعوا فيه كسب واحد إلى ولاية أهل البيت (علیهم السلام) كما يظهر من بعض الروايات.

فعلى الإنسان العاقل أن يغتنم وجود هذه الشعب من الخيرات والأغصان المتدلية من شجرة طوبى ليجتني من ثمارها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا يزهد في شيء منها فانه لا يعلم أيها أكثر سبباً للقرب من الله تبارك وتعالى.

فهذه هي مائدة شعبان التي أعدها الله تبارك وتعالى لعباده في هذا الشهر الشريف فأين منها المائدة التي طلبها الحواريون من النبي الكريم عيسى روح

ص: 308


1- بحار الأنوار: 97/ 74 ح22 عن ثواب الأعمال: 88.

الله (علیه السلام) (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِين، قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (المائدة: 112-114)فقارنوا بين الموقفين وبين المائدتين، تلك مائدة طلبها الحواريون اختباراً لصدق نبيهم ومائدة شعبان انزلها الله اختياراً، وتلك مائدة مادية تنفد ولا تبقى ومائدتكم معنوية باقية خالدة، وهذا كله تشريف من الله تعالى لنبينا محمد (صلی الله علیه و آله) وتكريم وتبيان لشرفه وفضله، ولذلك كان من الطبيعي أن يكون من أعظم المستحبات في هذا الشهر الإكثار من الصلوات على النبي وآله (صلى الله عليهم أجمعين) ووردت في ذلك صلوات شعبانية عن الإمام السجاد (علیه السلام) وهي التي أولها (اللهم صل على محمد وآل محمد شجرة النبوة...) إلى آخر الدعاء لأنه الواسطة في هذا الفيض الإلهي المبارك.

ودع عنك إشكال بعض المهرّجين في الفضائيات على الشيعة بأنهم يتوسلون إلى الله تعالى بالنبي وآله (صلوات الله وسلامه عليهم) والله لا يحتاج إلى واسطة ولماذا لا يسألون –أي الشيعة- الله تبارك وتعالى مباشرة؟ ونحوها من الإشكالات التي لا قيمة لها لأنهم لو رجعوا إلى مصادرهم فضلاً عن مصادرنا لوجدوا مشروعية هذا التوسل بل استحبابه فإن الله تعالى يحبُّ أن يسأل ويحبّ أن يتوسّل إليه بمن اصطفاهم من عباده ليفيض من خلالهم على عباده بالعطاء لا لأنه يحتاج إلى واسطة فهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي

ص: 309

الصدور ولكن ليظهر شرف وفضل وكرامة هؤلاء المصطفين الأخيار الأطهار.ولنسأل هؤلاء المهرّجين: أليس الله بقادر على أن ينزل شرائعه وأحكامه إلى صدور عباده وقلوبهم وعقولهم بأي وسيلة من دون حاجة إلى توسيط الأنبياء والرسل (ع) فلماذا يتخذ هؤلاء الوسائط؟

فكما أن الحكمة الإلهية اقتضت توسيط الأنبياء في الفيض التشريعي كذلك فإنها اقتضت التوسيط في الفيض التكويني بلا فرق بينهما، لو كان يعقل هؤلاء المتحجرون.

وهنا نشير إلى وجه من معاني الحديث الوارد بأن شهر رجب شهر أمير المؤمنين (علیه السلام) وشهر شعبان شهر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وشهر رمضان شهر الله تبارك وتعالى، أي أن جملة من الخيرات والألطاف الإلهية التي يفيضها الله تعالى على عباده في رجب هي من بركات الإمامة، وجملة منها في شعبان هي من بركات النبوة الخاتمة، أما شهر رمضان ففيه ألطاف إلهية أوسع من ذلك كله.

ولذلك ورد عن الصادق (علیه السلام) (إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان إذا رأى هلال شعبان أمر منادياً ينادي في المدينة: يا أهل يثرب: إني رسول رسول الله (صلی الله علیه و آله) إليكم، ألا أن شعبان شهري، فرحم الله من أعانني على شهري)(1).

وإعانته (صلی الله علیه و آله) تكون بإتباعه والسير على هداه ليتعرضوا بذلك لتلك النفحات الإلهية الخاصة التي تفاض بسبب رسول الله (صلی الله علیه و آله) فينالها من تعرض لها ويزداد بذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله) سروراً ورفعة لأنه السبب فيها ولا تتحقق

ص: 310


1- راجع مفاتيح الجنان- أعمال شهر شعبان ورواها عن الشيخ الطوسي (قدس الله سره).

هذه الإعانة الا بإعانة الله تعالى وتوفيقه، والتزاماً بذلك فقد روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قوله (ما فاتني صوم شعبان مذ سمعت منادي رسول الله (صلی الله علیه و آله) ينادي في شعبان فلم يفوتني أيام حياتي صوم شعبان إن شاء الله) مع ملاحظة قابلية كل إنسان الجسمية والنفسية، فلا يضر بصحته ولا يسبّب ثقلاً على نفسه تجعله يكره الطاعة، والمهم أن يتحقّق معنى إعانة رسول الله (صلی الله علیه و آله) على شهره ولو بصوم الأيام المخصوصة (الأول والثالث والأيام البيض وآخر ثلاثة أيام).وإنّ إعانة رسول الله على شهره لا تختص بالصوم فقط، قال الإمام السجاد (علیه السلام) في الصلوات الشعبانية (اللهم فأعنّا على الاستنان بسنته (صلی الله علیه و آله) فيه ونيل الشفاعة لديه، اللهم وأجعله لي شفيعاً مشفّعاً وطريقاً إليك مهيعا – أي واسعاً بيّنا- واجعلني له متبعا) إلى آخر الدعاء، فلا تُنال تلك البركات المحمدية إلا بإتباعه والأخذ بسنته بتوفيق الله تبارك وتعالى.

وقد بيّن الدعاء جملة من تلك السنن والأسباب إلى الخير ومنها قوله (علیه السلام) (وارزقني مواساة من قتّرت عليه من رزقك بما وسّعت عليّ من فضلك) والفضل مطلق لا يختص بالمال فقد يكون للبعض فضل من جاه أو فضل من قوة بدنية أو فضل من موقع متنفذ أو فضل من علم ومعرفة أو فضل من أخلاق أو غيرها مما وسّع الله تعالى بها على عباده فليواسي بها الآخرين المحرومين من ذلك الفضل، فمن كان له فضل من مال فليوسّع على الفقراء المحتاجين، ومن كان له فضل من علم فليبذله لمن يجهلونه، ومن كان عنده فضل من أخلاق فليسع الآخرين بأخلاقه ويأخذ بأيديهم لإصلاح ما بهم، ومن كان له فضل من قوة

ص: 311

فليُعنِ الآخرين وهكذا.وأنتم بفضل الله تبارك وتعالى من السائرين على هذا الطريق المبارك فمنكم من انضمّ إلى مؤسسة قرآنية لنشر هذه المعارف الجليلة، ومنكم من انضم إلى مؤسسة إنسانية لمساعدة المحتاجين والمحرومين، وبعضكم انضمّ إلى مؤسسة علمية ثقافية لتوعية المجتمع وتثقيفه، وهذه كلها من شعب الخير والاستنان بسنة رسول الله (صلی الله علیه و آله) فطوبى لكم.

ويعلّم الإمام الرضا (علیه السلام) شيعته أن تزداد همّتهم للطاعة في الأيام الأخيرة من شعبان ليتداركوا ما فات من الشهر وليحظوا بضيافة الله تبارك وتعالى في شهر رمضان على أحسن وجه، في عيون أخبار الرضا (علیه السلام) روى أبو الصلت الهروي خادم الإمام (علیه السلام) قال: دخلتُ دخلت على أبي الحسن علي بن موسى الرضا ع في آخر جمعةٍ من شعبان فقال لي: يا أبا الصلت إنَّ شعبان قد مضى أكثره، وهذا آخر جمعة منه فتدارك فيما بقي منه تقصيرك فيما مضى منه، وعليك بالإقبالِ على ما يعنيك وترك ما لا يعنيك، وأكثر من الدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن، وتب إلى الله من ذنوبك ليقبل شهر الله عليك وأنت مخلصٌ لله عزَّ وجلَّ، ولا تدعن أمانة في عنقك إلَّا أدَّيتها، ولا في قلبك حقداً على مؤمن إلَّا نزعته، ولا ذنباً أنت ترتكبه إلَّا أقلعت عنه، واتّق الله وتوكَّل عليه في سرائرك وعلانيَّتك ? وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ، وأكثر من أن تقول فيما بقي

ص: 312

من هذا الشهر: " اللهمََّّ إن لم تكن غفرت لنا فيما مضى من شعبان فاغفر لنا فيما بقي منه، " فإنَّ الله تبارك وتعالى يعتق في هذا الشهر رقاباً من النَّار لحرمة شهر رمضان)(1).

ص: 313


1- بحار الأنوار: 97/ 73.

خطاب المرحلة 259 :تأبين شهداء ناحية أبي صيدا في محافظة ديالى

بسم الله الرحمن الرحيم

قُدِرَ للمؤمنين الموالين لأهل بيت النبوة في محافظة ديالى أن يكونوا رأس الحربة في مواجهة الإرهاب و التكفير و حرب الإبادة التي شنّها أحفاد الخوارج وبني أمية وناصبي العداء لأهل البيت (علیهم السلام) على كل من تمسك بالعروة الوثقى ووفى لرسول الله (صل الله عليه وآله وسلم) بمودته في قرباه.

وقد تحمل هؤلاء الشرفاء ما تحملوا من التضحيات بالنفس والمال و الولد و الأهل وسائر ما يملكون، حتى اللقمة التي يتقوتون بها ، ولم يتخلوا عن واجبهم الذي اختارهم الله تعالى له فصانوا حرمة العقيدة ووطّدوا أركانها وردّوا كيد الباغين والمارقين.

وكان تفجير أمس في ناحية أبي صيدا نموذجاً للسم الزعاف الذي تقذفه القلوب السوداء القاسية فهي كالحجارة أو أشد قسوة ، والذي أودى بحياة العشرات من الأبرياء وإصابة عشرات آخرين.

لقد كان ضمن الشهداء بعض العاملين الرساليين الذي ثبتوا أيام المحنة وواصلوا الليل والنهار في حفظ ثغور أهل الحق ولم يصبهم الوهن و الكسل ولم يدخروا جهدا في الدفاع عن الحق وأهله المستضعفين المحرومين ،وكأنهم كانوا على سباق مع الزمن ويريدون أن يثقلوا موازينهم بكل ما يسعه العمر من

ص: 314

الأعمال الصالحة ، لان الموت كان يحفّهم من كل جانب فكانوا يسابقونه لاغتنام فرص الخير و الطاعة في كل ساحات العمل من بناء المساجد و الحسينيات وإقامة الشعائر الدينية و كفالة الأرامل و الأيتام ومساعدة المحتاجين والمتضررين، ونشر الوعي و الثقافة وأحكام الدين ، وبناء شخصية المسلم الواقعي كما يريده أهل البيت (علیهم السلام)، هذا كله بيد وحملوا باليد الأخرى السلاح ليدافعوا عن أنفسهم و أعراضهم ومبادئهم ضد الاجتياح الهمجي للإرهاب، حتى كسروا شوكته وردّوه على الأعقاب.وفي نصرة واضحة من الاحتلال للإرهاب، قام الغزاة باعتقال هؤلاء الشرفاء وتغييبهم بالسجون مدة طويلة حتى منّ الله عليهم بالفرج، فخرجوا أكثر تمسكاً بمبادئهم وتماسكاَ في نصرة الحق و المستضعفين، وبقي الإرهابيون المجرمون يتربصون بهم حتى غدروا بهم وهم يستعدون لإقامة احتفال مهيب في ذكرى منقذ البشرية من الأوغاد و الظلمة و المستكبرين والمجرمين.

فالإمام المهدي (أرواحنا له الفدى) هو المعزّى الأول باستشهاد مثل هؤلاء الجنود الأبطال الممهدين لدولته المباركة فقد اقرّوا عينه الشريفة بجهادهم وجهودهم، ونقسم عليه بالله تبارك وتعالى وبأجداده الطاهرين أن يتلقّاهم بعين الرضا وان يضمّهم في كنفه ويحميهم من كل هول وينقلهم إلى روح وريحان وجنة نعيم.

إن الشهداء [أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ] (آل عمران

ص: 315

170- 171).وفي الرواية إن والد الصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري لمّا استشهد في معركة اُحد بين يدي رسول الله (صل الله عليه وآله وسلم) ولاقى ربه قيل له اطلب ما شئت، قال أطلب أن أعود إلى الدنيا لأقتل من جديد؛ لِما رأى من الكرامة التي أعدها الله تعالى بفضله للمستشهدين في سبيله.

فطوبى لهؤلاء النبلاء الذين لم يكفهم أن قدمّوا كل شيء في حياتهم حتى قدمّوا حياتهم نفسها فخرج أحدهم من هذه الدنيا خفيفاً بل معدماَ من حطامها، بل قد أثقلته الديون ، لكن ميزانه ثقيل بالأعمال الصالحة.

نسأل الله تعالى أن يُنزل السكينة والطمأنينة والصبر على قلوب والديهم، وان يقّر أعينهم بهذه القرابين العزيزة، وان يجعل من هؤلاء الشهداء نبراساً للعاملين الرساليين ومصابيح هدى تضيء الدرب للأمة وتدلهم على الصراط المستقيم في هذا الزمن الصعب الذي كثرت فيه دروب الضلال وأساليب الفساد و الخداع.

وإنا لله وإنا إليه راجعون.

محمد اليعقوبي – النجف الأشرف

9 شعبان 1431 - 22/ 7/ 2010

ص: 316

خطاب المرحلة 260 :تقييم الدراسات الاجتماعية عن الشخصية العراقية

خطاب المرحلة 260 :تقييم الدراسات الاجتماعية عن الشخصية العراقية(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

صدر الكثير من الكتب والدراسات منذ عقود من الزمن وإلى الآن عن طبيعة المجتمع العراقي والشخصية العراقية وتحليلها وتشخيص العناصر المؤثرة فيها، وقد وصلتني مؤخراً خلاصة محاضرة ألقاها عالم اجتماع عراقي مغترب في ندوة أقيمت في لندن بعنوان (التحولات البنيوية وتأثيرها على الشخصية العراقية).

وأول ملاحظة تسجل على مثل هذه الدراسات وجود نقاط ضعف كثيرة منها:

1- إنها مبنية على الاستقراء وهو ليس تاماً وقد يهمل الباحث في دراسته شرائح بأكملها فلا تكون النتائج دقيقة أي لا يمكن تعميمها وإنما هي تصح على شريحة معينة.

2- إن تحليلاتها ونتائجها تتأثر بنفسية الباحث وتوجّهاته حتى لو حاول أن يكون موضوعياً، فإذا كان الكاتب علمانياً - كما هو الغالب - اتهم الظاهرة الدينية وألقى اللوم على المؤسسة الدينية، وإن كان فئة عانت الإقصاء من

ص: 317


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من المواكب وبعض المؤسسات المتوجهة إلى كربلاء لإحياء ليلة النصف من شعبان، يوم الأحد 12 شعبان 1431 المصادف 25/ 7/ 2010.

الحكم، حمّل السلطات المسؤولية، وقد يعيش عقداً باتجاه ما فتؤثر على كتابته.3- إن بعض هذه الدراسات مدفوعة الثمن من قبل جهات معينة فيضطر الباحث إلى مناغمتها والانسجام معها ويصوغ البحث بشكل يدفع إلى اعتناق الأفكار والتصورات التي تريدها تلك الجهات.

4- إنها لا تنطلق من الواقع أحياناً، وإنما يجلس صاحبها في مكتبته او مؤسسته وينظّر ويطبق ما يشبه المعادلات الرياضية، فيقول: إن الشعب العراقي ما دام قد عانى من بطش وقسوة وديكتاتورية فإنه سيكون عنيفاً صِدامياً إقصائياً خائفاً كئيباً جنائزياً ونحوها، وقد كذَّب الشعب العراقي هذه المخادعة من خلال حسن ادارته لزيارة الاربعين المليونية بعد الاحتلال بأسبوع وكان التنظيم وتقديم الخدمات رائعا مع عدم وجود دولة ولم يحصل حتى حادث مروري واحد وهذه ظاهرة اعجازية وفق القوانين التي يذكرونها فالظروف المعاشة ليست هي الوحيدة التي تصنع شخصية الإنسان وتؤثر فيه، فهناك العقيدة والقيم والأخلاق والمبادئ الإنسانية النبيلة وغيرها، فقد ولد رسول الله(صلی الله علیه و آله) وعاش في مجتمع جاهلي حوى المنكرات جميعاً ثم كان أفضل المخلوقات وأكملها، وهناك الكثير من الصالحين الذين نشأوا في مجتمعات فاسدة.

ورغم نقاط الضعف المذكورة فإن هذه الدراسات مفيدة خصوصاً إذا صدرت من باحثين متخصصين محنكين لأنها تساعد في إلفات النظر إلى ظواهر إيجابية بناءة عديدة ينبغي تدعيمها وترسيخها، وظواهر سلبية هدامة يجب مكافحتها والقضاء عليها.

إن كثيراً من الخصائص التي تنسب إلى الشخصية العراقية لا تختص بها بل

ص: 318

يتصف بها كل شعب يتعرض لما يتعرض له الشعب العراقي، مثلاً ظاهرة العنف أو ما يسمى بالحواسم والفرهود أو الفتنة الطائفية ونحوها، موجودة في المجتمعات التي يعدونها راقية، فقد استمرت الحروب الطائفية بين الكاثوليك والبروتستانت في أوربا منذ قرون إلى الآن، وتوجد أحياء في العاصمة الأمريكية واقعة تحت سيطرة العصابات والجماعات المسلحة ولا تستطيع قوات الشرطة الدخول إليها، فضلاً عن بسط الأمن فيها، وفضائح الفساد المالي والإثراء من المال العام في الغرب عموماً لا تكاد تنقطع وتجاوزت المليارات وأدّت إلى إفلاس مؤسسات ضخمة، ونفوذ المافيات في عدة دول من الواضحات وكذا تجارة المخدرات وغيرها. هذا غير ما سبّبوه من إزهاق ملايين الأرواح وتدمير الممتلكات في عمليات الغزو والاحتلال والإبادة التي عمّت بني البشر.وعلى العكس من ذلك فإن قيماً نبيلة ومبادئ سامية تتجسد في الشخصية العراقية كانت سداً منيعاً حال دون حصول المزيد من الانهيار والتردي الذي خطّط لحصوله في ظل الظروف التي أقحم فيها الشعب العراقي.

نعم توجد خصوصيات في الشخصية العراقية إيجابية أو سلبية، بعضها على نحو العلل والأسباب، وبعضها على نحو المعلولات والآثار والنتائج.

ومنها: على المستوى الأول، شدة الصراع والتناقض الذي يعيشه بداخله بين داعي الدين والإيمان والمبادئ التي آمن بها وتوارثها وتربى عليها وهي التي تدفعه بقوة إلى السمو والكمال، وداعي النفس التي تريد الاستئثار والانتقام والتسلط وحب الشهوات مثلاً يتسامح المجتمع في ما يعرض على الشاشة

ص: 319

والمواقع من مثيرات جنسية دون رقيب ثم يعاقب بقسوة اذا حصلت علاقة بين رجل وامرأة ولو على مستوى المودة وتقتل المرأة غسلاً للعار.بينما أكثر الأمم الأخرى لا يوجد لديها الوازع الأول فتنساق تلقائياً وراء الثاني ولا تجد مشكلة في ذلك.

ومنها: على المستوى الثاني، إن مصدر ما حل بالعراقيين من جهل وفقر وقتل ودمار وكوارث هي قياداته فقد ابتلوا عبر التاريخ بزعامات فاسدة متخلفة ظالمة حمقى سواء على صعيد الزعامات الاجتماعية - كرؤساء العشائر عدا من عصم الله تعالى - أو سياسية فقد سوّدت السلطات وجه التاريخ الماضي والحاضر بأفعالها الشنيعة، وحتى الدينية فإن الكثير من الزعامات الدينية تطلب الدنيا باسم الدين المقدس وهي لا تتورع عن ارتكاب الكبائر لتحقيق مآربها والعياذ بالله.

والغريب هو انصياع الأغلب لتلك الزعامات والانسياق ورائها من دون عذر أو مبرر، بل حتى لو أعطوا حق الاختيار فإنهم يختارون نفس الظالمين والمقصرين والفاسدين، ونتائج الانتخابات –في عصر الديمقراطية المزعوم- شاهدة على ذلك، هذا على صعيد السياسة، أما على صعيد الزعامة الدينية فالأمر كذلك إذ أن اختيار مرجع التقليد بأيديهم، ومع ذلك يختار الأكثر أتباع اصناع مصطنعة لا تعبأ بهم ولا تنظر إليهم ولا تفقه شيئا من شؤونهم وهمومهم{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف : 5] ويصنعون لهم قداسة مزيفة ثم يصدقونها ويتمسكون بها ويتركون المرجعيات الرسالية المخلصة لله تعالى ولهم حتى

ص: 320

تمضي إلى ربها شاهدة شهيدة. وعلى أي حال فإنني أدعو العلماء والمفكرين والمثقفين والكتاب إلى تفعيل الدراسات الاجتماعية والنظر فيها بعمق والاستفادة منها لنرقى بمستوى أمتنا حتى تكون مستعدة لاحتضان دولة الإمام الموعود (علیه السلام) وقيادته المباركة التي تنطلق من هذه الأرض المعطاء.

ويجب أن تكون هذه الدراسات صريحة وشفافة ومخلصة لنتمكن من التأسيس عليها وسنجد حينئذٍ أن كثيراً من المظاهر التي تعد إيجابية هي سلبية وبالعكس [وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ] (البقرة:216).

ص: 321

خطاب المرحلة 261 :ليلة القدر خير من ألف شهر

خطاب المرحلة 261 :ليلة القدر خير من ألف شهر(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تبارك وتعالى [لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ] (القدر:3) والمشهور في فهمها أن العمل فيها يتضاعف برحمة الله تعالى وفضله ليكون خيراً من عمل ألف شهر، وهو معنى صحيح منَّ الله تعالى به على عباده ليزيدهم من عطائه كرماً منه، وقد دلت عليه الروايات ففي الكافي عن أبي عبد الله الصادق(ع)، (قال له بعض أصحابنا: كيف تكون ليلة القدر خيراً من ألف شهر؟ قال: العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر).

وهذا المعنى مأخوذ من أسمها لأن لقدر بمعنى الشأن العظيم فيقال عالي القدر، وهذا المعنى متحقق بدرجات متفاوتة من الفضل في أمكنة وأزمنة متعددة كالصلاة في المساجد الأربعة وعند أمير المؤمنين (علیه السلام) فإنها بآلاف الصلوات، وفي ليلة الجمعة ويومها وليالي شريفة متعددة تتضاعف الأعمال أيضاً.

وهناك معنى آخر لهذه الليلة مأخوذ من اسمها بالمعنى الآخر وهو القدر

ص: 322


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع وفد أهالي السماوة من زوار أمير المؤمنين (عليه السلام) المعزين بذكرى استشهاده (سلام الله عليه) مساء الأربعاء 21 رمضان 1431ه- الموافق 1/ 9/ 2010.

بمعنى التقدير أي اتخاذ القرار والبت في الأمر وقد ورد هذا التفسير في الكافي بإسناده عن الإمام الباقر (علیه السلام) في رواية جاء فيها (يقدّر في ليلة القدر كل شيء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل: خير وشر وطاعة ومعصية ومولود وأجل أو رزق فما قدّر في تلك الليلة وقضي فهو المحتوم ولله عز وجل فيه المشيئة).ويكون معنى الآية حينئذٍ، إن في ليلة القدر التي يقدّر الله تعالى فيها مصائر العباد وأرزاقهم وأمورهم المستقبلية قال تعالى [فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ]الدخان:4) ومعنى كونها خيراً من ألف شهر أن العبد قد يحظى بالتفاتة من ربه ويناله لطف خاص فيقدّر الله تبارك وتعالى له في هذه الليلة أمراً يساوي حياته كلها التي تمتد ألف شهر وهي حوالي - 83 سنة- ولذا ورد في أدعية هذه الليلة (وإن كنت من الأشقياء فامحني من الأشقياء واكتبني من السعداء فإنك قلت في كتابك المنزل على نبيك المرسل صلواتك عليه وآله: يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) فمثل هذا التغيير في القضاء إذا حصل في هذه الليلة فإنه يعادل العمر كله لأن غاية سعي الإنسان في حياته هو بلوغ السعادة الحقيقية بفضل الله تبارك وتعالى.

ولذلك ينبغي للمؤمن أن يلح في مثل هذا الطلب في ليلة القدر لعله يحظى بالقبول فإن رحمة الله واسعة وفضله مبذول لمن سأله وأن يكون دعاءه بالحال الذي وصفه رسول الله (صلی الله علیه و آله) (فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة) وينبغي أن يقوم بالأعمال التي تحقق له ذلك في ليلة القدر –كالإكثار من الصلوات المستحبة كصلاة مئة ركعة والدعاء والرحمة بالآخرين وسماع

ص: 323

الموعظة وذكر فضائل أهل البيت (علیهم السلام) ومصائبهم- مما يحيي القلب وينقيه ويخلص النية، وإذا وجد في عمل رتابة وملل فلينوع ولينتقل إلى عمل آخر.وأن يستعد لليلة القدر من قبلها بالورع عن معاصي الله تبارك وتعالى والإقبال على طاعته،ومن أشكال الاستعداد أن يأتي أعمالها منذ ليلة التاسع عشر مع أنها لا يحتمل أن تكون ليلة القدر لأنها تقع في العشر الأواخر من شهر رمضان لكنها جعلت منها وشملت بأعمالها ليوفّق المؤمن لليلة القدر، ومن يتهاون بها فلعله يحرم من شيء من فضل ليلة القدر إلا أن يتداركه الله تعالى بفضله وكرمه، بل أمرها من الأهمية بدرجة شرحتها الرواية في الكافي بإسناده عن زرارة قال: (قال أبو عبد الله (علیه السلام): التقدير في تسع عشرة، والإبرام في إحدى وعشرين، والإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين).

ويكفي دليلاً على عظمة التغييرات التي تحصل في هذه الليلة نزول القرآن فيها، القرآن الذي قلب حياة البشرية وسما بها من حيوانية الجاهلية إلى قمة التوحيد وفتح آفاقاً واسعة للعلوم والمعارف والحضارات وأرسى أسس الحياة السعيدة، فكانت تلك الليلة خيراً من آلاف الشهور والسنين –لأن الألف لم تذكر للتحديد وإنما للتعبير عن الكثرة - التي قضتها البشرية في ظلمات الجاهلية.

وتبقى الأمة سعيدة ما دامت ملتفتة إلى عظمة ليلة القدر والقرآن الذي نزل فيها وملتزمة به ومستفيدة منه، وإلا فإنه لا يغنيها ما أصابته من عرض الدنيا وحطامها.

ولا يعني هذا أن الإنسان يتكاسل في أيامه كلها ويتهاون ويفرغ نفسه في

ص: 324

الليالي المحتملة لليلة القدر فهذا لا يناسب العاملين الراغبين فيما عند الله تبارك وتعالى، ولا أن ييأس إذا لم يشعر أنه قد وفق لإحياء ليلة القدر، لأن هذه الليلة وشهر رمضان وغيرها من أبوب اللطف الإلهي إذا انقضت فإن رب شهر رمضان ورب ليلة القدر باقٍ ورحمته واسعة، فإن نفس هذا المعنى الذي شرحنا به الآية ورد في موضوع آخر ففي الرواية (تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة) وهو مضافاً إلى معناه المنسبق إلى الذهن وهو أن التفكير والتأمل والفهم هو حقيقة العمل والغاية المنشودة منه لا الحركات الخارجية التي إنما تكتسب قيمتها من محتواها وهو التفكر والتأمل المنتج للخشوع والحب والرغبة والرهبة.فإن للحديث معنى آخر كالذي ذكرناه عن ليلة القدر وهو أن الإنسان قد يقف ساعة للتفكر والمراجعة والتحقيق في مسيرة حياته وهدفه الذي يريد أن يصل إليه ونيته في أعماله والقيادة التي يرجع إليها في أمور، وإذا به يتخذ قراراً يقلب كل مسيرة حياته ويغير وجهتها إلى الهدف الصحيح، فتكون هذه الساعة من المراجعة والتأمل خيراً من كل ما يؤديه خلال حياته عن غير بصيرة وهدى وكان يظن أنه يحسن صنعاً، وأوضح مثال على هذه الحالة الحر الرياحي الذي أمضى ستين سنة من عمره بعيداً عن ولاية أهل البيت (علیهم السلام) واتّباع منهجهم، فوفق ساعة يوم عاشوراء وتأمل في حاله وأرجع نفسه واتخذ القرار الشجاع بالانتقال إلى معسكر الحسين (علیه السلام) وتحول من الشقاوة الأبدية إلى السعادة الأبدية، فقد كانت هذه الساعة هي كل حياته وليس تلك السنين الطويلة التي قضاها بعيداً عن الحق.

ص: 325

خطاب المرحلة 262 :بمَ تتحقق السعادة؟

خطاب المرحلة 262 :بمَ تتحقق السعادة؟(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على أشرف خلقه وأكرمهم أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

السعادة: حلم كل الناس والهدف الذي تسعى إليه البشرية، ولذلك كان كل اهتمام الأنبياء والرسل والفلاسفة والمفكرين والعلماء هو الوصول إلى ما تتحقق به السعادة، ونحن حينما نتبادل التهاني في العيد، يدعو بعضنا لبعض: (أسعد الله أيامكم) وإن كنا نحن في العراق نقولها وقلوبنا تعتصر ألماً لما يمرُّ به شعبنا من قتل ودمار ونقص مريع في الخدمات الأساسية، وانتشار الفقر والبطالة والمرض والجهل والفساد وأمثالها من الأمراض الاجتماعية الفتاكة التي تنخر بنية المجتمع وتدمره إلا من عصم الله تعالى.

ولا زالت دماء الضحايا والأبرياء لم تجف بعد في بغداد والبصرة والكوت وكربلاء والأنبار وغيرها من المدن العراقية المحرومة المنكوبة. وقد مرّت ستة أشهر على الانتخابات من دون تحقيق خطوة تذكر لتشكيل الحكومة، والزعماء السياسيون منهمكون بالصراع على السلطة وغنائمها وامتيازاتها.

ص: 326


1- الخطبة الأولى التي ألقاها سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الشريف) لصلاة عيد الفطر السعيد يوم الجمعة عام 1431 الموافق 10/ 9/ 2010 م.

وأقل من هذه البلاءات بكثير دفعت شاعراً مثل المتنبي إلى القول:

عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ *** بما مضى أم بأمرٍ فيكَ تجديدُ

ويوجد اليوم في الكتّاب والمثقفين من يخاطب العيد بقول المتنبي، ويسخر ممن يقول (أيامك سعيدة) و(أسعد الله أيامكم) مع أنها كلمات دعاء وطلب من الله تعالى بجعل أيام العمر سعيدة وهانئة وليست إخباراً عن الواقع المعاش حتى يجد البعض أنها غير لائقة وغير منطبقة على هذا الواقع المؤلم.

وأين المتنبي وأمثاله من سمو أهل البيت (علیهم السلام) وحياتهم السعيدة وهم الذين لم يؤذَ أحدٌ كما أوذوا، انظروا إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) يسقط مضرجاً بدمائه في محراب مسجد الكوفة وهو يقول: (فُزتُ وربّ الكعبة)، والإمام الحسين (علیه السلام) يقول وهو يرى جمع الأعداء كالسيل وقد يبلغوا عشرات الآلاف وهو وأصحابه لا يتجاوزون المائة يقول (ع): (ليرغب المؤمن في لقاء الله، وإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً)(1).

والإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) يشكر الله تعالى وهو في قعر السجون وظلمات المطامير ويقول (إلهي طالما طلبت منك أن تفرّغني لعبادتك وقد فعلتَ).

روى صالح بن سعيد قال: (دخلت على أبي الحسن - الهادي- (ع) يوم وروده - سامراء- فقلت له: جُعلتُ فداك في كل الأمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك حتى أنزلوك هذا المكان الأشنع خان الصعاليك.

فقال (علیه السلام): ها هنا أنت يا ابن سعيد، ثم أومأ بيده فإذا أنا بروضات أنيقات

ص: 327


1- بحار الأنوار: 44/ 192.

وأنهار جاريات وجنات فيها خيرات عطرات وولدان كأنهن اللؤلؤ المكنون، فحار بصري وكثر عجبي، فقال (علیه السلام) لي: حيثُ كنّا فهذا لنا، يا ابن سعيد لسنا في خان الصعاليك)(1).إنها الحياة السعيدة في رحاب الله تبارك وتعالى التي تشغله عن كل شيء [أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] (الرعد:28) فاطمئنان القلب الذي هو علامة السعادة يتحقق بأن تجعل الله تعالى محور حركاتك وسكناتك وهدفك الذي تسعى إليه، ولا تنال تلك السعادة إلا بالتقوى؛ لذا يعلمنا الأئمة (علیهم السلام) أن نطلبها في الدعاء كما طلبوها لأنفسهم، من دعاء الإمام الحسين (علیه السلام) يوم عرفة: (اللهم اجعلني أخشاك كأني أراك، وأسعدني بتقواك.

فالسعادة الحقيقية هي الفوز بالجنة وهي ثمرة التقوى والعمل بما يرضي الله تبارك وتعالى ويقرب منه، قال تعالى: [وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ] (هود:108).

وتحيط الشقاوة بالإنسان - والعياذ بالله- حينما يعصي الله تبارك وتعالى ويبتعد عنه قال تعالى: [وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ، حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ] (الزخرف: 36-38). فتصوروا أي حياة شقية تكون للشخص الذي يلازمه فيها شيطان يكون قريناً له يخلّي الله بينه وبينه ليرديه في الضلالات والمهالك وفي حياة تعيسة ضيقة يصفها قوله

ص: 328


1- بحار الأنوار: 50/ 202 رواها الشيخ المفيد والكليني (رضوان الله عليهما).

تعالى: [وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فإن لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى] (طه: 124) ولذا تكون النتيجة يوم القيامة قوله تعالى: [فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ، خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ] (هود:106-107).أيها الأحبة..

إن السعادة والشقاوة تنبعان من داخل الإنسان، وهي من حالات عالمه المعنوي ووصف لباطنه، فالسعيد من كان كذلك في باطنه، والشقي من كان كذلك في داخله؛ فلا تتحقق إلا بأمور من جنسها أي معنوية، وليس بأمور مادية كالمال والجنس وترف الدنيا، فكم من شخص لا تتوفر له أسباب السعادة المادية الدنيوية بفقر أصابه أو مرض ابتلي به أو مصيبة نزلت به لكنك تراه سعيداً متفائلاً مبتسماً، وآخر يعيش في ترف وتتوفر له كل أسباب المتعة والعيش الرغيد لكنه عبوس كئيب وقد ينتهي به الأمر إلى الانتحار، وهذه النشرات والإحصائيات تطلعنا باستمرار على أن أكثر حالات الانتحار موجودة في أكثر الدول رفاهية.

ولا يعني كلامنا هذا تقليلاً من أهمية توفير متطلبات الحياة الهنيئة السعيدة، فإن لها دوراً في تحقيق تلك السعادة إذا أُخذ منها بالمقدار المناسب للحاجة ووُظّفت لتحقيق الهدف، فإنها خير معين لها بفضل الله تبارك وتعالى، وإنما اشتق اسم السعادة أصلاً من المساعدة وهي المعاونة على ما تتحقق به السعادة الحقيقية التي سميت سعادة لما فيها من معاونة الألطاف الإلهية للإنسان حتى وُفق إلى الخير والجنة ورضا الله تبارك وتعالى، ولذا نجد في الروايات الشريفة

ص: 329

المأثورة عن المعصومين (علیهم السلام) إرشادات إلى ما تتحقق به السعادة الأخروية وما يستعان به على تحقيقها من أمور الدنيا.وهذا الانسجام مع الفطرة والتوازن في مخاطبة كل عوالم الإنسان، وتلبيته كل احتياجاته الروحية والنفسية والعقلية والجسدية هي من مختصات شريعة الله تبارك وتعالى الخالق العظيم والبصير بما يصلح حال الإنسان ويسعده، بينما تاهت النظريات البشرية في تفسير السعادة وبيان ما تتحقق به لأن تحقيق السعادة حلم كل البشر ولم تنته بهم تلك النظريات إلا إلى الشقاء والقلق والخوف والكآبة والصراعات والشرور والآثام، بين أصحاب النظريات المادية الذين حددوا السعادة بالمتعة وتلبية الغرائز واحتياجات الجسد إلى حد الإفراط –كما في الغرب- من دون التفات إلى حاجة الروح إلى الكمال، ونزوع النفس إلى التحلي بالأخلاق الفاضلة، وبين أصحاب النظريات الفلسفية والروحية الذين جعلوا السعادة في تحقق الكمالات النفسية ولو على حساب التفريط في احتياجات الجسد، بل يجعل بعض أهل الرياضات الروحية تعذيب الجسد وإيلامه سبباً لنيل تلك الكمالات وتحقيق السعادة.

ويتغافلون بذلك عن حقيقة أن من تمام السعادة تحقيق التوازن في متطلبات كل جوانب الإنسان. وهذا ما وجدناه في شريعة الإسلام دين الفطرة [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] (الروم:30) ففي الوقت الذي تؤكد فيه على الجوانب المعنوية والكمالات الروحية حين تجعل التقوى وتهذيب النفس أساس السعادة والفلاح [قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا]

ص: 330

(الشمس:9-10) وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): (وإن السعداء بالدنيا غداً هم الهاربون منها اليوم)(1). فإنها تدعو إلى الأخذ بأسباب الحياة التي توفر الطمأنينة والراحة والسكون للنفس فنرى الحث الأكيد على العمل والكسب بالتجارة أو الزراعة أو غيرهما وتجعل العمل لطلب الرزق الحلال من أفضل القربات إلى الله تعالى ففي الحديث النبوي الشريف (طلب الحلال فريضة على كل مسلم ومسلمة)(2) وقال (صلی الله علیه و آله): (من أكل من كد يده كان يوم القيامة في عداد الأنبياء ويأخذ ثواب الأنبياء) وفي الحديث (الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله) وفي حديث آخر (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم الفسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم الساعة حتى يغرسها فليغرسها) وفي حديث نبوي شريف (ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً، فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة، إلا كانت له به صدقة).

وتجعل تلبية الحاجة الجنسية من طرقها المحللة - أي الزواج- من آيات الله تبارك وتعالى وسننه التي يُتقرب إليه تبارك وتعالى بإقامتها، وإن الإعراض عنه خروج عن هذه السنة قال تعالى: [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ] (الروم:21) وقال النبي (صلی الله علیه و آله): (النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني) ويقول (صلی الله علیه و آله): (شرار أمتي العزاب).

ونرى رفض الرهبنة والانعزال وحرمان النفس والجسد من بعض ما تشتهيه

ص: 331


1- نهج البلاغة، خطبة رقم (223) قالها عند تلاوته [يَا أَيُّهَا الإنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ].
2- بحار الأنوار: 103/ 9، ح35.

بالمعروف وبما أحل الله تعالى: [يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ] (الأعراف: 31-32).هذا التوازن والنهي عن الإفراط والتفريط معاً لتحقيق السعادة يظهر جلياً مما ورد في نهج البلاغة أن أمير المؤمنين (علیه السلام) دخل على العلاء بن زياد الحارثي وهو من أصحابه يعوده، فلما رأى سعة داره قال: (ما كنتَ تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا؟ أما أنت إليها في الآخرة كنت أحوج! وبلى، إن شئتَ بلغت بها الآخرة: تقري فيها الضيف، وتصل فيها الرحم، وتطلع منها الحقوق مطالعها، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة.

فقال له العلاء: يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن زياد، قال (علیه السلام): وما له؟ قال: لبس العباءة وتخلى عن الدنيا، قال (علیه السلام): عليَّ به، فلما جاء قال (علیه السلام): يا عُدَيَّ نفسه، لقد استهام بك الخبيث أما رحمت أهلك وولدك؟ أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على الله من ذلك. قال: يا أمير المؤمنين (علیه السلام) هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك، قال (علیه السلام): ويحك إني لست كأنت، إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس لكيلا يتبيغ بالفقير فقره)(1).

ونذكر هنا مجموعة من الروايات الشريفة التي أرشدتنا إلى ما تتحقق به السعادة في الآخرة وما يعين عليها من أمور الدنيا:).

ص: 332


1- نهج البلاغة، خطبة رقم (209).

1- عن جعفر بن محمد عن آبائه (ع) عن علي (علیه السلام) أنه قال: (حقيقة السعادة أن يختم الرجل عمله بالسعادة وحقيقة الشقاء أن يختم المرء عمله بالشقاء)(1)، فإن الإنسان لا تكتمل سعادته إلا عندما يختم عمله بخير فإننا نرى كثيرين يعملون عمل السعداء لكنهم في منعطف من حياتهم ينقلبون ويغويهم الشيطان ويلتحقون بالأشقياء وقد يحصل العكس أحياناً كما في قضية الحر الرياحي حتى قال فيه الإمام الحسين (علیه السلام): (أنت حرّ في الدنيا وسعيد في الآخرة) فلا تتحقق السعادة إلا بالمداومة على الخير والثبات عليه.

2- قال الإمام الصادق (علیه السلام): (من سعادة المرء خفة لحيته)(2) أي قلة أتباعه ورعيته سواء كان على صعيد العائلة أو السلطة أو الزعامة الدينية أو الاجتماعية؛ لأن التابع يتمسك بلحية المتبوع -كما يقال في العرف- وقد يتحمل المتبوع مسؤولية تكثير أتباعه بتكبير لحيته الظاهرية فيتبعه من يراعي تلك المقاييس.

وفي (معاني الأخبار) للشيخ الصدوق (رضوان الله عليه) قراءة أخرى للحديث (خفة عارضيه) أي خفة لحييه وعارضيه بذكر الله تعالى وعدم غفلته عن ربّه.

3- عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (ثلاثة من السعادة: الزوجة المؤاتية، والولد البار، والرجل يرزق معيشة يغدو على إصلاحها ويروح على عياله)(3).

ص: 333


1- بحار الأنوار: 5/ 154 عن الخصال: 5 ب1 ح14.
2- بحار الأنوار: 73/ 113.
3- بحار الأنوار: 103/ 6 عن أمالي الشيخ الطوسي.

وعن الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) عن آبائه عن علي (علیه السلام) قال: (من سعادة المرء المسلم الزوجة الصالحة والمسكن الواسع والمركب الهنيء والولد الصالح)(1).فالزوجة الصالحة المطيعة المتوددة، والمسكن اللائق بشأن الإنسان، والأولاد البارّون الصالحون، ووسيلة التنقل المناسبة التي تغنيه عن الطلب من الناس وغيرها من الحاجات الأساسية في الحياة يؤدي توفّرها إلى الحياة السعيدة المعينة على طاعة الله تعالى ونيل السعادة الحقيقية.

على أن لا تتحول هذه الأمور إلى هدف وشاغل عن الله تعالى بل يجعلها الإنسان وسائل مساعدة ومعينة على الوصول إليه تبارك وتعالى قال عز من قائل: [رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ] (النور:37) فالمشكلة ليست في وجود تجارة أو مال وإنما في تحولها إلى مانع عن الوصول إليه تبارك وتعالى، وقال: [إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ] (التغابن: 14).

4- وفي كتاب غرر الحكم عن أمير المؤمنين (علیه السلام) (ع): (السعيد من استهان بالمفقود)؛ لأن الحزن على ما فات موجب للشقاء والنكد والسعيد من صبر وتسلّى عنه واحتسبه عند الله تعالى.

وقال (علیه السلام): (في لزوم الحق تكون السعادة) لأن معرفة الحق واتباعه هو أساس السعادة الحقيقية الموجبة للفوز.

وقال (علیه السلام): (من حاسب نفسه سعد) لأنه بالمحاسبة يستطيع تصحيح

ص: 334


1- بحار الأنوار: 104/ 98، ح64.

الأخطاء وتلافي النقص ورد المظالم إلى أهلها ويقرّر حياة أفضل وكل ذلك يوجب السعادة. وقال (علیه السلام): (خلوّ الصدر من الغل والحسد من سعادة العبد) فإن أشقى الناس من امتلأ قلبه حقداً وحسداً وغلاً وخيانة وحياته تكون معذبة ويعيش مهموماً.

وقال (علیه السلام): (السخاء إحدى السعادتين).

وقال (علیه السلام): (سعادة المرء –في- القناعة والرضا) فإذا قنع استقر ورضي ولم يحزن على فوات شيء أو يقلق حرصاً على تحصيل شيء.

وقال (علیه السلام): (سعادة الرجل في إحراز دينه والعمل لآخرته) لأن العمل بما يرضي الله تعالى والسير على هدى أوليائه يحقق السعادة الأبدية.

وقال (علیه السلام): (إذا اقترن العزم بالحزم كملت السعادة).

وقال (علیه السلام): (أمَارة السعادة إخلاص العمل) لأن عمله إن لم يكن بنية مخلصة لم يكن مقبولاً ولم يحقق السعادة المطلوبة، فعلامة سعادته كون عمله مخلصاً لله تبارك وتعالى.

في كتاب مكارم الأخلاق (من سعادة المرء دابة يركبها في حوائجه ويقضي عليها حوائج إخوانه)(1)؛ لأنه بها يستغني عن الحاجة للآخرين ويتمكن من قضاء حوائج الناس التي هي من أعظم القربات.

5- عن الإمام السجاد (علیه السلام) قال: (من سعادة المرء المسلم أن يكون متجره

ص: 335


1- مكارم الأخلاق: 138.

في بلاده ويكون خلطاؤه صالحين ويكون له وُلدٌ يستعين بهم)(1). فمن كان متجره في بلاده كفاه الله مؤونة الغربة والبعد عن الأهل والوطن ومخاطر الأسفار، ومن كان شركاؤه وأقرانه في العمل صالحين تجنب المشاكل والخصومات والخوض في الباطل، ومن كان له ولد يعينه خفّت أعباء الحياة عليه وسعد برؤيتهم.6- (من سعادة المرء أن يطول عمره، ويرزقه الله الإنابة إلى دار الخلود)(2).

(ليس كل من يحب أن يصنع المعروف إلى الناس يصنعه، وليس كل من يرغب فيه يقدر عليه ولا كل من يقدر عليه يؤذن له فيه، فإذا اجتمعت الرغبة والقدرة والإذن فهناك تمت السعادة للطالب والمطلوب إليه) فهكذا تجتمع الأسباب لتحقق السعادة: الإرادة من الإنسان وتيسير الأسباب والوسائل الطبيعية لإنجاز العمل وتوفيق الله سبحانه.

(ولو أن أشياعنا - وفقهم الله لطاعته- على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم، لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا، ولتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلا ما يتصل بنا مما نكرهه)(3) فالإلفة بين المؤمنين وتواددهم وتراحمهم سبب قوي لسعادتهم ونزول الرحمة عليهم.

ص: 336


1- بحار الأنوار: 103/ 7 ح 27 عن الخصال: 1/ 159 باب الثلاثة.
2- بحار الأنوار: 6/ 46.
3- الاحتجاج: ج2، رسالة الناحية المقدسة إلى الشيخ المفيد.

ونذكر بعض الروايات الواردة في الشقاوة لتعرف الأمور بأضدادها:

قال رجل للنبي (صلی الله علیه و آله): اعدلْ، فقال (صلی الله علیه و آله): (لقد شقيتَ (شقيتُ) إن لم أعدل)(1).

وعنه (صلی الله علیه و آله) قال: (أشقى الناس الملوك)(2) بعكس ما يتصور أغلب الناس فيحسدونهم على ما هم عليه فإذا انكشف لهم الواقع تبرأوا منه كما في قصة قارون التي حكاها الله تبارك وتعالى: [وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ] (القصص:82).

وعنه (صلی الله علیه و آله) قال: (أربع خصال من الشقاء: جمود العين وقساوة القلب وبعد الأمل وحب البقاء)(3).

سئل أمير المؤمنين (علیه السلام): أي الخلق أشقى؟ قال (علیه السلام): (من باع دينه بدنيا غيره)(4).

عن أمير المؤمنين (علیه السلام) (ع): (إن الشقي من حُرم ما أوتي من العقل والتجربة)(5).

ومن كلماته (ع) في غرر الحكم: (من علامات الشقاء غش الصديق)

ص: 337


1- رواه البخاري: 3138.
2- بحار الأنوار: 75/ 340.
3- بحار الأنوار: 73/ 164.
4- بحار الأنوار: 75/ 301.
5- شرح نهج البلاغة: 18/ 74.

(من الشقاء فساد النية) (من الشقاء أن يصون المرء دنياه بدينه).وننبه هنا إلى شبهة يثيرها الغارقون في المعاصي العاجزون عن التغلب على أهوائهم فيصوّرون لأنفسهم أنه مكتوب عليهم الشقاء ولا يمكن تغييره، وقد دعمت هذا الاتجاه الفكري جهات سياسية منذ عصر صدر الإسلام لتمنع الأمة من الحركة نحو الإصلاح وتغيير الواقع الفاسد وإزالة الظلم، وينقل القرآن الكريم عنهم قولهم: [قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ] (المؤمنون:106) لكن أمير المؤمنين (علیه السلام) فسر الآية بقوله: (بأعمالهم شقوا)(1).

فالإنسان باختياره عمل ما يوجب شقاءه، وقد جرى القضاء الإلهي - أي مجموعة القوانين والسنن الإلهية- بأن من يعصي ويعرض عن الله تعالى يشقى، قال (علیه السلام) في دعاء كميل: (إلهي ومولاي أجريتَ عليَّ حكماً اتبعتُ فيه هوى نفسي ولم أحترس فيه من تزيين عدوي فغرّني بما أهوى وأسعده على ذلك القضاء) فالعبد باختياره اتبع الشيطان وساعد على غوايته السنة الإلهية بإيكاله إلى نفسه وسلب التوفيق منه.

وفي احتجاج الإمام الصادق (علیه السلام) على الزنادقة لما سألوه: (فما السعادة وما الشقاوة؟ قال: السعادة سبب خير تمسّك به السعيد فيجره إلى النجاة، والشقاوة سبب خذلان تمسك به الشقي فجرّه إلى الهلكة، وكلٌّ بعلم الله تعالى)(2) فالله تبارك وتعالى قضى تلك الأسباب، والإنسان بإرادته تمسك بهذا أو ذاك منها، وروى البخاري عن النبي (صلی الله علیه و آله) قوله: (أما أهل السعادة فييسّرون

ص: 338


1- بحار الأنوار: 5/ 157.
2- بحار الأنوار: 10/ 184.

لعمل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل الشقاوة) ولذا فُسرت السعادة بما يناسب أصلها المأخوذ منه وهي المساعدة فقيل أن السعادة والسعد: ((معاونة الأمور الإلهية للإنسان على نيل الخير ويضادّه الشقاوة وأعظم السعادات الجنة))(1).أيها الأحبة..

نستطيع تلخيص أسباب السعادة الحقيقية بالإيمان بالله تعالى وتقواه والالتزام بطاعته وطاعة رسوله (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته (ع) بإخلاص ونشاط وعزيمة لا تلين، وتطهير القلب من أمراض الحسد والحقد والبغضاء والبخل والحرص والخوف والقلق وتنقية العقل، من الشبهات والشكوك والظنون والتهم والأوهام والوساوس (فإن الشكوك والظنون لواقح الفتن ومكدرة لصفو المنائح والمنن) وتهذيب النفس من الأهواء المنحرفة وضبط الغرائز على وفق ما يصلح حال الإنسان في دنياه وآخرته وتجنب الإفراط والتفريط.

والزواج بالمرأة الصالحة الودودة الجميلة وطلب الأولاد وتربيتهم ليكونوا صالحين، والسعي لطلب الرزق الحلال الذي يسدّ احتياجاته ويغنيه عما في أيدي الناس ويوفّر له فرص الطاعة والقرب من الله تبارك وتعالى.

وقد وجدت في الأحاديث الشريفة أن أكثر ما يوجب السعادة بعد التقوى محبة الآخرين ومواددتهم وبذل الوسع في إسعادهم وقضاء حوائجهم وإدخال السرور عليهم ابتداءً من الوالدين والزوجة والأولاد إلى الجيران والأرحام ثم عامة الناس.

ص: 339


1- المفردات للراغب: مادة (سعد).

وإن أكثر ما يوجب الشقاء بعد الإعراض عن الله تعالى هو الحزن والقلق، الحزن على ما فات من عزيز أو مال أو شهوة أو شيء حريص عليه، والقلق مما يأتي كالتاجر يخاف أن يخسر والمرأة تقلق أن يفوتها قطار الزواج أو يتزوج عليها زوجها امرأة ثانية. فينكد عيشهم باحتمالات لم تقع، والحل في تجنب هذه الحالات، وإيكال الأمر إلى الله تبارك وتعالى والأخذ بالأسباب المتيسرة قال تعالى في علاج هذه الحالة: [مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ] (الحديد:22).ولم تحصل هذه الحالات إلا بسبب الحرص والفخر والاختيال بما في اليد.

ص: 340

خطاب المرحلة 263 :إصلاح النظام العشائري القائم

خطاب المرحلة 263 :إصلاح النظام العشائري القائم(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله كما هو أهله وكما يستحقه حمداً كثيراً والصلاة على خير خلقه أبي القاسم محمد وعلى آله الطاهرين.

قال الله تبارك وتعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] (الحجرات:13).

فالغرض من جعل الشعوب والقبائل والعشائر لتُعرفوا بها ولتتميز الأنساب فإن الأسماء كثيراً ما تتشابه وإنما تتميز بالعشيرة واللقب، والمعنى الآخر لقوله تعالى: [لِتَعَارَفُوا] أي لتتعارفوا بينكم وتتواصلوا وتنسجموا ويتكامل بعضكم بالبعض الآخر ويسودكم عمل المعروف فيما بينكم. وليس لتتفاخروا بأنسابكم أو لتتنابزوا بالألقاب بينكم أو لتتباهوا بكثرتكم أو لتتحزبوا لعشائركم وتتعصبوا لها حتى وإن كانت على باطل.

هذا ما أراده الله تبارك وتعالى ورتّب عليه آثاراً وهي صلة الأرحام والإحسان إليهم ورعايتهم وعظّم حرمة الرحم فقال تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً

ص: 341


1- الخطبة الثانية لصلاة عيد الفطر السعيد عام 1431.

وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً] (النساء:1) وكان أول ما بدأ به رسول الله (صلی الله علیه و آله) حين بعثه الله تعالى بالنبوة أن جمع عشيرته ودعاهم إلى هذا الخير الكثير حينما نزل قوله تعالى: [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] (الشعراء:214).مضافاً إلى أن النظام العشائري يجعل من الأفراد كياناً فيكسبهم قوة إلى قوتهم وتنظيماً لشؤونهم والتنظيم قوة، وفي ذلك يوصي أمير المؤمنين (علیه السلام) (صل عشيرتك فإنهم جناحك الذين بهم تطير).

لكن هذه الرابطة التي جعلها الله تعالى لتلك الأغراض الإنسانية تحوّلت منذ القدم إلى نظام اجتماعي يحكم أبناءه ويدير شؤونهم وربما أملاه نمط الحياة التي يعيشونها كمجتمعات بداوة ونمط الأعمال كامتلاك الثروة الحيوانية ورعيها أو الزراعة ونحوها، وأصبح بديلاً للنظام السياسي والدولة والحكومة كما هو المعروف من حال العرب قبل الإسلام، وكان نظاماً متخلفاً متعصباً ً قائماً على التفرد وإلغاء الآخر ولو بإبادته ومصادرة ممتلكاته فأزهقت الأرواح وانتهكت الأعراض وسالت أبحر من الدماء لا لشيء إلا لتلبية نداء هذه العصبية الجاهلية، وكان من أيسر الأمور إذكاء الحروب الجنونية بين القبائل لأتفه الأمور كحرب داحس والغبراء التي استمرت أربعين سنة على إثر مسابقة للخيول، وأشعلت حرب أخرى لأن شخصاً قتل كلباً كان شيخ العشيرة الأخرى قد أجاره ونحو هذه الأمور مما لا يصدقها عاقل لولا أنها قد وقعت فعلاً.

وكان حول العرب أمم نبذت هذا النظام وأنشأت لنفسها أنظمة سياسية للدولة والحكم فتقدمت مادياً وأنشأت حضارات مرموقة كالرومان والفرس.

ص: 342

حتى بعث الله تعالى نبيه (صلی الله علیه و آله) بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله أي على كل الأنظمة والقوانين التي حكمت البشر وأردتهم في الهلاك فذوَّب هذه الانتماءات وآخى بين المهاجرين والأنصار والذين جاءوا بعدهم من سائر الذين اعتنقوا دين الإسلام، فكانوا كما وصفهم الله تعالى: [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] (الحجرات: 10) ووصف حالهم السابق من التشرذم والتفرق وما آلوا إليه من الوحدة والأخوة فقال تعالى: [وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] (آل عمران:103).ولكن لما ارتحل رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى الرفيق الأعلى وانقلبت الأمة على الأعقاب رجعت إليها بعض العادات الجاهلية ومنها العصبية القبلية وكان بنو أمية يغذّون هذا التقسيم ويذكون التفرقة ويقرّبون بعض القبائل على حساب بعض ليملكوا زمام الجميع.

واليوم حينما تنظر إلى وضع العشائر تجده في حال سيئ وتعيس ومتخلف، والغالب في رؤساء العشائر ومن بيدهم الأمر والنهي أنهم يحكمون بغير ما أنزل الله تعالى، والظلم متفشي في أرجائها وعلى مختلف الأصعدة، ويئن أبناء العشائر من قساوة هذا النظام وأحكامه الجائرة ولكنهم لا يستطيعون الخروج من قبضته، أو يستطيعون ولكنهم لا يملكون الشجاعة لاتخاذ مثل هذا القرار.

لقد بذلت المرجعية الرسالية جهداً في سبيل إصلاح نظام العشائر وكتب سيدنا الشهيد الصدر (قدس سره) كتاب (فقه العشائر) لتصحيح تصرفاتهم وأحكامهم

ص: 343

على وفق الشريعة، ووضع سنينة عشائرية على طبق التشريع الإسلامي لتكون بديلاً عن السنينة العشائرية المتعارفة.وأصدرنا بعده كتاب (رؤى إسلامية في نظام العشائر وتقاليدها) لتصحيح الجانب الفكري والثقافي لدى العشائر وإقناعهم بتطبيق النظام الإسلامي، وتبعته فتاوى كثيرة في ما يتعرضون له من حالات، لكن هذا الجهد كله لم يُجدِ نفعاً إلا عند القلة ممن وفقهم الله تعالى لطاعته، وتردى الحال إلى الأسوأ بعد سقوط صدام واختلال النظام وانتشار الفوضى والعنف ووقوع السلاح بيد الجهلة والغوغائيين، ولم يعد للدولة والسلطة وجود مهاب مما شجع على بروز قيادات محلية اجتماعية أو دينية أو عشائرية وأصبح كل منهم حاكماً في مساحته ويحصل الصدام بينهم أحياناً بحسب تضارب المصالح والولاءات.

إننا نفهم بعض المبررات لوجود النظام العشائري كحفظ الأرض وزراعتها والدفاع عنها وتقارب ذوي الأرحام لزيادة الأواصر بينهم، ولكن ما لا نفهمه ولا نقبله تحوّله إلى نظام استبدادي ظالم يحكم بالأهواء والعصبية وشهوات النفس والأنانية، ونحذّر من تحوله إلى نظام متخلف يكون غالباً من أكبر المعوقات لقيام مجتمع مدني متحضّر، وإذا بقي على وضعه الحالي فسيبقى التخلف والجهل سائداً في أمة كبيرة تخضع لقوانينه، وقد أثبتت التجارب التي أشرنا إليها أن محاولات إصلاحه غير مجدية ما دام يدار بنفس الذهنية السائدة.

أيها الأحبة..

أنتم تعلمون أنا جميعاً مطالبون بأن يكون لنا دور في التمهيد لظهور الإمام (أرواحنا له الفداء) وتمكينه من إقامة دولة العدل الإلهي، والجميع مشتركون

ص: 344

بدورهم كأفراد وأعني به أن يكونوا صالحين يعملون ما يرضي الله تبارك وتعالى ويجتنبون ما يسخطه تعالى ويبعدهم عنه وهو باب ينفتح منه ألف باب كما هو واضح.ومضافاً إلى هذا الدور الفردي فإن على كل فرد تكاليف اجتماعية أوسع من ذلك وهي متباينة ومتفاوتة من فرد لآخر بحسب موقعه وعنوانه ومؤهلاته والأدوات المتاحة لديه مادياً –كالمال- ومعنوياً –كالعلم أو الجاه أو النفوذ- ونحوها. ولعل الأغلب إن لم يكن الكل مشمولون بهذا التكليف أيضاً لأن لهم شيئاً مما ذكرنا وإن تفاوتوا فيه. وتدخل في هذا التكليف وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتشييد مشاريع الخير والجهاد لإقامة السنن الصالحة وإقامة الشعائر الدينية وغيرها كثير.

ورؤساء العشائر ممن لهم تكليف واسع على النحو الثاني لامتلاكهم عناصر تأثير عديدة كالجاه والنفوذ والسطوة وكثرة الأتباع والقوة وربما المال والسلاح وغيرها، وهذا يعني أن مسؤوليتهم أوسع من غيرهم بكثير؛ لأن هذه كلها نعمٌ يُسأل الإنسان عن توظيفها في طاعة الله تعالى، قال عز من قائل: [ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ] (التكاثر:8) والنعيم شامل لكل نعمة أنعم بها الله تعالى على عبده، وقال تعالى: [وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ] (الصافات:24) وهذه المساءلة شاملة لكل أنحاء المسؤولية وأشكالها، وأعتقد أن رؤساء العشائر وغيرهم من المسؤولين -كأعضاء الحكومة وأصحاب السلطان- لو كُشف لهم الغطاء وعرفوا خطورة موقعهم وطول وقوفهم للسؤال بين يدي الله تعالى لما تنافسوا على شيء من هذا، ولنبذوه وراء ظهورهم وهربوا منه.

ص: 345

وقد ورد في الحديث عن النبي (صلی الله علیه و آله) (ألا ومن تولى عرافة قوم حبسه الله عز وجل على شفير جهنم بكل يوم ألف سنة وحشر يوم القيامة ويداه مغلولتان إلى عنقه، فإن قام فيهم بأمر الله أطلقه الله، وإن كان ظالما هوى به في نار جهنم وبئس المصير)(1).وقد بيّن رسول الله (صلی الله علیه و آله) والأئمة الطاهرون (ع) لأصحابهم الواعين الصادقين في طاعة ربهم هذه الحقيقة، روى الشيخ الطوسي في كتاب الأمالي عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: (يا أبا ذر إني أحبّ لك ما أحبّ لنفسي، إني أراك ضعيفاً فلا تأمّرنّ على اثنين ولا تولّينّ مال يتيم)(2) فإذا كان مثل أبي ذر الذي تشتاق له الجنة والذي قال فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله): (ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر) يشفق عليه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ويدعوه إلى عدم الإمرة ولو على اثنين لأنه يعجز عن القيام بالأمر كما يجب فكيف بغيره؟ خصوصاً رؤساء العشائر الذين نعلم افتقاد أكثرهم لمؤهلات الإمرة وهي العلم بأحكام الدين والورع والحلم والحكمة والرحمة والشفقة على الناس.

فالذي نأمله من رؤساء العشائر وهم مسلمون موالون لأهل البيت (علیهم السلام) وأولى الناس باتباعهم أن يكونوا لهم زيناً كما قال إمامنا جعفر الصادق (علیه السلام) ولا يكونوا عليهم شيناً، ومن المقترحات التي نتبناها في هذا المجال أن ننظم لهم دورات دراسية في النجف الأشرف، مدة الدورة شهر واحد، نستضيفهم

ص: 346


1- بحار الأنوار: 72/ 343 في مناهي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
2- بحار الأنوار: 75/ 4.

فيها ونعطيهم ما يحتاجونه في عملهم من دروس في الفقه والعقائد والأخلاق والعلاقات الإنسانية والإدارة ليكونوا مباركين دالين على الخير وآمرين بالمعروف وناهين عن المنكر(1).وندعوهم كما ندعو كل أبناء العشائر إلى اتخاذ خطوات عملية لتحويل مجتمعهم إلى أمة متحضرة متمدنة واعية منها:

1- المطالبة بإنشاء المدارس الأكاديمية في كل تجمع من الناس مهما كان نائياً ولو بأبسط صورها - كالمدارس المتنقلة - والقضاء على الأمية تماماً وإلزام الفئات العمرية جميعاً بالالتحاق بها.

2- نشر المؤسسات الثقافية والإنسانية والصحية والاجتماعية والخيرية والدينية مما يعرف بمؤسسات المجتمع المدني في كل العشائر والقرى والأرياف والمدن في أنحاء البلاد لتؤدي كل منها دورها بحسب الغرض الذي أسست له.

3- دعوة الخطباء والمبلغين إلى كل ناحية أو قرية أو عشيرة أو أي مكان ممكن لتعليم الأحكام وإرشاد الناس ووعظهم.

4- انخراط أبناء العشائر في الوظائف وتحصيل الشهادات العلمية العالية وتشجيع من يتمكن منهم على السكن في المدن.

5- وضع القوانين الرسمية الصارمة التي تحرّم بعض التقاليد العشائرية البالية وتعاقب عليها بحسب نوع الجناية أو الخطأ كالنهوة أو القتل لغسل العار في غير ما حددته الشريعة وسائر الأحكام الظالمة الأخرى.

ص: 347


1- راجع أخبار استجابة العشائر في قسم الكلمات المختارة من صحيفة الصادقين.

وهنا قد يقال بأن تحويل المجتمع العشائري إلى مجتمع مدني -كما لو فتحت فيه الجامعات والمؤسسات الحكومية- يعني الانفتاح على المفاسد الأخلاقية ونحوها.والجواب:

1- إن حالات الفساد والانحراف في العشائر ليست قليلة كالقتل بلا ذنب والزنا والنهوة والنهيبة والظلم والبطش وامتهان المرأة وغيرها.

2- إن الخلل المذكور ليس بسبب كون المجتمع مدنياً وإنما بسبب النفوس الأمارة بالسوء وقلة الواعظين والمتعظين فالجميع معرضون للفساد والانحراف إلا من عصم الله تعالى.

3- إننا لو سلّمنا الإشكال فإن عملية الإصلاح في مجتمع متحضر ومثقف أسلس وأثبت مما في مجتمع عشائري متخلف ونحن نجد اليوم كيف انغمست العشائر أكثر من ذي قبل في الظلم وابتداع العادات والتقاليد المنكرة.

إن مما يؤسف له أن الكثير من القيادات الدينية والسياسية تعي حقيقة هذا الوضع البالي الذي يعيشه حوالي نصف المجتمع العراقي ولكنهم لا يتحركون لإصلاحه، بل قد يعملون على إبقائه ودعم رؤساء العشائر من أجل المحافظة على مواقعهم وسلطتهم كما يحصل قبيل الانتخابات، فيتحمل هؤلاء وزر هذا الوجود ودوامه وإذا كانوا لا يعون ذلك فالمصيبة أعظم.

وإزاء هذا كله لا يحل لنا أن نهمل الإشادة بدور بعض زعماء العشائر أو الأفخاذ الذين وعوا مسؤوليتهم أمام ربّهم وقادتهم المعصومين (علیهم السلام) فأصلحوا أنفسهم وسعوا بحزم وشجاعة إلى إصلاح وضع عشائرهم فطوبى لهم،

ص: 348

وضاعف الله تعالى لهم الحسنات بعدد من اهتدى بهم من الموجودين ومن الذين يأتون بعدهم والله ولي التوفيق.

ص: 349

خطاب المرحلة 264 :الفقهاء ونيابة المعصومين (علیهم السلام)

خطاب المرحلة 264 :الفقهاء ونيابة المعصومين (علیهم السلام)(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

مرّت علينا قبل أيام ذكرى استشهاد الإمام الصادق (علیه السلام) حيث استذكرنا فيها دوره الواسع في حياة الإنسانية جميعاً مما زخرت به الكتب الكثيرة، وبهذه المناسبة أودّ بيان معنى مرتكز في أذهان المتشرعة وتتداوله كتب العلماء والمفكرين وهو أن المجتهد العادل: نائب عن الأئمة المعصومين (علیهم السلام) ويستمد شرعيته ووجوب طاعته من هذه النيابة العامة عن المعصومين (سلام الله عليهم).

وهذا المعنى يحتاج إلى توضيح وربما لشيء من التصحيح إذ لا يمكن إطلاق لقب نائب الإمام على كل مجتهد عادل حتى لو كان مرجعاً تتوفر فيه الشروط الأخرى المذكورة في الرسالة العملية، ما لم ينهض بأعباء ومسؤوليات الإمام الواسعة بحسب استعداداته وقابلياته الناشئة من الفوارق الذاتية بين المعصوم وغيره؛ لأن ذلك مقتضى معنى النيابة، وهذا واضح في سائر المواقع كالوظائف السياسية والإدارية فإن النائب يقوم بواجبات المنوب عنه في غيابه، أما إذا كان يتمتع بالامتيازات أكثر مما يقوم به من الواجبات فهذا مصداق

ص: 350


1- الخطبة الأولى لصلوات الجمعة الموحدة في مدن العراق يوم 29 شوال 1431، المصادف 10/ 10/ 2010 في الذكرى الثانية عشرة لاستشهاد السيد الصدر الثاني (قدس سره).

للمطففين الذين وعدهم الله عز شأنه بالويل.وقد بالغ البعض فأطلق لفظ (الإمام) على مرجع تقليده في ظل حمّى الألقاب الرنانة والتعصب لهذا المرجع أو ذاك من دون استحقاق لتلك الألقاب ويفتقر إطلاقها إلى المصداقية بحيث يبدو نشازاً.

أتذكر أن أحد الأساتذة الأكاديميين في الجامعات ألّف كراساً بعد انطلاق صلاة الجمعة المباركة على يد السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) عنوانه: (الإمام والرئيس) يتحدث فيه عن مؤهلات القيادة للسيد الشهيد (قدس سره) وملامح مشروعه، وعرضه بواسطة أحد الفضلاء عليه (قدس سره) لتقييمه، وبمجرد وقوع نظره الشريف على لفظ)الإمام) في العنوان رفضه واعتبر ذلك من مختصات المعصوم (سلام الله عليه) مهما قيل فيه من مبررات.

إن الإمامة مرتبة أعلى من النبوة، وقد دلّت عليه الآية الشريفة: [وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً] (البقرة: 124) وقد كان ذلك بعد نبوته وبعد أن اتخذه الرحمن خليلاً، وهذا التقدم في الرتبة واضح من معنييهما فإن النبوة هي تحمّل العلم بالنبأ والمعرفة بالله تبارك وتعالى والتوحيد الخالص وممارسة تكليفه في إيصال ذلك إلى الناس على نطاق محدود كقومه أو مدينته، أما الرسالة والإمامة فهي تعني الانطلاق بعد ذلك إلى المخلوقين عامة لهدايتهم وعدم الاكتفاء بإراءة الطريق لهم على نطاق محدود وإنما الأخذ بأيدي الناس كل الناس والسير بهم في طريق الكمال لكي يبلغوه بحسب استحقاقهم.

فالمرجع الذي لا يتحرك بالمشروع الإلهي ولا ينزل إلى أرض الواقع ليقنع

ص: 351

الناس به ويأخذ بأيديهم في طريق الهداية والصلاح والتكامل لا يصلح أن يكون نائباً للمعصوم حتى لو طبع رسالة عملية تاركاً الخيار للمكلفين إن شاءوا أخذوا بها أو لم يأخذوا وينتظر من يراجعه ولا يتحرك هو إليه بشكل من الأشكال. لأن غاية ما تؤديه هذه الأمور إراءة الطريق والعمل على نطاق محدود وهي وظيفة الأنبياء وطوبى لمن وصلها، لكن الإمام هو من لا يقتصر دوره على ذلك وإنما يأخذ بأيدي الناس ويوصلهم إلى الهدف كمن لا يكتفي بدلالة التائه الذي لا يعرف الطريق الذي يوصله إلى ضالته، وإنما يصطحب هذا التائه ويوصله إلى هدفه، وهذه هي وظيفة أصحاب الرسالات وهم الرسل والأئمة (علیهم السلام)، فنائب الإمام يرث منهم هذه المسؤوليات الواسعة.نعم يجوز - إذا اجتمعت فيه الشروط المذكورة في الرسالة العملية- أن يتصدى لبعض مسؤوليات نواب الإمام (علیه السلام) كقبض الحقوق الشرعية وصرفها في مواردها والإفتاء إن كانت له الأهلية لذلك، والقضاء بين الناس، ويكون وكيلاً عن الإمام في القيام بهذه الوظائف، والوكالة له ليست كالنيابة لأنها تكون محدودة بمساحة معينة، كمن يوكّل شخصاً في شراء بضاعة أو تعقيب معاملة أو قبض مال وهذا لا يعني أنه نائبه في كل أموره، فكثير من المراجع والعلماء المجتهدين هم وكلاء الإمام وليسوا نوابه.

ويتضح هذا الفرق عند التأمل في حديثين وردا في فضل العلماء، أحدهما قول الإمام (علیه السلام): (العلماء ورثة الأنبياء)(1) وثانيهما (الفقهاء أمناء الرسل)(2)

ص: 352


1- أصول الكافي، كتاب فضل العلم، باب ثواب العالم والمتعلم، ح1.
2- بحار الأنوار: 2/ 36 باب 9، ح38، ومستدرك الوسائل، ج17، ح21443.

بضميمة ما رواه أمير المؤمنين (علیه السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وفيه: (الفقهاء قادة)(1)، فالعلماء بما تحملوا من علوم هم ورثة الأنبياء، أما إذا تحركوا بهذا العلم في واقع حياة الناس لإقناعهم بالرسالة الإلهية استحقوا أن يكونوا أمناء للرسل حملة الشرائع السماوية وامتداداً لدورهم الرسالي، فالفرق بين العالم والفقيه الذي يستحق قيادة الأمة وولاية أمورها كالفرق بين الأنبياء والرسل الذي هو معلوم، واستحقوا بذلك أن يكونوا قادة للأمة ونواباً لأصحاب الرسالات المعصومين (سلام الله عليهم).وهذا الفرق بين نيابة المعصوم (علیهم السلام) والوكالة عنه بالرغم من أنه على مقتضى القاعدة التي قربناها، وأنه لا دليل عندهم على أن كل عالم مجتهد عادل تتوفر فيه شروط التقليد هو نائب عن الإمام، وكل الذي ورد هو تخويله ببعض الأمور كالإفتاء والقضاء بين الناس –كما في مقبولة عمر بن حنظلة-. ولا تصلح النيابة إلا لمن تحمل وظائف الإمام (علیه السلام) في حياة الأمة، أقول بالرغم من ذلك كله فقد دلت عليه بدقة رواية معتبرة.

فقد روى المحقق الثقة الشيخ عباس القمي في كتابه المعروف (مفاتيح الجنان)(2) عن الميرزا حسين النوري (قدس سره) صاحب مستدرك الوسائل حادثة لقاء الحاج علي البغدادي (الذي وصفه بالسعيد الصالح الصفي المتقي) وأوردها النوري في كتابيه (جنة المأوى) و (النجم الثاقب)، ولها فوائد جليلة، ومحل الشاهد منها أن الحاج البغدادي لما أخبر صاحبه في الطريق –وهو لا

ص: 353


1- بحار الأنوار: 1/ 201.
2- مفاتيح الجنان، فضل زيارة الكاظمين (عليهما السلام).

يعرفه أنه الإمام المهدي (علیه السلام)- أنه أعطى جزءاً من حقوقه الشرعية إلى الشيخ الأنصاري (قدس سره) وجزءاً إلى الشيخ محمد حسين الكاظمي –صاحب هداية الأنام- وادّخر جزءاً لإعطائه إلى الشيخ محمد حسن آل ياسين الكاظمي، فقال له (ع): (نعم قد أبلغت شطراً من حقنا إلى وكلائنا في النجف الأشرف).إن هذا التفريق الذي نذكره بين العنوانين ليس مسألة اختلاف في الألفاظ أو العناوين بل له واقع وحقيقة من خلال المواقع والوظائف التي له الحق في التصدي لها، إذ ليس لغير من ينطبق عليه عنوان نائب المعصوم (علیهم السلام) ولاية أمر المسلمين أو قيادة الأمة أو اتخاذ القرارات العامة ما لم يتحمل مسؤولية العنوان ويتحرك به في تمام ما يقتضيه من وظائف ولا يكفي فيه مجرد الادعاء.

ونحن نلقي عليكم هذه الأفكار لأننا نعتقد أن مستوى الثقافة والوعي الإسلامي العام قد تقدم كثيراً بفضل الله تبارك وتعالى ونحن تحدثنا على هذا المستوى، إلا أننا لم نتعمق في مستوى الاستدلال الفقهي لأنه موكول إلى محله.

لقد ضرب لنا سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) مثلاً لتنوع الأدوار التي يؤديها نائب الإمام في حياة الأمة مضافاً إلى الإفتاء وكتابة الرسالة العملية ورعاية شؤون الحوزات العلمية من تهيئة الأمة وإعدادها لتحمل القضية المصيرية وهي التمهيد لدولة الإمام المهدي (علیه السلام) المباركة، ونشر الوعي الإسلامي والمعارف القرآنية وتهذيب الأخلاق وتغيير الواقع الفاسد ومواجهة السلطات الظالمة وتحقيق التكامل للأمة وتفجير طاقاتها، وقضاء حوائج الناس، واحتضان شرائحهم كافة ومخاطبتهم بما يناسبهم. وتشهد له بذلك أعماله

ص: 354

المباركة وموسوعاته الفكرية الضخمة ومحاضراته القيمة ومواقفه المشهودة، وقلّما يجود الزمن بمثل من يقدّم هذا العطاء الثرّ، فعند الله نحتسبه، وحشره الله تعالى مع أجداده الطاهرين وحسُن أولئك رفيقاً. 

ص: 355

خطاب المرحلة 265 :التقية وتضييق دائرة الخطوط الحمراء في العمل الإسلامي

اشارة

خطاب المرحلة 265 :التقية وتضييق دائرة الخطوط الحمراء في العمل الإسلامي(1)

(التقية) مبدأ قرآني صرحت به الآية الشريفة التي نزلت في الحادثة المعروفة لعمار بن ياسر (رضوان الله تعالى عليه) عندما عذبته قريش وقتلت أباه وأمه قال تعالى: [لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ] (آل عمران: 28).

وقد تواترت فيها الروايات(2) عن أهل البيت (علیهم السلام) كقول الإمام الباقر (علیه السلام) (التقية من ديني ودين آبائي ولا إيمان لمن لا تقية له) وقول الإمام الصادق (علیه السلام) (من كانت له تقية رفعه الله، من لم تكن له تقية وضعه الله). فلا قيمة بعد ذلك لمن يشنّع على الشيعة باعتقادهم بهذا المبدأ ويصفهم بما هم بريئون منه.

وفي ضوء ذلك فلا صحة لما قيل من أن السيد الشهيد الصدر الثاني(قدس سره) خالف التقية ونسبوا إليه أنه قال: ولّى زمان التقية، فزمان التقية باقٍ والسيد

ص: 356


1- من حديث سماحة الشيخ مع حشد من طلبة جامعة ميسان وبعض الروابط العاملة في مدينة العمارة وزوار آخرين يوم السبت 14 ذ.ق 1431 المصادف 23/ 10/ 2010.
2- روى الشيخ الكليني (قدس سره) أكثر من عشرين منها في أصول الكافي، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب : التقية.

الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) يعرف دين أجداده جيداً. وهو الذي كتب لي في الثمانينات -وقد أوردته في كتاب الشهيد الصدر كما أعرفه- إننا في زمان تقية أشد من زمان الإمام الحسن (علیه السلام) الذي وقّع الهدنة مع معاوية. إذن ما الذي نسميه ما قام به بعد أكثر من عشر سنوات من حركة إصلاحية عبّأ لها مئات الآلاف وانتهت بشهادته؟وهذا السؤال لا يشمل حركة السيد الصدر (قدس سره) بل حتى الأئمة المعصومين (سلام الله عليهم) فبعد أن كان الأئمة المعصومون (علیهم السلام) يعيشون في تقية شديدة بحيث لا يستطيعون أن يسلموا على أحد ويسلّم عليهم أحد كما في الرواية في الكافي عن حماد بن واقد اللحام قال: (استقبلت أبا عبد الله (علیه السلام) في طريق فأعرضت عنه بوجهي ومضيت، فدخلت عليه بعد ذلك، فقلت: جُعلت فداك إني لألقاك فأصرف وجهي كراهة أن أشقّ عليك فقال لي: رحمك الله ولكن رجلاً لقيني أمس في موضع كذا وكذا فقال: عليك السلام يا أبا عبد الله، ما أحسن ولا أجمل)(1) تجد الإمام الصادق (علیه السلام) نفسه يؤسس جامعة كبرى ويتخرج على يديه آلاف العلماء في شتى حقول العلم والمعرفة فهل خالف الإمام التقية؟

الأمر ليس كذلك بالتأكيد ولكن الجواب باختصار أن من وظائف القائد العمل على خلق أجواء وظروف يضيّق بها دائرة التقية ويوسع بها دائرة العمل الممكن وبتعبير آخر: يرجع الخطوط الحمراء التي كان يقف العمل عندها مراعاة للتقية.

ص: 357


1- أصول الكافي، الباب المتقدم/ ج9.

ومن تلك الظروف التي صنعها الإمام (علیه السلام) دعمه غير المعلن لثورات العلويين ضد الطغاة والمستكبرين والمستأثرين حتى روي عنه قوله (علیه السلام) (لا أزال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد، ولوددت أن الخارجي من آل محمد خرج وعليّ نفقة عياله)(1).وقد استمرت تلك الثورات المسلحة مما أربك السلطة وأقلقها وجعلها تغضّ الطرف عن الحركة العلمية والاجتماعية للإمام (علیه السلام) ورفعت عنها الخطوط الحمر حيث لم تعتبرها تهديداً مباشراً.

فالذي يفعله القادة والمصلحون هو توسيع دائرة العمل الإسلامي المبارك وتضييق دائرة الخطوط الحمراء التي تعترضهم، وقد عرضت فكرت تندرج على هذا السياق قبل أيام في ملتقى مرشدي قوافل الحجاج(2) ، إذ حثثتهم على اصطحاب أكبر عدد ممكن من الحجاج لأداء الوقوف الاضطراري في عرفة في اليوم الذي نعتقده أنه التاسع بحسابنا غير الوقوف الذي يؤدونه مع الناس إذا حصل خلاف في أول الشهر، مع أننا نقول بإجزاء الوقوف مع عامة الناس مطلقاً حتى لو كان الفرق في الحساب كبيراً بمقتضى الأدلة التي ذكرتها في محلها والمصلحة التي توخيناها هي إنشاء حالة ضاغطة على السلطات في المملكة لتأخذ بنظر الاعتبار رأي علماء الشيعة في مسألة الهلال عسى أن يتوحد أول الشهر ويقف الجميع في اليوم التاسع الفعلي.

ص: 358


1- وسائل الشيعة، كتاب جهاد العدو وما يناسبه، باب 13،ج12.
2- عقده سماحته في مكتبه يوم الخميس 5 ذ.ق 1431 المصادف 14/ 10/ 2010 قبل مغادرته النجف الأشرف إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج بفضل الله تبارك وتعالى.

وهذه الوظيفة - اعني توسيع دائرة العمل الإسلامي وتضييق دائرة الخطوط الحمراء - تؤديها المرجعيات الرسالية الواعية وتدفع الثمن في النهاية دماً زكياً أسوة بالأئمة المعصومين (سلام الله عليهم)، أما المرجعيات التقليدية فعلى العكس من ذلك فإنها لا تكتفي بعدم التقدم بل تتراجع وتفرّط بما مكّنها الله تبارك وتعالى من إمكانيات وتضيّع هذا الرصيد الضخم فإنا لله وإنا إليه راجعون.والعاملون الرساليون المخلصون لهم دورهم في هذه الحركة المباركة فلا يقصّروا فيه وإذا حققوا تقدماً في ساحة من ساحات العمل الإسلامي فعليهم أن يحافظوا على التقدم الذي يحصلون عليه ويمسكون بما يتحقق لهم ويتقدمون أزيد، وإن تنوعت الآليات وأشكال العمل بحسب ما يتاح لهم، وإننا لنفخر بالشباب الرسالي الذين استنشقوا نسيم الحرية مع السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وساهموا بحركته وتقدموا بها بعد استشهاده (قدس سره) فلم يقفوا عند الفورة الإيمانية والحماس والوهج الذي أسّسه السيد الشهيد (قدس سره) وإنما رسّخوه وعمّقوا معانيه وشيّدوا مضامينه وبنوا أمة الفكر والوعي والبناء تمهيداً لإقامة دولة العدل الإلهي.

ويجري نفس هذا المعنى على صعيد تهذيب النفس والجهاد الأكبر كما يجري في الجهاد الأصغر لأن (أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك) كما في الحديث وهي تضع بمساعدة الشيطان خطوطاً حمراء على كل طاعة وتفتح السبل لكل معصية، فالمؤمن أول ما يفعل هو رفع الخطوط الحمراء عن كل طاعة ووضعها إزاء كل معصية، ثم يتحرك ليوسّع دائرة العمل بالطاعات إلى

ص: 359

كل ما يحبّه الله تبارك وتعالى وإن لم يكن واجباً، ويضيق دائرة المتروكات إلى كل ما يبغضه الله تبارك وتعالى وإن لم يكن حراماً، فإذا حقق تقدماً في هذا الصراع كما لو لم يكن يؤدي صلاة الليل فشجعته أجواء شهر رمضان المعنوية لأدائها، أو كان لا يؤدي صلاة الصبح فوُفّق لأدائها، أو كان ينظر إلى الحرام فاستمد من ذكرى الحسين (علیه السلام) ما يعينه على تركه، أو كان سيئ الخلق مع أهله أو جيرانه أو قاطعاً للرحم فسمع موعظة أعانته على علاج هذه الحالات، فمثل هذا التقدم عليه أن يحافظ عليه ويستمر به ويعمل على تحقيق المزيد.فالدعاء الشريف (ولا تردّنا في سوء استنقذتنا منه أبداً) لا يختص بالمعاصي وسلب النعم التي أنقذه الله تعالى منها بل يعم الاستنقاذ من حالات الطاعة المتدنية إلى حالات الطاعة الأعلى منها.

ص: 360

نفحات مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

وفق سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) لحج بيت الله الحرام سنة 1431 هجرية، فكانت فرصة للالتقاء بعدد من قوافل الحجيج وحضور بعض الملتقيات الثقافية والدينية، وشارك سماحته فيها بكلمات وأحاديث أخلاقية، كما قُدّر له ولثلة من المؤمنين أن يقيموا صلاة الجمعة المباركة في مقر إقامته في مكة المكرمة لثلاثة أسابيع وألقى فيها خطباً تبيّن بعض أسرار التشريع لمناسك الحج ومواعظ عامة، وقد جُمعت تلك الخطب والكلمات مع تغطية لجملة من فعاليات الرحلة وصور تذكارية لها في كتاب طبع باسم (نفحات مكية).

ص: 361

خطاب المرحلة 266 :محطة من حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اليومية

خطاب المرحلة 266 :محطة من حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اليومية(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

نحن في جوار رسول الله (صلی الله علیه و آله) وفي ضيافته، ونحب أن نقف عند محطة من حياته الشريفة (صلی الله علیه و آله) ففي الرواية إنه (صلی الله علیه و آله) كان إذا استيقظ من نومه(2) في جوف الليل قلّب طرفه في السماء متأملاً ويقرأ الآيات الكريمة العشر في أواخر سورة آل عمران وهو يبكي [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَك َفَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ، رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ، رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا

ص: 362


1- كلمة ألقاها سماحة الشيخ (دام ظله) في المدينة المنورة في موسم الحج 1431 ه- حيث دعي لحضور الملتقى الثقافي الذي يقيمه الشيخ طاهر الهاجوج في الموسم في الحسينية الكبيرة التي أنشأها، وكان في استقبال سماحة الشيخ الشيخ الهاجوج وعدد من الوجهاء، وحضر الملتقى عدد من العلماء وممثلي البعثات والمرجعيات الدينية من النجف الأشرف وقم المقدسة. وكان ذلك يوم الثلاثاء 24/ذو القعدة ه- الموافق 2/ 11/ 2010م.
2- الدر المنثور للسيوطي في تفسير الآية.

تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ] (آل عمران: 190-194.[رَبَّنَا مَا خَلَقتَ هَذا بَاطِلاً سُبحَانَكَ] أيها الأحبة:

نحن لم نخلق في هذه الدنيا عبثاً وبلا غرض، قال تعالى: [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ، لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ] (الأنبياء: 16-17). فلا بد أن نلتفت إلى هذا الغرض الذي خلقنا من أجله ليكون ماثلاً امامنا دوماً ولنكرّس حياتنا من أجله، قال تعالى: [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات:56).

وورد في تفسير الآية عن أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) قال: (خرج الحسين بن علي (علیه السلام) على أصحابه فقال : أيها الناس إن الله جل ذكره ما خلق العباد إلا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه)(1) ومما ورد في دعاء الإمام الحسين (علیه السلام) يوم عرفة (إلهي علمت باختلاف الآثار وتنقلات الأطوار أن مرادك مني أن تتعرف إليّ في كل شيء حتى لا أجهلك في شيء).

فالغرض من وجودنا هو التعرف إلى الله تبارك وتعالى وعبادته بحقيقة العبادة، بأن يكون الله تبارك وتعالى كقطب الرحى الذي ندور حوله وإلى هذا المعنى يشير الطواف بالكعبة، وأن يكون تبارك وتعالى محور حياتنا في كل حركاتنا وكل سكناتنا ومشاعرنا وعواطفنا ومواقفنا التي نتخذها في حياتنا.

وهذا لا يعني أن نترهب ونعتزل الدنيا في الصوامع والكهوف، بل بالعكس فإن هذا الهدف يدفعك إلى أن تخوض الحياة بكل تفاصيلها

ص: 363


1- علل الشرائع للشيخ الصدوق: باب 9: علة خلق الخلق.

وتمارسها بشكل طبيعي لتؤدي رسالتك ولكن عليك أن توظف كل ممارساتك لهذا الهدف، لقد كان الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) عباداً مخلصين لله تبارك وتعالى ومعصومين عن الالتفات إلى غيره ومع ذلك فقد كانوا يمارسون حياتهم الطبيعية كأي إنسان، فلا منافاة.فالعمل والكسب يمكن أن يجعله الإنسان لاكتناز الأموال وزيادة أرصدته في البنوك للمباهاة والتفاخر ولايخرج حقوقه الشرعية فيكون وبالاً عليه، ويمكن أن يجعله للتعفف مما في أيدي الناس وللإنفاق في وجوه البر والإحسان ومساعدة المحتاجين والحج والزيارة وتزويج المؤمنين ودعم المؤسسات الخيرية فينال رضا الله تبارك وتعالى ويحقق الهدف.

والأكل مثلاً يمكن أن يجعله لحفظ البدن الذي هو واجب وللتقوي على العبادة ونحوها من الأهداف الصحيحة، والزواج الذي فيه إشباع للشهوة والغريزة يمكن وضعه في هذا السياق بأن يجعل غرضه إقامة سنة الله تبارك وتعالى وصيانة النفس والزوجة من الحرام وإدخال السرور على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) وتكثير نسمات الموحّدين وبناء أسرة صالحة وإدخال السرور على امرأة مؤمنة ونحوها من النيات المباركة وهذا إنما يتحقق حينما يكون الإنسان دائم الذكر لربه مستحضراً وجوده المقدس والإنسان غير المعصوم لايكون كذلك على الدوام ولكن ليجعله هدفه الذي يسعى لتحقيقه، ولو أدركته غفلة أو انساق وراء شهوة فليعد فور تذكره إلى ربّه قال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ] (الأعراف:201).

ص: 364

ونحن أتباع أهل البيت (علیهم السلام) متمسكون بأوثق العرى الموصلة لمعرفة الله تبارك وتعالى الدالة على عبادته وأعظم الوسائل لنيل رضاه، والضامن الأكيد لسلامة المسير إلى الله تبارك وتعالى والصائنة من الانحراف عن الصراط المستقيم، ففي تتمة رواية علل الشرائع المتقدمة (فقال له رجل: يا ابن رسول الله بأبي أنت وأمي فما معرفة الله؟ قال: معرفة أهل كل زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته) لأن من لا يعرف إمام زمانه ولا يأخذ عنه فإنه لا يعرف الله حق معرفته، ومن يعتقد أن ربه يتركه بلا إمام يهديه فقد ضل سواء السبيل، وقد ورد في الدعاء (اللهم عرفني نفسك، فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف رسولك، اللهم عرفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني).وقد أمر الله تبارك وتعالى باتخاذ هذه الوسيلة لنيل رضاه قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ] (المائدة:35) وهي ولاية أهل البيت ومودّتهم كما دلت عليه الروايات ويمكن استفادة هذا المعنى من القرآن الكريم بالجمع بين الآيتين الكريمتين [قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً] (الفرقان:57) وقوله تعالى: [قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى] (الشورى:23). فالسبيل هي مودة أهل البيت (علیهم السلام) وقد أمرت آية سورة المائدة باتخاذه وسيلة.

ومن لطف الله تعالى بعباده وحكمته في تدبير شؤونهم وتغطية كل مساحات الحياة أنه نوّع الطاعات والقربات الموصلة إليه وأعطى لعباده إمكانيات ومؤهلات مختلفة، فبعض أعطي العلم النافع فهو يتقرب إلى الله

ص: 365

بإرشاد الناس وتعليمهم معالم دينهم وهدايتهم، وآخر أعطي المال ليتقرب إلى الله بإنفاقه في وجوه البر والإحسان، وآخر أعطي أخلاقاً كريمة يعاشر بها الناس فيحبّه الله تبارك وتعالى.فهذا التنوع في القناعات والاختلاف في أداء الأعمال الموصلة إلى الله تعالى رحمة بالعباد كما في الحديث النبوي الشريف (اختلاف أمتي رحمة)، وهنا شقشقة أريد أن أبوح بها لأن مجتمعنا مبتلٍ بها في جميع البلدان وليست خاصة ببلد فقد بلغني أنها موجودة هنا في المملكة وإيران والبحرين ولبنان كما هي موجودة عندنا في العراق وهي عدم التعاطي مع هذا التنوع بايجابية، بل بحساسية مفرطة وسوء ظن تصل إلى حد التقاطع وتبادل الاتهامات والتسقيط وربما التكفير في بعض الحالات والعياذ بالله، وهذه حالة مرفوضة ولا مبرر لها من سيرة أهل البيت (علیهم السلام) وتعاليمهم وتوقع أصحابها في الكبائر. مع ما فيها من حرمان للأمة من طاقات فاعلة وحركات مؤثرة.

لقد شبّه رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمته بالسفينة التي تتحرك بحركة واحدة نحو ساحل الأمان ولو شاء أحد أن ينفرد برأيه ويخرج من حركة الأمة ويقلع خشبته من السفينة فإن الأمة تغرق فلا بد من حركة تكاملية لعناصر المجتمع يتمم بعضهم دور بعض ويشكل كل واحد المساحة التي يستطيع التحرك فيها، وليست حركة تقاطعية عدائية، أجارنا الله تعالى وإياكم من مضلات الفتن.

ص: 366

خطاب المرحلة 267 :وَلْتَنظُرْ نَفسٌ مَا قَدّمَتْ لِغَدٍ صلاة الجمعة التأريخية (الأولى)

خطاب المرحلة 267 :وَلْتَنظُرْ نَفسٌ مَا قَدّمَتْ لِغَدٍ صلاة الجمعة التأريخية (الأولى) (1)

الخطبة الأولى:

قال الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ] (الحشر: 18-19).

(ولتنظر نفس ما قدمت لغدٍ) هذا الغد ليس يوماً واحداً وإنما هو زمان واسع فسيح يبدأ من موت الإنسان ولا ينتهي عند عرصات القيامة والحساب بل هم فيها خالدون: فريق في الجنة وفريق في السعير نعوذ بالله.

فالله تبارك وتعالى يدعونا في هذه الآية إلى أن نراجع أنفسنا وننظر ماذا قدمنا لهذا الغد المجهول العصيب الذي فيه أهوال وصعوبات لا يعلمها إلا هو

ص: 367


1- في يوم الجمعة 27/ذو القعدة/1431 ه- الموافق 5/ 11/ 2010 م أقدم سماحة الشيخ (دام ظله الشريف) على خطوة تأريخية مباركة وغير مسبوقة –على الأقل في العقود القريبة المنصرمة- فقد أقام سماحته أول صلاة جمعة في مكة المكرمة في مقر إقامته، وقد ألقى سماحته خطبتي صلاة الجمعة مرتدياً ثوب إحرامه حيث أعاد إلى الأذهان تلك الأجواء التي عاشها المؤمنون في العراق أيام إقامة صلاة الجمعة في مسجد الكوفة المعظم من قبل السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وبكى فيها (دام ظله) وأبكى العيون لأكثر من مرة لما تضمنته الخطبة من مواعظ.

تبارك وتعالى، لا نعرف نحن عنه شيئاً ولا نعرف ما معنى أن ننظر لهذا الغد حتى نستعد له ونهيئ له ما يناسبه، لكن الله تبارك وتعالى هو ولي هذا الغد وملك هذا الغد وخالق هذا الغد بيّن لنا ما ينفعنا في تلك الحياة وحاشا لله تبارك وتعالى الرحيم الرؤوف بعباده المحسن إليهم أن يتركهم سدى، قال تعالى [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] (البقرة: 197).خذوا مثالاً: سفركم هذا إلى الحج وهو سفر قصير لا تتجاوز مدته الشهر ومعكم إدلاء يرشدونكم ومتعهدون يتولون إدارة شؤونكم ورفقة وإخوان وجهات توفر لكم الخدمة والمنزل والطعام ومع ذلك فإن أحدكم يستعد له منذ مدة طويلة ويتحسب لكل احتمال ويُعدّ كل ما يحتاجه من دقائق الأمور ويعيد النظر في جهازه خشية أن يكون قد نسي شيئاً.

فكيف بسفر الآخرة الذي لا أمد له ولا مُعين ولا رفيق ولا زاد إلا عملك فإنه قرينك صالحاً كان أو سيئاً والعياذ بالله تعالى وزادك التقوى التي يطلبها الإمام الحسين (علیه السلام) في دعاء يوم عرفة (اللهم اجعلني أخشاك كأني أراك وأسعدني بتقواك ولا تشقني بمعصيتك).

وهذا المستوى الذي يطلبه الإمام الحسين (علیه السلام) ويحثّ على الوصول إليه هو مستوى [اتّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ] وهو لا يتيسر إلا لعباد الله المخلصين ولكن لا مانع من طلبة والسعي لتحصيله من خلال تطبيق الآية الأخرى [اتّقُوا اللهَ مَا استَطَعتُمْ] فإن الله تعالى تكفّل لمن يعمل بما يتيسّر له أن يوفقه ما لم يكن يستطيعه بلطفه وكرمه.

وهذه الفريضة الإلهية التي وفقكم الله تعالى إليها فدعاكم لضيافته والوفود

ص: 368

إلى بيته الآمن المحرم هي من أعظم مصاديق التقوى و أوثق الأسباب لتحصيلها بل أن آية [وتزوّدوا] وردت في سياقها قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ] (البقرة: 197).والتقوى عنوان يتحلل إلى الكثير من الحركات والسكنات: الحركات باتجاه الأعمال الصالحة سواء كانت على نحو الواجبات أو المستحبات وهي أضعاف الأولى، والسكنات أي التوقف إزاء الأعمال غير الصالحة سواء كانت على نحو المحرمات أو المكروهات، وقد حفلت الكتب بتسجيلها جميعاً حتى دقائقها ولا يستطيع أحد استقصائها.

ومن حكمة الله تعالى ورحمته بعباده أنه نوّع القابليات والقدرات والمؤهلات عند خلقه لتُغطّي كل مساحات عمل الخير ولكي لا يحرم أحد منها، فأعطى للبعض ثروة مالية فهو يتصدق منها ويساعد الفقراء والمحتاجين ويزوّج الشباب المعسرين ويحج ويزور ويبني المساجد ويشيّد المشاريع الخيرية وآخر لم يعطه مالاً لكنه أعطاه علماً نافعاً فهو يرشد الناس ويهديهم ويصلح ما فسد من أمور دينهم ودنياهم ويوجههم ويعلمهم أمور دينهم.وآخر لم تعط مالا ولا علماً لكنه أعطى أخلاقا حسنة فهو يعاشر الناس بالمعروف ويفشي السلام ويتصدق بالكلمات الطيبة، كما ورد في قول النبي (صلی الله علیه و آله) لعمه العباس: (يا بني عبد المطلب إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم)(1).

ص: 369


1- بحار الأنوار: 71/ 169.

ففرص الطاعة والتقرب إلى الله تعالى متكافئة للجميع لكنها منوّعة بحسبهم، روي أن مجموعة من النسوة شكت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) تفضيل الرجال عليهن بإعطائهم فرصة الجهاد الذي هو (باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه)(1) –كما وصفه أمير المؤمنين- وسقط عنهنّ، فأجاب النبي (صلی الله علیه و آله) بأن (جهاد المرأة حسن التبعّل)(2) فالتساوي في فرص التكامل مكفولة للجميع. وكذلك فرصة الحج التي منحت للمستطيعين لم يُحرم منها الفقراء فورد فيهم (صلاة الجمعة حج المساكين)(3).وهذه من عدالة الله تبارك وتعالى ومن حكمته لتُملأ كل مساحات عمل الخير بحسب اختلاف إمكانيات الناس وتوجهاتهم، وإذا قال أحد أنه لم يعطني الله شيئاً فليراجع نفسه وسيجد ما يتقرب به وتلقي ما ورد في الحديث الشريف (ما عُبِد الله بشيء كالفرائض)(4). ونعود إلى ما بدأنا به من قوله تعالى (ولتنظر نفس ما قدمت لغد).

ص: 370


1- نهج البلاغة: خطبة 27.
2- بحار الأنوار: 18/ 107.
3- بحار الأنوار: 86/ 199.
4- تحف العقول: 286 وفيه (ولا طاعة كأداء الفرائض).

خطاب المرحلة 268 : الخطبة الثانية:

أهم من العمل أمران:

أشرنا في الخطبة الأولى إلى أن الأعمال التي يتقرّب بها إلى الله تعالى لها مدى واسع يستوعب الخلق كلهم، وهنا نقول أن القيام بالعمل الصالح وحده لا يكفي بل يوجد ما يتمّمه ويعطيه قيمته وهو أهم من العمل نفسه لأنه بدونه يبقى عملاً فارغاً وشكلياً لا قيمة له، كما ورد في بعض الروايات إن صلاة بعض الناس تلّف في خرقة يوم القيامة وترمى بها في وجهه، وإنه (كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والظمأ، وكم من قارئ للقرآن والقرآن يلعنه)(1) وما ورد في الحج أن أحد أصحاب الأئمة أعجب بكثرة الحجيج وارتفاع أصواتهم بالتلبية والتكبير والحمد لله تعالى فقال له الإمام (علیه السلام): ما أكثر الضجيج وأقل الحجيج.

فالعمل وحده لا يكفي لنيل رضا الله تبارك وتعالى والفوز عنده، بل قد يكون وبالاً على صاحبه كما ورد في دعاء الإمام الحسين (علیه السلام) في يوم عرفة (إلهي كم طاعة بنيتها، وحالة شيدتها هدم اعتمادي عليها عدلك بل أقالني منها فضلك) فقد كنت أتصور أن ميزاني ثقيل بالأعمال الصالحة التي قدّمتها وعوّلت عليها لكنها لما عُرضت على الموازين القسط ليوم القيامة وإذا بها لا

ص: 371


1- نهج البلاغة: 4/ من حكمه (عليه السلام) الحكمة رقم (145) وفيه (وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر والعناء، حبذا نوم الأكياس وإفطارهم).

قيمة لها، بل صرت أهرب وأتبرأ منها وأطلب الإقالة والعفو عنها. وقد تستغرب ذلك لكنني أقرّبُ القضية بمثال: فلو أن ملكاً دعا شخصاً حقيراً للقائه وضيافته فلبى الدعوة وكان الملك مقبلاً عليه وهيأ له كل أسباب التكريم والجوائز الثمينة لكن المدعو كان مُعرضاً عنه ولا يلتفت إليه ومتشاغلاً بأمور أخرى، ألا تعد هذه إساءة في الأدب مع الملك ويعاقب عليها؟ فالصلاة دعوة للقاء الله تبارك وتعالى ومناجاة معه فإذا كان المصلي مشغولاً عن ربه وشارد الذهن عن صلاته فهو كهذا الشخص مع حقارة قدره أمام ملك الملوك فماذا سيكون جزاؤه؟ فهذا هو حال صلاتنا التي هي أهم العبادات وعمود الدين فكيف نرجوا الثواب عليها؟ إلا بلطف الله تعالى وكرمه وفضله وصفحه فلا بد أن يقترن العمل بأمرين لينتج الغرض المطلوب وهما:الأول: تحسين العمل، قال تعالى [الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] (الملك:2) فليس المهم كثرة العمل وإنما حسنه، وقد حثّت آياتٌ كثيرة على حُسن العمل وإن القبول بحسب الإحسان في العمل. قال تعالى [إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ] (الأعراف:56) [إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً] (الكهف:30).

وإحسان العمل يتحقق بجملة أمور:

منها: إخلاص النية لله تبارك وتعالى والإتيان بالعمل لنيل رضاه وليس لأي هدف آخر، فهذا الحج قد يأتي به شخص للمباهاة أو للرياء وليقال له (حاج فلان) أو للسياحة والاطلاع على تلك المشاهد المقدسة وغيرها من النوايا غير المخلصة، فهذا لا يكون عملاً مقرباً إلى الله تعالى وإن كان الحاج لا يحرم

ص: 372

الأجر مطلقاً مهما كانت نيته لكن قد يكون أجره في الدنيا كما ورد في بعض الروايات.ومنها: إتقان الأحكام الشرعية للعمل وحفظ حدوده، فللحج أحكام وتفاصيل لابد من معرفتها وأداء العمل بشروطه لأن الإخلال بها إخلال بالعمل نفسه وقد يقع باطلاً، لذا لابد من اختيار المرشدين العارفين الورعين والآخذ منهم ومتابعتهم وسؤالهم عن دقائق الأمور، فالعمل التام لا بد أن يقترن بالعلم والإخلاص، ورد في الحديث الشريف (الناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطرٍ عظيم)(1).

ومنها: الالتفات إلى أسرار العمل ومعانيه وحقائقه، فإن وراء هذه الأعمال الجوارحية حقائق هي المطلوبة من العمل وليس هذه الحركات الشكلية، كالأمثال التي تُضرب وتراد منها الحقيقة التي صورت على شكل هذا المثل، وكالرؤيا الصادقة في المنام التي لها حقيقة تؤول إليها الرؤيا وترجع إليها لذا سميت تأويل الأحلام فمثلاً ملك مصر رأى في المنام سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وآخر يابسات وكانت حقيقة هذه الرؤيا ما فسرها به يوسف الصديق (ع).

فيحسن التعرف إلى الأسرار المعنوية لمناسك الحج والأغراض المقصودة من حركاته وأفعاله وهي على مستويات وتحتاج إلى بحث مفصّل كالذي ورد

ص: 373


1- جامع السعادات: 1/ 220.

في رواية الإمام السجاد (علیه السلام) مع الشبلي(1).الثاني: المداومة على العمل وحفظه ومواصلته، ولا نعني بهذا الأمر تكرار الحج لأن هذا غير متيسّر إلا نادرٌ فللمداومة أنحاء عديدة ربما نتعرض لشرحها في خطبة مستقلة بإذن الله تعالى.

لكننا نريد الإشارة هنا إلى أن الإنسان قد يوفّق في مثل هذه المواسم الروحية الخالصة إلى أعمال إضافية لم يكن معتاداً عليها فيؤديها بسبب ارتفاع الهمة للطاعة والأجواء المشجّعة ومصاحبة المؤمنين الصالحين والتعلم منهم كصلاة الليل أو تلاوة القرآن (الذي يستحب ختمه في رحلة الحج) أو صلاة جعفر الطيار التي كان السلف الصالح يهتم بها ويواظب عليها، أو الصلاة في أوقاتها ومنها صلاة الصبح وصلاة الجماعة والاستماع إلى التوجيهات الدينية وغيرها، فالمطلوب منه أن يستمر على هذا التقدم ويحافظ على هذا الانتصار الذي حققه على النفس الأمّارة بالسوء فيواظب على هذه الأعمال التي وُفّق إليها وذاق حلاوة أدائها.

وهكذا ينبغي للمؤمن أن يحافظ على كل المكاسب التي يحققها في جهاده مع نفسه مما يُوفّق له في الأزمنة الشريفة –كشهر رمضان- أو الأمكنة الشريفة أو المواسم المباركة كالحج.

لاحظوا ما ورد في من حفظ سورة من القرآن الكريم أو آية ثم نسيها وهي عدة روايات معتبرة منها صحيحة أبي بصير قال: (قال أبو عبد الله (علیه السلام): من نسي سورة من القرآن الكريم مثلت له في صورة حسنة ودرجة رفيعة في الجنة

ص: 374


1- راجعها في رسالة مناسك الحج لسماحة الشيخ، صفحة 244 الطبعة الثالثة.

فإذا رآها قال: ما أنتِ فما أحسنك ليتك لي؟ فتقول: أما تعرفني أنا سورة كذا وكذا ولو لم تنسني رفعتك إلى هذا)(1).ومن المداومة على العمل إدامة آثاره كالانتهاء عن الفحشاء والمنكر بالنسبة للصلاة قال تعالى [إنَّ الصَلاةَ تَنهَى عَنِ الفَحشَاءِ وَالمُنكَرِ] (العنكبوت: 45) فيجعل المؤمن صلاته نصب عينيه ويتذكرها دائماً لتردعه عن الهم بأي معصية أو منكر، فهذه مداومة على الصلاة، وقد وعد الله تعالى بأن (الحاج لا يزال عليه نور الحج ما لم يلمّ بذنب)(2).

ص: 375


1- أصول الكافي: كتاب فضل القرآن، باب (من حفظ القرآن ثم نسيه).
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب وجوب الحج وشرائطه، باب 38، ح14.

خطاب المرحلة 269 :كلمة توجيهية تذكروا أنكم بمحضر الله تعالى والمعصومين (سلام الله عليهم)

خطاب المرحلة 269 :كلمة توجيهية تذكروا أنكم بمحضر الله تعالى والمعصومين (سلام الله عليهم)(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين..

غالباً ما يدفع الشعور بالمراقبة من قبل الغير بالإنسان إلى سلوك معين مختلف عن سلوكه لو لم يكن يشعر بكونه مراقباً، وهذا أمر واضح وله عدة أمثلة وتطبيقات في الواقع، فالإنسان يفعل في السر أموراً يخشى ويخجل من فعلها في العلن، ولو علم حينها أنه مراقب لما فعلها بكل تأكيد، فسائق السيارة مثلاً حين يواجه إشارة المرور في طريقه لا يجد أثراً لشرطي المرور فإنه يتجاوز الإشارة الحمراء دون تردد، لكنه لو كان يعلم بأن هناك كاميرات خفية تقوم برصده وأن هناك من يراقبه لما أقدم على تجاوز حدوده في الشارع، وهكذا كثير من أفعال الإنسان التي يقوم بها في السر وهو في غفلة عمن يراقبه

ص: 376


1- يوم الاثنين 2/ذو الحجة الموافق 8/ 11/ 2010 زار وفد من إحدى حملات الكرادة الشرقية في بغداد مقر بعثة سماحة الشيخ (دام ظله) في مدينة مكة المكرمة، وألقى مرشد الحملة كلمة بهذه المناسبة وطلب من سماحة الشيخ كلمة إرشادية فاستجاب (دام ظله) لطلبهم وألقى هذه الكلمة فيهم.

فيها.وأوضح مصاديق ذلك وأشدها غفلة وخسارة هي عدم الشعور بكون الله تعالى رقيباً عليه، فتجد الإنسان قد يؤمن نظرياً بأن الله تبارك وتعالى يراه [وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ] (يونس:61) لكن من حيث التطبيق لا تجد هذا الاعتقاد منعكساً على أفعاله، وهو علامة على أن إيمانه لم يكن واقعياً، وإلا لو كان كذلك لظهر أثر واقعية الإيمان في فعله.

وقد أشارت بعض نصوص الأدعية الشريفة إلى هذه المفارقة، فمن ذلك قول الإمام الحسين (علیه السلام) يوم عرفة: (يا من سترني من الآباء والأمهات أن يزجروني، ومن العشائر والإخوان أن يعيروني، ومن السلاطين أن يعاقبوني، ولو اطلعوا يا مولاي على ما اطلعت عليه مني إذن ما أنظروني، ولرفضوني وقطعوني).

ومنه قول الإمام السجاد (علیه السلام) في دعاء أبي حمزة: (فلو اطلع اليوم على ذنبي أحد غيري ما فعلته، ولو خفت تعجيل العقوبة لاجتنبته، لا لأنك أهون الناظرين إلي وأخف المطلعين عليّ، بل لأنك يا رب خير الساترين وأحكم الحاكمين، وأكرم الأكرمين، ستار العيوب، غفار الذنوب، علام الغيوب، تستر الذنب بكرمك، وتؤخر العقوبة بحلمك، فلك الحمد على حلمك بعد علمك، وعلى عفوك بعد قدرتك).

ومن مصاديق ذلك أيضاً الغفلة عن الموت مع الاعتقاد به يقيناً، حتى قال

ص: 377

أمير المؤمنين (علیه السلام): (ما رأيت يقيناً أشبه بشك من الموت)(1)، فنحن نؤمن بأن الموت حق، وأنه لا بد أن يختطفنا في أية لحظة من لحظات العمر، ولكن كم واحد منا يؤمن بذلك عملياً، بمعنى أنه استعد له وتهيأ وأدى ما عليه واجتنب كل ما حرم الله عز وجل، والحال أنك تجد العكس من ذلك، فالكثير منا يعمل وكأنه سيظل خالداً في هذه الدنيا.ومن مصاديق الغفلة والتصرف بخلاف وجود المراقبة ما ذكرته الرواية الشريفة: (والله إن صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كل سنة يرى الناس ويعرفهم ويرونه ولا يعرفونه)(2) وهي رواية موجودة وصحيحة، إذن نحن بمرأى من الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، فمن يستشعر الخجل والحياء من فعل أمر أمام الناس علناً في حين يفعله في السر، مثل هذا الإنسان كيف به إذا اعتقد أن إمامه يراه دائماً، بالتأكيد إن ذلك سيدفعه إلى أن يكون أكثر مراقبة لنفسه في تعاملاته وتصرفاته، وبطبيعة الحال إن مثل هذه الأحاديث حين يمر بها الإنسان ويستشعر كل هذه الكاميرات التي تراقبه فإنه لن يتعامل مع الآخرين وكأنه في مغالبة على الدنيا، وسعي إلى الحصول على الغنائم والمكاسب الدنيوية، بل يستشعر مسؤوليته أكثر، ويحاسب نفسه أكثر، لأننا لن نُترَك سدىً وليس الأمر منتهياً، صحيح أن حلم الله تبارك وتعالى طويل لكنه يؤجلهم إلى يوم [لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً] (الكهف: 49).

ص: 378


1- بحار الأنوار: 75/ 246.
2- الغيبة: 9/ 18.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يعيننا على طاعته وأن ينقذنا من الغفلة وأن نكون ذاكرين لله تبارك وتعالى ولإمامنا عجل الله فرجه الشريف، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

ص: 379

خطاب المرحلة 270 :مواعظ من مناسك الحج

اشارة

خطاب المرحلة 270 :مواعظ من مناسك الحج(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

من وصية أمير المؤمنين (علیه السلام) لولده الحسن (علیه السلام): (يا بنيَّ أحيِ قلبك بالموعظة وأمته بالزهادة)(2) فالقلوب تحتاج إلى بعث الحياة فيها من جديد كلما اقتربت من الموت بسبب الرين والقساوة التي تطرأ عليها، وقد ورد في الرواية أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال يوماً لأصحابه (إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد، قيل وما جلاؤها يا رسول الله. قال: ذكر الموت وتلاوة القرآن)(3).

فلا بد للمؤمن أن يتحرى الموعظة ليستثير في قلبه الحياة ويأخذ بأسبابها

ص: 380


1- تواصلاً مع أتباع مذهب أهل البيت (علیهم السلام) في الدول الإسلامية أجاب المرجع اليعقوبي (دام ظله) دعوة حملة (أنوار المؤمل) القطيفية من المملكة وذلك مساء يوم الأربعاء 4/ذو الحجة الموافق 10/ 11/ 2010. وكان في استقباله عدد من الفضلاء والمؤمنين الذين عبّروا عن شكرهم وامتنانهم لهذا التكريم الذي يعزز في نفوسهم عظمة المذهب وشموخه من خلال الاتصال بالعلماء الأعلام والمراجع الكرام، هذا وقد بدأ البرنامج بكلمة ترحيبية، بعدها تقدم أحد الفضلاء من أعضاء البعثة بكلمة موجزة والتي قدم في نهايتها سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) كلمته الوعظية هذه والتي تضمنت الكثير من العبر ذكّرت بالسفر الأبدي وغفلة معظم الناس عن الاستعداد له، وقد جسدت هذه المحاضرة مناسك الحج،.. والعظة والعبرة المستوحاة منها عملياً.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 1/ 25.
3- شجرة طوبى: 2/ 292.

كالتي ذكرها رسول الله (صلی الله علیه و آله) و إلا فإن الرين الذي ينشأ من خوض الإنسان في أفعاله الحياتية ولوازمها وما تقتضيه طبيعته البشرية فضلاً عن ارتكاب المعاصي –والعياذ بالله تعالى- يتراكم على القلب فيسوّد ويقسو حتى يطبع عليه فيموت ولا تؤثر فيه الموعظة وأسباب الهداية.ومن هنا جاء العتاب الرباني للذين لا يديمون إحياء قلوبهم بالموعظة، قال تعالى [أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ] (الحديد:16) ثم يضرب مثلاً لحياة القلوب قال تعالى: [اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] (الحديد:17).

كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يأخذ من كل شيء موعظة حتى من الحركات الاعتيادية كدخول الحمام فقد روى عنه (صلی الله علیه و آله) انه إذا رأى المال الساخن قال (نعم البيت الحمام: يزيل الدرن ويذكّر بالآخرة) فان ماءً سخّنه الإنسان ليغتسل به لا يطيق حرارته ما لم يعالجها بماء فائر فكيف بالماء الحميم الذي يسقى به أهل النار فقطّع أمعاءهم والعياذ بالله تعالى.

وقد حفلت روايات أهل البيت (علیهم السلام) بالكثير من المواعظ ومنها ما رووها عن الأنبياء والحكماء السابقين كعيسى روح الله ولقمان الحكيم، فاستفيدوا أيها الأخوة من الكتب التي جمعت هذه المواعظ كالبحار وتحف العقول وغيرهما واستمعوا إلى مواعظ الخطباء والفضلاء والمصلحين والتربويين، وقد تيسّرت اليوم كثيراً بفضل الله تعالى وتعرض قنواتنا الفضائية أنواعاً من الخطب

ص: 381

والمجالس والأحاديث والكلمات.والحج من أوله إلى آخره، حافل بالمواعظ ابتداءً من الاستعداد للسفر والتزود له الذي يذكّرك بسفر الآخرة الطويل المجهول الأبدي والتزود له بالتقوى والأعمال الصالحة، قال تعالى: [وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ] (البقرة:197).

ومصاعب السفر وغربته ووحشة الأهل والوطن والأحبة تذكّر بوحشة البرزخ وغربته خرج الإمام الكاظم (علیه السلام) في تشييع جنازة فلما وقف على شفير القبر قال: (إن شيئاً هذا أوله –وهي الآخرة- لحقيق أن يخاف من آخره، وان شيئاً هذه آخره –وهي الدنيا- لحقيق أن يزهد في أوله).

وبِقُرَناء السفر الصالحين كانوا أو مزعجين تتذكر قرينك في القبر وهو عملك فإن كان صالحاً آنسك وأسعدك وإلا كان بئس القرين الذي ينغّص ويكدّر ويؤلم.

وبلبس ثوبي الإحرام والتجرد عن كل متعلقاتك في الدنيا تتذكر أنك ستغادرها في يوم ما ملفوفاً بكفن كثوب الإحرام ولا تصحب منها شيئاً إلا ما قدمت لآخرتك [وََمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ] (البقرة:110).

وهكذا تتوالى المواعظ التي يفهمها كل واحد بحسب مستواه، فإذا خرج إلى عرفات –وهي أرض تقع خارج الحرم- التفت إلى هذا الدرس وهو أن مقتضى استحقاق الناس بحسب سعيهم في الحياة الدنيا أن يخرجوا من حرم الله وجنانه وان يحرموا رضوانه، ولكنهم بعد أن يجأروا إلى الله تبارك وتعالى بالدعاء ويلحّوا بطلب التوبة يوم عرفة يؤذن لهم بالعودة التدريجية إلى حرم

ص: 382

الله، ولكن بعد أن يطهروا أنفسهم بالدعاء وذكر الله تعالى في مزدلفة [فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ] (البقرة:198)، ويستجمع العدة لمواجهة الشيطان ورد كيده - بجمع الحصى- ثم يتوجه إلى منى ليرمي الجمرات معبّراً عن رفضه لطاعة وعبادة كل ما سوى الله تبارك وتعالى (لا إله إلا الله) وينحر أطماعه وشهواته وأهواءه المضلّة، ثم يحلق رأسه علامة على الاستعداد التام لنصرة الله تبارك وتعالى والتضحية في سبيله (حيث أن حلق الرأس كان دليلاً على بلوغ أعلى درجات التضحية وشدة الاستعداد للحرب) وحينئذ يؤذن له بالعودة إلى بيت الله الحرام الآمن لأداء بقية المناسك تعبيراً عن رضا الله تعالى عنه وقبوله إياه ودخوله في جنانه وتحت ظلِّه.

ص: 383

الاختلاف لا يفسد للود قضية

الاختلاف لا يفسد للود قضية(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين..

يعتبر الاختلاف بين الفقهاء في المذهب الشيعي في استنباط الأحكام جانباً إيجابياً كبيراً يدل على دينامكية الجو العلمي وحركيته وإبداع علمائه، وبعكسه الجمود والانغلاق الموجود في غيره من المذاهب الإسلامية فهو عامل سلبي وحالة من التحجم.

غير أن هذه الحالة الإيجابية من تعدد الآراء المتنوعة ينبغي أن لا تكون سبباً للتقاطع والعداء بين مختلف التوجهات من أتباع هذا المذهب الشريف، والسبيل الحقيقي في ذلك هو أن نعود إلى الله تبارك وتعالى وأن نحطم صنم العصبية المقيت الذي نعبده من دون الله تعالى، كما قال جل ثناؤه: [أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ]، فتجد شخصاً يتعصب لعشيرته، وآخر متعصب لمرجعيته، وثالث متعصب لحزبه، وهكذا ..

وهذه كلها أصنام تعبد من دون الله تبارك وتعالى، فالحل هو بالعودة إلى الله تبارك وتعالى وتحطيم هذه الأصنام، ونزع هذه الأغلال والتمسك والاعتصام برسولنا الكريم محمد (صلی الله علیه و آله) حتى يحررنا منها [وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ

ص: 384


1- في يوم الخميس 5/ذو الحجة الموافق 11/11/ 2010 زار مقر البعثة وفدٌ من منطقة العوامية التابعة لمدينة الأحساء في المملكة العربية السعودية، وضم الوفد مجموعة من طلبة العلم والشباب المثقف كانت لديهم مجموعة من التساؤلات والاستفسارات التي تخص الوضع الإسلامي والشيعي والتحديات التي تواجههما. وهذا تلخيص لكلمات وأجوبة سماحة الشيخ.

الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ].وقد كان الرسول الكريم (صلی الله علیه و آله) في المدينة واستطاع المنافقون أن يدخلوا بين المسلمين وأن يحدثوا الفتنة بين الأوس والخزرج حتى تواعدوا للقتال كديدنهم في الجاهلية وحرضوهما عليه، هذا ورسول الله بين ظهرانيهم.

واليوم عادت الجاهلية بأساليب مختلفة وطرق جديدة، فتجد مثلاً مدينتين مقدستين مثل النجف وكربلاء مع ما بينهما من ارتباط وثيق، بحيث خرجنا أيام الانتفاضة الشعبانية عام 1991 بالآلاف للدفاع عن كربلاء حين اقتحمتها قوات الحرس الجمهوري لنفديها بأرواحنا، تعود اليوم كرة جلدية تتقاذفها الأرجل لتحدث صراعاً بين المدينتين، بين مشجعي نادي النجف ومشجعي نادي كربلاء ويتطور إلى تقاطع وتناحر بينهما، أليست هذه العصبية هي ذات العصبية التي كانت في الجاهلية؟

وهنا تظهر مسؤولية خطبائنا ومبلغينا في تنويع أساليب الطرح، وهذه الأفكار كنت أتبادلها مع السيد الشهيد الصدر (قدس الله نفسه) برسائل قبل أكثر من خمس وعشرين سنة وطبعناها بعد سقوط المقبور صدام بكتاب (الشهيد الصدر كما أعرفه) من ضمن الرسائل التي كان عنوانها: (الجاهلية الحديثة وأسلوب مواجهتها) في زمن كان تعاطي مثل هذه الأمور يكلف صاحبه الإعدام، وكان هو (قد سره) يوصيني بالتقية، حتى زالت هذه التقية وتمكنا من طبع الكتاب والحمد لله مع كتاب آخر يضم مراسلات أخرى معه حول تهذيب النفس طبعناه بعنوان (قناديل العارفين) وهذا وجه من الوجوه العلمية المتعددة للسيد الصدر (قدس سره).

ص: 385

وهنا تظهر أيضاً مسؤولية العلماء في تنويع أساليب الطرح والتعامل مع الأمة باعتبارهم قادتها، وكنت في بعض كلماتي قد شبهت العلماء بالأمهات، فهناك نحوين من العلماء ومثالهما كأمّين، إحداهما تطبخ الطعام وتتركه إلى جانب ولدها المريض الضعيف المحتاج إلى الطعام، فإن شاء أكل وإن شاء لم يأكل، وهو لا يعرف ما يصلح حاله، فينتهي أمره إلى الهلاك، وأخرى لا تكتفي بتهيئة الطعام، بل تتفنن في إقناع الطفل بالأكل، وكلما فشلت وسيلة أو لم يرغب بالطعام أعدت غيره وبوسيلة أخرى حتى يأكل ويسترد عافيته. وهكذا العلماء على نحوين، أحدهما يؤلف الرسالة العملية ويقعد في بيته وينتظر من يطرق بابه ويسأله، والآخر يتوسل بمختلف الأساليب لإيصال الوعي الديني إلى المجتمع، فإذا فشلت وسيلة جرّب غيرها.

فمشكلة الناس ليست مسألة علمية أي في عدم التمييز بين الحرام والحلال، إذ أن جلهم يعرف الحلال والحرام، وإنما المشكلة هو في كيفية جذبهم إلى الالتزام بالحكم الشرعي، وكيف تخلق عندهم الحافز في ذلك، وبالطبع من تلك الأدوات هو اللقاء المباشر للمرجع بالأمة، وخصوصاً من خلال القنوات الفضائية.

ونحن وإن لم نكن نملك قناة فضائية خاصةبنا، لكننا نستغل بعض المناسبات ونظهر في بعض الفضائيات خصوصاً في مناسبة استشهاد الزهراء (علیها السلام)، ولعلكم تعلمون أننا قمنا منذ سنوات بالدعوة إلى سن زيارة لأمير المؤمنين (علیه السلام) في ذكرى شهادتها (علیها السلام) سميناها الزيارة الفاطمية، ليكون يوم تعزية للإمام (علیه السلام) بذكرى شهادة الزهراء (علیها السلام)، فتجتمع المواكب في ساحة

ص: 386

ثورة العشرين في وسط النجف ونلقي خطاباً مباشراً مع الزائرين المحتشدين، ثم يتوجهون في موكب تشييع مهيب، حتى غدا هذا تقليداً سنوياً وشعيرة لها حضورها لإحياء قضية الزهراء (علیها السلام)، كما نظهر في الفضائيات في عدة مناسبات أخرى مثل ذكرى استشهاد السيد الصدر (قدس سره)، وأحياناً في ذكرى عاشوراء لنوجه كلمة للمواكب الحسينية على قنوات متعددة.كما أننا سعينا في تطوير كثير من المشاريع والأفكار على مستوى حوزة النجف بحيث تكون مواكبة للعصر حيث سعينا إلى إدامة الفكر الحركي والعمل الاجتماعي المكمل لفكر السيد الصدر (قدس سره) بعد سقوط النظام اللعين من خلال إرساء نظام حوزوي لا يكتفي بالدروس الحوزوية المتعارفة ضمن حوزة انتشرت فروعها في المحافظات عنوانها (جامعة الصدر الدينية) تضم بالإضافة إلى الدروس الحوزوية دروس أخرى مكملة ومنها بعض العلوم الأكاديمية بما يناسب حاجة الفقيه.

فعلينا إذن أن نطور أساليبنا في التعاطي مع الأمة وأن نركز على وحدة الهدف في القضايا التي تهم المذهب والدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ص: 387

خطاب المرحلة 271 :قولوا لا إله إلا الله تفلحوا

خطاب المرحلة 271 :قولوا لا إله إلا الله تفلحوا(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

تعيش أمتنا بل الإنسانية جميعاً الكثير من المشاكل والتعقيدات سواء على الصعيد الشخصي أو العائلي أو على الصعيد الاجتماعي أو السياسي وغيرها، فالقلق والخوف والضيق ضارب بأطنابه في كل أرجاء الحياة، والبشر في حيرة من أمرهم لا يعرفون كيفية حل الأزمات ومعالجة المشاكل والخروج من هذه المعضلات، وكلما قدمت عقولهم القاصرة حلاً بحسب ظنهم وجدوا أنفسهم أكثر غرقاً في المشاكل فما هو المخرج؟

لقد أعطى رسول الله (صلی الله علیه و آله) الحل قبل ألف وأربعمائة عام وفي أول كلمة قالها لقريش في بدء رسالته المباركة فقال (صلی الله علیه و آله): (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) فالفلاح والسعادة في التخلي عن طاعة وإتباع ما سوى الله تبارك وتعالى من أهواء وشهوات وشياطين الإنس والجن.

ولا تعني كلمة رسول الله (صلی الله علیه و آله) الاكتفاء بقول هذه الكلمة بل العمل بمقتضاها وهذا ما فهمته قريش ووقفت بكل قوة في وجه رسول الله (صلی الله علیه و آله)

ص: 388


1- لبى سماحة الشيخ (دام ظله) دعوة حملة (الشهاب) القطيفية مساء الخميس 5/ذ.ح./1431 الموافق 11/11/ 2010، وكان في استقباله مجموعة من الفضلاء والمؤمنين، وألقى سماحته هذه الكلمة فيهم.

لأن في العمل بهذه الكلمة تهديداً لمصالحهم وزوالاً لوجوداتهم الزائفة، ولذلك فهم لم يكونوا يواجهون الأحناف الموحدين الذين كانوا بين ظهرانيهم قبل بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) لأنهم لم يكونوا يتحركون لتجسيد هذه الحقيقة على الأرض.وكان ترسيخ هذه الحقيقة والعمل على نشرها هي قضية الإسلام الكبرى التي واصل إرسائها الأئمة المعصومون (سلام الله عليهم) بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فحينما اجتمع أربعة آلاف من العلماء ورواة الحديث حول الإمام الرضا (علیه السلام) في نيسابور وهو في طريقه من المدينة المنورة إلى خراسان وطلبوا منه حديث يروونه عنه عن آبائه الطاهرين عن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فماذا كان حديثه (ع) قال بعد أن ذكر السند المبارك الذي قيل فيه انه لو قرئ على مجنون لبُرئ عن جده رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن جبرئيل عن الله تبارك وتعالى قال (لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي) وهمس (ع) (بشرطها وشروطها وأنا من شروطها).

لكن الناس الذين آمنوا بهذه الحقيقة نظرياً ولم يحولوها إلى واقع يعيشونه في حياتهم هم الذين أوقعوا أنفسهم في هذه الحياة النكدة المعقدة، فقد آمنوا بالله تعالى نظرياً وعبدوه شكلياً لكنهم في كثير من تفاصيل حياتهم يعبدون ويطيعون آلهة أخرى . قال تعالى [وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ] (يوسف:110).

قال تعالى [وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى] (طه:124) وقال تعالى [وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً

ص: 389

فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ] (الزخرف:36) فتصوروا شقاء الإنسان إذا كان قرينه الذي يصاحبه شيطاناً يضلّه ويصده عن سواء السبيل.لكن من يحيا حياة الإيمان ويحسدّها في حياته بالأعمال الصالحة فإن حياته تكون سعيدة طيبة، قال تعالى [مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ] (النحل:97).

ص: 390

خطاب المرحلة 272 :صلاة الجمعة المباركة الثانية

اشارة

خطاب المرحلة 272 :صلاة الجمعة المباركة الثانية(1)

الخطبة الأولى: الاستعداد للوقوف بعرفة

بسم الله الرحمن الرحيم

ورد في الحديث الشريف (إن لربكم في دهركم نفحات، ألا فتعرضوا لها) والمقصود هنا نفحات إلهية خاصة بالمتعرضين لها وليست تلك الألطاف الإلهية العامة لكل البشر حتى الملحدين والكافرين والعاصين والتي بها يُخلقون ويرزقون ويتنعمون.

والتعرض لها يكون بالتعرض لأسبابها وموجباتها، لأن نفس النفحات من شأن الخالق ولا نعلمها نحن حتى نتعرض لها، ومن أعظم تلك الموجبات وجودكم في هذه الأرض المقدسة المباركة: حرم الله الآمن الذي لم يؤذن لأحد بالدخول إليه إلا بعد أن يحرم ويتجرد عن كل متعلقاته بالدنيا ويزور البيت الحرام ويطوف بالكعبة ويصلي ويسعى وهذه خصوصية تتفرد بها هذه البقعة المباركة.

ص: 391


1- أقام سماحة الشيخ (دام ظله) صلاة الجمعة الثانية في مقر إقامته في مكة المكرمة يوم 6/ذو الحجة/1431 المصادف 12/ 11/ 2010.

ووجودكم في هذا الزمان الشريف أيام الحج والعشرة الأولى من شهر ذي الحجة التي ورد فيها الدعاء (اللهم هذه الأيام التي فضلتها على الأيام وشرّفتها وقد بلغتنيها بمنك ورحمتك) فبلوغ هذه الأيام وعدم كون الإنسان من السواد المخترم قبلها نعمة وفضل إلهي يستحق الشكر والثناء.وقد اقتربتم من أعظم أسباب النفحات الإلهية وهو الوقوف في عرفة وما بعدها من المشاعر المقدسة فاغتنموا هذه الفرصة كسائر الفرص الممنوحة لكم كالتي ذكرها النبي (صلی الله علیه و آله) في وصيته لأبي ذر (رضوان الله تعالى عليه): (يا أبا ذر اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك) وأنتم ترون كيف يؤدي كبار السن والعجزة مناسكهم بصعوبة وينوب عنهم غيرهم في كثير منها مما يحرمهم من أجور أدائها فاغتنم شبابك وحيويتك وعافيتك للازدياد من الطاعات.

وبين أيديكم أيام هي من أيام الله تبارك وتعالى تفيض فيها خزائنه بالعطاء الذي لا حدود له فاستعدوا له وأول الاستعداد أن تتقنوا أحكام حجكم ومناسككم وتتعلموا تفاصيلها لتؤدوها على أكمل وجه بإذن الله تعالى.

وضعوا لهذه الساعات المباركة برامج للعمل، فالوقوف بعرفة لا يزيد عن خمس أو ست ساعات (من الزوال إلى غروب شمس يوم التاسع) وهو وقت قصير بحساب الزمن لكنه ثقيل في حساب الأعمال فنظموا من الآن خطة العمل لاستثماره فإن الإنسان إذا لم يكن منظماً ومستعداً قد حضّر برنامجه فإنه سيعيش التشتت والإرباك والضيق وسوف لا يجد حلاً أمامه إلا النوم وكفى به

ص: 392

مضيعة لهذه الجوهرة الثمينة.وقد حفلت كتب السنن والمستحبات بأعمال وأذكار وأدعية كثيرة فاختر منها ما يناسبك وما تنسجم معه ولا تكره نفسك على طاعة تتضايق منها وتعاونوا فيما بينكم فقد تأنس باستماع الدعاء أو تلاوة القرآن أكثر مما تقرؤه فالأصلح حينئذ أن يقوم أحدكم بقراءته وهكذا.

ويوم عرفة يوم دعاء وتوبة وقد ضمن الله تبارك وتعالى الاستجابة لعباده. ففي رواية معتبرة عن الإمام الرضا (علیه السلام) قال: (ما وقف أحدٌ في تلك الجبال إلا استجيب له، فأما المؤمنون فيُستجاب لهم في آخرتهم، وأما الكفار فيستجاب لهم في دنياهم) واستجابة الدعاء للكفار في دنياهم باعتبار أنهم يطلبون ذلك لقصور هممهم فإن الله تعالى لا بخل في ساحته وهو أرحم الراحمين.

ولا تقتصروا بالدعاء لأنفسكم ما دامت دعواتكم مستجابة فعمّموا لكل من أوصاكم بالدعاء ومن لم يوصكم ممن لهم حق عليكم، أو له مظلمة عليكم في نفسه أو في عرضه أو في ماله أو جرحتموه بكلمة أو منعتموه من حقله أو أسأتم: إليه أو انتقصتم منه أو قصّرتم في حقه خصوصاً الوالدين والأرحام والجيران فإنكم تعجزون عن رد المظالم لهم ويكون الجزاء يوم القيامة بأن يؤخذ من حسنات الظالم وتعطى للمظلوم حتى تنفد، وحينئذ يؤخذ من سيئات المظلوم فتضاف إلى أوزار الظالم. لكنكم بدعائكم له يتوسط الله تبارك وتعالى بإرضاء المظلوم عن الظالم من دون أن ينقص منه شيئاً ليدخلوا متحابين إلى الجنة، قال تعالى: [وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ

ص: 393

مُّتَقَابِلِينَ](الحجر: 47).وفي رواية صحيحة عن أبي حمزة الثمالي راوي الدعاء المشهور عن الإمام السجاد (علیه السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) (أنه لما وقف بعرفة وهمّت الشمس أن تغيب) وهو وقت الانتهاء من الجهد والعمل وترقب النتائج وجني الثمار الطيبة (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا بلال: قل للناس فلينصتوا، فلما أنصتوا قال: إن ربكم تطوّل عليكم في هذا اليوم وغفر لمحسنكم وشفّع محسنكم في مسيئكم فأفيضوا مغفوراً لكم).

قال الراوي: وزاد غير الثمالي أنه قال: (إلا أهل التبعات فإن الله عدل يأخذ للضعيف من القوي) وهذا بحسب عدل الله تبارك وتعالى فإن ظلم العباد للعباد ذنب لا يتركه الله تعالى حتى ينتصف المظلوم من الظالم. ولكن رسول الله (صلی الله علیه و آله) مظهر الرحمة الإلهية في الخلق وصاحب القلب الرؤوف راجع ربّه في أن لا يستثني أحدٌ وأن يرضي المظلوم بما شاء من دون أن يعاقب الظالم المؤمن الذي لبى دعوة ربّه ووقف بين هذه الجبال. تقول الرواية (فلما كان ليلة جمع –وهي ليلة العاشر التي يقف فيها الحجاج على أرض مزدلفة- لم يزل يناجي ربّه ويسأله لأهل التبعات، فلما وقف بجمع قال لبلال: قل للناس فلينصتوا، فلما أنصتوا قال (صلی الله علیه و آله): إن ربكم تطوّل عليكم في هذا اليوم فغفر لمحسنكم، وشفع محسنكم في مسيئكم فأفيضوا مغفوراً لكم، وضمن لأهل التبعات من عنده الرضا).

وأكثروا من الدعاء لمولانا صاحب العصر والزمان فإنه أولى من أنفسنا وهو حجة الله على خلقه وبه قوام الوجود فاسألوا الله تعالى له الحفظ والتمكين

ص: 394

والنصرة وتعجيل الفرج.أيها الأحبة:

هذا هو النعيم الذي ينتظركم بعد أيام وهذه الحياة الطيبة التي دُعيتم إليها، وهذه هي التجارة التي لن تبور. في الكافي والفقيه بسندهما عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: الحج والعمرة سوقان من أسواق الآخرة، العامل بهما في جوار الله، إن أدرك ما يأمل غفر الله له، وإن قصر به أجله وقع أجره على الله (عز وجل) وفي رواية معتبرة عن الإمام الصادق (علیه السلام): أنه (سأله رجلٌ في المسجد الحرام من أعظم الناس وزراً، فقال: من يقف بهذين الموقفين عرفة والمزدلفة، وسعى بين هذين الجبلين ثم طاف بهذا البيت وصلى خلف مقام إبراهيم (علیه السلام) ثم قال في نفسه وظنّ أن الله لم يغفر له فهو من أعظم الناس وزراً). وغيرها من الأحاديث التي لا يسعنا ذكرها.

ص: 395

خطاب المرحلة 273 : الخطبة الثانية:رمي الجمرات: شعار لرفض كل الآلهة من دون الله تعالى

بسم الله الرحمن الرحيم

من مناسك الحج رمي الجمرات الثلاث في منى بالحصى، وقد ورد في الروايات عن أصلها بأن خليل الرحمن إبراهيم (علیه السلام) لما أخذ ولده إسماعيل لذبحه امتثالاً لأمر الله تبارك وتعالى اعترضه إبليس في الموضع الأول ليردّه ويخذلّه ويحرّك عواطفه حتى يتراجع عن تنفيذ ما أمر الله تعالى فرماه إبراهيم (علیه السلام) بالحصى فانهزم اللعين، ثم تمثّل له مرة أخرى في الموضع الثاني والثالث وكان رد إبراهيم (علیه السلام) الحازم هو هو فتحوّل إلى منسك يؤديه الموحدّون لرمي الشياطين.

وقد يثار هنا إشكال حاصله إن رمي الجمرات في الإسلام تعبير عن نبذ أصنام الجاهلية ورفض عبادتها، وقد كان هذا العمل مبرراً وله وجه في صدر الإسلام حيث كانوا حديثي عهد بالجاهلية فأراد لهم الشارع المقدس قلع عبادة الأصنام بالكلية من داخل نفوسهم وترسيخ رفضها، أما اليوم حيث لم تعد توجد أصنام تُعبد من دون الله تعالى فلا يبقى معنى لأداء هذا المنسك. وأجوبة هذا الإشكال عديدة نريد أن نجعل واحداً منها محور خطبتنا:

وهو أن الأصنام والآلهة التي تُعبد من دون الله تعالى عديدة ومتنوعة

ص: 396

وباقية ما بقي البشر إلا أن يملأ الله تبارك وتعالى الأرض قسطاً وعدلاً ويبسط كلمة التوحيد على إرجاء الأرض، ولئن زال أحد أشكالها وهي الأصنام والأوثان التي تُصنع من الحجر والخشب وربما التمر ثم تعبد من دون الله وتقدس وتقدم لها النذور والقرابين، فإن أشكالاً أخرى من الأصنام تعبد وتقدس وهي أشد وطئاً على الإنسان وأكثر إذلالاً للبشرية وتكلف الناس أضعاف ما كانت تكلفهم تلك الأصنام، وأولها هوى النفس وشهواتها وأطماعها وغرائزها التي يطيعها الإنسان ويسعى لتنفيذ إرادتها ويخضع لسلطتها وإن كان في ذلك معصية الله تبارك وتعالى، فأصبح الهوى إلهاً يعبد من دون الله تعالى لأن معنى العبادة هي الطاعة والانقياد والاستسلام بحيث ورد في الحديث الشريف (من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان ينطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان ينطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان)، وقد سمى الله تبارك وتعالى الهوى إلهاً في قوله تعالى [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ...] (الجاثية:23)، كم من تاجر تعرض له معاملة مشبوهة ينهى عنها الشرع المقدس لكن ربحها يسيل لعابه ويثير طمعه فيرتكبها؟ وكم من امرأة تعلم أن السفور حرام وإن إبداء مفاتنها أمام الرجل الأجنبي معصية فتفعله إرضاءً لغرائزها؟ وكم من شاب يعلم أن الصلاة واجبة عليه وأنها عمود الدين وهوية المسلم لكنه يتركها كسلاً وحباً للراحة والدعة؟ أليس كل هؤلاء وأمثالهم قد نصبوا من أهوائهم وأنفسهم الأمّارة بالسوء أصناماً وآلهة يعبدونها ويطيعونها من دون الله تبارك وتعالى؟.وثاني الآلهة التشريعات التي تُسنُّها عقول الناس القاصرة وبحسب ما

ص: 397

يقدرونها من مصالح بنظرهم الضيّق ويتعبدون بها ويلتزمون بها ويعاقبون على مخالفتها من دون الرجوع إلى شريعة الله تبارك وتعالى تحت عناوين مختلفة كالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان وحاكمية الشعب والقوانين والدساتير الوضعية وغيرها، وهذا الوضع قائم حتى في الدول التي تصف نفسها بأنها إسلامية، وقد ذكر الله تبارك وتعالى هذه الآلهة وهذه الأرباب في قوله تعالى: [اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَ-هاً وَاحِداً لاَّ إِلَ-هَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ] (التوبة: 31) وورد في تفسيرها عن الإمام الصادق (علیه السلام) قوله: (أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم ما أجابوهم، ولكن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالاً فعبدوهم من حيث لا يشعرون) فانطبق عليهم اتخاذهم أرباباً من دون الله تعالى لأنهم شرّعوا لهم من أنفسهم قوانينَ تحكمهم من دون الرجوع إلى الشريعة الإلهية.وهذه الرواية تنطبق على كثير مما يجري في مجتمعاتنا كبعض القوانين التي يسنّها البرلمان، والسنينة العشائرية التي يضعها ناس جاهلون بأحكام الشريعة وتفاصيلها فتأتي مليئة بالمظالم والفساد والانحراف.

ومن الآلهة الأخرى الأعراف والتقاليد الاجتماعية التي يضعها الناس ثم يعطونها قداسة وأهمية بحيث لا يستطيع الفرد الخروج عنها خشية العار والفضيحة والضغط الاجتماعي ونحوها.

فبعض السادة التزموا بعدم تزوج بناتهم العلويات إلا من سادة ولو أدى ذلك إلى عنوستهن وحرمانهن من هذا الحق المقدس رغم إقدام الشباب الأكفاء

ص: 398

على خطبتهن، أو إلزامهن التزويج من أبن العم فلو نهى عليها ابن عمها فلا يحق لأي أحدٍ خطبتها ولو أعرض عنها ابن العم ولم يتزوجها. أو المغالاة في المهور الذي حرم الكثير من الشباب عن التفكير في الزواج لعدم قدرته على هذه التكاليف الباهظة، وكل هذه الأعراف والتقاليد مخالفة للشريعة ولوصايا النبي (صلی الله علیه و آله) الذي روي عنه: (إن جاءكم من ترضون دينه وعقله فزوّجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفسادٌ كبير) وقوله (صلی الله علیه و آله) (النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني) ومثلهم بعض النساء اللواتي يلزمن أزواجهن بتوفير احتياجات باهظة كلبس بدلة جديدة في كل مناسبة أو تغيير أثاث بيت في كل سنة أو موسم مما يكلف الزوج كثيراً وقد يضطر إلى الإغماض عن مصدر الأموال الواردة إليه ليلبي رغبة امرأته، فهؤلاء يعبدون هذه الأعراف والتقاليد ويقدّسونها من دون الله تعالى.

ومن تلك الآلهة الحكام والطواغيت الذين يريدون من شعوبهم الاستسلام لهم وتنفيذ أطماعهم ونزواتهم والتضحية من أجل إدامة حكمهم وتقديم الشعب كله قرابين لهم، وهكذا سائر النظم الاقتصادية والسياسية والقوانين الوضعية المتبعة في المحاكم والكيانات المتنفذة كالمصارف وغيرها مما صنعه البشر من دون الرجوع إلى حكم الله تعالى [آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ] (يونس:59).

هذه نماذج من الآلهة التي تُُعبد وتطاع من دون الله تعالى ومن الأصنام التي لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً ولكنها تُقدَّس وتُتخذ أرباباً للبشر الذين يصنعونها بأيديهم ويعلمون أنها زائفة [يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ

ص: 399

تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ] (الحج: 73)، يَسخر الناس اليوم من عقول أسلافهم في الجاهلية ويسخفونهم حيث اتخذوا آلهة من أصنام يصنعونها بأيديهم وهاهم اليوم يفعلون فعلتهم وينقادون لأصنام وآلهة من صنعهم وإن كان من نوعٍ آخر.هذه الحقيقة التي يدمغ اللهُ تبارك وتعالى بهاالناس في قوله تعالى: [وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ] (يوسف:106).

نُقل عن الواعظ الشهير الشيخ جعفر الشوشتري (توفي عام 1303 هجرية) صاحب كتاب الخصائص الحُسينية وقد كان له منبر وعظ في الصحن الحيدري الشريف يحظره المجتهدون والعلماء والفضلاء وعامة الناس، نُقل عنه أنه قال يوماً: أيها الناس أن مئة وأربع وعشرين ألف نبي بعثهم الله تعالى كلهم يقولون للناس: (كونوا موحدين وأنا أقول كونوا مشركين) فتعجب الناس من كلامه ولم يفهموا مرامه فأمهلهم حتى قال لهم: (إنكم أصبحتم كلكم للدنيا وأنا أدعوكم إلى أن تجعلوا لله نصيباً من حياتكم فأشركوه في أعمالكم).

وستجدون في دعاء الإمام الحسين (علیه السلام) يوم عرفة: (إلهي عميت عينٌ لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيباً) وهذه هي الخسارة الحقيقية أن لا يخلص الإنسان عمله لله تبارك وتعالى ويوحّد هدفه في هذه الحياة ليجعله رضا الله تبارك وتعالى، ولا يُثبت على الصراط المستقيم ويتيه يمنة ويسرة بين هذه الآلهة والأرباب المصطنعة.

إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) بُعث ليحرّر الإنسان من هذه التبعية المقيتة التي تُكبّله

ص: 400

بقيود وأغلال وآصار تعيقه عن التكامل ونيل رضوان الله تبارك وتعالى [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَ-ئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] (الأعراف:157)، فلا يحق للإنسان الحر أن يعيد إلى عنقه تلك الأغلال ويحيط نفسه بتلك القيود.وهذه بعض معاني رمي الجمرات أن نرفض كل الآلهة التي تُعبد وتُطاع والأرباب التي تتخذ من دون الله تبارك وتعالى.

ص: 401

خطاب المرحلة 274 :من أسماء الله الحسنى (اللطيف)

خطاب المرحلة 274 :من أسماء الله الحسنى (اللطيف)(1)

الخطبة الأولى:

من أسماء الله الحسنى (اللطيف) وللاسم عدة مناشئ ذكرناها في حديث سابق، منها بلحاظ صدور اللطف منه واللطف كل ما يقرّب من الطاعة ويبعد عن المعصية وهذا هو شأن الله تعالى مع عباده، قال عز من قائل [وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ] (الحجارت:7).

فاللطف الإلهي محيط بالإنسان من أول الأمر إذ هداه إلى الإيمان وزيّنه له وحبّبه إليه وعرّفه إياه ثم بتيسير أسباب الطاعة وتذليل الصعوبات وإزالة المعوقات ورفده بكل ما يعينه عليها، وبعد ذلك يشكر الله تعالى عبده على ما أدى من عمل صالح ويثيبه عليه فلله الحمد أولاً وآخراً.

وهكذا كل طاعة، والحج منها فقد أذن الله تعالى لكم بالدخول في ضيافته والوفود على بيته المحرم الآمن ثم يسَّر لكم العسير وقرّب إليكم البعيد وطوى لكم المسافات وأعانكم على تأدية المناسك كما أمر وأراد، ثم بعد ذلك يغدق عليكم بالثواب الجزيل الذي لا يقتصر عليكم بل تشمل بركات الحجاج

ص: 402


1- يوم الجمعة 13/ذو الحجة الموافق 20/ 11/ 2010 أقام سماحة الشيخ (دام ظله) صلاة الجمعة المباركة الثالثة في مقر إقامته في مكة المكرمة.

أهلهم وذويهم وقراباتهم وجيرانهم وأصدقاءهم كما دلّت عليه الروايات ومنها ما رواه في ثواب الأعمال بسنده عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (إن الله عز وجل ليغفر للحاج، ولأهل الحاج، ولعشيرة الحاج، ولمن يستغفر له الحاج بقية ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر من شهر ربيع الآخر)بل إن الألطاف الإلهية وبركات الحجاج تمتد بتأثيرها إلى ما هو أوسع من ذلك حتى الحمل في بطن أمه ففي الرواية عن الإمام زين العابدين (ع) أنه سمع في يوم عرفة سائلاً يسأل الناس فقال له (ويلك أتسأل غير الله في هذا اليوم وهو يوم يُرجى فيه للأجنّة في الأرحام أن يعمّها فضل الله تعالى فتسعد).

وانظروا في الأحاديث الشريفة لتروا ما أعدّ الله تعالى من الكرامة لحجاج بيته الحرام ففي رواية صحيحة عن محمد بن مسلم عن أحدهما – أي الباقر أو الصادق (علیه السلام)- قال (ودّ من في القبور لو أن له حجة واحدة بالدنيا وما فيها).

وفي صحيحة صفوان الجمال عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (من حجّ حجتين لم يزل في خير حتى يموت) وفي صحيحة منصور بن حازم قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عمن حجّ أربع حجج، ما له من الثواب، قال: (يا منصور: من حجّ أربع حجج لم تصبه ضغطة القبر أبداً، وإذا مات صوّر الله الحجج التي حجّ في صورة حسنة أحسن ما يكون من الصور بين عينيه، يصلي في جوف قبره حتى يبعثه الله من قبره، ويكون ثواب تلك الصلاة له، واعلم أن الركعة من تلك الصلاة تعدل ألف ركعة من صلاة الآدميين).

فيا أيها الإخوة والأخوات لا تتهيبوا أي طاعة ولا تستصعبوها بل أقدموا عليها وأحبّوها وتشوقوا إليها فإنها مهما كانت صعبة فإنها ليست أصعب من

ص: 403

الحج الذي يجمع مشاق كل العبادات وقد تكفل الله تعالى بتيسرها وتذليل صعوباتها، وحتى لو لم تتمكنوا من أدائها فإنكم تؤجرون على النية، فقد ورد في الحديث الشريف: أن من نوى العمل الصالح وعمله كتب له عشر حسنات ومن نواه ولم يعمله كتبت له حسنة واحدة.وكونوا ممن يلبي دعوة الله تعالى إلى الطاعة وامتثلوا قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ] (الأنفال:24) وقوله تعالى [مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ] (الشورى:47)، ولا تلتفوا إلى الشيطان الذي يعمل عكس ذلك فيزيّن المعصية والفسوق ويصعّب الأعمال الصالحة ويجعل أمام الإنسان الاحتمالات والتصورات السيئة ويثير في النفس المخاوف والقلق والمثبطات.

يضرب لنا الله تبارك وتعالى مثلاً من بني إسرائيل لأنحاء من التصرفات إزاء الطاعة قال تعالى حاكياً عن نبيه الكريم موسى (علیه السلام) وقومه [يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ] (المائدة: 21-22).

وهذا هو موقف أغلب الناس مع الأسف، لكن الأرض لا تخلو من المخلصين الصادقين [قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (المائدة:23)، فالمطلوب منك الإقدام على الطاعة وعدم التهيب وامتلاك الحزم والشجاعة ودخول الباب كما في الآية وسيمنحكم الله تعالى القوة والغلبة

ص: 404

وإنجاز العمل بفضله وكرمه.ونلفت النظر هنا إلى درس ثانٍ نأخذه من عنوان (اللطيف) وهو أن يكون كلّ منا لطيفاً يقرّب الآخرين للطاعة ويعينهم عليها وييسرها لكم ويهيئ لهم أسبابها كمن يؤذن لإلفات النظر إلى دخول وقت الصلاة ودعوتهم إليها أو يشوّق الآخرين للحضور في المساجد والمشاركة في صلوات الجمعة والجماعة لما فيها من البركات والثواب أو يتبرع بأجور سيارة لنقل الزائرين أو يدفع نفقات حاج أو معتمر أو يسعى لتزويج مؤمن ومؤمنة ونحوها، فإننا قد دُعينا إلى التخلّق بأخلاق الله تعالى والتحلّي بمقدار ما ييسره الله تعالى من أسمائه الحسنى كما ورد في الحديث (تخلّقوا بأخلاق الله) ومن أخلاقه أنه (لطيف) فليكن المؤمن لطيفاً بهذا المعنى فإن درجات الناس تتفاوت يوم القيامة بحسب ما يحققونه في ذواتهم من أسماء الله الحسنى وصفاته العليا.

ص: 405

خطاب المرحلة 275 :كيفية إدامة حالة الطاعة كالحج

اشارة

الخطبة الثانية:

ورد في الحديث الشريف (من استوى يوماه فهو مغبون ومن كان أمسه أفضل من يومه فهو ملعون) وهنا قد يشعر المؤمن المخلص بالقلق باعتبار أنه أنهى أياماً مباركة في جوار بيت الله الآمن والمشاعر المقدسة وزيارة النبي (صلی الله علیه و آله) وتجرد فيها لله تبارك وتعالى وتخلى عن الأهل والمال والموقع والجاه والمنزلة الاجتماعية، وسيعود بفضل الله تبارك وتعالى إلى أهله ووطنه ووضعه الطبيعي ويعود إلى انشغالاته فهل سيكون أمسه الذي قضاه في هذه الأرض المقدسة أفضل من يومه الذي سيعود إليه في وطنه ويكون مشمولاً بما ورد في الحديث أعلاه؟.

وهذا القلق نابع من روح إيمانية صادقة ولكن يمكن دفعه بوجوه:

1- إن هذه الانتقالة هي بمشيئة الله تبارك وتعالى وإرادته كإرادته انتهاء شهر رمضان ورفع موائد ضيافة الرحمن وغيرها من موارد نزول الألطاف الإلهية، وما دام الأمر كذلك فهو ليس من فعل العبد والحديث الشريف ناظر إلى ما يصدر من العبد.

علماً بأن الله تعالى يرأف بالعبد ويرحمه فلا يجعله في حالة روحية مستمرة لأن بدنه لا يطيق ذلك، فهذا الانتقال في الحالات من رحمة الله تعالى بالعباد فلا

ص: 406

يقلق منه.2- إن العمل وإن لم يستمر لانتفاء موضوعه أو لزوال ظروفه كانتهاء شهر رمضان أو موسم الحج إلا إن نية العود والمواصلة يمكن أن تبقى مستمرة فتكون سبباً لاستمرار الأجر لذلك ورد استحباب نية العود إلى الحج وكراهة نية عدم العود وأن (من رجع من مكة وهو ينوي الحج من قابل زيد في عمره) (ومن خرج من مكة ولا ينوي العود إليها فقد اقترب أجله ودنا عذابه).

ومما ورد في دعاء الإمام الحسين (علیه السلام) يوم عرفة (إلهي إنك تعلم إني وإن لم تدم الطاعة مني فعلاً جزماً فقد دامت محبة وعزماً) وهذا المعنى يريد الإمام (علیه السلام) أن نتأدب به إزاء كل طاعة وليس الحج فقط.

3- إن تكرار العمل واستمرار هو إدامته تعني أن يقع ذلك في ظرفه المخصص له فإدامة الحج يعني أن يحج كل سنة في أيامه المعدودات وإدامة صوم رمضان يعني صوم هذا الشهر من كل سنة فمن فعل ذلك فهو مداوم على العمل وليس في عمله تراجع.

4- قد جعل الله تعالى بدائل عن هذه الطاعات المهمة ونزّلها منزلتها لإشباع رغبة التواقين للكمال فجعل مثلاً صوم ثلاثة أيام في كل شهر (أول خميس وأربعاء في العشرة الوسطى وآخر خميس) تعدل صوم الشهر كله فإذا التزم بها فكأنما بقي في حالة صوم مستمر، وجعل زيارة الحسين (علیه السلام) تعدل حجة أو عمرة أو أكثر كتعويض عمّن فاته الحج، وهذا وجه لفهم الروايات الواردة في فضل زيارة الحسين (علیه السلام) نستطيع به مخاطبة العقول التي لا تدرك معنى الولاية ودرجتها وقد أمرنا بمخاطبة الناس على قدر عقولهم والشاهد على هذا

ص: 407

المعنى أن الروايات كلها تنزّل زيارة الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) أو الحسين (علیه السلام) أو الأئمة الآخرين منزلة الحج والعمرة دون العكس ومقتضى القاعدة عدم أفضلية المنزّل على المنزّل عليه.وهنا أوصي الخطباء والمتحدثين عبر القنوات الفضائية الكتاب بالالتزام بهذه الوصية النبوية الشريفة أعني عدم تحميل الناس فوق طاقتهم وإنما التعامل معهم برفق ومداراة.

ومن البدائل الواردة عن الحج أن (صلاة الجمعة حج المساكين) وتوجد اليوم بفضل الله تبارك وتعالى صلوات الجمعة جامعة للشرائط كثيرة، بل ورد في صحيحة أبي بصير ويونس بن ظبيان عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال (صلاة فريضة أفضل من عشرين حجة، وحجة خيرٌ من بيت مملوء من ذهب يتصدق به حتى لا يبقى منه شيء).

5- إننا قلنا أن وراء هذه الأعمال حقائق وأغراض يرجع إليها العمل ويؤول إليها وتكون تلك الحقائق والآثار هي المراد من تلك الأعمال، كالأمثال التي تضرب ويراد منها حقائقها أو تأويل الأحلام ونحوها، والمراد من الحج هو الشخوص إلى الله تبارك وتعالى والتجرد له والتخلي عمّا سواه والحياة في كنفه وذكره، وباختصار فإن الحج فرار إلى الله تعالى من أسر الهوى والشهوات والتعلق بغير الله تعالى مما ذكرته الآية الشريفة [زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ] (آل عمران:14) ومن الأغلال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية وغيرها التي بُعث النبي

ص: 408

(صلی الله علیه و آله) لتحريرهم من أسرها ووضع أوزارها عنهم، قال تعالى [وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ] (الأعراف:157).ورد في الكافي للكليني ومعاني الأخبار للشيخ الصدوق (رضوان الله تعالى عليهما) بسندهما عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) في تفسير قوله تعالى [فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ] (الذاريات:50) قال (حجّوا إلى الله عز وجل).

فيمكن للعبد إدامة الحج بإدامة آثاره وأغراضه التي شُرّع من أجلها بأن يكون العبد متجرداً إلى الله تعالى لا تشغله أمور حياته- وإن اقتضت طبيعته البشرية والتزاماته الخوض فيها- عنه تبارك وتعالى.

ففي الكافي والتهذيب بالإسناد عن أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) قال (الحاج لا يزال عليه نور الحج ما لم يلم بذنب) وهذا يعني أن الله تعالى تفضل على الحجاج بإبقائهم في حج مستمر –إذا صح التعبير- وفي رحاب بيته الآمن وإن غادروه إلى أوطانهم إلا أن يشاؤوا هم الخروج منه بارتكابهم الذنب والعياذ بالله تعالى.

فعلينا أيها الإخوة والأخوات أن نحترم حجتنا ونعطيها أكبر قيمة ممكنة ونحافظ على آثارها بمراقبة النفس وأن نتذكر دائماً أننا ضيوف الرحمن ومن حجاج بيته ولا يمكن أن يكون حال الإنسان بعد الحج كحاله قبله فإذا خاض الجالسون في غيبة أو انتقاص من مؤمن أو عرضت معاملة مشبوهة أو محرمة أو مالت النفس إلى نظرة خائنة أو فعل محرم فتذكر أيها الأخ والأخت أنك حاج وحاجة وهذا لا يناسبكما.

ص: 409

تأييد قرار غلق النوادي الليلية ومحلات الخمور

تأييد قرار غلق النوادي الليلية ومحلات الخمور(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

منذ يوم الاثنين الماضي حيث قامت قوة أمنية بتنفيذ القرار الحكيم والشجاع لمجلس محافظة بغداد بغلق الملاهي الليلية ومحال بيع الخمور العلنية غير المرخصة، وبعض الأصوات الشاذة والمنبوذة من هذا المجتمع المحافظ، ذي الأخلاق والأعراف الإنسانية الأصيلة، ترتفع معترضة على القرار، ومتباكية على حريات الفرد في العراق الجديد.

والغريب أن يتصدر تلك الحركة ما يسمى بإتحاد أدباء العراق، ولا أدري أي أدب يحمله هؤلاء! وهم يتنكرون لهوية الأمة ومقوّمات وجودها، وأي حريّة يطالب بها هؤلاء لمجموعة من الأشرار تسكر وتعربد وتعيث فساداً في المجتمع! حتى استغاث المجتمع من شرهم بكل الجهات الدينية والسياسية والحكومية والإنسانية لإنقاذهم من تعدّي هؤلاء الأشرار على أمن الناس وأعراضهم وكرامتهم. فهل الحرية التي يطالبون بها تسمح بهذا العدوان؟

إن هذه المجاميع الضالة لو كانت تمارس فسقها وفجورها في بيوتهم

ص: 410


1- قامت قوة من الداخلية مساء الاثنين 22 ذ.ح 1431 المصادف 29/ 11/ 2010 بتنفيذ قرار مجلس محافظة بغداد بإغلاق محلات بيع الخمور والملاهي الليلية ونادي اتحاد الأدباء الذي يقدم الخمور فقام هؤلاء بإحداث ضجة ومظاهرات في شارع المتنبي وتحشّد معهم اللادينيون ورفعوا شعارات تشبّه القرار بحكومة طالبان في أفغانستان، ونفى مجلس المحافظة أن يكون الدافع للقرار دينياً وإنما للضرر الذي سببه هؤلاء لسكان مناطقهم وعدم حصولهم على (رخصة) لفتحها.

الخاصة لما تعرضت لهم القوات الأمنية، ولكنهم انتهكوا كل المقدسات علناً وجهاراً، وتحدّوا كل القيم متذرعين بتأويلاتٍ لفقراتٍ وردت في الدستور، يفسرونها بحسب مشتهياتهم، وقد جرّأهم على وقاحتهم سكوت الجهات الحكومية والأمنية على أفعالهم المنكرة.حتى ﭐنبرت ثلة مؤمنة صالحة، لا تأخذها في الله لومة لائم، لم تستوحش الطريق لقلة سالكيه، ولم يداخلها اليأس حين توصد الأبواب في وجوهها، وعملوا بما ﭐستطاعوا مستعينين بالله تبارك وتعالى، حتى أصدر مجلس محافظة بغداد قراره الأخير، والذي يكفي في قانونيته عدم حصول هؤلاء على رخصة لفتح محالّهم ونواديهم من الجهات المختصة، والاستجابة لشكاوى آلاف المواطنين الذين بلغ بهم الضيق والأذى كل مبلغ، خصوصاً أهالي الكرادة الشرقية الكرام.

لقد أثبت ما يسمى باتحاد الأدباء، أنه لا أدب له ولا حياء، والعار له ولكل من ساند حركته هذه، ولقد كان ينقل لنا عمّا يجري في ناديهم من سكرٍ وعربدةٍ ومخازٍ، (حتى أن بعضهم يبول على بعض حينما يملأون بطونهم بالإثم والحرام) فلم نكن نصدق حتى كشفوا عن وجوههم القبيحة بهذا التحرك الوقح.

نشدّ على أيدي أعضاء مجلس محافظة بغداد، خصوصاً رئيس المجلس الذي تحمل مسؤولية القرار بشجاعة ودافع عنه في وسائل الإعلام، ولم يتعامل معه بخجل، ونبارك لهم هذه الخطوة التي تعيد إلى ناخبيهم الثقة بهم وتعزّز مكانتهم.

ص: 411

ونهيب بأبناء بغداد الحبيبة، خصوصاً من تأذّوا بالتصرفات الشاذة لأولئك الأشرار أن يظهروا تأييدهم لهذا القرار المبارك بأي وسيلة، كنشر اللافتات المؤيدة له والمستنكرة لفعل المعترضين والرافضة لسلوك الفسقة، وأن يقوم أئمة المساجد والخطباء والكتّاب والمفكّرون والمنظمات الإنسانية، المدافعة عن حقوق الإنسان بتحمل مسؤولياتهم في الحفاظ على كرامة الأمة ومقدساتها وصيانتها من الفساد والانحراف الذي هو من أقوى أسباب توليد الجريمة والإرهاب ونخر كيان المجتمع. [إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] (محمد: 7).

محمد اليعقوبي

28 ذ.ح 1431 الموافق 5/ 12/ 2010م

ص: 412

خطاب المرحلة 276 :ربّ موقفٍ يكون مصدراً لبركات كل الحياة

خطاب المرحلة 276 :ربّ موقفٍ يكون مصدراً لبركات كل الحياة(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

يظهر من بعض الآيات القرآنية أن موقفاً يصدر من الإنسان أو قراراً يتخذه في منعطف من حياته أو صفة كريمة يتصف بها تكون مصدراً لبركات تعمه كل حياته [وَمَا عِندَ اللهِ خَيرٌ وَأبقَى]، ونأخذ هنا أمثلة من حياة غير المعصومين من الأنبياء والأئمة (صلوات الله وسلامه عليهم) كأصحاب الكهف [إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا] (الكهف: 14) فقد وقفوا في وجه الشرك والوثنية ورفضوا عبادة الطاغوت وسخّفوا عقائدهم واظهروا عبادة الله الواحد الأحد فكانت النتيجة [وَرَبطَنَا عَلَى قُلُوبِهِم] أي قوّيناها ونوّرناها بالمعرفة والبصيرة وكشفنا لها الحقائق [إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى] (الكهف: 12).

والمثال الآخر مريم ابنة عمران، قال تبارك وتعالى فيها [وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ] (الأنبياء:91) وضربها الله تعالى وامرأة فرعون مثلاً للمؤمنين قال تعالى [وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ

ص: 413


1- من حديث سماحة الشيخ مع حشد من الضيوف والزائرين يوم السبت 4 محرم 1432 المصادف 11 /12/ 2010.

وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ] (التحريم: 11- 12) فالعلاقة والسببية واضحة بين العفة والحياء المعبَّر عنها بصيانة الفرج وبين نفخ روح الله السيد المسيح (ع) فيها حيث عبّر عنها بفاء التفريع – وكذلك امرأة فرعون التي رفضت الانصياع لفرعون واتباعه في عمله فجعلها الله تبارك وتعالى مثلاً يحتذي به المؤمنون في كل الأجيال.ومن تلك البركات ما يظهر من بعض الروايات أن من أقسم على الله تبارك بعمل مخلص من هذا القبيل لحاجة أسرّ الله قسمه وقضى حاجته كالرواية التي تحدثت عن ثلاثة كانوا في سفر فلما جنّ عليهم الليل أووا إلى غار في جبل ليستريحوا فسقطت صخرة ضخمة من الجبل فسدّت عليهم فتحة الغار وحُبسوا فيه وأيقنوا بالهلاك، وأعيتهم الحيل في التخلص، حتى هداهم الله تعالى إلى أمر وهو أن يقسموا على الله تعالى بأعمال صالحة قاموا بها مخلصين لله تبارك وتعالى، فتقدم الله وتوجّه إلى الله تبارك وتعالى وقال: إلهي انك تعلم إنني فعلت الشيء الفلاني – كمساعدة عائلة محتاجة بمال هو في حاجة إليه لكنه آثرهم على نفسه- في اليوم الفلاني فإن كنت تعلم إنني قمت به مخلصاً لوجهك الكريم ففرّج عنا وافتح لنا الطريق فتحركت الصخرة عن ثلث الفتحة، وتقدم الثاني فقال: إلهي انك تعلم انه عرض عليّ العمل الفاني – كامرأة حسناء دعته إلى منكر أو معاملة محرمة فيها ربح وفير- فاجتنبته خوفاً منك وطاعة لك فإن كنت تعلم أن ذلك صدر مني خالصاً لك ففرّج عنا فتحركت الصخرة عن الثلث الثاني وهكذا الثالث.

ص: 414

هذه أمثلة لكرم الله تبارك وتعالى وسعة رحمته ولطفه العميم فهو الذي يهدي عباده إلى الطاعة ويوفّقهم إليها وييسّر لهم أسبابها (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) ثم يشكرهم عليها ويثيبهم بأحسن الجزاء وأوسعه فيدلّل عبده ويرعاه لعمل واحد صدر منه.لكن يجب الحذر من النفس الأمارة بالسوء فإن الذي قلناه لا يعني أن العبد يمنّ بعمله على الله تبارك وتعالى، بل لا يحق له أن يظن أنه قدّم شيئاً بين يدي الله تعالى وعليه أن يعتقد أن كل ما عنده هو من الله تعالى.

كنّا في الروضة النبوية الشريفة في الموسم المنقضي (1431) وجاء أحد الرفقة فرحاً بزيارته للنبي (صلی الله علیه و آله) وبما ورد في النص المعروف الذي يستحب أن يزار به النبي (صلی الله علیه و آله) كل يوم سبت وهو (اللهم إنك قلت ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً، إلهي فقد أتيت نبيّك مستغفراً تائباً من ذنوبي) وشعرت منه وكأنه قدّم شيئاً وينتظر من الله تعالى الجزاء فقلت له : لست أنت الذي جئت إلى هنا وأتيت وإنما الله تبارك وتعالى الذي جاء بك وأذن لك ويسّر لك العسير وطوى لك المسافات البعيدة. لكن الله تعالى بكرمه ضمن لعباده انه لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

وهكذا عندما تقرأ صباحاً في دعاء العهد مع الإمام المنتظر (علیه السلام) (اللهم أني أجدد له في صبيحة يومي هذا وما عشت من أيامي عهداً وعقداً وبيعة له في عنقي لا أحول عنها ولا أزول أبداً) فلا تشعر أنك أنت الذي بقدراتك الذاتية المليئة بالنقص والقصور والتقصير والعجز لا تحول عن بيعة الإمام

ص: 415

(ع) ولا تزول أبداً، فقد زلّت أقدام كثيرين وفتنتهم الدنيا وضعفوا أمام المغريات أو الصعوبات، فالثبات على الحق نعمة من الله تعالى وفضل.وإذا أردت أن اذكر مثالاً من حياة هذا القاصر المقصّر من باب [وَأَمَّا بِنِعمَةِ رَبِّكَ فَحَدّثْ] ولرفع الهمة في النفوس فهو القرار الصعب الذي اتخذته عندما تخرجت من كلية الهندسة عام 1982 وكانت القوانين تلزمنا بالخدمة العسكرية لكنني كنت مطمئناً بلا تردد بضرورة رفض الانخراط في الخدمة لأن فيها دخول في منظومة الظالمين مهما كان مكان الوحدة العسكرية أميناً ومريحاً –باعتبارنا مهندسين مدنيين- واتخذت ذلك القرار الذي كانت عقوبته الإعدام وفي قمة بطش النظام وقسوته حيث أعدم عشرات الآلاف خصوصاً بين 1980- 1982 وملأ السجون والمعتقلات بأمثالهم وكانت عيون جلاوزته والمنافقين والمتملقين تلاحق الناس كالظل، وكان الأب يخبر الجلاوزة على ولده المتخلف عن الخدمة العسكرية ويسلّمه إلى الإعدام خوفاً على نفسه أن يعثر على ولده عنده فيعاقب، وكان ظرفي العائلي في أشد مراحله حيث توفي والدي واعتقل أخي الكبير وفقد أخ آخر ومات ثالث والحاصل انه بقيت وحدي حبيس الدار مع النساء ولم يمنعني ذلك من الإقدام على هذا العمل وتحمل كل تبعاته وثبتت عليه كل تلك السنين ومحل الشاهد أنني أجد الألطاف الإلهية تغمرني إلى الآن ببركة التوفيق الإلهي لذلك الموقف فلله الحمد أولاً وآخراً.

وما دمنا في أجواء عاشوراء فلابد أن نستذكر مواقف أولئك

ص: 416

الكرام الذين بذلوا مهجهم دون الحسين (علیه السلام)

نصروا ابن بنت نبيهم طوبى لهم *** نالوا بنصرتهم مراتب سامية

قد جاوروه ها هنا بقبورهم *** وقصورهم يوم الجزا متدانية

ولا شك أن هذا التوفيق الإلهي الذي أدركهم يوم عاشوراء كان نتيجة قبول الله تعالى لهم، وهذا واضح في مثل حبيب وبرير وابن عوسجة وحتى في من كانوا بعيدين عن أهل البيت (علیهم السلام) ثم وُفِّقوا قبيل الواقعة كزهير بن القين والحر الرياحي، وقد أرجع البعض سبب توفيق الحر إلى احترامه السيدة الزهراء وتكريمه لمقامها حينما اعترض الحسين (علیه السلام) في الطريق ومنعه فقال له الحسين (علیه السلام): ثكلتك أمك يا حر، وكان الحر قائد الحملة ومعه ألف فارس لكنه لم يرد على الحسين (علیه السلام) لأن أمه الزهراء (علیها السلام) وما عساه أن يقول فأدركته بركة هذا الموقف.

فلا تتقاعسوا أيها الأحبة عن القيام بأي عمل صالح أو اتخاذ قرار فيه لله رضا في حياتكم خصوصاً في المنعطفات الحاسمة ولاشك أنكم تعرضتم لمثل هذه الاختبارات كشاب تعرض له امرأة ذات جمال في غير ما أحله الله تعالى، أما مبلغ كبير يعرض عليه إزاء عمل لا يرضي الله ورسوله أو يطلع على حاجة لمؤمن يستطيع قضاءها ببذل مال أو جهد أو نصرة مظلوم أو الإجهار بذكر الله تعالى وأهل بيته في أوساط الغافلين ونحوها.

ص: 417

ولا تقللوا من شأن أي طاعة فإنكم لا تعلمون أيها جعلها الله تعالى سبباً لشمول ألطافه فقد أخفى رضاه في طاعته كما أخفى سخطه في معصيته فلا تعلم أي معصية تكون القاصمة والضربة القاضية التي تؤدي إلى الطبع على القلب بحيث لا تنفعه الهداية والعياذ بالله تعالى.

ص: 418

خطاب المرحلة 277 :تحديات الشعائر الحسينية في الماضي والحاضر

خطاب المرحلة 277 :تحديات الشعائر الحسينية في الماضي والحاضر(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد سعى الطغاة بشتى الوسائل لطمس ذكر أهل البيت (علیهم السلام) وعلى قول معاوية حينما سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمداً (صلی الله علیه و آله) رسول الله (دفناً دفناً)، فلم يكن يستطيع التحدث بفضلهم ومناقبهم وإلا أعدم أو سُجن وهُدمت داره وقطع رزقه من بيت المال، وبقي قبر أمير المؤمنين (علیه السلام) مخفياً أكثر من مائة وثلاثين عاماً لا يعرفه إلا الأئمة المعصومون (علیهم السلام).

وتعرض زوار قبر أبي عبد الله (علیه السلام) إلى التنكيل والقتل وفرض الغرامات الباهظة من دنانير الذهب ونُشرت مفارز الشرطة للقبض على الزوار ومنعهم، ولكن الأئمة كانوا يحثون على زيارة الحسين (علیه السلام) وإقامة مآتمه ومجالس العزاء والبكاء عليه، ووردت الروايات المعتبرة الكثيرة في فضل هذه الأمور وثوابها بما صعب على كثيرين الإيمان بها، كتفضيل زيارة الحسين (علیه السلام) على كذا حجة وعُمرة وغفران الذنوب بالبكاء على الحسين (علیه السلام) وإنّ من نظم في رثاء الحسين (علیه السلام) بنى الله تعالى له بيتاً في الجنة ونحوها، ولو نظروا إلى هذه الروايات بلحاظ الأجواء الرهيبة التي كانت تعصف بالأمة في زمان صدورها

ص: 419


1- من حديث سماحة الشيخ مع حشد من طلبة الإعداديات من مدينة الصدر وحي السفير ببغداد وآخرين يوم الثلاثاء 30/ذ.ح/1431 المصادف 7/ 12/ 2010.

والخطر العظيم الذي كان يتهدد أصل وجود الدين لولا شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) وإدامة ذكره لعرفوا قيمة تلك الأعمال واستحقاقها عند الله تبارك وتعالى.ولذا حرص الأئمة (علیهم السلام) على إقامة مجالس العزاء على أبي عبد الله (علیه السلام) في دورهم وبحضور محبيهم وأفراد اُسرهم، ويشيدون بالشعراء الذين وقفوا بشجاعة وإيمان وصدحوا بتلك القصائد الخالدات في بيان فضل أهل البيت (علیهم السلام) ومظلوميتهم وفضح أعدائهم وغاصبي حقوقهم، كدعبل الخزاعي والكميت الأسدي ونظرائهما.

وأوصى الإمام الباقر (علیه السلام) أن يُدفع من ماله للنوادب ليندبنه عشر سنين في منى، ولا يخفى ما لهذا الاختيار للزمان والمكان في فضح أولئك الطغاة ولفت انتباه الأمة التي تأتي إلى الحج من كل بلاد المسلمين إلى أحقية أهل البيت (علیهم السلام) ومظلوميتهم وما مرّت عشر سنين على استشهاد الإمام الباقر سنة 114 هجرية حتى انطلقت الثورات المسلحة في وجه الأمويين (كثورة زيد الشهيد سنة 121 أو 122ه-) ولم تنته بسقوط دولة الأمويين سنة 132ه- وقيام دولة بني العباس على شعار (يا لثارات الحسين (علیه السلام)).

ولم ينقطع سيل التضحيات وقرابين الشهداء في سبيل إقامة شعائر الله تعالى وإدامتها حتى الأمس القريب حيث كان صدام وجلاوزته شديدي القسوة لإطفاء هذا النور الإلهي، لكن الأبطال الذين تربوا في مدرسة الإمام الحسين (علیه السلام) وتغذّوا من مبادئه قاوموا بكل شجاعة (كالذي حدث في انتفاضة زيارة الأربعين بين النجف وكربلاء عام 1977).

ص: 420

هكذا وصلت إلينا هذه الشعائر أيها الأحبة مضمّخة بدماء الشهداء الزكية وتضحيات الموالين لأهل البيت (علیهم السلام) وانتم تنعمون اليوم بعطرها ولذة إقامتها والمشاركة فيها بحرية ويسر بفضل الله تبارك وتعالى.وقد يتأسف بعض من المتحمسين للتضحية والفداء على نهج الحسين (علیه السلام) بأنه لم يكن ممن أحياها في زمان العنت والمشقة، ولكنه قد يهوّن الخطب عليه حينما يلتفت إلى ان عدالة الله تبارك وتعالى تقتضي جعل فرص الطاعة متكافئة للجميع فلا يوفّر فرصة منها لجيل حتى يوفّر مثلها للأجيال الأخرى، لكنها قد لا تكون متطابقة أو متشابهة لكنها متكافئة، فإقامة الشعائر اليوم لا تخلو من التحديات التي لا تقل عن تلك وإن اختلفت نوعيتها، وقد شبّهنا المعركة في تلك القرون بمعركة التنزيل، ومعركة اليوم على التأويل كالتنوع بين معركتي رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام)، فمضافاً إلى تحديات الإرهاب والقتل والتفجير التي يقوم بها أحفاد الأمويين ومن هم كالأنعام بل أضل سبيلاً مستهدفين زوار أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) ومقيمي عزائه تواجه الشعائر اليوم تحديات في الشكل والمضمون.

أما بالشكل فقد أصبح أداء الكثير من المراثي والمواليد مطابقاً لألحان الغناء المحرم وطرقه وتصاحبه حركات و آلات موسيقية، وبعض ما يسمى (فيديو كليب) لا يختلف عما ينتجه أهل الفسق.

وخلت من الأجواء القدسية التي تضفيها ذكرى أبي عبد الله الحسين (علیه السلام).

وأما بالمضمون فقد تحول الكثير من المراسيم خصوصاً في زيارة الأربعين

ص: 421

والشعبانية إلى ما يشبه الفلكلور الشعبي الذي اعتادته كثير من الأمم ووضعت له برامج وفعاليات من دون أن يستلهم معاني الثورة الحسينية، والأهداف التي سعى الإمام (علیه السلام) لتحقيقها وطالب الأجيال كلها بنصرته في تحقيقها، بل إن الكثير من المشاركين مخالفون لتعاليم أهل البيت (علیهم السلام) وتاركون للواجبات ومرتكبون للمحرمات فواجبنا اليوم تنقية هذه الشعائر المقدسة وصيانتها من الانحراف عن مسارها الذي وضعه لنا أهل البيت (علیهم السلام) وترسيخ القيم والمبادئ التي شادتها الثورة الحسينية المباركة، وهي إصلاح الأمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة السنة وإماتة البدعة وتحرير العباد من طاعة الشيطان والأهواء و الطواغيت ليعودوا إلى عبادة الله تعالى وحده.وهذه مسؤولية تقع على الجميع: سواء الخطباء على المنابر أو الشعراء الذين ينظمون القصائد أو الذين يتلونها أو غيرهم.

ص: 422

خطاب المرحلة 278 :الفتوى التي قتلت الإمام الحسين (عليه السلام)

اشارة

خطاب المرحلة 278 :الفتوى التي قتلت الإمام الحسين (عليه السلام)(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

أثار السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) سؤالاً عنوانه (من قتل الحسين ع؟) في إحدى خطب الجمعة المباركة في مسجد الكوفة المعظّم وأجاب عنه بعدة أجوبة وقال عنها أنها صحيحة جميعاً، فلنا أن نقول أن شمراً قتله وهو صحيح لأن هذا اللعين تولى الإجهاز عليه وقطع رأسه الشريف، ويمكن أن نقول أنه اللعين عمر بن سعد لأنه قائد الجيش الذي خرج لحرب الحسين (علیه السلام) وقتله، ويمكن أن نقول أنه اللعين عبيد الله بن زياد لأنه حاكم الكوفة والآمر المباشر بتجهيز الجيش وإخراجه لحرب الحسين (علیه السلام)، ويمكن أن نقول إنه اللعين يزيد لأنه رئيس الدولة وصاحب القرار الأول.

ثم أجاب (قدس سره) بما يريد أن يقوله ويفصّل الحديث عنه وهو أن القاتل هو سرجون المستشار المسيحي لمعاوية فإنه لمّا علم بعزم الإمام الحسين (علیه السلام) على الخروج إلى العراق أشار على يزيد بضم الكوفة إلى البصرة تحت ولاية ابن زياد فإنه أقدر شخص على مواجهة الإمام الحسين (علیه السلام) والتعبئة ضده

ص: 423


1- جزء من حديث سماحة الشيخ محمد اليعقوبي (مد ظله) مع أساتذة وفضلاء الحوزة العلمية في بحثه الشريف بمناسبة أيام عاشوراء وصدور فتوى المنع من التطبير، يوم 19/محرم/1432 المصادف 26/ 12/ 2010.

وأخرج كتاباً بختم معاوية يوصي بذلك بحسب دعواه فأطاعه يزيد رغم كرهه لابن زياد، ومن ثم توسع السيد (قدس سره) لبيان تأثير الغرب والقوى الكبرى في بلاد المسلمين ومشاركتهم في توجيه الأحداث إلى اليوم.وأريد أن أضيف هنا قاتلاً آخر هو الأخطر بينهم والأكثر تأثيراً وهي الفتوى الدينية التي يصدرها علماء السوء السائرون بركاب السلطة والذين يشرعنون عملها ويلبسونها ثوب القداسة الدينية فتطيعهم العامة بجهلها وحماقتها، وهذا ما حصل في قضية كربلاء ومن قبلها في معارك الجمل وصفين، فقد أفتوا أن الحسين (علیه السلام) خارجي خرج على إمام زمانه –الذي هو يزيد- وشق وحدة المسلمين ورووا عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال من شق عصا المسلمين وهي مجتمعة فاقتلوه كائناً من كان.

وخُدِع جمهور كبير من الرعاع والجهلة والعامة بهذه الفتوى التي ملأت العراق والشام، حيث روت المقاتل أن الناس في الكوفة والشام كانت تخرج لتتفرج على سبيي الخوارج ورؤوس رجالهم ويطلب بعضهم استخدام الجواري، وهذا التلبيس الشيطاني كان قد أعمى بصيرة كثير من الجيش الأموي، ولذا نجد أن الإمام الحسين (علیه السلام) خصص جزءاً كبيراً من خطبه لتعريف نسبه الشريف وكان (ع) يقول (انسبوني من أنا) ثم يذكر صلته برسول الله (صلی الله علیه و آله) لرفع الغشاوة عن أولئك الرعاع.

وهذه الحقيقة تبرز أهمية دور الإمام السجاد (علیه السلام) والعقيلة زينب وبقية الهاشميات في تحقيق أهداف الثورة الحسينية المباركة ولولاهم لأهمل التاريخ هذه الواقعة التي لا نظير لها ويكتفي بالإشارة إلى أنهم مجموعة رجال تمردوا

ص: 424

على السلطة وخرجوا إلى الصحراء واُبيدوا هناك وتركت جثثهم في العراء وانتهى كل شيء.وليس محل حديثنا تفصيل شيء من هذه الأمور وإنما الإشارة إلى خطورة الفتوى حينما تصدر ممن يعتبرون من كبار العلماء ذوي العمائم الكبيرة واللحى الطويلة ويلبسونها ثوب الدين ليضللوا بها الناس انسياقاً وراء رغبات الطواغيت وتنفيذ أعمالهم الشريرة مقابل ثمن بخس يقبضونه وقد حذّر الأئمة المعصومون (سلام الله عليهم) من عاقبة أمثال هؤلاء ووصفوا من يبيع آخرته بدنيا غيره بأنه من أشد الناس حسرة وندامة يوم القيامة.

لقد ابتلي المسلمون من غير أتباع أهل البيت (علیهم السلام) بمثل هؤلاء الفقهاء السائرين في ركاب السلطة والذين لا يستطيعون الخروج عن دائرة أوامرها ورغباتها لأنهم كانوا موظفين عند السلطة ويقبضون رواتبهم منها ويُعيّنون في وظائفهم بموجب قرار من الحاكم، لذا كانوا لا يملكون الإرادة في تصحيح أخطاء الحكومات ورفض ظلمها وجرائمها، وبسبب هذا فقد حُررّت الكثير من الفتاوى لإسناد السلطة وتبرير الواقع الموجود.

أما الفقه الشيعي فقد كان بمنأى عن هذه الضغوط بفضل التخطيط الإلهي الذي أدّاه أهل البيت (علیهم السلام) ورسموه لشيعتهم ومن أهم معالمه الاستقلال المالي عن السلطة بما وضعوا من تشريعات وعلى رأسها الخمس، ونهيهم عن الانخراط في أعمال السلطان والوظائف الحكومية خصوصاً التي تدعم وجود السلطة الظالمة وتعطيها المشروعية، كما حثّوا (ع) على ما يسمى بالأعمال الحرة التي تؤدي إلى تمتين الوضع الاقتصادي للشيعة كالتجارة والزراعة وقد

ص: 425

وردت روايات كثيرة في ذلك، وهذه الفكرة تساعد في فهم تلك الروايات كالتي جعلت تسعة أعشار الرزق في التجارة. وكل ذلك لتحرير عامة شيعتهم وخصوصاً العلماء من التبعية للسلطات والخضوع لإرادتها والاستسلام لأهوائها.وقد نجح هذا التخطيط في حماية عقيدة التشيع وصيانتها من الانحراف وحفظ هوية مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) خصوصاً في عصر الأئمة (علیهم السلام) حيث كانت السلطات الدينية والدنيوية –كما يقال- مجتمعة بيد الخليفة ولم يحصل الفرز مما يتطلب الحذر والحزم في التطبيق، أما اليوم حيث انفرزت السلطات فلم يجد الفقهاء مانعاً من الانخراط في الكثير من الوظائف الحكومية التي فيها خدمة الناس وبناء الدولة المتمدنة.

وفقهاء الشيعة وإن لم يُبتلوا بمسايرة السلطة بفضل هذا التخطيط المبارك أو لأن السلطة لم تقع بأيديهم ولو وقعت لما اختلفوا كثيراً عن علماء العامة كالذي نشهده اليوم حيث ذاب جملة منهم في مصالح مع الحكومات التي أخذت منهم المشروعية وساقوا الناس لتأييدهم فخلّفوا وراء ظهورهم المبادئ والوظائف الإلهية وعلى رأسها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى صار العراق يتصدر دول العالم في الفساد.

أقول: إن فقهاء الشيعة وإن لم يتعرضوا لفتنة السير في ركاب السلطة إلا أنهم ابتلوا بشيء آخر وهو مسايرة عوام الناس باعتبارهم يمثلون القواعد الشعبية ومصدر التمويل التي تؤسس للزعامة، فراحوا يحسبون ألف حساب قبل بيان موقف أو إصدار حكم فيه إغضاب لهؤلاء العوام خوفاً من تحولهم عن تقليدهم واتباعهم.

ص: 426

ومن الشواهد على ذلك الموقف من قضية التطبير في عاشوراء فبالرغم من أن جملة منهم يرى حرمته لإضراره بالبدن ولجلبه منقصة على الدين إلا أنه لا يجرؤ على التصريح بموقفه هذا ويعترف بأنه لا يملك الشجاعة لاتخاذ مثل هذا الموقف.لذا كان من أهدافنا في بيان موقفنا بكل صراحة هو بعث الشجاعة في نفوس العلماء وتحرير فتاواهم من مداهنة العوام ومسايرة أهوائهم، وإلا فإن المسؤولية عظيمة أمام الله تبارك وتعالى [وَقِفُوهُم إنَّهُمْ مَسؤُولُونَ].

ص: 427

على الشباب المتدينين أن يتحدثوا بنعمة ربهم

على الشباب المتدينين أن يتحدثوا بنعمة ربهم(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

يفسّر البعض الآية الشريفة [وَأمَّا بِنِعمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ] بمعانٍ لا تخلو من إشكال أخلاقي ويشكل بعضهم بأن التحديث بالنعمة يوجب الرياء والعجب خصوصاً إذا كانت النعمة طاعة أداها ونحوها، وأريد هنا أن أفسّرها بمعنى أفضل وهو أنك إذا حباك الله بنعمة فانفع الآخرين بها وانقلها إليهم بأن تتحدث لهم عن موجباتها ومقدماتها ليحظوا من ربهم بنفس النعمة لأننا مأمورون بأن نحب للناس ما نحب لأنفسنا ونكره لهم ما نكره لها.

مثلاً أنت شاب متدين ملتزم بالصلاة والصوم وبارٌ بوالديك وذو أخلاق محمودة وتزور الأئمة المعصومين (علیهم السلام) ونحوها من الكمالات، فلا تقتصر بهمّك على نفسك وأحبب أن يكون غيرك مثلك وحدّث بهذه التجربة المباركة للآخرين وعل-ّمهم كيف يبدأون وكيف يصيرون.

وإذا سألتني من أين أبدأ معهم؟ فأقول لك ابدأ من أمرهم بالالتزام بالصلاة وخصوصاً أداؤها في أوقاتها الأولى، فإذا التزم بالصلاة فقد وضع رجله على الطريق الصحيح لأنه سيحب المصلين ويلتقي بهم ويتعلم منهم، وسيذهب إلى المسجد ويحضر صلاة الجماعة وفي ذلك فوائد عظيمة، وسيواظب على

ص: 428


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (مد ظله) مع حشد من طلبة جامعة الصدر فرع بغداد الجديدة وطلبة الإعداديات في قضاء الرفاعي في محافظة ذي قار يوم السبت 25 محرم 1432 المصادف 1/1/ 2011.

الجمعة ويستمع من خلالها إلى خطب الوعظ والإرشاد والتوجيه، وسيلتزم بالواجبات الأخرى وسيراعي الطهارة ويبتعد عن كل ما يشين مما لا يليق بكونه من المصلين وسيصبح إنساناً صالحاً محبوباً.أما ترك الصلاة فإنه مفتاح الشرور والآثام فإنه إذا ترك الصلاة فإنه يترك بقية الواجبات وسوف لا يتورع عن ممارسة الفاحشة والمنكر وبذاءة اللسان، وسوف لا يراعي الطهارة والنظافة ويتحول إلى إنسان سيء عاق والعياذ بالله تعالى.

والخطوة التي تلي الالتزام بالصلاة هي التفقه في الدين بمقدار ما يحتاجه في حياته والتعرف على العقائد الإسلامية والأخلاق الفاضلة، وإذا زادت همته أكثر وحظي بالألطاف الإلهية فليَنضمّ إلى الحوزة العلمية الشريفة فإنها من أعظم النعم على الإنسان.

وقد توفّرت اليوم فرصة ميسّرة لتلّقي العلوم الدينية في المحافظات ولم تعد مقتصرة على النجف من خلال نشر فروع جامعتي الإمام الجواد (علیه السلام) والصدر الدينية، بل الأمر أيسر من ذلك حيث يقدّم موقع (رسالة النجف) على الإنترنت لكل الراغبين شرحاً صوتياً للدروس المقررة لطلبة الحوزة العلمية في المراحل الثلاث الأولى، وبذلك يقطع شوطاً مهماً من التحصيل العلمي والأخلاقي والفكري وليتأهل لتحصيل الدروس العالية في النجف الأشرف إن أحبّ.

ونحن نحث على هذا التوجه وندعو إليه برغبة كبيرة لأن عدد الدارسين في النجف لا زال أقل بكثير مما تحتاجه الساحة العراقية فضلاً عن الحاجة العالمية لأن أنظار الدنيا كلها متوجهة صوب النجف وتريد أن تأخذ منها معالم دينها

ص: 429

ولكن الحوزة في النجف عاجزة عن ملئ الساحة العراقية فضلاً عن العالمية، فعزوف الشباب المتدين الواعي المثقف عن الالتحاق بالحوزة العلمية غير مبرّر وغير مقبول وفيه تقصير بحق قوله تعالى [فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] (التوبة:122) وبحق الناس المتعطشين لسماع صوت حوزة أمير المؤمنين (علیه السلام) وسائر بقاع العالم، ولو سألتم حجاج بيت الله الحرام لحدّثوكم كيف أن حجاج الدول الأخرى يتبركون بالحجاج الذين يحملون لوحة تشير إلى أنهم من النجف الأشرف.

ص: 430

خطاب المرحلة 279 :التنمية البشرية في روايات أهل البيت (علیهم السلام)

خطاب المرحلة 279 :التنمية البشرية في روايات أهل البيت (علیهم السلام)(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

يهتم العالم اليوم بحقل من حقول المعرفة يسمونه (التنمية البشرية) وتفتح له جامعات متخصصة وآخرها في جامعة السليمانية في العام الماضي بحسب ما سمعت من وسائل الإعلام.

وقد التقيت قبل أسبوعين تقريباً أحد طلبة الدكتوراه في الولايات المتحدة وعنوان بحثه (الدين والتنمية البشرية) وعرضت عليه خارطة الطريق للبحث وفق ما أفهمه من العنوان وبما ورد عن أهل البيت (علیهم السلام).

لقد اهتم القادة المعصومون (علیهم السلام) بالتنمية البشرية في كل أنحائها، فعلى صعيد الكم أي تكثير العدد ورد حث كثير على تكثير النسل خلافاً لهوس العصر المطالب بتحديد النسل ففي الرواية الصحيحة عن أبي عبد الله الصادق(ع) قال: (إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: تزوجوا فإني مكاثرٌ بكم الأمم غداً في القيامة حتى أن السقط يجيء محبنطئاً على باب

ص: 431


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي(مد ظله) مع حشد من أبناء محافظة البصرة ومدينة الصدر ببغداد بحضور عدد من الكتاب والمثقفين وأساتذة جامعات البصرة وبغداد والنهرين يوم الخميس 1/صفر المظفر/1432 الموافق 6/ 1/ 2011.

الجنة فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: لا حتى يدخل أبواي الجنة قبلي)(1) وفي الرواية عن الإمام الباقر(ع) قال: (قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): ما يمنع المؤمن أن يتخذ أهلاً لعل الله يرزقه نسمة تثقل الأرض بلاإله إلا الله)(2) وقد عُرف عني القول بأن من أراد أن يدخل السرور على قلب رسول الله(صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) فليتزوج ولينجب أربعة على الأقل ويحسن تربيتهم ليكون ملبياً دعوة رسول الله(صلی الله علیه و آله) بالإكثار من النسل.وأما التنمية على صعيد النوع فقد اهتم به المعصومون (علیهم السلام) أيضاً وتابعوا مراحله من قبل تكون نطفة الإنسان باختيار الزوجة الصالحة والمنبت الطيب للنسل ووردت في ذلك روايات كثيرة كالرواية التي وردت عن الامام الصادق(ع) قال: (قال النبي(صلی الله علیه و آله): اختاروا لنطفكم فإن الخال احد الضجيعين)(3) وروايته الأخرى قال: (قام النبي(صلی الله علیه و آله) خطيباً فقال: أيها الناس إياكم وخضراء الدمن قيل: يا رسول الله (صلی الله علیه و آله): وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء)(4).

ثم تتابع الروايات النصائح والتوجيهات في مراحل تكون النطفة والحمل والولادة والتربية إلى أن يصبح إنساناً بالغاً رشيداً صالحاً ينتفع به أبواه والمجتمع عموماً.

وعلى صعيد تنمية المجتمع وجعله كياناً قوياً متماسكاً متحاباً يتعاطى أفراده بإيجابية فيما بينهم ومع الآخرين فقد حفل كتاب (آداب العشرة) من

ص: 432


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب مقدمات النكاح وآدابه، باب1،ح2، 3.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب مقدمات النكاح وآدابه، باب1،ح2، 3.
3- وسائل الشيعة،كتاب النكاح، ابواب مقدمات النكاح وآدابه، باب13، ح2، 4.
4- وسائل الشيعة،كتاب النكاح، ابواب مقدمات النكاح وآدابه، باب13، ح2، 4.

كتاب وسائل الشيعة وغيره بالمئات من الأحاديث الشريفة.وعلى صعيد تنمية الحياة بإعمارها وتقدّمها وجعلها مرفهة سعيدة متمدنة فقد حث أهل البيت (علیهم السلام) على كل ما يساهم في بناء ذلك ويشيّد مقوّماتها وبنيتها التحتية وعلى رأسها طلب العلم والمعرفة والتزود بكل أسباب القوة والمنعة والتقدم والرفاه، وقد جمعت الأحاديث في كتب خاصة بعنوان (كتاب العقل) و(كتاب العلم) من أصول الكافي وغيرها، وقد أكد القرآن الكريم على أن وظيفة الإنسان في هذه الأرض إعمارها قال تعالى [هُوَ أنشَأكُم مِنَ الأرضِ وِاستَعمَرَكُم فِيهَا] (هود: 61) وقال تعالى [وَأعِدُّوا لَهُم مَا استَطَعتُم مِنْ قُوَّةٍ) (الأنفال: 60).

لقد أدرك الغرب تأثير هذه التوجيهات في عقل المسلم ودفعه إلى تكثير النسل لذا بدأوا يطلقون صرخات التحذير وطلب الاستيقاظ للعالم الغربي وخصوصاً المسيحي ليصحو ويلتفت إلى هذا الخطر!! وبين يدي تقرير أمريكي صدر عام 2008 شعاره (لقد تغيّر العالم، حان الوقت لكي نستيقظ) وجاء فيه (الإسلام هو أسرع وأكثر دين انتشاراً) (العالم الذي نعيش فيه لن يكون نفسه العالم الذي سيعيش فيه أبناؤنا وأحفادنا) (الكنيسة الكاثوليكية صرحت مؤخراً: إن عدد المسلمين تجاوز الحدود، الدراسات تبيّن أنه إذا حافظ الإسلام على معدل انتشاره الحالي فإنه في خلال 5 إلى 7 أعوام سيكون الإسلام الدين الحاكم في العالم كله) وهم يحذرون من هذه الحقائق ويدعون الأمريكان للتصرف بسرعة.

ويبيّن التقرير بالأرقام تخلّف التكاثر السكاني في دول الغرب عن أقل

ص: 433

معدل المطلوب لبقاء أي حضارة لربع قرن وهو معدل (2,11 طفلاً) لكل عائلة بينما معدل التكاثر في عموم أوربا 1,38 وفي الولايات المتحدة 1,6 وان عدد المسلمين في تزايد هناك سواء عن طريق الهجرة أو ارتفاع معدل تكاثرهم، (وانه خلال (39) عاماً فقط سوف تصبح فرنسا جمهورية إسلامية!) (وفي جنوبها وهي واحدة من أكثر الأماكن المزدحمة بالكنائس في العالم تحتوي الآن على مساجد أكثر من الكنائس) (الحكومة الألمانية كانت أول من تحدث عن هذا الموضوع علانية صرحت مؤخراً: ((النقص في التعداد السكاني الألماني لا يمكن إيقافه الآن لقد خرج الأمر عن السيطرة ستكون ألمانيا دولة إسلامية مع حلول عام 2050))).أقول: قد يكون في بعض هذه التوقعات مبالغة لأجل إيقاظ عالمهم لكنه يتضمن الكثير من الحقائق المهمة ومنها أنه إذا التزم المسلمون بالتوجيهات النبوية الشريفة فإنهم سيفتحون العالم بهدوء وبحركة بيضاء –كما يقال- وهذا يقدّم لنا فهماً لما ندعو به دوماً لإمامنا المنتظر (أرواحنا له الفداء) (حتى تسكنه أرضك طوعاً).

إن هذا الذي ذكرناه يضع لنا برامج عملية عديدة ويجعلنا أمام عدة مسؤوليات منها:

1- الحث على التزويج وتيسير أمره للجميع وكثرة الإنجاب بحيث لا يقل عن أربعة للأسرة وأن يحسنوا تربيتهم وإعدادهم لصناعة الحياة السعيدة، وهذه الدعوة تشمل من هم داخل البلاد الإسلامية والمقيمين في بلاد المهجر.

2- إن الإسلام ينتشر بقوة وبسرعة ويشهد إقبالاً واسعاً وما علينا إلا إيصال

ص: 434

صوته إلى العالم كما قال الإمام (علیه السلام) (فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا) وعلى المسلمين وخصوصاً شيعة أهل البيت (علیهم السلام) أن لا يرتكبوا ما يشين وان لا يبتدعوا من أنفسهم أفعالاً بحجة الترويج للدين والمذهب كالتطبير ونحوه مما منعنا منه فإن الإسلام الناصح النقي لا يحتاج إلى مثل هذه الأمور التي تضرّ ولا تنفع، وليرجعوا في أمورهم خصوصاً التي تتعلق بالمواقف العامة إلى الفقيه الذي وصفه الحديث الشريف (العالم العارف بزمانه لا تهجم عليه اللوابس).3- إن الالتفات إلى الواقع الفاسد يشكّل حافزاً للتحرك نحو الإصلاح والتغيير أداءً لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن استشراف المستقبل ووعي متطلباته يشكل حافزاً أكبر وأوسع للعمل الإيجابي، فلا نكرّس كل همنا وشغلنا لتشخيص المشاكل الآنية ومعالجتها وإن كان هذا واجباً عظيماً إلا أنه لا ينبغي إغفال الحافز الآخر.

4- أن يقوم المسلمون في الغرب بكل عمل ينشر الإسلام ويعرّفه للآخرين ويحبّبه إلى الناس.

إن القيام بالمسؤوليات أعلاه يعجّل بالظهور الميمون المبارك ويفتح العالم سلماً ويسلّم الأرض طوعاً إلى الإمام المنتظر (عجل الله فرجه) ويمهد لدولته المباركة.

ص: 435

خطاب المرحلة 280 :تقييم الحركات المسلحة لمواجهة السلطات

خطاب المرحلة 280 :تقييم الحركات المسلحة لمواجهة السلطات(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

توجد قضيتان تتعلقان بمعارضة السلطات الظالمة المنحرفة المستبدة ومواجهتها بالسلاح: خفي التفريق بينهما على كثير من المتصدين منذ زمان المعصومين(ع) وإلى اليوم، فوقع الكثيرون في ما لا ينبغي فعله ولا يجوز لهم التصدي له بما يعني ذلك من خسائر باهظة بالأرواح والممتلكات وكيان الأمة:

إحداهما: الخروج لطلب الإصلاح وإقامة السنن وإماتة البدع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد تتطلب مواجهة مسلحة في النهاية دفاعاً عن النفس –كما في حركة الإمام الحسين (علیه السلام)- أو لاستنقاذ الحق وإعادته إلى أهله –كما في حركة زيد الشهيد (رضوان الله تعالى عليه)-.

ثانيهما: التحرك لقلب نظام الحكم وانتزاع السلطة بقوة السلاح كالكثير من ثورات العلويين في عصر الأئمة (علیهم السلام) وإلى اليوم.

والحركة الأولى ممدوحة سواء قادها الإمام الحق كالإمام الحسين (علیه السلام)

ص: 436


1- خاطرة سنحت لسماحة الشيخ اليعقوبي (مد ظله) أثناء إلقاء محاضرته في البحث الخارج يوم الأحد 4/صفر/1432 الموافق 9/ 1/ 2011 حيث ورد اسم زيد الشهيد في إحدى روايات البحث الخارج وكانت ذكرى شهادته في اليوم السابق 3/صفر من عام 121 أو 122 هجرية.

أو من يتحرك بإذنه ويعمل تحت رايته كزيد الشهيد (رضوان الله تعالى عليه) وهذا ما يظهر من روايات المعصومين (علیهم السلام) في مدح زيد والثناء عليه كما في الرواية الصحيحة عن الإمام الصادق (علیه السلام) ومنها قوله(ع): (إن أتاكم آت فانظروا على أي شيء تخرجون، ولا تقولوا خرج زيد، فإن زيداً كان عالماً وكان صدوقاً ولم يدعكم إلى نفسه، وإنما دعاكم إلى الرضا من آل محمد (صلی الله علیه و آله) ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه إنما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه)(1) الحديث.أما الثانية فقد كان الإمام (علیه السلام) ينأى بنفسه عنها ويحذّر أصحابها من مغبّة عملهم لأنها غالباً ما تكون غير مكتملة المقدمات ولا تؤدي الغرض المطلوب وهو إقامة المجتمع الصالح وحكومة العدل الإلهي وإلى مثل هذه الحركات تشير بعض الروايات الناهية عن التحرك كصحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (كل راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت يُعبد من دون الله عز وجل) والرواية عن علي بن الحسين(ع) قال: (والله لا يخرج أحدٌ منا قبل خروج القائم إلا كان مثله كمثل فرخ طار من وكره قبل أن يستوي جناحاه فأخذه الصبيان فعبثوا به).

وكان البعض يدفعه حب الرئاسة والزعامة –كبعض بني الحسن(ع)- حيث يجدون أن أولاد عمهم الحسين (علیه السلام) قد استأثروا بالإمامة ويأسوا من الحصول عليها فاختاروا هذا الطريق لتحصيل الزعامة ولو بالمغامرة، فإن المغامرين يرتكبون الأهوال ويضحون بأنفسهم من أجل تحقيق الأرقام

ص: 437


1- الأحاديث التسعة تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب13.

القياسية!!.ولذا كان الأئمة المعصومون (علیهم السلام) لا يقيسون أحداً من أولئك بزيد الشهيد ويفرّقون بينهم في المنهج والأهداف كما في الرواية السابقة وفي الرواية الأخرى عن الرضا (علیه السلام) أنه قال للمأمون (لا تقس أخي زيداً(1) إلى زيد بن علي، فإنه من علماء آل محمد (صلی الله علیه و آله) غضب لله فجاهد أعداءه حتى قتل في سبيله).

وكان الإمام الصادق (علیه السلام) يقول عن مثل هؤلاء: (إنه لا يطيعنا وهو وحده فكيف يطيعنا إذا ارتفعت الرايات والأعلام).

لكن الأئمة (علیهم السلام) كانوا يتألمون لفشل تلك الحركات ويبكون ضحاياها ويتعاطفون معها بالشكل الذي لا يعرضهم لاتهام السلطات الجائرة بانضمامهم إليها أو دعمها و تأييدها كما يظهر في رسالة الإمام الصادق (علیه السلام) لبني الحسن (علیه السلام) المعتقلين في سجون المنصور العباسي، وتألم الإمام الكاظم (علیه السلام) لضحايا معركة فخ، وكان الأئمة (علیهم السلام) يرون في تلك الحركات إشغالاً للسلطة عن متابعة نشاطاتهم، ومن ذلك ما ورد في مستطرفات كتاب السرائر أنه (ذكر بين يدي أبي عبد الله (علیه السلام) من خرج من آل محمد (صلى الله وآله وسلم) فقال: لا أزال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد (صلی الله علیه و آله)، ولوددت أن الخارجي يخرج من آل محمد وعليَّ نفقة عياله).

ص: 438


1- زيد بن موسى الكاظم (عليه السلام) أخو الإمام الرضا (عليه السلام) قاد ثورة عل العباسيين وأحرق دورهم فعُرِف بزيد النار.

والكلام في هذه المطالب يطول ولا يسعه المقام(1) ولكن في ما قلناه تذكرة لكثير ممن تقمصّوا غير مواقعهم فسببّوا الكثير من البلايا والمحن لشيعة أهل البيت (علیهم السلام) في عدد من بلاد المسلمين وليس في العراق وحده. وإذا سألت كيف يمكن التمييز في هذه القضية الملتبسة وفرز أوراق الحق عن الباطل، قلت الجواب سهل وهو الرجوع إلى أولي الأمر الذين أمر الله تعالى بالرجوع إليهم وهم الأئمة المعصومون (علیهم السلام) في زمن حضورهم ونوابهم من العلماء العدول العارفين بالظروف المحيطة بهم والقارئين بعمق لسيرة أئمة أهل البيت (علیهم السلام) ومواقفهم.

وفي ذلك ورد في الرواية الصحيحة عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له وانظروا لأنفسكم فوالله إن الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلاً هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه ويجيء بذلك الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها، والله لو كان لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرّب بها ثم كانت الأخرى يعمل على ما قد استبان لها ولكن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة فأنتم أحق أن تختاروا لأنفسكم).

ص: 439


1- راجع الفصل الأخير من كتابنا (دور الأئمة في الحياة الإسلامية) وتعليقات السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) عليه.

ص: 440

مختارات من صحيفة الصادقينأخبار - تعليقات - استفتاءات - قصائدمن الأعداد 77- 96

اشارة

ص: 441

ص: 442

مسؤولية الأمة عن رعاية الإبداع

مسؤولية الأمة عن رعاية الإبداع(1)

إنها ساعة أعتز بها في حياتي حظيت من خلالها بالاستماع إلى هذه الأصوات المبدعة من مجمع القرآن الكريم وهي تترنّم بكلمات الله تبارك وتعالى.

إن مسؤوليتنا أمام هذا المشروع المبارك عظيمة بأن نعمل على إدامته وإنجاح عمله وتوسعة نشاطه ليكون نبراساً لأمثاله في كل أصقاع الأرض، وأن نرعى هذا الإبداع ونحتضنه ونكرمه ونشجّعه، ليس لأن الحافز عندهم ناقص ونريد أن نكمله بالتشجيع والتكريم فإن المخلص لله تبارك وتعالى لا يحتاج إلى محرّك آخر، ولكن لأن النجاح كما يعتمد على مقوّمات ذاتية ترتبط بالشخص أو الجهة العاملة، فإنه يحتاج إلى ظروف موضوعية تيسّر له أسبابه ومقدماته ومقومّاته.

مما يُؤسف له أن امتنا لا ترعى الإبداع، وأن المبدعين ضائعون بين ظهرانيها فيهاجرون أو يتخلون عن المجالات التي يبدعون فيها، وربما تتذكرهم بعد وفاتهم فتقيم لهم مجالس التأبين وتعدّد فضائلهم وآثارهم وإسهاماتهم، وفي هذا بعض وفاءٍ لهم لكنه غير كافٍ لتشجيعهم وتفجير طاقات غيرهم، قال الشاعر:

ص: 443


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي في المحفل القرآني الذي أقامه مجمع القرآن الكريم في البصرة في مكتبه العامر يوم 7 ذي الحجة 1429 وشارك فيه عدد من الأوائل في المسابقات الدولية لتلاوة القرآن الكريم، ونشر في العدد (77) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 16/محرم/1430 الموافق 13/ 1/ 2009.

لا ألفينّك بعد الموت تندُبني *** وفي حياتي ما زودّتني زادي

كان المرحوم الشيخ عبد المحسن الكاظمي شاعراً مبدعاً أهمله مجتمعه فاضطر للهجرة إلى مصر حتى توفي سنة 1935 فأقيمت له مجالس التأبين في بغداد واشترك في أحدها جدي الشيخ محمد علي اليعقوبي والشاعران معروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي وأنشدوا قصائدهم وقد اتّفقوا على معنى واحد من باب (توارد الخواطر) من دون اتفاق مسبق، وهو المعنى التالي الذي تضمنته قصيدة جدي اليعقوبي (رحمه الله):

ومن عجبٍ بكتك وأنت ميتٌ *** بلاد ضيّعتك وأنت حيُّ(1)

وموت الإبداع يعني موت الأمة، فإذا أرادت الأمة أن تكون حيّة فعليها رعاية المبدعين وأن تكرِّمهم في حياتهم وتوفر كل الإمكانيات التي تكشف عن هذه الكنوز وتستثير ما فيها خصوصاً إذا تعلق الأمر بالقرآن الكريم الذي لا تصلح الأمة إلا به كما صلح سلفها والذي يقول فيه أمير المؤمنين باب مدينة العلم: إن كل ما عندي هو من القرآن.

ص: 444


1- ديوان اليعقوبي،ج1: 240 - 242 ويقول فيها: أساءت نحو((محسنها)) صنيعاً *** فجاء اليوم يعتذر المسيُّ أبعد الموت بالتأبين يُرعى *** لديها قدرُك السامي العليُّ بلادٌ حظُّ أهل الفضل فيها *** أماني روض مرعاها وبيُّ

الاستفادة من التاريخ

الاستفادة من التاريخ(1)

حث سماحة الشيخ اليعقوبي الشباب على قراءة التاريخ والسيرة واستفادة العبر من أحداثه، وأن يقوم الأساتذة والخطباء والمفكرون بتقديم المادة التاريخية بالشكل الذي تتفاعل معه الأمة وتستفيد منه في حاضرها ومستقبلها ، قال جدي الشيخ محمد علي اليعقوبي مخاطباً الأساتذة والمعلمين:

قل للأساتذة الين تكلّفوا *** عبئاً من التدريس ليس يُطاقُ

كل الدروس مهمة وأهمُّها *** الدين والتأريخ والأخلاقُ

وقال سماحته معلّقاً على كتاب (موسوعة شهداء ومضطهدي النظام الصدامي) المكوّن من أربع مجلّدات ضخام: إن من فوائد هذا الكتاب ليس فقط الوفاء لهؤلاء الأبرار والتأسي بسيرهم العطرة ، وإنما لنكون حذرين وواعين ويقظين خشية أن يتسلَّل إلى الحكم مثل أولئك الطغاة الأشرار فيفعلوا بالشعب المسكين كل هذه الجرائم المقززّة وأكثر منها. فاستفيدوا أيها الأحبّة من هذا الكتاب وأمثاله.

ص: 445


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي في مجلسه العام بحضور السيد عبد الصاحب الحكيم مقرّر حقوق الإنسان في العراق ومؤلف الكتاب الضخم عن جرائم النظام الصدّامي وقد ضمّ المئات من الوثائق والصور التي بذل لجمعها جهود جبارة، كما أثنى سماحته على المتحف الوثائقي وبانوراما الإمام الحسين (عليه السلام) التي يقيمها الدكتور الحكيم في كربلاء في العشر الأولى من محرم بعد أن أسسها وأقامها عدة مرات في لندن، ونشر الخبر في صحيفة الصادقين العدد (77) الصادر بتاريخ 16 محرم 1430 المصادف 13 كانون الثاني 2009.

وجود فرصة جيدة لتسريع سحب القوات الأجنبية

أشاد سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) بجهود الحكومة وكل الجهات الأخرى القائمة على إجراء عملية انتخاب مجالس المحافظات(1) ووصف العملية بأنها إنجاز ونجاح خصوصاً في مثل الظروف التي يعيشها العراق.

وعبّر سماحته لدى استقباله دولة رئيس الوزراء السيد نوري المالكي عن أمله ببروز حكومات محلية منسجمة فيما بينها ومع الحكومة المركزية لتقديم خدمات أفضل للمواطنين لأن هذه العلاقة شابها الكثير من التقاطعات والتنافرات خلال المرحلة السابقة.

وقال سماحته خلال اللقاء(2) الذي جرى في مكتبه في النجف الأشرف: إن هذه العلاقة الرصينة ستسهم في خلق جو سياسي أكثر استقراراً يساعد على تسريع انسحاب القوات الأجنبية مضافاً إلى ما ستسهم به الانتخابات العامة مطلع العام الجديد وإن الاستقرار السياسي هو أساسا استتباب الأمن وتوفير الخدمات وخلق فرص التقدم والازدهار.

وتمنى سماحته على الكتل السياسية أن تعمل بروح الفريق الواحد لتسير السفينة إلى شاطئ الأمان والسلام.

ص: 446


1- جرت الانتخابات يوم السبت 4 صفر 1430 المصادف 31/ 1/ 2009 وحققت فيها قائمة (دولة القانون) التي يرأسها السيد المالكي فوزاً كبيراً على بقية القوائم.
2- تاريخ اللقاء 8 صفر 1430 المصادف 4/ 2/ 2009، ونُشر الخبر في العدد (78) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 12/ربيع الأول/1430 الموافق 10/ 3/ 2009.

لم يتحقق بعدُ : وقت الاحتفال بالقضاء على العنف والإرهاب

أشاد المرجع الديني سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) بالتقدم الحاصل في أداء وزارة الداخلية ومهنيتها ووطنيتها وقدرتها على إدارة فعاليات ضخمة كالانتخابات والزيارات الدينية.

وقال سماحته: إن الهاجس الأمني هو أهم ما يشغل بال الدولة والمواطن على حد سواء لأنه أساس الانطلاق في كل قطاعات الحياة الأخرى.

وحذّر سماحته لدى استقباله(1) للسيد جواد البولاني وزير الداخلية من الإغراق بالتفاؤل ونشوة النصر وان الاحتفال بالقضاء على أسباب العنف والتوتر لم يحن بعد، ولا بد من النظر بجدّية إلى ما يقال من أن الأمن هش ويمكن أن ينتكس _ والعياذ بالله_ في أي لحظة، لذا على الجميع أن يشخّص بدقة الأسباب التي أدّت إلى هذا التحسن الأمني لكي نعمل على إدامتها واستثمارها وليس بأن نخلّفها وراء ظهورنا بعد أن تحققت النتائج. لأنه من المعلوم لدى ذوي الاختصاص أن التقدم الأمني لم يحصل بسبب تحسّن أداء الأجهزة الأمنية وزيادة عددها وتطور معداتها فقط وإنما كانت وراءه اتفاقات سياسية وتفاهمات داخلية وخارجية.

وأشار سماحته أن الأمن منظومة متكاملة من الجهود التي تقوم بها مختلف الوزارات مما يؤدي إلى امتصاص البطالة وتحسين خدمات الصحة والتعليم والكهرباء والبلديات وتنشيط القطاع الخاص والزراعة والصناعة، فلا بد أن

ص: 447


1- تاريخ اللقاء 18 صفر 1430 المصادف14/ 2/ 2009، ونشر الخبر في العدد (78) من صحيفة الصادقين.

تعمل الحكومة كالفريق الواحد وتتخلى الكتل السياسية عن أنانياتها والنظر إلى مصالحها الخاصة مما يؤدي إلى تقاطعات وتوترات تنعكس سلباً على الواقع الأمني.وضرب سماحته مثلاً بأن الولايات المتحدة كانت تصرف مليارات الدولارات على الجهد العسكري لفرض الأمن في محافظة الأنبار ولم تستطع أن تحقق شيئاً بل ازدادت أخطاؤها وكثر أعداؤها لكنها لما غيرت خطتها وخصصت عشر تلك المبالغ لاحتواء العشائر وتأسست مجالس الصحوات وأقامت بعض المشاريع فإن أبناء العشائر الغيارى حققوا ما لم تحققه الجيوش الأمريكية وعادت المدن الساخنة إلى أهلها وإدارة أبنائها.

فوفّروا على أنفسهم المبالغ الضخمة وحصدوا النتائج الايجابية.

هذا وحضر اللقاء اللواء الركن عبد الكريم خلف مدير عمليات الوزارة والسيد مدير علاقات الوزارة والعميد مدير مكافحة الإرهاب واللواء عبد الكريم العامري قائد شرطة النجف الأشرف.

رئاسة البرلمان أداة لتمرير مشاريع الأحزاب الحاكمة وتحقيق مصالحها

شدّد المرجع الديني سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على ضرورة تفعيل دور (مجلس النواب) لأداء وظيفتيه الرئيسيتين التشريعية والرقابية بما ينسجم مع التوجهات التي تخدم الشعب والبلد.

ص: 448

جاء ذلك لدى استقبال(1) سماحته الدكتور قاسم داوود رئيس كتلة التضامن في مجلس النواب في مكتبه في النجف الأشرف.وقال المرجع اليعقوبي: إن القرار البرلماني أصبح رهينة بيد الكتل السياسية المهيمنة على السلطة وأداة لتسويق مشاريعها وتحقيق مصالحها، بسبب سوء تصرف هيئة الرئاسة وعدم موضوعيتها، وهذا لا يتسق مع المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتق ممثلي الشعب بحيث يرى المراقبون أن العراق تحكمه حكومة أحزاب وليس حكومة دولة وقانون ومؤسسات لذا يعزف الكثير عن التعاطي مع مشاريع الاستثمار وغيرها في العراق.

و دعا الكتل السياسية إلى مراجعة أداءها وخطابها السياسي بما يتلاءم مع المصلحة الوطنية العليا للبلاد مشيراً إلى ما أفرزته نتائج انتخابات مجالس المحافظات حيث كشفت عن تطلّع الشعب إلى التغيير في كل المحافظات حتى التي تحكمها القوائم الفائزة.

هذا وحضر اللقاء النائب عن كتلة الفضيلة البرلمانية د. باسم شريف.

ص: 449


1- تاريخ اللقاء 2 ربيع الأول 1430 المصادف 28/ 2/ 2009، ونشر الخبر في العدد (78) من صحيفة الصادقين.

إنصاف أم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)آمنة بنت وهب

إنصاف أم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)آمنة بنت وهب(1)

في مثل هذه المناسبات يتم التركيز على صاحب المناسبة أعني رسول الله (صلی الله علیه و آله) في ذكرى ولادته وهو (صلی الله علیه و آله) يستحق أن تكرّس الأقلام والمنابر والكتب لنشر فضائله، ولكن لا يحسُن إغفال ذكر الوالدة أيضاً كما يحسُن أن نذكر خديجة الكبرى أم المؤمنين في ذكرى ولادة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) وفاطمة بنت أسد في ذكرى ولادة أمير المؤمنين (علیه السلام) لأن كل المناقب التي حظي بها المولود من انعقاد نطفته إلى حين ولادته ونشأته كانت الوالدة شريكة له في ذلك مضافاً إلى سموّها في ذاتها.

وهل نحتاج إلى دليل لنثبت سمو منزلة آمنة بنت وهب وقد اختارها الله تبارك وتعالى لتكون وعاءاً لحمل أكمل مخلوق وسيد الخلق أجمعين يتغذى في أحشائها ثم تضعه في أطهر ولادة ليتغذى من لبنها، ونحن نعرف ما للأم من تأثير في صفات الطفل وملكاته.

حينما يقول الإمام السجاد (علیه السلام) في خطبته في البلاط الأموي (أنا ابن نقيّات الجيوب، أنا ابن عديمات العيوب) فإن آمنة بنت وهب أم رسول الله (صلی الله علیه و آله) على رأسهن، وحينما يقول الإمام الصادق (علیه السلام) في زيارته لجدّه الإمام الحسين (علیه السلام) المعروفة بزيارة وارث (أشهد أنك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة لم تنجسك الجاهلية بأنجاسها) فإن آمنة

ص: 450


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي في الاحتفالية التي أقامها طلبة جامعة الصدر الدينية في مكتبه يوم المولد النبوي الشريف عام 1430ه-، ونشر في العدد (79) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 10/ج1/ 1430 الموافق 6/ 5/ 2009.

بنت وهب من هذه الأرحام المطهرة التي وحّدت الله تبارك وتعالى وعكفت على طاعته وعبادته ولم تتلوث بأدران الجاهلية.ولذا ورد في تفسير قوله تعالى [وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ] (الشعراء:219) من طرق الشيعة والسنة أن معناها تقلب نطفته وانتقالها من أصلاب الموحّدين إلى أرحام الموحّدات عن نكاح غير سفاح من لدن آدم(1).

إن العف-ّة والطهر والفضيلة التي اتصفت بها أم النبي(صلی الله علیه و آله) في مجتمع تسوده الموبقات والمنكرات بأرذل أنواعها بحيث كان يّشار إلى أربعة أحدهم جعفر بن أبي طالب لأنهم حرّموا على أنفسهم الخمر في الجاهلية لندرة من يتجنب هذا الخبيث، فكيف بمن عف عن كل ما يشين، في حين كان الآخرون عاكفين على عبادة الأوثان ويمارسون الرذيلة حتى من كانت تعرف بأنهن سيدات قريش.

لقد قصّر المؤرخون والكتّاب والخطباء في حق هذه السيدة الجليلة ولم يبيّنوا فضائلها ومآثرها، وبالغ الكثير منهم فحرموها من أقدس علاقة بين الأم ووليدها حيث قالوا أنها دفعت وليدها إلى حليمة السعدية لترضعه وهي موجودة لأنها توفيت بحسب زعمهم وعمر النبي (صلی الله علیه و آله) ست سنوات.

وهذا تزييف للتاريخ فإن آمنة أرضعت ولدها وأشفقت عليه وتولّت رعايته لكنها لما ماتت وعمره بضعة أشهر دفعه جده عبد المطلب إلى حليمة لترضعه، وأنت ترى أن موسى بن عمران (ع) ولد في أسوء الظروف حيث كان فرعون يقت-ِّل أولاد بني إسرائيل ويستحيي نساءهم، وأوحى الله تبارك وتعالى

ص: 451


1- راجع مجمع البيان و تفسير الميزان في تفسير الآية.

إلى أمه أن تجعله في تابوت وتلقيه في اليم، ومع ذلك لم يحرم أمّه من هذه الرابطة المقدسة قال تعالى: [وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ. فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ] (القصص: 1213).وقد ذكروا وجوهاً لتبرير هذه الأكذوبة فقالوا لجفاف اللبن عند أمه آمنة مع أن العكس هو الصحيح فإن حليمة السعدية تروي أن صدرها كان جافاً من اللبن فلم تستطع إرضاع ولدها حتى ألقمت رسول الله (صلی الله علیه و آله) الثدي فدرّ لبنها، وقالوا لكي يتعلم الصغير آداب العربية وخصال العرب، وهو حط من منزلة رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي يقول(أدبني ربي فأحسن تأديبي) وقال (أنا أفصح من نطق بالضاد) فمن ذا الذي يتعلم عنده رسول الله (صلی الله علیه و آله) شيئاً؟

وإذا كانت هناك امرأة تولت رعايته والحنوّ عليه وتفضيله على أولادها فهي فاطمة بنت أسد بن هاشم زوجة عمه أبي طالب التي قال فيها رسول الله (صلی الله علیه و آله): (إنها أمي بعد أمي).

استفتاء عن انتشار مظاهر الفساد

استفتاء عن انتشار مظاهر الفساد(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي السلام عليكم ورحمة الله

ص: 452


1- نشر في العدد (79) من صحيفة الصادقين الصادر بتاريخ 10 جمادى الأول 1430 المصادف 6 آيار 2009.

وبركاتهلوحظ في الآونة الأخيرة الانتشار الواسع لبعض الظواهر المنحرفة التي لا تليق بمكانة مجتمعنا المسلم وأعرافه وتقاليده ومنها ظاهرة التخنث بين الشباب وظاهرة فتح محال بيع الخمور وفي المدن والأحياء الشعبية وفتح الملاهي والنوادي وبيع الأقراص الإباحية علناً وبدون رادع بل كل ذلك بتشجيع من الدولة حيث تقوم الأجهزة الأمنية بتوفير الحماية ونصب سيطرات أمام تلك المحال فما هو تكليفنا في ذلك.

بسمه تعالى:

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الفرائض العظيمة في الإسلام، و بها يقوم كيان الأمة وهي الصفة التي فضّل الله تعالى بها الأمة الإسلامية على غيرها، قال تعالى: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ] (آل عمران:110).

وقد ذكر الأئمة ع جملة من الآثار المباركة التي تتحقق إذا قامت بها ففي الحديث عن الإمام الباقر ع سماها (أسمى الفرائض وأشرفها) وقال ع (إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء، ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب وتحلّ المكاسب وترد المظالم وتعمر الأرض ويُنتصف من الأعداء ويستقيم الأمر).

وتوعد الله تبارك وتعالى الأمة إذا تخاذلت وتركت هذه الفريضة ،فعن الإمامين الباقر والصادق ع (ويلٌ لقوم لا يدينون الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وذكر الأئمة سلام الله عليهم بعض النتائج السيئة والآثار الكارثية

ص: 453

التي ترتبت على تركها ومنها قول الرضا ع (لتأمرونَّ بالمعروف ولتنهنَّ عن المنكر أو ليستعملنَ عليكم شراركم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم).فالأمة إذا أرادت أن تكون حيّة فعليها أن تؤدي هذه الفريضة، وإلا فهي ميتة لا قيمة لها [أُوْلَ-ئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَ-ئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ] (الأعراف:179) والحال التي يصفها السؤال لا نجد لها وصفاً غير ما ذكرته هذه الآية المباركة.

ويختلف شكل أداء الفريضة من واحد لآخر بحسب موقعه وإمكانياته فالعلماء والمفكرون والخطباء وأئمة الجمعة والجماعة يدعون بالحكمة والموعظة الحسنة ويذكّرون الناس بمغبة هذه الأفعال ويحذرونهم من غضب الجبّار ويوجهونهم ويرشدونهم.

وأولياء الأمور من أباء ومعلمين وأساتذة يربون الأبناء على الأخلاق الفاضلة ويبينّون لهم مخاطر الفساد والانحراف عليهم في الدنيا والآخرة وعلى كيان بلدهم وأمتهم في الحاضر والمستقبل.

وعلى السلطات الحاكمة أن تتخذ التدابير اللازمة لمنع مظاهر الفساد والانحراف من خلال سن القوانين والتشريعات التي تمنعها وتعاقب عليها التزاماً بالدستور الذي يمنع من سن أي قانون يتعارض مع مبادئ الإسلام.

ومن خلال السلطة التنفيذية باتخاذ الإجراءات الرادعة ومنع قيام بؤر الفساد(1)، ولا يكون صدام المقبور أكثر غيرة منهم على الدين والأخلاق

ص: 454


1- رافق هذه المطالبة تحركات واسعة على مفاصل الحكومة وضغط شعبي نجح في اتخاذ مجلس محافظة بغداد قراراً بإغلاق الملاهي الليلية ومحال بيع الخمور العلنية وقامت قوة أمنية

الفاضلة حين أطلق حملته الإيمانية المزعومة وقد تضمنت منع الممارسة العلنية لهذه الموبقات. فهل من العدل والإنصاف للرعية أن تحظى بؤر الفساد بالحماية بينما تتسلل السيارات المفخخة في وضح النهار وتخترق السيطرات الأمنية في مدينة الصدر ببغداد وغيرها لتفتك بالأبرياء؟.وعلى وسائل الإعلام أن تمارس دورها الايجابي في تحصين المجتمع من الفساد الأخلاقي الذي هو أساس كل أشكال الفساد.

بيان استنكار تصريحات إمام الحرم المكي

بيان استنكار تصريحات إمام الحرم المكي(1)

إننا - علماءَ وفضلاءَ وطلبةَ الحوزة العلمية في النجف الأشرف- نستنكر ما صدر عن إمام الحرم المكي المبارك: الشيخ عادل الكلباني من تصريحات تكفر علماء الشيعة، ولا نجد لها مسوّغاً بل نراها محرّضة على الإرهاب والقتل وتمزيق وحدة المسلمين الذين يتوجهون جميعاً سنةً وشيعة شطر المسجد الحرام.

إن افتراءه على علماء الشيعة الأبرار الصالحين بأنهم يسبّون الصحابة مخالف

ص: 455


1- البيان الذي كتبه سماحة الشيخ اليعقوبي باسم الحوزة العلمية في النجف الأشرف وجموع المؤمنين وألقي قبل خطابه السنوي في التجمع الحاشد في النجف الأشرف لأداء الزيارة الفاطمية وقد تحرك البرلمان العراقي على أثره وأصدر بياناً وصف فيه تصريحات الكلباني بأنها خطيرة وطالب الحكومة السعودية بمحاسبة الخطباء الذين يطلقون تصريحات ضد الشيعة، وقد أبعدته السلطات فعلاً ومنع من إمامة الصلاة في الحرم المكي وخلت قائمة أئمة الحرم في شهر رمضان منه.

للواقع، لأن أتباع أهل البيت (سلام الله عليهم) متأدّبون بأدب الله تبارك وتعالى القائل في كتابه العزيز عن الكفار فضلاً عن غيرهم: [وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (الأنعام:108).ومتأدبون بأدب إمامهم أمير المؤمنين (علیه السلام) الذي لما سمع أن اثنين من جيشه وهما الصحابيان الجليلان الشهيدان حُجر بن عدي الكندي وعمرو بن الحمق الخزاعي يشتمان أهل الشام الباغين الخارجين على الإمام الحق خلال معركة صفّين نهاهما (ع) عن الشتم وقال (علیه السلام): (كرهت لكم أن تكونوا شتّامين، ولكن لو وصفتم مساوئ أعمالهم فقلتم من سيرتهم كذا وكذا، ومن أعمالهم كذا وكذا، لكان أصوب في القول وأبلغ في العذر، حتى يعرفَ الحق منهم من جهله، ويرعوي من الغي والعدوان منهم من لجَّ به، لكان أحبَّ إليَّ وخيراً لكم) فقال حُجْر بن عدي الكندي: (يا أمير المؤمنين نقبل عظتك ونتأدّب بأدبك).

إننا وبحضور هذه الآلاف المحتشدة عند أمير المؤمنين (علیه السلام) باب مدينة علم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وفي عاصمة العلم والعلماء نجدد مطالبتنا باعتذار علني من الشيخ الكلباني ومن صدرت منه مثل هذه الكلمات، ونطالب السلطات السعودية بنصب إمام في الحرم المكي الشريف يجمع المسلمين كما يجتمعون جميعاً في ذلك المكان المبارك.

3 جمادى الثانية 1430 *** الموافق *** 28/ 5/ 2009

ص: 456

تسييس العقيدة جناية عليها وتعويق لحركتها

استقبل المرجع الديني سماحة الشيخ محمد اليعقوبي المفكر الإسلامي الكبير والكاتب المعروف الدكتور محمد التيجاني السماوي(1).

وشكر سماحته الضيف الكبير على جهوده العلمية والفكرية والخدمة التي أسداها لمن يريد الاهتداء إلى الحق، وأثنى سماحته على شجاعته في بيان الحقائق ومثابرته الدؤوبة في تمحيص التاريخ وتحقيقه، ووصف سلسلة كتبه التي ابتدأها بكتاب (ثم اهتديت) بأنها تقدمت خطوة على كتاب (المراجعات) للسيد شرف الدين من جهة توسيعها لقاعدة المستفيدين منها والقادرين على التفاعل معها.

وأضاف سماحته إن إيصال صوت أهل البيت (سلام الله عليهم) إلى العالم كله وليس المسلمين فقط أمانة في أعناقنا بعد أن يسّرت التكنولوجيا المعاصرة وسائل الاتصال والتواصل والتعريف، وحينئذٍ سنجد تهافتاً وإقبالاً على قبول الحق وهو ما لاحت علائمه في السنين الأخيرة تصديقاً لقولهم (ع) *** (إن الناس لو عرفوا محاسن كلامنا لاتبعونا).

ونبّه سماحته إلى بعض الأمور التي تعيق حركة التشيّع والولاء لأهل البيت (سلام الله عليهم) وتؤدي إلى محاصرته ومحاربته وعلى رأسها تسييس العقيدة واتخاذها جسراً للوصول إلى الأهداف والمصالح الدنيوية مما يستفزّ الآخرين ويحشّدهم لمقاومة هذه الحركة المباركة، وهذه جناية يرتكبها الأتباع قبل

ص: 457


1- جرى اللقاء في يوم الأربعاء: 8 رجب 1430 الموافق 1/ 7 /2009، ونشر الخبر في العدد (81) من صحيفة الصادقين بتأريخ 16/رجب/1430 الموافق 9/ 7/ 2009.

الأعداء في حق هذه المدرسة المباركة والناس الذين سيحرمون منها.وتفقّد سماحته خلال اللقاء أوضاع مدرسة أهل البيت (سلام الله عليهم) في تونس خاصة والبلاد العربية الإسلامية عامة.

وتحدّث الضيف الكريم عن زياراته المتكررة إلى النجف الأشرف والعتبات المقدسة في العراق والتي بدأها منذ أكثر من أربعين عاماً والتقى خلالها بعلماء ومفكرين وعلى رأسهم مراجع الدين كالسيد الخوئي (قدس سره) والسيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) وأن آخر زياراته كانت قبل استشهاده بأسبوع، وعاد اليوم ليجد الحوزة العلمية المباركة تنهض من جديد وتعود إليها الحياة بعد عقودٍ من الظلم والقهر والحصار.

وشكر العلماء المخلصين على جهودهم وتضحياتهم خلال المحن والكوارث التي مرّت في سبيل المحافظة على هذا الكيان الشريف الذي تحيطه ألطاف الله تبارك وتعالى ببركات أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (علیهما السلام).

ووعد فضيلته بتكرار الزيارة إلى النجف الأشرف والمكث فيها طويلاً لمد مزيد من جسور التواصل بين علماء المسلمين.

دعوة السادة أعضاء البرلمان لمراجعة قانون الانتخابات خصوصاً ما يتعلق بتوزيع المقاعد المتبقية

قال سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله): (بعد تحديد موعد إجراء الانتخابات البرلمانية المقبلة مطلع العام القادم وبدء العد التنازلي سريعا لتلك الفعالية التي يُعوَّل عليها لإجراء إصلاحات في الوضع السياسي القائم وتصحيح

ص: 458

بعض الأخطاء السابقة في العملية السياسية، نلفت عناية السادة أعضاء البرلمان لإجراء مراجعة لمجمل العملية الانتخابية ومراحلها ابتداءً من قانون الانتخابات إلى عملية العد والفرز وتوزيع المقاعد على الكتل الفائزة).وقال سماحته لدى استقباله(1) عدداً من البرلمانيين ورؤساء الأحزاب السياسية والأكاديميين (أكتفي بالإشارة هنا إلى نقطة واحدة وهي كيفية توزيع المقاعد المتبقية بعد تطبيق القاسم الانتخابي وتعيين عدد المقاعد الصحيحة للكتل الفائزة، فإن الطريقة التي اتبعت سابقا هي توزيعها على الكتل الفائزة نفسها بحسب نسبة الأصوات التي حازتها، وهذه الآلية أفرزت نتائج سلبية منها:

1- مخالفة إرادة الناخبين بمنح أصواتهم إلى كتل لم يصوّتوا لها.

2- إهمال عدد كبير من أصوات الناخبين وهي الأصوات التي حصلت عليها الكتل التي لم تصل إلى القاسم الانتخابي ولو كانت بحاجة إلى أصوات بعدد الأصابع.

3- عدم الإنصاف والموضوعية إذ قد يعطى مقعد لشخص حصل على عدد قليل من الأصوات كمائة صوت من الأصوات التي حصلت عليها كتلته ويحرم من المقعد شخص حصل على عشرة آلاف صوت أو أكثر لكنه لم يصل إلى القاسم الانتخابي.

4- تضييق المشاركة في العملية السياسية وحصرها بالكتل الكبيرة وحرمان الأكثر مما يؤدي إلى سعة قاعدة عدم التأييد للعملية السياسية وضعف دعمها

ص: 459


1- بتاريخ الاثنين 6 رجب 1430 الموافق 29/ 6/ 2009، ونشر في العدد (81) من صحيفة الصادقين.

من الشعب).وأضاف سماحته (إذا أردنا أن نعبر عن هذه النقاط بأرقام من النتائج التي أعلنتها المفوضية العليا المستقلة للانتخابات عن انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة، فقد كان عدد المشاركين في الانتخابات هو نصف عدد من يحق لهم التصويت، حيث صوّت (7.143.656) ناخباً، حصلت الكتل الفائزة - بحسب أرقام المفوضية- على (4.897.334) صوتاً، وبذلك فقد أهملت (2.246.322) صوتاً أي ما نسبته 31.5 من المشاركين مضافا إلى نصف من يحق لهم التصويت لم يشاركوا أصلاً، مما يعني هشاشة القاعدة التي تستند إليها العملية السياسية).

ونبّه سماحته إلى (إن مشكلة قد تحصل لا يحلّها القانون وهي عندما لا تتجاوز أي كتلة القاسم الانتخابي في المحافظة أو تجتاز القاسم الانتخابي قائمة لشخص منفرد وليس لكتلة من مرشحين وبالتالي فلا يمكن تطبيق القانون الحالي بمنح المقاعد المتبقية إلى الكتلة الفائزة، ونذكر مثالا على ذلك ما حصل في محافظة كربلاء، فلو فرضنا حصول الكتل المشاركة في الانتخابات البرلمانية المقبلة على نفس عدد الأصوات، ومشاركة نفس العدد من الناخبين فإنها جميعا لا تتجاوز القاسم الانتخابي للمقاعد البرلمانية الذي سيكون حوالي (30-35) ألف صوت للمقعد إلاّ قائمة السيد يوسف الحبوبي التي حصلت على (37.846) صوتاً وهي قائمة مفردة، فلمن تمنح المقاعد الباقية؟ واقرب قائمة أليها وهي (أمل الرافدين) حصلت على (26.967) صوتاً فلا تصل إلى القاسم الانتخابي).

ص: 460

وقدم سماحته مقترحاً قال عنه (انه يحل هذه العقد ويعالج المشاكل من دون إلغاء القاسم الانتخابي كما طالب البعض لان وجوده كأساس للتقييم ضروري، ويتضمن المقترح عدة خطوات:1- تحديد القاسم الانتخابي بنفس الآلية أي بقسمة مجموع عدد المشاركين على عدد المقاعد المخصصة.

2- تعيين أعداد المقاعد الصحيحة للكتل الفائزة بقسمة عدد الأصوات التي حصلت عليها على القاسم الانتخابي وتعيين العدد المتبقي من المقاعد المخصصة.

3- ترتيب الكسور المتبقية للكتل الفائزة مع كسور النسب التي حصلت عليها الكتل غير الفائزة تنازليا ومنح المقاعد المتبقية للكتل ذات الكسور الأعلى في الترتيب بحسب عدد المقاعد المتبقية بغض النظر عن كون الكسور للكتل الفائزة وغير الفائزة).

ثم أشار سماحته إلى النتائج الايجابية التي يمكن أن تتحقق بتطبيق هذه الآلية فقال ((وبذلك سنحقق:

1- توسيع دائرة المشاركة في العملية السياسية لعدد اكبر من الكيانات لإنعاش العملية الديمقراطية وتحقيق المصالحة الوطنية.

2- تخليص قرار البرلمان من اسر وهيمنة الكتل الكبيرة. الذي أدى في المرحلة السابقة إلى ما يقرب من تعطيل الكثير من دوره.

3- إيجاد ديناميكية في عمل البرلمان يحدثها ذوو المقاعد القليلة الذين سوف لا يكونون ساكنين، وإنما يتحركون في تحالفاتهم ومواقفهم.

ص: 461

4- احترام إرادة الناخبين وعدم إهمال أصواتهم إلا بمقدار ضئيل.

5- تحقيق الإنصاف والعدالة بمقدار كبير، إذ سوف لا تحصل الكتل الفائزة على أزيد من مقعد إضافي ويحوز الباقي ذوو الكسور الكبيرة من الكتل التي لم تتجاوز القاسم الانتخابي (يلاحظ هنا من باب المثال إن قائمتي ائتلاف دولة القانون وأمل الرافدين حصلتا على مقعدين صحيحين لكل منهما في محافظة كربلاء ثم أضيفت لهما سبعة مقاعد بإعادة توزيع المقاعد الشاغرة ليصبح لكل منهما تسعة مقاعد !! وفي محافظة واسط حصلت ائتلاف دولة القانون على أربعة مقاعد صحيحة وقائمة شهيد المحراب على مقعدين صحيحين فأضيف إلى الأولى تسعة مقاعد لتصبح حصتها ثلاثة عشر مقعداً وأضيفت أربعة إلى الثانية لتصبح ستة مقاعد).

6- تجاوز المشاكل المتوقع حدوثها لدى تطبيق القانون الانتخابي كالذي اشرنا إليه من قبل)).

وفي ختام حديثه عبر سماحة المرجع اليعقوبي عن أمله بأن يغلّب السادة أعضاء البرلمان المصالح الوطنية العليا عند النظر في هذه الأمور لننقذ بلدنا وشعبنا من الكوارث التي دمرته وأنهكته.

تغيير الخارطة السياسية في الانتخابات القادمة، يساهم في القضاء على دوامة العنف

أكد المرجع الديني سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على أهمية تعاون جميع أبناء البلد المخلصين ووحدتهم وألفتهم لإخراج

ص: 462

البلد من الأزمات التي يمر بها.جاء ذلك لدى استقباله السيد علي بابان وزير التخطيط والتعاون الإنمائي والوفد المرافق له(1) في مكتبه في النجف الأشرف والذي أشاد بدور المرجع اليعقوبي في تقويم العملية السياسية من خلال مواقفه الوطنية وتسديده الدائم للمسؤولين، ونصحه لهم في تغليب مصلحة الوطن والمواطن على كل المصالح، مستشهداً بدعوة سماحته إلى تفكيك الائتلافات الطائفية والتي دعا إليها في عام 2006.(2)

وقال المرجع اليعقوبي: لقد كنا وما نزال في موضع الحاجة إلى اندماج أبناء البلد وانصهار توجهاتهم في بوتقة الوطن، وهو الأمر الذي يدعم مسيرة العملية السياسية في مسارها الصحيح، فقد شهدنا عبر التاريخ تشكيل كيانات ذات صبغة طائفية معينة وهذا ليس عيباً أو خلةً، إنما العيب والخلل في الانغلاق على الطائفة وعدم الانفتاح على الآخرين، ولربما يصل الأمر إلى معاداتهم وقضم استحقاقاتهم، وكان المفروض أن تتفق هذه الكتل وتتوحد رؤاها وتذوب خلافاتها في سبيل المصالح الوطنية العليا لتؤسس إلى توحيد عراق ما بعد السقوط وآمل أن تنتج انتخابات عام 2010 خارطة سياسية مختلفة عن تلك التي أنتجتها انتخابات عام 2005 وإذا لم يحصل مثل هذا التغيير فإن دوامة

ص: 463


1- تاريخ اللقاء الأحد 24 شعبان 1430المصادف 16/ 8/ 2009، ونشر في العدد (82) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 6/رمضان/1430 المصادف 27/ 8/ 2009.
2- في إشارة إلى اللقاء الذي أجرته مجلة نيوزويك مع سماحته يوم الجمعة 2 ذ.ق 1427 المصادف 14 /11/ 2006 والذي دعا فيه إلى تفكيك الائتلافات المبنية على أساس طائفي.

العنف وكل الإفرازات الكارثية للمسيرة الخاطئة للعملية السياسية ستبقى، والعياذ بالله.وأضاف سماحته أن للإسلام القدرة ليس فقط على ردع مشاريع الغزو والاحتلال والفساد وإنما له القدرة على التأثير في الغزاة والمحتلين وإقناع الكثير منهم بالإسلام كما حصل للمغول حينما غزوا بغداد وسرعان ما اعتنقوا الإسلام ودعوا إليه. لكن هذه النتائج الكبيرة مشروطة بالعمل الدؤوب المخلص وبالترفع عن الأنانيات والمصالح الشخصية والفئوية.

هذا وحضر اللقاء السيد مهدي العلاق وكيل وزير التخطيط والدكتور عبد الرزاق شريف نائب محافظ النجف الأشرف.

(المعايشة) ممارسة تربوية

(المعايشة) ممارسة تربوية(1)

توجد ممارسة تسمى (المعايشة) الهدف منها تدريب وتمرين الإنسان على أداء المهمات الموكولة إليه، وهي معروفة على مستويات عديدة كالعمل العسكري فيرسل مجموعة من منتسبي القوات المسلّحة الذين يمارسون وظائف إدارية أو لوجستية إلى جبهات القتال أثناء الحرب ليتمرنوا على العمليات القتالية فيقضون مدة معينة كشهر هناك تسمى (معايشة).

وهي ممارسة معروفة على صعيد الوظائف المدنية حيث يقوم المسؤول المعين في وظيفة معينة بمعايشة في موقع آخر لهدف معين.

ص: 464


1- نشرت في العدد 83 من صحيفة الصادقين الصادر بتاريخ 4 شوال 1430 المصادف 24 أيلول 2009.

وهذا التمرين يمكن أن يُعمَّم لتحقيق أهداف أخلاقية أو تربوية أو علمية ، ومن هذا المنطلق قمنا باستضافة المئات من الطلبة الجامعيين في الحوزة العلمية في النجف الأشرف في العطلة الصيفية عام 2002 وحققت أثارا مباركة.واليوم يحلّ عددٌ من طلبة الإعداديات من محافظة ذي قار ضيوفاً على جامعة الصدر الدينية في النجف الأشرف وقد أُعدَّت لهم برامج من الأعمال الصالحة والعلم النافع في مدارس الحوزة الشريفة وفي الحضرة العلوية المباركة حيث قضوا العشر الأواخر من شهر رمضان في رحاب تلك الأجواء المقدسة وقد عبّر المشاركون عن استفادتهم من هذه (المعايشة) وتزوَّدهم بجرعات إيمانية مباركة ، وفي حديث سماحة الشيخ اليعقوبي معهم بارك لهم هذه المبادرة ، وتمنى توسيع التجربة خلال العطلة الصيفية من كل عام وان يقوم عدد اكبر من المدارس الدينية باستقبال الضيوف فإن هذه الممارسة تساهم في توسيع وتعميق الحالة الإيمانية في المجتمع.

على المفوضية العليا للانتخابات أن تستعيد ثقة الشعب

عبّر المرجع الديني سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي دام ظله عن قلقه إزاء نزاهة الانتخابات، بعد الخروقات الواضحة في عملها والتي كُشفَ عنها في عملية الاستجواب مؤخرا أمام البرلمان.

وقال المرجع اليعقوبي لدى استقباله(1) رئيس الوزراء الأسبق الدكتور أياد

ص: 465


1- كان بتاريخ الخميس 18 شوال 1430 المصادف 8/ 9/ 2009، ونشر الخبر في العدد (84) من صحيفة الصادقين بتأريخ 9/ذو القعدة/1431 الموافق 29/ 10/ 2009.

علاوي في مكتبه في النجف الأشرف: "إن هذه الخروقات تقلل من ثقة الشعب بأداء المفوضية العليا وتؤدي بالبعض إلى العزوف عن المشاركة في الانتخابات المقبلة. وإن السادة أعضاء البرلمان المحترمين مطالبون بإجراءات وقرارات تحفظ مصداقية العمل الرقابي للبرلمان وتعيد هذه الثقة للناخب العراقي وتضمن له عملية انتخابية شفافة نزيهة بمساعدة القوى الوطنية والمؤسسات الدولية".

ومن جانب آخر فقد حمّل سماحته القوى السياسية العراقية والدول المتدخلة في شؤون العراق مسؤولية الكوارث التي تحل بهذا الشعب المظلوم، فعلى الجميع أن يضعوا الله تبارك وتعالى نصب أعينهم ويدعوا التاريخ يكتب عنهم صحائف بيضاء، ويتركوا جانبا الصراع القذر على السلطة وتقاسم الكعكة ويلتفتوا إلى مصالح الشعب ، وسوف يجد الجميع ما يغنيهم من الخيرات والبركات.

وأثنى الدكتور أياد علاوي على المواقف الوطنية والإنسانية النبيلة لسماحة المرجع اليعقوبي وجهاده المضني من أجل تحقيق العزة والكرامة للشعب ووحدة العراق وسيادته.

هذا وقد حضر اللقاء الوزير السابق محمد علاوي وعدد من أعضاء البرلمان من القائمة العراقية.

ص: 466

ما هي الأسس والقواعد الشرعية لعمليات التجميل؟

بسم الله الرحمن الرحيم

سماحة المرجع الديني آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي دامت بركاته

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ما هي الأسس والقواعد الشرعية لعمليات التجميل؟وما هي الضوابط الشرعية لها(1)؟

بسمه تعالى:

عمليات التجميل المعروفة اليوم لها أكثر من شكل، وبحسب ذلك يكون الحكم الشرعي.

فمنها: لإصلاح تشوه في الوجه أو الجسم ويوجب حرجا اجتماعيا وإهانة من الجهلة وهنا يكون من الراجح إجراء العملية دفعا لذلك الحرج والتحقير.

ومنها: ما يكون لمعالجة جرح أو موضع للقيح ونحوه - أجاركم الله تعالى- وهنا يكون العلاج واجبا لوجوب حفظ البدن من الضرر.

ومنها: ما يكون لمتابعة (الموضة) والانجرار وراء هوس التقليعات التي يبتدعها شياطين الإنس ، كالذي نراه في عمليات الوشم والتلوين، وهذا أمر سفهي وغير عقلائي ومناف للشريعة في إطارها العام، وقد أطلعت على بعضها الذي يتضمن غرز الإبر في الوجه والبدن مما يتقزز منه وتنفر النفوس ولا اعلم ما الذي يدعوهم إليها إلا أن شياطين الإنس والجن يزيّنونها لهم ويوحون إليهم زخرف القول غرورا. فإنا لله وإنّا إليه راجعون

محمد اليعقوبي

ص: 467


1- نشر في العدد (85) من صحيفة الصادقين الصادر بتاريخ 14 ذو الحجة 1430 الموافق 7 تشرين الثاني 2009.

لا نسمح بتهميش ملف المقابر الجماعية

استقبل سماحة آية الله العظمى المرجع الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) في مكتبه(1) الدكتور طالب الرماحي عضو لجنة المتابعة لتنفيذ توصيات المؤتمر الدولي الثاني للمقابر الجماعية في العراق.

وأطلع الدكتور الرماحي سماحة الشيخ اليعقوبي على ما آل إليه الملف الإنساني الكبير ملف المقابر الجماعية ، والجهود التي تبذل من أجل إنقاذه من التهميش المتعمد ، وأبدى سماحته استغراباً كبيرا لعدم اهتمام الحكومة بهذه الجريمة التي راح ضحيتها مئات الآلاف من الأبرياء الذين دفنوا ظلماً في جريمة تعد الأولى من نوعها في العصر الحديث.

وقال المرجع اليعقوبي: إن شعوب العالم تهتم بشهدائها والمضحين من أبنائها وتولي اهتماماً كبيراً بذويهم، وهذا ما لم نلمسه في العراق مع مرور أكثر من ست سنوات على التغيير السياسي.

وطالب سماحة الشيخ اليعقوبي الحكومة العراقية ومنظمات المجتمع المدني التي تهتم بحقوق الإنسان بتضافر الجهود من أجل إنصاف الشهداء وذويهم، كما أوصى بضرورة دعم الحكومة لكل الجهود المخلصة والتي تعمل من أجل وضع هذا الملف على المسار الصحيح ومنها المساعدة على تنفيذ البنود والتوصيات المهمة التي اقرها المؤتمر الدولي الثاني للمقابر الجماعية والذي عقد في النجف في تشرين الثاني 2008. ومنها تشكيل لجنة للبحث عن المقابر

ص: 468


1- بتاريخ الأربعاء 2/ 11/ 2009 الموافق 14 ذي الحجة 1430ه- ، ونشر الخبر في العدد (86) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 15/محرم/1431 الموافق 1/1/ 2010.

الجماعية والسعي من أجل الحصول على اعتراف من البرلمان العراقي يعتبر ما حصل من مقابر جماعية في زمن النظام السابق هي تطهير عرقي وإبادة للجنس البشري.كما أكد سماحته على اعتبار أي محاولة لتهميش هذا الملف الإنساني الخطير أو أي تغليب للمصالح السياسية على حسابه، جريمة أخرى ترتكب بحق شهدائنا الأبرار لما فيه من ضياع لحقوقهم وحقوق ذويهم. وأنها محاولة لطمس معالم هذه الجريمة ومنع العالم من التعرف عليها ، خدمة لمن ارتكبها.

وقد أبدى المرجع اليعقوبي دعمه الكامل ومباركته لكل الجهود التي من شأنها إخراج ملف جريمة المقابر الجماعية من دائرة التهميش، كما أوصى بضرورة الاهتمام بذوي الضحايا، وكما تفعله الشعوب الأخرى. وان إنصاف الشهداء والمضحّين والوفاء لهم وتكريم ذويهم وإبراز مظلوميتهم وفظاعة أفعال القتلة والمجرمين واجب إنساني قبل أن يكون واجبا شرعيا، وإن إثارة هذا الملف وإبقاءه حياً يساهم في عدم عودة أنظمة البطش و الاستبداد مرة أخرى، لأنه يحفّز همم الشعب للعمل بكل ما أوتي لمنع تسلّق مثل هؤلاء المتوحشين المولغين في دماء الأبرياء الزكية إلى السلطة تحت أي عنوان أو ذريعة وهذا ما يكسب هذه القضية أهمية إضافية.

ص: 469

تحصيل العلوم الدينية بداية الانطلاق للمشاريع الأخرى

تحصيل العلوم الدينية بداية الانطلاق للمشاريع الأخرى(1)

استقبل سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) فضيلة العلامة السيد جعفر نجل مفجّر الثورة الإسلامية في العراق المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سره)، وقد استذكر سماحته مع الضيف لذة أيام العمل المبارك بخدمة السيد الشهيد الصدر الثاني(قدس سره) والذي امتزجت فيه الهمة مع الإخلاص والتحدي في مواجهة النظام الطاغوتي.

وقد عرض الضيف الكريم مشروعه في الترشيح للانتخابات البرلمانية والأهداف السامية التي يتوخى تحقيقها، وبارك سماحته للسيد الجليل أهدافه ومساعيه وقدّم النصائح المناسبة لهذا العمل.

وقال سماحته: إن التحصيل العلمي في الحوزة العلمية وتلقّي علوم أهل البيت(سلام الله عليهم) هو أساس الانطلاق في كل المشاريع الأخرى سواء السياسية أو الاجتماعية أو الفكرية، وحتى الاقتصادية وغيرها، لأن تلك العلوم تورث الحكمة وتنير البصيرة وتنمي العقل وتصحح المسيرة وتفتح آفاق التفكير على أوسع أبوابها. وأثنى سماحته على مؤهلات السيد الضيف وقابليته لأن يكون قائداً إلى الخير والصلاح، مع الإرث الضخم الذي يتمتع به من أبيه الراحل العظيم.

وقال سماحته إنني متفائل بوجودك في الأروقة السياسية، للرمزية التي تلتقي عليها جميع الطوائف والقوميات والديانات، وأعتقد أن مجرد وجودك بين

ص: 470


1- تاريخ اللقاء 7/ 1/ 2010، ونشر الخبر في العدد (88) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 3/ج1/ 1431 المصادف 18/ 4/ 2010.

السياسيين سيكون كافياً لتذكيرهم بالمبادئ النبيلة السامية التي ضحى من أجلها السيد الشهيد الصدر (قدس سره) وجعلته موضع تقديس وتعظيم لدى الجميع.ودعا سماحته للسيد الضيف بالتأييد والتسديد وعلو الهمة.

التحدي الذي يواجه المبلّغين

استقبل(1) المرجع الديني سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) عدداً من المبلغين الأوروبيين في ألمانيا وبلجيكا وهولندا الذين جاءوا برفقة قافلة من زوار العتبات المقدسة في العراق.

وبعد تفقد سماحته لأحوال المؤمنين في بلاد الغرب واطلاعه على جملة من نشاطات العاملين في أوروبا لهداية الناس إلى الإسلام والى مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) وإقامة الشعائر الدينية : أثنى على جهودهم المباركة ودعا لهم بمزيد من الأعمال الصالحة التي تقرّبهم من الله تبارك وتعالى وينالون بها رضا إمام العصر (أرواحنا له الفداء).

وقال سماحته : إن التحدي الأبرز الذي كان يواجه أتباع أهل البيت (علیهم السلام) في القرون السالفة هو ظلم الطواغيت وبطشهم فقضى الكثير شهداء أو في غياهب السجن أو مشردين ومقهورين.

لكن هذا التحدي تراجع اليوم حيث تتمتعون بمساحة من حرية العمل والحركة وإقامة الشعائر ، بقي التحدي الأكبر والمهمة الأشق وهي إبراز

ص: 471


1- تاريخ اللقاء 21 ربيع الثاني 1431ه- الموافق 7/ 4/ 2010، ونشر في العدد (88) من صحيفة الصادقين.

الصورة الناصعة للإسلام ولمدرسة أهل البيت بما تتضمنه من مبادئ سامية وتعاليم نبيلة وسلوك عفيف وقلب طاهر سليم ، لان العالم لا يعرف شيئاً عن الإسلام ومنهج أهل البيت (علیهم السلام) وإنما يعرفها من خلال من يمثلهما ويتحدّث باسمها ، فمن أحسن في تصرفه وتمثّل تلك التعاليم الفاضلة في حياته وتعامل مع نفسه والآخرين وفق ما يريده أهل البيت (علیهم السلام) من شيعتهم فانه سيعكس تكل الصورة المشرقة ، ويؤتى كفلين من رحمة الله تعالى ومن أساء - والعياذ بالله - عوقب مرتين.ولا يخفى ما للقضية الحسينية بما حملت من فصول المأساة والمواقف النبيلة والسمو الإنساني من تأثير في جذب الناس إلى هذا الصراط المستقيم ، لأنها تثير الكثير من التساؤلات والتأملات عند من لا يعرف ، وهذه أول خطوة للوصول إلى الحقيقة. ولا يقلّ تأثير القضية الفاطمية عنها في ذلك كلّه.

ولكي تكونوا دعاة إلى الخير والى الصلاح لا بد من تهذيب النفس وتوسيع دائرة العلم والمعرفة وشحذ الهمة وإخلاص النية [وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ] إن كل من عندنا هو نعمة من الله تبارك وتعالى وفضل ورحمة [الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَ-ذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ] فنسأل الله تعالى دوام النعم والاستقامة والهدى.

بمناسبة اختيار النجف عاصمة للثقافة الإسلامية

بمناسبة اختيار النجف عاصمة للثقافة الإسلامية عام 2012 من قبل وزراء الثقافة في الدول الإسلامية وقرب إجراء الانتخابات البرلمانية في العراق رغبت

ص: 472

محطة بي بي سي البريطانية بإجراء حوار مع سماحة المرجع اليعقوبي فأذن سماحته(1)، وننقل هنا جزءاً من هذا الحوار.س1: ما هي الدوافع للموافقة على اختيار النجف الأشرف عاصمة للثقافة الإسلامية؟

ج: بسم الله الرحمن الرحيم: تتميز النجف الأشرف بعدة معطيات تجعلها حاضرة في وجدان العالمين العربي والإسلامي بل الإنسانية جميعاً، فهي مدينة عالمية بعدة مقاييس:

أولها: أن فيها مرقد أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأخيه وصنوه، الذي يمتلك رمزية للبشر جميعاً حتى من غير المسلمين، ويقصده الجميع لاستلهام تلك المبادئ النبيلة السامية.

ثانيها: وفيها المراجع العظام (أدام الله وجودهم الشريف) الذين لا يمكن الاستغناء عنهم لمعرفة أحكام الشريعة الإلهية، ولأخذ التوجيهات والنصائح، ولحل المشاكل ولمواجهة الفتن والتحديات، وللتزود بما يرشدهم إلى الصلاح والإصلاح والمشاريع النافعة.

ثالثها: أنها حاضرة علمية لا تضاهيها الجامعات الرصينة، ولها موقع الريادة لكثير من العلوم الإسلامية والإنسانية كالإلهيات وتفسير القرآن والعقائد والفقه والأصول واللغة والأدب والحكمة والفلسفة والأخلاق وغيرها، لذا تضم أروقتها العلمية الآلاف من طلاب العلم والمعرفة من شتى بلدان العالم، وهي

ص: 473


1- جرى اللقاء يوم الجمعة 4 ع1 1431 المصادف 19 /2/ 2010، ونشر الخبر في العدد (88) من صحيفة الصادقين.

امتداد لمدرسة الكوفة التي أسست في صدر الإسلام.رابعها: العمق الحضاري لهذه المدينة، ففيها مرقد أقدم الأنبياء أبي البشر آدم (ع) ونبي الله نوح (صلوات الله عليهما) بحسب بعض الروايات المشفوعة بالشواهد التاريخية، ومنها انطلقت هجرة من أسسوا الحضارة في وادي الرافدين، فهي صاحبة الفضل على البشر جميعاً في تأسيس الحضارة الإنسانية وتقدّمها وفيها آثار لحقب عديدة من الحضارات العريقة يقصدها عشاق الاطلاع على الآثار واستقراء أحوال الأمم القديمة.

س2: هل تعتقدون أن النجف استعادت دورها في زعامة الشيعة في العالم بعد التغير الذي حصل عام 2003.

ج: لم تفقد المرجعية الدينية في النجف الأشرف زعامتها للشيعة في العالم، لكن قد تمر عليها ظروف تحجّم دورها وتأثيرها، أو قد تنافسها مدن أخرى لوجود مراجع عظام فيها كما حصل في فترات تأريخية متعاقبة في كربلاء المقدسة والحلة وقم المقدسة وبغداد وسامراء وغيرها، وقد قيل في المثل العربي (المكان بالمكين) وبعد زوال البطش الصدامي فقد بدأ العالم يسمع صوت النجف ويقصدها ويستشعر قوة تأثيرها، كما أنه توفرت الفرصة للتواصل بينها وبين دول العالم بعد أن كانت مطوّقة فتحقق هذا الالتفات للنجف.

س3: هل تعتقدون أن الدور السياسي الذي لعبته المرجعية في النجف الأشرف بعد تغيير عام 2003 كان بسبب ضغوط خارجية؟

ج: إذا كنّا نقصد بالسياسة: مساعدة الناس في تحصيل حقوقهم ورفع الظلم عنهم وتحقيق العدالة والرفاه لهم فهذا من صميم وظائف المرجعية ولم ولن

ص: 474

نتخلى عنه، ولا يحتاج ممارسة هذا الدور إلى ضغط من أحد، بل يكفي في القيام به الشعور بالمسؤولية أمام الله تبارك وتعالى وأمام الناس وأمام التاريخ وهم بذلك يتأسون بالنبي العظيم والأئمة المعصومين (علیهم السلام) الذين لم يدّخروا جهداً في هذا المجال.أما إذا أريد بالسياسة أي الصراع على السلطة والحكم وعدم التورع عن ارتكاب أي محذور شرعي أو إنساني لتحقيق المصالح الشخصية، فإن المرجعية ليست جزءاً منه بل هي تقف في مواجهته فلا يستطيع أحد الضغط عليهم ليجعل منهم جسراً يعبر من خلاله إلى تحقيق مآربه. لأن لهم من الحكمة ومخافة الله تعالى والوعي ما يكفي لكشف تلك الألاعيب، وإن كان لا يصعب على تلك الجهات أن تجد من توظفه لخدمة مصالحها والعياذ بالله.

مشروع المرجعيات المحليّة

مشروع المرجعيات المحليّة(1)

لقد تحققت بانتشار فروع الحوزة العلمية المتمثلة بجامعة الصدر الدينية في المحافظات بركات عديدة، نذكر منها باختصار:

1- انتشار المعرفة الدينية والتفقه من خلال زيادة عدد الطلبة المنتسبين لهذه الحوزات، وقيامهم بعد تعلمهم بنشر المدارس القرآنية وحلقات العلوم الدينية في مجتمعاتهم.

ص: 475


1- وردت هذه الخاطرة في حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من طلبة كلية الطب في جامعة البصرة ووفد أساتذة وطلبة جامعة الصدر الدينية فرع الكاظمية وحشد من أبناء مدينة قلعة سكر يوم السبت 10 ع2 1431 المصادف 27/ 3/ 2010.

2- التعريف بالحوزة العلمية وأهدافها وبرامجها ومناهجها مما كان مجهولاً قبل هذا لانحصارها في النجف الأشرف مما لا يتيح الفرصة للتعرف عليها إلا من قبل القليل.

3- انتشار الصلاح في المجتمع لما يمارسه هؤلاء الطلبة - من الرجال والنساء- الذين بلغوا الآلاف من التأثير في المجتمع وهدايته نحو الصلاح.

4- بروز طاقات وإبداعات علمية وفكرية كشف عنها وجود هذه المؤسسات العلمية وحضورهم فيها.

وهذا ما شجعني على إعلان مشروع ينهض بالأمة ويساعدها على الارتقاء نحو الكمال، وهو تشجيع هذه الطاقات الخلاقة على مواصلة التحصيل العلمي حتى تتحقق عندهم ملكة الاجتهاد وتتوفر فيهم شروط الإفتاء ليكونوا مراجع محليين في مدنهم، فيكون لكل محافظة قائد ومرجع ديني يقوم بكل وظائف النيابة عن المعصومين سلام الله عليهم بالتنسيق مع المرجعية العليا في النجف الأشرف.

وإنني متفائل بإمكان تحقيق مثل هذا المشروع بوجود العقول المبدعة في المحافظات وقد كشف عن ذلك تفوقهم العلمي في دراساتهم الأكاديمية وسعة ثقافاتهم وعمق تفكيرهم.

وأستطيع أن أقول أن كثيراً من العلوم الأكاديمية تساهم في خلق الذهنية الاجتهادية والإبداع ولا يحتاج صاحبها إلا إلى التزود بأدوات الاجتهاد من العلوم الداخلة في عملية الاستنباط وهو لا يحتاج إلى زمن طويل.

لقد كانت هذه الحالة موجودة في الأزمنة السابقة حيث يوجد مراجع في

ص: 476

النجف وكربلاء والحلة والكاظمية، بل حتى في غيرها من المدن، وأجد اليوم الفرصة مؤاتية أكثر من ذي قبل. ومن الواضح التأكيد على أن هذا المشروع يكون وفق الضوابط المشدّدة المعمول بها وليس خاضعاً للأهواء والإدعاءات، فلتكن همتكم كبيرة وطموحاتكم رفيعة، وإن الله تعالى عند حُسن ظن عبده.

بالحوار الشفاف الهادف وبتغليب المصلحة العليا على مصالح الأفراد والجهات.. يوجد الحل وتحل الخلافات

استقبل المرجع الديني سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) في مكتبه في النجف الأشرف الأستاذ صلاح علي المالكي سفير مملكة البحرين في العراق (1).

ونقل سعادة السفير تحيات جلالة الملك وحكومة المملكة لسماحة الشيخ المرجع (دام ظله) وتحدث عن المشتركات الكثيرة التي تجمع الشعبين الشقيقين والعلاقات المتينة والوشائج القوية التي تربطهما.

كما عبّر السفير المالكي عن حرص بلده بأن يأخذ العراق دوره الريادي السابق بين الدول العربية بما يتناسب مع عمقه الحضاري والتاريخي بعيداً عن فرض أي إرادة خارجية عليه.

من جانبه أثنى سماحة المرجع اليعقوبي على الدور المهم الذي تضطلع به

ص: 477


1- تاريخ اللقاء 24 ج2 1431 المصادف 8/ 6/ 2010، ونشر الخبر في العدد (91) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 18/رجب/1431 الموافق 1/ 7/ 2010.

مملكة البحرين بدعم الشعب العراقي، مشيداً بالموقف الشجاع - الذي تقاعس عنه الآخرون - الذي تبنته مملكة البحرين بفتح سفارتها في العراق لتكون بوابة عربية إسلامية مهمة تنفتح على العراق حيث قال سماحته: (إننا نثمن فتح سفارة لمملكة البحرين وهو موقف شجاع تقاعس عنه الآخرون، فالعراق بلد الحضارة والعلم والفكر يمر بأزمة و يحتاج (شعباً وحكومة) إلى وقفة إخوانه معه ليساعدوه ويخففوا عنه ويبثوا روح الأمل في جسده، وكان لكم السبق بهذه المبادرة الطيبة.وأضاف سماحته: (إن الحواجز الموجودة بين أطياف الشعب العراقي مصطنعة، وليس لها أساس، ولقد عشت في بغداد 20 عاماً في منطقة تضم طوائف واديانا متعددة وكنا نحضر مناسباتهم ونتفاعل معها ولم نشعر يوماً بأي فاصل أو حاجز. فالتواصل موجود على المستوى الفكري والأخلاقي والاجتماعي والعقائدي ولا توجد ما يسمى اليوم بالمشكلة الطائفية ولكن السياسة الخبيثة هي من أوجدت النزاعات).

كما حذر سماحته من المؤامرات السياسية ضد الشعب العراقي والتي تُلبَس ثوباً طائفياً لتمريرها بقوله: (إن الأعداء... أعداء الإنسانية يسعون إلى تحويل النزاع إلى صراع طائفي، ويحاولون أن يلبسوه هذا الثوب لتمريره...ونحمد الله أن شعبنا قد تجاوز جزءاً من الأزمة والتفت إلى هذه المؤامرات التي تنفذها سياسات بعض الجهات الداخلية والخارجية).

وبهذا الصدد فقد حذر سماحته الشعوب كافة من الوقوع في مثل هذه المؤامرات والانخداع ببعض الشعارات الدينية والقومية التي يراد منها تمرير

ص: 478

تلك المؤامرات وتحقيق مصالح تلك الجهات الداخلية والخارجية ولا توجد مصداقية في تحقيقها، ولتعلم الشعوب والسلطات إن الحل في الحوار الشفاف الهادف إلى تغليب المصلحة العليا على مصالح الأفراد والجهات، والعمل على التفاعل والاندماج مع الحالة العامة واغتنام فرصة توفر أجواء نقية وبيئة صالحة وأرضية مناسبة والالتفات إلى عدم إعطاء فرصة لمن يتحرك خارج الإطار حيث يمكن التعبير عن الرأي بالوسائل المتاحة المسموحة وهي كفيلة بإيصال الصوت. وهو ما كانت عليه سيرة أئمة أهل البيت (علیهم السلام).وفي نهاية اللقاء جدد المرجع اليعقوبي تأكيده على ضرورة تطوير العلاقات الحميمة المتأصلة بين الشعبين، وذكر بعض العلاقات الخاصة التي تربط إسلافه الماضين (رحمهم الله تعالى جميعا) بالأسر والوجهاء البحرينيين في عقدي الستينيات والسبعينيات ووعد بإهداء مملكة البحرين نسخة خطية نادرة يصل عمرها إلى أكثر من مئة وخمسين عاماً تضم مجموعة قصائد رائعة لأعلام الأدباء البحرينيين، وهي تشمل جزءاً من تراث المملكة الأدبي –وهي من نفاس صندوق اليعقوبي(1)- تعبيراً عن حبه ووفائه للأدب البحريني والعلاقات الصادقة التي ترتبط بها أسرة آل اليعقوبي معه.

هذا وقد حضر اللقاء القنصل البحريني في النجف الأشرف.

ص: 479


1- وهي مجموعة من المخطوطات والكتب النادرة والقديمة جداً في مختلف مجالات الأدب والشعر جمعها الشيخ محمد علي اليعقوبي جد سماحة الشيخ المرجع (دام ظله) أطلق عليها اصطلاحاً صندوق اليعقوبي.

استخدام الفرشاة في أفران الصمون

استخدام الفرشاة في أفران الصمون(1)

س: يستشكل بعض المؤمنين الذين يرجعون إلى سماحتكم من تناول الصمون الذي يطلي بفرشاة أجنبية قبل وضعه في الفرن. فما حقيقة هذا الأمر؟

الجواب: بسمه تعالى: ثبت لدينا من عدة طرق أن فرشاة مستوردة من الصين كثيرة الاستعمال في طلاء الجدران والصمون قبل وضعه في الفرن هي مصنوعة من شعر الخنازير التي تُربّى خصيصاً في الصين لهذا الغرض، والصينيون لا يخفون هذا بل يعلمون التجار المستوردين لها باعتبارهم مسلمين! والتجار المسلمون يسوّقونها مع التفاتهم إلى هذا الأمر، ولا أحد ينبّه أو يحذّر، خصوصاً فيما يتعلق بالطعام الذي أمر الله تعالى بأن يكون طاهراً طيباً [فَلْيَنظُرِ الإنسَانُ إلى طَعَامِهِ] (عبس:24).

فعلى القول المشهور الذي عُدّ متسالماً عليه بين الأصحاب من نجاسة الخنزير بسائر أجزائه، فإن مثل هذه الفرشاة لا يجوز استعمالها في ما يؤكل لحرمة أكل النجس.

والحل بسيط بأن يستخدم أصحاب الأفران فرش غير مصنوعة من شعر

ص: 480


1- صدر للسيد السيستاني (دام ظله الشريف) استفتاء بنفس المعنى بعد أن قام مختصون بإجراء تجارب على الفرش المستعملة وتأكدوا مما ورد في استفتاء سماحة المرجع اليعقوبي فبعثوا السؤال والنتائج العلمية إلى سماحة السيد السيستاني (دام ظله الشريف) وقد وزع المؤمنون الاستفتائين بكثافة وتبرع محسنون بفرش مصنوعة من النايلون ووزعوها مع الاستفتائين مما ساهم في ارتداع الغالبية العظمى من الأفران.

الخنزير، حيث توجد غيرها مصنوعة من النايلون الصناعي مهما قيل عن خشونتها ونحوها من الأعذار، فإن مراعاة حكم الشريعة هو الأهم قال تعالى [تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (البقرة: 229).وقد قام بعض الإخوة المؤمنين - جزاهم الله خير الجزاء- بتوزيع الاستفتاء على أصحاب الأفران مع إهداء فرشاة أو أكثر من الشعر الصناعي ونحوه الخالية من الإشكال لإلفات نظرهم إلى هذه المسألة وخطورتها. كما وجّهنا المؤمنين بمقاطعة أصحاب الأفران المعاندين المستكبرين على أحكام الله تعالى لردعهم وإعادتهم إلى الصواب، والله الموفّق(1).

البحث في معاني المفردات القرآنية

البحث في معاني المفردات القرآنية(2)

علمتُ أن بعضاً منكنّ قد حفظت القرآن الكريم كله، والبعض الآخر حفظن عشرين جزءاً أو أكثر أو أقل، وهذا لا يُنال إلا بلطفٍ الهي خاص فكونوا من الشاكرين.

وهنا ينبغي أن نلتفت إلى ما بعد ذلك من المراحل.

ص: 481


1- نشر في العدد 91 من صحيفة الصادقين الصادر بتاريخ 18 رجب 1431 الموافق 1 تموز 2010.
2- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع مجموعة من حافظات القرآن الكريم ومدرّسات وطالبات مجمع القرآن الكريم في البصرة يوم الخميس 21 شوال 1431 الموافق 30/ 9/ 2010، ونشر الخبر في العدد (94) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 16/ذ.ق./1431 المصادف 25/ 10/ 2010.

وأولها: استذكار ما حُفظ والمداومة عليه لئلّا يُنسى فتفوت درجة عظيمة، في رواية صحيحة عن أبي بصير قال: (قال أبو عبد الله (علیه السلام): من نسي سورة من القرآن الكريم مُثلّت له في صورة حسنة ودرجة رفيعة في الجنة، فإذا رآها قال: ما أنتِ؟ فما أحسنك؟ ليتك لي، فتقول: أما تعرفني؟ أنا سورة كذا وكذا، ولو لم تنسني لرفعتك إلى هذا المكان) وهذا الحديث الشريف شامل لكل من حفظ سورة فأكثر.وثانيها: التدبر في معاني القرآن الكريم واستنطاق آياته واستخراج مكنوناته، وعدم الاكتفاء بظواهره الشكلية من حفظ وتجويد وضبط الحركات ومخارج الحروف، لأن القرآن ما أريد به حروفه وألفاظه وإنما أريد به حقائقه المكنونة ومعانيه المودعة في هذه القوالب اللفظية، كالأمثلة التي تضرب ويراد منها إيصال معاني معينة.

إن الأنس بالقرآن الذي يصفه الإمام السجاد (علیه السلام) بأنه لو مات من في المشرق ومن في المغرب ما استوحشت ما دمت مع القرآن لا يُنال إلا بالتدبر والتفكر والاستفادة من المعاني.

ولو تفكرنا في مفردات القرآن الكريم لملأنا منها مجلدات كثيرة، خذ مثلاً مفرده (التقوى) فما هي حقيقة التقوى، وكيف يمكن تحصيلها والمحافظة عليها؟ وما هي مراتب التقوى وما آثارها على حياة الفرد والمجتمع في الدين والآخرة؟ ولماذا كانت التقوى خير الزاد ومقياس التفاضل وغيرها من المعاني.

أو مفردة (الشيطان) فما حقيقة الشيطان وكيف يؤثر في الإنسان؟ وما حدود سلطانه؟ وما هي أدواته في العمل وما معنى خيله ورجله الذين يجلب بهم على

ص: 482

بني آدم؟ ولماذا انظر إبليس إلى يوم الدين؟ ولماذا انهار وفشل لحظة الاختيار بالسجود؟ وكيف نتحصّن منه ونقاومه؟ وما هي ثغراته التي ينفذ منها وغيرها.وهذا البحث في (معاني المفردات القرآنية) خصوصاً الأخلاقية منها التي تؤدي إلى تهذيب النفوس وتكميلها وإصلاحها يستحق أن يكون درساً في الحوزات العلمية والمدارس القرآنية.

وثالثها: نشر هذه المعارف القرآنية فينطلق كل منكم بما تحمّل من علوم إلى المجتمع لينفعهم وينقل لهم هذا الخير ففي الحديث النبوي الشريف (خياركم من تعلّم القرآن وعلّمه)، وليختر كل واحد الآلية التي يراها مناسبة لنشر هذه المدرسة القرآنية.

رؤساء العشائر في ضيافة المرجعية والحوزة العلمية

رؤساء العشائر في ضيافة المرجعية والحوزة العلمية(1)

بعد الدعوة الكريمة التي أطلقها سماحة المرجع اليعقوبي في خطبة صلاة عيد الفطر إلى رؤساء العشائر ليضعوا أيديهم بأيدي المرجعية والحوزة العلمية للنهوض بواقعهم وإصلاح أوضاعهم، فقد أبدى الكثير من هؤلاء الزعماء تأييدهم لهذه المبادرة واستعدادهم للاستجابة.

وقد وفدت الطليعة الأولى منهم على سماحته يوم السبت 9 شوال 1431 المصادف 18/ 9/ 2010 وقد ضمت حوالي خمسين من رؤساء ووجهاء عشائر الظوالم وآل زياد وآل جيّاش وآل حسان وغيرهم من قضاء الرميثة وعموم محافظة المثنى وشَكرَهم سماحته في حديثه على هذه الاستجابة التي تأتي

ص: 483


1- نشر في العدد (94) من صحيفة الصادقين.

تطبيقاً للآية الشريفة [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ] (الأنفال:24) فإن الحياة الطيبة السعيدة هي في ظل طاعة الله تبارك وتعالى والسير على هدى نبيه الكريم والأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.وقال سماحته: ((إننا لسنا متروكين في هذه الدنيا نفعل ما نشاء بلا حساب ولا رقابة، فإن الله تعالى يقول [وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ] (التوبة:105) أي اعملوا ما شئتم ولكن عليكم أن تعلموا أن عملكم هذا هو تحت نظر الله تبارك وتعالى وان رسول الله (صلی الله علیه و آله) والأئمة الأطهار (ع) يطلعون عليه فيفرحون لما يجدون من أعمال صالحة ويحزنون لما يرون من أعمال سيئة والعياذ بالله، فعلينا أن نبذل جهدنا لإدخال السرور على نبيّنا وأئمتنا (صلوات الله عليهم أجمعين) ولا نشعرهم بالخجل أمام الأنبياء والأوصياء الآخرين (ع) حين تعرض الأعمال أمام الأشهاد)).

وقال سماحته: ((إن واقعنا مؤلم وقاسٍ وحينما تحدثنا بحرقة وألم وقسوة في خطبة العيد فلأننا نقلنا صوراً من هذا الواقع، فإذا كنا صادقين في موالاتنا لأئمتنا الأطهار (ع) فلنكن زيناً لهم وليس شيناً وعاراً.

ولنعمل بهمّة وإخلاص لإصلاح ما فسد من أمورنا تمهيداً لقيام صاحب الأمر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) فإنه ينتظرنا كما ننتظره، ينتظر منا النصرة والتمهيد والتمكين وتوطيد الأرض ونشر راية الهدى، كما أن جدّه المصطفى (صلی الله علیه و آله) لما وجد النصرة الصادقة من أهل يثرب هاجر إليهم وأقام فيهم دولة الحق والعدل.

ص: 484

وأنتم بفضل الله تبارك وتعالى تملكون من أدوات النصرة الكثير وتستطيعون أن تقدموا أعمالاً أكثر من غيركم فانتهزوا فرص الخير)).هذا وقد أوعز سماحته إلى فروع جامعة الصدر الدينية في المحافظات لاستقبال الراغبين في الانخراط في الدورات الفقهية والأخلاقية المخصصة لأبناء العشائر ريثما يتم إعداد المناهج والمحاضرات المقررة للدورات التي تُنظّم في النجف الأشرف.

لكن الطليعة المذكورة أصرت على القدوم إلى النجف الأشرف والاستفادة من أجوائها المباركة والنفحات العلوية المطهرة، وقد شُكلّت لجنة من عدد من فضلاء الحوزة العلمية لاستضافتهم في مقر جامعة الصدر الدينية وجرى لهم استقبال حافل وبرنامج مكثف على مدى يومي الخميس والجمعة (5، 6 ذو القعدة 1431 المصادف 14-15/ 10/ 2010) تضمن زيارة الحرم العلوي المطهر مرتين وإقامة صلاة الفريضة جماعة هناك وقراءة دعاء كميل وزيارة مسجد الكوفة صباح الجمعة وقراءة دعاء الندبة، وألقيت ست محاضرات في فقه العشائر وصفات رئيس العشيرة والتنبيه لبعض الممارسات غير الشرعية في سلوك العشائر ونحوها.

كما قام سماحة المرجع بزيارة المشاركين في مقر إقامتهم وألقى فيهم كلمة توجيهية واعتبر حضورهم هذا نصرة لله ولرسوله واستباقاً للخيرات كما أمر الله تعالى، وفي نهاية الدورة مُنح المشاركون شهادات تقديرية تثبت إنهاءهم لهذه الدورة الشريفة.

ص: 485

مبادرة للإسراع بتشكيل الحكومة

مبادرة للإسراع بتشكيل الحكومة(1)

مرت ستة أشهر على إجراء الانتخابات البرلمانية العامة التي وقف فيها الشعب بشجاعة وأدلى بصوته أملاً في حياة ملؤها الأمل والاستقرار والرفاه.

لكن أماله تتبدد كلما طال أمد تشكيل الحكومة حتى بلغت هذه المدة القياسية ولازال البرلمان الجديد في إجازة مفتوحة، لا يستطيع لمّ شمله، مما يشكل خرقا دستورياً فاضحاً.

إن المرجعية الرشيدة في النجف الأشرف - وهي تراقب مجريات العملية السياسية – لا تستطيع الصبر طويلاً على أنّات الشعب ومطالباته، وهي ترى عجز الكتل السياسية عن حسم الموضوع حتى صار البعض يدعو إلى إعادة الانتخابات وهو أمر لا فائدة فيه، ولا يحل المشكلة، مضافاً إلى الصعوبات الإجرائية وغيرها.

لذا فإننا نتقدم بحل نعتقده فاعلاً وسريعاً، وذلك بان تحال قضية اختيار رئيس الحكومة إلى الشعب لحسمها، وليتحمل مسؤولية من يختار وذلك بأجراء انتخابات عامة لاختيار رئيس الوزراء من بين مرشحي الكتل البرلمانية التي فازت بمقعد فما فوق، ولا يترك باب الترشيح مفتوحاً لآي احد حتى

ص: 486


1- أطلقت هذه المبادرة للضغط على الكتل السياسية حتى تتحرك بجدّ لتشكيل الحكومة وقد أثمرت فور تداولها إعلامياً عن تحريك الأمور الراكدة، حيث بدأت خطوات ايجابية منها إلغاء المحكمة الاتحادية العليا لإجازة البرلمان المفتوحة وأمرهم بحضور الجلسات ثم اجتماع الكتل الفائزة وحصول التوافقات السياسية حتى شُكلت الحكومة، ونشر الخبر في العدد (94) من صحيفة الصادقين.

تكون العملية أكثر منطقية، وكأننا نجعل شرطاً في المرشح أن تكون له قاعدة لا تقل (100) ألف عراقي باعتبار ما يمثله المقعد الواحد.إن هذا المقترح يحلّ المشكلة اليوم وغداً لأننا نتوقع حصولها بعد كل انتخابات برلمانية عامة وفق معطيات تركيبة الشعب العراقي التي لا تفرز كتلة فائزة بنصف مقاعد البرلمان حتى تستطيع تحقيق الأغلبية المطلقة.

ولما كان الدستور الحالي لا يتضمن مثل هذه المادة، فأننا ندعو إلى استثمار الخطوة الايجابية لفخامة السيد رئيس الجمهورية بدعوة البرلمان الجديد للانعقاد اليوم الأحد 19/ 9/ 2010 ليسنّ هذه المادة ويلغي ما ينافيها، لان الدستور وضع لمصلحة الشعب وحل مشاكله وتحقيق الازدهار للبلد وليس لخلق الأزمات والفتن، وعلى السادة المحترمين ممثلي الشعب أن يصلّحوا كل مادة لا تصب في الأهداف المرجوّة.

إن مثل هذه الخطوة ستفرز رئيس حكومة قوي، يتمتع بثقة الشعب مباشرةً، وسيعمل فعلاً على إسعاد الشعب الذي انتخبه، ويتحرر بدرجة ما من ضغط الصفقات والمحاصصات مع المحافظة على استحقاقات الكتل السياسية في تشكيل الحكومة لأنه يحتاج إلى نيل ثقتها في البرلمان،وإذا استطاع السادة قادة الكتل الخروج من هذه الأزمة سريعاً فإن هذه المبادرة ستكون مشروعا مقترحاً أمام البرلمان لاحقاً، ليكون المرجعية في كل حالة تمرّ المدة القانونية ، وهي شهر واحد على انعقاد أول جلسة للبرلمان من دون التوصل إلى اختيار رئيس للحكومة.

وقد خولت جناب النائب حسن الشمري بشرح تفاصيل المبادرة

ص: 487

إلى الزعماء السياسيين في البلد ووسائل الإعلام مع دعائي للجميع بالتأييد والتسديد وحسن الخاتمة.[وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] (التوبة:105).

10 شوال 1431ه- الموافق 19/ 09/ 2010 م

التحذير من عدم تشكيل حكومة شراكة وطنية

حذر المرجع الديني سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) مما يتردد في وسائل الإعلام من السعي لتشكيل حكومة أغلبية سياسية، لأن ذلك لا يساهم في حل المشاكل وإزالة العقد التي يعاني منها البلد بل يزيدها تعقيداً.

وبيّن سماحته لدى استقباله(1) السيد آد ميلكرت رئيس بعثة الأمم المتحدة في العراق: إن التنوع السياسي بالعراق ليس مبنياً على أساس البرامج السياسية حتى يمكن لبرنامج الأغلبية أن يحكم ويبقى البرنامج الأخر في المعارضة، وإنما بنيت الأحزاب في العراق وشاركت في العملية السياسية على أساس انتماءاتها الطائفية والقومية والاجتماعية مما يعني أن عزل أي حزب أو كيان يعني عزل المكون الذي يمثله وهذا يؤدي إلى خلل في توازن التمثيل

ص: 488


1- استقبل سماحة الشيخ رئيس بعثة الأمم المتحدة في العراق السفير آد ميلكرت في مكتبه في النجف الأشرف يوم الثلاثاء 10 ذ.ق 1431ه- الموافق 19/ 10/ 2010م، ونشر الخبر في العدد (94) من صحيفة الصادقين.

لمكونات الشعب.واستدرك سماحته: بأن ذلك يجب أن لا يكون مبرراً لبعض القوى لكي تعرقل تقدم العملية السياسية اطمئناناً إلى عدم إمكان تجاهل وجودها في تشكيل الحكومة، بل على جميع القوى السياسية أن تنضم إلى مشروع الحكومة الذي يحقق أغلبية الأصوات.

إن الشعب يطمح إلى تشكيل حكومة توفر له الأمن والاستقرار والرفاه والتقدم وتعالج مشاكله الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الكثيرة كالجهل والمرض والفقر والتصحّر وقلة المياه والتدخلات الخارجية والخروقات الأمنية والفساد المالي والإداري وتلكؤ عملية الإعمار والنهوض، والمرجعية تعبّر عن إرادة الشعب هذه وتريد من القوى السياسية أن تسعى لتحقيقها.

إن دور بعثة الأمم المتحدة مهم وفاعل لأنها وسيط يحظى بقبول الجميع، ونحن نرى أن دور البعثة كلما ضعف وتراجع فإنه يَبرز بقوة التدخلات الإقليمية التي تزيد الصراعات والتقاطعات، وكلما أخذت بعثة الأمم دورها الايجابي والفاعل تراجع تأثير تلك التدخلات واستطاعت لملمة شتات الفرقاء السياسيين.

أما المرجعية فإنها تعاني من تناقض الآخرين في التعاطي معها فهم من جهة يطالبونها بالتدخل لفك العقد وحل الأزمات وتحريك الأمور الراكدة، ولما تؤدّي وظيفتها يقولون إن المرجعية لا ينبغي أن تتدخل في السياسة.

لقد قدمنا المشروع تلو المشروع لحل الأزمة الحالية إلا أنها لم تلق استجابة لأن كل فصيل يريد تفصيل الحل على مقاسه، ولازلنا نعتقد بأن الكتل الفائزة

ص: 489

إذا اجتمعت على طاولة مستديرة وبحضور وسيط مرضي لدى الأطراف كممثل الأمين العام للأمم المتحدة وتبادلت وجهات النظر فإنها ستخرج بآلية للخروج من الأزمة وهو المشروع الذي قدمناه في وقت مبكر من الأزمة وستكون المرجعية داعمة لكل جهد مبارك يصب في مصلحة الشعب العراقي.

ص: 490

توجيه بالامتناع عن التطبير

توجيه بالامتناع عن التطبير(1)

سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الشعائر قد اتسعت عرفاً لتشمل عدة أفعال وأعمال قد يراها غير المسلم أو المؤمن أنها حرام أو تشويه للإسلام خصوصاً التطبير، فما هو رأيكم الشريف؟

جمع من المؤمنين

جواب سماحة الشيخ:

بسمه تعالى: لا يجوز في الشريعة القيام بكل عمل غير عقلائي أو فيه ضرر على النفس أو يوجب إهانة للدين ولمدرسة أهل البيت (سلام الله عليهم)، وإنما خرج الإمام الحسين (علیه السلام) طلباً للإصلاح في أمة جده (صلی الله علیه و آله) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن أراد مواساته بصدق فليعمل على تحقيق أهدافه المباركة.

لقد ورثنا عن أئمتنا المعصومين (سلام الله عليهم) طرقاً لإحياء الشعائر الحسينية وتجديد ذكرى عاشوراء، بإقامة مجالس العزاء ونظم الشعر الواعي في رثائهم، واللطم على الصدور، وليس منها التطبير وأمثاله، كضرب الظهور بالآلات الحادة والمشي على النار ونحوها،

ص: 491


1- نُشر في العدد (95) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 9 محرم/1432 الموافق 16/ 12/ 2010.

فإنها تسربت إلينا من أمم أخرى، وقد رأينا في التقارير المصورة مسيحيين يقومون بذلك ويصلبون أجسادهم على الأعواد ويدمون ظهورهم، فلسان حال أئمتنا (ع) (لو كان خيراً ما سبقونا إليه).أما بالنسبة للتطبير وضرب الظهور بالآلات الحادة والمشي على الجمر ونحوها، فقد وجّهنا أتباعنا ومن يأخذ برأينا إلى تركه والعمل على تجسيد المبادئ والقيم التي تحرَكَ الإمام الحسين (علیه السلام) لإقامتها، وأن يكون تعبيرهم عن إحياء النهضة الحسينية حضارياً؛ لأن العالم أصبح كالقرية الواحدة وقد أُمرنا بأن نخاطب الناس على قدر عقولهم، وهذا الأمر فيه إطلاق شامل للأقوال والأفعال، أي أن لا تكون أفعالنا فوق تحمّلِهم خصوصاً تطبير النساء والأطفال ، وشامل لكل الناس أي للمسلمين وغيرهم.

نأمل من جميع إخواننا أن لا يصدر منهم قول أو فعل إلا بعد مراجعة ولاة أمورهم ومراجعهم من أهل البصيرة في أمور الدين والدنيا، فهم الذين يقدّرون الفعل المناسب في الظرف المناسب، وأن يكونوا كما أرادَ لهم الأمام الصادق (علیه السلام) (دعاة صامتين) جاذبين لولاية أهل البيت (علیهم السلام) وليسوا طاردين أو منفّرين والعياذ بالله.

وفّق الله تعالى الجميع لما يحب ويرضى.

محمد اليعقوبي

5 محرم 1432 ه- الموافق 12/12/ 2010م

ص: 492

سماحة الشيخ يثني على زيارة كبار المسؤولين للنجف الأشرف

سماحة الشيخ يثني على زيارة كبار المسؤولين للنجف الأشرف(1)

استقبل المرجع الديني سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) فخامة السيد جلال الطالباني رئيس الجمهورية في مكتبه في النجف الأشرف.

وقد شكر فخامة الرئيس سماحته على موقف كتلة الفضيلة الداعم لإعادة ترشيحه لرئاسة الجمهورية، وطلب الاستئناس بآراء المرجعية الرشيدة وتوجيهاتها ونصائحها.

ومن جهته فقد ثمّن سماحة المرجع زيارة كبار المسؤولين في الدولة لمراجع الدين في النجف الأشرف، لأن مثل هذا التواصل يُرشّد عمل المسؤولين ويسدّد خطاهم، ويوجه عمل السلطة لما فيه مصلحة البلد والشعب، ونقل سماحته (مد ظله) إلى فخامة الضيف معاناة الشعب بسبب الفقر والبطالة وسوء الخدمات، رغم أن البلد غني ويمتلك الثروات الهائلة وقد طالت مدة الصبر والانتظار، حتى صار الشعب ينتظر تحصيل أبسط حقوقه في حين نحن نأمل له الحياة الكريمة السعيدة.

واعترف فخامة الضيف بوجود التقصير والقصور الذي سبّبته التعقيدات والتحديات التي تعصف بالبلد وتحدث عن خطط الحكومة المقبلة لتحسين الخدمات وتحقيق الرفاه للشعب العراقي.

ومن جانب آخر فقد اعتبر سماحة المرجع اليعقوبي توافد كبار المسؤولين

ص: 493


1- نُشر في العدد (96) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 19 صفر/1432 الموافق 24/ 1/ 2011.

العرب على بغداد إلى حد التسابق دليلاً على الاعتراف بالواقع الجديد، الذي منح الفرصة لجميع مكونات الشعب لتأخذ استحقاقاتها بحسب حجومها الحقيقية من دون استئثار طائفة أو فئة أو حزب أو عشيرة واستبدادها. وعبّر عن أمله في نجاح العراق بتنظيم مؤتمر القمة العربية في بغداد في آذار المقبل وتحقيق التواصل المثمر مع الأشقاء العرب.هذا وقد رافق فخامة الرئيس السيد نصير العاني رئيس ديوان رئاسة الجمهورية والدكتور رزاق شريف نائب محافظ النجف الأشرف والحاج صادق اللبان عضو البرلمان عن النجف وعدد من مستشاري السيد الرئيس ومرافقيه.

العلم يدعو إلى التدين

العلم يدعو إلى التدين(1)

عُقد بالتزامن مع الكسوف الجزئي للشمس مؤتمر علمي في بغداد عن هذه الظاهرة، ولم يتسنَ لي متابعته إلا أنه لفت انتباهي كلمة عابرة سمعتها من أحد المتخصصين قال فيها: إن ظاهرة الكسوف ترافقها دخول فايروسات وبكتريا إلى الأرض تسبب أمراضاً وأوبئة وأحدها ما يسبب انفلونزا الطيور بسبب تداخل غلاف الجو الأرضي وغلاف خارج الأرض في زمن الكسوف.

وهنا انقدح في ذهني وجه لتشريع صلاة الآيات إذ أن الإنسان يقف عاجزاً أمام مثل هذه الأحداث الكونية ولا يسعه فعل شيء لمنع أضرارها، ولا وسيلة له إلا التوجه بالدعاء إلى خالق الكون القادر على كل شيء الرب الرؤوف الرحيم

ص: 494


1- نُشر في العدد (96) من صحيفة الصادقين.

ليحميه من هذا الخطر.وهكذا يثبت أكثر فأكثر بمرور الأيام وظهور المزيد من الاكتشافات العلمية أن العلم يدعوا إلى الدين ويعزّزه في العقول، خلافاً لما يدعيه بعض المضللين من أن التشريعات الدينية وضعت لأجيال سابقة كان يسودها الجهل والتخلف والخوف مما يحصل حولهم من حوادث كونية لكي يسكّنوا و(يخدّروا)، وبالغوا في جهلهم حتى قالوا عن الدين أنه أفيون الشعوب، ومنها صلاة الآيات التي قالوا عنها أنها شرّعت لأن الناس كانوا يخافون من الكسوفين ونسجت حولهما الأساطير فكانت هناك حاجة يومئذٍ لطمأنتهم، أما اليوم وقد عُرفت فلسفة هذه الظاهرة وكيفية حصولها وأمكن حساب زمن وقوعها بدقة فلا خوف ولا حاجة للصلاة ونحوها من الكلمات.

ولكن تقدّم العلم يكون دائماً في مصلحة الدين ويكشف أسراره ومعجزاته في مختلف حقول العلم والمعرفة ونشهد اليوم بفضل الله تبارك وتعالى إقبالاً على الدين من الأساتذة وحملة الشهادات العلمية الراقية فالحمد لله وحده.

ص: 495

استفتاءات حول الحضور في صلاة الجمعة

سماحة المرجع الديني آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)

نرجو منكم الإجابة على هذا السؤال :

مع ازدياد حر الصيف وبعد صلاة الجمعة نرى بعض الإخوة لا يحضرون لأداء صلاة الجمعة للأعذار الآتية :

1- إن صلاة الجمعة خارج المسافة الشرعية.

2- عدم وجود الخطيب الكفؤ.

3- الإمكانية المادية.

مع العلم أن هؤلاء يرجعون إليكم في المستحدثات الشرعية، فنرجو بيان هذا الأمر جزاكم الله خير جزاء المحسنين؟

بسمه تعالى

1- ورد في الروايات المعتبرة إن من كان على مسافة فرسخين (11 كيلو متر) من موضع إقامة صلاة الجمعة سقط عنه وجوب الحضور فيها، وعلى هذا إجماع الفقهاء (قدّس الله أرواحهم)، لكننا لدى مراجعتنا للروايات وجدنا أن هذا الحكم هو بلحاظ صغر مساحة المدن والقرى يومئذٍ بحيث يلزم من المسافة المذكورة وجود المكلف في مدينة أو قرية أخرى ومن المتوّقع إقامة جمعة ثانية فيها، لذا فالحكم لا يشمل من كان بعيدا بهذا المقدار لكنه داخل مدينة واحدة، لذا فإننا لا نعتبر وجود المكلف على هذه المسافة من محل إقامة الصلاة مسوغاً لعدم الحضور إذا كان في نفس المدينة لسعتها كبغداد مثلاً، خصوصا مع الالتفات إلى عظمة هذه الشعيرة المقدسة واهتمام الشارع المقدس

ص: 496

بها، وما أعد الله تعالى من الكرامة والثواب لمن سعى إليها، إضافة إلى ما فيها من عزّة ونصرة للمشروع الإلهي العظيم.2- هذا ليس عذراً لأن المقدار المجزي من الخطبة وهو لا يتجاوز السطرين متحقق فيها.

3- لا أعتقد أن تكلفة الحضور مما يعسر على المكلف توفيرها قياسا مع مصاريف حياته الأخرى فيمكنه التنازل عن بعض مصاريفه غير الضرورية لتوفير أجر نقله، أو تبرع المؤمنين بأجور النقل [وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] لينال الجميع أجر هذه الفريضة المباركة.

أسأل الله تعالى أن يوفقَّ المؤمنين إلى ما يحب ويرضى ويزيّن لهم الطاعة ويكرِّهَ إليهم المعصية

1 ربيع الأول 1430

ص: 497

موسم الحج ووباء انفلونزا الخنازير

سماحة الشيخ اليعقوبي سدد الله خطاكم

ما حكم الذهاب إلى الحج مع احتمالية الإصابة بمرض (أنفلونزا الخنازير) فهل هذا مسوغ لعدم الذهاب للحج مع العلم أن احتمالية انتشار الوباء بدرجة قوية كما نقلت الأخبار؟ وهل يجوز منع إقامة موسم الحج لأجل هذا الاحتمال؟

بسمه تعالى

لا زال الوقت مبكراً لإعطاء الرأي في حكم سفر الحجاج إلى بيت الله الحرام مع وجود احتمال الإصابة بوباء (أنفلونزا الخنازير) أجارنا الله وإياكم من كل سوء لأن السفر وتهيئة مقدماته يكون عادة في شهر ذي القعدة الحرام. والله مدبر الأمور.

لكن الحالة إذا بقيت على ما هي عليه الآن – لا سامح الله – فإن الاحتمال الموجود لا يسوّغ منع إقامة الموسم وأداء الشعائر أو اتخاذ قرار حكومي بمنع سفر الحجاج فإن أموراً أخرى تسبب حالات وفاة أكثر من هذا– كحوادث النقل الجوي والبحري والبري – ولا يعتقد أحد أنها سبب كافٍ للمنع.

نعم يمكن للحكومات(1) منع الأشخاص الذين يكون احتمال الضرر بالنسبة إليهم بدرجة معتدٍ بها لضعف مناعتهم ونحوها من الأسباب ، كما أن من حق الشخص أن يمتنع عن السفر إذا كان خوفه من الضرر بهذه الدرجة لان هذا

ص: 498


1- اتخذت الحكومة مثل هذا القرار الذي أقره أيضاً مجلس وزراء الصحة العرب فمنع الأطفال وكبار السن ممن تجاوز (65) عاماً.

الخوف مسقط للاستطاعة التي هي شرط لوجوب الحج.و نهيب بالحكومات والجهات الراعية لهذه الشعيرة المباركة ولحركة الحجاج أن يبذلوا كل ما في وسعهم ويتخذوا الإجراءات الكافية لحماية الحجاج الكرام من الإصابة بهذا الوباء ومن كل سوء وداء وحادث أجارهم الله وجميع المؤمنين منها.

محمد اليعقوبي

2 رمضان 1430ه- - 23/ 8/ 2009

ص: 499

أبا حسنٍ

أبا حسنٍ(1)

تنفّل بأرض الله واستشهد البشرى *** لقد ولد الموسوم بالحجة الكبرى

وبلّغ سلاماً للنبي بطيبةٍ *** وهني به الزهرا بطلعته الغرا

وبالغ بتعظيم الغريّ فإنما *** به حلّ من قد جاز في فضله الشِعرى(2)

وطأطأ خشوعاً واخلع النعل حشمةً *** وهلّلْ وكبّرْ إذ ترى القبّة الصفرا

هنالك مولى الجنّ والإنس مودعٌ *** به استودع الرحمن من نفسه السرّا

هنالك إنسان المعالي وعينها *** ومن حبه في كل نفسٍ هدىً أورى

هنالك من في البيت أولده الهدى *** ومن عرصة المحراب أرجعه شكرا

هنالك باب الله بل باب حطّةٍ(3) *** تحطّ لديه النفس مثقلةً إصرا

هو المرتضى صدّيق آل محمدٍ *** وفاروق أهل الحق أعظمهم قدرا

يميّزه شيئان خوفٌ وشدّةُ *** بمحرابه الأولى وفي حربه الأخرى

تفرّد وتراً في الصفات كأنّه *** هو الكلّ في فردٍ فجمّلها وترا

لذا تجد الأديان كلٌّ يرى به *** هو المثل الأعلى بكبراه والصغرى

فذو عمّةٍ والقِسُّ والحَبرُ كلّهم *** أخا عِمّةٍ ألْفوه والقَسّ والحَبرا

تعالى إماماً سرمديّ مناقبٍ *** توارت وبانت للورى بعضها نزرا

ص: 500


1- قصيدة أبدع فيها فضيلة الشيخ حسنين آل قفطان من طلبة جامعة الصدر الدينية في النجف الأشرف وألقاها في الحفل الذي أقامه طلبة الجامعة في مكتب سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) تيمّناً بذكرى ميلاد أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم 13/رجب/1429
2- باب حطة/ ذكره الله تعالى في القرآن ووعد بني إسرائيل بأن يغفر لهم خطاياهم إذا دخلوه.
3- الشعرى: كوكب في السماء ذكره القرآن.

فيا معبدَ النُسّاك من ولهٍ به *** ترى أنفس النسّاك في حبه سكرى

ويا ثورة الأحرار بالجوع تهتدي *** ولا تبتغي إلا غنى أنفسٍ أجرا

ويا زهرة المرتاض يا خفقة الندى *** ويا واحة الآمال تفترع الزهرا

عظُمت عليّ النفس شأناً وهمّةً *** إليه تتوق الروح والهةً حسرى

يذلّ لديه الشامخون وينحني *** صغاراً لديه الأكبرون فلا كبرا

لانّ جميع الناس أهلُ خطيئةٍ *** وإن علياً لم يكن صاحباً وزرا

مهابته تطغى على النفس ما علت *** فيقصر في جنبيه قيصر أو كِسرى

به نصر الله النبي ودينه *** فلولاه لم يدرك نبي الهدى نصرا

ولولاه لم تحفظ من الذكر آيةٌ *** من الوضع والتحريف إذ حفظ الذكرا

ولولاه ما ميزَ المنافق بعده *** مدى الدهر من ذي الدين واستعرت عسرا

ولولاه مولى الخلق علماً وحكمةً *** لما كان من كُفئٍ لفاطمة الزهرا

ولولاه لم نعرف لنوحٍ وآدمٍ *** ضجيعيه - فيما وثقوه لنا- قبرا

ولولاه منجىً للخليقة ما ارتجى *** غداً احدٌ نهرا لدى الله أو قصرا

وبيعته يوم الغدير لشاهدٌ *** على أنّه من يملك النهي والأمرا

* *** ** *** *

يكِلُّ لساني والكلام يخونني *** إذا رمت أستجلي شمائله الغُرّا

فكم يئس الطلاب للبحر منتهىً *** وأدناه دون الطالبين له غورا

إذن فلنلج في ظاهرٍ منه ولندعْ *** لخالقه في قدس مكنونه السبرا

لأنّا إذا جلنا بباطن كنهه *** فإمّا نعيش الشرك أو ندرك الكفرا

ص: 501

سلام عليه من وصيٍّ لأحمدٍ *** ودونه كل الحمد والمجد والإطرا

* *** ** *** *

أبا حسنٍ في النفس مني بقيّةٌ *** من الهمِّ والآلام أبعثها شعرا

لقد آذنتني بالشكاية موجعاً *** أحاديث تنبي عنك أوسعهم صدرا

ألست بحيٍّ تنظر الناس فعلها *** وتدفع عمّن ينتحي رفدك الضُرّا

أجرنا عراق المعدمين من الرجا *** فأعيننا عبرى وأكبدنا حرّا

لقد عاث فينا ظالمٌ تلو ظالمٍ *** فسادا وأجرى في بني الشعب ما أجرى

فمن يد صدامٍ وقد كان واحداً *** لأيدٍ جُذاذٍ بالمهين أذىً تترى

ونحن حيارى والخطوب كثيرةٌ *** ومحنتنا أنّا رضينا بهم مكرا

ووالله لا ندري أيبغون خيرنا *** أم الشرّ يبغوه فأنت بهم أدرى

لقد ملكوا منّا رقاباً عزيزةً *** فلا غروَ أن يظما أخو الورد أو يعرى

وأقصوا كرام الناس عن أخذ دورهم *** كمثل الأًلى أقصوك وانتحلوا الدورا

وأعني فتى (يعقوب) بالذكر إنّه *** فتى (الصدر) أكرم بالذي تَبِعَ الصدرا

تحمّل عنّا الهم ليس رجاؤهُ *** سوى أن يرى للّيل من بعده فجرا

فأوفى بما أعطى وأسدى بنصحه *** إلى أن بلغنا من لدن عطفه عُذرا

وصارع دنيا الظالمين بساعدٍ *** إذا هزّه ألوى بمن ضلّ بل أزرى

فكفّاه شلالان جوداً ونعمةً *** وعيناه ينبوعان للخير والبشرى

أحلّ ائتلافاً - كان قبل مشتّتاً - *** موحّدَ جمعٍ ليس يخترم المسرى

بعزم يحيل الراسيات ذوارياً *** وصبرٍ على اللأواء لا يشبه الصبرا

ص: 502

ولم يكُ يرجوا منهم أيّ منصبٍ *** سوى عزّةٍ للشعب في عيشه تُجرى

وما ذاك بالشيء العجيب وإن يكنْ *** عجيباً بدنياً سادها الظلم واستشرى

فصاحب موسى الخضر أعلى لمانعٍ *** جداراً ولم يطلب بصنعته أجرا

سوى أن يراه الله حيث يريده *** فمن غير أهل العلم قد مثّل الخِضرا

وكان أميناً لم يخنهم برأيه *** إذا قال قال الصدق بي قوله أحرى

ولكن قوماً غاضهم نفح فكره *** فأنموا وشيك الغدر كي يِأدوا الفكرا

بما وصموه بالذي هو فيهمُ *** من الظلم والإغضاء عن حقنا جهرا

فكان كعين الشمس تسطع كلما *** أرادوا على الأنوار أن يُسدلوا السترا

فهم كبني يعقوب في يوسف ابنه *** لكي يعضلوه ارفدوا الذئب والبئرا

ولكن تلك البئر كانت لحكمةٍ *** ليغدوا عزيزاً من أذلّوه في مصرا

وإن سبّه بعض فتلك لسُبّةٌ *** عليهم مدى الأيام تأسرهم أسرا

وقبل علي الطهر سُبّ فلم يزدْ *** سوى رفعةٍ حتى علا الشمس والبدرا

كذلك يا شيخ العراق ويا ابنهُ *** أراك عليا في معانيه لا غِرّا

فعشْ سامياً حراً عزيزاً مؤيّداً *** فلن يستطيع البوم أن يبلغ النسرا

وما هي إلا برهةٌ ثم تنجلي *** عن الشعب ما قاساه من غادرٍ دهرا

* *** ** *** *

ويا شعب أرض الرافدين رسالةٌ *** أوجّهها بالشعر فاصغِ وعِ الشعرا

إذا لم تعشْ حراً فمت غير آسفٍ *** على أمّةٍ لم تنتدبك لها حرّا

وخذ من عليٍ صبره وإباءهُ *** وعفته وانهج بما سنّه يُسرا

ص: 503

وكن واحداً في الرأي والحزم والحجى *** وطئ واثقا لا تسلكن مسلكاً وعرا

وإيّاك والتحكيم فهو خديعةٌ *** تُسرّ بها اليمنى وتمنى بها اليسرى

وراقبْ زماناً ينثر العدل رحمةً *** لقائم آل الله من يدرك الثأرا

ص: 504

تحية العيد

تحية العيد(1)

تقبّل الله منك الصوم والعَمَلا *** وزاد شأنك إذ أصبحت مبتهلا

هو اجتباك لكي تُعلي رسالته *** بين الأنام بما قد أيد الرُسُلا

فأنت آيته بالعلم قد سطعت *** تَهدي بأنوارها للحق من جَهِلا

وأنت وارثُ مجدٍ نلتَهُ شرفاً *** (لآل يعقوب) تعليه لهم جبلا

شهرُ الصيام مضى والخيرُ يتبعُه *** طوبى لمن صامَهُ فرضاً وما ك-َسِلا

يُهنيكَ أنّك ممن نال رحمتَهُ *** وراح مُستبشرا في صومِهِ جَذِلا

تشتاقَهُ كُلُّ يومٍ إذ تودّعه *** ولم يزل حبلكم بالله متصلا

وها هو العيدُ وافانا بطلعتِكم *** فكان عيدين بالإيمانِ قد ك-َمُلا

وحسبُكُم أننا دوماً نلوذُ بكم *** حصناً حصيناً به نستشرفُ الأملا

مُجاهدٌ تحمل الأعباءَ عن وطنٍ *** كادَ العدوُ بهِ أن يزرعْ الشَللا

((وصاحبُ البيت أدرى من سِواه به *** وحاملُ العبء يدري ثقل ما حملا))

شيخَ الفضيلةِ لا جفت بحوركُمُ *** فالجود طبعُكُمُ لم يعرف الوَشَلا

أرى الكرام إلى ناديك قد وَفَدوا *** لَمّا رأوك لما يرجونهُ مَثَلا

كالغيث منهملاً في كل مُجدبةٍ *** لله غيثُكَ أنّى سحَّ أو هَطَلا

لا تطلب الأجر إلا منه محتسباً *** خير الثوابِ وكم عبدّتها سُبُلا

فليس عُجباً إذا ما بات حاسدُكُم *** يُغري الأنام وفيكم يُكثر الجَدلا

ص: 505


1- قصيدة ألقاها السيد عبد الأمير جمال الدين في محضر سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الوارف) بمناسبة حلول عيد الفطر المبارك في 2 شوال 1429.

ولن يضُرَّ أخا المعروف شانِئَهُ *** وان بدا قولَهُ في ذمّهِ سُهُلا

بالعلم والحلم تُطفي كلَّ غائلةٍ *** فطالما الحلمُ للأشرارِ قد قتلا

فيا ابن موسى وحقٌ فيكَ مُفتَخري *** لذا نثرتُ على أعتابكَ الجُملا

وأنت أكبرُ من مدحٍ وان حسُنت *** فيهِ المعاني ولم نشهد به خطِلا

لأنكَ المرجعُ المُثلى خلائقُهُ *** بكلّ قلبٍ من الأحرارِ قد نَزَلا

فضائلٌ لرسول اللهِ مصدرُها *** شرعٌ حنيفٌ تُداوي النفسَ والعِللا

أخذت ترشِفُها من منهلٍ عذبٍ *** طوبى لمن مرةً من نبعِها نَهَلا

لقد عرفناك سبّاقاً لها قُدُماً *** إذا تباطئَ زيدٌ جئتها عجلا

أحَبَّكَ القلبُ لمّا أن رآكَ ل-َهُ *** شيخاً مُصيباً تَحاشى خَطوَهُ الزَلَلا

لذاكَ صدرُ الهدى آخاكَ في زمنٍ *** طغى به الظلمُ كي ما ينشُرُ الوَجَلا

فكُنت ذاك الذي قد عاشَ محنتَهُ *** أخاً وفيّاً تسامى شخصَهُ نُبُلا

وكُنتَ للصدر رأياً ثاقباً أبداً *** مُستبسلاً لا تُجافي نهجَهُ بَطَلا

من راح يُتحفُكُم من فيضِ حكمتِهِ *** مواهباً زانَ فيها القولَ والعَمَلا

((أدناكَ منهُ وقال ابشر فأنتَ لها *** وصاغَ في جيدِكُم للخلقِ عقدُ وِلا

هو الشهيد شهيدُ الحق عانَقَهُ *** روحُ (الحسين) بما أعطى وما بذلا

لمّا يزل خالداً ذكراهُ عاطرةٌ *** تُذكي النَسائِمَ، نجماً منه ما أفِلا

حَسبُ(القناديلِ)(1) منكُم حينَ يوقدُها *** أخو الوفاء لتعلوا في السَما شُعَلا

((الله قيَّضه للناس يرشدهم *** حاشا الإلهُ بأن يُبقي الورى هُمَلا))

ص: 506


1- إشارة إلى كتاب سماحة الشيخ (قناديل العارفين) وذكرياته مع السيد الشهيد محمد الصدر (قدس سره).

لهُ القوافي أُزكّيها واحملُها *** على الوفاء ولن أُصغي لمن عَذِلا

أُعيدُ من (جعفرٍ) أسنى مدائحَهُ *** ولم أكن لجميل الشعر منتَحِلا

أنا الأمير إذا جاشت عواطفُهُ *** تلقاهُ كالسيلِ إمّا يُنشدُ الغَزَلا

متيمٌ بأباة الضيم خافقُهُ *** لا يعرفُ الزيفَ والتدليسَ والدَجلا

شيخَ الفَضيلةِ خُذها يا أخا ثقتي *** عواطفاً لم اكن فيها كمن بخِلا

وافتكَ في العيد يحدوها الولاءُ ولم *** تجد لمقصدها عن شخصكم بَدَلا

أطفئت حر الجوى مُذ جئتُ حضرتَكُم *** وعدتُ من حُبّكم في صحوتي ثمِلا

فقد سبقتَ إلى المعروف من زمنٍ *** وكان وصلُكَ يُحيي كلَّ من وصلا

((وطبعُكَ الجودُ والجَدوى جِبلتُهُ *** فلا يُلام على ما فيهِ قد جُبِلا

فلتسلمنَّ لنا ذُخراً ومفخرةً *** تهدي الفضيلةَ فِكراً منكَ مُكتمِلا

وليقبل الله صوماً إذ تصاحبَهُ *** تقوىً جَعلتَ بها الشيطانَ مُنخَذلا

وكُلُّ عامٍ بك الأعياد مُشرقةٌ *** يا من إذا قال قولاً للملا فعلا

ص: 507

القصيدة الخضراء

القصيدة الخضراء(1)

هنا الغريُّّ، وذا المولى الإمام، *** قد نصّبته السما، في خير تنصيبِ

ومَن بل هاهنا باب علم الله مشرعة *** للقاصدين، من الشّبان والشيب

وفي البقيع بقايا، من رموس بني *** الزهرا، وإن درست، في كف تخريب

وبالطّفوف دم قد سال من جسد *** مقدّس، شامخ الأوداج مسلوب

أهليه ما بين مأسور ومنجدل *** كأنهم من سبايا الرّوم والنّوب

وعند منعطف الزوراء باب ندى *** يأتي لرشف نداها كل مكروب

وفي مرابع طوس للرضا وطن *** ما زال مأوى غريب الدار محروب

وفي مشارف سامراء أضرحة *** سجينة في متاهات السراديب

ولم يزل حولها قوم سلاجقة *** جلف نواصب، في زي المجاذيب

فليت قائم آل الله يطلقها *** من سجنها يوم تطهير المحاريب

ويا أخا العلم، يا شيخي وذا لقب *** آثرته، رفعة عن كل تلقيب

هما طريقان ذا حق وذا زيغ *** والحق نور صراح غير محجوب

ضدان ما اجتمعا يوماً ولا التقيا *** فكيف نجمعهم في دار تقريب؟

لكنما الدهر قد يبدي لنا عجباً *** وذا لعمري من تلك الأعاجيب

ويا أخا العلم يا مولاي معذرة *** إذا مدحت فمدحي غير مكذوب

ص: 508


1- قصيدة طويلة تقدّم بها الشاعر صبري الزبيدي الذي كان طالباً إلى أستاذه سماحة الشيخ اليعقوبي في مسجد الرأس الشريف في النجف الأشرف في ذي الحجة 1422 المصادف مطلع عام 2002 وطبعت مؤخراً في ديوان الشاعر الذي عنوانه (تحت سدرة الانتظار) وقد نشرنا هذا الجزء منها لتسجيل أثر لتلك الفترة.

قد جئت والشعر يجري بين أوردتي *** أبغي لقاك، وحب العلم يحدو بي

فكنت مأوى لآمال تراودني *** وأنت مرفأ تعليمي وتهذيبي

أنزلتني رغم بعد الدار منزلتي *** وقد تكفلتني في قطف مطلوبي

وليس ذا بغريب حين أنسبه *** لكوكب قد سما، من آل يعقوب

وقد تلطف بي ربي وأيدني *** فرحت أخطو، بتسديد وتصويب

أتيت أحملها خضراء وارفة *** ضمختها بشذاة الزهر والطيب

تبركت بالضريح الطهر واختلجت *** بعبرة من رقيق الدمع مسكوب

وأشرقت برذاذ النور أحرفها *** وأورقت تحت دفق من شآبيب

فهاك خذها وقد رفّت مطالعها *** بآئية الحرف عصماء التراكيب

أغصانها بثمار الفكر مثقلة *** مخضوبة بالسنا من دون تخضيب

تنمي إلى نقطة الباب التي قلبت *** وحرفها المتجلي غير مقلوب

تلك التي حار فيها الفهم وانبهرت *** فيها عقول الموالي والأعاريب

لم لا وتحت ثراها المرتضى وبها *** حل الضجيعان، ذو عزم وذو توب

لحكمة عند وادي التين قد رقدا *** ولم يحلا بسينا، أو سرنديب

يا نقطة الباء روحي فيك عالقة *** مذ كنت طفلاً وها قد زارني شيبي

وسوف أبقى على عهدي ولي أمل *** ما دمت جارا لحامي الجار يعسوب

ص: 509

مرجعية الشيخ اليعقوبي دام ظله في معرض الأدب أخلاق الحوزة

فضيلة العلامة الشيخ سعد السماوي(1)

شِعْرَ الخَيالِ اهْجُرْهُ و التَّشْبيها *** وانظِمْ شُعورَ الحُبِّ لا تَموُيها

الحُبُّ دِينٌ في حديثِ أئمَّتي *** ومَحاسنُ البَرْقيّ سَلْ راويها

أصلُ الحياةِ سعادةً وكرامةً *** أخلاقُ أهلِ البيتِ عندَ بنيها

أخلاقُ أهلِ البيتِ أصلُ أُصولِنا *** هي أولٌ ودُروسُنا ثانيها

أخلاقَنا أخلاقَنا أخلاقَنا *** مِن قبلِ أنْ يقوى العِدى ونتيها

إن شئتَ تعرفُها فهاهُم أهلُها *** في الحوزةِ الفضلى يُرى بانيها

هُوَ ذاكَ شيخُ محمّدِ اليعقوبي في *** أخلاقهِ فاجلِسْ إليهِ بَدِيها

بِبَداهةِ الجلساتِ تَعرِفُ أنّهُ *** يبدُو خلوقاً في النقاشِ نَزيها

ص: 510


1- قال فضيلة الشيخ السماوي أنه أنشأ هذه الرائعة بمناسبة تصدي سماحة الشيخ اليعقوبي للمرجعية والتقليد. انضم ّ الشيخ السماوي إلى الحوزة العلمية عام 1964 وباشر التدريس منذ أكثر من ثلاثين عاماً خصوصاً في جامعة النجف الدينية حيث كان يقيم، واكب الحركة العلمية لسماحة الشيخ اليعقوبي منذ التحاقه قبل حوالي عشرين عاماً بجامعة النجف برعاية مؤسسها المرحوم العلامة السيد محمد كلانتر (قدس سره) ولفت انتباهه الجد والنشاط والأخلاق التي تميَّز بها سماحة الشيخ ولا زال سماحة الشيخ السماوي يواصل تدريسه في الحوزة النجفية، استشهد اثنان من إخوته مطلع الثمانينيات في خضّم الحركة الإسلامية في السماوة التي قادها المرحوم الشهيد الشيخ مهدي السماوي.

هي هكذا الأخلاقُ يا رُوّادَها *** لِبني الرسالةِ إذ هُمُ حاميها

هي هكذا الأخلاقُ تسمُوا بالحجا *** وسُموُّها في صدْقِ فعلِ ذويها

هي هكذا الأخلاقُ يُشْرقُ أفقها *** فَيَشِعُّ مِنْهُ السَهْلُ أو وادِيها

هي هكذا الأخلاقُ تهزأ بالهَوى *** إذْ ليسَ متَّبعُ الهوى يُبْديها

هي هكذا الأخلاقُ في مَفْهومها *** والصدقُ في المصداقُ في أهليها

كالمرجع اليعقوبي شيخَُ محمدٍ *** أخلاقُهُ قد أهَّلتْهُ فقيها

أخلاقُهُ أصلُ الفقاهةِ رُتبَةً *** والعلمُ في التدريس بعدُ يَليها

أخلاقُهُ للشيخِ سعدٍ علَّة *** تمَّت فصارَ بنَظْمهِ مُنْشيها

أنشأتُ هذي مُذ أتيتُ لدارهُ *** فرأيتُهُ شَهْماً بذاكَ نبيها

أنشأتُها حتى تكونَ رسالةً *** لغدٍ ومرجعُها غداً يُفتيها

وتكونَ إلفَتُنا بها مَحْمُودَةً *** وتكونَ رَحْمتُها على راويها

يا ربَّنا اقْبَلْها بحقِّ محمَّدٍ *** وبآلهِ فَهُمُ الحَقيقةُ فِيها

ص: 511

تعب القريض

تعب القريض(1)

تعب القريض وما بغيرك يتعب *** ويكل لي قلم يصول ويلعب

قد كنتُ في كل القصائد محسناً *** واليوم عذراً لي فإني مذنب

أدنوا إلى تلك الصفات لأصطفي *** فأتيه في تلك الصفات وأغلب

ملك الفضائل وارتوى من مائها *** وسواه من سؤر الفضيلة يشرب

(يعقوبي) يعشق كل قلب مؤمن *** حتماً ويبغضه الحقير الأجرب

هذا ابن من حط النحاةُ بداره *** فإذا بها صفة به تتقلب

برز الزمان له ليرعبه وقد *** خاب الزمان وهل محمدُ يرعب

عذراً فقد يعيى القريض وإنه *** من عظم قدرِكِمُ يكل ويتعب

نشيد الروح

بك الأجيال تحتفل *** بك الأمجاد تكتملُ

بك الإيمان والتقوى *** بك الإسلام والمثلُ

وأنت البدر مؤتلق *** بنورك تزدهي المُقلُ

يُسائل عنك بعض القوم *** من جهل وما جهلوا

فيردعهم لسان الحق.... *** هذا العلم والعملُ

وهذا قمة الأمجاد.... *** هذا السهل والجبلُ

ص: 512


1- مقطوعتان شعريتان أنشدهما الأديب توفيق نعمة جاسم في حشد كبير من أبناء مدينتي الشعلة والرحمانية في بغداد الذين وفدوا لزيارة سماحة الشيخ اليعقوبي يوم السبت 2 شعبان 1430 المصادف 25/ 7/ 2009. ***

هو البحر الذي ما جف *** يوما ماؤه الهَطلُ

إذا ما جئت أمدحه *** تضيق بمدحه الجُملُ

لقد حسدوه منزلةً *** تسامت إذ هم نزلوا

وقد حسدوه مذ علموا *** بأن مقامه جللُ

فعادوا مثلما بدأوا *** يدور برأسهم خطلُ

يغلف قولهم غبَشٌ *** ويملأ فعلهم دغلُ

لقد حملوا به وزرا *** بلى ولبئس ما حملوا

فدعهم إنهم زبدٌ *** سيذهب دونما بللُ

فكم سُدَّت بعين الشمس *** عين شانها حَولُ

فقيه العصر معذرةً *** فإني منكُمُ خَجِلُ

أيعقوبي الهدى صبرا *** فآلكَ هكذا جُبلوا

فكم أوذوا وكم ظلموا *** وكل منهم بطلُ

مصابيح الهدى كانوا *** لمن ضلوا ومن جهلوا

وأما إن دجى ليل *** فهم بظلامه شُعَلُ

لقد كانوا لنا مثلاً *** وإنّك بيننا المُثلُ

نراك المنبع الأنقى *** تزول بورده العللُ

تدافع عن كلام الله *** توقظ فكر من عقلوا

وقول الفصل هو الأرقى *** به الصلحاء قد شغلوا

وهذا الفقه مجتمعاً *** وفيه الفقه يكتملُ

سموت إلى العلى حتى *** تفيأ ظلكم زحلُ

ص: 513

نباهي فيكم نجف *** شريف قبلة جذلُ

وما مدحي لكم طمعاً *** فهذا الحب ينتقلُ

أنا الهيمان من زمنٍ *** بمن في خافقي نزلوا

وتعلم أن في قلبي *** سما لمقامكم نُزُل

وكم أوليتني حباً *** فروضي منكم خضلُ

فخذ مني نشيد الروح *** لحناً صاغه الأزلُ

سأبقى ناشراً حبي *** وحسبي أنه يصلُ

فدم واسلم لنا ذخراً *** وفخراً أيها الرجلُ

ص: 514

عيد الأضحى

عيد الأضحى(1)

هو الأضحى أطلَّ بخير عيدٍ *** بهِ لله تتجه القلوبُ

فخذها يا ابن يعقوبٍ تَهانٍ *** معطرةً يُسَرُّ بها الحبيبُ

فأنتَ الآية العظمى تجلّت *** بأنوارٍ تضيء بها الدروبُ

فقيهٌ ، عالمٌ ، فذٌ ، أريبٌ *** أديبٌ في أرومتهِ حَسيبُ

تحفُ بك الفضائلُ كُلَّ حينٍ *** وَيَلقاها بكم صدرٌ رحيبُ

مِنَ الصدرِ الولي تفيضُ هَدياً *** وإيماناً وأنتَ لهُ القريبُ

رعاك الله ولتسلمْ بخيرٍ *** فأنتَ لنا المُعلمُ والطبيبُ

الحج المبارك

حججتَ وأنتَ في النجفِ *** بفكرٍ غيرِ منحرفِ

فكنت مباركاً تسعى *** لأجل الحق في شَغفِ

وكنت الآية العظمى *** بحقٍ دونما جَنفِ

وريث الصدر في علم *** وفي أدب وفي شرف

فتى (يعقوب) يا علماً *** سما قدرا ولم يقفِ

سما بالعلم مؤتلقاً *** يُجدّد منهج السلفِ

سما (صدراً) يطالعنا *** بآياتٍ من الصحفِ

ص: 515


1- مقطوعتان للشاعر عبد الأمير جمال الدين مهداة لسماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) ألقاها في مجلس سماحته بمناسبة عيد الأضحى المبارك1430.

ويتحفنا بها دُرراً *** مضيئات بلا صدفِ

فضائله تحدثنا *** حديثاً غير ذي ترف

إذا ما زرته يوماً *** فلا تحزن ولا تخف

ستلقى فيه إنساناً *** ملاكاً حُف بالسُدُُف

ستلقى عالماً ورعاً *** ستلقى درّة النجف

حياةً كُلها زهدٌ *** نأت عن عالم الترف

هُنا في كعبة الأمجاد *** ركبُ العلم في الخلف

هنا بحرُ الندى يَحدو *** لنا بالهاطلِ الوَكِف

إذا لم نرتشف منه *** لذيذ الماء وا أسفي

فما من غمّة إلاّ *** وقال لها ألا انكشفي

مولد النور

مولد النور(1)

أزكى التهاني بعيد المولد النبوي *** موصولة بالولا من شاعر علوي

عبد الأمير جمال الدين ينشدها *** بحضرة الفضل قد جاءت بخير روي

يشدو بها لابن يعقوب ومطمحها *** نهجُ تسير ُ به للمؤمنين سوي

شيخُ الفضيلة زكاها وما برحت *** منه الفضائل يُسديها لكلِّ ولي

يا آية الله يا حصناً نلوذُ به *** دم شامخاً بالهدى بين الأنام قوي

ص: 516


1- قصيدة أنشدها الأديب البارع فضيلة السيد عبد الأمير جمال الدين (دامت توفيقاته) في المجلس العام للمرجع اليعقوبي مهنئاً سماحته بعيد المولد النبوي الشريف. يوم 17 ع1 1431.

القصيدة:

جئتُ أشدو بأجمل الأغنيات *** وإلى النورٍ هَرولت قافياتي

جئت أشدو والشعر يُترع أكوابي *** وعطرُ العبير في كلماتي

جئت أشدو والحبُ يغمرُ أفراحي *** وعزفُ اللحون في أبياتي

جئت أشدو فاليوم مولدُ طه *** مَن أتانا بأعظمِ الآياتِ

معجزاتٌ للناس تشهدُ أن قد *** ولد النور صاحبُ المعجزاتِ

طاق كسرى تصدعت شرفاتُ *** منه والنارُ أصحرتْ في سباتِ

ويساوى بحيرةٌ جف منها *** ماؤها فهي بركة بالفلاة

إنه نفحةٌ من السماء أتانا *** ينشرُ الحق مشرقَ القسمات

فهو خيرٌ ورحمة للبرايا *** ونبيٌ قد جاء بالبيناتِ

يا رسول الهدى عليك سلامٌ *** عاطر النشر طيبُ النفحاتِ

أيها الصادقُ الأمين المُزكّى *** بحميد الأخلاق والمكرُماتِ

القوي الشجاعُ من دونِ بغيٍ *** والرسولُ المُطاع كهف العفاتِ

والحليمُ الجميلُ خلقاً وخُلقاً *** والعزيزُ الصبورُ في النائباتِ

هادياً جئت للأنام بشيراً *** ونذيرا من ربهِ بالعظاتِ

وسراجاً من الإله منيراً *** فيهِ تنجاب أكلمُ الداجياتِ

أيها المصطفى مِن الخلقِ طراً *** كلُّ ما فيكَ ناصعُ الصفحاتِ

هكذا ترفعُ الفضائِلُ نفساً *** زانها الله في أجلِّ الصفاتِ

يا رسول الهدى وغوثُ البرايا *** حيث ندعوك يا أعزّ الكماة

رحمةٌ أنتَ للعبادِ فإمّا *** لحتُ نوراً تهدُّ عرشَ الطغاةِ

ص: 517

قد هوى قيصرٌ وقوّض كسرى *** وقضى البغي في نفوسِ البغاةِ

وتسامت شريعة الله عدلاً *** تجمع الناس أخوةً بالصلاةِ

إنهُ معجزُ اليتيم وهذا *** سرُ دينِ يُنير درب الحياةِ

فهو إشراقة السماء تجلّت *** لقلوب تتوق للبركاتِ

قرأته العقول في كل حرفِ *** شعَّ هدياً مبارك الخطواتِ

تلك آثارهُ تدلّ عليه *** لترينا منهج الهدى والنجاةِ

أيها الشاعر المحدِّث عنه *** بحديثٍ يضجُّ بالعاطفاتِ

دعُ كراماته تحدث عنه *** فهو أسمى من أرفع الكلماتِ

عجزَ الشعر أن يفيه بحقِ *** كيفَ يرقى لسيّدِ الكائناتِ

يا حبيباً أراهُ يبعد عنّي *** كلّ ما همَّني من السيئاتِ

مُذ على قلبي انسكبت نميراً *** باتَ نور الإيمان يغمرُ ذاتي

نبضت في النفوس منك معانٍ *** أبعدتها عن عالمٍ النزواتِ

إنّ قلبي سفينة من ودادٍ *** بكَ حصّنتهُ من العثراتِ

أنتَ أشرقت في سمائي فوّلت *** عن دروبي مجاهل الظلماتِ

فلتدعني بعيدك اليوم أشد و *** وأغنّي بأعذبِ الأغنياتِ

وأعيد الوفاء لحناً جديداً *** لولي قد فازَ في الحلباتِ

إنه ملهمُ الفضيلة شيخ *** حاز فضل الآباء والأمهاتِ

وغدا ينشدُ الحياة لشعبٍ *** ناله الضيمُ من أشدِّ الطغاةِ

حسبه اليومَ أن يعيد إلينا *** مجدَ ماضٍ يشعُّ كالنيراتِ

فابن يعقوب في الغري منارً *** راح يسمو بأصدق الدعواتِ

ص: 518

يا رعاه الإله للدين حصناً *** شعَّ هدياً مُسددَ الخطواتِ

ناغيتُ شعباناً

ناغيتُ شعباناً(1)

ناغيتُ (شعباناً) بشعري منشداً *** بفم العقيدة والولاء مغرداً

قد صِغتُ عقد مشاعري أنشودة *** وثنيتها بالذكريات لتخلدا

فعزفتُ لحن العاطفات بنغمة *** منها على قيثارتي رنَّ الصدى

لما رأيت الكون أشرق مزهراً *** والنور في أفق التجهّم قد بدا

والحور ترفل بالحرير وسندسٍ *** واستبرقٍ.. وتهز خصراً أغيداً

غنت بمقولِ حبها وولائها *** برخيم صوتٍ رقةً وتنهدا

قد أفصحت بسماتها عن لؤلؤٍ *** يزهو بمبسمها الوضيء تنضدا

مذ فاح عطر رضابها فتنسَّمت *** منه النفوس الزاكيات توددا

وتباشرت بهنائها مسرورة *** كل الملائك للمهيمن سجدا

في ليلة عمت بفرحتها الدنى *** تزهو وزخرفت الجنائن عَسجدا

هتف الأمين من السماء بوحيه *** من قدسِ رب العالمين مردداً

ولدَ (الحسين) فشع نور سنائه *** في ليلة أكبرتُ فيها (المولدا)

في ليلة ولتْ نحوس نجومها *** ببزوغ بدر للإمامة والهدى

ص: 519


1- القصيدة من نظم فضيلة الشيخ عبد الحسين الشيخ رسول الكرعاوي النجفي أحد طلاب البحث الخارج في الحوزة العلمية الشريفة في النجف الأشرف ألقاها بحضرة سماحة الشيخ اليعقوبي(دام ظله) يوم 3 شعبان 1431واهداها إلى سماحته في ذكرى مولد الإمام الحسين الشهيد (عليه السلام).

ضاءت به الأكوان وانكشف الدجى *** فانزاح عن عنجهه البهيم مبدداً

فتنفس الصبح البهيج بنورهِ *** ونسيمه الرفراف عذباً باردا

يهنيك صاحِ بان نزف بشائرا *** فيها نهنئ بالوليد (محمداً)

و(لحيدرٍ) صيغت تهانيَّ وُدِّنا *** عقداً يضوع على الصدور معسجداً

ولبضعة الهادي (البتولة) فاطمٍ *** تشدو تهانينا الرقاق تزعردا

حُيِّيت (شعبان) الأغر بمولدٍ *** عبقت نسائمه على الدنيا هدى

(شعبانُ) فيك قد ازدهت وضاءة *** دنيا الوجود بأشبلٍ من أحمدا

ميلاد (زين العابدين) وعمّه *** (العباس) والأكبر يزهو فرقدا

وأطل يزهر نوره (مهدينا) *** في النصف منه على البسيطة ساجداً

بوركت من شهر تزامن فضله *** في مولد سامٍ يمجد مولدا

باسم ابن هارون ٍ(شبيرٍ) صاغه *** فضلاً لك الرحمان اسماً خالداً

ناغاك(ميكال) ومهدك هزه *** (جبريل) من وحي الإله مسدداً

وتباشر (إسرافيل) هنأ معلناً *** بسمائه الملأ المقدس شاهداً

لم يبق في شرق الوجود وغربها *** من كائن إلا وسُرَّ ممجَّداً

فرأى الملائكَ (فطرسٌ) بصفوفها *** تعلوا وتهبط بالمسرة حُشَّداً

قد قال: ماذا قد جرى... بتلهفٍ *** مذ كان في قيد الذنوب مصفداً

قالوا له: (لمحمد ولفاطمٍ) *** ولد الحسين. به الأنام قد اهتدى

قال: احملوني كي أنال بفضله *** عفوا الإله فلن أضامَ وأُبعداً

جاؤوا به لوليد بنت (محمدٍ) *** فهوى على مهد الهدى متوسداً

وإذا به يصحوا وقام مرفرفاً *** منه الجناج مرتلاً ومردداً

ص: 520

من مثلي اعتقه (الحسين) فها أنا *** من فيض جوده قد نجيت من الردى

يا سيد الشهداء يا نبع الهدى *** منه تبرعم ديننا وتوردا

حقاً بأنك للطغاة مناهض *** دوماً فلم تعط لآثمهم يداً

فنهضت تزأر بالعتاة مدافعاً *** عن دين جدك لم تراوغ حاقداً

فوقفت في يوم (الطفوف) بصحبك *** الأطهار وقفة ضيغم بين العدا

حتى هزمت جموعهم فتركتهم *** جُزر الأضاحي والبقايا شُرَّدا

لولا قضاءُ الله فيما خطَّه *** لم يبق منهم واحد طول المدى

لقد اصطفاك الله منقذ أمة *** لهُدى الرسالة بالشهادة منجداً

لولاك لانطمست معالم ديننا *** وبزيغ آل أميّة ذهبت سدى

عذراً (أبا الشهداء) قلَ تصبري *** في يوم مولدك الأغر وأُربدا

وتضاءلت كلمات أشعاري أسى *** بسناء مولدك البهيج قصائداً

فبكيت من فرحي لفرط مودتي *** ولُربَ باكٍ بالسرور إذا شدا

ورفعتُ كفي للسماء بلهفة *** لله يجمع شملنا المتبددا

باليمن يحفظ والرخاء عراقنا *** من كل مستلِب عليه إذا اعتدى

غفرانك اللهم إنا هاهنا *** في حفل (أستاذ الفقاهة) وُفَّدا

فانشر عليه من رحابك رحمة *** تحيي القلوب بها وتردي المفسدا

أيّد بفيض علوم (آل محمدٍ) *** نجل(ابن يعقوب) المهاب(محمداً)

واجعله نبراساً ينير طريقنا *** بعلومه لهدى الشريعة مرشداً

رباه بالهادي النبي وآله *** خير الأنام هم الهداة لنا غداً

صل عليهم ما دعاك موحد *** من كل خلق قائمين وسجداً

ص: 521

شفعاؤنا يوم المعاد بيوم لا *** مالٌ يفيد ولا بنون سوى الهدى

يا آية الباري الجليلة

استقبل سماحة الشيخ اليعقوبي أعضاء موكب علي بن الحسين وهو من الهيئات الحسينية الفاعلة في مدينة النجف الأشرف، أسّسه المرحوم الشهيد السيد عبد الوهاب الطالقاني أحد قادة انتفاضة الزيارة الأربعينية في النجف الأشرف عام 1977.

ويقدّم الموكب خدمات جليلة لزوار أمير المؤمنين (علیه السلام) ويقيم الشعائر في مناسبات المعصومين وتصدر عنه نشرات وكتيبات في تلك المناسبات لتعريف الأمة بفضائل الأئمة المعصومين(ع) ومواقفهم الخالدة وكلماتهم المنيرة.

وقد أثنى سماحة الشيخ في كلمته على جهودهم المباركة وذكر بفخر واعتزاز المواقف البطولية للشهيد السيد عبد الوهاب الطالقاني وإخوانه البررة الذين صانوا العقيدة والشعائر الحسينية بدمائهم الزكية ونصروا الدين وأهل بيت النبوة حين عزّ النصير في وجه أعتى نظام طاغوتي.

وخلال اللقاء أنشد الأديب عبد الرزاق تركي مسؤول اللجنة الثقافية والإعلامية أبياتاً خلال اللقاء قال فيها:

يا آية الباري *** الجليلة *** لاحت على النجف الجميلةْ

بك أينعت مهجُ الكرامةِ *** والشهامةِ والسياسات النبيلةْ

ص: 522

من صلب معتقد التشيع *** أنت للشيعي دليله

في كل عام ٍ موكبٌ *** يحيي إلى الهادي بتوله

أسست أنبل كتلةٍ *** حييت يا حزب الفضيلةْ

* * *

بمحمد اليعقوبي عاشت أمةٌ *** تعلو على القمم الأصيلةْ

* * *

بمحمد اليعقوبي حباً جارفاً *** أفديه نفسي والقبيلةْ

شيخ التواضع والإيثار

شيخ التواضع والإيثار(1)

ما للزمان سما في الناس أخطله *** حتى اُذل لفرط الجهل أعقله

مدّ الأكف لذي العاهات في شغف *** كيما يسودَ بقاع الأرض أنذله

وما تلذذ ذو زهد وذو ورع *** وما استراح من الأهوال أنبله

قد ينزل الرجل السامي ليحقره *** وهو المحلق والعلياء منزله

وقد يعنف فذاً في الورى أنفاً *** حتى يُقزّم فرط الظلم أطوله

شيخ الفضائل والإبداع معذرة *** إن كنت أنكا جرحاً أنت تحمله

عذراً فإن زمان الزيغ أذهلني *** ما زال يهدم صرح الحق معوله

ص: 523


1- أنشدها الأديب البارع عباس العجيلي (فرزدق الصدر) في المجلس العام لسماحة الشيخ اليعقوبي بعد عيد الفطر السعيد عام 1431. ***

حتى رأيتك فرداً واقفاً جبلاً *** والآخرون همُ لا شك أسفله

ما قلت ذا شططاً كلا ولا غلطاً *** لكن فديتك ذا حق أسجله

ما زلت تغترف الأشجان وا لهفي *** متى تراك لما أطلقت تعقله

أما نظرت لذاك الشيب يا قمراً *** كأنه الخل ما تحيى تدلله

نور الولاية هذا فهو ذو ألق *** من الخدود لذاك الرأس تنقله

وما سألت سوى الزهرا وذي هبة *** وذاك سواك حبا للدهر يسأله

لا شك يزهد في الدنيا وزخرفها *** من كان يعمل والأخرى تغازله

ما التذ في الزمن الموبوء عالمه *** لكنما يحصد اللذات جاهله

شيخ التواضع والإيثار كم صلف *** أبدى الحماقة بالحسنى تقابله

فذي صفات عليّ شحّ حاملها *** وذي سمات الذي التقوى تكلله

فاصبر فديتك إن الليل منكسر *** ما دمت أنت على حق تنازله

إن كان يوسف في عينيك مختبئاً *** لا بد ذئب طغاة العصر يأكله!!

بالله أقسم أن الظلم منتصر *** لو كان غيرك يا فذاً يشاغله

إني لأبصر فيك الصدر منتفضاً *** يا من برزت بلا ندّ تمثله

بل فيك من عبق المهديّ زنبقة *** بالعطر كل فتىً يدنو ستشمله

ما رام فيك عذول ظل منقصة *** إلا وعاد كمال فيك يخذله

فكم تحالف رعديد وذو بلهٍ *** حتى رآك بسهم العفو تقتله

لي فيك شعر أبيّ كلما عصفت *** ريح النفاق لذاك الشعر أرسله

ما ضرّ شعريَ أن الناس ترفضه *** إن كنت دون جميع الناس تقبله

دع الكلاب سليل المجد عاوية *** وافعل بخصمك ما لكرار يفعله

ص: 524

إن الذي قرر الرحمن يرفعه *** من ذا فديتك دون الله ينزله ***

صدر الملاحم

صدر الملاحم(1)

الدَّهْرُ كَادَ لَهُ والكُلّ عَادَاهُ *** وَمَا سِوَاهُ إمَامَاً عَدَّه اللهُ

عَلا عَلَى أرْؤسِ الأحرارِ وَهْوَ لَهُمْ *** هُدَىً وَكُلُّ هُدَىً للهِ أدّاهُ

سعى لِرَدِّ رَدَىً أوْرَى الصّدورَ أسَىً *** وَدَكَّ صَرْحَاً لِعَادِ العَصْرِ مَسْعَاهُ

رَمَى وَكَرَّ عَلَى الأعْدَا كَسَهمِ سُرَىً *** وَهَدّ وَكْرَ عَدُوِِّ اللهِ مَرْمَاهُ

وَرَاحَ كَالرَّعْدِ هَدّاراً ودَمْدَمَ سَعّ- *** -ارَاً عَلَى مُوْحِلٍ أحْوَى وَأصْلاهُ

للهِ سالمَ أعداماً وآصَرَهُمْ *** وَكَمْ مُحِلِّ هَوَىً للهِ عَادَاهُ

وكُلّهُ أملٌ مَا صَدّه ألَمٌ *** وكُلُّهُ كَرَمٌ لِلسُّؤلِ رَوّاهُ

أحَلّهُ اللهُ محموداً على وَرَعٍ *** مَحَلَّ آدَمَ والإصْلاحُ حَوّاهُ

وعصرُهُ عَصْرُ صَحوٍ وهو كَالِئُهُ *** وَعَهْدُهُ موطئ لِلعِلْمِ مَأواهُ

سَمَا وكُلُّ السُّها اللوّاحِ حاسِدُهُ *** وَطَاوَلَ اللَوْحَ والأمْلاكَ أسْمَاهُ

ولاحَ لألاؤُهُ عِلْماً وَطَلَّ دَمٍ *** للهِ كَالْكَلُمِ المَسْطُورِ أوْمَاهُ

لِسَادِر دارسٍ أو مُودَعٍ حِمَمَاً *** كِلاهُمَا أمَّهُ هَدْمٌ وَأدْمَاهُ

صَدرُ الملاحِمِ كالكرّارِ والِدِهِ *** وَرَاكِعٌ سَحَراً عُمْرَاً وَأوّاهُ

ص: 525


1- قصيدة تتألف من أكثر من خمسين بيتاً خالية من النقط، نظمها فضيلة الشيخ حسنين آل قفطان بمناسبة الذكرى الثانية عشرة لاستشهاد المرجع السيد محمد محمد صادق الصدر الثاني (قدس سره) ومعزياً سماحة الشيخ اليعقوبي في ذي القعدة 1431.

محمدُ اسمُ رسولِ اللهِ وهو لَهُ *** مُكَرَّرٌ مَا أدَامَ الإسْمَ إلا هُوْ

حواهُ رَسماً ورُوحاً كالمَحَارِ حَوَى *** لآلئ المَاءِ لِلسُّلاك أمْلاهُ

أعارَهُ لِمَسُودٍ وهو سَدّدَهُ *** وكالرّسُولِ دَوَامَ الوَصْلِ أوْصَاهُ

هاك اسمه وهو موسى الحرُّ والده *** محمداً صدرَه حاكى وموساه

* *** * *** * *** * *** * *** * ***

وصَوّحَ المُلهَمُ المِعطاءُ أعدَمَهُ *** إصْرٌ وأرْصَدَهُ صِرٌّ وَأوْهَاهُ

إلا المُدِلَّ على الآلاءِ مُصْدِرََهَا *** رَوْحَاً وَمُوْرِدََ دَارِ السُّوءِ كِسْرَاهُ

كسَى الاُلى مَرَدُوا السُؤى رِداءَ هُدَىً *** وَدَائِلُ العُسْرِ وَالإلْحَادِ أرْدَاهُ

وَرَاحَ مُعلِمَهَا المسعى وَرَائِدَهَا *** لِكُلِّّ سَرّاءَ وَالإصْرَارُ حَالاهُ

وَوَطَّدَ الحُلمَ المَوؤُدَ مَوعِدُهُ *** وَأحْكَمَ الأمْرَ لَمّا حُمَّ مَدْعَاهُ

ألحَامِلُ الهَمَّ آلاءٌ عوائِدُهُ *** ما ردَّ سائلَهُ إلا وأعطاهُ

وما أحاطَهُ مَدْحٌ كَلَّ مَادِحُهُ *** كَلا وَلا الحَمْدُ والإطْرَاءُ أحْصَاهُ

لُمَاه كَأسٌ رَوَى مَوْرودُ سَلْسَلِهِ *** اُوَامَ هَائِمِهِمْ رُحْمَاهُ رُحْمَاهُ

* *** * *** * *** * *** * *** * ***

لِلْحُورِ أسْرَعَ مَحْمُولاً على سُرُرٍ *** أرَاحَ مَطْمَحَهُ إكْمَالُ دَعْوَاهُ

وَرِدْءُهُ عَمَلٌ للهِ أعْمَلَهُ *** وَوِرْدُهُ لِمَحَلِّ العَوْلِ رَعْوَاهُ

للهِ أعطى وأهدَاهُ المؤَمّلَ وَالْ- *** -عَلى اسْمِ طَهَ رَسُوْلِ اللهِ أسْمَاهُ

كُلُّ امرِءٍ صام أو صَلّى وآلَمَ صَدْ.. *** ..رَ العِلْمِ عَادَى إمَامَ الْعَصْرِ مَولاهُ

* *** * *** * *** * *** * *** *

أرَاحِلاً هَلْ لِعَوْدٍ مَوعِدٌ وَصَدىً *** للأ مْسِ أوْلَهَ أرواحاً لمَرْآهُ

ص: 526

وَسَائِلِ الدمْعَ هَلْ أهْمَى وَسَالَ عَلَى *** سِوَاكَ مَوْلَىً وَسَلْ هَلْ سُدَّ وَهْدَاهُ

لا لَوْمَ إلا على لَحْدٍ مُوَسِّدُهُ *** هَلِ الهِلالُ - لِرَمْسِ عُد َّ- مَرْسَاهُ

وَهَلْ مَدَارٌ سِوَى دَرْكِ السَمَاءِ لَهُ *** أمْ سَرَّهُ دَوْرُ مَلْحُودٍ وَألْهَاهُ

وَهَلْ هُوَ الطَوْدُ أمْ صَدْرُ العُلُومِ هَوَى *** أمْ هَلْ هُمَا واحِدٌ واللحْدُ وَارَاهُ

حَرّى الصُدُورُ على صَدَّاحِهَا ألَمَاً *** حِدَادُهَا وَاصِلٌ مَا الدَّهْرُ أوْرَاهُ

* *** * *** * *** * *** * *** * ***

وَلَعْلَعَ العَدْلُ مَكْموداً وَصَرَّحَ مَكْ- *** -لُومَاً وَسرَّدَهُ سَوْمٌ وَأعْمَاهُ

لِمَ الكرَى لا سلامٌ حام طائِرُهُ *** ولا عدوٌّك معدودٌ لمهواه

وَمَا لِواكَ هَوَى صَدْعَاً وَمِدْرَعُهُ *** حُسَامُ حَسْمِكَ مَا أكْدَى ألِدَّاهُ

وَحَائِكُو المَكْرِ مَا ردُّوا مَكَائِدَهُم *** وَالسِّلْمُ أوْصَدَهُ - لا الطَّوْعُ - إكْرَاهُ

وأصْحَرَ العُمْرُ لا وَرْدٌ وَلا حُلَلٌ *** لَمَّا هوى مُعدَمَ السلوى مُصلاهُ

آهٍ على الطَّلْحِ كمْ أدْلَى مُهَلّلُهُ *** أدَامَ سَعْدٍ.. أدَاءٌ سَدَّ مَرْحَاهُ؟

* *** * *** * *** * *** * *** * ***

دَهْرٌ طَمَى ما رَعَى مَولَىً لأحْمَدِهَا *** مُحَلَّأٌ كُلُّ حُرٍّ لَمْحَ مَرْعَاهُ

مَآلُهُ لِهَلاكٍ لا مَرَدّ لَهُ *** كَلا وَمَصْرَعُ صَدْرِ الْعِلْمِ اُوْلاهُ

لَحَاهُ لَمّا رَآهُ سَاعِدَاهُ عَصَاً *** لِصُوْرِهَا رِمَمُ الإلْحَادِ أسْرَاهُ

أمَالَ حِمْلاً لآلِ اللهِ لائِمُهُمْ *** وَالصَّدْرُ أعْدَلَهُ وَالصَّدْرُ أسْدَاهُ

وراءَ كُلِّ إمَامٍ لِلسُّرَى اُمَمٌ *** وَالصَّدْرُ كُلُّ إمَامٍ سَارَ مَسْرَاهُ

أللهُ صَوّرَهُ واللهُ طَهّرَهُ *** وَاللهُ أمَّرَهُ واللهُ ولاهُ

أدّى كَمَا رُسُلُ اللهِ الألى وَحَكَى *** طَهَ وَمُوْسَى وَدَاوودَاً مُؤدّاهُ

ص: 527

لَولاه كُلُّ هُدَى الإسلامِ صَارَ سُدَىً *** وَعَادَ طَهَ لِدَعْوَى السِّرِّ لَوْلاهُ

مُوسَى على الطُّوْرِ أوْحَى اللهُ كَلَّمَهُ *** وَالصَّدْرُ كُلَّ كَلامِ اللهِ أوْحَاهُ

حسنين قفطان

ص: 528

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.