خطابُ المرحلة المجلد 2

هوية الكتاب

اسم الكتاب: خطابُ المرحلة / الجزء الثاني

تأليف: توثيق لخطابات وبيانات سماحة

آية الله العظمى المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي

الطبعة : الثانية

السنة : 1437 ه_ - 2016م

الناشر: دار الصادقين للطباعة والنشر والتوزيع

النجف الاشرف / شارع الرسول ص 07808289364

المطبعة:.........

ص: 1

اشارة

خطابُ المرحلة توثيق لخطابات وبيانات سماحة

آية الله العظمى المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي

ومواقفه وتوجيهاته منذ تصديه لقيادة الحركة الإسلامية في العراق بعد استشهاد استاذه

السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) عام 1999

الجزء الثاني

1999-2003 القسم الثاني

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

من وحي المناسبات الأسوة الحسنة في بناء الذات وإصلاح المجتمع

من وحي المناسبات الأسوة الحسنة في بناء الذات وإصلاح المجتمع (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

لم تتعرض كتب التأريخ لسيرة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بعنوانهم قادة ومصلحين اجتماعيين مارسوا عملية التغيير في النفس والمجتمع بأعظم أشكاله وبحسب ما أُتيح لهم من الفرص، بل إن بعضهم، وهم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمير المؤمنين والحسن المجتبى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) رأس دولة واضطلع بأعباء الرئاسة الدنيوية، على تعبيرهم، إضافة إلى الإمامة الدينية التي لا يمكن التخلي عنها بحال.

وإنما اكتفيت بالسرد التأريخي لتفاصيل حياتهم على أنها جزئيات متفرقة.

ويمكن إيجاد أكثر من مبرر لهذا النقص في المصادر التأريخية بالنسبة للأئمة الطاهرين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، ومنها:

1- إقصاؤهم (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) عن موقع القيادة الاجتماعية، فلم تُعطَ لهم الفرصة الكاملة لممارسة هذا الدور مما طبع على سلوكهم النشاط الفردي، أو هكذا يتراءى للناظر في حياتهم بالنظرة الساذجة.

ص: 5


1- محاضرتان ألقيتا على طلبة الحوزة الشريفة يومي 16- 17/ربيع الأول/1422ه_ الموافق 8-9/ 6/ 2001م.

2- عدم نضج الفكر الاجتماعي لدى مؤرخي تلك الأجيال، ليتناولوا بالنقد والتحليل ما كان يصدر عن الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من تصرفات ومواقف، وإنما ينقلون الوقائع التأريخية على أنها لمشاهدات، أو مسموعات مشتتة متفرقة لا تنتظم ضمن إطار محدد.

3- الإخفاء المتعمد لكثير من تفاصيل حياتهم، إما حسداً، أو تعصباً، وهذا شأن مخالفيهم، أو تقية وهو شأن مواليهم خصوصاً، وإن أغلب التواريخ قد كُتبت في عصر العباسيين ألد أعداء البيت النبوي الشريف.

4- إن جُلَّ ما وصل إلينا من تأريخهم (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) هو ما كتبه أصحابهم، وقد ركَّز هؤلاء على الجوانب التي تدعم عقيدتهم فيهم (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، ويثبت أحقيتهم بالأمر، وينفعهم عند الجدال والمخاصمة، فاهتموا بالمناقب والفضائل والمعجزات والنص على الإمامة والدلائل عليها، ولم يعيروا اهتماماً معتداً به لجوانب حياتهم الأخرى.

5- تَلَفُ الكثير من الآثار بسبب الفتن المذهبية والأحداث السياسية.

أقول: ولئن كان العذر متوفراً في الأئمة الطاهرين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من هذه الجوانب وغيرها، إلا أن كثيراً منها لا يأتي في رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فقد تسلَّم موقع القيادة، وأسَّس دولة ومجتمعاً مدنياً، ومارس عملية التغيير بأوسع أشكاله، مما لم يستطع فعله أحد، وإن تفاصيل حياته مدونة حتى في الأمور العادية كالمأكل والملبس، ولا مصلحة لأحد في إخفاء آثاره.

فما علينا إلا أن ننظر إلى سيرته نظرة جديدة تهمنا نحن كمرشدين دينيين ومصلحين اجتماعيين، انطلاقاً من الآية الشريفة [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ

ص: 6

أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً](الأحزاب:21).والتأسي به (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يكون على جميع الأصعدة وبجميع المستويات وبكل الاتجاهات.

إن عملية التغيير التي قام بها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) معجزة من معجزاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، يتعزز بها إيمان المسلم المؤمن برسالته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وتكون حجة على غير المؤمن به (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وهي بين هذا وذاك مثال يحتذى لأي قائد يريد أن يؤسس أمة ويسوسها، ويبني مجتمعاً فاضلاً صالحاً، كذاك الذي أقامه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في المدينة، ولم يشهد له التأريخ مثالاً، فلم نسمع أن أحداً سرق، أو قتل، أو زنى، ولا أي انحراف آخر إلا ما ندر، إذ لا يُتصور في تلك الفترة القصيرة أن يصل كل المجتمع إلى درجة التكامل المنشود، أما السمة الغالبة فهي الأخوة، والتآلف، والتكامل، والإيثار، والسمو عن الماديات، والتضحية بالغالي والنفيس في سبيل الله والمبدأ الذي آمنوا به.

إن نظرة واحدة تقارن بين حالي العرب قبل الإسلام وبعده يكفي لمعرفة عظمة النقلة الكبيرة التي عاشتها الأمة، مما يعكس الإعجاز في العلاج والمعالج، أما العلاج فهو القرآن الكريم، هذه الوصفة الإلهية التي وهبها خالق البشر لهذه المخلوقات البائسة التائهة المنحرفة، التي تعاني الآلام والمصاعب والمآسي، بسبب ابتعادها عن الله سبحانه، والمعالج هو رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)؛ المعجزة في أخلاقه وسلوكه ونموذج التربية الإلهية (أدّبني ربي فأحسن تأديبي)، ولقد تناولنا الجهة الأولى في كتاب (شكوى القرآن)، أما الثاني فهو ما سنحاول عرضه بمقدار ما يوفق الله سبحانه في هذه الكلمات.

ص: 7

ولنستمع الآن إلى بعض النصوص التي تصف حال العرب قبل الإسلام وبعده، قال الله تعالى: [وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا](آل عمران:103)، وقال تعالى: [وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ](الأنفال:26)، وقال تعالى: [فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ](الإيلاف:3)، وقال تعالى بصدد النهي عن بعض الحالات المنحرفة التي كانت موجودة: [وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيرا، وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً، وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً، وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً](الإسراء: 31-35).هكذا كان حالهم، قليلٌ مشتتون، بعضهم يقتل بعضاً، وهم محاطون بدول عتيدة تنتهز الفرص لاستعبادهم، وتنتشر الفواحش بينهم: كالزنا، وشرب الخمر، ونكاح زوجات الآباء، وأكل مال اليتيم، والبخس في الميزان، ووأد البنات، وغيرها مما يندى لها جبين الإنسانية.

وقال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقد عاش الفترتين: (إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّداً (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ، وَأَمِيناً عَلَى التَّنْزِيلِ، وَأَنْتُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ عَلَى شَرِّ دِينٍ وَفِي شَرِّ

ص: 8

دَارٍ، مُنِيخُونَ بَيْنَ حِجَارَةٍ خُشْنٍ وَحَيَّاتٍ صُمٍّ، تَشْرَبُونَ الْكَدِرَ، وَتَأْكُلُونَ الْجَشِبَ، وَتَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ، وَتَقْطَعُونَ أَرْحَامَكُمْ، الأَصْنَامُ فِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ، وَالآثَامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ)(1).وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فِي حَالِ تَشَتُّتِهِمْ وَتَفَرُّقِهِمْ، لَيَالِيَ كَانَتِ الأَكَاسِرَةُ وَالْقَيَاصِرَةُ أَرْبَاباً لَهُمْ، يَحْتَازُونَهُمْ عَنْ رِيفِ الآفَاقِ، وَبَحْرِ الْعِرَاقِ، وَخُضْرَةِ الدُّنْيَا، إلى مَنَابِتِ الشِّيحِ، وَمَهَافِي الرِّيحِ، وَنَكَدِ الْمَعَاشِ، فَتَرَكُوهُمْ عَالَةً مَسَاكِينَ، إِخْوَانَ دَبَر (وهي القرحة في ظهر الدابة) وَوَبَرٍ، أَذَلَّ الأُمَمِ دَاراً، وَأَجْدَبَهُمْ قَرَاراً، لا يَأْوُونَ إلى جَنَاحِ دَعْوَةٍ يَعْتَصِمُونَ بِهَا، وَلا إلى ظِلِّ أُلْفَةٍ يَعْتَمِدُونَ عَلَى عِزِّهَا، فَالأَحْوَالُ مُضْطَرِبَةٌ وَالأَيْدِي مُخْتَلِفَةٌ، وَالْكَثْرَةُ مُتَفَرِّقَةٌ، فِي بَلاءِ أَزْلٍ (أي شدة) وَأَطْبَاقِ جَهْلٍ، مِنْ بَنَاتٍ مَوْءُودَةٍ، وَأَصْنَامٍ مَعْبُودَةٍ، وَأَرْحَامٍ مَقْطُوعَةٍ، وَغَارَاتٍ مَشْنُونَةٍ، فَانْظُرُوا إلى مَوَاقِعِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ حِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولاً، فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ، وَجَمَعَ عَلَى دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ، كَيْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ جَنَاخ كَرَامَتِهَا، وَأَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِيمِهَا، وَالْتَفَّتِ الْمِلَّةُ بِهِمْ فِي عَوَائِدِ بَرَكَتِهَا، فَأَصْبَحُوا فِي نِعْمَتِهَا غَرِقِينَ، وَفِي خُضْرَةِ عَيْشِهَا فَكِهِينَ، قَدْ تَرَبَّعَتِ الأُمُورُ بِهِمْ فِي ظِلِّ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ، وَآوَتْهُمُ الْحَالُ إلى كَنَفِ عِزٍّ غَالِبٍ، وَتَعَطَّفَتِ الأُمُورُ عَلَيْهِمْ فِي ذُرَى مُلْكٍ ثَابِتٍ، فَهُمْ حُكَّامٌ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَمُلُوكٌ فِي أَطْرَافِ الأَرَضِينَ، يَمْلِكُونَ الأُمُورَ عَلَى مَنْ كَانَ يَمْلِكُهَا عَلَيْهِمْ، وَيُمْضُونَ الأَحْكَامَ فِيمَنْ كَانَ يُمْضِيهَا فِيهِمْ، لا تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ، وَلا تُقْرَعُ لَهُمْ صَفَاةٌ (الحجر الصلد، وقرعها

ص: 9


1- نهج البلاغة ج1 خطبة 26.

أي كسرها)(1)وفي خطبة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ)، التي ألقتها في مسجد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على الصحابة، بعد أن غُصب حقها وحق بعلها: (وكنتم على شفا حفرةٍ من النار، مُذقة الشارب، ونُهزة (أي الفرصة التي ينتهزها) الطامع، وقبسة العجلان (مثل يضرب في الاستعجال)، وموطئ الأقدام (مثل للمغلوبية والمذلة)، تشربون الطرَق (ماء السماء الذي تبول به الإبل وتبعر)، وتقتاتون القِدَّ (جلد غير مدبوغ يُقدّ) والورَق، أذلة خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بعد اللتيا والتي، وبعد أن مُنِيَ ببُهم الرجال، وذؤبان العرب، ومردة أهل الكتاب، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، أو نجم قرن الشيطان، أو فغرت فاغرة من المشركين، قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ جناحها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه)(2).

هكذا كانوا فكيف أصبحوا ببركة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال تعالى: [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً](الفتح:29)، وقال تعالى: [الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ

ص: 10


1- خطبة 192/ج1.
2- الاحتجاج 1/ 135 – 146.

الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ](الحشر:8-9).ونحاول أن نستعرض الآن بعض النماذج الرسالية الفذة التي تربَّت في أحضان النبوة الكاملة، لنرى الأثر العظيم الذي أحدثه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في مجتمعه، وسوف لا نذكر أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) النموذجين الكاملين لهذه التربية، لأن لهم موضوعهم الخاص من الكلام ولنتطرق إلى نماذج أخرى.

1-حدث شجار بين أبي ذر (رضي الله عنه) وشخص أسود فقال له: يا ابن السوداء، فوبخه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقال له ما مضمونه: أدركتك عصبية الجاهلية. فجاء أبو ذر إلى العبد وأعتذر إليه، فرضي عنه إلا أنه أبى إلا أن يرغم هذه الأنانية والعجرفة الفارغة والتكبر المقيت الكامن في النفس الأمارة بالسوء، فقال للعبد: لا أقتنع بالرضا حتى أضع خدي على الأرض وتطأه بنعلك، وفعل العبد، فشعر أبو ذر بزهو الانتصار على أعدى أعدائه، وهي نفسه التي بين جنبيه.

2-يبعث إليه عثمان بمالٍ جزيل هو بأشدِّ الحاجة إليه بيد عبدٍ له ويعده بالحرية إن قبلها أبو ذر، ليبيع لعثمان دينه ويسكت عن مظالمه، فعلم أبو ذر بالنية، فرفض قبول الصلة، فأراد العبد أن يستغلَّ طيبة قلب أبي ذر وحبه للخير والتقرب إلى الله سبحانه، فقال لأبي ذر: إن فيها عتقي، فقال أبو ذر: لكن فيها رقي، لأن أبا ذر علم أنه بقبولها عليه أن يجامل عثمان

ص: 11

ويداهنه، ولا يقول له ولحاشيته كلمة الحق، فيحشر في سرادق الظلمة، وانتصر أبو ذر مرة أخرى، فليس غريباً أن يودِّعه أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حينما نفاه عثمان إلى الربذة بكلمات حزينة مؤلمة لقلب كل غيور على الإسلام ورجالاته، لكنها كبيرة وعظيمة، ومما جاء فيها: إنك َخِفْتَهُمْ عَلَى دِينِكَ وخافوك على دنياهم، فَاتْرُكْ لهم مَا خَافُوكَ عَلَيْهِ، وخذ ما خفت منهم عليه.3-يحدِّث أحدهم أنه في معركة القادسية سمع جريحاً يئِنُّ ويطلب الماء، وقد أعياه نزف الدم، فلما قُرِّب وعاء الماء إليه سمع جريحاً آخر يطلب الماء فأبى أن يشرب، وقال: اسقِي أخي لئلا يموت، فقام إلى الثاني ليسقيه، فسمع ثالثاً يطلب الماء، فأمر بسقيه أولاً، فلما وصل إليه لم يدركه وفارقته الحياة، فعاد إلى الثاني فوجده كذلك، وعاد إلى الأول فوجده كذلك. فتراهم يؤثرون غيرهم على أنفسهم ولو كلفهم الحياة، إنه غاية السمو والرفعة.

4- كان لامرأة وزوجها ولد وحيد، مرض هذا الولد فأشفقا عليه، وهو وحيدهما، ولما حان وقت الصلاة خرج الأب إلى المسجد فمات الولد في غيبته، فلم تجزع الأم ولم يتغير حالها، بعد أن استوعبت القرآن، وعلمت منه ما أعدَّ الله للصابرين، وأن الله سيوفيهم أجورهم بغير حساب، وأنّ هذا الولد فَرْطٌ لهم على الحوض، لا يدخل الجنة حتى يدخل أبواه، مثلت كل هذه المعاني أمامها، فغطّت الوليد وجعلته في إحدى غرف الدار، وتزّينت، فلما جاء الزوج استقبلته بعواطف حارة، وقدَّمت له الطعام،

ص: 12

فسألها عن ولدها، فقالت: إنه بأهدأ حال، ولما أتمَّ طعامه مَكَّنته من نفسها، فلما قضى حاجته وعلمت أن الله لا يخذل المتقين وسيهبها ولداً بدلاً منه، أخبرت الزوج المفجوع بولده واحتسبه عند الله تعالى، ولما خرج إلى المسجد والتقى برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هنأه على زوجته وبارك له فيها، وأخبره أن الله تعالى أوحى إليه بأنه قضى لهما من ذلك الجماع ولداً صالحاً هو هدية معجلة لهذا الموقف النبيل، وما عند الله خير وأبقى.5- أعلن داعي الجهاد للخروج إلى ملاقاة قريش في أُحُد، فجاء عمرو بن الجموح وولداه وأخو زوجته هند وهو عبد الله بن عمرو بن حرام - والد جابر الأنصاري - فقال له رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): إن الله قد أسقط عنك الجهاد، وكان أعرج فقال: يا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لا أرجع حتى أطأ بعرجتي الجنة، فدعا له رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وخرجوا معه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلى أحد، فاستشهد عمرو، واستشهد عبد الله، فجاءت هند بهما على بعير، وأحدهما عدل الآخر، فمرَّت على ملأ فيهم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ملمحاً إليها: إن منكم مَنْ لو أقسم على الله لأبرَّه، ودفنتهما في قبر واحد.

6-كان مصعب بن عمير من بني عبد الدار من بطون قريش وهم حملة اللواء، وكان من الفتيان المنعمين المترفين، الذين يضرب المثل بجمالهم وترفهم ونعومة عيشهم، فلما صدع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالإسلام اعتنق وتنازل عن ترفه ونعيمه، وأصابه ما أصاب المسلمين من العنت والضيق، فافترش الأرض ولبس الخلق من الثياب، فحاول ذووه ثنيه بأن وعدوه ما يشاء من الملذات، فلم تنفع وبعثه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قبله إلى المدينة

ص: 13

ليعلمهم القرآن، وكان فتى مخلصاً وهب ما عنده لله سبحانه حتى أستشهد في أحد.7-خرج المسلمون للقاء الفرس قبل القادسية في معركة الجسر، وكان على الجيش أبو عبيدة الثقفي والد المختار ومعه من عيون الصحابة ثابت بن قيس بن شماس خطيب الأنصار، ولما وصلوا إلى الجسر حيث يعسكر الفرس في الجهة الأخرى استشارهم فيما يفعل، فأشار ثابت بعدم العبور لتبقى الصحراء من خلفهم رداءً إن كانت الوقعة للفرس، وإن انتصروا عبروا بسلام، أما إذا عبروا للفرس فسيكون العدو من أمامهم والنهر من خلفهم، لكن أبا عبيدة أمر بالعبور، وقال: إننا ما جئنا لنطلب النجاة، بل إحدى الحسنيين أما النصر، أو الشهادة، وأمر ثابتاً أن يكون أول من يعبر، فعبر ثابت وعبر أبو عبيد والمسلمون، ودارت الدائرة عليهم، واستشهد أبو عبيد، واستشهد ثابت، ليعطينا درساً في الطاعة المطلقة للقائد، وإن كان مخالفاً له في الرأي، فإن أي خلاف معه يؤدي إلى الاختلاف والتنازع، وهما منشآ الفتن والاضمحلال والزوال.

8-كان جويبر إنساناً معدماً ومن الطبقة المسحوقة في المجتمع كما يعبرون، فعرض على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) رغبته في الزواج، فبعثه إلى امرأة ثرية من أسرة وجيهة اجتماعياً وعزيزة في قومها، فجاء إلى وليها خاطباً، فاشمأز من هذا الخاطب وجرأته، وربما اعتبرها وقاحة منه، لكنه لما علم أن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هو الذي بعثه كظم غيظه على مضض ودخل على الفتاة يخبرها، ولعله بالغ لها في الأوصاف السيئة لعلها ترفض فيتخلص من هذه

ص: 14

الورطة، لكنها لما علمت أنها رغبة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وافقت وأطاعت؛ لتعطينا درساً علمياً في تطبيق الحديث الشريف (إذا رضيتم من الرجل عقله ودينه فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) وكانت مصداقاً للآية الشريفة: [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ](الأحزاب:36).9- مرّ مالك الأشتر في السوق، فاستهزأ به رجل من أهل النفوس الضعيفة الذين يغترون بحلم المقابل ولم يكن يعرفه، فسكت عنه مالك وهو يومئذ صاحب أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقائد جيوشه، وقال فيه أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): كان لي مالك كما كنت لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فقال الناس لهذا الرجل: أما عرفت هذا، قال: لا، ومن عسى أن يكون؟! قيل: هذا مالك الأشتر. فارتعدت فرائصه وأيقن بالهلاك، ورأى أن لا نجاة إلا بالمضي إليه والاعتذار منه، فسأل: أين ذهب مالك؟ قيل: إلى المسجد. فجاء إليه ووجده يصلي، حتى إذا فرغ من صلاته توسل إليه معتذراً، فقال: لا عليك فأني ما دخلت المسجد إلا لكي أصلي لك ركعتين وأستغفر لك.

10- سعد بن الربيع، من سادة الخزرج، بايع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قبل الهجرة، وكان من النقباء الاثني عشر، شارك في بدر وأبلى بلاءً حسناً، وكان من المدافعين عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حين فرّ أصحابه عنه في أحد، وبعد أن حلّ الظلام وافترق الجيشان افتقده رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقال: من يستعلم لي حال ابن الربيع؛ أفي الأحياء هو أم في الأموات؟ فانتدب أحدهم وفحص عنه فوجده يصارع الموت مرتثاً بالجراح، فقال له: قد سأل عنك رسول الله

ص: 15

(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ويريد أن يستعلم حالك، فقال كلماته الأخيرة: أبلغ عنّي رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) السلام، وقل له: جزاك الله خير ما جزى نبياً عن أمته، ثم قال: وأبلغ قومي من الأنصار أن لا عذر لكم عند الله تعالى إذا خلص عدوكم إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وفيكم عين تطرف.هذه النماذج وأمثالها كثير هي التي أنشأها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتعب على تربيتها في مدة (23) سنة، وهذه هي النقلة العظيمة(1) التي قام بها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في ذلك المجتمع الذي عرفت حاله، ولعل من الحكمة الإلهية أن يبعث رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في ذلك المجتمع المنحط إلى الحضيض، لتكون المعجزة أعظم، بينما لو بعث في أمة متحضرة لشكك في صحة رسالته وأنه ليس نبياً، وإنما هو من إفرازات تلك الحضارة والمدينة الراقية.

فما أحرانا نحن الحوزة الشريفة وقد نصبنا من أنفسنا مرشدين ومصلحين للمجتمع أن نستوعب هذه الدروس من حياة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، لنفعل كما فعل وننتج كما أنتج مع سهولة الأمر أمامنا بالقياس إليه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)؛ لأننا نتعامل مع أناس تربوا في أحضان الإسلام قروناً طويلة ونهلوا من نميره، وأن الوازع الديني موجود في بواطنهم، وما علينا إلا أثارته وتوجيهه وتهذيبه، فلماذا نحتار؟ ولماذا نتعثر في المسيرة ونحن نملك هذا التراث الضخم والمعين الذي لا ينضب من التجارب؟.

إن إهمالنا نحن الإمامية لتأريخ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) غير مبرر أبداً ولا يغني

ص: 16


1- هذا الأثر العظيم له (صلى الله عليه وآله وسلم) جعله على رأس أعظم مائة إنسان أثّروا في تأريخ البشرية كما اختاره مؤلف الكتاب الأمريكي.

عنه الاهتمام المتزايد بسيرة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، ومهما قيل فيه من مبررات فأنها واهية، لقد ترتبت على هذا الإهمال نتائج سيئة عديدة:1-خسارة كبيرة بإسقاط هذه التجربة العظيمة عن الحساب والانقطاع عن هذا التراث الضخم بكل ما يحتويه من دروس ومواقف.

2-إن تأريخه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كتب بيد العامة، فتجد أغلب السير النبوية بأقلامهم مع وضوح الفرق بين نقلنا ونقلهم (مثال حديث الإفك)، وقد لوثته أقلامهم بما ينزهون عنه المسلم العادي، وتجدهم يحطّون من مقامه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من أجل رفع عناوين يعتقدون(1) أنها كبيرة، خصوصاً وأنهم لا يعتقدون فيه سمو المرتبة التي نعتقدها. فبعضهم لا يشترط العصمة قبل النبوة فيجوز أن يرسل الله تعالى عابد وثن!! وبعضهم يشترطها في خصوص تبليغ الأحكام، ويجوزّ عليه السهو والنسيان والغفلة وينسب إليه الجهل.

3- التقصير بحقه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) علينا، وهو صاحب الحق العظيم الذي إليه يرجع الفضل في هداية كل شخص على وجه المعمورة، وما نعيش من خير إلا من فيض بركاته ونفحات رحمته، وما ادّخر لأمته في الآخرة أعظم، فقد فسّر قوله تعالى: [وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى](الضحى:5) بالشفاعة يوم القيامة، وورد أن الله تعالى له نصف المحشر يقول فيه رحمتي رحمتي، ولرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) النصف الآخر يقول فيه أمتي أمتي، هذا الرجل العظيم

ص: 17


1- كما يروون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت عنده جارية تغني فطرق الثاني عليه الباب فقال للمغنية أسكتي فقد جاء رجل لا يحب الباطل وكأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحبّه (وأمثالها كثير راجع الغدير (النص والاجتهاد).

كان سبباً لإفاضة كل هذا الوجود كما في حديث الكساء: (ما خلقت سماء مبنية ولا أرضاً مدحية ولا فلكاً يجري ولا... إلا من أجل هذه الأنوار الخمسة) وأصلها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، أقول: هذا الرجل تمرّ ذكرياته علينا مرّ الكرام عدا ما شاهدناه في السنين المتأخرة وإن كان ما يزال دون المستوى المطلوب.4-تربص الأعداء بشخصيته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للحطّ من كرامته وتشويه سمعته وإلصاق التهم به ما دام المسلمون بين جاهل بمقامه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهم العامة، ومعرض عن الاهتمام به وهم الخاصة، ومن خبث أعداء الإسلام أنهم يمدحون علياً ويرفعونه إلى القمة –وهو أهل لكل كمال ولا يبلغون حقه- ولا يثيرون عليه أي أشكال، بينما يتناول شخص رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالقدح والتشويه، وما ذاك حبا منهم بعلي أو اعترافا بفضله، وإلا لأقروا بمثله لمحمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهو مربيه ومعلمه، ولكن لامتصاص غضب مفكري الشيعة وعلمائهم الذين لهم الصولة في الكلام والجدال والفكر العميق، فيسترخي هؤلاء لهذا المدح ويغضون الطرف عما يوجه إلى نبيهم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الذي هو الأصل، وما علي ومذهبه إلا فرع ذلك الأصل.

ومن المؤسف أننا صرنا لا نشعر بمسؤولية الرد والدفاع عن الإسلام ونبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كشعورنا بمسؤولية الدفاع عن المذهب والأئمة الطاهرين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، ونظرة واحدة إلى المكتبات الشيعية تجد فيها آلاف الكتب التي تعرف المذهب وتبين تفاصيله وتدافع عنه وترد الشبهات الموجهة إليه، ولا تجد عدد الأصابع من الكتب التي تؤدي نفس الشيء عن الإسلام ونبيه العظيم، حتى

ص: 18

بقيت متحيرا ذات يوم عندما طلب مني تقديم كتاب يعرف الإسلام إلى شخص مسيحي أسلم مؤخراً، وها هو ذا الذليل المأجور سلمان رشدي(1) يشوه صورة نبي الإسلام (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ولا نتصدى للرد عليه بل ولم نكلف أنفسنا للاطلاع على كلامه المنحط، بينما ننهض نهضة رجل واحد للذب ضد شبهة جزئية موجهة إلى المذهب من هذه الطائفة أو تلك.ومهما قلنا من دفاع عن أنفسنا بأن الأئمة هم الامتداد الطبيعي له(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهم نفسه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، ويمثلون المسار الصحيح والحقيقي للإسلام، كل ذلك صحيح، لكنه لا يغني عن الاهتمام الذي يجدر بنا أن نوليه لشخصية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتصرفاته على مختلف الأصعدة، سواء على صعيد علاقته بربه، أو علاقته بنفسه، أو قل حياته الخاصة، وعلاقته بأمته التي يقوم برعايتها، وعلاقته بخصومه في داخل المجتمع، أو على مستوى الأمم الأخرى، هذه كلها محاور للبحث وكل محور غني بالدروس والمواقف والنتائج الكبيرة، وسيكون تصنيفنا لهذه الدروس وفق هذه المحاور المتعددة.

وينبغي الالتفات إلى أن المصدر الرئيسي لدراستنا سيكون هو القرآن الكريم لأكثر من سبب:

1-إعادة الكتاب الكريم إلى الحياة وإخراجه من عزلته وإعطاء دور الريادة

ص: 19


1- كاتب هندي الأصل بريطاني الجنسية، كان مسلماً لكنه ارتدّ عن الإسلام وأصبح أداة بيد أعدائه للكيد للإسلام وتضليل أبنائه، وأصدر كتاب (آيات شيطانية) فيه سخرية كثيرة من شخصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأصدر السيد الخميني (قدس سره) عام (1988) حكماً بارتداده ووجوب قتله فظل خائفاً مرعوباً متخفياً، وأوجب الحكم غضباً لدى الغرب.

إليه في كل عملية إصلاحية كما أشرنا إليه في كلمات سابقة.2-أنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان تجسيداً عملياً للقرآن؛ بحيث لو حولت القرآن من كتاب مقروء إلى رجل يمشي على الأرض لكان هو (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، ولو حولت سيرة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلى كتاب يقرأ لكان القرآن، ومن هنا أجاب أحدهم لما سئل عن أخلاق رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فأختصر الكلام بقوله: كان خلقه القرآن.

وأجد الآن أنه من المناسب حصر المحاور الأربعة في محورين:

الأول: الجانب النفسي أو الفردي، ويمثل سلوكه مع ربه ومع نفسه.

الثاني: الجانب الاجتماعي، ويمثل تصرفاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مع قومه وغيرهم. ولذلك أكثر من وجه:

1-العلاقة الوثيقة بين بعض هذه المحاور بحيث يصعب التفكيك بينها.

2-إننا التزمنا في دروسنا هذه التركيز على جانبين مفقودين في الدراسات الحوزوية، وهما الأخلاق والوعي الاجتماعي، فبهذا التقسيم يكون تغطية هذين الجانبين واضحاً، حيث يمثل الأول منهما الأول والثاني الثاني، وأن الخطوة الأولى في التصدي لإصلاح المجتمع هو إصلاح الذات، ففي الحديث: (مؤدب نفسه أولى بالتكريم من مؤدب غيره)، ولا قيمة للثاني بدون الأول.

وسألخص(1) هنا بعض الدروس المستفادة منه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في الأخلاق والوعي الاجتماعي مما يندرج في وظيفة الحوزة العلمية الشريفة، ولتكون لهم نبراساً

ص: 20


1- هذه المحاضرة مستقلة ألقيت في احتفال كبير لطلبة الحوزة العلمية أقيم في مدرسة القوام الدينية بهذه المناسبة الشريفة في17/ربيع أول/1422ه_.

يستضيئون به(1).1-إن هذه المناصب الإلهية الشريفة ومنها العناوين الحوزوية المختلفة وعلى رأسها المرجعية تتطلب ممن يريد أن يتأهل لها استعداداً وتكاملاً نفسياً عظيما لينالها، قال تعالى: [لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ](البقرة: 124) والعهد في الآية يراد به الإمامة بمقتضى تسلسل الآيات التي تتحدث عن جعل إبراهيم إماماً، فسألها لذريته فأجيب بهذا القول، والمرجعية هي إمامة بالحمل الشايع حيث يقوم الولي الفقيه بوظائفها.

وتفسر آية أخرى الظلم بأنه الشرك: [إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ](لقمان:13)، والشرك له مراتب عديدة منها الخفي ومنها الجلي، وكل من عصى الله فقد أطاع غيره وأشرك به، فتكون النتيجة أن المرجعية وولاية أمر الأمة لا يكون إلا لمن نزه نفسه عن طاعة غير الله تبارك وتعالى، ولن تجد لغير الله سبحانه عليه سبيلاً بعصمة الله وتسديده، وإن كان ليس بمعنى الشرك الجلي المعروف اصطلاحاً.

لذا تعب رسول الله على تهذيب نفسه وتحليها بالفضائل قبل البعثة الشريفة عندما كان يتعبد في غار حراء ويطيل النظر والتأمل في ملكوت السموات والأرض، لأنه كان يعلم بوجود نبي قد أطل زمانه، فعليه أن يبلغ أقصى درجات التكامل لينال هذا الشرف العظيم، وناله بتوفيق الله ولطفه.

وفي الحديث عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إن الله عز وجل أدّب نبيه فأحسن

ص: 21


1- أحيط الموضوع بتفاصيل أكثر في محاضرات لاحقة وجُمعت وطبعت في كتاب (الأسوة الحسنة).

أدبه، فلما أكمل له الأدب قال: [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ](القلم:4)، ثم فوض إليه أمر الدين والأمة ليسوس عباده، فقال عز وجل: [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا](الحشر:7)، وأن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان مسدداً موفقاً مؤيداً بروح القدس، لا يزلّ ولا يخطئ في شيء مما يسوس به الخلق)، فلا تُنال هذه المواقع الشريفة بالادعاءات والافتراءات والاعتداء على الآخرين، بل بتهيئة المحل ليكون قابلاً للفيض الإلهي وبعده [ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ](الجمعة:4).2-الإعراض عن الدنيا وزخارفها وملذاتها الفانية وعدم التكالب عليها، كما يحصل من البعض ولو كلفه ذلك دينه والعياذ بالله، أدبه بذلك ربه قال تعالى: [وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى](طه:131) يعطيه القرآن مثلاً عن حقارة الدنيا [وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ، وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ، وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ](الزخرف:33-35) فهذا كله لا قيمة له ولا يصلح تعويضاً عما أعدّ الله للمتقين، فماذا حصل عليه أهل المعاصي حتى رضوا بجهنم مقاماً.

وينبغي الالتفات إلى أن الدنيا التي أعرض عنها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ليست الدنيا المحرمة، فهذا أوضح مصاديق العصمة ومتطلباتها، بل هو الحد الأدنى من تكليف أي مسلم، وإنما كان إعراضه عن الدنيا المحللة، ولما سئل (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن ذلك قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): تواضعاً لله سبحانه؛ فإعراضه كان تعظيماً لله سبحانه

ص: 22

وإجلالاً له أن يجعل في قلبه حباً وشغلاً غيره تبارك وتعالى.جاء يوماً لزيارة فاطمة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) فوجد على باب دارها إزاراً ملوّناً، فرجع عن زيارتها، فبلغها الخبر فتصدقت به على المسلمين، فعاد إلى زيارتها وضمها إلى صدره وهو يقول: ذرية طيبة بعضها من بعض.

3- الثبات على الحق وصلابة الإرادة وعلو الهمة ورباطة الجأش وقوة القلب وشجاعة النفس وعدم التزلزل والتراجع مهما كانت الضغوط عليه عظيمة ومهما كانت المغريات كبيرة، وهو القائل لعمه أبي طالب لما جاءته قريش وعرضت عليه عدة عروض مقابل تخليه عن تبليغ الإسلام ونشره فأجابهم: (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أموت دونه).

مرَّ مشرك في أوائل البعثة وكان (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) واقفاً يصلي وبإزائه ابن عمه علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وخلفه زوجته خديجة، فقيل للمشرك: هذا محمد الذي يزعم كذا وكذا، فقال: إن أمره سيظهر وسينتشر، قيل: كيف؟ قال: لعلو همته وقوة إرادته وهو يواجه الدنيا بصبي وامرأة. يقول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): إن إيمان المؤمن أقوى من الجبل، قيل: كيف يا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)؟ قال: لأن الجبل يستقل منه بالمعاول، ولا يستقل من إيمان المؤمن شيء.

لم يثنه الأذى الذي تعرض له وقد وصفه بأنه ما أوذي نبي بمثل ما أوذي به، رموه بالحجارة حتى سالت منه الدماء، ورموه بالفرث والدم وهو يصلي، شتموه ووصفوه بالبذيء من الكلام: ساحر، مجنون، شاعر، وهو صابر محتسب، وبدلوا أسلوبهم إلى الإغراء: إن شاء محمد مالاً جمعنا له من أموالنا ما يشاء،

ص: 23

وإن شاء ملكاً ملّكناه علينا، وهو يرفض ذلك، قاطعوه هو ومن معه في شعب أبي طالب اقتصادياً واجتماعياً حتى فقد ركنيه أبا طالب وخديجة، تآمروا على قتله فهاجر إلى المدينة، ثم جيشوا الجيوش لاستئصاله هو ومن معه في بدر وأحد والأحزاب وغيرها، وفي كل ذلك تجده رابط البأس مطمئن القلب ساكن النفس، يقول علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) رمز الشجاعة وعنوانها: (كنا إذا حمي الوطيس لذنا برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)) فكانت أوصافه هذه منبعاً يستقي منه أصحابه.4-سعة الصدر وتحمل الناس على اختلاف مستوياتهم وطبائعهم، وهو القائل (آلة الرئاسة سعة الصدر)، وأية رئاسة أعظم من منصبه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، ويوصي عمه العباس: يا بني عبد المطلب، إنكم لا تستطيعون أن تسعوا الناس بأموالكم، فسعوهم بأخلاقكم. يقول مالك خادم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): خدمت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عشر سنين ما قال لي يوماً لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: لِمَ لمْ تفعله؟ وهي قابلية إعجازية ومن معجزاته أخلاقه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

5-الرحمة والرأفة بالمؤمنين، وقد وصفه الله تبارك وتعالى: [لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ](التوبة:128)، من رحمته كان يود أن يؤمن جميع الناس ويحرص على ذلك حتى نزل قوله تعالى: [فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ – بعد توليهم عنك - إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً](الكهف:6) وقال تعالى: [لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ](الشعراء:3).

6-الاهتمام بالقرآن، كان يسهر به ليله ويظمئ هواجره، ويقول لابن مسعود:

ص: 24

اقرأ القرآن، فيعتذر ابن مسعود، فيقول: أحب أن أسمعه منك، فيقرأ ابن مسعود وعينا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تذرفان من الدموع، ويقول: شيبتني هود والواقعة، ولا ينام حتى يقرأ الحواميم.7-عدم التقاعس عن أداء المسؤولية والوظيفة الشرعية بالتمسك بمبررات واهية كقلة الأتباع ونحوه، أدبه بذلك ربه: [فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً](النساء:84).

8-الاتعاظ بكل ما حوله وأخذ العبرة من كل شيء يمر به، وهذه العظة والعبرة رزق يقذفه الله في قلب من يشاء، وهو بنفس الوقت حجة على من لم يؤمن أو آمن ولم يطبق. مرّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على ماء جارٍ، والماء طهور للخبائث المادية، فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): لو أن بباب أحدكم نهراً يغتسل منه خمس مرات في اليوم أترى يبقى على جسده شيء من الدرن؟ قالوا: لا يا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فانتقل بتفكيرهم إلى الجانب المعنوي، فإن الحسنات مطهرات للقلب من الآثار السيئة للمعاصي بصريح قوله تعالى: [إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّ_يِّئَاتِ](هود:114) [إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً](النساء:31) فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): كذلك الصلاة، فإن أدائها خمس مرات لا يبقي من السيئات شيئاً.

يدخل (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الحمام ويرى الماء الساخن، فيقول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): نعم البيت الحمام؛ يزيل الدرن ويذكر بالآخرة. وبهذا الصدد يروى أن أحد العلماء تعرض لتهم باطلة وتشنيع من قبل الحاسدين، وهو يسير قدماً في طريق مرضاة

ص: 25

الله تبارك وتعالى ويقدم العطاء النافع لنفس هذا المجتمع الذي يحاربه، وكان يتألم لهذه المبادلة غير المنصفة، وفي طريقه رأى شجرة مثمرة والناس يرمونها بالحجارة وهي تهديهم من ثمراتها الطيبة، فتعلم الدرس من هذه الشجرة كيف يحاربها الناس وهي تدرّ عليهم الخيرات، فاطمأن قلبه ورضي بما قسم الله له.9-عدم الاغترار بالمنصب والجاه وكثرة الأتباع والمريدين في أي موقع كنت (مرجعا دينياً أو إمام جماعة أو مدرسا حوزوياً أو خطيب منبر)، ففي الحديث: (إنما أهلك الذين من قبلكم خفق النعال من ورائهم)، إن هذا الداء إذا تمكن من قلب المتصدي(1) فإنه يؤدي به إلى الانحدار، لأنه أولاً منشأ لعدة رذائل قلبية أولها الرياء، فإنه يبدأ بالتصنع والتكلف ليجتذب إليه الناس وسيكون هدفه رضا الناس لا رضا الله تبارك وتعالى.

وثانياً: أنه سيسير وفق أهواء الناس ومشتهياتهم، لأنه يخشى انفضاضهم عنه، لذا حذره الله تبارك وتعالى: [وَتَخْشَى النَّاسَ - أي انفضاضهم عنك- وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ](الأحزاب:37)، وما كان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ليجامل أحداً على حساب الحق، ولكنها على أية حال نصيحة وموعظة ضرورية يجب تقديمها إليه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وإلى كل حملة الرسالات وتحذيره من عواقبها، وقال الله تعالى: [وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ](الأنعام:116)، وقال تعالى: [وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ](المؤمنون:71).

ويستحوذ هذا الداء على تفكير المبتلى به ويأخذ عليه مجاميع تفكيره، فلا

ص: 26


1- أريد بهذا البيان توجيه موعظة لبعض المتصدين ممن هم ليسوا بأهلٍ مستفيدين من إثارة العواطف وبعض الادعاءات.

يرى غيره حتى يصبح مسيّراً من قبل العامة لا مسيراً لهم، وفي مقابل ذلك يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تلميذ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الأول: (لن تزيدني كثرة الناس من حولي عزة، ولا تفرقهم عني وحشة)، وهذا الصحابي الرسالي الواعي عمار بن ياسر يقول في معركة صفين: (والله لو ضربونا بسيوفهم حتى أبلغونا سعفان هجر لعلمنا أننا على الحق وأنهم على الباطل).وثالثاً إنه يبدأ بالكيد والحسد لمن يزاحمه في هذا المكان، أو اذا اقتنع الناس بغيره فسوف لا يتورع عن الكذب والغيبة والافتراء والبهتان للانتقاص من ذلك الغير والصعود على حساب قتل الشخصية المعنوية للآخرين، وهي أعظم من قتل الشخص [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ](البقرة:191)، وقد ورد في تفسير قوله تعالى [وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ] (البقرة:61) أي يكذبونهم ويستهزئون بهم ويحاولون إماتة دعوتهم وتنفير الناس عنهم.

10- التواضع: ولم يكن تواضعه تكلفاً وإرغاماً للنفس على غير طبيعتها التي تقتضي الاستعلاء والاستكبار، وإن كان هذا الشكل من التواضع محموداً ومطلوباً ممن يريد الكمال وتهذيب النفس، إلا أن تواضعه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان أحمد، لأنه كان سجية وطبيعة وذاتياً ناشئاً من معرفته الكاملة بحقيقة العبودية لله تعالى التي لا يبقى أي معنى للالتفات إلى الذات.

فهذه نقاط عشر على صعيد بناء الذات، وأما في الاتجاه الآخر وهو إصلاح المجتمع وتقويمه وبناؤه، أو ما نسمّيه بالوعي الاجتماعي، فنستلهم من سيرته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الدروس التالية:

1-وصفه أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بأنه (طبيب دوّار بطبّه)، والطبيب على شكلين:

ص: 27

طبيب مقيم يقصده المرضى، وآخر يجول بطبه ويقصد المرضى في محالّهم، وهكذا كان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الطبيب المعنوي الذي يعالج بتعاليمه وآدابه وأحكامه أمراض الروح والنفس والقلب، فإنه لم يقبع في بيته ينتظر أن يأتيه السائل، بل كان يقصد الناس في بيوتهم وأماكن تجمعهم، فذهب إلى الطائف لدعوة ثقيف، وما أن سمع أن وفد من المدينة قد وصل مكة حتى قصدهم، فكانت بيعة العقبة الأولى والثانية قبل الهجرة، وكان يجالس الأعراب في معاطن الإبل غير مستنكف من ذلك، وربما كان الإعرابي يعبث بلحيته الكريمة وهو يحدثه، وها هي الآية الشريفة تصرح بذلك: [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] (التوبة:122).فالفقيه هو الذي يقصد قومه ويحذرهم ويرشدهم ويهديهم، فهل استفاد أحد هذا الدرس من الآية الشريفة؟ وهل كتبنا في بعدها الاجتماعي عشر ما كتبناه عن الاستدلال بهذه الآية الشريفة عن صحة خبر الواحد والإشكالات على ذلك وردّها رغم أن ذلك من أوضح الواضحات؟ ونسينا واجبنا المهم.

وها هي الحوزة تضم آلاف الطلبة والفضلاء لكننا لا نحسّ بوجودهم ولا نسمع لهم ركزا في المجتمع، نعم ترى لهم دوراً فاعلاً في جمع الحقوق الشرعية وإيصالها إلى المرجعية، وهو دور ليس بالقليل، لكن الاقتصار عليه تقصير، ولا أكتمكم أن 90 من أسئلة الطلبة تدور حول هذا الموضوع، وقلما يلمس من أحدهم همّاَ اجتماعياً، أو التصدي لمواجهة مشكلة فكرية، أو المساهمة بمشروع خيري اجتماعي أو اقتصادي، وغالب ما نسمع ذلك من خلال

ص: 28

الشباب المثقفين الواعين المخلصين.2-عدم اتخاذ بطانة وحاشية قبل التحقق من إخلاصهم لله تبارك وتعالى وشعورهم بالمسؤولية أمام مجتمعهم، بحيث تجدهم يفكرون في هموم الناس وآلامهم وآمالهم أكثر مما يفكرون في مصالح أنفسهم، قال الله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ] (آل عمران:118)، فمثل هذه البطانة تحجب الرؤية الصحيحة وتعزل الراعي عن رعيته وتقلب الحقائق وفق ما تشتهي أنفسهم وتدر مصالحهم، وأعتقد أن تجارب الحياة فيها الكثير من الشواهد.

3-عدم الاستخفاف بالناس الضعفاء والمتدنين اجتماعياً أو اقتصادياً، وفي مقابلها الاهتمام بالوجهاء والأثرياء، قال الله تعالى مؤدباً نبيه: [وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ] (الأنعام:25)، [وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً](الكهف:28)، وقال تعالى في تحقير فعل بعضهم [عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَن جَاءهُ الأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى](عبس:1-10).

4-والدرس الأعظم الذي نستفيده منه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعلينا الالتزام به هو حرصه على وحدة المسلمين والضرب بشدة على من يسعى لتمزيقهم وتشتيتهم وتفريق

ص: 29

أمرهم، فقد سعى بعض اليهود الذين كانت لهم سطوة وسلطة على أهل يثرب قبل هجرة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، حتى سحب البساط من تحتهم حينما أشرق الإسلام بينهم، وقتل فيها خلق كثير خصوصاً في يوم بغاث، فحاول بعض اليهود إعادة تلك النعرات الجاهلية، ووجد استجابة من بعض النفوس التي لم يطهرها الإسلام بشكل كامل، فعادت إلى جاهليتها وازدادت الفتنة واشتدّ أوارها، فتداعى الفريقان للقتال، فعلم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالأمر، فخرج من بيته مسرعاً لم يدرك لبس رداءه فكان يجره، وأطفأ نار الفتنة وعاد الصفاء إليهم ببركته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).وقد جعل الله تعالى وحدة الكلمة من نعمه العظيمة التي امتن بها على عباده بالإسلام ونبيه العظيم، فقال تعالى: [وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا] (آل عمران:103)، وقال تعالى: [وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَ_كِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] (الأنفال:63)، ونعم ما قال أحد العلماء: (بُني الإسلام على كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة)، إذا كان الأمر كذلك، فما بال شرذمة قليلين لا ورع لهم بل ولا دين يريدون أن يزرعوا الفتنة بينكم(1) ويشتتوا أمركم ويقدموا بذلك خدمة مجانية لأعداء الله ورسوله وخدمة للشيطان الرجيم، فهؤلاء ليسوا منا ونحن منهم براء.

ص: 30


1- إشارة إلى ما كان يفعله البعض من تسقيط وتشويه داخل الحوزة العلمية مما أدى إلى تمزيقها.

قبس من سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام)

قبس من سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام)(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

أحاول أن أعرض اليوم باختصار بعض الدروس التي يمكن أن نستفيدها من حياة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وسيرته، فإن لنا فيه كما في ابن عمه وأخيه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أسوة حسنة؛ لأنه نفس رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بنص آية المباهلة [فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ] (آل عمران:61)، ولم يكن معه بعد النساء والأبناء إلا علي بن أبي طالب، وقد سُئِلَ أحد أئمة المذاهب الإسلامية عن أفضل أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فقال: فلان، فقيل له: ثم؟ قال فلان، فقيل له: ثم؟ قال فلان، فقيل له: ثم؟ قال: الناس بعد ذلك سواسية. فقيل له: لم تذكر علياً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)؟ قال: إنما سألتموني عن أفضل أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) نفس رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ). فإذا كان (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) نفس رسول الله وقد أمرنا بالتأسي بسنته [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً](الأحزاب:21) فيكون الأمر شاملا لسنة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وسيرته.

وأول درس نستفيده هو المعرفة التامة بالله سبحانه؛ فإن المعرفة بالله هي

ص: 31


1- ألقيت على طلبة الحوزة الشريفة بمناسبة ميلاد أمير المؤمنين (عليه السلام) في 13 رجب 1421ه_ الموافق 12/ 10/ 2000 م.

غاية الغايات وهي منتهى الآمال، وقد قال له رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت. ويقول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): لو كشف لي الغطاء ما أزددت يقيناً. ويقول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): أول الدين معرفته؛ لذا كانت عبادته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لا طمعاً في جنة ولا خوفاً من نار، وإنما وجد الله سبحانه أهلاً للعبادة فعبده. ومن كلماته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إلهي كفى بي عزاً أن أكون لك عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي رباً، إلهي أنت كما أحب فأجعلني كما تحب) هكذا كانت علاقته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مع ربه.وقد كانت هذه العلاقة هي محور حياته، فلا يقول قولاً ولا يفعل فعلاً ولا يتقدم ولا يتأخر إلا في حدود وظائف العبودية وحقوق الربوبية، تنسب إليه كلمة مضمونها (ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله وبعده وفيه)، يريد ناقلها أن يقول إن ابن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كان يعيش في رحاب الله، وإنه لم يغفل عنه ولا لحظة، ويرى الله في كل شيء، وهو معنى صحيح لكنه قاصر عن بيان سموّ مرتبته، فإنها تتضمن معنى أنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كان يرى شيئاً غير الله سبحانه، وهو لم يكن يرى غير الله سبحانه في كل شيء في هذا الوجود، وما هذه الأشياء التي حوله إلا مرآة عاكسة للحق تبارك وتعالى، وهي فانية فيه لم يكن يلحظها (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وإنما يلحظ صورة الحق التي تتجلى فيها.

هكذا كان (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في ذكر دائم لله وحياة مستمرة في رحاب الله سبحانه وحركة دؤوبة لنيل رضاه، وإذا اقتضت طبيعته البشرية أن ينام ويأكل وينكح مما يعدّه تقصيراً في وظائف العبودية الكاملة فإنه كان يستغفر لذلك أشد الاستغفار، ويبكي أشد البكاء، رغم أن هذه الأمور غير اختيارية، سئل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): أيهما أحبُّ إليك الجلوس في المسجد أم في الجنة؟ قال: في المسجد. وقيل:

ص: 32

ولم؟ قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): لأن في الجلوس في المسجد رضا ربي وفي الجلوس في الجنة رضا نفسي، وأنا أقدم رضا ربي على رضا نفسي. ما خُيّر بين أمرين لله فيهما رضا إلا اختار أشدَّهما على نفسه، لأنه يريد أن يقدم كل شيء قربة إلى الله سبحانه، وأهم شيء يملكه الإنسان هي نفسه، فأمات نفسه بمعنى أنه ضحّى بغرائزه وبميوله وبنزعاته في سبيل نيل رضا الله.في معركة الخندق حيث نازل عمرو بن عبد ودٍّ فارس قريش وبطلها ثارت بينهما غبرة، فلما انجلت رأى المسلمون علياً على صدر عمرٍو يريد أن يحتزّ رأسه، لكنه قام عنه ثم عاد إليه وذبحه، فسُئل عن ذلك، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): لأن الملعون بصق في وجهي عندما أردت الإجهاز عليه، فغضبت فخشيت إن أنا ذبحته على هذه الحال ألاّ يكون فعلي خالصاً لله سبحانه بل لعله غضباً لنفسي، فلما سكنت نفسي عدت إليه وقتلته ابتغاء رضوان الله وحده. هكذا كان علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لم يغفل عن الله سبحانه حتى في أحرج اللحظات وأحلك الظروف. ولمعرفته الكاملة بالله سبحانه كان إذا وقف بين يديه ترتعد فرائصه وربما خرّ مغشياً عليه، رآه أحد أصحابه وهو على هذه الحالة فهرع إلى الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) وقال: أدركوا علياً فقد مات، قالت (عَلَيْهِا السَّلاَمُ): وكيف، قال: لقد رأيته يصلي ثم سقط على الأرض مغشياً عليه. فعلمت الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) الحال، وقالت: إن هذه الحالة تدركه كلما وقف بين يدي ربه.

كان (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كثير العبادة يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، بحيث أن الإمام علي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الذي لقّب بالسجّاد وزين العابدين لكثرة عبادته وطول سجوده كان ينظر في صحيفة فيها ذكر لعبادة جده أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فإذا

ص: 33

تأمل بها أطال النظر ثم رماها ولم يتحمل ما فيها وهو يقول: أين عبادتي من عبادة جدي أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ). في معركة صفين وفي ليلة الهرير التي وصفت بأنها لا يسمع فيها إلا صوت الحديد على الحديد كأصوات الرعد في السماء، وإذا هو قائم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يصلي، فقال له مالك الأشتر: أهذا وقت صلاة يا سيدي؟ قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): وهل قاتلناهم إلا من أجل الصلاة؟.ويكفيك أن تقوم برحلة بين دعاء الصباح والمناجاة الشعبانية ودعاء كميل، وتسرح نظرك في نهج البلاغة لتخرج بحصيلة وافرة من المعرفة بالله سبحانه:

(فَلَئِنْ صَيَّرْتَنى لِلْعُقُوباتِ مَعَ أَعْدائِكَ، وَجَمَعْتَ بَيْني وَبَيْنَ أهل بَلائِكَ، وَفَرَّقْتَ بَيْني وَبَيْنَ أَحِبّائِكَ وَأَوْليائِكَ، فَهَبْني يا إِلهي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ وَرَبّي صَبَرْتُ عَلى عَذابِكَ فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَلى فِراقِكَ، وَهَبْني صَبَرْتُ عَلى حَرِّ نارِكَ فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ إلى كَرامَتِكَ، أَمْ كَيْفَ أَسْكُنُ فِي النّارِ وَرَجائي عَفْوُكَ).

(لا إِلهَ إلاّ أَنْتَ، سُبْحانَكَ اللّ_هُمَّ وَبِحَمْدِكَ، مَنْ ذا يَعْرِفُ قَدْرَكَ فَلا يَخافُكَ، وَمَن ذا يَعْلَمُ ما أَنْتَ فَلا يَهابُكَ).

(إِلهي إِنْ حَرَمْتَني فَمَنْ ذَا الَّذي يَرْزُقُني، وَإِنْ خَذَلْتَني فَمَنْ ذَا الَّذي يَنْصُرُني ... إِلهي إِنْ أَخَذْتَني بِجُرْمي أَخَذْتُكَ بِعَفْوِكَ، وَإِنْ أَخَذْتَني بِذُنُوبي أَخَذْتُكَ بِمَغْفِرَتِكَ، وَإِنْ أَدْخَلْتَني النّارَ أَعْلَمْتُ أَهْلَها أَنّي أُحِبُّكَ، إِلهي إِنْ كانَ صَغُرَ في جَنْبِ طاعَتِكَ عَمَلي، فَقَدْ كَبُرَ في جَنْبِ رَجائِكَ أَمَلي).

لقد رسمت هذه المعرفة المتكاملة بالله سبحانه فلسفته في الحياة، وحددّت ملامح شخصيته والتي منها:

1-الزهد في الدنيا وعدم الاغترار بزخارفها؛ لأنه يعلم أنها فانية ولا تستحق شيئاً

ص: 34

بإزاء ما أعدّ الله سبحانه في دار الكرامة لمن أعرض عنها، وفي الحديث (لو أن الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء)(1)، وكان هذا الإعراض عن الدنيا شرطاً لتشريفهم بهذا المقام الرفيع، ففي دعاء الندبة: (إِذِ اخْتَرْتَ لَهُمْ جَزيلَ ما عِنْدَكَ مِنَ النَّعيمِ الْمُقيمِ الَّذي لا زَوالَ لَهُ وَلاَ اضْمِحْلالَ، بَعْدَ أَنْ شَرَطْتَ عَلَيْهِمُ الزُّهْدَ في دَرَجاتِ هذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ وَزُخْرُفِها وَزِبْرِجِها، فَشَرَطُوا لَكَ ذلِكَ، وَعَلِمْتَ مِنْهُمُ الْوَفاءَ بِهِ فَقَبِلْتَهُمْ وَقَرَّبْتَهُمْ، وَقَدَّمْتَ لَهُمُ الذِّكْرَ الْعَلِيَّ وَالثَّناءَ الْجَلِيَ، وَأَهْبَطْتَ عَلَيْهِمْ مَلائِكَتَكَ وَكَرَّمْتَهُمْ بِوَحْيِكَ، وَرَفَدْتَهُمْ بِعِلْمِكَ، وَجَعَلْتَهُمُ الذَّريعَةَ إِلَيْكَ وَالْوَسيلَةَ إلى رِضْوانِكَ).يخاطب الدنيا (يا دنيا غرّي غيري، طلقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك)(2)، يدخل بيت المال فيوزع كل ما فيه ويصلي فيه ركعتين، ويخرج ويقول ما مضمونه: والله ما كنزت من دنياكم، ولا أعددّت لبالي ثوبي طمراً(3)، ولو خرجت منكم بغير الرداء الذي جئتكم به من المدينة لكنت خائناً. رقّع مدرعته حتى استحيا من راقعها(4)، وكيف يغتر بالدنيا وترنوا عينه إليها أو يطمع في شيء من حطامها وبين يديه قوله تعال: [وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ

ص: 35


1- بحار الأنوار:43/ 20.
2- نهج البلاغة: 4/ 17 من كلماته وحكمه (عليه السلام).
3- نهج البلاغة: 3/ 70، من كتاب له (عليه السلام) إلى عامله على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري يزهده في الدنيا.
4- نهج البلاغة: 2/ 60، خطبة 160.

بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ، وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ، وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ] (الزخرف:33-35) بل إن ابن أبي طالب لا يرضى بالآخرة ثمناً. يقول بعض أهل المعرفة: (إن الدنيا حرام على أهل الآخرة، والآخرة حرام على أهل الدنيا، والدنيا والآخرة حرامان على أهل الله)(1) وعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من أهل الله، فهل تتوقع أن تشغله لذّات الآخرة من لحم طير وحور عين فضلاً عن لذات الدنيا عن [رِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] (التوبة:72)؟ ومن الوضوح الذي لا يحتاج إلى بيان أن الدنيا التي أعرض عنها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إنما هي الدنيا المحللة لا المحرمة، فإن ترك المحرمات أول مراتب العصمة التي هي من شروط إمامتهم.2-الشجاعة كان (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول: والله لو تظاهرت العرب على قتالي ما وليت عنها مدبراً، ولماذا يُدْبر؟ ومم يخاف؟ وهل الخوف إلا نتيجة الحرص على هذه الدنيا والاهتمام بعلائقها؟ فإذا قطعها (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولم تبقَ له رابطة وعلقة بها، بل همه كله في الله سبحانه، فلماذا يخاف؟ اسمعه يقول: (إن ألف ضربة بالسيف أهون على علي بن أبي طالب من ميتة على الفراش)(2) ويقول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إن ابن أبي طالب ليستأنس بالموت استئناس الطفل بمحالب أمه)(3) وشجاعته وثباته أصبح مثلاً ورمزاً لكل بطولة، قيل له

ص: 36


1- عوالي اللئالي: 4/ 119.
2- بحار الأنوار:32/ 61.
3- بحار الأنوار:29/ 141.

(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): إذا حمي الوطيس وحالت الخيل والرجال بيننا وبينك فأين نجدك؟ قال: حيث تركتموني. وكان الأعداء قبل الأصدقاء يعلمون منه هذه الصفة، ففي معركة صفين حمل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) متنكراً فظهرت منه العجائب، فاختلف قوم معاوية أنه علي أم هو مالك الأشتر، فأمر معاوية الجيش أن يحمل حملة رجل واحد عليه، فلم يتزلزل عن موقفه، فقال معاوية: إنه علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وإن مالك وغير مالك أقلّ من أن يثبتوا في مثل هذا الموقف. ولا زالت كلمته ترنّ حينما خُضّب بدمه في المحراب في مسجد الكوفة (فزت ورب الكعبة).3-الثبات على الحق والإرادة الصلبة، فلا تأخذه في الله لومة لائم، وعدم المداهنة والمجاملة على حساب الحق، وهي أمور طبيعية عند من يعيش الأهداف السامية التي ترتفع عن حضيض الماديات. قيل له: لو أبقيت معاوية أياماً حتى تستتب لك الأمور، قال: هيهات، لا أطلب الحق بالجور، والله لا أبيت ليلة ومعاوية يلي أمور المسلمين. وعندما انعقد اجتماع الستة أهل الشورى وانقسموا نصفين، وكان الترجيح بيد عبد الرحمن بن عوف، فقال لعلي: امدد يدك أبايعك على أن تعمل بكتاب الله وسنة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتسير بسيرة الشيخين(1)، قال: أما العمل بكتاب الله وسنة رسوله فنعم، وأما سيرة الشيخين فلا. فصفّق على يد الآخر الذي استجاب لما يريد، ولو كان علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مثلهم يعيش للدنيا لكان مستعداً لأن يعطيهم ما

ص: 37


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1/ 193.

يريدون لينال ما يريد. جاءه أخوه عقيل يوماً طالباً زيادة عطائه، فإنه كثير العيال، فأحمى له حديدة ورماها إليه، فظنها عقيل صرة مال، فرمى بنفسه عليها فاكتوى بحرّها، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ، وَتَجُرُّنِي إلى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ)(1).4-الرحمة والرأفة بالمؤمنين ومشاركته لهم في آلامهم، كان يتألم لعوائل الشهداء في صفين ويبكي لبكائهم، وإليه ينسب القول(2):

ما إن تأوهت من شيء رزئت به *** كما تأوهت للأيتام في الصغرِ

قد مات والدهم من كان يكفلهم *** في النائبات وفي الأسفار والحضرِ

ونقل عنه أنه مرّ على دار سمع منه بكاء طفل، فسأل عن ذويه فقالت أمه أنها مشغولة بالطحن فسأل عن أبيه قالت استشهد في صفين فبكى ومسح على رأس اليتيم وقال لأمه أما أن تسكتيه وأطحن أو بالعكس.

وهو القائل: (أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ(3)، وَلاَ أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ) (هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ، وَيَقُودَنِي جَشَعِي إلى تَخَيُّرِ الأَطْعِمَةِ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوِ الْيَمَامَةِ مَنْ لاَ طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ، وَلاَ عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ)(4). وصفه عدي بن حاتم الطائي لمعاوية بأنه كان

ص: 38


1- نهج البلاغة: 2/ 217.
2- بحار الأنوار: 33/ 47.
3- وهذا معنى يجب تطبيقه على جميع المستويات فنقول أأقنع أن يقال لي حجة الإسلام والمسلمين أو سماحة آية الله ... .
4- من كتابه المتقدم إلى عثمان بن حنيف.

فينا كأحدنا.5-اهتمامه بالموعظة وما يرقق القلب، كالمسح على رأس اليتيم وتلاوة القرآن وذكر الموت، فقد سمع من حبيبه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يوماً أن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد، قيل: وما جلاؤها يا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)؟ قال: ذكر الموت وتلاوة القرآن، فتراه يوصي ولده الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (أَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ، وَأَمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ)(1).

اعترضت أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) معضلة، فقالوا: نبعث لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ليحلّها لنا، فقال الثاني: لا، بل نحن نقصده؛ لأنه معدن العلم وأهل بيت الوحي، فبحثوا عنه فإذا به يغرس في بستان وهو يرتل القرآن، حتى إذا وصل إلى قوله تعالى: [أَيَحسَبُ الإنسَانُ أنْ يُترَكَ سُدَىً] إلى آخر الآيات من سورة القيامة، وعيونه تذرف من الدموع(2).

6-التواضع وعدم الاغترار بالمنصب والجاه، فهو هو قبل المنصب وبعده، وهو رئيس دولة مترامية الأطراف لم تزينه الخلافة بل هو زانها، وإذا حق للخلافة أن تفخر فبعلي بن أبي طالب. كان يسير يوماً على دابته فالتفت، وإذا بقوم يسيرون خلفه، فنهرهم وقال: ما هذا؟ قالوا: شيء نفعله في كبرائنا وسادتنا لتعظيمهم. فقال: في هذا عزّةٌ للراكب وذلة للماشي، وهما أمران مرفوضان وخصلتان مذمومتان. وفي الحديث: (إنما أهلك الذي من قبلكم خفق النعال من ورائهم، وان أخوف ما أخاف عليكم

ص: 39


1- بحار الأنوار:/74/ 217 وتجدها في نهج البلاغة: ج3 في ما كتبه إلى ولده الحسن (عليه السلام) منصرفاً من حاضرين في طريق صفين.
2- نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: 3/ 271.

خفق النعال من ورائكم) فإن حب الجاه من أشد الأمراض القلبية، ويحتاج إلى مجاهدة عظيمة، لذا ورد في الحديث: آخر ما ينزع من قلوب الصديقين (حب الجاه).7-الصبر والجلد في مواجهة الصعاب ما دام أن ذلك في سبيل الله وبعين الله، وأعتقد أن من يمر بحياة أمير المؤمنين يجد من الشواهد الكثير على ذلك، ولا عجب فإن البلاء على قدر إيمان المرء كما في الحديث، لذا كان أكثر الناس بلاءً أكملهم.

بدأ حياة النصب والكفاح والمصاعب منذ نعومة أظفاره حين كان يتحمل مع ابن عمه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أذى قريش في بداية الدعوة، ثم حوصر معه في شعب أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مروراً بمصاعب الهجرة والمبيت على الفراش ومعارك الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إذ [بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ](آل عمران: 152-153) [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ](التوبة:25).

وبعد وفاة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ويوم الهجوم على الدار، وتلك كانت المحنة الكبرى على قلبه حين عجزت السماوات والأرض عن تحمل الموقف، وهو يرى القوم يعتدون على ابنة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ويقودون حجة الله بحمائل سيفه، ثم ابتزازه حقه خمساً وعشرين سنة، ثم الرجوع إليه بعد أن تغيرت الدنيا ومن فيها وتنكر له الأصحاب ونابذوه الحرب، واستشهد وهو يتجرع غصص

ص: 40

المصائب، فقد انهار جيشه واستفحل أمر معاوية حتى كانت تصل غاراته إلى ضواحي الكوفة فلا يتصدى له أصحابه، فيدعوهم إلى الدفاع عن حرمات الإسلام فلا يجد مصغياً، ويقول: (وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى المَرْأَةِ المُسْلِمَةِ، وَالْأُخْرَى المُعَاهَدَةِ، فيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَقُلْبَهَا وَقَلاَئِدَهَا، وَرِعَاثَهَا، ما تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاَّ بِالاسْتِرْجَاعِ وَالاسْتِرْحَامِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ، مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ، وَلاَ أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ، فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِن بَعْدِ هَذا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً)(1) لشدة هذه المآسي التي توجع القلوب وتدميها، فكان في نهاية حياته يصعد على المنبر وينعى أصحابه الأوفياء عمار وابن التيّهان وذا الشهادتين ويبكي ويتمنى الموت، ويقول: متى يبعث أشقاها؟ هكذا تجرع الغصص والآلام، وكلها كانت ثمناً يدفعه لكي يعيش لله.8-الحفاظ على مصلحة الإسلام وحفظ كيان المسلمين ووحدتهم، فرغم أن القوم غصبوا حقه إلا أنه لما علم أن بقاء الإسلام منوط بسكوته عن حقه سكت ولم يبخل عليهم بالنصيحة ولا تركهم في جهلهم يعمهون، بل كان يقيل عثرتهم ويصحّح خطأهم ويوجههم ويرشدهم ويفهمهم الصواب، وكان يمكنه ألاّ يتجاوب معهم ليكشف زيفهم وقصورهم وتقصيرهم، لكن ذلك يكون على حساب الإسلام، فتجاوز كل هذه الأنانيات وعمل مخلصاً لله.

فما أحرانا ونحن ننتسب إليه ونجاوره ونتكلم باسمه ونتقمص دوره أن نهتدي بهداه ونسير مسيرته؛ ليحشرنا الله تعالى في شيعته [أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ] (المؤمنون:111).

ص: 41


1- نهج البلاغة: 1/ 69 خطبة 27.

أم المؤمنين خديجة بنت خويلد قدوة الزوجات الرساليات

أم المؤمنين خديجة بنت خويلد قدوة الزوجات الرساليات(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي منّ علينا بنعمة الإسلام، والهداية إلى الإيمان وولاية أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ). هذه – أي الإيمان وولاية أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) - كلها نعم قلّما يُلتفتْ إليها. فالناس تعرف من معنى النعمة المال والبنين والجاه، أمّا هذه النعم التي هي أعظم النعم لا يلتفت إليها، لذلك هذا الشخص الذي يأتي إلى الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ويقول له: ليس عندي أي شيء، فيقول له الإمام: عندكم أكثر مما في السماوات والأرض، فقال: كيف ذلك يا ابن رسول الله؟ قال الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): عندك ولايتنا أهل البيت، لو أعطيت ما في السموات والأرض هل تتخلى عنها؟ قال: لا، يا ابن رسول الله، قال الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): إذن لديك شيء أكبر من السماوات والأرض.. فهذه نعمٌ قلّما يلتفت إليها – وما كنا نهتدي لولا أن هدانا الله، وصلّى الله على الأدلاّء على طاعته والهداة إلى سبيله والقائمين بأمره، والوسيلة إلى رضوانه، وأبواب رحمته، محمد وآل بيته الطيبين الطاهرين.

لا بد لأي رسالة لكي تستمر في الوجود وتحافظ على نفسها، ومنها رسالة الإسلام – ولك أن تطبقها على أية رسالة... المذهب كرسالة، أو أنتم كحوزة أيضاً عندكم رسالة تطبقونها، لكني أخص في الذكر رسالة الإسلام – إلى عدة

ص: 42


1- ألقيت بمناسبة ميلاد الزهراء (عليها السلام) في 20 جمادي الثانية 1422 ه_ الموافق 9/9/ 2001م.

مقومات أستطيع تصنيفها إلى: عوامل ذاتية وموضوعية، فأما الذاتية فهي ترجع إلى:أ .ذات الرسالة من حيث المحتوى والمضمون.

ب .ذات حاملها وما يمتلك من مؤهلات وقابليات وملكات.

وأعني بالعوامل الموضوعية، العوامل الخارجية المحيطة بالرسالة، ورسالة الإسلام اكتملت فيها هذه المقومات، فمن الناحية الذاتية ذات الرسالة شريعة إلهية نزلت من خالق السماوات والأرض، وذات حاملها أكمل مخلوق وأشرف مخلوق، ولا أريد هنا التحدث عن هذه الناحية (العوامل الذاتية) فلها مناسبة أخرى، وأما العوامل الموضوعية الخارجية فهي ثلاثة:

أولاً: القوة التي تدافع عن الرسالة وحاملها، وقد تمثلت بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

ثانياً: العنوان الاجتماعي الكبير الذي يمثل الغطاء والحصانة الاجتماعية لحامل الرسالة فيحميه من الأخطار، وقد تمثل بأبي طالب عم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقد أشار الشاعر إلى هذين العاملين فقال:

فلولا أبو طالب وابنه *** لما مثل الدين شخصاً فقاما

فذاك بمكة آوى وحاما *** وهذا بيثرب لاقى الحماما

وهذان الركنان يفتقدهما جملة من الأنبياء كما عبر القرآن، مثلاً عن نبي الله لوط (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال: [لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ](هود:80) فالقوة هو علي بن أبي طالب(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، والركن الشديد أبو طالب(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لو طبقناهما على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فنبي الله لوط (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لم يكن يمتلك هذين

ص: 43

المقومين.ثالثا: المال الذي وفره ثراء أم المؤمنين خديجة ومالها الكثير الذي كرسته لإنجاح دعوة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

وأنا بهذه المناسبة – العشرين من جمادي الثاني- التي تصادف ميلاد الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) أودّ الحديث عن الوالدة خديجة الكبرى، وأكون بذلك قد أعدت ذكرى هذه المرأة الجليلة التي أطأطئ رأسي كلما ذكرتها هيبة وإجلالاً لعلو مقامها، ويكفي دليلاً على ذلك –الدليل على علو قدرها- أن الإمام المعصوم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يفتخر بالانتساب إليها، ففي زيارة وارث التي هي مروية عن إمام معصوم يزور بها إماماً معصوماً فيعظمه، بقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (السلام عليك يا بن خديجة الكبرى)، فما هي منزلة خديجة الكبرى حتى يفخر الإمام (سلام الله عليه) بالانتساب إليها.

وبهذا الحديث عن أم المؤمنين خديجة الكبرى نكون قد أدخلنا السرور على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الذي أحب خديجة بصدق وإخلاص، وبقي وفياً لذكراها طول حياته وبعد وفاتها بسنين كثيرة، فقد روى ابن حجر في الإصابة عن عائشة قولها: كان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إذا ذبح الشاة - وهذا الكلام في المدينة بعد وفاتها بسنين طويلة، لأنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) دخل بعائشة في المدينة – يقول: أرسلوا إلى أصدقاء خديجة إني لأحب حبيبها.

وروي عن أنس قال: كان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) اذا أتي بهدية قال : قال اذهبوا بها الى بيت فلانه فإنها كانت صديقة لخديجة، انها كانت تحب

ص: 44

خديجة(1) .وفي كشف الغمة عن عائشة : كان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) اذا ذكر خديجة لم يسأم من الثناء عليها والاستغفار لها، فذكرها ذات يوم فحملتني الغيرة، فقلت : لقد عوّضك الله من كبيرة السن . قالت : فرأيته غضب غضباً شديداً(2) .

وروي ان عجوزا دخلت على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فألطفها، فلما خرجت سألته عائشة فقال : (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إِنَّهَا كَانَتْ تَأْتِينَا زَمَانَ خَدِيجَةَ ، وَإِنَّ حُسْنَ الْعَهْدِ مِنَ الْإِيمَانِ.

وندخل السرور على ابنتها الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) فإنها تسر بذكر أمها بقدر حزنها عليها حين توفيت، فقد روي أن الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) كادت أن تهلك نفسها من البكاء وهي يومئذ بنت خمس سنين، وجعلت تلوذ بأبيها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتدور حوله وتقول له: أبَ أين أمي، حتى هبط الأمين جبرائيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقرأ فاطمة السلام من الله تعالى ويخبره بمكان أمها في الجنان، فمن هي خديجة؟.

هي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وبنو أسد بطن من بطون قريش، منهم العوام بن خويلد والد الزبير، فخديجة عمة الزبير بن العوام، وهو ابن عمة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) صفية بن عبد المطلب.

كانت خديجة في الجاهلية تدعى بالطاهرة؛ لأنها لم تدنس نفسها

ص: 45


1- سفينة البحار:2/ 570 عن بحار الانوار :16/ 12.
2- سفينة البحار:2/ 570 عن بحار الانوار :16/ 12.

بما كانت تفعله نساء قومها من سلوكيات الجاهلية المنحرفة، حتى سيدات قريش كانت تخوض في تلك الأعمال لذا عُيّر عدد من رجال قريش بأمهاتهم، فأحدهم يقال له ابن النابغة، والآخر يقال له ابن الزرقاء والثالث يقال له ابن صهاك والرابع يقال له ابن آكلة الأكباد – هكذا كانت أمهات هؤلاء، روى الطبرسي: انه لما كان يوم فتح مكة جاءت النساء يبايعن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ونزلت {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ} [الممتحنة : 12] فقالت هند: ان ابا سفيان رجل ممسك واني اصبت من ماله هنات فلا أدري أيحلّ لي ام لا ؟ فقال ابو سفيان ما اصبت من مالي فيما مضى وفيما غبر فهو لك حّلال، فضحك رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعرفها فقال لها : وانك لهند بنت عتبة قالت : نعم فاعف عما سلف يا نبي الله عفى الله عنك، فقال : (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (ولايزنين) قالت: او تزني الحرة؟ فتبسم ابن الخطاب لما جرى بينه وبينها في الجاهلية(1) ،– أما خديجة فكانت عفيفة نقية طاهرة جليلة القدر في الجاهلية قبل الإسلام، وهذا أول درس نستفيده من هذه المرأة العظيمة بأن لا ينصاع الإنسان للأعراف والتقاليد والتصرفات المنحرفة التي تسود المجتمع انطلاقاً من كلمتهم المشهورة (حشر مع الناس عيد).وانما يبقى متميزاً يُشار اليه بالاستقامة والعفاف والصلاح.وهذا الوصف – أي الطاهرة- ينسجم مع عقيدتنا نحن الإمامية بأن

ص: 46


1- بحار الانوار: 21/ 98

سلسلة آباء وأمهات رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والمعصومين كلهم مؤمنون موحدون إلى آدم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وقد ورد في زيارة وارث: (أَشْهَدُ أَنَّكَ كُنْتَ نُوراً فِي الأَْصْلابِ الشّامِخَةِ، وَالأَرْحامِ الْمُطَهَّرَةِ، لَمْ تُنَجِّسْكَ الْجاهِلِيَّةُ بِأَنْجاسِها، وَلَمْ تُلْبِسْكَ مِنْ مُدْلَهِمّاتِ ثِيابِها) وقال الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في خطبته المعروفة في مجلس يزيد (لعنة الله عليه): (أنا ابن نقيات الجيوب، أنا ابن عديمات العيوب)، وأوضح مصداق لهذه الأمهات هي الزهراء وخديجة (عَلَيْهِما السَّلاَمُ).وخطبها الكثير من أشراف قريش لمالها وجمالها وجلالة شأنها قبل تزوجها من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فرفضت، حتى رغبت في رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بعدما سمعت من غلامها ميسرة مما شاهده من علامات النبوة قبل البعثة ومما سمعته من بحيراء الراهب في حقه لمّا سافر معه ميسرة في تجارة خديجة، وكان عمره الشريف حين زواجه منها خمسة وعشرين سنة وهي في الأربعين، لتعطينا درساً آخر هو أن المرأة مهما تمتلك من مقومات الجمال والمال والكمال إذا جاءها من هو كفءٌ من حيث العقل والدين فلا ترفضه لأجل فقره أو أي اعتبار آخر، فقد كان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يتيماً وليس موسراً، وهي ثرية ذات تجارات واسعة في مصر والحبشة والشام وغيرها، ويخرج الرجال للانتفاع بأموالها ولها عدد كبير من الجِمال.

وقد ذكرت قصة زواجه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بها من البداية وقصة سفره للتجارة بأموال خديجة وما رافقه من المعجزات في بعض المصادر، وقد

ص: 47

عارض هذا الزواج عدد من أهل المقاييس الدنيوية كما هو الحال اليوم، وعاشت معه حياة زوجية سعيدة. ظلّ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يحن إليها ولم تعوضه عنها أية زوجة من زوجاته اللاحقة، حتى أن إحداهن قالت: كان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة – وهذا الكلام في المدينة بعد وفاتها بسنين - فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوماً من الأيام فأخذتني الغيرة فقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر قد أبدلك الله خيراً منها. فغضب ثم قال: لا والله، ما أبدلني الله خيراً منها، آمنتْ بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء(1) .

وكانت متفهمة لسلوك زوجها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والتربية التي يمر بها استعداداً لحمل الأمانة الكبيرة، فقد حُبب إليه الخلاء في غار حراء قبل البعثة بسنين، فكانت ترعاه وتمده – وهكذا ينبغي لزوجات الرساليين أن يكنَّ متفهمات لمسؤوليات أزواجهنّ وراضيات بها ومتعاونات معهم – حتى بُعث بالنبوة في الأربعين من عمره، فكانت أول من آمن به، ولم تكن تحتاج إلى برهان ودليل على صدقه؛ لأنها كانت ترى اجتماع أوصاف النبي المنتظر فيه، بل أستطيع القول أنها تزوجته بعد أن توسمت فيه ذلك، فرَجَتْ أن تنال هذا الشرف العظيم، فشاء الله تعالى

ص: 48


1- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: 9/ 224 وغيرها من المصادر على تقارب بالألفاظ.

لها هذه المنزلة الرفيعة، فزواجها منه كان مبنياً على هذا الهدف العظيم، لا كما يصوره بعضهم من أنه ناشئ عن علاقة حب قبل الزواج ليبرر به العلاقات غير المشروعة والاختلاط غير الشريف.ولم يكن مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) طوال سنين بعد النبوة إلا هي وأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كما سجله الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في بعض كلماته في نهج البلاغة، ففي كلمته التي يصف فيها موقعه من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلى أن قال (وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لي فِي كُلِّ يَوْمٍ عَلَماً مِنْ أخْلاقِهِ، وَيَأْمُرُني بِالإِقْتِدَاءِ بِهِ. وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَة بِحِرَاءََ فَأَرَاهُ، وَلاَ يَرَاهُ غَيْرِي، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإسلام غَيْرَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ- وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ.)(1)، وهكذا بدأ الإسلام بهؤلاء الثلاثة.

وجاء وصفها (سلام الله عليها) بالمباركة فيما اوحي الى المسيح بن مريم في وصف النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (نسلُه من مباركة، وهي ضرّةُ امك في الجنة)(2) وان منزلتها في الجنة مع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على الاعراف .

وكانت امرأة عاقلة حكيمة، فحينما خوطب (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالرسالة وغشي عليه هيبة لكلام الله تعالى بادر إلى عند خديجة يقول لها: زمّلوني زمّلوني وهو مثقل بحمل هذه الأمانة العظيمة، فأقبلت خديجة (رضي

ص: 49


1- نهج البلاغة 2/ 157.
2- سفينة البحار : 2/ 571 عن بحار الانوار : 21/ 352

الله عنها) تعينه على أمره وتقول: كلا والله، لا يخزيك الله أبداً، إنك لَتَصِل الرحم... إلى آخر كلامها، وقالت له (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): أبشر يا بن عمّ واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة، وكانت قد اطلعت على العلامات التي تسبق ظهور النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وأنّ زمانه قد حان، وسمعت ذلك من ابن عمّها ورقة بن نوفل ومن بعض الأحبار والرهبان، وكانت تتوقع ذلك في محمد بن عبد الله، بل إنها تزوجته لمّا تفرست فيه من كمالات تؤهله لأن يكون هو نبي آخر الزمان فتحققت فراستها.وكان الروح الامين جبرائيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)يبلغ سلام رب العزة والجلال على خديجة، ففي رواية تعليم جبرائيل لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كيفية الوضوء والصلاة وعلّمها لخديجة ففعلت كما فعل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وكان جبرائيل يقرأ خديجة السلام من ربها فيقول لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): اقرأ خديجة السلام من ربّها، فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): يا خديجة، هذا جبرائيل يقرئك السلام من ربك، فقالت خديجة: الله السلام ومنه السلام وعلى جبرائيل السلام.

وفي تفسير العياشي: ان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: ان جبرئيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال لي ليلة اسري بي حين رجعت وقلت يا جبرئيل هل لك من حاجة، قال : حاجتي أن تقرأ على خديجة من الله ومني السلام(1)

ووقفت إلى جنب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تخفف عنه آلام الرسالة

ص: 50


1- سفينة البحار : 2/ 567

وأعباءها وتُشد من أزره وتسمعه كل كلام طيب وتفرج كربه، وكانت (رضي الله عنها) لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عوناً كبيراً – وهنا ملاحظة ننبه عليها وهي ضرورية - فإن أشد ما يحتاجه حامل الرسالة مقابل ما يتعرض له من مصاعب ومحن هو البيت الهادئ والصدر الحنون والواسع، وعلى العكس فإن أصعب من كل ما يواجه في الخارج هو البيت المشاكس، لذلك نجد أن أشد تهديد في القرآن لم يوجه إلى المشركين – رغم أنهم نصبوا الحرب لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) - ولا إلى الكفار ولا إلى اليهود ولا إلى إبليس ولا إلى المنافقين، وإنما وجه إلى داخل البيت الذي كان ينغص على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حياته فقال تعالى: [وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فإن اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ](التحريم:4) – فإنه تعالى لم يهدد أحداً بهذا التهديد، فغاية ما أعد للمشركين أنه نزل عليهم ثلاثة آلاف من الملائكة مسوّمين، أما إبليس فقال عنه: [إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً](النساء:76)، مما يدل على خطورة التنغيص من داخل البيت(1)، فمن هنا نعرف أهمية دور خديجة في احتضان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهو يواجه تلك المصاعب في أول بعثته -.وهذا الدرس أريد أن تستفيده نساء العاملين الرساليين من علماء وفضلاء وخطباء ومؤمنين واعين، فيكنّ لهم كما كانت خديجة رضوان

ص: 51


1- راجع كتاب (رفقاً بالرجال يا قوارير).

الله عليها لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، لا كاللواتي نزل فيهنّ هذا التهديد الشديد بسبب نظرتهن المادية الضعيفة للحياة الزوجية.وفي السنة الخامسة من البعثة ولدت فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ)، وقد تضمنت ولادتها الكثير من الآيات والمعجزات مما لا مجال لذكرها الآن – إحداهن أنها كانت مقاطعة من قبل نساء قومها، والمرأة أثناء الولادة تحتاج إلى امرأة أخرى تلي أمر الولادة منها، ففي الرواية أنه نزلت نسوة من السماء تلي أمر الولادة فسألتهن خديجة عمن يكنّ، فعرفن أنفسهن بأنهن مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم.

وأيضاً من المعجزات قضية تحديث الزهراء لأمها وهي حمل في بطن أمها، فقالت: يا رسول الله، إن هذا الحمل الذي في بطني يكلمني، فبشرها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنها ستكون منها ذريتي، وأنها امرأة طاهرة، فلذا كانت تسمي الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) بالمحدِّّثة والمُحَدَّثة بالكسر والفتح.

وهنا أود الإشارة إلى فائدة مزدوجة:-

الأولى: أن عمر خديجة حين ولادتها للزهراء كان ستين سنة (تزوجها الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهي في الأربعين فلما بلغ البعثة وكان عمره أربعين أصبح عمرها ستون سنة) وهو عمر غير مناسب عادة للحمل والإنجاب، فيكون أصل حملها بالزهراء معجزة خلاف القوانين الطبيعية، وهذه النكتة لم تسجل في الكتب، ومنها ننتقل إلى فائدة أخرى.

ص: 52

الثانية: اشتهر بين الفقهاء أن سن اليأس للمرأة هو خمسون عاماً إلا القرشية فأنه ستون وقد اعترفوا رغم شهرة الحكم أنه لا دليل عليه (أنقل لكم نصاً من شرح اللمعة للشهيد الثاني، قال الشهيد الثاني في شرح اللمعة: والحكم مشهور ومستنده غير معلوم، واعترف المصنف (الشهيد الأول) بعدم وقوفه فيها على نص). فأقول: لعل الأصل في هذا الحكم هو حمل خديجة – وهي قرشية كما نعلم- بفاطمة وهي في الستين من العمر.

وقد تحملت معه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ألوان الأذى وبذلت كل تلك الأموال الطائلة في نصرة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وحوصرت معه في شعب أبي طالب سنين عجاف اتفقت فيها قريش على مقاطعة بني هاشم ومن والاهم اقتصادياً واجتماعياً، فأجهدهم الجوع والعناء وهم يعانون هذه العزلة في شعاب الجبال، مما ينبئك أن هذا السلاح الخسيس يلجأ إليه أهل الباطل ليحققوا مآربهم الشيطانية في كل زمان ومكان، ولم يكن يصل إليهم الطعام إلا بشق الأنفس، وفي أحد الأيام لقي أبو جهل حكيم بن حزام بن خويلد ومعه غلام يحمل قمحاً يريد به عمته خديجة وهي عند رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومعه في الشعب فتعلق به وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة، فجاءه أبو البختري بن هشام بن الحارث بن أسد فقال: مالك وله؟ فقال: يحمل الطعام إلى بني هاشم، فقال أبو البختري: طعام كان لعمته عنده بعثت إليه فيه، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها؟ خلّ سبيل

ص: 53

الرجل، فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البختري لحى بعير فضربه به فشجّه ووطأه وطأ شديداً(1)، هذا والجميع مشركون.وبعد أن خرجوا من الشعب ومزقت صحيفة المقاطعة في حادثة معروفة توفيت هي وأبو طالب، وبينهما ثلاثة أيام في شهر رمضان من السنة العاشرة للبعثة، فهدّ موتها ركن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وسمّى ذاك العام بعام الحزن ودفنت بالحجون، ونزل النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حفرتها وتركت بعدها يتيمتها الزهراء (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهي بنت خمس سنين.

وردت في فضلها عدة أحاديث، ففي الخصال للصدوق عن ابن عباس قال: خط رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أربع خطط في الأرض وقال: أتدرون ما هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): أفضل نساء أهل الجنة أربع: خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون – وهذا الحديث مروي بطرق متعددة توجد في كتاب الاستيعاب لابن عبد البر المطبوع على هامش الإصابة لابن حجر –.

وفي الخصال أيضاً عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): إن أفضل زوجات رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) خديجة بنت خويلد ثم أم سلمة، وروي عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال: قام هذا الدين بمال خديجة وسيف علي بن أبي طالب.

ولما منّ الله تعالى بنصر نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على اليهود وغنم منهم فدك الأرض الزراعية الواسعة – كانت خالصةٌ لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأنها لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، والقرآن يقول ما دام لم

ص: 54


1- السيرة النبوية لابن هشام 2/ 5.

يوجف عليها بخيل ولا ركاب فهي تكون خالصة لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، ونزل قوله تعالى: [وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ](الإسراء:26) .وهنا تقول الرواية في الكافي عن الامام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حديث له مع المهدي العباسي :

إن الله تبارك وتعالى لما فتح على نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فدك وما والاها لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فأنزل الله على نبيه(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (وآت ذا القربى حقه) فلم يدرِ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من هم ، فراجع في ذلك جبرئيل ، وراجع جبرئيل ع رّبه ، فأوحى الله إليه: أن ادفع فدك إلى فاطمة، فدعاها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال لها : يافاطمة إن الله أمرني أن أدفع إليك فدك، فقالت : قد قبلت يا رسول الله من الله ومنك(1) وفُسر بانه كان عوضاً عما بذلته أمها خديجة من أموال في سبيل الإسلام، فكانت بيدها (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) في حياة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلى حين وفاته، فسلام عليها وعلى ابنتها وعلى ذريتها وعلى زوجها، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

ص: 55


1- الكافي 1/ 543 ح5 باب الفيئ والانفال وتفسير الخمس وفي عيون الاخبار من حديث الامام الرضا (عليه السلام) مع المأمون وغيرها من المصادر .

فاطمة بنت أسد مثال الإيمان والتضحية

فاطمة بنت أسد مثال الإيمان والتضحية(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله كما هو أهله وصلى على محمد وآله الطاهرين...

كما تحدثنا في ذكرى ولادة الزهراء (سلام الله عليها) عن الوالدة، كذلك في هذه المناسبة المباركة التي هي مولد أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) نذكر الوالدة العظيمة فاطمة بنت أسد بن هاشم، خصوصاً وإنه لم يعرف يوم وفاتها أو ولادتها حتى يحتفل بذكراها، فلنخصص جزءاً من الاحتفالات في هذا اليوم لها باعتباره يوماً من أيامها لما حصل لها في هذا اليوم من المنقبة والفضيلة.

وهاتان المرأتان أعني خديجة وفاطمة بنت أسد (عَلَيْهِما السَّلاَمُ) تشتركان في عدة نقاط:

الأولى: رعايتهما الواسعة لحامل الرسالة (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مما أوجب صدور كلمات رقيقة وجليلة منه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فيهما.

الثانية : طهارتها وتنزيهها من شرك الجاهلية و رذائلها الاخلاقية فكلاهما مقصودتان في شهادة الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لجده الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حينما وقف يزوره بالزيارة المعروفة ب((وارث)) وفيها يقول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أَشْهَدُ أَنَّكَ كُنْتَ نُوراً فِي الاَْصْلاَبِ الشَّامِخَةِ، وَالاَْرْحَامِ الْمُطَهَّرَةِ، لَم ْتُنَجِّسْكَ الْجَاهِلِيَّةُ

ص: 56


1- ألقيت على طلبة الحوزة الشريفة بمناسبة ميلاد أمير المؤمنين (عليه السلام) في 13/رجب / 1422ه_، الموافق 1/ 10/ 2001م.

بِأَنْجَاسِهَا، وَلَمْ تُلْبِسْكَ مِنْ مُدْلَهِمَّات ِثِيَابِهَا)وهما خديجة وفاطمة بنت اسد اصل من عناهما الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في خطبته في الشام امام يزيد الطاغية (أنا ابن عديمات العيوب انا ابن نقيات الجيوب)

الثالثة: تقصير المسلمين في معرفة هاتين المرأتين، وغاية ما يعرف عنهما اسمهما وبعض النتف البسيطة عن سيرتهما المباركة لا أكثر، فكتاب الإصابة المكرّس لسير الصحابة كتب أقل من نصف صفحة في سيرة فاطمة، بينما ملأ صفحات لغيرها ممن هنّ أقل شأناً منها ولا سابقة لهنّ في الإسلام. وكتاب الأعلام للزركلي الذي دوّن أسماء من هبّ ودب لم يذكر لها اسماً ولا حتى في المستدرك.

وإن كانت مظلومية فاطمة بنت أسد أكبر من خديجة، والجهل بها أكثر لذنب حُسب عليها، وهو أنها أم علي بن أبي طالب(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الذي حادّته قريش ونابذته وشتمته على المنابر سبعين عاماً، فكيف يمجّدون أمه، ويشاركها بهذا الذنب زوجها حامي النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وناصره أبو طالب بن عبد المطلب سيد الأبطح، الذي قالت فيه أخت عمرو بن عبد ود العامري فارس قريش بعد أن بلغها قتله، قالت: ومن الذي تجرأ على أخي وقتله؟ قيل لها: علي بن أبي طالب، فارتاحت عندئذ وسكنت وقالت أبيات من الشعر، نأخذ هذين البيتين محل الشاهد:

لو كان قاتل عمر غير قاتله *** لكنتُ أبكي عليه دائم الأبدِ

لكن قاتله من لا يعاب به *** قد كان يدعى أبوه بيضة البلدِ

ص: 57

ونحن حينما نعرض سيرة هاتين المرأتين (خديجة وفاطمة بنت أسد)، خصوصاً إذا لم نكتفِ بالسرد التاريخي وإنما نبين بعض الدروس والعبر المستفادة منهما، فإننا سنغني ثقافة المرأة المسلمة بالشيء الكثير، لأن مكتبة المرأة تبدو فقيرة بمعالم شخصية المرأة المسلمة كما يريدها الإسلام، فمن هي أم أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)؟.هي فاطمة بنت أسد بن هاشم وزوجها أبو طالب بن عبد المطلب بن هاشم، فأولادهما أول من ولد من هاشميين(1)، وهم أربعة، أكبرهم طالب ولم يعرف تاريخيا ولا عقب له(2) ثم عقيل ثم جعفر ثم علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وبين كل واحد وآخر عشر سنين(3)، فيكون أولهم (وهو طالب) أكبر من آخرهم (وهو علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)) بثلاثين سنة، وهو نفس الفرق في العمر بين رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمير المؤمنين علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فيكون رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالعمر بقدر طالب الابن الأكبر لأبي طالب(4).

ص: 58


1- بعض المصادر قالت أن علي بن أبي طالب هو أول من ولد من هاشميين والصحيح أن إخوته سبقوه بهذا اللقب لأنه أصغرهم والمهم أنه (عليه السلام) وإخوته سبقوا كل أحد بهذا العنوان، لذا لا بد من تأويل هذا الكلام الموجود في تهذيب الأحكام –والذي تجده في الكافي، كتاب الحجة باب مولد أمير المؤمنين (عليه السلام). ولعله أراد بالأول نسبة إلى غير أولاد أبي طالب فيكون: الكلام شاملاً له ولإخوته وليس بالنسبة إلى إخوته.
2- ممن ذكر ذلك ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة :1/ 16 وحكاه في بحار الانوار:35/ 8 عن الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ومناقب الخوارزمي
3- مقاتل الطالبيين ص3
4- هذا الحساب نحتاجه لأمر ما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وقد كانت مؤمنة بالله وموحدة له قبل الإسلام على دين أبيها إبراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وملته، وبذلك نعتقد نحن الإمامية، فإن سلسلة آباء وأمهات المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) كلهم إلى آدم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مؤمنون موحدون، فإنهم لم ينتقلوا إلى صلب مشرك ولا رحم مشركة قط.ويشهد لذلك ما ورد في حديث ولادتها لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) – وكان ذلك قبل البعثة طبعاً - عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: كان العباس بن عبد المطلب ويزيد بن قعنب جالسين ما بين فريق بني هاشم إلى فريق عبد العزى بأزاء بيت الله الحرام، إذ أتت فاطمة بنت أسد بن هاشم، وكانت حاملاً بأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لتسعة أشهر، وكان يوم التمام، فوقعت بأزاء بيت الله الحرام، وقد أخذها الطلق فرمت بطرفها نحو السماء وقالت: أي ربّ، إني مؤمنة بك وبما جاء من عندك وبكل نبي من أنبيائك وبكل كتاب أنزلته، وإني مصدقة بكلام جدي إبراهيم الخليل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فإنه بنى بيتك العتيق (وهذا شاهد على إيمانها في الجاهلية)، فأسألك بحق هذا البيت ومن بناه، وهذا المولود الذي في أحشائي الذي يكلمني ويؤنسني بحديثه وأنا موقنة أنه إحدى آياتك ودلائلك، لما يسرت عليّ ولادتي. قال العباس بن عبد المطلب ويزيد بن قعنب: فلما تكلمت فاطمة بنت أسد ودعت بهذا الدعاء رأينا البيت قد انفتح من ظهره ودخلت فاطمة فيه وغابت عن أبصارنا، ثم عادت الفتحة والتصقت.. إلى أن خرجت وبين يديها أمير المؤمنين علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وكانت طيلة مكثها في داخل الكعبة تأكل من ثمار الجنة وتشرب من أنهارها بحسب ما أفادته الروايات، في

ص: 59

ذلك يقول جدي الشيخ اليعقوبي(1):

قمر بدا مِن أُفُق مكّة يشرقُ *** فأضاءَ مغربها به والمشرقُ

وتهلّل البيت الحرامُ بطلعةٍ *** منها يلوحُ سنا الهدى يتألقُ

وضعته وسط البيت أمٌّ لم تزل *** تقتات من ثمر الجنان وتُرزقُ

ولعبد الباقي العمري (رحمه الله) في ميلاده (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):

أنت العلي الذي فوق العلى رُفعا *** ببطن مكة وسط البيت إذ وضعا

سمّتك أمك بنت الليث حيدرة *** أكرم بلبوة ليث أنجبت سبعا

وقد بقي أثر الشق شاهداً للأجيال على أثر هذه الفضيلة، وإن حاول الحساد إخفاءها بكسوة الكعبة وترميم الشق ونحوه لكي لا يسأل عنه من يراه فتنتشر هذه الفضيلة.

وهذا هو الإخفاء المادي، وهناك إخفاء بشكل آخر، إذ حاولوا أيضا نسبتها (الولادة في الكعبة) إلى غير علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فجاؤوا بإفك ينزه عنه بيت الله الحرام، فرووا عن مصعب بن عبد الله (وهؤلاء الزبيريون معروفون بحقدهم على أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ)) أن أم حكيم بن حزام (أحد الصحابة الذين أسلموا متأخراً)، وهي فاختة بنت زهير بن أسد بن عبد العزى كانت ولدت حكيماً في الكعبة وهي حامل، فضربها المخاض وهي في جوف الكعبة فولدت فيها، فحملت في نطع وغسل ما كان تحتها من الثياب عند حوض زمزم، ولم يولد قبله ولا بعده في الكعبة أحد.

ص: 60


1- نشرت في مجلة الإيمان التي كان يصدرها والدي الشيخ موسى اليعقوبي (رحمه الله) في النجف: العدد3 – 4 من السنة الأولى سنة 1964 ص192.

فالراوي الحاقد لم يكتفِ بالتزوير، وإنما أيضا ينفيها عن علي بن أبي طالب(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، ذكره الحاكم في المستدرك، وعلق عليه الحاكم قال: وهِم مصعب الراوي في الحرف الأخير، فقد تواترت الأخبار أن فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) في جوف الكعبة.وتجد في كتاب الغدير للأميني روايات هذه المنقبة ومصادرها المتواترة من كتب العامة والخاصة ومن خلدها في شعره.

وهذه المنقبة وإن كانت تذكر لوليد الكعبة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهو لها أهل – فهو (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولد في بيت الله الحرام واستشهد في بيت الله الحرام وسجل هذه الفضيلة كثير من الشعراء منهم المرحوم جدي الشيخ محمد علي اليعقوبي، إذ يقول:

بأول بيت جاء لله ساجداً *** وفاز بلقياه برابع مسجدِ

إلا أننا ينبغي أن لا نغفل الطرف الآخر بها – فالكرامة ليست فقط للمولود وإنما للوالدة أيضاً، هذا الذي جعلنا نذكر هذه المرأة في مثل هذه المناسبة – وهي الوالدة الطاهرة الكريمة – فإن الله سبحانه وتعالى أذن لها في أن تلد داخل الكعبة المشرفة - على الله تعالى جليلة القدر.

وممن سجل هذه اللفتة – ذكر الوالدة وليس فقط المولود - العلامة الجليل المرحوم السيد إسماعيل الشيرازي – ابن عم المرجع السيد الشيرازي الذي كان في سامراء صاحب فتوى التتن المشهورة ووالد المرحوم السيد الهادي الشيرازي أحد مراجع التقليد في النجف توفي سنة 1962م، في قصيدته الميلادية التي ألقاها في حفل مهيب بين يدي السيد المجدد العظيم الشيرازي

ص: 61

وجمع غفير من العلماء والأدباء في مدينة سامراء، عندما كانت يوم ذاك عاصمة العلم وكعبة الوفاد عندما انتقل إليها المجدد، وقد نقل إن السيد الشيرازي نفسه شغف بالقصيدة وأفتتن بها لما ألقيت، فقام وقعد واضعاً يديه على رأسه وهو يقول: إي والله ... إي والله، وأنا أذكر هنا بعض المقاطع منها لأحيي ذكرى هذه المرأة الجليلة ومولودها العظيم:

رغد العيش فزده رغدا *** بسلاف منك تشفي سقمي

آنست نفسي من الكعبة نور *** مثلما آنس موسى نار طور

يوم غشّى الملأ الأعلى سرور

شرع السمع نداء كندا *** شاطئ الوادي طوى من حرم

ولدت شمس الضحى بدر التمام *** فانجلت عنا دياجير الظلام

نادِ: يا بشراكمُ هذا غلام

وجهه فلقة بدرٍ يهتدى *** بسنا أنواره في الظلمِ

هذه فاطمة بنت أسد *** أقبلت تحملُ لاهوت الأبد

فاسجدوا ذلاً له فيمن سجد

فله الأملاكُ خرّت سجّدا *** إذ تجلّى نورهُ في آدمِ

هل درت أم العلى ما وضعت *** أم درت ثدي الهدى ما أرضعت

أم درت كف النهى ما رفعت

أم درى رب الحجى ما ولدا *** جلَّ معناه فلمّ_ا يعلمِ(1)

ص: 62


1- توجد القصيدة في مقدمة كتاب المكاسب التي كتبها السيد محمد كلانتر (رحمه الله) ج1/ 136 وما بعده.

هذه هي فاطمة بنت أسد، اختارها الله تبارك وتعالى لتحتضن وترعى أعظم رجلين في تاريخ البشرية بل سادة الخلق أجمعين، رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، كانت امرأة مؤمنة عارفة وعت علوم الأنبياء قبل الإسلام كزوجها أبي طالب، ففي الكافي عن عبد الله بن مسكان قال: قال أبو عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): إن فاطمة بنت أسد جاءت إلى أبي طالب تبشره بمولد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فقال لها أبو طالب: اصبري لي سبتاً (السبت ثلاثون سنة) آتيك بمثله إلا النبوة (1). وعن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال: لما ولد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فتح لآمنة بياض فارس وقصور الشام، فجاءت فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين إلى أبي طالب ضاحكة مستبشرة، فأعلمته ما قالت آمنة، فقال لها أبو طالب: وتتعجبين من هذا، إنك تحبلين وتلدين بوصيه ووزيره(2).

وهذا قبل ذلك بثلاثين عاماً، فهذه العلوم كانت موجودة قبل النبوة وكان الأحبار والرهبان يتداولون هذه الأخبار.

وكانت كثيرة العتق للعبيد حتى قبل البعثة فقد روي عن حكيم بن حزام قال: إنها أعتقت أربعين محرراً في الجاهلية، فسألت النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): هل لي فيهم أجر؟ - وهذا السؤال دليل على أن هذه المرأة تريد أن تكرس كل حياتها وكل أعمالها لطاعة الله – فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): أسلمت على ما سبق لك من الخير(3). وهذا

ص: 63


1- الكافي كتاب الحجة باب مولد أمير المؤمنين صلوات الله عليه: 1/ 452.
2- المصدر السابق: 1/ 454.
3- المعجم الكبير للطبراني: 3/ 190.

شاهد آخر على توحيدها وإيمانها قبل البعثة، لأن العتق لا يثاب عليه الشخص إلا إذا نواه قربة إلى الله تعالى، فاستحقاقها للأجر على عملها السابق يعني صدوره قربة إلى الله تعالى، فكانت هي وآمنة بنت وهب وأبو طالب وعبد الله والد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وجده عبد المطلب على دين إبراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وملته الحنيفية، لا ما يقوله الآخرون من أنهم كانوا مشركين وهو إسفاف بمقام النبي وآبائه.روي أنه نزل جبرئيل على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال: يا محمد، ربك يقرئك السلام ويقول لك: إني حرمت النار على صلبٍ أنزلك، وعلى بطن حملك وعلى حجر كفلك(1)، فأما الصلب الذي أنزلك فصلب عبد الله بن عبد المطلب، وأما البطن الذي حملك فآمنة بنت وهب، وأما الحجر الذي كفلك فعبد مناف أبن عبد المطلب وفاطمة بنت أسد.

بعد هذا كله لا نحتاج أن ندافع عن إيمان أبي طالب، أو أن نثبت أن فاطمة بنت أسد هي من السابقين للإسلام، وأنها الشخص الحادي عشر من السابقين للإسلام - كما يقول في مقاتل الطالبيين - فإنهم قد مُلئوا إيماناً قبل البعثة، فماذا تتوقع أن يكون موقفهم بعد أن صدع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالإسلام وأعلن دعوته المباركة؟

ومن حسنات فاطمة بنت أسد أنها دليل دامغ على إيمان أبي طالب، يلقي الحجة البالغة على كل من شكك في ذلك، وبه احتج أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حين سئل عن إسلام أبي طالب فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): وا عجباً، إن الله تعالى نهى رسول الله

ص: 64


1- الكافي:1/ 446.

(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن يقرّ مسلمة على نكاح كافر، وقد كانت فاطمة بنت أسد من السابقات إلى الإسلام، ولم تزل تحت أبي طالب حتى مات(1) – فلو كان أبو طالب مشركاً لفصل بينه وبين زوجته المؤمنة، فإبقاؤها عنده دليل إيمانه – ولم يكن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ممن يجامل، فقد فرّق بين زينب (ابنته أو ربيبته) وزوجها أبي العاص بن الربيع لأنه بقي على شركه.أنجبت فاطمة للإسلام ولله تبارك وتعالى ذرية طيبة نشرت كلمة الله تعالى وروت شجرة الإسلام بدمائهم، وأولهم ولدها المبارك أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وثانيهم أخوه جعفر الطيار شهيد مؤتة، واستشهد ولداه محمد وعون في معارك الإسلام الخالدة التي أعقبت وفاة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وولدها الآخر وهو عقيل والد سفير الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مسلم بن عقيل.

وقد ارتبط اسم فاطمة بنت أسد بمعركة الطف، فإن جميع شهداء بني هاشم في معركة الطف وهم سبعة عشر كلهم ذريتها، ذكر ذلك الإمام الباقر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فقد ذكر عند الإمام الباقر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قتل الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فقال: قتلوا سبعة عشر إنساناً كلهم ارتكض من بطن فاطمة بنت أسد أمّ علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وإلى هذا أشار الشاعر، قال:

تسعة منهمُ لصلب عليٍّ *** وثمان لجعفرٍ وعقيلِ

اهتمت برعاية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) منذ أن كفله زوجها أبو طالب بعد وفاة جده عبد المطلب وهو طفل صغير، وكانت تفضله على أولادها، شهد لها بذلك

ص: 65


1- بحار الأنوار:35/ 157.

رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقد روي – في كنز العمال - عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنها كانت أحسن خلق الله صنيعاً إلي بعد أبي طالب، وأنه قال: رحمك الله يا أمي، كنت أمي بعد أمي، تجوعين وتشبعينني وتعرين وتكسيني، وتمنعين نفسك وتطيبيني، تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة. ثم قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): اللهم أغفر لأمي فاطمة بنت أسد ولقنها حجتها ووسع مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبله يا أرحم الراحمين.وفي كتاب الفضائل لأبن شاذان عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: فلقد كانت تُجوّع أولادها وتشبعني ،وتُشعث أولادها وتدهنني ، والله لقد كان في دار أبي طالب نخلة فكانت تسابق إليها من الغداة لتلتقط، ثمّ تجنيه _ رضي الله عنها _ فإذا خرجوا بنو عمّي تناولني ذلك(1)

وما كانت رعايتها له (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن عاطفة، فإن المفروض أن تكون عاطفتها تجاه أولادها أقوى، بل كانت هذه الرعاية عن وعي وإدراك للمقام الرفيع الذي تبوءه هذا الرجل (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والمسؤولية العظيمة الملقاة على عاتقه.

ولما هاجر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلى المدينة وأمر علياً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن يلحقه بالفواطم (فاطمة بنت أسد بن هاشم وفاطمة الزهراء وفاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب) فخرج بهن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) راجلاً، واعترضه عدد من فرسان قريش، فقتل أشجعهم (يسمى جناح) وتفرقوا عنه وأمه تنظر إليه وهي فخورة به، حتى وصلوا إلى المدينة بعد ذلك السفر المضني، وكانت امرأة قد تجاوزت السبعين من العمر – لأن عمر طالب أكبر

ص: 66


1- بحار الانوار : 35/ 180

أبناءها كعمر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حين الهجرة، وهو 53 عاماً، فلا أقل يكون عمرها 70 سنة – ولم يقعدها عن أداء دورها كبر السن وقد تجاوزت السبعين وطول المسافة- حوالي أكثر من عشرة أيام - وصعوبة السفر والأخطار التي كانت تحيط بهذه السفرة، لأن قريشا بعد أن أفلت منها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم تكن ترضى بأن تلحقه عائلته وفي وضح النهار وعلى مرأى منهم – لذلك تصدوا للإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).كانت امرأة ذات أذن واعية –كما يصف القرآن [وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ] (الحاقة:12) – تتلقى العلم مباشرة من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فقد روي أنها (رضوان الله تعالى عليها) قالت: (سمعت رسول الله وهو يقول: إن الناس يحشرون يوم القيامة عراة كما ولدوا فقالت: واسوأتاه، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله: فإني أسأل الله أن يبعثك كاسية. وسمعته يذكر ضغطة القبر، فقالت: واضعفاه، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله: فإني أسأل الله أن يكفيك ذلك)(1).

وفي كتاب تنبيه الغافلين عن فضائل الطالبيين عن الزبير بن العوام قال: (سمعت النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يدعو النساء إلى البيعة حين أنزلت هذه الآية [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ..](الممتحنة:12) وكانت فاطمة بنت أسد أول امرأة بايعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ))(2).

ومن هذه السيرة المباركة تستطيع المرأة المسلمة أن تأخذ عدة دروس منها:

ص: 67


1- ميزان الحكمة: 3/ 453.
2- تنبيه الغافلين: شرف الإسلام بن سعيد المحسن بن كرامة (ت494)، ص172.

أولاً: طلب العلم والمعرفة والسعي نحو الكمال، فترى فاطمة تأخذ العلم من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مباشرة.ثانياً: تلبية نداء الدين وداعي الله – [أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ] (الأحقاف:31) – مهما كان الثمن غالياً – وذكرنا شاهداً على ذلك هجرتها.

ثالثاً: عدم الانسياق نحو العواطف وجعلها معيار التفضيل في العلاقات، بل توزن الأمور بالتقوى، فنراها تفضل محمداً على أولادها، لأنه بالموازين الصحيحة أكرم وأجلّ منهم، فتقدمه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عليهم، بل تقدمه على أنفسها كما شهد لها رسول الله نفسه فيقول تجوع وتطعمني وتعرى وتكسيني... .

رابعاً: العناية بالأسرة وتوثيق روابطها وبناءها بشكل سليم، وهذا واضح من علاقتها بزوجها أبي طالب وأولادها النجباء.

خامساً: عدم الانصياع وراء العرف والأتكيت السائد، فرغم أن النساء في مجتمع قريش كان لهن أعراف وتقاليد معروفة، إلا أن فاطمة لم تتابعهم فيه إلا بمقدار ما ينسجم مع عقيدتها والسلوك الذي يرسمها لها الشرع المقدس سواء قبل الإسلام وبعده.

وقد حث الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) على الاستشفاع بها؛ فعن داود الرقي قال: دخلت على أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولي على رجل مال قد خفت فوته، فشكوت إليه ذلك، فقال لي: إذا صرت بمكة فطف عن عبد المطلب وصلِّ ركعتين عنه، وطف عن أبي طالب طوافاً وصلّ عنه ركعتين، وطف عن عبد الله – والد رسول الله - طوافاً وصلّ عنه ركعتين، وطف عن آمنة طوافاً وصلِّ عنها ركعتين، وطف عن فاطمة بنت أسد طوافاً وصلِّ عنها ركعتين، ثم ادعُ أن يرد عليك مالك. قال:

ص: 68

ففعلت ذلك، ثم خرجت من باب الصفا، وإذا غريمي واقف بالباب يقول: يا داود حبستني، تعال اقبض مالك(1).وقد تضمن حديث وفاتها الكثير من فضلها وعظيم منزلتها عند الله تعالى وعند رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)؛ فعن عبد الله بن عباس قال: أقبل علي بن أبي طالب ذات يوم إلى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) باكياً وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال له رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): يا علي مَه. فقال: يا رسول الله، ماتت أمي فاطمة بنت أسد، قال: فبكى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ثم قال: رحم الله أمك يا علي، أما إنها إن كانت لك أماً فقد كانت لي أماً، خذ عمامتي هذه، وخذ ثوبي هذين فكفنها فيهما، ولا تخرجها حتى أجيء فألي أمرها، قال: فأقبل النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بعد ساعة، وأخرجت فاطمة أم علي، فصلى عليها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) صلاة لم يصل على أحد قبلها مثل تلك الصلاة، ثم كبر عليها أربعين تكبيرة ثم دخل إلى القبر فتمدد فيه فلم يسمع له أنين ولا حركة، ثم قال: يا علي أدخل، يا حسن أدخل، فدخلا القبر؟ فلما فرغ مما احتاج إليه من علي، قال: يا علي أخرج، يا حسن أخرج، فخرجا؟ ثم زحف النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى صار عند رأسها ولقنها حجتها تفصيلاً، ثم قال: اللهم ثبت فاطمة بالقول الثابت ثم خرج من قبرها.. فقام إليه عمار بن ياسر فقال: فداك أبي وأمي يا رسول الله، لقد صليت عليها صلاة لم تصلِّ على أحد قبلها مثل تلك الصلاة، فقال: يا أبا اليقظان، وأهل لذلك هي، ولقد كان لها من أبي طالب ولد كثير، ولقد كان خيرهم كثيراً، ثم قال: فكانت تشبعني وتجيعهم

ص: 69


1- بحار الأنوار:35/ 112.

(أي أولادها) وتكسوني وتعريهم وتدهنني وتشعثهم. فقال: - أي عمار – فلمَ كبّرت عليها أربعين تكبيرة يا رسول الله، قال نعم يا عمار، التفت عن يميني فنظرت إلى أربعين صفاً من الملائكة، فكبرت لكل صفٍّ تكبيرة، قال: فتمددت في القبر ولم تسمع لك أنين ولا حركة؟ قال: إن الناس يحشرون يوم القيامة عراة، فلم أزل أطلب إلى ربي عزّ وجلّ أن يبعثها ستيرة، ثم وصف (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ما أُعدّ لها من المقام الكريم عند الله تبارك وتعالى، فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (والذي نفس محمد بيده ما خرجت من قبرها حتى رأيت مصباحين من نور عند رأسها ومصباحين من نور عند يديها ومصباحين من نور عند رجليها وملكيها الموكلين بقبرها يستغفرون لها إلى أن تقوم الساعة)(1).وفي علل الشرايع أن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) دفن فاطمة بنت اسد بن هاشم وكانت مهاجرة مبايعة وكفنها في قميصه، ونزل في قبرها وتمرغ في لحدها، فقيل له في ذلك – أي لماذا هذا - فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): إن أبي هلك وأنا صغير فأخذتني هي وزوجها (أبو طالب) فكانا يوسعان علي ويؤثراني على أولادهما، فأحببت أن يوسع الله عليها قبرها(2).

وفيه ايضا: إنّ فاطمة بنت أسد بن هاشم أوصت إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقبل وصيتها ، فلما ماتت نزع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قميصه ، وقال : كفّنوها فيه ، واضطجَعَ في لحدها .

ص: 70


1- بحار الأنوار:35/ 70.
2- جامع أحاديث الشيعة كتاب الطهارة، أبواب تحنيط الميت وتكفينه، باب17،ح4-6 عن علل الشرائع: 469/باب 221 ح31

فقال : أما قميصي فأمانٌ لها يوم القيامة ، وأما اضطجاعي في قبرها فليوسّع الله عليها)(1)أما سنة وفاتها فلم يسجلها التاريخ، وترد أمامنا عدة احتمالات:

الأول: أنها توفيت قبل معركة بدر في السنة الثانية للهجرة، ويؤيده أمور:

1-أنها امرأة كبيرة تجاوزت السبعين وواجهت مشاق كثيرة في هجرتها، فلا يحتمل بقاؤها طويلاً.

2-أنه قد أسر ولدها عقيل في معركة بدر وفداه عمه العباس بن عبد المطلب، ولو كانت أمه حية لكان المناسب لأخلاق رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إطلاق سراحه إكراماً لأمه كما أطلق ألد أعدائه النضر بن الحارث واستبقاه لصبيته.

3-لم يرد ذكرها في حديث زواج علي وفاطمة الذي وقع غرة ذي الحجة من السنة الثانية للهجرة، وهو مشهد لا يفوتها.

الثاني: أنها توفيت في نهاية السنة الثالثة أو بداية الرابعة، بدليل ورود اسم حفيدها الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في خبر وفاتها، وقد ولد في النصف من رمضان في السنة الثالثة، ولم يرد اسم الإمام الحسين (علیه السلام) المولود في الثالث من شعبان من السنة الرابعة، ويستبعد أن يكون حياً ولا يحضر وفاة جدته.

الثالث: أنها توفيت بعد السنة السادسة للهجرة، لما ذكر من أنها أول امرأة بايعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بعد نزول آية الممتحنة المتقدمة التي يشهد سياقها أنها نزلت بعد صلح الحديبية بين السنة السادسة والثامنة من الهجرة. وقد ورد

ص: 71


1- نفس المصدر ح32

في رواية علل الشرايع في حديث وفاتها (إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) دفن فاطمة بنت أسد بن هاشم (عَلَيْهِا السَّلاَمُ)، وكانت مهاجرة مبايعة)(1)، فوصفها بالمبايعة يعني البيعة المذكورة، وليس طبعاً بيعة العقبة الأولى والثانية قبل الهجرة، فإنها خاصة بالأنصار.والذي أميل إليه بحسب الوجدان هو الأول، مؤيداً بالظروف الموضوعية التي ذكرناها آنفا، أما الرواية التي يستند إليها القولان الثاني والثالث فتحمل على وهم الراوي، إضافة إلى ضعف السند. ويبعد القول الثالث خاصة ما ورد في حديث وفاتها أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كبر عليها أربعين تكبيرة ولم يصل على أحد قبلها مثل تلك الصلاة، فلابد أن يكون ذلك قبل معركة أحد؛ فإن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) صلى على حمزة الذي استشهد فيها بسبعين تكبيرة(2).

أسأل الله تعالى أن نكون قد أدّينا بعض الحق لهذه المرأة العظيمة ولولدها المبارك أمير المؤمنين، ونسأل الله تعالى أن يحشرنا معهم، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 72


1- نفس المصدر السابق.
2- وسائل الشيعة كتاب الطهارة أبواب الصلاة والجنازة باب 6/ ج3.

رجب وشعبان إعداد وتأهيل لشهر رمضان

المحاضرة الأولى:

اشارة

رجب وشعبان إعداد وتأهيل لشهر رمضان(1)

المحاضرة الأولى:

بسم الله الرحمن الرحيم

ورد في دعاء الإمام السجاد لتوديع شهر رمضان قوله (علیه السلام): (يَا مَنْ تَحَمَّدَ إلى عِبَادِهِ بِالإحْسَانِ وَالْفَضْلِ، وَغَمَرَهُمْ بِالْمَنِّ وَالطَّوْلِ، مَا أَفْشَى فِينَا نِعْمَتَكَ، وَأَسْبَغَ عَلَيْنَا مِنَّتَكَ، وَأَخَصَّنَا بِبِرِّكَ هَدَيْتَنَا لِدِينِكَ الَّذِي اصْطَفَيْتَ، وَمِلَّتِكَ الَّتِي ارْتَضَيْتَ، وَسَبِيلِكَ الَّذِي سَهَّلْتَ، وَبَصَّرْتَنَا الزُّلْفَةَ لَدَيْكَ، وَالْوُصُولَ إلى كَرَامَتِكَ) ثم يخص بالذكر منته تبارك وتعالى علينا بشهر رمضان التي هي من أعظم النعم فيقول: (اللَّهُمَّ وَ أَنْتَ جَعَلْتَ مِنْ صَفَايَا تِلْكَ الْوَظَائِفِ، وَخَصَائِصِ تِلْكَ الْفُرُوضِ شَهْرَ رَمَضَانَ الَّذِي اخْتَصَصْتَهُ مِنْ سَائِرِ الشُّهُورِ، وَتَخَيَّرْتَهُ مِنْ جَمِيعِ الأَزْمِنَةِ وَ الدُّهُورِ) إلى أن يقول (ثُمَّ آثَرْتَنَا بِهِ عَلَى سَائِرِ الأمَمِ، وَاصْطَفَيْتَنَا بِفَضْلِهِ دُونَ أهل الْمِلَلِ).

رجب وشعبان محطتا تدريب وتأهيل لشهر رمضان:

ونعمة عظيمة كهذه تتطلب إعداداً لتحملها واستثمارها كأفضل ما ينبغي، لذا كان شهرا رجب وشعبان محطتي تدريب وتأهيل للدخول في شهر رمضان

ص: 73


1- كلمة ألقاها سماحة الشيخ (دام ظله الشريف) بمناسبة حلول شهر رجب 1423ه_ الموافق 8/ 9/ 2002 م.

يتسامى فيهما المؤمن ويتكامل ويقترب من الله تبارك وتعالى ليدخل في ضيافة الله وهو على أتم الاستعداد، أما الذي يدخل شهر رمضان من دون إعداد فسيجده ثقيلاً خاوياً من السمو الروحي، ويحتاج إلى مرور أيام منه ليتفاعل معه، فيخسر بركة هذه الأيام وعطاياها وهي خسارة لا تعوض فإن لكل يوم من شهر رمضان مِنَحاً إلهية خاصة به.

المماثلة بين أعمال الأشهر الثلاثة:

من هنا تجد المماثلة بين أعمال الأشهر، الثلاثة فيستحب فيهما الغسل، وتشترك بالصوم حتى استحب صوم شهري رجب وشعبان جميعاً ووصلهما بشهر رمضان، وبالدعاء والصدقة ووجود صلوات وأدعية مخصوصة لليالي والأيام، وتتوزع فيها أيام مباركة لمضاعفة الأجر ولتعجيل التكامل وتسريعه كالأول والنصف من رجب وليلة الرغائب وهي أول ليلة جمعة من رجب وليلة المبعث ويومه والنصف من شعبان، كما أن الليالي البيض لها جميعا (13 و14 و15) لها أعمال مشتركة بعضها يكمل بعضاً، كما أنها تشترك جميعاً في أعمال خاصة لليوم الأخير منها وهذه المماثلة في الأعمال لها أثر بليغ في تعويد الإنسان على هذه الأعمال الشاقة (هي النفس ما عودتها تتعود) وجعل العمل عادة يقرب الإنسان من الالتزام به ويخفف من مشقته، كاستحباب تمرين الأطفال على التكاليف الشرعية قبل البلوغ بمدة.

ص: 74

علامات الإعداد والتأهيل:

والإعداد والتأهيل للمؤمن تجده واضحاً في هذين الشهرين لو التفتنا إلى عدة أمور:-

1-التدريجية في الأعمال كماً وكيفاً فيكون شعبان أكثر وأهم أعمالاً من رجب، وإن شهر رمضان أعماله أشد وأهم من شعبان، ومعها تتصاعد الهمة لأداء هذه الأعمال، فقبل شهر رجب قد يجد الإنسان صعوبة وضيقاً نفسياً من الصوم ولو يوماً واحداً، فإذا حلّ رجب تولدت الرغبة لديه لصوم عدد من الأيام وربما كله وتكون الهمة أكبر في شعبان وهكذا.

2-ازدياد تركيز المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) على فضل الأشهر كلما تقدم المؤمن فيها، فشعبان أفضل من رجب، وشهر رمضان أفضل من شعبان، ليزداد اهتمام المؤمن وتوجهه إلى الطاعة كلما يشعر بأن الفضل والثواب يزداد، حيث نسب شهر رجب في بعض الروايات إلى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وشهر شعبان لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وشهر رمضان لله تبارك وتعالى، وتشهد لهذا المعنى ما ورد في دعاء الإمام السجاد في شعبان (وهذا شهرُ نبيِك سيدِ رُسُلِك شعبان الذي حفَفتَه مِنكَ بالرحمةِ والرضوانِ).

3-جعل أهم عمل فيهما هو الاستغفار والصدقة بل إن شهر رجب خص باسم شهر الاستغفار فعن الصادق (ع) أنه قال: (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): رجب شهر الاستغفار لأمتي فأكثروا فيه الاستغفار فإنه غفور رحيم ويسمى رجب الأصب لأن الرحمة على أمتي تصب صباً فيه فاستكثروا من قول: استغفر الله واسأله التوبة)، وفي حديث عن الإمام الصادق (ع): (ما أفضل ما يفعله

ص: 75

فيه (أي شعبان) قال: الصدقة والاستغفار ومن تصدق بصدقة في شعبان رباها الله تعالى كما يربي أحدكم فصيله حتى يوافي يوم القيامة وقد صار مثل أحد)(1).

أثر الصدقة والاستغفار في تنقية القلب

ونحن نعلم اثر هذين العملين في تنقية قلب المؤمن وتهذيب نفسه لتتأهل للكمال، كالأرض إذا أريد لها أن تنتج ثماراً طيبة فلا بد أولاً من تنقية الأرض وتنظيفها من الشوائب، وهكذا النفس والقلب فإنهما قد تكدرا خلال السنة باتباع الهوى والخوض في أمور الدنيا مما يجعلهما غير مؤهلين لاستقبال النفحات الإلهية في شهر رمضان، فلا بد من تطهيرهما وتهذيبهما بالصدقة خصوصاً صدقة السر التي تطفئ غضب الرب كما في بعض الأحاديث، والاستغفار خصوصاً مع الالتفات إلى المعنى الحقيقي للاستغفار الذي شرحه أمير المؤمنين (ع) لرجل قال بحضرته: (أستغفر الله) فقال له (ع): (إن الاستغفار يقع على ستة معانٍ، أولها: الندم على ما مضى، والثاني العزم على ترك العود إليه أبداً، والثالث: أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم (المادية والمعنوية)(2) .. والرابع: أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيّعتها فتؤدي حقها، والخامس أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان..،

ص: 76


1- مفاتيح الجنان.
2- المادية: من أموال وأغراض ونحوها، والمعنوية: كرد اعتبار من أسأت إليه أمام الآخرين بأن تعتذر له وتعترف بخطأك أمامهم.

والسادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: أستغفر الله)(1).4-إنك تجد في أعمال هذين الشهرين الإكثار من الصلاة على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وآله بل قد كرست أدعية لذلك ومنها الصلوات المروية في الأعمال العامة لشهر شعبان (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ شَجَرَةِ النُّبُوَّةِ وَمَوْضِعِ الرِّسَالَةِ... إلخ)، ومن الواضح أن محمداً وآل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هم واسطة الفيض الإلهي(2) وأبواب رحمته ولا يصل الإنسان إلى الكمال إلا بولايتهم، فيكون من الضروري الإكثار من الدعاء لهم والتوسل بهم لرفع مستوى التأهيل والاستعداد لتقبل الإفاضات الإلهية، وفي الحديث المروي عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (صلاتكم عليَّ مجوزَّة لدعائكم ومرضاة لربكم وزكاة لأبدانكم)(3).

5-الانتباه من الغفلة والتحذير منها من خلال تركيز الدعاء بالوقاية منها والاستعاذة بالله من الابتعاد عنه كقوله (علیه السلام): (ولا تجعلني من الغافلين

ص: 77


1- نهج البلاغة: الجزء الرابع، صفحة 97.
2- فكل ما يصل إلينا من علم ورحمة ورزق وعافية وقوة و..فهو عن طريقهم (عليهم السلام) كما جاء في الزيارة الجامعة (بكم فتح الله وبكم يختم، وبكم يُنزِّل الغيث، وبكم يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وبكم ينفّس الهم ويكشف الضر) فينبغي علينا أن لا نغفل عن هذا المعنى المهم لكي تكون علاقتنا بهم (عليهم السلام) أوثق وأمتن ولكي نؤدي حقوقهم المفروضة علينا بالمستوى المطلوب.
3- بحار الأنوار: 91/ 68.

المبعدين)(1) وقوله (ع): (ولا تكلنا إلى غيرك) (اللهم إني أسألك أن تجعل لي إلى كل خير سبيلاً ومن كل ما لا تحب مانعا يا ارحم الراحمين) وتستمر هذه الصحوة من الغفلة ليدخل شهر رمضان وهو في التفات كامل وذكر دائم لله تبارك وتعالى.6- استثارة أسباب الرحمة والعطف عند الله تعالى ليقبلنا الله تبارك وتعالى عبيداً تائبين عائدين إليه، وتجد هذا المعنى واضحاً من خلال الأدعية وبأشكال متعددة كالتسليم بغنى الله وفقر الإنسان كقوله (علیه السلام): (اللهم أنت العلي العظيم وأنا عبدك البائس الفقير أنت الغني الحميد وأنا العبد الذليل اللهم صلِّ على محمد وآل محمد وأمنُن بغناك على فقري وبحلمك على جهلي وبقوتك على ضعفي يا قوي يا عزيز)، وكالاعتراف بأن لا ملجأ منه تبارك وتعالى إلا إليه (خَابَ الْوَافِدُونَ عَلَى غَيْرِكَ، وَ خَسِرَ الْمُتَعَرِّضُونَ إِلا لَكَ، وَ ضَاعَ الْمُلِمُّونَ إِلاّ بِكَ، وَ أَجْدَبَ الْمُنْتَجِعُونَ إِلاّ مَنِ انْتَجَعَ فَضْلَكَ)، وكالتوسل إليه بأحب أسمائه إليه (اللهم يا ذا المنن السابغة و الآلاء الوازعة والرحمة الواسعة و القدرة الجامعة والنعم الجسيمة و المواهب العظيمة والأيادي الجميلة و العطايا الجزيلة يا من لا ينعت بتمثيل و لا يمثّل بنظير و لا يغلب بظهير) إلى أن يقول (ع): (يا من سما في العز ففاق نواظر الأبصار ودنا في اللطف فجاز هواجس الأفكار يا من توحد بالملك فلا ندَّ له في ملكوت سلطانه وتفرد بالآلاء والكبرياء فلا ضد له في جبروت شأنه

ص: 78


1- مفاتيح الجنان، الفصل الأول: في فضل شهر رجب وأعماله، القسم الأول: الأعمال العامة، الدعاء الثاني.

يا من حارت في كبرياء هيبته دقائق لطائف الأوهام وانحسرت دون إدراك عظمته خطائف أبصار الأنام) إلى أن يقول: (أسألك بهذه المدحة التي لا تنبغي إلا لك..) إلخ.

المعصومون يهيئون شيعتهم في هذين الشهرين

وقد كان المعصومون (علیهم السلام) يهيئون شيعتهم في هذين الشهرين لاستقبال شهر رمضان وهم على أحسن حال فعن أبي الصلت الهروي قال: (دخلت على الإمام الرضا (علیه السلام) في آخر جمعة من شعبان فقال لي: يا أبا الصلت إن شعبان قد مضى أكثره وهذه آخر جمعة فيه فتدارك فيما بقي تقصيرك فيما مضى منه وعليك بالإقبال على ما يعنيك(1) وأكثر من الدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن وتُب إلى الله من ذنوبك ليُقبل شهر رمضان إليك وأنت مخلص له عز وجل ولا تدعن أمانة(2) في عنقك إلا أديتها ولا في قلبك حقداً على مؤمن إلا نزعته ولا ذنباً أنت مرتكبه إلا أقلعت عنه واتق الله وتوكل عليه في سر أمرك وعلانيتك. ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً وأكثِرْ في ما بقي من هذا الشهر قول: اللهم إن لم تكن غفرت لنا فيما مضى من شعبان فأغفر لنا فيما بقي منه، فأن الله تبارك وتعالى

ص: 79


1- فإن أكثر أعمارنا تضيع في أمور تافهة وفارغة وفضولية لا تعنينا.
2- والأمانة تفهم على عدة مستويات فالمسؤولية المناطة بنا كحوزويين هي أمانة يجب أن نؤديها بتمامها.

يعتق في هذا الشهر رقاباً من النار لحرمة هذا الشهر)(1) وهي وصية جليلة ينبغي مراعاتها على الدوام وتصلح أن تكون نبراساً لسلوك المؤمن.

فضل شهر رجب

وللتنبيه إلى فضل هذا الشهر (رجب) والأعمال الواردة فيه أنقل بعض الأحاديث عن المعصومين فعن أبي الحسن (ع): (رجب شهرٌ عظيم يضاعف الله فيه الحسنات ويمحو فيه السيئات من صام يوماً من رجب تباعدت عنه النار مسيرة مائة سنة ومن صام يوماً من ثلاثة أيام وجبت له الجنة)(2) وروي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله: (من صام يوماً من رجب إيماناً واحتساباً جعل الله تبارك وتعالى بينه وبين النار سبعين خندقاً عرض كل خندق ما بين السماء والأرض)(3) وعن أبي الحسن (علیه السلام): (رجب نهرٌ في الجنة أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل من صام يوماً من رجب سقاه الله من ذلك النهر)(4) وروي عن أمير المؤمنين (ع) قوله: (ومن أحيا ليلة من ليالي رجب أعتقه الله من النار وقبل شفاعته في سبعين ألف رجل من المذنبين ومن تصدق بصدقةٍ في ابتغاء وجه الله اكرمه الله يوم القيامة في الجنة من الثواب ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)(5) .

ص: 80


1- بحار الأنوار: 94/ 72.
2- من لا يحضره الفقيه: الجزء الثاني، باب: ثواب صوم رجب، ص92، ح 1822.
3- بحار الأنوار: 94/ 32.
4- المصدر السابق: صفحة 37.
5- المصدر السابق: صفحة 33.

وعن سالم بسندٍ معتبر قال دخلت على الصادق (ع) في رجب وقد بقيت منه أيام فلما نظر قال لي: (يا سالم هل صمت في هذا الشهر شيئاً قلت لا والله يا ابن رسول الله فقال لي فقد فاتك من الثواب ما لم يعلم مبلغه إلا الله عز وجل، إن هذا الشهر قد فضّله الله وعظّم حرمته وأوجب للصائمين فيه كرامته، قال فقلت له: يا ابن رسول الله فإن صمتُ مما بقي منه شيئا هل أنال فوزاً ببعض ثواب الصائمين فيه؟ فقال: يا سالم من صام يوماً من آخر هذا الشهر كان ذلك أماناً من شدة سكرات الموت وأماناً له من هول المطلع وعذاب القبر، ومن صام يومين من آخر هذا الشهر كان له بذلك جوازاً على الصراط، ومن صام ثلاثة أيام من آخر هذا الشهر أمن يوم الفزع الأكبر من أهواله وشدائده وأعطي براءة من النار)(1).

فضل شهر شعبان

ومن أحاديث فضل شهر شعبان: ما عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (من صام يوماً من شعبان إيماناً واحتساباً غفر له)(2) وما روي عن الإمام الصادق (ع): (وما من عبدً يكثر الصيام في شعبان إلا أصلح الله أمر معيشته وكفاه شر عدوه، إن أدنى ما يكون لمن يصوم يوماً من شعبان أن تجب له الجنة)(3) وروي عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: (كان السجّاد (ع) إذا دخل شعبان جمع

ص: 81


1- المصدر السابق: صفحة 32.
2- المصدر السابق: صفحة 34.
3- المصدر السابق: صفحة 68.

أصحابه وقال: يا أصحابي أتدرون ما هذا الشهر؟ هذا شهر شعبان، وكان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول: شعبان شهري فصوموا هذا الشهر حباً لنبيّكم وتقرباً إلى ربكم، أقِسمُ بمن نفسي بيده لقد سمعت أبي الحسين يقول سمعت أمير المؤمنين يقول: من صام شعبان حباً لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتقرباً إلى الله أحبّه الله وقربّه إلى كرامته يوم القيامة وأوجب له الجنة)(1).

اهتمام السلف الصالح بهذين الشهرين:

ولأهمية هذين الشهرين كان السلف الصالح يستعدون لهما قبل حلولهما، ويستعدون لليالي والأيام الخاصة الشريفة قبل حلولها أيضاً لكي لا يفوتهم شيء من الثواب، فيسجلون في صحيفة خاصة أعمال الشهر، ويقسمونها إلى قسمين عامة وخاصة، فالعامة ما تكون مشتركة لجميع أيام الشهر ولياليه، والخاصة ما تختص ببعض هذه الأيام. وقد كفانا الشيخ صاحب مفاتيح الجنان (قدس سره) مؤونة البحث فجمعها وبوّبها وصنّفها، لكن هذا لا يعفينا من الاستعداد لاستقبال هذه الأشهر المباركة بأن نسجل نحن أيضاً عناوين هذه الأعمال في ورقة خاصة لتكون لنا دليلاً خلال الشهر، ولنذكّر أنفسنا بهذه الأعمال فإن إضاعة الفرصة غصة، وما يدرينا أننا باقون أحياء حتى رجب المقبل وكم شخص كان معنا في رجب الماضي وهو ليس معنا اليوم؟.

فعلينا أن لا نقصر قبل أن يأتينا الأجل ونقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ} ويأتيهم الجواب:{كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ

ص: 82


1- المصدر السابق: صفحة 82.

بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُون}(1) (المؤمنون:99).أما انتم فكأنه قيل لكم نعم أرجعوا إلى الدنيا وها انتم فيها لننظر كيف تعملون.

أهم أعمال رجب وفضلها:

والأعمال في هذا الشهر كثيرة منها الغسل والصدقة والاستغفار والدعاء بأدعية مأثورة، ومنها: زيارة الإمام الحسين (علیه السلام) خصوصا ًفي الأول والنصف منه، ففيهما زيارتان عظيمتان يغفل أكثر الناس عن ثوابها ولأجل هذه الغفلة سميت زيارة النصف من رجب بالغفيلة، أما زيارة أول رجب فقد ورد فيها عن الأمام الصادق (ع) (من زار الحسين صلوات الله عليه في أول يوم من رجب غفر الله له ألبتة)(2) وعن أبن أبي نصر أنه قال سألت الرضا (علیه السلام): (أي الأوقات أفضل أن نزور فيه الحسين (علیه السلام)؟ قال: النصف من رجب والنصف من شعبان)(3).

وقد تناقش في صحة بعض الأحاديث المتقدمة إلا أن ضعف سندها مجبور

ص: 83


1- جاء في إرشاد القلوب ص49: (يعني فيما تركته ورائي لورّاثي فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ فيقول له ملك الموت كَلا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها، أي كلا لا رجوع لك إلى دار الدنيا، و قوله إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها: أي قال هذه الكلمة ل_ِما شاهده من شدة سكرات الموت و أهوال ما عاينه من عذاب القبر و هول المطلع و من هول سؤال منكر و نكير قال الله تعالى: [وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ]).
2- بحار الأنوار: 98/ 89.
3- المصدر السابق: صفحة 96.

بما يعرف عند الفقهاء ب_(أحاديث من بلغ) وهي معتبرة السند مضمونها (أنه من بلغه شيء من الثواب على عمل فعمله طلباً لذلك الثواب كتب له وإن لم نقله) وهذا طبعاً من حسن الظن بالله تعالى والله عند حسن ظن عبده. ومن أهم أعمال هذا الشهر الصوم فقد وردت في فضله أحاديث كثيرة، وأيامه على درجات متفاوتة في الفضل والأيام التي لها فضل ٌخاص اكثر من غيرها، اليوم الأول والأيام البيض(13، 14، 15) ويوم المبعث (27) والأيام الثلاثة الأخيرة من الشهر، فهذه أيام ثمانية لنعقد العزم على أن لا نفرط في صومها إلا لعذر فمن أراد الزيادة فالخميس والجمعة من كل أسبوع، وإذا أراد الزيادة فليضف الاثنين، ومنتهى الفضل أن يصوم الشهر كله.

ومن ألأعمال التي يمكن الالتزام بها في شهر رجب صلاة ركعتين في كل ليلة بالحمد والكافرون ثلاث مرات والتوحيد فإذا سلم رفع يديه إلى السماء وقال: (لا إله ألا الله وحده لا شريك له،له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو حيٌ لا يموت بيده الخير وهو على كل شيءٍ قدير وإليه المصير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم،اللهم صلِّ على محمد النبي الأُمي وآله) ويمرر يديه على وجهه.

ص: 84

ضرورة عدم تحميل النفس فوق طاقتها

لكن يجب الالتفات إلى نقطة مهمة يؤكد عليها علماء الأخلاق وهي ضرورة عدم تحميل النفس فوق طاقتها(1) فتعصي وتتمرد ويصعب حين إذن تحميلها حتى القليل، فلا بد من أخذها برفقٍ وتدريجٍ فإن النفوس متفاوتة في الاستعدادات لتحمل الطاعات فلا يأخذكم الحماس والاندفاع فتحملوها ما لا تطيق وقد روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: (مرَّ بي أبي وأنا بالطواف وأنا حَدَثٌ وقد اجتهدت في العبادة، فرآني وأنا أتصابُّ عرقاً، فقال لي: يا جعفر يا بني إن الله إذا أحب عبداً أدخله الجنة ورضي عنه باليسير)(2)، وهذه وصية كل المربين وأساتذة الأخلاق والعمدة الإخلاص والتقوى.

اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا شهر رمضان وأعنا على الصيام والقيام وحفظ اللسان وغض البصر ولا تجعل حظنا منه الجوع والعطش يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 85


1- عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): (إِنَّ لِلْقُلُوبِ إِقْبَالاً وَإِدْبَاراً فَإِذَا أَقْبَلَتْ فَاحْمِلُوهَا عَلَى النَّوَافِلِ وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاقْتَصِرُوا بِهَا عَلَى الْفَرَائِضِ) بحار الأنوار: 84/ 30.
2- الكافي: 2/ 86.

المحاضرة الثانية:ظواهر سلبية عند بعض زوار العتبات المقدسة

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله كما هو أهله وصلى الله على نبيه والأئمة الميامين من آله وسلم تسليما كثيراً.

تتخلل شهري رجب وشعبان زيارات مخصوصة مهمة لمراقد المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ورد الحث عليها وذكر الثواب العظيم لمن أدّاها فلا ينبغي لطالب حرث الآخرة أن يفرط فيها ويقصر في تحصيلها قال تعالى: {منْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآْخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الآْخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ}(1) (الشورى:20).

الفوائد المتحققة من زيارة المعصومين (سلام الله عليهم)

وتتحقق للمؤمنين فوائد عديدة في زيارات العتبات المقدسة والمواظبة عليها بعضها عامة باعتبارها من مساجد الله وقد جاء في الحديث عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (من اختلف إلى المساجد أصاب إحدى الثمان أخاً مستفاداً في الله أو علماً مستظرفاً أو آية محكمة أو رحمة منتظرة أو كلمة تدله على

ص: 86


1- جاء في أصول الكافي: 1/ 436: (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ قَالَ مَعْرِفَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) وَالأئِمَّةِ، نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، قَالَ: نَزِيدُهُ مِنْهَا قَالَ يَسْتَوْفِي نَصِيبَهُ مِنْ دَوْلَتِهِمْ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ، قَالَ: لَيْسَ لَهُ فِي دَوْلَةِ الْحَقِّ مَعَ الْقَائِمِ نَصِيبٌ).

هدى أو يترك ذنباً خشية أو حياءً)(1) وباعتبارها من بيوت الله التي {أَذِنَ اللهُ أن تُرفَعُ ويُذكَرُ فيها اسمُه يُسبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَْبْصارُ ليَجزِيَهُمُ اللهُ أحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيرِ حِسَابٍ}(النور: 36-37) ومن شعائر الله تعالى{ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج:32).وبعضها خاصة فإن في زيارة المعصومين (ع):-

1-إعلاء ذكرهم (ع) وتعظيم شأنهم وإظهار فضلهم ومودتهم.

2-استذكار سيرتهم ومواقفهم في نصرة الدين وإعلاء كلمة الله تعالى وتجسيد شريعته في الأرض واستلهام الدروس والعبر منهم (ع).

3-إدخال السرور على قلب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وآله (ع).

4-إعلان البراءة من أعدائهم ورفض الظلم الذي حل بهم (ع).

5-تجديد العهد معهم على السير على نهجهم وبذل الغالي والنفيس من أجل إحياء أمرهم وإدامة ذكرهم (سلام الله عليهم).

ص: 87


1- من لا يحضره الفقيه: 1/ 237.

أعداء أهل البيت وزيارة القبور:

ولِعلمِ أعداء أهل البيت بهذه النتائج المهمة المتوخاة من الزيارة فقد حاولوا التشكيك بصحة زيارة القبور ووصفوها بالشرك(1)، وهم قبل غيرهم يعلمون بطلان هذه الدعوى، حيث يروون في صحاحهم زيارة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لقبر آمنة بنت وهب وقبور البقيع، وزيارة أهل بيته كأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين (علیه السلام) لعدد من القبور، وكذا الصحابة ورووا التوسل والاستشفاع برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بعد وفاته وغيرها لكن هدفهم صد المؤمنين بهذه الدعوى وغيرها من الأساليب عن الاغتراف من هذا المعين الذي لا ينضب ولكن يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(2) (الصف:8).

ص: 88


1- جاء في كتاب دفاع عن العقيدة للشيخ علي البغدادي أن ابن تيمية يقول زيارة القبور كفر حتى قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد رده صاحب الكتاب بوجود أحاديث في الصحاح تنص على جواز زيارة القبور منها قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (من زار قبري وجبت له شفاعتي) و(من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني) وغيرها كثير.
2- عَنْ أبي الْحَسَنِ (عليه السلام) قَالَ: (سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى: [يُرِيدُونَ لِيُطْفئوُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ]، قَالَ: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا ولايَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) بِأَفْوَاهِهِمْ، قُلْتُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: [وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ] قَالَ: يَقُولُ: وَاللَّهُ مُتِمُّ الإمامة وَ الإمامة هِيَ النُّورُ وَ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: [فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا] قَالَ: النُّورُ هُوَ الإمَامُ) (ميزان الحكمة: 1/ 116).

أثر زيارة المعصومين في حفظ الدين

وكان لزيارة المعصومين (ع) الأثر الكبير في حفظ الدين وشعائره وديموميته فكلما اتسعت هذه الزيارات كما وكيفا كلما كان حال التدين جيداً في المجتمع، وكلما انحسرت هذه الزيارات وجدت ضعف الروح الدينية يسري في المجتمع، ولأجل هذا اهتم الأئمة بإحياء هذه الشعائر خصوصاً زيارة الحسين (علیه السلام) وجعلوا التقصير فيها نقصاً في الدين، وإن عدت من المستحبات لكن المستحبات هي الإطار والقشر الذي يحفظ اللب وهي الواجبات وان اللب يتلف ويفنى إذا زال القشر.

فضل زيارة الحسين (عليه السلام)

والمتحصل من عدد من الروايات أن زيارة الحسين (علیه السلام) تعدل الحج والعمرة والجهاد بل هي أفضل بدرجات، وتورث طول العمر والانحفاظ في النفس والمال وزيادة الرزق وقضاء الحوائج، ورفع الهموم والكربات، وتركها يوجب نقصاً في الدين وهو ترك حق عظيم من حقوق النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (وأقل ما يؤجر به زائره هو أن يغفر ذنوبه وأن يصون الله تعالى نفسه وماله حتى يرجع إلى أهله، فإذا كان يوم القيامة كان الله له أحفظ من الدنيا)(1) وفي روايات كثيرة أن زيارته تزيل الغم وتهون سكرات الموت وتذهب بهول القبر وأنه إذا كان يوم القيامة تمنى الخلق كلهم أن كانوا من زواره (ع) لما يصدر منه (ع) من الكرامة والفضل في ذلك اليوم.

ص: 89


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب المزار، باب 37: استحباب زيارة الحسين (عليه السلام).

وأريد أن انقل لكم يا زوار الحسين (علیه السلام) - هذه البشرى من الإمام الصادق (علیه السلام) فقد روي بإسناد معتبر عن الثقة الجليل معاوية بن وهب قال: (دخلت على الصادق (علیه السلام) وهو في مصلاه فجلست حتى قضى صلاته فسمعته وهو يناجي ربه ويقول: (يا من خصَّنا بالكرامة ووعدنا بالشفاعة وحمّلنا الرسالة وجعلنا ورثة الأنبياء، وختم بنا الأمم السالفة وخصّنا بالوصية وأعطانا علم ما مضى وما بقي وجعل أفئدة الناس تهوي إلينا، اغفر لي ولإخواني وزوار قبر أبي الحسين بن علي (صلوات الله عليهما) الذين أنفقوا أموالهم وأشخصوا أبدانهم رغبة في برّنا ورجاءً لما عندك في وصلتنا وسروراً أدخلوه على نبيك محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وإجابة منهم لأمرنا وغيظاً أدخلوه على عدونا أرادوا بذلك رضوانك فكافئهم عنا بالرضوان واكلأهم بالليل والنهار واخلف على أهليهم وأولادهم الذين خلفوا بأحسن الخلف، واصحبهم واكفهم شر كل جبار عنيد وكل ضعيف من خلقك أو شديد وشر شياطين الإنس والجن وأعطهم أفضل ما أملوا منك في غربتهم عن أوطانهم وما آثرونا على أبنائهم وأهاليهم وقراباتهم، اللهم إن أعداءنا عابوا عليهم خروجهم، فلم ينههم ذلك عن النهوض والشخوص إلينا خلافاً عليهم، فارحم تلك الوجوه التي غيّرتها الشمس، وارحم تلك الخدود التي تَقَلَّبُ على قبر أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا، اللهم إني استودعك تلك الأنفس وتلك الأبدان حتى ترويهم من الحوض يوم العطش، فما زال (صلوات الله عليه) يدعو بهذا الدعاء وهو ساجد فلما انصرف قلت له: جعلت فداك لو أن هذا الذي سمعته

ص: 90

منك، كان لمن لا يعرف الله لظننت أن النار لا تطعم منه شيئاً أبداً، والله لقد تمنيت أني كنت زرته ولم أحج فقال لي: ما أقربك منه فما الذي يمنعك من زيارته يا معاوية لا تدعو ذلك قلت: جعلت فداك فلم أدرِ أن الأمر يبلغ هذا كله فقال: يا معاوية ومن يدعو لزواره في السماء أكثر مما يدعو لهم في الأرض، لا تدعه لخوفٍ من أحد فمن تركه لخوف رأى من الحسرة ما يتمنى أن قبره كان بيده، أي تمنى أن يكون قد ظل عنده حتى دفن هناك، أما تحب أن يرى الله شخصك وسوادك فيمن يدعو له رسول الله وعلي وفاطمة والأئمة المعصومون؟ أما تحب أن تكون غداً ممن تصافحه الملائكة؟ أما تحب أن تكون غداً ممن يأتي وليس عليه ذنب فيتبع به؟ أما تحب أن تكون ممن يصافح رسول الله (صلى الله عليه وآله))(1).ولزيارة كل من المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فضل عظيم خاص تجد أخبارها في نهاية كتاب الحج من وسائل الشيعة وفي كتاب مفاتيح الجنان، فلا ينبغي تقليل أهمية زيارة بعض الأئمة كالعسكريين في سامراء فإنهم جميعاً بنفس الأهمية وإن كان لبعضهم خصوصية إضافية فعن زيد الشحام قال: (قلت لأبي عبد الله (ع): ما لمن زار واحداً منكم ؟ قال: كمن زار رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ))(2).

ص: 91


1- الكافي: 4/ 582 باب: فضل الزيارات وثوابها.
2- المصدر السابق: صفحة 279.

التصرفات المنحرفة لبعض زوار العتبات المطهرة

لكن هذه الأجواء القدسية لزيارة المعصومين يمكن أن تفسدها بعض التصرفات التي تصدر عن الجهل بآداب الزيارة، بل بآداب الدين وتشريعاته عموماً، وتنشأ عن النفس الأمارة بالسوء التي تقود صاحبها إلى الردى، ولا تفتر لحظة عن تزيين المعصية حتى في هذه الأماكن المقدسة، ويساعدها على ذلك شياطين الإنس والجن الذين لا يفترون عن إضلال عباد الله وصدهم عن الصراط المستقيم.

ولرفع هذا الجهل أقترح أن يتصدى في كل حافلة لنقل الزائرين شخص من طلبة الحوزة أو الشباب الواعين ليبين لهم خلال الطريق هذه الآداب والأحكام الشرعية المهمة، وينبههم إلى التصرفات المنافية للشريعة، والجميع مطالبون بأن يهتموا بوجود مثل هذا المرشد في القافلة قبل أن يسجلوا أسماءهم فيها، وليكن هذا الأمر أهم عندهم من نوع السيارة وراحة مقاعدها ووجود جهاز التبريد فيها ونوع الطعام وهكذا

وأذكر الآن باختصار بعض التصرفات المنحرفة التي تصدر من الزوار والتي تحبط أعمالهم وتنفي أجورهم فيعودوا إلى أهلهم خائبين والعياذ بالله وقد ذكرت في كتاب (رفقاً بالعتبات المقدسة) واستفتاء (رسالة إلى زوار العتبات المقدسة):

1-تبرج بعض النساء وإظهار زينتهن التي يحرم إبداؤها ويمكن أن نشير إلى عدة أشكال من الزينة المحرمة:

أ -وضع المساحيق على الوجه.

ص: 92

ب -إبراز الوجه إذا كان سبباً للفتنة.ج_- لبس أغطية للرأس ذات نقوش وألوان ملفتة (1).

د- وضع الكحل على العينين وصبغ الأظافر.

وتتضاعف الحرمة والإثم بعدد الذين تورطوا في النظر إليهن أو دخل قلوبهم شيء بسببهن(2).

2-مزاحمة النساء والرجال والاحتكاك بينهم(3)خصوصاً قرب الأضرحة المقدسة وهو أمر مرفوض ويجب تلافيه إما بعزل الجنسين، أو عدم اقتراب النساء من الأضرحة، فليس من الضروري الوصول إلى الضريح المقدس فإن هذا التدافع عمل محرم وكيف يطاع الله بمعصيته وقد قال أمير المؤمنين (ع) لأهل العراق: (يا أهل العراق نبئت أن نساءكم

ص: 93


1- وقد يُلف هذا الغطاء بشكل بحيث تظهر الرقبة من الأمام أو الخلف وهذا كله حرام وغير مرضي لله تعالى ولرسوله وكل شعرة تكشفها المرأة بمنزلة السيف المشهور بوجه المعصومين (عليهم السلام) فالحذر الحذر يا مسلمات.
2- ويوجد كلام آخر للسيد الشهيد (قدس سره) بأن الحرمة تتضاعف بعدد الذين كان من المحتمل أن ينظروا إليها لأنها عندما خرجت كان لها الاستعداد لأن ينظر لها الجميع فتحاسب على قدر نيتها (لكل امرئ ما نوى).
3- أود أن أضيف ظاهرة منتشرة في الأضرحة المطهرة وهي رمي الحلويات على الأرض مما يؤدي إلى انحناء النساء إلى الأرض لالتقاط هذه الحلويات فيرتطم الرجال بهن وقد يصل الأمر إلى وقوع الرجل فوق المرأة كل هذه المهزلة تحصل في أضرحة سادة الخلق بلا مراعاة لحرمتها فيجب على صاحب الحلويات عدم تسبيب هذه الأمور برميه الحلويات على الأرض بل عليه أن يوزعها على الزوار بهدوء واحترام لصاحب الضريح المطهر.

يدافعن الرجال في الطريق أما تستحيون)(1) وقال (علیه السلام): (لعن الله من لا يغار)(2).3-عدم المحافظة على الحجاب الكامل فربما ظهرت خصلة شعر من مقدم الرأس أو شيء من المعصمين فوق الكفين، أو لم تلبس الجواريب هذا فضلاً عن الأسوء وهو الاكتفاء بملابس ضيقة للجسد وغطاء خفيف لشعر الرأس وما خفي أعظم.

4-الأكل والشرب في الصحن الشريف للإمام (علیه السلام) وربما خففوا من مراسيم الزيارة واستعجلوا في أدائها للإسراع إلى موائد الطعام، وقد نهى عنه المعصومون (علیهم السلام) خصوصاً في زيارة الحسين (علیه السلام) ويتسبب أحياناً في وقوع محرمات عديدة كانتهاك حرمة المعصوم (علیهم السلام) وانعقاد جلسات مختلطة للتسامر والضحك، وكأن المكان معد للنزهة والراحة، وعادة يتركون الفضلات في نفس المكان فيزيد الأمر سوءاً، وربما سبب للزائرين بعض الأذى فليتناول الزائرون طعامهم في أماكن بعيدة عن النظر.

5-النوم في الشوارع وفي أي مكان يحلو له بلا مراعاة أي أدب أو أصول، أو ربما انكشف شيء من جسد المرأة أثناء النوم وقد يحصل تقارب في أماكن نوم الجنسين، كما أن هذا الحال سبب لحصول النظر بريبة، وكل هذه محرمات فضيعة لا تبقى معها قيمة للزيارة بل تعود بالضرر على صاحبها.

ص: 94


1- الكافي: 5/ 536، باب: الغيرة.
2- بحار الأنوار: 76/ 115.

6-سفر النساء بلا ولي فتكون عرضة للغواية والانحراف، إما لسوء سريرتها أو لحاجتها إلى مساعدة غيرها فتضطر للاستعانة بالرجال إذا لم يكن معها أحد من ذويها، والإنسان بطبعه إذا لم يخش الرقيب تكون نفسه مصيدة للشيطان وحولها الذئاب المتربصون بها، بل بلغني أن عدداً من الشباب المتميعين يتحينون هذه المناسبات للسفر مع النساء فقبحهم الله من فسقة، وقد تطول السفرة أياماً لبعض سكان المدن البعيدة، وبسبب طول السفرة تحصل إلفة مع السائق وربما تبادلوا الكلمات الناعمة والابتسامات، فإلى أي حد يبلغ الشيطان بهؤلاء الذين يسمون أنفسهم زوار الحسين (علیه السلام) وهو منهم بريء، علماً أن بعض النساء تسافر إلى الزيارة رغم منع ولي أمرها كالزوج والأب فعليها لعنة الله(1).

6-بعض النساء تجلس في اتجاه القبلة لصلاة الرجال وهن مقبلات الوجوه عليه للتفرج مما يشغلهم عن الصلاة، وبعضهن تجلس في طريق الرجال مما يعرضها لنظر الرائح والآتي(2)، فالمفروض بالنساء كالرجال الاشتغال

ص: 95


1- إشارة إلى خبر المرأة التي سألت رسول الله عن حق الزوج على المرأة فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (.. وَلا تَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهَا إِلا بِإِذْنِهِ فإن خَرَجَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَعَنَتْهَا مَلائِكَةُ السَّمَاءِ وَمَلائِكَةُ الأرْضِ وَمَلائِكَةُ الْغَضَبِ وَمَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ حَتَّى تَرْجِعَ إلى بَيْتِهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَعْظَمُ النَّاسِ حَقّاً عَلَى الرَّجُلِ؟ قَالَ: وَالِدَاهُ، قَالَتْ: فَمَنْ أَعْظَمُ النَّاسِ حَقّاً عَلَى الْمَرْأَةِ؟ قَالَ: زَوْجُهَا، قَالَتْ: فَمَا لِي مِنَ الْحَقِّ عَلَيْهِ مِثْلُ مَا لَهُ عَلَيَّ؟ قَالَ: لا وَلا مِنْ كُلِّ مِائَةٍ وَاحِدَةٌ..) من لا يحضره الفقيه: 3/ 438 باب حق الزوج على المرأة.
2- كما في الممر المؤدي إلى قبر السيد إبراهيم المجاب رضوان الله تعالى عليه في ضريح الإمام الحسين (عليه السلام) حيث تجد النساء تصلي في هذا الممر والذي يكون عادة ضيقاً فتتعرض إلى الاحتكاك مع الرجال وبذلك تفقد الزيارة جانبها الروحي لذا ندعوا أخواتنا المؤمنات أن يكنَّ أكثر دقة وحذراً في تصرفاتهن.

بالعبادة والذكر واتخاذ الأماكن البعيدة عن أعين الرجال وتقبل بوجهها على الجدار ونحوه فإن ذلك أطهر لقلوبهم وقلوبهن.7-إن الكثير لا يفرق بين السفر لزيارة الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) والسفرات السياحية الأخرى، فتراه يقضي الطريق باللهو واللعب والأحاديث الفارغة بل المحرمة كالغيبة ونحوها، ومثله يكون البقاء له في الدار أفضل. فإنه يعود إلى الدار بعد مثل هذه الزيارة وظهره مثقل بالذنوب بدل الحسنات والعياذ بالله.

8-وقد اقترحنا فيما سبق قضاء الطريق بالاستماع إلى مرشد يوجههم أو إلى محاضرة نافعة أو تبادل أحاديث مفيدة وهكذا.

10-يضاف إلى ما ذكرنا أمور أخرى تحصل لما يسمى بالحملات وهم قوافل الزائرين من مدن بعيدة يأتون بقوافل مرتبة، فإن التعامل مع السائق ومساعده يكون بحرية تامة وكأنه أحد المحارم ويؤجر المشرف على الحملة أماكن ضيقة للمبيت يضطرون فيها إلى الاختلاط.

11 - إن بعض النساء لا تتورع عن الوضوء في الأماكن العامة وأمام أنظار الرجال وهي تكشف عن ذراعيها وبعض شعرها.

12- وقد ذكر صاحب مفاتيح الجنان (قدس سره) جملة من آداب الزيارة إلى أن قال نقلا عن الشهيد (إن من جملة الآداب تعجيل الخروج عند قضاء الوقت من الزيارة لتعظم الحرمة وليشتد الشوق) وقال أيضاً: (والنساء إذا

ص: 96

زرن فليكن منفردات عن الرجال والأولى أن يزرن ليلاً وليكنّ متنكرات أي يبدلن الثياب النفيسة بالدانية الرخيصة لكي لا يعرفن وليبرزن متخفيات متسترات). ثم علق صاحب المفاتيح (قدس سره): (من هذه الكلمة يعرف مبلغ القبح والشناعة في ما دأبت عليه النسوة في زماننا من أن يتبرجن للزيارة فيبرزن بنفائس الثياب فيزاحمن الأجانب من الرجال في الحرم الطاهر ويضاغطنهم بأبدانهن مقتربات من الضرائح الطاهرة أو يجلسن في قبلة المصلين من الرجال ليقرأن الزيارة فيلفتن الخواطر ويصدن القائمين بالعبادة في تلك البقعة الشريفة من المصلين والمتضرعين والباكين عن عبادتهم فيكن بذلك من الصادات عن سبيل الله تعالى إلى غير ذلك من التبعات وأمثال هذه الزيارات ينبغي حقا أن تعد من منكرات الشرع لا من العبادات وتحصى من الموبقات لا القربات).

وأمام هذه السلبيات يجب أن تتوحد الجهود وتتظافر للتخلص منها تطبيقاً للفريضة العظيمة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ولقوله تعالى: {وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ} وأول خطوة في هذا الطريق توعية الناس وإلفات نظرهم إلى مخالفات الشريعة.

أسأل الله تعالى أن يأخذ بأيدينا نحو الصلاح ويعيننا على أنفسنا ويوقظنا من نوم الجهل والغفلة إنه أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 97

حصيلتنا في شهر رمضان المبارك والعيد

اشارة

حصيلتنا في شهر رمضان المبارك والعيد(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة:

افتتح سماحة الشيخ (دام ظله) الخطبتين بالحمد والثناء على الله تبارك وتعالى والصلاة على نبيه وآله الطاهرين كما يجب لخطبتي صلاة العيد والجمعة أن تفتتح، وهو من الأيام الشريفة التي تكرس للطاعة، لا كما يفعله الغافلون من اللهو واللعب وهو لا يعلم أفي سجل الفائزين كتب اسمه أم المبعدين المحرومين، واختار لذلك نصّاً من الصحيفة السجادية المباركة(2):

(اللَّهُمَّ هَذَا يَوْمٌ مُبَارَكٌ مَيْمُونٌ، وَالْمُسْلِمُونَ فِيهِ مُجْتَمِعُونَ فِي أَقْطَارِ أَرْضِكَ، يَشْهَدُ السَّائِلُ مِنْهُمْ وَالطَّالِبُ وَالرَّاغِبُ وَالرَّاهِبُ وَأَنْتَ النَّاظِرُ فِي حَوَائِجِهِمْ، فَأَسْأَلُكَ بِجُودِكَ وَكَرَمِكَ وَهَوَانِ مَا سَأَلْتُكَ عَلَيْكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ. وَأَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا بِأَنَّ لَكَ الْمُلْكَ، وَلَكَ الْحَمْدَ، لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ، الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ

ص: 98


1- محاضرتان ألقاهما سماحة الشيخ (دام ظله الشريف) على طلبته في درس الأصول بمناسبة افتتاح الموسم الدراسي بعد تعطيل شهر رمضان وعيد الفطر المبارك سنة 1422ه_، وأصلها خطبتا صلاة عيد الفطر المبارك التي أمّها سماحته في جامع حي الكرامة في النجف الأشرف حيث كان يقيم صلاة الجماعة يومياً، وقد صادف العيد يوم الاثنين 17 /12/ 2001.
2- كان سماحة الشيخ يعلّق على بعض فقرات الدعاء بما يناسبها من الموعظة، وسنشير في الهامش إلى بعضها.

الْحَنَّانُ الْمَنَّانُ ذُو الْجَلالِ وَالاِكْرَامِ، بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ، مَهْمَا قَسَمْتَ بَيْنَ عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ خَيْرٍ أَوْ عَافِيَةٍ أَوْ بَرَكَةٍ أَوْ هُدًى أَوْ عَمَلٍ بِطَاعَتِكَ، أَوْ خَيْرٍ تَمُنُّ بِهِ عَلَيْهِمْ تَهْدِيهِمْ بِهِ إِلَيْكَ، أَوْ تَرْفَعُ لَهُمْ عِنْدَكَ دَرَجَةً، أَوْ تُعْطِيهِمْ بِهِ خَيْراً مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ أَنْ تُوَفِّرَ حَظِّي وَنَصِيبِي مِنْهُ. وَأَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ بِأَنَّ لَكَ الْمُلْكَ وَالْحَمْدَ، لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ، أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ وَحَبِيبِكَ وَصِفْوَتِكَ وَخِيَرَتِكَ مِنْ خَلْقِكَ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ الابْرَارِ الطَّاهِرِينَ الاخْيَارِ صَلاةً لا يَقْوَى عَلَى إِحْصَائِهَا إِلا أَنْتَ، وَأَنْ تُشْرِكَنَا فِي صَالِحِ مَنْ دَعَاكَ فِي هَذَا الْيَوْمِ مِنْ عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ، يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَأَنْ تَغْفِرَ لَنَا وَ لَهُمْ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَي ءٍ قَدِيرٌ. اللَّهُمَّ إِلَيْكَ تَعَمَّدْتُ بِحَاجَتِي، وَبِكَ أَنْزَلْتُ الْيَوْمَ فَقْرِي وَفَاقَتِي وَمَسْكَنَتِي، وَإِنِّي بِمَغْفِرَتِكَ وَرَحْمَتِكَ أَوْثَقُ مِنِّي بِعَمَلِي، وَلَمَغْفِرَتُكَ وَرَحْمَتُكَ أَوْسَعُ مِنْ ذُنُوبِي، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَتَوَلَّ قَضَاءَ كُلِّ حَاجَةٍ هِيَ لِي بِقُدْرَتِكَ عَلَيْهَا، وَتَيْسِيرِ ذَلِكَ عَلَيْكَ، وَبِفَقْرِي(1) إِلَيْكَ، وَغِنَاكَ عَنِّي، فَإِنِّي لَمْ أُصِبْ خَيْراً قَطُّ إِلا مِنْكَ، وَلَمْ يَصْرِفْ عَنِّي سُوءاً قَطُّ أَحَدٌ غَيْرُكَ، وَلا أَرْجُو لأمْرِ آخِرَتِي وَدُنْيَايَ سِوَاكَ. اللَّهُمَّ مَنْ تَهَيَّأَ وَتَعَبَّأَ وَأَعَدَّ وَاسْتَعَدَّ لِوِفَادَةٍ إلى مَخْلُوقٍ رَجَاءَ رِفْدِهِ وَنَوَافِلِهِ وَطَلَبَ نَيْلِهِ وَجَائِزَتِهِ، فَإِلَيْكَ يَا مَوْلايَ كَانَتِ الْيَوْمَ تَهْيِئَتِي وَتَعْبِئَتِي وَإِعْدَادِي وَاسْتِعْدَادِي رَجَاءَ عَفْوِكَ وَرِفْدِكَ وَطَلَبَ نَيْلِكَ وَجَائِزَتِكَ. اللَّهُمَّ فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ، وَلا تُخَيِّبِ الْيَوْمَ ذَلِكَ مِنْ رَجَائِي، يَا مَنْ لا يُحْفِيهِ

ص: 99


1- عندما تريد أن تطلب حاجة بين يدي احد فتقدم هدية لقضاء حاجتك فماذا تقدم بين يدي الله تعالى وكل ما عندك هو من عطائه ؟ تقدم فقرك وحاجتك لله تبارك وتعالى.

سَائِلٌ وَلا يَنْقُصُهُ نَائِلٌ، فَإِنِّي لَمْ آتِكَ ثِقَةً مِنِّي بِعَمَلٍ صَالِحٍ قدمته(1) وَلاَ شَفَاعَةِ مَخْلُوقٍ رَجَوْتُهُ إلاَّ شَفَاعَةَ مُحَمَّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ سَلامُكَ) يا أرحم الراحمين صلِّ على محمد وآله الطاهرين.

لماذا لا تستمر عندنا حالة التجرد عن المادة:

عندما كان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يعظ أصحابه يتأثرون به غاية التأثر، يعيشون عالماً ملكوتياً، يتجردون خلاله عن عالم الماديات الذي يعيشونه في الدنيا، وفي أحد الأيام قال رجل منهم: يا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، نخاف على أنفسنا النفاق، قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): لماذا ؟ قال: عند استماعنا إلى موعظتك ننسى الدنيا والأولاد والأزواج والأموال وكل شي، وبمجرد الخروج منك والخوض في أمور الدنيا وندخل البيوت بين أزواجنا وأولادنا ننسى كل ذلك ولا يبقى لتلك الموعظة أثر، فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): فو الله، لو دمتم على تلك الحالة لصافحتكم الملائكة ولمشيتم على سطح الماء، وطبعاً يتكلم هذا الرجل عن حاله الخاص به، وإلاّ فإن مجموعة أخرى من أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كأبي ذر وسلمان والمقداد وعمار (رضوان الله تعالى عليهم) تستمر عندهم هذه الحالة بدرجات متفاوتة،

ص: 100


1- قيل إن أحد التجار كان يصنع القماش ويبيعه فيعاد عليه لعيب يوجد فيه ففرغ نفسه مدة وأتقن صنع القماش لكيلا يرد عليه وباع بعد أن ظن سلامته من العيوب وما لبث أن رجع إليه المشتري وأخبره بعيوب قماشه فجلس التاجر يبكي والمشتري== ==يطيب خاطره ويقول له سأتقبل القماش ولا أرجعه فلا تتأثر لكن التاجر (الواعي) قال ما لإرجاع القماش أبكي ولكن أبكي لأعمالي إذا عرضت على الناقد البصير كم سيجد فيها من العيوب وكيف سيردها علي وما موقفي غداً إذا كان المخلوق القاصر يجد كل هذه العيوب في قماش أتقنت صنعه.

أما أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فإن هذه الحالة دائمة عنده، لذلك كانت من آياته ما ذكره رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في الحديث من العطايا وأزيد.

أسباب السمو والتقرب إلى الله تعالى:

وتوجد أسباب عديدة للسموّ والتقرب إلى الله تعالى، منها وجودكم في المسجد، ومنها ما عشناه في شهر رمضان، فإن كل واحد منّا يدرك بوضوح أن حالته المعنوية وسموه الروحي في تلك الأيام المباركة تتألق بما لا يشبهه في غيره من الشهور، حتى الفسقة يشعرون بذلك، فهذا أحدهم- هداه الله تعالى- يقول:

رمضان ولّى، هاتها يا ساقي *** مشتاقةً تسعى إلى مشتاقِ

فهو يعترف أن رمضان أعانه على الانتصار على نفسه الأمارة بالسوء وأكسبه مناعة ضد هذه الفاحشة المنكرة، لكنه لم يحتفظ بها، بل فقدها بمجرد انتهاء المؤثر والسبب، وهو هذا الشهر الشريف.

ويروي أحد الأخلاقيين أنه كان لأستاذه في الأخلاق درس أسبوعي يأخذون منه زاداً يكفي أثره وتبقى فاعليته إلى الأسبوع المقبل، وهذا سر نجاح مثل هؤلاء الأساتذة، إذ أنهم يعرفون الجرعة المناسبة لمعالجة الأمراض الروحية والرذائل الخلقية(1).

ص: 101


1- قال أحد المؤمنين: زارني يوما جمع من العلماء والصلحاء فالتمست منهم أن يفيدوني بنصيحة تقربني إلى الله تعالى قالوا نوصيك بست: 1- اعلم أن الذي ينام كثيراً تقل رقة قلبه. 2- والذي يأكل كثيراً يصعب عليه قيام الليل لمناجاة ربه. 3- والذي يجالس الظالمين سوف لا يستقيم في دينه. 4- والذي يتعود الغيبة والكذب لا يخرج من دنياه مؤمناً بالله ربه. 5- والذي يقضي جميع وقته مع الناس سوف تقل عبادته لله والخلوة للتفكير في أمره. 6- والذي يسعى لرضا الناس يبتعد عن رضا الله تعالى وحكمه. فإن عملت بهذه النصائح اكتسبت نعيم الآخرة.

مستويات استجابة القلوب للفيوضات الإلهية:

مما تقدم نستطيع أن نحدد مدى استجابة القلوب لهذه المؤثرات وتفاعلها معها على ثلاثة مستويات بعد أن نخرج من لا يستجيب لنداء الحق ولا يلبي داعي الكمال والعياذ بالله، وقد ذمهم القرآن الكريم ووصفهم بما يستحقون في مواضع عديدة [لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَ_ئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ](الأعراف:179).

أما مستويات الاستجابة الثلاثة [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ](الأنفال:8)، فمنهم من يفقد ما حصل عليه من مقام بمجرد زوال المؤثر كالشاعر المتقدم أو المتوكل العباسي عندما وعظه الإمام الهادي (علیه السلام) بالأبيات المعروفة:

باتوا على قُلَلِ الأجبال تحرسهم *** غُلْبُ الرجال فلم تنفعهم القللُ

..إلخ، فبكى حتى ابتلت لحيته.

ومنهم من تستمر عنده الحالة لكنها قابلة للزوال في ساعة الغفلة وعند طرو سبب يغلبها، كالمؤمن عنده ملكة على اجتناب المعاصي لكنه قد يغفل أو

ص: 102

يضعف فيقع فيها، ثم لا يلبث أن تعود إليه ملكته العاصمة من جديد [إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ](الأعراف:201).والقسم الثالث من بلغت فيه هذه الحالة درجة الرسوخ غير القابل للزوال، وهو ما يسمى بالعصمة الذي ليس فقط لا يأتي بما ينافيها وإنما لا يخطر على باله أن يفعل ذلك، والعصمة ليست حالة غريبة وغير معقولة، بل هي حالة موجودة بشكل من الأشكال عندنا، فمثلاً أي واحد منا ليس فقط لا يقتل ولده ولا يحرق ماله بل لا يفكر في القيام بذلك أبداً، فالمعصوم هو من يستطيع أن يعمم هذه الحالة إلى كل ما يبعده عن الله تعالى ويكرس همه وعمله فيما يقربه إلى الله تعالى.

القريب من الله تعالى من اتصف بصفاته تعالى:

وقد ذكر لمعنى القرب إلى الله تبارك وتعالى عدة معانٍ إذ لا يمكن حملها على ظاهرها، فالله ليس بعيداً عن شي من مخلوقاته وهو أقرب إلينا من حبل الوريد وأكثر من ذلك [وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ](الأنفال:24)، وفي الدعاء (يا من قَرُبَ من خطرات الظنون) وفي آخر (وقرب فشهد النجوى).

إن القرب من الله تعالى يعني فيما يعني مقدار الاتصاف بالصفات الإلهية المعبر عنها بالأسماء الحسنى، فقربه إلى الله تعالى يكون بمقدار تجرده عن الخصائص المادية وحمله للصفات الإلهية بحيث تكون هذه الصفات ذاتية له.

والإنسان يحمل كلا الخصائص، وبلحاظ الأولى وهي المادية ذمّه القرآن

ص: 103

ووصفه بأوصاف قبيحة: (عجول، كفار، كنود، ظلوم، جهول) وهي التي طبيعتها وسجيتها أن تقعده عن فعل الخير وتشده إلى الأرض، أرض النفس الأمارة بالسوء، أرض الشهوات والغرائز [اثَّاقَلْتُمْ إلى الأَْرْضِ](التوبة:38) [أَخْلَدَ إلى الأَْرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ](الأعراف:176)، وبلحاظ الثانية وهي الإلهية مدحه القرآن وكرّمه [وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً](الإسراء:70)، وإنسانية الإنسان إنما تتحقق بالثانية لا بالأولى التي يشاركه فيه الحيوان. وقد خطر على ذهني ذات مرة وأنا في الحضرة العلوية الشريفة هذا المعنى للحديث الشريف: (قيمة كل امرئ ما يحسنه)، أي أن درجته عند الله تبارك وتعالى تكون بمقدار ما يحمل من الصفات الحسنى لله تبارك وتعالى، فكلما ازدادت رحمته كان أقرب إلى الله، لأن الرحيم من الأسماء الحسنى، وكلما ازداد عفوه كان أقرب، لأن العفو من الأسماء الحسنى، وهكذا كلما ازداد كرمه وحلمه وعلمه وحكمته وصبره على أن تكون هذه الصفات ذاتية له وراسخة فيه وليست طارئة عليه ولا تصدر منه بتكلف.

الفرق بين الصالحين والذين عملوا الصالحات:

لذلك يفرق القرآن بين مرتبتين: أولهما: الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وثانيهما: الصالحين، تلك الفئة التي يدعو مثل ابراهيم (علیه السلام) أن يجعله منهم في قوله تعالى [وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ](يوسف:101)، فالأولى أدنى مرتبة من الثانية؛ لأنه وإن عمل صالحاً إلا أنه لا تعلم حقيقته ما هي، فقد يصدر منه غير

ص: 104

الصالح، لذلك فقد ورد في آية أخرى [خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً](التوبة:102)، فإذن يمكن أن يصدر منهم كلا العملين، أما الثاني فذاته صالحة فهو الصلاح بنفسه، فلا يصدر منه إلا صالح.وقد ذكر العلماء لذلك مثالاً: قطعة الفحم إذا وضعتها قريبة من النار فإن لها حالات ثلاث: الأولى تصبح الفحمة حارة، والثانية تصبح حمراء لكن باطنها يبقى فحماً فلم تتبدل حقيقتها، والثالثة أنها تتأجج النار في باطنها حتى تصبح جمرة متقدة بذاتها ومصدراً لإعطاء الحرارة والنور، فقد تبدلت حقيقتها، فالحالة الأولى تزول بسرعة بمجرد زوال مصدر الحرارة وتعود فحمة سوداء، أما الثانية فتزول لكن ببطء، أما الثالثة فغير قابلة للزوال ولا تعود فحماً بعد أن تبدلت حقيقتها.

فالإنسان قد تصدر منه الأعمال الصالحة من دون أن تتحول ذاته من مادية أرضية إلى إلهية، فهذه وإن كانت على خير إلا أنها عرضة للانحراف في أية لحظة، وهي أدنى مرتبة من تلك التي تبدلت حقيقتها وتحولت فأصبحت مصدراً للخير فقط ولا تصدر منها المعصية بل لا يخطر على ذهنها شي من ذلك، وقد سمّى الله تبارك وتعالى الفئة الأولى أصحاب اليمين، والثانية السابقون، وقال عنهم: [أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ](الواقعة:11) رغم أن كليهما على خير، وبهذا نكون قد أيدنا المعنى الذي ذكرناه للقرب أي أن القرب إلى الله تعالى يكون بمقدار ما تتغير ذات الإنسان بالصفات الإلهية حتى تصبح حقائق راسخة فيها.

فالغاية الأسمى من هذه الطاعات والقربات أن تتغير بها الذات وتُهَذَّب

ص: 105

وتسمو وتقترب شيئاً فشيئاً من الصفات الإلهية، ولا يكفي أن تصدر هذه الأفعال من الشخص مع بقاء ذاته ونفسه على ما هي عليه من المادية والإخلاد إلى الأرض واتباع الشهوات، أي إن ظاهره صالح لكن باطنه ما زال غير ذلك.

قيمة العمل هو ما يغير الذات:

وتوجد شواهد عديدة على ذلك، أي على أن قيمة العمل إنما تكون بما يؤثر في تغيير الذات، فمثلاً: شخص يسأل الإمام (علیه السلام): يا بن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كيف أعرف أن صلاتي مقبولة؟ قال الإمام (علیه السلام): انظر إلى حالك، فإن نهتك عن الفحشاء والمنكر فهي مقبولة بمقدار نهيها عن ذلك(1)، وفي القرآن الكريم قوله تعالى: [لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ](الحج:37).

وفي رواية أن امرأة كانت على عهد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تغتاب غيرها وتتكلم بكلام بذيء وهي صائمة، فأرسل (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إليها من يأمرها بالإفطار.

وفي حديث: (كم من صائمٍ ليس له من صومه إلا الجوع والعطش، وكم من قارئ للقرآن والقرآن يلعنه)، والشواهد كثيرة على أن العمل الصالح إنما

ص: 106


1- يروى أن طالباً جاء إلى العلامة الطباطبائي (قدس سره) يشكو له عدم خشوعه في صلاته وانشغاله بالدنيا في الصلاة فقال له العلامة: (أفرغ قلبك مما سوى الله تعالى خارج وقت الصلاة ثم انظر النتيجة في الصلاة). حقاً إنها وصفة دقيقة وهذا هو حال أكثرنا فنحن على مدار ال_(24 ساعة) مشغولون بالدنيا ونريد في هذه الخمسة دقائق أن نخشع وهذا غير ممكن طبعاً لذا يقول متى ما وصل الإنسان إلى أن يكون مع الله تعالى مدار اليوم فإن النتيجة ستكون متحققة ويحصل على ملكة الخشوع.

يكتسب قيمته بمقدار ما تتغير ذات الإنسان به ويقربه من الأخلاق الإلهية.

كيف نجعل الصلاح ملكة؟

إن الإنسان يستطيع بتركيز الأعمال الصالحة والمواظبة عليها وترسيخ آثارها أن يجعل الصلاح ملكة راسخة عنده، فيواظب على الكرم حتى يصبح كريماً(1)، وعلى الرحمة حتى يصبح رحيماً، وعلى الجود حتى يصبح جواداً، وعلى العفو حتى يصبح عفوّاً، وعلى الحكمة حتى يصبح حكيماً، بمعنى أن هذه الصفات تصبح ملكات راسخة فيه وليس حالات طارئة أو تصدر عنه تكلفاً، فأمير المؤمنين والزهراء والحسنان (ع) حينما جاءهم المسكين واليتيم والأسير وتصدقوا بكل أرغفتهم كان يمكنهم إعطاء حصة فرد منهم لقضاء حاجته، لكنهم ولكون الكرم بل الإيثار صفة ذاتية لهم لم يكونوا يرون قضاء حاجة هذا السائل واجباً كفائياً بل هو عيني على كل واحد منهم.

وقد وصف الفرزدقُ الشاعرُ الإمام السجّادَ (ع):

ما قال لا قطّ إلاّ في تشهّدهِ *** لولا التشهّدُ كانت لاؤه نعمُ

فكان الخير ينبع من ذاته ولا يعرف غير الخير، وبذلك يستطيع أن يقترب من الله تبارك وتعالى ويتحلى بصفاته وينال الدرجات القريبة منه تبارك وتعالى [أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ] (الواقعة:11).

ص: 107


1- وقد يقتضي الأمر إلى الإفراط بالكرم خصوصاً إذا كانت عنده حالة البخل كبيرة أو التصنع بالكرم في البداية لكسر مرض البخل إلى أن يعتاد على الكرم ويصبح عنده ملكة ثم يعود إلى حالة الوسطية.

حديثا قرب النوافل وقرب الفرائض:

حديثا قرب النوافل وقرب الفرائض:(1)

ففي الحديث القدسي: (ما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به...إلخ)، بل الأمر أكثر من ذلك، ففي حديث آخر: (ما زال عبدي يتقرب إلي بالفرائض حتى أحبه فإذا أحببته صار سمعي الذي أسمع به...الخ)، هذا الإنسان الضعيف العاجز القاصر يصبح سمع الله تبارك وتعالى وعين الله ووجه الله، وقد وصل مثل أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى هذا المقام، فيقول (ع): (أنا وجه الله)، ويقول ع: (أنا عين الله)، وورد في زيارة الإمام المنتظر (علیه السلام): (السلام عليك يا عين الله)، وعندما يقول الإمام (علیه السلام): اسم الله الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفاً، عندنا منها اثنان وسبعون حرفاً، أي إن لله تبارك وتعالى ثلاثاً وسبعين صفة وخلق، تحلّى المعصومون (علیهم السلام) باثنتين وسبعين منها، كالعلم والقدرة، ولكن الفرق أنها ليست مستقلة عندهم، وإنما فاعليتها بإذن الله تبارك وتعالى.

ص: 108


1- من المؤسف حقاً أن لا تؤلف الكتب على مثل هذه الأحاديث التي تكاد تكون متواترة لما لها من الأهمية البالغة في مسيرة الإنسان التكاملية تجاه الله تعالى فنحن بحاجة كبيرة لبناء روحي وفكري وعقيدي فما الفائدة من التركيز على الفروع فقط وترك الأصول والمسائل الأساسية التي خلقنا لأجلها لذا ينبغي الجمع بينهما للوصول إلى النتيجة المطلوبة. وحديثا قرب النوافل وقرب الفرائض يشيران إلى آخر مقامين من مقامات سير الإنسان إلى الله تعالى حيث يصل الإنسان إلى نزع الأنا مطلقاً فيكون مظهراً لصفات الله تعالى كما في دعاء الإمام الحجة(عجل الله فرجه الشريف) (لا فرق بينك وبينها إلا أنهم عبادك).

مقارنة بين قوة أهل الله والغرب:

وهنا أريد أن ألفت نظركم إلى مقارنة بسيطة بين القوة الموجودة عند أهل الله تعالى وتلك التي يتسلط بها المستكبرون، فهذا الغرب الكافر المتغطرس الذي يريد إركاع الشعوب وإخضاعها بكل جبروته وطغيانه إنما هو جزء يسير من حرف واحد هو العلم، والإمام المهدي (علیه السلام) عندما يأذن الله تبارك وتعالى له بالظهور يكون له من العلم خمسة وعشرين مرة بقدر ما عند البشرية من علوم حسبما نطقت به الروايات، وهذا التفوق له (ع) في حرف واحد، فكيف وهو له اثنان وسبعون حرفاً؟ فتتضاءل كل وسائل طغيانهم وفرعنتهم أمامه (ع). عندنا رواية عن الإمام الرضا (علیه السلام) تقول: إن الله تعالى إذا بعث نبياً وأراد أن يدعم دعوته بمعجزة فإنه يجعلها مشابهة لأرقى فنون العصر، لذا أعطى موسى (علیه السلام) العصا التي تلقف ما يأفكون من السحر، وكان عيسى (ع) يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص لتقدمهم في علم الطب.

لا حاجة للمعجزة عند الإمام المهدي (عليه السلام):

وسيأتي الإمام المهدي (علیه السلام) بما يذهلهم من العلوم التي تسحق تكنولوجيتهم وتتركها عاجزة عن مواجهته (ع)، ولا أعني بذلك أن الإمام (علیه السلام) بحاجة إلى معجزة أو إنه يظهر كلمته بطريق إعجازي، وإنما أريد أن أقول إنه سيواجه تحديات العصر بأرقى فنونها كما واجه الأنبياء (ع) أممهم.

وقد كان لآصف وصي سليمان (ع) حرف واحد استطاع به بإذن الله أن يأتي بعرش بلقيس من اليمن قبل أن يرتد الطرف، وليس هذا الحرف طبعاً من

ص: 109

سنخ الحروف اللفظية الهجائية، وإنما يعني صفة كالعلم أو القدرة بإذن الله تبارك وتعالى، وقد استأثر تبارك وتعالى بحرف أي بصفة لا بخلاً حاشاه، وإنما لعدم قابلية المحل(1)، ذلك الحرف هو (الغنيّ)، فإن مخلوقاته مهما اتصفت بصفاته تبقى محتاجة إليه، فالغنى عين ذاته كما إن الفقر والحاجة عين ذات مخلوقاته لا تستطيع أن تنفك عنها.وهذه المعاني كلها يتضمنها الدعاء المروي عن صاحب العصر أرواحنا له الفداء بواسطة سفيره الأمين أبي جعفر محمد بن عثمان بن سعيد الوارد في أعمال شهر رجب، فيصفهم (ع) بأنهم (الواصِفُونَ لِقُدْرَتِكَ المُعْلِنُونَ لِعَظَمَتِكَ) أي إنهم مظاهر صفاتك الحسنى إلى أن يقول: (لا فَرْقَ بَيْنَكَ وَبَيْنَها إِلاّ أَنَّهُمْ عِبادُكَ وَخَلْقُكَ فَتْقُها وَرَتْقُها بِيَدِكَ بَدْؤُها مِنْكَ وَعَوْدُها إِلَيْكَ)(2)، فهم إذن عباد محتاجون، لا يستغنون عنك، وهذا ما عنيناه بعدم قابلية المحل.

وبهذه القدرة على التكامل والاتصاف بالصفات الإلهية استحق الإنسان أن يكون خليفة الله تبارك وتعالى في أرضه، لأنه يستطيع أن يمثل ويظهر الصفات الإلهية، بينما الملائكة تستطيع إظهار بعض هذه الصفات، فقدرتها على التمثيل والخلافة محدودة.

ص: 110


1- كما يعبرون عنه بإناء القلب فكلما كان إناء القلب كبيرا كان استعداده لاستيعاب الفيوضات الإلهية اكبر وكلما كان صغيرا كان الاستعداد اقل إلى أن يصل إلى درجة بحيث لا استعداد له مطلقاً وتجد هذا المعنى في قوله تعالى: [أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها] (الرعد:17).
2- وجاء في الاحتجاج ج2/ص438 (قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لا تتجاوزوا بنا العبودية ثم قولوا فينا ما شئتم و لن تبلغوا و إياكم والغلو كغلو النصارى فإني بري ء من الغالين).

لا بد من التخلق بأخلاق الله تعالى:

وقد ورد في الحديث: (تخلّقوا بأخلاق الله)، فمثلا أنت رب عائلة، فينبغي أن تتصرف معهم كما يتصرف الرب الخالق مع المربوبين، يغدق عليهم بالنعم وإن كانوا يعصونه ويستكبرون عن طاعته وتنفيذ أوامره، ويحلم عنهم ويرعاهم ويرحمهم، فالمتخلقون بأخلاق الله عاكسون للصفات الإلهية ومظهرون لها كما تعكس المرآة الصور، فمثلاً: العالم يستطيع أن يظهر علمه مباشرة بالتدريس أو التآليف، ولكنه يمكن أن يظهره من خلال تربية طلابه وإعدادهم فيكونون مظهرين لعلمه، والله تبارك وتعالى قد أظهر علمه مباشرة بهذ القرآن، ولذا قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لقد تجلّى الله لعباده في كتابه، ولكن لا تبصرون)، والتجلي الثاني لعلمه تبارك وتعالى هم محمد وآل محمد (صلى الله عليهم أجمعين) المظهرون لعلمه.

النفس مظهر الصفات الإلهية:

والنفس الإنسانية مظهر للصفات الإلهية تتجلى فيها، لذا جاء الحديث الشريف: (من عرف نفسه فقد عرف ربَّه)، وأحد هذه التجليات للنفس كان حين عرض الخالق على المخلوقين الأمانة في عالم الذر، وقد بينته الآية الشريفة [وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ](الأعراف:172).

ففي كل شهادة توجد مرحلتان: مرحلة تحمل الشهادة بمعنى الاطلاع على

ص: 111

المشهود عليه والتيقن به، والمرحلة الثانية أداء الشهادة بعد تحملها، وهذا مذكور في كتب الفقه، فمثلاً حينما يرى الشخص إجراء الطلاق من قبل الزوج فهذا تحمّل للشهادة، وعندما يدعى إلى الشهادة عند القاضي ويدلي بشهادته فهذا أداء للشهادة.فالله تبارك وتعالى حمَّل بني آدم الشهادة أولا بأن أطلعهم على أنفسهم وكانت صافية كالمرآة تعكس حقيقة ربوبية رب العالمين، فوجدوا فيها حقيقة الربوبية لله تبارك وتعالى والفقر التام إلى لطفه ورعايته، لذلك حينما سئلوا: ألست بربكم؟ أدّوا الشهادة التي تحمّلوها بلا تردد لوضوح الصورة أمامهم: بلى.

وهذه هي فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهي موجودة عند كل أحد، ولكن الإنسان الذي يلوثها ويعكر صفوها بالذنوب [بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ](المطففين: 14) [فَإِنَّها لا تَعْمَى الأَْبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ](الحج:46)، فعندما كانت قلوبهم صافية لم تلوثها الذنوب ولم تكدرها المؤثرات الخارجية كان اعترافه بالربوبية بلا تردد، وفي الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجّسانه)(1)، وفي الدعاء: (وَأنَّ الرَّاحِلَ إِلَيْكَ قَرِيبُ المَسافَةِ، وأَنَّكَ لا تَحْتَجِبُ عَنْ خَلْقِكَ إِلاّ أَنْ تَحْجُبَهُمُ الأعمال دُوَنَكَ).

ص: 112


1- بحار الأنوار: 58/ 187.

مفتاح الذنوب الغفلة:

ومفتاح هذه الذنوب الغفلة عن الله تبارك وتعالى والالتفات إلى النفس والأنا، فيكون علاجها بالذكر الدائم، ولا نعني به - كما ورد عنهم (علیهم السلام): أن تلزق لسانك بحنكك تقول: سبحان الله والحمد لله؛ وإنما أن ترى الله حاضراً عندك ومعك ويحول بينك وبين قلبك، فحينما تحدث نفسك فالله مطلع على هذا الحديث، فإذا غفل عن الله هوى وتردى وأضاع نفسه ونساها [ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ] (الحشر:19).

أقول كل هذا الكلام لأمرين:

الأول: فتح أذهانكم على هذه المعارف الإلهية والحقائق العالية لتكون خير محفز لكم نحو التكامل، فإن أول خطوة في طريق العمل هو العلم(1)، فمن دون العلم بالشيء لا يتسنى العمل به، وقد تضمن هذا الكلام بيان مقامات رفيعة يمكن للإنسان أن يصلها بالإخلاص والهمة ونكران الذات والاتكال على الله تبارك وتعالى.

الثاني: إننا ونحن نفارق شهر رمضان بكل ما حمل إلينا هذا الشهر من عطايا ومنح (أنفاسكم فيهِ تسبيح ونومكم فيهِ عبادة وعمَلكم فيهِ مقبُول ودعاؤكُم فيه مستجاب) فكان خير ناصر أعان على الشيطان، وصاحب سهّل سبل الإحسان، فكم سوء صرف به عنا، وكم من خير أفيض به علينا، وفد علينا بالبركات وغسل عنا دنس الخطيئات، وقد عشنا فيه سموّاً روحياً بإذن الله تبارك

ص: 113


1- جاء في أول خطبة في نهج البلاغة قوله (عليه السلام): (أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ وَ كَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ وَكَمَالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ).

وتعالى لا نجد مثله في غيره من الشهور، كالحالة الروحية التي نعيشها بوجودنا في هذا المسجد الشريف وحضورك في هذه الشعيرة المقدسة، فإنك تحس أنك تقترب من الله تبارك وتعالى وتعيش في كنفه، فالمطلوب منا ألاّ تكون هذه الحالة طارئة وعارضة تزول بمجرد زوال سببها، يعني بمجرد انتهاء شهر رمضان أو خروجنا من المسجد، وإنما علينا أن نتغير من الداخل ونصلح باطننا حتى تكون هذه الحالة الإلهية صفة راسخة لها تحثنا على كل خير وتحصننا من كل معصية حتى نبلغ شهر رمضان المقبل فننال ألطافاً جديدة.

كيف تعرف الحوزة نجاحها في شهر رمضان:

ونحن كحوزة علمية إذا أردنا أن نعرف مدى نجاحنا في شهر رمضان فعلينا أولاً أن نلتفت إلى الامتحانات التي حملناها في هذا الشهر الكريم لنعرف ماذا أنجزنا على طريق النجاح فيها، ومن ثم نكون مسؤولين عن الاستمرار بالنجاح هذا والمحافظة على الروحية العالية التي حصلت لنا بفضل الله تبارك وتعالى وببركات هذا الشهر، فقد كانت مسؤوليتنا بعدة اتجاهات:

1- مراقبة أنفسنا وتهذيبها ومنعها من الانسياق وراء الشهوات والمطامع من حب الجاه والمال وكثرة الأتباع.

2- تحصيل الإخلاص لله تبارك وتعالى وتعميق الارتباط به والمعرفة به تبارك وتعالى من خلال القرآن الكريم والأدعية والأحاديث المأثورة(1).

3- مضاعفة الهمة والجد والاشتغال والدرس والتحصيل لتشييد هذا الصرح

ص: 114


1- راجع كتاب شكوى القرآن لسماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله).

العظيم الخالد، حتى تسليمه إلى راعيه الأول أرواحنا له الفداء، صرح الحوزة العلمية وفقه أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ).4- وفي حفظ إلفتنا ومودتنا ووحدتنا واجتماع قلوبنا على توحيد الله تبارك وتعالى وولاية محمد وآل محمد (صلى الله عليهم أجمعين) وكفى بذلك جامعاً مشتركاً، وقد عشنا السمو والصفاء بلطف الله تبارك وتعالى في جميع هذه الاتجاهات وبروح عالية خصوصاً في الليالي والمناسبات الشريفة، فلا ينبغي لنا التراجع عنها وخسارتها(1).

5- وفي أداء مسؤولياتنا تجاه المجتمع من قضاء حوائجهم وحلّ مشاكلهم ورعايتهم وهدايتهم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي هذا الاتجاه بالذات وجدت تقصيراً واضحاً لدى الحوزة الشريفة خلال شهر رمضان المبارك، حيث قعد الكثيرون عن أداء وظيفتهم منشغلين بمسؤوليات أقل أولوية، كالكتابة ومراجعة الدروس رغم أنه لا منافاة بينها أصلاً، فيستطيع القيام بها جميعاً بتوفيق الله تبارك وتعالى، فإذا لم نؤدِّ وظيفة الوعظ والإرشاد والتوجيه في شهر رمضان، فمتى نؤديها؟ وأي فرصة أنسب منه حيث تجد القلوب عامرة بالإيمان ومتوجهة لداعي الله والمساجد مكتظة بالمؤمنين [يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَْرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ] (الأحقاف: 30-32).

ص: 115


1- راجع كتاب الصراع الحضاري بين الإسلام والغرب لسماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله).

وفي الحقيقة فإن لطف الله تعالى بعباده ومدّ حبل الرحمة إليهم ليجذبهم إليه ليست منحصرة بشهر رمضان وإن كان هو أبرزها، بل هناك ليلة الجمعة ويومها وبعض الأزمنة الشريفة الأخرى، وهناك أمكنة كالمشاهد المعظمة للأئمة الأطهار (ع) والمساجد عموماً ومجالس الوعظ والإرشاد وذكر أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وصلوات الجماعة بل الصلاة عموماً، فإنها معراج كل تقي وفرصة لإعادة الصلة بالله تبارك وتعالى وتجديد الروح المعنوية، وجرعة مستمرة لردع النفس ونهيها عن الفحشاء والمنكر. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبيه محمد وآله الطاهرين.

ص: 116

كيف نفهم العيد بالشكل الصحيح

كيف نفهم العيد بالشكل الصحيح(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

من خطبتي صلاة عيد الفطر التي أقيمت في مسجد الكرامة في النجف الأشرف لسنة 1421ه_/2000م، بإمامة الشيخ محمد اليعقوبي (دامت بركاته).

بدأهما بالحمد والثناء على الله تبارك وتعالى بما هو أهله، والصلاة والتسليم على سيد خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين، بنصوص مقتبسة من الصحيفة السجادية، ودعاء الافتتاح، ثم قرأ آية للموعظة، وهي قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ] (الحشر:18-19) ونبه إلى أن نسيان الله تبارك وتعالى يكون بنسيان السبل الموصلة إليه وعدم الالتزام بها، ومنها الحضور في المسجد، ليس هذا المسجد فقط بل عموم المساجد، فعدد الحاضرين لم يتجاوز ثلاثمائة مصلٍّ رغم أنه يتوسط أحياء سكنية تضم آلاف المسلمين:- ثم حرّر هذا العيب الاجتماعي في كتاب مستقل بعنوان (شكوى المسجد).

ص: 117


1- من خطبتي صلاة عيد الفطر التي أقيمت في مسجد الكرامة في النجف الأشرف لسنة 1421ه_ الموافق 28/ 9/ 2000 م.

شهر رمضان سبب للخيرات والبركات:

ثم قال: بالأمس فارقنا صاحب عزيز علينا، وهو شهر رمضان، وليس من حسن الصحبة أن يفارقنا بلا وداع، فقد أقام فينا هذا الشهر مقام حمد وصحبنا صحبة مبرورة، وكان سبباً لكثير من البركات والخيرات ومنها:

1- إنه الداعي، أي المبلغ لبطاقة الدعوة، إلى ضيافة الله سبحانه، فكنا ضيوفاً عنده تبارك وتعالى شهراً كاملاً، ولك أن تقدر وتتصور شرف وكرامة هذه الضيافة بمقارنتها بالضيافة الدنيوية فيما لو دعاك المرجع الديني مثلاً أو شخصية مرموقة في المجتمع لضيافته، وماذا كانت العطايا على مائدة الضيافة؟ (أنفاسكم فيهِ تسبيح ونومكم فيهِ عبادة وعمَلكم فيهِ مقبُول ودعاؤكُم فيه مستجاب...) إلى آخر ما ذكر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في خطبته.

2- إن هذا الشهر قد أربحنا أفضل أرباح العالمين؛ فإن التجارة مع الله سبحانه أربح التجارات، فهي أولاً لا تبور بل خالدة دائمة، ويصفها تبارك وتعالى: [مثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ] (البقرة:261)، فالواحد بسبعمائة ضعف، ثم يقول عز من قائل: [وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ]، وفي شهر رمضان تتضاعف هذه الأرباح بما لا يحصيها إلاّ الله سبحانه، فهنيئاً لمن استثمر ساعات عمره في اكتساب الحسنات وعمل الخيرات، ومن هذه الأرباح ما قاله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (ومَن تطّوع فيهِ بصلاة كتبَ لَهُ براءة مِن النّار، ومَن أدّى فيهِ فرضاً كان لَهُ ثواب مَن أدى سبعينَ فريضة فيما سواه مِن الشهّور، ومَن أكثر فيهِ من الصلاة عليّ ثقل الله ميزانه يَوم تخفُّ الموازينَ، ومَن تلا فيهِ آية مِن القرآن كانَ لَهُ مثل

ص: 118

أجر مَن ختم القُرآن في غَيرَه مِن الشهور). 3- إن فرص الطاعة تزداد في هذا الشهر لتصاعد الهمم وزيادة الرغبة في عمل الخير، فتجد أحدنا يحب أن يصلي المستحبات أو يزور المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) خصوصا الإمام الحسين (علیه السلام).

وآخر يحب الإطعام، وآخر يكثر من تلاوة القرآن أو الدعاء بشكل لا يشابهه شي في بقية الشهور ببركة هذا الشهر العظيم.

إن فرص المعصية تقلّ في هذا الشهر وسببه واضح لأن مناشئ المعصية هي الغرائز والشهوات للنفس الأمارة بالسوء، وفي هذا الشهر تخمد هذه الشهوات وتقلل بشكل كبير، لأن الإنسان يمتلك الإرادة في هذا الشهر على ترك المحلل من الطعام والشراب والنكاح، فكيف لا يكون قادراً على اجتناب المحرمات، لذا تجد المجتمع يبتعد عن المعاصي بشكل ملحوظ، فالسافرة تتحجب وتارك الصلاة يصلي والذي يطفّف في الميزان يترك هذا الفعل الشنيع والمعتاد على الكذب أو الغيبة والنميمة والنفاق يتركهما ويقول: (إني صائم).

وإلى هاتين النقطتين أشار (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال: (أيها النّاس، إنّ أبواب الجنان – وهي على بعض التفاسير نفس الطاعات والأعمال الصالحة على القول بتجسم الأعمال- في هذا الشّهر مفتحة فسلوا ربّكم أن لايغلقها عَلَيكُم، وأبواب النيران – وهي السيئات والمعاصي بنفس التفسير السابق – مغلقة فسلُوا ربّكم أن لا يفتحها عَلَيكم والشيّاطين مغلولة فسلوا ربّكم أن لا يسلّطها عَلَيكُم)، وبهذا التفسير نفهم ما ورد عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه كان بين أصحابه يوماً فسمع هدّة عظيمة أفزعت الخليقة، فسئل عن ذلك (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال: هذا رجل عمره سبعين

ص: 119

سنة قضاها في المعاصي، فهو طول هذه المدة يهوي في جهنم بارتكابه المزيد من المعاصي حتى مات فاستقرَّ في قعر جهنم التي أعدها لنفسه. ثم نقل بعض فقرات دعاء الإمام السجّاد (ع) لنطلع على المزيد من النعم التي من الله تبارك وتعالى علينا بها في هذا الشهر الشريف: (السَّلامُ عَلَيْكَ مِنْ مُجَاوِرٍ رَقَّتْ فِيهِ الْقُلُوبُ، وَ قَلَّتْ فِيهِ الذُّنُوبُ. السَّلامُ عَلَيْكَ مِنْ نَاصِرٍ أَعَانَ عَلَى الشَّيْطَانِ، وَ صَاحِبٍ سَهَّلَ سُبُلَ الإحْسَانِ السَّلامُ عَلَيْكَ مَا أَكْثَرَ عُتَقَاءَ اللَّهِ فِيكَ، وَ مَا أَسْعَدَ مَنْ رَعَى حُرْمَتَكَ بِكَ السَّلَامُ عَلَيْكَ مَا كَانَ أَمْحَاكَ لِلذُّنُوبِ، وَ أَسْتَرَكَ لأنْوَاعِ الْعُيُوبِ السَّلامُ عَلَيْكَ مَا كَانَ أَطْوَلَكَ عَلَى الْمُجْرِمِينَ، وَ أَهْيَبَكَ فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ السَّلامُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْرٍ لا تُنَافِسُهُ الأيام.: السَّلامُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْرٍ هُوَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ السَّلامُ عَلَيْكَ غَيْرَ كَرِيهِ الْمُصَاحَبَةِ، وَ لا ذَمِيمِ الْمُلابَسَةِ السّلامُ عَلَيْكَ كَمَا وَفَدْتَ عَلَيْنَا بِالْبَرَكَاتِ، وَ غَسَلْتَ عَنَّا دَنَسَ الْخَطِيئَاتِ السَّلامُ عَلَيْكَ غَيْرَ مُوَدَّعٍ بَرَماً وَ لا متروك صِيَامُهُ سَأَماً. السّلامُ عَلَيْكَ مِنْ مَطْلُوبٍ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَ مَحْزُونٍ عَلَيْهِ قَبْلَ فَوْتِهِ. السَّلامُ عَلَيْكَ كَمْ مِنْ سُوءٍ صُرِفَ بِكَ عَنَّا، وَ كَمْ مِنْ خَيْرٍ أُفِيضَ بِكَ عَلَيْنَا، السلام عليك وعلى ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، السلام عليك ما كان أحرصنا بالأمس عليك وأشد شوقنا غداً إليك، السلام عليك وعلى فضلك الذي حرمناه وعلى ماضي من بركاتك سلبناه) ثم ختم الخطبة الاولى بتلاوة سورة الكوثر.

وبعد جلسة خفيفة قام إلى الخطبة الثانية فقال:

الحمد لله كما هو أهله، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين وسلم تسليماً كثيراً.

ص: 120

كيف نفهم العيد بالشكل الصحيح:

اشارة

كثيراً من الناس لا يعي ولا يفهم معنى العيد بالشكل الصحيح كما يريده الله سبحانه وتعالى، فإنه يفهمه على أنه إيذان بانتهاء الحظر والمنع الذي فرض على ممارسة مشتهيات النفس بالحلال أو حتى بالحرام والعياذ بالله، فتراهم يتسامحون في أمر الدين ويتساهلون في تعاليمه، فيحصل الاختلاط بين الجنسين أثناء زيارات الأقرباء، وتضع النساء الزينة أمام غير المحارم، وربما جرت عادة بعض الناس على مصافحة النساء والرجال، أو التساهل بأمر الحجاب باعتبار أن الأيام أيام فرح وسرور، ويقصد بعضهم أماكن اللهو واللعب وحفلات الفسق والفجور ويشاهدون البرامج الفاسدة، وكأنَّ معنى العيد هو العودة إلى الحياة السابقة قبل شهر رمضان بكل ما تتضمنه من ابتعاد عن الله سبحانه، ويتخلى عن كل التقدم والتقرب إلى الله سبحانه الذي حققه في شهر رمضان، ويغفل عن الحديث النبوي الشريف: (من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان أمسه خيراً من يومه فهو ملعون)، فهل حاسبنا أنفسنا لنرى من أي هذه الأصناف نحن، من هنا وجب علينا أن نبين بعض النقاط التي ينبغي الالتفات إليها في مثل هذه المناسبة الشريفة:

1- إن العيد يمثل الوصول إلى الهدف الحقيقي، وهو نيل رضا الله سبحانه، باعتبار أن المؤمن يمرّ بتربية ومعاناة طويلة خلال الشهر من خلال ما يؤديه من طاعات، ويزداد تركيز هذه التربية في العشر الأواخر التي كان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فيها يطوي فراشه ويشدُّ مئزره للعبادة، وتتضمن ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فيأتي العيد تتويجاً لهذه المرحلة المضنية، حيث يمثل

ص: 121

بلوغ الهدف والنهاية لهذه المرحلة من التربية والتكامل ويكون مستعداً لقبول المرحلة التالية من التكامل، باعتبار أن مراحل التكامل والتقرب إلى الله تبارك وتعالى لا نهائية، قال تعالى: [وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً] (الإسراء: 21)، فإذا كان هذا معنى العيد، فكيف يرجع الإنسان القهقرى وينزل إلى المراحل التي تجاوزها بعد جهد وجهاد طويلين. 2- إن من حق الناس أن يفرحوا بالعيد لكن فرحهم مع الأسف لأسباب دنيوية، فهو يفرح لإباحة الطعام والشراب والنكاح ولإزالة الموانع التي كانت مفروضة عليه في شهر رمضان، وكان المفروض عليه أن يحزن لفوات تلك البركات والنعم التي كان شهر رمضان سبباً لنزولها على العباد والتي ذكرنا بعضها في الخطبة السابقة، لذا قال الإمام السجاد (علیه السلام) في دعائه: (فنحن مودعون وداع من عز فراقه علينا وغمنا وأوحشنا انصرافه عنا)، وقال (علیه السلام): (السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ قَرِينٍ جَلَّ قَدْرُهُ مَوْجُوداً، وَأَفْجَعَ فَقْدُهُ مَفْقُوداً، وَمَرْجُوٍّ آلَمَ فِرَاقُهُ).

الصحيح أن يكون الفرح والحزن للأسباب الأخروية:

والفرح الدنيوي - أعني ما كان لأسباب دنيوية كربح تجارة أو رزق مولود أو زيادة أموال أو تحصيل جاه أو منصب اجتماعي – مذموم عند الله تبارك وتعالى، لأنه لا يصبُّ في الهدف الحقيقي، قال تعالى في قصة قارون: [لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ] (القصص: 76)، وكان فرحه لأن الله آتاه ثروة طائلة وصفها تبارك وتعالى: [وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي

ص: 122

الْقُوَّة] (القصص:76)، وقال تعالى: [وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ] (الحديد:23)، وقد يؤدي هذا الفرح إلى البطر والاختيال والطغيان فيكون وبالا، كما حصل لقارون إذ كانت نتيجته [فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ، وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ] (القصص: 81-82). وكذا الحزن بفوات أمور دنيوية مذموم، قال تعالى: [مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ] (الحديد: 21-22).

والصحيح أن يكون الفرح للأسباب الأخروية، فتفرح إذا وفقك الله تعالى لصلاة الليل، أو زيارة قبر الحسين (علیه السلام)، أو قضاء حاجة أخيك المؤمن، وتفرح إذا انتصرت على نفسك(1)، مثلاً حصل سوء تفاهم بينك وبين أخيك المؤمن، فإن نفسك تستكبر وتنتظر من ذلك الطرف أن يأتي ويعتذر، فتنتصر عليها وتذهب أنت إلى أخيك وتعتذر إليه، أو تمر بك امرأة جميلة قد ظهرت بعض مفاتنها فتدعوك نفسك إلى النظر إليها، فتعصيها وتنتصر عليها بترك النظر إلى تلك المرأة، عندئذ ستشعر بلذة وسعادة في قلبك تكون منشأ لفرح حقيقي ومحمود عند الله تبارك وتعالى.

ص: 123


1- عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (أشجع الناس من غلب هواه).

وأنتم بحضوركم إلى هذا المسجد المبارك وإقامتكم لهذه الشعيرة المقدسة في حين راح غيركم يمرح ويلعب ويلهو إنما تعيشون فرحاً حقيقياً، لأنكم في طاعة الله سبحانه وفي رحاب بيته. وكذا الحزن لا بدَّ أن يكون لفوات شي كان يمكن أن يستغل لتحقيق المزيد من القرب إلى الله تعالى، كانتهاء شهر رمضان الفرصة العظيمة لنيل رضا الله سبحانه.

3- إن يوم العيد يعتبر زمان إعلان النتائج لامتحان شهر رمضان - فإذا امتثل الإنسان لأوامر الله سبحانه وأدى التكاليف بالصورة التي ترضي الله سبحانه فهو من الناجين الفائزين، وإن لم يفعل ذلك فهو والعياذ بالله من الأشقياء الذين وصفهم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في خطبته فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (فإن الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم).

فمن حق الفائزين أن يفرحوا بنجاحهم في هذا الامتحان الكبير، ولكن هؤلاء الفرحين الذين يلهون ويلعبون ويضحكون في العيد هل اطلعوا على النتائج فوجدوا أنفسهم من الناجين؟ أم أخبرهم ثقة عن الله تبارك وتعالى أنهم في قائمة الفائزين؟ كل هذا لم يحصل، فكيف جاز لهم الفرح وهم لا يعلمون بالنتائج، فالإنسان الواعي يكون في حذر وتوجس عند انتهاء شهر رمضان، لأنه لا يدري هل كتب اسمه في ديوان المحسنين فيفوز أو في ديوان المسيئين والعياذ بالله فيهوي ويسقط.

4- إن الله تعالى قد جعل أزمنة شريفة وأمكنة مباركة ليزيد في إحسان المحسنين، فمن الأزمنة ليلة الجمعة ويومها، وليلة النصف من شعبان، وليلة القدر، والعيدين ونحوها، ومن الأمكنة المباركة المساجد عموماً، والأربعة

ص: 124

منها خصوصاً، ومراقد المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بل سائر الأولياء والصالحين، كل ذلك لكي يضاعف لهم الحسنات أضعافاً كثيرة، فالمفروض أن يستغل الإنسان هذه الفرصة ويزداد من الطاعات، وإذا أضاعها ولم يستغلها فضلاً عما لو شغلها باكتساب المعاصي والآثام والعياذ بالله فسيكون وبالاً عليه، لذلك تجد الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) حشدوا لمثل هذه المواسم الشريفة أعمالاً ومستحبات من دعاء وزيارة وصلاة وذكر وغيرها، فلا ينبغي هدر هذه الفرصة الثمينة. 5- إن الله سبحانه قد حدد شرط قبول الأعمال وهو التقوى، فقال تعالى: [إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ] (المائدة: 37)، فهل هذه الممارسات التي تصدر من هؤلاء الناس هي من صفات المتقين؟ كلا بالتأكيد، فهم إذن ليسوا ممن تقبل أعمالهم، وهم بحاجة إلى البكاء والندم والاستغفار بدلا من الفرح والسرور، قال تعالى: [قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أعمالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً] (الكهف: 103-104) ويقول تعالى في جزائهم وعاقبتهم: [فَحَبِطَتْ أعمالهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً] (الكهف: 105) وفي دعاء الإمام الحسين (علیه السلام) في يوم عرفة: (إِلهِي كَمْ مِنْ طاعَةٍ بنَيْتُها وَحالَةٍ شَيَّدْتُها هَدَمَ اعْتِمادِي عَلَيْها عَدْلُكَ بَلْ أَقالَنِي مِنْها فَضْلُكَ) وهكذا نحن فإن كثيراً من الطاعات التي نتصور حسن الجزاء عليها حينما توزن بميزان العدل الإلهي تجدها بلا قيمة، بل الأمر أدهى من ذلك، فإنها تكون عبارة عن تقصير واستخفاف بمقام الربوبية، فبدلاً من الاعتماد عليها، صرنا نطلب من الله تبارك وتعالى أن يتفضل علينا بعدم المؤاخذة عليها.

ثم ختم الخطبة الثانية بتلاوة سورة النصر.

ص: 125

العود إلى الله في العيد

العود إلى الله في العيد(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

افتتح سماحة الشيخ الخطبة بالحمد والثناء على الله تبارك وتعالى والصلاة على نبيه وآله الطاهرين، وابتدأ الخطبة بقراءة نص من مناجاة الشاكرين للإمام السجاد (علیه السلام)، وقال تعليقاً على ذلك: إنه لولا أن الله تعالى والمعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) علّمونا كيف نخاطب الله تبارك وتعالى لما أمكننا ذلك، فإنك ترى في مقاييس أهل الدنيا أن صاحب الموقع الفلاني لا يمكن مخاطبته إلا وفق السلّم الفلاني، فكيف برب العزة والجلال؟!

وقد ركّز في الدعاء على قول الإمام (علیه السلام) (فَكَيْفَ لِي بِتَحْصِيلِ الشُّكْرِ، وَشُكْرِي إِيَّاكَ يَفْتَقِرُ إلى شُكْرٍ؟ فَكُلَّما قُلْتُ: لَكَ الحَمْدُ، وَجَبَ عَلَيَّ لِذلِكَ أَنْ أَقُولَ: لَكَ الحَمْدُ) ففي هذا تربية عظيمة وبيان لجانب من حقيقة العبودية، لكيلا يسقط الإنسان في مستنقع (الأنا)، فيعجب بنفسه وبعمله ويطغى ويستكبر، فإذا استوعب هذا الدرس علم أنه لا شيء.

وتوخياً للفائدة العامة وللتركيز على المعنى الذي أراد الشيخ اليعقوبي إيصاله إلى أذهاننا أذكر النص الكامل للمناجاة.

(إِلهِي أَذْهَلَنِي عَنْ إقامَةِ شُكْرِكَ تَتابُعُ طَوْلِكَ، وَأَعْجَزَنِي عَنْ إحْصاءِ ثَنائِكَ

ص: 126


1- خطبة ألقيت في صلاة الظهرين يوم عيد الأضحى المبارك 1422ه_ الموافق 23/ 2/ 2002م في جامع حي الغدير في النجف الأشرف.

فَيْضُ فَضْلِكَ، وَشَغَلَنِي عَنْ ذِكْرِ مَحامِدِكَ تَرادُفُ عَوائِدِكَ، وَأَعْيانِي عَنْ نَشْرِ عَوارِفِكَ تَوالِي أيادِيكَ، وَهذا مَقامُ مَنْ اعْتَرَفَ بَسِبُوغِ النَّعْماءِ وَقابَلَها بالتَّقْصِيرِ، وَشَهِدَ عَلى نَفْسِهِ بِالآمالِ وَالتَّضْيِيعِ، وَأنْتَ الرَّؤُوفُ الرَّحِيمِ البَرُّ الكَرِيمُ الَّذِي لا يُخَيِّبُ قاصِدِيهِ وَلا يَطْرُدُ عَنْ فِنائِهِ آمِلِيهِ، بِساحَتِكَ تَحُطُّ رِحالُ الرَّاجِينَ، وَبِعَرْصَتِكَ تَقِفُ آمالُ المُسْتَرْفِدِينَ، فَلا تُقابِلْ آمالَنا بِالتَّخْيِيبِ وَالإياسِ، ولا تُلْبِسْنا سِرْبالَ القُنُوطِ وَالإبْلاسِ، إِلهِي تَصاغَرَ عِنْدَ تَعاظُمِ آلائِكَ شُكْرِي، وَتَضاءَلَ فِي جَنْبِ إكْرامِكَ إيَّايَ ثَنائِي وَنَشْرِي، جَلَّلَتْنِي نِعَمُكَ مِنْ أَنْوارِ الإيمانِ حُلَلاً، وَضَرَبَتْ عَلَيَّ لَطائِفُ بِرِّكَ مِنَ العِزِّ كِلَلاً، وَقَلَّدَتْنِي مِنَنُكَ قَلائِدَ لا تُحَلُّ، وَطَوَّقَتْنِي أَطْواقاً لا تُفَلُّ، فآلاؤكَ جَمَّةٌ ضَعُفَ لِسانِي عَنْ إحْصائِها، وَنَعْماؤكَ كَثِيرةٌ قَصُرَ فَهْمِي عَنْ إدْراكِها، فَضْلاً عَنْ اسْتِقْصائِها، فَكَيْفَ لِي بِتَحْصِيلِ الشُّكْرِ وَشُكْرِي إِيَّاكَ يَفْتَقِرُ إلى شُكْرٍ؟ فَكُلَّما قُلْتُ: لَكَ الحَمْدُ، وَجَبَ عَلَيَّ لِذلِكَ أَنْ أَقُولَ: لَكَ الحَمْدُ. إِلهِي فَكَما غَذَّيْتَنا بِلُطْفِكَ وَرَبَّيْتَنا بِصُنْعِكَ، فَتَمِّمْ عَلَيْنا سَوابِغَ النِّعَمِ، وَادْفَعْ عَنَّا مَكارِهَ النِّقَمِ، وَآتِنا مِنْ حُظُوظِ الدَّارَيْنِ أَرْفَعَها وَأَجَلَّها عاجِلاً وَآجِلاً، وَلَكَ الحَمْدُ عَلى حُسْنِ بَلائِكَ وَسُبُوغِ نَعمائِكَ، حَمْداً يُوافِقُ رِضاكَ وَيَمْتَرِي العَظِيمَ مِنْ بِرِّكَ وَنَداكَ، يا عَظِيمُ يا كَرِيمُ، بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.).

أصل كلمة العيد من العود، وقلبت الواو ياءً، فالعيد يحمل معنى العود والرجوع إلى الله تبارك وتعالى، فيوم العيد يكون من أيام الله تعالى التي قال فيها عزّ من قائل [وَذَكِّرْهُمْ بِأيام اللّهِ] (إبراهيم:5)، لذا حشد الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لمثل هذه الأيام عدداً من الأعمال الصالحة، كالصلاة والدعاء والذكر، ليُعبّئوا الإنسان

ص: 127

– خصوصاً في أيام الأعياد وبقية الأزمنة الشريفة - لله وحده، وأنت تقرأ في ضمن أدعية الأعياد: (اللّهُمَّ مَنْ تَعَبَّأَ وَتَهَيّأ وَأَعَدَّ وَاسْتَعَدَّ لِوِفَاَدَةٍ إلى مَخْلُوقٍ رَجَاءَ رِفْدِهِ وَطَلَبَ نائِلِهِ وَجائِزَتِهِ، فَإِلَيْكَ يارَبِّ تَعْبِيَتِي وَاسْتِعْدادِي رَجاءَ عَفْوِكَ وَطَلَبَ نائِلِكَ وَجائِزَتِكَ)، من هنا كان للعيد معنى غير ما يفهمه عامة المجتمع ويسيئون به إلى أنفسهم وإلى دينهم ويسخطون به خالقهم، فالعيد الحقيقي كما عرّفه أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هو: (كل يوم لا تعصي الله فيه فهو عيد)، وعن سويد بن غفلة قال: دخلت على أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم عيد، فرأيت عنده طعاماً بسيطاً، فاستغرب سويد خصوصاً وإن اليوم عيد، فقال له الإمام (علیه السلام): (إنما هذا عيدُ مَنْ غُفِرَ لهُ)(1).هذا هو الفهم الصحيح للعيد، لكن أولياء الشيطان وأتباع الشهوات وعبدة الهوى الذين لا يتركون فرصة إلا وسخّروها لإشباع غرائزهم النهمة أخرجوا العيد من معناه الحقيقي، فجعلوه فرصة لممارسة المعاصي وارتكاب الفواحش، ولا أريد أن أذكر أعمالهم في هذا المكان المقدس، لكن المؤسف أنه حتى الأُسر الملتزمة المتدينة (تتحرر) وتتخلى من بعض التزاماتها، فتظهر النساء متبرجات وقد أبدت زينتهن، وربما تبادلت المصافحة أو ما هو أسوء مع الأقرباء والأصدقاء باعتبار أن اليوم يوم فرح وسرور.

ولا أريد أن أطيل بهذا الكلام المقرح للقلوب الغيورة على الدين والأخلاق والشرف، فنحن لا نريد أن نفرغ حياتنا من الفرح والسرور، لكن ينبغي أن نلتفت إلى أننا حينما نقرأ القرآن نجد ذمّاً ومدحاً للفرح، فهل هذا تناقض في

ص: 128


1- سفينة البحار – مادة عود.

كلمات القرآن؟ كلا طبعاً، لأنه صادر من الله العليم الحكيم [وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً] (النساء:82)، فالفرح المذموم هو ما كان لمحض الأمور الدنيوية المجردة عن الأغراض الأخروية، وفي مثلها قال الله تعالى بصدد بيان فرح قارون بما أُوتي من ثروة طائلة وأموال عظيمة: [وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ، وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ] (القصص: 76-77)، ولكن ماذا كانت عاقبته: [فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ] (القصص:81) [وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ] (القصص:82).فهذا نموذج للفرح المذموم، لأنه ليس فيه نصيب لله تعالى، وفي مقابل ذلك قال الله تعالى: [قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ] (يونس: 58).

الذي أريد أن أعرضه هنا هو كيف نحوّل إيماننا بالله تعالى من مستوى النظرية إلى مستوى التطبيق، يعني إذا كنّا كلنا نعلم أنّ هذا التصرف خطأ فلماذا نفعله؟ وإذا كنا نعلم أن هذا التصرف صحيح فلماذا لا نفعله؟ كيف نولّد في أنفسنا الدواعي والدوافع نحو التطبيق بحيث نتعامل مع الله تبارك وتعالى كأننا نراه فإن لم نكن نراه فإنه يرانا؟ وهذا مما لا يشك فيه مؤمن.

فهذه المرأة التي لا تلتزم بالحجاب، وهذا الشاب الذي لا يصلي، وهذا

ص: 129

الشخص الذي يلعب الطاولي والدومينو والمؤذن ينادي حيّ على الصلاة، وهؤلاء الذين يغشون في السوق ويأكلون المال بالباطل متذرعين بالحيل الشرعية، وهذا الذين يخون الأمانة، وهذه العشائر التي تحكم بغير ما أنزل الله وتتقاتل فتسفك الدماء وتُيتم الأطفال من أجل الأمور التافهة، وهؤلاء الشباب والشابات الذين يكونون علاقات غير مشروعة تحت عناوين مختلفة كالزمالة ونحوها، كل هؤلاء وغيرهم ألا يعلمون أنّ هذه أفعال محرمة لا يرضاها الله تبارك وتعالى؟ لابد أنهم يعلمون! فما الذي يُجرّئهم على الله؟! ألا يعلم هؤلاء أن أمامنا عقبةً كؤوداً هي الموت، وما بعد الموت أعظم وأدهى؟ أليس هؤلاء مسلمين ويؤمنون بالله – ولو نظرياً على الأقل - ويؤمنون بالآخرة والمعاد والحساب، فلماذا لا ينعكس هذا الإيمان على تصرفاتهم؟ أين الخلل؟ وهنا تذكرت كلمة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (ما رأيت يقيناً أشبه بشكٍّ مثل الموت)، فإنه يقين مائة بالمائة على مستوى النظرية، لكنك لا تجد من يؤمن به عملياً، بمعنى أنه يستعد له الاستعداد الكامل، وكأنه كُتبَ على غيره، فترى الإنسان إذا عزم على سفر قد لا يطول شهراً يُعدُّ كل ما يحتاجه أو يُحتمل أنه يحتاج إليه، ويهيّئ جميع أموره حتى الحقير منها، فلماذا لا يستعد بنفس الاستعداد لسفر الآخرة ويحضر زاده لهذا السفر الذي بينه القرآن الكريم: [وَتَزَوَّدُواْ فإن خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ] (البقرة: 197)، وقال الإمام الحسين (علیه السلام): (وحصل زادك قبل حلول أجلك).

فكيف نرجع إلى الله تعالى ونعود إليه خصوصاً بمناسبة العيد الذي قلنا أن معناه العود إلى الله تبارك وتعالى؟ وكيف نحبب الإيمان إلى نفوسنا وقلوبنا

ص: 130

استجابة للعتاب الرقيق الرحيم الذي يوجهه الله تبارك وتعالى إلينا نحن المؤمنين: [أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ] (الحديد: 16)، ثم يضرب لنا مثالاً لهذه القلوب التي تقسو بسبب الخوض في أمور الدنيا، لكنها ترقّ وتحيى بعد أن يزهر فيها الإيمان وتعمر بذكر الله تعالى، فيقول في الآية التالية: [اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] (الحديد: 16-17)، بل قد وصف في آية أخرى إعمار القلب بالإيمان وذكر الله بالحياة، فقال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ] (الأنفال: 24)، ونحن هنا نثير بعض المحفزات النفسية والعقلية والقلبية التي تحثنا نحو التطبيق:1-إن من شأن كل عاقل أن يرد الجميل بالجميل ويجازي الإحسان بالإحسان [هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ] (الرحمن: 60) [وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ] (القصص: 77)، ونعم الله تعالى علينا كثيرة سواء على صعيد أبداننا التي هي عبارة عن معامل ومصانع كثيرة تعمل بدقة وإتقان، وأبسط مراجعة لكتاب (الطب محراب الإيمان)(1) تنبئك عن هذا مما يوقف شعر رأسك، أو على صعيد الحياة حولنا من كون متناسق وأرض طيبة معطاء ونعم لا تعد وتحصى [وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا] (إبراهيم: 34)، وجزاء الإحسان إحسان مثله، ولما كان الله غنياً عن عباده ولا يمكن أن يصل إليه نفع من

ص: 131


1- تأليف: الدكتور السوري خالص جلبي، وهي رسالة دكتوراه في كلية الطب.

أحد، فرَدٌ الإحسان بالنسبة إليه طاعته، ومن أشكال شكر النعم أن تطيع المنعم بها، أمّا عصيانه مع نعمه الوفيرة فهذا مما لا يرضاه عاقل.2-إنّ كل واحد منا يحب أن تزيد النعم عليه، وهي بيد الله سبحانه المنعم الحقيقي، وقد وعدنا سبحانه: [لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] (إبراهيم:7)، وفي الحديث: (بالشكر تدوم النعم)، فعلى من يريد زيادة النعم كالمال والبنين والجاه والصحة وغيرها فعليه أن يطيع الله ويشكره ليزيده الله من النعم [وَلَوْ أَنَّ أهل الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ] (الأعراف:96).

3-إنه إذا أخبرنا إنسان ثقة بأن حيواناً مفترساً في هذه الجهة، فإننا سنهرب بالاتجاه المعاكس، ونحذر منه ونتخذ الإجراءات الواقية من الوقوع في الخطر، فإذا أكّد هذا الخبر ثقة آخر ازداد استعدادنا لذلك وكنّا أكثر حزماً، وقد أخبرنا مائة وأربعة وعشرون ألف نبي ومثلهم من الأوصياء والعلماء أنه سيكون هناك يوم قيامة يثاب فيه المطيع على طاعته ويعاقب العاصي على عصيانه بنارٍ وقودها الناس والحجارة، أفلا يوجب هذا البيان المؤكد الحذر والابتعاد عن كل ما يورطنا في هذه النار المتأججة، وقد وصفها القرآن الكريم بمشاهد مرعبة، وأخبرنا أنّ معصية الله سبحانه توقعنا فيها، وأنّ طاعته تورثنا جنة عرضها السماوات والأرض فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر [فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ] (السجدة: 17)؟.

4-أن نسأل أنفسنا سؤالاً: ماذا يخسر الإنسان لو أطاع الله سبحانه واستقام على

ص: 132

الشريعة؟!. لا يخسر شيئاً، بل هو يعيش ويتمتع بالحياة كما يفعل البعيد عن الله سبحانه، وفوق ذلك له المكاسب الدنيوية والأخروية التي يحققها له الإيمان بالله سبحانه والسير على شريعته، قال الله تعالى: [وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ] (النساء: 104)، وقد اتبع هذا الأسلوب الإمام الصادق (علیه السلام) حين قال لأحدهم: (يا هذا إن كان ما تقول أنت – بأنه لا جنة ولا نار ولا حساب حق- فنحن وأنتم سواء، فإننا نأكل كما تأكلون وننكح كما تنكحون، وإن كان الأمر كما نقول هلكتم ونجونا)(1) وهو أسلوب لا يستطيع أن يرفضه أي عاقل.5-أن نلتفت إلى أن الله تعالى مطلّع علينا ولا تخفى عليه خافية في السماوات والأرض، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد، وقد جعل على كل واحد منّا ملائكة يحصون الأعمال في كتابٍ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، وجعل الشهود على ذلك من أعضائنا التي نمارس بها حياتنا [شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ، وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ] (فصلت: 20-23)، فإذا التفتنا إلى هذه الحقائق فسنكون دقيقين في تصرفاتنا، وسنحسب ألف حساب قبل أن

ص: 133


1- الكافي: 1/ 78.

نورط أنفسنا في المعصية.6-إن الإنسان الذي يمتنع عن إعطاء شيء من نفسه أو ماله لطاعة الله تعالى فإنه سيدفع أكثر منها في معصية الله وهو راغم، وستكون عليه حسرة يوم القيامة، فلا يدفع الحقوق الشرعية في أمواله لكنه يدفع أموالاً كثيرة في أمور تافهة تجرّ عليه حسرة يوم القيامة، أو يقصّر في العبادة أو يتكاسل عن قضاء حوائج المؤمنين فيبتليه الله بمشاغل كان يمكن أن يدفعها الله عنه لو لم يقصر في طاعة الله فيفوز بالآخرة ويكفيه الله مؤونة الدنيا وتعبها.

7-إن من يطيع الله سبحانه ويتجنب معصيته يعيش لذة الانتصار على أعدى أعدائه، وهي النفس الأمارة بالسوء كما وصفها الحديث الشريف، وكلّما كان تمرد النفس على الترك قوياً كان الفعل أكثر لذة، مثلاً: تعرض أمامك امرأة متبرجة قد أظهرت مفاتنها أو طالبة جامعية أو زميلة في دائرة تبرعت بإنشاء علاقة عاطفية معك فتنتصر أنت على نفسك الطموحة إلى ذلك، فتعيش لذة الانتصار، وهو ما أشار إليه الحديث الشريف: (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن تركها لله تعالى أبدله الله نوراً وإيماناً يجد حلاوته في قلبه)، أو يغيظك شخص ويسيء إليك وأنت قادر على رد إساءته، فتتركها لله تعالى وتنتصر على نفسك التي ترغب بالتشفي والانتقام، وهذا معنى الحديث: (ما جرعة أحبُّ إليّ من جرعة غيظ لا أكافي بها صاحبها)(1).

وتوجد نقاط كثيرة لا أعتقد أن الوقت يسع لها.

ص: 134


1- الكافي: 2/ 109.

أسأل الله تعالى أن يوفقنا لطاعته، فتكون أيامنا كلّها أعياداً، والعيد الأكبر حين نلقاه تبارك وتعالى وهو راضٍ عنّا [وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] (التوبة: 72).

ص: 135

موعظة وإرشادات في فصل الصيف

اشارة

موعظة وإرشادات في فصل الصيف(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة:

الحمد لله كما هو أهله وصلى الله على سيد خلقه وأحبهم إليه محمد وآله الطيبين الطاهرين .

يبدأ موسم الصيف يوم (21/ 6) ولا يتحقق باقتراب الشمس من الأرض كما هو المتوهم، بل على العكس فإن الشمس في الشتاء أقرب إلى الأرض منها في الصيف - وهذا من المفارقات - وإنما يتحقق الصيف برأسية الشمس على النصف الشمالي للأرض، أي إن أشعتها تصل إلى الأرض مباشرة وبصورة رأسية مقابل ميلان أشعة الشمس وانكسارها في توجهها إلى الأرض في فصل الشتاء، وهذا وحده كاف لنقل المناخ من طقس شديد البرودة يقل عن الصفر المئوي بكثير إلى طقس تزيد حرارته عن خمسين درجه مئوية، هذا والمسافة بين الشمس والأرض حوالي (93 مليون ميل) (على ما أتذكر)، فكيف والشمس تقترب من أرض المحشر يوم القيامة حتى تكون المسافة ميلاً واحداً فقط، هذا لو فرضنا إن شمس الآخرة كشمس الدنيا رقيقة هادئة خلقت ليتنعموا

ص: 136


1- محاضرتان ألقيتا على فضلاء وطلبة الحوزة العلمية في مسجد الرأس الشريف يومي 20 و 21 ربيع الثاني/1423ه_ (2 و 3/ 7/ 2002م)

بدفئها ولتعم الحياة بوجودها، ولم يسجرها جبار السماوات والأرض غضباً على أهل المعاصي الذين تحدّوه في الدنيا وتمرّدوا عليه واستكبروا ونازعوه سلطانه، فما هو حالنا يومئذ؟ نستجير بالله من غضبه. وتستطيع أن تشبه الحال بما يفعله بعض الغافلين من تقريب مصدر النار إلى إناء فيه بعض الحشرات ليحرقها بها، مع الفارق الكبير بين نار الدنيا والآخرة .

القسم الأول: أخذ العبرة من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم):

اشارة

وتأسياً برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الذي كان يأخذ عِظة وعِبرة من كل ما حوله ليذّكر نفسه ويرقق قلبه، وهو الذي كان في ذكر دائم لله تعالى وقلبه عرش الله تبارك وتعالى، فالمروي عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه كان إذا دخل الحمام ونظر إلى الماء الساخن تذكر جهنم وحميمها الذي وصفه الله تبارك وتعالى [وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ](محمد: 15)، فيقول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عندئذ: (نِعم البيت الحمام؛ يزيل الدرن ويذكّر بالآخرة). وهو الذي ما غفل عنها طرفة عين، وقد حرص المعصومون على إلفات نظرنا إلى ذلك، فمثلاً ورد في خطبة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في آخر جمعة من شعبان والتي استقبل بها شهر رمضان قوله: (وَاذكرُوا بِجُوْعِكُمْ وَعَطَشِكُمْ فِيْهِ جُوْعَ يَومِ القِيَامَةِ وَعَطَشِهِ)

موقف أمير المؤمنين (عليه السلام) مع أخيه عقيل:

وعندما جاء عقيل إلى أخيه أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) طالبا منه الزيادة في عطائه لأنه كثير العيال وهم شعث غبر، فأحمى أمير المؤمنين حديدة وأدناها منه وكان

ص: 137

بصيراً، فظن أنها صرّة مال، فلما اكتوى بنارها انكفأ يئن من الألم، وقد وصف أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) نفسه هذه الحادثة فقال في بعض خطبه: (فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً، ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا، فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا، وَكَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ ميسَمِهَا – وهي المكواة – فَقُلْتُ لَهُ: ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ، يَا عَقِيلُ؛ أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ، وَتَجُرُّنِي إلى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ؟ أَتَئِنُّ مِنَ الأَذَى وَلاَ أَئِنُّ مِنْ لَظىً؟)(1).

الاتعاظ والاعتبار بما يمر بنا:

ومحل الشاهد فما أحوجنا إلى الاتعاظ والاعتبار بكل ما يمر بنا أو نمر به، وها هو ذا فصل الصيف يحلّ علينا، فلنتذكر بحرِّه حرَّ جهنم وبزفيره زفيرها، وأنقل لكم بعض الأخبار في وصف نار جهنم وحرها وجحيمها، ولو لم نكن من أهل الغفلة لما احتجنا إلى تلك الأخبار، لأن شواهدها كثيرة حولنا، فكم جرب أحدنا ماءً ساخناً على النار أو في الحمام يلسع جلده الرقيق أو زيتاً أعد للقلي ينسكب على جلده فيتمزق ويتلف وربما أدى به إلى الوفاة!، هذه هي المفارقة التي يعيشها الإنسان: ضعف في القابلية ورقة لا يتحمل بها الأذى البسيط، لكنه يرتكب بحماقته ما يورده العذاب العظيم الخالد، كالمرأة السافرة، أو تارك الصلاة، أو الذي لا يؤدي حقوق الله في أمواله من خمس وزكاة وغيرها، أو رجل وامرأة تجمعهما علاقات جنسية غير مشروعة، أو يمارسون أفعالاً منكرة كالاستمناء والمساحقة ومشاهدة الأفلام الخليعة، أو يخوض في

ص: 138


1- نهج البلاغة- خطبة 224

الغيبة وتفسيق المؤمنين والانتقاص منهم خصوصاً العلماء، فضلاً عن الذي يظلم الناس في أنفسهم وأموالهم بأي أشكال الظلم كالسرقة والغصب والغش والمعاملات المحرمة، فإن ظلم الناس ذنب لا يتركه الله تعالى.

المفارقة الكبيرة التي يسجلها القران ودعاء كميل:

أقول إن هؤلاء وأمثالهم لا يعلمون ماذا ينتظرهم، لكن الله تعالى يرثي لحالهم ويقول: [فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ] (البقرة: 175) وهم لا يستطيعون الصبر على ما هو لا شيء بالنسبة إلى النار، ولكنها الغفلة والجهل واتباع الهوى والأنانية والاستكبار، هذه المفارقة التي يسجلها أمير المؤمنين في دعائه المعروف الذي علمه لصاحبه كميل بن زياد: (يا رَبِّ ارْحَمْ ضَعْفَ بَدَني وَرِقَّةَ جِلْدي وَدِقَّةَ عَظْمي)، ثم يقول (يا رَبِّ وَأَنْتَ تَعْلَمُ ضَعْفي عَنْ قَليل مِنْ بَلاءِ الدُّنْيا وَعُقُوباتِها وَما يَجْري فيها مِنَ الْمَكارِهِ عَلى أهْلِها، عَلى أنَّ ذلِكَ بَلاءٌ وَمَكْرُوهٌ قَليلٌ مَكْثُهُ، يَسيرٌ بَقاؤُهُ، قَصيرٌ مُدَّتُهُ، فَكَيْفَ احْتِمالي لِبَلاءِ الآخِرَةِ وَجَليلِ وُقُوعِ الْمَكارِهِ فيها، وَهُوَ بَلاءٌ تَطُولُ مُدَّتُهُ وَيَدُومُ مَقامُهُ وَلا يُخَفَّفُ عَنْ أهْلِهِ؛ لأَنَّهُ لا يَكُونُ إلاّ عَنْ غَضَبِكَ وَاْنتِقامِكَ وَسَخَطِكَ، وَهذا ما لا تَقُومُ لَهُ السَّماواتُ وَالأَرْضُ، يا سَيِّدِي فَكَيْفَ بي وَأنَا عَبْدُكَ الضَّعيفُ الذَّليلُ الْحَقيرُ الْمِسْكينُ الْمُسْتَكينُ؟، يا إلهي وَرَبّي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ لأَيِّ الأُْمُورِ إِلَيْكَ أَشْكُو وَلِما مِنْها أَضِجُّ وَأَبْكي؟ لأليمِ الْعَذابِ وَشِدَّتِهِ، أَمْ لِطُولِ الْبَلاءِ وَمُدَّتِهِ)، ثم ينتقل إلى ذكر العقوبات الروحية التي هي أقسى من المادية فيقول: (فَلَئِنْ صَيَّرْتَني لِلْعُقُوباتِ مَعَ أعْدائِكَ وَجَمَعْتَ بَيْني وَبَيْنَ أهل بَلائِكَ وَفَرَّقْتَ بَيْني وَبَيْنَ أَحِبّائِكَ

ص: 139

وَأَوْليائِكَ، فَهَبْني يا إِلهي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ وَرَبّي صَبَرْتُ عَلى عَذابِكَ فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَلى فِراقِكَ؟، وَهَبْني صَبَرْتُ عَلى حَرِّ نارِكَ فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ إلى كَرامَتِكَ؟).

الأخبار في وصف نار جهنم:

وأعود إلى نقل تلك الأخبار، فقد روي بسند صحيح عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قلت له: يا ابن رسول الله خوّفني(1) فإن قلبي قد قسى. فقال: يا أبا محمد، استعد للحياة الطويلة، فإن جبرائيل جاء على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهو قاطب وقد كان قبل ذلك يجيء وهو مبتسم، فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): يا جبرائيل جئتني اليوم قاطباً؟ فقال: يا محمد، قد وضعت منافخ النار. فقال:وما منافخ النار يا جبرائيل؟ فقال: يا محمد، إن الله عز وجل أمر بالنار فنفخ عليها ألف عام حتى ابيضت، ثم نفخ عليها ألف عام حتى احمرّت، ثم نفخ عليها ألف عام حتى اسودّت، فهي سوداء، مظلمة، لو أن قطرة من الضريع (الذي هو عرق أهل جهنم من قيح وصديد فروج الزناة يغلى في قدور جهنم ويسقى لأهل جهنم بدل الماء) قطرت في شراب أهل الدنيا لمات أهلها من نتنها، ولو أن حلقة واحدة من السلسلة التي طولها سبعون ذراعاً وضعت على الدنيا لذابت الدنيا من حرّها، ولو أن سربالاً من سرابيل أهل النار علق بين السماء والأرض لمات أهل الدنيا من ريحه. قال: فبكى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبكى جبرائيل، فبعث

ص: 140


1- في وصية لأمير المؤمنين لابنه الحسن (عليهما السلام) (قال: يا بني أحيِ قلبك بالموعظة وأمته بالزهادة) (نهج البلاغة، الجزء الثالث).

إليهما ملكاً فقال لهما: إن ربكما يقرئكما السلام ويقول: قد أمنتكما أن تذنبا ذنباً أعذبكما عليه، فقال أبو عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): فما رأى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) جبرائيل مبتسماً بعد ذلك، ثم قال: إن أهل النار يعظمون النار، وإن أهل الجنة يعظمون الجنة والنعيم، وإن جهنم إذا دخلوها هووا فيها مسيرة سبعين عاماً، فإذا بلغوا أعلاها قمعوا بمقامع الحديد(1) أعيدوا في دركها، فهذه حالهم، وهو قول الله عز وجل: [كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ] (الحج:22)، ثم تبدل جلودهم غير الجلود التي كانت عليهم، قال أبو عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): حسبك(2)؟ قلت: حسبي، حسبي)(3).

المشاهد المهولة لنار جهنم:

وهذه الآية الشريفة التي استشهد بها الإمام تبين أحد المشاهد المهولة لنار جهنم(4) [فَالَّذِينَ كَفَرُوا] وبارزوا الله بالمعصية وتمردوا عليه ولم يلتزموا بأوامره [قُطِّعَتْ] وفصّلت [لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ] وهو الماء الساخن حيث [يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ]، وبعد [وَلَهُم مَّقَامِعُ] أي سياط [مِنْ حَدِيدٍ] أحمته النار، يا للهول!! فيعجزون عن تحمل العذاب ويحاولون الفرار من هذا الغمِّ والبلاء الشديد، [كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ

ص: 141


1- لأنهم يحاولون الهرب منها.
2- أي هل تكفي هذه الموعظة يا أبا بصير؟
3- بحار الأنوار: 8/ 280.
4- اخترت بعض الآيات مع شرحها شرحاً مزجياً كما تعودنا عليه في الفقه أي أضيف مني كلمات لشرحها.

غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا] ويأتيهم الجواب بكل إهانة وإذلال: [وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ] (الحج: 19-22).وفي آية أخرى [ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ] (الدخان:49) استخفافاً واستهزاءً بهم حيث كانوا يظنون في الدنيا أنهم أهل العزة والقوة والمنعة، فليست الآخرة كالدنيا يفعل فيها الظالمون مايشاؤون، أما في الآخرة فينادى: [لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ] (غافر:16).

وفي آية أخرى: [وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ] أي يؤخر عقابهم [لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ] أي لا تنطبق أبصارهم من الخوف والرعب وهول ما نزل بهم [مُهْطِعِينَ] مسرعين وينظرون في ذلّ وخشوع [مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ] رافعيها إلى السماء [لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ] فلا يغمضون عيونهم بل هي شاخصة دائماً [وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء](إبراهيم: 42-43) وهو كناية عن دهشتهم بحيث فقدوا عقولهم وأصبحت فارغة.

وفي آية مشابهة من سورة يس: [إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ] هؤلاء المتمردين على طاعة الله تعالى [أَغْلاَلاً] وقيوداً تصفد أيديهم وتجمعها إلى رؤوسهم [فَهِيَ إلى الأَذْقَانِ] جمع ذقن وهو موضع اللحية ومجمع عظمي اللحيين [فَهُم مُّقْمَحُونَ] (يس:8) مرفوعة رؤوسهم لا يستطيعون خفضها.

إنها مشاهد تستوقف المتأمل طويلاً، وفي آية أخرى: [وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ] الذين استكبروا عن طاعة الله تعالى [يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ] أي مقرونين بعضهم إلى بعض أو إلى الشياطين أو أن أعضائهم كالأيدي والأرجل مقرنة [فِي الأَصْفَادِ] والقيود، [سَرَابِيلُهُم] قمصانهم [مِّن قَطِرَانٍ] دهن أسود لزج منتن تشتعل فيه النار

ص: 142

بسرعة أو من صفر متناهٍ حرّه [وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ](إبراهيم: 49-50)، تعلو وجوههم النار، وخصت بالذكر لأنها أعز الأعضاء وأشرفها، فعبر بها عن الكل، والآيات كثيرة في هذا المجال تحتاج إلى كتاب كامل لذكرها وتقريب صورتها للأذهان.

مشهد من مشاهد ليلة المعراج:

ونعود إلى الأخبار، ففي خبر عن الإمام الصادق (علیه السلام) إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (..دخلت (ليلة المعراج) سماء الدنيا فما لقيني ملك إلا وهو ضاحك مستبشر، حتى لقيني ملك من الملائكة لم أر أعظم خلقاً منه كريه المنظر ظاهر الغضب، فقال لي مثل ما قالوا من الدعاء، إلا انه لم يضحك ولم أر فيه من الاستبشار ما رأيت ممن ضحك من الملائكة، فقلت: من هذا يا جبرائيل؟ فإنني قد فزعت منه، فقال: يجوز(1) أن تفزع منه، فكلنا يفزع منه، إن هذا مالك خازن النار لم يضحك قط ولم يزل منذ ولاه الله جهنم يزداد كل يوم غضباً وغيضاً على أعداء الله وأهل معصيته، ينتقم الله به منهم، ولو ضحك إلى أحد كان قبلك أو كان ضاحكاً إلى أحد بعدك لضحك إليك، ولكنه لا يضحك، فسلمت عليه، فرد السلام وبشرني بالجنة، فقلت لجبرائيل - وجبرائيل بالمكان الذي وصفه الله: مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ - ألا تأمره أن يريني النار؟ فقال له جبرائيل: يا مالك، أرِ محمداً النار. فكشف عنها غطاءها وفتح باباً منها، فخرج منها لهبٌ ساطعٌ في السماء وفارت وارتفعت حتى ظننت ليتناولني مما رأيت،

ص: 143


1- أي يحق لك.

فقلت:يا جبرائيل؛ قل له فليرد عليها غطاءها، فأمرها فقال لها: ارجعي، فرجعت إلى مكانها الذي خرجت منه…)(1).

وصف لأحوال أهل النار:

وروي بسند معتبر عن الإمام الصادق (علیه السلام): ما خلق الله خلقاً إلا جعل له في الجنة منزلاً وفي النار منزلاً، فإذا سكن أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى منادٍ: يا أهل الجنة أشرفوا، فيشرفون على أهل النار وترفع لهم منازلهم فيها، ثم يقال لهم: هذه منازلكم التي في النار لو عصيتم الله لدخلتموها.. قال: فلو أن أحداً مات فرحاً لمات أهل الجنة في ذلك اليوم فرحاً لما صرف عنهم من العذاب، ثم ينادي منادٍ: يا أهل النار، ارفعوا رؤوسكم(2)، فيرفعون رؤوسهم فينظرون إلى منازلهم في الجنة وما فيها من النعيم، فيقال لهم: هذه منازلكم التي لو أطعتم ربكم لدخلتموها، قال: فلو أن أحداً مات حزناً لمات أهل النار حزناً، فيورث هؤلاء منازل هؤلاء، وذلك قول الله [أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ](المؤمنون: 10-11)(3).

وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (وأما أهل المعصية فخلّدهم في النار،

ص: 144


1- تفسير الصافي: 3/ 167.
2- لاحظ الفرق بين الكلمتين أهل الجنة يقول لهم (أشرفوا) لأنهم في علو وأهل النار يقول لهم (ارفعوا) لأنهم في سفال وحضيض.
3- الحديث عن المصدر السابق: 3/ 397.

وأوثق منهم الأقدام، وغل منهم الأيدي إلى الأعناق، وألبس أجسادهم(1) سرابيل القطران، وقطعت لهم مقطعات من النار, هم في عذاب قد اشتد حرّه، ونار قد أطبق على أهلها فلا يفتح عنهم أبداً، ولا يدخل عليهم ريح أبداً، ولا ينقضي منهم الغمّ أبداً، والعذاب أبداً شديد، والعقاب أبداً جديد، لا الدار زائلة فتفنى، ولا آجال القوم تقضى)(2). وروي بسند معتبر عن الإمام الصادق(3) (ع): (إن في النار لناراً يتعوذ منها أهل النار، ما خلقت إلا لكل متكبر(4) جبار عنيد، ولكل شيطان مريد(5)، ولكل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب, وكل ناصب لآل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وقال: إن أهون

ص: 145


1- يصفهم وكأنه ذهب إلى هناك ورآهم فعلمه (عليه السلام) حاضر لأنه هو الذي يقول: (لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً).
2- جواهر المطالب في مناقب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لابن الدمشقي: 1/ 336.
3- بحار الأنوار: 31/ 649.
4- لعل أحدنا يقول أنا لست متكبراً أقول فليرجع إلى الكتب الأخلاقية فمعاني التكبر كثيرة وتشمل الكثير.
5- وهذه أيضاً شاملة للكثير (شياطين الإنس والجن) فمن يقول نحن لسنا كذلك أقول له إن تعريف الشيطان هو الذي يصد عن طاعة الله [لأقعُدَنَّ لَهُم صِرَاطَكَ المُستَقِيمَ] فكم شخص إن لم أقل كلنا قاعد لعباد الله يضللهم عنه تعالى يمنة ويسرة فالمرأة السافرة التي تمشي في الشارع مبرزة مفاتنها هذه لسان حالها يقول للشباب [لأقعُدَنَّ لَهُم صِرَاطَكَ المُستَقِيمَ وَلأُضِلّنَّهُم وَلأمَنِّيَنَّهُم] فلا يقول أحدكم إن هذا الحديث لا ينطبق علي بل ينطبق علينا جميعاً فنحن الحوزويون بإمكاننا أن نضلل الناس إذا كنا نريد الدنيا ونتبع أهواءنا وكما تسمع إن الحوزة (بعضها) ضللت كثيراً من الناس تأخذهم يمنة ويسرة وتقدح في أذهانهم الشبهات فيوجد الكثير هكذا فهؤلاء مصاديق لهذا الحديث فالحديث يشمل كل شخص.

الناس عذاباً يوم القيامة لرجل في ضحضاح(1) من نار، عليه نعلان من نار وشراكان من نار، يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، ما يرى(2) أن في النار أحداً أشد عذاباً منه، وما في النار أهون عذاباً منه). وفي سورة الفرقان (الآيات 11-14): [وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ] ويشمل العنوان من كذب عملياً بالعصيان والتمرد على أوامر الشريعة وإن كان يؤمن نظرياً بيوم الحساب(3) [سَعِيراً] وهي النار الشديدة [إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ] أي كانوا منها بمرأى الناظر في البعد [سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً] أي صوت تغيظ [وَزَفِيراً] كزفير المغتاظ، أو أن هذين الوصفين لزبانيتها ونسبا لها من باب حذف المضاف، كقوله تعالى: [وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ](يوسف:82) أي أهل القرية، فحذف المضاف(4)، [وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ] قد قرنت أيديهم إلى

ص: 146


1- ما رقَّ من الماء على وجه الأرض ما يبلغ الكعبين فاستعاره للنار (النهاية:3/ 75).
2- الشخص الذي في هذا العذاب لا يرى في الناس اشد عذابا من حاله
3- لا يفيد الإيمان النظري: [قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ …..] فالإيمان ينعكس على حياتك عمليا فهل أعمالك تدل على أنك لست من الذين يكذبون بالساعة فنحن والحمد لله نتنازع على أشياء تافهة دنيوية فالذي يقرأ هذه الآية لا يقول إنها لا تشملني لأني لا أكذب بالساعة فليس الكافر فقط يكذب بالساعة وإنما كذلك نحن عملياً نكذب بها . ينقل عن السيد السبزواري (قدس سره) أنه سئل هل يوجد جنة ونار قال: لا!! قيل: وكيف ذلك؟ قال: لو كان يوجد جنة ونار لانعكست آثارها على الناس فلا أرى أحداً يبدو على أفعاله أنه يوجد جنة ونار فلا أرى أحداً بهذا المستوى.
4- أو تقول أن النار تصبح كائناً حياً له صوت وله زفير.

أعناقهم بالأغلال [دَعَوْا هُنَالِكَ] في ذلك المكان الضيق الذي مرَّ وصفه(1) [ثُبُوراً]، أي دعوا على أنفسهم بالهلاك ليتخلصوا من هذا العذاب، فيأتيهم الجواب متهكماً ومنذراً بمراحل آتية من العذاب: [لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً] لكثرة أنواع عذابكم، فلكل نوع ثبور، أو لدوامه فلكل وقت ثبور.هذه بعض الصور المرعبة لنار جهنم، لكن الناس في غفلة هم أوقعوا أنفسهم فيها بأعراضهم عن آيات الله وبياناته الكثيرة التي لم تدع لأحد عذراً، لذلك يتأسف ربهم على وقوعهم بالمعصية رغم هذه الإنذارات المتكررة: [يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون، أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ، وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ] (يس: 30-32) ثم يتساءل الله تبارك وتعالى على لسان نبيه الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)(2): [قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ(3) كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء

ص: 147


1- ضيق ونار وغل الايدي إلى الاعناق كما سمعنا فيما سبق فوق كل ذلك اطبق عليه أي اغلق عليه أي لانفس ولا ريح يدخل لهم وانما عذاب مؤبد قاسي.
2- في مقابل وصف النار فقد وصف الله تعالى الجنة وصفا جميلاً لا يسع المجال لذكره فلهذا يأتي الاستفهام بعد ذلك [أذَلِكَ خَيرٌ أمْ جَنّةُ الخُلدِ …].
3- فماذا بكم؟ ألا توجد عندكم معايير تميزون بها هذه التصرفات التي أوقعتم أنفسكم بها وأردتكم، فيا أيتها المرأة السافرة وأنت أيها الشاب الذي لا تصلي فيؤذن المؤذن وأنت في المقهى تلعب الطاولي وأنت الذي لم تدفع الحقوق الشرعية هل سوف تأخذ أموالك معك هناك وأنتم أيها الحوزويون الذين تقصرون في واجبكم أو تقدمون مصالحكم الدنيوية على المصالح الاجتماعية والأخروية فالخطاب لنا جميعاً لي ولكم.

وَمَصِيراً، لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً] (الفرقان: 15-16).وفصول يوم القيامة والمراحل التي يمر بها الإنسان في الآخرة كثيرة، يكفي أن أحدها الموت وثانيها القبر ووحشته وسؤاله وأهواله وما خفي أعظم(1)، لكني اكتفيت بفصل واحد منها وهو نار جهنم بحسب المناسبة، وهي الاتعاظ بحرارة الصيف، فهذا هو القسم الأول من الحديث، أما القسم الثاني فإرشاد وتصحيح لبعض الظواهر الاجتماعية المنحرفة التي تحصل في فصل الصيف ونتناولها بإذن الله تعالى ضمن نقاط:

القسم الثاني: الظواهر الاجتماعية المنحرفة التي تحصل في فصل الصيف:

اشارة

(الظاهرة الأولى): تصدر كلمات من الناس عندما يشتد الحرُّ توحي بالتأفف والانزعاج والسخط، وهو يعني الاعتراض على قضاء الله تعالى ومشيئته، وهذا من الذنوب الكبيرة التي تنقص بها درجة الإنسان.

المؤمن من اتصف بالرضا:

ولذلك يلفت الإمام الحسين (علیه السلام) نظر عائلته إلى هذا الأمر حين جاء ليودعهم الوداع الأخير، قال (علیه السلام): (ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من أجوركم)، لأن الإنسان المؤمن يتصف بالرضا على ما يختاره الله تعالى سواء

ص: 148


1- جزى الله مؤلف مفاتيح الجنان الشيخ عباس القمي (قدس سره) خيراً فهو ذكر ذلك كله في كتاب منازل الآخرة.

على مستوى الأمور التشريعية كوجوب الصوم أو الخمس أو الجهاد أو ولاية أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أو حرمة الزنا والخمر، أو على مستوى الأمور التكوينية كالفقر والمرض وشدة الحر والبرد وإن خالفت هوى النفس، قال تعالى: [فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً] (النساء:65)، فترى أن من شروط الصدق في الإيمان عدم الاعتراض على ما اختاره الله تبارك وتعالى.

الاعتراض مرتبة من مراتب الشرك:

فيعتبر الاعتراض مرتبة من مراتب الشرك، بمعنى منافاتها للإخلاص، فعن الإمام الصادق (علیه السلام): (لو أن قوماً عبدوا الله وحده لا شريك له وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجوا البيت وصاموا شهر رمضان، ثم قالوا لشيء صنعه الله أو صنعه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): ألا صنع خلاف الذي صنع؟ أو وجدوا ذلك في قلوبهم، لكانوا بذلك مشركين، ثم تلا هذه الآية: (فلا وربِّكَ..) ثم قال أبو عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): فعليكم بالتسليم)(1)، وذمتهم الآية الشريفة: [وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أعمالهُمْ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ – سواء على مستوى التشريع أو التكوين كما قلنا- فَأَحْبَطَ أعمالهُمْ] (محمد: 8-9).

ولذا ورد التحذير الشديد من الاعتراض على قضاء الله تعالى في جميع الأمور، والحث الأكيد على استشعار الرضا والتسليم لقضاء الله تبارك وتعالى، فعن الصادق (علیه السلام): (إن أعلم الناس بالله أرضاهم بقضاء الله عز وجل)، وعن

ص: 149


1- القلب السليم: 2/ 333.

علي بن الحسين (علیه السلام) قال: (الصبر والرضا عن الله رأس طاعة الله، ومن صبر ورضي عن الله فيما قضى عليه فيما أحب أو كره لم يقضِ الله عز وجل له فيما أحب أو كره إلا ما هو خير له)، وسئل الإمام الصادق (علیه السلام): بأي شيء علم المؤمن أنه مؤمن؟ قال (علیه السلام): (بالتسليم لله والرضا فيما ورد عليه من سرور أو سخط)، وعن علي بن الحسين (علیه السلام) قال: (الزهد عشرة أجزاء، أعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع، و أعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين، و أعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا)، وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال: (طوبى لمن ذكر المعاد وعمل للحساب وقنع بالكفاف ورضي عن الله سبحانه)(1).

كيف نستشعر في قلوبنا الرضا والتسليم بقضاء الله تعالى:

فكيف نستشعر في قلوبنا الرضا والتسليم بقضاء الله تعالى في جميع الأمور والابتلاءات والمصائب والصعوبات والشدائد والمحن التي تمر بنا؟

نقول في الجواب: بالالتفات إلى عدة أمور تطبيقاً للمعنى الحقيقي لذكر الله على كل حال، الذي هو من أعظم الأعمال، وقلنا في تفسيره(2): إنك تستحضر

ص: 150


1- الأحاديث كلها في وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الدفن، باب 75.
2- الإمام يشرحه ويقول: (الذكر ليس أن تلصق لسانك في حنكك وتقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله وإن كان هذا من الذكر) ولكن الأهم من هذا انك تستحضر المعاني .ففي القتال مثلاً [وَأعِدُوا لَهُم مَا استَطَعتُم …. وَاذكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً] (الأحزاب:41) فما معنى ذكراً كثيراً هنا؟ أقول: ليس معناه سبحان الله والحمد لله .. وإنما تحضر المعاني الإلهية التي ترتبط بالموقف الذي أنت فيه وأنا (والكلام لسماحة الشيخ) في بعض كتاباتي (وهو كتاب شكوى القرآن) استحضرت 19 معنىً لذكر الله فالمجاهد في سبيل الله عندما يستحضرها يكون شيئا آخر غير ما يكون في حال غيره فنحن نقول ذكر الله على كل حال فمثلاً حال الحر الذي نحن فيه الآن ماذا نذكر فهنا أقول عدة أمور منها أعلاه.

في كل حال المعاني التي يريدها الله تبارك وتعالى منك في ذلك الحال، فتكون على اتصال دائم به، وتحيى معه دائماً، فمن هذه الأمور:1- إن الله رحيم وهو أرحم بعباده من أنفسهم ومن الأمِّ الشفيقة، فلا يختار لهم إلا ما يصلحهم، فقد ورد في الحديث القدسي: (إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فأغنيه، ومنهم من لا يصلحه إلا الفقر فأفقره، ومنهم من لا يصلحه إلا المرض فأمرضه) وهكذا، فكل ما يختاره الله تعالى لنا فهو خير، وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (عجبت للمرء المسلم لا يقضي الله عز وجل له قضاءً إلا كان خيراً له، إن قرض بالمقاريض كان خيراً له، وإن ملك مشارق الأرض ومغاربها كان خيراً له)، وعن الإمام الصادق (علیه السلام): قال الله عز وجل: (عبدي المؤمن لا أصرفه في شيء إلا جعلته خيراً له، فليرض بقضائي، وليصبر على بلائي، وليشكر نعمائي، أكتبه يا محمد من الصديقين عندي)، وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: إن فيما أوحى الله إلى موسى بن عمران (ع): (يا موسى ما خلقت خلقاً أحب إلي من عبدي المؤمن، وإني إنما ابتليته لما هو خير له، وأعافيه لما هو خير له، وأزوي عنه لما هو خير له، وأنا أعلم بما يصلح عليه عبدي، فليصبر على بلائي، وليشكر نعمائي، وليرض بقضائي، أكتبه في الصديقين عندي إذا عمل برضاي

ص: 151

وأطاع أمري)(1).وعليه أن يضيف إلى هذا الأمر جهله بعواقب الأمور، قال تعالى: [وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] (البقرة:216)، فما يدريك أن الحر الذي تنزعج منه هو شرٌّ لك، بل هو خير لك في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلفوائده الصحية والنفسية والاجتماعية والبيئية مما لا مجال لذكره الآن، وأما في الآخرة فلمجموع المعاني التي نحن بصددها، يكفي أن تعلم أن أهل المعرفة قالوا: إن النار نفسها رحمة للعباد، لأن بعض النفوس الخبيثة والقلوب القاسية لا تفلح كل شدائد البرزخ والقيامة في تطهيرها، فتحتاج إلى علاج أخير وهي النار، كما في المثل: (آخر الدواء الكيّ)، لتتأهل بعدها للدخول إلى الجنة، فنار جهنم رحمة أيضاً.

2- إن قضاء الله جار في عباده سواء رضي الإنسان به أم لم يرض، فلماذا لا يجعل هذا القضاء فرصة للطاعة والقربة إلى الله تعالى مادام إن سخطه واعتراضهُ على البلاء لا يدفع عنه القضاء، لذا جاء في بعض الأحاديث (إن صبرت جرت عليك المقادير وأنت مأجور، وإن جزعت جرت عليك المقادير وأنت موزور) فماذا تختار بربك؟(2).

3-إن الإنسان المؤمن لابد أن يتعرض للبلاء في دار الدنيا: [ألم، أَحَسِبَ النَّاسُ

ص: 152


1- الأحاديث في نفس المصدر المذكور.
2- وكم سيشعر الإنسان بالراحة والاطمئنان وعدم الأسى على ما يفوته وعدم الفرح بما يأتيه فيبذل كل ما يريده الله منه من أموال وأنفس لأنه متيقن أن ما يريده الله سيأخذه سواءً شاء أم أبى، فليتنا نربي ونروض أنفسنا على هذه القواعد الثابتة.

أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ] (العنكبوت: 1-2)، فعن الصادق (علیه السلام): (إن عظيم الأجر لمع عظيم البلاء، وما أحب الله قوماً إلا ابتلاهم)، وعنه (علیه السلام): (إنما المؤمن بمنزلة كفة الميزان كلما زيد في إيمانه زيد في بلائه)، وعن موسى ابن جعفر (علیه السلام): (أيٌّ من صفت له دنياه فاتهمه على دينه)(1)، وذكر عند الإمام الصادق (علیه السلام) البلاء وما يخص الله به المؤمن، فقال: سئل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): من أشد الناس بلاءً في الدنيا؟ فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (النبيون ثم الأمثل فالأمثل، ويبتلي المؤمن بعد على قدر إيمانه وحسن أعماله، فمن صح إيمانه وحسن عمله اشتد بلاؤه، ومن سخف إيمانه وضعف عمله قل بلاؤه)(2)، وفي ضوء هذه الأحاديث يستشعر الإنسان المؤمن السرور عند حلول البلاء به؛ لأنه يكشف عن إيمانه وتعاهد الله إياه بيد رحمته، وبالتأكيد فإن بلاءً يستطيع تحمله وقد تعود عليه – كالحرِّ- أسهل عليه من بلاء لا يعرفه ولا يعلم بقدرته على الصبر عليه ما دام لا بدَّ من بلاء.4-أن يتذكر ما وعد الله الصابرين على البلاء والمحتسبين له عند الله تعالى، فعن الإمام الصادق (علیه السلام): (من ابتلي من المؤمنين ببلاء فصبر عليه، كان له مثل أجر ألف شهيد)، وعنه قال: (إذا دخل المؤمن قبره كانت الصلاة عن يمينه والزكاة عن يساره والبر مظلّ عليه، وتنحى الصبر ناحية، فإذا دخل عليه

ص: 153


1- وبموجب هذا الحديث لا بد أن نكون قلقين حينما لا نمر ببلاء صغيراً كان أو عظيماً لنتعرف على صحة إيماننا وكوننا في عين الله تعالى ورعايته واستمرار تربيته.
2- الأحاديث في الوسائل: كتاب الطهارة، أبواب الدفن، باب 77.

الملكان اللذان يليان مسائلته، قال الصبر للصلاة والزكاة والبر: دونكم صاحبكم فإن عجزتم فأنا دونه)، وعنه (علیه السلام): (الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان)(1)، وللصبر أقسام كما نعلم: الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصيته، والصبر على قضاء الله الذي نحن بصدده.5- إننا جميعاً ندعو أن نكون ممن يحظى بنصرة الإمام المنتظر (علیه السلام) وصحبته والجهاد بين يديه، فأيهما أسرع استجابة لدعوة الإمام ونصرته: المؤمن الذي خاض المحن والشدائد والصعوبات وواجهها بصبر وجلد، أم المترف المتنعم الذي يتبرم بأبسط بلاء يمر به؟ فإن رغبتم في نصرة الإمام (علیه السلام) فوطنوا أنفسكم على كل الصعوبات، فإنها من مؤهلاتكم لهذا الفوز العظيم، والذي يثقل عليه هذا البلاء البسيط لا يحظى بذلك الشرف كما قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في مثلها: (إذا كنتم من الحر ومن البرد تفرون، فأنتم من السيف أفر).

6- إن أي شيء لا ترضاه يصدر من محبوب لك، فلكي لا يؤثر فيك تأثيراً سيئاً تذكر ما يحبِّب(2) ذلك الشخص إليك، والله تبارك وتعالى لا تحصى نعمه عليك، فلماذا تنساها كلها وتذكر فقط هذا البلاء الذي نزل بك؟ وبهذا الصدد ينقل أهل المعرفة رواية واعية ومما جاء فيها: إن إخوة يوسف (علیه السلام) كانوا خجلين منه بعدما عرفوه لما صدر منهم اتجاهه، وكانوا

ص: 154


1- الأحاديث في نفس المصدر باب 76.
2- أي تلتفت إلى النقاط الايجابية حتى تذوب النقطة السلبية.

يجلسون معه صباحاً ومساءً إلى المائدة، ولشدة حيائهم منه طلبوا منه إعفائهم عن الحضور معه، قال لهم: أنتم سبب عزتي ورفعتي؛ لأن المصريين كانوا يعتبرونني قبل مجيئكم غلاماً وصلت إلى السلطنة، وعندما جئتم عرفوا أني لست غلاماً، بل ابن نبي ومن أولاد إبراهيم الخليل (ع)(1)، هذا مع قبيح فعلهم معه، فكيف يكون موقفنا اتجاه المنعم المتفضل المنان؟ وقد عشنا في أيام صلاة الجمعة المباركة في مسجد الكوفة المعظم سنة 1998 موجة شديدة من الحر وصلت إلى 60 في الظل، وفي حر الظهيرة في شهر تموز كنا نجلس الساعتين والثلاث في الشمس المحرقة حتى كانت جباهنا تكتوي بحرارة موضع السجود مع ما يقتضيه الزي الديني من كثرة الملابس، وكنا جميعا مسرورين مشغولين بلطف الله علينا وكرمه الذي أتحفنا بهذه النعمة العظيمة، ورغم أنه كان يحجز لي مكان قرب إمام الصلاة وهو السيد (قده) إلا أنني كنت أتعمد الصلاة مع المؤمنين في باحة المسجد أحياناً، وفي الحقيقة فإن هذا معنى واسع تستطيع أن تطبقه في حياتك مع الآخرين أيضاً، فعندما يسيء لك شخص تذكر منه النقاط الإيجابية فسيتبدل غضبك عليه إلى حب له، لذا ورد في الحديث: (اذكر اثنين وانسَ اثنين: اذكر إساءتك للآخرين وإحسان الآخرين إليك، وانسَ إحسانك للآخرين وإساءة الآخرين إليك)

ص: 155


1- القلب السليم: 2/ 367. هذا هو أدب الأنبياء فقد ذكر حسناتهم وغض النظر عن إساءتهم إليه.

(الظاهرة الثانية): وهي ليست بعيدة عن الأولى، فإن الكثير من الناس يهربون من الحر ويذهبون إلى (الاصطياف) في بعض المناطق السياحية أو البلدان الغربية، وهو عمل محرم إذا اقترن بمحرمات، كما ينقل عن بعض أثرياء الخليج الذين يهدرون أموالاً طائلة على الخمور والفاسقات في بعض الجزر الغربية فيجرون إلى أنفسهم عقاباً أليما خالداً من أجل لذة وقتية زائلة، وبعضهم يذهب إلى أماكن مختلطة بشكل غير مشروع وفيها غناء وموسيقى إلى غيرها من المحرمات، وهو حال مؤلم أن يعود المسلمون إلى هذه الجاهلية الرعناء بعد أن هداهم الله للإيمان، ويقعون فريسة الأعداء، فيسلبونهم أموالهم وعزتهم وشرفهم، والأهم من ذلك دينهم وأخلاقهم، والأفضع من ذلك أن يذهبوا إلى هناك مع نسائهم.

إذا لم يكن الاصطياف مقترناً بأي محرم، فما الضير فيه ؟

ولو قلتَ: فإذا لم يكن الاصطياف مقترناً بأي محرم فما الضير فيه؟ قلتُ: لا إشكال فيه من ناحية شرعية، لكن فيه منقصة أخلاقية وإضاعة لفرص كبيرة من التكامل، تلك التي ذكرناها في النقطة السابقة ضمن أمور ستة، ويضاف لها أن هذه الأموال التي تصرف لأجل التمتع والتنزه وهي أموال طائلة يمكن أن تزوج بها مؤمناً فتحصنه من الحرام، أو تكسو نساءً لا يجدْنَ حجاباً يتسترن به، أو تدعم مشروعاً خيرياً فيه إعلاءٌ لكلمة الله تعالى، أو توفر عملاً لشاب مؤمن تغنيه عن طلب ما في أيدي الناس، أو تشتري دواءً لمريض يئن من الألم ولا يجد ما يخفف به آلامه، أو تطعم أيتاماً يقضون الليل يتضورون جوعاً، فكيف يصفو

ص: 156

لك عيش وتلتذ لك نفس وأنت ترى كل هذه الحاجات حولك، فتغلق عينك عن رؤيتها وتصم أذنك عن سماعها، والأغرب من ذلك أن يكون من بين المصطافين بعض المحسوبين على الحوزة العلمية الشريفة ويقضون الصيف كله في السفرات السياحية، ويصرف أحدهم الملايين، فتذكروا جميعاً أن صرف المال في قضاء الحاجات السابقة أولى من صرفها في الحج المستحب الذي هو من أعظم الطاعات، نطقت بذلك الأحاديث، فكيف يسوغ صرفها في السفرات السياحية؟ نعم، قد يكون لهذه السفرات مبرراتها، ولكن ليقلل المدة بالمقدار الذي يندفع به هذا المبرر، ووفروا هذه الأموال لإغاثة الملهوفين وإعانة المحتاجين وإدخال السرور على المؤمنين؛ فإن في ذلك نعيم الآخرة وجنانها، ولا تكونوا من أهل الغفلة [أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ] (البقرة:61). (الظاهرة الثالثة): يكثر ارتياد المسابح في الصيف، والسباحة رياضة عقلائية استحبها الشارع المقدس وفيها فوائد جمة، لكن ينبغي التنبيه إلى عدة أمور:

1- الملابس المتعارفة التي يرتديها السباحون مخالفة للشريعة، وهي عبارة عن قطعة صغيرة يغطي بها عورته، وغالباً تكون مجسمّة للعورة، فهذه الملابس غير شرعية، فإن عورة الرجل أمام الآخرين ما بين السرة والركبة، وإذا كان الأزيد من ذلك يوجب إثارة للشهوة والفتنة فيجب ستره، فالصحيح أن يكون لباس السباح مكوناً من سروال غير مجسم يصل قريب الركبة

ص: 157

وقميص يغطي الصدر(1).2- تمارس الكثير من المحرمات في المسابح، كأصوات الموسيقى والغناء، وحالات الشذوذ الجنسي كاللواط وغيره، أو الاختلاط بين الجنسين وتبادل الكلمات البذيئة، والمراهنات عند إجراء بعض المسابقات .

3- يجب على مالك المسبح توفير شروط الصحة والأمان، فعليه أن يعقم الماء مثلاً ويبدله وينظم درجة حرارته، ويتأكد من صحة وسلامة المشاركين، وأن يوفر رجال الإنقاذ والنجاة لمساعدة الذين يتعرضون لحالات الغرق، وإذا قصر في ذلك فهو ضامن لأي ضرر يحصل على المشاركين.

4- يحرم على النساء(2) المشاركة في المسابح العامة، حتى لو لم تكن مختلطة وكانت خاصة بالنساء؛ لجملة أمور لا حاجة إلى بيانها .

(الظاهرة الرابعة): بسبب الحر يميل الإنسان إلى تخفيف ملابسه، فتنشأ جملة من المخالفات الشرعية:

1- يلبس الرجال أثواب خفيفة حاكية لما تحتها، والملابس الداخلية قصيرة

ص: 158


1- هذا مع التزام باقي الموجودين في المسبح بذلك وإلا فإنه سيقع حتماً في محاذير عديدة منها النظر إلى عورة الغير وانتشار الأمراض بسبب الماء الراكد.
2- فالنساء وللأسف الشديد يترددن على المسابح كذلك وفي هذا منتهى الخسة والدناءة، أمن أجل متعة تافهة زائلة ترمين بنفسك في وادي جهنم؟ لذا فلتعلم النساء اللاتي يترددن إلى هذه الأماكن أنهن يشاركن أعداء الإسلام في تدمير المجتمع وتدمير العفة والحياء وخصمهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم القيامة.

ومجسمة(1)، أو يفتح أزرار قميصه فيظهر صدره بشكل مثير للشهوة(2).وكذلك النساء تلبس ملابس خفيفة حاكية سواء في الشوارع العامة أو داخل الأسر والعوائل(3)، رغم وجود رجال أجانب عليهن؛ كأخ الزوج وزوج الأخت وابن العم وابن الخال، والمطلوب الالتزام بالحجاب الكامل أمام الأجانب حتى داخل البيت، بل المطلوب الاحتشام وعدم لبس الملابس الخليعة أمام المحارم أيضاً(4)، فقد سمعنا عن حالات كثيرة يوسوس فيها الشيطان بين الأب وابنته والأخ وأخته، فلا بد من منع فرص الشيطان وسد المنافذ أمامه.

2- بعض المحجبات لا تلبس الجواريب، أو تلبس تحت العباءة ثوباً لا يغطي جسمها إلى قدميها، أو تكون ذراعاها مكشوفة أو عنقها وأعلى الصدر،

ص: 159


1- ففي الصيف هناك من يلبس القميص أو الدشداشة الخفيفة بحيث لا يلبس تحتها إلا الشورت والذي يكون عادة مُجسِّماً للعورة فيكون جسده بالكامل واضحاً للجنس الآخر فأي كارثة أشد من هذه أليست هذه بداية ما أراده أعداؤنا لنا فتأمل كلام الماسونية: (يجب أن نخلق الجيل الذي لا يخجل من كشف عورته)!!!.
2- وكذلك القمصان ذات الأكمام القصيرة والكلابيات التي يلبسها بعض الشباب والتي بحركة بسيطة يظهر صدره من خلال الأكمام.
3- فأخو الزوج يلبس الشورت (والفانيلة) أمام زوجة أخيه وأخته وزوجة الأخ تلبس الخفيف والضيق إمام أخي الزوج وكذلك الأخوات قد يلبسنَ الستريج أو التراكسود الضيق أو الملابس التي بدون ردن أو الخفيفة أو القصيرة أو الضيقة أمام الإخوة وكل هذه الأمور فيها إشكال وتؤدي إلى مفسدة كبيرة فأثمن شيء عند المرأة هو الحياء فإذا ذهب ذهبت أنوثتها وجمالها.
4- قال الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم): (من لا حياء له لا دين له).

وهذه كلها مما يجب ستره ويحرم إظهاره.3- يخرج بعض الشباب بالسراويل القصيرة إلى الشارع، وفي هذا منافاة للآداب العامة وهتك لحرمة الأخلاق الاجتماعية.

وغيرها من الحالات التي تعرف قياساً إلى ما ذكرناه فلا بد من الالتفات إلى الحديث الشريف: (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة)، فالحرام حرام في الصيف أو الشتاء، في البيت أو الشارع؛ فالله الله بدينكم، لا يغلبنكم عليه هوى النفس واتباع الشيطان وبعض التقاليد المستوردة من الكفار .

(الظاهرة الخامسة): تنتشر في الصيف محلات المرطبات التي تكون أحياناً مرتعاً للشيطان، إذ فيها اختلاط غير مشروع بين الجنسين وتبادل للضحكات والكلمات المريبة والحركات المثيرة، حيث تأكل المرأة المرطبات بكل ميوعة وفتنة وسط الرجال، وقد علمت إن كثيراً من الشباب والشابات لا يرتادون هذه المحلات حباً بالمرطبات؛ وإنما استجابة لشهوة النفس الأمارة بالسوء، فلتتذكر هذه المرأة وهذا الشاب ما قلناه عما أعد الله للعاصين من العذاب، وإذا أرادوا أن يأكلوا المرطبات فليأكلوها في بيوتهم بعيداً عن الأنظار.

(الظاهرة السادسة): يقترن الصيف مع العطلة الصيفية لطلبة المدارس، والعطلة غالبا ما تعني التسكع وضياع الوقت وإمضائه بالتفاهات؛ لذلك ذكرنا توجيهاً في كلمتنا السابقة بمناسبة الامتحانات النهائية والعطلة الصيفية للطلبة بيّنا لهم فيها عدة أمور يمكن أن تجعل عطلتهم مثمرة ونافعة وهادفة، ومنها الالتحاق بالدورات السريعة للدراسة الحوزوية، وقد استجاب الكثير منهم لهذه

ص: 160

الدعوة المخلصة جزاهم الله خير جزاء المحسنين، والذي أريد أن أضيفه هنا أنه لا ينبغي للحوزة الشريفة أن تتأسى بالدراسات الأكاديمية، فتعطل في الصيف، لأن لها معاييرها الخاصة في الدراسة والتعطيل، فعندنا شهر رمضان والمناسبات الدينية عطلة وليس عندهم كذلك، فمن تضييع الوقت أن نعطل وفق كلا المعيارين، فهنا الجمع ليس أحوط كما يقول الفقهاء، بل على خلاف الاحتياط، ولنحتسب المعاناة التي نتعرض لها ونحن ندرس في الصيف في سبيل الله تعالى ليدفع بها عنا نار جهنم، وحتى لا تنطبق علينا الآية الشريفة: [وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ] (التوبة:81)، والنفر لطلب العلم لا يقل أهمية عن النفر للجهاد كما نطقت الآية الأخرى(1) بصراحة: [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ] (التوبة:122)، فليس هدفنا أهون من هؤلاء الكسبة والعمال الذين لم تمنعهم حمَّارة القيظ من العمل، وإني لأشعر بالخجل والتقصير وأنا أمر بهم في السوق وغيره وأشاهد حماسهم في العمل في شدة الحر، فلا يسبقونا إلى الخير. نعم؛ لا شك أن الجهد الفكري أعظم وأصعب من الجهد البدني ويحتاج إلى ظروف أفضل، مما يتطلب راحة أكبر، لكن لا على طول الصيف، بل نقتصر على فترة محدودة منه عند اشتداد الحر مثلاً(2).

ص: 161


1- ومن الجمع بين الآيتين [قَالُوا لا تَنفِرُوا في الحَرِّ..] و [فَلَولا نَفَرَ …] نستنتج أن النفر لطلب العلم لا يقل أهمية عن النفر إلى الجهاد.
2- كان سماحة الشيخ (دام ظله) يواصل تدريسه خلال الصيف (وهاتان المحاضراتان ألقيتا في شهر تموز)، ولما كان أكثر طلابه في الدروس العالية من أساتذة الدروس في المراحل المتوسطة

الحالات السلبية التي تنتشر في المجتمع في فصل الصيف:

(الظاهرة السابعة): تنتشر في المجتمع في فصل الصيف بعض الحالات السلبية، أشير إليها باختصار لضيق الوقت:

1-استعمال مضخات سحب الماء، وهو عمل لا بأس به بمقدار رفع الضرورة والاحتياج المعقول، أما الأزيد منه وهدر الماء بلا فائدة فهو إضرار بالمسلمين، وهو محرم(1).

2- يستغل البعض حاجة الناس إلى الثلج فيبيعه بأسعار خيالية لا يقدر عليها أكثر الناس، وهذه الحالة ناشئة من قسوة في القلب لا يحبها الله ولا يرحم صاحبها، فكيف يرضى شخص بأن ينتفع على حساب آلاف من الناس، وفيهم محتاجون إلى الثلج لأمر أو لآخر؟(2).

ص: 162


1- وخصوصاً في المناطق الفقيرة التي لا يوجد عند الكل مضخات المياه فيحرمهم من الماء الضروري لأمور حياتهم فيكون سبباً في أذية جيرانه وحرمانهم من الماء وهذا من الأنانية المحرمة.وكل ما نريده منك هو أن تضع نفسك مكانهم فماذا سوف يكون شعورك تجاه من ظلمك.
2- مما يؤدي إلى عدم شرب الماء البارد لكثير من العوائل الفقيرة خلال فصل الصيف، فالله الله بإخوانكم وكم سيبارك الله بالرزق القليل مع مراعاة الناس وحب الخير لهم ولا عليك بغيرك الذي لا يرجو إلا الدنيا الحقيرة فانه لا يحظى منها غير ما يرزقه الله.

3- تجلس النساء على أبواب الدور(1) وفي الطرقات لتبادل الأحاديث، خصوصاً في فترة العصر إلى المغرب، وفي المناطق الشعبية، مما يوقعهن في محرمات عديدة نبهنا عليها في كتاب (فقه العائلة) فراجعوه.

4- تقوم بعض النسوة برش الماء على باب الدار لوقت طويل، مما يعرضها لنظر الأجنبي، وتنكشف حتماً بعض أجزاء جسدها كالمعصم ومقدم شعر الرأس وبعض الساقين، فما الضرورة إلى ذلك؟(2).

5- استشراف بعض أهل النظرات الخائنة إلى أعراض الناس، خصوصاً في الصباح الباكر، حيث إن العوائل لا زالت نائمة على أسطح المنازل، وفي هذا خيانة عظمى لله تعالى حيث قال: [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] (غافر:19)، وفي الحديث: (إن العين التي تمتلئ من النظر إلى

ص: 163


1- أي دين هذا الذي يبيح للمرأة الجلوس في الشارع وقد جعل الإسلام أفضل صلاتها ما كان في بيتها بل في مخدعها؟ إن هذا العمل مخالف لآدابنا وأخلاقنا التي علمها لنا أهل البيت (عليهم السلام). ولتعلم المرأة الجالسة في الشارع أن الناس لا تحملها محمل الخير، وأن هناك عدداً من المحاذير في هذا الجلوس منها عدم الاحتشام، والتهاون بالحجاب، وإحراج المارّة وإدخال الأذى عليهم، والخوض في الغيبة واللغو والتجسس وغيرها. أما الرجال فجلوسهم في الشارع أيضاً منهي عنه لما فيه من ضرر عام على المجتمع وإني لأعجب كيف يجد هؤلاء أوقات فراغ وقد ترك لنا أهل البيت (عليهم السلام) موروثاً كبيراً من الأعمال التي تستوعب كل الوقت فلماذا تستبدلون ما هو خير بما هو شر لكم؟.
2- واقل ما تفعله المرأة هو إخراج ذراعها المكشوف عادة من فتحة الباب وهذا حرام فضلاً عن غيره من الأمور التي يندى لها الجبين..

الحرام يملأها الله ناراً يوم القيامة)(1).6- تنتشر هواية تربية الطيور واللعب بها وتحليقها في الجو، وفي هذه الهواية محرمات عديدة نبهنا إليها في استفتاءٍ مستقل(2).

7- بسبب الضيق النفسي والتبرم من الحرِّ تحصل حالات الغضب السريع، سواءً داخل البيت أو في السوق أو بين سائق السيارة والركاب(3)، مما يؤدي إلى

ص: 164


1- إن المبيت فوق سطح الدار إذا كانت جدران السطح غير ساترة يؤدي إلى التسلط على بيوت الجيران وتسلط الجيران على بيتك وقد ورد نهي أكيد على ذلك وفي بعض الروايات أن الذي يفعل ذلك يخرج من ربقة الإسلام، فاتقوا الله واحذروه.
2- تجده في قسم الاستفتاءات من هذا الكتاب.
3- الظواهر التي تحدث في السيارات: 1-الجلوس في الجهة التي لا تكون مواجهة للشمس: وكذلك الجلوس في مناطق انتظار السيارات وترك النساء والأطفال في الشمس وهذا مخالف لقول الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) فكم هو جميل لو كان الأمر بالعكس أي أن الجهة المواجهة للشمس مشغولة لفتح المجال لإخواننا للجلوس في الجهة الأخرى وخصوصاً عندما يكون هناك نساء أو رجال كبار في السن وكم سيعود ذلك بالعزة والفخر للدين والمذهب فادعوا شبابنا إلى تطبيق هذه الأمور لتكون محبة الغير ونبذ الأنانية ملكات عندهم وليصبروا على حر الدنيا ليفوزوا بظل الآخرة. 2-التدخين: مما يؤدي إلى إضرار غيرهم وخصوصاً أن هذه المواسم تكثر فيها أمراض حساسية الأنف والجيوب الأنفية ورسولنا الكريم (صلى الله عليه وآله== ==وسلم) يقول: (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)، فأحدنا عندما يتكلم في الأخلاق لا أحد يسبقه ولكن عندما يصل الأمر إلى التطبيق وإلى التدخين يترك كل ذلك وراء ظهره فلماذا هذا التناقض ولماذا هذا الضعف أمام النفس؟. 3-ج. سرعة الغضب: من قبل السائق اتجاه الركاب أو باقي السائقين من جهة ومن قبل الركاب اتجاه السائق من جهة أخرى بسبب التأخير الذي يحدث وكل هذا ناشئ من قلة الصبر وعدم تحمل الحر فكيف بهم بحر الآخرة وجليل وقوع المكاره فيها ألا يعلمون أن الغضب من الكبائر وأن إهانة الآخرين وإحراجهم من الكبائر،أفبهذا الضعف وعدم الصبر سوف نتحمل الأعباء مع الإمام (عجل الله فرجه) أم بهذه الأخلاق سوف ننصر الإمام (عج).؟ وأخيراً وبعد كشف هذه السلبيات التي لا تُبقي عذراً مع أحد أدعو الإخوة المؤمنين أن يتكاتفوا ويكونوا يدا واحدة ضد هذه الظواهر التي لأعدائنا اليد الطولى في إفشائها في مجتمعنا الحبيب ولا يضعفوا أمام هذه المغريات الرخيصة وغيرها من الأمور التي أمضت بقلب الإمام الحجة (عجل الله فرجه) فلا نتصور أننا بهذه الأعمال المشينة نصرنا الإمام (عليه السلام) على أعدائه فالإمام يقول: (كونوا لنا دعاة صامتين) فهل نحن دعاة للأمام بأفعالنا هذه وما أعمق قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (من لا حياء له لا دين له)، وبادروا معاشر الشباب إلى ترك هذه الأمور التي لا يرجوها الإمام من شيعته المنتظرين له وانظروا بدقة إلى عاقبة أفعالكم ومردودها على الدين والإسلام فهل انتم منتهون؟.. والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد واله الطاهرين.

المخاصمات والاشتباكات بالأيدي، وهذا عمل محرم في الشريعة، والغضب خصلة مذمومة وهي شعبة من النار، وإن إبليس ليتسلط على الإنسان في حالة الغضب، فلماذا تعطوه هذه الفرصة؟.8- كثير من الناس مبتلى بأمراض الحساسية في الأنف والصدر، وتهيج في فصل الصيف؛ لذا يجب على الناس تجنب أي شيء يؤذي المبتلين بالحساسية خصوصا التدخين.

أسأل الله تعالى أن يجعل حظنا من الحرِّ حرَّ الصيف فقط، ويقينا جهنم وسمومها وزفيرها، ويجعل أوقاتنا كلها خالصة له حتى يبلغ بنا غاية رضاه؛ إنه ولي النعم.

وأشكر بعض الأخوة الذين تعاونوا معي في إلفات النظر إلى عدد من الحالات السلبية المذكورة تطبيقاً للآية الشريفة: [وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ

ص: 165

عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] (المائدة: 2)، وقوله تعالى: [وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] (العصر:3)، والحمد لله رب العالمين، وسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 166

فرحة الزهراء (عليها السلام)

فرحة الزهراء (عليها السلام)(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

اعتاد بعض الشيعة (أيدهم الله بلطفه) أن يحتفلوا يوم التاسع من ربيع الأول من كل عام بما يسمّونه (فرحة الزهراء) أو عيد الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) ويصفونه بأنه ((عيد عظيم)) وأنه ((يوم زوال الغموم والأحزان وهو يوم شريف جداً)) –بحسب تعبير صاحب كتاب (مفاتيح الجنان)- من دون أن يعرفوا منشأً واضحاً لهذه المناسبة.

وقد تصدّى البعض لإثبات أصل لها لكن محاولاتهم غير مقنعة ولا يساعد عليها الدليل، فذكروا لأصل هذه المناسبة عدة وجوه، منها وجهان ذكرهما صاحب كتاب مفاتيح الجنان(2):

(الأول) إن التاسع من ربيع الأول يمثل أول يوم من إمامة الإمام المهدي الموعود (علیه السلام) باعتبار وفاة أبيه العسكري (علیه السلام) في الثامن من ربيع الأول و لما كان الإمام المنتظر (علیه السلام) هو الذي على يديه يسود العدل وينتصف المظلوم من الظالم فيكون يوماً مفرحاً للزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) حيث يعود إليها حقها

ص: 167


1- خاطرة سنحت لسماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) عندما كان يدرّس حشداً كبيراً من فضلاء الحوزة كتاب (كفاية الأصول) في مسجد الرأس الشريف المجاور للحضرة العلوية المقدسة فارتجلها بالمناسبة يوم 9/ربيع الأول/1422 المصادف 1/ 6/ 2001.
2- مفاتيح الجنان، أعمال شهر ربيع الأول.

وحق آلها(1).و هذا الوجه غير صالح لتفسير المناسبة لعدة أمور:-

1- إن الإمام اللاحق تبدأ إمامته الفعلية و يقوم بالأمر بمجرد وفاة السابق لأن الأرض لا تخلو من حجة ولا يُنتظر بهذا المنصب الإلهي خالياً حتى تتم مراسيم (التنصيب).

2- إن قيام المهدي (علیه السلام) بالأمر هو فرحة لكل مظلوم ومستضعف ولكل محب للخير والعدل والسلام ولكل من يرنو لإعلاء كلمة الحق وسيادة التوحيد الخالص ولا تختص الفرحة بالزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ).

3- مع مخالفته لظاهر العنوان من كون الفرحة حالة عاشتها الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) فعلاً.

(الثاني) إنه يوم طُعن فيه أحد الذين ظلموا الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) واعتدوا عليها وماتت وهي غاضبة عليه، ففي مثل هذا اليوم بُقرت بطنه لذا سمّاه البعض(2) (عيد البَقْر).

وهذا الوجه وإن كان هو الظاهر من أفعال المحتفلين إلا أنه أيضاً غير صحيح لعدة أمور:-

1-إن هذه الحادثة وقعت في أواخر ذي الحجة كما تشهد به التواريخ(3) وليس

ص: 168


1- واختار هذا الوجه أيضاً سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) واعتبره الوجه ((الأفضل والأحسن متشرعياً ودينياً)) ونقله أيضاً عن بعض أساتذته ويقصد به عادةً الشهيد الصدر الأول (قدس سره). (دستور الصدر: 136، خطبة الجمعة رقم (13)).
2- ذكره في أعمال شهر ربيع الأول، وذكر ذلك أيضاً في كتابه (وقائع الأيام).
3- راجع كتاب (وقائع الأيام: 143).

في ربيع الأول.2-إنها وقعت بعد وفاة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) والمفروض أنها فرحة عاشتها الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) في حياتها وليست تخيلية.

إن هذا الفهم غير لائق بأدب أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) البعيدين عن الشماتة والتشفي والأنانية لمجرد التشفي والانتقام، فإنهم لم يفرحوا ولم يحزنوا لأنفسهم وإنما كانت كل أعمالهم ومشاعرهم وأحاسيسهم لله وحده لا شريك له، وإذا فرحوا لموت أو مقتل أحد –كعبيد الله بن زياد قاتل الحسين (علیه السلام)- فلأن فيه إجراءً لسنة الله تعالى في الظالمين وموعظة للناس، ويبدو أن هذا الوجه من صنع أهل التعصب والعاطفة المذهبية.

(الثالث) إن في هذا اليوم وصل النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في هجرته إلى مسجد قبا في ضواحي المدينة وبذلك فرحت الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) بسلامة أبيها من طلب مشركي قريش.

أقول: صحيح إن أرباب السير ذكروا أن دخول النبي (صلى الله عليه وآله) المدينة كان في هذا التاريخ(1) إلا أن هذا الوجه لا يرتضيه المحتفلون بعيد الزهراء لأن مرادهم معنى آخر، ثم إن هذا الحدث لو كان عيداً يُحتفل به لاحتفلت به الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) نفسها في حياتها وقد تكررت ذكراه عشر مرات عشرة مرة إلى حين وفاتها (عَلَيْهِا السَّلاَمُ).

ولو سرنا مع العنوان لنستنبط وجهاً مقبولاً للمناسبة بغضّ النظر عن وجهة

ص: 169


1- السيرة النبوية لابن هشام: 2/ 98.

نظرنا فإننا نقول:إن الظاهر من العنوان أنها فرحة فعلية عاشتها الصديقة الطاهرة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) في حياتها، ويظهر أيضاً أنها حصلت مرة واحدة ولم تتكرر لأن عنوانها (فرحة) وهو مصدر مرّة، ولأنها لو تكررت لذكرها التاريخ كذكرى تستعاد في حياتها (عَلَيْهِا السَّلاَمُ).

وبموجب هذه المقدمات تكون الفرحة قد حصلت في السنة الأخيرة من حياتها حيث توفيت في السنة الحادية عشرة بعد أبيها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بأشهر.

وقد سجّل التاريخ فرحة للزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) تنطبق عليها هذه الأوصاف فقد روي عن إحدى زوجات الرسول أنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه حين دنت منه الوفاة وأثقله المرض همس في أذن ابنته الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) فبكت ثم همس أخرى فاستبشرت(1).

فهذه فرحة للزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) سجلها التاريخ في آخر سنة من حياتها الشريفة لكن المشهور أن وفاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في الثامن والعشرين من صفر فتكون هذه الحادثة قبلها لا بعدها في التاسع من ربيع الأول!.

لكن هذا الإشكال يمكن ردّه على القول الآخر في تحديد وفاة الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقد التزم جماعة من العلماء منهم الكليني في الكافي(2) بأن وفاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في الثاني عشر من ربيع الأول وعليه جرى أبناء العامة ويصادف يوم

ص: 170


1- رواها البخاري والترمذي في صحيحيهما عن أم المؤمنين عائشة، راجع كتاب فضائل الخمسة من الصحاح الستة: 3/ 189.
2- الكافي: كتاب الحجة، باب 107، مولد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ووفاته.

الاثنين بعد التأريخ المشهور لدى الإمامية في 28/صفر بأسبوعين بالضبط، فمن هذه الناحية –أي كون الوفاة يوم الاثنين- لا يأتي إشكال على هذا القول، فيكون يوم التاسع من شهر الوفاة هو الجمعة.وبذلك نصل إلى نتيجة مقبولة جداً، لأن حزن الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) وفرحها سيكون منطقياً لأن الخسارة برحيل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ليست بغياب شخصه فقط وإنما لوجود المؤامرة على آله وحملة رسالته بعد التي حصلت يوم الخميس والتي سمّاها عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن: (رزية يوم الخميس) فيكون هذا التطمين من أبيها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يوم الجمعة ضرورياً بعد أن أحست بالقلق مما حصل يوم الخميس.

وإننا هنا لا نريد أن نغير التأريخ المشهور لوفاة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ولا ندعم القول الآخر، وإنما نقول من المستحسن أن نكثر المناسبات الخاصة برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فنحتفل في التأريخين (الثامن والعشرين من صفر والثاني عشر من ربيع الأول) خصوصاً وأن ذكرياته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قليلة في السنة لا تناسب عظيم أثره وعميم بركاته التي ننعم جميعاً بخيراته في الدنيا والآخرة، كما أننا نحتفل بوفاة الصديقة الطاهرة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) في ثلاثة تواريخ محتملة لوفاتها (صلوات الله عليها)، وتكثير هذه المناسبات أمر مستحسن شرعاً لما فيه من نتائج إيجابية على صعيد الدين والفرد والمجتمع.

أقول: هذا بحسب التسلسل الفكري الذي يقتضيه العنوان.

والذي أعتقده أن هذا العيد وهذه الفرحة لا أصل لها والاحتفال به بدعة خصوصاً مع ما يصاحبه أحياناً من مخالفات لآداب أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ)

ص: 171

وتعاليمهم، ووجه تأسيسه أن الشيعة يعيشون موسماً حزيناً طيلة شهري محرم وصفر كما هو معروف ولذلك فقد حلا للبعض أن يصطنع عيداً وفرحة يعوّضون به عن فترة الحزن، ولم يكن ذلك مستساغاً مع إطلالة ربيع الأول لقرب ذكرى وفاة الإمام الحسن العسكري (علیه السلام) في الثامن منه، فدفعوها إلى التاسع وليلبسوا عليها ثوب المشروعية بافتراض أنه يوم تنصيب الإمام الحجة المنتظر (عجل الله فرجه)، وربما انضمّ إليه منشأ آخر في سنةٍ ما حيث صادف يوم النوروز بالتأريخ الميلادي (وهو 21/آذار) لأن السنين تدور وقد يتطابق اليومان ثم لما انفصلا استمر الاحتفال به كعيد مستقل للمعنى الذي ذكرناه، والذي يؤيد هذا المعنى تشابه بعض فعاليات الاحتفال بالعيدين(1).مضافاً إلى ظهور أول إشارة إليها في التأريخ في العصر البويهي حيث نقلت عن كتاب (مسارّ الشيعة) للشيخ المفيد (قدس سره)(2). وقد شهد هذا العصر وعصر السلاجقة الذي تلاه صراعاً قومياً بين الفرس والعرب، وطائفياً بين السنة والشيعة، وهو في جذوره لا هذا ولا ذاك بل سياسي مصلحي للاستيلاء على السلطة.

ص: 172


1- في عام 387 ه_ تطابق يوم النوروز مع التاسع من ربيع الأول (لجنة التحقيق).
2- نسبه إليه صاحب كتاب مفاتيح الجنان وذكره في كتابه (وقائع الأيام: 222) ونسب إلى الشيخ المفيد قوله: ((وقد اتخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله هذا اليوم عيداً، وأمر الناس بأن يتخذوه عيداً أيضاً)). أقول: لا دليل على هذا الكلام، علماً بأنه ذكر في هامش كتاب (وقائع الأيام) أن كتاب (مسارّ الشيعة) بطبعته القديمة والحديثة خالٍ من هذا الكلام ولعله حُذف منه.

ونتيجة البحث: أن هذه الفرحة وهذا العيد لا أصل له وليس له وجود في عصر الأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وعلمائنا الأقدمين وأول ظهور للمناسبة هو في العصر البويهي إذا صحّت النسبة إلى كتاب (مسارّ الشيعة) للشيخ المفيد (قدس سره) ومن غير المقبول جعل فرحة للزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) في مثل هذه الأيام التي شهدت الهجوم على دارها الشريف وجريان المظالم عليها وعلى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعد وفاة أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وفي مثل هذه الأيام كان وصول سبايا آل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة المنورة بعد زيارة الأجساد الطاهرة في كربلاء يوم الأربعين.وهذا الموقف لا ينافي إقامة بعض المناسبات المفرحة بعد انتهاء شهر صفر كالتزويج وذكرى تنصيب الإمام الحجة (عجل الله فرجه) فإنها من سنن الله الحسنة.

ص: 173

انتصاراً لأمِّ البنين هل كان للخنساء أربعة بنين استشهدوا في معركة القادسية

اشارة

انتصاراً لأمِّ البنين هل كان للخنساء أربعة بنين استشهدوا في معركة القادسية(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

كلمة لا بد منها:

كتبت هذا التحقيق قبل اثنتي عشرة سنة يوم كان كل زادي من العلم هو المطالعات في الكتب المختلفة إذ لم يتم انتمائي حينئذ إلى الحوزة العلمية الشريفة فعلاً، وقد ارتأيت أن أبقيه على حاله لأمرين:

1-لكي يبقى تذكاراً لتلك الفترة من حياتي، وقد جُبِلَ الإنسان على حب ذكرياته التعلق بها والاحتفاظ بكل ما يمت إلى ماضيه بصلة .

2-إن إعادة النظر فيه وإصلاح ما ينبغي إصلاحه يتطلب جهداً أنا محتاج إلى صرفه في أولوياتي الأخرى.

وأعتقد أن مجموع هذين الأمرين مبرر كافٍ لإصدار البحث على حاله.

وهذا لا يعني ضعفاً في مستواه، فأنا مقتنع الآن بأنه تحقيق نافع يكشف الستار عن كذب واحدة من الروايات التأريخية المشهورة ليفتح الباب واسعاً أمام

ص: 174


1- نشر بتأريخ: 11 صفر 1420ه_ الموافق 27/ 5/ 1999 م. وتحقيق سماحة الشيخ (دام ظله الشريف) في هذه القضية التأريخية كتب عام 1987 ولم يُنشر في حينه، وقد اطلع عليه يومئذٍ عدد من العلماء وأثنوا عليه، كالسيد الشهيد الصدر الثاني والعلامة السيد محيي الدين الغريفي (قدس الله روحيهما).

المحققين لإعادة النظر في كثير من القضايا الموروثة وإن اكتسبت رسوخاً وقدسية لينتصف المظلوم ويعود الحق إلى نصابه.وليست هذه المحاولة بأقل عمقاً من المستوى الذي كُتبت به أمثالها (كمائة وخمسون صحابي مختلق) ونظائره وفيه جهدٌ لا يستهان به.

نسأل الله تعالى أن يأخذ بأيدي علمائنا ومفكرينا ومثقفينا ويهديهم إلى ما فيه نفع الأمة وصلاحها وتشخيص أدوائها ودوائها، إنه نعم الموفق ونعم المستعان.

المقدمة:

امتدت يد التحريف إلى مختلف العلوم الإسلامية تعصباً لمذهب أو حقداً على آخر وكيداً له أو ملقاً لذي مال أو جاه ونحوها، وكان التاريخ الإسلامي أحد المجالات الخصبة لهؤلاء المحرفين، ورغم أن الحقائق التاريخية لابد أن تظهر لأن التلفيق والتزوير لا يصمد أمام التحقيق والتمحيص إلا إن بعضاً من هذا الكذب ظل متخفياً بلباس الشهرة وكثرة التداول و(رب مشهور لا أصل له) إلى أن تجند الأمانة العلمية والحقائق التاريخية من يميز الغثَّ من السمين، وعندئذ يذهب الزبد جفاء أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.

ولا أدري كيف سرى لي الشك والقدح في صحة الرواية عنوان البحث، إلا أني وفي إحدى لحظات التأمل ألهمت أن الرواية موضوعة وأن لا مقيل لها من الصحة، فطفقت أبحث وأنقّب في كتب التاريخ والرجال والحديث عن متن الرواية وسندها ... فماذا وجدت؟! وجدت رجال الرواية بين كذّاب ووضّاع ومنكر الحديث ومجهول، وفي أحسن الأحوال تساوت فيه أحاديث الجرح

ص: 175

والتعديل.وأما متن الرواية فمضطرب، ويتعارض مع نفسه ومع حقائق أخرى تتصل به. ومالي استعجل ذكر النتيجة، وبين يدي القارئ تمام ما توصلت إليه من بحث وتنقيب ليتولى الحكم بنفسه.

وقد يتفق القارئ معي على صحة ما توصلت إليه، لكنه لا يقبل التصديق بأن الرواية موضوعة لشهرتها ولعدم سماع ما يقدح فيها، لكن ما العمل والخطب جليل والحقيقة العلمية يجب أن نقبلها وإن لم تجد في أنفسنا هوى وقبول، ثم ألم تسمع أو تقرأ ما احتوى عليه التاريخ من خلط الحابل بالنابل وتبديل الكذب صدقاً والصدق كذباً؟ ويكفي أن تعلم أن من بين صحابة الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مائة وخمسين صحابياً مختلقاً(1) بكل تفاصيل سيرتهم، وهذا الرقم يمثل ما توصل إليه مؤلف هذا الكتاب فقط، وإن مجموع بعض الروايات الموضوعة والمقلوبة والتي اتفق على كذبها بلغ أكثر من أربعمائة ألف حديث(2)، وقد عدّ العلامة الأميني (قدس سره) سبعمائة راوٍ ومحدث من المتفق على افترائهم(3)، وهذه نماذج لما احتوت هذه الفترة من التأريخ الإسلامي من مفتريات وأباطيل نسجها الوضاعون والكذابون تحت أغراض شتى .

والرواية عنوان البحث إن صحت تمثل جانباً مشرقاً من حياة المسلمين وموقفاً بطولياً مليئاً بالإيمان والتضحية في سبيل المبادئ الحقة هو ليس

ص: 176


1- عنوان كتاب للسيد مرتضى العسكري.
2- الغدير للعلامة الأميني مج5 ص290 .
3- الغدير مج5 ص209-275 .

الوحيد... ولئن تطرق الشك إلى صحة وقوعه، فله نظير متفق عليه، ذلك هو إيثار أم البنين بنت حزام(1) الكلابية زوج أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وتفانيها في سبيل المبدأ حين استشهد لها أربعة بنين أحدهم أبو الفضل العباس بن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بين يدي أخيهم الحسين (علیه السلام) في معركة الطف يوم عاشوراء، لكن التأريخ ولأسباب غير مجهولة تناسى هذا الموقف العظيم وصاغ من خيالات الوضاعين والكذابين ما يشابهه حنقاً وغيظاً لئلا ينسب الفضل إلى أهله ولكن يريدون أن يطفئوا نور الله ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره محرفو الكلم عن مواضعه.وإليكم نص الرواية مع مناقشة سندها ومتنها وليعط الحاكم النَصَف من نفسه والله من ورائهم شهيد.

نص الرواية:

في الاستيعاب لابن عبد البر(2) في ترجمة الخنساء، وفي الإصابة لابن حجر (3) جمعاً بين النصين:

(ذكر الزبير بن بكار عن محمد بن الحسن المخزومي وهو المعروف بابن زبالة أحد المتروكين عن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه عن أبي وجزة عن أبيه قال: حضرت الخنساء بنت عمرو بن الشريد السلمية حرب القادسية ومعها

ص: 177


1- أو حرام على خلاف وتمام التحقيق في كتابنا المخطوط عن أم البنين .
2- المطبوع هامش الإصابة لابن حجر مج4 ص295 .
3- مج4 ص287 كتاب النساء، حرف الخاء من القسم الأول .

بنوها أربعة رجال، فقالت لهم من أول الليل: يا بني إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين، ووالله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد كما إنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم ولا هجنت حسبكم ولا غيرت نسبكم، وقد تعلمون ما أعدّ الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية يقول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ](آل عمران:200)، فإن أصبحتم غداً إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين وبالله على أعدائكم مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمّرت عن ساقها واضطرمت لظى على سياقها وجللت ناراً على أرواقها فتيمموا وطيسها وجالدوا رسيسها عند احتدام وطيسها تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة، فخرجوا قابلين لنصحها عازمين على قولها فلما أضاء لهم الصبح باكروا مراكزهم وانشأ أولهم يقول:

يا أخوتا إن العجوز الناصحة *** قد نصحتنا إذ دعتنا البارحة

مقالة ذات بيان واضحة *** فباكروا الحرب الضروس الكالحة

وإنما تلقون عند الصائحة *** من آل ساسان الكلاب النابحة

قد أيقنوا منكم بوقع الجائحة *** وانتم بين حياة صالحة

أو ميتة تورث غُنما رابحة

وتقدم فقاتل حتى قتل (رحمه الله)، ثم حمل الثاني وهو يقول:

إن العجوز ذات حزم وجلدْ *** والنظر الأوفق والرأي السدد

ص: 178

قد أمرتنا بالسداد والرشد *** نصيحة منها وبرّاً بالولد

فباكروا الحرب حماة في العدد *** إما لفوزٍ بارد على الكبد

أو ميتة تورثكم عزَّ الأبد *** في جنة الفردوس والعيش الرغد

فقاتل حتى استشهد، ثم حمل الثالث وهو يقول:

والله لا نعصي العجوز حرفا *** قد أمرتنا حرَباً وعطفا

نصحاً وبرّاً صادقاً ولطفا *** فبادروا الحرب الضروس زحفا

حتى تلفّوا آل كسرى لفّا *** أو يكشفوكم عن حماكم كشفا

إنا نرى التقصير عنكم ضعفا *** والقتل فيكم نجدة وزلفا

فقاتل حتى أستشهد، ثم حمل الرابع وهو يقول:

لست لخنساءَ ولا للأخرمِ *** ولا لعمرٍو ذي السناء الأقدم

إن لم أرد في الجيش جيش الأعجم ماضٍ على الهول خضمّ خضرم

إما لفوز عاجل ومغنم *** أو لوفاة في السبيل الأكرم

فقاتل حتى قتل رحمة الله عليه وعلى أخوته، فبلغها الخبر، فقالت: الحمد لله الذي شرّفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.

مناقشة السند:

رجال السند ستة وهم:

1- الزبير بن بكار .

2- محمد بن الحسن المخزومي المعروف بابن زبالة .

3- عبد الرحمن بن عبد الله العمري .

ص: 179

4- أبو عبد الرحمن عبد الله العمري .

5- أبو وجزة السعدي الشاعر .

6- أبو أبي وجزة .

1- الزبير بن بكار:

في ميزان الاعتدال للذهبي(1): الإمام صاحب النسب قاضي مكة من أوعية العلم، لا يلتفت إلى قول أحمد بن علي السليماني حيث ذكره في عداد من يضع الحديث.

وقال مرة: منكر الحديث .

وفي الجرح والتعديل للرازي(2): الزبير بن بكار: رأيته ولم أكتب عنه. وفي تهذيب التهذيب لابن حجر(3): قال ابن أبي حاتم كتب عنه أبي بمكة ورأيته ولم أكتب عنه، وقال أحمد بن علي السليماني في كتاب الضعفاء له كان منكر الحديث وهذا جرح مردود، ولعله استنكر إكثاره عن الضعفاء مثل محمد بن الحسن بن زبالة المخزومي؛ فإن في كتاب النسب عن هؤلاء أشياء كثيرة منكرة.

2- محمد بن الحسن المخزومي:

في تهذيب التهذيب لابن حجر(4): محمد بن الحسن بن زبالة وهو أبو

ص: 180


1- مج 2 ص66 عدد، 283 .
2- مج3 ص585 .
3- ج2 ص312 .
4- ج9 ص115 .

الحسن المخزومي المدني، عن ابن معين أنه كذاب خبيث لم يكن بثقة ولا مأمون يسرق، قال أحمد بن صالح المصري كتبت عنه مائة ألف حديث ثم تبين لي أنه كان يضع الحديث فتركت حديثه، وقال الأجري عن أبي داود: كذابا المدينة محمد بن الحسن بن زبالة ووهب أبو البختري، وقال الدارقطني: متروك.وقال ابن حبان: كان يروي عن الثقات ما لم يسمع منهم، وقال الخليلي: روى عن مالك مناكير وهو ضعيف، وفي الجرح والتعديل للرازي(1): محمد بن الحسن المخزومي ذاهب الحديث منكر الحديث، ومرَّ بك في متن الرواية قول ابن حجر عند نقله لها عن المخزومي بأنه أحد المتروكين، وفي الغدير للأميني(2): كذاب متروك واهي الحديث نسب إلى وضع الحديث، وفيه أيضاً(3): ابن زبالة: قال الحافظ أحمد بن صالح كتبت عنه مئة ألف حديث ثم تبين لي انه كان يضع الحديث فتركت حديثه.

3- عبد الرحمن بن عبد الله:

عثرت على أسماء كثيرة تحت هذا العنوان، فاتبعت عدة نقاط لمعرفة الراوي المقصود، وهي:

1- تتبع أسماء من يروى عنهم ومن يروون عنه.

2- ملاحظة الزمن وتأريخ حياته وعدد الوسائط.

ص: 181


1- ج7 ص228 .
2- ج5 ص256 عن مجمع الزوائد للهيثمي 1/ 306 واللإلىء المصنوعة للسيوطي 2/ 71 .
3- ج5 ص273 عن تاريخ الخطيب البغدادي 4/ 200 .

3- أن يكون أبو الراوي راوياً، حيث ورد في السند أنه ينقلها عن أبيه.

فانطبقت هذه المواصفات على عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن حفص العمري المدني.

في ميزان الاعتدال للذهبي(1): عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن حفص العمري المدني هالك، قال يحي بن معين سمعت منه مجلساً وهو ضعيف، وقال أحمد: ليس يسوى حديثه شيئاً، سمعت منه ثم تركناه، أحاديثه مناكير وكان كذاباً فمزقت حديثه، وقال النسائي: متروك، قال ابن عدي: عامة ما يرويه مناكير أما متناً وأما إسناداً، وفي الجرح والتعديل للرازي(2): عبد الرحمن بن عبد الله العمري متروك الحديث كان يكذب.

وفي تهذيب التهذيب(3): عبد الرحمن بن عبد الله العمري، قال أبو طالب عن أحمد: ليس بشيء، وقد سمعت منه ومزقته وكان يقلب حديث نافع عن ابن عمر، وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: أحاديثه مناكير كان كذاباً، وقال الجوزجاني: القاسم وعبد الرحمن العمريان منكراً الحديث جداً.

وفي الغدير للأميني(4): عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر العدوي كان كذاباً يقلب الاحاديث، متروك الحديث حديثه أحاديث مناكير، كان كذاباً متروكاً لا يحتج به.

ص: 182


1- مج 2 ص571 ترجمة 4900 .
2- ج5 ص253 .
3- ج6 ص213 .
4- ج5 ص236 عن تاريخ الخطيب البغدادي 10/ 231 ونصب الراية للزيلعي الحنفي 1/ 60 .

4- عبد الله بن عمر بن حفص العمري المدني:

في ميزان الاعتدال للذهبي(1): عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري المدني أخو عبيد الله، صدوق في حفظه شيء، روى عن نافع وجماعة، وقال ابن المديني: عبد الله ضعيف، وقال ابن حبان: كان ممن غلب عليه الصلاح والعبادة حتى غفل عن حفظ الأخبار وجودة الحفظ للآثار فلما فحش خطأه استحق الترك، مات سنة 137 ه_.

وفي تهذيب التهذيب لابن حجر(2): قال ابن حبان كان ممن غلب عليه الصلاح حتى غفل عن الضبط فأستحق الترك، وقال الترمذي في العلل الكبير عن البخاري: ذاهب لا أروي عنه شيئاً، وقال البخاري في التاريخ: كان يحيى بن سعيد يضعفه، وقال أبو أحمد الحاكم ليس بالقوي عندهم وقال المروذي ذكره فلم يرضه.

5- أبو وجزة:

في تهذيب التهذيب(3): أبو وجزة اسمه يزيد بن عبيد المدني أبو وجزة السعدي الشاعر، وقال(4): مات سنة 130 ه_ وهو ثقة قليل الحديث شاعراً عالماً،

ص: 183


1- مج2 ص465 ترجمة 4472 .
2- ج5 ص326 .
3- قسم الكنى ج12 ص271 .
4- ج11 ص349 .

وفي الجرح والتعديل للرازي(1): أبو وجزة السعدي كان شاعراً لم يذكر أباه في من روى عنه.6- أبو أبي وجزة:

يفترض أن اسمه عبيد المدني السعدي – من اسم ابنه أبي وجزة – ولا يوجد أحد بهذا الاسم في معاجم الرجال، نعم هناك ذكر لجد أبي وجزة ويكنى بأبي وجزة أيضاً، قال ابن حجر(2): له إدراك، وقال ابن عساكر: أظنه جد أبي وجزة الشاعر.

استنتاج:

بعد سير أحوال رجال السند يتضح لنا أن أكثرهم كذاب وضاع متروك الحديث أو مجهول، وفي أحسن الأحوال تساوت فيه أقوال الجرح والتعديل، وإن وجود أحدهم كابن زبالة المخزومي يكفي لطرح الرواية وإهمالها.

والآن هلموا معي لمناقشة المتن وأمور تتعلق به تحت عناوين منفصلة، والله المسدد:

مناقشة المتن:

1- لم يكن للخنساء أربعة بنين من زوج واحد كما تنص الرواية؛ فقد ولد لها من زوجها الأول وهو رواحة بن عبد العزى السلمي ولدها الأكبر عبد الله

ص: 184


1- ج9 ص279 وفي ميزان الاعتدال للذهبي (ج4 ص434) أبو وجزة السعدي مقل سكتوا عن توثيقه وتضعيفه روى عن عمر بن أبي سلمة والظاهر انه لم يسمع منه فقد اخرج النسائي له عن رجل عن عمر (وهذا هو التدليس) .
2- الإصابة مج4 ص218 قسم الكنى .

وهو أبو شجرة، ولها من زوجها الثاني مرداس بن أبي عامر السلمي ثلاثة بنين وبنت واحدة، وقد اختلف في أسمائهم، فقيل: معاوية ويزيد وعمراً وعمرة(1)، وقيل: سراقة وحزن وعمرو(2)، أما العباس بن مرداس فهو ابن زوجها وعليه أكثر المؤرخين وأهل التراجم الأولين، حتى إن ابن قتيبة جعل العباس متقدماً زمناً على الخنساء(3)، وللعباس أخ من غير الخنساء اسمه شدّاد له قصة مع أخته عمرة(4)، أما من قال أنه ابن الخنساء فلجهله بأن الخنساء تزوجت اثنين أحدهما مرداس الذي كان قد تزوج قبل الخنساء، وكانت عمرة أخت العباس لأبيه تحب أخاها، كما كانت أمها الخنساء تحب أخاها لأبيها صخراً، ولما مات العباس رثته أخته عمرة بأبيات منها:لتبك ابن مرداسٍ على ما عراهمُ *** عشيرته إذ حمَّ أمس زوالُ_ها

لدى الخصم إذ عند الأمير كفاهمُ *** فكان إليها فصلها وحلالُ_ها ومعضلة للحاملين كفيتها *** إذا أنهكت هوج الرياح طلالُها(5)2- إن أبناء الخنساء توفوا أو قتلوا في تواريخ مختلفة وفي غير معركة القادسية التي حدثت سنة 14ه_ .

ص: 185


1- الشعر والشعراء لابن قتيبة 1/ 343.
2- الفرائد الغوالي للجواهري: مج7 ص17.
3- الشعر والشعراء 1/ 300، 1/ 343.
4- الخنساء شاعرة بني سليم للدكتور محمد جابر عبد العال الجبني ص78، الفرائد الغوالي ج3 ص140.
5- الخنساء شاعرة بني سليم، للجبني، ص 97.

فالعباس – على فرض أنه ابن الخنساء – توفي سنة 18 في بادية البصرة(1)، ويزيد قتل أخذاً بثأر قيس بن الأسلت، ولشقيقته عمرة شعر في رثائه منه قولها:أجدَّ ابن أميَ أن لا يؤوبا؟ *** وكان ابن أمي جليداً نجيبا

تقيّاً نقيّاً رحيب المقامِ *** كميّاً صليباً خطيبا

حليماً أريباً إذا ما بدا *** سديد المقالة صلباً دريبا(2)

3- إن أبا شجرة وهو ابن الخنساء من زوجها الأول كان ممن ارتدَّ عن الإسلام بعد وفاة الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، يقول الطبري في تأريخه(3): وقد كان لحق فيمن لحق من بني سليم بأهل الردة، أبو شجرة بن عبد العزى وهو ابن الخنساء. وذكر له أبياتاً من الشعر هي:

صحا القلب عن ميٍّ هواه وأقصرا *** وطاوع فيها العاذلين فأبصرا

وأصبح أدنى رائد الجهل والصبا *** كما ودّها عنا كذاك تغيرا

وأصبح أدنى رائد الوصل منهمُ *** كما حبلها من حبلنا قد تبتّرا ألا أيها المدلي بكثرة قومهِ *** وحظك منهم أن تضام وتقهرا

ص: 186


1- الإعلام للزركلي 4/ 39 عن الاصابة وطبقات ابن سعد وتهذيب التهذيب والشعر والشعراء وغيرها.
2- الخنساء شاعرة بني سليم ص97.
3- حوادث سنة 11 ه_، ج3 ص235 طبعة بيروت.

سل الناس عنا كل يوم كريهة *** إذا ما التقينا دارعين وحسّرا

أنسنا نعاطي ذا الطماع لجامة *** ونطعن في الهيجا إذا الموت أقفرا

وعارضة شهباء تخطر بالقنا *** ترى البلق في حافاتها والسنوّرا

فروّيت رمحي من كتيبة خالدٍ *** وإني لأرجو بعدها أن أعمّ_را

ويظهر من هذه الأبيات إن أبا شجرة يحمل حقداً وحنقاً على الإسلام شديداً، وأنه شفى غيظه منهم ويرجو باستهزاء أن يعمر أكثر ليلغ أكثر من دمائهم، يقول الطبري عقب هذه الأبيات بأنه أسلم ودخل فيما دخل فيه الناس، رغم أنه ذيل كلامه هذا مما لا ينسجم معه، إلا أن نقول أنه أسلم مكرها بعد أن ضاقت عليه الأرض بما رحبت، يقول الطبري ما ملخصه: إن أبا شجرة أتى عمر بن الخطاب وهو يعطي المساكين من الصدقة، فقال: يا أمير المؤمنين اعطني فإني ذو حاجة. قال: ومن أنت؟ قال: أنا أبو شجرة بن عبد العزى، قال: أبو شجرة أي عدو الله ألست الذي تقول:

فروّيت رمحي من كتيبة خالدٍ *** وإني لأرجو بعدها أن أعمّرا

قال ثم جعل يعلوه بالدرة في رأسه حتى سبقه، فرجع إلى ناقته فارتحلها ثم أسندها في حرة شوران راجعاً إلى أرض بني سليم، فقال:

ضنَّ علينا أبو حفص بنائله ما *** وكل مختبطٍ يوماً له ورقُ زال يرهقني حتى خذيت له لما *** وحال من دون بعض الرغبة الشفقُ رهبت أبا حفص وشرطتهِ *** والشيخ يفزع أحياناً فينحمقُ

ص: 187

إلى آخر الأبيات.

فمتى أسلم وحسن إسلامه حتى يبلي البلاء الحسن في معارك الفتح الإسلامي، ويستشهد في معركة القادسية التي حدثت في أوائل خلافة عمر.

4- لا وجود للرواية في كتب الأقدمين، سواء منها كتب التراجم والسير أو كتب التأريخ المطولة منها والمختصرة، رغم أن خبراً كهذا يطير صيته ولا يغفل عنه مسجلو الحقائق، وانفرد بذكرها الزبير بن بكار عن رواته المجهولين الكذابين الوضاعين.

5- لو صحّ هذا الخبر لكان أحرى بالخنساء أن تمجّده وتسجّله في شعرها بدلاً من أن تبقى راثية أخويها اللذين قتلا في الجاهلية: صخر ومعاوية، ولها نظم فيهما متأخر عن معركة القادسية(1).

6- إن صبغة التصنع والتكلف بادية على الوصية خصوصاً في جزئها الأخير، وما أشبهها بصناعة القصاصين وأهل المقامات الذين راج سوقهم في العصر العباسي.

7- أثناء بحثي هذا في مصادر الكتب وجدت اثنين من الكتاب المتأخرين، وهما الدكتورة بنت الشاطئ والدكتور محمد جابر عبد العال الجبني يشككان في صحة الرواية، أما بنت الشاطئ فتشكك في صحة صدور وصية الخنساء لبنيها، وأما الجبني فإنه يتهم الرواية كلها بالوضع، وأنا أسجل ما قالا محتفظاً لهما بما توصلا إليه.

ص: 188


1- ديوان الخنساء ص103،126 وغيرها.

تقول الدكتورة بنت الشاطئ(1): (والرواة مجمعون على أن عددهم أربعة وإن لم يحددوا بالضبط أسماءهم، وحين نحاول هذا يلقانا عنت من اضطراب الروايات؛ فابن قتيبة (الشعر والشعراء: 1/ 301) يذكر أنها ولدت لمرداس ثلاثة بنين: زيداً ومعاوية وعمراً وبنتاً واحدة، فهل كان رابعهم أبا شجرة ابن عبد العزى وقد تاب من الردة، لكن الخنساء تقول في وصيتها لهم: إنكم بنو أب واحد وأم واحدة، فالأربعة إذن أشقاء، وقد نجد مخلصاً في اتهام هذه الوصية بالوضع وإنها في الحق لظاهرة التكلف، لكنا لا نملك أن نقطع هنا باليقين).ويقول الدكتور الجبني(2): (ذهبت القصص عن الخنساء أنها رافقت بنيها الأربعة حين ضرب البعث على المسلمين، فذهبت معهم وأوصتهم في وقعة القادسية، وهذه الوصية ترد في المصادر على ثلاثة ألوان، أما مشاراً إليها كما نرى في تاج العروس الذي يقول (وروي أنها شهدت القادسية ومعها أربعة بنين فلم تزل تحضّهم بكلام فصيح، فأبلوا بلاء حسناً واستشهدوا، فكان عمر رضي الله عنه يعطيها أرزاقهم).

وأما باختلاف في النص، كما أورد صاحب أعلام النساء (ج1 ص313 وص314 وص315) الذي اختلف مع غيره، فلم يذكر أنهم بنو أب واحد وأم واحدة واتفق مع الآخرين بعد ذلك، ولعله أسقط القول بأنهم بنو أب واحد لعلمه بان أحدهم – وهو أبو شجرة – من أب والباقون من أب آخر.

وأما اختلاف بحذف بعضها، كاختلاف ابن حجر الذي قدَّم وأخَّر في بعض

ص: 189


1- الخنساء ص40 نقلناها بواسطة كتاب (الخنساء شاعرة بني سليم) للجبني ص76.
2- الخنساء شاعرة بني سليم للجبني ص87-89.

العبارات وجاء بالوصية مختصرة، فإذا تغاضينا عن هذا الاختلاف السطحي، لأنه لا يسقط النص، وجدنا صاحبة الدر المنثور تتفق مع ناشر ديوان الخنساء ص11 في نص الوصية (في ص111) وهي كما يوردها على الوجه الآتي: (وكان للخنساء أربعة بنين فلما ضرب البعث على المسلمين بفتح فارس صارت معهم وهم رجال، وحضرت وقعة القادسية سنة 16 ه_(1) وسنة 638م، وأوصتهم من الليل بقولها: يا بني إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين، ووالله الذي لا إله إلا الله هو إنكم لبنو رجل واحد كما إنكم بنو امرأة واحدة، ما هجنت حسبكم ولا غيرت نسبكم، واعلموا أن الدار الآخرة خير من الدار الفانية، اصبروا وصابروا واتقوا الله لعلكم تفلحون، فإذا رأيتم الحرب قد شمّرت عن ساقها وجللت ناراً على أرواقها فتيمموا وطيسها وجالدوا رسيسها تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة).فلما أضاء لهم الصبح باكروا إلى مراكزهم فتقدموا واحداً بعد واحد ينشدون أراجيز يذكرون فيها وصية العجوز لهم، حتى قتلوا عن آخرهم، فبلغ الخبر إليها فقالت:

(الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر الرحمة).

وأنا أتفق مع الدكتورة بنت الشاطئ على أن هذه الوصية ظاهرة التكلف، وأضيف إنها لو كانت صحيحة لما غفل القدماء عن ذكرها أو الإشارة إليها على الأقل، وإذا عرفنا بعد ذلك أن من رواتها محمد بن الحسن المخزومي

ص: 190


1- وهذا وهمٌ لأن القادسية حدثت سنة 14 ه_ كما في تأريخ الطبري وغيره.

المعروف بابن زبالة الذي نص ابن حجر في الإصابة (ج8 ص67) على أنه أحد المتروكين رجح لدينا أنها موضوعة وأن واضعها يتميز بأمرين واضحين: أحدهما: جهله بتاريخ الخنساء أنها تزوجت اثنين، ولدت أكبر بنيها من رواحة بن عبد العزى والباقين من مرداس بن أبي عامر وجهله أيضاً: بتأريخ أكبر بنيها، فإنه أسلم وارتد ولم يعد إليه إلا مرغماً بعد أن ضاقت الدنيا في وجهه، فعاد معلناً التوبة، وذلك واضح من تأريخ أبي شجرة عبد الله الذي ذكره الطبري في أحداث سنة 11). انتهى موضع الحاجة.ثم وجدت للدكتور أحمد الربيعي تحقيقاً نافعاً(1) نلخص منه قوله: (لقد وقع كثير من القدماء والمعاصرين الذين ترجموا حياة العباس بن المرداس السلمي في أخطاء فاحشة عندما ظنوا أن أمه تماضر بنت عمرو بن الشريد السلمية الشاعرة الجاهلية التي اشتهرت برثائها لأخيها صخر، وعندما ظنوا أن الخنساء هذه حضرت مع أربعة من أولادها يوم القادسية، وعندما ظنوا أن أولادها استشهدوا في هذا اليوم.

فالصحيح أن أم العباس بن المرداس أمة زنجية سوداء لا نعرف اسمها، وأن تماضر الخنساء ماتت في الجاهلية، وأن الخنساء التي شهدت القادسية هي الخنساء بنت عمرو النخعية القحطانية اليمانية، وأن أبنائها الأربعة لم يستشهدوا بل قاتلوا حتى فتح الله على المسلمين فعادوا إلى أمهم سالمين.

وقد كان للمرداس ثلاثة زوجات، إحداهن تماضر الخنساء، وكان لتماضر

ص: 191


1- العذيق النضيد بمصادر ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ص213-223.

أربعة أزواج غير المرداس، أحدهم عبد الله بن رواحة السلمي، ولها منه ولد واحد هو أبو شجرة عبد العزى، وقد حاول اغتيال عمر لولا الشرطة الواقفة على رأسه، وله في ذلك شعر (الكامل للمبرد 1/ 488 وتاريخ الطبري 3/ 266)، ومنهم زهير بن جذيمة العبسي ولها منه اثنا عشر ولداً احدهم قيس بن زهير الذي قاد بني عبس في ملحمة داحس والغبراء، وقد قتل أكثرهم في الجاهلية، وأخوه ورقاء بن زهير له شعر يذكر فيه أمه تماضر وأباه زهيراً (الجمهرة للكلبي/ 175، العقد الفريد: 5/ 135 – 137، الكامل لابن الاثير 1/ 558، أمثال العرب للمفضل الضبي:36 والنقائض لأبي عبيدة: 1/ 97 – 98 وغيرها)، وكان دريد بن الصمة الجشمي الهوزاني قد خطبها فردته وهو صديق أخيها معاوية وعضيده والآخذ بثأره لحلف بينهما، ولابد أن يكون عمرهما متقارباً، ودريد هو الوحيد من جيل تماضر الخنساء الذين أدركوا الإسلام، وقد قتل دريد يوم حنين في السنة التاسعة للهجرة وعمره بين 150-200 سنة (الشعر والشعراء لابن قتيبة: 1/ 343، المعمرون للسجستاني: 27،الأغاني للأصفهاني: 10/ 3، 22/ 32، 33 و 15/ 76).أما تماضر الخنساء فقد ماتت يوم (ذي حسى) وهو من أيام داحس والغبراء قتلها سيد بني ذبيان حذيفة بن بدر الفرازي، فقتله ابنها قيس بن زهير بن جذيمة العبسي شرَّ قتلة (الأغاني: 17/ 208، النقائض لأبي عبيدة: 1/ 97، أمثال العرب للمفضل الضبي: 36).

ولم يدرك الإسلام أحد من والديها وأخوتها الثمانية، وأزواجها الخمسة وأولادها منهم وأولادهم من غيرها سوى أبي شجرة عبد العزى والعباس بن المرداس السلمي وليس لها شعر في الإسلام.

ص: 192

أما الرواية التي زعمت أنها وفدت مع قومها على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأنه استنشدها وأعجب بشعرها وإنها شهدت مع أربعة من أبنائها معركة القادسية فهي رواية الزبير بن بكار الذي قال عنه أحمد في كتابه (الضعفاء): إنه يختلق الأخبار ويروي الأحاديث المنكرة عن المناكير وينسبها إلى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (السيوطي: شرح شواهد المغني 1/ 254، الذهبي في ميزان الاعتدال 2/ 66، وابن حجر في تهذيب التهذيب: 1/ 313).وأما الخنساء التي شهدت يوم القادسية بأشبالها الأربعة فهي امرأة من النخع، وهي رواية الطبري (التاريخ: 3/ 544) وابن اعثم الكوفي (الفتوح:1/ 206) وابن الجوزي البغدادي (صفة الصفوة 4/ 347).

ومن القدماء الذين أشاعوا رواية ابن بكار بن عبد البر في الاستيعاب (4 /1827) وابن الأثير في أسد الغابة (7/ 90) والنويري في نهاية الأرب (18/ 23، 26 و19/ 215) وابن خلدون في العبر (م2 ق1 ص637) وابن حجر في الإصابة (4/ 279،280) والسيوطي في شرح شواهد المغني (1/ 452) .

أما من المعاصرين فجرجي زيدان في تاريخ آداب اللغة العربية (1/ 741) والبستاني في دائرة المعارف (8/ 485) والزركلي في الإعلام (2/ 86) وجواد علي في المفصل (9 /877) وغيرهم من الذين ساقوا رواية ابن بكار على علاتها قبل أن يسألوا أنفسهم: أين خطب تماضر الخنساء التي حرضت بها قومها بني الشريد في حروب الجاهلية لو كانت خطيبة؟ وأين شعرها الإسلامي لو كانت صحابية؟ ولماذا لم ترث أبنائها الأربعة – وهم فلذات أكبادها – وقد استشهدوا أربعتهم في ساعة واحدة وهي النائحة الثكلى التي رثت صخراً وبكته حتى

ص: 193

عميت وماتت على زعم ابن بكار؟). انتهى ملخّصاً.

أقول: بغض النظر عن المناقشات في بعض التفاصيل فإن المهم وحدة النتيجة مع ما توصلنا إليه.

ثمرة البحث:

بعد هذا التمحيص الذي تعرضت له الرواية فقد أسفرت الحقيقة عن وجهها، ولاح الصبح لذي عينين بأن الرواية من نسج الوضاعين الكذابين وقد راق للزبير بن بكار – مصدرها الوحيد – بثها لكي يغطي على مأثرة أم البنين فاطمة بنت حزام الكلابية زوجة أمير المؤمنين علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) التي تلقت نبأ استشهاد بنيها الأربعة العباس وعبد الله وعثمان وجعفر في معركة كربلاء سنة 61ه_ بقولها: (الحمد لله الذي جعل أولادي فداءً لأبي عبد الله الحسين (علیه السلام) والحسين يعني رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والإسلام فهم فداءً للإسلام.

ولكن الزبير هذا وهو من نسل عبد الله بن الزبير الذي ترك الصلاة على محمد وآل محمد أربعين جمعة في خطبه حتى التاث عليه الناس، فقال: إن له (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أهل بيت سوء إذا ذكرته اشرأبت نفوسهم إليه وفرحوا بذلك، فلا أحب أن أقرّ أعينهم بذلك(1)، وقد روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) فيه قوله: ما زال الزبير منا أهل البيت حتى أدرك فرخه ونهاه عن رأيه(2)، وينسب مثل هذا القول

ص: 194


1- الكنى والألقاب، الشيخ عباس القمي، ج1 ص294.
2- معجم رجال الحديث، السيد الخوئي، مج10 ص194.

لأمير المؤمنين علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: ما زال الزبير يعد منا أهل البيت حتى نشأ عبد الله(1)، وهذا الفرع من ذاك الأصل ومن يشابه أبه فما ظلم.على أن انحراف الزبير بن بكار عن أهل بيت النبوة ع معروف، يقول المرزباني: انحراف الزبير بن بكار عن أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ظاهر(2)، وللزبير هذا هنات وهنات نسبها إلى آل بيت الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الذين طهّرهم الله وأذهب عنهم الرجس، فعند الله جزاؤه وهو خير الحاكمين.

والتأريخ الذي كان ملكاً للحكومات الظالمة الجائرة تأثر كثيراً بهذا الدس والتحريف؛ فقلب الحقيقة خيالاً والخيال حقيقة، ووجد الحكام في مثل هؤلاء الوضاعين ما يحقق لهم أمانيهم في طمس كل فضيلة لآل الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وصنع أبطال وهميين قبالتهم، وكانت أم البنين إحدى ضحايا هذه السياسة الظالمة فقد اندرست مآثرتها واختلست الخنساء بغير حق مكانها ولكن ...

[يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ](التوبة:32).

ص: 195


1- الاستيعاب لابن عبد البر المطبوع بهامش الاصابة لابن حجر مج2 ص304.
2- الموشح ص54 نقلناها عن كتاب (السيدة سكينة بنت الحسين (عليه السلام)) للسيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم

مسؤولية المدرسين عن انتظام التحصيل في الحوزة العلمية الشريفة

مسؤولية المدرسين عن انتظام التحصيل في الحوزة العلمية الشريفة(1)

بسمه تعالى

الحوزة العلمية كيان مقدس اكتسب قدسيته من الهدف الذي يبتغيه وهو رضا الله تبارك وتعالى، ومن العمل الذي يؤديه وهو إعلاء كلمته تبارك وتعالى وهداية البشر والحفاظ على الشريعة الإلهية وصيانتها من الانحراف، واكتسب قدسيته أيضاً من انتسابه إلى النبي والأئمة الطاهرين الذين أجاب الله بهم دعوة خليله إبراهيم [فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ](إبراهيم:37) [سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ –في قلوب المؤمنين- وُدّاً](مريم:96) [وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ](الشعراء:84) فالحوزة الشريفة فيها نفحة من تلك الدعوة المباركة، واكتسبت قدسيتها من نزاهة أبنائها ونكرانهم للذات وتحليهم بالأخلاق الفاضلة والصورة النقية التي يعرضونها في حياتهم.

ولكن الحوزة لا تخلو من السلبيات التي تحتاج إلى أن نتعاون على معالجتها تحقيقاً للآية الشريفة [وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] (العصر:3)، وأخص بالذكر في حديثي هذا كثرة التعطيلات وعدم وجود مواعيد محددة لأيام التحصيل والتعطيل.

وأرى أن للمدرسين دوراً كبيراً في هذا الاتجاه فهم عنصر مهم في تركيب هذا الكيان الشريف وبهم قوامها وديمومتها وهذا يعني أمرين:

ص: 196


1- خطاب وُجّه إلى أساتذة الحوزة العلمية الشريفة متزامناً مع بدء العام الدراسي محرم 1423ه_.

الأول: استشعار عظمة نعمة الله تبارك وتعالى عليهم أن جعلهم في هذا الموقع المقدس، وممن يساهم في تشييد هذا الصرح العظيم أعني الحوزة الشريفة التي حفظت الدين والمذهب طيلة أربعة عشر قرناً حتى وصل إلينا غضاً طرياً كأنه نزل اليوم.وقد قلت في مناسبة سابقة أني كلما قرأت أو سمعت قول تعالى [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ](التوبة:122) استشعر عظيم المنة واللطف الإلهي بي إذ جعلني بفضله من أهل هذه الآية. فإن كل العطاء الإلهي الذي ذكرته الأحاديث لطالب العلم شامل له _أي المدرس- بالأولوية بل أنه يحظى بألطاف خاصة فإنه يبذل العلم وينفقه على المحتاجين إليه وينشره، وبذل العلم لمن لا يعلمه صدقة، وأنه يزكو بالإنفاق، وهذا ما جربناه عملياً فإن إفاضات يحصل عليها المدرس أثناء وبعد إلقائه المحاضرة لم يحصل عليها أثناء الدراسة، والمراجعة و (المذاكرة به تسبيح والعمل به جهاد)(1).

وبالمدرّسين تنعقد حلق العلم التي ورد فيها أنها (روض من رياض الجنة)(2) وأنه (ترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم وفي صلواتها تبارك عليهم ويستغفر لهم كل رطب ويابس حتى حيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه، فطوبى لمن لا يحرمه الله من حظه)(3) وفي حديث آخر (لولا من يبقى

ص: 197


1- بحار الأنوار: 1:171.
2- بحار الأنوار:71:188.
3- بحار الأنوار: 1:166.

بعد غيبة قائمكم من العلماء الداعين إليه والدالين عليه والذابين عن دينه. بحجج الله والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته ومن فخاخ النواصب الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك السفينة سكانها لما بقى أحد إلا ارتد عن دين الله أولئك هم الأفضلون عند الله عز وجل)(1) وفي حديث رواه الإمام الصادق (علیه السلام) عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (يجيء الرجل يوم القيامة، وله من الحسنات كالسحاب الركام أو كالجبال الرواسي، فيقول: يا رب أنى لي هذا ولم أعملها؟ فيقول: هذا علمك الذي علمته الناس يعمل به بعدك)(2).الثاني: الشعور بالمسؤولية تجاه هذه النعمة فإن من واجب النعمة أن تشكر، ومن وجوه الشكر أن تؤدي حقوق هذه النعمة وفروضها كما ينبغي لها بإخلاص، فإن الله تبارك وتعالى إذا علم الإخلاص من عبده رضي منه بالقليل ووفقه للكثير.

وقد أحسن الظن بي بعض فضلاء الحوزة الشريفة ممن يحمل وعياً اجتماعياً وحسا مرهفاً بعظم المسؤولية، فطلب مني وضع جدول للمواعيد الثابتة لتعطيل الدراسة في الحوزة الشريفة كخطوة في طريق الالتزام بالتحصيل، ومنع الفوضى والإرباك الذي يحصل في سير الدراسة في غياب هذه المواعيد المنظمة والذي نعاني منه جميعاً ونشكو من تبعاته وآثاره السلبية التي أدت إلى ضعف المستوى العلمي، وقلة الاستفادة من الدروس، وبطئ عملية صقل

ص: 198


1- بحار الأنوار: 2:6.
2- بحار الأنوار: 2:18.

المواهب وإنضاج الكفاءات، ليتسنى توفير العدد الكافي من المجتهدين والعلماء والفضلاء والأساتذة خصوصاً في الأزمان المتأخرة.وأرى أن الجرعة الرئيسية من العلاج بيد المدرسين فإذا ملكوا زمام أنفسهم، والتزموا بالحضور فإن الطلبة سيلتزمون وسيشعر أحدهم بالخجل لو غاب عن الدرس بلا ضرورة قصوى.

وقد وعدت هذا الأخ بالإجابة ولكن في بداية السنة الهجرية لتأسيس ارتكاز حوزوي إن لنا عاماً دراسياً منتظماً يبدأ في شهر محرم وينتهي في شهر ذي الحجة، مقابل الوضع القائم الآن من عدم معرفة سنة دراسية واضحة.

وإذا انتظم لنا عام دراسي فإنه سيكون مفتاحاً للكثير من البركات فسنحدد مواعيد الامتحانات ومراحل الدراسة الحوزوية فهذا في السنة الأولى وذاك في الثانية، وما دمتم في بداية السنة الثانية من درس (كفاية الأصول) فأنتم في المرحلة السادسة من مراحل (دراسة السطوح) التي تستمر سبع سنين يتأهل بعدها الطالب لحضور بحث الخارج في الفقه والأصول والمقرّر له ست سنين، فيكون الطالب بعد ثلاث عشرة سنة من التحصيل مهيأ لإفاضة ملكة الاجتهاد على نحو الاقتضاء طبعاً لا العليّة.

وسيُحدّد وفق هذا الارتكاز أنّ هذا امتحان نصف السنة وذاك امتحان آخرها، وسنستطيع وضع (الخطة السنوية للدراسة)(1) بأن نحدد عدد الأسابيع الدراسة وهي (34) أسبوعاً بالمعدل فإذا كان عدد المحاضرات المعطاة أسبوعياً

ص: 199


1- طبّق سماحته هذه الأفكار في مشروع (جامعة الصدر الدينية) وألزم المدرسين بوضع مثل هذه الخطة.

(5) محاضرات فهذا يعني (170) محاضرة في السنة فإذا حددنا معدل ما يدرس خلال المحاضرة الواحدة أمكن معرفة ما يجب إنجازه خلال العام الدراسي. وفي ضوء هذه الخطة يحدد الأستاذ نسبة إنجاز عمله المقرر له، وقد لا يحتاج الكتاب هذا العدد من المحاضرات وإنما تكفيه (85) محاضرة مثلاً فيخصص له موسم واحد (أو ما يسمى في النظام الأكاديمي كورس) ويكون الامتحان عند الانتهاء منه امتحاناً نهائياً.

وقد لا يحتاج الدرس إلى خمس محاضرات أسبوعياً وهكذا تعرف كل هذه التفاصيل في ضوء الخطة السنوية ويكون المدرس مسؤولاً أمام الله تعالى قبل أي أحد عن تنفيذها، كما أن المدرس يستطيع مراقبة عمله فإذا حصل أي تأخر في المقدار المطلوب منه فإنه يستطيع ترتيب نفسه لتلافيه.

وبحسب خبرتي في التدريس التي أرجو أن تكون نافعة فإني أقدم بين يدي إخواني المدرسين بعض الأمور المفيدة:-

1-أن يخلص نيته لله تبارك وتعالى ولا يستهدف غيره من حب الجاه والدنيا وكثرة الإتباع فإن ذلك منشأ الوقوع في الرذائل الخلقية، فينبغي أن يتساوى عنده قلة الحضور وكثرتهم ولا يتغير قلبه على من يترك حلقة الدرس ولا يفرق بينه وبين من يحضر عنده.

2-الشعور الكامل بالمسؤولية أمام الله تعالى وصاحب العصر (أرواحنا له الفداء) فإن هذا الشعور هو الدافع الحقيقي للجد والاشتغال والالتزام، وإذا لم يتوفر عنده فلا تنفع في ضبطه كل المؤثرات الخارجية الأخرى.

3-أن يكون صدره واسعاً يستوعب كل الطلبة على اختلاف مستوياتهم

ص: 200

الأخلاقية والعلمية والاجتماعية، وان لا يجرح مشاعر أحد حتى ولو صدر منه سؤال تافه أو تصرف سيء وإنما ينبهه بلطف وبإشارة خفية أو سراً أو يتلافى الموقف بلباقة.4-أن لا يتصدى لتدريس أي مادة إلا أن يتسلط عليها بشكل كامل وتكون له القدرة الذاتية على استيعابها، والإحاطة بها وعرضها ولا يتكل على الحواشي والشروح، فإني ما درست أصول الفقه للمظفر إلا بعد أن أكملت درس الكفاية تقريباً وكنت في عرضه أحضر البحث الخارج. وهكذا ومن دون ذلك فإن المدرس يظلم نفسه والطلبة الذين يحضرون عنده.

5-وان يتولى توجيه الطلبة وإرشادهم إلى ما ينفعهم في حياتهم العلمية والعملية ولا يبخل عليهم بالنصيحة أو إلفات النظر إلى ما يطور قابليتهم ويصلح حالهم.

6-التحضير بشكل جيد للدرس وعدم الاستهانة به ولا بالطلبة وتلافي التقصير في الدرس اللاحق.

7-أن يكون بمثابة الأب لطلبته وهو أب فعلاً (فالآباء ثلاثة أب ولدك وأب زوجك وأب علمك) فيتولى رعايتهم والسؤال عنهم ومتابعة التزامهم بالدرس فإذا غابوا تفهم أسباب ذلك، وأن يسعى لقضاء حوائجهم بالمقدار الممكن.

8-العناية المكثفة بذوي الكفاءات في أي مجال والتركيز عليهم لأنهم الهدف من الحوزة كلها، وإنما تبذل الجهود والأموال من أجل تحصيل

ص: 201

هذه النماذج وإعدادها لتواصل حمل الأمانة.9-أن لا يتجاوز وقت المحاضرة (45) دقيقة ولا يقل عن (30) وعدم إضاعة الوقت بالإشكالات والتفريعات التي تشتت المطلب وتشغل بال الطالب بأمور زائدة.

10-أن يتبع الأسلوب المناسب لإيصال الأفكار إلى الطالب كتكثير الأمثلة ووضوح البيان وإعادة الشرح بصيغ مختلفة وتلخيص المطلب بعد نهاية الشرح وتقريره باختصار قبل الدخول في تفاصيله وهكذا.

11-أن لا يجعل المدرس درسه منبراً للتعبير عن ميوله واتجاهاته وصب انتقاداته على من لا يوافقه في الرأي فإن هذا مما ينفي بركة الدرس ويذهب ببهاء المدرس.

12-أن يحترم صاحب الكتاب الذي يدرسه ويحاول الدفاع عنه ما أمكن ولو كان الدليل لا يساعد عليه، فإن المتون إنما تدرس لا لتبني آراء أصحابها وإنما لاطلاع الطالب على نظريات العلم وأراء أصحابه، ولا يكثر الانتقاد عليه فإنه مما يقلل اهتمام الطالب بالكتاب ويجرئه على انتقاص العلماء ويسلب التوفيق من المدرس والطالب معاً.

13-أن يتحلى بالأخلاق الفاضلة المذكورة في الكتب الأخلاقية لأن الطلبة يتأثرون بأستاذهم ويتخذونه قدوة حتى في ألفاظه وحركاته وطريقة حياته، فكلما كان نموذجاً كاملاً نفع في تكامل طلابه.

14-أن لا يقتصر درسه على العلم الذي يعطيه، بل يغتنم كل فرصة ليعطي الفائدة الأخلاقية والموعظة والنصيحة الاجتماعية، وألفات نظر الطلبة إلى

ص: 202

مسؤولياتهم تجاه أنفسهم وحوزتهم ومجتمعهم، وأن يطعم درسه بالقصص والروايات المرتبطة بالبحث فإنها تشد الطالب وتعينه على فهم الدرس وتذكره.15-إجراء الاختبارات بشكل مستمر بأي شكل يراه مناسباً، ليحث الطلبة على المراجعة والتحضير، ولتمييز الطالب المثابر عن غيره، وليعطي كل ذي حق حقه من غير غبن لأحدهم، فإن المساواة بين الجميع تدعوا إلى ضعف همة الجيد واستوائه مع الضعيف.

ونختم الكلام بذكر مقطع من رسالة الحقوق للإمام السجاد (علیه السلام) ذكر فيها حق المعلم على الطالب وبالعكس فقال (وحق سايسك بالعلم: التعظيم له والتوقير لمجلسه وحسن الاستماع إليه والإقبال عليه وأن لا ترفع عليه صوتك ولا تجيب أحداً يسأله عن شيء حتى يكون هو الذي يجيب، ولا تحدث في مجلسه أحداً، ولا تغتاب عنده أحداً وأن تدفع عنه إذا ذكر بسوء وأن تستر عيوبه، وتظهر مناقبه، ولا تجالس له عدواً ولا تعاد له ولياً فإذا فعلت ذلك شهد لك ملائكة الله بأنك قصدته وتعلمت علمه لله جل اسمه، لا للناس).

(وأما حق رعيتك بالعلم فإن تعلم ن الله عز وجل إنما جعلك قيماً لهم فيما آتاك من العلم، وفتح لك من خزائنه، فإن أحسنت في تعليم الناس ولم تخرق بهم. ولم تضجر منهم، زادك الله من فضله وإن أنت منعت الناس علمك أو خرقت بهم عند طلبهم العلم منك.كان حقاً على الله عز وجل أن يسلبك العلم وبهاءه ويسقط من القلوب محلك).

ملاحظة: سيكون افتتاح العام الدراسي 1423 ه_ يوم السبت 15 محرم بإذن الله

ص: 203

تعالى...

ص: 204

الصورة

ص: 205

دور طلبة الحوزة العلمية في تعطيل شهر رمضان

اشارة

دور طلبة الحوزة العلمية في تعطيل شهر رمضان(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

يتضمن العنوان جهتين من الكلام الأولى عن التعطيل والثانية عن شهر رمضان :

معاني التعطيل:

ففي الجهة الأولى نقول: إن للتعطيل معنيين:

أ- التعطيل المطلق بمعنى أن طالب العلم يخلد إلى الراحة والنوم والكسل في العطلة –أية عطلة-، وهو معنى غير صحيح أكيدا فان الإنسان في هذه الحياة الدنيا في عمل دؤوب نحو الهدف وهو رضا الله سبحانه، وبلوغ المزيد من درجات التكامل ورأس ماله في هذا العمل وهذه التجارة ساعات عمره التي هي في انقضاء ومرور سريع، وأية ساعة يضيعها الإنسان من دون ان يوظفها في خدمة الهدف فإنها سوف تكون حسرة عليه يوم القيامة، ويشعر بالغبن حينما يرى غيره قد استثمرها فنال مرتبة أعلى منه، وفي الخبر أن ساعات عمر الإنسان تعرض أمامه على شكل خزائن تفتح له فان قضاها في خير وجد في تلك الخزينة خيرا أو في شر – والعياذ بالله- فيجد فيها شراً، وإذا قضاها في عمل غير هادف ولا مثمر فيجدها فارغة فيتحسر على فواتها عليه

ص: 206


1- محاضرة ألقيت على فضلاء وطلبة الحوزة العلمية بمناسبة عطلة شهر رمضان المبارك وتوجّه الكثير منهم للتبليغ والوعظ والإرشاد.

دون ان يملأها بما ينفعه (ولات حين مندم).ويشبه بعضهم حال الإنسان بأنه كما لو كان مدلى بحبل في بئر عميق، وفي قعره تنين عظيم فاتح فاه ينتظر اللحظة التي يسقط فيها هذا الإنسان المسكين ليلتهمه، وهناك جرذان في رأس الحبل تقرض به، وهو مع هذا الحال المرعب أقبل على عسل مخلوط بالتراب على جدران البئر يلعق به وينافس الزنابير والحشرات بدلاً من أن يفكر بنجاة نفسه.

هذه الصورة الرهيبة تمثل حالنا، فنحن متعلقون بحبل العمر ويقرض فيه الليل والنهار وتنين الموت ينتظرنا، فما يلبث عمرنا أن يتصرم حتى يلتهمنا الموت ونلاقي الدواهي العظمى، وبدلاً من أن نفكر في الاستعداد له والنجاة من عقبته الكؤود نضيع وقتنا الثمين في الراحة والكسل والصراع على الدنيا الزائفة التي شبهها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالجيفة التي تزدحم عليها الكلاب.

وليس هذا من شأن المؤمن الذي يعيش بكل كيانه لهدف سامي, قال سبحانه وتعالى: [يَا أيُّهَا الإنسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدحاً فَمُلاقِيهِ] (الانشقاق:6) والكدح في اللغة العناء والتعب وفي نهج البلاغة (ليكدح المؤمن حتى يلاقي ربه).

ب- التعطيل المقيد بمعنى أنه تعطيل عن الدروس الحوزوية المتعارفة فقط، وليس تعطيلاً عن كل عمل، وهذا المعنى هو الصحيح واللائق بالمؤمن الهادف الواعي.

ص: 207

كيف يريح الطالب عقله ؟

فإن الطالب قد يتعب من الدرس والتحصيل وهذا شيء طبيعي فكيف يريح عقله ؟! يريحه بالقيام بأعمال ومسؤوليات أخرى لا تقل وجوبا عن تحصيله الدراسي، وهي في نفس الوقت راحة له عن الجهد العقلي الذي بذله، فراحة طالب العلم في هذا التنويع في المسؤوليات، وهذا التنقل بين المسؤوليات ضروري على الدوام لكي لا تجزع النفس وتتمرد، فإن لها حدوداً وقابليات فإذا كلفها فوق طاقتها نخشى عليها أن تعصي صاحبها فيخسر كل شيء، وإلى هذا التنوع أشار ع (إن العقول لتمل أو لتكل كما تكل الأبدان، فروّضوها بطرائف الحكم) فمن حقها أن ترتاح بعد أن تبذل جهوداً مضنية، لكن راحتها ليس بالخمول والكسل وكثرة النوم وإنما بممارسة مسؤوليات وأداء واجبات مغايرة

ما هي المسؤوليات التي يمارسها طالب العلم في التعطيل:-

فما هي المسؤوليات التي يمارسها طالب العلم في التعطيل:-

أولها وأهمها :نشر أحكام الله سبحانه وتوجيه المجتمع وإرشاده وتوعيته بالموعظة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال المنبر الحسيني، أو إلقاء المحاضرات، أو عقد الندوات، أو إجراء الحوارات، وهذا واجب الجميع والحوزة تكون مقصرة لو وجدت نقطة في أقصى البلاد لم تبعث إليها من يهدي أهلها ويرشدهم إلى سواء السبيل.

وقد أكد القران كثيراً هذا الدور المهم، قال تعالى: [ولتكن منكم أمةٌ

ص: 208

يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروفِ وينهون عن المنكرِ] (آل عمران:104) وأنتم يا رجال الحوزة القدر المتيقن من هذه الأمة، وقال تعالى: [فَلَولا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرقَةٍ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدِيْن ِ وَلِيُنذِرُوا قَومَهُم إذا رَجَعُوا إليهِم لَعَلَّهُم يَحذَرُونَ] (التوبة: 122). وقد تفقهتم خلال سنة كاملة واستوعبتم كثيراً من المعلومات فبقي عليكم دور إيصالها إلى المجتمع، فإذا قمتم بهذا الدور فاستمعوا لما يعدكم الله ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من الأجر الجزيل والثواب الجميل، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من قوى مسكيناً في دينه ضعيفاً في معرفته على ناصبٍ فأفحمه لقنه الله يوم يدلى في قبره أن يقول : الله ربي محمد نبيي وعلي وليي والكعبة قبلتي والقرآن لهجتي).

وعن معاوية بن عمار قال: (قلت لأبي عبد الله (ع) رجل راوية لحديثكم يبث ذلك بين الناس ويشّدده في قلوبهم وقلوب شيعتكم، ولعل عابداً من شيعتكم ليست له هذه الرواية أيهما أفضل؟ قال (علیه السلام): الراوية لحديثنا يشد به قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد).

وروي عن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال: (من كان من شيعتنا عالماً بشريعتنا فأخرج ضعفاء شيعتنا من ظلمة جهلهم إلى نور العلم الذي حبوناه به جاء يوم القيامة على رأسه تاج من نور، يضيء لأهل جميع تلك العرصات وعليه حلة لا يقوم لأقل سلك منها الدنيا بحذافيرها، ثم ينادي منادٍ من عند الله تعالى يا عباد الله هذا عالِم من بعض تلاميذ آل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلا فمن أخرجه في الدنيا من حيرة جهله فليتلبث بنوره ليخرجه من حيرة ظلمة هذه العرصات إلى نزهة

ص: 209

الجنان، فيخرج من كان علمه في الدنيا خيراً أو فتح عن قلبه من الجهل قفلاً أو أوضح له شبهة).ثانياً: الالتفات إلى تنقية القلب وتطهير النفس، فإننا قد أعطينا السنة كلها لغذاء العقل وهو على أهميته إلا أنه لا يكفي وحده بل لابد من الاهتمام بغذاء القلب من الموعظة والازدياد من المعرفة بالله سبحانه بالتدبر بالقران الكريم والأدعية الشريفة وقراءة كتب الأخلاق والوعظ والتهذيب، فمن وصية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لولده الحسن (علیه السلام) (يا بني أحيي قلبك بالموعظة وأمته بالزهادة) وذات مرة قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأصحابه (إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، قيل وما جلاؤها يا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، قال: قراءة القرآن وذكر الموت)(1).

فإذا تأمل الإنسان في مبدأه ومنتهاه وما يؤول إليه أمره من الموت وما بعد الموت فسيحصل على ثمار مهمة: الاستهانة بالدنيا وتحقير زخارفها، السمو عن الأعمال الدنيئة والانشداد إلى الله سبحانه والتعلق به.

شهر رمضان خير فرصة لتطهير القلب:

وهذا العمل يعني إعمار القلب وتطهيره وإن كان ضرورياً على مدى السنة كلها، إلا أن شهر رمضان خير فرصة له لما فيه من أجواء سمو روحي، حيث تغل فيه الشياطين وتخمد شهوات النفس الأمارة بالسوء ويعيش الجميع أجواء الطاعة لله سبحانه.

ص: 210


1- عوالي اللئالي: 1/ 279.

وقد حشد الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) عدداً وافراً من الأدعية والمناجاة لإعطاء هذا الشهر الشريف دفعة إلهية ضخمة، وليكرس الإنسان نفسه لله سبحانه، ويزداد هذا التكريس في العشر الأواخر من شهر رمضان حيث كان الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يطوي فراشه –كناية عن اجتناب النساء - ويشد مئزره للعبادة، وكان بعض المراجع ممن له مقام في العرفان يسد مكتبه في هذه الأيام ويمتنع عن لقاء الناس،والبعض الآخر كان يغادر أهله ولا يعرف احد أين يوّلي وجهه حتى نهاية الشهر.إن غار حراء الذي دخله رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومكث فيه متفرغا للتأمل والعبادة والمناجات والذكر الدائم مطلوب منا ان ندخله باستمرار، ولا أقل من هذا العشرة أيام بالسنة كما كان يفعل (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لنجلو قلوبنا ونطهرها من الرين والصدأ المتراكم عليها من الذنوب والغفلة والاشتغال بفضول الدنيا من أكل أو نوم أو كلام، قال تعالى [كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَا كَانُوا يَكسِبُونَ] (المطففين :14).

ثالثها : مراجعة الدروس وتدارك ما فات منها، وسد الثغرات التي حصلت خلال المسيرة الدراسية.

رابعها : الاهتمام بالاتجاه الفكري أو ما نسميه بالوعي الاجتماعي فانه من مقومات شخصية العالم الديني ومع ذلك فان منهاج الدراسة الحوزوية المتعارفة خالية منه،فعليك أن تسعى لتحصيله بجهدك وتوفيق الله سبحانه، ومن أهم الكتب في هذا لمجال كتاب (في ظلال القران) وغيره لكبار مفكرينا

ص: 211

المخلصين(1).خامسها: تحصيل العلوم المكملة للدراسات الحوزوية مما لا يدخل في منهجها المألوف، كالتفسير والعقائد والتاريخ والرجال، مضافاً إلى الثقافة العامة والعلوم العصرية.

سادسها: تبادل الزيارات واللقاءات خصوصاً مع الأرحام، وتحسين العلاقات مع من تدّخل الشيطان بينك وبينه فحصل سوء تفاهم فتسعى لإصلاح ذات البين فانه أفضل من عامة الصلاة والصوم كما عبر أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

سابعها: كتابة البحوث والدراسات وصقل هذه الموهبة، فانه من المؤسف حقاً أن تعيش النجف حاضرة الفكر ومصنع العلماء والمفكرين عقدين من الزمان خالية ممن يشخص قضايا المجتمع وسلبياتها ويعالجها، فلم تصنع الحوزة خلال هذه المدة مفكراً واحداً وهذا مما لا يمكن قبوله.

فعلى الإخوة الفضلاء والطلبة شحذ الهمم والتصدي لدراسة ما يعصف بالمجتمع من مشاكل وانحرافات وشبهات، وكتابة البحوث وعلاجها ومواجهتها، ويفضل ان تكون البحوث بحجم كراسات وكتيبات يسهل قراءتها ولا يتعذر بذل الثمن بإزائها ويكفي في هذه الكتابات تلخيص أفكار علمائنا أو مفكرينا الكبار وتجميعها وصياغتها بما يناسب واقعنا المعاش.

ص: 212


1- لم نكن نستطيع التصريح بأسمائهم كالشهيدين الصدرين والسيد الخميني والشيخ المطهري (قدس الله أرواحهم جميعاً).

الجهة الثانية في استقبال شهر رمضان :

لماذا جعل الله تعالى الأعمال في هذه الأيام مضاعفة؟

قد يسأل سائل لماذا عين الله سبحانه أياماً مباركة وليالي شريفة اهتم بها وجعل الأعمال بها مضاعفة، هل لعظمتها في نفسها ؟ أم لارتباطها بحوادث معينة؟ أم لا هذا ولا ذاك ؟ قد تصح بعض الأجوبة أو كلها وقد يوجد غيرها، إلا أن احد الأجوبة الصحيحة إنها فرصة منحها الله سبحانه بلطفه وكرمه وتوفيقه لعباده ليضاعف لهم العطاء نظير ما يفعله البعض بتوفير فرصة (الجوكر) للمتسابقين فيأخذ بها المتسابق لتضاعف له النقاط التي يحرزها.

وقد وفر الله سبحانه لعباده عدة فرص خلال السنة لكن أهمها وأوفرها حظا شهر رمضان ففي دعاء الإمام السجاد (علیه السلام) في وداع شهر رمضان، واني انصح بقراءته في استقبال شهر رمضان ليعرف الإنسان قيمته قبل الدخول فيه ويزداد معرفة بعظمته وجلالة قدره وعظمة نعمة الله سبحانه بتوفير هذه الفرصة لعباده وبإبقائهم أحياء حتى أدركوا هذه الفرصة مجدداً، وإلا فإن أشخاصاً عديدين كانوا معنا في شهر رمضان السابق ليسوا معنا الآن لكن الله بفضله ورحمته ولطفه أدرك بنا هذا الشهر العظيم وجدد لنا هذه الفرصة لينظر كيف نصنع.

ص: 213

دعاء الإمام السجاد (عليه السلام) في وداع شهر رمضان

قال الإمام السجاد (علیه السلام) : (الذي زدتَ في السوم على نفسك لعبادك، تريد ربحهم في متاجرتهم لك، وفوزهم بالوفادة عليك، والزيادة منك، فقلت تبارك اسمك وتعاليت [مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا]، وقلت: [مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ]، وقلت: [مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً] إلى أن يقول (ع): (اللهم وأنت جعلت من صفايا تلك الوظائف، وخصائص تلك الفروض شهر رمضان الذي اختصصته من سائر الشهور، وتخيّرته من جميع الأزمنة والدهور، وآثرته على كل أوقات السنة بما أنزلت فيه من القرآن والنور، وضاعفت فيه من الإيمان، وفرضت فيه من الصيام، ورغّبت فيه من القيام، وأجللت فيه من ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر. ثم آثرتنا به على سائر الأمم، واصطفيتنا بفضله دون أهل الملل).

إلى أن يقول (ع): (السلام عليك يا شهر الله الأكبر ويا عيدَ أوليائه. السلام عليك يا أكرم مصحوب من الأوقات، ويا خير شهر في الأيام والساعات. السلام عليك من شهر قربت فيه الآمال، ونشرت فيه الأعمال. السلام عليك من قرين جل قدره موجوداً، وأفجع فقده مفقوداً، ومرجوٍّ آلم فراقه. السلام عليك من أليف آنس مقبلاً فسرّ، وأوحش منقضياً فمضّ. السلام عليك من مجاور رقّت فيه القلوب، وقلّت فيه الذنوب. السلام عليك من ناصر أعان على الشيطان، وصاحبٍ سهّل سُبل الإحسان. السلام عليك ما أكثر عُتقاء الله فيك، وما أسعد

ص: 214

من رعى حُرمتك بك. السلام عليك ما كان أمحاكَ للذنوب، وأسترك لأنواع العيوب. السلام عليك ما كان أطولك على المجرمين، وأهيَبك في صدور المؤمنين. السلام عليك من شهر لا تُنافسه الأيام. السلام عليك من شهر هو من كل أمرٍ سلامٌ، السلام عليك غير كريه المُصاحبة، ولا ذميم الملابسة. السلام عليك كما وفدت علينا بالبركات، وغسلت عنّا دنس الخطيئات. السلام عليك غير مودّع برماً ولا متروك صيامه سأماً. السلام عليك من مطلوب قبل وقته، ومحزونٍ عليه قبل فوته. السلام عليكَ كم من سوء صرف بك عنّا، وكم من خيرٍ أُفيض بك علينا) إلى آخر الدعاء المليء بهذه المعارف الإلهية الجليلة. ومما يستقبل به شهر رمضان أيضا خطبة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في آخر جمعة من شعبان التي رواها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والتي تمثل دستور عمل في هذا الشهر المبارك. أعاننا الله سبحانه على طاعته وجنبنا معصيته، وجعلنا ممن ينال غاية رضاه، وختم لنا بالحسنى، انه ولي النعم وهو حسبنا ونعم الوكيل. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 215

فلنرجع إلى الله بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى: [تُوبُوا إلى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ] (النور:31)

نص الكلمة التي ألقاها سماحة العالم الفاضل الشيخ محمد اليعقوبي – دام ظله الشريف – استجابة لرجاء تقدم به أحد السائلين طلب فيه من سماحته – دامت بركاته – أن يقدم نصيحة لمن يصوم ويبتعد فقط في شهر رمضان ويترك عباداته بمجرد انقضاء هذا الشهر المبارك فكتب سماحته:

بسمه تعالى:

إن مثل هذا الشخص لو التفت إلى عدة أمور لتمسك بعبادة الله بكل سرور في جميع الأزمنة سواء في شهر رمضان أو في غيره، وفي مختلف الحالات سواء في اليسر أو العسر وفي الشدة والرخاء.

الأمر الأول:

إن التكاليف الشرعية ليست طوقاً في عنق الإنسان ثقيلاً يريد أن يتحرر منه، بل هو تشريف له. وأضرب لك مثالاً لو أن الملك دعي إلى مأدبة فأناب إنساناً بدلا عنه، كم سيكون هذا الإنسان محظوظاً أن ينال شرف النيابة عن الملك ويتحدث باسمه، فكذلك الإنسان اختاره الله سبحانه ليكون خليفته في هذه

ص: 216

الأرض [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] (البقرة:30) والله ملك الملوك ورب الملوك فكم تكون عظمة النعمة أن يستخلف أحداً ويسخر له كل ما في الأرض [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً] (البقرة:29) وينقل عن شخص عارف انه احتفل يوم بلوغه سن التكليف الشرعي لأنه يوم تشريفه بأعظم النعم.

الأمر الثاني :

إن الشريعة الإلهية إنما وضعها الله سبحانه لتنظيم حياة البشر وهدايتهم إلى ما فيه صلاحهم؛ لأنه خالقهم وهو العارف بما يصلحهم، فإن أي جهاز يعطل نرجع إلى الشركة المصنعة للجهاز فتعرف عيبه وطريقة إصلاحه، والله هو خالق الإنسان وصانعه فهو العارف بمناشئ انحرافه وطرق علاجها، ومن القبيح والمستهجن أن نرجع إلى نفس الإنسان التائه الضال ليرسم لنا طريق الصلاح، وقد جربت البشرية كل النظم الوضعية فزادتها سوءاً على سوء وظلماً على ظلم، ومازالت تتجرع ويلات تلك النظم البشرية، والنتيجة أن الالتزام بالتعاليم الإلهية هو الطريق الوحيد الذي يضمن للبشرية سعادتها واستقرارها وطمأنينتها، وأنت ترى بعينك وتحس سعادة المؤمن واستقراره الروحي في مقابل شقاء الكافر الفاسق وصراعه النفسي وانحرافاته [وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى] (طه:124).

ص: 217

الأمر الثالث :

إن من شأن كل عاقل أن يرد الجميل بالجميل ويجازي الإحسان بالإحسان [هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ] (الرحمن:60)، ونعم الله تعالى علينا كثيرة سواء على صعيد أبداننا التي هي عبارة عن معامل ومصانع كثيرة تعمل بدقة وإتقان، وأبسط مراجعة لكتاب (الطب محراب الإيمان) تنبئك عن هذا، أو على صعيد الحياة حولنا من كون متناسق وأرض طيبة معطاء ونعم لا تعد ولا تحصى [وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا] (إبراهيم:34) وجزاء هذا الإحسان إحسان مثله، ولما كان الله غنياً عن عباده، ولا يمكن أن يصل إليه نفع من أحد؛ فردُّ الإحسان بالنسبة إليه طاعته، ومن أشكال شكر النعم أن تطيع المنعم بها، أما عصيانه مع نعمه الوفيرة وبنفس نعمه فهذا مما لا يرتضيه عاقل .

الأمر الرابع :

إنّ كل واحد منا يحب أن تزيد النعم عليه وهي بيد الله سبحانه المنعم الحقيقي وقد وعدنا سبحانه [لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] (إبراهيم:7)، وفي الحديث: (بالشكر تدوم النعم) فعلى من يرجو إفاضة النعم وزيادتها عليه أن يطيع الله سبحانه ويشكره، ليزيده الله سبحانه من النعم [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَ_كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ] (الأعراف:96).

ص: 218

الأمر الخامس :

إنه إذا أخبرنا إنسان ثقة بأن حيواناً مفترساً في هذه الجهة، فإننا سنهرب تجاه الجهة المعاكسة منه ونتخذ الإجراءات الواقية من الوقوع في الخطر، فإذا أكد هذا الخبر ثقة آخر ازدادت استعداداتنا لذلك وكنا أكثر حزماً. وقد أخبرنا مائة وعشرون ألف نبي أنه سيكون يومُ القيامة، ويثاب فيه المطيع على طاعته ويعاقب العاصي على معصيته بنار وقودها الناس والحجارة، أفلا يوجب هذا الحذر والابتعاد عن كل ما يورطنا في هذه النار المتأججة؟ وقد وصفها القرآن الكريم بمشاهد مرعبة، وأخبرنا أن معصية الله سبحانه توقعنا فيها، وأن طاعته تورثنا جنّة عرضها عرض السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.

وفي الختام أخاطب الفئة التي ذكرها السائل – أيّده الله تعالى – وهم الذين يلتزمون بأوامر الله سبحانه في شهر رمضان خاصة، وهي خطوة جيدة منهم إلى الأمام في تجاه الله سبحانه، فهم بالتأكيد أفضل ممن يعصي الله سبحانه حتى في هذا الشهر الشريف، وقد قال تعالى [إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً] (الكهف:30) [أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أو أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ] (آل عمران:195).

لكنها خطوة ناقصة ولا تتم إلا بالالتزام الحاصل على طول الخط، وإن النقاط التي ذكرناها لا تتحقق بهذا الالتزام الناقص، قال تعالى: [إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ] (المائدة:27) وليس من المتقين من يترك الطاعة في بقية أيام السنة، فيوشك أن لا يقبل منه عمل. وقد حذر القرآن الكريم من هذا التبعيض

ص: 219

في طاعة الله سبحانه، فقال عز من قائل: [أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ الْعَذَابِ] (البقرة:85).فعلى الأخوة المؤمنين أن يلتفتوا إلى هذه النقاط التي ذكرناها ويعملوا على تحقيقها دائماً، ولا يغرنكم بالله الغرور وهو الشيطان الذي يريد أن يخرجكم من الجنة، أي جنة طاعة الله سبحانه ورضوانه، قال تعالى: [وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] (التوبة:72) [كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا] (الأعراف:27) وهو تقوى الله سبحانه، قال تعالى: [وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ] (الأعراف:26) ليريهما سوءاتهما وعورتهما، وأسوء العورات هو الانحراف عن طاعة الله سبحانه، والانغماس في طاعة الهوى والنفس الأمارة بالسوء. قال تعالى: [إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ] (الأعراف:26).

فما أشد العدو الذي يرانا ولا نراه، ولكن الله تعالى أعاننا عليه ونبهنا إلى خدعه وغروره وشراكه وفخوخه، وما علينا إلا أن نكون على حذر وملتفتين، ولا تأخذنا الغفلة فإنه ليس له سلطة على البشر إلا التزيين والغواية، ويبقى اتخاذ القرار بإرادة الإنسان واختياره [وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] (إبراهيم:22) فليس لنا أن نتسامح ونتهاون في أمر الله سبحانه فنخسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين.

إننا جميعا مطالبون بالعودة إلى الله سبحانه والرجوع إليه لأنه هو الغاية وهو المنتهى [إِنَّ إلى رَبِّكَ الرُّجْعَى] (العلق:8) [وَأَنَّ إلى رَبِّكَ الْمُنتَهَى] (النجم:42)

ص: 220

قال تعالى: [قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا] (سبأ:46)، فلنغسل قلوبنا مما علق بها من أدران المعاصي ولنتوجه إلى الله ضارعين تائبين عازمين على عدم العود لمعصيته، وإن الله ليفرح بعودة عبده إليه أكثر من فرح شخص تائه في الصحراء قد فقد دابته وعليها كل متاعه وما يحتاج إليه من مؤنه، ثم عثر عليها فأوصلته إلى غايته، وقد قال تعالى [إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ] (البقرة:222)، أما يريد أحدكم أن يكون ممن أحبه الله سبحانه؟! ولك أن تجرّب عندما يحبك مدير دائرتك أو رئيسك أو مرجعك كم تشعر بالنشوة، فكيف إذا أحبك رب العالمين وخالق الكون وما فيه؟!.أسأل الله سبحانه لنا جميعاً الهداية والتوفيق خصوصاً في الفرص العظيمة التي أعدها الله سبحانه ليزيد فضله على عباده فيها وليضاعف النعم عليهم، سواء على صعيد الزمان كشهر رمضان والليالي والأيام الشريفة العظيمة، أو المكان كالمساجد والعتبات المقدسة في مجالس ذكر أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) والاحتفال بمناسباتهم، فاغتنموا هذه الفرصة إن إضاعة الفرصة غصة، وأختم كلامي بوصية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأبي ذر : ((يا أبا ذرّ اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)).

ومن أعظم الأسباب التوسل بأولياء الله العظام وخصوصاً بقية الله الأعظم الذي نعيش برعايته وبركاته وأنظاره الشريفة، جعلنا الله من أهل خاصته وذوي الخطوة لديه وما ذلك على الله بعسير..

والحمد لله رب العالمين

محمد اليعقوبي

ص: 221

الحوزة وقضايا الشباب

الحوزة وقضايا الشباب(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الشباب وصية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بقوله: (أوصيكم بالشباب خيراً؛ فإنهم أرقُّ أفئدة وأنقى نفوساً)، لأنهم مازالوا قريبين إلى الفطرة لم تلوثهم الذنوب كثيراً، ولم تضغط عليهم الأعراف والتقاليد الاجتماعية والبيئة المنحرفة.

والشباب: المحرك الرئيسي لحياة الأمة والدم الذي يجري في عروقها.

والشباب: يعني الطاقة والحيوية والحماس والاندفاع والتفاعل والعاطفة والحب والمودة والصدق والإخلاص والتواضع، كل هذه الخصال الحميدة تجدها عند الشباب، لذا تجد الاستجابة الفعالة للدعوات الإصلاحية –كرسالة الإسلام- أكثر ما تكون بين الشباب.

فأين الخلل إذن حين نخسر شبابنا، فيقعون فريسة الانحراف والانحلال والتبعية للغرب، أو يضيعون أعمارهم في اللهو والعبث والهوايات الفارغة؟! هذا العمر الثمين الذي نستطيع أن نكتسب في كل ساعة، بل في كل دقيقة منه كمالاً، لماذا يضيع؟ فإن الشباب له القدرة والإرادة على أن يفعل ما يعزم عليه،

ص: 222


1- أربع محاضرات ألقيت على طلبة الحوزة الشريفة في درس الفقه بتأريخ 22-25 صفر 1423 الموافق 5-8/ 5/ 2002م بمناسبة ذكرى وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتأسّياً به باهتمامه بالشباب وبمناسبة تنصيب أمير المؤمنين (عليه السلام) إماماً وخليفة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في ريعان الشباب

فإذا ذهب شبابه فإن إرادته ستضعف وهمته ستذوب، والنتيجة هي الضياع! أما تحب أن تكون ممن يباهي الله تعالى بك ملائكته، فقد جاء في الحديث: إن الله يباهي ملائكته بالشاب الذي نشأ في طاعة الله تبارك وتعالى. وقد يغريك بعضهم بأن الشباب مخصص للعب واللهو وبعد انقضائه نتوب! لا يا حبيبي، ما خلقنا للهو والعبث، بل للجد والعمل، قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ] (الانشقاق:6).

ثم هل يعرف الموت صغيراً وكبيراً حتى تضمن أنك باقٍ إلى حين التوبة؟ وضرب لذلك مثال في الموعظة: لو أنك كنت متعلقاً بحبل ومدلّى في بئر عميق، وفي قعر البئر أفعى عظيمة تنتظر سقوطك لتفترسك، ويوجد جرذان يقرضان في أعلى الحبل ويوشك أن ينقطع فتسقط في فم الأفعى، ماذا سيكون عملك؟ هل اللهو والعبث والغفلة أم يتركز تفكيرك على كيفية النجاة قبل انقراض الحبل؟ هذا المثال المرعب هو حقيقة حياتنا، فالحبل هو حبل العمر الذي يتصرم يوماً بعد يوم، والجرذان هما الليل والنهار اللذان يبليان العمر، والأفعى هو الموت الذي يلتهم كل البشر، فلا تغرّنّكم أيها الشباب هذه الدنيا التي تضحك لكم ويزينها لكم الشيطان، ولا تدفعكم النفس الأمارة بالسوء إلى اتباع الشهوات، قال تعالى: [وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا] (النساء:27).

في مقابل ذلك تقول الروايات: إن الله تعالى ليباهي الملائكة بالشابّ الذي ينشأ في طاعة الله تعالى، وأن الله ليفرح بالعبد التائب الذي يرجع إليه أشد من فرح أحدكم إذا وجد الدابّة الضالّة في الصحراء الواسعة بمائه وشرابه ومتاعه،

ص: 223

وإن رحمة الله وسعت كل شيء، ولتقريب سعتها اُنظر إلى رحمة الأم بولدها كيف تتحمل الجوع والأذى والسهر وربما الموت من أجل سعادة ولدها، وفي بعض القصص أن أصحاب الأخدود لما عرضوا على النار ليحرقوا بها، عمدت أحد الأمهات فقطعت ثدييها وأعطتها لولدها ليجعله تحت قدميه خشية أن تكوى بالنار، وفي طوفان نوح (ع) حملت إحدى الأمهات ولدها والماء يعلو شيئاً فشيئاً حتى أخذها وغرقت، فرفعت يديها إلى الأعلى وحملت ولدها، وهذه هي رحمة المخلوقين وهي جزء من مائة جزء من رحمة الله وزّعت على المخلوقات من إنسان وحيوان بها يتراحمون، فما مدى سعة رحمة الله تعالى؟وما الذي يضرّ الشابّ لو عاد إلى الله تعالى والتزم بطاعته وترك معاصيه؟ إنه لا يخسر؛ لأن الله لم يحرّم عليه شيئاً من الطيبات أو اللذات وكل ما يريد منه تنظيم حياته وضبط شهواته في الإطار الصحيح لتكون حياته مستقرة وسعيدة ليس فيها اعتداء وتجاوز على حقوق الآخرين، وليس فيها ظلم لنفسه التي هي أعزّ شيء عنده فكيف يعمل على إيذائها بعمل المعاصي والاستجابة لشهواتها التي ترديه في المهالك؟

أنا لا أصبّ اللوم على الشاب وحده إذا انحرف أو أساء التصرف، وإنما هناك عوامل كثيرة آدت إلى ذلك (منها):

1_ جهل المربّين وأولياء الأمور بالأساليب الصحيحة للتربية وضغطهم على الأبناء ليعيشوا الحياة التي يعيشونها هم، وهو تصرف غير صحيح ونهى عنه الإمام (علیه السلام)، وفسر ذلك بأنهم (خلقوا لزمان غير زمانكم)(1).

ص: 224


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 20/ 267.

2 __ غياب القدوة الحسنة(1) التي يتأسى بها، وعلى النقيض من ذلك فإنه يوجد المثل السيئ الذي يعكسه عناصر الاقتداء للناشئ، كالأب والأم والمعلم في حياته، فإذا كانت القدوة سيئة فماذا نتوقع من المقتدى؟ فهم ينهونه عن تصرف ويفعلونه أو يأمرونه بفعل ويخالفونه، لذا نصحت الأحاديث كل من يؤدب غيره ويعظه أن يؤدب نفسه ويعظها أولاً.

3 __ البيئة الفاسدة التي تحيط بالناشئ، وهو لخلوه من التجربة وعدم نضجه يحاول أن ينفتح على أصدقائه ليأخذ منهم الحلول لمشاكله وهمومه في غياب العلاقة الودية المبنية على الصراحة والثقة بين الولد وأبيه.

4 __ انتشار وسائل الإفساد وإحاطتها به في مقابل غياب صوت الحق أو ضعفه وصعوبة إيصال صوته، فأغلب المساجد خالية من أئمة الجماعات وليس فيها خطب أو محاضرات أو حوارات، ونحو ذلك من الصعوبات.

5 __ الجهل لدى المربّين باتخاذ المواقف الصحيحة التي تتناسب مع الفرد والبيئة والخلفيات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والنفسية.

ونحن بحمد الله تعالى نمتلك تراثاً ضخماً خلّفه المعصومون (علیهم السلام) يعالج كل هذه المشاكل، ويواجه كل هذه التحديات، ويخلق جيلاً واعياً خلوقاً ملتزماً هادفاً يحقق السعادة والرفاه والاستقرار لنفسه ولمجتمعه، وقد حفلت كتب التربية الإسلامية بهذه الحلول، وذكرتُ بعضها في عدد من كتبي ك_(فقه الجامعات) و(فقه العائلة) و(ظواهر اجتماعية منحرفة)، وسأحاول بإذن الله تعالى

ص: 225


1- راجع محاضرة (حاجتنا إلى الأسوة الحسنة) التي ألقيت بمناسبة ذكرى ميلاد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عام 1423.

أن أتناول بالتفصيل مشاكلهم وهمومهم وطموحاتهم عندما يوفقني الله تعالى، عسى أن تتكلل جهودنا بالنجاح ونوفر جيلاً مسلماً صادقاً كما ينتظره الإمام الموعود من المطالبين بالخلاص من الظلم على يديه وإقامة العدل في أنحاء المعمورة بإذن الله تعالى.لكني في هذه العجالة أنبّه باختصار إلى بعض الظواهر المنحرفة والصفات السيئة لدى الشباب، لنتعاون على إصلاحها تطبيقاً لقوله تعالى: [وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى](المائدة:2)، [وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ](العصر:3):

1 __ قلة التفقه في أمور الدين وضعف مستوى الوعي الديني لديهم، فنادراً ما تجد واحداً منهم يعدّ قارئاً، وإلا فان أغلبهم سطحيون ودون مستوى تحديات العصر، لذا حاولت أن أطرح لهم ما يحتاجون من أفكار في كتيبات وحواريات مبسطة مع إرشادهم إلى الكتب المعمقة للسعي نحو المزيد من التكامل.

وعندما حللت أسباب هذه السطحية وضعف رغبة الشاب في القراءة المعمقة والتأمل والتفكير وجدت أن أهمها متابعة التلفزيون والرياضة، فإنهما كلاهما يركّزان على جانب الإثارة والانفعالات العاطفية ويهمشان الفكر، فيبتعد المواظب عليها عن الفكر العميق والصبر والمثابرة في اكتشاف الحقائق العلمية والتوصل لها، فلم تبقَ لأحدهم همة في متابعة الكتب والتعمق فيها. هذا غير العوائق الأخرى كغلاء الأسعار وضعف القدرة الشرائية، ولكن توجد عدة فرص لهم للتفقه في أمور دينهم في مدنهم من خلال حلقات الدرس التي يعقدها أئمة المساجد ووكلاء المرجعية الشريفة، أو بالالتحاق بالدورات

ص: 226

السريعة(1) في العطلة الصيفية في الحوزة الشريفة التي تعطيهم دروساً مكثفة، أو الالتحاق كلياً بالحوزة الشريفة. وأهم دروس يركز عليها الشباب: العقائد والأخلاق والفقه والتاريخ.2_ التبعية للغرب في المظهر الخارجي، كقصات الشعر والملابس والأدوات وفي الأعراف والتقاليد وأنماط الحياة، ومما يؤلمني أني أرى أمريكا والصهاينة يفعلون كل هذه الأفعال في المسلمين، خصوصاً وأنا أكتب هذه السطور والقوات الصهيونية تعيد احتلال المدن الفلسطينية وتهدم البيوت على أهلها وتقتل كل من تجده حتى الأسرى وتقطع الماء والطعام والكهرباء وتمنع سيارات الإسعاف من نقل الجرحى والشهداء وتجرف الأراضي الزراعية وتحاصر المدن بشكل خانق، كل ذلك بمباركة ودعم أمريكا، وتخرج المظاهرات للتنديد بذلك لكنها ردود فعل عاطفية وليست حقيقية، لأن المظاهرات تندد بأمريكا وهي تقتني البضائع الأمريكية وتلبس الملابس الأمريكية وتأخذ عاداتها وملابسها وقصّات شعرها من الأفلام والمجلات الأمريكية.

إن المواجهة الحقيقية مع أمريكا تكون بالانفصال الكامل عنها في جميع الاتجاهات، وهذا القرآن يسجل سنة إلهية ثابتة: أن النصر لا ينزل على المؤمنين إلا إذا عاشوا هذه المباينة الكاملة مع معسكر الكفر. قال تعالى: [قُلْ يَا

ص: 227


1- كانت هذه الكلمات أول إعلان ودعوة غير مباشرة إلى الشباب خصوصاً الجامعيين منهم للانضمام إلى هذه الدورات، وقد فهمها المئات والتحقوا ذلك الصيف في تلك الدورات، وستأتي الإشارة إليها بإذن الله تعالى.

أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ، وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ، وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ، وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ](الكافرون). والشواهد التأريخية على ذلك كاملة، فلم ينزل النصر على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلا بعد الهجرة والانفصال عن معسكر الشرك، ولا على موسى (علیه السلام) إلا بعد أن خرج ببني إسرائيل من دار الكفر، وهكذا.آمل أن لا تقع عيني على شاب مسلم يصفّف شعره على نمط بطل فلم (تايتانك)، أو فتاة مسلمة سافرة، أو تلبس الحجاب على الطريقة الفرنسية أو الأمريكية، أو أخر يلبس الميدالية وربما الصليب في عنقه ويضع الأساور في يديه ويتكلم بكل أنوثة ولا يوجد على ظاهره ما يدل على أنه ذكر.

وعلى جميع المؤمنين أن يتعاونوا على اجتناب هذه التصرفات الممقوتة، والذي يزيد الطين بلة أن أبناء الغرب الواعين أنفسهم بدأوا يستحيون من الانتساب إلى حضارتهم المزيفة بعد هذه التصرفات الهمجية والوحشية، فكيف نرضى نحن المسلمون لأنفسنا ذلك.

3 __ التدخين ظاهرة سيئة وضارّة من جميع الجهات: اقتصادياً ودينياً وصحياً واجتماعياً وأخلاقياً، فما المبرر للاستمرار بها فضلاً عن التورط فيها كما يحلو لبعض المراهقين الذي يريد أن يثبت رجولته وتشبهه بالكبار من خلال التدخين، وكان عليه أن يثبت ذلك بالتصرفات الحكيمة والمواقف الواعية التي تكشف عن نضجه ووفور عقله، وإني أنظر بازدراء ورفض

ص: 228

لمثل هذا الشاب. وقد بيّن كتاب (حتى متى التدخين)(1) بوضوح، هذه الأضرار، وأنا أسأل نفس سؤال الكتاب: حتى متى التدخين؟ خصوصاً وأننا نعلم أن صناعة التبوغ من المصالح الاقتصادية المهمة لدى الغرب الكافر، فلماذا نعينه على أنفسنا وندعم اقتصاده الذي يستعمله في القضاء علينا، فهو يقتلنا مرتين: مرة حين يصدر إلينا هذه السموم وينهب أموالنا، ومرة حين يسخّر هذه الأموال لبناء اقتصاده وترسانته العسكرية ليذبحنا بها، فإلى متى نستمر بهذا العمل الشنيع؟ أضف إلى ذلك الأضرار الصحية على الجسم التي يعرفها الجميع وأضرارها الاجتماعية وكذا الأخلاقية، حيث يصبح المدخن أسير هذه السيكارة الملعونة، ويريده الله تعالى أن لا يكون عبداً إلا له تبارك وتعالى.4 __ قضاء الأوقات بالأمور التافهة لتضييع (وقت الفراغ) كما يسمونه، فيتسكعون في الشوارع أو يتبادلون أحاديث غير مجدية وربما كانت مشحونة بالمحرمات، أو يمضون ساعات طويلة في مشاهدة الرياضة ونحوها، فيضيعون على أنفسهم أرباحاً هائلة في تجارتهم التي لن تبور مع الله تبارك وتعالى، لأن الحديث يقول: (إنّما أنت أيامك) ورأس مالك في هذه التجارة ساعات عمرك، فكلما استثمرت منها أكثر نلت درجات أعلى، ومن لا يطمع في الأكمل والأفضل؟ ولذلك كان من أسماء يوم القيامة (يوم التغابن)؛ لأن كل إنسان يشعر بالغبن والتفريط والتقصير لأنه كان

ص: 229


1- كتيب صدر ضمن سلسلة (نحو مجتمع نظيف) كتبه أحد طلبة جامعة الصدر الدينية بإشراف وتوجيه سماحة الشيخ (دام ظله الشريف).

يمكنه أن يكون في وضع أفضل لو استغلّ تلك الساعة التي ضيعها في محرم أو لهو وعبث وتسكع وحديث فارغ، لو استغلها في ما ينفعه ويكسبه رضا الله تبارك وتعالى.وقد عولجت هذه المشكلة وذكرنا البدائل وكيفية استغلال الوقت في كتب عديدة ك_(احذر في بيتك شيطان) و(الرياضة المعاصرة في الفكر المعادي للإسلام) و(ظواهر اجتماعية منحرفة)، فاستثمروا __ أيها الشباب __ ساعات عمركم فيما هو نافع في دنياكم وآخرتكم، واستشعروا الندم والأسف لأي وقت يضيع منكم؛ فإن هذا الشعور يكون دافعاً ومحركاً لتصحيح المسيرة، ومن لا يمتلك هذا الشعور فإنه في تسافل وانحدار تطبيقا للحديث الشريف: (من استوى يوماه –أي يومه السابق واللاحق - فهو مغبون، ومن كان أمسه خيراً من يومه فهو ملعون)(1)، وإن الشاب يمتلك طاقات متوثبة وقوية وهي نعمة من الله عليه فليحسن توظيفها.

5 __ يعاني الشباب من ضغط (المشكلة الجنسية) كما يسميها علماء التربية والنفس والاجتماع، وأنا لا أراها معاناة ولا مشكلة، فإن العلاقة الجنسية والميل إلى الاتصال بالجنس الآخر من أعظم النعم على الإنسان، ولا أقصد بها الجانب الجسدي منها فقط فإنه بذلك يشترك مع الحيوان، وإنما أقصدها بتمام ما تحمل من معاني روحية ونفسية، تلك التي عبر عنها الله تبارك وتعالى بالمودة والرحمة والسكن وجعلها من المنن العظيمة على عباده: [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم

ص: 230


1- بحار الأنوار: 68 /173.

مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ](الروم:21).ومن الطبيعي أن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان يقصد هذه المعاني حينما يقول: (جعلت لذتي في النساء)(1)، أو أن يجعل النساء إحدى ثلاثة أمور حببت إليه من الدنيا، لذلك قرنها مع قوله (وقرة عيني الصلاة)(2) لتعرف معنى اللذة التي أرادها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهي لذة الروح والقلب بالسكينة والطمأنينة والحب والمودة والرحمة، والتي هي كلها صفات مشتقة من أسماء الله الحسنى، وقد أحس كل ذلك وجداناً من عاش حياة زوجية سعيدة، كرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مع أم المؤمنين خديجة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ)، أو أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مع سيدة النساء فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ)، لذا جاء في الحديث الشريف: (ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد الإسلام أفضل من امرأة، تسره إذا نظر إليها، وتطيعه إذا أمرها، وتحفظه في نفسها وماله)(3)، فهي أعظم نعمة بعد نعمة الإسلام والهداية إلى الإيمان، فيكفي هذه النعمة عظمة أنها تقرن مع نعمة الإيمان.

وبعد هذه المقدمة أقول: إن الغريزة الجنسية نعمة، وفيها فوائد جمة لا يتسع المقام لاستيعابها، وإنما أصبحت مشكلة ومعاناة بسبب سوء الاستفادة منها وسوء توظيفها والابتعاد عن الإطار الصحيح لتلبية هذه الحاجة وعمل عبدة الهوى وأتباع النفس الأمارة بالسوء الذين لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا و[إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً](الفرقان:44)، عملوا على تصوير

ص: 231


1- الكافي: 5 / 320.
2- بحار الأنوار: 80 / 16.
3- الكافي 5/ 327.

الإنسان وكأنه حيوان هائج نهم لا يعرف غير طاعة الشهوات والاستجابة لنداء الغريزة بأي وسيلة كانت ولو كانت غير شريفة وغير نظيفة، وهذا ناتج من عقيدتهم الفاسدة بأنه: [مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ](الجاثية:24)، ونظرتهم إلى الكون والحياة (إننا خلقنا لنتمتع)، فعلينا أن نحوز أكبر قدر من المتع، وهي من إفرازات حضارتهم المادية الخاوية.لذلك تجدهم يتفننون بابتداع المتع وإشباع غرائز النفس، ولا تكاد تألف النفس شيئاً من هذه المتع حتى يستحدثوا لها فناً جديداً يجذبها ويستهويها، ولم يكتفوا بضلال أنفسهم وإنما عملوا على تصدير بؤسهم ومصائبهم الأخلاقية والاجتماعية والنفسية إلى المسلمين، وقد حذر القرآن من هجمتهم هذه بقوله: [وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء](النساء:89)، [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ](البقرة:217)، ولم يتركوا وسيلة لنشر الفساد إلا اتبعوها، وساعدهم على ذلك التقنية العالية المثيرة التي وصلوا إليها، فلا يخلو فلم أو مسلسل أو مجلة أو جريدة من لقطات مثيرة للشهوة الجنسية، بل حتى الصناعات المستوردة(1) من أبسط شيء كالعلك إلى الملابس أو أدوات التجميل والعطور وغيرها لم تخلُ من هذه الصور، وأشاعوا السفور والتبرج والاختلاط بين الجنسين في محلات العمل وفي دوائر الوظيفة وفي الجامعات وفي المستشفيات(2)، حتى عاد أمراً طبيعياً ولا يستنكره أحد. كل ذلك لأجل تهييج الشهوة وتصعيد الضغط الجنسي لدى الشباب والشابات

ص: 232


1- راجع استفتاء (احذروا الصناعات المستوردة) في القسم الثاني من الكتاب.
2- راجع كتاب: رفقاً بالرجال يا قوارير.

مع تعقيد فرص الارتباط المشروع بين الجنسين بالزواج، وستكون النتيجة حتماً ضياع عدد كبير من الشباب وانجرافهم وخضوعهم لسلطان الشهوة القاهر. ومن هنا حصلت المشكلة الجنسية من فعل أيدينا وليست من الطبيعة الإنسانية التي خلقها الله تعالى في أحسن تقويم، فتبارك الله أحسن الخالقين. وأنا هنا لا أريد أن أحلُّ هذه المشكلة من جميع الجهات، لأن الكلام مختصر وسأؤجله إلى مناسبة أخرى(1)، ولكن أحب أن أنبّه إلى بعض خطوات العلاج، وهي تجنب المثيرات الجنسية، لأن الغريزة الجنسية ليست كغريزة الجوع، فغريزة الجوع تلحّ على صاحبها سواء أثارها أم لا، أما الحاجة الجنسية فإذا لم يثرها صاحبها فإنها تبقى خامدة.

والمثيرات عديدة تبدأ من الأفلام والمسلسلات إلى المجلات والجرائد إلى الدعايات والإعلانات إلى الحفلات المختلطة والأغاني الماجنة إلى التجمعات التي تحتوي مشاهد الفسق كالمتنزهات ومدينة الألعاب إلى الألبسة النسائية وغيرها كثير مما هو معلوم، فتجب مقاطعتها جميعاً، فإن الله تعالى حريص على أن يسدّ كل منافذ الفساد، فحرَّم النظر إلى ما سوى الوجه والكفين، بل حتى هذه إذا كان النظر إليها يسبب إثارة وفتنة، وحرم الاختلاء والانفراد مع المرأة إذا خشي الوقوع في الحرام معها(2)، وحرم عليها أن تتميع في كلامها لتغري الرجل، قال تعالى: [فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا](الأحزاب:32)، وكره التحادث مع المرأة إلا بكلمات معدودة وضمن

ص: 233


1- راجع محاضرة تالية بعنوان (الزواج والمشكلة الجنسية).
2- راجع التفاصيل هذه الأحكام في كتاب (أختي انتبهي) و (وفقه المرأة المسلمة).

الحاجة، وكره أن يقعد الرجل في مكان قامت عنه المرأة حتى يبرد، إلى غيرها من التشريعات التي تهدف إلى توجيه هذه الغريزة وتوظيفها في الموارد الصحيحة، فشجع على الزواج المبكر، وحث على تخفيف المهر لتسهيل أمر الزواج، وجعل الذي يرفض الزواج مع توفر ظروفه راغباً عن سنته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وشرع الزواج المؤقت، والذي أريد أن أركز عليه هنا هو ضرورة أن يتجنب الشاب كل المثيرات الجنسية حتى حينما يختار عملاً، فلا يورط نفسه في عمل يسبب له هذه الإثارة، كبيع الكماليات النسائية ونحوها، وسنتناول التفاصيل في مناسبات أخرى إن شاء الله تعالى.6 __ من الحلول الفعالة لضغط الشهوة الجنسية: الزواج المؤقت، وهي منّة عظيمة من الله على هذه الأمة المرحومة التي يعلم الله تعالى أنها ستمر بمثل هذه الأزمة المعاصرة التي حفلت بالمثيرات الجنسية التي تضغط بقوة على الإنسان ليقع في أحد محذورين: إما السقوط في وهدة الغريزة الحيوانية والتنازل عن الشرف والدين، أو الكبت وتلف الأعصاب والإصابة بالأمراض النفسية والاجتماعية.

فكان الزواج المؤقت تشريعاً إلهياً عظيماً، وقد خفف الله تعالى أعباءه وشروطه بدرجة كبيرة ليحقق الهدف الذي شرع من أجله، وهو التنفيس من حدة الشهوة والميل إلى الاتصال بالجنس الأخر، ولو امتثلته الأمة وأطاعت فيه ربها لما بقي للفساد أثر ولا عين، لذا روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لولا نهي فلان عن المتعة ما زنى إلا شقي)(1).

ص: 234


1- تفسير الطبري: 5 / 19.

لكن الذين يضربون بيدٍ من حديد على هذا الزواج ويشنَّعون على فاعله، لا يستنكرون الدعارة العلنية ولا يجدون في أنفسهم غضاضة من ممارستها، حتى نقل عن بعضهم أن بغياً عرضت نفسها عليه للزنا فرفض، وعرض عليها الزواج المؤقت ليكون اتصالهما مشروعاً فنفرت منه، وقالت باشمئزاز: هذا الذي حرمه سيدنا فلان!! والأغرب من ذلك قضية شهدتها المحاكم التونسية حيث عقد رجل ملتزم على زوجة ثانية، فرفعت الأولى دعوة ضده باعتباره لم يستأذنها، فلم يجد بُدّاً إلا أن يدّعي أنها خَدينة وليست زوجة، لأن القانون لا يعاقب على اتخاذ الخَدينة، ورفضت الزوجة الأولى هذا الدفاع لأنه ملتزم دينياً، هذا هو حال القضاء في بلاد المسلمين. يا لسخرية الأقدار؟والذي أردت أن أنبه إليه أن هذا التشريع العظيم الرحيم قد أُسيء فهمه وتطبيقه، وأصبح مستهجناً بسبب سوء التطبيق، فقد بلغني أن بعض الشباب يعقد على بنت عقداً مؤقتاً، وإذا أراد الاتصال بها فإنه يتسلل سراً في الليل إلى بيت أهلها ليجتمع بها، باعتبار أن والدها لا يرضى بذلك، فهل هذا تطبيق صحيح، وهل عرف هذان الشابان جواز المتعة وغضّا النظر عن حرمة الاعتداء على أموال الآخرين ودورهم إلا بإذنهم؟ أليسا مصداقاً لقوله تعالى: [أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ](البقرة:85)؟

أو إن بعضهم يستغلّ فتوى السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) بجواز العقد المنقطع على الباكر من دون إذن ولي أمرها مع عدم الدخول وينسى الأعراف

ص: 235

والتقاليد الاجتماعية التي نعيشها، والتي ترفض العلاقة السرية بين الرجل والمرأة وتعاقب عليها أشد العقوبات، خصوصا للمرأة، لذلك استحب في الزواج الإشهاد وعمل الوليمة، ليحصل إعلان عام للعلاقة الشرعية بين الرجل والمرأة.كما أنهما كثيراً ما لا يلتزمان بهذا الشرط __ وهو عدم الدخول __ إذ يزين لهما الشيطان هذا الفعل ويغلب على عقلهما فيحصل المحذور، وكثيراً ما يؤدي إلى قتل الفتاة، فهل هذا تطبيق صحيح؟!

كما أن بعضهم تولّع بزواج المتعة حتى صارت عينه تتلصّص على أعراض الناس، ويوزع عروض الزواج على كل امرأة يلقاها بكلمات تصريح أو تلميح.

وكثير من عقود الزواج المؤقت تكون مبنية على مقدمات محرمة؟ فهل بهذا أمر الله تبارك وتعالى: [سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ](الصافات:159)، وقبّحهم الله إذ أساءوا إلى هذا التشريع بخبث سرائرهم واتباعهم لشهوات النفس الأمارة بالسوء.

لذا كان الاحتياط واجباً في اشتراط إذن ولي أمر الباكر في العقد عليها بالمنقطع حتى مع عدم الدخول، ولهذا الاحتياط مناشيء عديدة لا مجال لذكرها الآن، فلابد من الاستفادة من هذه المنّة العظيمة بشكلها الصحيح وبظروفها الموضوعية ومقدماتها المشروعة، وسيكون حلاً مثالياً وإطاراً صحيحاً لكثير من العلاقات العاطفية التي تحصل داخل الجامعات أو خارجها بعد زوال السلبيات واقتناع المجتمع بهذا التشريع، وسأترك(1) تفصيل الكلام إلى فرصة

ص: 236


1- تناول سماحته هذه المسألة ببحث فقهي استدلالي ضمن كتابه (فقه الخلاف).

أخرى بإذن الله تعالى. 7 __ ضرورة الارتباط بالحوزة الشريفة ومتابعة إصداراتها وأفكارها ومشاريعها وبذل الجهد لتطبيق أوامرها، وعدم الانقطاع عن زيارة العلماء، خصوصاً وأنهم في النجف الأشرف حيث المرقد الطاهر لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فيكون من تمام زيارته (ع) زيارتهم وتفقّد أحوالهم، وعرض أية مشكلة تواجه المجتمع عليهم للاستفادة من رأيهم، ووجوب تعظيمهم واحترامهم وإظهار الولاء لهم.

ومن ذلك أيضاً الالتفاف حول الوكلاء المخلصين الواعين للمرجعية الشريفة، والمواظبة على حضور صلاة الجماعة(1) والاستفادة من محاضراتهم، وإعطاء الفرصة لهم لأجراء الحوارات والندوات، ومتابعة الحوزة الشريفة من خلالهم، والمشاركة في المسابقات التي يجرونها، ومساعدتهم في تنفيذ الأفكار والمشروعات النافعة، وتقديم المشورة لهم وعرض الاقتراحات المفيدة

ص: 237


1- ولما كانت هذه الفرصة غير متاحة للجميع فيكون من المستحب شرعاً إقامتها في البيت بحسب الإمكان أو تقيمها الأم في بناتها في البيت إذا كان الرجل يقيمها خارجاً، وهذه الفكرة لو طبقت فأنها ستدفع الكثيرين إلى الالتزام المكثف بالشريعة ومراقبة النفس، والتفقه في الدين ليحافظ على شروط إمام الجماعة من عدالة وفقاهة أمام أسرته، والمراقبة هنا أأكد من مما أمام الناس باعتبار أن أسرته مطلعة على تفاصيل حياته. واقل ما يمكن المحافظة عليه هو صلاة الظهرين من يوم الجمعة مع خطبة بسيطة يجتمع كل أفراد الأسرة لأدائها، يتناول رب الأسرة بعض الأحكام الفقهية المهمة، وإيصال أخر إصدارات الحوزة وتوجيهاتها، ومناقشة بعض مشاكل الأسرة الخاصة وعلاجها وهكذا، وقد جرب بعض الإخوة هذه الممارسة المقدسة فوجد لها بركات مهمة في تكامل الأسرة وحسن بنائها.

عليهم. وقد فصلنا القول في ذلك في كتاب (شكوى المسجد). والقيادة الدينية الواعية العاملة لم تقصَّر في مواكبة كل الأحداث ومواجهة كل التحديات ومعالجة كل المشاكل وتقديم الآراء السديدة في مختلف القضايا، فتصدر عشرات الكتب والنشرات لتغطية ذلك، وما على المجتمع وخصوصاً الشباب إلا متابعتها وإيصال رأيها إلى كل أفراد المجتمع، فعليهم مسؤولية كبيرة لكونهم حلقة الوصل بين الحوزة وبين سائر أبناء الأمة لما يتمتعون به من حيوية ونشاط ومن ثقافة ووعي ومن همة وحماس ومن ثقة الناس بهم، وهذه كلها حجة عليهم إن أحسنوا استخدامها وتوظيفها أُوتوا كفلين من رحمته وإلا فالحساب العسير.

ويجب على الشباب أن يختاروا بدقة المرجعية التي يأتمرون بأمرها؛ لأن اختيار المرجع الذي يقودك إلى الجنة أهم قرار على الإطلاق في حياة المؤمن، لأنه يرسم منهج الحياة الدينية الذي سيتخذه، وقد وضح العلماء ضوابط ومعايير لهذا الاختيار، وقد ذكرت أفكار حول الموضوع في مقدمتي لكتاب (أصل الشيعة وأصولها)، وقد صنفت هذه الشروط إلى ثابتة ومتحركة، وأحذر الشباب أن يكونوا ساذجين وعاطفيين فينخدعون بالدعاوى المجردة من دون تأمل في القرار الخطير.

8 __ كثيراً ما يشعر الشباب والمراهقون أن آباءَهم وأولياء أمورهم ليسوا على ما يريدون، فيحدث انفصال بين الطرفين وبرود في العلاقات، وقد تنفقد المودة والصراحة والثقة، وفي ذلك خسارة للطرفين، ويحتاج كل منهما عندئذ إلى إعادة النظر في مجمل علاقته وتصرفاته مع الآخر، وقد قلت

ص: 238

كلمتي للآباء في كتاب (فقه العائلة)(1) وملحق (رسالة إلى الآباء في تربية الأبناء) الذي كتبه أحد الأخوة المؤمنين.وهنا أريد أن أخاطب الشباب فأقول لهم: صحيح أن لكم الحق في أن ترسموا شكل الحياة التي تعيشونها والمستقبل الذي تعملون من أجله، وليس من حق أحد –حتى الآباء - أن يجبركم على نمط الحياة الذي عاشه هو، كما قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) محذراً لهم من ذلك ومعللاً: (بأنهم خلقوا لزمان غير زمانكم)، لكن يجب عليكم أن تتذكروا أن للوالدين حقوقاً على الولد لا تبرأ ذمته إلا بأدائها وإلا فعليه وزر عظيم، والأحاديث الواردة في ذلك تقشعر منها الأبدان، ومنها: (ما بين البار بوالديه والأنبياء إلا درجة واحدة وما بين العاق لوالديه والكافر إلا دركة واحدة)، ومنها: (من نظر إلى أبويه شزراً __ أي باحتقار وغيظ __ وهما ظالمان له أكبه الله على منخريه في نار جهنم)، لاحظ فداحة العقوبة رغم أنهما ظالمان له فكيف وهما لا يريدان له إلا الخير وهما أرحم به من نفسه، فيجوعان ليشبعاه ويعريان ليكسواه ويسهران لينام نوم الهدوء والعافية ويبردان ليدفئاه؟ فهل جزاء ذلك العقوق والتمرد والعصيان؟ وقد قال تعالى: [فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً] (الإسراء:23-24)، وفي الحديث أنه لو وجد شيئا أقلّ من قول (أف) لحرمّه الله تعالى.

فأول حق هو الإحسان إليهما ورعايتهما والتذلل لهما وعدم إدخال الأذى

ص: 239


1- طبع مستقلاً وضمن كتاب (مسائل في الفقه الاجتماعي).

عليهما بأي شكل من الأشكال، وفعل كل ما يدخل السرور على قلبيهما إلى درجة أن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يأمر أحد الشباب بالرجوع عن الجهاد وهو من أعظم واجبات الإسلام لأن له أمّاً تأنس به، فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) له: (إن أنس والدتك بك ليلة خير من جهاد سنة)(1)، وقد قرن الله تعالى الأمر بالإحسان إليهما بوجوب طاعته وتوحيده: [وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا] (الإسراء:23). وثاني حق لهما هو الانفتاح عليهما في كل الأمور واطلاعهما بصراحة واستشارتهما، فإن كل مقومات المستشار الناصح موجودة فيهما، فهما مخلصان ولا يتوقع منهما الغش ورحيمان ويريدان لك الخير ولهما من النضج والتجربة والخبرة ما ليس عندك، كما أنهما خير عون لك لو اقتنعا برأيك. فالقطيعة معهما تعني سقوطك في أيدي من هم مثلك قليلو الخبرة وليسوا حريصين عليك، بل يريدون إيقاعك في الخطأ لكي لا يكونوا هم وحدهم مخطئين، فهل يرضى عاقل بهذه المبادلة؟!

فنصيحتي للشباب ألاَّ يخسروا آباءَهم وأمهاتهم، وأن يعاشروهم بالمعروف حتى لو كانوا مخطئين؛ فمن البرّ بهم والإحسان إليهم أن تهديهم إلى الطريق الصحيح. وأحياناً قد يصعب تحمل تصرفات الوالدين للفارق الكبير في المستوى العلمي والفكري، ولكن ليعلم هذا الشاب أن هذا حصته من البلاء فإن تحمله وأحسن الصبر عليه أوتي أجر الصابرين، قال تعالى: [إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ] (الزمر:10)، وإن قصرّ فيه –والعياذ بالله __ جرى

ص: 240


1- الكافي: 2/ 160.

عليه البلاء نفسه وأزيد منه، وهو موزور لتقصيره وعصيانه، وأعيذكم بالله أن تكونوا كذلك.9 __ يتظاهر الشباب بأمور كثيرة منافية للدين والأخلاق والمبادئ الموروثة انطلاقاً من قناعات وهمية وليست حقيقية. وسأنبه إلى بعضها:

أ __ ممارسة العنف والحركات البهلوانية والاعتداء على الآخرين ولو على نحو المزاح لإثبات رجولته وتفوقه على الغير، تأثراً بأفلام الرعب والبطولات الزائفة.

ب __ حفّ الحواجب ووضع مواد الزينة ولبس الأساور ووضع الإكسسوارات تشبهاً بالإناث، والقيام بحركات متميّعة تقليداً للجنس الآخر.

ج_ __ الظهور في الشوارع العامة بالملابس غير العفيفة، كالشورت أو البنطلون الكلاسيك الذي يجسم العورة.

د __ الوقوف في طريق النساء وقرب مدارس الطالبات وفي سائر أماكن اجتماع الجنسين بما فيها العتبات المقدسة أحيانا، والعياذ بالله، والتحرش بهن وإطلاق الكلمات التي تخدش بالحياء والعفة.

ه_ __ وضع صور اللاعبين والفنانين والفنانات ورموز الفسق والفجور على صدورهم أو على محافظ الورق (لفكسات)، وكأنه يريد أن يثبت انتماءه إلى هؤلاء الذين يستحيي حتى أصحابهم من الانتماء لهم، غافلاً عن قوله تعالى: [يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ] (الإسراء:71)، فهل يقبل هذا المسلم كما يسمي نفسه!! أن يحشر مع هؤلاء الذين اتخذهم أئمة؟.

و __ ارتداء الألبسة التي تحمل كلمات نابية وغير شريفة سواء في قبعة الرأس أو

ص: 241

الصدر أو الظهر وربما تحمل بعضها معنى الكفر، وستأتي الإشارة إلى نفس النقطة بالنسبة للشابات بإذن الله تعالى.ز __ ممارسة العادة السرية والاستمناء ويسمى (نكاح اليد)، وهو محرم شرعاً غاية التحريم، ويجلد الذي يمارس هذه العادة عدداً من السياط حتى يتأدب. وغالباً ما يضطر الشاب إليها لأنه بسوء تصرفه أوقع نفسه في مقدمات محرمة تثير فيه الشهوة الجنسية فيفقد الصبر عليها، كمشاهدة الأفلام والصور الخليعة أو التواجد في أماكن الاختلاط والتبرج أو الاسترسال في التأملات الجنسية أو قراءة الروايات المثيرة للجنس، وهكذا فالحال هو ما ذكرناه في النقطة الخامسة من تجنب المثيرات الجنسية، وربما سنتناول الموضوع بالتفصيل في مناسبة لاحقة(1).

ح __ استخدام الهاتف للتحرش بالنساء والاعتداء على أعراض الناس وإزعاج الآخرين وإدخال الأذى عليهم، وكلها أعمال محرمة وإن كان هو يتلذذ بها لغفلته إلا إنها تنقلب إلى حيوانات تؤذيه وتؤلمه في القبر حيث تظهر الأعمال هناك على حقيقتها (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا)(2) من غفلتهم ورأوا حقيقة أعمالهم.

ط __ ومما يشاع بين الشباب خصوصاً الجامعيين منهم أن يلتقي الواحد منهم مع الآخر بالقبلات من الفم بكل شهوة وميوعة، وتفعل النساء ذلك أيضاً بمرأى

ص: 242


1- تحقق ذلك في مجموعة من الاستفتاءات ألحقت بكتاب (شباب في مقبرة الجنس) عن نفس القضية، كتبه أحد الفضلاء بإشراف سماحة الشيخ (دام ظله الشريف).
2- بحار الأنوار: 4/ 134.

الرجال، وهو تصرف مستهجن ومحرم وباب واسع للفساد فاجتنبوه [فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ] (المائدة:91).ي __ بعض الشباب يلبس الذهب على شكل خاتم أو حلقة زواج أو قلادة، وكل هذا محرم شرعاً على الرجال، وقد ثبت أن في لبس الذهب أضراراً صحية مهمة، وكذا يحرم على الرجال لبس الحرير الطبيعي.

ك __ ومما يفعله الشباب التشبه بالجنس الآخر، فالرجل يلبس الأساور ويتزين كالمرأة ويقضي الساعات الطويلة أمام المرآة لوضع المحسنات وإجراء عمليات التجميل، والمرأة تلبس البنطلون. وغيرها من الأمثلة وهو حرام شرعاً، فلكل جنس شخصيته الطبيعية التي لا تناسبه إلا هي، وأي محاولة للتشبه بالآخرين تجعله فاشلاً (ويضيّع المشيتين) كما يقال في المثل، حيث حاول الغراب أن يقلد الطاووس في مشيته فلم يفلح، فأراد أن يعود إلى مشيته الأصلية فلم ينجح لأنه قد (نسيَها فضيع المشيتين) وهو المثل المشهور.

ل __ قيل إنّ عدداً من الشباب يعملون أعمالاً مختصة بالنساء، كالعمل في صالونات الحلاقة والتجميل للنساء أو خياطة الألبسة النسائية، وكل من هذه الأعمال يورط صاحبها في محرمات عديدة، فلا يجوز للرجال العمل في هذه المجالات مطلقاً. وقد نبّهت إلى محرمات الأول في كتاب (فقه الحلاقة)، ومحرمات الثاني في كتاب (فقه العمال).

10 __ الانصياع وراء (الموضة) كما يسمونها، وتطبيق كل جديد ولو كان تافهاً وسمجاً ومرفوضاً سواء في قصة الشعر أو تدهينه أو الملابس الخارجية أو

ص: 243

السيارات أو الأثاث، والتباهي والرياء بالأمور الدنيوية الزائفة كالموديل الحديث للسيارة أو العشيرة الكبيرة أو الأسرة المعروفة أو المنطقة الراقية أو البيوت الفخمة، والفخر الحقيقي إنما هو بطاعة الله تبارك وتعالى: [قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ](التوبة:24).وقد بلغني بكل أسف أن روحاً جديدة من العنصرية بدأت تتفشى في المجتمع، وذلك أن الشاب من مدينة (بغداد) يشعر بالتفوق على أبناء المحافظات الأخرى، فإذا أراد أن يستهزئ بأحد يقول عنه أنه (محافظات)، ولا أدري كيف يكون مجرد الانتساب إلى بغداد أو أي مدينة أخرى سبباً للتفوق؟ إنها عنصرية ممقوتة ومبغوضة ومرفوضة لا تختلف عن عنصرية الجنس والدم واللون والعشيرة التي وضعها الإسلام ونبي الإسلام تحت قدميه، وجاء المعيار الإلهي للتفوق: [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ](الحجرات:13)، وتوالت الأحاديث الشريفة لترسيخه: (إن الله خلق الجنة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشياً وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيداً قرشياً)، فانبذوا هذه النظرة العنصرية وقاطعوا قائلها، وقولوا له (كلنا أبناء الإسلام)، و(كلها مدن الإسلام) وفي كل منها للإسلام ولله تبارك وتعالى ذكرى وموقع، فلا فضل لأحدها على الأخرى إلا بمقدار انتسابها لله تبارك وتعالى.

11 __ ارتياد السينمات والملاهي التي تعرض الأفلام الساقطة، وصالات الألعاب

ص: 244

التي يتداولون فيها المجلات والصور الخليعة ويتعاطون المخدرات وربما يمارسون بعض المنكرات كاللواط ونحوه، والذهاب إلى مدينة الألعاب ليستغلوا بعض الألعاب كفرصة للاعتداءات الجنسية، كالذي يسمونه (النفق المرعب) وهو مرعب فعلا لما تحصل فيه من معاصي لجبار السماوات والأرض الذي أعد: [نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ](التحريم:6) للعاصين المنحرفين. هذا كله وهم مسلمون ينتسبون إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)!! فأقول لهؤلاء: تداركوا أمركم بالتوبة، فإن الموت يأتي بغتة ولا ينفعكم الندم حين توضعون وحيدين في القبر تلك الحفرة الموحشة، ولا قرين لكم إلا ما قدمتم من أعمال، وعوّضوا عن هذه الأماكن بالتردد على المساجد ومجالس الوعظ والإرشاد والتوجيه وإحياء الشعائر الدينية، أو اللقاء مع المؤمنين لتبادل الأحاديث النافعة، أو أي مكان فيه نفع دنيوي عقلائي أو أخروي أو ترفيهي من دون أن يتضمن مخالفات شرعية.12 __ كثرت السفرات المدرسية والجامعية التي تكون سبباً للفساد والانحراف لأنها مختلطة ولا تراعى فيها الحشمة والعفاف، وتتطلب أحيانا المبيت ليلة أو أكثر كما لو كانت إلى الموصل مثلاً، وفي هذه المناسبات تنطلق النفس الأمارة بالسوء ويغيب العقل ويحضر الشيطان ليزين المعصية بقوة، وإذا لم تكن نفس السفرة مختلطة فإنها تذهب إلى أماكن فيها اختلاط ومُجون وأجواء عاطفية تضغط على الإنسان للوقوع في المعصية بدرجة من الدرجات وبشكل من الأشكال، وكثيراً ما يرافق هذه السفرات أجواء

ص: 245

صاخبة من الغناء والرقص والموسيقى، ويجري كل هذا على حين غفلة من أولياء أمور الطالبات اللواتي جئن لطلب العلم!! فسلاماً على العلم الذي جئن لطلبه! وتحية لأولياء أمورهن الطيبين الوديعين البريئين الذين يحسنون الظن حتى بإبليس ويعتقدون أن نيته سليمة و(قصده شريف)!! ماعشت أراك الدهر عجباً! وأرجو مطالعة قصة (صراع مع الشيطان) التي تتحدث عن بعض ما يحصل في السفرات المدرسية من مخالفات للشريعة والأخلاق بلا نكير من أحد! وما خفي أعظم. فأين أنتم يا مديرو المدارس والجامعات ويا مربون ويا اساتذة؟ أعلى هذه الدناءة والخسة تربون أبناء الجيل الصاعد؟ مالكم تقدمون خدمة مجانية للصهاينة والأمريكان الذين دأبهم دفع البشرية إلى الحضيض حتى لا يبقى أحد يستحيي من إبراز عورته أمام الناس (كما يقولون في بروتوكولاتهم)؟! ولو واظبوا بدلاً من ذلك على السفرات إلى العتبات المقدسة وزيارة العلماء ورجال الفكر، وإلى مشاهدة رموز تراثنا الإسلامي العظيم ليعمقوا صلتهم بالله تعالى ويأخذوا الدروس والعبر فسيعودون بسعادة روحية وسمو نفسي يتلذذون به لذة حقيقية لا تلك اللذة الزائفة التي تعقبها حسرة دائمة أو سفرات ترفيهية خالصة من الشوائب.

13 __ يرى بعض الشباب أن من تمام التقدم والتحضر أن يصطحب زوجته أو أخته إلى الملاهي والنوادي الاجتماعية ومسارح الرقص وهي في أبهى حلة وأكمل زينة، ومن مقتضيات ذلك أن لا يمتنع لو دعاها غيره على الرقص معه أمام عينيه وإلا وصم بالتخلف والرجعية والالتزام بالتقاليد البالية، ومن

ص: 246

أتيكيت حفلات الزواج أن يعرفها على أصدقائه وهي متبرجة ببدلة العرس قد كشفت عن مفاتنها فتصافحهم وربما... أتريد أن أستمر بالحديث أم اهتز كل كيانك ووقفت كل شعرة على بدنك لهذه الفضائع التي ترتكب هنا في هذا البلد الذي يقع في قلب العالم الإسلامي، وهو مركز الإشعاع الفكري على مدى قرون، ومقر المرجعية الشريفة ومراقد الأئمة الطاهرين (علیهم السلام) والأولياء والعلماء الصالحين، وزيادة على ذلك فهو البلد الذي سيحتضن الإمام المنتظر (عجل الله فرجه) عما قريب ويتخذه عاصمة له، لينطلق منه ويفتح العالم كله فيبسط على البشرية جناح العدل المطلق.14 __ لكل إنسان (هواية) كما يسمونها، وتكثر هذه عند الشباب، وهي مشتقة من (الهوى) وهو يعني الرغبات والنوازع النفسية والميول باتجاه شيء معين يجد فيه راحته، وهو أمر مشروع أن يسعى الإنسان لتحقيق رغبته وسعادته، لكن (الهواية) يجب أن تكون ضمن ضوابط، لأن الاتباع المطلق للهوى من المرديات وقد ورد الذم الأكيد لاتباع الهوى ومدح من منع نفسه عن اتباعه: [وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى](النازعات:40-41).

واتباع الهوى له درجات بعضها كافٍ لاستحقاق أسفل دركات الجحيم، وممارسة الهوايات المتعارفة ليس منه، إلا أن الذي أريد أن أقوله أن الشاب حينما يريد أن يختار هواية أو مالت نفسه إلى هواية معينة فلابد أن يفحصها أولاً ويدقق في أمرها قبل أن يتعلق بها قلبه ولا يستطيع الصبر عليها، فإن بعض الهوايات تافهة ولا معنى لها ومضيعة للوقت، كحلّ الكلمات المتقاطعة أو

ص: 247

المراسلة التي لا جدوى فيها أو الذوبان في الرياضة أو جمع الطوابع ونحوها، فضلاً عن التي توقع في المعصية كتربية الطيور وقضاء الساعات يومياً على سطح الدار لإرسالها وتوجيهها وإعادتها، مع ما يتضمن ذلك من معاصي، كالاطلاع على حرمات الناس ووقوع النزاعات مع هؤلاء الذين يسمونهم ب_(المطيرجية)(1)، فلا بد من اختيار الهواية التي فيها نتائج مثمرة دينياً ودنيوياً كقراءة الكتب أو ابتكار الأجهزة أو الاتصال عبر الانترنيت لتحصيل أحدث المعلومات والأخبار في العلم لتكوين رؤية واعية ومعمقة وواسعة، ونحوها من الهوايات المفيدة.15 __ للعمل والكسب أهمية كبرى في الإسلام، وقد أشرت إلى محبوبيته عند الله تعالى ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في مقدمة كتاب (فقه العمال)، لكن بعض الشباب يعزف عن العمل، أو يشترط شروطاً عديدة لنوع العمل إما هروباً من المسؤولية أو اتكالا على غيره أو استعلاءً أو استكباراً فارغاً، وهم بذلك يخرجون عن سنة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) التي حبّبت الكسب وشجعت عليه ولم تستنكف منه مادام حلالاً؛ فقد عمل أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أجيراً عند امرأة يهودية في المدينة لسقي الزرع كل دلو بتمره، فاجتمعت عنده ست عشرة تمرة، فجاء بها إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فأكل معه، وكان عمل أكثر الأنبياء والأئمة الرعي والزراعة. فلا تقصروا معاشر الشباب في الكسب والعمل امتثالاً لقوله تعالى: [هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا](هود:61)، أي طلب منكم إعمارها، نعم يجب أن تتفقهوا وتتعلموا أحكام التجارة

ص: 248


1- صدر استفتاء تفصيلي لمعالجة هذه القضية وسيأتي في هذا القسم من الكتاب.

والكسب لئلا تتورطوا في الحرام من حيث لا تشعرون، وتجنبوا الأعمال التي تكون مظنة للحرام، كبيع الكماليات النسائية فضلاً عن المحرمة وهي كثيرة. وقد ناقشت هذه التفاصيل في استفتاءات وكتب مستقلة فراجعوها، وعليكم بأداء الحقوق الشرعية من أرباح مكاسبكم ليبارك الله لكم فيها ويثيبكم عليها.16 __ ومن القضايا التي تجب دراستها بدقه وإمعان ووضع الحلول لها ظاهرة السفر إلى الخارج، والتي قد تكون لها مبرراتها أحيانا إلا إنها في كثير من الأحوال لا تكون مشروعة، لأنها ليس لها هدف إلا التمتع بالدنيا والاستزادة منها والهروب من المسؤولية ومن واقع المحن والبلايا، وأول نتيجة لمثل هؤلاء هي عدم تشرفهم بنصرة الإمام (عجل الله فرجه)، لأن من يفرّ من هذا البلاء ولا يصبر عليه ولا يسعى إلى تغييره نحو الأفضل، لا يستطيع تحمل أعباء نصرة الإمام (عجل الله فرجه)، وإن كثيراً من الشباب الذين سافروا ضعف التزامهم الديني وربما اضمحل، لأن الانحراف هناك يضغط بشدة ولا يستطيع أكثر الشباب مواجهته لضعف حصانتهم الدينية وتربيتهم الأخلاقية وعدم قدرتهم على السيطرة على أنفسهم، فيكون السفر عندئذ من أوضح مصاديق (التعرّب بعد الهجرة) الذي هو من كبائر الذنوب، وحتى لو استطاع أن يسيطر على نفسه فإنه لا يضمن السيطرة على أبنائه والأجيال اللاحقة، فسيضيعون في ذلك المجتمع الفاسد ويكون هو المسؤول عن ضياعهم، لأنه ألقاهم في مستنقع الرذيلة، ونحن نرى أننا من الصعب أن نسيطر على أبنائنا ونحن في بلاد الإسلام والإيمان، فكيف نسيطر عليهم في

ص: 249

بلاد الكفر والانحراف؟ وقد فصلنا القول في هذه الظاهرة في الحلقة الثانية من سلسلة (ظواهر اجتماعية منحرفة)، والحلقة الأولى من سلسله (ظاهرة اجتماعية في الميزان).17 __ إن خطابي التوجيهي هذا للشباب ليس فقط للذكور، وإنما هو للإناث أيضاً، وإن كثيراً من أفكاره مشتركة بين الجنسين، وإن كان الاتجاه الظاهر له مخاطبة الذكور إلا أنه يمكن تطبيقه على الشابات أيضاً، ويمكن إلفات النظر إلي عدة نقاط مختصة بالإناث، منها:

أ __ الاهتمام بالموضة، واللهاث وراء كل جديد، والانصياع لما يقتضيه الأتكيت على مستوى الأزياء، أو قصات الشعر، أو مواد الزينة والإكسسوارات، وهذه من آلهة الجاهلية المعاصرة التي تطاع وتؤدي لها فروض الولاء، وهي مرتبة من مراتب الشرك؛ لأن العبادة في القرآن هي الطاعة والولاء [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ](الجاثية:23)، وقد أشبعت القول في تصحيح هذه المفاهيم: العبودية، الجاهلية، الألوهية في كتاب (شكوى القرآن) فراجعوه لأهميته، ونوقش موضوع ضياع المرأة في هذه التفاهات وإثارة السلبية على النفس والمجتمع في كتاب (رفقا بالرجال يا قوارير).

ب __ محاولة إلفات نظر الرجال وإيقاعهم في فخ (الإعجاب) بهن، سواء في شكل الملابس أو تصميمها أو الحركات أو طريقة التكلم، حتى أنّ بعض المحجبات تختار شكلاً من الحجاب للجسد أو للرأس يؤدي هذا الغرض، وبذلك فهن لا يعشنَ حقيقة الحجاب وإنما ظاهره، وبعضهن يكون الحجاب لهنّ أكثر إثارة وفتنة من غيره، ولكي يفهمن حقيقة الحجاب

ص: 250

فلتقرأ النساء الكتاب الآنف الذكر. ج_ __ الولع بمشاهدة التلفزيون ومتابعة المسلسلات والأفلام، وربما الأغاني المصحوبة بالرقصات الماجنة والمظاهر الخليعة. وقد نبّهنا إلى مخاطر ذلك في كتاب (احذر في بيتك الشيطان) والحلقة الثالثة من (نحو مجتمع نظيف).

د __ فقدان الحياء والعفة والحشمة في بعض المناسبات، كالأعياد وحفلات الزواج، حيث يكون التبرج والزينة المثيرة والملابس الفاضحة والرقصات الماجنة بحجة أن الموجودات كلهن نساء، مما يسبب وقوعهن في محرمات عديدة. نبهنا إليها في كتاب (رفقا بالرجال يا قوارير)، بل حتى خلع الملابس في بعض المجالس الحسينية فيه بعض الإشكالات، راجع كتاب (الخطابة النسائية بين الواقع والطموح).

ه_ __ الخروج وحدهن والسفر كذلك، مما يسبب كثيراً من الحرام الشرعي أو النقص الأخلاقي، فقد تتعرض لخلوة مع أجنبي كسائق التاكسي ونحوه أو الاشتراك مع الرجال في مقعد واحد في سيارات النقل، وقد بلغني أن المرأة ربما نامت في الطريق الطويل وتمايلت فتسقط على الرجل الذي بجانبها، كما أن انفرادها يعرضها لتحرش الساقطين وإساءة الظن بها، والأكمل من ذلك أن لا تخرج من البيت إلا لضرورة، ومع تطبيق كافة الأحكام الشرعية، لذا كانت صلاة المرأة في بيتها أفضل من المسجد.

و __ من كمال الشابة الالتزام بغطاء الوجه (البوشية) كلما أمكن ذلك، فإن فيه حماية لها والآخرين، لأن وجه الشابة عموماً مما يسبب إثارة وانجذاب، فلا

ص: 251

تكن سبباً لفتنة الآخرين وهي بذلك تكون مطبقة لوصية الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) عندما سأل أبوها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عما هو خير للنساء، قالت: إن أكمل صفة في المرأة أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل.ز __ إن بعض النساء يبالغن في الاهتمام بالجمال الظاهري، وهو في بعض مراتبه صحيح خصوصاً للزوجة مع زوجها، ومن متطلبات الغريزة الأنثوية إلا أنه لا ينبغي أن يزيد عن حده، فلتكتفي منه بمقدار معقول وتترك الباقي للاهتمام بالجمال الباطني [وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ](الأعراف:26).

ح __ عدم الاهتمام بتثقيف أنفسهن والتفقه في أمور الشريعة وزيادة الوعي الديني، بحيث لو أردنا الآن أن نفتح حوزة علمية للنساء لما وجدنا الكادر الكافي للقيام بمسؤولياتها، فكيف نحقق رغبة النساء في إنشاء هذه الحوزة(1) ونحن لا نمتلك مثل هذا الكادر؟ فهذا النقص فيهن أكثر من الرجال، ويكفيهن أن يقرأن ما يهمهن من أمور الدنيا والآخرة ككتب الأخلاق والتربية والفقه والعقائد والتاريخ، ومنها (فقه العائلة) و(من ينقذني) و(أختي انتبهي) و(فقه المرأة المسلمة) و(أصل الشيعة وأصولها) بالمقدمة التي كتبتها له و(من وحي المناسبات) خصوصاً ما يتعلق بسيرة السيّدتين خديجة بنت خويلد (رضي الله عنها) وفاطمة بنت أسد (رضي الله عنها) و(ظواهر اجتماعية منحرفة) وسلسلة (نحو مجتمع نظيف) و(فقه الجامعات)

ص: 252


1- بهذه الطريقة من التساؤل ونحوها، يوصل سماحة الشيخ (دام ظله) مشاريعه وأفكاره إلى من يعيها ويفهمها، وليس بشكل أمر صريح حتى يتجنب (التهم) التي توجَّه إليه من جلاوزة أمن الطاغوت.

و(القلب السليم) و(أحسن القصص) و(منازل الآخرة).ط __ عدم اكتراثهن بأداء وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذه الفريضة الإلهية العظيمة التي نبهت إلى أهميتها في كتاب (الأسس العامة للفقه الاجتماعي)، وهي شاملة للجنسين على حد سواء، بل هي في النساء أهم لكثرة المخالفات عندهن وتفشي الجهل ونقص الوعي فيهن.

ي __ ومن مجموع النقطتين السابقتين نشأ نقص مهم آخر، وهو عدم تصدي الواعيات المثقفات منهن لمنبر الوعظ والإرشاد والتوجيه وتبليغ الأحكام، وتركنه بأيدي نساء دنيويات غير متعظات لا يعرفن الا مصالح أنفسهن، فإذا أرادت النساء أن يحظين برضا الإمام المنتظر (علیه السلام) وتأييده لتشملهن ألطافه فعلى الكفوءات منهن اللواتي تتوفر فيهن شروط التصدي __ وهنّ كثيرات في هذا الزمان، فأغلب نسائنا مثقفات واعيات تزوّدن بعلوم العصر وأفكاره ومنفتحات __ أن يؤدين هذا الواجب خصوصاً نساء الطلبة والفضلاء والعلماء، ويشجعن غيرهن ليكون الجميع من الممهدين للظهور الميمون والفائزين بنصرته (ع) والاستشهاد بين يديه (ع). وقد ذكرنا معلومات نافعة في كتاب (الخطابة النسائية بين الواقع والطموح).

ك __ التزامهن بمقاييس مادية دنيوية عندما يتقدم أحد لخطبتهن، وهو خلاف المقاييس التي وضعتها الشريعة؛ فقد جاء في الحديث: (إذا جاءكم الرجل وقد رضيتم عقله ودينه فزوجوه، إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفسادٌ

ص: 253

كبير)(1)، أما البيت والسيادة والثروة فيمكن أن تأتي مستقبلاً كما وعد الحديث: (إنما الرزق مع الزوجة والعيال)، وهذه الأمور وحدها لا تجلب السعادة إذا لم تغمر الحياة الزوجية المودة والحب والإخلاص والوفاء والإيثار وسائر الخصال الحميدة التي جمعها الحديث المتقدم ضمن عناوين العقل والدين، فأعيذكن بالله أن تخرجن عن سنة الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتقع الفتنة والفساد بسبب الخضوع للمقاييس الدنيوية، لأن الأمر متعلق بكنّ قبل أي أحد آخر حتى الآباء.ل __ خضوعهن للشهوة الجنسية والانفعالات العاطفية والوعود المعسولة، فتتبع بعضهنّ أي إشارة شيطانية وتنسى الدين والشرف والعفة، وتغفل عن التقاليد الاجتماعية التي لا ترحم الفتاة المنحرفة ولا تعطيها العذر، فتكون عاقبتها القتل لغسل العار. فهل تستحق تلك اللذة العابرة هذه النتيجة القاسية؟ ويعلم الله كم أتألم ويعتصر قلبي عندما أسمع بمقتل الفتيات وبطريقة بشعة، لسقوطهن في شباك الذئاب من الرجال الذين لا ينالون نفس العقاب ولا يغسل عارهم، رغم أن العقوبة في الشريعة لهما واحدة على حد سواء. وقبلهما لا بدَّ من عقوبة أولياء أمورهم وغسل عارهم، لأنهم الذين يورطون أبناءَهم في الانحراف بسوء التربية وبالسماح للأفلام الخليعة واللقطات المثيرة أن تعرض في الدار، فماذا يتوقعون أن تكون النتيجة؟

إن من مشاكل مجتمعنا هذه الازدواجية، فنحن نعيش نمطاً من الحياة منفتحاً على الغرب لا يمانع من مشاهدة الأغاني والأفلام والصور المثيرة

ص: 254


1- الكافي: 5 / 347.

للشهوة، ونعيش في نفس الوقت الأعراف والتقاليد الموروثة التي لا تسمح بأي شائبة من الانحراف، وبسبب هذه الازدواجية تحصل الكوارث الاجتماعية، فلا نحن نستطيع أن نكون كالغرب الذي تخلى عن كل المبادئ الأخلاقية والإلهية، ولا نحن الذين نرفض ما يخالف التزاماتنا ومبادئنا، فمتى نصحو حتى نخفف عن بعض الآلام التي أمضت بقلب الإمام المهدي (علیه السلام)؟.م __ مباشرتهن العمل في أماكن تسبب الوقوع في المعاصي، فينبغي أن تراعي في العمل تجنب المحرمات كالخلوة مع الأجنبي في بعض الدوائر التي ليس فيها اتصال بالمراجعين، أو في المستشفيات أثناء الخفارات الليلية وفي صالات العمليات وفي غرف النقاهة أو غرف المختبرات، وأحيانا يتطلب الأمر ترك العمل نهائياً. وأريد أن أنبه إلى موردين من ذلك:

الأول: إن بعض المعامل الأهلية تركّز على توظيف العاملات، فيقعن فريسة صاحب المعمل أو رئيس العمال، حيث يزايدونهنّ على شرفهن، وإلا فعقوبتهن الفصل. وهذه ظاهرة منتشرة في كثير من المدن.

الثاني: خروج المرأة الريفية إلى أعمال الزراعة والحراثة ونقل الماء، مما يعرضها إلى السقوط والانحراف وإلى اعتداءات الذئاب والخنازير الذين يحملون صورة البشر، فالله الله في شرفكم ودينكم وأخلاقكم، فإنه أعز من كل شيء، وخذوا من الحسين (علیه السلام) عبرة، فانه لما وصل الماء يوم عاشوراء وأراد أن يشرب وقلبه يتفطر من شدة العطش نودي: أتشرب الماء وقد هتكت حرمك؟ فرمى الماء وعاد إلى المخيم ليحامي عن شرفه وهو يرتجز:

أنا الحسين بن علي *** آليت ألاَّ أنثني

ص: 255

أحمي عيالات أبي *** أمضي على دين النبي

وتوجد قضايا أخرى كثيرة عولجت في كتب متعددة ككتاب (فقه العائلة) و(شكوى القرآن) و(فقه العمال) و(فقه المصورين) و(قيادة السيارات: أحكام وآداب) و(فقه السوق) و(الغناء ينبت النفاق ويورث الفقر) و(فقه الجامعات) و(زيارة مدرسة) و(المسلم الحدث بين حملات التضليل ومسؤولية التكليف) و(التوبة باب الرحمة) وغيرها كثير فراجعها، إضافة إلى الكتب الأخلاقية والعقائدية والفقهية وسير المعصومين والصالحين من العلماء والأولياء.

بعد كل هذه التنبيهات أقول: على كل شاب أن يعيد النظر في حياته ويحاسب نفسه ويدقق تصرفاته، ليرى هل اقترب من الحق أم من الباطل؟ والعياذ بالله.

هل هو من جند الرحمن أم من جند الشيطان؟!

هل هو ممن يمهد للظهور المبارك واليوم الموعود أم ممن يعرقل الظهور وينشر الفساد في الأرض؟!

هل هو ممن يدخل السرور على قلب الإمام المنتظر (علیه السلام) لأنه الحجة الفعلية فتعرض عليه أعمال العباد أولاًًً بأول كما دلّت عليه الآية الشريفة: [وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ](التوبة:105)، وهم (ع) المؤمنون، أم إنه ممن يدخل الأذى على قلب الإمام لما يرى من أعماله من صحائف سوداء؟.

أسأل الله تعالى أن يكون جميع الشباب وجميع المسلمين من الأوائل الفائزين في هذه المقابلة، فإني أحبهم وأتمنى لهم الخير وأسرُّ بمشاهدتهم في المساجد ودور العبادة والشعائر الإلهية وفي العتبات المقدسة، وأتفاءل برؤيتهم وأدعو الله تعالى لهم بالتسديد والتثبيت وقضاء الحوائج وحسن العاقبة.

ص: 256

كلمة إلى المدرسين والطلبة

بمناسبة الامتحانات العامة والامتحانات الجامعية

بمناسبة الامتحانات العامة والامتحانات الجامعية(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي جعلنا أشرف المخلوقات، بما وهبنا من العقل الذي به يعبد الرحمن ويعصى الشيطان، وبما نفخ فينا من روحه، ولولاها لكنّا نحن والطين سواء، والحمد لله الذي يسّر لنا سبل الكمال في الوصول إليه والتقرب منه، ودلنا عليها وهدانا إليه، والحمد لله الذي منّ علينا بالوجود والحياة والإيمان والولاية لنطيعه ونعبده فنتكامل ونسمو، ولم يجعلنا من الذين اخترمهم الموت فانقطعت عنهم أسباب التكامل إلا ما رحم ربي، والحمد لله الذي جعلنا من الموفين بعهده وميثاقه الذي واثقنا به من توحيده والإخلاص وولاية الهداة إلى سبيله والأدلاء على طاعته محمد وآل محمد صلى الله عليهم أجمعين وسلم تسليماً كثيراً.

لا أملّ من الحديث عن الشباب ومع الشباب، ففي الأسبوع الماضي ألقيت عدة دروس عن مشاكل الشباب ونصيحة الحوزة الشريفة لهم في علاجها ومواجهتها. واليوم –واستجابة لطلب عدد منهم - أودّ توجيه كلمة أبوية لهم، لأن كثيراّ منهم يحسنون الظن بي ويرون فيّ ناصحاً ومرشداً وموجهاً، وهذا من

ص: 257


1- ألقيت في مسجد الرأس الشريف المجاور لمرقد أمير المؤمنين (عليه السلام) في النصف من شهر آيار/2002 تقريباً، بعد أيام من المحاضرة السابقة (الحوزة وقضايا الشباب).

لطف الله تبارك وتعالى بي، واستجابة منه __ وهو المتفضل المنان الذي نعمه كلها ابتداء من غير استحقاق مني __ لدعاء لا زلت أدعو به منذ عشرين عاماّ تقريباّ وأنا في بداية العشرينيات من عمري، حيث كنت أقرأ في كتاب الميزان في تفسير القران فوصلت إلى قوله تعالى على لسان طائفة من المؤمنين [وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا](الفرقان:74)، فتحدث السيد الطباطبائي (قدس سره) عن علوّ همة هؤلاء، حيث لم يكتفوا بطلب جعلهم من المتقين، بل ارتقت همتهم إلى أن يطلبوا منه تبارك وتعالى أن يكونوا أئمة للمتقين، ومن حينها التزمت بهذا الدعاء وغيره في صلواتي أسوة بهذا السلف الصالح.وها أنا ذا أجد لطف الله تعالى بي، فإنه عند حسن ظن عبده، فما يضر العبد أن يحسن الظن بربّه غاية الإحسان مادام الرب عند حسن ظن عبده، ومن لطفه أن عدداً من المؤمنين المتقين –خصوصاً من الشباب الذين أرجو شفاعتهم لي يوم الحساب وأتقرب إلى الله بمودتهم __ يرون فيَّ هذا الوصف بمعنى من المعاني وبدرجة من الدرجات، فالحمد لله كما هو أهله، أقول هذه الكلمات لإظهار نعمة الله تعالى ولتحفز الهمم لديكم حتى تكون آمالكم معلقة بالله تعالى بأعلى صورها وأكمل أشكالها.

وعوداً على بدء أقول: إنني أريد اليوم توجيه كلمة أبوية لهم بمناسبة قرب الامتحانات الوزارية العامة والامتحانات الجامعية، فلا ينبغي لي أن أدَعَهم وحدهم. فأنا أحبّهم حبين، حب هو لحب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إياهم ووصيته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بهم إذ قال: (أوصيكم بالشباب خيرا فإنهم أرقّ أفئدة)، وحبٌّ لهم لما يتمتعون به من صفات وخصال حميدة ذكرتها في بداية حديثي السابق معهم

ص: 258

بعنوان (الحوزة ومشاكل الشباب)، ولأنهم يذكّرونني بمرحلة سابقة من عمري خصوصاً حياتي الجامعية التي عشتها ما بين سنتي 1978 __ 1982 بكل ما حفلت به تلك السنون الحبلى بالأحداث، والتي كانت تزهو بالشباب المؤمنين الواعين المخلصين الذين صدق فيهم قوله تعالى: [مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً](الأحزاب:23)، وبقيت أعيش ذكرياتهم وأحنّ إلى لقائهم، ومن دأب الإنسان الحنين إلى الذكريات، فهذا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يمرّ على جبل أحد بعد مدة طويلة من معركته، فتهيج في نفسه ذكريات تلك الواقعة الأليمة في تضحياتها، العظيمة في نتائجها ودروسها بحسب ما سطرته سورة آل عمران المباركة فيقول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (أحُد: جبل نحبه ويحبنا)(1).من أجل هذا كله وجدت من المناسب أن أشاركهم __ وهم يدخلون الامتحانات __ بالدعاء لهم بالتوفيق والنجاح وتحقيق الآمال التي ترضي الله تبارك وتعالى ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتدخل السرور على قلب بقية الله الأعظم (أروحنا له الفداء)، والدعاء ليس قليلاً، فهو سلاح المؤمنين كما في بعض الأحاديث، فقد قال تعالى: [قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ](الفرقان:77).

لكن الدعاء –على أهميته __ لا يكفي وحده حيث قضت الإرادة الإلهية بتحصيل الأمور بأسبابها وعلى مبدأ (اعقل وتوكل)(2) أضع بين أيديهم بعض النقاط:

ص: 259


1- البخاري: 5 __ 136.
2- تأويل مختلف الحديث: لابن قتيبة، ص309.

النقطة الأولى: يوجد تفكير خاطئ لدى الشباب وأولياء أمورهم بأن الدراسة والشهادة الجامعية لا تنفع، فهؤلاء الخريجون عاطلون عن العمل ولم يحصلوا على وظائف تناسب شهاداتهم، فلماذا التعب والدراسة والعناء؟ وهذا التفكير لا أصفه فقط بأنه خاطئ بل هو خطير، ويقدم خدمة مجانية إلى أعدائنا، لأن من أهدافهم أن نتخلف ونكون جهلة لنبقى تابعين لهم وحراساً لمصالحهم ومنفذين لخططهم، أما التقدم العلمي فيعني استغناءَنا عنهم، وهو شيء لا يطيقونه، فلماذا نحقق لهم مآربهم وهم أعداؤنا؟ أما الإشكال الذي يثار من عدم نفع الشهادة فنجيب عنه بأكثر من جواب:1 __ إن نفع الشهادة لا يقتصر علي تحصيل الوظيفة أو فرصة عمل بموجبها، فهناك آثار إيجابية نفسية واجتماعية وثقافية تترتب على الشهادة، فإن نضج التفكير والوعي لدى حامل الشهادة ليس كالذي عند غير المتعلم، وقوة الشخصية والموقع الاجتماعي ونظرة الناس للمتعلم ليست كما لغيره، وثقة الإنسان بنفسه والشعور بالمسؤولية وعلو الهمة عند المتعلم ليست كما عند غيره.

2 __ ما قاله سيدنا الأستاذ (قدس سره)(1) حينما نقل له اعتراض بعض الطلبة على دراسة الكفاية –وهو أعلى كتاب في الأصول يدرس قبل الدخول في البحث الخارج __ وأن هذا الكتاب لا ينفع في العمل الاجتماعي ولا يدخل في عملية الإصلاح والهداية. فقال (قدس سره): نعم هو كذلك لكنك لا تستطيع أن تنفع المجتمع إلا بدراسة (الكفاية)؛ لأن تحصيل الاجتهاد متوقف عليه وبنيل

ص: 260


1- الشهيد الصدر الثاني.

الاجتهاد تنفع الناس وتبين لهم أحكام الشريعة. ونقل عن العالم اليوناني أرخميدس أنه كان بين طلابه يوماً يشرح بعض نظرياته، فقام إليه أحد الطلبة وقال: ما فائدة هذه النظرية في حياتنا حتى نتعب أنفسنا في بيانها والاستدلال عليها، فقال لخادمه: أعطه درهماً. وكأنه يريد أن يقول له: إنك إذا قصدت بالنفع، المردود المادي المباشر فخذ هذا الدرهم لكنه ثمن بخس للعلم، وإنما غاية العلماء هو وضع لبنة في بناء الحضارة الإنسانية، فقد لا يعلم الفائدة المباشرة لهذه النظرية في الفيزياء أو ذلك القانون في الرياضيات أو تلك القاعدة في الكيمياء أو هذه الفكرة في علم الاجتماع إلا أنها جميعاً ساهمت على المدى البعيد في تقدم البشرية وتكاملها تطبيقا لقوله تعالى: [هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا](هود:61)، أي طلب منكم إعمارها.3 __ لو سلّمنا وقلنا بعدم نفع الشهادة، فهذا ليس ذنب الحصول عليها، وإنما هو ناشئ من سوء التطبيق والخلل في توزيع المواقع على مستحقيها وبسبب الظروف التي يمر بها البلد، وإلا فقد عشنا في زمان وجدَ كل خريج فرصته من العمل، وهذه البلدان كلها تعدّ خططاّ خمسية أي خطة سياسة البلد لخمس سنين قادمة وفي ضوئها تحدد حاجاتها من الطلبة الجامعيين وكيفية توزيعهم ليكون النصاب المطلوب لتنفيذ الخطة جاهزاّ في الزمان المحدد، وهذا الظرف الذي يمر به البلد طارئ يمكن أن يزول فتعود الحياة إلى مجاريها كما يقال.

فهذا التفكير خاطئ ومضرّ بالمصالح الشخصية والاجتماعية ولابد من علاجه على المستوى النظري والعملي، أما على المستوى النظري، فبالالتفات إلى هذه الأفكار وتعميق القناعة بها واستثارة المحفزات للدراسة والنجاح، ومن

ص: 261

هذه المحفزات:1 __ بأن نجعل هدفنا بناء مجتمع مثقف يجيد أرقى فنون العصر وعلومه استعداداً لاحتضان عاصمة الإمام المهدي (علیه السلام) وإقامة دولته التي مقرها هنا في العراق. وأسألكم أيّ المجتمعين أجدى في نصرة الإمام (علیه السلام) مجتمع جاهل ليس فيه شهادات اختصاص في مختلف حقول العلم والمعرفة أم مجتمع مثقف متكامل، فيه الخبراء والاختصاصيون في كل المجالات التي نحتاجها في عصر الظهور الميمون انطلاقاً من قوله تعالى: [وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ](الأنفال:60)؟.

2 __ إن الشباب المثقف الخريج المتعلم أقرب إلى الهداية وأكثر استجابة إلى داعيها من غير المتعلم، لأن التدين أمر فطري عند الإنسان، فإذا انضم إليه الوعي والتعقل فلا بد أن ينتج الإيمان، أما غير المتعلم فتصعب هدايته، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن الإيمان إذا دخل قلب المؤمن المثقف فإنه يكون راسخاً بعكس غير المتعلم، لذا قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (قصم ظهري رجلان عالم متهتك وجاهل متنسك)(1) ومحل الشاهد هنا الصنف الثاني.

وأعطيك مثالاً من الواقع، فإن مستوى الوعي الديني في بغداد والبصرة أكثر منه في الناصرية والعمارة والسماوة بل حتى النجف وكربلاء(2) __ وأرجو أن لا

ص: 262


1- فيض القدير شرح الجامع الصغير: 6 / 378.
2- بقي سماحة الشيخ يطالب بإنشاء الجامعات والمعاهد العلمية في كل محافظات العراق، وينشر الوعي بالمطالبة لدى أبنائها إلى ما بعد سقوط صدام المقبور، وقد تم افتتاح الجامعات في كل محافظات العراق بعد سنوات.

يتأذى مني أحد، فإنهم كلهم أحبائي وأبنائي. وقد أكون مخطئاً في هذا الاستقراء الناقص لكن المهم الالتفات إلى الفكرة __ فلماذا هذا التباين؟ قد يكون له عدة أسباب، لكن السبب الذي أود الإشارة إليه هنا هو وجود الجامعات في بغداد والبصرة دون تلك المدن، وقد قلت قبل قليل أن وجود الجامعة في مدينة تعني ارتفاع المستوى الثقافي والعلمي، فإذا انضمّ إلى الولاء الفطري للتدين الذي يتميز به مجتمعنا العراقي أكثر من أي شعب آخر فسينتج حتماً ارتفاع مستوى الالتزام الديني. وإني بقدر ألمي من خلو هذه المدن الحبيبة (الناصرية والعمارة والسماوة وكربلاء وديالى) من الجامعات كان فرحي بإعلان الجهات الرسمية عن إنشاء وافتتاح جامعات في بعض هذه المدن خلال العام الدراسي المقبل. هذا قرار كان ينبغي اتخاذه قبل الآن، لأن الدراسات العالمية تؤكد أن معدل عدد الجامعات في بلد ما هو جامعة واحدة لكل مليون من السكان، ونحن في العراق حوالي (24) مليون، فيكون المعدل الطبيعي لعدد الجامعات هو (24) جامعة إن لم يكن أكثر، فمتى نصل إلى هذا الرقم؟ أرجو أن لا يكون بعيداً.

3 __ إن كل واحد منا يجب أن يهدي الآخرين ويؤثر فيهم طمعاً في الأجر ورضا الله تبارك وتعالى الذي وعد به رسوله الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (يا علي، لئن يهدي الله بك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وما غربت)(1)، وإن تأثير حامل الشهادة في الناس وقبولهم لكلامه أكثر بكثير من غيره، فإن كلمة هداية

ص: 263


1- الكافي: 5: 28.

واحدة تصدر من طبيب أو مهندس أو أستاذ جامعي خصوصاً إذا ارتقى منبراً، تؤثر في الناس وتشدهم إليه أكثر من ألف كلمة يقولها غيره، فحصَّل على الشهادة لتمتلك هذه النقطة القوية من التأثير.4 __ إن العلم مقرون بالإيمان، وقد قيل إن أكثر من خمسمائة آية في القرآن الكريم في فضل العلم والعلماء والحث على تحصيله وذم الجهلاء الذين لا يعقلون و لا يفقهون، ويزيد من معرفته، قال تعالى: [إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء](فاطر:28)، كما حصل لبعض روّاد الفضاء، فإنه لما خرج إلى الكون الفسيح ورأى عجائب الصنع ودقة التنسيق في الكون آمن بالخالق مباشرة بعد أن زالت عن عين بصيرته ظلمات المادية. وإن 93 من العلماء والمكتشفين الذين استقرأت عقائدهم كانوا موحدين، والباقي لم يثبت له اعتقاد، والأقل جداً كان ملحداً: وقد ألفتْ كتب عديدة في هذا المجال نحو (العلم يدعو إلى الإيمان) و(الله والعلم الحديث) و(قصة الإيمان) و(الله يتجلى في عصر العلم) و(الطب محراب الإيمان).

وأما علاجه على المستوى العملي فبالجد والاجتهاد في الدراسة والنجاح في الامتحانات، وتعاون أولياء أمور الطلبة معهم، وتوفير كل أسباب الراحة لهم ليتفرغوا للتحصيل العلمي، وتقديم كل المعونات اللازمة لتحقيق ذلك، وليعلموا أن أي نجاح يحققه أبناؤهم فإن خيره وفخره لهم بالتأكيد.

النقطة الثانية: إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان يأخذ من كل شيء عظة وعبرة، فإذا دخل إلى الحمام ونظر إلى الماء الحار تذكر ماء الحميم يوم القيامة الذي قال عنه القرآن: [وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ](محمد:15)، عندئذ يقول

ص: 264

(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (نعم البيت الحمام يزيل الدرن ويذكر بالآخرة)، وإذا رأى ماءً جارياً طهوراً ومطهراً رسم لأصحابه صورة فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (لو أن بباب أحدكم نهراً يغتسل منه خمس مرات في اليوم أترى يبقي على جسده من الدرن شيء، قالوا له: لا يا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، قال: فكذلك الصلاة خمس مرات في اليوم كفارة لما بينها من الذنوب)(1) وهو قوله تعالى: [إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ](هود:114).فمن تمام التأسي برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الذي دعت إليه الآية الشريفة: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا](الأحزاب:21) أن نأخذ الدروس والعبر من كل شيء.

فنتذكر ونحن نخوض الامتحانات: امتحاننا الكبير في هذه الدنيا والمسؤولية التي تحملناها حين رضينا أن نكون خلفاء الله في أرضه، وأخذ سبحانه علينا العهود والمواثيق [وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ](الأعراف:172)، هذا الامتحان لا بد من المرور به [تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ](الملك:1-2)، وقال تعالى: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ

ص: 265


1- بحار الأنوار: 33/ 449.

قَرِيبٌ](البقرة:214)، وقال تعالى: [ألم ، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ](العنكبوت:1-3)، فليستعدوا لهذا الامتحان الكبير: [وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ](البقرة:197)، كما يستعدون للامتحانات الدراسية وليحذروا من الفشل في ذلك الامتحان كما يحذرون في هذا الامتحان، خصوصاّ وأن في الامتحانات الدراسية يوجد دور ثانٍ وتوجد إعادة السنة، أما الامتحان الإلهي فينقطع بالموت، ويقول عندما يرى عاقبة أعماله: [رَبِّ ارْجِعُونِ ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ](المؤمنون:99-100)، فيأتيه الجواب: [كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ](المؤمنون:100)، وفي آية أخرى: [وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ](ص:3) ، نعم ما دام هو في قاعة الامتحان وهي دار الدنيا فإنه يمكنه إعادة الفرصة بالتوبة واستئناف العمل والتعويض عما فات، فليبادر إليها ويغتنمها، فإن الموت يأتي بغتة.وليأخذ من صورة نجاحه ونشوته والزهو الذي يملأه وهو يسير مرفوع الرأس بين أهله وأصدقائه وأقرانه وأساتذته، نجاحه في الآخرة وهو يعطي كتابه في يمينه فيهنئه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ويسقيه أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من نهر الكوثر شربة لا يظمأ بعدها أبداّ، ويجاور الأئمة الطاهرين والأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين وحسن أولئك رفيقاً، قال تعالى: [وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ](التوبة:72)، أما الفاشل فيكون مطأطئ الرأس قد غُلّت يداه إلى عنقه، وهو قوله تعالى: [فَهُم مُّقْمَحُونَ](يس:8)، ووصف حالهم في آية أخرى: [خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ، ثُمَّ الْجَحِيمَ

ص: 266

صَلُّوهُ ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ](الحاقة:30-32)، وكثيرة هي مشاهد القيامة في القرآن فراجعوها وتأملوا فيها، وخذوا من صور امتحانكم في الدراسة وما فيها من انفعالات ونتائج فكرة عن ذلك الامتحان الكبير، فإن من طبع الإنسان الاستئناس بالماديات والصور الحسية، ولا يستوعب المعاني الغيبية إلا عبر تجسيدها بالحس.النقطة الثالثة: إن امتحانات هذا العام ستقترن مع مباريات بطولة كأس العالم، وهي مصادفة سيئة جداً، وقد بينت القيادة الدينية في الحوزة الشريفة رأيها في هذه البطولة وغيرها ببيان تفصيلي تحت عنوان: (الحوزة تحذر من الوقوع في فخ الرياضة)(1)، وقد تضمّن الآثار السلبية والنتائج الخطيرة للانهماك في الرياضة، وإلفات النظر إلى البدائل المفيدة الممكنة. وأريد أن أشدد المنع هنا، لأن الانشغال بها من خلال متابعة المباريات نفسها أو أخبار الفرق واللاعبين وترتيب الدول والتوقعات للفائزين وغيرها ستربك الذهن وتضيع الوقت.

وقد ثبت طبياّ أن متابعة التلفزيون تضعف قوة التركيز عند المشاهد المتابع له، ونقل أحدهم أن مشاهدة ساعة للتلفزيون كافية لشغل الذهن أسبوعاًّ كاملاً، فكيف يصفو للدروس التي سيمتحن بها الطالب؟ فأكرر تحذيري الشديد والأكيد، وإذا دعت النفس الأمارة بالسوء وألحّت وضغطت عليك للمشاهدة فقاومها وانتصر عليها، فإنها أعدى أعدائك كما يقول الحديث وتقودك دائماّ

ص: 267


1- راجعه في قسم الاستفتاءات من الكتاب.

نحو الردى، فلا تتبعها وستجد حلاوة النصر عليها حين مخالفتها وكفى بذلك لذة وزهواً [وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى](القصص:60)، وإذا كان الضغط النفسي شديداً يصعب مقاومته، ومن الحرج التوقف عن الاستجابة إليه فخفّف عن نفسك بمشاهدة وقت قصير بالمقدار الذي يرفع هذا الحرج النفسي، لقوله تعالى: [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ](الحج:78)، ومن دون أن يتسبب في الآثار السلبية التي أشرنا إليها هناك.النقطة الرابعة: وهي تتعلق بمسألة الغش في الامتحانات وعدم التقييم الصحيح، وعدم نيل كل طالب ما يستحق، وأريد أن أتناولها من جهتين:

الجهة الأولى: جهة الأساتذة: فإني مطلع على أشكال عديدة من الغش وإعطاء الطلبة ما لا يستحقون، ولا زالوا يبتكرون الأساليب لذلك، فلم تعد تقتصر على أسلوب واحد، بل تنوعت، فمنها إملاء الإجابات الصحيحة على الطالب في قاعة الامتحان، أو تغيير إجاباته الخاطئة إلى الصحيحة عند النظر في دفتره، أو تبديل دفاتر الطلبة فيأخذ أجوبة الطالب الجيد ويعطيها إلى من يريد بتبديل غلاف الدفتر، أو إعطاء الأسئلة الامتحانية إلى الطلبة قبل الامتحانات بمدة وحلّها لهم، أو التلاعب بدرجاتهم، أو ضمان النجاح لمن يأخذ الدروس الخصوصية لديهم، أو فتح دورات سريعة قبل الامتحانات يضمن من يلتحق بها النجاح، وكثيرة هي الأساليب الملتوية التي تؤلم كل غيور على مجتمعه ومستقبل أمته، فإن الأساتذة كالقضاة وعلماء الدين، آخر من نتوقع فقدانهم النزاهة، لأن خرابهم يعني تدمير كيان الأمة ونسفه من القواعد.

ص: 268

وأنا متفهم للضغوط المادية(1) التي يتعرضون لها والوضع الاجتماعي المحرج الذي يعيشونه، بحيث أصبحوا عرضة للتندر والاستهزاء، ومن هوان الدنيا على الله أن لا يجد المعلم المربي الملتزم الذي كله عطاء وخير القوت الكافي له ولعياله وبأبسط مستويات المعيشة، ولا يملك ما يمكنه من الظهور بالمظهر اللائق به في المجتمع، أو يقف طويلاً على الطريق ينتظر سيارات النقل العام ويتعرض للإهانات بسبب ذلك، في حين يمر عليه أحد طلابه يركب سيارة من أحدث الموديلات وأرقاها من دون أن يعبأ به، أو قد يتصدق عليه فيوصله وقد ملأ الأستاذ الشعور بالذل من رأسه إلى أخمص قدميه، وقد يأتي المدرس إلى المدرسة صباحاً وهو لا يجد طعام الفطور في بيته، فيزاحم الطلبة على ما جلبوه من دورهم من الأطعمة، أو يفتح المدرسون حانوتاً في المدرسة ويجبرون الطلبة على الشراء منه عسى أن يدرَّ عليهم بعض الأرباح، حقاً إن هذه المناظر المؤلمة تنبئ عن هوان الدنيا على الله تبارك وتعالى كما في الحديث: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة لما سقى منها كافراً شربة ماء)(2).أقول: أنا متفهم لكل ذلك وأرجو أن يصل صوت الحوزة هذا إلى المسؤولين ليرفعوا من مستوى الدعم المادي والمعنوي للأساتذة عموماً كما

ص: 269


1- كان المرتب الشهري لموظفي الدولة يومئذٍ –ومنهم المعلمون والمدرسون- يقل عن خمسة دولارات شهرياً مما اضطر الكثير منهم إلى ممارسة الأساليب المذكورة إلا القلة ممن حافظوا على نزاهتهم وكانوا يتكسبون بعمل آخر خارج الدوام الرسمي، ولا يخفى ما في هذه الكلمات من غمز وانتقاد للسلطة الحاكمة.
2- الكافي: 2 / 246.

اهتموا بالقضاة وأصبحت رواتبهم الشهرية تتجاوز نصف مليون دينار، حتى نعيد لهم هيبتهم وشخصيتهم ونمكنهم من أداء دورهم الرسالي في بناء المجتمع الفاضل المتطور. وإلى أن يتحقق ذلك أقول للأساتذة الأجلاء: إن تربية الأجيال وتعليمهم بل مستقبل الأمة كلها أمانة بأعناقكم، وقد تحملتم هذه الأمانة أو اختاركم الله لحمل هذه الأمانة فأحسنوا تحملها وأدّوها إلى أهلها كما أُمرتم: [إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا](النساء:58)، وإذا كانت الظروف قد ظلمتكم فلا تظلموا أنفسكم وتسقطوا وتنحدروا عن مقامكم الرفيع، وارتفعوا عن هذه المطالب المتدنية فإن أول ما تجنونه من هذا الانحدار هو هوان أمركم عند الناس واستصغاركم واحتقاركم ولا نرضى لكم أن تكونوا بهذا المستوى، بل لا يبقى لوجودكم وعطائكم قيمة إذا كانت يدكم هي السفلى، واجعلوا كلمات أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) نصب أعينكم: (استغنِ عمّن شئت تكن نظيره، واحتج لمن شئت تكن أسيره، وامنن على من شئت تكن أميره)(1)، وأنتم الأمراء لأن عندكم العلم، والعلم خير من المال.

واحتسبوا الضيق الذي تمرون به عند الله تعالى وقد جعله حصتكم من البلاء، إذ لا بد للإنسان من بلاء فإن لم تصبروا عليه وحاولتم التخلص منه بالأساليب غير المشروعة فسيبتليكم بغيره مما لا تطيقونه أولاً، ولا تؤجرون عليه ثانياً، ولا تعرفونه ثالثاً، فارضوا ببلاء تعرفونه وتستطيعون تحمله والصبر عليه وتؤجرون به ليدفع عنكم ذلك.

ص: 270


1- فيض القدير للمناوي: 1 / 134.

وليعلموا أن في ممارستهم لهذه الأساليب المنحرفة ظلماً للطلبة وعدم إعطاء كل ذي حق حقه والله لا يحب الظالمين. وأروي لهم هذه الرواية ليأخذوا منها العبرة، فقد أحتكم طفلان إلى الإمام الحسن (علیه السلام) ليرى أيهما أحسن خطاً، فقال له أبوه أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (اتق الله، واعلم أن هذا حكم، والله سائلك عنه)(1) فإذا كان التقييم بين خطين فيه هذه المراقبة والحذر، فكيف بتقييم المستويات العلمية ووضع كل طالب في موضعه المناسب. وأما وضعكم الاقتصادي فيمكن أن يُحسَّن بالعمل والكسب بعد انتهاء الدوام، أو بأخذ محاضرات إضافية أو بعض الدروس الخصوصية، أو فتح دورات التقوية.

وإني أقول هنا –وهو رأي مراجع الدين جميعاً __ أنه يجوز صرف الحقوق الشرعية من الخمس والزكاة ورد المظالم والكفارات ونحوها على الأساتذة الملتزمين الذين لا تكفي رواتبهم لسد احتياجاتهم المتعارفة بالمستوى الذي يحفظ كرامتهم الاجتماعية. والجواز شامل لغيرهم من الموظفين والعمال الملتزمين النزيهين، ولا يحتاج الصرف إلى مراجعة واستئذان.

وإنه ليعجبني ويفرحني ويجعلني متفائلاً ما أسمع عن نزاهة والتزام الكثيرين منهم، وحرصهم على إيصال المعلومات بكل إخلاص إلى الطلبة، وأسأل الله تعالى أن يعينهم ويثبتهم ويكفيهم مؤونة الدنيا والآخرة.

الجهة الثانية: الطلبة: والمنع فيهم أوضح، لأنهم المعنيون، وإنما نقول هذا

ص: 271


1- تفسير مجمع البيان: 3 / 113.

الكلام حرصاً على مستقبلهم وكيان أمتهم الذي تبنيه سواعدهم وعقولهم، وقد يتذرعون لممارسة الغش في الامتحانات أو دفع الأموال لضمان النجاح أو التفوق بغير استحقاق، وسلوك مختلف الأساليب لتحقيق ذلك بعدة مبررات كلها مرفوضة: (منها): المثل السيئ المشهور (حشر مع الناس عيد) وقد رده الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم وذم اتباع سواد الناس؛ قال تعالى: [وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ](يوسف:103)، [وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ](المؤمنون:71).

(ومنها): أن غيري يفعل ذلك وينال أكثر مما يستحق فأنا أفعله، وجوابه أن الخطأ لا يعالج بالخطأ ولا يبرره؛ قال تعالى: [وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ](الروم:60) أي لا تكن أفعال الآخرين سبباً لاستفزازك وخروجك عن جادة الصواب.

(ومنها): إني إن لم أفعل ذلك أقع في المحذور الفلاني(1)، ونحوه، نعم من حقك أن تدفع ذلك المحذور لكن بالجهد والتعب من أول السنة، وليس حينما يضيق الأمر بك. وليعلم أحبائي الطلبة أن في الغش إهانة للعلم وللأستاذ وللمجتمع الذي يعلق الآمال على هذه الصفوة لتبني له الرفاه والسعادة والتقدم.

النقطة الخامسة: بعد نهاية الامتحانات يتمتع الطلبة بالعطلة الصيفية وهو أمر ضروري لمن أتعب نفسه خلال السنة، فإن الطالب يحتاج إلى عطلة ليريح ذهنه

ص: 272


1- يريد به سماحة الشيخ (دام ظله) الخدمة العسكرية التي يُلزَم بها الطالب الذي لا ينجح في الدراسة، ولم يصرّح بها على نحو عام.

من ذلك العناء الطويل، خصوصاً بعد أن لم يقصر في القيام بواجباته وتحقيق النجاح والتفوق، ولكن العطلة لا تعني التسكع وتضييع العمر وهدر الوقت، فإن هذا لا يناسب الإنسان المخلوق لهدف وهو التكامل، وإنما العطلة تعني التنويع في الأداء والممارسة كما قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (وإن القلوب لتكلّ فروضوها بطرائف الحكم)(1)، فكيف نجعل عطلتنا الصيفية هادفة ونافعة؟ وهنا أطرح عدة خيارات يمكن الجمع بينها أو بعضها والجمع أكمل كما يقال في الفقه:

الأول: العمل والكسب خصوصاً لأبناء الأسر ذات الدخل المحدود ليعينوا أولياء أمورهم ويوفروا لأنفسهم مصاريف السنة القادمة، وعليهم اختيار العمل الذي ليس فيه معصية أو شبهة أو يكون باباً للوقوع في الحرام، وقد بينت ذلك في سلسلة محاضرات (الحوزة ومشاكل الشباب) وتوجد فوائد أخرى للعمل والكسب:

أ __ إن كثيراً من الآباء لا يؤدون فريضة الخمس في أموالهم أو لا يتورعون عن المكاسب المحرمة والمشبوهة عن علم أو غير علم، فإذا أصبح مكسب الشابّ مستقلاً، أو ساهم مع الأب في مصاريف البيت بالمقدار الذي يساوي تصرفاته في الدار أمكنه رفع هذا الإشكال.

ب __ لكي يهيئ مقدمات الزواج الذي هو ضروري لكل شاب، ليحصن نفسه من الانحراف والفساد الذي يحوطه من كل مكان.

ص: 273


1- نهج البلاغة: 4 / 20.

ج_ __ إن الكثير من الشباب يعاني من تسلط أبيه وفرضه عليه نظاماً في الحياة لا يوافق التزاماته الدينية، أو يمنعه من ممارسة بعض الأمور التي يقتنع أن فيها رضا الله تبارك وتعالى، وما دام الولد خاضعاً لأبيه من الناحية الاقتصادية فإنه مضطر للاستجابة لأوامره، فإذا أستقل الولد اقتصادياً أمكنه أن يتخذ قراره بشكل مستقل، وهو رأي قدمته لكثير من أبنائي كمقدمة لحلّ مشاكلهم مع آبائهم.د __ لكي يوفر مبلغاً يمكنه من اقتناء جهاز الكمبيوتر الذي سيساعده كثيراً على التزود بالعلم والمعرفة أو مواصلة الدروس الحوزوية، ويغنيه عن مكتبة ضخمة، والأهم من ذلك كله ليكون البديل عن جهاز التلفزيون الذي أفسد على الجميع دينهم سواءً كانوا رجالاً أو نساءً أو أطفالاً(1).

الثاني: الالتحاق(2) بالدورات المكثفة السريعة التي تعقدها الحوزة الشريفة خلال العطلة في النجف أو في بقية المدن، حيث تعطي للطالب __ الذي يفترض أنه ذو ذهنية معمقة وهمة عالية وإخلاص __ دروساً خلال العطلة تعادل ما يأخذه غيره في سنة كاملة، وتتضمن محاضرات في الفقه والعربية والأخلاق والمنطق والعقائد وتلاوة القرآن، وتوفر له بعض ما يسد احتياجاته وبذلك يضمن الطالب عدة أمور:

ص: 274


1- كانت مثل هذه المشاريع تثير حفيظة النظام فيداهم البيوت ويصادر جهاز الكومبيوتر والأقراص المدمجة ويعتبرها مبرراً جرمياً يدين المتّهمين!!.
2- قدح هذا المقترح حماس المئات من الشباب الجامعيين فالتحقوا في العطلة الصيفية في دورات حوزوية نظمت لهم، وستأتي الإشارة إليها بإذن الله تعالى.

أ __ أنه يسلح نفسه بالعلم والمعرفة التي تعينه على تكميل نفسه وقربه من الله تعالى وتحصنه من الوقوع في شباك الفساد والانحراف والعقائد الفاسدة والأفكار الضالة.

ب __ أنه سيكون عنصراً فعالاً في الهداية سواء على صعيد المجتمع أو الجامعة أو المدرسة أو الأسرة، وقد قلنا في مناسبة سابقة إن الإسلام محتاج إلى جميع أبنائه، وهؤلاء الطلبة من خيرة أبنائه، فلماذا يحرمون الإسلام من بركات جهودهم ويعود النفع في النهاية لهم؟.

ج_ __ أنه سيجتاز عدة مراحل دراسية في الحوزة الشريفة خلال السنين، وربما يصل إلى مراحل عالية من دون أن يفرط بدراسته الأكاديمية.

د __ ستصبح له القابلية على الكتابة والتأليف والخوض في مختلف القضايا والمشكلات التي تواجه المجتمع، مما يؤهله بشكل واسع لممارسة دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح الاجتماعي، فيكون من الثلة المؤمنة المخلصة التي عناها الله تعالى بقوله: [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ](آل عمران:104)، ولا شك أن المناهج الحوزوية تساعد على تنظيم الفكر وتقويته وتوسيعه وتجهيزه بأدوات العلم والمعرفة(1).

وأنا شخصياً قد استفدت من هذه التجربة عندما كنت صبياً دون البلوغ في بداية سبعينيات القرن الماضي حيث التحقت ببعض الدراسات الحوزوية التي

ص: 275


1- أثمرت هذه الدورات فعلاً في إنضاج عدد من الأقلام الفتية وظهرت لها آثار علمية نافعة.

كان ينظمها المرحوم السيد علي العلوي وأولاده في مدينة العبيدي في بغداد من الصباح حتى الظهر بعد أن يتلقى هو دروسه في حوزة الكاظمية المقدسة، وكان (رحمه الله) يدرس الشباب، وولداه يدرسان الأطفال من أقراني. ومن تلك الفترة استمر ولعي واهتمامي بقراءة الكتب الدينية والأدبية والأخلاقية والتأريخية. ومن قبل ذلك أي في نهاية الستينات كنت أصحب أخي الكبير الشيخ علي الذي يكبرني بعشر سنين أو أزيد إلى مساجد ومجالس الكرادة الشرقية الزاهرة في تلك الفترة، فاستفدت من تلك المصاحبة لعدد من المؤمنين الصالحين، وكان يستعير لي القصص الدينية للأطفال الصادرة من مصر المزدانة بالرسوم والتي تحكي تأريخ الإسلام، وكنت شديد الولع بها، وكانت البداية المباركة التي فتحت عيني علي المعرفة الدينية إضافة إلى الكثير مما استفدته من مرافقتي لوالدي (رحمه الله) الذي كان خطيباً معروفاً ورث الخطابة والأدب عن أبيه وعن جده رحمهم الله تعالى جميعاً.ومحل الشاهد هو ضرورة شمول هذه الدورات والحلقات الدراسية لجميع الأعمار حتى الأطفال، بل هم أهم شريحة يجب الاعتناء بهم لأنهم جيل المستقبل، وقد وضع عدد من الأخوة منهجاً لتدريسهم، صدرت منه الحلقة الأولى بعنوان (دروس للصبي المسلم) فيه أزاهير منوعة من الفقه والأخلاق والتربية والسيرة، وإذا لم نحتضن الأطفال ونوجههم فإنهم سيضيعون في الشوارع وبين أصدقاء السوء والبيئة الفاسدة. ومن الطبيعي أن لا تقتصر هذه الحلقات الدراسية على النجف فقط، بل تعم جميع المدن، وليس للذكور فقط بل حتى للإناث اللواتي ظلمن كثيراً، ولم يؤخذن بنظر الاعتبار في أي تفكير حوزوي، رغم

ص: 276

أنهن يساوين الرجال في الحقوق، ولكن بالطبع إعطاء كل واحد ما يناسبه ومن دون التجاوز على حدود اللياقة الشرعية والعرفية.الثالث: إن ممارسة الهوايات أمر طبيعي للشباب خصوصاً في العطلة الصيفية، ولكن من دون أن يكون شعارنا (التسلية للتسلية) أو لقتل وقت الفراغ، بل لابد من أن تكون هذه الهوايات نافعة ومثمرة على صعيد أو أكثر، كممارسة بعض الألعاب الرياضية التي فيها ترويح عن النفس، وتسلية وتقوية للبدن وحفظ للصحة من دون أن تتجاوز الحدود فتدخل في عنوان اللهو الباطل، أو تكون غير عقلائية كالملاكمة وسباق السيارات أو تحتوي على محرمات كالاختلاط بين الجنسين، أو الظهور بمظاهر تثير الشهوة والفتنة وتبرز الأجزاء المحرمة، ومن دون أن تحتوي على مراهنات وغيرها من المحرمات، ومن دون أن تساهم في تشييد هذه الآلهة المزيفة من أصنام الجاهلية الحديثة التي يسمونها بلا خجل من رب العباد (معبودة الجماهير).

فهذه الهوايات على صعيد البدن، وهناك هوايات على صعيد الفكر كقراءة الكتب والمجلات والصحف المفيدة، أو الاشتراك بشبكة الاتصالات العالمية، أو متابعة الأقراص الليزرية العلمية والثقافية والأخبار والأحداث واستخلاص التجارب منها وهكذا. ويمكن أن تكون الهوايات على الصعيد الاجتماعي كاللقاء مع الإخوة المؤمنين وصلة الرحم ونحوها.

الرابع: المشاركة الفعالة في الشعائر الدينية كصلوات الجماعة أو المجالس الحسينية أو الندوات أو المحاضرات أو المسابقات، والمواظبة على الحضور في المساجد، واللقاء بالعلماء ووكلائهم والاستفادة منهم، وزيارة العتبات المقدسة فإن العطلة فرصة مناسبة للتعويض عما فاتهم من هذه الأمور خلال السنة الدراسية.

ص: 277

الزواج والمشكلة الجنسية

اشارة

الزواج والمشكلة الجنسية(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

من أوضح سمات حالة الجاهلية –بحسب التعبير القرآني(2) - التي تتردى إليها البشرية كلما ابتعدت عن المنهج الإلهي، هو انتشار الفساد والانحلال الخلقي والعودة إلى الهمجية الحيوانية والانفلات من كل المعايير الإنسانية (وقد فصلت الكلام في ذلك في كتاب شكوى القرآن)(3) وقد بلغ أوجه في جاهلية القرن الحادي والعشرين، ساعدهم على ذلك الرقي المادي والتكنولوجي وتطور وسائل الإعلام وارتباط المعمورة كلها بشبكة الاتصالات العالمية (الانترنت)، فسخروا كل هذه الأدوات الجبارة بما تمتلك من فن وإثارة وانشداد وانجذاب لتمييع الأخلاق وتدمير أية مقاومة نفسية يمتلكها الإنسان لضبط الشهوات والميل إلى إشباعها.

ولم يسلم شعبنا من ذلك، فدخلوا إليه من كل باب ونافذة كالأفلام التلفزيونية - التي تجاوزت الحد في نشر الخلاعة والمجون - والصحف

ص: 278


1- محاضرة لسماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) ألقاها بمناسبة ذكرى زواج أمير المؤمنين من الزهراء (عليهما السلام) ألقيت بتأريخ 1/ذي الحجة/ 1423ه_ الموافق 3/ 2/ 2003 م على طلبة جامعة الصدر الدينية بعد منع سماحته من دخول مسجد الرأس الشريف.
2- [أفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أحسَنُ مِن اللهِ حُكماً لِقَومٍ يُوقِنُونَ] (المائدة:50).
3- راجع فصل (جاهلية اليوم) من كتاب (شكوى القرآن) وقد تقدم صفحة 118 من الجزء الأول من هذا الكتاب.

والمجلات والسينما والفيديو كاسيت والأقراص الليزرية، حتى أبسط الأشياء سخروها لذلك؛ فإذا فتحت غلاف قطعة حلوى وجدت صورة مثيرة وعلى علبة الشخاط كذلك، أما الموجود على أغلفة الألبسة النسائية وعلب الشامبو وغيرها فقد ملأت الأسواق وانتشرت الصور الفاضحة في كل مكان حتى في المدن المقدسة.أمام هذه الهجمة الكاسحة التي لا تبقي ولا تذر والتي لا يستطيع أن يصمد أمامها إلاَّ من عصم الله ماذا سيكون موقفنا؟

هل التفرج والاكتفاء بقول (لا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلي العظيم) ولعن الفساد والمفسدين؟

هذا لا يكفي بالتأكيد فقد نص القرآن الكريم على ذلك بقوله: [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً](الأنفال:25)، وإنما تكوي بنارها حتى الذين لم يباشروا الفساد لكنهم سكتوا عنه ولم يفعلوا ما يستطيعون لدفعه وحماية المجتمع منه، وقد اطلع الكثير منكم على الرواية التي قصّت خبر أحد الأنبياء الذي أوحي إليه ربه: إني سأعذب مائة ألف من أمتك: أربعون ألفاً من العاصين وستين ألفاً من المؤمنين، قال: يا رب قد علمنا وجه عقوبة العاصين فلماذا تعاقب المؤمنين؟ فأوحي إليه ربه: لأنهم سكتوا عنهم وداهنوهم وجاملوهم ولم ينكروا عليهم(1).

لذا كان من أعظم الفرائض الإلهية، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،

ص: 279


1- المحجّة البيضاء في تهذيب الإحياء للمولى محسن الكاشاني (قده) ج4 ، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وورد في الأحاديث ما يبين قيمة هذه الفريضة ودورها في إنشاء المجتمع الفاضل الكامل، فقال الإمام الباقر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في صفة هذه الفريضة الإلهية: (فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب وتحلّ المكاسب وترد المظالم وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر)(1)، فإذا كانت كل هذه البركات موجودة في هذه الفريضة فلماذا التقاعس عن أدائها؟! وإذا ضممنا إليها الآية الشريفة: [وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ](العصر:3) خرجنا بنتيجة هي تكليفنا الشرعي أمام الله ورسوله وأمير المؤمنين وإمام العصر والزمان وهي ألاَّ نقف مكتوفي الأيدي أمام حالات الانحراف والفساد بل ننكرها ونعمل على إزالتها ونتعاون على إيجاد الحلول الشرعية لها، وحينئذ يمكننا أن نطمع بشفاعة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأهل بيته الطاهرين: [وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ](التوبة:105).وقد ذكرنا في أكثر من مناسبة وجوب مقاطعة كل وسائل الانحراف والفساد التي اشرنا إليها آنفاً ومقاطعة كل من يتعامل بها ويروجها والتشهير به إن أصر على العناد والعصيان.

لكن الذي أريد أن اهتم ببيانه الآن هو التعاون على إيجاد وتوفير البديل الصالح انطلاقاً من الحكمة المشهورة: (أشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام ألف مرة)، والحل هو تشجيع الزواج المبكر فان فيه فوائد جمة:

ص: 280


1- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باب 1، ح6.

فوائد الزواج المبكر:

الفائدة الأولى: تحقيق الاستقرار النفسي والطمأنينة والسعادة، فان كلا من الجنسين يشعر أن كمال حياته بالاتصال بالجنس الآخر.

الفائدة الثانية: التكاثر والإنجاب مما يحفظ ذكر الشخص والنوع الإنساني عموماً، وتكثير المؤمنين الموحدين وجنود الإمام المنتظر (أرواحنا له الفداء)، فعن أبي جعفر الباقر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما يمنع المؤمن أن يتخذ أهلاً، لعل الله يرزقه نسمة تثقل الأرض ب_ لا اله إلاّ الله)(1).

الفائدة الثالثة: الشركة والتعاون على مسؤوليات الحياة، حيث يقتسمها الزوجان وأولادهم في حالة الكبر، فعلى الزوج العمل والكسب وقضاء حوائج الأسرة، وعلى الزوجة رعاية البيت والأسرة والزوج، وعندما يكبر الأولاد يعينونهما ويرفعان عن كاهلهما الكثير من المسؤوليات.

الفائدة الرابعة: تحصيل المكاسب الدنيوية والأخروية المترتبة عن الزواج.

فمن الدنيوية زيادة الرزق، فعن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (اتخذوا الأهل؛ فإنه أرزق لكم)(2).

ومن الأخروية الثواب، فعن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (ركعتان يصلّيهما المتزوج خير من سبعين ركعة يصليها أعزب)(3)، وعن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن رسول الله

ص: 281


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب مقدمات النكاح وآدابه، باب 1، ح3.
2- المصدر السابق، ح5.
3- المصدر السابق: باب2، ح1.

(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (من تزوج أحرز نصف دينه)(1)، وعن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (ما بني بناء في الإسلام أحب إلى الله عز وجل من التزويج)(2).ومن الفوائد الأخروية أيضاً: إدخال السرور على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بإحياء سنته وتكثير أمته، فعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: تزوجوا فإنّي مكاثر بكم الأمم غداً في القيامة، حتى أن السقط يجيء مُحْبَنْطِأً على باب الجنة، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: لا، حتى يدخل أبواي الجنة قبلي)(3).

الفائدة الخامسة: حماية النفس من الوقوع في الانحراف الجنسي وتجنيب المجتمع الكثير من الجرائم التي لو فتشت عنها لوجدت أن السبب هو الحرمان الجنسي.

الفائدة السادسة: اكتمال شخصية كل من الجنسين بالزواج، فإن من مقومات الشخصية الاجتماعية الزواج والعمل وغيرهما.

لهذه ولغيره مما يعلم الله سبحانه ورد التأكيد الشديد على الزواج والتبكير به، ففي الحديث: (من سعادة المرء أن لا تطمث ابنته في بيته)(4)، وعن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (تزوجوا؛ فإن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:

ص: 282


1- المصدر السابق، باب1، ح11.
2- المصدر السابق، ح4.
3- المصدر السابق: ح2.
4- المصدر السابق: باب 23، ح1.

من أحب أن يتبع سنتي فإن من سنتي التزويج)(1)، وقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (من أحب أن يلقى الله طاهراً فليلقه بزوجة)(2)، وعن أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) قال: جاء رجل إلى أبي (ع) فقال له: هل لك من زوجة؟ قال: لا، فقال أبي: ما أحبّ أن لي الدنيا وما فيها وأني بتُّ وليست لي زوجة، ثم قال: الركعتان يصليهما رجل متزوج أفضل من رجل أعزب يقوم ليله ويصوم نهاره، ثم أعطاه أبي سبعة دنانير، ثم قال: تزوج بهذه)(3) فترى الإمام (علیه السلام) يعطي من ماله ليعين غير القادرين على الزواج.أفبعد كل هذا أحتاج إلى أن أقول شيئاً لتشجيع الزواج والحث عليه؟

هذه هي سنة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهذا هو الموقف الشرعي، لكن الشيطان وأولياءه الذين يعلمون أن إشاعة الفوضى الجنسية أقوى وسائلهم لتدمير النظام الاجتماعي للشعوب، وبالتالي إركاعها وإخضاعها لأرادتهم، كما عبر البروفسور (ريتشارد كروسمان) المسؤول السابق لقسم الحرب النفسية في بريطانيا: (إن هدف هذه الحرب تحطيم أخلاق العدو وإرباك نظرته السياسية، ودفن جميع معتقداته ومُثُله التي يؤمن بها، والبدء بإعطائه الدروس الجديدة التي نودُّ إعطاءها له، ليصار بالتالي إلى أن يعتقد بما نعتقد به نحن)(4).

ص: 283


1- المصدر السابق، باب1، ح6.
2- المصدر السابق، ح15.
3- المصدر السابق، باب2، ح4.
4- تقدم في كتاب (نحن والغرب) من الجزء الأول من هذا المجلد صفحة 247 في فصل (ما هو تكليفنا في الصراع الحضاري).

والدروس الجديدة التي يعطونها هي بهيمية الجنس المتحرر من كل المعايير الإنسانية والأخلاقية التي سقطوا بها هم وأذلت أعناقهم، حتى إن مثل (كلينتون)(1) رئيس أكبر دولة في الغرب المادي قبل الرئيس الحالي يحاكم علناً بفضيحة جنسية! وأصبح من السهل الحصول على أهم أسرار الدولة بإرسال جاسوسة حسناء!!إنهم يريدون أن نسقط في الهاوية كما سقطوا [وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء](النساء:89) [وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ](البقرة:120) وقد صدّروا إلينا هذه البضاعة الكاسدة من خلال الأفلام والمسلسلات والصور التي ملأت منتوجاتهم الصناعية، أو باسم الرياضة تارة والفن أخرى أو ملكات الجمال أو عارضات الأزياء، فالأساليب متعددة ولكن النتيجة واحدة، وهي: (إرباك العدو ودفن جميع معتقداته) كما نقلنا لك قبل قليل عن قادتهم.

ولم يكتفوا بذلك بل وضعوا لنا أعرافاً وتقاليدَ ونظماً للحياة، فيجب على الزوج أن يفعل كذا وكذا، مما يجعل من الصعب أن يحظى كل جنس بالجنس الآخر بالطريقة المشروعة، ليسدّوا عليه منافذ الحلال ويسقط رغم إرادته في الحرام الشنيع.

كل هذا ونحن مطيعون تابعون لهم قد خدعتنا تكنولوجيتهم، ولم نستطع التفريق بين أخلاقهم وعلمهم حتى نأخذ الحسن منهم ونترك لهم قبائحهم.

وقد آن الأوان أن نعود إلى الله تبارك وتعالى، وإلى إسلامنا الذي أنزله الله

ص: 284


1- بيل كلنتون: رئيس الولايات المتحدة الأمريكية لدورتين من 1992-2000.

تبارك وتعالى رحمة للإنسانية وشفاء لأمراضها ودواء لعللها [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ](الأنبياء:107)، وإذا كنا من قبل مغرورين بهم فقد انكشفت الأوراق وبانت الحقائق وزيف ما يدّعون، وبدأوا هم يعانون من ويلات حضاراتهم المادية ويطالبون بإفشاء القيم الروحية ونشر تعاليم السماء بعد أن فشلت كل قوانينهم وإجراءاتهم في الحد من الأمراض الجسدية والأمراض الاجتماعية:أما الجسدية فعلى رأسها مرض نقص المناعة (الإيدز) الذي يفتك بحياة الملايين منهم، والشرق المسلم خالٍ منه بفضل سيادة شريعة الله.

وأما الأمراض الاجتماعية حيث انتشرت عندهم الجريمة والاغتصاب الجنسي وحوادث الانتحار، وقد دلت الإحصائيات الأخيرة في الولايات المتحدة ازدياد نسبة جرائم القتل والسطو المسلح والاغتصاب الجنسي بمقدار يزيد عن 50 في بعضها، فما هو الحل؟

وللإجابة أقول: إنني قد نبهت في كتاب (شكوى القرآن) إلى أن مما يستفاد من طريقة القرآن في الهداية والإصلاح على صعيد النفس والمجتمع: معالجة العلل والأسباب للانحراف وإعطاءه الأهمية أزيد من معالجة الانحراف نفسه، وهو بالضبط ما يفعله أطباء الجسد، فمن الخطأ أن تعالج أعراض المرض من دون أن تشخص العلة وتعطي الجرعة المناسبة لإزالتها.

وقد حللّت في مناسبة سابقة أسباب الانحراف الجنسي وشيوع الصحف والمجلات وأشرطة الفيديو والأقراص الليزرية التي تتضمن صوراً خلاعية وأصبح التعامل بها رائجاً سواء على نحو البيع والإجارة أو الاستعارة، وقلت إن

ص: 285

وراء ذلك عدة أسباب:

الانحراف الجنسي:

1_ ضعف الوازع الديني ونقص التربية الأخلاقية والعقائدية، وهؤلاء الذين يشيعون الفاحشة ويضعون العراقيل في طريق إقامة السنة الشريفة وتطبيق شريعة الله تبارك وتعالى في حياة الناس، وإن كانوا يسمون أنفسهم مسلمين إلا أنهم ليسوا كذلك حقيقة، وإلاَّ لانعكس على سلوكهم وتصرفاتهم [قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ](الحجرات:14)، وإنما هم يعبدون الشهوات وهوى النفس ويطيعون غرائزهم من دون الله تعالى: [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ](الجاثية:23)، فهل يعد مسلماً من يخير بين طاعة الله وطاعة الشيطان فيختار طاعة الشيطان؟!.

2_ الكساد الاقتصادي وقلة فرص العمل، مما حدا بالبعض في أن يفكر بأي طريقة للكسب وتحصيل المال ولو كان بطرق غير مشروعة، وهذه المجلات وأمثالها تدر عليهم أرباحاً كثيرة.

3_ ارتفاع تكاليف الزواج وكثرة معوقاته الاقتصادية والاجتماعية والنفسية(1)، مما أدى إلى تعطيل هذه السنة الشريفة، فراح الشباب يحاولون التنفيس عن كبتهم الجنسي وإشباع شهواتهم بشتى الطرق المتيسرة، ولو كانت محرمة،

ص: 286


1- سيأتي تفصيلها في يأتي إن شاء الله تعالى.

فشاعت العلاقات غير الشريفة والشذوذ الجنسي واستعمال العادة السرية واقتناء المجلات والروايات المثيرة للشهوة الجنسية والصور الخليعة للفاسقات.4_ التقصير في أداء وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى أصبح المجتمع كما وصفه الإمام الحسين(ع): (ألا ترون إلى الحق لا يعمل به والباطل لا يتناهى عنه)(1) فأصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وفي مقابل انسحاب صوت الحق والفضيلة تجد أدوات الرذيلة منتشرة وعلى مختلف الأصعدة، مما جعل الأعمال الشنيعة مستساغة ولا بأس فيها ولا يستنكرها أحد من المؤمنين فضلاً عن غيرهم.

5_ الفراغ الذي يعيشه الشباب نتيجة فقدان ما يمكن أن يملي عليه حياته ويأنس بممارسته، كالهوايات النافعة النزيهة أو الشعائر الدينية وبعض المراسيم الاجتماعية النظيفة.

هذه بعض الأسباب وراء شيوع الفاحشة والانحراف الجنسي والتي تعمل على تغذيتها أيدٍ خبيثة لا تريد الخير للمجتمع، وسخّرت لذلك أدوات عديدة،

ص: 287


1- من كلام الإمام الحسين (عليه السلام) لأصحابه حينما لقيه الحر بن يزيد الرياحي حيث جمع الإمام (عليه السلام) أصحابه وقام فيهم خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه وذكر جده فصلى عليه، ثم قال: إنه قد نزل من الأمر ما قد ترون وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها.. ولم تبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش كالراعي الوبيل، ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به وإلى الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقاً فإني لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً. (منتهى الآمال: ج1، الفصل السابع).

فماذا علينا أن نفعل؟ هل نكتفي بسب وشتم ولعن من يقف وراء ذلك وكفى الله المؤمنين القتال ونلوم الزمان والدنيا على الحال الذي آلت إليه؟ أم نقف بحزم وشجاعة وتجرد من الأنانية وبكل عطف وحب ورحمة لنمد يد العون إلى الشخص المنحرف اليائس المسكين حتى ننقذه من مخالب الشر التي مزقت أعصابه ونكدت عيشه وسلبت راحته وطمأنينته وتركته عرضة للأمراض الروحية والنفسية والاجتماعية؟.وإن الحلول تبدو قريبة منا ما دمنا قد شخصنا مناشئ العلة والداء، ومن تلك الحلول:

1_ اهتمام الخطباء وأئمة المساجد وطلاب الحوزة الشريفة وكل المثقفين والواعين المخلصين بتربية المجتمع أخلاقياً وعقائدياً، حتى يعيشوا مع الله تبارك وتعالى في كل تفاصيل حياتهم، ومحاولة سد كل نقص في هذا المجال وتوفير الكتب والنشرات التي تبني ذات المؤمن وتحصنه، وتبصير الناس بأخطاء هذه المنكرات وقبيح آثارها الصحية والنفسية والاجتماعية والدينية، وتشجيع سبيل المعروف والترغيب فيه، ونشر الأحاديث الشريفة التي تحث عليه، وها هي الولايات المتحدة منبع الشر والرذيلة بعد أن عجزت عن مكافحة الأمراض الناشئة من الممارسات الجنسية غير المشروعة وعلى رأسها (الإيدز) أعلنت أن أفضل علاج له هو بث التعاليم الأخلاقية والروحية وهو إحياء الشعور الديني في مواطنيها.

2_ تعاون الجميع على تشجيع الزواج وتذليل صعوباته، فيشارك أولياء الأمور بتخفيف المهور وتكاليف الزواج والاكتفاء بشروط الزواج التي جعلها

ص: 288

رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وهي الدين والعقل أي حسن التصرف وطيب المعاشرة، فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (إذا رضيتم من الرجل عقله ودينه فزوجوه، إلاَّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)(1)، وعدم الاكتراث بالتقاليد والأعراف والضغوط الاجتماعية التي زرعها أولياء الشيطان لتعطيل هذه السنة المباركة، وعلى الحوزة الشريفة أن تساهم بما تستطيع في دعم مشاريع الزواج، وعلى جميع أهل المعروف السعي بالجمع بين المؤمنين والمؤمنات على كتاب الله وسنة رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، ففي الحديث: (أفضل الشفاعات أن يشفع بين اثنين في نكاح حتى يجمع شملهما)(2)، فلتتظافر كل هذه الجهود لتشييد كيان الأسرة المؤمنة التي هي نواة المجتمع الإسلامي الصالح المؤهل لنصرة الإمام (عجل الله فرجه) واحتضان دولته المباركة، وفي الحديث: (ما بني بناء في الإسلام أحب إلى الله تعالى من التزويج)(3).3_ على التجّار وأصحاب الأموال والمتمكنين مادياً توفير فرص العمل بأي صيغة مناسبة، كالمضاربة وإنشاء المصانع والمعامل وورش الحرف والمحال التجارية، وأن يفكروا بتحريك عجلة الاقتصاد للمجتمع، وتشغيل الأيدي العاملة حتى يجدوا لقمة العيش ويكتفون اقتصادياً وتستقر حياتهم أكثر من تفكيرهم بزيادة مدخولهم المادي وثرائهم الفاحش، بحيث لو عرض عليهم - أي أصحاب الأموال – مشروعان؛ أحدهما كثير الربح ولا

ص: 289


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب مقدمات النكاح وآدابه، باب 28، ح1.
2- المصدر السابق، باب12، ح1.
3- المصدر السابق، باب1، ح4.

يحتاج لأيدٍ عاملة، والثاني أقل منه ربحاً إلاّ أنه يشغل أيدي عاملة أكثر، فعليه اختيار الثاني ولا يجعل روح الأنانية تسوده فيزداد ثراؤه على حساب عدد من الجياع، فكيف يهنأ بالعيش وحوله (من لا عهد له بالشبع ولا طمع له بالقرص)(1) فضلاً عن غيره كما يصفهم أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، بينما إذا وفر فرصة عمل واحدة انطبق عليه الحديث: (من فرَّج عن مؤمن كربته فرج الله عن قلبه يوم القيامة)(2).4_ تكثير البدائل التي تشغل حياة الإنسان وتملأ فراغه، كإقامة الشعائر الدينية والمجالس الحسينية والحث على الحضور في المساجد والمشاركة في المناسبات الدينية وإقامة المنتديات والمسابقات والمحاضرات الثقافية والعلمية وتبادل اللقاءات والزيارات مع المؤمنين وتشجيع السفرات الجماعية لزيارة العتبات المقدسة أو للترفيه والنزهة وممارسة الرياضات النزيهة والشريفة التي تسلي النفس وتزيل الهم وتقوي العلاقات وتبادل الكتب والإصدارات النافعة، وإذا تعسّر شراؤها فيمكن اشتراك مجموعة بشراء الكتب تدريجياً حتى تتكون مكتبة ملكاً للجميع.

فهذه عدة فقرات وأعمال اجتماعية أجدكم جميعاً مسؤولين عن تنفيذها، وأخص بالمسؤولية طلبة الحوزة الشريفة ووكلاء المرجعية، فليعمل كل منهم سجلاً يكتب فيه هذه الوظائف ويحاسب نفسه باستمرار على مقدار ما أدى

ص: 290


1- نهج البلاغة: ج3، من كتاب أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وهو عامله على البصرة.
2- الكافي: 2/ 2006.

منها، والمجتمع رقيب عليه فيتابع عليه قيامه بالمسؤولية وأداءه الرسالة الملقاة على عاتقه، ومن دون هذه الرقابة المتبادلة لا نستطيع أن نتعامل ونسير في طريق رضا الله تبارك وتعالى ونصرة الإمام الموعود (عجل الله فرجه)، قال تعالى: [وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ](العصر:3)، وقال تعالى: [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ](التوبة:71)، وفي الحديث الشريف: (المؤمنون كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)(1)، وهكذا المؤمنون إذا مرَّ أحد بضائقة أو مشكلة أو احتاج إلى شيء فعلى الجميع أن يبادروا إلى مساعدته وقضاء حاجته. وبعد هذا الطرح العام لمشكلة الفساد الأخلاقي والانحراف الجنسي أريد أن أتناول قضية محددة تهدد كياننا الاجتماعي والديني وتنذر بالخطر، ألا وهي العزوف القهري أو الاختياري عن الزواج، ولو أجرينا دراسة إحصائية لعدد من الشباب والشابات غير المتزوجين وهم في سن الزواج لكانت النتائج مثيرة للرعب، فأين أنتم أيها الغيورون على دين الله وسنة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) القائل: (النكاح سنتي، فمن رغب عن سنتي فليس مني)(2)، ألم تسمعوا بهذا الحديث الشريف أنه يؤتى يوم القيامة بأناس لهم أعمال مثل الجبال تزفها الملائكة، فيأمر الله بهم إلى جهنم، فيقال له: لِمَ ذلك؟ فيقول تبارك وتعالى: إنهم كانوا لا يغضبون لي عندما أعصى. فاغضبوا لله أيها المؤمنون، واعملوا ما بوسعكم لإصلاح مجتمعكم وحمايته من الانحراف.

ص: 291


1- بحار الأنوار:20/ 142.
2- بحار الأنوار:22/ 124.

وأنقل لكم نتائج هذه الإحصائية التي أجراها شخص غيور على عينات عشوائية في جامعة البصرة ومستشفى أبي الخصيب وفي أسرته وبعض أقربائه لتطلعوا على حجم الكارثة. ففي الدائرة القانونية في جامعة البصرة توجد (20) من أصل (25) امرأة غير متزوجة فوق سن (25) سنة.

وفي مستشفى أبي الخصيب (19) امرأة فوق سن (24) سنة كلهن غير متزوجات، وفي شعبة الإحصاء (5) من (5)، وفي شعبة المذخر (3) من (3)، وفي شعبة الصيدلة (4) من (5)، وفي شعبة الحسابات (3) من (4).

أما في الجامعة، ففي المرحلة الرابعة توجد اثنتان فقط متزوجات من أصل (180) لسنة 2001 وعمر المرحلة الرابعة هو (22) سنة على الأقل.

أما في البيوت، فلا يخلو بيت من امرأة تصل إلى العشرين بدون زواج. أما على صعيد الذكور فأصبح من المألوف أن تجد عدداً من الشباب في كل بيت تجاوز سن الخامسة والعشرين وهم بلا زواج.

فما هي أسباب هذه المشكلة الاجتماعية التي يتألم لها قلب الإمام عجل الله تعالى فرجه ويعتصر حرقةً وكيف نعالجها؟

وأعرض بين أيديكم بعض ما خطر بذهني القاصر من أفكار، عسى أن تكون فاتحة خير لكم لتنطلقوا منها نحو أفكار جديدة والمساهمة في تطبيقها:

ص: 292

معوقات الزواج المبكر:

المانع الأول: الاقتصادي، فإن المجتمع يمرُّ بحصارٍ(1) جائر وعدوان ظالم وأصبح تدبير الضروريات كالغذاء والدواء أمراً عسيراً فضلاً عن غيره، كما أن فرص العمل قليلة بسبب توقف الكثير من النشاطات الاقتصادية، فازداد عدد العاطلين عن العمل أو الذين لا يفي مردودهم المادي بسدِّ احتياجاتهم مما يسمى بالبطالة المقنعة، وهذا كله صحيح وواقع لا يمكن إنكاره، ولكن يمكن معالجته بعدة أمور:

الأمر الأول: إنشاء صندوق خيري في كل مدينة ومنطقة، ولنطلق عليه اسم صندوق (الزواج رحمة)(2) نظير ما هو متداول عند العشائر للصرف على الفواتح وديات القتل وشؤون أخرى، ونظير الصندوق الذي تخصص وارداته لشعائر الحسين (علیه السلام) وغيرها، ويمكن وضع الضوابط التالية للصندوق:

1 – يشرف عليه وكيل المرجعية في تلك المدينة وينضم إليه بعض الوجهاء المتدينين.

2 – يتكفل الصندوق بتأمين كل مستلزمات الزواج من أخشاب وملابس وحلي ذهبية وغيرها، ولكن بالمعروف والمتوسط.

ص: 293


1- الحصار الشامل الذي فُرض على العراق بقرارات من مجلس الأمن الدولي بعد غزو صدام للكويت عام 1990.
2- أسس سماحة الشيخ (دام ظله) هذا الصندوق وموّله وأنشأ مصنعاً في بغداد لتوفير غرف النوم للراغبين في الزواج، واعتمد وكلاء له في عدة محافظات، مما ساهم في تزويج الكثير من الشباب بفضل الله تبارك وتعالى.

3 – يتفق المشرفون عليه مع عدد من التجار وأهل الحرف والمهن كالنجار والصائغ وبائع الأقمشة وبعض الجمعيات التعاونية والاجتماعية لتوفير مستلزمات الزواج بصيغة معينة لتسديد الأموال بأسعار مدعومة.

4 – يتم تمويل الصندوق من الحقوق الشرعية التي تصل إلى الوكيل، أو تقدمه الحوزة الشريفة لأجل هذا المشروع، أو من تبرعات المحسنين الغيورين على الدين والمجتمع، ومن اشتراكات الشباب أو أولياء أمورهم الراغبين في الاستفادة من الصندوق ويلاحظ في مقداره أن يكون بسيطاً ك_(5) آلاف دينار شهرياً.

5 – يكون المبلغ الذي يصرفه الصندوق قرضاً على الشاب المستفيد منه، يسدده بأقساط شهرية مريحة على مدى (15 – 20) شهراً، ويكون أول قسطين منه هدية لزواجه، وقسط آخر عندما يرزق بأول مولود، وتكون الاشتراكات التي دفعها بمثابة أقساط قد سددها مسبقاً.

الأمر الثاني: التزام الناس بدفع ما بذممهم من حقوق شرعية، فإنها كافية لسد احتياجات المجتمع، وقد ورد عن الأئمة أن الناس لو دفعوا ما عليهم من حقوق شرعية لما بقي فقير، هذا غير الحث الشديد على الإنفاق المستحب، وقد بحث الموضوع بشكل تفصيلي في كتاب (حبس الحقوق الشرعية من الكبائر)(1).

ص: 294


1- وهو السابع من سلسلة (نحو مجتمع نظيف) قام بإعداده وتقديمه أحد طلبة الحوزة العلمية الشريفة، ويشمل نص المحاضرة التي ألقاها الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) والتي تمثل الشكوى الثانيةللإمام(عج)بعنوان(حبس الحقوق الشرعية من الكبائر). مضافاً إليها الملاحق التالية:

الأمر الثالث: أن يفكر أصحاب رؤوس الأموال بإيجاد فرص عمل للعاطلين والمساهمة في مشاريع اقتصادية تحرك الناس وتؤدي إلى معالجة وضعهم الاقتصادي المتردي وقد تقدمت الإشارة إليه.

الأمر الرابع: تقليل المهور والاكتفاء بضروريات الحياة، فليس الزواج عملية تجارية مربحة حتى تستغلّ أسوأ استغلال، وقد جعلت الأحاديث من بركة المرأة قلة مهرها، ومن شؤمها غلاء مهرها، وقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (أفضل نساء أمتي أصبحهن وجهاً وأقلهن مهراً)(1).

المانع الثاني: الاجتماعي، فقد تبنت بعض شرائح المجتمع أعرافاً وتقاليدَ وأحكاماً بعيدة عن الشريعة:

فمنها: أن الكثير من العلويين لا يزوجون لغير العلوي(2)، بل لا يزوجون للعلوي من غير عشيرتهم حتى لو أدى ذلك إلى بقاء علويات لا يحصى عددهن بلا زواج، وفي بيت توجد (9) علويات تجاوزن عمر الزواج بقينَ عوانس وحُرمنَ من نيل حقّهن في الحياة الذي مَنَّ الله به على عباده، فجعل الزواج من آياته لما فيه من رحمة ومودة وسكن وسعادة وطمأنينة وذرية وهم

ص: 295


1- مرآة الكمال للمامقاني: ج2،نقلاً عن التهذيب: 7، ب43.
2- راجع ظواهر اجتماعية منحرفة ج3 وهي سلسلة تعالج عدة ظواهر منحرفة ، وستأتي في هذا المجلد بإذن الله تعالى.

زينة الحياة الدنيا، فلماذا هذا العرف القاسي الجائر؟ ومن أين أخذه هؤلاء الذين يفتخرون بالانتساب إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهو نفسه حارب هذه الفكرة الجاهلية حيث زوج ابنة عمه ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب للمقداد بن الأسود؟ يقول الإمام الصادق (علیه السلام) في علة ذلك: (لتتضع المناكح ولتتأسوا برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، ولتعلموا أن أكرمكم عند الله أتقاكم، وكان الزبير أخا عبد الله وأبي طالب لأبيهما وأمهما)(1)، وقال الإمام الصادق (علیه السلام) في الرد على هذه العادة: (أتتكافأ دماؤكم ولا تتكافأ فروجكم)(2)، وقد فصلت الكلام عن الموضوع في كتاب (ظواهر اجتماعية منحرفة ج3).ومنها: ما يصطلح عليه عند العشائر بالنهوة؛ فإن المرأة إذا (نهى) عليها أحد أولاد عمها لم يجز لأحد أن يتقدم لها، وكثيراً ما يكون الدافع لهذه النهوة هو الإضرار بها وبأهلها، أو لمجرد التباهي والرياء، أو لإرغام أنف المرأة وإذلالها، وإلا فهو لا يريد الزواج منها أو هي لا تريد الزواج منه، وتبقى المرأة معطلة لا يقدم عليها أحد، وقد تهرب مع رجل آخر بعد أن تعجز عن الصبر على مثل هذه الحالة مما يسمى ب_ (النهيبة)، ويكون حكمها القتل، أما ابن عمها فيتزوج من يشاء من النساء، فمن أين جاءت هذه الأحكام القاسية؟ وما هي ولاية ابن العم أو أي واحد آخر على المرأة حتى يمنعها من التزويج بغيره؟ أليست هي إنسانة كالرجل لها مشاعرها وأحاسيسها ورغباتها ولها الحق الكامل في اختيار شريك حياتها المناسب؟ فإلى أين أنتم سائرون يا من تسمون أنفسكم مسلمين؟

ص: 296


1- بحار الأنوار: 22/ 265.
2- بحار الأنوار:31/ 36.

ومنها: ما جرت عليه بعض الأعراف في الزواج، فلا بد أن يوفر الشاب غرفة أخشاب من الموديل الفلاني وقطع ذهبية بكذا أوصاف، وأن يعمل وليمة ضخمة وحفلة للزفاف وبيت مستقل ووو... فيرى الشاب أن من الخير له أن يكبت شهوته ويدفن رغبته في الارتباط بالجنس الآخر في أعماق نفسه، لعدم قدرته على مواكبة المجتمع في هذه المطالب! فهل نزل قرآن بهذه الالتزامات التي تثقل كاهل الجميع، اقرأوا التأريخ وانظروا ماذا كان أثاث بيت فاطمة سيدة نساء العالمين وابنة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سيد الخلق أجمعين وزوجة أمير المؤمنين سيد الأوصياء، هل كان غير أشياء بسيطة(1)؟ وقد حاولت النساء استفزازها وإثارتها إلاَّ أنها كانت أكبر من أن تهتم بالقشور الدنيوية، وإنَّما المهم أن تحظى بالزوج الكفوء القادر على إسعادها والتعاون معها على طاعة الله تعالى وكفاية شؤونها، أما هذه المطالب الدنيوية فلا توفر سعادة أبداً، فتأسوا

ص: 297


1- سيرة الأئمة (عليهم السلام) لهاشم معروف الحسني: ج1، حديث زواجها (عليها السلام) من الإمام علي (عليه السلام)، وكذلك نفحات من السيرة حيث جاء فيه (تحت عنوان الزواج الفريد) ما نصه: (لقد زوج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاطمة بمهر متواضع وأثث بيتها بما يعادل هذا المهر لتعرف الأجيال فناء المادة وتصاغر شأنها أمام القيم والمعاني الإنسانية الرفيعة، تسلم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دراهم المهر الزهيد من علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأشرف بنفسه على تجهيز ابنته وأعد بيتها المتواضع في أثاثه ومحتواه العظيم في مجده ومقامه وأرسل (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى السوق عدة من أصحابه لإعداد جهاز فاطمة (عليها السلام) وشراء ما يحتاجه بيتها الجديد الذي شمل الفرش والأغطية البسيطة، وعدداً من حاجيات البيت والطبخ الأساسية مع حلة من الملبس وبعض الطيب).

جميعاً بهؤلاء الكرام [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ](الأحزاب:21). ومنها: ألاَّ تكون متزوجة سابقاً، أو أنها أكبر منه سناً، فإذا أقدم الشاب على أرملة أو مطلقة فكأنه جنى ذنباً لا يغتفر، حتى وإن لم يكن مدخولاً بها أو كانت صغيرة السن أو مظلومة، هذا ونحن نعلم أن أكثر زوجات الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ثيبات ومتقدمات بالسن، فكأن المتزوجة سابقاً كتب عليها ألاَّ تذوق طعم الزواج مرة أخرى، فأين أنتم يا طلبة الحوزة ويا مثقفون من إصلاح هذه الأفكار الظالمة والأوضاع الفاسدة؟

ومنها: كراهة تعدد الزوجات، وأن الزوجة يمكن أن تقبل الزنا من زوجها وتغفر له هذه الفاحشة ولا تقبل التزوج بثانية، وساعدت على ذلك القوانين الوضعية الأرضية البعيدة عن الشريعة، فإنها تحاسب الزوج إذا تزوج بثانية من دون إذن الأولى، ولا تعترض على اتخاذ الخدينة، ومن المضحك المبكي ما جرى في أحد المحاكم التونسية (الإسلامية) أنّ زوجة رفعت دعوى ضد زوجها أنه تزوج بثانية دون أخذ موافقتها، فحاول الدفاع عن نفسه بأنها خدينة وليست زوجة ليتخلص من العقاب، لكن دفاعه رُفِضَ لأنه إنسان محافظ ومعروف بالتدين فلا يتصور في حقه هذا.

رغم أن تعدد الزوجات تشريع إلهي لحل مشكلات عديدة منها:

1 – حالات زيادة نسبة النساء غير المتزوجات في أزمنة الحروب أو هجرة الشباب إلى خارج البلاد، كما يعيشه بلدنا؛ حيث يعيش في الغربة أربعة

ص: 298

ملايين عراقي(1) أكثرهم من الشباب. 2 – كثرة الأرامل والمطلقات ممن تقل فرصة حصول شاب غير متزوج.

3 – عدم اكتفاء الزوج جنسياً بزوجة واحدة لكثرة الأعذار والموانع في الزوجة، كالحيض والحمل والإنجاب ونحوها. ولتعلم النساء اللواتي يرفضن الزوجة الثانية إنهن أول ضحية لهذا الخروج عما أباحه الله تعالى، لأنهن سيحتجنَ إلى زوج وإن كان متزوجاً بغيرهن، فليتقين الله وليسلمن له أمره.

المانع الثالث: النفسي، ويمكن ذكر عدة شواهد على ذلك:

1- إن كثيراً من الشباب يعزف عن الزواج لأنه لم يجد فتاة أحلامه التي تصلح للارتباط به، حيث رسم لها صورة مثالية، فهي شقراء بيضاء ممشوقة القوام ذات عينين زرقاوين وتحمل شهادة عالية ومتدينة وذات أخلاق عالية ومن أسرة وجيهة اجتماعياً وثرية وصغيرة السن، بحيث قد تخطب أصغر البنات مع وجود الأكبر منها، الجامعة للشروط والمناسبة لعمر الزوج وغيرها، فلا يجد من تحقق هذه الأوصاف؛ لأن الشيء إذا كثرت قيوده عز وجوده كما يقولون، ويظل يبحث دون جدوى، وأحد أسباب حصول هذه الحالة لدى الشباب هي مشاهدتهم لصور (الحسناوات) كما يسمونها التي تأتينا من الغرب في الصحف والمجلات والتلفزيون، التي من آثارها السيئة ليس

ص: 299


1- كان سماحة الشيخ (دام ظله) يأخذ هذه الإحصائيات من نشرات الأخبار التي يستمع إليها، أما النظام الصدامي فكان لا يعترف بوجود مشاكل في البلاد ويعتبر مثل هذه التصريحات استفزازاً له وخروجاً على طاعته.

فقط إفساد الأخلاق وذهاب الغيرة والحياء، بل إفساد الأفكار لدى الشباب إذا امتلأت عينه من هذه الصور فسوف لا تقنعه أية امرأة، وبالنتيجة يعزف عن الزواج خشية أن يرتبط بامرأة لا تملأ عينه.فكونوا حذرين يا أحبائي من هذا الغزو الفكري والأخلاقي، وابحثوا عن الصفات التي أرادها الله لكم وهي العفة والحياء والتدين والأصل الطيب والأخلاق الحسنة، أما الجمال فهو متوفر تلقائياً لحاجة كل جنس إلى الجنس الآخر، كما يروى أن شخصاً أكل طعاماً لذيذاً فقال: ما أطيب هذا الطعام! فقال له حكيم: إنما طيبته العافية، وكذلك الحاجة الجنسية الملحة جعلت الطرف الآخر لذيذاً وهذه الحاجة تقضى بما دون شروط كثيرة، وتجد هذه الأفكار في تراث أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، فعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): إذا نظر أحدكم إلى المرأة الحسناء فليأتِ أهله؛ فإن الذي معها مثل الذي مع تلك(1)، وعن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): إن أبصار هذه الفحول طوامح، وإن ذلك سبب هبابها، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله فإنما هي امرأة كامرأة(2).

فهذه المشكلة لا تخص العزاب، وإنما هي موجودة عند المتزوجين، فإنهم إذا تطلعوا إلى غير زوجاتهم صرفوا أعينهم عنهن، وحينئذٍ تقع عدة نتائج وخيمة إما المشاكل بين الزوجين أو الطلاق أو الوقوع في الزنا من كلا الطرفين والعياذ بالله وغيرها. لذا سد الشارع المقدس هذا الباب للفساد ومنع النظر

ص: 300


1- المحجة البيضاء: ج3، كتاب آداب النكاح.
2- نهج البلاغة: الجزء الرابع، من كلماته (عليه السلام) الكلمة 420.

للأجنبية، وأمر كلاً من الزوجين أن يعطي حق الطرف الآخر، وأي تقصير فيه يمكن أن يؤدي إلى انحراف جنسي وخيم. وقد بلغني أن عدداً من النساء التجأن إلى تصرفات غير شرعية بسبب إعراض الزوج وإهماله لحق زوجته من الاستمتاع الجنسي. وإنما وجهت خطابي إلى الرجال لأن بيدهم زمام المبادرة في الزواج، وإلا فإن المانع قد يقع من طرف النساء أيضاً؛ فإنهن يشترطن الكثير من الصفات في الزوج مما يجعلها ترفض عدداً من الخطاب حتى يتقدم بها العمر فلا تتاح لها هذه الفرصة، رغم أن بعض أسباب الرفض غير مقنعة، فإن المهم في الرجل أن يكون متديناً عاقلاً في تصرفاته، حسن العشرة قادر على إعالة زوجته، فقد كتب علي بن أسباط إلى أبي جعفر (علیه السلام) في أمر بناته وأنه لا يجد أحداً مثله، فكتب إليه أبو جعفر (علیه السلام): فهمت ما ذكرت من أمر بناتك، وإنك لا تجد أحداً مثلك، فلا تنظر في ذلك رحمك الله، فإن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلاَّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير(1).

ولمزيد من الإطلاع على صفات الزوج الصالح والزوجة الصالحة وآداب الزواج راجع الجزء السادس من كتاب (ما وراء الفقه) لسيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره).

2 – كثرة المشاكل الزوجية وكثرة حالات الطلاق أدى إلى شعور الشباب بأن

ص: 301


1- تقدم ذكر مصدره هنا.

ترك الزواج أقرب لراحة البال، فإذا أردنا تشجيع الزواج فعلينا أن نسعى لدراسة مناشئ المشاكل بين الأزواج وحلها – راجع دراسة تحليلية عن الموضوع بعنوان (المشاكل الزوجية.. أسباب وعلاج) – وعلى أي حال لا ينبغي أن يكون فشل أحد في تجربته مانعاً لغيره من خوض التجربة، كالتجارة؛ فإن خسارة تاجر لا تمنع من أن يعيد نفس النشاط من جديد فضلاً عن غيره. 3 – الخوف من المستقبل، فأم الزوج تخشى أن تخطفه الزوجة، وأبو الزوج يخاف من إضافة عبء جديد إلى كاهله، والشاب يخاف من المسؤولية الجديدة حيث يصبح رباً لأسرة ومسؤولاً عنها بعد أن كان خالياً منها، والشابة تخشى من عدم قدرتها على إدارة بيت الزوجية وعدم نجاحها في كسب ود زوجها ورضا أهله، فلا بد أن يعالج هذا بتعزيز الثقة بالنفس، وأن يعرف كل طرف حقوقه وواجباته حتى لا يتجاوز أحد على حق أحد، والتخطيط للمستقبل واشتراك الجميع في ترتيبه.

4 – ما تعرضه الأفلام والمسلسلات من خيانات زوجية وصعوبة تحصيل السعادة والوئام والوفاء والحب المتبادل سبب حصول انكماش في الرغبة في الزواج ونفور منه؛ فإنهم يصورون غالباً الحياة الزوجية كمصدر للمتاعب والآلام.

5 – ومن ذلك ما تصوره نفس الأفلام والمسلسلات من حلاوة الحب ولذة العلاقات الجنسية خارج رباط الزوجية، وليس فيها مؤونة ولا مسؤولية، فيشعر الشباب أن بإمكانهم الاكتفاء بهذه العلاقات وعدم الحاجة إلى

ص: 302

الزواج، وكأن الهدف من الزواج هو قضاء الشهوة الحيوانية فقط، وهم بذلك يغالطون الفطرة السليمة ويخرجون عن الإطار الإنساني الذي يميز بوضوح بين رباط الزوجية والعلاقات غير المشروعة. 6 – قناعة كثير من الشباب بأن مستقبلهم الزاهر يتحقق بمغادرة البلد والهجرة إلى غيره، والزواج عائق عن هذا المشروع، وقد عالجنا موضوع السفر إلى خارج البلاد في الحلقة الثانية من (ظواهر اجتماعية منحرفة) و(فقه الجامعات)(1).

7 – معارضة النساء أشد المعارضة لتعدد الزوجات رغم أنه شيء أباحه الله تبارك وتعالى كحل لكثير من الحالات، وأحدها ما يمر به بلدنا من كثرة العوانس وقلة الشباب بسبب هجرتهم، والكوارث التي مرَّ بها البلد وعدم القدرة لدى الموجودين، فهذا التيار العارم من النساء ضد التشريع الإلهي كان أول ضحية له النساء أنفسهن، فبقين بلا زواج، وإن الكثير من الزوجات لا تعترض على زوجها إذا زنى بقدر اعتراضها عليه إذا تزوج ثانية، ألا ترى هذه المفارقة؟!.

ص: 303


1- وهو كتاب مكون من مقدمة وسبعة فصول، الأول يدور حول المقارنة بين ماضي الجامعة وحاضرها وأجوبة لأسئلة تدور حول التحديات الفكرية والاجتماعية والأخلاقية، والفصل الثاني يدور حول أساتذة الجامعات وفيه نصائح مهمة لهم، والثالث يدور حول الانتماء إلى الجامعة وهدف الطالب الجامعي، والفصل الرابع موضوعه الاختلاط بين الجنسين، والخامس كشف النقاب عن بعض التعاملات المالية والاجتماعية والتصرفات العامة داخل الجامعة، أما السادس فقد اختص بالحجاب الإسلامي لطالبة الجامعة، والفصل السابع يتعلق بالسفر خارج البلاد.

هذه جملة من الأفكار قلتها باختصار، وهي باب ينفتح من ألف باب، فتمعنوا فيها واعملوا على تحقيقها، وأول من يتحمل المسؤولية طلاب الحوزة الشريفة ووكلاء المرجعية وبتعاون الواعين المخلصين الغيورين، ويحاسب المقصر في ذلك، فإن الإمام عجل الله تعالى فرجه يعيش مرارة هذا الوضع المزري ويشارك ألم كل فتاة أو شاب حرموا من بركة هذا الرباط المقدس ورحمته ونعمته وسعادته وطمأنينته بسبب هذه الأفكار أو الأعراف أو التصرفات الخاطئة أو تقصير المقصرين، وإنما حملت طلاب الحوزة ووكلاء المرجعية المسؤولية أكثر من غيرهم لأن عليهم الكثير، وألخصه بنقاط: 1-الدعم المالي لمشاريع الزواج وفق التفاصيل المتقدمة.

2-السعي للجمع بين المؤمنين والمؤمنات، ومن الخير أن تكون عند وكيل المرجعية إحصائية بعدد الشباب والشابات المؤهلين للزواج مع ذكر أوصافهم ومؤهلاتهم متأسين برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الذي لم تشغله أعباء الرسالة ومحنها عن تفقد رعيته، فينظر برقة ورحمة إلى جويبر وكان رجلاً قصيراً ودميماً محتاجاً عارياً وكان من قباح السودان ويقول له: يا جويبر، لو تزوجت امرأة فعففت بها فرجك وأعانتك على دنياك وآخرتك، فقال جويبر: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، من يرغب فيّ، فوالله ما من حسب ولا نسب ولا مال ولا جمال، فأية امرأة ترغب فيّ؟ فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): يا جويبر، الله قد وضع بالإسلام من كان في الجاهلية شريفاً، وشرف بالإسلام من كان في الجاهلية وضيعاً، وأعز بالإسلام من كان في الجاهلية ذليلاً، وأذهب بالإسلام ما كان من نخوة الجاهلية وتفاخرها بعشائرها وباسق

ص: 304

أنسابها، فالناس كلهم أبيضهم وأسودهم وقرشيهم وعربيهم وأعجميهم من آدم، وآدم خلقه الله من طين، وإن أحب الناس إلى الله أطوعهم له وأتقاهم، وما أعلم يا جويبر لأحد من المسلمين عليكَ اليوم فضلاً إلا لمن كان أتقى لله منك وأطوع، ثم قال له: انطلق يا جويبر إلى زياد بن لبيد، فإنه من أشرف بني بياضة حسباً فيهم، فقل له: إني رسول رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إليك، وهو يقول: زوج جويبراً بنتك الدلفاء، فزوجه زياد بعدئذٍ(1)، وقد تقدم الحديث الشريف: (أفضل الشفاعات أن يشفع بين اثنين في نكاح حتى يجمع شملهما)(2). 3-إصلاح ذات البين والتوسط في حل الخلافات، وتقريب وجهات النظر بين الزوجين وذويهم، قال علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): إني سمعت من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام(3).

4 – نشر الوعي الديني والأخلاقي، وإلفات النظر إلى أهمية الزواج واستحبابه شرعاً، وفضل المتزوجين بحيث أن صلاة المتزوج خير من سبعين صلاة لغير المتزوج، وكراهة غلاء المهور واستحباب تقليلها، والصفات المطلوبة في الزوج والزوجة، ومسؤولية أولياء الأمور تجاه هذه المسألة الاجتماعية، وغيرها، والتركيز كثيراً على ما تسببه الأفلام والمسلسلات من آثار سلبية

ص: 305


1- الكافي: 5/ 340.
2- تقدم ذكر مصدره في هذا الكتاب.
3- الكافي: ج7، باب صدقات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفاطمة والأئمة (عليهم السلام)، ح7.

نشير إلى بعضها باختصار: أ – الإثارة الجنسية، مما يؤدي إلى الكبت الجنسي وإشاعة الفاحشة.

ب – اختلال الموازين في التقييم والاختيار، حيث تركز على القشور كالثروة والجاه الاجتماعي واتباع أحدث الموديلات.

ج – تشجع التصرفات المنحرفة البعيدة عن الشرف والدين، وتنفر عن المبادئ والأخلاق، وتوجد إصدارات عديدة لتفصيل هذا الموضوع مثل: (احذر في بيتك شيطان) و (الآثار السلبية للأفلام والمسلسلات).

ولا أريد أن أُطيل وأتوسع بالتفاصيل، فإن عليّ إثارة الأفكار أمامكم وعليكم التأمل والتدبر في تفاصيلها والسعي إلى تطبيقها، وإني لمنتظر لأول من يقدّم لي تقريراً عمّا أنجز من خطوات تدخل السرور على قلب الإمام (عجل الله فرجه) وعلى المؤمنين والمؤمنات، وإن من أحب الأعمال إلى الله تعالى إدخال السرور على قلوب المؤمنين. فالشباب أمانة بيد الشابات، فلا تتركوهم تحت ضغط الحاجة الجنسية وإغراءات الباطل، والشابات أمانة في يد الشباب، فلا تتركوهن فريسة القلق والخوف من المستقبل إذا لم يحظين بزوج يكفل لهنَّ السعادة [وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ] (التوبة: 105). والله معكم ولن يتركم أعمالكم وهو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير.

ص: 306

الحوزة الشريفة تحذر من الوقوع في فخ الرياضة

اشارة

الحوزة الشريفة تحذر من الوقوع في فخ الرياضة(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

انطلاقاً من حرص الحوزة الدينية على مجتمعنا الحبيب من الوقوع في شباك الغرب الكافر الذي كان وما يزال يجدّ ويجتهد لاستنباط الحيل والمكائد من أجل صرف المجتمع عن الصراط المستقيم فيوهم المجتمع المسكين بعناوين مضللة ظاهرها الإثارة والمتعة وباطنها الخسة والدناءة والإلحاد, فالحوزة المجاهدة الناطقة وبعد علمها بحلول موسم مباريات كأس العالم كما هو دأبها برصد سلبيات المجتمع، وأخص بالذكر في هذا المجال سماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) شرعت ببيان هذه النقاط المهمة عن مشكلة اجتماعية ألا وهي الرياضة (معبودة الجماهير) هذا الصنم الذي سلب من الناس قلوبهم وعقولهم.

أسباب تمسك الغرب بالرياضة:

أسباب تمسك الغرب بالرياضة:(2)

1 __ إنهم فارغون من الوازع الأخلاقي والديني ومن الاعتقاد بالآخرة، وهم يودون قضاء وقت الفراغ بما هو مفرح ومؤنس، في حين أن الدين

ص: 307


1- بيان كتبه أحد فضلاء الحوزة بالاستفادة من توجيهات سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) وبعض ما ورد في كلمات وخطب السيد الشهيد الصدر الثاني (دام ظله)، وقد نُشر البيان صيف عام 2002 بمناسبة قرب إقامة بطولة كأس العالم بكرة القدم.
2- مستل من الخطبة الثانية للجمعة الثالثة عشرة للشهيد محمد الصدر (قدس سره).

والأخلاق لا يوجد فراغ في الوقت للمؤمن أصلاً، ولا وقت إلا وفيه طاعة لله سبحانه وتعالى, إلا إذا كان الفرد من الغافلين.2 __ الأرباح التي يحصلون عليها منها، وهم يحرصون أن يصل إليهم الدينار والدرهم بأي شكل وإن كان فيها دمار غيرهم، ونجدهم يعملون على أي ربح كالسرقة, فكثير من طبقات مجتمعهم تسرق, وشركات السرقة في أمريكا وإيطاليا كالنار على المنار.

3 __ إلهاء شعوبهم عن مشاكلهم ومظالمهم، لتلافي المظاهرات والاحتجاجات، وذلك بتكثير الملاهي والحانات والسينمات وأنواع الرياضة واللعب.

مضار الرياضة:

1 __ إلهاء المسلمين: عن واقعهم المعاش ومشاكلهم وترك الاحتجاج والمناقشة وخاصة التغافل عن البلاء الوارد علينا من جانب الغرب نفسه.

2 __ صدّ المسلمين عن دينهم: فإنها سبب لترك الصلاة والصيام واجتماع الجنسين بشكل غير مشروع، وإبراز الأعضاء وهكذا.. وهذا كله مما لا ترضاه الشريعة.

3 __ إسقاط أهمية الدين وأهدافه في نظرنا: وتحويله إلى هدف كرة قدم خزياً لنا وعاراً.

4 __ منع التكامل لأفراد المجتمع: لأن الفرد عندئذٍ يقضي الوقت كله أو أغلبه في لعب الرياضة أو التفرج عليها أو سماع أخبارها أو الذهاب إلى الملاعب أو السفر إليها، وبقي الوقت الباقي لديه يقضيه في ضرورات حياته وأسرته ولا يبقي له وقتاً آخر ليقضيه في تكامله العلمي والعقلي والديني والروحي،

ص: 308

وبهذا يخطط الغرب الكافر أن يكون الجهل والتدني هو الصفة العامة في العالم كله ليكونوا لقمة سائغة له ولأطماعه وأرباحه ولكبريائه.5 __ السفهية: إن الرياضة غير منتجة لا لبناء ولا للباس ولا لمصلحة اجتماعية ولا لأي شيء آخر.

6 __ تأييد للاستعمار والظلم: وإنها تأييد بخلاف المصلحة العامة، وإن الاستكبار إنما بذر بيننا هذه الأمور لأجل إبعاد الناس عن المصالح العامة وعن واقعهم ومشاكلهم حتى (يلهون ويستأنسون)(1).

7 __ لهو ولغو: الإسلام يرفض وسائل اللهو، ويحرم الكثير منها؛ لأنها تشغل القلب وتهدر الوقت الذي هو رأس مال الإنسان وقيمته، فبهذا الوقت يكتسب الصديقون مكان الصديقين، قال الرسول الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (يا ابن آدم إنما أنت أيامك)، فانظروا أيها المؤمنون كم تهدر الرياضة من الوقت، وكم حرمنا من صلاة الفجر بسبب السهر على المباريات، فأي كارثة أشد من هذه؟ وينبغي التفريق هنا بين اللهو المرفوض والتسلية والترويح عن النفس الذي هو أمر عقلائي وضروري للنفس لكي تستعيد نشاطها.

8 __ شغل القلب: القلب يتشبع بما يوضع فيه، والرياضة منهاج مرسوم ومخطط يشغل القلب عن كل أمر مهم، فبدل أن يخشع ويبكي من خشية الله يرتجف ويتحرك للعبة كرة القدم ويبقى مشغولاً بها لساعات من الزمن. ومن المؤسف أن ترى فريقاً لدولة مسلمة يذرف الدموع لأنه خسر مباراة

ص: 309


1- المصدر السابق.

لكرة القدم ولا تخرج من عينه دمعة واحدة ألماً وأسفاً على ما يصيب الإسلام والمسلمين من مخاطر وكوارث، فتحولت عواطفنا بعيدة عن الله تعالى.9 __ العنصرية: لا تزال هذه الحلبة السياسية الماكرة التي تلعب بهؤلاء الكرات وبأذهان الجماهير من ورائها، حيث تقسم الفرق حسب القارات لخلق العنصرية والتفرقة، ويعطون لقارة أوربا أضعاف ما لقارة آسيا وأفريقيا لمبرر ولآخر، ويخفون وراء ذلك مقصودهم الأساسي، وهو تركيز تفوق جنسهم على سائر الشعوب، وإشعار تلك الشعوب بالنقص وعقدة الحقارة تجاههم.

10 __ الإثارة الجنسية: كما في المشاهد الخليعة التي تعرض وخاصة في رياضة الجمباز والسباحة وحتى في كرة القدم، فإنهم يحولون توجيه الكاميرات نحو المجموعة التي تضم الجنسين من المتفرجين لتحفيز شبابنا على مثل هذا وتهوينه في نظرهم، وكذلك في حلبات الملاكمة فبين الجولتين يعرضون فتاة خليعة تدور في الحلبة حاملة رقم الجولة وهكذا..

11 __ إثارة المشاكل: فكثيراً ما تحدث النزاعات والخصومات بين الناس لأن النفس الأمارة بالسوء تريد الفوز ولو بأي ثمن وبأي أسلوب، وقد تصل إلى القتل والحروب كما حصل ذلك بين (السلفادور والهندوراس)، أضف إلى النزاعات التي تحدث داخل الأسرة، فالأب يريد الرياضة وباقي الأفراد يريدون غيرها، أو أن أحد الأولاد يميل إلى فريق والآخر إلى فريق آخر، مما يؤدي إلى حصول البغض والقطيعة بينهم وهذا مما يريده الغرب لنا.

ص: 310

حلول ممكنة:

1 __ الاستغناء عنها بجلسات عائلية ناجحة تستثمر توطيد العلاقة بين أفراد الأسرة، خصوصاً أن الانقطاع إلى الرياضة بدلا من الانقطاع إلى الله عامل أساس في تفكيك الروابط الأسرية، فكثرة متابعة الرياضة جعلت الفرد على معرفة دقيقة بأخبار الرياضيين تفوق بكثير معرفته بأخبار أسرته.

2 __ الاستعاضة عنها بقضاء الوقت بأمور مفيدة، كقراءة القرآن والكتب الاجتماعية النافعة من إصدارات الحوزة التي تعالج مشاكل المجتمع وتسعى إلى إصلاحه وتكامله، وسماع المحاضرات والأخبار والتزاور مع المؤمنين واللقاءات المثمرة النافعة.

3 __ الاستغناء عنها بعمل مسابقات علمية أو دينية بين أفراد الأسرة أو بين أفراد المجتمع في المساجد وغيرها، مما يؤدي إلى تحفز أفراد الأسرة والمجتمع عموماً على الاستزادة بالمعلومات للإجابة على الأسئلة من ناحية، ومن ناحية أخرى إيصال المعلومات إليهم بأسلوب شيق وممتع.

4 __ حصر الرياضة في أنواع الرياضة التي نحتاجها بحياتنا، فما هي فائدة سباق السيارات والملاكمة ونحوها من التوافه؟ لماذا لا نستبدل هذه الأنواع بأنواع نافعة؟ لماذا لا تدخل رياضة القتال للدفاع عن الأوطان وعن النفس في النوادي والهيئات الرياضية؟ لماذا لا تدخل رياضة التصنيع مثلاً بتعطيل المكائن الصناعية ومحاولة المهندسين إعادة تشغيلها في أوقات قصيرة وللعمال بكميات الإنتاج ونوعياته في مختلف الظروف.

5 __ لماذا تنحصر الحركة الرياضية بشعار (الرياضة للرياضة أو للتسلية) ولا

ص: 311

يرفع شعار (الرياضة للعمل أو الرياضة للنهوض بالشعوب)، فتشكل فرق رياضية عالمية من المهندسين والمهنيين والعمال، وتقام مبارياتها في دولة نامية لتنتج لها في شهر عشر أو خمس مشاريع تكون عاملاً للنهوض بها.6 __ رفع السبب الأساس الذي عن طريقه يتم إيصال سمومهم لنا ألا وهو التلفزيون (الشيطان).

7 __ ابتكار أساليب للترفيه والتسلية وهي نافعة بنفس الوقت، مثلاً بدل لعبة (الحية والدرج) المتعارفة نصنع(1) رقعة مثلها وننشر على بعض مربعاتها أسماء الخصال الحميدة والذميمة، فكل من يصل إلى مربع من القسم الأول يصعد؛ لأنها تؤدي إلى تكامله، ومن يصل إلى مربع من القسم الثاني ينزل، ويكون مقدار الصعود والنزول بحسب أهمية الخصلة، فالولاء لأهل البيت يصعد كثيراً، والرياء ينزل كثيراً وهكذا...

8 __ ممارسة الرياضة المفيدة لتربية البدن وللترفيه بانتظام ومن دون تجاوز على الحقوق والواجبات.

النصائح:

1 __ النصيحة الأكيدة لشبابنا الناهض الواعي أن يلتفت إلى مصالح نفسه ومجتمعه، ويسقط أهمية الرياضة والرياضيين عن نظر الاعتبار، ويخافوا الله تعالى؛ فإن هذه الدعايات والعنايات إنما هي مصيدة له لإدخاله في فخ

ص: 312


1- قدّم بعض الإخوة تصاميم لهذا المقترح لكن بعض الموانع حالت دون الطبع والنشر، ولا زالت الفكرة قائمة.

الشيطان، ويكون حب الرياضة إنما هو حب للمخططات الاستكبارية من حيث تعلم أو لا تعلم، ونكون قد أعنا الاستكبار الظالم الغاشم على أنفسنا ومكناه في بلادنا.2 __ اتقوا الله حق تقاته بالالتزام بطاعة الله والاهتمام بالأهداف الحقيقية للمجتمع وتربية النفس والآخرين تربية صالحة، وترك كل ما يرتبط بالشيطان والكفر والكافرين والابتعاد عنهم ابتعادنا عن الأجرب، فإنه يصد عن ذكر الله والآخرة: [فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ] (المائدة:91).

3 __ إن الحكم الشرعي لها هو الحرمة لما تتضمنه من نصرة وتأييد للباطل، والذي يقترفها أو يعين عليها فهو آثم بأي شكل من الأشكال.

4 __ لن أجيز الرياضة إلى أن أدخل التراب؛ لأنها على الإطلاق أوهام وخيالات فاسدة وسفيهة ليست أكثر من ذلك، حبيبي سلام الله على الأنعام التي لا تؤذي أحداً، وسلام الله على الوحوش التي تأكل الناس لجوعها، أما هم فيأكلون الناس بعد شبعهم لأجل ثرائهم ومصالحهم العجيبة الغريبة الباطلة(1).

5 __ كلنا عندما نسأل عن ما هو مذهبنا؟ نجيب وبكل ثقة جعفرية، وجعفر الصادق (علیه السلام) نفسه يقول: (ما شيعتنا إلا من عمل عملنا)، فهل أطعناهم وعملنا عملهم بمشاهدة الرياضة وترك المجتمع غارقاً بالظلم والفساد، لكي نسمي أنفسنا شيعة؟ ويقول (ع): (كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً لنا)، فهل

ص: 313


1- مستل من الخطبة الثانية للجمعة الثالثة عشرة للشهيد محمد الصدر (قدس سره).

نحن زين لهم ونحن غارقون في هذه الغفلة التي أدت بنا إلى هذا الحال من عدم الشعور بالمسؤولية والخضوع لأعدائنا وعدم الوقوف بوجوههم بمقاطعتهم في كل شيء؟.6 __ اعلم أن الرياضة مؤامرة لإلهاء الجماهير كما جاء في (بروتوكولات حكماء صهيون) البروتوكول 13: (الفن والرياضة وما إليهما هذه المتع الجديدة ستلهي ذهن الشعب عن المسائل التي سوف نختلف فيها معهم)، وأنت بموافقتك عليها ستكون شريكاً معهم في إنجاحها، فبادر بمقاطعتها ومحاربتها قبل الندم.

7 __ الكثير من المؤمنين كان يسمع الغناء، وانشداده له كانشداده للرياضة أو أكثر، ولكن بعدما علم بمفاسده قاطعه وحاربه، وها نحن علمنا مفاسد الرياضة التي أحياناً تفوق مفاسد الغناء، فليس بإمكان الكل أن يكونوا مطربين، ولكن بإمكانهم أن يلتهوا بالرياضة لتعدد أنواعها ومناسبتها للصغير والكبير، فلماذا لا نتركها؟ وعليك بقراءة (الرياضة المعاصرة والفكر المعادي للإسلام) لتعرف هذه المفاسد.

8 __ إن الأعم الأغلب من سمومهم تبث لنا من خلال جهاز الشيطان (التلفزيون) الذي سلب من الناس غيرتهم وشرفهم وعزتهم، فوا أسفاه ثم وا أسفاه على المسلمين وبالأخص شيعة الإمام المهدي (عجل الله فرجه) كم هم ضعفاء بحيث لم يستطيعوا أن يستغنوا عن هذا الجهاز اللعين __ ولا أقول كلهم لأن بعضهم استيقظ من نوم الغفلة وتخلص منه جزاه الله خيراً __ الذي دمر أسرهم ومجتمعهم، ألا يعلمون أنه سيف مشهور بوجه الإمام (عجل الله

ص: 314

فرجه) __ كما نقل ذلك سماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) في أحد كتبه عمن اتصل بالحجة __ إنه (عجل الله فرجه) يقول: (التلفزيون سيف مشهور في وجهي)، فهل ترضى الشيعة أن يكون في بيتها سيف مشهور بوجه الحجة (عجل الله فرجه)؟ فالراضي أقول له: إنك بفعلك هذا مسؤول عن تأخير الإمام (عجل الله فرجه) عن الظهور وكفانا نفاقاً، فكل يوم ندعو أن نكون من أنصاره وأعوانه ونحن بدرجة كبيرة من الضعف أمام أنفسنا وأهلينا مترددين لا نستطيع أن نتخذ قراراً حاسماً، أبهذا الضعف والخنوع نعين الإمام (عجل الله فرجه)؟ أم بخضوعنا للغرب الكافر ننصر الإمام (عجل الله فرجه)؟. فها أنا ذا أعلنها صرخة ويتفطر قلبي ألماً وحزناً: (أعينوا إمامكم يرحمكم الله، لا تؤخروا ظهور إمامكم يرحمكم الله، فإمامكم ينادي: أما من ناصر ينصرني، فانصروا إمامكم يرحمكم الله، وحطموا السيوف المشهورة في وجهه، ولا تضعفوا ولا تستكينوا مهما كلف الأمر، وسارعوا إلى إنقاذ أنفسكم قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه ندم).

اللهم إني قد بلغت.... اللهم إني قد بلغت

ص: 315

الحوزة والمجتمع

بسم الله الرحمن الرحيم

أجرت مجلة (الكوثر) النجفية حواراً مع سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دامت بركاته) لاستكشاف رأي الحوزة الشريفة في عدد من القضايا التي تهم المجتمع، وقد رأينا من المفيد نشر الحوار مستقلاً لتعم الفائدة:

سماحة البقية الصالحة لحبيب القلب، آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الوارف)، أرجو من سماحتكم التفضل علينا بالإجابة على الأسئلة التالية:

سؤال1: نعم للوحدة الإسلامية لا للتناحر الإسلامي، كيف تنظرون لهذا الشعار؟ وما هي السبل الكفيلة التي تقدمونها للترابط والوحدة والتآزر في ما بيننا؟

سؤال2: كيف تنظرون للدراسة في الحوزة وما هي اقتراحاتكم لتطويرها؟

سؤال3: نصائح مفيدة يقدمها سماحتكم لطلاب الحوزة الشريفة؟

سؤال4: نصائحكم للشباب المسلم المؤمن؟

سؤال5: السلوك إلى الله تعالى هو المطلوب من كل مسلم، نرجو منكم بيان وتوضيح كيفية السلوك إلى الله تعالى؟

سؤال6: كيف تنظرون لمخططات أعداء الإسلام والمسلمين وترويج كل ما هو مضر للمسلمين، مع توضيحها والطرق اللازمة للرد عليها؟

سؤال7: هنالك من يريد شق عصا المسلمين بالتكلم والتجريح برجال الدين

ص: 316

الأجلاء وعلى عموم المسلمين بالكلام غير اللائق، نصيحة توجهونها لهم.ج1: بسمه تعالى:

هذا شعار رفعه القرآن الكريم بقوله تعالى: [وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] (الأنفال:46)، وحرص الرسول الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على إرساء الوحدة في المجتمع الإسلامي، فآخى بين المهاجرين والأنصار، ولم يرُق ذلك لأعداء الإسلام من يهود ومنافقين، فكانوا يثيرون الضغائن والعصبيات القبلية والقومية والعنصرية حتى أفلحوا في إيجاد التنازع بينهم وتواعدوا القتال خارج المدينة ليعيدوا أيام الجاهلية، فخرج رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إليهم مغضباً يجر رداءَه __ حسبما تقول الرواية __ للإسراع في إطفاء نار الفتنة، حتى نجح في ذلك (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وكان لعلمائنا المخلصين (قدس الله أسرارهم) مواقف مشهورة ومساعٍِ مشكورة لجمع الصف وتوحيد الكلمة، حتى اشتهرت كلمة أحدهم: (بُنيَ الإسلام على كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة)، وبحسب تجربتي فإن لجمع الكلمة ركيزتين:

الأولى: الالتفات إلى القواسم المشتركة بيننا وهي كثيرة، فربّنا واحد ونبينا واحد وكتابنا واحد وقبلتنا واحدة وعدونا واحد وهمومنا واحدة ومصالحنا واحدة ومستقبلنا واحد وأسس ديننا واحدة، وهي التي أشارت إليه الآية المباركة السابقة وأمرت بالاعتصام به وجعلته المحور الذي يجتمع عليه المسلمون، فلماذا نعرض عنها جميعاً ونركز على النقاط الفرعية جداً التي نختلف عليها؟.

الثانية: احترام كل طرف قناعة الآخر ورأيه ما دام قد توصل إليه بطريق

ص: 317

صحيح أو ما نعبر عنه بحجة شرعية تبرر له عند الحساب الاعتماد عليها، وأن نعلم أن الاختلاف في الرأي سنة طبيعية، فحتى داخل الأسرة الواحدة تجد القناعات مختلفة ولم يعكر ذلك صفو العائلة و(لم يفسد بالود قضية) كما يقول الشاعر، فلماذا لا نتصرف بنفس الأسلوب داخل أسرتنا الكبيرة وهو المجتمع فإنه أهم من أسرتنا الصغيرة وأعظم شأناً.وأنت ترى أعداء الله ورسوله اجتمعوا على باطلهم واتحدت كلمتهم ضد الإسلام والمسلمين، فلماذا نتفرق عن حقنا؟ إنها لمفارقة لا يمكن التصديق بها، قال تعالى: [كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ] (الكهف:5)، فعزة الإسلام في وحدة أبنائه التي يحبها الله تبارك وتعالى كما في قوله: [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ] (الصف:4)، فلماذا لا تفعلون ما يحببكم إلى الله تبارك تعالى، ولا بد أن لا يقتصر فهمنا للقتال في سبيله على المواجهة المسلحة مع الكفار، بل مطلق المواجهة على صعيد النفس ومع الشيطان وفي ساحة التحديات الفكرية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية، وبين يديك تعاليم الإسلام ومصادر تشريعه تجدها حافلة بكل ما يدعم الألفة والتقارب بين القلوب، فأمر بالخمس والزكاة لمساعدة الفقراء، وشجع على قضاء حوائج المؤمنين وإدخال السرور عليهم وتفريج كربهم والتراحم والتواد والتواصل بينهم والتخفيف عن آلامهم، حتى جاء في الحديث: (من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم)، فيخرج من ربقة الإسلام وحسن الرعاية الإلهية من لا يحمل هذا الشعور اتجاه أمته، وتفصيل الكلام في هذا المجال مما يتطلب فرصة أوسع، لكن

ص: 318

الإشارة تغني اللبيب وتنفع المخلصين الصادقين، وقد سجلت بعض هذه التفاصيل في مقدمتي لكتاب (أصل الشيعة وأصولها) وبعض كتبي الأخلاقية والاجتماعية.ج2: تحتاج الحوزة الشريفة إلى كثير من الإصلاحات في عدة اتجاهات: مناهجها الدراسية، أساليب الدراسة، شؤونها الإدارية، نظام التقييم والشهادات فيها، توظيف العلوم الحديثة في خدمة الاستنباط الفقهي، أداء مسؤولياتها، علاقتها بالمجتمع، وليس لي في هذا الكلام قدح فيها؛ لأن التطوير والتغير شيء طبيعي تبعاً للمتغيرات والمستجدات التي تحصل في المجتمع، فلا يعقل أن نبقى نفكر بوتيرة واحدة بالرغم من تغير الحاجات وتكثر التحديات، وأنا أستغل بعض المناسبات لطرح هذه الأفكار على الطلبة، كما أني بدأت فعلاً بتنفيذ بعضها مما يتيسر لي وما زال الطريق طويلاً، وقد وضعت الخطوط العريضة لهذه الأفكار في كتاب لم يطبع(1) بعنوان (المعالم المستقبلية للحوزة الشريفة)، وأشرت إليه في مقدمة كتاب (القول الفصل) المطبوع.

ج3: وضعت هذه النصائح في كتاب (وصايا ونصائح إلى طلبة الحوزة الشريفة) وهو مطبوع، ولكي لا تخلو هذه الإجابات عن شيء منها أقول باختصار: إن مقومات شخصية الحوزوي ثلاثة: البعد العلمي، والبعد الأخلاقي، والبعد الاجتماعي، ولكي تتكامل شخصيته ويكون ناجحاً في مهمته وينال الحظوة

ص: 319


1- طبع هذا الكتاب فيما بعد.

عند الله تبارك وتعالى ورسوله الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لا بد أن يجدَّ ويجتهد في المسارات الثلاثة بتوازن، فإن أي تقدم في أحدها على حساب الآخر يلزم منه خلل في شخصيته، وهو معنى الحديث الشريف: (قصم ظهري رجلان: عالم متهتك وجاهل متنسك)، فالأول حاز العلم ولم يهذّب نفسه ويطهّر باطنه، والثاني يتفرغ للعبادة والنسك إلا أنه فارغ من العلم، وفي كليهما نقص، ففي الاتجاه الأول وهو العلمي لا بد أن يسعى لتحصيل كل العلوم الحوزوية المتعارفة من مقدمات وسطوح، ويضم إليها غير المتعارفة كالتاريخ والحكمة والتفسير، والأولى أن يلمّ معها بالثقافة العامة، وفي البعد الأخلاقي يعمل على مراقبة نفسه ووعظها باستمرار ومحاسبتها وعرضها على الميزان الصحيح، وأن يكون الله حاضراً عنده في كل عمل وكل فكرة بل وفي كل خاطرة، ويجاهد في طريق تهذيب النفس وتطهير الباطن من الرذائل الخلقية وتحلّيه بالفضائل مما هو مدون في كتب الأخلاق المخلصة، وفي الاتجاه الاجتماعي يعمل على إصلاح مجتمعه وهدايته وتقريبه إلى الطاعة وتجنيبه المعصية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الناس أحكام دينهم في العبادات والمعاملات وأن يسعى لقضاء حوائجهم ورعايتهم اجتماعياً ويشاركهم في همومهم وآمالهم وطموحاتهم ويعمل على تحقيقها بقدر المستطاع. ومن المهم لطالب الحوزة أن يقتدي بسيرة الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) والعلماء الصالحين ويهتدي بهداهم ويأخذ سمتهم وطريقتهم حتى في أبسط التفاصيل الحياتية، وأنا أعلم أنها مسؤولية ضخمة وجسيمة، لكن الأجر

ص: 320

عظيم والنتائج كبيرة، وعلى حد تعبير الشاعر:على قدر أهل العزم تأتي العزائمُوتأتي على قدر الكرام المكارمُ

ج4: ذكرت تفاصيل نافعة في كتاب (فقه الجامعات) الذي يخاطب الشباب الجامعي، وهم نخبة هذه الشريحة وصفوتها، وأنا أعتذر عن هذه الإحالات على الكتب، وعذري في ذلك أن كل سؤال من هذه الأسئلة الواعية التي تنمُّ عن وعي معمق لدى السائل للواقع المعاش تحتاج إلى كتاب لبيان تفاصيل الجواب، وعادة في كتاباتي أسعى لتعميق عدة مفاهيم لدى الشباب وعموم أبناء المجتمع، لكن مطلوبيتها من الشباب أكثر:

1 __ العودة إلى الله تبارك وتعالى وتعاليم الإسلام فإنها سر قوتنا، والتاريخ يشهد على ذلك، وسر فلاحنا ونجاحنا في الآخرة وسعادتنا واطمئناننا في الدنيا، وهذه كلها نتائج مهمة تستحق بذل الجهد في التمسك بها.

2_ أن يكون الشاب هادفاً في حياته غير لاهٍ ولا عابث كما وصف القرآن الكريم: [يَا أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ] (الانشقاق:6)، والكدح هو العناء والتعب، وأن تكون الأهداف التي نسعى من أجلها حقيقية لا وهمية.

3 __ الاعتزاز بشخصيتنا الأصيلة التي تحمل الكثير من القيم والأخلاق والمثل التي تثير حسد الغرب وتدفعه إلى أن يكرس كل خبثه ومكره لينزعها منا فنصير أذناباً، ويؤسفني أن أرى الشباب وهم مقلدون للغرب في ملبسهم ومأكلهم وتصرفاتهم وحركاتهم وكأنهم لا يملكون ذلك التاريخ العريق حتى يستنسخوا شخصية الغير في حياتهم.

ص: 321

4 __ التحذير من مكائد الغرب الكافر وخططه الخبيثة التي يريد من خلالها استعبادنا وتكريس تبعيتنا له.

5 __ أن يفكر بمجتمعه وأمته في الحاضر والمستقبل ويعمل على إعمار الحياة ونجاحها في جميع نواحيها كما قال القرآن: [وَإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ] (هود:61)، أي في الأرض بمعنى أن الله تعالى خلقكم فيها وطلب منكم إعمارها فلا يقصر أحد في أداء وظيفته ومسؤوليته في أي موقع مفيد كان.

6 __ تعميق الارتباط بالحوزة الشريفة؛ لأن العلماء حصون الإسلام ومنار الهدى وقد قال عنهم الإمام (علیه السلام): (فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله، والراد عليهم كالراد علينا)(1).

ج5: أشرت إجمالاً في جواب السؤال الثالث إلى البعد الأخلاقي وكيفية تعميقه، وهو كلام شامل لكل مسلم مخلص يريد الوصول إلى الله تبارك وتعالى، وتوجد كتب نافعة في هذا المجال متدرجة في مستوى عطائها، فأولها (القلب السليم)، ثم (جامع السعادات) و(المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء) وغيرها مما هو معروف، ولكن المربّي الرئيسي هو القرآن وأحاديث المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، الذي يغني السطر منها عن صفحات من كلمات غيرهم (ع)، وقد توجد كلمة واحدة تغير مجرى حياة الإنسان، وأنقل لكم حديثاً واحداً وهو قول الإمام الحسين (علیه السلام): (من حاول أمرا

ص: 322


1- كمال الدين وتمام النعمة: ص484.

بمعصية الله كان أفوت لما يرجو وأقرب لما يحذر)(1)، فلو وصل الناس إلى مثل هذه القناعة لما تكالبوا على تحقيق مطالبهم بشتى الوسائل حتى المحرمة منها، فهذا الإمام (علیه السلام) يخبرك أن من حاول تحصيل غايات مطلوبة بوسائل محرمة كان عمله أقرب لما يحذر، وهذا الحديث دستور حياة لنا، ومثله قول الإمام (علیه السلام): (عجبت لمن يرجو عفو من هو فوقه كيف لا يعفو عمن هو دونه)، فكلنا نرجو عفو الله تعالى، ونحن نحاسب أمثالنا من المخلوقين بالمليم كما يعبرون؟! إنها مفارقة مرفوضة، وتصور لو أن علاقة العفو هذه سادت بيننا كم ستصفو علاقات المجتمع ويكللها الود والاحترام والأخوة والتآلف.ج6: أشرت في استفتاءات عديدة إلى هذه الأساليب خصوصاً استفتاء (اِحذروا الصناعات المستوردة) و(الحجاب الفرنسي) و(عصير الشعير المسمى بالبيرة الإسلامية) وغيرها، وهو المتوقع منهم، فإنهم لا يتركون فرصة لإبعادنا عن إسلامنا وقرآننا إلا استغلوها بوسائلهم الخبيثة المتعددة، يساعدهم على ذلك جهلنا وانبهارنا بحضارتهم المادية الزائفة، ولا نأخذ العبرة من أمم سابقة سادت العالم ولم تكن الشمس تغيب عن ممالكهم ثم سقطوا وانتهوا لعدم استنادهم إلى ركن وثيق، والذي يقرأ القرآن ويتمعن فيه يجد تحذيراً كثيراً منهم، وقد أشرت إلى بعضها في كتابي (شكوى القرآن) و(فقه الجامعات)، والخلاصة أنهم يريدون أن يعطونا أسوأ ما عندهم ويأخذوا منا أحسن ما

ص: 323


1- صحيفة الحسين (عليه السلام): ص336.

عندنا، فهل صفقة أخسر من هذه؟! والمسلم الواعي يكون في حذر منهم في كل شيء ويتسلح بالقرآن وتعاليم الإسلام في مواجهة ما يفعلون.ج7: لا يجوز القدح بالمسلم مطلقاً، فكيف بالعلماء الذين خصَّهم الله تبارك وتعالى بالمنزلة الرفيعة، حتى قيل أن أكثر من (500) آية في القرآن وردت في مدح العلماء وذم الجهلة وأفضلية صفة العلم ومن يحمله على جميع المميزات الأخرى، وجاءت السنة الشريفة لتعزز ذلك: (مداد العلماء خير من دماء الشهداء)، وقد قرأت قبل قليل عن الإمام الصادق (علیه السلام): (إنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله، والراد عليهم كالراد علينا) والواقع يشهد بذلك؛ فإن أية أمة بلا علماء تكون كالغنم بلا راع، فهم يرشدونها ويهدونها إلى الطريق الصحيح ويتحملون التضحيات من أجلها من دون أن يتوقعوا من الأمة جزاءً ولا شكوراً، بل أفنوا حياتهم زاهدين معرضين عن حطام الدنيا، فهل جزاء كل ذلك ذمهم والقدح فيهم والافتراء عليهم وتتبع عثراتهم؟! إنها معاوضة غير منصفة، والعقلاء يقولون والقرآن يؤكد: [هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ] (الرحمن:60)، إنها واحدة من خطط الكفار لفصل الأمة عن علمائها حتى تضل وتتيه بتسقيط العلماء وتشويه صورتهم والافتراء عليهم ونسج الأكاذيب عنهم، والكثير من أبناء المجتمع لجهلهم وسذاجتهم يصدقون، كما قال القرآن: [وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ] (التوبة:47)، وهي خطة ليست جديدة، فقد حاولوا تشويه صورة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لينفضَّ المسلمون من حوله، حتى اتهموه بشرفه فنزلت سورة النور لتخبر عن حديث الإفك والدفاع عن شرف رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، واتهموا أمير

ص: 324

المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه لا يصلي، فشاء الله أن يستشهد علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في محراب الصلاة لتتوجه صفعة إلى أولئك المنافقين، ولكن لماذا لا نعرف عظمة علمائنا إلا بعد موتهم؟ وماذا ينفعنا الندم؟ ثم ألا تكفينا المرة والمرتان من الخطأ فنصرُّ على تكراره، والمفروض أن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين؟! إنها فتنة زرعها أعداء الإسلام، فلا ينبغي للمسلمين الوقوع فيها، وعليهم احترام علمائهم فهم حصون الإسلام الحافظون لحدوده والمرابطون في ثغوره لحماية المسلمين وكيان الإسلام من مكائد وخطط الكفار وإغواء إبليس.أكرر اعتذاري عن الاختصار وأسأل الله تعالى أن يأخذ بأيدينا جميعاً لنيل رضاه وإصلاح حالنا إنه ولي النعم.

ص: 325

تنبيهات على الأقراص الليزرية وصالات (البلي ستيشن)

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

من غريب الأمر أنّا نرى تعاليم الصهيونية جميعاً مطبقة في بعض بلاد الإسلام، ومن المعلوم أن الشجرة لا تموت إلا بإماتة جذورها. وقد جاء في كتاب (أسرار الماسونية) ما يلي :

1 __ (دعوا الكهول والشيوخ جانباً وتفرغوا للشباب بل تفرغوا للأطفال).

2 __ (إننا لا نكتفي بالانتصار على المتدينين ومعابدهم، إنما غايتنا الأساسية هي إبادتهم من الوجود).

أثرها في المجتمع :

1 __ لقد بلغت مبلغها واتسع استعمالها في المجتمع وأصبحت مكاتب تأجير الأقراص وصالات الأتاري منتشرة في كل مدينة.

2 __ لقد دخلت في أدمغة أطفالنا واستوعبوا ما فيها من نكات ومواقف وأفكار، ويترددون عليها من كل حدب وصوب، فكذِّب من ادعى أنها لم يكن لها أثر في حياتنا.

مضارها :

1 __ غسل الدماغ : فالهدف الأول والأخير للإعلام هو خلق جيل بعيد عن الإسلام يحمل فلسفة وروح وتاريخ أعداء الدين، فيصبح جزء من قطيع تتحول

ص: 326

لغته ولهجته..حب.. فلم الموسم.. لعبة أتاري.2 __ الإثارة الجنسية : دأب الإسلام على تهذيب هذه الغريزة للحد من الشهوة، ففرض الحجاب وغض البصر للرجل والمرأة، والتفريق في المضاجع بين الأخوة والأخوات. وهم أرادوا جعل مناظر الفسوق مألوفة لدينا، بل هي مقتضى عرفنا، والمداعبات أيسر ما تقدمه، وصورة الجنس مشهد عادي أدركه حتى الأطفال الصغار، اُنظر وتأمل كلام الماسونية: (يجب أن نخلق جيل لا يخجل من كشف عورته)، فاللقطات الفاحشة التي تأتي من الغرب في هذه الأقراص التي يصممونها بحيث لا يمكن اقتطاع هذه المشاهد ترغمك أن تراها مع أسرتك، فتسقيهم بيدك السم الزعاف، وكذلك اللقطات الخليعة التي تعرض خلال استعراض ألعاب البلي استيشن.

3 __ التربية اللا إسلامية : إن أول ما تقوم به الأفلام هو طمس الحياء الناتج من تكرار مشاهد المناظر الخليعة وعلاقات الحب والغرام المحرمة، وما أعمق قول رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (من لا حياء له لا إيمان له)، وتصور الكثير من الأفلام والمسلسلات أردأ صور العلاقات العائلية، والشيء الطبيعي أنها تعتمد على نظريات الغربيين في التربية، وغالباً ما تحتوى أفضل صورة على كثير من الجفاء والعقوق وقطيعة الرحم..

وبذلك يستجيب المراهقين لما يشاهدون وتعجبهم الصورة الرديئة بما تحمل من شموخ وتكبر وحصول على كثير من المكاسب، وبهذا تعلمهم معنى العقوق والصراع مع أقرب الناس.

وأصبح الطفل يتفنن في اصطناع الأكاذيب على والديه ويتهرب من

ص: 327

المدرسة لأجل لعبة أتاري، وتصل أحياناً إلى سرقة المال من والديه لأجل الذهاب إلى صالات الألعاب.فانظر كم أثرت هذه الأفكار في تربية أطفالنا، أليس من الواجب علينا مقاطعتها لكيلا يتفاقم الأمر أكثر من ذلك؟.

4 __ الشعور بالحقارة : بقطع الصلة بين الجيل ودينه وتاريخه وقيمه. فالأفلام والمسلسلات توضح لنا التطور العلمي والتقدم الحضاري الهائل في الغرب، وتصور لنا أن نظرتهم للحياة هي الحق وما سواهم الباطل، وكل حركة تصدر منهم لا بد أن تعبر عن روح العصر المتقدمة.

إن خططهم نجحت إلى الدرجة التي جعلت من أبنائنا يخجلون حتى من لغتهم وأصبح خلطها بلغات أخرى من علامات التقدم، وصارت عاداتنا وأمور ديننا مثيرة للاستنكار، حيث يخجلون من عزاء الحسين (علیه السلام) مثلاً أو قبور المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وغيرها كثير.

5 __ شغل القلب: القلب يتشبع بما يوضع فيه، وهذه الأمور منهاج مرسوم ومخطط يشغل القلب عن كل أمر مهم، فبدل أن يخشع ويبكي من خشية الله، يرتجف ويتحرك للعبة أتاري أو جريمة قتل في فلم ويبقى مشغولاً بها لساعات من الزمن.

6_ لهو ولغو: الإسلام يرفض وسائل اللهو، ويحرم الكثير منها؛ لأنها تشغل القلب وتهدر الوقت الذي هو رأس مال الإنسان وقيمته، فبهذا الوقت يكتسب الصديقون مكان الصديقين، قال الرسول الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (يا ابن آدم إنما أنت أيامك)، فانظروا أيها المؤمنون كم تهدر هذه الأمور من

ص: 328

الوقت، وكم حرمنا من صلاة الفجر بسبب السهر على الأفلام وألعاب الأتاري، فأي كارثة أشد من هذه؟.7 __ السفهية: إن هذه الأمور غير منتجة لا لبناء ولا للباس، ولا لمصلحة اجتماعية ولا لأي شيء آخر.

8 __ إلهاء المسلمين: عن واقعهم المعاش ومشاكلهم، وترك الاحتجاج والمناقشة وخاصة التغافل عن البلاء الوارد علينا من جانب الغرب نفسه.

9_ منع التكامل لأفراد المجتمع: لأن الفرد عندئذ يقضي الوقت كله أو أغلبه في لعب الأتاري أو التفرج على الأفلام، ويبقى الوقت الباقي لديه يقضيه في ضرورات حياته وأسرته، ولا يبقى له وقت آخر ليقضيه في تكامله العلمي والعقلي والديني والروحي، وبهذا يخطط الغرب الكافر أن يكون الجهل والتدني هو الصفة العامة في العالم كله ليكووا لقمة سائغة له ولأطماعه ولأرباحه ولكبريائه.

10 __ تأييد للاستعمار والظلم: وإنها تأييد بخلاف المصلحة العامة، وإن الاستعمار إنما بذر بيننا هذه الأمور لأجل إبعاد الناس عن المصالح العامة وعن واقعهم.

11 __ إثارة المشاكل: فكثيراً ما تحدث النزاعات والخصومات بين الشباب في هذه الصالات والسب والشتم والألفاظ الفاحشة، وحتى الكفر بالله والمعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، فإلى أي مدى يريد الغرب إيصال شبابنا وأطفالنا، وكأن أولياء الأمور في معزل عن هذه المخططات، ولم يتخذوا موقفاً حاسماً تجاه هذه المفسدة التي تؤدي إلى خراب أطفالهم ودينهم.

ص: 329

المبررات للعمل في هذه الصالات والمكاتب:

1 __ البعض يدعي أنه لا يستطيع أن يجد عملاً مناسباً له غير هذا العمل.

الإجابة: هذا من تسويلات الشيطان وما أشبهها بدعوى الجاهلية الذين كانوا يقتلون أولادهم خشية إملاق بحسب دعواهم، فوعدهم الله سبحانه بقوله: [نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءاً كَبِيراً] (الإسراء:31)، فهؤلاء يقتلون الدين والأخلاق والغيرة ويخربون البناء الاجتماعي، مدعين الفقر إن لم يقوموا بهذه الأعمال، فعليهم أن يثقوا بوعد الله سبحانه، وحاشاه تعالى أن يخلق الخلق ويتخلى عن رزقه ويجعل رزقه في معصيته، بل إن هؤلاء أشنع من أولئك الجاهلين، فقد كان أولئك يقتلون الأولاد، وهؤلاء يفتنون الناس عن دينهم، وقد قال تعالى: [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ] (البقرة:191)، [فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] (النور:63).

فلتكن ثقتهم وحسن ظنهم بالله تعالى كبيراً، فإن الله عند حسن ظن عبده كما في الحديث، وليحاولوا مهما واجهتهم المصاعب، فقد يكون طريق الحرام سهلاً سريعاً إلا أن عاقبته وخيمة، ولسنا فقط خلقنا لهذه الدنيا فإنها مرحلة زائلة، وإنما خلقنا للآخرة، فيجب أن نفكر فيها كما نفكر بالدنيا ونوازن تصرفاتنا.

2 __ البعض يدعي أنه يشاهد هذه الأفلام من باب الترويح عن النفس.

الإجابة : الترويح عن النفس لا يجوز أن يكون بأساليب محرمة، فإن الغاية لا

ص: 330

تبرر الوسيلة، فليروّح عن نفسه بأمور محللة، كمفاكهة الأخوان والسفر والزيارة والتنزه.3 __ بعضهم يقول إن بعض المراجع يجوّزها.

الإجابة : هذا ناشئ من النظرة الفردية التي حكمت أذهان الفقهاء، وأعني بالنظرة الفردية بأن الفقيه حينما يفكر ويستنبط فإنه يتصور أمامه فرداً مسلماً يريد أن يبرئ ذمته أمام الله تعالى وينجي نفسه من العقوبة، ولا يتصور أمامه مجتمعاً مسلماً يريد أن يمتثل بالشريعة الإلهية، فبنظرة بسيطة لأثر هذه الأمور على المجتمع نجدها كيف استحوذت على مشاعر الناس وعواطفهم حتى أصبحت إلهاً يطاع وتتوجه إليه القلوب والأفئدة وتصرف عليها المليارات.

حلول ممكنة :

1 __ الاستغناء عنها بجلسات عائلية ناجحة تستثمر توطيد العلاقة بين أفراد الأسرة، خصوصاً أن الانقطاع إلى هذه الأمور بدلاً من الانقطاع إلى الله عامل أساس في تفكيك الروابط الأسرية.

2 __ الاستعاضة عنها بقضاء الوقت بأمور مفيدة، كقراءة القرآن والكتب وسماع المحاضرات والأخبار.

3 __ الاستغناء عنها بعمل مسابقات علمية أو دينية بين أفراد الأسرة، مما يؤدي إلى تحفيز أفراد الأسرة على الاستزادة بالمعلومات للإجابة على الأسئلة من ناحية، ومن ناحية أخرى إيصال المعلومات إليهم بأسلوب شيق وممتع

ص: 331

ومحاولة منح الجوائز لهم.4 __ رفع السبب الذي عن طريقه يتم إيصال سمومهم لنا، ألا وهو التلفزيون.

5 __ محاولة اقتناء جهاز كمبيوتر والسيطرة عليه بما هو مفيد.

أحكامها :

هذه الأحكام جاءت في كتاب (ظواهر اجتماعية منحرفة) للشيخ اليعقوبي (دام ظله).

مسألة: انتشرت في الآونة الأخيرة مكاتب بيع وإجارة الأقراص الليزرية والتي تروّج عادة أفلام أهل الفسق والكفر؟

بسمه تعالى:

1 __ التكسب بمثل هذه الأعمال محرم، وأخذ الأجرة عليها حرام؛ لما فيها من نشر الفساد وهتك للحرمات وانتهاك للمقدسات، فلا يجوز بيعها ولا شراؤها ولا تأجيرها.

2 __ يعد اللهو بهذه الأجهزة سفهاً ومفوتاً للمصالح الاجتماعية العامة، وتضييع الوقت هدف غير عقلائي ومرفوض من قبل الشارع المقدس، بل هو (لا هدف)، واللاهدفية ممقوتة من قبل الشارع الإسلامي ومنافية للحكمة من الخلق والإيجاد وفيها تفويت لمصالح شخصية واجتماعية كثيرة.

3 __ لا يجوز إيجار المحلات من قبل الأهالي لهؤلاء الأشخاص حتى يعملون فيها هذه الأعمال الباطلة، ومن يفعل ذلك فإنه شريكهم في الإثم، ولو لم يكن يعلم فعليه إخراجهم بمجرد علمه، ولا يجوز أخذ الأجرة منهم، وحاله

ص: 332

كمن يؤجر المساكن ليعمل فيها الخمر أو تعمل فيها الفاحشة وإيجار السيارة لنقل الخمر وكلها أمور محرمة.4 __ لا يجوز إعارة جهاز الفيديو للأصدقاء إلا بعد إحراز كونه يستعمله في أمور محللة، خصوصاً مع غلبة استعمالها في المحرم كما هو معروف.

5 __ بالنسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعاملوا هؤلاء بالأسلوب المناسب لإصلاحهم، فقد يكون بالعلاقات الودية والرفق بهم، وقد يكون بزجرهم وتوبيخهم، وقد يكون بمقاطعتهم، ولابد من توجيههم وإرشادهم بالحكمة والموعظة الحسنة وبيان النتائج السيئة لعملهم هذا.

6 __ لا يجوز إصلاح هذه الأجهزة مع علم المصلح أنّ صاحبها سوف يستخدمها للحرام فيكون معيناً له على فسقه وفساده وشريكاً له في عمله المحرم.

النصائح :

1 __ النصيحة الأكيدة لشبابنا الناهض الواعي أن يلتفت إلى مصالح نفسه ومجتمعه، ويسقط أهمية هذه الأمور عن نظر الاعتبار، ويخاف الله تعالى، فإن كل هذه الدعايات والعنايات إنما هي مصيدة له لإدخاله في فخ الشيطان، ويكون حب هذه الأشياء إنما هو حب للمخططات الاستعمارية من حيث يعلم أو لا يعلم، ونكون قد أعنا الاستعمار الظالم الغاشم على أنفسنا وأمكناه من بلادنا.

2 __ اتقوا الله حق تقاته بالالتزام بطاعة الله والاهتمام بالأهداف الحقيقية

ص: 333

للمجتمع، وتربية النفس والآخرين تربية صالحة، وترك كل ما يرتبط بالشيطان والكفر والكافرين والابتعاد عنه ابتعادنا عن الأجرب، فإنه يصدّ عن ذكر الله والآخرة [فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ] (المائدة:91).3 __ إني لأعجب لهذا الغرب الكافر كيف يتفنن في تخريب الأخلاق وتدمير القيم الروحية بشتى الأساليب ومختلف العناوين من الفن إلى الرياضة إلى الألعاب الكمبيوترية، بقدر ما أعجب لمجتمعنا المسلم الساذج الجاهل الذي يقلد تقليداً أعمى بعقل مقفل وقلب غافل للغرب الكافر اللعين، والمسلمون يعلمون أن هؤلاء يريدون أن يسلبونا ديننا الذي هو عنوان عزتنا وشرفنا وكرامتنا، وها هو القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه يخبرنا عنهم: [وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء] (النساء:89)، فلا تتخذوا منهم أولياء، وقوله تعالى: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى] (البقرة:120)، فلماذا؟! لا نصغي إلى تحذير الله تعالى العلام الرحيم ونبقي في غينا سائرين ولأولياء الشيطان معينين؟... عجباً!!(1).

وأخيراً وبعد هذه الأدلة التي عرضناها لإخواننا المؤمنين، والتي ستكون حجة عليهم أمام الله تعالى، أدعوهم أن يقفوا إزاء هذه الهجمة الشرسة التي يتبناها الغرب الكافر موقفاً حاسماً، بأن يقاطعوها ولا يعينوا الكفار على أنفسهم فيكونوا شركاء معهم في إنجاح مخططاتهم وبروز قدراتهم في تدمير الدين، وذلك بغلق هذه المكاتب والصالات فوراً، والسعي لإيجاد عمل مرضٍ لله

ص: 334


1- خطبة صلاة الجمعة الثالثة عشرة للسيد الشهيد محمد الصدر (قدس سره).

تعالى، ليربحوا الدنيا والآخرة، وإلا فسوف لا ينالون إلا خزي الدنيا والآخرة، وأدعو أولياء الأمور أن يكونوا دقيقين مع أبنائهم ولا يتركونهم لقمة سائغة لمخططات الغرب الكافر، فإنهم مسؤولون عن كل ذلك [يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ] (الشعراء: 88)، [وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ] (الشعراء:227)، [وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] (الأعراف:128). والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.

اللهم إني قد بلغت

اللهم إني قد بلغت

ونسألكم الدعاء

ص: 335

كلمة شكر وتقدير إلى طلبة الدورات السريعة

كلمة شكر وتقدير إلى طلبة الدورات السريعة(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، وصلى الله على سيد خلقه ومظهر رحمته وباب إفاضاته محمد وآله الطيبين الطاهرين.

حينما تحدثت في محاضرة بمناسبة حلول العطلة الصيفية عن كيفية جعل العطلة مثمرة ونافعة بدلاً من أن يقضيها أحبائي الطلبة بالضياع والتسكع كما يوحي اسمها بأنها (عطلة)، والمفروض أن الإنسان الواعي لا يعرف التعطيل، بل هو في عمل دؤوب ما دام أنه يستطيع أن يستمر كل لحظة في طاعة الله تعالى وفي تجارة لن تبور، فلماذا تكون بعض أوقاته عاطلة عن الاستثمار؟ هذه خسارة يأباها كل عاقل.

وقد روي في سبب تسمية يوم القيامة بيوم التغابن لأن الجميع يشعرون بالغبن والتقصير وضياع الفرصة حتى المؤمنين لأنهم أضاعوا شيئاً ولو يسيراً من عمرهم من دون استثمار، أي (عطّلوه)، وكان يمكنهم أن يستثمروه فينالوا

ص: 336


1- الكلمة التي وجهها سماحة الشيخ إلى المئات من الطلبة الجامعيين عند انتهائهم من الدورات الحوزوية المكثفة خلال العطلة الصيفية التي التحقوا بها صيف عام 2002 تلبية لمقترح سماحته في محاضرة متقدمة عن العطلة الصيفية، وكان المقرر أن يجتمعوا كلهم في مسجد الرأس مع أساتذتهم والمشرفين عليهم (قُسّموا كل (25) طالباً في مجموعة ونظمت لهم دروسهم بالاتفاق مع أساتذة كفوئين) إلا أن كبر العدد والضغوط الأمنية حالا دون عقده فوزّع سماحة الشيخ نسخاً من الكلمة إلى المشرفين ليقرأها كل منهم على مجموعته.

درجة أعلى، وقد عبّر الله تعالى عن هذا الجهد المتواصل في الحياة الدنيا والممزوج بالعناد والمشقة والصعوبات بالكدح [يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ] (الانشقاق:6)، وإذا كنت ملاقيه فكيف تحب أن يكون؟ بالتأكيد تريده أن يكون مسرّاً ملؤه البِشر [وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ، إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ] (القيامة:22-23).من أجل هذا كله لا تعني العطلة الصيفية تعطيلاً وكسلاً، وإنما تعني صورة جديدة من العمل والكدح بعد إمضاء أشهرٍ طويلة في الدراسة الأكاديمية، فيحتاج إلى أن ينوّع عمله وكدحه لئلا يسري الملل إلى النفس والعقل فيكلان ويملان، لذا طرحنا في تلك المحاضرة عدة خيارات لاستثمار العطلة الصيفية، وكان منها الالتحاق بالدورات المكثفة التي تقيمها الحوزة الشريفة لمدة (3) أشهر الصيف يُعطى فيها الطالب دروساً يأخذها غيره في سنة كاملة، لأننا نتوسم منهم القابلية الذهنية أولاً، والهمة والإخلاص ثانياً، وكفاءة القيمين على رعايتهم ثالثاً.

ونحن حينما ذكرنا هذه الأفكار هناك وبشكل عرضي من غير تركيز عليها لم نكن نتوقع هذه الاستجابة الواسعة المثيرة للشعور بالفخر والاعتزاز والشموخ، والتي أدخلت السرور على قلب ولي الله الأعظم (أرواحنا له الفداء) وهو يرى هذه البراعم الفتية المخلصة بين أحضان حوزته الشريفة المباركة، فاستحققتم التهنئة والتبريك من جهتي العلل والمعلولات لهذه الاستجابة لدعوة الحق.

أما من حيث العلل فان تلبيتكم هذا النداء يكشف عن مستوى ليس بالقليل

ص: 337

من الإيمان والشعور بالمسؤولية والغيرة على الدين وأهله وحب الإصلاح والتكامل على صعيد النفس والمجتمع؛ بحيث تنازلتم عن الكثير من مشتهيات النفس وميولها للراحة والدعة واللهو واللعب وتغربتم عن أهلكم وتحملتم مشقة الذهاب والإياب وشظف العيش وصعوبة المقام.وأما في جانب المعلولات فلما حصلتم عليه من عطايا ومنح إلهية باستجابتكم لهذه الدعوة وحضوركم في هذه الحلقات العلمية الشريفة.

وأول هذه العطايا مجاورتكم لأمير المؤمنين ومولى المتقين ووجودكم تحت قبته الشريفة، ولو كان في الوقت سعة لسردت لكم الأحاديث في فضل أرض النجف وساكنيها، ويكفي أن أحدها قوله (علیه السلام): (الصلاة عند علي بمائتي ألف صلاة) هذه البقعة التي استجاب الله في صحبها دعوة إبراهيم الخليل (ع) [فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ] (إبراهيم:37)، وها هي قلوب المؤمنين من شتى بقاع العالم تبذل الغالي والنفيس لكي تصل هذه الأرض المقدسة وتلثم تربتها المباركة، وأروي لكم قصة صغيرة؛ فقد جاء أحد الملوك لزيارة النجف، وما إن رأى القبة الشريفة من بعيد حتى ترجّل احتراماً لصاحبها، وكان وزيره ناصبياً، فتأذى من احترام أمير المؤمنين، فقال للملك بخبث: إن علياً كان خليفة الله في الأرض، وأنت خليفة الله أيضاً، فلا فرق بينكم، فلماذا تترجل؟ وكان الشك قد دخل نفس الملك فاحتكما إلى القرآن، وإذا به يتلقى الآية الشريفة: [فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى] (طه:12)، فأمر بقتل الوزير ومشى حافياً إلى المرقد الشريف الذي قال الشاعر فيه:

يا صاحب القبة البيضاء في النجفِ

ص: 338

من زار قبرك واستشفى لديك شُفيوثاني العطايا وجودكم في حلقات العلم التي هي روض من رياض الجنة كما في الحديث: (وإن الملائكة لتفرش أجنحتها لطالب العلم، ويستغفر له من في السموات والأرض، حتى حيوانات البر والبحر) إلى غيرها من الأحاديث الشريفة.

وثالثها الاتصال المباشر بعلماء وفضلاء الحوزة الشريفة والاستفادة منهم علماً وعملاً، فتفعل ما يفعلون وتترك ما يتركون مما لا تحصل عليه لو قرأت الكثير من الكتب، لكن يبقى الدور الأهم للأسوة والقدوة الحسنة التي وجدتموها متمثلة في الكثير من أبناء الحوزة العلمية، فتعلمتم منهم الكثير.

ورابعها أنكم عشتم الأجواء الروحية والقدسية هنا في النجف وأنتم تنتقلون من مسجد إلى مسجد ومن روضة إلى روضة، فهنا كان الشيخ الطوسي مؤسس الحوزة، وهنا كان السيد بحر العلوم يلتقي بصاحب العصر، وهنا وقف السيد محمد سعيد الحبوبي ليعلن الجهاد ضد الإنكليز ويعبّئ المؤمنين للقتال، وهنا كانت تدور رحى المناقشات العلمية والأدبية التي حفظت لنا الدين والمذهب طيلة أربعة عشر قرناً، ونظل نستعيد ذكريات الفخر والاعتزاز والبطولة مما لا أعتقد أنكم ستنسوها وإن طال الزمن، وستشكل لكم زاداً يكفيكم مدة طويلة ويحصّنكم من الفساد والانحراف الذي حاول أولياء الشيطان إشاعته في كل مكان خصوصاً في أروقة الجامعات، لكنكم بمجيئكم إلى هنا انتصرتم عليهم وأفسدتم عليهم أحلامهم، فأعزَّ الله بكم الدين وقوّى شوكة المؤمنين.

ونحن إذا أردنا أن نقيم مدى نجاح هذه التجربة المباركة فعلينا أن نلتفت

ص: 339

إلى الأهداف وقد ذكرتها في المحاضرة التي أشرت إليها آنفا وأعيدها ملخصاً: أ- إنه يسلّح نفسه بالعلم والمعرفة التي تعينه على تكميل نفسه وقربه من الله تعالى وتحصنه من الوقوع في شباك الفساد والانحراف والعقائد الفاسدة والأفكار الضالة.

ب- إنه سيكون عنصراً فعالاً في هداية الآخرين، سواء على صعيد المجتمع أو الجامعة أو المدرسة أو الأسرة، وقد قلنا في مناسبة سابقة: إن الإسلام محتاج إلى جميع أبنائه، وهؤلاء الطلبة من خيرة أبنائه، فلماذا يحرمون الإسلام من بركات جهودهم ويعود النفع بالنهاية لهم.

ج_- إنه سيجتاز عدة مراحل دراسية في الحوزة الشريفة خلال السنين من دون أن يفرط بدراسته الأكاديمية.

د- ستصبح له القابلية على الكتابة والتأليف والخوض بمختلف القضايا والمشكلات التي تواجه المجتمع مما يؤهله بشكل واسع لممارسة دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح الاجتماعي، فيكون من الثلة المؤمنة المخلصة التي عناها الله تعالى في قوله: [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ] (آل عمران:104)، ولا شك أن المناهج الحوزوية تساعد على تنظيم الفكر وتقويمه وتعميقه وتجهيزه بأدوات العلم والمعرفة.

وأرجو أن تكون دراستكم ووجودكم في النجف قد حققت كل هذه الأهداف لكم ووفرت عندكم القابلية لتفعيلها، ولابد أن أشكر

ص: 340

أيضاً الأساتذة والفضلاء الذين تحمسوا للفكرة وساهموا في إنجاحها بالتدريس وتوفير مستلزمات الإقامة والمساهمة في تذييل الصعوبات، فأضافوا عناءً إلى عنائهم وجهداً إلى جهدهم، علماً منهم بأن هذا كله بعين الله تعالى [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ] (التوبة:120) [وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] (التوبة:111).وأسجل شكري لعدد من المراجع العظام والأساتذة والفضلاء والمفكرين الذين استحسنوا هذه الخطوة وباركوا للعاملين عليها ودعوا الله لنجاحها.

وإني لأشعر بالضعة والضآلة أمام عواطف ومشاعر المؤمنين الذين عبروا عن دعم هذه التجربة بأشكال مختلفة، خصوصاً تلك الأخت المؤمنة التي أرسلت مبلغاً بسيطاً من الناحية المادية، لكنه كبير من الناحية المعنوية، حيث لم تجد ما تشارك به إلا هذا المبلغ الذي ادخرته من عمل منزلي مضنٍ تقوم به، فبعثته مع رسالة تعبر فيها عن مشاعرها، فأثرت في قلبي كثيراً وألقت الحجة عليّ وعلى كل المخلصين في أن لا نألو جهداً في إعلاء كلمة الله، فأمرت بتوزيع الأوراق النقدية التي بعثتها على المتفوقين الأوائل للتبرك بها؛ لأنها صدرت بإخلاص، وذكرتني بنساء الإسلام الخالدات حيث لم تكن إحداهن تستطيع أن

ص: 341

تشارك في الجهاد فتقطع ضفيرتها لتكون رباطاً لخيول المجاهدين.أكرر شكري لله تبارك وتعالى ولي النعم ومفيضها، وأساله أن يقع كل هذا منه موقع الرضا والقبول، وأن يحسن العطاء ويتجاوز عن الأخطاء؛ إنه أرحم الراحمين.

محمد اليعقوبي

18/ج2/1423ه_

27-8-2002م

ص: 342

توجيهات ثقافية وأخلاقية للشباب

بسم الله الرحمن الرحيم

سماحة حجة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

انطلاقاً من الحديث الوارد (من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم) نوجّه إليكم هذه الشكوى الفكرية التي تعصف ببعض أخواننا المؤمنين، حيث نجد بعضهم في الفترة الأخيرة اتّجه إلى الترف الفكري بعد أن قضوا فترة مهمة من حياتهم تحت ظل مرجعية السيد الشهيد (قده)، وحيث أنه كان الموجه إليهم من منبره المقدّس، ولكن بعد أن غيّبه الثرى انخدع هؤلاء ببعض من لهم باعٌ في الاصطلاحات المنطقية والفلسفية، وأخذ هؤلاء يقرأون لهم الكتب ويسمعون لهم المحاضرات التي لا تمت إلى واقعنا المعاش بصلة، صحيح أننا لا ننكر أن هذه الكتب والمحاضرات حقّ، لكن لكل مقام مقال، ولكل عصر حديثه، فنحن الآن لا نعيش فتنة الماديين الملحدين ونظرياتهم الباطلة، ولا توجد، ولا يوجد هناك من يشكك بوجود الله نظرياً حتى نردّ عليه، لا بل إن الأعداء هم أنفسهم غير أن الأسلوب اختلف، فكل هؤلاء الآن يحاربوننا لكن بسلاح جديد، من كرة قدم وسينمات وفساد أخلاقي ومهرجانات وقصات شعر و(مودة) ولباس الشهرة .. والكثير الكثير.

وبحسب قول أحد مفكرينا العظام: (إننا يجب أن نتعامل مع الأحياء لا مع

ص: 343

الأموات)، لذا نرجو منكم الإجابة على هذه الأسئلة:1. ما هي الكتب التي يستطيع الفرد المؤمن أن يعالج واقعه نفسياً واجتماعياً من خلالها؟.

2. إذا وجد هناك أشخاص يلقون مثل هذه المحاضرات، هل يجوز الاستماع إليهم؟.

3. إن العديد من هذه الكتب صعب، مما يولد للناس بعض الشبهات، فهل يجوز قراءة مثل هذه الكتب بدون ثقافة كافية؟.

4. هل يجوز قراءة الكتب العرفانية المعمقة جداً أيضاً لمثل هذه الطبقات من الناس؟.

5. ما هي نوعية الكتب الأخلاقية التي يستطيع الفرد المؤمن في وقتنا الحاضر الاستفادة منها؟.

6. هناك طبقة من الطلبة الجامعيين أو الشباب من يفسر القرآن برأيه طبقاً لما يسمعه أو يفهمه من محاضرات التفسير أو الكتب، ويشرحون تلك المحاضرات لهؤلاء الأشخاص، مع أنهم لم يطووا مرحلة في التفسير (أي حتى تفسير شبّر)، فما هي النصيحة لهؤلاء الطلبة؟.

7. من باب عدم وجود تيارات المد والجزر للمجتمع على حد تعبير أحد المفكرين، كيف يستطيع الشخص أن ينمي جميع القيم داخله، لكي لا تنمو قيمة واحدة فتعصف بالمجتمع ويترك باقي القيم؟.

نرجو من الله أن يوفقكم لما فيه خدمة الإسلام والمسلمين.

ابنك

عبد الله الخزاعي

ص: 344

بسمه تعالى:من الضروري أن يعيش المسلم واقعه ويتفاعل معه، ولا يستنسخ تجارب وأفكار الآخرين، بل يهضمها ويتمثلها ويستفيد منها في مواجهة تحدياته الفعلية، مثلاً كانت في الخمسينات والستينات مشكلة الإلحاد وإنكار وجود الله تبارك وتعالى، فانبرت الأقلام وملأت الصحائف للرد على هذه الموجة وإثبات وجود الله تبارك وتعالى. أما الآن فحتى الماديون الغارقون في الجاهلية يؤمنون بوجود الله، فهل نستمر بنفس الجهاد والجهد السابقين؟ كلا طبعاً، وإنما مسئوليتنا اليوم أن نعمّق الإحساس بوجود الله، وأن نعلم أنفسنا والناس كيف نتعامل مع الله تبارك وتعالى كموجود فعلاً، وليس موجوداً نظرياً ولكنه غائب عن ساحة التطبيق، وهذا ما يعكسه واقع المسلمين والمؤمنين بالله عموماً، فإنه ليس لله في حياتهم مكان سوى بعض الطقوس الشكلية الخالية من المحتوى.

فالصحيح إذن أن يكون المفكر والمسلم عموماً واعياً لظرفه، مستوعباً لمشاكله بشكل دقيق، منشغلاً في تحضير العلاج المناسب لها، ولا يجترّ معلومات السابقين، بل حتى ولا أفكار المعاصرين ممن يعيشون في ظروف اجتماعية وتحديات فكرية لا نعيشها نحن، وإلا سنكون كمن يغرد خارج السرب – كما يقول المثل – ولا زلتُ أركّز في كتبي الاجتماعية على ما نواجه من تحديات تستحق أن نكرس جهودنا في مواجهتها بكل ما أوتينا من قوة.

ص: 345

بعد هذه المقدمة أحاول الإجابة باختصار عن الأسئلة التفصيلية:1- أرشدت في كتبي المختلفة إلى هذه الكتب. (راجع: فقه العائلة، فقه الجامعات، شكوى القرآن، شكوى المسجد.. وغيرها).

2- إذا شغلت المستمع عما هو أهم، فتركها أولى، ومع عدم التزاحم كما هو الغالب فلا مانع من الاستماع إليها لأنها أولاً وأخيراً علم نافع في نفسه، ولكن التركيز عليها من دون تلبية الاحتياجات الأخرى نقص.

3- لا يجوز قراءة الكتب التي تشكك المسلم في عقائده الحقّة، سواء كان بسبب احتوائها على شبهات مضلة، أو معلومات معمقّة لا يحتملها القارئ، ولا يجوز لمؤلفٍ طرح مثل هذه الكتب للعامة، وفي الحديث: (من كسر مؤمناً فعليه جبره).

4- لا تخرج الكتب العرفانية عما ذكرناه آنفاً، والمخلصون منهم يبثون الحقائق العالية بين ركام من المعلومات العادية، ليلتقطها أهلها المستحقون لها فقط، كما تنثر الجواهر بين الحصى، على أنه يوجد خلط في الفهم بين (العرفان) و(الأخلاق) لا مجال لبيانه الآن.

5. الكتب التي أراها مناسبة، ولا أخشى منها على القراء، وصادرة من قلوب مخلصة وصادقة، ولها أثر في التربية، منها: (القلب السليم، مرآة الرشاد، جامع السعادات).

6. جوابهم الحديث الشريف: (من فسّر القرآن برأيه هلك)، فلا بد من الاستدلال على التفسير، والاهتداء بآية شريفة أو سنة محكمة أو

ص: 346

حجة قاطعة.7. جوابه بحث طويل في مقومات الشخصية المتوازنة التي تنمو وتتكامل بجميع الاتجاهات، وقد شرحته باختصار في أول فصل من كتاب (وصايا ونصائح إلى الخطباء وطلبة الحوزة العلمية)، وتوجد لفتات متفرقة في (فقه الجامعات) يمكن اقتناؤها.

سدد خطاكم وكثّر أمثالكم من الواعين المخلصين في المجتمع، خصوصاً في أوساط الجامعات.

الشيخ

محمد اليعقوبي

ص: 347

الانتماء إلى الحوزة الشريفة

اشارة

سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام عزه)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

توالت على بلاد الإسلام المقدسة قرون طويلة مفتقرة إلى الإصلاح والسعادة وقريبة من الفوضى والفساد بسبب الابتعاد عن الحوزة الشريفة والدين القويم.

وبما أن النجف هي مهد الإسلام ومركز المسلمين ومهوى قلوب العالم، وإنها الأرض التي تحتضن بفخر واعتزاز مرقد الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الوصي الأمين لرسول الله محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، ولوجود تلك الحملة الإصلاحية التي تبنتها الحوزة الشريفة، نوجه إليكم بعض الأسئلة التي نريد منكم التفضل بالإجابة عليها، راجين توجيه هذا الخطاب إلى الشباب الواعين الذين التحقوا بالحوزة الشريفة رغم كل الصعوبات والعراقيل يرخصون في سبيلها الأموال وبعد المسافة وفراق الأهل والأحبة، وكذلك توجيهه إلى من لا يستطيع الالتحاق بالحوزة الشريفة وهم يتحرقون شوقاً ويذوبون وجداً إلى الوصول والحياة في رحاب هذه الأجواء الإلهية المقدسة، ومن هذه الأسئلة :

1- هناك بعض الطلبة من طلاب الحوزة الشريفة سامحهم الله يمنعون هؤلاء الشباب عندما يطلبون منهم النصيحة في المجيء، يكون جوابهم (بقاؤكم خارج أفضل!!) وغيرها من الأعذار التافهة التي لا داعي لذكرها.

ص: 348

2-وهناك بعض آخر يقومون بنقل بعض السلبيات التي لا قوام لها إلى العوام، وبالتالي يؤثر على المركز القيادي للحوزة الشريفة بصورة عامة وعلى طالب العلم بصورة خاصة.

3- هناك بعض الموجهين والفضلاء الذين اعتزلوا الحوزة الشريفة لشرائهم جهاز الكمبيوتر، وأصبحوا يأتون فقط في يوم الراتب مما أثر على الطلبة الجدد في تحصيلهم الدراسي.

بسمه تعالى:

إن هؤلاء (الطلبة) الذين يقدمون هذه (النصائح) غير عارفين بمسؤولياتهم وما ينبغي عليهم فعله، ومثلهم لا يؤتمن على نصيحة، فالحوزة الشريفة من أوسع الطرق الموصلة إلى الله تبارك وتعالى حيث تنفتح لك من خلالها أبواب للطاعة وزيادة الأجر مما لا يحصي ثوابه إلا الله تبارك وتعالى، ولا يعرف طعم الحياة وقيمة الوجود أحد أكثر ممن سلك هذا الطريق، واني أتحسر على من لم ينتم للحوزة لأنه محروم من هذه النعم.

وأجد من اللازم شرعاً على من يجد في نفسه الكفاءة لطلب العلم والتحصيل وتتوفر فيه شروط حمل هذه الرسالة الشريفة ألاَّ يتخلف عن الالتحاق بها، فإن وجوب رفد الحوزة الشريفة بالطاقات النافعة وجوب عيني وليس كفائياً على أمثالهم، وأنت ترى مصداق ذلك في الفراغ الذي يعيشه مجتمعنا من العلماء والفضلاء والمرشدين والمصلحين، وسيكون الأمر أكثر إيلاماً عندما تعلم أن مسؤولية الحوزة إيصال صوت الحق إلى كل بقاع العالم، فكيف يتحقق ذلك ونحن إلى الآن لم نملأ حاجة مجتمعنا القريب؟!

ص: 349

أما السلبيات الحاصلة من بعض المنتسبين إلى الحوزة فلا يجوز أن تنعكس على الحوزة ككيان، فما من شريحة إلا وفيها منحرفون لا يمثلون الخط الصحيح لتلك الشريحة، فهؤلاء الذين يحملون اسم الإسلام وهم يجترحون الكبائر ويبارزون الله بالمعاصي والموبقات هل يمكن أن نلوم الإسلام إذا كانوا هم أساؤوا التطبيق؟ فيا عزيزي كن أنت مستقيماً ولا يضرك انحراف الآخرين، قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ] (المائدة: 105).وأما الدراسة بالكمبيوتر فإنها لا تغني عن الالتحاق بالحوزة الشريفة لعدة أمور أذكر بعضها باختصار :

1 __ إن كيان الحوزة ليس كياناً علمياً فقط حتى يعوّض بالكمبيوتر، بل هو كيان تربوي وتوجيهي وإصلاحي ينظم حياة المسلمين ومعاملاتهم.

2 __ إن من يدرس من خلال الكمبيوتر يفقد البركات والآثار العظيمة التي يفيضها الله تبارك وتعالى على حلقات العلم، وأحدها ما جاء في الحديث : (حلق العلم روضة من رياض الجنة)، هذا غير بركات جوار أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وقد جربت بنفسي أنه عندما أغيب عن الدرس __ وهو نادر جداً __ وأتلقى الدرس بالكاسيت يفرق تماماً عن الدرس الذي أتلقاه مباشرة من الأستاذ (رغم أن الكاسيت هو درسه نفسه).

3 __ إن الكمبيوتر لا يعدو كونه كتاباً مسموعاً، فهو كالكتاب المقروء من هذه الناحية، فهل يغني الكتاب عن الأستاذ.

4 __ إن اللقاء المباشر مع الأستاذ فيه تفاعل وحوار وانشداد وإيضاح مما يفقدها

ص: 350

درس الكمبيوتر، وغير هذا كثير.ومع ذلك فإن الدراسة بالكمبيوتر والاستفادة من خدماته يمكن أن تكون في أكثر من اتجاه :

أ __ في البحث والتحقيق في المصادر، فإن الجهد الذي يوفره للباحث والدارس في بطون الكتب مما لا يمكن أن يأتي به جهد شخصي .

ب __ مواصلة الدراسة وتلقي العلوم من خلال أقراصه وبأشراف حوزوي طبعاً ومع تقرير المطالب التي تلقى فيه، وذلك لمن لا يتسنى له مواصلة الدراسة في الحوزة الشريفة لمانع أو لآخر خصوصاً النساء.

والخلاصة إن الكمبيوتر يصلح أن يكون مساعداً لطالب العلوم الدينية لا بديلاً عن الالتحاق بها، وينبغي الالتفات إلى أن الذي يدرس على الكمبيوتر وليس في أروقة مدارس الحوزة العلمية ومساجدها لا يستحق المال الذي تخصصه المرجعية الشريفة لطلبة الحوزة.

وأكرر القول أني أعد من أعظم النعم عليَّ وجودي ضمن هذا الكيان الشريف، وكلما استمعت إلى الآية الشريفة: [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] (التوبة:122)، أعيش سعادة روحية ما بعدها سعادة شكراً لله تعالى أن جعلني من أهل هذه الآية، وأقول كم أن مجتمعنا مقصر في تطبيقها، فإذا كان الله تبارك وتعالى يحث على أن ينفر من كل فرقة طائفة (وهي لا تقل عن ثلاثة) إلى مراكز العلم والحوزة الشريفة ليتفقهوا في الدين ومن ثم يعودون إلى قومهم يعلمونهم أحكام دينهم ويدلونهم على طاعة الله تبارك وتعالى ويجنبونهم

ص: 351

معاصيه، فلماذا نرى مدناً كبيرة وعشائر عظيمة ولا يوجد واحد من أبنائنا من النافرين إلى الحوزة الشريفة؟ أترى كيف حرمنا أنفسنا من هذه النعمة الكبيرة وحرمنا مجتمعنا الذي يحرص على سماع كلمة الحق في مواجهة أبواق الضلالة ودعاة الفساد والانحراف، فلماذا نصدَّ أسماعنا عن هذه الآية المباركة الشريفة؟!إن حبي للناس يدفعني إلى أن أدعو الله تبارك وتعالى لهم جميعاً بالالتحاق بهذا الكيان الشريف ذكوراً وإناثاً، فالإسلام يحتاجهم جميعاً ليوصل صوته إلى البشرية جمعاء حتى تعيش بسعادة وسلام وطمأنينة، ولكنني أعلم أن الفرصة ليست متاحة للجميع، وحينئذ يمكن أن يؤدي كل دوره في الهداية والإصلاح بالطريقة التي تناسبه.

وتفصل الكلام في كتاب خاص عن الشؤون والشجون الحوزوية(1)، جعلنا الله ممن ينتصر بهم لدينه ويبلغنا غاية رضاه إنه ولي النعم.

ص: 352


1- طبع لاحقاً كتاب (المعالم المستقبلية للحوزة الشريفة).

من مشاكل الشباب: ممارسة العادة السرية

بسم الله الرحمن الرحيم

سماحة حجة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

هناك بعض المشاكل التي تواجه شبابنا المؤمن ومنها مشكلة (العادة السرية) فاستصرخناكم عسى الله تبارك وتعالى أن يستنقذنا بكم:

س1: ما المقصود بالاستمناء (العادة السرية) باصطلاح الفقهاء؟ وهل تقتصر على نكاح اليد فقط؟

بسمه تعالى:

نقصد بها عند الرجال إنزال المني بطريقة غير شرعية، والشخص بصير بنفسه فيعلم أن هذه الحالة شرعية وهذه لا. ولا يقتصر الاستمناء على الخضخضة باليد وإن كان يظهر من بعض الفقهاء عدم فهم السعة هذه، إلاّ أن آية [فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ] (المؤمنون:7) مع بعض ما يأتي من الكلام يمكن أن يكون دليلاً على التعميم.

ويجب الالتفات إلى أن هذه الآية تحرّم سائر التصرفات الجنسية خارج الإطار الشرعي سواء للرجال أو للنساء، وتوجد روايات عديدة على التحريم جعلت (المستمني) أو (ناكح يده) أو (ناكح نفسه) على اختلاف التعابير أحد سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ويدخلون النار مع الداخلين إلا

ص: 353

أن يتوبوا. وأود هنا إلفات النظر إلى شيئين:

1- إن تسميتها بالعادة السرية فيه غفلة عن الله تعالى الذي لا تخفى عليه مِنْكم خافيَةٌ [إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ](آل عمران:5) [قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أو تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] (آل عمران:29)، وأحب أن أنقل لكم قصة اهتز لها كياني وبكيت عند سماعها، فقد نُقل أن امرأة محتاجة طرقت باب أحد الموسرين ليعينها على دهرها، فأبى إلا أن ينال من شرفها فامتنعت وتركته، ولكنها لم تجد إلى سد رمقها إلا هذا الرجل، فعادت إليه وأصرّ على طلبه، فاستجابت تحت ضغط الحاجة ودخلت معه الدار، فلما أراد أن يقضي حاجته قالت له: هل أغلقت الأبواب؟ قال: نعم، أغلقتها كلّها، قالت: لكن بقيت باب واحدة مفتوحة! قال: وما هي؟ قالت: باب الله سبحانه وتعالى، فأدركت الرجل قشعريرة لم يحس بها من قبل، وترك المرأة بعد أن أعطاها ما تحتاج، وقال لها: ادعي لي دعوة صادقة. فدعت الله تبارك وتعالى أن يُحرّم جسده على النار في الدنيا والآخرة، قال الرجل: قد وجدت إجابة دعائها في الدنيا، فإني أمسك النار بيدي فلا تصنع بي شيئاً، وإني لأرجو استجابة دعائها في الآخرة. كل ذلك ببركة مراقبة الله في السر لأنه معنا فعلاً حتى في خلوتنا، فلا توجد عادة سرية أمام الله تعالى، بل هي مفتوحة ومكشوفة أمامه تبارك وتعالى، فليُكثر البكاء على نفسه من يفعل المعصية وإن كان يظن أنها (سرّية).

ص: 354

2- إن الآثار الصحية والنفسية والاجتماعية التي تظهر على من يمارس العادة السرية تفضحه كما سيأتي بيانه.

س2: شخص له القدرة على الاسترخاء والإنزال وذلك بتشنج الأعصاب وتقلص العضلات لفترة من الزمن، فيحدث الإنزال بشهوة ودفق ماء غليظ من خلال هذه الحالة. فما حكم هذه العملية؟ وما حكم الماء النازل؟ وهل تعتبر هذه الحالة نوع من أنواع العادة السريّة؟

بسمه تعالى:

هي عملية العادة السرّية، لكنها ليست باليد؛ لوضوح أنه قاصد لإنزال المني ومتعمد للفعل. وإذا أردت أن تعرف حكمها: هل تستحي أن يعرف عنك هذا الفعل أو لا ترى بذلك بأساً؟ فالأول ممنوع والثاني لا. وبتعبير من المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ): (تفعل في السرّ ما تخشى ظهوره في العلانية)، و أعطيك معياراً آخراً مستفاداُ من المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ): إذا أردت أن تعرف حكم هذا الفعل فانظر إذا قسِّمت الأفعال إلى قسمين: حق وباطل، ففي أي قسم يكون هذا الفعل ولا تخادع نفسك؟.

س3: هل يجوز استمناء الزوج بيد زوجته في حالة الجماع؟ وما الفرق بينه وبين الإمناء بدون الزوجة؟

بسمه تعالى:

لا بأس بأن تمارس الزوجة لزوجها عملية الخضخضة أو أي فعل آخر لإنزال المني لجواز كل الاستمتاعات بين الزوجين، والفرق بينها هو الفرق بين الحلال والحرام.

ص: 355

س4: ما علة تحريم الاستمناء؟

بسمه تعالى:

ليس من حقنا أن نناقش الشريعة، بل نطبق بالرضا والتسليم ما دمنا مسلمين؛ قال تعالى: [فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] (النساء: 65)، وقال تعالى: [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً](الأحزاب:36).

نعم؛ قد يكون من المستحسن أن نسعى لفهم فلسفة الأحكام الشرعية والحكمة في تشريعها، ولكن يجب التسليم والطاعة أولاً وقبل كل شيء، سواء توصلنا إلى نتيجة مرضية أو لا، وليس العكس بأن تتوقف طاعتنا وتطبيق الحكم الشرعي على قناعتنا الزائفة التي تتغير وتتأثر بالأهواء والنزعات، فهذا من تحكيم عقولنا وأهوائنا وعواطفنا في شريعة الله الحكيم العليم المحيط بكل شيء، علماً إن هذه من مشاكل بعض من يسمّون أنفسهم مثقفين.

وأضرب لهم مثالاً من القوانين الوضعية؛ فلا يناقش أحد: لماذا إن كانت الإشارة المرورية حمراء فيجب التوقف؟ لا يناقش: لماذا يفرض القانون العقوبة الكذائية على الفعل الفلاني ما دام ابن ذلك البلد وخاضعاً لقوانينه؟ وهكذا الإسلام؛ فما دام انتسب له فلا يناقش في أحكامه وإلاّ فليكن واضحاً وليخرج عن الإسلام (قبّحه الله)، وهذه فكرة مهمة أحببت إيصالها بهذه المناسبة.

وعلى أي حال ففي حدود اطّلاعي توجد أضرار صحيّة عديدة لعملية الاستمناء منها: زوال قوة وشفافية العين مع ذبولها وفقدان لونها الأصلي، عدم مشاهدة

ص: 356

الذكاء والإدراك السابق في المبتلين به، ظهور الانقباض في وجوههم، إحاطة عيونهم بحلقات زرقاء، مشاهدة الضعف والكسل في مختلف أعضائهم، قلة الحافظة، عدم الرغبة في الأكل، عسر الهظم، ضيق التنفس، تغير الأخلاق والمزاج، اختلال العقل، التفكير بالوحدة والانعزال، وقد يؤدي الإفراط فيها إلى الأمراض العقلية كالجنون وأمراض الرئة كالسل الرئوي وأمراض القلب، وقد تؤدي هذه الأعراض إلى الوفاة – راجع كتاب (شباب في مقبرة الجنس) وهو الحلقة الثامنة من سلسلة نحو مجتمع نظيف – وهذه الأعراض المرضية تفضح الممارسين للعادة السرّية مهما حاولوا إنكارها والتكتم عليها، فوا خجلتاه من الناس فضلاً عن الخجل أمام الله تبارك وتعالى المطّلع على السرائر. س5: رجل يتسامر مع أصدقائه في مجلس ما وكان مستلقياً بوجهه على الأرض (نوم الشيطان)، وكان المجلس يتكلّم عن قضايا جنسية وأوصاف الجنس اللطيف، وكان الرجل المستلقي يتقلّب على الأرض، وكان القضيب يتداعب في الأرض، فحدث الإنزال بدفق وشهوة وفتور، فما حكم الماء النازل وما حكم العملية المذكورة؟

ص: 357

بسمه تعالى : هي من أشكال العادة السرية لانطباق التعريف السابق عليها.

س6: على فرض بسط وإفشاء الحكم الإسلامي بين الناس فما حكم المستمني؟ وإذا لم يكن الحاكم الشرعي مبسوط اليد فماذا يعمل المستمني مع نفسه بعد التوبة؟

بسمه تعالى :

على المستمني التعزير، بمعنى جلده عدداً من الأسواط يكفي لردعه ويناقش في أسباب لجوئه إلى العادة السرّية، فإن كانت حاجته إلى الزواج زوّجه الحاكم الشرعي من بيت المال، والتوبة الصادقة تكون بالإقلاع عن هذا الفعل وعقد العزم على عدم العودة إليه وتجنب المثيرات الجنسية كأماكن الاختلاط واستماع الأغاني ومشاهدة المسلسلات والصور الخليعة وغيرها.

س7: طبيب طلب عيّنة من نطفة المريض وهو غير متزوج لأمراض معينة ضرورية، فهل يجوز أن يستمني الرجل لإجراء الفحوصات الطبيّة؟

بسمه تعالى :

إذا تطلبت الضرورة العلاج بذلك فلا بأس بالفعل بمقدار الضرورة .

س8: الآية السابقة من سورة المؤمنون [فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ] هل هذه الآية تشمل عملية الإمناء؟ فقد يقال إن هذه الآية جاءت في سياق ذكر الزواج، وهذا يعني أنها تقصد عملية الزنا فما هو رأيكم؟

بسمه تعالى :

الآية شاملة لكل ما وراء العمليات الشرعية أي التي أذن بها الشارع أو رخص فيها، ونزول هذه الآية في مورد معيّن لا يخصصها لذلك المورد ما دامت الآية في نفسها عامة، وهذا من معاني خلود القرآن ولو قصرنا كل آية على أي مورد معين لانتهى مفعول القرآن بانتهاء مناسبات نزوله وهذا خطأ فادح.

ص: 358

س9: ماذا تنصحون – سماحة الشيخ المفدّى – الشباب الجانح الذي يرتكب هذه العملية؟ بسمه تعالى :

أنا لا أتفق معك في إساءة وصف هؤلاء الشباب، فإنهم طيبون وقريبون من الإيمان، ولو كانوا سيئين لارتكبوا الفواحش علناً ولتجاهروا بها بدل جعلها سريّة، فنفس شعورهم أن فعلهم هذا خطأ يجب التستر عليه يعتبر خطوة نحو الإصلاح والارتداع عن المنكر.

ولا يقع اللوم كله عليهم، فبعضه يقع على أولياء أمورهم الذين لم يربوهم التربية الصحيحة ويثقفوهم الثقافة الدينية الأخلاقية، وبعض اللوم يقع على وسائل الإفساد وإشاعة الفاحشة التي تملأ سمعه وبصره وعقله وقلبه ولا يجد مفراً منها، وبعض اللوم يقع على البيئة الفاسدة التي يعيش فيها حيث انتشر المنكر والانحراف والانحلال الخلقي في كل أنحائه بحيث أصبح الكثيرون لا يرون المنكر منكراً لتطبعهم عليه، ويقع بعضه على أصدقاء السوء الذين يزينون المعصية ويحسنونها بعين الشخص حتى يقع معهم في الهاوية فيتلذذون بسقوطه لأن بقائه على الاستقامة والحياة النظيفة يكشف زيفهم ودناءتهم وخستهم.

كل هذه العوامل تجتمع لتؤدي هذه النتائج السيئة، وأي علاج لابدّ أن يتناول جميع الأسباب، وقد قلت في كتاب (شكوى القرآن) إن الطبيب الحاذق هو من يشخص بدقة العلّة الحقيقية وراء الأعراض المرضية التي هي معلولات لها فيزيل العلة من أساسها، وليس من الحكمة أن يعالج الأعراض ويترك العلة الأساسية، فالمؤمن الواعي المخلص الذي يستمد باستمرار العون والتسديد

ص: 359

والعصمة من الله تعالى يقاوم كل هذه العلل ويقف بشموخ في وجهها، حتى قال الحديث الشريف: (إن إيمان المؤمن أقوى من الجبل؛ لأن الجبل يستقل منه بالمعاول ولا يستقل من إيمان المؤمن شيء)، فهذا هو العلاج الرئيسي: ذكر الله دائماً وخشيته وتذكر عقوبته والحياء منه، وتخيّل أن الموت لو أتاك وأنت تمارس العادة السرّية والموت يأتي فجأة فماذا سيكون حالك وأنت تلقى الله على هذا الحال؟.ومن الحلول المهمة أيضاً تجنّب ما يثير الشهوة الجنسية في كل الاتجاهات من صحف ومجلات وأفلام ومسلسلات وغيرها والاشتغال بمتطلبات الحياة كالكسب ولقاء الأخوة المؤمنين وقراءة الكتب والمجلات الهادفة والاستماع إلى نشرات الأخبار والبرامج المفيدة وممارسة الرياضة النافعة، وقد ناقشت هذا الأمر في محاضرات وكتاب (الحوزة وقضايا الشباب) وقلت أنهم يسمونها مشكلة جنسية، وهي ليست مشكلة بل رحمة إلهية [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ] (الروم:21)، لكنهم حين عرضوها بصورتها الحيوانية فقط وعملوا على استثارتها بكل وسيلة ثم وضعوا العراقيل أمام الأسباب المشروعة لالتقاء الجنسين أصبحت مشكلة وحوّلوها من نعمة إلى نقمة.

أقول هذا الكلام باختصار راجياً من الله تعالى أن ينفع به الصادقين وأن يوفر لي فرصة أُخرى للحديث بشكل واسع عن هذه المشكلة.

س10: شخص متزوج شهوته متغلبة عليه، وزوجته ذات شهوة ضعيفة (تتصف بالبرود الجنسي) فبدأ هذا الزوج ممارسة العادة السرّية بين

ص: 360

الحين والآخر، فما حكمه؟ بسمه تعالى :

لتمارس له الزوجة العادة السرية بيدها؛ فإنه من الاستمتاعات الجنسية المسموحة، وليس من حق الزوجة أن تمتنع عن أي استمتاع جنسي يريده الزوج منها إلا في حالات الضرر والحرج، وعلى أي حال فإن الزوجة العفيفة تستطيع تصريف شهوة زوجها بما لا يضر بحالها.

س11: يقول البعض: إن الأضرار النفسية والعضوية للعادة السرية غير ثابتة كما يذكر أحد المصادر الطبية، فما رأيكم؟

بسمه تعالى :

يكون الجواب في عدة نقاط:

1-قال الله تعالى: [إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ] (الحجرات:6)، وكثير من المؤلفين في هذه الحقول العلمية غير ملتزمين دينياً فلا يؤتمنون على مثل هذه المجالات التي لها دخل في الأخلاق والشريعة والاجتماع خصوصاً، وإن كثيراً منهم متأثرون بالمدارس الغربية في علم النفس والاجتماع ومنبهرون بها ومقلدون لها، بحيث إن عندهم الاستعداد الكافي لمخالفة الشريعة من أجل دعم تلك المدارس.

2-إن الطب من العلوم التجريبية وتتضارب فيه الآراء كثيراً، وقد نقل أحد الأطباء المختصين: إن ثلاثة عشر ألف رسالة طبية تنشر يومياً عبر الانترنيت تتضارب فيها الآراء والنتائج ولا يثبت منها شيء إلا بعد تدقيق وتفحص

ص: 361

طويلين، ومحل الشاهد إن أي رأي علمي وان كان ثابتاً بدرجة معتد بها كالأضرار المتعددة للعادة السرية يمكن أن يوجد من يعارضه. 3-إن حرمة الاستمناء بعد أن ثبتت بالشريعة ودلت عليها النصوص فلا يؤثر فيها وصول العقل البشري إلى علة ذلك الحكم والمصلحة فيه أو عدم وصوله، فإن الإيمان والتسليم بالشريعة مطلق [فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] (النساء:65)، وإن كنا نعتقد أن وراء كل حكم مصلحة واقعية هي ملاك الحكم وعلته.

س12: قد يمرّ الشاب بموقف مثير للشهوة الجنسية بحيث يكون من الحرج الشديد عليه عدم التنفيس عن شهوته بالاستمناء لعدم وجود زوجة له، فما الحكم؟

بسمه تعالى :

صحيح أن التكاليف الشرعية تسقط في حالات الحرج والضيق النفسي الشديد لقوله تعالى: [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] (الحج: 78)، وفي حالات الضرر لقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (لا ضرر ولا ضرار) وحالات عدم القدرة لقوله تعالى: [لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا] (البقرة:286) إلا إن ذلك لا يعفيه من المسؤولية والعقاب إذا كان ذلك الموقف قد حصل بسوء اختياره وإرادته، أي إنه هو الذي أوقع نفسه في ذلك الحرج بمشاهدة فلم جنسي أو صورة خليعة أو تواجدَ في أماكن اختلاط فاحش، لأن المعروف عن الشهوة الجنسية أنها لا تثار إلا بمؤثرات خارجية ومهيجات وليست هي كشهوة الطعام المنبعثة من داخل

ص: 362

الإنسان لحاجة الجسم إلى الغذاء والطاقة، ولذا اشتهرت كلمة عند العلماء (إن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار) أي إن تعذر امتثال الحكم الشرعي وامتناعه لعسر أو ضرر ما دام حصل باختيار الفرد، فإن هذا الامتناع لا ينافي نسبة الفعل إلى الفاعل لأنه كان بإرادته واختياره. محمد اليعقوبي

1423 ه_ / 2002م

ص: 363

الاستفتاءات والتوجيهات الاجتماعية

فقه العشائر

الاستفتاءات والتوجيهات الاجتماعية(1)

فقه العشائر(2)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين حبيب إله العالمين أبو القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

قال الله سبحانه وتعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ](الحجرات:13)، فالهدف إذن من تصنيف البشر إلى شعوب مختلفة وقبائل متنوعة بالملامح واللغات والتقاليد هو التعارف بينهم، أي ليعرف كل إنسان بسماته وخصائصه المميزة له ولتعرف أنسابهم، لا لكي يتفاخروا بها أو يتفاضلوا بها إذ ليس لجنس على آخر ولا لفصيل على آخر فضل وتفوق، كما

ص: 364


1- توجيهات ومعالجات لعدد من القضايا الاجتماعية، وقد نُشرت على شكل بيانات مستقلة في أزمنة مختلفة، ونذكر هنا بعضاً منها والباقي في كتاب (مسائل في الفقه الاجتماعي).
2- اقترح أحد طلبة العلم على سماحة الشيخ أن يجمع فتاوى السيد الصدر (قدس سره) –إبان مرجعيته- المتعلقة بالعشائر وسنائنها المعمول بها لتصحيح وضعهم فأثنى سماحة الشيخ على الفكرة وراجع ما جمع وكتب له هذه المقدمة وطبع الكراس بعنوان (فقه العشائر) حيث نال صدى واسعاً وتأثيراً وحركة في الأوساط العشائرية وكان ذلك قبل إقامته (قدس سره) لصلاة الجمعة المباركة.

تتبناه بعض الدعوات العصبية الجاهلية بل أساس التفاضل هو التقرب من الله تبارك وتعالى وتقواه.وبهذا المعيار ينظر الإسلام إلى الناس، فتراه يرفع سلمان الفارسي ويجعله من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً(1)، وبالمقابل تنزل سورة كاملة في القرآن الكريم بذم أبي لهب عم الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتبقى خالدة إلى يوم القيامة، ولنا عبرة فيما اقتص سبحانه من قصة نبي الله نوح وولده فقال له [إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ] (هود:46)، وقال تعالى: [يوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ، إلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ](الشعراء:88-89)، وقال تعالى: [فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءلُونَ] (المؤمنون:101) وقال تعالى: [وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ] (سبأ:37).

فالهدف الأسمى للإنسان في هذه الحياة هي معرفة الله سبحانه وتعالى وطاعته وعبادته [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إلا لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات:56)، ولا ينبغي أن يطاع أحد إلا من كانت طاعته من طاعة الله سبحانه، أما إذا كانت طاعة المخلوق تسبب معصية الخالق فهي مرفوضة (لا طاعة لمخلوق في معصية خالق)(2).

وهؤلاء الذين يطاعون من دون الله سبحانه يتبرأون من أتباعهم يوم القيامة

ص: 365


1- إشارة إلى الحديث النبوي الشريف في سلمان (سلمان منا أهل البيت) في حادثة مروية.
2- بحار الأنوار: 71:38.

ولا تنفعهم طاعتهم بل يلعن بعضهم بعضاً ويندمون حيث لا ينفع الندم، [وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ](إبراهيم: 21) [وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ، قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ](سبأ:31-32).ومثل هذه المخاصمات بين الأتباع ورؤسائهم كثيرة ومنتشرة في كتاب الله [حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَ_ؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَ_كِن لاَّ تَعْلَمُونَ] (الأعراف:38) وكل ذلك للتحذير مما وقعت فيه الأمم السابقة فإنهم أطاعوا كبراءهم فأضلوهم السبيل ولم يغنوا عنهم شيئاً من الله.

لذا يجب على كل من يسلّم قياده لأحد أو يدخل في طاعة أحد ومتابعته، أن يراقبه فإن كان في طاعة الله سبحانه سار معه وإلا نبذه وتخلف عنه، فإنه حينئذ –كفرعون- يقدم قومه حتى يوردوهم النار وبئس الورد المورود.

وأظن أن هذه المقدمة واضحة في أذهان الجميع ومتسالم على صدقها، لكن العجب بعد كل ذلك أن نرى كثيراً من الأنظمة العشائرية والتقاليد المتبعة فيها مخالفة صريحة للشريعة، ومع ذلك ترى لها قوة في التطبيق أشد من قوة الشريعة، فيرضخ لها الإنسان وينصاع وإن كان في ذلك معصية الله سبحانه ودخول جهنم.

ص: 366

فبالرغم مما ينطوي عليه النظام العشائري من حسنات وإيجابيات كالاتحاد والتآزر والتواصل وسد الحاجة، وما تنطوي عليه العشائر من خصال حميدة كالكرم والشجاعة والوفاء والغيرة والنخوة، لكن هذا كله يجب أن يكون في قالب الدين والشريعة ولا يزيغ عنها، ولا يجوز أن يكون ضغط العرف العشائري أكثر من الوازع الديني بل يجب تهذيب وتعديل هذا العرف بما ينسجم مع الشريعة. وإن الشيطان ليوحي إلى أوليائه بأنه النار ولا العار، والإمام الحسين (علیه السلام) يقول (العار أولى من دخول النار)(1)، على أنه ليس في تطبيق الشريعة المقدسة أي عار، بل العار في مخالفتها والشرف في الالتزام بها كما في الحديث (من أراد عزاً بلا عشيرة وشرفاً بلا سلطان فليخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعة الله)(2). فإن الإسلام يريد إصلاح البشرية وسعادتها أما من أغواهم الشيطان فيريدون الضلال والشقاء والتعاسة والفوضى والهمجية.

وإذا اجتمع الخصوم عند الله سبحانه فلا ينفع المذنب أن يقول أمرني رئيس عشيرتي بكذا وكان عليّ التنفيذ، فإنه يُرمى هو ورئيس عشيرته في جهنم ويكون مع المشركين الذين اعتذروا بأنه [إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ] (الأعراف:173).

فنهيب بإخواننا أبناء العشائر إلا يكونوا فريسة سهلة للشيطان ويضيّعوا دينهم ودنياهم من أجل تسويلات شيطانية ما أنزل الله بها من سلطان، فإن أشد الناس

ص: 367


1- شطر من بيت شعر ارتجز به الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء.
2- حديث عن السجاد (عليه السلام).

حسرة من باع دينه لدنيا غيره، فما معنى أن يتقاتل قوم فتذهب النفوس والأموال –وهم يدّعون الإسلام- من أجل كلام مفترى وتهم مدعاة من دون تحقيق، يلقيها مغرض أو منافق أو حاقد ويوقع العداوة والبغضاء بين المسلمين وهو عين ما كان يفعله اليهود بين الآوس والخزرج في المدينة، وسالت أودية من الدماء بسبب كلام فارغ يقال هنا وهناك وقد لا يكون له أساس من الصحة.وحتى لو حدث حادث... –لا سامح الله- بسبب نزوة شيطانية من زنا أو لواط أو قتل أو سرقة فقد جعل له الشارع المقدس ضوابط وحدود [تلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا] (البقرة:229) [وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ] (الطلاق:1) أما هذه الأحكام الجزافية التي جرى عليها العرف العشائري فما أنزل الله تعالى بها من سلطان، ومن يشرِّع أحكاماً بغير ما أنزل الله فإن عذابه شديد؛ لأنه ينازع الله تعالى في سلطانه ويجعل نفسه حاكماً في مقابل حاكمية الله تبارك وتعالى.

ونصيحتنا لرؤساء العشائر أن لا تغرهم هذه الرئاسات، فقد حذَّرَنا الأئمة من تولي رئاسة مجموعة من الناس مهما كانت قليلة لأنه يطول موقفه يوم القيامة ويسأل عن كل صغيرة وكبيرة، وإن ممن لا يشم ريح الجنة من تولى عرافة قوم أي رئاستهم ومشيختهم.

وكان السلف الصالح يتهربون من الزعامات ورعاً واحتياطاً لدينهم وفراراً من الوقوع في المزالق، فمن تبوأ مثل هذه المقاعد فليضاعف الحذر أمام الله سبحانه وتعالى وليكن على معرفة تامة بأحكام الشريعة لكي لا يقع في مخالفتها، ويجب أن يكون واسع الصدر رحيماً رؤوفاً بالناس يقبل العذر، وجامعاً لشتى الخصال النفسية الحميدة.

ص: 368

وهذه أسئلة توجه بها بعض الأخوة المخلصين الغيورين على الدين على شكل حوار فتوائي مع سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد الصدر (دام ظله الشريف)، وهي كما هو واضح شاملة لكثير من التقاليد والعادات والقوانين العشائرية المنحرفة الظالمة، وتفضل سماحته بالإجابة ليعلن بصراحة رفض الشريعة المقدسة لها، وليبين رأيه الحق فيها لعل فيها ذكرى لمن يتذكر أو ألقى السمع وهو شهيد. وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب وهو نعم المولى ونعم النصير.محمد اليعقوبي(1)

5/شهر رمضان المبارك:1417 ه_

الموافق 15/ 1/ 1997م

ص: 369


1- حينما صدر الكراس كانت المقدمة بتوقيع (أحد طلبة الحوزة العلمية الشريفة) حيث لم يشأ سماحة الشيخ التعريف باسمه.

تحية الإسلام السلام

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطاهرين

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله الشريف)

1- نرجو توضيح صيغة تحية الإسلام وصيغة الرد بصورة شرعية واجبة.

2- بعض من نقوم بالتحية عليه لا يرد بصورة شرعية كاملة مثل : (وعليكم ورحمة الله)، ولا يأتي بلفظة السلام ضمن الرد، فهل هذا الجواب كافٍ ومجزٍ ؟.

3- بعض من نسلم عليه يرد بتحية (هلة عيوني أو هلة ومرحبة)، فماذا تقولون لهؤلاء الغافلين؟

4- إن هناك من يجادل في التحية ويقول إن الردّ (السلام ورحمة الله وبركاته) رد مجزٍ، فماذا تقولون في ردّه هذا؟ إذ أننا نعلم أن الرد (وعليكم السلام) هو الرد الكامل والمجزي شرعاً حتى لا يأثم عليه الإنسان أمام الله.

5- يحصل أن يسلم الإنسان على رجل لا يسمع بصورة جيدة بحيث من المحتمل انه لا يسمع السلام، أو العكس، فماذا تقولون أفتونا مأجورين: هل يأثم الرادّ للسلام إذا كان المسلم لا يسمع الرد؟.

6- هناك حالة تقع في باص نقل الركاب، فمثلاً يكون هناك أشخاص جالسون في نهاية الباص وحين يصعد شخص يسلم والذين في المقدمة لا يردّون ع، فهل الكل يأثم، حتى الذين في النهاية وهم ممن إذا ردّوا السلام لا يسمعه الشخص الذي صعد وسلّم، فما رأيكم في ذلك؟

ابنكم في محافظة العمارة

ص: 370

بسمه تعالى :لكل شعب أو تجمع بشري شكل من أشكال التحية، سواء كانت بالألفاظ أو بالحركات كطأطأة الرأس أو وضع اليد على الصدر أو رفعها، وقد اختار الله تبارك وتعالى للمسلمين تحية اشتقها من أسمائه الحسنى وهو (السلام) الذي يشعر لفظه بالطمأنينة والسكون والسعادة والأمان، وأنه لا يضمر للمقابل أي شرّ وسوء، بل يحمل له الود والسلام، لذا ورد في الحديث النبوي الشريف: (السلام تحية لملتنا وأمان لذمتنا).

فمن الغريب أن نختار لأنفسنا تحية غير ما اختاره الله تبارك وتعالى ونعرض عنها ونحن نعلم أن الله خير لنا من أنفسنا، ويعلم بما يصلح حالنا وَ[مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ] (الأحزاب:36)، لكنه انبهارنا بالظاهر المزخرف لحضارة الغرب وضياع شخصيتنا وقيمنا في خضم التقليد الأعمى لهذا الغرب النكد القلق المنهزم نفسياً، فكيف يهبنا الاستقرار والسلام والسعادة وفاقد الشيء لا يعطيه، فلماذا نأخذ منه عاداته وتقاليده الخاوية من المعاني السامية ونتخلى عن قيمنا العالية التي هي مصدر قوتنا؟ وكيف نتنازل عنها طواعية وتبرعا ونبقى كالورقة في مهب الريح، كما وصفت الزهراء (ع) حال العرب بلا إسلام (على شفى حفرة من النار، مذقة الشارب ونهزة الطامع وقبسة العجلان وموطئ الأقدام، أذلة خاسئين تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم) وهذا هو حال المسلمين في كل زمان ومكان إذا تخلوا عن إسلامهم ومنهج الحياة الذي اختاره الله لهم والذي استوعب كل شؤون الحياة، الصغيرة والكبيرة الفردية والاجتماعية.

ص: 371

ومما اهتمت به الشريعة الإلهية تنظيم العلاقات الاجتماعية فوضعت لذلك أدباً وأحكاماً، ومنها التحية بين الأشخاص عندما يلتقون. وأنت حينما تقرأ هذه الآداب تجد شاهداً حياً على كمال هذه الشريعة ورقيها، ويجعلك تذعن أنها ليست من وضع البشر، وهيهات أن يصل إليها ذهن أحد، وسأختصر بعض تلك الآداب والأحكام، والتفصيل موجود في الرسائل الفقهية والعملية وكتب الأخلاق.فأداء السلام على من تلتقي به من المستحبات الأكيدة، وجعل إفشاء السلام وتكثيره في أوساط المجتمع من أهم الأعمال، ففي الحديث الشريف عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (أولى الناس بالله وبرسوله من بدأ السلام)، وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (ألا أخبركم بخير أخلاق الدنيا والآخرة؟ قالوا: بلى يا رسول الله. فقال: إفشاء السلام في العالم)، وفي وصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (يا علي، ثلاث كفارات: إفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام)، وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا، أولا أدلكم على شيء إن فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)، وفي حديث: (إن السلام اسم من أسماء الله الحسنى فأفشوه بينكم)، وقد أمر الله تبارك وتعالى بالسلام عند دخول البيوت حتى لو لم يكن هناك أحد، فقال تعالى: [فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً] (النور:61)، وقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ](النور:27).

ومن هنا تعرف ما عليه الكثير من أفراد المجتمع من البعد عن الأدب

ص: 372

القرآني حينما يدخلون إلى الدار بلا سلام ولا استئذان، وأحيانا يفعل رب الأسرة ذلك فيكون قدوة سيئة لأفراد أسرته، ولا أدري هل إن منشأ هذا التصرف الاستكبار والاستنكاف عن السلام على أهله؟!وقد جعل حديث آخر عدم انتشار السلام مسبباً لحصول القطيعة بين أفراد المجتمع ففي حديث: (وإذا قلّ سلام المؤمنين بعضهم على بعض ظهرت العداوة والبغضاء بينهم)، ويستحب السلام على أرواح المؤمنين عند زيارة قبورهم بنصوص مأثورة. وسنفصل هذا الأمر في كتاب مستقل يتضمن هذه الفقرة.

ورد السلام واجب حتى لو كان الشخص في حالة صلاة، والرد يكون بمثل التحية الملقاة أو أحسن منها، كما قالت الآية الشريفة: [وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أو رُدُّوهَا] (النساء:86). ولا بد أن تتضمن التحية كلمة (السلام) بأية صيغة، فلو قال (السلام عليكم) جاز رده ب_(عليكم السلام) أي مثلها والأحسن منه أن يضيف (ورحمة الله وبركاته)، والماشي هو الذي يسلم على الواقف، والواقف يسلم على الجالس، والفرد يسلم على الجماعة، وإن رد بعض الجماعة كفى عن الباقين، والأولى أن يردوا جميعاً، ولو لم يرد أحد أثم الجميع لتركهم واجباً، ولو افترق المسلم عن أخيه بأي فاصل مهما كان بسيطاً كأن فصلتهما أسطوانة فيستحب السلام من جديد، والذي يبدأ السلام يكون له من الأجر أضعاف الراد، ويستحب أن تكون مع السلام مصافحة، ففي الحديث: (ما تصافح مؤمنان إلا وتساقطت بينهما الذنوب كما يتساقط الورق من الشجر)، وأن لا ينزع يده من المصافحة حتى ينزعها الآخر.

ص: 373

وأكتفي هنا بهذا المختصر لأجيب باختصار عن الأسئلة أعلاه:1- إذا تضمنت التحية كلمة (السلام) أصبحت إسلامية ووجب ردها، وتكون أكمل لو تضمنت الكلمات الأخرى: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته)، والرد يكون إما مماثلاً للتحية أو أكمل منها.

2- لا بد من الإتيان بكلمة (السلام) في الجواب ليكون كافياً ومبرئاً للذمة.

3- هذا من العادات السيئة في المجتمع وناشئ عن الانحراف عن الشريعة الذي أشرنا إليه في المقدمة، وقلنا أنه من ضياع معالم الشخصية الإسلامية لدى المسلمين ،ولا يعتبر هذا رداً كافياً شرعاً، وهو بذلك يتحمل مسؤولية شرعية، أي يكون آثماً لعدم الرد بشكل صحيح.

4- اتضح مما تقدم أن هذا مجزٍ فعلاً، لكن الأكمل هو إتمام الصيغة.

5- يضم الإشارة مع الألفاظ كرفع اليد أو وضعها على الصدر، ليتحقق المطلوب الشرعي.

6- في هذه الحالة يكون الجالسون في الأمام قد قصروا، وإذا كان السلام مختصاً بهم من قبل القادم، فقد أثموا بعدم الرد، ولا بد للجالسين في الخلف أن يردوا بشكل مناسب ويُسمعوه الرد إن استطاعوا.

الشيخ

محمد اليعقوبي

ص: 374

رسالة إلى الآباء في تربية الأبناء

بسم الله الرحمن الرحيم

هذه نقاط مهمة جمعها أحد المؤمنين الرساليين ولخصها من بعض المصادر التربوية، ونحن نضعها بين يدي أولياء الأمور من آباء وأمهات ومعلمين وغيرهم، وينبغي لأي واحد منهم أن يجعلها في متناول يده أو يعلقها في مكان بارز في البيت ليراجعها باستمرار، ونأمل أن يساهم الالتزام بها بأي درجة ممكنة في تكوين أسرة صالحة تتربى في أحضان الإسلام وتنعم بالحب والسعادة.

1 - انتبه إلى كلماته التي يطلقها في البيت وبيّن له السقيم منها والنافع.

2 - علمه على احترام أخوته الكبار وجيرانه وعدم الإساءة إلى الآخرين.

3 - علمه كيف يجلس في مجالس الكبار، وأن لا يتكلم إلا إذا سئل أو أذِن له.

4 - أعطه بعض الهدايا، ولتكن فكرية مثل مكعبة بناء أو قصة مفيدة، إن استطاع تأدية بعض الأمور التي فيها جانب ديني (كحفظ آية قصيرة مثلاً) وإن لم تكن هناك هدية، فاشكره واثنِ عليه وشجعه بأسلوب لطيف كأخذه في نزهة أو زيارة الأقارب.

5 - علّمه حفظ القصائد من القريض أو الشعبي الخاصة بثورة الحسين (علیه السلام) والأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وكافئه عليها.

6 - لا تستهزئ به إن طرح عليك أمراً معيناً أو اقترح شيئاً بل اهتمّ به وبأفكاره.

7 - ابتدئه بالكلام ولا تتردد، فإني أرى كثيراً من الآباء تكون العلاقة بينهم وبين أبناءهم أستطيع أن أسميها - إن صح التعبير - (جامدة)، وهذا خطأ يقعون به، فقد يضطر ذلك بالابن إلى أن يشكو همومه وما يخالجه إلى

ص: 375

أصدقائه، وغالباً ما يكون الصديق منحرف التفكير، فيؤدي إلى إفساد ابنك، وعلى العكس إن كنت منفتحاً مع ابنك فهذا سيؤدي به إلى أن يشكو إليك ما يدور في نفسه، وهذا هو المهم.8 - لا تحاول توبيخه أو إهانته إذا أخطأ أمام أخوته فضلاً عن توبيخه أمام الآخرين، وهذا ما أشاهده بكثرة، وهو ليس أسلوباً تربوياً بل حاول أن تتفرد به وتبين له ما أخطأ به.

9 - احترم سؤاله إذا سأل، وإن كان سؤاله في نظرك تافهاً، وأجبه حتى لو كان حرجياً بأسلوب تربوي أخلاقي لا ينافي مستواه العقلي، ولا تتردد في الجواب، وإن عجزت فأجّل جوابه إلى اليوم التالي بعد اختيار العبارات المناسبة والتأكد من الجواب من بعض أهل الاختصاص، فإن نسي السؤال فابدأ بتذكيره وأعطه الجواب بعد ذلك.

10 - خذه معك إلى مجالس العزاء الحسيني، فهو في هذا السن يكون متوقد التفكير، فركز على مسألة الحسين العقائدية، وبين ما جرى للحسين (علیه السلام)، وبيّن أهداف الحسين (علیه السلام) من الثورة، كتركيزك على الجوانب المهمة في الثورة (كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو عدم الرضى بالظلم والظالمين) ... وما إلى ذلك.

11- إذا أخطأ ولدك فيجب عليك ردعه بمقدار خطأه حتى لا تقع في ظلمه، فمثلاً: بعض الأمور لا تحتاج منك إلى أن تزجره بل مجرد النظر إليه بحدة فيعرف خطأه، وبعضها الآخر يحتاج إلى أن تزجره ببعض الكلمات والتي يجب أن لا تكون جارحة، ولا تلجأ إلى أسلوب الضرب فإنه من الأساليب

ص: 376

الخاطئة واللاتربوية، وبعد ردعه بيّن له خطأه وعلاجه.12 - الأب قدوة لابنه ينظر إليه في جميع تصرفاته فيقلده فيها. فلتكن تصرفاتك وفق موازين ثابتة غير قابلة للتغيير، فلا تنهه عن شيء ويراك فاعلاً له بعد ذلك.

13 - لا تعده بشيء لا تستطيع فعله، فيظن أنك كذبت عليه أو استغفلته.

14 - احنو عليه وقبّله، وليشعر منك الرحمة والقرب دائماً، وأعطه قسطاً من وقتك القليل.

15 - إذا عدت إلى الدار فلتكن في يدك هدية ولو متواضعة جداً كالحلوى أو النستلة لأنها تدنيه إليك أكثر.

16 - علّمه على تنظيم وقته بصورة جيدة، فاجعل أوقات لعبه في ساعة معينة، وأوقات تحضيره في وقت ثابت كذلك، وعلمه النوم مبكراً و الاستيقاظ مبكراً.

17 اجعل له برنامجاً تعلمه فيه آيات من القرآن، وكذلك أساسيات المذهب كتعليمه أصول الدين وفروعه.

18 - علّمه على الصلاة خلفك في كل صلاة وكذلك علّمه الوضوء.

19 - اعزل غرفته لوحده إن استطعت، وذلك ليشعر بالاستقلالية وإلا فليكن سرير منامه لوحده، وله مكان خاص لوضع حاجياته.

20 - إذا طلب منك شراء شيء له كلعبة مثلاً، وأنت لا ترى في شرائها مصلحة، بيّن له سبب عدم الشراء وكذلك إن كنت لا تستطيع شراءها بيّن له بأساليب تربوية وصحيحة نوعاً ما.

ص: 377

21 - علمه كيف يكون ذا شخصية أمام أقرانه وأصدقائه وأن يعفو عمن أساء له ولا يظن بهم إلا خيراً.

22 - حمّله بعض المسؤوليات البيتية التي تتناسب مع سنه، واشكره على تأديتها بها على الوجه الصحيح، ولا توبخه إن أخطأ بل علمه على العزم على العود في تأدية نفس العمل وبالشكل الصحيح، ولا تثقل عليه المسؤوليات.

23 - اجعل له هواية مفيدة تنمي قابليته العقلية والجسدية.

24 - غض النظر عن بعض التصرفات التي تظن أنها تغتفر.

25 - راقبه ولا تحاسبه على كل صغيرة وكبيرة إلا التي تراها تؤدي إلى مفاسد أخلاقية بعد ذلك.

26 - راقب المستوى العلمي والثقافي لابنك وسؤاله عن دروسه وخصوصاً درس اللغة العربية والإسلامية.

27 - حاول مذاكرة بعض الدروس له مع بيان طريق الدراسة.

28 - حاول قراءة كتبه والاطلاع على الأمور التي فيها إفساد للعقيدة وإعلامه بفسادها.

29 - حاول أن تتصل بأحد معلميه ممن تثق بدينهم وتطلب منه الاهتمام به حال تواجده في المدرسة.

30 - مسألة التأكيد على الكتابة للمواضيع والقراءة لبعض الدروس وأمامك شخصياً، فإني أرى بعض التلاميذ وهم في المرحلة الخامسة من الدراسة الابتدائية أراهم غير قادرين على كتابة حتى أسمائهم، فضلاً عن ذلك فانه لا يستطيع قراءة جملة بصورة صحيحة، وقد يكون غير قادر بتاتاً حتى على

ص: 378

التهجّي، وقد ذكرت هذا في إحدى محاضراتي للناس، إن هذه النتيجة تسهل مهمة أعداء الإسلام وهدفهم واضح وهو القضاء على المجتمع من خلال القضاء على طليعته وأطفاله وجعلهم أناساً جهلة، وبالتالي يمكن السيطرة عليهم بسهولة وإفشاء ونشر العقائد الفاسدة المحرّفة، فهل يعلم المعلمون ويدركون هذا الخطر؟! إنا لله وإنا إليه راجعون.31 - حاول أن لا تجعله يتأخر خارج البيت بعد انتهاء الدوام، بل تطالبه بالرجوع مباشرة بعد انتهاء دروسه.

32 - هناك من الأشخاص من يحاول أن يهبط من قيمة الدراسة والشهادة من الأقارب أو غيرهم، فحاول أن ترفع لدى ابنك قيمة الشهادة والعلم والتعلّم.

33 - تنبيه الأطفال والعائلة على حرمة أغلب ما يعرض في وسائل الإعلام، وأخطرها (التلفاز) وبيّن لهم أن ذلك يعارض التشريع الإسلامي.

34 - يجب أن تبين لهم أن هذه البرامج تعرض لغير المسلمين وليس لنا، فنحن المسلمون نرفض ذلك رفضاً قاطعاً، وأغلب ما يعرض محرم لدينا، مثلاً:

أ - أفلام الدعارة والجنس، وبعض أفلام الكارتون الهادفة إلى تدمير الطفل المسلم، فعلى الأب عندئذٍ أن يميز بين النافع وغيره من أفلام الكارتون حتى يجنبهم الضار منها.

ب - الغناء فإنه محرم وفيه وردت روايات عن الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).

ج_ - إظهار العاريات على شاشة التلفاز الذي يجلب خطورة عظمى على الفرد ويؤثر فيه تأثيراً سلبياً.

أما البديل عن مشاهدة التلفاز:

ص: 379

أولا - أن يقوم رب الأسرة بإشاعة جو المرح بين أطفاله، فيلعب معهم أحياناً ويوجههم أحياناً أخرى، وأمرنا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن نتصابى مع الأطفال، أي نلعب معم بألعابهم.

ثانياً - أن يقوم رب الأسرة بتوفير بعض الألعاب الفكرية الهادفة ويلعبها معهم.

ثالثاً - أن يحكي لهم الحكايات التاريخية المسلية.

رابعاً - أن يجتمع بالعائلة كل يوم ويقوم بقراءة كتب أخلاقية أو تأريخية وهم يستمعون.

خامساً - أن يقسم وقته بين العمل وبين البيت، أي أن لا يهتم بعمله فقط وينسى مسؤولياته مع زوجته وأطفاله؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يخلقنا للسوق فقط، والسعي واللهث وراء الدنيا، بل نعمل على قدر حاجتنا.

35 - ملاحظة الصديق ومعرفته والسؤال عنه، والمهم جداً أن يكون من عائلة دينية ومن أهل صالحي التربية.

36 - إذا رأيت أنه يماشي سيئ الأخلاق ، فانصحه بالابتعاد عنه مبيناً له السبب في ذلك.

والحمد لله رب العالمين

ص: 380

عنوان إجاباتي في الإصدارات ووجهها الفقهي

عنوان إجاباتي في الإصدارات ووجهها الفقهي(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

سماحة الشيخ اليعقوبي – أعزّه الله –

بأي عنوان يجيب فضيلتكم على الاستفتاءات المقدمة إليكم من بعض المؤمنين؟

بسمه تعالى :

ما يصدر عني غالباً هي توجيهات ونصائح اجتماعية تدخل في وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي هي واجبة على جميع المكلفين، وهي تقع ضمن الإطار العام للإسلام، كما يكتب أحدٌ حقوق العامل في الإسلام، أو النظام الاقتصادي في الإسلام، وأحكام المرأة في الإسلام، وهكذا....

وأحرص أن يكون الجواب مبرئاً لذمة المكلفين مهما كان تقليدهم من المراجع المبرئين للذمة؛ وذلك بأن أنقل فتوى السيد الصدر (قده) ما لم يعلم بالخلاف مع المراجع الأحياء الذين قامت حجة شرعية على وقوعهم في دائرة محتملي الأعلمية، وإذا عُلم الخلاف فأنقل للمؤمنين الفتوى الأحوط، وهدفي من ذلك أن تعمّ التوعية الدينية للجميع، ولئلا يكون الاختلاف في التقليد عائقاً عن متابعة هذه الإصدارات

ص: 381


1- بعد النجاح الذي حققته الحركة الواعية لسماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) والتفاف الشباب والمثقفين حوله حاول بعض الحوزويين عرقلة الحركة وإثارة الشكوك بعدم أهلية الشيخ لإجابة الاستفتاءات، فجاء هذا الجواب للإيضاح ورد تلك الشكوك.

الاجتماعية والاستفادة منها؛ لذا لم أكتب عليها أنها مطابقة لفتوى أحد، ولو أن هذا الفعل قد أسيئ فهمه، لكني أتحمله لأني أرجو أن يكون عملي خالصاً لله تبارك وتعالى.أما الاستفتاءات الفقهية الصرفة فإني أجيب كل أحد بحسب فتوى مرجع تقليده ما دام مبرئاً للذمة.

محمد اليعقوبي

ص: 382

التبني بين الشريعة والعرف

بسم الله الرحمن الرحيم

التبني – بمعنى احتضان أبناء الآخرين ورعايتهم وتربيتهم – عمل إنساني جليل لما يتضمن من إيجابيات عديدة منها:

1- توفير الفرصة لمن حرموا من الذرية أن يشعروا بهذه النعمة من خلال هؤلاء المتبنين.

2- حفظ حياة الأبناء الذين يتخلون عنهم أهلهم لسبب أو لآخر ويحاولون التخلص منهم إما برميهم بالشوارع العامة، أو في دور اللقطاء والأيتام.

3- التخفيف عن كاهل بعض الأسر التي تشعر بأعباء الإنفاق على العيال الكثيرين، لذا ورد في الحديث: (قلة العيال أحد اليسارين).

4- قد يكون المتبنى يتيماً فيفوز كافله بثواب عظيم، ذكره الحديث الشريف: (أنا وكافل اليتيم كهاتين) وأشار إلى أصبعين متجاورين له (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إشارة إلى منزلة كافل اليتيم منه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يوم القيامة.

وتتجلى الرحمة الإنسانية بوضوح في عملية التبني، وهي مشتقة من رحمة الله تعالى التي هي أحب صفاته تبارك وتعالى إليه حتى اختار اسمين من الرحمة (الرحمن، الرحيم) دون غيرهما من الأسماء الحسنى في البسملة ليفتتح بها كل شيء، وفي الحديث: إن الله يحب من عباده الرحماء ويحب رقة القلب ويثيب عليها بلا حساب، لأنه كريم ولا يسبقه أحد، فإذا كان المخلوق يحمل هذه الرحمة فكيف سيجازيه.

وفي بعض قصص الأنبياء السابقين (ع) أن امرأة فاسقة دخلت الجنة لأنها

ص: 383

رأت قطة عطشى قرب بئر ولا تستطيع أن تشرب الماء، فاحتالت المرأة لذلك طريقة وسقتها الماء، فأخبر نبي ذلك الزمان بأن الله تعالى كتب لها الجنة بهذا العمل، بشرط إقلاعها عن فسقها طبعاً.وقد تبنى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) غلامه زيد بن حارثة حتى بلغ مبلغ الرجال، فزوجه ابنة عمته زينب. وكذا عندما مر أبو طالب(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بصعوبة في معاشه، فاتفق النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعمه حمزة (ع) أن يعيناه لكثرة عياله، فأخذ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) علياً (ع) وأخذ الحمزة جعفراً (ع) فتربيا عندهما. وإن كنا نعتقد أن تربية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لعليّ وتولي أمره كانت وفق تخطيط إلهي محكم لإعداد الامتداد الرسالي الكامل للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

لكن هذه العملية الإنسانية – أعني التبني - يجب أن تكون ضمن الضوابط الشرعية؛ لأن الفوضى مرفوضة خصوصاً في الأنساب، وما نزلت الشريعة إلا لتنظيم حياة البشر وإسعادهم في الدنيا والآخرة، ومن المؤسف أن المجتمع غير ملتفت لهذه الأحكام الشرعية للتبني، مما سبب مفاسد كثيرة واختلالاً في الحقوق والواجبات، لذا اقتضى التنبيه لذلك ضمن النقاط التالية التي تمثل الإجابات عن الأسئلة الرئيسية في هذا المجال:

1- لا تترتب آثار النسب على التبني، فلا تكون المرأة التي احتضنته أمّاً له ولا الرجل أباً، ويلزم من ذلك أن الأم يجب أن تتحجب من الولد المتبنى، وتتحجب البنت المتبناة من أبيها ومن أولاده الذين يراهم العرف أخوتها، ومن حق الرجل أن يتزوج هذه البنت المتبناة، كما أن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تزوج بامرأة متبناه زيد بعد أن طلقها، وكان ذلك بأمر الله تعالى: [وَإِذْ تَقُولُ

ص: 384

لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً] (الأحزاب:37)، وقد كانت العرب تمنع من ذلك لأنهم يعتبرون هؤلاء الأدعياء أبناءهم.والحل الشرعي لهذه المشكلة أن الأبوين إذا شاءا تحريم الابن والبنت عليهما فيمكن أن ترضعه الأم التي تبنته، أي أمه بحسب العرف، إن كان عندها حليب بشروط الرضاع المحرم، ومنها أن يكون في عمر دون السنتين، وأن تواصل إرضاعه خمس عشرة رضعة متوالية من دون أن تفصل بينها بحليب آخر كالمجفف أو طعام فتصبح أمه فعلا بالرضاعة، ويصبح الرجل أباه وأولادهما أخوانه، وإذا لم يكن عندها حليب فتدفعه إلى أختها فتصبح خالته، وإن كانت بنتاً فيعطيها الرجل لأخته فترضعها فيصبح خالاً لها وهكذا.

2- وتفريعاً عن النقطة السابقة فإن هذا الابن المدّعى لا يرث ممن يتبناه، ولا هما يرثانه لعدم وجود نسب بينهما، فان أراد المدعي له أن يعطيه من أملاكه، فإما أن يهبه ما يريد في حياته، أو يجعل له حصة من ثلث التركة الذي له الحق شرعاً في أن يضعه حيث يشاء، ولا يجوز للمتنبى أن يرث وفق القسام الشرعي وإن كان من ناحية رسمية مسجلاً كابن للمتوفى.

3- لا مانع من أن يسجل الرجل متبناه باسمه في دائرة الأحوال المدنية أو دائرة الجنسية ليتمتع بحقوق المواطنة كاملة كالدراسة وتسجيل الزواج والعقار، ولكن المهم عدم ترتيب الآثار الشرعية على هذا التسجيل من حيث النسب

ص: 385

والميراث، ولتلافي هذه المشكلة يقرُّ في ورقة ويشهد عليها عادلان على أن هذا ليس ولداً له، ويعالج المشكلة بما ذكرناه في الفقرتين السابقتين.4- قد علمت أنه لا مانع شرعاً، بل يجب أحياناً، التقاط الأبناء من دور اللقطاء والأيتام وغيرها وإجراء اللازم لاحتضانهم وتربيتهم؛ فإذا كان له نسب معروف فيجب إلحاقه بنسبه امتثالا لقوله تعالى: [ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ] (الأحزاب:5) عندما كان البعض يسمّي زيد بن حارثة: (زيد بن محمد)، وعلى جميع الأطراف ترتيب الآثار الشرعية مع الأب الحقيقي.

5- ليس في المتبنى أو كون الابن لقيطاً أي منقصة من ناحية شرعية، بل حتى في ابن الزنا فإنه لا يؤاخذ بجريمة والديه، وإذا حرمه الشرع المقدس من بعض المواقع كإمامة الجماعة، ومرجعية التقليد فلأسباب اجتماعية لا تتعلق به ولا تكشف عن نقص أو انحراف فيه، وإنما مراعاةً لشعور المجتمع الذي يشعر بالحزازة النفسية من الائتمام به أو تقليده، كما يقبح بالعالم أن يأكل في الشارع أو يمشي مكشوف الرأس فلا مانع منه شرعاً ولكن العرف العام لا يقبله، فروعي هذا الجانب فيه.

6- ينبغي إعلام المتبنى منذ صغره بالحقيقة ليسهل على جميع الأطراف تطبيق الأحكام الشرعية كتحجّب أمه وأخواته المدعاة منه أما إبقاء الأمر سراً حتى الكبر، فإنه يسبب صعوبة في التطبيق وإن كانت طاعة الله لازمة على عباده وليس لهم الاعتراض عليها أو تأجيلها.

7- لا يوجد عمر محدد للتبني، لكن تبني الطفل وهو دون السنتين يتيح فرصة لبعض الحلول الشرعية التي ذكرناها في الفقرة الأولى.

محمد اليعقوبي

ص: 386

السفر إلى خارج البلاد

س1: في النية وبعد إكمال الإجراءات الرسمية إلى إحدى الدول الغربية لغرض الدراسة فما هو رأي الشرع الشريف في هذه المسألة؟

بسمه تعالى:

إن السفر لغرض الدراسة في الخارج لا بأس به بعنوانه الأولي بل ضروري لنقل علوم وتكنولوجيا الآخرين إلينا ولكن المشكلة تكمن في السلبيات التي ترافقه كضياع الدين وذوبان الفرد المسلم في العادات والتقاليد الكافرة فيكون السفر حينئذ من الكبائر المعبر عنها (التعرب بعد الهجرة)، كما أن السفر الآن لم يأخذ هذا الشكل أي نقل علوم العصر إلينا بل العكس حيث أصبح السفر هجرة للعقول المسلمة إلى الغرب من أجل حفنة من الدولارات بحيث يخشى أن يأتي اليوم الذي يخلو فيه البلد من العقول الفعالة وفي ذلك تضييع لمستقبل هذا البلد.

ولا أجد الحصول على بعض الدولارات مهما كثر مبرراً كافياً لترك بلد الإسلام ومهوى أفئدة العالم الذي يدفع الملايين لزيارة هذه الأرض المباركة ومن حل فيها من الأئمة الطاهرين (علیهم السلام) وبلد الحوزة العلمية الشريفة وهي إضافة إلى ذلك عاصمة الإمام المنتظر أرواحنا له الفداء.

س2: بعض الأشخاص يبيع ممتلكاته لغرض جمع مبلغ بحدود (2500-3000) دولار من أجل أن يبدأ بعمل أو مشروع بأحد الدول الغربية فما حكم من يعمل ذلك؟

ص: 387

بسمه تعالى: إذا كان عنده هذا المبلغ فيستطيع ان يفتح مشاريع منتجة اقتصاديا هنا في البلد فيبقى بين أهله وإخوانه المؤمنين وفي بلد الإسلام وفي نفس الوقت يكون قد استثمر أمواله وأوجد عدة فرص عمل لإخوانه وساهم في تحريك عجلة الحياة، ولا أجد لمثله مبررا لمغادرة البلد وتقديم نفسه وماله لقمة سائغة وجاهزة للكفار لكي يوظفوها في الكيد لنا وتدميرنا، وقد قال تعالى: [وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً] (النساء:141).

س3: ما حكم التجار أو بعض ذوي رؤوس الأموال الذين يستثمرون أموالهم في بلاد الغرب؟ وهل يعتبر ذلك إعانة ونصرة للكافرين على المسلمين؟

بسمه تعالى:

هذا عمل مرفوض وفيه نصرة ودعم للكفار فإن الإحصائيات تشير إلى أن اعتماد الاقتصاد الغربي على أموال المسلمين، وكمثال رقمي على ذلك فإن أرصدة دولتين مسلمتين من دول الخليج في البنوك الأجنبية هو 750 مليار دولار، ونحن نعلم أن المال هو الذي يسير عجلة الاقتصاد فلك أن تتصور مدى الدعم والمساندة الذي يقدمه المسلمون لأعدائهم! فشرايين حياة الغرب بأيديهم وهم غافلون عن قوتهم بل يقدمون السلاح بكل سرور إلى أعدائهم ليفتكوا بهم... ما عشت أراك الدهر عجبا!!.

ص: 388

س4: ظهرت في الآونة الأخيرة ظاهرة التزويج على الصورة حيث يطلب بعض الشباب المسلم في بلاد الغرب الزواج من إحدى النساء مشترطاً الجمال في أغلب الأحيان ولا يراعي غير هذا الشرط فيرسل إليه بصورة إحداهن فإذا وافق على جمالها يرد الجواب بشحنها إليه حالها حال أي بضاعة أخرى فهنا عدة أسئلة:

1-هل يصح هذا الاختيار للزواج؟

2-ما حكم إجبار الفتاة على الزواج بهذه الطريقة طمعا في المال؟

3-ما هي نصيحتكم لمن يقبلن من اجل الحصول على متع الحياة الدنيئة؟

4-من نتائج هذا السفر هو ترك الحجاب والالتزام الديني فهل يرضى الشارع المقدس بهذه النتيجة؟

ما حكم من يسعى لإتمام هذا الزواج مع علمه بنتائجه أعلاه؟

بسمه تعالى:

1- على الشاب المؤمن أن يبحث عن صفات مهمة أخرى في المرأة وليس الجمال وحده كالالتزام الديني والأخلاق الفاضلة وحسن العشرة والمعدن الكريم، وقد ورد التحذير من التركيز على صفة الجمال دون الصفات الحسنة الأخرى كقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (إياكم وخضراء الدمن، قيل: ومن هي يا رسول الله؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء) وقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (تخيروا لنطفكم فإن الخال أحد الضجيعين) بمعنى تأثير قرابة الأم في صفات الولد.

ص: 389

فنحن لا نعترض على ملاحظة الجمال وطلبه ولا الاطلاع على الصورة للتأكد من توفر هذه الصفة وإنما نقول بضم البحث عن الصفات الحسنة الأخرى إلى هذه الصفة.2- هذا بالنسبة للرجل أما المرأة فلا يجوز إكراهها على الذهاب إلى البلاد الأجنبية ومعها حق لو رفضت من عدة جهات: أولاً: مجهولية حال الزوج من حيث تديّنه وأخلاقه وحسن سيرته حتى لو كانت الصورة السابقة عنه حسنة فلا ندري مدى تأثره بانحرافات الغرب وسلبياته وقليل هم على درجة من الوعي والإيمان بحيث لا يتأثرون بالأجواء اللادينية هناك؟

ثانياً: إنها بتركها لأهلها وابتعادها عنهم ستفقد ركناً وثيقاً تستند إليه ليحميها عند الأزمات أما هناك فستكون كالورقة في مهب الريح إلا أن يكون توفيقها عظيماً فتحظى بزوج مؤمن يسعدها ويعوضها عن كل ما تركت ويحنو عليها، وكم سمعنا عن حالات تجد المرأة غير ما أملت فتغلق السبل أمامها فلا هي تستطيع أن توافق الرجل في منهج حياته وليس لها أهل حتى تأوي إليهم.

3- البنت أمانة في رعاية ولي أمرها وعليه أن يحفظ الأمانة ويصونها ولا يسلمها إلا إلى أهلها فإذا قصر الولي في ذلك فهو خائن، فلا يغرنه شيء من متاع الدنيا الرخيص الزائل ويسيل لعابه لحفنة دولارات فيظلم ابنته الوديعة لديه.

4- ويقع في حرمة أكيدة لو علم أن مثل هذا الزواج سيؤدي إلى وقوع البنت في بعض المعاصي كالسفور والاختلاط بالرجال الأجانب مما يعد مألوفاً عند الفسقة، ولا يملك المسلم الفارغ الشجاعة التي تمكنه من الوقوف في وجه

ص: 390

هذا (الأتكيت) الشيطاني.5- ويشاركه في الإثم كل من يسعى لإيقاع الفتاة المسكينة في شراك هذه الذئاب وليست جنايتهم على الفتاة فقط وإنما على مجتمع المسلمين ككل لأن هذه الحالة ستتبعها حالات، ثم ما مصير الأجيال القادمة التي تتركها في ظرف الضياع والانحلال والتفسخ ومن يكون المسؤول عن هذه الخسارة الكبيرة.

س5: ما هو الحكم الشرعي لظاهرة هجرة العقول المفكرة وأصحاب الشهادات إلى:

أ- البلدان العربية؟

ب- بلاد الغرب الكافر؟

بسمه تعالى:

إنها خدمة مجانية تقدمها على طبق من ذهب إلى أعدائك ليتقووا على قتل إخوانك، فتباً لها من خاسرة أن تهب هذه الطاقات التي بذلت الجهود الجبارة في تربيتها وتكوينها إلى الأعداء مقابل مبلغ من المال مهما زاد فإنه يبقى زهيداً بإزاء الطاقات التي سيقدمها لهم هذا بالنسبة للبلاد الكافرة.

أما العربية المسلمة فالمشكلة أهون والأضرار قليلة ويمكن قبول هذا السفر بشرطين:

1-أن لا يكون السفر دائمياً.

2-أن يحصّن نفسه من الوقوع في المعاصي ويقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ص: 391

س6: ما حكم سفر الشاب بدوافع اقتصادية بحتة إلى: أ) البلاد العربية؟ ب) بلاد الكفر؟

بسمه تعالى:

مع وجود ضرورة ملحة فيمكنه السفر بالشرطين المتقدمين.

س7: توجد ظاهرة وهي سفر الفتيات لوحدهن من دون ولي الأمر إلى دولة عربية أو أجنبية وتمكث هناك مدة وترسل إلى أهلها الأموال الطائلة، من دون أن يسألها ولي أمرها عن مصدر هذه الأموال فما هو تعليقكم على هذه الظاهرة؟

بسمه تعالى:

إن الشك والريبة في عدم مشروعية عمل هذه الفتيات عليه أكثر من دليل:

1) إن الأموال التي تصل منهن لا يتصور تحصيلها بالكسب المشروع والعمل التجاري بهذه السرعة وبهذا المقدار الكبير.

2) اختيار الوسطاء الذين ينظمون سفرهن لذوات الجمال وصغار السن اللواتي يتوقع لهن الرواج في سوق الدعارة والفساد.

3) عدم وجود الرادع عن التصرفات المنافية للشرف والدين.

4) سوء تربيتهن الدينية.

هذا العمل إذن غير شريف وأريد به جعل نساء المسلمين بضاعة يقضي بها الناس وطرهم ويشترون شرفهن وعفتهن بثمن بخس وإن كان كبيراً في نظر أهل الدنيا.

ص: 392

وتصور أيضاً خطورة وجود مثل هذه العناصر من النسوة اللاتي تعودن الفاحشة في المجتمع عند عودتهن.ومن هنا أدعو أولياء الأمور إلى أن يهتموا بهذا الأمر ولا يغضوا النظر عن أي أمر يمكن أن يثير الشك والريبة خصوصا فيما إذا تعلق بالشرف والدين.

س8: هل يجوز لأحد تشجيع الآخرين على السفر إلى الخارج؟

بسمه تعالى:

لا ينبغي لأحد أن يقوم بذلك إلا إذا كان صاحب تربية دينية مركزة ووعي معمق ولسفره غرض مشروع كتحصيل علم جديد أو تطويره أو تعميقه أو ازدياد خبرة أو إصلاح وضع مهين.

ص: 393

ظواهر اجتماعية منحرفة مختلفة

ممارسات خاطئة لدى العاملين في المهن الطبية

ظواهر اجتماعية منحرفة مختلفة(1)

ممارسات خاطئة لدى العاملين في المهن الطبية

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم [وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ] (التوبة:105).

سماحة ثقة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد اليعقوبي-دامت بركاته-

إن الذي عودتمونا عليه هو تشخيص الظواهر المنحرفة في جميع مجالات المجتمع وبالخصوص تلك التي لها المساس الواقعي والمباشر بالحياة اليومية. وبعد أن لمسنا تاثيرها بالواقع الخارجي واستجابة الكثير من طبقات المجتمع لها وتطبيقها وأخذها بعين الاعتبار، رأينا من الضروري إلفات النظر إلى الممارسات الخاطئة التي يمارسها العاملون في سلك الطب لما لهذه المهنة من الأثر الكبير في ديمومة حياة أفراد المجتمع، فارتأينا أن لا نشخص تلك الظواهر والانحرافات الكثيرة الموجودة في المستشفيات وعيادات الأطباء، وإنما نلتمس من سماحتكم تشخيصها ووضع الحلول لها من خلال معايشتكم في أوساط

ص: 394


1- تشخيص لعدد من الظواهر المنحرفة في المجتمع وأسبابها ووضع الحلول والعلاج لها، وقد نُشرت في بيانات مستقلة وجمع جملة منها في كتيبات ثلاثة تحمل نفس العنوان بثلاث حلقات، صدرت تباعاً وكانت الأولى سنة 1420/ 2000 وهي من أوائل الإصدارات. وقد أثبتنا هنا جملة منها وذكرنا البقية في كتاب (مسائل في الفقه الاجتماعي).

المجتمع ومن خلال الأسئلة الموجهة إليكم ونرجوا أن تكون هذه هي الحلقة الأولى وتتبعها حلقات أخرى في المستقبل أن شاء الله.هذا ونسأل الله أن يحفظكم من كل مكروه ويمتعنا بطول بقائكم إنه سميع مجيب الدعاء.

أحد طلبة الحوزة الشريفة

بسمه تعالى: الطبيب سبب من أسباب الرحمة الإلهية ومظهر من مظاهرها يساعد الناس على الحياة السليمة الخالية من الآلام، وقد هيأ الله تبارك وتعالى جسم الإنسان ليتقبل الدراسة والنظر ويعطي علامات وأعراض ترشد الناظر فيه، كما خلق الله تبارك وتعالى في الطبيعة ما يكون سبباً لمعالجة الأمراض التي تحل فيه، وسّلم كل ذلك إلى الطبيب وجعل شرف هذه المهنة أمانة بيديه وابتلاء ليثيبه ويرفعه في أعلى عليين أن اخلص بعمله وخدم الناس بحب وتفاني.

وقد وردت الأحاديث الشريفة الكثيرة في فضل وثواب مساعدة الناس والتخفيف عنهم وإدخال السرور عليهم وتفريج الهم والكربات عنهم مما لا يسمح المقام لذكر شيء منها، ووجود الأطباء علامة مهمة لمعرفة رقي المجتمع وعلو مقامه العلمي والثقافي. فحيا الله أطباءنا وزادهم بصيرة في العلم والعمل الصالحين.

فأغتنم هذه الفرصة لبيان بعض الممارسات الخاطئة في عملهم أبتغي بإيضاحها إلفات نظر الإخوة إليها ليجتنبوها حتى يكون عملهم مخلصاً لله تبارك وتعالى ومأجورين عليه:

ص: 395

1- من المعلوم أنه عند الضرورات تباح المحظورات لكن ذلك يجب أن يكون بمقدار دفع الضرر لا أزيد، لكن العرف تسامح في ذلك ورفع شعار كل شيء مباح في الطب والعلاج، وهو غير صحيح فإذا أمكن للمريض أن يعالج عند الجنس المماثل فلا يجوز له أن يراجع غير المماثل إذا استلزم الفحص الطبي حصول اللمس أو النظر إلى ما يجب ستره ونحوها، وإذا سوغت الضرورة مراجعة الجنس الآخر كما لو كان أمهر في صنعته وأدق، فيجب أن يقتصر عليها أي بمقدار الضرورة، فإذا أمكن العلاج بلا لمس أو باللمس من وراء قفاز فلا يجوز اللمس المباشر، وإذا أمكن الاكتفاء بالرؤية من خلال المرأة أو شاشة التلفاز فلا يجوز النظر المباشر وهكذا، وإذا تطلب الفحص الكشف عن منطقة معينة فلا يجوز التعدي إلى غيرها وهكذا.

2- ومما يتفرع عن النقطة أعلاه أنه إذا أريد إجراء عملية جراحية لامرأة وكان الجراح والكادر المساعد له رجالاً فلا يجوز الكشف عن أزيد من المنطقة ذات العلاقة، لذا من المؤسف ما بلغني أن بعض الجراحين غير المتورعين يعرون المرأة تماماً عند إجراء العملية، وهذه خيانة عظمى لله ولرسوله وللدين والأخلاق ولهذه المهنة الشريفة، كما لا يجوز دخول أحد إلى صالة العمليات في مثل هذه الحالات إلا بالمقدار الضروري، فإذا أمكن قيام اثنين بالعملية فلا يجوز دخول ثالث، وهكذا نفس الشيء يحدث في غرفة الإفاقة حيث يطلع الرجال على النساء وهن في حالة تكشف بلا ضرورة.

3- اعتاد الأطباء على الاختلاء بالمريض وغلق باب الغرفة عند إرادة فحصه

ص: 396

وهو عمل صحيح وله ما يبرره، ولكن إذا كان المراجع من الجنس الآخر فيكون هذا التصرف مشكلاً شرعاً إذا لم يوجد ثالث معهما لأنه من الخلوة بالأجنبية وهو ممنوع أخلاقياً بالتأكيد، وحرام شرعا إذا لم يأمن من الوقوع في الحرام، ولما كان هذا العنوان مطاطاً ويمكن أن يفسره كل أحد بحسب هواه فلا بد من الاحتياط فيه، فتصحب المرأة معها أحداً ولو طفلاً مميزاً، أو تدخل معها مراجعة أخرى ولو لم تكن تعرفها أو أي شكل من أشكال الاحتياط المطهر للقلب والمزيل للشبهة.4- بعض الجراحين يتفق مع المريض على إجراء عملية له باستخدام الآلات وصالة عمليات المستشفى التي هي من الأموال العامة ويأخذ لنفسه حساباً خاصاً غير ما تقرره إدارة المستشفى من أجور العملية، وهذا عمل غير مأذون به شرعاً لأنه وإن كان من حقه أن يفرض الأجرة المعينة لعمله لكن ذلك عندما يجريها في عيادته الخاصة، أما التصرف بآلات وأجهزة المستشفى فمشروطة بالأجرة المعينة من قبل الإدارة فلا يجوز مخالفتها، ومن المنافي للإسلام أن يستفيد أحد على حساب جماعة كبيرة.

5- يرى بعض الأطباء أن من المناسب لمقامه الاجتماعي الاعتناء بمظهره الخارجي وهذا حق، ولكنهم يخطئون حينما يعتقدون أن من كمال اللياقة حلق اللحية، وكذا الطبيبات يظهرن متبرجات متزينات، وهذه كلها مخالفات شرعية لا مبرر لها وقد التقينا بأطباء ملتحين تسطع وجوههم نوراً وبهاءً مما انعكس عليها من جمال باطنهم، فلا مسوغ إذن لهذه المخالفات الشرعية، وما أجمل الطبيب والطبيبة وهما يتزينان بلباس التقوى والورع

ص: 397

والتدين كما وصف الله تعالى في القران الكريم [وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ] (الأعراف:26).6- لجسد الميت كما لجسد الحي حرمة لدى الشارع المقدس فلا يجوز الاعتداء عليه، لكن بلغنا أن الطبيب الجراح والطبيب العدلي خصوصاً يتسامحون في قضية تشريح بدن المتوفي بلا مسوغ شرعي لمجرد أن المحقق العدلي أمر بذلك، رغم أن التشريح -غالباً كما صرح لي بعض الأخصائيين- لا يضيف معلومة جديدة عما هو ظاهر من سبب الوفاة ومع ذلك يأمر المحقق بتشريح جثة الميت والطبيب ينفذ، وهذه مخالفة شرعية أثيمة ويتحمل المشرح الدية وهي تساوي عُشر دية الحي لنفس الجناية وحكمها أن تصرف في وجوه البر والقربات للميت المشرّح ولا تنتقل إلى الورثة فكم دية اشتغلت بها ذمة هؤلاء المشرِّحين؟! فلا تكون حرمة الميت المسلم منتهكة عندنا في حين أن الغرب الكافر يحترمها ولا يشرحون بدن الميت إلا للضرورة القصوى ويكتفون بفحص الجسد أو أخذ عينات من دمه للتحليل، أو أخذ صور له بالسونار ونحوها من الكواشف عن سبب الوفاة.

أستغلُ هذه الفرصة لوعظ وإرشاد وتحذير جميع ذوي العلاقة في هذه القضية أن يحترموا جسد الميت ويكتفون بشهادة الطبيب الذي يعرف غالباً سبب الوفاة من العلامات الخارجية بلا تشريح، ولا يُشرِّحون إلا للضرورة القصوى كما لو توقف إنقاذ متهم بريء على التشريح ولم تكن تفاصيل الوفاة معلومة.

ص: 398

ونفس المسألة يجب مراعاتها في درس التشريح لدى أساتذة وطلبة كليات الطب فلا يجوز تشريح بدن المسلم ويجب التعلم على بدن غير المسلم وأن لا تتوسع إلا بمقدار ضرورة التعلم ولا تتجاوز هذا المقدار. 7- ومن الظواهر السلبية لدى العاملين في الحقل الطبي وهو الجشع وحب الإثراء السريع ولو على حساب آلام الناس وآهاتهم وفقرهم، ويظهر ذلك من خلال عدة نقاط:

أ- الأجور العالية التي يتقاضونها للفحص وإجراء العمليات الجراحية، والمريض عندئذ إما يتجرع الآلام حتى الموت، أو يبيع حتى ضرورات المعيشة ليكمل علاجه، وكلا التصرفين وصمة عار في جبين هذه المهنة الإنسانية الشريفة.

ب- يتعمد الطبيب أحياناً أن لا يصف دواءً كاملاً للمريض حتى يعود للمراجعة مرة أخرى ليبتز منه أموالاً جديدة.

ج_- الامتناع عن معالجة من لا يملك أجره الفحص أو إجراء العملية أو الدواء رغم أن حفظ حياة المسلم واجبة على الجميع.

هذا كله يجري لا لحاجة لدى الطبيب إلى المال، فأغلبهم أثرياء ومتوسعون في معيشتهم وإنما لحب المال فقط والمباهاة، أترى بقية من رحمة في قلوب هؤلاء؟! وكيف ينتظرون من الله الرحمة وهم يتعاملون مع عباده الضعفاء بهذه القسوة؟! إلا يعلمون أن هذا ابتلاء لهم [لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] (الكهف:7) فرفقا بعباد الله فإنهم أمانة لديكم فكيف ترعون الأمانة؟!

8- بعض الأطباء يلزم المرضى بإجراء تحاليل وأشعّات وصور لا حاجة لها،

ص: 399

وهو يبتغي بذلك أن يحصل على نسبة متفق عليها مع أصحاب المختبرات، وفي هذا خيانة للمريض وللمهنة، وهذا عمل مخجل. فأسأل الله تبارك وتعالى أن يوفق الجميع لمرضاته وطاعته ويهديهم إلى الصراط المستقيم.

محمد اليعقوبي

ص: 400

بعض المشاكل الشرعية في حقل الطب

بسم الله الرحمن الرحيم

سماحة ثقة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد اليعقوبي دامت بركاته.

في خضم التحديات التي يواجهها المجتمع المسلم والمتمثلة بالتخريب الثقافي نلاحظ صورة خطيرة من صور التخريب وهي عملية منظمة هدفها تفريغ المهن ذات الأهداف الإنسانية والأخلاقية والثقافية من محتواها لتصبح هيكلاً هشاً غير فعال في خدمة المجتمع. وقد كان لتوجيهاتك التي تفضلت بها في عدة مناسبات أثر فاعل لدى بعض من أصحاب هذه المهن. ولكي يتم التواصل معهم سمحت لنفسي بأن أتقدم ببعض الأسئلة تتعلق خاصة بالمجال الطبي وبالتحديد الأدق الأطباء وذلك لأنهم يمثلون الجانب القيادي لدى مهنتهم الإنسانية وكذلك دورهم في نصح مراجعيهم. أذكر الأسئلة شيخنا الجليل واضعاً في حسباني استفساراتهم وشغفهم للمزيد من النصائح والتوجيهات.. فلا تبخل عليهم وعلينا شيخنا الجليل وأنت من حوزة النجف المعروفة بالكرم والتضحية جزاك الله خير جزاء المحسنين.

1- كيف يمكن للطبيب الملتزم بالشريعة السمحاء أن يعالج المرضى من جنس النساء دون أن يقع في محذور شرعي أو أخلاقي؟

أ- نساء متبرجات.ب- نساء محجبات.

2- هل تترتب على الطبيب -كونه مدير مدير مستشفى أو رئيس قسم أو مسؤول عن كادر ما- مسؤولية أخلاقية واجتماعية تجاه:

أ- الكادر الذي يعمل معه.

ص: 401

ب- مراجعين 3- اعتادت كل شرائح المجتمع بما فيها شريحة المهن الطبية والأطباء خاصة على توجيهاتك و نصائحك المنصبة لخدمة هذا البلد المسلم وما أحوج هذه المهنة الإنسانية لمثل هذه النصائح فيا شيخنا الجليل: كيف يستطيع الأطباء وهم الشريحة المثقفة والواعية في المجتمع الطبي المساعدة لعودة الحياة إلى هذا الوسط الذي فقد الكثير من مقومات حياته الإنسانية؟ وما هو دورهم التربوي تجاه مراجعيهم أو زملائهم أو كادرهم؟

بسمه تعالى:

ج1-إذا لم تتطلب المعالجة أمراً محرماً كاللمس والكشف عن موضع لا يحل النظر إليه وإثارة للمشاعر الجنسية فيمكن معالجة الجنس الآخر، كما لو كان مجرد الاستماع إلى أعراض المرض وسؤالها عن بعض المعلومات كافياً كما نشاهده في العيادات الشعبية لكن هذا الفرض بعيد في العيادات الخاصة، فإن الفحص يتضمن عدداً من الفعاليات المحرمة لذا لا يجوز للمرأة أن تراجع الرجل، ولا يجوز للرجل الطبيب أن يفحص المرأة إلا عند توفر حالتين:

أ- الضرورة بمعنى أن المرض بلغ عند المرأة درجة تحتاج إلى علاج الطبيب.

ب- الانحصار أي أن المراجعة منحصرة بهذا الجنس المخالف إما لعدم وجود الجنس المماثل أو لقلة كفاءة المماثل أو وجود احتمال معتد به للضرر عند مراجعة المماثل وهكذا.

ومع اجتماع هذين الشرطين يجوز للطبيب معالجة المرأة، والاقتصار في ما

ص: 402

لا يحل على أقل مقدار ممكن، فإذا أمكن لمسها من وراء الثياب فلا يجوز الكشف عن موضع الفحص، وإذا أمكن لبس قفاز في اليد فلا يجوز اللمس المباشر، وإذا أمكن المعالجة بالنظر في المرأة فلا ينظر بشكل مباشر، وعدم جواز الكشف عن أزيد من محل الحاجة من الجسد وهكذا، وأن لا يختلي معها في غرفة الفحص بل يكون معهما ثالث ولو صبي مميز وإذا تساهلت هي بهذه الأحكام فلا يتساهل هو، ويلفت نظرها إلى ذلك، فأنا أعلم أن أغلب النساء غير متحرجات من كل شيء أمام الطبيب إما ظناً منهن أن كل شيء جائز، أو استجابة لشهوات أنفسهن أمام الطبيب الذي يمتلك موقعاً مهما في قلوب الناس. من هنا نعلم أن معالجة المتبرجات قد يتطلب (احتياطات) إضافية لوجود مشاكل إضافية وكان الله في عون الطبيب فإنه في تحدي كبير وأعداء حقيقيين وأقوياء ومؤثرين وهم الشيطان الذي يزين المعصية، ويحاول أن يغيّب العقل ونداء الدين، والنفس الأمارة بالسوء الميالة إلى الشهوات، والعرف الاجتماعي الضاغط الذي أصبح يرى المعروف منكراً والمنكر معروفاً.

لكن الأعداء على قوتهم فإنهم يواجهون بشيء واحد هو الإرادة والحزم والعزم فإنهم ينهارون بلطف الله تعالى؛ لأن الحق قوي ولا يستطيع أن يرده أحد، وإنّ قوة هؤلاء الأعداء ليست واقعية وإنما هي ناشئة من ضعف إرادة الإنسان [إنَّ كَيدَ الشَيطَانِ كَانَ ضَعِيفاً] (النساء:76) فابدأوا الخطوة الأولى في طريق الله [وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ] (محمد:35) وهو نعم المولى ونعم النصير.

ج2- نعم عليه مسؤولية الإصلاح من جهتين:

ص: 403

الأولى: عامة كونه مسلماً مأموراً بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي من أهم الوظائف الإلهية بحسب التشديد الموجود في القرآن والسنة الشريفة.الثانية: خاصة كونه على رأس وحدة إدارية فتكون أوامره ملزمة ومطاعة ويمتلك صلاحيات في التوجيه والردع واتخاذ العقوبة مما يجعل فرصته لأداء هذه الفريضة أوسع من غيره كالأب مع أسرته.

لكن ينبغي الالتزام بمراتب هذه الوظيفة، وأولها التوجيه والنصح والإرشاد بالحكمة والموعظة الحسنة، ثم بالتوبيخ والزجر، فإن لم ينفع فالعقوبات الإدارية والمالية بالمقدار الذي يناسب المخالفة وينفع في ردع المعاصي عنها هذا بالنسبة للكادر الذي يعمل معه، أما بالنسبة للمراجعين فيمكن أن يجري نفس الكلام في الجملة وليس في كل التفاصيل.

ج3- الأطباء من العناوين المهمة في المجتمع كعلماء الدين وأساتذة الجامعات والمسؤولين الحكوميين الكبار، وهذا الشيء يلقي عليهم مسؤولية مضاعفة، كما خاطب القرآن الكريم نساء النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) باعتبارهن عنواناً متميزاً، فمن أطاعت منهن آتاها الله كفلين من الرحمة ومن خالفت -والعياذ بالله – استحقت ضعفين من العذاب.

والطبيب له موقع خاص في القلوب كونه أحد رموز الرحمة الإلهية في الأرض، يجري الله على يديه الخير للناس ويهبهم الشفاء والعافية ويخفف عنهم الآلام ويفرج عنهم الكرب ويوفر لهم حياة سعيدة، كما

ص: 404

أن وجود الأطباء في مجتمع ما دليل رقي ذلك المجتمع ووعيه وثقافته. والحاجة إلى الطبيب كبيرة بحيث لا يمكن الاستغناء عنه لذا ورد في الحديث ثلاثة لا يخلو منها أهل بلد وإلا كانوا همجاً: طبيب حاذق ثقة، وأمير ورع مطاع، وعالم ناصح.

فليشكر الأطباء ربهم على عظيم نعمته إذ جعلهم في هذا الموقع وعليهم أن يؤدوا حق هذه النعمة، بأن يوظفوها في طاعة الله ويلتزموا بأحكامها وآدابها الشرعية ليفوزوا بسعادة الدنيا والآخرة من دون أن يخسروا شيئاً، فإن الطبيب المؤمن الملتزم المحافظ يكون محبوباً أكثر وإقبال الناس عليه أشد.

وقد نبهت الإخوة الأطباء إلى بعض المخالفات الشرعية التي تقع في مجال عملهم في استفتاء مستقل، أرجو أن يكون قد وصل إليهم، وإني متفائل بهذا الجيل من الأطباء، وأعدُّ شريحتهم من أفضل الشرائح المهنية التزاماً ووعياً، وهذا ما يبشر بالخير ويثلج صدر الأمام المنتظر (علیه السلام)؛ لأن الأطباء إذا كانوا ملتزمين فإنهم سيؤثرون في المجتمع الذي يتقبل منهم بشكل مطلق ويحترم كلمتهم، وما عليهم إلا المواظبة والنطق بكلمة الهداية والإصلاح.

أسأل الله تعالى أن يرحمنا جميعاً بنعمة الإيمان والعمل الصالح والفوز برضاه إنه ولي النعم.

محمد اليعقوبي

ص: 405

ظواهر سلبية يجب على العوائل الالتفات إليها

ظواهر سلبية يجب على العوائل الالتفات إليها(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

1- اعتادت بعض العوائل على كثرة الدخول إلى الجيران وكأنهم عائلة واحدة، وهذه الحالة ترافقها أحياناً مخالفات شرعية من قبيل عدم الاستئذان عند الدخول، أو ذهاب المرأة إلى بيت الجيران ولا يوجد فيه إلا رجل فيكون من الخلوة بالأجنبية وهو حرام، ويؤدي إلى مفاسد كثيرة، كما أن هذا الدخول المتكرر غالبا ما يكون من دون احتشام وحجاب كامل فيؤدي إلى محرمات كثيرة، وقد سمعنا كيف ان محرمات وفواحش وقعت بسبب هذا التسامح والإهمال. فلا بد من مراعاة الأحكام والآداب الشرعية في هذه العلاقات.

2- بعض النساء وربات البيوت تتساهل بالحجاب وربما لا تتحجب أصلاً أمام بعض المستخدمين كبائع النفط والغاز وقارئ مقاييس الماء والكهرباء والحمال والكناس وغيرهم وهم من هذه الناحية كغيرهم فلماذا التساهل أمامهم؟! إنه باب واسع للمفسدة [فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أو يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] (النور:63).

بل الأمر في هؤلاء أشد لأنهم يدخلون إلى داخل البيوت وغالبا يكون دخولهم في وقت غياب صاحب الدار في العمل، والشيطان قاعد بالمرصاد ففي الحديث

ص: 406


1- طبعت مع استفتاءات وتوجيهات حول نفس القضايا في كتاب باسم (فقه العائلة).

(ما اختلى رجل وامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)(1).3- في بعض المناطق الشعبية اعتادت نساء المحلة أن تجلس على أبواب الدور وفي الطرقات لتبادل الأحاديث مع نساء المحلة، وهذه ظاهرة سلبية جداً وتقع بسببهم محرمات كثيرة (منها) عدم الاحتشام بالحجاب وربما ظهر شعرها وذراعها بل وبعض مفاتنها، فغالباً بل دائماً تكون النساء في مثل هذه المجالس غير مراعيات للحجاب (ومنها) إحراج المارة وإدخال الأذى عليهم (ومنها) الخوض في أحاديث محرمة كالغيبة والانتقاص من الآخرين والتدخل في شؤونهم والنميمة واللغو وغيرها من أشكال الحديث الباطل.

4- إن تجمع عدد من العوائل في بيت واحد له ما يبرره، إلا أن الكثير من العوائل تقع في المحرمات بسبب هذا التجمع، فزوجة الأخ لا تراعي الحجاب الكامل أمام أخوة زوجها باعتبار أنه مثل أخيها، وهذا من تسويلات الشيطان فإنه أجنبي عنها، وكم حصلت من الفواحش بسبب هذا التسامح والإهمال، ومن المخالفات الأخرى عدم استئذان أخوة الزوج عند الدخول باعتبارهم من أهل الدار رغم وجود زوجة أخيهم، مع أن هذا الاستئذان مطلوب لوجود امرأة لا تحلّ لهم، بل في الرواية إن أحدهم يسأل الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): هل أستأذن في الدخول إلى البيت وليس فيه إلا والدتي قال (علیه السلام): نعم، أتحب أن تراها وهي عارية فاستأذن وادخل، وهو أدب القرآن الكريم هذا في الحلال فكيف في حالة وجود امرأة أجنبية

ص: 407


1- منتهى المطلب: 1:373.

كزوجة الأخ أو أخت الزوجة.5- بعض العوائل الثرية تستخدم أشخاصاً من الجنسين لخدمة العائلة ويعيشون بينهم، والملحوظ عدم الاهتمام بأحكام الإسلام وأدبه في العلاقة مع هؤلاء، فالمرأة المستخدمة لا تراعي الحجاب أمام رب الدار وأولاده، وربما تكون أمامهم أحيانا في حالة متهتكة وكذا نساء رب الدار لا يراعين الحشمة والحجاب أمام الخدم، وربما كن أحياناً في حالة غير عفيفة، وإنها لطامة كبرى حقيقية أن تنعدم الغيرة والشرف إلى هذا المستوى، فيذهب رب البيت إلى العمل خارجاً ويترك نساءه وديعة عند هذا الخادم الذئب الذي تشتعل الشهوة في داخله ولا ثالث لهما إلا الشيطان فتسري الشهوة بينهم أسرع من سريان النار في الهشيم والبنزين، فإلى أين يستمر انحدار هذه الأمة المسلمة بالاسم فقط ومتى تلتفت إلى نفسها.

6- عند تزاور العوائل خصوصا الأقرباء كبيت العم والعمة والخال والخالة يحصل اختلاط غير ضروري، وتبادل أحاديث وضحكات غير شريفة خصوصا في الأعياد والمناسبات، وهذا باب واسع للشيطان وسبب للوقوع في المحرمات يجب إغلاقه وان صلة الرحم لا تقتضي هذا الشكل من اللقاءات، بل يمكن القيام بالزيارات من دون هذه المخالفات الشرعية.

7- أحياناً يعيش الزوج وزوجته في بيت أهله فيخرج هو وباقي الأسرة إلى أعمالهم أو قضاء حوائجهم، وتبقى زوجة الأخ في البيت ويبقى احد الأخوة وهذا حرام لأنه من الخلوة بالأجنبية، أو أحياناً يأتي الأخ إلى البيت وليس فيه إلا زوجة أخيه وهذا محرم مع عدم الأمن من الوقوع في الحرام،

ص: 408

فلا بد من وجود طرف ثالث كأم الزوج أو أولاد المرأة وغيرهم.8-صحيح أن زوجة الابن لا يجب عليها الحجاب الكامل أمام والد زوجها لكن هذا لا يعني تبرجها الزائد، والخلاعة في اللبس، فإن الشيطان يزين المعصية لذوي النفوس المريضة حتى يوقعهم فيها، فلتحافظ هذه المرأة على حشمتها ووقارها لأن حالات عديدة حصلت والعياذ بالله لممارسات غير شريفة بين الأب وزوجة ابنه، فكونوا حذرين من خدع الشيطان وغروره وملتفتين إليها.

9- يجتمع أفراد العائلة على مشاهدة أفلام وبرامج تعرض صوراً خليعة ولقطات مثيرة للشهوة، وهم من الجنسين مجتمعون على النظر إليها، وهذا في منتهى الخسة والوضاعة، وان الراضي به (ديوث) وهو الذي يرى أهله تزني ولا يغضب لفعلها وزنى العين النظر إلى هذه المشاهد، فكيف يستسيغها رب الأسرة، وإن مثلهم كمثل من أتى برجل فاسق بملابسه الداخلية وأجلسه بين نساء أسرته، أترى بقية من غيرة وشرف لمثله.

10- واعتاد العرف أيضا إلى النظر إلى عورات الأطفال من الجنسين وربما اخذوا لهم الصور وعوراتهم ظاهرة مستأنسين بذلك، رغم أن حرمة النظر إلى العورة شاملة للجميع بلا استثناء حتى للأطفال وحتى من نفس الجنسين، لا يستثنى من ذلك إلا الضرورة كالأم والمربية للطفل للحاجة إلى تنظيفه وتغيير ملابسه ولزوم الحرج من تجنب النظر وتلتزم بمقدار الضرورة ولا أزيد [فَاتَّقُواْ اللهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (المائدة: 100).

11- بعض الضيوف يرمي بثقله على صاحب المنزل وهو يعلم بعدم رغبته

ص: 409

بإقامته عنده، وعدم استعداده لها فتكون تصرفاته حراماً، كما أن بعض الضيوف يتصرف في آلات المنزل وأدواته وأثاثه بدون رضا صاحب الدار، فيقلب في كتبه أو ينظر في أوراقه وغيرها وهذا كله محرم ولا يجوز له التصرف إلا في حدود إذن صاحب الدار أو ما دلت القرائن على الرخصة فيه.12- عند زيارة بعض العوائل التي فيها نساء متبرجات لا يجوز النظر إليهن وان القين جلباب الحياء على أنفسهن إذا كان في النظر ريبة ومظنة الوقوع في الحرام، فإن دين المؤمن أثمن من أن يضيع بسبب هذه التفاهات، وقد روي عن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انه قال لما سئل عن سبب عدم تعرضه لنساء أهل الذمة قال: (إنْ كنا لنؤمر بالكف عنهن وإنهن لمشركات)، فإذا كان دينهن عندهن رخيصاً فلا يضيع الإنسان آخرته بسببهن، على أنه من الواجب عدم زيارة العوائل التي يعلم الشخص وقوع المحرمات في تلك الزيارة كالغناء والاختلاط غير المحتشم وحصول النظرات المريبة والمثيرة للشهوة.

13- بعض الآباء والأمهات يتغاضون عن تصرفات أولادهم المنحرفة فربما يسرق ويعدونه ذكاءً أو يتعدى على الجيران ويرونه شجاعة وبطولة وهذا جناية عليهم وعلى المجتمع كله وهم مسؤولون عنه أو يسمعون أطفالهم يتفوهون بكلمات قبيحة فلا يردعونهم ولا يوجهونهم.

14- إن الأحاديث التي تجري عند زيارة العوائل واللقاءات غالبا أو دائما هي مخالفة للشريعة، وإذا أردنا أن نحسن الظن بها فنقول عنها تافهة وغير مثمرة ومضيعة للوقت، فإن مضامينها الغيبة أو احدث الموديلات للنساء أو نقل

ص: 410

بعض أحاديث الشارع التافهة أو الخوض في أعراض الناس وأمورهم الخاصة وفضول الكلام، والواجب استثمار هذه اللقاءات لما ينفع في الدنيا والآخرة؛ لأن الوقت هو رأس مال الإنسان، فكلما أحسن في استثماره كان ربح تجارته مع الله (سبحانه وتعالى) وفيراً، وكل دقيقة يستثمرها في شيء نافع تعني زيادة درجة في الجنة وعند الله، فلماذا يضيعها ويعيش الندامة وعض الأصابع يوم توزع النتائج فيجد نفسه من الضائعين.15- تقتضي الطفولة لعب الأطفال مع بعضهم وأحياناً يكونون من الجنسين، وقد يستمر هذا اللعب إلى ما بعد البلوغ، فالبنت تصل التاسعة من العمر وهي ما زالت تلعب مع أقرانها، وهذه مشكلة يجب التنبه لها في وقت مبكر، فيفصل بين الجنسين من عمر الخامسة ويُعَلَّمون أن هذا الاختلاط غير صحيح وعاقبته وخيمة وأضراره كثيرة.

16- نرى الكثير من العوائل تخلو بيوتهم من الكتب الأساسية لكل مسلم وعلى رأسها القرآن الكريم الذي يجب اتخاذه في كل بيت، وورد في ذلك بركات كثيرة بل يستحب لكل فرد أن يكون له نسخة من المصحف يتابع بها تلاوته، ولا بد من وجود كتاب ولو صغير في العقائد وأفضل كتاب (أصل الشيعة وأصولها) للشيخ كاشف الغطاء بالمقدمة التي كتبتها له فإن بها فوائد جليلة تغني عن كثير من الكتب، وكتاب في المسائل الفقهية كرسالة عملية مختصرة لمرجع التقليد وكتاب في السنن والمستحبات والأدعية المأثورة كمفاتيح الجنان أو ضياء الصالحين، وكتاب في الموعظة وتهذيب النفس والأخلاق كمرآة الرشاد أو القلب السليم، ومجموعة

ص: 411

الإصدارات التي تندرج ضمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوعية المجتمع وقصص الأطفال المصورة كسلسلة (آمنة ومؤمل) ذات الأهداف التربوية، وكتب وكراريس تربية الأطفال ككتاب (من ينقذني) و (من يعينني) و (فراشات في مهب الريح)، وبهذه الكتب تشكل نواة مكتبة صغيرة في كل بيت ليكون الكتاب النافع والتربوي في متناول الجميع، فان من أهم واجبات رب الأسرة توفير الغذاء الروحي الذي يغذي العقل والروح ويطهر القلب كما يوفر الغذاء المادي الضروري لبناء الجسم، علماً أن ما يصرفه من أموال على الثاني هو أضعاف ما يصرفه على الأول والأول باق ومنفعته مباركة تعم الجميع والثاني زائل.17- ومما يؤسف له فقدان المظاهر الدينية وغياب الشعائر الدينية داخل الأسرة، فقد كنا نعرف للعوائل المتدينة عادات وشعائر ثابتة يأخذها الصغير عن الكبير وينشأ عليها، كقراءة دعاء كميل وزيارة الحسين (علیه السلام) كل ليلة جمعة، ودعاء السمات آخر ساعة من كل يوم جمعة، وتبادل التعازي في وفيات المعصومين والتهاني في أفراحهم، وتوزيع (العيديات) في المناسبات الجليلة كعيد الغدير والمبعث النبوي ومواليد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وامير المؤمنين والزهراء (ع) وصاحب الأمر (عجل الله فرجه)، وتكون المسألة أفضل عند بعضهم حيث يقوم رب الأسرة بإمامة الصلاة جماعة مع أفراد أسرته في أوقات الصلاة خصوصاً صلاة الصبح ما دامت الشروط متوفرة فيه، هذا غير المراسيم الخاصة والطعوم المتميزة لشهر رمضان المبارك وهو الوحيد الذي لا زال له مظهر خاص في نفوس العوائل.

ص: 412

وأؤكد هنا على مظهر مهم وضروري وهو إجراء المسابقات بين أفراد العائلة الواحدة، أو عدة عوائل يكون موضوعها أسئلة دينية وتأريخية وثقافية عامة و (حزورات) وتعطى للفائز جائزة معينة فإن هذه الخطوة تنمي الذهن وتدفع إلى المطالعة والقراءة مما يساعد على تكوين شخصية متكاملة.

ص: 413

عادات رمضانية منحرفة

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

خلق الله تبارك وتعالى الإنسان وجعل فيه نوازع الخير والشر ليبتليه ويختبره [لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] (هود:7) ليدخل الجنة من يدخلها وهو لها أهل، ويدخل النار من يدخلها وهو لها أهل [لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ](الأنفال:42).

وجميع ذلك لمصلحته وسعادته وحسن تدبير أمره، فالعقل يدعو إلى الخير وعبادة الرحمن كما في الحديث (العقل ما عُبد به الرحمن)، والنفس التي هي مجموع الغرائز والشهوات تدعو إلى إشباع هذه الشهوات حتى من الحرام [إنَّ النَّفْسَ لأََمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلا ما رَحِمَ رَبِّي] (يوسف:53)، والإنسان ضعيف وجهول وعجول وظلوم وكفار وكنود وفي خسر ومغرور….. إلى غيرها من الأوصاف التي ترديه وتهويه في جهنم.

لكن الله تبارك وتعالى ما خلق الإنسان للنار بل خلقه للجنة أي أن الأصل في هدفه ونتيجته أن يدخل الجنة لذا لم يسأل أهل الجنة لم دخلتم الجنة؟، لأن فعلهم على القاعدة ولكن سأل أهل النار ما (سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ).

ص: 414

إذا عاملنا الله تعالى بعدله هلكنا:

فمن رحمته وعلمه تبارك وتعالى إن تقييم عمل الإنسان الحسنة بحسنة والسيئة بالسيئة [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ] (الزلزلة :8) لا ينجو معه أحد، لذا ورد في الدعاء أن الله تعالى إذا عاملنا بعدله هلكنا فعاملنا بفضله وكرمه وكتب الحسنة بعشرة والسيئة بواحدة.

بل ورد في بعض الروايات الشريفة أن العبد إذا هم بحسنة ولم يفعلها كتبت له وإن فعلها كتبت بعشرة وإن هم بسيئة لم تكتب عليه وإن فعلها أمهل لعله يستغفر

[إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً] (النساء:17) فإذا لم يستغفر كتبت عليه بواحدة.

بل جعل الحسنة بسبعمائة ضعف والله يضاعف لمن يشاء أزيد من ذلك [مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ] (البقرة:261).

أما السيئات فقد جعل لها باب التوبة والاستغفار مفتوحاً فإذا دخله صادقاً مخلصاً عازماً على عدم العود محا الله عنه سيئاته وأنسى جميع الشهود عليه فقال تعالى [وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ] (الأنفال:33).

وجعل اجتناب الذنوب الكبيرة كفارة السيئات الأقل منها [إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً] (النساء:31)

ص: 415

وجعل فعل الحسنات كفّارة للسيئات [إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ] (هود:114).هذه فكرة إجمالية على التجارة المربحة مع الله تعالى التي تستحق أن يجد الإنسان ويجتهد ويكدح حتى يفوز بأكبر ربح منها [يا أَيُّهَا الإِْنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ] (الانشقاق:6).

جعل الله تعالى أمكنة وأزمنة شريفة تتضاعف فيها الحسنات:

ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل جعل الله تعالى أزمنة شريفة وأمكنة مباركة تضاعف فيها الحسنات أضعافاً أخرى تصل إلى سبعين مرة إضافة إلى مضاعفاتها السابقة، كل ذلك لكي ينال الإنسان أكبر قدر من رحمة الله وعطائه الواسع، ومن تلك الأزمنة شهر رمضان شهر الله حيث يستضيف الله عباده ويكرمهم بما يليق به من عطاء وبذل وقد بيّنت خطبة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في آخر جمعة من شعبان بعض هذا العطاء.

أفبعد كل ذلك تجد عاقلاً يفرط بهذا الشهر الكريم المعطاء ولا يستغل ساعاته بهذه التجارة المربحة ؟ فماذا سيكون شعوره والوقت يمر عليه، حتى إذا بلغ النهاية ووجد ما ضيع من عمره من دون ثمرة ؟

الغفلة مفتاح الضياع:

أي حسرة وأي ندامة وهو يرى الفائزين الذين لم يستسلموا للغفلة والضياع والعبث واللهو، بل جدوا واجتهدوا وكان يمكنه أن يكون مثلهم وفي درجتهم لو لم يضيع وقته فيبدأ يلوم نفسه ويشرح أسباب خسرانه معترفاً [وَ كُنَّا نَخُوضُ

ص: 416

مَعَ الْخائِضِينَ] (المدثر:45) ولا ينفعه الندم حينئذ.وهذه الحقائق واضحة بينها الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم وأكدها المعصومون (علیهم السلام) فلماذا الغفلة عنها ؟ ولماذا لا نتخوف (قارعة حتى تحل بنا) إلا يكفينا أخبار الصادقين وإجماعهم على هذه الحقيقة وهل نملك حياة ثانية حتى نصحح فيها أخطائنا التي نرتكبها في حياتنا الدنيا ؟

إنما هي حياة واحدة فلا بد أن نفكر في عاقبة أمرنا باستمرار ولا نغفل عنها، فأن الغفلة مفتاح الضياع والتشتت والابتعاد عن المسار الصحيح والصراط المستقيم.

إذا متَّ وأعاد الله تعالى روحك فماذا تفعل؟

تخيل يا عزيزي وأنت تشيع جنازة أنك أنت المحمول فيها، أو تسمع بوفاة أحد فتصور أنت هو، فأن الموت لا يعرف صغيراً ولا كبيراً، وتصور أن الله تعالى أعاد عليك الروح وأحال الموت إلى ذلك الغير استجابة لدعائك الذي ينقله القرآن عن الإنسان [حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ] (المؤمنون:100) وها هو ربك الكريم قد أعادك إلى الدنيا وأبقاك فيها ومنحك فرصة جديدة للعمل ليرى صدقك في هذا الطلب وإخلاصك في هذا الدعاء.

فهل الجواب أن يعود الإنسان إلى نفس حياته السابقة بما تتضمنه من معاصي وغفلة وتمرد وإعراض وخوض في الأمور التافهة وإلهاء عن الوصول

ص: 417

إلى الهدف العظيم، ونفس إبقاء الشخص حياً حتى حلول شهر رمضان هو إعطائه فرصة كبيرة للنجاح ولتجاوز الفشل السابق لما يتضمنه هذا الشهر من رحمة واسعة وفضل عميم وعطاء عظيم [وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ] (المطففين:26).

أفضل أعمال هذا الشهر:

وقد سأل أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن أفضل أعمال هذا الشهر، فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (الورع عن محارم الله) وتجنب كل ما يوجب سخط الله على العبد ويفتح عليه أبواب الشيطان، فالأساس والبناء التحتي لأي كمال هو تطهير القلب من الرذائل والمعاصي حتى يكون مستعداً وقابلاً للعطاء الإلهي الذي لا حدود له، إلا ترى الأرض الزراعية قبل نشر البذر فيها لابد من حرثها وتنقيتها وتطهيرها من الأوساخ، فكذلك النفس قبل سقيها بماء المعرفة والكمال لابد من تطهيرها وتجنيبها ما يعيق هذا الحرث الإلهي العظيم.

تصرفات منحرفة في شهر رمضان:

بعد هذه المقدمة التي أرجو أن تكون واضحة إلا تعجب معي لما جرت عليه العادة عند الناس من بعض التصرفات المنحرفة المنافية للحقائق المتقدمة !!، لذا رأيت من واجبي التنبيه لها عسى أن تكون ذكرى وموعظة [وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ] (الذاريات:55).

ومن هذه التصرفات :

أولاً : ما تسمى بلعبة (المحيبس) التي لا نراها إلا في شهر رمضان وفي لياليه

ص: 418

خاصة التي أعدت لنيل ذلك الكمال المنشود، وليتدارك الإنسان فيها ما فاته نيله خلال عام، فترى الناس بمن فيهم من كان صائماً في النهار يمضون ساعات عمرهم الثمينة في هذا اللهو الباطل الذي أبتدعه الشيطان وجنوده من الأنس والجن ليصدوا عباد الله عن طاعته وعن استثمار الوقت في أعمار الحياة بما هو نافع، وقد أزداد أمر هذه اللعبة سواءً حينما بدأت تستقطب عدداً كبيراً وتنظم لها المباريات والمسابقات ويحضرها جمهور كثير وتستمر حتى الفجر وبعده، فيا لسوء حظ هؤلاء الضائعين التائهين الذين لا يعلمون ماذا يراد بهم.

المعاصي التي ترافق لعبة المحيبس:

وليت الشيطان يقف بهم عند هذا الحد [وَ يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً] (آل عمران:30) بل أركسهم في معاصي أخرى من خلال هذه اللعبة :-

(أولها) عزف الألحان الموسيقية وإنشاد الأغاني لتلطيف الجو ؟! أو فرحاً بالفوز ؟! ونحوها من تسويلات الشيطان.

(ثانيها) الرهن والجوائز للفائزين وهو سحت محرم يملأ بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً.

(ثالثها) ما تفرضه المنافسات من مخاشنات وشحناء وبغضاء وكلمات نابية وربما كفر بالله العظيم، كالذي يحصل على مدرجات ملاعب الكرة وغيرها، وهذه كلها محرمات وهي نفسها التي جعلها الله تبارك وتعالى من أسباب تحريم الخمر والقمار [إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ]

ص: 419

(المائدة:91).(رابعها) السفر إلى مدن أخرى، ويضاف إليه غير ما ذكرنا في النقاط الأولى أنه سفر معصية فيوجب تمام الصلاة.

(خامسها) أنهم لا يتورعون عن ممارستها حتى في الليالي الشريفة التي يحتمل أنها ليلة القدر، وفي ذكرى استشهاد أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مما يوجب انتهاك حرمة هذه المناسبات المقدسة.

ثانياً : ما تعارف عندهم تسميته ب_ (الماجينة) وخصوصاً عند الأطفال.

ظواهر منحرفة ترافق لعبة (الماجينة):

ويرافق لعبة الماجينة غناء وضرب بالآلات الموسيقية، ولا يكتفون هم بممارسة هذا العمل المحرم بل يسمعون الآخرين وبأصوات مرتفعة ويدخلون عليهم الأذى والضرر وهذا محرم آخر.

كما أنهم يلحون على تحصيل العطاء من الناس فقد يدفع إليهم مكرهاً من غير رضا للتخلص من إزعاجهم فيكون التصرف به حراماً.

كما أنهم حينما يدخلون البيوت يدخلونها بدون إذن صاحبها الشرعي وفيه مخالفة لقوله تعالى: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] (نور: 27).

هذا وقد يكون هناك تسامح وتساهل حاصل في الحجاب من جهة العوائل حسبما تقتضيه المناسبة (المفرحة) ويزداد الإنسان وبالاً على وبال وشراً على شر والعياذ بالله تعالى، فهل مسؤوليتنا تقتضي أن نربي أطفالنا على هذا النمط من

ص: 420

الانحراف والفساد والانحلال، ومن الغريب أن يسعى ولي الأمر بنفسه ليشتري آلات العزف إلى طفله، فيحضر له الآلة التي يقتله بها معنوياً ويجني بها عليه.ثالثاً : بعد الإفطار ولأجل الترويح عن النفس وقضاء الوقت بلا هدف يتجمع الشباب والشابات في الأماكن البارزة من المدينة أو الشوارع الرئيسية، ففي النجف في مشهد أمير المؤمنين ع، وفي كربلاء عند حضرتي الإمام الحسين (علیه السلام) وأخيه العباس (ع) وبينهما، وهكذا.

معاصي ترافق تجمع الجنسين للزيارة بعد الإفطار :

يحصل اختلاط غير شريف وضحكات مثيرة ومواعيد وكلمات ونظرات خائنة ولا أدري إن كان يتطور الأمر إلى أزيد من ذلك في هذا الشهر المبارك وفي هذه الأمكنة الشريفة تنتهك الحرمات وترتكب المعاصي ؟ وقد علمت من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (أن أفضل أعمال هذا الشهر الورع عن محارم الله) ومن العجيب أن يحصل هذا بلا رادع ولا مستنكر ؟ ولا أحد من أولياء الأمور يحاسب أو يتابع والله تعالى يقول [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ] (التحريم:6) وقد تتضمن هذه (الزيارة) تناول الأطعمة والكرزات وأمور أخرى بشكل مثير للفتنة ويدعو إلى الفساد والانحراف.

رابعاً : ومما ينبغي الالتفات إليه ضرورة التفقه بالمسائل التي يكثر التعرض لها، أي ما تسمى (بالمسائل الابتلائية)، فقد اطلعنا على حالات كثيرة من المخالفات الشرعية لا يعذر فيها الجاهل، فقد ورد في تفسير قوله تعالى [قُلْ

ص: 421

فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ] (الأنعام:149) أن الإنسان يوقف للحساب على تقصيره وتمرده، فيقال له : لِمَ لمْ تفعل ؟ فيقول : لم أكن أعلم !! فيقال له : هلا تعلمت !! فتنقطع حجة العبد أمام خالقه العظيم.وقد أشرنا في أكثر من مناسبة إلى وجوب تعلم المسائل الضرورية في حياة المكلف، وقد حث الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)على ذلك إلى درجة أن الإمام (علیه السلام) يود أن السياط على رؤوس أصحابه حتى يدفعهم إلى التفقه في الدين، ويتأفف الإمام (علیه السلام) من الرجل الذي لا يفرّغ نفسه ولو كل أسبوع ساعة يكرسها للتفقه في الدين.

ظواهر منحرفة ترافق الجهل بالمسائل الابتلائية:

وتزداد الحجة على أبناء مجتمعنا الذين هم في وسط الفقه والعلوم الدينية وقريبون من مركز الإشعاع الفكري الإسلامية – أعني الحوزة العلمية الشريفة والمرجعية الرشيدة – ومع كل ذلك يقع الناس في مخالفات شرعية تحملهم الكثير، فمن تلك المخالفات – لمجرد التنبيه:-

أ-بعض الآباء والأمهات يمنعون أولادهم من الصيام شفقة عليهم وأنهم ما زالوا أطفالاً رغم أنهم بلغوا السن الشرعي للتكليف وتحمل المسؤولية أمام الله تبارك وتعالى وهو في الأنثى إكمال تسع سنين قمرية وفي الذكر الاحتلام أو بلوغ خمس عشرة سنة هلالية، بل أن الاستحباب الشرعي هو تمرينهم على العبادات قبل هذا السن ليكون التزامهم بها ملكة نفسية راسخة مع ما تضفيه على سلوكهم وأفكارهم ونظرتهم إلى الحياة من آثار إيجابية.

ص: 422

فهذه الشفقة الزائدة التي تمنع من طاعة الله تبارك وتعالى مذمومة، وهم ليسوا أرحم من الله تعالى بعباده، نعم لو كان هؤلاء الأولاد بحال لا يمكنهم من الصيام فليفطروا ويكونون بذلك معذورين.ب- شخص يريد أن يسافر فيتناول طعام الفطور في بيته باعتبار أنه عازم على السفر، وهذا مفطر متعمد عليه قضاء ذلك اليوم مع الكفارة الكبيرة – أي عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً - لأن تناول المفطر غير جائز إلا بعد أن يشرع في السفر ويتجاوز المسافة المسماة بحد الترخص –وهو المكان الذي يختفي فيه شخص المسافر عن الناظر الواقف في آخر المدينة- وعندها يحل له تناول المفطر.

ج_- وبعض آخر يصوم في السفر بحجة أن وسائط النقل أصبحت مريحة والصوم ممكن، ويستدلون بآيات قرآنية أو أحاديث شريفة وهم ليسوا من أهل الاختصاص، فهل يجوز لفرد أن يصدر حكماً في مسألة طبية أو هندسية لمجرد أنه قرأها في كتاب إذا لم يكن من أهل الاختصاص أن مثل هؤلاء الذين يصومون في السفر سماهم رسول الله ص في حياته بالعصاة، عندما أمرهم بالإفطار فعصوه فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (أولئك هم العصاة) وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (ليس من البر الصوم في السفر) .

وتوجد مسائل كثيرة حول المفطرات وأحكام الصوم وكيفية ووقت النية ومدخلية السفر والحضر فيه، وموارد القضاء أو الكفارة أو الفدية ونحوها مما لا مجال لذكرها الآن. لذا فأن كل مسلم ملزم أن يتهيأ لاستقبال شهر رمضان بالحضور في دروس فقهية لتعلم مسائل الصوم، بل سائر التكاليف الأخرى من

ص: 423

عبادات ومعاملات. خامساً : تنتشر في شهر رمضان ما يسمى ب_ (مطعم المفاطير) وهو عنوان قبيح وقد لا تلتفت إلى قبحه ولكن أعطيك منبهاً على ذلك، فأن قبحه بمقدار حسن ما يقابله من صفة مضادة وهو قولنا (مطعم الصائمين)، وهذا الأسلوب في فهم المعاني قد استفدته من سيدنا الأستاذ (قدس سره) فقد حضرت له درساً أخلاقياً في شرح زيارة (أمين الله) المعروفة، حتى وصل إلى الدعاء (اللهم اجعل نفسي مطمئنة بقدرك راضية بقضائك مولعة بذكرك ودعائك محبة لصفوة أوليائك ...) قال (قدس سره) : (إذا أردت أن تعرف عظمة هذه الحاجات المطلوبة فتصور أضدادها، لو حصلت فيك كيف سيكون حالك، فلو كنت ساخطاً على قضاء الله محباً لأعدائه مبغضاً لأوليائه مكروهاً في أرضه وسمائه فما هي قيمتك عندئذ !!) وكانت التفاتة مهمة اقشعرت لها الأبدان وارتجفت لها القلوب.

ومحل الشاهد هو هل أن وجود هذه الظاهرة صحيح _ ظاهرة وجود مطاعم مفتوحة في النهار وتقدم أشهى المأكولات ورائحة الشواء تملأ الأنوف وتحفز البطون الجائعة – ولكنها بفضل الله لا تهز القلوب المؤمنة المطمئنة المسرورة بطاعة الله تبارك وتعالى.

أقول : إن هذه الظاهرة مرفوضة تماماً ولا مسوغ لها ولا يقلل من قبحها وضع ستار على أبواب المطعم، أن هذا يسمى (ضحكاً على الذقون).

وإن قلتَ : تفتح للمعذورين عن الصيام كالمسافر ونحوه.

قلتُ : لا يتطلب هذا الأمر الانتهاك الصارخ لحرمة شهر رمضان وشعائره المقدسة، فمن الممكن للمسافر أن يسد حاجته برغيف من الخبز وبعض

ص: 424

الفاكهة والخضروات ويتناولها في مكان بعيد عن الأنظار، وخصوصاً وأنه ورد كراهية التملي من الطعام للمفطر بعذر فهذه دراهم مشؤومة التي يكتسبها صاحب المطعم، وأنا أعلم أنهم يتسابقون ويدفعون الأموال للحصول على امتياز فتح (مطعم المفاطير)، فبئس ما يفعلون أن سخط الله عليهم وأن الله قد كفل لعباده الرزق، وفي الحديث أن كل نفس لا تخرج من الدنيا حتى تستوفي رزقها، فلماذا يطلبها من الحرام وتكون وبالاً عليه في قبره ويوم القيامة.وليعلم هؤلاء أن فتح هذه المطاعم حرام؛ لما فيه من تجاهر بالإفطار ومعونة مباشرة على الإثم، والعمل فيها حرام، وأخذ الأجرة سحت محرم، وبذل الأموال لتحصيل إجازة فتحها حرام، وتجب مقاطعتها من قبل المعذورين عن الصيام، ووعظ أصحابها وإرشادهم وتوجيههم بالحكمة والموعظة الحسنة.

سادساً : ورد في الحديث الشريف أنه لا تجعل يوم صومك كيوم إفطارك، وهذا ما لا يلتزم به الكثيرون، فلسانه يخوض في الغيبة والكذب واللغو والنميمة وعينه تتصيد أعراض الناس بنظرات خائنة، ومعاملاته في السوق ليست نظيفة، وغير ذلك مما يجب اجتنابه في سائر أيام السنة وتزداد الرقابة على النفس في هذا الشهر المبارك، فقد ورد في خطبة النبي ص في آخر جمعة من شعبان أن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سأله : (ما أفضل الأعمال في هذا الشهر يا رسول الله؟ قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (الورع عن محارم الله) فهذه كلها مفطرات معنوية، أي أنها تحبط الأجر وتنقص درجات الصائم، وفي الحديث : (كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش) وهذا مما يؤسف له أن يضيع الإنسان هذه الفرصة العظيمة.

ص: 425

سابعاً : اعتادت كثير من العوائل أن تتفنن في صنوف الطعام عند الإفطار مما يصل إلى حد الإسراف والتبذير، وهو مما لا داعي له بل هو مرجوح شرعاً بالتأكيد ويفرغ الصوم من محتواه، وقد علمت أن بعض الذين يصومون يزداد وزنهم في شهر رمضان !! فأين هي ثمرة الصوم إذن !! وما الذي حصل عليه من ثمرات إيجابية على الصعيدين النفسي والاجتماعي !!،وما ضره لو رفع واحداً من هذه الأصناف وتصدق بقيمتها على فقير قد لا يجد أداماً يطعمه مع الخبز !!

فأين المساواة التي هي من أهم ثمرات الصوم ؟ نعم نحن لا نستطيع أن نكون كأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الذي قدمت له أبنته إفطاره وكان قرص خبز من الشعير وشيء من الملح واللبن، فنظر إلى أبنته بعتاب وقال : (أتريدين أن يطول موقف أبيك بين يدي الله تبارك وتعالى، فتجمعين إدامين في طبق واحد – والإدامان هما الملح واللبن – ارفعي أحدهما، فأرادت أن ترفع الملح فأمرها برفع اللبن)، فإن كنا لا نستطيع أن نكون مثله كما قال (علیه السلام) (إنكم لا تقدرون أن تصيروا مثلي فأعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد).

ثامناً : ومما يؤسف له كثيراً ويؤلم قلب كل متدين غيور اجتماع العوائل في ليالي رمضان حول الشاشة الصغيرة –كما يسمون جهاز التلفزيون- ليشاهدوا برامجه التي تكون غالباً معادية لله ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ولأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولصاحب الزمان (علیه السلام) المصلح المدخر لليوم الموعود، ومما يزيد الألم أن البرامج والمسلسلات المعدة لخصوص شهر رمضان تكون أكثر مجوناً وخلاعة وفسقاً وفجوراً، وكأن طاعة الله تبارك وتعالى مقتصرة على نهار الصوم

ص: 426

فقط أما الليل فيطلق سراح العباد ليفعلوا ما يشاءون، بل قل ليقودهم الشيطان إلى أسفل درك في الجحيم بلا نكير من أحد ولا رادع من دين ولا وازع أخلاقي؟ فأين الدفعة الإيمانية التي يحصل عليها الصائم في نهاره ؟ ولماذا يفرط في ما حصل عليه من خير ويخسره باتباع نفسه الأمارة بالسوء؟ ألم يعلموا أن ليالي شهر رمضان قد أعدت للعبادة والذكر وعقد الندوات والمحاضرات الدينية والثقافية والفكرية واللقاءات الاجتماعية وزيارة الأقرباء والأصدقاء ؟ فلماذا يسلبهم الشيطان عقولهم ؟ ألم يبلغهم قول الأمام المهدي المنتظر أرواحنا له الفداء الذي نقله بعض من أتصل به (أن التلفزيون سيف مشهور في وجهي)، فهل يليق بشيعته المنتظرين بشوق إلى طلعته البهية أن يحملوا السيف في وجهه ؟!

أن ممارسة هذه الظواهر المنحرفة وغيرها مما لم أذكره في أي وقت وخصوصاً في شهر رمضان مما يحز في القلب وأن وقعه أليم شديد على قلب الأمام المنتظر (أرواحنا له الفداء) الذي ندعو له بتعجيل الفرج ونحن نحاربه بهذه المعاصي.

لذا أدعو أبناء المجتمع المسلم الطيب الحريص على نيل رضا الله تبارك وتعالى والفوز بجنانه والنجاة من عذابه أن يقفوا وقفة شجاعة حازمة في وجه هذه المنكرات ومقاطعة من يمارسها وزجره وتوبيخه أن لم ينفع معه النصح والإرشاد والتوجيه.

ص: 427

البدائل الايجابية لقضاء وقت مثمر وممتع:

ولا بد أن نلفت الأنظار إلى بعض البدائل الإيجابية ليقضي الإنسان وقته بما هو مثمر ونافع وممتع، ولا ينحصر البديل بالازدياد من الطاعات كالصلوات والدعاء وتلاوة القرآن والذكر وقد حفلت كتب الأدعية والسنن بالكثير مما يستوعب الوقت لكن لما كان يمكن تسخير كل شيء في طاعة الله تبارك وتعالى ونيل رضاه لذا يمكن تصور أعمال أخرى منها:

1-تبادل الزيارات مع الأقرباء وعموم المؤمنين لما في صلة الرحم والتزاور والمودة ولقاء المؤمنين من الأجر الجزيل.

2-الحضور إلى الشعائر الدينية كالمجالس الحسينية وحلقات الذكر والدعاء وتلاوة القرآن واستماع المحاضرات والندوات الثقافية سواء كانت عامة (أي في المساجد ونحوها) أو خاصة كالتي تعقد في البيوت.

3-عقد المسابقات الدينية والثقافية والفكرية وأعداد الجوائز المادية والمعنوية للفائزين ولو داخل العائلة الواحدة.

4-طرح المشاكل الاجتماعية والتحديات الفكرية وتحليل أسبابها والتفكير في علاجها من جميع النواحي حيث تعرض مشكلة ما ثم يشارك الجميع في طرح أفكارهم، وتدون كل تلك الأفكار وسيجتمع في النتيجة كتاب ضخم في حلول المشاكل الاجتماعية كخطوة أولى لعلاجها .

5-زيارة العتبات المقدسة خصوصاً في الأزمنة الشريفة.

6-مطالعة الكتب والنشرات المفيدة والاستزادة من العلم والمعرفة خصوصاً محل الحاجة كالمسائل الفقهية التي يتعرض لها في العبادات والمعاملات

ص: 428

وكتب الأخلاق والتأريخ وسير أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ). 7-المواظبة على صلوات الجماعة في الأوقات جميعاً (الفجر والظهر والمغرب).

وأؤكد هنا أن هذا بعض ما يمكن أن يستثمر به شهر رمضان وغيره، لأن العمر كله فرصة للازدياد من الطاعات والفوز بالدرجات الرفيعة وأن تضييع أي ساعة بل أي دقيقة يوجب الحسرة والندامة؛ لذا كان من أسماء يوم القيامة أنه (يوم التغابن) لأن الجميع يشعر بالغبن حتى المؤمنين في الجنان لأنه كان يستطيع أن ينال درجة أعلى مما هو فيها لو كان جدياً في حياته أكثر فماذا سيكون حال الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأموالهم وأوقاتهم فلم يستثمروها بل وملئوها بما يكون وبالاً عليهم.

أسأل الله تبارك وتعالى ونحن نستقبل هذا الشهر المبارك أن يعدنا أعداداً كاملاً لطاعته ولبلوغ غاية رضاه وأن يجنبنا مرديات الهوى أنه نعم المولى ونعم النصير وهو أرحم الراحمين.

ص: 429

الحجاب الفرنسي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين .

إلى سماحة الشيخ الأجل محمد اليعقوبي (أيَّدكم الله)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ظهر في الآونة الأخيرة وتقريباً في بداية عام (2000م) نوع من الحجاب الذي يرتدينه أغلب الفتيات، وهو أن الفتاة تلبس الحجاب وتلفه على رأسها بحيث تجعله صغيراً جداً يكاد يغطي الرأس، علماً أنّه في الأغلب يخرج جزء من شعر الفتاة من المقدمة، هذا أولاً. وكذلك جزء من صدرها - أي جزء من رقبتها أو تحتها بقليل - مع العلم أن الفتاة غالباً، بل أكثر الأحيان، تكون ملتفتة وعلى علم بهذا الشيء، وهذا ثانياً، وهو ما يسمى في هذه الأيام ((بالحجاب الفرنسي)) مع العلم أن صناعته في العراق أو من دولة عربية، وهذه الحالة غالباً ما تكون منتشرة في الجامعات والمعاهد، باعتبارنا نعيش في هذا المجتمع. فنرجو من سماحتكم إجابتنا وإرشادنا على ما يأتي:

(1) ما هو رأي سماحتكم بهذا النوع من الحجاب ((الحجاب الفرنسي))؟

بسمه تعالى : إن تسميته بالفرنسي يوحي أن المنشأ الأصلي لصناعته فرنسا،

ص: 430

وإن ورد في السؤال أنه يصنع في العراق أو بلاد عربية؛ لذا أقدّم هذه الملاحظة:إن ما يُصدّر إلينا مما يصنعه الغرب على شكلين:

الأول: ما يكون استعماله مشتركاً بيننا وبينهم كالسيارات والآلات الإلكترونية فهذه لا بأس بالاستفادة منها.

الثاني: ما يصنعونه خصيصاً لنا فيجب أن نتهمهم فيه ولا نتعاون معهم فيه، إلا بعد أن نجده مطابقاً لشريعتنا، والحجاب من القسم الثاني.

فالأصل فيه التهمة حتى يثبت العكس، والحجاب الموصوف في السؤال مخالف للشريعة الإسلامية، ولا يجوز لنا أن ننبهر بالإنتاج الغربي حتى نضيع معالم ديننا. إن هذا لمؤسف حقاً أن يصنع الكافر حجاباً لنساء المسلمين، ونحن نعلم ما يريد منا [وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ](النساء:89) [وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ](البقرة:120) .

(2) ما هو دورنا كمكلفين وكطلبة بصورة خاصة ؟

بسمه تعالى: يجب عليكم عدة أمور :

1- مقاطعة مثل هذه الصناعات التي تريد أن تسلب ديننا بالتدريج.

2- توعية المجتمع وإلفات نظره إلى جسامة هذا الخطر وغلق الباب من أوله.

3- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمراتبه المذكورة للناس الذين اتبعوا جهلاً ووقعوا في حبائل هذه الخطط الشيطانية .

(3) بماذا تنصحون الفتيات اللاتي يرتدين هذا الحجاب؟

بسمه تعالى : أنصحهن بتطبيق الشريعة والاهتداء برأيها في كل شؤونهن، وأن يحافظن على دينهن؛ فإنه عنوان عزتهن وشرفهن وكرامتهن،

ص: 431

وإن الكفار ليحسدونهن على هذا المنهج القويم الذي يوفر للإنسانية سعادتها في الدنيا والآخرة، لذلك فإنهم –أي الكفار- يسعون بكل جهدهم لسلب هذه النعمة الكبيرة من أهلها [أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ](النساء:54). وأي فضل أعظم من نعمة الإيمان بالله والسير على هدى رسوله العظيم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فلا تعطوا الكفار مرادهم فتكونوا عبيداً لهم تابعين؛ وفي ذلك خزي الدنيا وعذاب الآخرة. وقد رأيتم كيف ذلت الأمة وهان أمرها عندما تركت دينها وخضعت للكافر، فالله الله في دينكم لا يغلبنكم عليه أحد، والله ناصركم وهو يتولى أمر المؤمنين.

(4) ما هو دور أولياء الأمور في منع مثل هذا الحجاب؟

بسمه تعالى: اتضح جوابه مما تقدم، لكن يضاف إليه أن مسؤولية ولي الأمر أكبر [قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ](التحريم:6)، كما إن سلطته أوسع، فإذا كان غيره لا يستطيع النهي عن المنكر إلا بالموعظة أو الزجر، فإنه يستطيع تنفيذه بالضرب والحبس والإيلام، فنهيب بهم أن يتحملوا مسؤولياتهم كاملة.

(5) ما هو الحجاب الشرعي الإسلامي الذي يجب أن ترتديه الفتاة ؟

بسمه تعالى : قد ذكر الفقهاء كيفيته: بأن يستر البدن كله عدا الوجه والكفين – على خلاف –، ولا يجوز أن يكون حاكياً عن البدن ملتصقاً به بحيث تظهر معالم الجسم من خلاله، وأن لا يسبب فتنة وإلفات نظر، وأن تكون مشية المرأة طبيعية لا تثير شهوة ولا تسبب فتنة ... إلى غيرها من التفاصيل

ص: 432

المذكورة في كتب الفقه وكتاب (أختي .. انتبهي) لأحد الأخوة الفضلاء جزاه الله خيراً .أسأل الله تعالى التوفيق لدينه والهداية لطاعته ونيل رضاه لي ولكم ولجميع المؤمنين إنه ولي النعم.

الشيخ محمد اليعقوبي

15 محرم 1421ه_ الموافق 20/ 4/ 2000 م

ص: 433

نصائح إلى طالبات الأقسام الداخلية

بسم الله الرحمن الرحيم

إلى سماحة الشيخ الأجلّ محمد اليعقوبي (دام ظله):

نداء من الأعماق الواقع الاجتماعي يستنجد بعطفكم الأبوي وحميتكم على الرسالة المحمدية وغيرتكم على أبناء مجتمعكم الذي أنت منه وفيه ...

شيخنا الأجل هناك بعض الحالات التي تحصل (في الحياة الجامعية) للطلبة والطالبات بخصوص حالة طالبات مؤمنات في طب الأسنان، والتي تسير نحو الالتزام بدقيّات الشريعة للوصول إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى.

لهذا فإنهن يطلبن النصيحة والدعم المعنوي خصوصاً، فقد وصلن مرحلة من التفكير بترك الكلية والعلم؛ وذلك لأنهن يخفن على أنفسهن ودينهن من الضعف يوما ما، والشعور الدائم بالإحباط و(الأثر النفسي) نتيجة ما يرينه من المعاصي والذنوب والحرام التي تهتك أمام أعينهن .. وأنتم تعلمون أن هذا يؤدي إلى غياب عنصر المرأة في السلك الطبي، مما يسبب حرجاً وصعوبة للمؤمنات في العلاج .. واليك بعض تلك المشكلات:

1- حياة الأقسام الداخلية والتي قلّ فيها الخوف من الله سبحانه وتعالى، حيث تحتوي على المعاصي التالية :

أ- سماع الأغاني وبشكل متواصل، برغم حرمته فانه يؤدي إلى ضياع الزمن الذي هم بحاجة إليه في الدراسة الطبية.

ص: 434

ب- عدم التورع في المعاصي والمحرمات مثل (الغِيبة والأحاديث اللا أخلاقية على الطلبة والطالبات والأغاني ...).ج_- المحاربة النفسية في (داخل الغرفة) لمن تتمسك بتعاليم دينها (أمثال الطالبة من الأخريات).

2- أما في الكلية فهي أشد معاناة وخاصة في طب الأسنان والصيدلة، وبما إن هناك ضرورة في التعامل مع الطلبة والطالبات علمياً من قبيل المحاضرات والاستنساخ وغيرها ... وأيضاً الأسلوب في المحاربة هي (المحاربة النفسية)؛ وذلك بإهمال الطالبة الملتزمة وعدم التعاون معها، وإن حاولت هي بطلب حاجتها منهم عاملوها بالانتقاص والمِنيّة وما خفي كان أعظم ..

3- ترديدهم المستمر وتطبيقهم العملي لكلمة الترقي والحضارة في كلية الطب، وجعلوا له مصداقاً بانحطاطهم الأخلاقي .. وهذا الجو النفسي المليء بالجهل والسذاجة والغفلة أدى إلى إحباط الطلبة والطالبات الملتزمين، مما سيجعل عند الطلبة ترهلاً علمياً ورجوعاً إلى الوراء ..

فيا شيخنا الجليل لقد كثر الطرق وأصبحنا بحاجة ماسة إلى نصيحتكم ودعمكم المعنوي .

(أدامكم الله لنا ذخرا وحفظكم من كل مكروه).

بعض أولادكم في الكلية

6 ذو الحجة 1421ه_

ص: 435

بسمه تعالى: الحمد لله كما هو أهله وصلى الله على سيد خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين .

أود أن أجعل الإجابة في نقاط:

1- إن هذا الضغط النفسي الذي يسببه أهل المعاصي للمؤمنين الملتزمين ناشئ من حسدهم لهم وشعورهم بالنقص وعقدة الحقارة أمامهم؛ لأنهم يعلمون أن هؤلاء على خير، وأنهم حائزون لسعادة الدنيا والآخرة، وليس عندهم الشجاعة لئن يكونوا أمثالهم ويرتقون إلى درجاتهم، فيحاولون إنزالهم إلى الحضيض الذي يعيشونه ليقنعوا أنفسهم ويهربوا من هزيمتهم الداخلية، وقد جعلوا لأنفسهم شعاراً (حشرٌ مع الناس عيد)، فوجود هؤلاء المؤمنين يكشف نقصهم وحقارتهم وضعفهم أمام شهواتهم وتسويلات الشيطان، وهكذا دوماً يكون وجود العنصر النظيف مسبباً للكشف عن فساد العنصر المنحرف.

2- إن المؤمن قوي بإيمانه ومسلكه وطريقته المثلى، فلا يتأثر بإرهاصات المنحرفين الفاسقين، قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ](المائدة:105) وفي الحديث: (إن المؤمن أقوى من الجبل؛ لأن الجبل يستقل منه بالمعاول، ولا يستقل من إيمان المؤمن شيء)، وكيف لا يكون المؤمن قوياً وهو يعيش في رعاية الله سبحانه وتأييده ورحمته، أما الفسقة فمولاهم الشيطان الضعيف الذليل [نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ](فصلت:31) [ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ

ص: 436

الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ](محمد:11).ولتكن أم المؤمنين خديجة الكبرى مثلاً أعلى وأسوة حسنة للنساء المؤمنات، فقد قاطعتها نساء قريش وعزلتها حتى عادت وحيدة في دارها، ومع ذلك بقيت قوية الإيمان رابطة الجأش تشد أزر زوجها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتخفف عنه أعباء الرسالة وتسنده بكل ما أوتيت، فكانت بذلك قرة عين رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) .

3- إن أحكام الشريعة يمكن أن تخفف في حالات العسر والحرج وخوف الضرر؛ فأكل الميتة حرام لكنها تحلّ عند الاضطرار، قال تعالى [مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ](الحج:78) [يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ](البقرة:185) [إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ](الأنعام:119)، فإذا لم ينفع نهي هؤلاء عن المحرمات فيسقط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

4- إن هؤلاء المصرين على المعصية هم جهلة من عدة جهات؛ فهم يجهلون لماذا وجدوا في هذه الحياة، وكيف ستكون نهايتهم، وما هو حق المولى المنعم عليهم، وما هو جزاء العاصين. فالحل الصحيح لهؤلاء ليس فقط أن نقول لهم: إن هذا حرام وذاك ممنوع، بل لا بد معه من بيان الحكمة من التشريع، وتقوية العلاقة بين الإنسان وخالقه، والتذكير بالآخرة، واستشارة الفطرة، وإحياء القلوب بالموعظة، وذكر الموت كما فعل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مع مشركي قريش، وكل ذلك يجب أن يكون بالحكمة والموعظة الحسنة والحوار الهادئ وقلب وعقل مفتوحين وصدر واسع، من دون تعنت ولا عصبية.

ص: 437

فهؤلاء البعيدون عن الله يستحقون العطف والرحمة؛ لأنهم مرضى، لكن مرضهم ليس في الجسد بل في القلب والروح، وهم أولى بالرعاية من مرضى الجسم الذين يثيرون العطف ويستحقون المساعدة، فلا تقصروا في مساعدتهم على إصلاح نفوسهم، وستجدون أكثرهم يحبون الطاعة ويقتربون إلى الله تبارك وتعالى عندما يكون الأسلوب مقبولاً، وحينما يعرف المعالج كيف يشخّص داءهم وينجح في وصف العلاج الصحيح.5- وهناك حلول أخرى: كاختيار الصديق من المجموعة الصالحة ليعيش معهم، أو على الأقل قضاء الوقت معهم في غرفتهم للمباحثة والدرس وتبادل الأحاديث النافعة، والإكثار من تلاوة القرآن الكريم وذكر الله تبارك وتعالى، وتوجد أفكار نافعة وتصلح كأجوبة على بعض الفقرات الواردة في السؤال ذكرناها في كتاب (فقه الجامعات) فراجعه.

6- لا يمكن أن يكون حل المشاكل بالهروب منها وإدارة الوجه عنها؛ فإن هذا لا يحلها، لأنها واقع مفروض، وقد تزداد بذلك تعقيداً ورسوخاً، وإنما تحل بمواجهتها بشجاعة وحزم واحتوائها ومعالجتها بالشكل المناسب وعلى تعبير أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إذا هِبتَ أمراً فقع فيه)، فليس من الصحيح أبداً قول السائل أنه يترك الدراسة هو وإخوانه المؤمنين، ويكونون بذلك آثمين لان هذه المهن الإنسانية تجب بالوجوب الكفائي على أفراد المجتمع، فإعراضهم عنها يعني التخلي عن أداء هذه المسؤولية.

7- أما هذه العناوين البراقة التي يتشدقون بها ويبررون بها أفعالهم كالحضارة وما شابه، فهم يعلمون أنها خالية من المحتوى، ولا تصلح مبرراً لما يفعلون،

ص: 438

فهل الحضارة والتطور والتقدم تنافي الأخلاق والعفة والحياء؟! أليس الدين هو مَنْ أمر بالعلم والعمل الصالح وفضّل العلماء على جميع شرائح الخلق؟! ألم يكن الإسلام هو السبب في إنشاء أعظم حضارة شهدتها البشرية في سعتها وعمقها ورحمتها وأخلاقها وسمومها، ولا زال الغرب مديناً لها في تطوره؟! ثم أنسي هؤلاء المتحضرون ما يفعله الغرب المتقدم من أفعال وحشية يندى لها الجبين وتربأ أفتك الوحوش بأنفسها عن الإتيان بمثلها [مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ](الصافات:154) [أَنَّى تُؤْفَكُونَ](غافر:62) [كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلا كَذِباً](الكهف:5).8 ذو الحجة 1421 ه_ الموافق 4/ 3/ 2001 م

ص: 439

عرض الملابس النسائية بالصور الخليعة

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

إلى سماحة حجة الإسلام والمسلمين جناب الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله):

تأييداً للمذهب ونصراً لدين الله وموالاة لمحمد وآل محمد (صلى الله عليهم أجمعين) وبناءً لمجتمع إسلامي في خدمة الإمام القائم المهدي (عجل الله فرجه) ألفت النظر إلى ظاهرة فاسدة في المجتمع، حيث توجد في الأسواق بعض الألبسة النسائية التي تحمل صوراً لنساء بملابس خليعة مثيرة للفتنة والشهوة، وتكون سبباً لإفساد المجتمع ويظهر من بعضها أن المسألة ليست إعلانا عن نوع الملابس، وإنما هو يستهدف الترويج لهذه الصور الفاحشة، فمثلاً توجد بعض أنواع الجواريب التي توضع بداخلها بدلاً من الكارتونة البيضاء التي تلف عليها توضع صور خليعة! أو بعض ألبسة (البدي) التي تحمل صوراً مثيرة وبعض الألبسة الداخلية النسائية. فهل من نصيحة توجهونها لمن يتعامل بها بيعاً وشراءً، سواء كان ملتفتاً لها أو غافلاً عنها؟ وما حكم هذه المعاملات؟ وهل يجوز عرض مثل هذه البضاعة في المحلات وعلى الأرصفة؟ وما هو البديل في نظركم لو كان الحكم هو الإعراض عن هذه البضائع؟

بسمه تعالى : في حديث مضمونه: أنه يؤتى يوم القيامة بعبدٍ له من أعمال كثيرة كالجبل يزفه الملائكة لعظم رصيده من الأعمال فيؤمر به إلى النار فتسأل الملائكة متعجبة: لماذا يا ربنا؟

ص: 440

فيجيبهم تبارك وتعالى: لأنه كان لا يغضب لي إذا عصيت، أي ليس له غيرة على الدين ولا يغضب إذا عصي الله تبارك وتعالى ولا تتحرك مشاعره ولا يندفع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا شخص يمقته الله تبارك وتعالى وعلى العكس منه شخص لا تأخذه في الله لومة لائم فيباهي به الملائكة.أقول هذا الكلام لغرضين مزدوجين :

الأول: تقديم الشكر لهذا السائل الغيور الذي انتفضت همته لشعوره بالمسؤولية أمام الله تبارك وتعالى وأمام رسوله الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبقية الله الأعظم أرواحنا له الفداء، ونحن نشد على يده ونهنئه بهذا التوفيق الإلهي العظيم.

الثاني: توجيه العتاب واللوم إلى الإخوة (المؤمنين!!) الذين يتورطون في نشر الفاحشة وإشاعة الفساد، وينخرون كيان المجتمع ويهدمون أسسه من حيث يشعرون أو لا يشعرون!!

إذا كنت لا تدري فتلك مصيبةٌ وإن كنت تدري فالمصيبة أعظمُ

لقد قلت كثيراً إن أساس مشاكلنا هو الجهل والسذاجة وقلة الوعي، حتى صرنا نقتل أنفسنا ونقدم لأعدائنا الكفار على طبق من ذهب – كما يقولون- ما يقضون به علينا، ونعينهم على فنائنا.

فهل يعقل أن تتداول أسواقنا جهاراً هذه الصور الخليعة المفسدة للدين والمذهبة للغيرة والحياء والمشجعة على إشاعة الفحشاء والمنكر والتي هي من أفتك أسلحة الشيطان؟!

ماذا حل بنا حتى صرنا نرى المنكر معروفا ولا أحد يستنكر! ومن أجل ماذا نقوم بتلك المنكرات التي تفقدنا أعز ما لدينا: ديننا وأخلاقنا وشرفنا وعزتنا

ص: 441

ونظامنا الاجتماعي؟ وتعوضنا بدلاً عنه الجريمة والفساد والانحلال والضياع [وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى](طه:127) ألا يوجد غيور؟ ألا يوجد عاقل؟ ألا يوجد مسلم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وينبه الغافلين ويوقظ النائمين؟! لماذا نأخذ من الكفار أسوأ ما عندهم – الانحراف والفساد والابتعاد عن الله سبحانه – ولماذا هذه التبعية البغيضة لهم ؟ أليست لنا القدرة على إنتاج هذه البضائع ؟ وإذا لم نقدر فلماذا لا نشترط على شركاتهم المصنعة ان يحترموا ديننا وأخلاقنا ولا نشتري منهم إلا إذا التزموا بشروطنا؟

وهم – كما نعلم – يلهثون وراء الربح والمصالح فلماذا تكون يدنا السفلى ونحن أصحاب اليد العليا [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ] (آل عمران:139) يكفي أن الله مولانا ويتولى أمرنا وهم لا مولى لهم إلا الشيطان الضعيف.

إننا مبهورون بالغرب الكفار وما توصل إليه من تكنولوجيا متقدمة وهو حق، لكن كما أن لهم نقاط قوة، فعندهم نقاط ضعف، وكما أن عندنا نقاط ضعف، فان عندنا نقاط قوة، فلنأخذ منهم ما فيه خير لنا، ولنلتفت إلى أسباب قوتنا وأولها الإيمان بالله سبحانه والالتزام بشريعته وما يثمر عنه من سعادة وطمأنينة، فترى المؤمن في أشدّ الحالات صعوبة وهو رابط الجأش قوي العزيمة ثابت القلب، وهم عندما يصدرون لنا هذه المزالق الشيطانية فإنما يريدون سلب قوتنا هذه حسداً منهم [أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ] (النساء:54)، ولو كنا متمسكين بقرآننا لوجدنا فيه علاجا لكل داء فاستمع إليه يبين لنا ماذا يريد هؤلاء الكفار منا [وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ

ص: 442

يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ] (البقرة:109).هذا أحد أسرار عظمة القرآن إنه حي خالد يخاطب الأجيال جميعاً وكأنه نزل عليهم الآن ويأخذ بأيديهم نحو كل ما يصلحهم .

ولعلي أطلت في الكلام ولكن السؤال أثار في نفسي ألماً وأسفاً، ودفعني إلى هذه النصيحة حرصي على مجتمعي وأنا ابنه ومنه فمن أولى بي من النصح له، ومن أهم صفات العلماء - جعلنا الله منهم بفضله وكرمه – النصح للعباد، وأريد الآن أن أبين باختصار الإجابة عن الأسئلة المذكورة:

1- يحرم بيع وتداول أية بضاعة فيها ترويج للفساد وإشاعة الفاحشة وإعانة على الإثم، ولا يجوز للمسلم التصدي لمثل هذه البضائع، وإني لأعجب من شبابنا المسلم كيف يتصدى للعمل والكسب في بيع هذه البضائع المليئة بمزالق الشيطان.

2- يحرم عرض الصور وسائر الأمور المثيرة للشهوة والتي تؤدي إلى الفساد والانحلال.

3- مقاطعة البضائع التي تنافي عقائدنا وأحكام ديننا، وأن يشترط تجّار الاستيراد الكبار على الشركات المصنعة مراعاة تعاليم ديننا وأخلاقنا.

4- التفكير في الأسلوب الصحيح لسدّ احتياجات مجتمعنا من هذه البضائع من خلال عدة أمور:

أ- تشجيع صناعتنا الوطنية حتى لا نحتاج إلى الكفار، وقيام أصحاب الأموال بإنشاء المعامل التي تفي بالغرض.

ص: 443

ب- أن تتصدى النساء لسد احتياجات النساء من هذه المواد كما تفعل (الدلالات) وبكل حشمة ووقار من دون تعريض نساء المسلمين وشبابهم إلى هذه المزالق.

ج_- وعي أولياء الأمور وكل أبناء المجتمع لمسؤولياتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحزم في تطبيقها.

عصمنا الله وإياكم جميعاً من الزلل وسددنا في طريق طاعته إنه ولي النعم .

محمد اليعقوبي

18 / شوال / 1421 ه_ الموافق 14/ 1/ 2001 م

ص: 444

فكرة خاطئة : عدم تزويج العلويات لغير السادة

فكرة خاطئة : عدم تزويج العلويات لغير السادة(1)

بسمه تعالى: سماحة حجة الإسلام والمسلمين الشيخ الأجلّ محمد اليعقوبي (دام ظله الشريف).

توجد فكرة خاطئة لدى بعض العشائر من السادة المنتسبين إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهي عدم تزويج بناتهم إلى غير السادة، حتى لو أدّى ذلك إلى تعطيل البنت وحرمانها من الزواج. وقد بالغ بعض السادة فمنعوا من تزويج بناتهم من سادة آخرين لا يرونهم بمستواهم، كما حصل لبعض السادة الياسريين؛ حيث استردّ ابنته كرهاً من زوجها الذي هو من سادة غيرهم، واعتبر ذلك الزواج غير شرعي (زنا) بنظره. وقد سرت هذه الفكرة إلى بعض العشائر من غير السادة أيضاً.

فما أصل هذه الفكرة؟ وهل يوجد دليل يستند إليه هؤلاء؟ وما وجهة نظر الشريعة فيها ونحن نرى أنها تؤدي إلى ظلم المرأة وحرمانها من حق مهم من حقوقها؟.

بسمه تعالى: إذا أردنا أن نحسن الظن بهم فإن هؤلاء يستندون إلى قول منسوب للإمام أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حاصله: (بنونا لبناتنا وبناتنا لبنينا) وهو إن صحت نسبته إليه (ع)، فلا يصلح أن يكون دليلاً على هذه الظاهرة السيئة

ص: 445


1- تناول سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) هذه الظاهرة في خطاب اخر منشور في المجلد التاسع وكذلك في نشرة الصادقين العدد 146.

لعدة أمور:1- إنها كلمة خاصة في واقعة معينة ولا يستفاد منها التعميم؛ فقد خطب الأشعث بن قيس إلى أمير المؤمنين ابنته العقيلة زينب وهو يومئذ زعيم لقبيلة كبيرة وهي كندة ومن وجوه المجتمع الإسلامي، لكن أمير المؤمنين يعلم خبث معدنه فأراد أن يرده بلطف فقال هذه الكلمة.

2- ويحتمل أنها خاصة ببناتهم وأبنائهم (ع) المباشرين لا مطلق ذريتهم وإن ابتعدت عنهم.

3- ويمكن فهم الكلمة معنوياً ففي الحديث الشريف: (يا علي أنا وأنت أبوا هذه الأمة) ويكون معنى كلمته (علیهم السلام) أن أبناءنا المؤمنين يتزوجون بناتنا المؤمنات وبالعكس، ويؤيده في القرآن الكريم قوله تعالى حكاية عن إبراهيم [فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي] (إبراهيم:36) وبالمقابل يقول عن ابن نوح [إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ] (هود:46)، فالبنوّة الحقيقية هي الانتساب بالعقيدة والولاء. لذا روي عن الإمام الصادق (علیه السلام): (ولائي لعلي خيرٌ من ولادتي منه)، فيكون معنى الكلمة هو لزوم تزوج المؤمنين بالمؤمنات، ولا يجوز التزويج لغيرهم وهو معنى صحيح أكّدته آيات عديدة.

هذا إذا قلنا بصحة صدور هذه الكلمة منه (علیه السلام) ولم نناقش فيه، باعتبار أنه قد ورد عنهم (علیهم السلام) أنه: إذا جاءكم الحديث عنا فاعرضوه على كتاب الله وسنة نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فما خالفهما فإنه زخرف باطل لم نقله وارموا به عرض الجدار.

ص: 446

وتوجد عدة أدلة على بطلان هذه الفكرة من الأساس هي:أولاً: إن الميزان الحقيقي للتفضيل بين البشر هي التقوى. قال تعالى: [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ] (الحجرات:13) وقد رفع الإسلام سلمان الفارسي فجعله من أهل البيت، وبالمقابل أنزل سورة في القرآن تتلى إلى يوم القيامة في ذم ولعن أبي لهب عم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

ونفس رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يخاطبه القرآن: [لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ] (الزمر:65) فشرفه بطاعته لله تبارك وتعالى.

وفي آية أخرى [وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ ، لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ](الحاقة: 44-46) وهو (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول عن نفسه: (ولو عصيت لهويت) أي في نار جهنم. فالانتساب إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وإن كان شرفاً في نفسه لا يدانيه شرف إلا أنه لا يكسب صاحبه مرتبة أعلى من غيره إلا بالتقوى.

وقد وردت الأحاديث الشريفة في النكاح تشترط الدين والعقل في كفاءة الزوج (إذا رضيتم من الرجل عقله ودينه فزوجوه، إلاَّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)، فهل يرضى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأولاده أن يخالفوا سنته ويتسببوا في الفتنة والفساد الكبير.

ثانيا : إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأهل بيته كذبوا هذه الفكرة عملياً؛ ففي الحديث عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) زوّج المقداد بن الأسود ضباعة ابنة الزبير بن عبد المطلب، وإنما زوّجه لتتضع (أي تتسهل وتتسامح) المناكح، وليتأسّوا برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وليعلموا [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ

ص: 447

أَتْقَاكُمْ])(1). وكان الزبير أخا عبد الله وأبي طالب لأبيهما وأمهما.ثالثاً: لقد ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام) استنكار هذه الفكرة بقوله (أتتكافأ دماؤكم ولا تتكافأ فروجكم) فإن العلوي إذا قتل غيره اقتصّ به منه، فإذا كانت دماؤهم متكافئة، فلماذا لا يتكافؤون بالتزويج.

رابعاً: قد جرت سيرة العلماء وهم ورثة الأنبياء والأئمة على تزويج العلويات من غير السادة، وقد دونت كتب التراجم والسير الكثير من هذه الحالات، حتى اشتهر عندهم لقب (الميرزا) لمن كانت أمّه علوية وإن لم يكن أبوه كذلك. فظهر من كل ما تقدم عدم وجود دليل على صحة هذه الفكرة، بل الدليل على خلافها من القرآن والسنة وسيرة العلماء.

فما هو منشأ هذه الفكرة المخالفة للقرآن والسنة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)؟

الذي أعتقده أن منشأ ذلك شعور بالعصبية الجاهلية وروح الاستعلاء وأن الآخرين هم أدنى مرتبة فلا يستحقون التزويج منهم، وإنما سمّيتها بالجاهلية لأن القرآن يسمي كل عقيدة أو سلوك بعيداً عن المنهج الالهي (جاهلية)، وقد كان قوم في الجاهلية لا يزوّجون نساءهم إلى غيرهم ويعتقدون بأفضليتهم على الناس ويسمون أنفسهم (الحمس)، وقد تسربت هذه الروح إلى المسلمين فكان العرب الفاتحون يرون أنفسهم أفضل من غير العرب فلا يزوّجونهم ويسمونهم (الموالي)، وقد شكى الموالي ذلك إلى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فخرج إليهم وهو مغضب ووبخهم، لكنهم عصوا أمره وأصرّوا على استكبارهم.

إن روح الاستعلاء هذه من نزعات الشيطان وتسويلات النفس

ص: 448


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب: مقدماته وآدابه، باب 26، ح1.

الأمّارة بالسوء، فعلى الأخوة المؤمنين نبذها وتركها والاستنان بسنة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وإني أقول قولي هذا مراعاة لذرية الزهراء (ع)، فقد بلغني أن الكثير من العلويات تعنس ويفوتها الزواج بسبب هذه الفكرة الظالمة، حيث ينهى عنها أولاد عمها ولا يتزوجونها، فيحرمونها من ممارسة حقها في الحياة كزوجة وكأم لأولاد يرعونها في الكبر، فلماذا هذا الظلم؟! ألم يعلموا أن الله يحشر الظالمين في سرادق من نار خاصة بهم.وأرى أن تزويج العلوية من غير العلوي سيضيف لها فرصاً أكبر لنجاح حياتهما الزوجية؛ لأن الزوج سيحفظ لها هذه القربى من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وسيكرم مقامها ويرعاها أحسن رعاية، لأنها وفرت له فرصة مصاهرة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والزهراء (ع) وتسببت في انتساب ذريته إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من جهة الأم، ولا يظلمها احتراماً لجدتها الزهراء (ع) .

فعلى الجميع أن يتعاونوا في القضاء على هذه الفكرة الجائرة التي استشرت في أوساط الكثير من عشائر السادة، بل بلغني أن بعض السادة (الياسريين) حرموا إحدى بناتهم من زوجها لأنه من سادة غيرهم، ويعتبرون بقائها معه (زنا) والعياذ بالله؟! وهذه جناية كبيرة أن يتكبر أحدهم حتى على أولاد عمه من ذرية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، إنها (الجاهلية) تعود من جديد بشعارات دينية … فتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون، وعودوا إلى كتاب ربكم وسنة نبيكم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، واستغفروا الله

ص: 449

من ظلمكم للنساء؛ فإن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أوصى بهن، وقال: اتقوا الله في الضعيفين - المرأة واليتيم- وفي حديث آخر ما أكرمهن الا كريم وما أهانهن إلا لئيم .نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا لطاعته ويدلنا على سبيل رضاه إنه ولي النعم.

محمد اليعقوبي

22/صفر/1422ه_ الموافق 16/ 5/ 2001م

ص: 450

إقامة علاقات مع الطالبات لهدايتهن

بسم الله الرحمن الرحيم

سماحة حجة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد اليعقوبي (دام عزه)

هل يجوز إقامة علاقة مع الطالبات في الكليات بهدف أمرهن بالمعروف ونهيهن عن المنكر وربطهن بالخط الحوزوي الصحيح وبث الوعي الديني فيهن من خلال إعطائهن الكتب والكراسات التي تفي بهذا الغرض؟. والدافع إلى إقامة هذه العلاقة هو عدم وجود من يقوم بهذا الواجب من المحارم أو النساء الأخريات سواءً من الطالبات في الكلية أو خارجها، علماً أن هناك كثيراً من الطلبة الذكور من هم بحاجة أيضاً إلى إقامة مثل هذه العلاقة لنفس الغرض، ولا يمكن أن تتحقق هذه الغاية إلا باللقاءات في المكتبة أو في ساحة الكلية أو في الممرات، مما يترتب على ذلك إساءة الظن من قبل أكثر الطلبة.

ولكننا نعتقد أن فرصة الرجال أكبر من فرصة النساء في هذا الصدد؛ لاستطاعتهم الخروج والاتصال المباشر بالحوزة والحوزويين، ونحن نجد عند تلك الطالبات جهلاً كبيراً بأمور الشريعة المقدسة، وكذلك في نفس الوقت نجد تقبلاً كبيراً منهن ورغبة شديدة في الاستزادة من علوم آل محمد، وقد علق أحد فضلاء الحوزة الشريفة على الفكرة المذكورة في أعلاه بأنها فكرة جديدة وجديرة بالنظر، وأنها قد تكون مما يشجع عليه الشيخ اليعقوبي لأنها تسير في طريق بث الوعي الديني في المجتمع.

ص: 451

ونقل أحد الثقاة عن هذا الحوزوي أيضا أنه قال: إن المنع الوارد في فقه الجامعات بشأن إقامة العلاقة مع الطالبات وهو منع عام يستثنى منه الأشخاص الذين يراعون في العلاقة حدود الأدب الشرعي، وفي مقابل ذلك كله هناك من يقول بأن إقامة هذه العلاقات مخالف لروح الشريعة الاسلامية، حيث إنها تؤسس للفصل بين الجنسين وكراهة الاختلاط والحديث بل في السلام بينهما، فإذا كان هذا الرأي صحيح، فما هو الحل بالنسبة للطالبات الجاهلات بأمور دينهن وعدم وجود من يرفع عنهن هذا الجهل؟ولدكم محمد العبيدي

بسمه تعالى : إن مزالق النفس الإنسانية مما يخفى حتى على صاحبها؛ لذا شبه الحديث الشريف الرياء بأنه أخفى من دبيب النمل بين الصفا – أي الصخور – في الليلة الظلماء. وبين أيدينا قصة ذلك الرجل الذي قضى صلاة ثلاثين سنة؛ لأنه كان يصلي طيلة تلك الفترة في الصف الأول، وفي يوم جاء متأخراً فصلى في صف متأخر، فشعر داخل نفسه بالخجل أنه لم يحضر مبكراً فيحصل على مكان في الصف الأول، وحينئذ تأمل في حاله طول تلك الفترة وانكشف له أنه كان راضياً على نفسه معجباً بها، إذ كان مواظباً على الصلاة في الصف الأول، ولم ينكشف له ذلك إلا بهذا الاختبار.

وقد وضع أهل الأخلاق والمعرفة امتحانات للنفس، ليختبر صدقها وإخلاصها لله تعالى، وعلى الإنسان الطالب للكمال أن يعرض نفسه على

ص: 452

هذه الاختبارات ليقومها ويهذبها وينال القرب من الله تعالى.وأنا عندما أذكر هذه المقدمة لا أريد أن أشكك بإخلاص صاحب هذه الفكرة وغيرته على الدين والمؤمنين وحبه لهداية الناس جميعاً إلى الخير، لكن يا عزيزي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي فلا تطمئن إلى مكرها، فأقول لهذا الشخص الغيور إن كان مهتماً بأمر المرأة وأنها نصف المجتمع: هل فكر بإصلاح أخته وأمه وعمته وخالته وابنة أخيه وابنة أخته؟ وهل فرغ من إصلاحهن حتى يكون متحمساً لهذه الدرجة لتكوين (علاقة) مع الطالبات وهدايتهن؟ وهل فرغ من إصلاح الطلاب الذكور أو سعى في ذلك على الأقل قبل أن يفكر في الطالبات؟ وما عسى أن ينفع كون فرصتهم للاتصال بالحوزة أكثر إذا كانوا منقطعين عملياً عن الحوزة وبعيدين عن سماع كلمة الحق.

وقد أُوصف بالتزمت والتشدد حينما أرفض هذه الفكرة، لكن هذا هو أدب أهل البيت الذي ربونا عليه، وفيه مصالح نفسية واجتماعية وروحية قد تسنح لنا فرصة أخرى لبيانها، لأني أعتقد أن فهم أسرار التشريع عامل مهم للاندفاع نحو التطبيق، وإذا كان أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لا يسلم على الفتاة الشابة خشية أن يدخل في قلبه شيء من سماع صوتها إذا ردت السلام، وذمَّ أهل الكوفة ووبخهم لأنه سمع أن نساءهم تخرج إلى الأسواق وتختلط بالرجال، وذكر في سيرة العقيلة زينب (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) حين كانت تخرج لزيارة امها الزهراء (ع) يسبقها أبوها أمير المؤمنين

ص: 453

(ع) فيطفئ قناديل المسجد وتخرج محاطة بأخويها الحسنين (ع)، هذا غير كلمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) عندما سألها أبوها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن أفضل خصلة في المرأة، فقالت (عَلَيْهِا السَّلاَمُ): أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل.وجرى على هذا ديدن العلماء والمؤمنين المتشرعين، ومنه نعرف أن الأصل هو منع الاختلاط إلا إذا دعت الضرورة الدينية أو الاجتماعية أو العقلائية إلى ذلك.

أما المذكور في السؤال فإنه مرحلة وراء الاختلاط، إنه يتحدث عن (علاقة) بين الجنسين بكل ما تعني العلاقة من الانفراد والاسترسال في الأحاديث والانبساط في المشاعر، مما يحرك القلوب ويجعلها تخفق (بالحب) و(الانجذاب) قبل أن يحرك العقول لتعي أحاديث الهداية التي يريد إيصالها لها، وما الفرق بين حال المؤمنين والفسقة حينئذٍ؟

إن الغاية لا تبرر الوسيلة على عكس ما يقوله الوصوليون والانتفاعيون، وأنا أضم صوتي إلى كل من يريد الخير والصلاح للمجتمع، لكن بالوسائل النظيفة العفيفة الطاهرة التي تسكب الطمأنينة والسعادة على القلب والضمير، لا الأساليب الملتوية التي تخسرنا أكثر مما نربح، ومع ذلك فلكي لا أسدّ المنافذ كلها على الطالبات اللواتي يراد هدايتهن فأقدم هنا بعض الوسائل:

1- إن الدور الرئيسي لهداية الطالبات موكول إلى المؤمنات منهن، فإن اتحاد الجنس بينهن يجعل فرص التفاهم بينهن أكبر ، ولا اعتقد أن

ص: 454

شريحة ما تخلو من وجود مؤمن أو أكثر بينها.2- بالإمكان هدايتهن بإيصال الاستفتاءات المكتوبة أو الكتب والكراريس المطبوعة المفيدة في هذا المجال، وإذا اقتضت الحاجة سؤالاً منهن فيمكن اعتماد طريق الكتابة فيستطيع أن يوصل أي فكرة أو مسألة شرعية أو توجيه لحالة معينة من خلال كتابة ورقة وتسليمها إليها كما يسلمها المحاضرة أو كتاباً مفيداً وهي توصل الاستفتاءات بنفس الطريقة.

3- عقد ندوات عامة يشترك فيها عدد من الطلاب والطالبات، فإن عموميتها تقلل من المحاذير التي ذكرناها، وليعلم أحبائي الطلبة أني شاعر بالصعوبات التي يعانونها، لكن ذلك مما يعظم أجرهم عند الله تعالى، فإن الثواب يزداد والدرجة ترتفع كلما كانت الصعوبات أكثر والبلاء أشدّ، والحياة فرصة للازدياد من الطاعة والقرب من الله تعالى، وما علينا إلا تقوية إرادتنا وعزمنا على الطاعة والباقي على الله تبارك وتعالى؛ فإن معونته للعبد تزداد كلما اشتد البلاء.

أسأل الله تعالى أن يوفقنا لطاعته ويجنبنا معصيته إنه ولي النعم.

محمد اليعقوبي

21/رمضان/ 1422ه_ الموافق 7/ 12/ 2001 م

ص: 455

أمر المدارس بخلع الطالبات للحجاب حين التقاط الصورة

أمر المدارس بخلع الطالبات للحجاب حين التقاط الصورة(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

سماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دامت بركاته)

أعلمتنا إدارة المدارس المتوسطة والإعدادية للطالبات بأن الطالبة يجب أن تكون سافرة عن شعرها في الصورة التي توضع في هوية الدخول إلى الامتحانات الوزارية، وإلا فإنها ستحرم من الدخول إلى الامتحانات، وفي ذلك تضييع مستقبلها الذي كافحت سنين طويلة للوصول إليه. فهل يجوز للمحجبات الكشف عن شعرهن بمقدار التقاط الصورة فقط؟ علماً بأننا سألنا أحد المراجع (دام ظله الشريف) وأجاب بالجواز بشروط:

1-أن يكون الملتقط للصورة ممن يحل له النظر إليها كالأخ والأخت.

ص: 456


1- قررت وزارة التربية هذا الأمر وأبلغته إدارات المدارس في جميع المحافظات، ولما علم سماحة الشيخ بالقرار وقدّر خطورته، أوقف درسه في اليوم التالي وألقى هذا الخطاب على حشد كبير من طلبة العلم والمؤمنين، وطُبعت المحاضرة وانتشر شريط التسجيل الصوتي (الكاسيت)، وتطوع عدد من الغيورين بإيصال البيان إلى المسؤولين في وزارة التربية، مما دعاهم إلى العدول عن تنفيذ القرار وأبلغوا إدارات المدارس بذلك بكتاب عثرنا على نسخة منه مؤرخ في 21/ 4/ 2002 أي بعد موقف سماحة الشيخ بأربعة أيام، وأوّلوا مرادهم من القرار بما يحفظ ماء وجوههم بحسب ما شرحوا إلى بعض المرتبطين بسماحة الشيخ، وألقى كبار المسؤولين باللائمة على من هو دونهم أي المدير العام، وقد صِيغ البيان بحكمة وشجاعة وألهمهم هذا العذر الذي يخرجون به.

2-أن لا يطلع الرجال على الصورة، وإنما تحفظ عند مديرة المدرسة فقط.

فما هو رأيكم بذلك.

أحد المؤمنين

بسمه تعالى: قبل الجواب عن أصل المسألة أود أن أشيد بخصلتين حميدتين على الأقل يكشف عنها كلام السائل:

1- الغيرة على الدين التي دفعته إلى السؤال، وإلا كان يمكنه أن يسكت ويخضع ولو على حساب دينه كما سكت كثير غيره، لكن غضبه لله تعالى ورفضه أن يعصي دفعه إلى إثارة المسألة، وهذه الخصلة مما يحبّه الله تبارك وتعالى في عبده ويكره المؤمن الضعيف الذي لا يغضب لله إذا عُصي كما في بعض الأحاديث الشريفة، وفي رواية أنه يؤتى يوم القيامة بالعبد وله أعمال صالحة مثل الجبال تزفّه الملائكة فرحة به، فيأتيهم النداء من الجليل تعالى: ارموا بها في وجهه، فيسأل: لماذا يا إلهنا؟ فيقول تبارك وتعالى: لأنه كان لا يغضب لي إذا عصيت.

2- الفطرة السليمة وطهارة القلب التي أبت أن تقبل الحكم بالجواز الذي أجاب به أحد المراجع (دام ظله)، فأعاد السؤال؛ لذا كان الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) إذا أتاهم مثل هذا السائل، وقال له: إن الفقهاء عندهم أفتوني بكذا، وهو يعلم صدقه وإخلاصه، فيقول له: استفتِ قلبك وإن أفتوك وأفتوك؛ لأن القلب السليم الذي لم تكدّره الذنوب والتعلق بالدنيا يدرك بوضوح أن هذا الحكم مخالف للشريعة وهو موافق له.

بعد هذه المقدمة أقول:

ص: 457

إن الجواب الذي ذكره أحد المراجع يمكن أن يكون صحيحاً وفق القواعد التي ذكروها في علم الأصول، ولكنها إجابة ليست واعية، وتفتقر إلى الرؤية المعمقة والبصيرة الثاقبة، وقد نبهنا في المحاضرة التي ألقيناها بمناسبة ميلاد الإمام الحسين (علیه السلام) في الثالث من شعبان من العام الماضي 1422ه_ إلى ما سميناه بالفقه الاجتماعي الذي يضيف رؤية جديدة إلى الفقه الفردي المتعارف والمتداول في الرسالة العملية، فإن إلقاء مثل هذه الإجابة إلى العامة ستفتح الباب واسعاً أمامهم إلى المعصية؛ لأنهم سوف لا يقولون إن الحكم في هذه المسألة هو الجواز بشروط، وإنما سيقولون: لقد أجاز العلماء ذلك، بدليل أن نفس السائل حينما أجبته بالمنع قال: لكن بعض المراجع أجازوه، واكتفى. ولا بد أن نكون واعين وذوي رؤية معمقة وبصيرة ثاقبة في عواقب الأمور، ولا نكون كالنعامة التي إذا داهمها خطر دفنت رأسها في التراب لكي لا ترى الخطر وهي واقعة فيه لا محالة، بل لا بد أن نعمل على الحذر منه وتجنّبه؛ فحينما تواجهنا مثل هذه المسائل لا نحاول أن نجد لها المبررات بما يسمونها بالحيل الشرعية، بل نقف بوجهها بحزم.

وأذكر كلمة لبعض أساتذتي(1) (قدس سره) أجلّها وأحترمها، قال: لا ينبغي لنا أن ننزل الشريعة إلى مستوى الواقع، بل علينا أن نرتفع بالواقع إلى مستوى الشريعة، فإذا كانت الحالة منحرفة وفاسدة أو إنها تؤول إلى ذلك فلا نعمل على تبريرها، بل تصحيحها وعلاجها، ونرفع الواقع المعاش من مستواه البعيد عن الشريعة إلى

ص: 458


1- هو السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) والكلمة منشورة ضمن رسائله إلى سماحة الشيخ في كتاب (الشهيد الصدر الثاني كما أعرفه).

قمة الكمال الذي تعمل الشريعة على تحقيقه [وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً] (النساء:27). فهل سألنا إدارات المدارس: لماذا تتخذ هذه الخطوة الخطرة؟ وما المبرر لذلك؟ قد يقولون – وقد قالوا – لكي يتميز وجه الطالبة ولا تختلط بغيرها ويحصل تزوير ، ولكن هل الإنسان يعرف بشعره أم بوجهه؟ فما هذا الكلام غير المقبول؟ ولماذا يتسببون بحرمان المؤمنات من مواصلة التعليم؛ لأنهم يعلمون جيداً أن المؤمنة العفيفة لا تخطو هذه الخطوة، فإن الشرف والحياء والعفّة لا يمكن التخلي عنها ولو لحظة، ومن هان عليه هذا الأمر مرة هان عليه مرات عديدة.

وأنا أناشدهم بالله تعالى أن يسألوا وجدانهم لو أن الصديقة فاطمة الزهراء أو السيدة أم المؤمنين عائشة (لأن كلامي هذا موجّه إلى جميع المسلمين من السنة والشيعة) عُرض عليها هذا الأمر، أكانت تقبل به؟ كلا طبعاً؛ لأنهما تفهمان جيداً قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً] (الأحزاب:59).

فإذا كنا لا نقتدي بالأسوة الحسنة، فبمن نقتدي؟! ولماذا هذه الجرأة على انتهاك حرم الله تبارك وتعالى؟ قد يقولون يمكن أن نلتزم بشروط الحكم بالجواز المذكورة أعلاه، لكن قل لي بربك كم نسبة الذين يلتزمون بهذه الشروط لو أصرت إدارات المدارس على المطالبة بهذا الشيء؟ لا أعتقد أن واحداً بالمائة سيلتزمون، وهل يضمن الملتزمون أن لا تعرض صور الطالبات

ص: 459

على الرجال خصوصاً بنات العلماء والفضلاء وذوي الشرف والجاه في المجتمع حتى تصبح صورهن عرضة للتندّر بأن هذه صورة بنت العالم الفلاني وهذه صورة بنت الوجيه الفلاني.والذي أعتقده أن القرار الذي علمت بكل أسف تعميمه على جميع إدارات المدارس في جميع محافظات العراق ليس صادراً من الجهات(1) العليا لأكثر من أمر:

1- إن القيادة تتبنى الحملة الإيمانية، وتعيد الاهتمام الواسع بالقرآن الكريم، وهو عمل محمود استفاد منه المجتمع كثيراً، وهذه الخطوة – خلع الحجاب ولو لالتقاط صورة فقط – منافٍ بالتأكيد لتعاليم القرآن وصفات المؤمنين بالله حقاً.

2- إننا نتعرض لأشرس هجمة ضد الشعوب العربية والإسلامية بقيادة الولايات المتحدة، وقد قلنا في مناسبة سابقة أن مواجهة أمريكا والصهاينة لا تكون إلا بالعودة إلى الإسلام؛ لأنهم إنما يحاربوننا من أجل سلخنا عنه، قال تعالى: [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَ_ئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَ_ئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] (البقرة:217)، فأي ابتعاد عن الإسلام إذن هو انهزام أمام هذا العدو المتغطرس، واعتراف له بالنصر علينا؛ لأنه يكون قد حقق مراده فينا، ولا أعتقد أن عاقلاً يعين عدوّه على

ص: 460


1- كان في هذه الإشارة الذكية مخرج للسلطات من هذا القرار وتحميل المسؤولية على من هو دونهم وهو ما حصل.

نفسه.3- إن الوزارة المشرفة على المدارس تسمى (وزارة التربية والتعليم) فهي مسؤولة أولاً عن التربية ثم عن التعليم، كما شهد ترتيب الاسم، وليس من التربية الصحيحة التي تقود الناس إلى حياة الطهر والعفاف أن نجبر الطالبات على خلع الحجاب.

4- إن هذه الخطوة يمكن أن تؤدي في المدى البعيد بل القريب إلى الفساد والانحراف والتحلل الخلقي، وهو ما يجب أن نتعاون جميعاً على سد المنافذ إليه وكل ما يصب في تحقيقه، كما يقول المثل الدارج: الباب الذي يأتيك منه الريح سدَّه واستريح، والذي يطلع على ذوق الشريعة المقدسة يجدها شديدة من هذه الناحية، فمثلاً يحكم بكراهة الجلوس في المقعد الذي قامت عنه المرأة إلا بعد أن يبرد، وكل ذلك احتياط من الشارع المقدّس وسد لمنافذ الفساد، وهو من أدلة التشريع عند أخواننا أهل السنة ويسمونه (سد الذرائع).

وها أنت ترى العالم كله حتى أكثر الشعوب انغماساً بالماديات كالولايات المتحدة وأوربا يطالب بالعودة إلى القيم الروحية والأخلاق، بعد أن ذاق الأمرّين من الفساد والانحراف، ولا يرى علاجاً لها إلا بتعميق الدين والارتباط بالله تعالى في نفوس الناس، فإذا كانوا هم كذلك، فكيف نعمل نحن على تمييع هذه الأخلاق والتعاليم الإلهية في النفوس؟!.

لذا أدعو باسم الحوزة العلمية الشريفة في النجف الأشرف إدارات المدارس إلى أن تعزف عن هذا القرار، ولا تورط أنفسها في هذه المعصية

ص: 461

الكبيرة، فهم يحملون وزر أنفسهم وأوزار كل من سيعصي الله بسببهم من أجل لا شيء، بل الأدهى من ذلك أنهم سيصلون [نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] (التحريم:6).وأذكّرهم ببعض مشاهد يوم القيامة كما يعرضها القرآن الكريم: [وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ ، وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ، يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ، مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ ، خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ] (الحاقة:25-32) فسوف لا ينفع الندم [وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ] (الأنعام:27-28)؛ لأنهم سيرون حقيقة أن ما عملوا من أجله كان سراباً تافهاً زائلاً أورثهم حسرة وندامة وعذاباً خالداً هم فيه مقيمون.

ولا أعتقد أن إدارات المدارس ستصرّ على هذا الطلب غير المشروع وغير المبرّر بعد الالتفات إلى هذه المعاني التي ذكرناها، وربما كانوا غافلين عنها، لكن واجب العلماء بيانها والتذكير بها، ولا أعتقد أنهم – وهم الحريصون على تقدّم المجتمع ورقيّه – سيتسببون بحرمان عدد كبير من الطالبات من مواصلة الدراسة؛ ليساهموا في إعمار البلد، هذا الحرمان الذي ينتج عن عدم استجابة المؤمنات العفيفات لهذا الأمر، فيتركن الدراسة قربة إلى الله تعالى [وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى] (القصص:60)، فإن المستقبل الذي يتحدثون تحقيقه ليس هو نيل هذه الدنيا الزائلة الزائفة ولو بمعصية الله تعالى، وإنما المستقبل هو نيل رضا الله تبارك وتعالى [وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ] (التوبة:72) [قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ

ص: 462

فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ] (يونس:58) [وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ] (المطففين:26)، لأن نساءنا أولى بالمحافظة على تعاليم الدين من السيدة مريم قاوقجي(1) عضوة البرلمان التركي التي آثرت رضا الله تبارك وتعالى والفصل من البرلمان على أن تخلع حجابها وتسخط الله والعياذ بالله، وأصبحت قضيتها رمزاً للشعب التركي المسلم.أسأل الله تعالى أن يكون جميع المسلمين بمستوى التحديات المعاصرة، وأن يؤدوا تكليفهم الشرعي بحزم ولا تأخذهم في الله لومة لائم؛ لينالوا ألطاف الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) ويحظوا بنصره وتأييده.

[وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ] (التوبة:105) والحمد لله رب العالمين.

الشيخ محمد اليعقوبي

3/ صفر/ 1423ه_

17/ 4/ 2002م

ص: 463


1- تحوّلت هذه السيدة التركية المحجبة من حزب الرفاه الإسلامي إلى رمز في تلك الأيام بموقفها المذكور هذا.

إلى الذين يتطاولون بالكلام على الحوزة الشريفة

بسمه تعالى

إلى سماحة الشيخ حجة الإسلام والمسلمين محمد اليعقوبي (أدامكم الله):

شاع في الآونة الأخيرة بين الناس وخصوصاً من يسمون أنفسهم بالمثقفين كلام حول الحوزة العلمية الشريفة وطلابها حاصله أن الحوزة تفتقر إلى الثقافة الغربية، والطالب غير متمكن من رد الشبهات والنظريات الغربية، وكذا يوجّهن الناس بالتصرف في الحقوق الشرعية بدون إذن العلماء ومراجعتهم، فما هو ردكم على ذلك جزاكم الله خيراً؟

بسمه تعالى: الذي يقول هذا الكلام خارج عن تعاليم الإمام جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام) الذي وصف العلماء بأنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله والراد عليهم كالراد علينا، وأوصى الإمام المنتظر (عجل الله فرجه) بالرجوع إليهم في زمن الغيبة.

أما الثقافة المعاصرة فهم ملمون بالضروري منها، إلا أن الظرف قد لا يسمح بالتحدث بكل ما يعرفون، ثم هذه المهمة وهي مسؤولية التصدي للشبهات وغيرها يقوم بها من هو دونهم من الفضلاء والأساتذة، ولا نتوقع بل من غير المعقول أن تقوم المرجعية بنفسها بكل شيء.

ص: 464

فليتقِ الله من يذكر الحوزة الشريفة بسوء، وليعلم أن الحوزة أمان للمجتمع من الضلال والانحراف، وهي التي عملت بلطف الله تبارك وتعالى على الحفاظ على الشريعة طيلة أربعة عشر قرناً، فجزاهم الله خير جزاء المحسنين.محمد اليعقوبي

8/صفر/1423ه_ الموافق 21/ 4/ 2002 م

ص: 465

ولا تنابزوا بالألقاب

بسم الله الرحمن الرحيم

سماحة حجة الإسلام والمسلمين الأب الفاضل الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الوارف)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

من الظواهر السلبية ذات الجذور القديمة والمتأصلة في مجتمعنا، ألا وهي ظاهرة استهجان بعض المهن في المجتمع، ومنها مهنة الحياكة ومن يمتهنها بحيث أن في بعض المناطق يوصف صاحب هذه المهنة بصورة غير لائقة لا إسلامياً ولا إنسانياً، حيث لا يزوّج الحائك ولا يتزوج منه استنكافا منه، بل لم يقتصر الأمر على من امتهن هذه المهنة وتعداه ليشمل كل من كان أجداده أو آبائه ممتهناً لهذه المهنة، علما أن الكثير من العوائل التي تدعى ب_(الحيّاج) هي عوائل ملتزمة دينياً وتستحق كل التقدير والاحترام، كما إن نفس هذه الظاهرة السيئة تعاني منها بعض الشرائح الاجتماعية ك_ (المعدان) أو القومية ك_(الأكراد).

فما هو رأي الشارع المقدّس بمثل هذه الظاهرة؟ علماً أنك شيخنا الفاضل قد ذكرت في كتاب (فقه العمال) عبارة كراهة مهنة الحياكة، وعلّلتم ذلك بأنها كانت مهنة وضيعة يومئذٍ، وإذا أريد إهانة شخص يقال له (يا حائك وابن الحائك) وهذا مما قد يساء فهمه من قبل الناس، ويؤخذ كذريعة لتبرير

ص: 466

تصرفاتهم ضد هذه الطبقة المظلومة من الناس. لذا يرجى توضيح هذه العبارة وبيان القصد منها وتوجيه نصيحة للمجتمع الذي يعيّر الذين يمارسون بعض المهن التي يعدونها وضيعة ومتدنية.

أدامك الله لنا أخاً لنا ناصحاً وأباً حنوناً.

ولدكم أحد طلبة الحوزة العلمية المقدسة

النجف الأشرف 25/ج1/ 1423ه_ الموافق 4/ 8/ 2002م

بسمه تعالى: إن بعض المكروهات وردت على لسان الشرع المقدس لا لمنقصة فيها بذاتها، بل تحاشياً لكلام الناس والأعراف السائدة فيه، ولا ينبغي للمؤمن أن يضع نفسه موضع السخرية والاستهزاء، ولكن إذا تغير العرف بمرور الزمن وأصبح الشيء متعارفاً، فتزول الكراهية بل تزول الحرمة أحياناً ما دامت الأحكام تدور مدار العناوين ومرتبطة بها. فمثلاً كان لبس البنطلون قبل قرن من الزمان محرماً لأن فيه تشبّهاً بالكفار ويعد من لباسهم، ولكن لما زال هذا العنوان بمرور من الزمن ولم يعد من التشبه بالكفار زالت الحرمة.

فالحياكة كانت يومئذٍ من المهن المتدنية في المجتمع فيعير بها صاحبها، لذا كرهها الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لأصحابهم لكي لا يكونوا موضع استهزاء المجتمع. أما الآن وقد زال عنها ذلك العنوان ولم تعد مهنة متدنية في المجتمع فلا كراهية فيها. وقد كان الأئمة يلاحظون هذه الجهة - أي نظرة الناس - أو قل يعملون بالتقية من الناس، ومن حقهم ذلك بل يجب عليهم لوجوب حفظ سمعة المؤمن وكرامته، ففي بعض الروايات ما مضمونه يقول الامام: (لولا خشيتي من أهل المدينة لدخلت السوق فحملت حاجاتي بنفسي)، فيترك الإمام هذا العمل

ص: 467

الذي هو ليس مكروهاً، بل ربما يستحب لصاحب العيال أن يحمل لهم ما يفرحهم به، لكن لما تعلق بهذا الفعل مفسدة وهو كلام الناس تركها الإمام (علیه السلام).وبغض النظر عما قلناه فإن الله تبارك وتعالى قد نهانا عن التنابز بالألقاب وتعيير بعضنا بعضاً قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ] (الحجرات:11) صدق الله العلي العظيم.

فيأمرنا الله تعالى أن لا يستهزئ أحد بآخر ولا ينتقص منه ولا يناديه أو يصفه بألقاب مكروهة، فلعله أفضل منك في ميزان التقوى عند الله، فبئس ما يتصف به الإنسان عصيان الله تعالى والفسق عن أوامره، وقد كان الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) يمنعون أصحابهم من تسمية الشخص ببعض الألقاب المكروهة، فقد ذُكِر الشاعر المشهور (أبو العتاهية) في حضرة الإمام الرضا (علیه السلام) بهذه الكنية فنهر المتكلم لأن في هذه التسمية منقصة، وطلب منه أن يذكره باسمه الصريح. نعم، لو لم يكن اللقب فيه منقصة كالأشتر فلا مانع من مناداته به.

وأن تبادل مثل هذه العناوين والألقاب المكروهة يؤدي إلى التباغض والنفرة بين المؤمنين ويشق وحدتهم ويذهب ألفهم ومودتهم، وهذا ما نهى عنه الله تبارك وتعالى بل على العكس، فقد أمرنا الله تعالى بكل ما يوحد صفوفنا ويجمعنا على طريق الهدى قال تعالى : [وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ] (آل عمران:103).

ص: 468

وإذا كان ذكر هذه الألقاب للشخص في غيبته فتضاف حرمة جديدة وهي الغيبة التي تعد من الكبائر، ويروى أن امرأة دخلت على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تسأله وكانت عنده إحدى زوجاته، فلما خرجت أشارت تلك الزوجة إلى المرأة بإشارة تدل على أنها قصيرة تهكماً، فزجرها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقال: الفُظي ما في فمك من لحم أختك. وهي الصورة الحقيقية للغيبة. فلنحترم جميعاً الإنسان الكادح على عياله الكاسب مما أحله الله تعالى، ولنتجنب هذه الاعتبارات الجاهلية والعنصرية التي تنشأ عن النفس الأمارة بالسوء المليئة بالأنانية والتكبر وحب الاستعلاء على الآخرين والتقليل من شأنهم، وهذه كلها رذائل خلقية لا يجد طعم السعادة من يتصف بها وتطبع على قلبه بالرين والصدأ فلا يكون قلبه سليماً حتى يفوز في الآخرة، فإنه لا يحظى برضوان الله تبارك وتعالى [إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ](الشعراء:89).

ولا شك أن مثل هذه التصرفات تؤذي المؤمنين، وقد وردت الأحاديث الشديدة التي تحذر من هذا وعقوبة من آذى مؤمناً، فعن الإمام الصادق (علیه السلام): (من أدخل على مؤمن سروراً فقد أدخله على الله، ومن آذى مؤمناً فقد آذى الله عز وجل في عرشه والله ينتقم ممن ظلمه)(1).

ص: 469


1- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب فعل المعروف، باب 24، ح19.

فهذه عدة جهات لحرمة هذا الفعل أبيّنها كخطوة في طريق العلاج، فإن الخطوة الأولى تكون نظرية أي باستيعاب المعاني التي تحفز المناعة لدى الإنسان لمقاومة هذه الأمراض الاجتماعية، ومن ثم تأتي الخطوة العملية بضبط النفس وردعها ومسك زمامها عن التورط في مثل هذه المنكرات، فاتقوا الله وأحسنوا في القول والعمل [إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ] النحل:128). محمد اليعقوبي

ص: 470

تنبيهات شرعية إلى العاملين في حقل الصيدلة

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

الصيدلي أحد عناصر المهنة الطبية، وبه تكتمل دائرة هذه الباب من الرحمة الإلهية التي تتضمن الكثير من أفعال الخير، كإدخال السرور على المؤمنين وتخفيف الآلام عنهم وتفريج كربتهم وقضاء حاجتهم، فهم مشمولون بالمقدمة التي ذكرناها في استفتاء سابق عن (ممارسات خاطئة لدى العاملين في المهن الطبية)، ولكي يكون عملهم نظيفاً وصالحاً ويقع في محل الرضا من الله تبارك وتعالى أُلفت نظر الأخوة الصيادلة إلى بعض الأمور؛ ليتخذوا الموقف السليم فيها: ويلاحظ هنا إن هذه التنبيهات شاملة للصيدليات الأهلية والتابعة للمؤسسات الصحية العامة:

(1) لا يجوز أخذ الأدوية من المؤسسات الصحية العامة إلا ضمن القنوات الرسمية المتعارفة، لما في ذلك من الإخلال بالنظام الاجتماعي العام والتفريط بحقوق المجتمع. فهل يعقل أن يرجع ألف مواطن مسكين خائباً من غير الحصول على دواء يزيل آلامه ويشفي سقمه من أجل أن تترفّه ثلة قليلة؟ إنها مسألة بعيدة عن الإنسانية. وسأعرض بعض الصور غير المشروعة:

أ – إضافة بعض الأدوية إلى وصفة المراجع مما لا يحتاجها وصرفها من الصيدلية لا إلى المراجع بل إلى العامل نفسه.

ب- عدم صرف كل الفقرات المكتوبة في وصفة المراجع بل تحجب بعض

ص: 471

الفقرات بعنوان أنها غير متوفرة، في حين يقوم الصيدلي بصرفها من المذخر لنفسه.ت- الاتفاق مع الطبيب على كتابة وصفات لمرضى وهميين.

ث- سرقة الدواء من المذاخر بحجة عدم الحاجة إليها والأمن من الضرر وغيرها، ولا يكفي في تحليل أخذها وصرفها بوصفات وهمية، وبحجة دفع ثمنها، فإن هذه الأثمان رمزية لمساعدة المواطنين.

(2) شاع مرض (الجشع) والتمدد على حساب الجياع والمساكين لدى كثير من الصيادلة، بل أصبحوا يتنافسون فيما بينهم في سرعة الإثراء ولو من طرق غير مشروعة، وتجردوا في ذلك عن المثل الإنسانية والدينية، وأصبحت الأسعار بلا ضابط والتفاوت بينها كبير، وقد يتذرعون لذلك بأن الأسعار الرسمية لا تفي بمصاريف الصيدلية فضلا عن غيرها، وقد يكون معهم بعض الحق، لكنه لا يفسر هذه الأسعار الباهظة التي يفرضونها.

وبحسب علمي فإن نقابة الصيادلة تحدد أسعاراً وسطاً بين الأسعار الرسمية والأسعار (التجارية) بحيث تحفظ للصيدلي حقه في مستوى معاشي مناسب ومن دون إجحاف بالمواطنين، ولكي لا نبخس الناس أشيائهم فان عدداً من الأخوة الطيبين الصادقين مع الله تعالى يبيعون بأسعار مثالية تقرب من الأسعار الرسمية، فنالوا بذلك رضا الله تبارك وتعالى ورضا المجتمع من دون أن يعرض مستواهم المعاشي للخلل وهم بذلك يكونون حجة لفضح هؤلاء المدعين الذين يسوقون مختلف المبررات الواهية فيتعرضون لسخط الله تعالى ولعنة الناس الضعفاء، وإذا لم يرحموا المخلوقين فكيف يرحمهم الخالق (ارحموا من

ص: 472

في الأرض يرحمكم من في السماء) ومثلهم لا يكون له قلب سليم الذي وعد الله صاحبه بالنجاة [إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ] (الشعراء:89)، فأين هي آداب الإسلام وتعالميه على نشر المودة والتراحم بحيث يكره الربح على المؤمنين مطلقاً ويكره زيادة الربح على ما يحصل المعيشة المتعارفة.وأسأل هؤلاء: هل وفرت لهم هذه الأموال السعادة؟ وهل شبعوا من الأموال؟ وهل اكتفوا باقتناء السيارات الفارهة والدور الوسيعة أم ازدادوا لهاثاً كالعطشان الذي يشرب من ماء البحر المالح؟ هذه هي حقيقة الدنيا لطالبيها، أما السعادة الحقيقية فيعيشها من أدخل السرور على قلب مكروب أو ساعد ضعيفاً أو قضى حاجة محتاج أو جاهد نفسه الأمارة بالسوء وانتصر عليها ولم يخضع لشهواتها.

(3) بعض الأدوية المستوردة من خارج البلد غير خاضعة لفحص اللجان الصحية المختصة، وقد لا تكون مطابقة للمواصفات العلمية الدقيقة، ومثلها لا يجوز تداولها لما في ذلك من خطورة وضرر نوعي، فلا يجوز التعامل إلا بالأدوية التي يتم الموافقة عليها من قبل أجهزة السيطرة النوعية. وقد تناقلت الأنباء مؤخراً عن وصول شحنة حقن تعطى للحوامل ملوثة بالإيدز المرض الخطير الفتاك الذي لا وجود له في بلادنا الملتزمة بالدين والأخلاق والآداب العامة.

(4) إذا علم من القرائن إن هذا الدواء من مصدر غير مشروع كالذي ذكرناه أعلاه فلا يجوز شراؤه والتعامل به، وقد علمت أن بعضهم يمتهن عملية جمع الأدوية المستحصلة بطريق غير مأذون فيه ويبيعها على الصيدلي وهو

ص: 473

عمل غير مشروع.(5) لا يجوز مخالفة الشروط التي تملى على صاحب الصيدلية إذا كانت المخالفة مما تسبب ضرراً نوعياً وإخلالاً بالنظام الاجتماعي العام ومن ذلك:

أ – تأجير إجازة الصيدلية على شخص لا يحمل شهادة الاختصاص ومن دون أن يستأجر صيدلياً معه.

ب- بيع كمية الوجبة الدوائية جملة إلى المذاخر والصيدليات الأهلية وعدم بيعها بالمفرد على المواطنين، مما يخل بالتوزيع الجغرافي للصيدليات، فإنه إنما رصدت هذه الكمية لتغطية حاجة المنطقة.

ت – عدم وجود حافظات مبردة للدواء مما يؤدي إلى تلفه خصوصاً في موسم الصيف ومع انقطاع التيار الكهربائي.

(6) بعض الصيادلة يتفقون مع الأطباء لتحويل مراجعيهم من المرضى عليهم، مقابل مبلغ مقطوع أو نسبة من المبيعات يدفعها الصيدلي إلى الطبيب، وفي هذا نقص أخلاقي وقد يؤدي إلى عدة مخالفات شرعية منها:

أ- إن الطبيب يكتب أدوية أزيد من حاجة المريض لأجل زيادة مدخول الصيدلية وبالتالي زيادة نسبة ما يصل إليه.

ب- إن الصيدلي سيرفع الأسعار على هذا المراجع ليستخرج ما يدفعه إلى الطبيب من جيب المريض البائس المسكين لا من جيبه.

ت – قد لا يوجد الدواء الفعال لمعالجة المريض فيكتب الطبيب علاجاً آخر أقل فعالية لأجل أن الثاني متوفر لدى الصيدلية، والأول غير متوفر، والغريب أن الطبيب والصيدلاني ليسا بحاجة إلى هذا النقص الأخلاقي بل هما

ص: 474

ميسوران وفي غنى عن هذا (الاتفاق).(7) بعض مستحضرات التجميل وعلب الشامبو ونحوها تحمل على أغلفتها الخارجية صوراً لنساء تثير الفتنة والشهوة، وفي ضوء هذا لا يجوز تداولها لأنها من إشاعة الفاحشة وتوريط الناس بالمعصية، فيجب إزالة هذه الصور أو الاتفاق مع منشأ صناعتها على عدم وضع ما يخل بالتعاليم الإسلامية وينافي الآداب العامة، وقد عالجت هذا الموضوع باستفتاء تفصيلي عن الصور التي ترافق بعض الكماليات النسائية.

(8) لا يجوز صرف الأدوية في حالات منها: الأدوية المنشطة جنسياً إلى من يمارسون الفاحشة؛ لأنه من الإعانة على الإثم (ومنها) الأدوية التي نعلم من القرائن على إنها ستستعمل استعمالاً سيئاً كأن يأخذ كمية كبيرة من أشربة السعال ليسكر بها (ومنها) الأدوية التي يضر استعمالها من دون مراجعة الطبيب (ومنها) بعض الأدوية التي لا يوجد مبرر عقلائي في استعمالها سوى الانصياع وراء الأعراف المستوردة من الغرب الكافر كالمتخذة للتسمين والتي يؤدي تركها بعد الإدمان عليها إلى حصول مضاعفات على الجسم كحبوب الدكسون على ما قيل.

(9) لابد من تنبيه المراجع إلى أي تعليمات يتوقع غفلته عنها، ويكون من الضروري تنبيهه إليها كأعراضها الجانبية أو أن هذا الدواء بديل عما هو مكتوب في وصفة العلاج وإن كان بحسب اعتقاد الصيدلاني أنه يعمل بنفس الكفاءة.

(10) علمت بأن بعض الموظفين الصحيين (المضمدين) يتخذ له صيدلية

ص: 475

متنقلة، حيث يقوم بوصف أدوية وبيعها في أماكن نائية من القرى والأرياف لصعوبة وصولهم إلى المدينة لمراجعة الأطباء، إما لصعوبة النقل وغلائه أو عدم توفره في الآن، وهذه بحسب أصل الفكرة خدمة إنسانية حيث إننا بحاجة إلى الطبيب الدوّار بطبه والمتنقل به كاحتياجنا إلى الطبيب المقيم، لكن قيام المضمدين بهذه العملية فيه أكثر من محذور:أ- إن الأدوية غالباً ما تكون مأخوذة بطريق غير مشروع من المؤسسات الصحية.

ب- إنه ليس طبيباً حتى يحق له النظر في الحالات المرضية ووصف الدواء لعلاجها، فالصحيح أن تتولى المؤسسات الصحية إرسال مفارز طبية متنقلة لتغطية حاجات مثل هذه المناطق ويكون الطبيب فيها مزوداً بالأدوية التي تكثر الحاجة إليها.

(11) بعض الصيدليات الأهلية تشغل عمالاً غير متخصصين في تحضير وتركيب بعض الأدوية رغم إن هذا العمل يتطلب دقة وخبرة ومهارة عالية، فيعرضون حياة المواطن للخطر والضرر. فلا يجوز تصدي غير المؤهل لهذا العمل.

(12) وهناك مخالفات أخلاقية تحصل لدى بعض الصيادلة (منها) عدم صرف فقرة واحدة من الوصفة إذا كان المراجع قد صرف البقية من صيدلية أخرى (ومنها) رد المراجع بعنوان إن هذا الدواء غير موجود رغم أنه موجود عنده، وهذا كذب محرم، وممنوع أخلاقياً لن فيه حرمان محتاجٍ من قضاء حاجته مع القدرة عليها. وبعض هذه التصرفات وإن وجد ما يبررها إلا

ص: 476

إن مقتضى الكمال والتقرب أزيد إلى الله تعالى الذي هو الهدف الأسمى تجنب أي نقص أخلاقي.(13) وفي الصيدليات العامة أي التابعة للمؤسسات الصحية الرسمية تحصل بعض الأمور ويجب الالتفات إليها منها:

أ – إن مجموع سعر الوصفة قد يكون (68 ديناراً) مثلاً وهو مما لا يمكن تحصيله، فيطلب رقماً متيسراً كمبلغ (75 ديناراً) وهو مما لا بأس به إذا كان الفرق المأخوذ مما يتسامح به العرف عادة كالمثال المذكور. وينبغي ملاحظة إن هذا التقريب للرقم إنما يجري بلحاظ مجموع أسعار الفقرات في الوصفة لا بلحاظ كل فقرة على حدة. أما أكثر من ذلك فلا يجوز إلا برضا الدافع وإعلامه، فإذا حصل أخذ للأموال من دون ذلك وجب إرجاعها إلى أصحابها إن أمكن الوصول إليهم، وإلا فليدفعها إلى المؤمنين المحتاجين بعنوان (رد مظالم) أو المصالحة عليها مع الحوزة الشريفة.

ب- بعض المرضى يغادرون المستشفى وتبقى أدوية لهم لم تصرف أو صرفت ولم يستعملها، سواء دفع أثمانها أو لم يدفع، فعلى جميع التقادير لا يجوز أخذها وإنما إرجاعها إلى مذخر الأدوية أو الصيدلية التي يفترض فيها النزاهة والوثاقة وإعادة صرفها إلى المحتاجين إليها.

(14) التأكيد على ما ذكرناه سابقاً من عدم جواز بيع الوجبة الدوائية التي تخصصها الجهة المعنية لكل صيدلية جملة واحدة إلى صيدليات أو مذاخر أخرى، فانه يؤدي إلى أكثر من مشكلة:

أ - الخلل في التوزيع الجغرافي في الدواء حيث سيتكدس عند من يدفع أزيد

ص: 477

ولا يتوزع بحسب الحاجة.ب- إن صاحب الوجبة سوف لا يبيع بالسعر المحدد له، وبالتالي فإن المذخر الذي اشتراه سيبيعه بالسعر التجاري رغم أنه أصلاً مما يجب بيعه مدعوماً. نعم، قد يجوز بيعها إلى صيدلية أخرى إذا بقيت فائضة عن الحاجة ومكدسة مدة، أما لعدم وجود مريض يطلبها أو لعدم وجود طبيب اختصاصي، فخشية خروج مدة فاعليتها يمكن بيعها إلى صيدلية أخرى ضمن القواعد التي أشرنا إليها فيما سبق وتبديلها بالأدوية التي يكثر احتياجها في منطقته.

(15) يمتنع الكثير من الصيادلة عن دفع الحقوق الشرعية خصوصا الخمس، وهو عصيان كبير لهذه الفريضة الإلهية التي لا تقل أهمية عن الصلاة وقد كتبت استفتاءً مستقلاً(1) عن الموضوع بدأته بشكوى الإمام المنتظر (علیه السلام) من حبس شيعته للحقوق، ولولا ذلك لعجل الله لهم اليُمن بلقائه، ثم حللت أسباب امتناعهم ثم عالجتها نظرياً وعملياً، فأرجو من الإخوة الصيادلة والأطباء وغيرهم مراجعته، حيث ذكرت فيه موارد صرف الحقوق الشرعية لتزداد قناعتهم بدفعها؛ فإن أول خطوة في طريق العمل هو العلم بالشيء، فان العاقل لا يسعى وراء مجهول. ولأجل تخفيف الأمر عليهم وتقريبهم إلى الطاعة فهم مأذونون بدفع نصف ما بذمتهم من حقوق شرعية على شكل أدوية تعطى إلى المؤمنين المحتاجين فيبرؤون ذممهم ويقضون

ص: 478


1- وقد توسع الاستفتاء إلى كتاب بعنوان (حبس الحقوق الشرعية من الكبائر) وطبع ضمن سلسلة (نحو مجتمع نظيف).

حوائج المؤمنين من دون أن تؤثر على وضعهم الاقتصادي.(16) إن أي عمل له مستويان من النفقة (أولهما) خاص بالمهنة وهو ما حاولنا الإشارة إلى المهم منه في النقاط أعلاه (ثانيهما) عام لكل تجارة والصيدلة كمهنة مشمولة به، فلذا ينبغي مراجعة (فقه السوق) لمعرفة هذه الأحكام.

نصيحة وموعظة:

ورد في الدعاء (اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همِّنا ولا مبلغ علمنا) لأنها زائلة وفانية، والذي يعمر دنياه وينسى آخرته كمن يبني بيتاً من الثلج ويضعه في شمس الصيف، وإني أرى كثيراً من الأخوة الصيادلة وبعضهم مؤمنون ملتزمون وربما يدفعون الحقوق الشرعية لا هدف لهم إلا جمع الأموال ولو على حساب أنين المرضى وآلام الجياع، ولا يقف عند حد من دون أن يتأمل ويحاسب نفسه وأنه سائر إلى أين؟

ليعلم أنه لا تكون النجاة يوم القيامة إلا لمن أتى الله بقلب سليم مملوء بالخير والرحمة والحب للآخرين وإنصاف الناس ومداراتهم، أما القلب المملوء أنانية وحب النفس وعدم الشعور بآلام الآخرين فمن البعيد أن يحظى برحمة الله تبارك وتعالى إلا بعد أن يعالج بعذاب شديد؛ فقد ورد أن النبي سليمان (ع) آخر الأنبياء دخولاً إلى الجنة، وهو نبي معصوم سخر كل ما وهبه الله سبحانه وتعالى لعبادته وطاعته ونيل رضاه، وإنما كان ذلك لأنه وهب ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، ونقرأ في سيرة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إن ابنته حينما قدمت له إفطاره وكان خبز شعير ولبناً وملحاً، عاتبها على وضع إدامين مع طعام واحد

ص: 479

وقال لها: أتريدين أن يطول موقف أبيك يوم القيامة، وأمرها برفع أحد الإدامين. وأنا لا أريد أن أحرم الصيادلة وغيرهم من أن يعيشوا بالمستوى اللائق بهم اجتماعياً [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْق] (الأعراف: 32)، ولكني أقول: إن هذا المستوى يكفل لهم بأقل من هذا الجشع وعدم الإنصاف الذي يتعاملون به مع الناس كما يفعل بعض الإخوة الطيبين جزاهم الله خير جزاء المحسنين، فإنهم ضمنوا لأنفسهم حياة مناسبة في الوقت الذي لم يجحفوا في المجتمع.

وأسأل الله تعالى أن يرجع جميع الناس إلى الله تعالى وأن يعيشوا لله ومع الله فينالوا الحسنيين سعادة الدنيا والآخرة، والصيادلة أجدر بذلك؛ لأنهم شريحة مؤمنة مثقفة واعية.

والله ولي التوفيق وهو نعم المولى ونعم النصير.

محمد اليعقوبي

ص: 480

مدرب الفريق الذي يقود لاعبيه نحو الضلال

بسم الله الرحمن الرحيم

سماحة حجة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)

كما عودتنا الحوزة الشريفة دائماً بالرد على كل ما هو باطل وتصحيح كل ما هو منحرف عن جادة الشريعة المقدسة . وهذه صورة من صور الانحراف بأجلى صورة.

ففي إحدى المناطق القريبة من منطقتنا يوجد شخص قد جمع حوله عدد كبير من الشباب (غير الواعين طبعاً) واتخذ منهم فريقاً لكرة القدم وأخذ يغذيهم بأفكاره المسمومة التي ما أنزل الله بها من سلطان ففيها نزعة إلحادية، وصلت إلى إنكار وجود الله سبحانه وتعالى. وسأعرض عليك جملة من هذه الأفكار المسمومة التي تقبلها منه ضعاف الدين والإيمان:

أولاً: الحث على ارتكاب المعاصي.

ثانياً: يحرم ويحلل بحسب فهمه؛ علماً أنه ليس من الدين في شيء.

ثالثا: استخدام المال في كسب عناصر جديدة إلى هذه المجموعة الضالة، مستغلاً بذلك قلة توفر فرص العمل لدى الشباب.

رابعا: أمر أتباعه بترك الصلاة والصيام.

خامسا: عدم إعطاء الحق الشرعي للعلماء (دام عزهم).

سادسا: التحريض على عدم حضور مجالس الحسين (علیه السلام).

ص: 481

سابعا: أمرهم بدخول مجال اللهو والطرب والصالات التي تعرض فيها الأفلام الخليعة.ثامنا: تقليد الغرب الكافر؛ وذلك بارتداء الملابس الرياضية وكذلك إطلاق (إطالة) شعر الرأس. علماً أنه يعيش في وسط ريفي، وغالباً ما يقوم أبناء الريف والجنوب خصوصاً بارتداء الزي العربي الأصيل (الدشداشة والعقال) فهو حتى هذه أمرهم بتركها.

تاسعاً: يقوم بسب أفراد الفريق؛ علماً أنه هو المدرب لهذا الفريق، فيعتبرونه بمثابة الأب الروحي حتى وإن أهانهم ومرغ أنوفهم بالتراب. وتصل النوبة إلى الضرب أحياناً.

عاشراً: تحليل لعب الطاولي والشطرنج وآلات القمار عموماً.

حادي عشر: يجب على الرجل أن ينعزل بعيداً عن عائلته. أي يجعل له مكاناً في البيت ولا يختلط بأهله.

ثاني عشر: إن مفهوم الحرية عندهم ضرب القيم والإسلام عرض الجدار.

ثالث عشر: يوجه غيره لدعوة ترك الحجاب وهذا يكون انطلاقاً من عائلته فصاعداً.

هذا وما خفي كان أعظم . علماً أنه لم يتصدَّ أحد إلى أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر أو رفع الأمر إلى الحوزة الشريفة. علماً أن هذه الأمور المكتوبة في الورقة أعلاه قد نقلها لي أحد الأفراد الذين لعبوا معه في الفريق لفترة من الفترات، فما حكم هذا الشخص ودعوته وأتباعه المنحرفين ؟

نريد جواباً هادياً لهؤلاء بالحكمة والموعظة الحسنة، وكما عودنا الشيخ اليعقوبي دامت بركاته.

ولدكم

ص: 482

بسمه تعالى: الحمد لله رب العالمين وصلى الله على النبي وآله وسلم تسليماً كثيراً.إن هذه الظاهرة متوقعة وليست الأولى ولا الأخيرة سواء من المدرب أو الفريق، أما إنه متوقع من المدرب، فلأنه واحد من أعداء الدين أو ممن سخرهم أولئك فاتبعهم رغباً في دنيا زائلة، وهم لا يتركون فرصة الا استغلوها ولا باباً إلا ولجوه لإبعاد الناس عن الصراط المستقيم وإيقاعهم في هوّة الانحراف ليسهل قيادهم وخضوعهم ويصيروا عبيداً أذلاء.

وكلما فشلت وسيلة أتوا بغيرها؛ فمنهم من استعبدوه بالمال والجنس أو التسلط والاستعلاء، ومن لا ينخدع بتلك الأساليب أو يمتنع عنها لأنه متدين أو من أوساط ملتزمة محافظة فإنهم يأتونه من جهة أخرى محللة بحسب الظاهر، إلا إنها تخفي السمّ الزعاف في طياتها، وما يزالون ينتقلون بفريستهم من معصية إلى أكبر حتى يصبح شيطاناً مثلهم وليسودَّ قلبه فلا يبقى فيه أمل للتوبة والعودة إلى الله تعالى فيكون من أشد الناس حسرة يوم القيامة؛ لأنه ممن باع آخرته لدينا غيره كما أفاد الحديث الشريف.

وأما إنه متوقع من أعضاء الفريق؛ فلأن الكثير من شبابنا غير متفقهين في أمور دينهم وغير واعين وساذجون تنطلي عليهم الشبهات ويقعون في الفتن ببساطة، وهي مشكلة ليست جديدة، فها هو الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) الذي إليه ننتسب يقول: (ليت السياط على رؤوس أصحابي حتى يتفقهوا في الدين)، ويقول: (أُفٍّ لرجل لا يفرغ نفسه كل جمعة ولو ساعة ليتفقه في الدين)، فإلى متى نوم الغفلة؟ والى متى تتلاقفهم أيدي الفتن بأدنى شبهة وبأقل إشارة أو

ص: 483

دعوة من الشيطان وأوليائه، حتى أن إبليس نفسه يستغرب من سهولة انقيادهم له وسرعة استجابتهم لدعوته رغم أنه لا يملك أي سلطة عليهم، ويتركون داعي الله تبارك وتعالى.فاستمع إلى هذا المشهد من مشاهد القيامة التي تنجلي فيها الحقائق وأعجب من الواقع المؤلم الذي يعيشه المجتمع [وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] (إبراهيم: 22).

بينما المؤمنون الواعون الذين مضوا على بصيرة واتبعوا علماءهم ورجعوا إلى الحوزة الشريفة ولم يخرجوا عن تعاليمها تصفهم الآية التالية [وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ] (إبراهيم:23).

وإنما مثل مدرب الفريق هذا وأمثاله كالذئاب التي لا تستطيع أن تأخذ الشاة السائرة مع القطيع وبحراسة راعيها، وإنما تقنص الساذجة التائهة عن اتباعه، فمتى نجد مجتمعاً – خصوصا الشباب – وقد حصنوا أنفسهم بالعقائد الحقة والأفكار السليمة ولازموا علماءهم الأبرار الذين لم يقصروا في رعايتهم وحفظهم من الضلال والانحراف.

وإلا فإن هؤلاء الأعضاء في الفريق هل سأل أحدهم مدربه ما علاقة الرياضة بهذه التصرفات المشينة التي كلها تمرد وعصيان على الله تبارك وتعالى

ص: 484

وإساءة لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ولولي الله الأعظم؟ وكيف أصبح مدرب الرياضة مشرّعاً وحاكماً يحرّم ويحلل كما يحلو لنفسه الأمّارة بالسوء ويرسم له أسياده من الشياطين الإنس والجن؟ ولماذا هذا التدمير للأخلاق الفاضلة والسقوط في وحل الجريمة والانحراف والفساد والضلال؟!ألم يلتفت أحد بعد كل هذه الفضائح إلى نية الشيطان ومبتغاه ؟! وكيف لم تتحرك غيرة أعضاء الفريق على دينهم وشرفهم وأخلاقهم فيوقفوا هذا الضالّ المضلّ عند حده؟ وهل هانت أنفسهم عندهم حتى باعوها إلى الشيطان بأبخس الأثمان؟ كل هذه تساؤلات تستوقف هؤلاء وغيرهم أمام كل فتنة وكل ضلالة ليتأملوا طويلاً في تحديد أجوبتها قبل أن تزل أقدامهم عن الصراط المستقيم فيقعوا في جهنم [وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ] (ص:3) [وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] (الأعراف:128).

محمد اليعقوبي

ص: 485

حول هواية اللعب بالطيور

بسم الله الرحمن الرحيم

سماحة حجة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

هناك ظاهرة متفشية بشكل كبير في مجتمعنا بعيدة كل البعد عن مواصفات المجتمع المسلم ولا ترضي الله ولا رسوله، ألا وهي جماعة (المطيرجية) أو ظاهرة اللعب بالطيور فوق سطوح المنازل وما يترتب عليه من سلبيات.

نرجو منكم بيان الحكم الشرعي فيها على الفرد والمجتمع وعلى الدين الحنيف وإعطاء النصيحة والحل الشافي الذي يمد يد العون لمجموعة الشباب الذين غرتهم الحياة الدنيا دون الالتفات إلى عاقبة أمرهم.

ودمتم لنا منقذين من الوقوع في ظلمات المعاصي وراشدين إلى تعاليم الدين الإسلامي الحنيف.

بسمه تعالى: إن هذه الشريحة من المجتمع كانت وما زالت تعتبر منبوذة اجتماعياً، وإذا أريد لأحد أن ينتقص منه فإنه يوصف بهذا الوصف؛ لأنها (هواية) وضيعة ولا معنى لها، وتكون سبباً لوقوع من يمارسها بمعاصي عديدة توجب مقت المجتمع واشمئزازه، منها:

1- إن هذه (الهواية) تتطلب الحركة في الأماكن المرتفعة في سطوح الدور ونحوها، مما يسبب الإشراف على بيوت الآخرين والاطلاع على عوراتهم

ص: 486

واختلاس النظر إلى النساء، وهو عمل محرم شرعاً، ويحاسب عليه العرف بشدة لأنه فعل دنيء ومنافٍ للغيرة والشرف، خصوصاً في فصل الصيف وفي أوقات الصباح المبكر، حيث لا يزال الكثيرون من الناس نائمين على سطوح الدور.2- كثيراً ما تحصل خصومات ونزاعات بين هؤلاء بسبب اختلاط طيورهم، أو ضياع بعضها، أو أي سبب آخر، وقد تتصاعد النزاعات وتتوسع ويتدخل فيها أفراد آخرون.

3- إنهم يتبادلون فيما بينهم كلمات نابية ومستهجنة يستقبحها المجتمع ويرفض قائلها، وربما تناولوا في أحاديثهم أعراض الناس وتتبعوا عوراتهم وتحدث كل منهم عن مشاهداته من فوق السطوح وزيّنه بما يضيفه عليه من كذب وافتراء وتزويق، ويوجب هذا الأمر عليهم حدّأً شرعياً مقداره ثمانون جلدة.

4- إن هؤلاء يجتمعون في المناطق الشعبية والأسواق ويشكلون بؤرة للتصرفات المنحرفة ويكونون مصدر إزعاج وأذى للناس.

5- كثيراً ما تنشأ بين هؤلاء علاقات شاذّة تصل أحياناً إلى اللواط، وهي نتيجة طبيعية ومتوقعة منهم وفق النقاط المذكورة أعلاه .

6- يحتاج هؤلاء أحياناً إلى رمي الحجارة على الطيور فتسقط على الآخرين وممتلكاتهم، فتسبب لهم أذى وضرراً، وهو عمل محرم، وعلى فاعله ضمان الأضرار والخسائر.

7- كثيراً ما تقترن ممارسة هذه الهواية بالمراهنات على قوة أحد هذه الطيور أو سرعته وسبقه للطيور الأخرى، وهذا حرام آخر، والمال المأخوذ بالرهان

ص: 487

سحت، يكون في بطون آكليه ناراً، مع أن من يدفع هذا المال في الرهان غالباً ما يكون محتاجاً إليه، وقد يقتطعه من قوت نفسه وعائلته، ويستدين أو يبيع حاجة ضرورية لنفسه ولعائلته، وإن هذا لهو البلاء العظيم المقرح للقلوب.8- إنه عمل سفهي لعدم وجود أي مصلحة دينية أو دنيوية فيه، بل العكس من ذلك، فإنه كالولع بالرياضة – مفوتة للمصالح الفردية والاجتماعية؛ لذا فقد حرّم سيدنا الأستاذ (قدس سره) معاملة البيع والشراء بالطيور لهذا الغرض؛ لأنه من أكل المال بالباطل، وقد قال الله تعالى: [وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ] (البقرة:188).

والغريب أن بعض من يمارسها ملتزمون بالتدين ظاهراً، إلا إنهم سمحوا لأنفسهم بالسقوط في أسر هذه (الهواية) الوضيعة، متناسين أنها تجلب لهم العار والسمعة السيئة، وقد ورد في الحديث: (لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه) (رحم الله امرأً جَبَّ الغيبة عن نفسه)، فكيف يرضى لنفسه أن يحشر مع هؤلاء المتدنين؟! فبدلاً من ذلك لو شغلوا أنفسهم بأعمال مفيدة ونافعة للفرد والمجتمع.

وقد بلغني أن بعض هذه التجمعات بما يرافقها من المحرمات السابقة تحصل قرب المساجد والحسينيات، ولم تسلم منهم لا مدينة ولا قرية ولا ريف والعياذ بالله، لذا أكرر باختصار أنه يحرم بيع وشراء الطيور لغرض ممارسة هذه الهواية، والمال المأخوذ بهذه المعاملة لا يحل التصرف فيه، ولا يجوز لأحد ممارستها مع تحقق ما ذكرناه من المحرمات [فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ] (المائدة:91)؟!

ص: 488

إن اتخاذ مثل هذه الخطوة وهو التخلي عن هذه الهواية وترك ممارسته عمل جبار، ويحتاج إلى شجاعة، حيث وصف الحديث الشريف الشجاع من ملك زمام نفسه ولم يندفع وراء رغباته التي تقتحم به المهالك، ولكن إذا علم المسلم أن عمله هذا بعين الله تبارك وتعالى وسيوفيه أجره أضعافاً مضاعفة، وإنه بذلك ينال الرضا والقرب عند الله تبارك وتعالى وعند رسوله ص وأمير المؤمنين وفاطمة الزهراء والحسن والحسين فأي قرب أفضل: القرب إلى هذه الأنوار المباركة أم القرب إلى جماعات (المطيرجية) مالكم كيف تحكمون؟! الشيخ محمد اليعقوبي

ص: 489

ظاهرة خروج النساء الريفيات لجلب الماء

مشكلة وعلاج

بسم الله الرحمن الرحيم

سماحة حجة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد اليعقوبي (دامت بركاته)

هناك ظاهرة مخزية أقرحت قلوب الغيارى وكانت سبباً لظواهر منحرفة كثيرة ارتأينا عرضها على جنابك المبجل لتعيين الدواء وتطبيب جراحاتنا الدامية، ونرجو تقديم نصائحك الأبوية لنا.

أما الظاهرة فهي أنه توجد مناطق محرومة من نعمة الماء ومنها (منطقة الشرش) شمال البصرة فتضطرّ النساء لجلب الماء من نهر يوجد في المنطقة أو من البيوتات التي يتوفر فيها ماء، فتصرف معظم أوقاتهن خارج المنزل لاسيما (المراهقات)، وعادة تكون أوقات جلب الماء في الفجر والليل والظهر، وهي أنسب الأوقات للمواعيد اللاشرعية. مما أدى إلى الكثير من الانحرافات الأخلاقية والعلاقات الجنسية غير المشروعة في العوائل والأسر. علماً أن الرجال لو تكاتفت جهودهم وتضافرت قواهم لتمكنوا من حل الأزمة، فماذا تقول لهؤلاء الرجال؟ وما هي نصيحتك لهم؟ وهل هم آثمون لتقاعسهم عن القيام بذلك؟ وهنا عدة مسائل:

1. ما حكم خروج المرأة لهذا الغرض لا سيما في أيام الرياح الشديدة؟ والحال أنها لو امتنعت فسيلحقها الأذى من أهلها، كالضرب الشديد والإهانات

ص: 490

الجارحة، وماذا سيكون موقفها بين هذين الابتلائين؟ فإن خرجت تعرضت للانحرافات الجنسية ولا تستطيع التمسك بحجابها وعفافها كما تريده منها الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء وبطلة كربلاء زينب الكبرى (عَلَيْهِا السَّلاَمُ)، وإن لم تخرج تعرضت للأذى والضرر من أهلها.2. إن عملها هذا يضر بصحتها؛ لأن آنية الماء كبيرة وتحمل وزناً ثقيلاً من الماء يؤدي أحياناً إلى إصابتها بأوجاع الرأس والظهر والساقين، وأحياناً النزف الدموي والإسقاط، فهل يجوز لها تعريض نفسها لهذا العمل؟ وهل يجوز للرجال إجبارها على ذلك؟ علماً أن عملها هذا يؤثر على مسؤولياتها في البيت ويأخذ منها وقتاً كثيراً.

3. ما هي نصيحتكم للرجال الذين يأمرون النساء بهذه الأعمال؟ وهل يوجد وجه شرعي لتصرفاتهم كقيمومة الرجال على النساء؟

أجيبوناً جزاكم الله خير الجزاء؛ فإن هذه مشكلة عامة في وسط وجنوب العراق.

ابنتكم من الجنوب

بسمه تعالى: إن وضع المرأة في الريف والمناطق العشائرية نموذج للتطبيق السيئ لقيمومة الرجل على المرأة، والشواهد على ذلك كثيرة؛ منها ما يتعلق بجعلها (فصلية) أي ضمن دية القتل، ومنها (النهوة) التي تؤدي إلى تعطيل النساء عن الزواج، ومنها القتل لأتفه الأسباب مما يسمونه (بغسل العار)، وهذه أمور تحتاج إلى بحثها بالتفصيل، وقد تكفل بشيء من ذلك كتاب (رؤى إسلامية في أحكام العشائر وتقاليدها).

ومن تلك الشواهد عدم الإنصاف والمروءة والرحمة في توزيع الأعمال

ص: 491

على الجنسين، فالمرأة تستيقظ من النوم قبل الفجر لتعجن الطحين، ثم تخبز وتهيئ طعام الإفطار، ثم تجلب الماء وتطبخ الطعام وتحرث وتزرع وتجني وتحلب الدواب وغيرها كثير، مضافاً إلى مسؤولياتها العائلية كالحمل والإنجاب والرضاع وقضاء حاجة الزوج وخدمة أفراد العائلة، فبماذا استحق الرجل كل هذه الخدمة؟! وماذا جنت المرأة حتى تعاقب بهذه (الأشغال الشاقة) التي يُحكَم بأقل منها على الجناة ومرتكبي الجرائم؟! وإني لأعجب لهؤلاء الرجال الذين ينبض فيهم عرق الغيرة لأقل كلمة يسمعونها في شرفهم من دون التحقق من صدقها، وقد يكون قائلها مغرضاً يريد الانتقام من هذا (الغيور) ومن شرفه، فتراق الدماء التي حرمها الله تبارك وتعالى، وجعل حرمة دم المؤمن أعظم عند الله من الكعبة كما ورد في الحديث النبوي الشريف. فبينما تراهم بهذا المستوى من (الغيرة) الجوفاء تراهم يرسلون نساءهم إلى مسافات بعيدة لجلب الماء وفي طرق خالية، مما يعرضهن إلى اعتداء الذئاب البشرية وهن ساذجات جاهلات يسهل خداعهن وإيقاعهن في الفاحشة، فهل يقع اللوم الأكثر عليهن أم على أولياء أمورهن الذين يجبرونهن على القيام بهذه الأعمال وهم يعلمون هذه النتائج سلفاً؟! وإذا ما حدث الخطأ – والعياذ بالله- أنزلوا العقوبة الشديدة بهن.

فلماذا يستنكف الرجل من القيام بهذه الأعمال وقد هيّأ الله أبدانهم للقيام بهذه الأعمال الشاقة؟! وقد يخشى التعيير بذلك، لكن طاعة الله وتجنب معصيته والعمل بما تقتضيه الأخلاق والشرف والعفة والحياء ليس عاراً، بل العار هو ما يفعله هؤلاء الناس حيث حذر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من مثل هذا الزمان الذي يرى

ص: 492

الناس فيه المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وحتى لو كان عاراً فهو أولى من دخول النار، كما كان يرتجز الإمام الحسين (علیه السلام) يوم عاشوراء: الموت أولى من ركوب العارِ *** والعار أولى من دخول النارِ

وإن قلبي ليتمزق ألماً وأسفاً لوقوع مثل هذه التصرفات المنافية للدين والأخلاق، وفي هذا البلد الذي يحتضن المرجعية الشريفة ومراقد الأئمة الأطهار (ع)، ويعد مركز إشعاع الفكر الإسلامي للعالم كله، وسيكون عمّا قريب عاصمة الإمام المهدي (عجل الله فرجه). فهل ترجون نصرة الإمام ونيل رضاه بهذه الهمجية والجاهلية؟!

فهل اجتمع رجال هذه القرى والأرياف وتدارسوا الحلول المناسبة لمسألة جلب الماء التي تصون شرفهم وتحفظ كرامتهم وعزتهم، كتأجير (تنكر) مثلاً يومياً يدور على بيوتهم ليملأ لهم الماء، أو يذهب الرجال الذين يمتلكون السيارات لجلب الماء ونحوها من الحلول.

ولا بد من الإنصاف في توزيع المسؤوليات كما أراد لها الله تبارك وتعالى، فإن كل هذه الأعمال ليست واجبة على المرأة وجزاها الله خير الجزاء أن تقوم بشؤون البيت والعائلة، و لا تجبر على الخروج أبداً، وعلى هذا ديدن الأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) والعلماء الصالحين، فإذا كان أبناء الريف لا يقتدون بأئمتهم وعلمائهم فبمن يقتدون؟ [فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ] (يونس:32). وإن الرجال بهذه التصرفات يظلمون المرأة، والله لا يغفر ظلم العباد لبعضهم، ويحشر الظالمين في سرادق خاصة من النار كما ذكرت الرواية. وفيه مخالفة لوصايا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) التي جاء فيها: (اتقوا الله في الضعيفين: المرأة واليتيم)، وجاء

ص: 493

في الأحاديث: (إن النساء ما أكرمهن إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم)، وفي حديث يبين أجر إكرام النساء (بنات أو أخوات) قال (علیه السلام) : (من عال ثلاث بنات أو مثلهن من الأخوات وصبر على لأوائهن حتى يبنّ إلى أزواجهن أو يمتن فيصرن إلى القبور كنت أنا وهو في الجنة كهاتين – وأشار بالسبابة والوسطى – فقيل: يا رسول الله: واثنين؟ قال: واثنين. قيل: وواحدة؟ قال: وواحدة)، وورد في الأحاديث استحباب الرقة على البنات والشفقة عليهن أكثر من الذكور؛ ففي حديث عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال: (إن الله تبارك وتعالى على الإناث أرقّ منه على الذكور، وما من رجل يدخل فرحة على امرأة بينه وبينها حرمة إلا فرّحه الله يوم القيامة)(1). وأنا أعلم أن تحقيق هذا التغيير ليس سهلاً، بل يحتاج إلى شجاعة كبيرة وموقف جريء، لكن ذلك ليس صعباً على الرجال الغيورين، وأولى من يقوم بذلك رؤساء العشائر المخلصون؛ فإن موقعهم الاجتماعي يجعل كلمتهم مسموعة وأي خطوة نحو الصلاح يخطونها فإنهم يعطون أجر كل من سار عليها واستفاد منها إلى يوم القيامة.

وبالمقابل فإن كل من أقر الأعمال السيئة وسار عليها واقتدى به الآخرون فعليه وزر العمل ووزر كل من عمل به إلى يوم القيامة، تطبيقاً للحديث الشريف: (من سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة).

أكرر أن في هذا العمل الذي تقوم به النساء وتجبر عليه عدة محرمات:

ص: 494


1- راجع في مجموع هذه الأحاديث: كتاب وسائل الشيعة، المجلد الرابع عشر، أحكام الأولاد.

1- تعريضهن للوقوع في الانحراف والفواحش الجنسية.

2- ظهور ما أوجب الله ستره، خصوصاً في الرياح الشديدة، وإنهن لا يلبسن العباءة الكافية وإن ملابسهن قد تجسّم أبدانهن.

3- إجبارهن على هذا العمل حرام؛ لعدم وجوبه عليهن.

4- تحميلهن أثقالاً كبيرة مما يؤدي إلى الأضرار الصحية كالإجهاض والنزف.

5- إشاعة الفاحشة في المجتمع المسلم.

6- تعريضهن للقتل عندما يعتدي عليهن شاب نزق.

فكونوا يداً واحدة لاستئصال هذه العادات السيئة من المجتمع، وانصروا الله بهذه الوقفة الشجاعة [وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ] (محمد:35)، ويثبت أقدامكم حتى تنالوا شفاعة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمير المؤمنين وفاطمة الزهراء والحسن والحسين (علیه السلام)، وتُدخلوا السرور على قلب الإمام المهدي (عجل الله فرجه) وقلب كل غيور.

والأمل بكم كبير أن لا تقصّروا في تحقيق ذلك، والله معكم ما دمتم مع الله؛ فإنه نعم المولى ونعم النصير.

الشيخ محمد اليعقوبي

ص: 495

ظاهرة الطريحة وأصحاب النور

ظاهرة الطريحة وأصحاب النور(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

تدّعي بعض النساء أنها طريحة أو فيها نور من الإمام الفلاني أو السيد الفلاني وما شاكلها من الادعاءات، ولطالما انتشرت هذه الظواهر في جميع أنحاء العراق، وخاصة في الجنوب الطيب. فهنا جملة أسئلة منها:

س1/ هل يوجد منشأ شرعي لما تدّعيه هؤلاء النساء؟

ج: بسمه تعالى : في الحديث القدسي: (عبدي أطعني تكن مثلي تقول للشيء كن فيكون)، وهكذا كانت لأولياء الله المخلصين كرامات ومعاجز كالمشي على الماء ومشاهدة الملائكة والمحادثة مع أرواح الموتى وشفاء المرضى. ولكن أنّى لهذه النسوة بهذه الكرامات، وهن غير ملتزمات للحد الأدنى من الشريعة وهي التكاليف الظاهرية؟ فضلاً عن الوصول إلى مرتبة (المخلصين)، فكيف يحصلن على هذه الكرامات؟ نعم، قد تكون بعضهن من أولياء الشيطان لانغماسهن في المعاصي وطاعة النفس الأمّارة بالسوء، فيسخّر إبليس الجن لإنجاز بعض الأعمال لهن لضمان المزيد من الطاعة له، وللتغرير بالسذج والبسطاء، فيظن هؤلاء البسطاء أنها من أولياء الله تعالى ولها منه كرامات ومعاجز، تعالى الله عما يقولون علوّاً كبيراً.

ص: 496


1- صدر لاحقاً كتيب بهذا العنوان يناقش هذه الظاهرة المنحرفة بتفصيل أكبر وكان الحلقة الثانية من سلسلة (نحو مجتمع نظيف).

س2 / كيف يحملن على الصحة مع ما نراه من نتائج غير مرضية لله ورسوله وللأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ؟ج: بسمه تعالى: لا يمكن حملهن على الصحة. بل يجب تحذير المجتمع من مغبة الوقوع في شراكهن وكشف زيفهن وارتباطهن بالشيطان وجنوده، حتى يقطع دابر هذا الدجل والخداع الذي غرر وما يزال بأجيال عديدة من مجتمعنا المسكين المغلوب على أمره.

س3/ التي تدعي ذلك تتصدى لحل بعض المشاكل، وخاصة بين النسوة، وتأخذ مقابل ذلك مقدار من المال معتد به. فهل لعملها هذا صحة شرعية حتى يحلل لها المال الذي تأخذه مقابل ما تعمله لحل تلك المشاكل ؟

ج: بسمه تعالى : المال المأخوذ بهذا العمل محرم وهو من السحت الذي يأكلونه في بطونهم ناراً، والأعمال التي ينجزونها إنما هي من فعل الشيطان وجنده خدمة لأوليائه الذين أخلصوا له الطاعة، فكانوا شياطين الإنس وأولئك شياطين الجن، وقد ذكر القرآن كلا الصنفين ، قال تعالى: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً] (الأنعام:112)، وقد ذكرت روايات وقصص تاريخية عن أناس أخلصوا للشيطان حتى سجدوا له، فقدم لهم خدمات يظنها الجاهل كرامات من الله تعالى، وهو حمق؛ فإن معيار الكرامة عند الله هي التقوى قال تعالى: [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] (الحجرات:13)، فهل وجدتم واحدة من هذه

ص: 497

(الطرايح) موصوفة بالتقوى؟!.س4/ يكون هذا الدعاء من قبل بعض النسوة ذريعة لهن وسبباً للمبيت خارج بيوتهن أيام عدة قد تكون في أحد المراقد القريبة لأحد السادة أو أبناء الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فيجتمع عليها الناس ويرافق ذلك كثير من المحاذير الشرعية. فما تقولون في ذلك؟ وبماذا تنصحون ؟

ج: بسمه تعالى : هذا شاهد على ابتعادهن عن الطريقة المثلى، فإن مقتضى التقوى تجنب الشبهات فضلاً عن المحرمات، وهذه النسوة ترتكب المحرمات جهاراً عن علم وعمد، فمن أين تأتيها وهي بهذه الإقامة عند المراقد تدنس هذه الأماكن بجعلها مراتع للشياطين.

س5/ طالما ننصح الناس بتجنب مثل هذه الأمور، لكن واقعية أفعال هذه الطريحة وبعض التنبؤات التي تطلقها وانتسابها إلى أحد أولياء الله كسيدنا العباس (ع) مثلاً يجعل الناس يصدقون بها ويساعد على انتشار هذه الظاهرة. فما تقولون وبماذا توجهون ؟

ج: بسمه تعالى : ذكرنا فيما سبق أن الشيطان وأولياءه من الجن يقومون ببعض الأعمال لهذه النسوة ليعزز طاعتهن وإخلاصهن له وليتحقق المزيد للتغرير بالسذج من الناس. أما الله وأولياؤه فهم براء منهم بعد وضوح سبب الاستحقاق للكرامات في المنظور الإلهي وهي التقوى.

س6/ ما هو برأيكم منشأ هذه الحركات الغريبة والقوة غير الاعتيادية التي تتمتع بها بعض النساء مدعيات مسألة (الطريحة)، ويبلغ الأمر أحياناً

ص: 498

أن ترمى هذه المرأة إلى أعلى الضريح مسافة ما يقارب (3 أمتار) بكل سهولة!! ويبدو أن هذه الخوارق للعادة هي السبب في تصديق الناس لها وانتشار الظاهرة؟ج: بسمه تعالى: أولاً: يجب أن لا نصدق كل ما ينقل عنهن؛ فإن العوام تحب القصص الخيالية وحكاية الخوارق لتعزيز معتقداتهم ولإظهار ما يحبون بمظهر القداسة والعظمة. نعم؛ قد تصدر منهن بعض الأخبار الصحيحة اتفاقاً أو حدساً وفراسة، أو بالتجسس على أخبار المراجعين لهن وتصيد أخبارهم، وهو من إخبارات الجن لأولياء الشيطان [إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ، وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ ، لا يَسَّمَّعُونَ إلى الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ ، دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ، إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ] (الصافات: 106)، [وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ، وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ، إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ] (الحجر:16-18).

س7/ ما هو تكليفنا الشرعي عند حصول أمر من هذا القبيل في مناطقنا؟

ج: بسمه تعالى: قلنا فيما سبق إن الواجب توعية المجتمع وإرشاده إلى زيف هذه الدعاوى الباطلة وعدم استنادها إلى أساس شرعي صحيح، بل هي من أعمال الشيطان، وتصل إلى حد الشرك بالله العظيم قال تعالى: [إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ … ] (النساء:48) ثم يقول: [أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ] (النور:22)، ونحن نحب أن يغفر لنا تبارك وتعالى، فعلينا تجنب هذه الأعمال الشيطانية، وإذا استطاع كل منا منع أهله وذويه وجيرانه ومتعلقيه فستنشأ حملة

ص: 499

اجتماعية لدرء هذا المرض المشين.س8/ أعتقد أن الغرب الكافر له اليد الطولى في ترويج مثل هذه الظواهر، فبماذا تنصحون المؤمنين والمؤمنات، لكي يتحصنوا ضد تلك السموم؟

ج: بسمه تعالى : إننا وإن كنا ننسب كثيراً من الفضائح إلى الغرب الكافر وهو صحيح؛ لأنه يعمل جاهداً على نشر التخلف والجهل في مجتمعنا المسلم لكي لا يفكر في قضاياه المصيرية، إلا إن الغرب نفسه هو من صنيعة العدوين الرئيسين وهما إبليس والنفس الأمارة بالسوء، فلا بدَّ من الالتفات إلى العدو الأصلي وخدعه وغروره وفخوخه وجنوده وأوليائه وحبائله (راجع أدعية نهار شهر رمضان؛ ففيها تعريف بطرق الشيطان ومكائده ووسائله)، وقد نبهنا القرآن إلى هذين العدوين وحذرنا من الاغترار بخداعهما وأمانيهما، وأهم علاج لدفع مكائدها هو ذكر الله سبحانه وتعالى ومراقبته ومراعاة أحكامه قال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ] (الأعراف:201).

س9/ هناك بعض الرجال ممن يدعي أنه صاحب نور من الإمام أو من السيد الفلاني، ويجعل ذلك شفيعاً بأن يعالج النساء المرضى حتى باللمس وبكشف ما يجب ستره على المرأة، وهي تظن أن ذلك ما يريده الله سبحانه؛ لأن هذا يدّعي ارتباطه بالإمام، وهي ظاهرة تكاد تكون منتشرة بين الأوساط الجاهلة، وفي نفس الوقت مليئة بفطرة المحبة

ص: 500

والولاء لأهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فكيف نعالج ذلك؟ ج: بسمه تعالى: قلنا إن الحل الأول هو توعية المجتمع وإلفاته إلى دجل هؤلاء وارتباطهم بالشيطان، وإقامة الدلائل على ذلك، كعدم التزامهم بالشريعة وعدم تورعهم، والحل الثاني هو وعظ هؤلاء الدجالين وتذكيرهم بالآخرة وبعذاب الله وسطوته قال تعالى: [وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ] (إبراهيم:5) [إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ] (هود:102) وإن ما يحصلون عليه من مال أو جاه أو احترام أو تقديس إنما هو متاع زائل ولا يساوي عند الله جناح بعوضة مقابل مع ما أعد الله تبارك وتعالى للمؤمنين المتقين العاملين بإرادته وأمره ونهيه، ومما يكشف ضلالهم ممارسة المحرمات المذكورة في السؤال وغيرها كلمس الأجنبية والكشف عن بدنها.

الشيخ محمد اليعقوبي

ص: 501

الهاتف نعمة يُساء استعمالها أحياناً

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين محمد وآله أجمعين، وبعد.

لا يخفى على القارئ الكريم ما لجهاز الهاتف من فوائد كبيرة وعلى مختلف الأصعدة، فبإمكانك اختصار آلاف الكيلومترات بمكالمة واحدة، وبإمكانك أن تصل رحمك يومياً عن طريقه، وبإمكانك أن تحصل على تكليفك الشرعي إزاء أي موقف تمر به عن طريق الاتصال بأي طالب حوزة، وغيرها من الفوائد التي لا مجال لسردها هنا، لذا أصبح من الضروري بيان بعض الآثار السلبية الحاصلة نتيجة استغلال هذا الجهاز المفيد في أغراض شيطانية، ومعرفة موقف الشارع المقدس منها وخصوصاً أن هذا الجهاز واسع الانتشار وموجود في أغلب بيوتنا.

موقف الإسلام إزاء تطور الأجهزة:

لا يقف الإسلام إزاء التطور والتقدم موقفاً سلبياً كما يتصور ذلك بعض الجهلة، حيث يعتبرون الحوزة عدوة التطور والتقدم وأنها حرمت التلفزيون والرياضة والمسلسلات وغيرها من الأمور التي لا بد من مواكبتها حسب اعتقادهم، وهذا ناشئ طبعاً من عدم فهمهم لرأي الحوزة في هذا المجال، فهي لم تحرم التلفزيون، وإنما حرمت برامج التلفزيون من أغانٍ وأفلام ومسلسلات

ص: 502

وغيرها من المشاهد التي لا محالة تؤدي إلى وقوع الفرد المسلم بالحرام وتحرك غرائزه وشهواته كما هو الواقع فعلاً، فنحن وأفراد أسرنا لسنا بالمعصومين لكي لا نتأثر بهذه الكلمات المعسولة التي تخدش العفة والحياء، بل بالعكس فقد شجعت الحوزة على استغلال التلفزيون بأمور محللة علمية أو أخلاقية أو ثقافية نافعة، والموجودة على الأقراص الليزرية والتي يمكن تشغيلها من خلال جهاز (الفيديو سيدي).إذن فالإسلام ليس عدواً لتطور الأجهزة والآلات، وإنما عدو استخدام الآلة أو الجهاز في الأغراض غير المشروعة، فأي جهاز هو سلاح ذو حدين يمكن استخدامه للحلال ويمكن استخدامه للحرام؛ كما قال السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي: (ينشر الهدى من حيث ينتشر الفساد)، وترى كثيراً من الآيات والروايات التي تحث على طلب العلم ورفع الجهل والتخلف، مثلاً: (اطلب العلم من المهد إلى اللحد)، (العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة)، فجهاز الهاتف من أهم سمات العصر التكنولوجية، وقد انتفع منه الناس بشكل مذهل، ووفر عليهم الكثير من الجهد والمال وقرب البعيد وجعل البشر – بفضل الله تبارك وتعالى – تدرك ما لم تكن تدركه بدونه، إلا أن البعض ولعدم نيله التربية الكافية يوظف هذه النعمة في استعمالات سيئة مرفوضة دينياً وأخلاقياً واجتماعياً، ولما كانت هذه السيئات مرتبطة باللسان، فلا بد من الإشارة باختصار أولاً إلى آفات اللسان.

ص: 503

آفات اللسان:

اللسان من النعم التي منَّ الله تعالى بها على عباده قال تعالى: [خَلَقَ الإِنسَانَ ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ] (الرحمن:3-4) أي أعطاه القدرة وعلمه كيف يوصل أفكاره ومطالبه وحاجاته إلى الآخرين، ولولا ذلك لما قامت للبشرية حياة، وعندما سئل الإمام (علیه السلام): أيهما أفضل النطق أم الصمت؟ قال (علیه السلام): (وهل بُعث الأنبياء إلا بالنطق؟!)، ولكن هذا مع الاستعمال الصحيح لهذه النعمة واستغلالها في مواردها الصحيحة، ولكن غفلة الناس وميل نفوسهم إلى اللعب واللهو واتباع الهوى أدى إلى إساءة استعمال هذه الجارحة، حتى أصبح اللسان أكثر الجوارح ضرراً وأقوى الأسباب لابتعاد الإنسان عن الله تعالى والانتهاء به إلى نار جهنم؛ لأن معاصي اللسان كبيرة كالغيبة والنميمة والبهتان والسب والكذب والمراء والظلم، ولعل شخصاً يقول كلمة في الشرق فيقتل بها إنساناً في الغرب، ولأجل تنبيه الناس إلى مغبة هذا الأمر ورد التحذير الشديد عن المعصومين، فعن الرسول (صلى الله عليه وآله): (هل يكبُّ الناس على مناخرهم في النار إلاّ حصائد ألسنتهم؟) وقال تعالى: [مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ] (ق:18)، وقال رجل للنبي (صلى الله عليه وآله): (ما أخوف ما يخاف علي؟ فأخذ بلسانه، وقال: هذا)، وعن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن أبغض خلق الله عبد اتقى الناس لسانه)، وعن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (من خاف الناس لسانه فهو في النار).

ص: 504

ظواهر اجتماعية منحرفة ترافق استخدام الهاتف:

1- نجد الشباب والشابات يقضون أكثر أوقاتهم مع الهاتف، وهذا مما لا يرضي الله تعالى وإن كان في أمور محللة؛ لأن الوقت هو رأس مال الإنسان، به يتكامل الإنسان في مسيرته تجاه الله تعالى، فالله تعالى لم يخلقنا عبثا [أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ] (المؤمنون:115)، ولمّا كان خلْقُنا لأجل هدف وغاية، [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات:56)، لا بد إذن من استثمار كل لحظة ودقيقة من حياتنا لتحقيق هذا الهدف الإلهي في كل ما هو نافع دينياً ودنيوياً، ولا نقضي أوقاتنا بهذه الأمور التافهة.

2- بعض الأمهات عندما تجد ابنتها تتكلم بالهاتف مع شاب لا تعير للأمر أهمية، بل تقول: إن البنت تحتاج أن تتمتع بحياتها بعدما حرمت من الخروج، وتقول في نفسها: لعل هذه المكالمات ستسهل عليها أمر زواجها، وغيرها من الأفكار التي يسولها لها الشيطان والنفس الأمارة.

3- بعض الشابات عندما تتصل مع شاب تتكلم معه بضمير الأنثى، لكي توهم أهلها بأن الذي تتكلم معه صديقتها، وهذه الأساليب الشيطانية سرعان ما تنكشف، لأن حبل الكذب قصير، وبالتالي فإنها سوف تسقط من عين أسرتها بعدما سقطت من عين الله ورسوله (صلى الله عليه وآله)، ولتعلم هذه الشابة أنها وإن أخفت كلامها هذا عن عائلتها إلا أن الله تعالى مطلع على خفاياها [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] (غافر:19) وإن كانت تخجل من عائلتها، فإنها سوف تخجل الخجل الأكبر من الله تعالى يوم تبلى

ص: 505

السرائر.4- بعض الشابات تنتظر عائلتها ينامون ثم تتصل بصاحبها، فتجمع عدة حرمات؛ حرمة الكلام مع الأجنبي بأمور غير محللة وغير ضرورية خلسة، وحرمة تهيئة الجو المساعد على تحريك الشهوات والغرائز حيث الهدوء ونوم الجميع، وقد يصل الأمر إلى ممارسات جنسية من خلال المكالمة وفي هذا منتهى الخسة والدناءة، وحرمة التصرف في مال الغير (الوالد) بدون إذنه.

5- بعض الفتيات ومن أجل الفرار من حصار العائلة تذهب وتتصل بصاحبها من خلال هاتف الجيران، وفي هذا الأمر خيانة وتعدٍّ على الجار الذي أوصى الرسول (صلى الله عليه وآله) بمودته وعدم أذيته. أمن أجل هذه النفس الحقيرة ترتكب مثل هذه الذنوب العظيمة التي ستكون وبالاً على الإنسان يوم القيامة؟!

6- عادة يكون الاتصال أثناء وقت الصلاة أو خلال الأذان، حيث إن المؤذن يؤذن والشاب والشابة مشغولان بالحديث المعسول بلا مراعاة لحرمة الأذان أو الصلاة، وهذا يؤدي إلى غضب الرب وأذى الإمام الحجة (عجل الله فرجه الشريف)؛ (إن ذنوبكم لتؤذينا).

7. تتولد عند الشاب والشابة أمراض نفسية خطيرة قد تستمر إلى ما بعد الزواج، حيث لا يكتفي الرجل بامرأة واحدة؛ لأنه اعتاد الاتصال بعشرات النساء يومياً، وذاق طعم الكلمات المعسولة من مختلف النساء، مما سيؤدي إلى حدوث مشاكل عديدة مع زوجته نتيجة كثرة النساء التي تتصل به قد تصل إلى الطلاق وتشريد الأطفال، فيكون بذلك مسؤولاً أمام الله تعالى على كل

ص: 506

هذا الظلم.8- ظاهرة تخضّع المرأة بقولها عندما ترفع سماعة الهاتف، وهي ظاهرة شائعة ومنتشرة بكثرة مع شديد الأسف، وهذا بسبب جهل المرأة بتكليفها الشرعي، قال تعالى: [فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ] (الأحزاب:32)، وللتخلص من هذه الظاهرة يجب عدم رفع السماعة من قبل المرأة إلا عند الضرورة إلى أن تعرف تكليفها الشرعي.

9- بعض الناس لا يقدّر ظرف المقابل، فيطيل معه الكلام بلا ضرورة ويضطره إلى سماع كل ما يقول، وطبعاً بسبب الإحراج يضطر هذا المسكين إلى سماع ما لا يرغب بسماعه، ولا بدَّ من الالتفات إلى أن أوقات الناس مهمة جداً، ولها شأن كبير عند الله سبحانه وتعالى، فعندما تضيع أوقاتهم فإنك ستحاسب أمام الله تعالى، خصوصاً لو كان هذا الشخص الذي تتكلم معه عالماً أو طالباً؛ لأن هؤلاء أوقاتهم مهمة وفيها خدمة للصالح العام، فلا ينبغي علينا تضييعها بأمور تافهة.

10- بعض الناس ممن يعطي غيره أرقام هواتف الغير بدون إذن من صاحب الهاتف، مما يوقع صاحب الهاتف بحرج شديد، وهذا تصرف فضولي لا ينبغي للمسلم اقترافه.

11- بعضهم ممن لديه هواية التجسس على الآخرين، فيقضي الكثير من الوقت لسماع المكالمات المشتركة بينه وبين جيرانه وأقاربه، فينقل ما يدور من كلام وأسرار للآخرين، وهذا أيضاً من المحرمات التي وردت في الكتاب والسنة: [وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً] (الحجرات:12).

ص: 507

12- ترك الأطفال يعبثون بالهاتف، فيطلبون أرقاماً عشوائية ويزعجون الناس، وهذا أيضاً غير جائز.

13- بعض الناس ممن يتصلون بالهواتف التجارية في السوق لا يراعون العقد الذي جرى بينهم وبين صاحب الهاتف، فيتجاوزون المدة الزمنية المقررة للمكالمة الواحدة، والتي هي عرفاً 3 دقائق، ويدفعون أجرة مكالمة واحدة دون استرضاء المالك الذي يأخذها عادة ولا يتكلم خجلاً، وهذا لا يجوز شرعاً.

14- بعض النساء قد تطيل الكلام والضحكات وتبادل بعض الألفاظ التي لا ينبغي لها مع صديق زوجها أو صديق أخيها وغيرهم من الأجانب، وهذا غير جائز شرعاً.

15- وبعضهم يروق له طلب رقم لا على التعيين في ساعة متأخرة من الليل، فيقلق الناس ويفزعهم لا لشيء إلا لكي (يتلهّى ويلعب)، ولا يعلم أن من الذنوب الكبيرة إيذاء الناس وظلمهم.

المبرّرات للظواهر أعلاه:

1- بعض الشباب يبررون الاتصال بالهاتف مع الجنس الآخر باحتمال العثور على الزواج أو الزوجة المناسبة.

الإجابة: إن اختيار الزوج أو الزوجة المناسبة لا بدَّ أن يتم بمقدمات صحيحة ومرضية لله تبارك وتعالى ليبارك الله تعالى بهذا الزواج ويملأ حياتهم بهجة وسعادة، أما الاتصالات الهاتفية إذا كانت بعيدة عن الأساليب الصحيحة

ص: 508

فهي بمنزلة دخول البيوت من غير أبوابها، وهو منهي عنه شرعاً، فلماذا إذن نلتجئ إلى هذه الأمور الشيطانية ونترك ما أحله الله تعالى من الوسائل إلى أن يرزقنا الزوجة أو الزوج الصالح [وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ](الطلاق:2-3)؟، وكيف يثق هذان الزوجان ببعضهما وهما يعلمان أن حالتهما يمكن أن يكررها كل منهما مع غير صاحبه ما دام غير منضبط؟.2- البعض يدعي أنه يتكلم مع الشابات من باب الترويح عن النفس.

الإجابة: تقدمت الإجابة عن مثل هذا السؤال في ما سبق بما نصه: أن (الترويح عن النفس لا يجوز أن يكون بأساليب محرمة، فإن الغاية لا تبرر الوسيلة، فيروح عن نفسه بأمور محللة، كمفاكهة الأخوان والسفر والزيارة والتنزه)، إن أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بينوا لنا كيف نروّح عن أنفسنا، فقد ورد: (إن هذه القلوب لتمل كما تمل الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكم)، و(شكى رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وجعاً في صدره، فقال (صلى الله عليه وآله): (استشف بالقرآن، فإن الله عز وجل يقول فيه: [شِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ]).

3- البعض يقول نحن نحاول إشغال وقت فراغنا بهذه المكالمات الهاتفية.

الإجابة: المفروض أن المؤمن لا فراغ عنده، فإن المؤمن مشغول بالكسب الحلال لينفق على أهله وأداء ما افترض الله عليه، أو القيام بحقوق للنفس والأهل والمجتمع، أو المساهمة في مشاريع خيرية نافعة كزيارة الأخوان وقضاء حوائجهم وتبادل الأحاديث النافعة معهم.

4- البعض يقول (وخصوصاً النساء): إننا طوال الوقت في البيت وإذا لم نقضِ

ص: 509

الوقت بالتكلم بالهاتف مع الشباب فإن حياتنا لا تطاق.الإجابة: إن هذا التأثير الكبير الذي تركته هذه المكالمات في النفس بحيث أصبحت الحياة لا تطاق بدونها سببه التعود عليها يومياً فأخذت حيزاً من أنفسنا، والعادة كما يقولون طبع ثانٍ، وإن الأبدان كما عودت فعندما يمارس الإنسان عملاً ما كالنوم أو قراءة الكتب أو مشاهدة التلفزيون، فإن هذه الممارسات ستتحول بالتدريج إلى عادة تلازم الشخص فيكون أسيراً لها؛ لذا فإن الخير عادة والشر كذلك عادة، فلماذا إذن لا نعود أنفسنا على فعل الخير وترك الشر بكل أشكاله، وبالتدريج ستكون عاداتنا كذلك، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (عوّد نفسك فعل المكارم وتحمل أعباء المغارم تشرف نفسك وتعمر آخرتك ويكثر حامدوك)، (عوّد نفسك حسن النية وجميل القصد تدرك مباغيك)، أما النساء فيمكن لهن أن يقضين أوقاتهن بأمور مفيدة دنيوياً وأخروياً، وذلك من خلال مطالعة الكتب وسماع المحاضرات والتطريز والخياطة وغيرها من الأمور المفيدة والممتعة [وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى] (النازعات:40-41)، [فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى ، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى] (الليل:5-7)، فيستطيع الإنسان أن يكيف نفسه ويطبعها على المنهج الذي يقتنع به.

ص: 510

الحوارية:

سماحة العالم الفاضل الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الشريف)

السلام عليكم ..

س1: ما حكم من يستخدم الهاتف لإزعاج الناس والتحرش بالفتيات؟

بسمه تعالى: يحرم إيذاء الناس بكل أشكاله، ومنه الإزعاج بالمكالمات الهاتفية التافهة، أو بإغلاق الخط عند عدم رفعه من قبل من يريد التحدث معه، وحرمة إيذاء الناس من واضحات الأحكام، ويوجد حديث مشهور يتناقله الجميع: (المسلم من سلم الناس من لسانه ويده)، ولازم هذا التعريف للحديث أن من لم يسلم الناس من لسانه ويده ليس بمسلم. وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (قال الله عز وجل: ليأذن بحرب مني من آذى عبدي المؤمن، وليأمن غضبي من أكرم عبدي المؤمن).

س2: غالباً ما تكون أسلاك الهاتف واطئة نسبياً، وفي أحيان كثيرة تتعرض للقطع من قبل أصحاب سيارات الحمل العالية. فهل يجوز مطالبتهم بتحمل نفقات ربط السلك وأجرة الموظف؟.

بسمه تعالى: الضمان يترتب على المتجاوز منهما، والذي هو فقهياً (التعدي والتفريط)، فإذا لم يلتزم صاحب الأسلاك برفعها إلى المقدار المطلوب وتركها متهدلة فالتلف عليه، وإن كان ارتفاعها ضمن المسموح لكن صاحب السيارة متجاوز بتعلية حمولته أو عدم مراعاة الأسلاك فهو ضامن.

س3: هل يصح الإشهاد عن طريق الهاتف؟ وهل تعتمد شهادة الشاهد

ص: 511

في الحالات التي يتحرج الشاهد من حضورها كما في حالات (الزنا) و(القتل) وغيرها؟بسمه تعالى: إذا حصل الاطمئنان بمعرفة شخص المتحدث وعدالته وصحة شهادته أُخذ بها.

س4: هل يصح إجراء عقد الزواج بقسميه (الدائم والمنقطع) عن طريق الهاتف؟

بسمه تعالى: إذا حصل الاطمئنان بأن المتحدث هو الشخص المقصود وقد توفرت شروط العقد والمتعاقدين فلا بأس بإجرائه عن طريق الهاتف.

س5: يتفق بعض الأشخاص على عملية بيع وشراء معينة عن طريق الهاتف، وبعد انتهاء المكالمة بمدة يسيرة كخمس دقائق مثلاً أو أكثر بقليل يتبدل رأي أحد الطرفين فيريد فسخ عقد البيع، فهل يجوز له ذلك؟، وهل له خيار معين؟.

بسمه تعالى: إذا كانا ما يزالان في مجلس المكالمة فلكل منهما حق الفسخ بخيار المجلس، فإذا افترقا عن مجلس المكالمة سقط الحق.

س6: إذا أخبر بعض الثقاة برؤية الهلال وتم الإخبار بواسطة الهاتف، فهل يعتمده الحاكم الشرعي أم يجب حضورهم عنده للإدلاء بشهادتهم؟

بسمه تعالى: إذا حصل الاطمئنان بعدالة المتحدث بعد معرفة شخصه وحصل التأكد من صحة دعواه الرؤية من خلال المعلومات التي يدلى بها فيمكن الاعتماد عليه، وقد جرت على ذلك سيرة المراجع العظام في العصور

ص: 512

المتأخرة.س7: بسبب الإلحاح في الإزعاج من بعض الأشخاص يضطر أهل المسكن لرفع سماعة الهاتف أو قطع الحرارة عن الجهاز، فهل في ذلك إشكال كما لو كان صاحب المسكن شخصاً يحتاجه الناس في أمور الفتوى وغيرهم؟.

بسمه تعالى: ليس في ذلك حرمة شرعية، لأنه تصرف في ماله، لكن هذا الفعل ممنوع أخلاقياً؛ لأنه تهرب عن أداء المسؤولية وتقاعس عن الوفاء بحقوق الأخوان، خصوصاً إذا كان محل حاجة الناس، نعم، قد يقع الشخص في حرج أو ضرر وقد عفته الشريعة من كل تكليف يوقعه فيها.

س8: هل يجوز للموظف ربط خط الهاتف لشخص يعلم بأنه فاسق وسوف يستخدمه لأمور غير مشروعة؟ مع العلم أن الشخص دفع أجور الاشتراك.

بسمه تعالى: إذا كان يعلم أنه سيستخدمه في الحرام فلا يربطه له، ففيه إعانة على الإثم، وقد قال تعالى [وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] (المائدة:2).

س9: بعض الأشخاص يقومون بسرقة خط الهاتف وذلك بربط سلك فرعي بالسلك الأصلي للمسكن، ويتم استغلاله بأحد الأمرين أو كلاهما:

الأمر الأول – التجسس والتنصت على أهل ذلك المسكن والتشهير بهم.

الأمر الثاني – الاتصال بآخرين خارج القطر، فيكلفون أهل ذلك المسكن مبالغ طائلة قد تصل أحياناً إلى مبلغ (100000) دينار أو أكثر، فيعجزون

ص: 513

عن تسديدها ويجهلون من يفعل ذلك. فما هو رأي سماحتكم بهذا الأمر؟.بسمه تعالى: هذا من المحرمات الواضحة، ويتضمن عدة ممنوعات؛ كالتصرف في ملك الغير بدون إذنه، والتجسس على الآخرين، وإلحاق الضرر بهم، وفاعل ذلك آثم ويضمن الأموال التي تسبب في غرامة الآخرين لها.

س10: عقد البيع عن طريق الهاتف هل هو لازم لكلا الطرفين أم لا مع تحقق شروط العقد؟.

بسمه تعالى: هو عقد صحيح مع اجتماع شرائطه، ولكنهما ما داما في مجلس المكالمة فلهما فسخ العقد، فإذا تغير مجلس أحدهما لزم العقد.

س11: هل يجوز لعن وتوبيخ من يكرر الاتصال ويبقي الخط مفتوحاً دون كلام، مع ملاحظة أني أجهل من يكون على الجانب الآخر من الهاتف؟

بسمه تعالى: تتبع معه مراحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتدريج، فتبدأ معه بالحكمة والموعظة الحسنة، ثم التوبيخ والزجر والتهديد، أما السب واللعن فقد نهى عنهما أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حتى لخصومه.

س12: إذا علمت أن فلاناً من الناس يتعمد إزعاج الآخرين عن طريق الهاتف وإثارة الفتن والشكوك بين العوائل، فما هو تكليفي الشرعي تجاه هذا الشخص؟.

بسمه تعالى: تتبع مراحل النهي عن المنكر المتقدمة.

ص: 514

س13: إذا وعدت شخصاً بأن أتصل به هاتفياً باليوم الفلاني وتعذر علي الاتصال به بسبب صعوبة وتزاحم الخطوط الهاتفية، فهل يعتبر هذا مخالفة للوعد؟ وما هو الحكم لو كان عدم الاتصال ينتج ضرراً مالياً لهذا الشخص مع ملاحظة بأنه يتعسر علي السفر إليه كونه يسكن مدينة بعيدة؟.بسمه تعالى: مخالفة الوعد مرجوحة أخلاقياً، وقد مدح إسماعيل (ع) في القرآن الكريم؛ لأنه [كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ] (مريم:54)، ولكن إذا حدثت بأسباب خارجة عن اختياره فالله أولى بالعذر، وإذا تسبب الذي أخلف الوعد بضرر للآخر ضمنه له.

س14: إذا احتمل الأب أن وجود الهاتف في الدار سوف يؤدي إلى مفسدة أخلاقية لبناته، فهل يجوز له رفعه كلياً مع حاجة الزوجة إلى الهاتف؟ وهل في ذلك ظلم لها؟.

بسمه تعالى: إذا احتمل بشكل معتد به المفسدة الأخلاقية وجب رفعه و – ليس جاز فقط – فيجب عليه عدم تمكينهن منه بشكل أو بآخر، كرفعه أو السيطرة عليه عند تشغيله، فإنه رب الأسرة وراعيها، وقد ورد في الحديث: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).

س15: لو كنت صاحب محل لبيع الأجهزة الهاتفية وجاء شخص لشراء جهاز هاتف، وإني أعلم بأن هذا الشخص فاسق وفاسد خلقاً وسوف يستخدم الجهاز لإيذاء الآخرين، فهل يجوز لي بيعه الجهاز أم إنه من

ص: 515

الإعانة على الإثم؟.بسمه تعالى: يوجد أكثر من منشأ للمنع من بيع الجهاز له مادام أنه يعلم أن المشتري سيستخدمه في أفعال محرمة وتصرفات لا أخلاقية، وإلا فإنه سوف يعينه على الإثم، كما إن المسلم مطالب بأن يسد كل ما يمكن من أبواب العصيان والفساد والانحراف في المجتمع، فإن وظيفة كل مؤمن أن يعمل على تكثير فرص الطاعة وتقليل فرص المعصية.

س16: أغلب النساء تستخدم الهاتف لمدة زمنية طويلة قد تصل إلى الساعة الكاملة أو نصفها، وربما أزيد من ذلك في أمور تافهة يصاحبها ضحك عالٍ، فما هي النصيحة لها وللوالدين علماً أن بعض الأخوة المؤمنين لا يرضى أن تفعل أخته هذا الأمر، إلا أن الوالد أو الوالدة تؤيدها وتدافع عنها بأنها بنت جيدة ليست كباقي البنات، وأنت اهتمَّ بزوجتك؟!.

بسمه تعالى: هذا التصرف ناشئ من الفراغ والجهل الذي يسود الكثيرين فلا يعرفون قيمة الوقت ولا كيفية استثماره في النافع دينياً أو دنيوياً، وستكون مثل هذه الأوقات الضائعة حسرة وندامة على أهلها حينما تعرض لحظات العمر كلها، ويحاسب عن كل واحدة منها أين قضاها؟ ويجد أن الثانية الواحدة كان يمكن أن تنقله من الجحيم إلى الجنان فيما لو استثمرها بتسبيحة أو بكلمة طيبة أو موقف صالح، فكيف بهذه الساعات الطوال؟ هذا إذا لم نفترض أن هذا الكلام الطويل سيتطرق إلى محرمات كالغيبة والقدح في سمعة الناس وإذاعة

ص: 516

أخبارهم، وقد ورد في الحديث أن الإنسان إذا كثر غلطه – أي ثرثرته كثر غلطه وإذا كثر غلطه دخل النار – فتعاونوا على استثمار أوقاتكم فيما ينفع، ولينصح بعضكم بعضاً وتذاكروا بينكم [وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] (العصر:3).س17: يطلب بعض الجيران استخدام هاتفنا كونهم لا يملكون هاتفاً، ونلاحظ في بعض الأحيان أنهم يستخدمونه في اتصالات غرامية غير مشروعة وأحياناً أخرى اتصالات طبيعية، فما هو تكليفي الشرعي تجاههم؟.

بسمه تعالى: لا تسمح لهم بذلك، ولا تيسر لهم سبل المعصية، وأعلمهم بأن الجهاز بخدمتهم بشرط عدم إساءة استعماله وإلا ستكون شريكهم في الإثم.

س18: يقوم بعض الجيران - بدون علمي - بإعطاء رقم هاتفي لأشخاص لا أرغبهم ولا أثق بهم، وهم يتصلون بي للتحدث إلى جاري ويكررون الاتصال كثيراً، فهل يجوز لي ردعهم أو تجاهل طلبهم بالتحدث إلى جاري؟ وهل أكون مؤذياً لجاري؟.

بسمه تعالى: إذا كان انزعاجك لمجرد كثرة الاتصال بالجار، فإن المستحب شرعاً أن لا تقصر في قضاء حوائج الجار والإحسان إليه وتحمل أذاه، وقد ورد أنه ليس حسن الجوار أن تكف أذاك عن جارك، فهذا واجب عليك تجاه الجميع، وإنما حسن الجوار أن تصبر على أذاهم. نعم، لو كانت هذه المكالمات الكثيرة في غير طاعة الله أو تترتب عليها مفاسد وأضرار فعليك

ص: 517

إلفات نظره بالكف عنها أو منعه من الاستفادة منه.س19: بعض أصحاب المحلات المختلفة يضعون (قفلاً) على أجهزة هواتفهم ولا يسمحون لأحد باستخدام الهاتف إلا مقابل ثمن معين، فهل في ذلك إشكال؟.

بسمه تعالى: في ذلك تقصير في قضاء حوائج الناس، ولو علم هؤلاء المقصرون ما في قضاء حوائج المؤمنين من الأجر العظيم وفي عدم قضائها من نتائج سيئة لما ترددوا في الاستجابة لأي شخص، وقد ذكرت شيئاً من ذلك في محاضرة (صفات المسلم من خلال أحاديث أهل البيت) بمناسبة ميلاد أمير المؤمنين لسنة 1423، بحيث أن الإمام الصادق (علیه السلام) يوجّه أحد أصحابه بقطع الطواف الواجب حيث دعاه مؤمن لحاجة له ويحذر من أن يقصر في ذلك بأن الله يمقته ويبتليه بأن يقضي ضعف تلك الحاجة لظالم في معصية الله، نعم، لو أن صاحب المحل يرى ضرراً أو حرجاً في أن يترك الباب مفتوحاً لكل من يطلب استعمال الجهاز فهو معذور بعدم الاستجابة.

س20: يحدث في بعض الأحيان وعند رفع سماعة الهاتف لغرض الاتصال أن تشترك الخطوط فاستمع حينها إلى حوار بعض الأشخاص وهم لا يسمعونني، ويدفعني الفضول لمعرفة نوع الحديث بينهم، فهل هذا جائز؟.

بسمه تعالى: التجسس على أقوال وأفعال الآخرين عمل محرم، ولا أقل من أنه فضول ولغو كما اعترف السائل، وقد تقدم الكلام عن الفضول، ويشتد المنع

ص: 518

حينما يكون المتنصت عارفاً بأشخاص المتحدثين.س21: هل يجوز لأصحاب محلات تأجير الهواتف فرض أسعار باهظة جداً مقابل إجراء مكالمة هاتفية لا يمكن تحصيلها إلا بواسطة هذا الخط الهاتفي؟.

بسمه تعالى: القاعدة تقول: (الناس مسلطون على أموالهم)، يتصرفون بها كيف يشاؤون، ولكن الشرع المقدس حث على المروءة والإنصاف وأن تحب الخير للناس كما تحبه لنفسك، وتكره لهم ما تكره لها، وإذا انحصرت الخدمة الاجتماعية عند فرد معين وأجحف بالناس فالولي الفقيه يتدخل لتحديد الأجرة، كما يجبر المحتكر على بيع طعامه بسعر غير مجحف بالناس.

س22: عندما يرنّ جرس الهاتف تبادر النساء إلى رفع السماعة والتحدث:

أ- مع وجود الرجال من الأب والأخوة والزوج، فما هو رأيكم بذلك؟

ب- مع عدم وجودهم، ما هي الضوابط الشرعية التي لا بدَّ أن تلتزم بها المرأة؟.

بسمه تعالى: لا بأس بذلك إذا لم يتسبب صوت المرأة في إثارة الفتنة والشهوة لدى الرجل المتحدث، وأن لا يتسبب هذا الأمر (وهو مبادرة النساء إلى الإجابة على المكالمة الهاتفية) في إيجاد مشاعر لدى المرأة بحب محادثة الرجال؛ فإنه باب للفساد، إذ يتطور إلى تصنعها و(خضوعها بالقول) بحسب التعبير القرآني لإيقاع الذي في قلبه مرض، فتتحرك مشاعر الرجال أيضاً، وهذا

ص: 519

ما لا يسمح به الشارع المقدس مطلقاً.س23: يجد أغلب الناس أن الشاب له الحرية في إقامة علاقات مع النساء، فنجده يتحدث معها عن طريق الهاتف أمام أفراد أسرته من الوالدين والإخوة دون خجل أو حياء، وهم لا يبالون بذلك، بل إن صادف أن بعض المؤمنين يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يتعرض هذا المؤمن إلى العقوبة دون الفاسد، بل يتعرض إلى الطرد من البيت ولسان حالهم يقول كما قال قوم لوط: [أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ] (الأعراف:82)، النصيحة النصيحة!!.

بسمه تعالى: إقامة هذه (العلاقات) عمل محرم وباب واسع للفساد والانحراف والعصيان، فلا بدَّ من وقفة شجاعة للقضاء عليه بتعاون الجميع، وتقع المسؤولية الأكبر على الوالدين وأخوة الشباب، أما هذا التساهل فأول من يقع في ضرره ويكتوي بناره هم هؤلاء المتساهلون في ردعه والقضاء عليه، ولا يكفي عدم الاستجابة مبرراً لتقاعس الآخرين عن أداء هذه الوظيفة الإلهية، فعليهم أن لا يقصروا في أداء وظيفتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما النتائج فهي على الله تبارك وتعالى مدبر الأمور ومسبب الأسباب.

س24: هل يعد (الكاشف) دليلاً شرعياً على اتصال صاحب الرقم الذي يظهر على الشاشة؟

بسمه تعالى: هذا إن حصل الاطمئنان بعمله فهو كافٍ، وإذا أنكر ذلك الشخص وناقش في صدق هذا الدليل فله أن يحلف لدفع التهمة عن نفسه.

ص: 520

س25: هل تصدق الخلوة الشرعية على الشاب والشابة عندما يتكلمون لوحدهم في ساعات الليل؟.بسمه تعالى: هو عمل محرم للجهات التي ذكرناها، وليس من جهة الخلوة بالأجنبية، فإنها لا تصدق على هذه الحالة.

س26: إذا اتفق صاحب الهاتف مع الزبون على أن تكون هذه المكالمة 3 دقائق، فتجاوز الزبون على هذه المدة ولم يدفع للمالك إلا أجرة مكالمة واحدة، فيأخذ صاحب الهاتف الثمن إما خجلاً أو تجنباً لحصول مشاكل أو غيرها من الاعتبارات، فما هو رأي الشارع بهذه المعاملة؟.

بسمه تعالى: قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ] (المائدة:1)، ولا يجوز للزبون الزيادة والنقيصة فيه إلا برضا المالك، ويكفي فيه الرضا المتأخر.

س27: بعض الهواتف تصدر أصواتاً موسيقية عند الاتصال بها، فهل يجوز بيعها وشرائها؟.

بسمه تعالى: إذا كان إطلاقها للأصوات الموسيقية ذاتياً بمجرد الاستعمال، كرفع السماعة من دون الضغط على زر معين ونحوه، وكان اللحن الذي تطلقه مشابهاً لألحان أهل الفسق والعصيان، فلا يجوز ترويجها بيعاً وشراءً واستعمالاً، وقد تحدثنا في مناسبات سابقة عن هذه (العبودية) والانصياع والانسياق وراء كل جديد من دون عرضه على الحوزة الشريفة أولاً.

س28: بعض الناس ممن يوصل أخباراً سيئة لبعض العوائل (إما مزاحاً أو عمداً) كموت ابنهم أو أبيهم أو غيرها من الأمور مما قد يؤدي إلى

ص: 521

موت الأم أو الأب عند سماع الخبر، فهل على المتصل ضمان الدية؟.بسمه تعالى: إذا كان الإخبار هو السبب فعليه ضمان الدية، وقد نهى الشارع عن الكذب في الهزل، وعبر عن هذا الكذب بأنه (ويلٌ له)، وويل وادٍ سحيق في جهنم، لا يصل إليه من يلقى فيه إلا بعد سبعين عاماً.

ظاهرة مزاح الباعة مع النساء

بسم الله الرحمن الرحيم

سماحة حجة الإسلام والمسلمين جناب الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

هناك ظاهرة مؤسفة تحصل عند أغلب الباعة الذين يتعاملون مع النساء هي كثرة المزاح والضحك معهن بل يصل في بعض الأحيان خاصة في محلات الأزياء أن تدخل المرأة إلى المنزع بمفردها لترتدي الملابس الجديدة وكون صاحب المحل بمفرده أو ما يحصل عند محلات الصاغة من أنه يقوم بمسك يدها من أجل مساعدتها في لبس الذهب ويدعون إنهم إذا لم يقوموا بالضحك والمزاح فإن النساء لا ترجع للشراء من هذا المحل (ونحن على باب الله) بل يصل الأمر في بعض الأحيان إلى الغزل مع النساء كان يقول لها ان الذهب أصبح جميلا عندما ترتدينه أو أصبحت عروسة حين لبست هذه الملابس، نريد من سماحتكم نصيحة إلى هؤلاء جزاكم الله خير جزاء المحسنين.

بسمه تعالى: ممارسة هذه التصرفات يفتح باباً واسعا للشيطان بل هي أفعال شيطانية فعلا وإن غلفها أولياؤه بعناوين يظنونها مقبولة كجلب الرزق وتكثير

ص: 522

الزبائن وغيرها رغم أن الرازق هو الله تبارك وتعالى فلا يمكن أن يجعل رزقه الحلال في الأمور التي منع منها.وقد شدد القرآن في مسألة اختلاط الجنسين والتعامل غير الشريف بينهما فنهى النساء على ترقيق الصوت وجعله مثيرا فقال تعالى [فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ](الأحزاب:32)، وأمر النساء بالحجاب والستر وإخفاء أجسادهن وما عليها من زينة [وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُن …] (النور:31)، وأمر الطرفين بغض البصر وعدم اختلاس النظرات وملء العين من النظر إلى الجنس الآخر [قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ] (النور:30)، [وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ] (النور:31).

كل هذه الاحتياطات وأزيد منها مما ورد في الأحاديث الشريف اتخذها الشارع المقدس لسد منافذ الشيطان الذي يعترف بأن اقوي سلاح بيده هو سلاح الشهوة الجنسية فمن أراد لنفسه راحة البال والسعادة في الدارين: الدنيا والآخرة فليلتزم بهذه التعاليم الإلهية الشريفة وعصيان نفسه فإن اتباع الشهوات وان كان يبدو لأول مرة لذيذاً وموافقاً للنفس إلا أنه يورث النكد والشقاء والتعاسة فيما بعد ولا ينبغي لعاقل أن يضيع حياته الباقية الخالدة بلذة فانية زائلة فكم من لذة أورثت حسرة وندامة دائمة فالمؤمن الحقيقي من ملك زمام نفسه ولا يترك لها حبلها على غاربها فإنها كالدابة الصعبة إن لم يمسك بها راكبها أقحمته في المهالك.

وأمام كل هذا لا يجوز التذرع بمبررات واهية فإنما هي من نزغات الشيطان

ص: 523

يلقيها في روع الإنسان ليغريه بفعل المعصية ومقارفة الذنوب ومن ثم يضحك عليه ويستهزئ به ويتبرأ منه [وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أعمالهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ] (الأنفال:48)، فهذا هو الشيطان الذي وهب له الخلود في هذه الدنيا وأعطي سلطة على البشر يسري في عروقهم كالدم لما علم بالحقيقة رجع وخاف الله لان الله شديد العقاب أي انه لم يجد ما أعطاه الله ثمناً لمعصية الله فكيف ارتضى هؤلاء معصية جبار السموات والأرض بثمن بخس هو ضحكة من هذه أو دينار زائد يحصل عليه؟ وهل جرب أن الالتزام بالشريعة يحرمه من الرزق حتى لجأ إلى التوسل بالمعاصي والذنوب؟ أجد في هذه الكلمات الصادقة المطعمة بالآيات المباركة لتذكر إخواني المؤمنين حتى يجتنبوا هذه المخالفات الشرعية ولا يسمحون بوقوعها في المجتمع، وإلا فإن النتيجة الدمار للجميع؛ فإن المجتمع البشري شبّهه رسول لله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالسفينة فلا يحق لأحد أن يقول هذه خشبتي أستطيع أن أقلعها؛ لأن السفينة كلها تغرق وكذلك المجتمع البشري فإن أي أحد منه إذا فعل فاحشة ولم يستنكرها الآخرون ويعملوا على إزالتها كان ذلك سببا لاستشراء الداء والانحراف في المجتمع كله فيضيع الجميع والعياذ بالله.

أسال الله رضاه لنا جميعا وان يجنبنا معصيته إنه ولي النعم.

ص: 524

تصرفات منحرفة في معاملات السوق

بسمه تعالى: حث الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أصحابهم على التفقه في دينهم لكثرة التفاصيل التي يواجهونها في أعمالهم، فمن دون التفقه يتورط الإنسان في المخالفات الشرعية شاء أم أبى، وقد لا يشعر بذلك لغفلته وأُنسه لما يحصل عليه من مال، ويوم يحشر الناس للحساب وتعرض أعمالهم أمام الملأ يعض هؤلاء على أصابع الندم ولا ينفعهم ذلك حيث ذهبت لذة ما أفنوا أعمارهم من اجله وبقيت تبعته ومسؤوليته وعقوبته.

روى الشيخ المفيد عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: (من أراد التجارة فليتفقه في دينه ليعلم بذلك ما يحل له مما يحرم عليه، ومن لم يتفقه في دينه ثم اتجر تورط الشبهات)(1) وقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (التاجر فاجر والفاجر في النار إلا من أخذ الحق وأعطى الحق)(2) وكان أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يطوف في أسواق الكوفة يعظ التجار وأصحاب الحرف ويعلمهم الأحكام ويهدد المخالفين وهو يقول:

تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها

من الحرام ويبقى الإثم والعارُ

تبقى عواقب سوء في مغبتها

لا خير في لذةٍ من بعدها النارُ

ص: 525


1- ميزان الحكمة:1/ 325.
2- المصدر السابق:328.

وقال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من اتجر بغير علم ارتطم مع الربا ثم ارتطم)(1). ونحن ذاكرون هنا بعض المخالفات التي تحصل في السوق بسبب عدم تفقه المتعاملين فيه عسى أن يدفعهم ذلك إلى تصحيح معاملاتهم والسعي الحثيث في طاعة الله تبارك وتعالى ونحيل التفاصيل إلى كتاب –فقه السوق-:

1- اشتهر بين الناس أن البيع بسعرين باطل، فإذا عين البائع للمبيع سعراً نقدا وآخر أزيد منه مؤجلاً أو بالأقساط فالبيع باطل وقد ظنوا أن ذلك البطلان بسبب أخذ هذه الزيادة على الثمن النقدي؛ لذلك فإنهم يتوهمون بطلان كل معاملة بسعرين مختلفين، وهذا الفهم ليس بصحيح فإن بطلان المعاملة من جهة الجهالة الحاصلة من الترديد بين السعرين، لذلك لو حسم المتبايعان المعاملة على أحد الشكلين إما النقدي أو المؤجل فإن المعاملة صحيحة وليست هذه الزيادة من الربا؛ لأنها لم تأخذ على المال وإنما أخذت على المبيع، وإن الزيادة في السعر في البيع المؤجل مشروع لأنه كما قالوا (لأجل قسط من الثمن).

2- يكثر بين أهل السوق محاولة حلب أموال الطرف الآخر بأقصى ما يمكن، فالحاجة التي تستحق (100) يسومها ب_(500) ليستغفل المشتري ويعدونه شطارة وذكاءً ويستهزئون بالذي لا يفعل ذلك، وهذا مما يؤسف له، فإن هذا غبن، وغبن المسلم حرام ومعنى الغبن هو أخذ زيادة على السعر لا يتسامح بها العرف ولا يرضى بدفعها لو علم بالحال وهم إذ لم يلتزموا بالأدب الشرعي الذي يكره الرب -أي رب– على المؤمنين فلا يقعوا في

ص: 526


1- الكافي:5/ 154.

الحرام على الأقل ولا يسمحوا للعرف الشيطاني أن يضغط عليهم ويدفعهم إلى مخالفة الشرع فإن المؤمن القوي لا يستفزه شيء وقد ورد في وصف المؤمن أنه (لا يدخله رضاه في باطل ولا يخرجه غضبه عن حق)(1) وحديث آخر (إن أشجع الناس من ملك زمام نفسه)(2).3- ومما غفل عنه الناس ما يسمى فقهيا ب_(شركة الأبدان) وهي معاملة باطلة لكن العرف يلتزم بها والمقصود بهذا العنوان أن يتفق شخصان على أن يدخلا عملاً سوية وحين ينجزانه يتقاسمان أجور العمل كما لو اتفق اثنان من الحلاقين أو الصباغين أو البنائين وهذا اتفاق غير ملزم ولا يجب عليهما أن يلتزما بالاتفاق، ولهما أن يعيدا احتساب العمل المنجز ونوعه ويأخذ كل منهما أجراً بنسبة العمل المنجز وليس لمن أنجز عملاً أقل أن يطالب بأجر مساوٍ لمن أنجز أكثر إلا مع رضا الطرف الآخر فلو أراد هذا ان يتمسك بحقه فليس للآخر مطالبته بمقتضى الاتفاق في المعاملة.

4- شخص يأتي إلى صاحب محل ليشتري منه حاجة معينة وهي غير موجودة عنده فيأتي بها من محل آخر فهل له أن يعطيها له بسعر آخر أزيد مما عينه البائع الآخر؟ هنا مادام البائع المباشر بمثابة الوكيل عن المشتري فليس له ان يفرض سعراً جديداً وإنما يبلغه بنفس ذلك السعر، نعم للبائع المباشر أن يأخذ من المشتري عمولة على التوسط بعملية البيع بحسب ما يحدده عرف أهل السوق.

ص: 527


1- الاختصاص:233.
2- بحار الأنوار: 67/ 76 بالمعنى نفسه.

أما إذا كان البائع المباشر يشتريها لنفسه ثم يبيعها فله ان يبيعها بما يشاء والفارق بين العمليتين أنه لو أعرض المشتري عن الشراء بعدما جلب البائع هذه الحاجة فليس له ذلك في الصورة الأولى بينما يجوز له ذلك في الصورة الثانية ولا يحق لصاحب المحل إلزام المشتري بالشراء لأنه لم يشترها له بل لنفسه.5- وجود الغش بكثرة في السوق وهذا واقع مؤسف في بلاد المسلمين، مثلاً ينتج قناني بيبسي منزلي ويضع له غطاء إنتاج الشركة، أو يخلط الماء بالحليب أو ينتزع المواد الدهنية من الحليب الخالص ويبيعه على أنه بدهنه، أو يبدل الغلاف الورقي الداخلي السميك بسكائر سومر فيضع بدلا عنه الورق الخفيف لرغبة المشتري فيه،

فأي معاملة توهم المشتري بشيء على خلاف الواقع هي من الغش المحرم وهذا العمل إضافة إلى حرمته حتى اشتهر بين الناس (من غشنا ليس منا) فإن له مردودات سلبية في المجتمع من حيث فقدان الثقة بالباعة وحصول المشاكل والخصومات بعد ظهور الغش، مما يقلل من الرغبة في لإجراء المعاملات التجاري ويضر بالتالي بالوضع الاقتصادي للسوق.

6- الخمس فريضة واجبة من فرائض الله تبارك وتعالى كوجوب الصلاة والصوم وتاركها يكون ممن حبس حقوق الله وهو من الكبائر ويكون مانعها مشمولا بقوله تعالى [وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ](التوبة: 34)، ومشمولا بالحديث الشريف (من منع درهم زكاة -بمعناها العام الشامل للخمس ولكل إنفاق في سبيل الله– سلط الله عليه شجاعاً –وهو الأفعى العظيمة- يلدغه)، وهذا الحكم له

ص: 528

جهتان الأولى الوجوب الملقى على كل أحد بان يراجع العلماء أو وكلائهم لحساب ما بذمتهم من خمس وإجراء المصالحة معهم.الثانية: كيفية التعامل مع غير المخمسين وهم كثيرون في السوق فإن هذا التعامل ممنوع ما لم يأذن الحاكم الشرعي به لتعلق حق الله تعالى به فيكون المتصرف بأموال غير مخمسة متصرفاً بحق غيره وهم مستحقو الخمس ويكون غصبا محرماً، ونحن نقول هنا يؤذن بالتعامل مع غير المخمسين؛ لأن اجتنابهم يوجب الحرج وتعطيل الحياة الاقتصادية ولكن بالشروط التالية:

أ- أن يكون الشخص المتعامل معهم أي الذي نأذن له ممن له رأس سنة خمسية.

ب- أن يكون كسب الطرف الآخر (غير المخمس) حلالاً بغض النظر عن عدم دفعه الخمس.

ج_- إن كانت المعاملة على نحو المعاوضة كالبيع والشراء والاقتراض والإقراض والإجارة فليس عليه خمس فوري، وإن كانت المعاملة على نحو المحاباة كالهدية والمساعدة فيخمس المال الواصل إليه فوراً.

7- يوجد أناس لهم كسب محرم والعياذ بالله كما لو كان يتاجر بالخمور أو من فسق الزانيات أو السرقة، فكيف يتم التعامل معهم ببيع أو شراء أو اقتراض أو أخذ الأجرة منهم مقابل عمل ينجز لهم؟

(الجواب) إن مثل هذا لا يمكن أخذ المال منه لأنه سحت يكون في بطون آكليه ناراً وماءً حميماً يقطع أمعاءهم تصهر به ما في بطونهم والجلود – حسب ما نطق القران الكريم – حتى لو أقرضهم شخص فلا يمكن استرجاع القرض

ص: 529

من هذه الأموال، أو استأجروه لعمل معين فلا يجوز أخذ الأجرة من هذا الكسب، فإما أن يكون لهم كسب آخر محلل غير هذا فيشترط عليه أن يدفع له المال من ذلك الكسب المحلل، وإن تعين كسبه من الحرام فأمواله يجب إرجاعها إلى أصحابها إن أمكن معرفتهم، وإن تعذر فتدفع إلى فقراء المؤمنين أو الحاكم الشرعي على أنها (رد مظالم)، ويمكن للشخص المتعامل معهم أن يتصالح مع الحاكم الشرعي على بعض المال بحسب الحاجة، وهذا كله من ناحية الحكم الوضعي أي حكم الأموال اما من ناحية الحكم التكليفي فيجب وعظ وإرشاد وتوجيه أهل المعاصي فإن لم ينفع فالزجر والتوبيخ ومن ثم المقاطعة بحسب المراتب لوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.8- توجد حالة سيئة في السوق وهي كثرة الحلف واليمين وغالبا ما يكون كاذبا والعياذ بالله وقد ورد كراهة الحلف بالله صادقا لأنه خلاف توقير وتعظيم لفظ الجلالة أما الحلف بالله كاذباً فهو من الكبائر وتسمى (اليمين الغموس) لأنها تغمس صاحبها في نار جهنم وكثيراً ما يحلف البائع على أمر ثم يكذب نفسه بنفسه فلماذا هذه السخرية بالأسماء الحسنى والقرآن يقول: [وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ] (البقرة:224).

إن الذين يلجأون إلى الحلف هم غالبا أناس ليسوا صادقين مع أنفسهم فيعكسون هذا الباطن على الخارج في تعاملهم مع الناس، أما الإنسان المؤمن الصادق مع نفسه فلا يحتاج إلى الحلف بل يقول كلامه بثقة وبحزم فإن شاء الطرف الآخر أن يصدقه أو لا فالأمر إليه.

وقد وردت آثار سيئة للحلف في السوق منها أنها تمحق البركة وهذا ما

ص: 530

نلمسه عملياً وجربناه في حياتنا المعاصرة من معايشتنا لأهل هذا العمل، فلكي تعود البركة لا بد من إلغاء هذه الصفقة المذمومة.9- اعتاد بعض الباعة أن يذكر سعر شرائه للحاجة ليقنع المشتري أنه لم يأخذ كثيراً من الربح فيقول له: إنها عليَّ بكذا، ولا بأس بذلك لكنه لا يعلم أنه إذا كان إخباره غير صحيح عن سعر الشراء فإن البيع باطل ولا بحق له أخذ الفرق الذي أخفاه، فإما أن لا يذكر السعر الذي اشتراه به أصلاً وإنما فقط يخبر المشتري عن السعر الذي يطلبه كثمن للحاجة أو يخبر صادقاً ويحمله الربح الذي يريده.

10- بعض الباعة يرى أن من ضرورة العمل ولكسب الزبائن وتوسيع الرزق ملاطفة النساء وإلقاء الكلمات الجذابة إليهن والضحك معهن وهذا شيء محرم وممنوع والرزق بيد الله ولا يجوز تحصيله بالوسائل المحرمة وقد عالجنا هذا الموضوع باستفتاء مستقل فراجعه، وإن بعض النساء تصبح (معميلات) لهذا البائع، فيرى الطرفان أن بينهما نوعاً من المودة والتقارب تسوغ لهما ما لا يسوغ لغيرهما من التصرفات التي هي محرمة للجميع، وقد طرحت تفاصيل نافعة في كتاب (رفقاً بالرجال يا قوارير) فراجعه.

11- يمنع التعامل مع المتبرجات بشكل زائد عن المتعارف بحيث أن التعامل معهن يؤدي إلى إثارة الشهوة والفتنة والنظرات المريبة، ويتأكد المنع في بيع الأمور التي تدخل في فسقهن كأدوات التجميل والملابس المثيرة.

والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ص: 531

المقاهي

س1: ما هو منشأ المقاهي في البلدان الإسلامية؟ وهل لها منشأ استعماري؟

بسمه تعالى: بالتأكيد إن منشأ المقاهي وسائر ما يصد عن ذكر الله سبحانه شياطين الجن والإنس فلسان حالهم جميعا [لأَقعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُستَقِيمَ] (الأعراف:16)؛ ليصدوهم عن الهدى، وقد قيل تأريخياً إن أول من أدخل فكرة المقاهي وطبقها في بلاد المسلمين هو الاستعمار الفرنسي في مصر ليجعله بدلاً عن الجلوس في المساجد والمجالس المفيدة.

س2: ما حكم كسب أصحاب المقاهي الذين يضعون أدوات القمار (الدومنة والطاولي وغيرها) أمام الزبائن للعب؟

بسمه تعالى: هذا الكسب من السحت الذي يملأ بطون آكليه ناراً وسيصلون سعيراً.

س3: هناك مقاهي لا توجد فيها آلات اللهو ما حكمها؟

بسمه تعالى: لا أقل من أن الجلوس فيها لهو باطل يصد عن ذكر الله ولا يليق بالمؤمن أن يتواجد بها، نعم لو اتخذت المقهى منتدى أدبياً أو علمياً كانت محلاً للحوار الهادئ النافع وكانت خالية من المحرمات فلا بأس.

س4: ارتياد الشباب للمقاهي الموجود فيها آلات القمار وقضاء الأوقات الطويلة فيها بلا منفعة عقلائية، فما هي النصيحة لهم؟

بسمه تعالى: إنها من أساليب الشيطان ليصدهم عما ينفعهم في الدنيا

ص: 532

والآخرة وقد قالوا إن رأس مال كل إنسان عمره الشريف فإذا ضيعه وصرفه بلا فائدة فسيكون حسرة عليه فليستغله بما روي أن للمؤمن ثلاث ساعات (سعي في معاش أو طاعة مفترضة أو لذة محللة).س5: اعتاد بعض وجهاء المنطقة ككبار السن وشيوخ العشائر ارتياد المقاهي، فهل هي مناسبة لهم دينياً واجتماعياً؟ وما هي النصيحة لهم؟

بسمه تعالى: لا يليق بالمؤمن ذلك خصوصا الكبير في السن والوجيه اجتماعياً لأنه قدوة المجتمع وأي تصرف منه ينعكس على كثيرين فإن كان حسناً شاركهم في الثواب، أو سيئاً فسيشاركهم في العقاب ثم إن كبير السن ينبغي أن يهتم بآخرته أزيد لقربه من الموت.

س6: هل يجوز بيع السكر والشاي وغيرها لأصحاب هذه المقاهي التي تتعامل بأدوات القمار؟

بسمه تعالى: إذا كان في ذلك تشجيع على الإثم والعدوان والمعصية فيحرم.

س7: البعض يدعي انه لا يلعب بأدوات القمار في المقهى ولكن يجلس فقط معهم للمشاهدة وقضاء الوقت ولتسجيل علامات اللعب؟

بسمه تعالى: جاء في الحديث ما مضمونه من رضي بعمل قوم شاركهم فيه وحشر معهم إضافة إلى المعاصي الأخرى التي يتضمنها الجلوس في المقاهي.

س8: هل يجوز الاشتراط على الخاسر أن يقوم بشراء الحلويات أو مشروبات غازية وإعطاؤها للفائز أو الجالسين معهم. وهل يجوز تناول هذه الأطعمة والمشروبات؟

ص: 533

بسمه تعالى: هذا العمل باطل وحرام من أصله فضلا عن أن يصحبه مثل هذه المراهنات.س9: ما حكم البعض الذي يذهب إلى المقاهي لمجرد احتساء الشاي علما بأنه يمكن أن يحتسي الشاي في بيته أو مكان آخر غير المقهى؟

بسمه تعالى: إن الجلوس في المقاهي يورط صاحبه في معاصي عديدة لا يمكن تجنبها (منها) الخوض في الأحاديث الفارغة والمحرمة لما فيها من غيبة وكذب ونفاق ومراء وبهتان وغيرها مما يعرفها أهل المقاهي (ومنها) استماع الغناء والموسيقى ورؤية بعض البرامج والأفلام المنحطة في التلفزيون وكذا مصاحبة أهل الفسوق والعصيان وقد جاء في القصص المروية عن المسيح (ع) أن مجاورة المعصية دون اقتحامها كالنار في البيت فإن لم يحترق بها فلا أقل من أن تسخم الجدران بالدخان، والمعصية نار كما تعلم وآثارها السلبية من قساوة القلب وظلمته تؤثر على الجالس مع فاعلها وان لم يفعلها كما جاء في قوله تعالى: [وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً] (النساء:140).

س10: ما حكم من يرتاد المقاهي التي يقوم أصحابها بفتح الأغاني أو عرض البرامج الخليعة على الزبائن؟

بسمه تعالى: قد علمت حرمة ذلك وشناعته شرعاً من عدة جهات أولها حرمته في نفسه وثانيها أنه إشاعة الفاحشة وقد قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ

ص: 534

وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ] (النور:19).س11: ما حكم المسافر الذي يأتي إلى هذه المقاهي بقصد الراحة أو شرب الشاي مع وجود المحرمات المذكورة؟

بسمه تعالى: توجد أماكن للراحة غير هذه وليس فيها محرمات.

س12: البعض من الشباب يقول إن سبب ذهابي إلى المقهى هو لأجل إجراء النقاشات الدينية وإصلاح المجتمع، فما رأي الشارع المقدس في إجراء مثل هذه النقاشات في مثل هذه الأماكن وهل فيه إعانة على الإثم؟

بسمه تعالى: إن كانت هذه المقاهي مخصصة لهذه الحوارات فلا بأس بارتيادها بل قد يجب إذا ترتب عليه مصلحة دينية، أما إن كانت المقاهي مملوءة بالمحرمات فمن خطل القول وتسويل الشيطان أن يناقش فيها أمر ديني (لا يطاع الله من حيث يعصى).

س13: ما حكم من يريد أن يقوم بمشروع فتح مقهى للاسترباح بحجة عدم وجود مشروع تجاري آخر أو أن المشاريع الأخرى أقل ربحاً وفيها قد يتعرض للخسارة أما المقهى فبحسب ادعائهم لا خسارة فيه؟

بسمه تعالى: الربح المادي ليس مبرراً لارتكاب المحرمات ولو جاز ذلك لأمكن فتح الملاهي وحانات الخمور وبيع لحوم الخنازير، لا خير في شيء وراءه النار ولا شر في شيء وراءه الجنة.

س14: هل إن مقاطعة أصحاب المقاهي ومرتاديها أمر راجح شرعاً نصرا

ص: 535

للدين والمذهب من باب عدم الإعانة على الإثم وذلك بعدم السلام عليهم أو عدم البيع لهم وما شاكل ذلك مما يصدق عليه مقاطعة؟بسمه تعالى: ينبغي اتباع مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الترتيب فأولها الموعظة الحسنة ثم الزجر والتوبيخ فالمقاطعة.

س15: قد يوجد بعض أفراد العائلة الواحدة أو بعض الأصدقاء المقربين ممن يرتاد مثل هذه المقاهي كيف يمكن التعامل معهم؟ وفي حالة امتناعهم هل تجب مقاطعتهم؟

بسمه تعالى: لا فرق فيما ذكرناه بين الأقرباء وغيرهم فهو حكم عام.

س16: هل يجوز لشخص أن يعمل كعامل أو صانع عند صاحب المقهى حيث يقوم بتوزيع أدوات اللعب القمارية على المناضد المعدة للعب أو يقوم بتوزيع المشروبات التي تقع على الخاسر في عملية المراهنة؟ وما حكم الأجرة التي يتقاضاها العامل؟ وهل يجوز صرفها في الموارد الشرعية كالزيارات ودفع الحقوق الشرعية؟

بسمه تعالى: هذا العمل محرم والأجرة المأخوذة عليه سحت ويجب دفعها رد مظالم إن لم يعرف أصحابها وليست ملكا له حتى يصرفها كما يشاء.

س17: شخص يمتلك محل هل يجوز له أن يؤجره أو يبيعه إلى شخص آخر مع علمه بأن الثاني سيقوم بجعله مقهى ترتكب فيها المحرمات المذكورة؟

بسمه تعالى: هذه الإجارة محرمة والأجرة المأخوذة سحت ويكون المالك

ص: 536

شريكاً مع المستأجر في الإثم والعدوان.س18: ما حكم مبلغ الإيجار الذي يتقاضاه مالك المحل من المستأجر الذي جعل ذلك المحل مقهى واضعا فيه آلات اللهو والقمار؟ وما حكم المبلغ إذا كان المستأجر لا يضع آلات اللهو والقمار؟

بسمه تعالى: إذا خلت المقهى من المحرمات فلا بأس بتأجيرها وأخذ الأجرة عليها، وإذا تعين كسب صاحب المقهى من الحرام فلا تبرأ ذمته من بدل الإيجار إذا دفعه من مال الحرام وعلى المالك أن يدفع المال الواصل إليه من ذلك الكسب على أنه (رد مظالم).

س19: هل يجوز إصلاح بعض أدوات اللهو المستعملة في المقهى كالفديو والتلفزيون والأتاري والطاولي وغيرها؟ وما حكم الأجرة المأخوذة على تصليحها؟

بسمه تعالى: لا يجوز إصلاح أدوات اللهو والقمار كما لا يجوز بيعها وشراؤها والأجرة المأخوذة على إصلاحها حرام.

س20: هل يجب على مالك المحل إخراج المستأجر الذي جعل مجله مقهى ترتكب فيه تلك المحرمات؟

بسمه تعالى: يجب عليه ذلك ما دام ممكناً.

س21: هل يجوز بناء محلات لغرض جعلها مقاهي تستعمل فيها آلات اللهو والقمار؟

بسمه تعالى: يحرم عليه البناء بهذا القصد، ويحل بتغيير القصد.

ص: 537

س22: هل يجوز لأصحاب الحرف كالبناء والحداد والنجار والكهربائي وغيرهم العمل في تشييد وبناء مقاهي تستعمل فيها أدوات اللهو والقمار؟ وما حكم أجرتها؟بسمه تعالى: إذا علم البناؤون إن هذا المبنى سيشغل لعمل محرم فلا تجوز المشاركة فيه وأخذ الأجرة حرام.

س23: مع دخول وقت الصلاة هل يجوز لشخص أن يصلي في هكذا أماكن؟

بسمه تعالى: إذا كان المكان مباحاً وأذن صاحبه بالصلاة فيه ولم يكن هناك ما ذكر من مكروهات الصلاة ومنافياتها فلا بأس بالصلاة فيه.

س24: بعض المساجد توجد فيها محلات تابعة قسم منها مؤجر كمقاهي ترتكب فيها المحرمات المذكورة فما حكم هذه المحلات؟ وما هي مسؤولية متولي المسجد؟

بسمه تعالى: تغلق هذه المقاهي وتؤجر المحلات لعمل محلل آخر.

س25: هل يجوز لأصحاب الحرف تصليح أو ترميم المقاهي التي ترتكب فيها المحرمات؟

بسمه تعالى: اتضح جوابه في ما تقدم.

س26: هل من الواجب تحريض الناس على عدم ارتياد هكذا مقاهي؟

بسمه تعالى: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان على كل مسلم ومسلمة.

ص: 538

س27: بعض المصلين يرتادون المقاهي ويلعبون بآلات اللهو والقمار فيقولون نلعب ونصلي وان لعبي لا يتنافى مع قبول الصلاة، فماذا يقول لهم الشارع المقدس؟بسمه تعالى: هذا سوء فهم منهم للشريعة المقدسة، ألم يقرأوا قوله تعالى: [إنَّمَا يَتَقَبَلُ اللهُ مِن المتَّقِينَ] (المائدة:27) وهل الذي يمارس المحرمات من المتقين حتى يتقبل عمله.

س28: ما حكم من يذهب إلى المقاهي التي لا تضع آلات القمار؟ وبماذا تنصحونهم؟ علما أن هذه المقاهي يحصل فيها غيبة وبهتان وكذب وافتراء على رجل الدين.

بسمه تعالى: قال تعالى:[وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً] (النساء:140).

س29: ما حكم بيع أدوات القمار كالدومنة والطاولي في الأسواق؟

بسمه تعالى:البيع باطل والثمن حرام والبائع والمشتري آثمان.

س30: ما حكم ما يسمى بلعبة (المحيبس) وخاصة لعبها في شهر رمضان بعد الإفطار من قبل من كانوا صائمين نهاراً؟ وما حكم من يحضر للتشجيع والمشاهدة؟

بسمه تعالى: (المحيبس) بدعة منحرفة ويزيدها ضلالا ورواجا في ليالي شهر رمضان التي ينبغي أكيداً تكريسها لطاعة الله سبحانه وتعالى ونيل رضاه.

ص: 539

س31: ما حكم أموال صاحب المقهى علما أن قسماً منها يأتي من شرب المشروبات فقط وقسم منها يأتي من استعمال الزبائن لآلات اللهو والقمار؟ وهل يجوز صرفه في أداء الحقوق الشرعية أو صرفه في وجوه البر الأخرى كالزيارات والنذور الشرعية والصدقات وغيرها؟بسمه تعالى: هذه الازدواجية نفاق مرفوض من قبل الشارع فعليه أن يتوب ويقلع عن المكاسب المحرمة ثم يحلل أمواله ومن ثم يبدأ بدفع الخمس والنذور والصدقات وغيرها.

س32: هل يجوز لعب الأتاري مجانا في المحلات العامة أو داخل البيوت؟

بسمه تعالى: يمكن استعمال الأتاري لأجل التسلية والترويح عن النفس.

س33: هل يجوز شراء جهاز الأتاري للاستعمال الخاص في البيت لأجل التسلية واللهو؟ وهل يجوز تأجيره لنفس الغرض؟ أو استئجاره؟

بسمه تعالى: ذكر جوابه في الأسئلة المتقدمة، وملخصه أن الغرض من الاستعمال إذا كان عقلائياً كالترويح عن النفس جاز شراؤه وإجارته وان لم يكن كذلك كما لو كان لمجرد اللهو فضلاً عما لو رافقه رهن لم يجز.

س34: هل يجوز استئجار الأقراص المعدة للعب بجهاز الأتاري واللعب بها في البيت؟

بسمه تعالى: لا بأس به في حدود ما ذكرناه في السؤال 32.

س37: لقد اعتاد الناس ارتياد المقاهي والنوادي فإذا ألغيناها من حياتهم

ص: 540

فما هو البديل؟بسمه تعالى: إن من التفكير السليم توفير البديل الصالح عندما نحاول أن نصلح شيئا فاسدا والخطوة الأولى في الإصلاح أن نعي الفساد والانحراف والخلل ليتولد عندنا الشعور بالحاجة إلى التغيير والشعور بالمسؤولية تجاه الإصلاح وقد تكفلت الأسئلة السابقة مع أجوبتها لبيان ذلك، والمقاهي وإن كانت سيئة في نفسها إلا أنها ليست أسوأ مما اعتاد عليه آخرون من قضاء أوقاتهم في (النوادي الاجتماعية) فضلا عن الملاهي وأمثالها، وأقل ما يقال فيها جميعاً -إذا خلت من المحرمات- إنها مجالس بطالين توجب عدم التفات الله جلت آلاؤه إلى من يألفها بالرحمة كما في دعاء أبي حمزة الثمالي عن الإمام السجاد (علیه السلام): ((ولعلك رأيتني آلف مجالس البطالين فبيني وبينهم خليتني)).

ثم إن الوقت ثمين ونسمع كيف أن الدول المتقدمة تحاول استثماره بأقصى ما يمكن فإن أمام الإنسان شوطاً كبيراً لا مجال معه للبطالة والتسكع هذا في الدنيا أما في الآخرة فإنه يوم التغابن -راجع سورة التغابن- حيث يعض المؤمن على يديه لأجل دقيقة من عمره ضيعها دون أن يستفيد بها كمالاً ليرتقي عند الله درجات وهو ينظر إلى ما متع به غيره فما حال الفاسق إذن الذي قضى وقته بما يكون وبالاً عليه.

فالبديل الصالح هو قضاء الوقت بكل ما ينفع في الدين والدنيا من زيارة الإخوان وتبادل الأحاديث النافعة معهم والالتقاء بالعلماء وكل من يقرب إلى الله سبحانه وحضور المناسبات الدينية ومجالس ذكر أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وعقد الحوارات العلمية النافعة وقراءة الكتب والجلوس في المساجد حيث ينبغي أن

ص: 541

يكون المؤمن أول داخل وآخر خارج ففي الحديث عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من اختلف إلى المساجد أصاب إحدى الثمان: أخاً مستفاداً في الله أو علما مستظرفا أو آية محكمة أو رحمة منتظرة أو كلمة ترده عن ردى أو يسمع كلمة تدله على هدى أو يترك ذنبا خشية أو حياءً) وإذا أراد أن يروح عن نفسه من مشاق الحياة فليباشر اللذائذ والمتع المحللة.

الفيديو سي دي

كثرت -في الآونة الأخيرة- محلات بيع وإجارة كاسيتات الفيديو أو الأقراص الليزرية ال_(CD) ولو نظرنا بتمعن لوجدنا الكثير منها تروج وتجهز أفلام أهل الفسق والعصيان والكفر والزندقة فهنا مجموعة من الأسئلة:

س1: هل يجوز شرعاً إنشاء وفتح محلات لهذا الغرض أعلاه؟

بسمه تعالى: التكسب بمثل هذه الأعمال المذكورة في السؤال محرم وأخذ الأجرة عليها حرام لما فيه من نشر الفساد وهتك للحرمات وانتهاك للمقدسات.

س2: البعض يدعي انه لا يستطيع أن يجد عملاً مناسباً له غير هذا العمل فهل تكفي هذه الدعوى مبررا لجواز فتح هذه المحلات والعمل بها؟

بسمه تعالى: هذا من تسويلات الشيطان، وما أشبهها بدعوى الجاهلية الذين كانوا يقتلون أولادهم خشية إملاق فوعدهم الله سبحانه نحن نرزقكم وإياهم إن قتلهم كان خطأً كبيراً، فهؤلاء يقتلون الدين والأخلاق والغيرة ويخربون البناء الاجتماعي مدعين الفقر إن لم يقوموا بهذه الأعمال، فعليهم أن يثقوا بوعد الله سبحانه، وحاشاه تعالى أن يخلق الخلق ويتخلى عن رزقه ويجعل رزقه في

ص: 542

معصيته، بل إن جريمة هؤلاء أشنع من أولئك الجاهليين فقد كان أولئك يقتلون الأولاد وهؤلاء يفتنون الناس عن دينهم وقد قال تعالى: [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ] (البقرة:191) ، [فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] (النور:63). فلتكن ثقتهم وحسن ظنهم بالله تعالى كبيراً فإن الله عند حسن ظن عبده كما في الحديث، وليحاولوا مهما واجهتهم المصاعب، فقد يكون طريق الحرام سهلاً وسريعاً إلا أن عاقبته وخيمة ولسنا فقط خلقنا لهذه الدنيا فإنها مرحلة زائلة وإنما خلقنا للآخرة فيجب أن نفكر فيها كما نفكر في الدنيا ونوازن تصرفاتنا.

س3: هل يجوز بيع أو شراء أو إجارة هذه الأفلام والأقراص؟

بسمه تعالى: لا يجوز بيعها ولا شراؤها ولا تأجيرها.

س4: هل يجوز التعامل مع من يعمل بهذا العمل لغرض أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر؟

بسمه تعالى: عاملوه بالأسلوب المناسب لإصلاحه فقد يكون بالعلاقات الودية والرفق به وقد يكون بزجره وتوبيخه وقد يكون بمقاطعته ولا بد من توجيهه وإرشاده بالحكمة والموعظة الحسنة وبيان النتائج السيئة لعمله هذا.

س5: ما هي حدود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي يجب اتباعها مع هؤلاء؟

بسمه تعالى: اتضح مما تقدم بعض الأساليب وأولها التوعية وإلفات النظر لمساوئ هذا العمل الذي يعملونه ثم المراتب الأخرى بحسب التدريج وهي

ص: 543

التي ذكرناها في الجواب السابق وذكرها الفقهاء في رسائلهم العملية في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.س6: البعض يدعي انه يشاهد هذه الأفلام من باب الترويح عن النفس فماذا تقولون له؟

بسمه تعالى: الترويح عن النفس غرض عقلائي لكن لا يجوز أن يكون بأساليب محرمة فإن الغاية لا تبرر الوسيلة فليروح عن نفسه بأمور محللة كمفاكهة الإخوان والسفر والزيارة والتنزه.

س7: في حالة عطل هذه الأجهزة هل يجوز تصليحها والإعانة عليها؟

بسمه تعالى: إذا علم المصلح أنه يستخدمها لأغراض محرمة فلا يجوز له إصلاحها فيكون معيناً له على فسقه وفساده وشريكاً له في عمله المحرم.

س8: ما حكم أموال صاحب المحل الذي يعمل بهذا المجال بيعاً أو إجارة؟

بسمه تعالى: المنع المذكور في المسائل السابقة تكليفي وليس وضعيا أي انه موجب للإثم وقد يكون وضعياً إذا أدى هذه المعاملات بقيد كون الغرض منها محرما أو علم اطمئناناً بأن الغرض منها محرم فالنتيجة أن أمواله تكون من الحلال المخلوط بالحرام.

س9: هل يجوز إيجار المحلات من قبل الأهالي لهؤلاء الأشخاص حتى يعملوا فيها الأعمال متقدمة ذكرها؟ وان كان غير جائز فما حكم المبلغ المدفوع بدل الإيجار؟

ص: 544

بسمه تعالى: لا يجوز إيجار المحلات لهم ومن يفعل ذلك فإنه شريكهم في الإثم ولو لم يكنن يعلم فعليه إخراجه بمجرد علمه ولا يجوز أخذ الأجرة منهم وحاله كم يؤجر المساكن ليعمل فيها الخمور أو تعمل فيها الفاحشة وإيجار السيارة لنقل الخمر وكلها أمور محرمة.س10: امتلك جهاز فيديو وقد يطلب من بعض الأصدقاء إعارته له فهل: يجب علي إحراز انه يستعمله في الحلال دون الحرام؟ مع علمي انه يستعمله في الحرام أو لا أقل في الاستعمال المشترك فما هو تكليفي؟

بسمه تعالى:

أ- نعم يجب إحراز كونه يستعمله في أمور محللة خصوصا مع غلبة استعمالها في المحرم كما هو معروف ويكفي لإحراز ذلك حسن ظاهره والتزامه بالشريعة.

ب- وإذا علم انه يستعمله في الحرام فلا يجوز إعارته إليه.

س12: هل يجوز لي أن اتلف هذه الأجهزة المستعملة في الحرام مع تمكني منها وعدم علم صاحبها بذلك؟

بسمه تعالى: إذا لم يمكن ردعه عن المنكر إلا بإتلاف آلاته فيجوز إتلافها مع ضمان قيمتها له على قول وقيل بعدم الضمان لإذن الشارع في الإتلاف وهو أولى من إذن المالك الذي لا ضمان معه ولأنه محسن بهذا العمل وقد قال تعالى: [مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ] (التوبة:91)، لكن في القيام بهذا العمل -

ص: 545

أعني الإتلاف- خلل في النظام الاجتماعي فينبغي تركه، نعم لو لم يلتزم بمراتب النهي عن المنكر بأن كان يمكنه ردعه من دون إتلاف فاتلف فعليه الضمان.س13: هل يجوز اللهب أو الإيجار أو الرهن -بالأتاري- وغيره من الأجهزة الحديثة -سيكا- وغيرها؟

بسمه تعالى: يجوز اللعب بها لأجل التسلية والترويح عن النفس ويجوز استئجارها لهذا الغرض أما الرهن فحرام مطلقا بغض النظر عن شكل الجهاز المستعمل.

س14: ألا يعد اللعب بهذه الأجهزة سفها ومفوّتاً للمصالح الاجتماعية العامة؟

بسمه تعالى: إن كان اللعب للغرض المذكور أعلاه -التسلية والترويح عن النفس- فهو غرض عقلائي وإن النفس تحتاج أحيانا إلى ما يسليها ويروح عنها وإن كان لمجرد اللهو وتضييع الوقت فهو هدف غير عقلائي ومرفوض من قبل الشارع المقدس بل هو (لا هدف) واللاهدفية ممقوتة من قبل الشارع الإسلامي ومنافية للحكمة من الخلق والإيجاد وفيها تفويت لمصالح شخصية واجتماعية كثيرة.

س15: ظهر في الآونة الأخيرة جهاز (play station، بلي ستيشن) وهو عبارة عن جهاز أتاري متطور تظهر فيه العاب جديدة ويشتمل بين فترة وأخرى على مقاطع موسيقية وكذلك تظهر فيه فتاة كاشفة الشعر

ص: 546

واليدين و... فهل يجوز بيع وشراء هذه الأجهزة أو اللعب بها أو إجارتها؟بسمه تعالى: حكم هذا الجهاز حكم التلفزيون فالحكم يتبع جهة الاستعمال فغن اقتصر فيه على الجهة المحللة جاز بيعه وشراؤه واستعماله وإجارته وإلا فلا يجوز كل ذلك.

س16: توجد العاب كمبيوترية يكون مداها قتل شخص ما أو سرقة شيء ما وتظهر للفائز جوائز متدرجة عبارة عن خلع قطعة ملابس لفتاة تظهر على الشاشة في كل مرحلة علما أن هذه الأجهزة تظهر صورة قريبة جدا للواقع فما حكم ذلك شرعاً؟

بسمه تعالى: إذا كانت هذه الصورة (الصورة الكمبيوترية للفتاة) موجبة لإثارة الشهوة والفتنة فيحرم النظر إليها وإذا كان الأمر الغالب في الجهاز هو عرض مثل هذه الصور فيحرم تداوله بالبيع والشراء إلا مع إحراز عدم استعمال الطرف الآخر له إلا في الأمور المحللة.

س17: أكيداً إن للغرب الكافر اليد الطولى في تجهيز مثل هذه الأجهزة للبلاد الإسلامية فبماذا تنصحون؟

بسمه تعالى: إني لا أعجب لهذا الغرب الكافر كيف يتفنن في تخريب الأخلاق وتدمير القيم الروحية بشتى الأساليب ومختلف العناوين من الفن إلى الرياضة إلى الألعاب الكمبيوترية بقدر ما أعجب لمجتمعنا المسلم الساذج الجاهل الذي يقلد تقليدا أعمى بعقل مقفل وقلب غافل للغرب الكافر اللعين

ص: 547

والمسلمون يعلمون إن هؤلاء يريدون أن يسلبونا ديننا الذي هو عنوان عزتنا وشرفنا وكرامتنا وها هو القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه يخبرنا عنهم [وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء] (النساء:89)، وقوله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن الهدى هدى الله) فلماذا؟! لا نصغي إلى تحذير الله تعالى العليم الرحيم ونبقى في غيّنا سادرين ولأولياء الشيطان متبعين...عجباً!!

في مجالس الفاتحة والعزاء

يقوم أهل الميت -عادة- بإقامة مجالس العزاء (المسمى عرفاً الفاتحة) على روح الميت وتستمر هذه المجالس أما ثلاثة أو سبعة أيام، وهناك جملة أمور ترافق هذه المجالس وتحتاج إلى حلول شرعية وتوجيهات عامة وخاصة، لذلك نسأل ونقول:

س1: هل هناك وجه شرعي لإقامتها وهل هو مستحب أو غيره؟

بسمه تعالى: هو عمل مشروع من ناحية دينية باعتبار ما يصل من خلاله إلى الميت من ثواب كما أنه أمر راجح اجتماعيا لما فيه من تسلية لذوي الميت وإعانتهم على الصبر ويظهر فيه التآخي والتآزر واجتماع القلوب كما أن فيه عظة وعبرة يستفيد منها الأخيار، فإقامة مجلس الفاتحة نافع للميت وللأحياء من جهات عديدة.

س2: هل ينتفع الميت بهذه المجالس أو لا؟

بسمه تعالى: ورد في الحديث إن الإنسان إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث

ص: 548

ومن ضمنها ما يهدى إليه من ثواب كهذه الأعمال سواء قراءة سورة الفاتحة أو إطعام الطعام وغيرها من المستحبات الكثيرة، وإنه لينتفع بما يصل إليه من هذه الأعمال فإنه رهين محبسه في القبر كالسجين الذي ينتظر يوم المواجهة مع أهله ومحبيه ليوصلوا إليه ما ينفعه بعد أن انقطعت فرص عمله.س3: هل إقامتها في المساجد والحسينيات أفضل أم في الشوارع العامة في إيوانات خاصة؟

بسمه تعالى: إقامتها في المساجد أفضل حيث يكون ذلك سبباً لمضاعفة الثواب بشرط أن لا يصاحبها أمور منافية للشريعة المقدسة، فقد تنشأ محرمات إضافية عند إقامتها في المساجد كدخول الجنب وتنجيس المساجد وآلاته وفرشه فينبغي مراعاة الحذر أزيد أي أن إقامتها في المساجد يكون سلاحاً ذا حدين إما مضاعفة الثواب أو مضاعفة العقاب والعياذ بالله.

س4: هل يحرم نصب الإيوان في الشارع إذا كان ذلك يضر بالمارة ويمنع ويعرقل السير وحركة السيارات؟

بسمه تعالى: لا يجوز قطع طريق مرور المسلمين والتسبب في إيذائهم.

س5: يقوم أهل الميت وذووه بطبخ كميات كبيرة من الطعام وصرف أموال طائلة على مجلس العزاء وخاصة قد تكون هذه الأموال من أموال القاصرين من ورثة الميت، فما حكم عملهم هذا شرعاً؟ وبماذا توجهونهم؟ وإذا فرض ذلك فهل يجوز الأكل من هذا الطعام؟

بسمه تعالى: المعروف في الشريعة أن يطبخ الآخرون لذوي الميت باعتبار

ص: 549

انشغالهم بالمصيبة وليس العكس وقد ورد في الحديث لا وليمة إلا في خمس وليس منها حالة الوفاة، كما أنها غالبا ما تكون بكميات أكبر بكثير من الحاجة مما يؤدي إلى السرف والتبذير، وقد قال تعالى (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) وهناك محرمات أخرى ترتكب في مثل هذه الولائم:منها إنها تؤخذ من تركة الميت ولم يحرز رضا جميع الورثة بهذا الصرف وتكون الصورة أوضح كان له ورثة قاصرون فإنه لا يجوز التصرف بأموالهم إلا بإذن الولي وبشرط أن يكون فيه مصلحة للصغير وهي منتفية في هذا المورد.

ومنها الرياء وطلب السمعة والمباهاة مع الآخرين وكلها أمور مذمومة شرعاً.

ومنها أن أموال الميت قد تكون متعلقة للحقوق الشرعية كالخمس والزكاة فالإنفاق منها قبل إخراج الحق الشرعي مشكل وفيه توريط للآكلين كونهم أكلوا مالاً مغصوباً من مستحقي تلك الحقوق الشرعية. فالصحيح أنه إذا أريد نفع الميت بثواب الإطعام فلا بد أن يكون ضمن التعاليم الشرعية.

س6: يقوم الحاضرون لهذه المجالس بدفع مبالغ مالية (تسمى عرفا الفضل أو الواجب) تصرف هذه الأموال عادة على مجلس العزاء وإذا فضل ربح على المصروف يتقاسمه رجال العشيرة المهمين عرفاً وربما العشيرة فيما بينهم فهل يجوز دفع هذه الأموال من قبل الحضور؟ وما حكم تقاسم ما فضل من الأموال بين الوجهاء؟ وكيف يمكن استثمار هذه الأموال؟

بسمه تعالى: لا مانع من دفع تلك الأموال ما دامت برضا الدافع وهي تحمل

ص: 550

معنى ايجابياً وهو مواساة ذوي الميت ومساعدتهم ولا بد أن تعطى إلى الشخص أو الجهة التي نواها الدافع فإذا نوى صرفها على ذوي الميت فلا يجوز لغيرهم كوجهاء العشيرة التصرف فيها إلا برضاهم إن لم يكن فيهم قاصر.س7: يكون التبذير واضحا في بعض المجالس من اجل الجاه والتباهي ورفع اسم العشيرة ويلزم أبناء العشيرة بدفع مبالغ معينة فهل يجب دفع هذه الأموال من اجل صرفها على هذا المورد؟

بسمه تعالى: ذكرنا أنها أمور مذمومة ولا يجوز اخذ المال من أحد إكراهاً، أما الدفع فهو منوط برضا الدافع ولا بد أن يكون المصرف مشروعاً لا أن يكون حسرة عليهم ويكونون في بعض مصاديق الآية: [يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ] (الأنفال:36).

وقد حدث في زمان خلافة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن اثنين تفاخرا فنحر أحدهم الإبل ودعا الناس إلى الأكل فحرمه أمير المؤمنين لأنه (أهل لغير الله).

س8: يقوم أهل العزاء بتشغيل جهاز التسجيل الصوتي يقرأ فيه القرآن الكريم ولكن الجالسين لا ينصتون وكل مجموعة منهم في كلام خاص، فما رأي سماحتكم؟

بسمه تعالى: ورد في الحديث من موارد اللعن والطرد عن ساحة الرحمن الإلهية من يتحدث بحديث الدنيا والقرآن يقرأ ولا يفرق في ذلك كون القراءة بشكل مباشر أو بجهاز تسجيل فإن الجميع مشمول بقوله تعالى

ص: 551

(وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) أما يريد احدنا أن يرحمه الله سبحانه وتعالى فهذه الآية تقول إن من أسباب الشمول بالرحمة الاستماع إلى تلاوة القرآن والإنصات له.س9: يقوم بعض الناس بعمل ما يسمى (العراضة) يذكرون فيها الميت بإشعار غير مناسبة كما يقوم عادة بإطلاق العيارات النارية التي قد تؤذي احد الأشخاص الموجودين.

بسمه تعالى: مدح الشخص بما ليس فيه كذب حرام وأكثر هؤلاء الأشخاص الذين يمدحون في العراضة لا يستحقون تلك الأوصاف بل أخذ الشعراء يتسابقون في المبالغة بالوصف وربما وصلت كلماتهم إلى حد الكفر بالله العظيم كما نقل عن بعضهم وهو جهل وغرور ومن رواسب الجاهلية فقد كان أهلها يتبارون بكثرة أعدادهم حتى أنهم كانوا يذهبون إلى المقابر ليحصوا موتاهم ويتفاخرون بهم فنزل قوله تعالى: [أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ] (التكاثر: 1-2) ، كما إطلاق العيارات النارية بلا مبرر عمل سفهي وقد يؤدي إلى إصابة احد والإضرار بالغير وهو عمل محرم، إن هذا الاحتفال المهيب الذي يرافق التشييع إنما يصلح لعلماء الدين ومراجع التقليد لإظهار هيبة الإسلام وعظمته ولا يكون لغيرهم إلا من كان دوره كدورهم في المجتمع.

س10: بماذا تنصحون من يحضر هكذا مجالس ويتكلم في أمور الدنيا أو يتكلم في المحرمات من غيبة ونميمة أو يضحك من دون الاتعاظ بالموت؟

ص: 552

بسمه تعالى: تقدم في جواب (س8) ما ينفع هنا وأضيف أن اللعن يزداد لو كان الحديث مشتملا على المحرمات كالغيبة والنميمة وإذا كان الشخص لا يتعظ بالموت وشعائره ويصر على معصية الله فبماذا يتعظ ومتى يلتفت من غفلته ويستيقظ من نومته ومن المؤسف أن لا يتحقق ذلك إلا بالموت (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا) وحيث [ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ] (الأنعام:158).س11: يقوم أهل الميت عادة بإقامة مجلس عزاء في آخر ليلة ويلزمون الخطيب بذكر فضائله ومدحه فهل يلزم الخطيب بذلك؟

بسمه تعالى: من تمام التعزية والتسلية إقامة مجلس العزاء لنتذكر فيه مصائب أهل البيت فتهون علينا مصائبنا كما قال الشاعر:

أنستْ رزيتكم رزايانا التي سلفتْ وهوّنتِ الرزايا الآتيةْ

ولنذكر الآخرة ونتعظ بالموت عسى أن نثوب إلى رشدنا ونلتفت إلى ما ينفعنا في معادنا ويشحذ الهمة لطاعة الله.

أما الميت فإن كان من أهل العلم والجهاد والفضيلة فيحسن الإشادة به ليكون أسوة حسنة للناس وان كان من غيرهم فمن الكذب المحرم وصفه بأوصاف ليست فيه.

س12: يقوم أهل الميت في اليوم الثالث بإعداد طبق توضع فيه أواني من الحناء واللبن والياس وماء الورد والشموع وبعض الحلويات، فهل لهذا العمل منشأ شرعي؟ وبماذا تنصحون من يعمل هذا؟

ص: 553

بسمه تعالى: لا أعلم له مستنداً شرعياً وهو على أي حال لا محذور فيه إذا لم يستلزم عنوانا ثانوياً محرماً ولا أجد فيه ضرراً خصوصاً إذا كان فيه تسلية وتطييب خاطر المصابين.س13: بماذا توجهون من يقوم برفع صوت جهاز المكبر للصوت الذي يقرأ فيه القرآن الكريم؟

بسمه تعالى: لا بأس به بل يحسن تكثير فرص الطاعة وتقريب الناس إليها وعرضها على الناس فإذا انتفع به واحد فهو خير لك مما طلعت عليه الشمس وما غربت.

س14: يقوم البعض بدفع مبالغ مالية لشاعرة تلقي بإشعار مدح أو رثاء على الميت واغلب هذه الأشعار تكون باطلة ويكون قولها كذبا فهل يحرم العمل بهذا المجال وهل يجوز دفع المبالغ المالية لهكذا نسوة؟ وبماذا تنصحون من يعملن في هذا المجال؟

بسمه تعالى: ظهر مما تقدم أن هذا كذب محرم ولا يجوز التورط فيه وقد علمت أن بعضهن تثير بأشعارها عصبية الجاهلية وروح الثأر والانتقام وتزرع البغضاء والشحناء في قلوب بعض العشائر على بعض فقبح الله هذه المهنة والخزي والعار في الدنيا والنار في الآخرة لمن يمارسها.

س15: تقوم بعض النسوة بشق الملابس وإدماء واليدين على الميت فهل يحرم هذا العمل وما هو العمل الصحيح عند حدوث حالة الوفاة؟

بسمه تعالى: هذا عمل محرم لما يحمل من معاني الجزع وعدم الرضا بقضاء

ص: 554

الله سبحانه وتجب الكفارة في بعض الموارد كجز الشعر فراجعها في كتاب الكفارات من الرسائل العملية، لقد مات إبراهيم بن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فماذا كان رد فعله؟ قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): ((إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع ولا نقول ما يغضب الرب)) وفي وصية الإمام الحسين (علیه السلام) لأخته وأهل بيته: ((لا تشقوا علي جيبا ولا تخمشوا علي وجها ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من أجوركم))، فهل هؤلاء الموتى أعز علينا من الحسين (علیه السلام) وأهل بيته حتى نجزع لهم هذا الجزع، ولكني أعلم أن كثيراً منهن إنما تفعل ذلك خشية التعيير فيقال أنها لم تحرق قلبها أسى لهذا الميت وانه ليس عزيزاً عليها، فتتكلف هذه التصرفات لدفع هذا الكلام، وهذه الطاعة للعرف منهيّ عنها شرعاً؛ لأن الدين وحده الذي يجب أن يطاع لا العرف ولا كلام العوام ولا العادات وها هو الإمام الحسين (علیه السلام) يردد (العار أولى من دخول النار) إن كان في ذلك عارا، ولا بد من وقفة شجاعة عند أي عملية تصحيح وتغيير للواقع المنحرف خصوصا إذا كان راسخا وجرت عليه أجيال عديدة لأن من صفات المؤمن الشجاعة والعزم وعلو الهمة في طاعة الله سبحانه ومن أوصافهم أنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم.س16: هل يجوز بناء القبور مرتفعة عن الأرض عاليا؟ وما هو الأفضل من ناحية شرعية؟

بسمه تعالى: قال الفقهاء في رسائلهم العملية يكره تعلية القبر أكثر من أربعة أصابع.

س17: ما قولكم في ظاهرة إطافة الميت -من قبل ذويه- حول الضريح المقدس لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهل لهذه الظاهرة منشأ شرعي؟

ص: 555

بسمه تعالى: لا أعلم لهذه الظاهرة دليلا وما ذكروه كدليل غير واضح وهو وصية الإمام الحسن لأخيه الحسين (علیه السلام) أنه (جددوا بجنازتي العهد بقبر جدي وأمي) لكن لا دلالة فيها على الطواف بها حول الضريح وقد نقل بعض الثقات أنه وجد رواية صحيحة في المنع من ذلك. وقد كان سيدنا الأستاذ (قدس سره) لا يرتضيها وقد فهمت أن المانع معنوي وكان يتمنى أن لا يفعل بجنازته ذلك لكنه كان يقول: وأنّى لي ذلك وأنا عندئذ ميت لا أستطيع منعهم من هذه السنة الجارية. لكننا والحمد لله نفذنا رغبته وجددنا له العهد بزيارة جده أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولم نطف به حول الضريح المقدس.

س18: خلال إطافة الميت حول الضريح المقدس لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقوم بعض الناس بمسح التابوت المحمول على الأكتاف بأيديهم فهل لعملهم هذا منشأ شرعي أو هو بدعة والعياذ بالله؟

بسمه تعالى: ليس هو مسحاً وإنما هو مشاركة في رفع الجنازة والمشاركة في التشييع ولو مشاركة رمزية أي تحقيق (مسمى التشييع) فهذا هو منشؤه وانه اقتصر –بسبب الجهل والغفلة على منشأ هذا العمل- على المسح فقط.

س19: في المناطق القريبة على النجف الأشرف يصحب أهل الميت لغرض الدفن عدد كبير من المشيعين والسيارات التي تقلهم قد تصل إلى 20 أو 30 سيارة وبعد مراسيم الدفن يكون لزاما على أهل الميت إقامة وجبة طعام للمشيعين في احد المطاعم وقد تصل تكلفة هذا

ص: 556

الطعام حوالي الربع مليون دينار أو أكثر فما هو حكم الشارع حول هذه الظاهرة وعملية صرف الأموال في هذه الجهة؟بسمه تعالى: يستحب إعلام المؤمنين بوفاة أخ لهم؛ ليتسنى لهم الحصول على ثواب التشييع، وقد يجد صاحب المصيبة أن من باب رد الجميل لهؤلاء الذين تحملوا عناء السفر والحضور والمشاركة في التشييع فادخلوا السرور على قلبه وهونوا عليه مصيبته، أقول قد يجد من المناسب تكريمهم بإقامة وليمة الطعام وقد قال تعالى: [هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ] (الرحمن:60).

ثم إن في ذلك -مع توفير النية المخلصة لله سبحانه- ثوابا للميت فإن من القربات العظيمة لله سبحانه إطعام الطعام، نعم، إذا كان حال أهل المصيبة لا يتحمل ذلك فلا يقصر المعزّون في مساعدتهم ومد يد العون إليهم وجزى الله الجميع خير جزاء المحسنين، وفي جميع الأحوال لا ينبغي الإسراف والتبذير وتجاوز الحدود المطلوبة شرعاً.

س20: هل ينتفع الميت بهذه الأعمال المذكورة؟ وما هو العمل الأوجه شرعا وبماذا تنصحون عمله في الأيام الأولى من الوفاة؟

بسمه تعالى: في الحديث (إذا مات المؤمن انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)(1)، ومحل الشاهد أن الميت يبقى رصيد أعماله مفتوحاً بما يهدى له من ثواب الأعمال كالصلاة والصوم والحج والصدقة وتلاوة القرآن وسائر وجوه البر والإحسان وأنه ليفرح بالعمل

ص: 557


1- بحار الأنوار:2/ 22.

الذي يهدى إليه لحاجته الشديدة بعد أن انقطع عمله واكتشف حاجته إلى كل عمل خير وإن قل؛ لذا ندعو أنفسنا وإخواننا إلى أن نستغل كل دقيقة بل كل لحظة من أعمارنا.س21: هناك ظاهرة في المجتمع وهي جهل ذوي الميت في التصرف بتركته مما يؤدي ويؤول إلى وقوع ظلم لبعض الورثة وغير ذلك من المحرمات، لذا نقول كيف يتعامل الميت مع تركته؟

أ- إذا لم يكن ممتثلاً للحقوق الشرعية ولم يؤد الخمس ولا الزكاة؟

ب- كان ممتثلاً لذلك ولكن عليه ديون للناس؟

ج_- الحالتان السابقتان ولكنه قد أوصى بالثلث أو أكثر أو اقل من تركته؟

بسمه تعالى: يتم التعامل مع التركة وفق الخطوات التالية:

1- إخراج الديون من أصل التركة قبل التفكير في الخطوات اللاحقة سواء كانت هذه الديون لله سبحانه ك_(الخمس والزكاة والحج الواجب إن استطاع ولم يحج) أو للناس لو كانت ذمته مشغولة بمثلها كالديون المالية أو رد المظالم أو الغصب.

2- تنفيذ وصاياه من الثلث إن كان قد أوصى، وإن لم يوص فلا يخرج له الثلث ويصرف ثلثه بحسب وصيته، قال تعالى: [فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ] (البقرة:181).

3- توزيع الباقي على الورثة وفق القواعد الشرعية المقررة في كتاب الميراث.

ص: 558

وإن وُجد في الورثة قاصر فلا بد من نصب قيّم عليه يلي أموره ويدبرها بما فيه مصلحة للصغير، أما ما ليس فيه مصلحة له كالصرف على الفاتحة والإطعام وبناء القبر فلا يجوز أخذ شيء لها من حصص القاصرين وقد ورد تحذير شديد في التجاوز على أموال اليتامى بغير حق وخارج الحدود الشرعية قال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً] (النساء:10).س22: بما أن الشريعة المقدسة أولت الولد الأكبر للميت اهتماما خاصا بأن أوجبت عليه قضاء ما فات أباه من صلاة وصوم، فبماذا تنصحون الولد الأكبر وكيفية تصرفه بعد وفاة أبيه في مراسيم الفاتحة أو بعدها؟

بسمه تعالى: الوصية الجامعة هي تقوى الله ومراقبة رضاه تبارك وتعالى في كل التصرفات فيوصي أهله بعدم الجزع والصبر لينالوا ما اعد الله للصابرين من الثواب الجزيل وأن يرفق بهم ويكون لهم أباً شفيقاً حنوناً ويعوضهم مكان أبيه، وأن ينفذ الأحكام الشرعية التي ذكرناها في السؤال السابق وغيره بدقة ولا يخضع للتقاليد والأعراف التي ما أنزل الله بها من سلطان كحرمان البنات من الميراث أو البذخ في الصرف على مراسيم الفاتحة والإطعام وإقامة الأربعينية وتشييد القبر بمظاهر الرياء والسمعة، ويتأكد الحذر والاحتياط عندما يكون بين الورثة قاصرون، وأن يحرص على تنفيذ وصايا أبيه وإبراء ذمته من كل ما تعلق بها وكل هذه الأعمال إحسان وبر الوالدين، وعليه أن لا يحيف على أهله ويظلمهم ويتجاوز على حقوقهم.

ص: 559

وبالمقابل على الآخرين أن ينظروا إليه كأبيهم فيسمعون له ويطيعونه لينتظم أمرهم ولا يتشتتوا ويتفرقوا من أجل أمور دنيوية زائفة، وليتسامح بعضهم مع بعض ويتنازل له.

س23: لو دعي شخص إلى طعام في مجالس الفاتحة فهل يلبي الدعوة؟

بسمه تعالى: إن تلبية دعوة المؤمن من المستحبات الأكيدة وإدخال السرور عليه كذلك، وهنا معنى ايجابي آخر وهو مواساته وتسليته، ثم هي فرصة لقراءة الفاتحة للميت إلى ما شاء الله من القربات لكن يجب أن ننتبه إلى أمور:

1- إحراز رضا الورثة بالصرف من التركة فلعل فيهم من لا يرضى أو قاصر لا يجوز الأخذ من حصته، نعم لو تبرع البالغون يكون الصرف من حصصهم خاصة فلا بأس.

2- أن يكون مصدر هذه التركة كسباً محللاً من غير حرام ولا شبهة.

3- أن لا يكون المال متعلقاً للحقوق الشرعية كالخمس والزكاة، فإن عدم إخراج الحقوق يعني غصب مقدارها من مستحقيها وإذا تورط الشخص في مثل هكذا مورد فعليه دفع مبلغ من المال بعنوان رد المظالم مساوٍ لخمس ما تناول من الأموال غير المخمسة.

ويحسن جداً الاطلاع على رسالة أمير المؤمنين إلى عامله على البصرة الصحابي الجليل عثمان بن حنيف الأنصاري وقد دُعي إلى وليمة فمضى إليها ومما جاء فيها: (فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه

ص: 560

فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه)(1).

ظواهر ترافق زيارة العتبات المقدسة

س1: يقوم بعض سائقي السيارات التي تنقل الزائرين بتشغيل جهاز الراديو أو المسجل من أجل الاستماع إلى الأغاني، فما حكم ذلك وما هي نصيحتكم للسائق وللزائرين مع بقاء الحال هكذا؟

بسمه تعالى: هذا تناقض غريب فبينما ينقل السائق الزائرين ويرجو أن تشمله الرحمة برفقته لهم وإن لم يكن ناوياً الزيارة وإنما نوى الأجرة، قال الشاعر:

فإن النار ليس تمس جسماً عليه غبار زوار الحسين

فكيف بمن ينقلهم ويسهل أمرهم ويقوم بخدمتهم، فلماذا يحبط عمله ويبوء بالإثم ويسد باب الرحمة التي فتحت له، إضافة إلى ذلك فإنه يحمل أوزار كل من تسبب هو باستماعه للاغاني، إن هذا لهو الخسران العظيم، فعليه أن يشغل المسجل بتلاوة القرآن الكريم أو الأحاديث النافعة أو سماع نشرة الأخبار أو يعطي (الميكرفون) لمتحدث يقول بعض الكلمات التي لله فيها رضا وللركاب فيها صلاح؛ فيزداد خيراً ونوراً على نور ويبارك الله في كده ودنياه وآخرته.

س2: هناك من يقول إن الأموال التي تصرف في زيارة المراقد المقدسة تضيع هدراً والأفضل إنفاقها على العائلة فإن ذلك أرضى للائمة (ع)

ص: 561


1- شرح نهج البلاغة للدكتور صبحي الصالح: ص416.

فما تقولون له؟بسمه تعالى: إذا أريد بالنفقة النفقة الواجبة فهذا صحيح لأنه لا قربة بالنوافل وعموم المستحبات إذا أضرت بالفرائض، وإن أريد بالنفقة على العيال التوسعة عليهم وقد يصل إلى الترف وسوء التقدير في المعيشة كما هو معروف لدى أكثر الناس فإنهم لا يكتفون بالمقدار الواجب، وعندئذ يصرف الأموال في الزيارة أفضل بالتأكيد. ولو فكرنا بهذا التفكير الذي يذكره السائل فإن عاقبته تعطيل العتبات المقدسة وإلغاء دورها في حياة الأمة وتضييع النتائج الدينية والاجتماعية والروحية المترتبة عليها.

س3: البعض يمنع أولاده من زيارة العتبات المقدسة وخصوصاً في مناسبات ولادات أو وفيات أهل البيت صلوات الله عليهم فهل يجب على الأولاد طاعتهم؟

بسمه تعالى: طاعة الوالدين ليست واجبة وإنما يحرم إيذاؤهم، فإذا استطاع الولد أن يقوم بالعمل من دون أن يتسبب في إيذاء والديه فلا مانع منه، وإن كنت أنصح الولد أن يوصل أبويه إلى القناعة والإذن له بالزيارة ليذهب عن رضا ومباركة منهم، ويذكر لهم أن ما يخشونه وهمٌ بدليل أن زيارات كثيرة مرت ولم يحصل شيء مما يخافون منه وهكذا.

وإني أنصح الآباء أيضاً أن لا يقفوا عائقاً دون استزادة في الطاعات فإن نفعها يعود لهم فيزدادون خيراً من دون عمل، ألم يسمعوا قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو صدقة تجري له، أو

ص: 562

ولد صالح يدعو له)(1). فلماذا يحرم الآباء أنفسهم من خير مجاني حتى لو أصابهم أذى فليحتسبوه عند الله سبحانه وليفرضوا أن هذا الأذى قد أصابهم في غير الزيارة كما لو كانوا في سفرة سياحية فتعرضت السيارة إلى حادث (لا سامح الله)، فهذه المخاوف والأوهام كلها من تسويلات الشيطان الذي من شأنه أن يكره الطاعة إلى القلوب ويزين المعصية بينما داعي الله تعالى وهي الفطرة السليمة تزين الطاعة وتكرّه المعصية [حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ] (الحجرات:14).

س4: نرى قسماً من الذين يأتون لزيارة العتبات المقدسة يرتدون ملابس غريبة مما يعد تشبها بالغرب الكافر ومن أمثلة تلك (البنطلون الكاوبوي الضيق والقميص المشجر المكتوب عليه عبارات أجنبية وتحتوي على رسوم وأشكال غير لائقة والأحذية البلدوزر...) أو يكونوا حالقي شعورهم بطريقة غريبة فهل يرضى الإمام المعصوم (علیهم السلام)؟

بسمه تعالى: هذا ناشئ من الجهل وعدم فهم ما يعملون فهو يقرأ في الزيارة (جئتك عارفا بحقك) فما هو حق الإمام عليه؟ حقه أن يقتدي به ويسير بهداه ولا يخالفه ولا يؤذيه، فهل يرضى الإمام بالتشبه بالكافرين سواء في الأزياء أو المظهر الخارجي أو ما يحمله من كلمات؟ إننا لنا شعاراتنا الإسلامية ورموزنا في الزيارة (وأشهدُ أنك قد مضيت على بصيرة من أمرك) فأية بصيرة هذه التي

ص: 563


1- بحار الأنوار:2/ 23.

يمضي عليها هؤلاء الشباب!!إني أدعوهم وأنا لهم ناصح أمين أن يجعلوا جميع تصرفاتهم وفق الشريعة وسيجدون من السعادة والاطمئنان والعزة والكرامة ما يرفع رؤوسهم ويثلج صدورهم.

س5: بعض النساء الزائرات غير ملتزمات بالحجاب الشرعي حتى داخل الحضرة الشريفة كأن تكون بارزة للشعر والصدر أو غير مرتدية للعباءة التي تسترها وتكون واضعة إصباغ الزينة على وجهها، ما هو توجيهكم تجاه هذه الظاهرة المحزنة؟ وما هو التكليف الشرعي للزوار تجاه هذه الظاهرة؟

بسمه تعالى: ينطبق عليهم نفس الكلام السابق.

س6: هل من آداب الزيارة اتخاذ الصحن الشريف مطعماً لبعض عوائل الزوار؟ فما هي نصيحتكم تجاه هذه الظاهرة؟

بسمه تعالى: ورد في الرواية انه يكره لزائر الحسين ان يتخذ معه السفرة والسكرجه وهي مائدة الطعام، ويضاف إلى ذلك منافاتها للعفة والأدب الإسلامي حيث تجلس العوائل المختلطة وهم يتبادلون الأحاديث والضحكات بين أعين الناظرين الأجانب! فالصحيح إذا كان من الضروري تناول الطعام فليكن في مكان بعيد عن أعين الناس وخارج الصحن الشريف.

س7: عند الطواف حول الضريح المقدس تحصل حالة اختلاط بين النساء والرجال مما يؤدي إلى محاذير شرعية فما هو العمل لتجنب تلك المحاذير؟

ص: 564

بسمه تعالى: يجب تجنب الاحتكاك بين الرجال والنساء وعلى النساء إذا أردن الطواف فليطفن خارج دائرة الرجال فانه من قواصم الظهور أن يطاع الشيطان ويجد له مرتعا في مثل هذه المشاهد الشريفة وهو يأمل فضل الله ورحمته وشفاعة أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من يفكر في هذا الأمر في هذه الأماكن المباركة التي وصفها الله سبحانه وتعالى: [فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ] (النور:36).س8: سمعنا من ثقات أنهم قد سُرقوا داخل الحضرة الشريفة والظاهر منه حتى هذه الأماكن الشريفة لا تخلو من السرقة، فما حكم من يقوم بسرقة الزوار أثناء تأديتهم مراسيم الزيارة؟

بسمه تعالى: السرقة من الكبائر التي توجب النار وحد السارق قطع يده لأنها جناية كبيرة وآثارها السلبية لا تختص بالفرد وحده بل تعم المجتمع، وتزداد قبحاً عندما يمارسها الخسيس في هذه المشاهد المشرفة فيحكم على نفسه بالشقاء و[للهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ] (الأنعام:149)، فبم يعتذر إلى الله والى رسوله والأئمة الأطهار الذين تعرض عليهم أعمال العباد [وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] (التوبة:105)، فأي صحائف سوداء تعرض عليهم من هؤلاء الناس الذين قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة.

س9: البعض يأتي لزيارة المراقد المقدسة مرتديا ملابس لا يليق ارتداؤها خارج البيت مثل (الكلبية والسروال...) فماذا تقولون لهم؟

ص: 565

بسمه تعالى: نقول لهم إن هناك آداب اجتماعية عامة بغض النظر عن الزيارة ومنها اللباس والمظهر الخارجي عموما وقد كان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يهتم بذلك فكان لا يفارقه المشط مثلاً لا في سفر ولا في حضر وينظر وجهه في المرآة أو في المياه قبل خروجه إلى الناس، وكره الشارع أكل الثوم والبصل قبل الخروج إلى المسجد وحبب التعطر وسواك الأسنان، كل ذلك محافظة على الآداب الاجتماعية العامة وللارتقاء بذوق المجتمع وقد وردت أحاديث مثل: (رحم الله امرأً جب الغيبة عن نفسه)، ولا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه) بكل شيء وفيها لباسه، وأعتقد أن من يرتدي مثل هذه الملابس يكون بموضع انتقاد الناس وربما سخريتهم إضافة إلى أنه يعني الاستهانة بذوق المجتمع وعدم المبالاة بهم وهو يعني التكبر عليهم وكل هذه الأمور رذائل خلقية يجب على المؤمن أن ينزّه نفسه عنها.هذا كله بلحاظ عام وتتأكد ملاحظة هذه الآداب عند القدوم للزيارة كمظهر من مظاهر تعظيم الإمام المُزار؛ لذا ورد في آداب الزيارة أن تلبس أنظف ثيابك وأطهرها وأن تمشي بسكينة ووقار وخطىً متقاربة.

س10: البعض يتبادلون الأحاديث في الأمور الدنيوية الصرفة في داخل الحضرة الشريفة أو ينادي على شخص آخر بصوت مرتفع، فهل هذا جائز أمام الإمام المعصوم (علیهم السلام) وما هو توجيهكم لمن يقوم بمثل هذه الأعمال؟

بسمه تعالى: العتبات المقدسة من البيوت التي إذن الله لها ان ترفع ويذكر فيها اسمه ولم يأذن بما سوى ذلك إلا بما يتعلق بها أو تدفعه إليها ضرورة أما

ص: 566

التفكه بأحاديث الدنيا وربما جرت إلى المحرمات كالغيبة والنميمة والتعرض للمؤمنين بسوء فإنه مستهجن في حضرة المعصوم (علیهم السلام) لأننا نعتقد -وهو الحق- أنهم أحياء عند ربهم يرزقون وكما تقول في الزيارة (أشهدُ أنكم تسمعون الكلام وتردون الجواب) وجاء فيها (لكنك -يا إلهي- حجبت عن سمعي كلامهم....) فهل يمكن القيام بهذه الأمور وهم شهود حاضرون؟!س11: هل الطواف حول الضريح المقدس يعتبر من آداب الزيارة؟

بسمه تعالى: ليس في ذهني ما يدل على استحبابه ولا ما يمنع منه لكن يمكن ان نضع وجها للاستدلال بأن يقال: إن الطواف حول الكعبة مطلوب لله سبحانه وهي بيت الله المادي فيكون الطواف بقبورهم مثله لأنهم كانوا البيوت المعنوية له سبحانه بنص الحديث القدسي (ما وسعتني سماواتي ولا أرضي، ووسعني قلب عبدي المؤمن) وهو أكمل المؤمنين بل المصداق التام لهذا العنوان وفي حديث الإمام (علیه السلام): (القلب حرم الله فلا تسكنوا فيه غيره) وهم معصومون لم يكن لغير الله نصيب في قلوبهم فكانت بيوتاً حقيقية لله سبحانه ويكون الطواف بها راجحاً مثل الطواف بالكعبة.

س12: بعض النساء وفي داخل الحضرة الشريفة تزغرد (تهلهل) بصوت عال حيث يسمع جميع الزوار فما حكم ذلك؟

بسمه تعالى: ليس في صوت المرأة حرمة إلا بالعنوان الثانوي كإثارة الشهوة والفتنة وغيرها وقد يكون عملها هذا مستحبّاً إذا سلم من المحذورات كما لو كانت المرأة غير متميزة من النساء وكان فيه تعظيم لشعائر الله سبحانه ونصرة لدينه وإحياء لمناسبات أهل البيت وقد يكون ممنوعا إذا اعتبر منافيا للآداب

ص: 567

العامة والعفة والحياء فالحكم يتغير بحسب العناوين الثانوية التي تطرأ عليه.س13: في الزيارات ومع كثرة الزوار قد يصادف وتكون التربة الحسينية تحت الأقدام مما يضطر أو بدون انتباه إلى المشي عليها فما هو العمل الصحيح تجاه ذلك؟

بسمه تعالى: لا شيء عليهم مع عدم العمد نعم لو تنجست التربة وكانت معرضة للصلاة عليها أو جزء من المسجد وجب تطهيرها باعتبار وجوب تطهير آلات المسجد.

س14: ما هي نصيحتكم وتوجيهكم لمن يقوم بصناعة التربة وخاصة ان بعضهم يشكل لفظ الجلالة وأسماء المعصومين عليها وأنها قد تتعرض للإهانة؟

بسمه تعالى: التربة أعدت للصلاة عليها ومن كمالات الصلاة الخشوع وحضور القلب لذا منع الشارع من كل ما ينافي ذلك فكره الصلاة وأمام المصلي كتاب مفتوح أو صور أو إنسان ينظر إليه وغيره فيكون وجود هذه النقوش على التربة منافيا لهذه الحالة وإخراجا للتربة عن القصد الأساسي منها إضافة إلى بعض المحرمات التي تحصل كلمس لفظ الجلالة وأسماء المعصومين من غير طهور لذا ينبغي ترك هذه التزويقات في التربة، كما كره الشارع تزيين المساجد وزخرفتها لنفس الغرض.

ص: 568

في المجالس الحسينية وشعائر شهر محرم الحرام

لعل من أوضح مصاديق الولاء لائمة أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) هي المجالس الحسينية خاصة ومجالس ذكر أهل البيت عامة والحمد لله رب العالمين لا تزال تلك الشعيرة محياة ولكن هناك أمور منها:

س1: أغلب المتصدين للمجالس الحسينية يقومون بإقامة مجالس إلى حد يوم 11محرم الحرام ويعودون لإقامة مجلس يوم 20 صفر فهل يعد هذا العمل تقصيراً بحق الحسين (علیه السلام)؟

بسمه تعالى: لا بد من إدامة المجالس طوال أيام السنة ولا اعني فقط المجالس الحسينية بل كل المجالس المنعقدة لإدامة ذكر الله سبحانه وفضائل أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ونشر تعاليمهم والموعظة وإحياء القلوب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتقريب الناس من طاعة الله سبحانه وتبعيدهم عن معصيته، ولا أقل من عقد مجلس واحد من كل جمعة فقط، قال الإمام (علیه السلام): (أفٍّ لرجل لا يفرّغ نفسه ولو ساعة في كل جمعة ليتفقه في أمور دينه) والتفقه بمعناه العام الشامل لكل الموارد التي سبق ذكرها قبل اسطر.

كما يمكنه استغلال ذكريات المعصومين جميعاً، وهي موزعة على جميع أيام السنة فإن من صفات الشيعة الموالين أنهم يفرحون لفرحهم ويحزنون لحزنهم وفي هذه الفترة المذكورة في السؤال (11محرم- 20صفر) مناسبات مهمة فكيف يجوز إغفالها وغض النظر عنها.

ص: 569

س2: أغلب المجالس النسوية خالية من أساليب التوعية الدينية وعدم التعريف بقضية الإمام الحسين (علیه السلام) وأبعاد نهضته كما أن معظمها خالٍ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يعد الركيزة الأساسية لنهضة الحسين خاصة ونهضة المعصومين عامة، فبماذا تنصحون والى أي شيء توجهون؟بسمه تعالى: لا زالت المجالس النسوية والخطابة النسوية متخلفة وبعيدة عن الهدف المنشود لها فتحتاج إلى نهضة قوية وإذا كان منبر الرجال قد تقدم خطوات بتصدي الحوزة العلمية له فإن عدم وجود حوزة للنساء يجعل المنبر النسائي متأخراً، من هنا تدعو الحاجة إلى حث المرأة على التوجه إلى الدراسات الدينية فإن قضايا المرأة عندما تتصدى لبيانها ومعالجتها امرأة تكون أدق وأصوب وأدعى لانفتاح النساء عليها.

فليبدأ إخواني الطلبة الذين منهم تكون البداية وعليهم تقع المسؤولية بتثقيف زوجاتهم وأخواتهم وبناتهم ومن يليهم من النساء حتى إذا اطمأنوا إلى قدرتهم على إيصال العلم إلى غيرهم وفّروا لهن هذه الفرصة من خلال مجالس التعزية أو حفلات الزواج وسائر الشعائر الدينية والمناسبات الاجتماعية.

والأمل كبير بنساء هذا الجيل أن يكنّ بمستوى المسؤولية ويتحملن أعباء رسالة الهداية والإصلاح؛ لأنهن مثقفات وحاملات شهادات راقية وذوات ذهنية وقادة ومنفتحة فلا يضيعن هذه القابليات والنعم التي حباهن الله تبارك وتعالى بها في التوافه من الأمور والأهداف الزائلة الوضيعة، بل يكرسنها للغرض الحقيقي الدائم وهو رضا الله سبحانه وإعمار أرضه بطاعته.

ص: 570

وعلى الكتّاب والمثقفين وحملة العلم أن يولوا هذا الجانب ما هو جدير به من الاهتمام فيضعوا المناهج المناسبة التي تأخذ بيد المرأة وعدم الاكتفاء بما هو موجود؛ لأن الشعور بالمسؤولية والاندفاع نحو التطبيق تجاه الكتب المخصصة لها ولأي شريعة في المجتمع يكون أكثر بشكل ملحوظ مما لو كان الكتاب عاماً ويخاطب المجتمع فيتعب الشخص نفسه ليعثر على بغيته فيها.س3: نلاحظ وبوضوح في المجالس بعدها عن ذكر الله تعالى والجانب العبادي فكيف يمكن تحويلها إلى مجالس ذكر وعبادة؟ وبماذا تنصحون المتصدين لهكذا مجالس؟

بسمه تعالى: يجب أن يكون المجلس مليئا بالوعظ وتهذيب النفوس وإرشاد القلوب وإحيائها ففي وصية الإمام أمير المؤمنين لولده الإمام الحسن (علیه السلام): (أحيي قلبك بالموعظة وأمته بالزهادة) وورد الحث الكثير على أن تجعل زادك الموعظة فإن (القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد وجلاؤها قراءة القرآن وذكر الموت).

ويمكن لمن تصدى للمنبر -هذه الرسالة الخالدة- أن يراجع ويقرأ بعض الكتب النافعة في الموعظة والإرشاد كإرشاد القلوب للديلمي ونهج البلاغة، فكم سيكون المجلس نافعاً لو كرس ليتلى به على الجالسين خطبة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في وصف المتقين ويطلب أن يطبق كل واحد منهم فقرات الخطبة على نفسه ليرى كم من تلك الصفات متحققة فيه، فقد ولى زمان (الترف الفكري) حيث لا تمثل المجالس -في أحسن صورها- إلا كمّاً من المعلومات التي تغذي العقل لا الروح ولا تترك أثراً على السلوك حتى لو دأبت

ص: 571

على حضورها سنيناً طويلة ولا تنفع إلا كثقافة عامة لا أزيد ولولا ارتباطها بقضية الإمام الحسين (علیه السلام) لما كان فيها أي منفعة.فقد كان السلف الصالح -قبل أن تسيطر على المنبر مجالس الثقافة- يهتمون في أن تكون المجالس عامرة بالموعظة والإرشاد وإحياء القلوب لذلك نجد أن القلوب عامرة بالإيمان والأرواح تسمو في أفق الكمال ولكن ضاع هذا الاتجاه والحس في المدارس الحديثة للخطابة وصرت لا تسمع إلا آية فيها عدة بحوث وفي كل بحث عدة أقوال فيخرج المستمع خالي الوفاض من أية فائدة روحية يفترض ان المنبر قد أسس لها إلا من ذكرى أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) الذي هو سر النجاح والبقاء والديمومة.

أعاننا الله وإياكم على أداء هذه المهمة الرسالية والله ولي التوفيق.

وبالإضافة إلى الوعظ والإرشاد وتهذيب النفوس هناك عدة محاور وخطوط عامة يمكن أن تندرج فيها الخطب والمجالس:

منها ترسيخ العقائد الحقة ومحاولة الاستدلال عليها بأمور وجدانية أو برهانية مبسطة ورد الشبهات الموجهة ضد الدين والمذهب.

ومنها نشر فضائل أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وبيان حقهم وأدوارهم في حياة المسلمين.

ومنها الاستفادة من القرآن الكريم في بعث الهمة لدى المجتمع وتحفيزه إلى طاعة الله تعالى ونيل رضاه.

ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنقد البناء لأي سلوك منحرف فإن هذين الواجبين هما صمام أمان المجتمع المسلم ولو التزمت الأمة بهما

ص: 572

لنالت خيراً كثيراً ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم.ومنها التأكيد على ارتباط المجتمع بالحوزة العلمية الشريفة وأن لا يخطو خطوة ولا يفعل أمراً ولا يحل عقدة إلا بعد أن يعلم رأي الحوزة لأن العلماء (أمناء الرسل وحفاظ الشريعة) وهم (ورثة الأنبياء).

ومنها بيان الأحكام الشرعية والمسائل التي يكثر الابتلاء بها وتصحيح العبادات والمعاملات التي لا توافق الشريعة وتهذيب الواقع المعاش وفق القانون الإلهي.

ومنها الاستفادة من المادة التأريخية وخصوصاً تأريخ صدر الإسلام لأنه الأساس الذي نشأت من اختلاف أحاديثه الفرق والمذاهب المتعددة فلا بد من دراسته وفحصه بعمق وتحقيق حتى يتبين الرشد من الغي ويعرف الحق أهله.

س4: هناك بعض اللطميات والردّات تكون بأطوار غنائية فهل يحرم المشاركة فيها والاستماع لها وبماذا تنصحون؟

بسمه تعالى: ما دام اللحن وطريقة الأداء مشابها لألحان أهل الفسق فهو حرام ولا يبرره كون كلماته في مراثي المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ولا حتى القرآن الكريم، وإنه لمن خدع الشيطان ان يأتي المؤمنين بهذا العنوان المزيف بعد ان علم إعراضهم عن الغناء لوضوح حرمته لديهم شرعاً، فليلبس الأمر عليهم ويورطهم بالغناء بعنوان جديد اسمه المراثي الحسينية فيعصون الله من حيث يظنون أنهم يطيعونه [قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً، أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً] (الكهف:103-105)

ص: 573

فعلى الجميع الالتفات لهذا الأمر سواء صاحب المجلس أو القارئ أو المستمع.س5: هناك تقصير واضح جداً في حق الرسول الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وحق الأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، فما هي نصيحتكم وتوجيهكم المناسب للخطباء؟

بسمه تعالى: لا يرتفع هذا التقصير إلا بإحياء ذكريات المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) طرح سيرتهم بشكل مناسب لهذا العصر بحيث يمكن أخذ الدروس والعبر وتعلم المواقف والاستفادة من تجاربهم والاطلاع على أعمالهم الجبارة في حفظ كيان المسلمين وإرساء كلمة الله تبارك وتعالى في الأرض والعمل على هداية الناس.

إن أهم ما يقرب الناس إلى الطاعة هو وجود القدوة الحسنة والنموذج الأكمل وخير من يجسده رسول الله والأئمة الطاهرين [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً] (الأحزاب:21) وهم وإن غابوا عن الحياة بأشخاصهم إلا أن سيرتهم ماثلة للعيان وما علينا إلا طرحها بالشكل الذي يمكن أن ينتفع به الناس.

س6: هناك من يقول بأن الإمام الحسين (علیه السلام) نال الشهادة في هذا اليوم -العاشر من محرم الحرام- فلماذا نبكي عليه بل يجب أن نفرح ونقيم الأفراح والسرور والابتهاج فما هو الرد المناسب له؟

بسمه تعالى: إن نيله الشهادة لا يعني عدم التفجع لمصابه فقد بكى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حين استشهد عمه حمزة وقال لما رأى نساء الأنصار تبكي قتلاها

ص: 574

(وحمزة لا بواكي عليه) فكانت نساء الأنصار تبكي حمزة أولاً ثم تندب قتلاها، وقد ورد الحث الأكيد على البكاء أو التباكي والتفجع لمصاب أهل البيت، وليس ذلك جزعاً واعتراضاً على قضاء الله سبحانه بل من أجل توظيف العاطفة لنصرة المظلوم وتأييد الحق إضافة إلى ما يحدثه من تطهير للقلب من الأدران وكل هذه نتائج ايجابية مهمة.س7: هناك قول آخر بأن الإمام الحسين (علیه السلام) توفي قبل 1400 عام فما لنا نبكي عليه إلى يومنا هذا فلو التزمنا بهذا القول فما هو المحذور بترك إحياء الشعائر الحسينية؟

بسمه تعالى: قد ظهرت عدة نتائج لهذا الإحياء المستمر للشعائر الحسينية ولقد لمسنا وجدانا حقيقة أهمية هذه الشعائر ودورها في الحفاظ على الدين ككل فإن أهم عوامل ديمومة هو هذا الدوام المتدفق الذي لا تهدأ فورته حتى يرث الأرض عباد الله الصالحون، وإن هذه الأقاويل لا يراد بها إطفاء نور الله سبحانه بهذه الكلمات الخادعة المزوقة فاحذروها.

س8: البعض يتشاءم من حلول شهر محرم الحرام بحجة أن هذا الشهر كئيب وحزين وخال من الحفلات؟

بسمه تعالى: يوجد فرق بين التشاؤم والحزن فان الأول مرفوض شرعا لابتنائه على أمور وهمية وفي الحديث الشريف (ثلاثة لا يخلو منها مؤمن أحدها الطيرة) أي التطير والتشاؤم وقد ذكر علاجها فقال (علیه السلام): (إذا تطيرت فامضِ) أي لا ترتب أثراً على هذا التشاؤم، أما الحزن فهو أمر فطري مركوز

ص: 575

في النفس ولا عيب فيه إذا كان السبب محمود، وأهم تلك الأسباب التفجع لمصائب أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وأي مصيبة أعظم مما جرى على الحسين (علیه السلام) وأهله في هذا الشهر، ومع إطلالة هذا الشهر تشتعل في القلب نار الأسى والحزن لما حل فيه وهذا الشعور علامة صحية للولاء الصادق لأهل البيت، وقد كان الأئمة (سلام الله عليهم) كذلك فإن هلال شهر محرم يمثل لهم الكثير من المشاعر المؤلمة ولذا نظم الشعراء هذا المعنى وخاطبوا الهلال بمعانٍ عاطفية رفيعة لا يتسنى لي الآن ذكرها.س9: يكثر الطبخ العام في هذا الشهر بشكل كبير وترافق توزيع الطعام بعض الأمور السلبية فما هو توجيهكم في هذا المجال؟

بسمه تعالى: رغم أن إطعام الطعام من المستحبات المهمة والأكيدة خصوصاً إذا كان تعظيم لشعائر أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) إلا أنه يجب أن يكون ضمن الضوابط الشرعية ومنها:

1) أن يكون باذل الطعام ممن يخرج الحقوق الشرعية كالخمس والزكاة من أمواله وإن لم يكن كذلك فالأفضل له أن يؤدي الواجب ففي الحديث (لا قربة بالنوافل إذا أضرت بالفرائض) فلا يورط نفسه ولا غيره إن لم يلتزم بذلك.

2) أن يراعي الناس حرمة صاحب الدار الباذل للطعام ويحترمون ملكيته فلا يتصرفون إلا ضمن الإذن الصادر منه.

3) أن يكون الطبخ بنية مخلصة لله تبارك وتعالى لا رياءً ولا طلبا للسمعة والجاه.

ص: 576

4) من السرف والتبذير كثرة المتصدين الإطعام في وقت واحد فالأفضل توزيع مناسبات الإطعام على جميع الأيام ولكل ذكريات المعصومين فقد نرى في وقت واحد عشرات الدور التي توزع الطعام وقد يأكل الشخص في أربع أماكن أو أكثر لوجبة طعام واحدة.

5) مراعاة الفقراء المؤمنين في الإطعام وأن يستطع جمعهم في داره فلينقل قدور الطعام إلى الأحياء السكنية الفقيرة ويوزعه عليهم.

6) تجنب حصول بعض التصرفات السيئة كالكلام البذيء أو التزاحم والتشاجر وتبادل الألقاب السيئة فإنها منافية لقدسية المناسبة.

7) توجد سبل للخير والثواب أهم من الإطعام خصوصاً في زماننا الحاضر فإن بعض مناسبات الطبخ قد تكلف مليون دينار أو أكثر وهو مبلغ ضخم يستطيع أن يوظفه في تزويج شباب مؤمنين غير قادرين على الزواج وهم محتاجون له ليحصنوا أنفسهم من الوقوع في الحرام أو توظيفها في مشاريع اقتصادية لتشغيل أيدي عاملة مؤمنة عاطلة عن العمل وحفظ ماء وجوههم أو شراء عدد من الكتب والكراسات النافعة وتوزيعها مجانا على هذا المجتمع المحتاج بشكل أكيد إلى التوعية الدينية، فهذه المشاريع وأمثالها أفضل عند الله سبحانه من الإطعام لأنها صدقات جارية ومثمرة للدنيا والآخرة.

س10: بماذا تنصحون الإخوة الذين يقيمون المجالس الحسينية؟

بسمه تعالى: النصيحة الأولى إخلاص النية لله تبارك وتعالى وأن يبحثوا عن الخطيب النافع الممتلئ بالعلم والثقافة والتأثير على المستمعين وهدايتهم إلى

ص: 577

الطاعة وتجنبهم المعصية ويمكن الاستعانة بالحوزة الشريفة للتعرف على الخطيب الناجح وانصح أيضا بإقامة المجالس في المساجد لا البيوت لأنها أكثر أجرا وابعد عن الرياء وفيها إحياء وتعمير للمساجد وتركيز لدورها في حياة الأمة وانصح باحتضان جميع شرائح المجتمع وفتح الباب لكل الناس وعدم التركيز على فئة دون أخرى واختيار المواضيع التي تعالج واقعا معاشا وتحري الموعظة والعبرة وعدم التركيز فقط عل استثارة الدموع وان كانت مهمة.واعلموا أن هذه المجالس يحبها المعصومون (علیهم السلام) ففي الرواية يسأل الإمام (علیه السلام) أحد أصحابه: (أتجلسون وتتحدثون) قال: نعم يا ابن رسول الله، فبكى الإمام وقال: (والله إني أحب تلك المجالس، أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا) فإذا كانت المجالس بهذه الأهمية فحافظوا عليها واستفيدوا منها ولا تحبطوا أجوركم أو تنقصوها بما يخالف الشريعة.

س11: بعض أولياء الشيطان وأتباعهم من الأبواق الفارغة ينعتون الشعائر الحسينية بأنها متخلفة وليست حضارية فما هو الرد المناسب لهؤلاء؟

بسمه تعالى: إن هؤلاء من أتباع الغرب الكافر لا يريدون لنا الخير بهذا الكلام وإن كان ظاهره ذلك وإنما ذكرى الحسين (علیه السلام) وإحياء شعائرها تقض مضاجع هؤلاء وتحبط مشاريعهم الإفسادية لأنها تحافظ على الدين النقي الذي جاء به رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وسار عليه الأئمة الطاهرون من ولده.

ولا وجه لاعتراضهم فإن كل أمة لها مراسيمها الخاصة في إحياء ذكرياتها وتمجيد عظمائها وفي الوقت الذي يستكثرون علينا شعائرنا فإنهم يأتون أقبح المنكرات جهاراً ويتباهون بها ويعلنونها على شاشات التلفزيون، ففي إيطاليا

ص: 578

يقام (مهرجان البرتقال) حيث يتجمع آلاف الناس في الشوارع العامة وتدور عليهم عربة تجرها الخيول من سنخ عربات العصور الوسطى وتوزع عليهم البرتقال ثم تعود هذه العربة مرة أخرى وعلى ظهرها أبطال البرتقال وتنشب الحرب بينهم وبين الآلاف المتجمهرة حيث تشق العربة طريقها بينهم بصعوبة وسلاح الفريقين البرتقال الذي يتراميان به بكل همّة وجدية وكأنهم يشيدون بذلك معالم الحضارة التي يتشدقون بها، إنه الكفران العظيم بنعم الله تبارك وتعالى وعما قريب يخسر المبطلون.وفي إسبانيا مهرجان سنوي تنطلق فيه الثيران المعدة للمصارعة من مأواها إلى الملعب الذي يجري فيه السباق وتخترق شوارع المدينة ويركض بين أيديها وحولها الآلاف من الناس يضربونها وتصبح شوارع المدينة ساحة قتال، أي همجية أوضح من هذه!.

وفي اليابان سباق توضع فيه المئات بل الآلاف من شطائر الطعام ويتبارى المتسابقون في ازدراد أكبر عدد ممكن، فتكون بطن الفائز قد حصدت 64 شطيرة، فهل هذه الحيوانية من الحضارة!.

هذا غير ما يفعلونه في ملاعب الكرة من جنون والعاب نارية ومشاجرات لا تستطيع حتى الشرطة فضّها وتزهق فيها النفوس وتتلف فيها الأموال، وألعاب أخرى يبتكرونها لا تجد نظيرها إلا في شريعة الغاب.

فلا يغرنكم هذا الوجه اللماع من حضارتهم فإنهم ذئاب مفترسة وتحكم تصرفاتهم شهواتهم ومطامعهم كالحيوانات ويسحقون شعوباً بأكملها من أجل مصالحهم ويستعبدون ما سواهم فالحسن عندهم ما حسنوه والقبيح ما قبحوه،

ص: 579

فتبّاً لهم وتعساً لمن سار في ركابهم.س12: بعض الأشخاص يقيمون ولائم في شهر محرم الحرام مع أنهم لا يدفعون الحقوق الشرعية (لا خمس ولا زكاة) فهل عملهم هذا مقبول عند الله تعالى وهل يحل هذا العمل محل الواجب؟

بسمه تعالى: إن المستحبات مهما تتعاظم أهميتها فإنها لا تصل إلى درجة الواجبات لا من حيث الثواب ولا من حيث وضع العقاب كما ورد في الحديث (ما عُبد الله بشيء كالفرائض) والخمس والزكاة من الواجبات المالية أما الإطعام في شهر محرم الحرام فهو مستحب ولا يتوقع قبول المستحب ممن عصى الواجب لأن الله تعالى يقول: [إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ] (المائدة:27) وليس من المتقين من عصى الواجب فلا يقبل منه.

والأمر أدهى من ذلك فلعل هذا الشخص -صاحب الوليمة- يتحمل أوزاراً من جهة أنه أطعم الناس بأموال تعلق بها حق الغير (وهم مستحقو الحقوق الشرعية، الخمس والزكاة) فيكون قد ورطهم في المعصية وهكذا فإن الإعراض عن طاعة الله تعالى يوقع في سلسلة من المصاعب لا نهاية لها [وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى] (طه:124-126).

نعم يستطيع الشخص أن يستأذن الحاكم الشرعي في صرف بعض ما يتعلق بذمته من الخمس في إطعام الطعام ويكون بذلك قد نال الحسنيين وهما أداء الواجب والمستحب.

ص: 580

س13: بعض النساء يقمن بقص خصلة من شعورهن في يوم 9 محرم ويضعنه تحت قدور طبخ الطعام في النار فهل لهذا العمل منشأ شرعي؟بسمه تعالى: لا أعلم لهذا العمل منشأً شرعياً.

س14: ما هو رأي الشارع المقدس بإقامة ما يسمى (عرس القاسم) وكأنه توجد رواية تتضمن ذلك فهل هذه الرواية صحيحة؟

بسمه تعالى: لم يثبت شيء من هذه التفاصيل التي يذكرونها عن عرس القاسم وإنما هي من تخيلات ونسج القصاصين لتهييج العواطف واستدرار الدموع، ومن المؤسف أن هذه القصة أصبحت سبباً لإقامة مظاهر الفرح والسرور في خضم أيام عاشوراء التي يفترض أن تكون حزناً خالصاً، وقد تتضمن مظاهر الفرح أموراً محرمة كالأطوار الغنائية وغير ذلك، نعوذ بالله من تسويلات الشيطان.

س15: ما هو رأيكم في خلع الملابس أثناء لطميات الرجال والكشف عن صدورهم خلال المآتم الحسينية؟

بسمه تعالى: لا بأس بذلك ما لم يؤد إلى محرم كإثارة الشهوة وحصول الفتنة أو أن يكون تحت نظر النساء، وأن لا يتجاوز المقدار الظاهر ما نهت الشريعة عن إظهاره وهو ما بين السرة والركبة. وعلى أي حال فإنني أدعو إلى ترك كشف الصدر والبطن.

س16: ما هو رأيكم في مسألة التطبير وضرب الزناجيل في ذكرى عاشوراء؟

ص: 581

بسمه تعالى: اختلفت مواقف الفقهاء في هذه الأمور وكل واحد منهم ينطلق من اعتبارات ومعايير معينة ولا شك أن الأحكام تدور مدار موضوعاتها وعناوينها الأولية والثانوية وهذه تختلف بحسب الأزمنة والأمكنة والبيئة الاجتماعية وغيرها.س17: ما هو رأي الشرع الشريف بظاهرة خروج الفتيات في الشوارع من بيت إلى آخر وخاصة في الأحياء الشعبية وذلك لإحياء ليلة العاشر من محرم باللطميات وقد كشفن شعورهن وبرزن صدورهن؟

بسمه تعالى: في الحديث (لا يطاع الله من حيث يعصى) فمن المستحب المؤكد شرعاً مواساة أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في أفراحهم وأحزانهم فإنها من أوضح علامات الولاء لهم، لكن لا يجوز أن يتخذ ذلك شكل المعصية لله سبحانه وتعالى، ومن المعاصي الأكيدة التي تقض مضجع الشارع المقدس خروج المرأة كاشفة الشعر فضلاً عن إبرازها لبعض مفاتنها كالصدر وغيره، فإذا أرادت النساء إحياء مجالس العزاء فليكن ذلك بحشمة ووقار وفي ضوء آداب الإسلام وتعاليمه.

س18: في بعض المناطق تقوم النساء بمشاركة الرجال في الطبخ -في ليلة العاشر من محرم- في الشوارع تحت أنظار الرجال الأجانب مما يؤدي إلى الاختلاط بين الجنسين ويكون أغلب الحديث الدائر هو اللغو والضحك وليس تذكر مصائب الإمام الحسين (علیه السلام) فما هو رأي الشارع المقدس في هذه الظاهرة؟

ص: 582

بسمه تعالى: قد ظهر جوابه مما سبق وليس من المخلصين من يفعل ذلك وإنما هو من طلاب الدنيا ومن الساعين لإشباع شهوات النفس الأمارة بالسوء، فإن عمله هذا يتضمن رذائل كثيرة باطنية كالرياء ورذائل ظاهرية كالاختلاط والإساءة إلى ذكرى الحسين (علیه السلام) والكلام الباطل وغيرها.

ص: 583

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.