خطابُ المرحلة المجلد 12

هوية الكتاب

اسم الكتاب: ... خطابُ المرحلة / الجزء الثاني عشر

تأليف: ... توثيق لخطابات وبيانات سماحة

المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي

الطبعة : ... الأولى

السنة : ... 1442 ه- - 2021م

الناشر: ... دار الصادقين للطباعة والنشر والتوزيع

النجف الاشرف / شارع الرسول صلی الله علیه و آله

ص: 1

اشارة

خطابُ المرحلة

توثيق لرؤى سماحة

المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي

حول قضايا الدين والانسان والأمة والوطن

ومواقفه وتوجيهاته منذ تصديه لقيادة الحركة الإسلامية في العراق بعد استشهاد استاذه

السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) عام 1999

الجزء الثاني عشر

حزيران / 2019 – حزيران/ 2021

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

خطاب المرحلة 594: الفتّوة زينة الانسان

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) (الكهف:13)

الفتّوة زينة الانسان (1)

تعرف المعاجم اللغوية الفتوة بانها مرحلة عمرية للإنسان فالفتى هو الشاب الطري الحدث وتطلق على غير الانسان كالفتي من الإبل، لكن المحققين في أصول المفردات يرون ان الشباب غير كافٍ وحده لإطلاق عنوان الفتوة مالم تجتمع فيه خصال الكمال لذا قيل (ليس الفتى بمعنى الشاب والحدث إنما هو بمعنى الكامل الجزل من الرجال) (2) مع شيء من الطراوة والجدة لذا فإن الشاب اعم من الفتى.

وتوسع المعنى -- وهو الأمر البالغ التّام -- من الأشياء الخارجية كالفتى من الانسان والحيوان إلى المعنوية، فاشتقت الفتوى إذ ان الإفتاء هو النظر التام البالغ الذي يبيّن المشكل من الأمور ويقوّي الحق فيها لذا فالنظر أعم من الفتوى، ولا تختص بالأحكام الشرعية، قال تعالى (قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) (يوسف:41) وقال تعالى (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ) (يوسف:46) وقال تعالى (قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي) (النمل:32).

وعلى هذا فليس كل شاب فتى ما لم يكن تاماً بالغاً ومدبراً عاقلاً، وقد

ص: 5


1- الخطبة الأولى لصلاة عيد الفطر السعيد لسنة 1440 الموافق 2019/6/5
2- التهذيب: 14/327 بواسطة كتاب التحقيق في كلمات القرآن للمصطفوي:9/28

توسّع هذا المعنى في القرآن الكريم وروايات المعصومين (علیهم السلام) لكل من اتصف بهذه الخصال الكريمة وان لم يكن في عمر الشباب قال تعالى (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) (الأنبياء:60) وقال تعالى (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ) (الكهف:60)، ووصف النساء العفيفات - وإن كن مملوكات - بالفتيات للتبجيل والتوقير، قال تعالى (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) (النور:33) وقال تعالى (فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) (النساء:25).

وبهذا اللحاظ أطلق القرآن الكريم على أصحاب الكهف وصف الفتية وهم لم يكونوا شباباً، ففي رواية الكافي عن الامام الصادق (علیه السلام) انه قال (لرجل عنده: ما الفتى عندكم؟ فقال له: الشاب، فقال: لا، الفتى المؤمن، إن أصحاب الكهف كانوا شيوخاً فسماهم الله عز وجل فتية بإيمانهم)(1).

ورويت بطريق آخر عن سليمان بن جعفر الهمداني عنه (علیه السلام) قال فيها (أما علمت أن أصحاب الكهف كانوا كهولاً فسمّاهم الله فتية بإيمانهم، يا سليمان من آمن بالله واتقى فهو الفتى)(2).

وقد أظهر أصحاب الكهف من الفتوة ما أبهر العقول واستحق الثناءمن الله تبارك وتعالى فقد آمنوا بالله تعالى ووحّدوه ونبذوا ما كان عليه قومهم من الشرك والوثنية وعبادة الطاغوت وهو امبراطور الرومان ولم ترعبهم قوته وبطشه وقسوته ولم يخلدوا إلى الدنيا التي تزيّنت لهم وكانوا فيها مترفين ومن

ص: 6


1- الكافي: 8/395 ح 595
2- تفسير العياشي: 2/ 32 ح 11، تفسير البرهان: 6/118

علية القوم، لكنهم آثروا ما عند الله تعالى ووقفوا بشجاعة في وجه الطاغوت وعرّفوه بحقيقته التافهة واعانهم الله تعالى بالتأييد والثبات وقوة القلب ورسوخ الايمان (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً) (الكهف:13-14) وهؤلاء الفتية نعم الأسوة لنا، ولم يكونوا من الأنبياء ولا من المعصومين حتى يقال اننا لا نستطيع بلوغ درجتهم وتكرار نسختهم.

وقد اعطى المعصومون (علیهم السلام) قيمة كبيرة للفتوة، عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (ما تزيّن الانسان بزينةٍ أجمل من الفتوة)(1) وبيّنوا (علیهم السلام) عدة خصال كريمة يتضمنها معنى الفتوة كبذل المعروف للناس وكف الأذى عنهم واجتناب القبائح ونحو ذلك فعن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (بعد المرء عن الدنيّة فتّوة)(2) وعنه (علیه السلام)قال (الفتوة نائل -- أي عطاء -- مبذول، وأذى مكفوف)((3) وعنه (علیه السلام) قال (نظام الفتوة -- أي تمامها وكمالها -- احتمال عثرات الاخوان وحسن تعهد الجيران)((4) .

وقد تجلّت الفتوة بأكمل خصالها في رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام)، روى الشيخ الصدوق بسنده عن الامام الصادق (علیه السلام) عن أبيه عن

ص: 7


1- غرر الحكم/9659
2- غرر الحكم: 9999 .
3- (3) غرر الحكم: 2170.
4- (4) أمالي الصدوق:443، المجلس82، الحديث 3، أمالي الطوسي، معاني الأخبار: 119، بحار الأنوار:79/300 ح 9.

جده (علیهم السلام) قال (ان اعرابياً أتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فخرج اليه في ثوب مزين ، فقال: يا محمد لقد خرجت اليَّ كأنك فتى، فقال (صلی الله علیه و آله): نعم يا اعرابي أنا الفتى ابن الفتى أخو الفتى، فقال: يا محمد أما الفتى فنعم، وكيف ابن الفتى وأخو الفتى، فقال: اما سمعت الله عز وجل يقول (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) فانا ابن إبراهيم، واما أخو الفتى فان منادياً نادى في السماء يوم أحد: لا سيف الا ذوالفقار ولا فتى الا علي، فعلي أخي وأنا أخوه)((1).

وصحّح الأئمة أيضاً المعاني المنحرفة لهذه الصفة النبيلة حيث اطلقت على المكر والخداع و(البلطجة) في مصطلح اليوم، روي ان أصحاب الامام الصادق (علیه السلام) تذاكروا عنده الفتّوة (فقال(علیه السلام): وما الفتوة؟ لعلكم تظنّون أنها بالفسوق والفجور! كلاّ، إنما الفتّوة طعام موضوع، ونأئل مبذول، وبشر مقبول، وعفافُ معروف، واذى مكفوف، واما تلك فشطارة وفسق)((2) أي دهاء وخبث.

ولعله (علیه السلام) يشير إلى الظاهرة الاجتماعية التي انتشرت يومئذٍ بمن يسمّونهم (الشطّار والعيّارين) وكانوا يؤذون الناس ويستهزئون بهم ويسلبونهم أموالهم وممتلكاتهم بعنوان الشطارة وهكذا في كل زمان يوجد من يُلبس الأفعال والمظاهر السيئة عناوين جميلة لتسويقها داخل المجتمع.

وحكى في مجمع البحرين أن هذا الكلام منه (علیه السلام) (رد على ما كان يزعمه سفيان الثوري وغيره من فقهاء العامة من أن التوبة بعد التفتي والصبوة

ص: 8


1- (1) غرر الحكم: 4425.
2- (2) معاني الاخبار:119.

ابلغ وأحسن في باب التزّهد، من الزهادة والكف عن المعصية رأساً في بدء الأمر)(1) وهذه من شطحاتهم المنكرة.

وقد التصقت الفتوة بالشباب لأن عندهم الأهلية للتحلي بمعانيها الكريمة فأنهم يتصفون بطراوة الفطرة وطهارة النفس وبالشجاعة والقوة والاقدام والتضحية والنخوة والحيوية والمسارعة إلى الخير، حيث يقوم شبابنا اليوم بخدمات إنسانية وفعاليات ميدانية وتعبوية تجسّد معنى الفتوّة.فلإحياء هذه الصفة الكريمة وبيان معانيها السامية وترسيخها في الفرد والمجتمع وتنقيتها من سوء الاستعمال وتشجيع الفعاليات الميدانية والتعبوية التي يطلق عليها احياناً عنوان (الكشافة) ولبيان سيرة فتيان الإسلام ندعو الى تعيين يوم للفتوة، وقد اخترت له يوم الخامس عشر من شوال لأنه ذكرى معركة أحد وإعلان السماء أن أمير المؤمنين (علیهم السلام) هو فتى الإسلام بلا منازع يوم نادى منادي السماء (لا فتى الا علي).

فأدعوكم إلى إقامة هذه الفعالية وضعوا برامج لاكتساب المجتمع خصوصاً الشباب هذه الخصلة الكريمة لنساهم في ارتقاء الأمة وازدهار البلد، وليقم العلماء والكتّاب والمفكّرون بالتعريف بتفاصيلها والله معكم وهو ناصركم إن شاء الله.

ص: 9


1- مجمع البحرين: المجلد الأول: 201 مادة فتا

خطاب المرحلة 595 : من مبادئ الإسلام في التعايش السلمي

بسم الله الرحمن الرحيم

(لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) (المائدة:28)

من مبادئ الإسلام في التعايش السلمي(1)

أدب من آداب القرآن واخلاقه ونموذج راقي للسلام والتعايش الذي تنشده البشرية اليوم وكل يوم ذكره الله تعالى ضمن قصة ابني آدم هابيل وقابيل، قال الله تبارك وتعالى (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة:27) والنبأ: الخبر ذو الفائدة العظيمة الذي يفيد العلم، وهو هنا يتعلق بواقعة حدثت لابني آدم في بداية وجود البشر على الأرض وفيها الكثير من المواعظ والعبر، والقربان ما يتقرَّب به إلى الله تعالى، ولم تذكر الآيات الكريمة كيفية حصول العلم بالقبول وعدمه، لكن الروايات دلتّ على ان علامة القبول ان تأكله النار.

وتفيد صحيحة ابي حمزة في الكافي عن الامام الباقر (علیه السلام) (ان آدم أمر قابيل وهابيل ان يقرّبا قرباناً وكان هابيل صاحب غنم وكان قابيل صاحب زرع فقرّب هابيل كبشاً وقرّب قابيل من زرعهما لم يُنقَّ، وكان كبش هابيل من

ص: 10


1- الخطبة الثانية لصلاة عيد الفطر السعيد لسنة 1440 الموافق 2019/6/5

أفضل غنمه وكان زرع قابيل غير نقي فتُقبّل قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل وكان القربان اذا قُبِل تأكله النار)(1).

فالأمر بتقديم القربان كان من النبي آدم (علیه السلام) كجزء من تربيتهما وتعويدهما على الطاعة والأعمال الصالحة، أو لمعرفة المستحق لوراثة ابيهما معنوياً وفي سؤال وُجِّه إلى الامام الصادق (علیه السلام) (ففيم قتل قابيل هابيل؟ فقال: في الوصية)(2).

ويظهر من بعض الآيات الشريفة ان هذه التي كانت علامة القبول هي ايضا علامة استحقاق تحمل الرسالة الإلهية، قال تعالى (الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (آل عمران:183).

فالآية الكريمة تشير الى ان السر في القبول وعدمه هو اخلاص النية لله تبارك وتعالى وتنقية العمل وإحسانه المعبّر عنه بالتقوى فذكرت الآية معياراً عاماً للقبول (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة:27) وذكره هابيل بأدب ولم يقل لأخيه انك لست من المتقين، وبدلاً من ان يذعن قابيل للحقيقة، ويسعى لإصلاح حاله ويعالج سبب عدم القبولويعود إلى طاعة ربِّه فأنه حسد أخاه حسداً شديداً وأصدر قراره بقتل أخيه لكن أخاه الصالح هابيل المتأدِّب بآداب الله تعالى قابل أخاه بموقف إنساني نبيل كان كافياً لردع أخيه عن فكرته السيئة فرفض ان يتصرف نفس التصرف ولا يقدم على قتل أخيه وان كان أخوه

ص: 11


1- الكافي:8/113 ح 92
2- تفسير العياشي: 312 ح 83

عازماً على قتله، لأنه لا يفعل الا ما فيه رضا الله تبارك وتعالى ولا يستفزّه خطأ الآخر فيدفعه لارتكاب خطأ مماثل (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)(المائدة:8).

في بعض قصص الأنبياء انه اتي له بأسرى في نهاية معركة انتصر فيها فقال بعض أصحابه اقتلهم فامتنع النبي المنتصر فقيل له انهم يقتلون أسرانا فقابلهم بالمثل، قال: انهم ليسوا قدوة لنا، وقد سجّل القران الكريم زجره عن مثل هذا السلوك (بقوله إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) (النساء:140)

وفي سيرة أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه أخبر ان عبد الرحمن بن ملجم سيقتله فقيل له: لم لا تقتله قال (علیه السلام): (لا يجوز القصاص قبل الجناية)(1).

وهذا المبدأ شاهد على سمو القانون الاسلامي وتفوقه على القوانين الوضعية التي تجيز ما يسمى بالضربة الاستباقية أي ضرب الخصم اذا علم أو ظنّ بانه يستهدفه او لردعه عن التفكير بذلك.

ويجب الالتفات الى ان هابيل انما امتنع عن خصوص مد يده لقتل أخيه ابتداءاً ولمجرد الضربة الاستباقية اما بسط يده في الدفاع عن نفسه فهذا حق مشروع له بل يجب عليه ان لا يمكّن خصمه من نفسه، لذلك فان قتل هابيل كان اغتيالاً، في تفسير العياشي بسنده عن ابي جعفر (علیه السلام) قال (لما قرب ابن آدم القربان فتقبّل من أحدهما ولم يتقبّل من الآخر، قال: تُقبِّل من هابيل ولم يُتقبَّل من قابيل، دخله من ذلك حسد شديد وبغى على هابيل، ولم يزل يرصده

ص: 12


1- بحار الأنوار: ج2 ص 279

ويتبع خلوته حتى ظفر به متنحياً من آدم فوثب عليه وقتله)(1) .

واستعمال القران الكريم لمفردة التطويع، يكشف عن ان هذا الفعل الشنيع ما كان مستساغاً في أول الأمر لأنه خلاف الفطرة وحكم العقل بقبح الظلم والعدوان، ولازالت البشرية في أول تكونّها ولم ينتشر الفساد في الأرض فاستمر الشيطان في تزيين القتل واستثارة الحسد في نفسه الأمارة بالسوء حتى انقاد لهواه مما يبيّن خطورة رذيلة الحسد وأمثاله من الدوافع الذاتية السيئة على سلوك الفرد بغضّ النظر عن تأثير البيئة الاجتماعية إذ لم يتشكل يومئذٍ مجتمع بعد، ونفّذ قابيل ما تأمره به نفسه (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (المائدة:30).

ولا يخفى ما في كلمة (فَطَوَّعَتْ) من دلالة على المحاولات المتكررة والضاغطة لدفعه إلى تنفيذ الجريمة ولو أغلق على نفسه بابالتفكير فيها لما وصل إلى هذه النتيجة، وهذا هو الحال في فعل المعاصي خصوصاً الكبائر فأنه لا يفعلها بمجرد خطورها على ذهنه ولكن استجابته لعملية الدعوة المتكررة والتزيين تجعله يستسلم لفعلها ففي رواية الكافي المتقدمة (ان ابليس أتاه فقال له: يا قابيل قد تُقبِّل قربان هابيل ولم يُتقبَّل قربانك وإنك إن تركته يكون له عقب يفتخرون على عقبك ويقولون: نحن أبناء الذي تُقبِّل قربانه، فاقتله كي لا يكون له عقب يفتخرون على عقبك فقتله).

وهذه اللطيفة القرانية نور آخر نقتبسه من الآية الكريمة حاصله: ان الايمان ليس مجرد عقيدة نظرية وإنما هو سلوك والتزام بما يريده الله تعالى

ص: 13


1- تفسير العياشي: 1/306 ح 77

وتحكيم شريعته في الحياة، حيث كشفت الاخبار أن إيمان قابيل كان نظرياً فقط.

(فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) لأنه خسر نفسه حيث أوردها النار بهذا الأثم العظيم وتحمل أثم أخيه(1)، وخسر أخاه الصالح المحبّ له الشفيق عليه، وخسر دنياه لأن حياته أصبحت منكّدة كئيبة (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) (المائدة:31)، وخسر كرامته وسمعته الاجتماعية.

والاية الكريمة تشخّص مشكلة خطيرة وبلاءاً عظيماً يتعرض له الصالحون والمصلحون عند ما يناصبهم العداء ويكيد لهم من لا يرونهعدواً لهم ويتورعون عن القيام بفعل يشبه ما يريد فعله الخصوم ونتيجة ذلك أن يتلقى العدوان بنفس صابرة مطمئنة ويدافع عن نفسه بما يتيسّر له.

وفي الحديث الشريف عن الامام الصادق (علیه السلام) (لا ينفك المؤمن من خصال اربع جارٍ يؤذيه وشيطان يغويه ومنافق يقفو أثره ومؤمن يحسده، ثم قال (علیه السلام) اما انه أشدّهم عليه، قلت: كيف ذاك؟ قال: انه يقول فيه القول فيصدق عليه)(2) .

فالخصم إذن مؤمن لا تستطيع ان تؤذيه او تعتدي عليه لكنه يحسد ويبغي ويفتري ويشوِّه الصورة ويسقط السمعة والكرامة ولا تستطيع أن تقابله بالمثل.

ص: 14


1- عن الامام الباقر (علیه السلام) قال (من قتل مؤمناً متعمداً اثبت لله عزوجل على قاتله جميع الذنوب وبرئ المقتول منها) (بحار الأنوار: 101/377 باب 36 ح 42).
2- الخصال: أبواب الأربعة، ح 70 ، ص 170.

وقد ابتلي أمير المؤمنين (علیه السلام) بهذا البلاء فقد بغى عليه وقاتله مسلمون مقربون إليه يحرص كل الحرص على اكرامهم، وكان (علیه السلام) يمنع أصحابه من أن يبدأوا خصومهم بالقتال، وإنما يقاتلون دفاعاً عن انفسهم.

ومن خطاب الامام الحسين (علیه السلام) يوم عاشوراء لأهل الكوفة (سللتم علينا سيفاً لنا في ايمانكم، وحششتم -- أي اوقدتم -- علينا ناراً اقتدحناها على عدِّونا وعدوّكم فأصبحتم أولياء لأعدائكم علىاوليائكم)(1) فهؤلاء الرجال والسلاح الذي بأيديهم هم لنا ويجب ان يكونوا من جند الإسلام لأنهم مسلمون بحسب الظاهر، لذا كان (علیه السلام) يمنع أصحابه من ان يبدأوهم بقتال ولم يقاتلوا الا دفاعاً عن انفسهم.

ومن قصيدة دعبل الخزاعي الشهيرة:

اذا وُتروا مدّوا إلى واتريهم *** أكفّاً عن الأوتار منقبضات

ص: 15


1- الملهوف: 155، الاحتجاج: 2/97، تحف العقول:240.

خطاب المرحلة 596 : أهل البيت (علیهم السلام) نجوم أهل الأرض

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) (النحل:16)

أهل البيت (علیهم السلام) نجوم أهل الأرض(1)

فسرّت روايات كثيرة النجوم الواردة في عدة آيات كريمة بأهل البيت (علیهم السلام) لعدة وجوه مشتركة سنشير اليها ان شاء الله تعالى، وقد استعمل القرآن الكريم التشبيه لإيصال حقائق كثيرة تعرّف فضل أهل البيت (علیهم السلام) ووظائفهم ودورهم في حياة البشرية فكانوا (علیهم السلام) تأويل هذه الآيات الكريمة وهذا شأن القرآن الكريم في كثير من الحقائق التي لم يبيّنها في التنزيل لمصلحةٍ ما خصوصاً ما يتعلق بأهل البيت (علیهم السلام) لكن الأئمة (علیهم السلام) أفادوا تأويلها (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) (العنكبوت:43) (َتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر:21).

وقد بيّن القرآن الكريم اهتمامه بالنجوم وما يرتبط بها من وظائف وحركة متقنة ومواقع دقيقة، قال تعالى (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُلَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) (الواقعة:75-76) ونشير هنا استطراداً إلى نكتة القسم بالمواقع دون نفس النجوم ولعلها لأمرين على الأقل:

ص: 16


1- كلمة ألقاها سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) في مجلس بحثه بمناسبة افتتاح العام الدراسي بعد تعطيل شهر رمضان المبارك يوم الأحد 5 / شوال / 1440 الموافق 2019/6/9.

1- بيان دقة توزيع هذه النجوم في مواقعها والانسجام التام في حركتها فتكون من آيات الخالق، ولعلمنا بهذه الدقة والانسجام فإننا نبني على قوانينها الكونية المنضبطة ونستطيع معرفة أمور وحوادث قبل وقوعها بسنين، ولو كانت مبعثرة وعشوائية لما أمكن الاعتماد عليها قال تعالى (وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً) (الإسراء:12) فهذه الدقة في المواقع والحركة جُعِلَت في كل شيء ليتعلمها الانسان ويستفيد منها في حياته.

2- لتصحيح عقائد الناس خصوصاً وأنهم قريبو عهدٍ بالجاهلية حيث كانوا يعتقدون بأن للنجوم أرواحاً وانها تتحرك بإرادتها وبقى هذا الاعتقاد إلى وقت قريب(1) وكانوا أيضاً يعتقدون بتأثيرها المستقل وجلبها للخير والشر ويحلفون بها فعدل الى الحلف بمواقعها ليعرفوا أنها مخلوقات مدبّرة ومسيّرة من قبل الخالق العظيم.

وهذا المعنى وارد في الروايات ففي حديث عن الامام الصادق (علیه السلام) قال (إن مواقع النجوم رجومها للشياطين، فكانالمشركون يقسمون بها فقال سبحانه (فلا أقسم بها)..)(2) وقال (علیه السلام) (كان أهل الجاهلية يحلفون بها فقال الله عزوجل: فلا أقسم...).

والمستفاد من استقراء الآيات الكريمة: ان للنجوم عدة وظائف وهي جارية ببعدها المعنوي في أهل البيت (علیهم السلام).

ص: 17


1- حيث استطاع يوهانس كبلر (1571 – 1630) وصف حركتها بمعادلة رياضية ثم علل إسحاق نيوتن (1642 – 1727) حركتها بمحصلة قوى الاستمرارية والجاذبية.
2- مجمع البيان: 9/287.

1 – الهداية، قال تعالى (وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) (النحل:16) وقال تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأنعام:97) حيث كان الناس يتخذونها دليلاً لمعرفة الطرق في اسفارهم خصوصاً في البحار والمحيطات حيث لا توجد أي علامة غيرها قبل اختراع الآلات واستفادوا منها لتحديد الاتجاهات كالكعبة وبعض الأوقات فمن دون علامات في البر(1)، ونجوم في الجو لا يهتدون الى الطريق الموصل للغرض.

وكان الجاهليون يستهدون بها لمعرفة حظوظهم ومستقبلهم ويتفاءلون بها ولذا كانوا يطلبون الخير والبركة منها، ولعل هذا يفسّر الحركة التمويهية التي قام بها إبراهيم في قوله تعالى (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) (الصافات:88-90)فكأنه (علیه السلام) طلب منهم أن يكتشفوا من النجوم التي يعتقدون بها ما يشير إلى سقمه، وما كان سقيماً في جسده ولكنه كان مرتاداً طالباً للحقيقة وهي معرفة الله تبارك وتعالى.

وهذه الوظيفة - وهي الهداية - هي من أهم وظائف أئمة أهل البيت (علیهم السلام) فقد اختارهم الله تعالى ليكونوا هداة إليه وادلاء على طاعته يأخذون بأيدي الناس من ظُلمات الجهل والتعصب والضلال واتباع الشهوات والفتن إلى نور الهداية والسعادة والفلاح، قال تعالى (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)

ص: 18


1- كاختلاف التضاريس الأرضية من جبال وسهول وأنهار لذا كانوا يتيهون في الصحراء لعدم وجود علامات مميزة.

(الأنبياء:73) فهم يهدون بأمر الله تعالى كالنجوم التي وصفها الله تعالى بأنها (مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ) (الأعراف:54)، ورد في تفسير قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ) (الأنعام:97) عن علي بن إبراهيم ان (النجوم: آل محمد علیهم السلام )(1) ووردت عدة روايات بهذا المعنى في تفسير قول الله عز وجل: (وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) منها عن الامام الصادق (علیه السلام) قال (رسول الله (صلی الله علیه و آله) النجم، والعلامات هم الأئمة (علیهم السلام) بهم يهتدون)(2) .

وهم (علیهم السلام) أولى بالهداية لأنهم آيات الله العظمى التيتمشي على الأرض بين الناس اما النجوم فهي بعيدة عنهم ولا يعرفون تفاصيلها.

فمن سار على هداهم نجا ومن تنكب عنهم هلك: وقد اشتهر عن النبي (صلی الله علیه و آله) قوله (الا مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف هنها هلك)(3) وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) (وخلف فينا راية الحق، من تقدمها مرق، ومن تخلّف عنها زهق، ومن لزمها لحق)(4).

وهذا ما أكدته السيدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) في خطبتها (أما والله لو تركوا الحق على أهله واتبعوا عترة نبيه (صلی الله علیه و آله) لما اختلف في الله أثنان ولورثها سلف عن سلف وخلف بعد خلف حتى يقوم قائمنا التاسع من ولد الحسين (علیه السلام) ولكن قدّموا من أخره الله وأخروا من قدّمه الله)(5).

ص: 19


1- تفسير القمي:1/211.
2- الكافي: ج 1 / 160 ح 1 وتجد مجموعة الروايات في البرهان: 5/328.
3- فضائل الصحابة: أحمد بن حنبل: 2/785.
4- نهج البلاغة: خطب الامام علي، ج 1 / ص 193.
5- موسوعة المصطفى والعترة للشاكري: 4 / 362 عن عوالم المعارف:11/228.

ومن رسالة الامام المهدي (عج) إلى شيعته (او ما رأيتم كيف جعل الله لكم معاقل تأوون اليها، واعلاماً تهتدون بها من لدن آدم كلما غاب علم بدا علم، واذا أفل نجم طلع نجم)(1).

2 – الزينة قال تعالى (وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَتَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (فصلت:12) (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) (الصافات:6) والزينة ما يحسِّن الانسان ويجمّل هيئته الظاهرية (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (الأعراف:31) والزينة تشمل الأمور الظاهرية والباطنية روى جابر الانصاري عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله (زيّنوا مجالسكم بذكر علي بن أبي طالب)(2) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال (كنت انا وعلي نوراً بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق الله آدم بأربعة عشر الف عام، فلما خلق الله آدم قسّم ذلك النور جزأين ركّبا في آدم فجزء أنا وجزء علي بن أبي طالب، فنور الحق معنا نازل حيثما نزلنا)(3).

روى الكليني (قال أبو عبد الله (علیه السلام): إن الله خلقنا فأحسن صورنا وجعلنا عينه في عباده ولسانه الناطق في خلقه ويده المبسوطة على عباده، بالرأفة والرحمة ووجهه الذي يؤتى منه وبابه الذي يدل عليه وخزانه في سمائه وأرضه، بنا أثمرت الأشجار وأينعت الثمار، وجرت الأنهار وبنا ينزل غيث

ص: 20


1- الاحتجاج: 2/272.
2- بشارة الإسلام، أبو جعفر الطبري: 2/104 .
3- تذكرة خواص الأمة:46.

السماء وينبت عشب الأرض وبعبادتنا عبد الله ولولا نحن ما عبد الله)(1).

3 - الحماية والأمان: قال تعالى (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجاًوَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ) (الحجر:16-17) روي عن النبي (صلی الله علیه و آله) قوله (النجوم أمان لأهل السماء، اذا ذهبت النجوم ذهب أهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض فاذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض)(2).

وقد اكتشف العلم الحديث الكثير من هذه الوظائف للنجوم من حيث حفظ التوازن في الكون وصدّ الشهب الثاقبة ومعرفة موقع واتجاه الحركة في الكون ونحو ذلك.

واخرج الحاكم عن بن عباس، قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق -- فلو لم يستهدوا بالنجوم فأنهم يتيهون في البحار ويغرقون --، وأهل بيتي أمان لامتي من الاختلاف فاذا خالفتها قبيله من العرب اختلفوا فصاروا حزب ابليس)(3).

وقد روي عن الامام الصادق (علیه السلام) قوله (يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين كما ينفي الكير خبث الحديد) وروى البرقي في المحاسن (فانظروا علمكم هذا عمن تأخذونه، فان فينا أهل البيت في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين

ص: 21


1- الكافي: 1 / 144.
2- امالي ابن الشيخ: 241.
3- المستدرك- الحاكم النيسابوري:3/149/ ط. دار المعرفة بيروت – لبنان.

وانتحال المبطلين وتأويلالجاهلين)(1).

عن معاوية بن وهب قال سمعت أبا عبدالله (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) (ان لله عند كل بدعة تكون بعدي ويُكاد بها الايمان ولياً من أهل بيتي موكلاً به يذبّ عنه، ينطق بالهام من الله ويعلن الحق وينوره ويرد كيد الكائدين ويعبر عن الضعف فاعتبروا يا اولي الابصار وتوكلوا على الله )(2).

ونستشعر هذا الأمان من خلال ولايتنا لأهل البيت (علیهم السلام) ووجود امام معصوم يتابع شؤوننا (نحن وإن كنّا ناوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسب الذي أراناه الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين، فإنا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يعزب عنّا شي ء من أخباركم، ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون. إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولو لا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء)(3) .

ويمكن أن نأخذ تصوراً عن هذا الدور المهم للأئمة المعصومين(علیهم السلام) من خلال التجربة والمعايشة للدور المبارك الذي تؤديه المرجعية الرشيدة في حفظ كيان الأمة وحمايتها وتحصينها من الانحراف والضلال والمؤامرات الخبيثة التي تحاك لها، وخذ العراق مثلاً فان الفتن التي تعرّض لها والمكائد

ص: 22


1- بحار الأنوار: 2/92 .
2- الكافي:1/54 .
3- الاحتجاج للشيخ الطبرسي: ج 2، ص 323.

الخبيثة والمشاريع الشيطانية التي أغرقته في بحور من الدماء والفساد والشبهات والصراعات الا أنه بقي صامداً محافظاً على مبادئه بدرجة كبيرة بينما تنهار الدول والحكومات بأقل من ذلك بكثير.

ومن مجموع هذه الوظائف العظيمة للنجوم فانه لا يمكن الاستغناء عن وجودها لذا فان أئمة أهل البيت (علیهم السلام) لا يمكن التخلف والاعراض عنهم او اتباع غيرهم بدلاً عنهم، قال أمير المؤمنين (علیه السلام) (لا يقاس بآل محمد (صلی الله علیه و آله) من هذه الأمة أحد ولا يُسَّوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا)(1). لكن بعض المنحرفين عن أهل البيت (علیهم السلام) وضعوا حديثاً لخلط الأمور وتضييع الحقيقة على الناس وافتروا على رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) وهم يعلمون باليقين أن كثيراً من هؤلاء الأصحاب ارتكبوا الجرائم والموبقات الكبيرة وبدّلوا دين الله تعالى وحرّفوا أحكامه وقتلوا أولياء الله تعالى فكيف يُهتدى بهم.

نعم وجدت في بعض مصادرنا ان الحديث مروي عن رسول الله(صلی الله علیه و آله) لكنهّ فسَّر الاصحاب بأهل بيته (علیهم السلام)، فقد روى الشيخ الصدوق (رحمه الله) بسند معتبر عن جعفر بن محمد، عن آبائه (علیهم السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (ما وجدتم في كتاب الله عز وجل فالعمل لكم به لا عذر لكم في تركه، وما لم يكن في كتاب الله عز وجل وكانت فيه سنة مني فلا عذر لكم في ترك سنتي، وما لم يكن فيه سنة مني فما قال أصحابي فقولوا به، فإنما مثل أصحابي فيكم كمثل النجوم بأيها اخذ اهتدي، وبأي أقاويل أصحابي أخذتم اهتديتم،

ص: 23


1- نهج البلاغة: خطب الإمام علي (علیه السلام) ج 1 - ص 30.

واختلاف أصحابي لكم رحمة. فقيل: يا رسول الله ومن أصحابك؟ قال: أهل بيتي)(1).

نسأل الله تعالى أن يهدينا بنورهم ويزينَّنا بولايتهم ويحصنَّنا بأمانهم في الدنيا والآخرة.

ص: 24


1- معاني الاخبار ص156-157.

خطاب المرحلة 597 : جعفر الطيار (علیه السلام) فتى النقاء والعفاف والجهاد

اشارة

فتى النقاء والعفاف والجهاد (1)

بمناسبة يوم الفتوة نستذكر جوانب من السيرة العطرة لقمّة من قمم الفتوة في الإسلام قلّما يذكر في المجالس، لنستلهم منه دروس العفاف والاستقامة والجهاد في سبيل الله تعالى ونصرة قادة الإسلام ولندخل السرور على قلب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين وفاطمة الزهراء (علیهم السلام) لحبهم إياه وبقدر حزنهم عليه.

إنه جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم فهو وإخوته أول من اجتمعت لهم ولادة هاشم من جهة الأم والأب، وكان (جعفر أكبر من علي (علیه السلام) بعشر سنين وكان عقيل - والد سفير الحسين مسلم - أكبر من جعفر بعشر سنين وكان طالب أكبر من عقيل بعشر سنين)(2). وروى البلاذري بسنده عن الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) رواية تذكر

ص: 25


1- من حديث سماحة الديني الشيخ محمد اليعقوبي مع جمع من الشباب الفاعلين وفي أحد مجالس بحثه الشريف لخص فيه كتاباً ألفّه بهذا العنوان وطبع مستقلاً وهو تحقيق كتبه سماحة المرجع بمناسبة انطلاق يوم الفتوة حيث دعا سماحته في خطبتي عيد الفطر 1440 ه- الموافق 2019/6/5 إلى تعيين يومٍ للفتوة واختار له الخامس عشر من شوّال يوم نادى وحي السماء: (لا فتى إلا عليّ).
2- مقاتل الطالبيين، لأبي الفرج الأصفهاني: 3، الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر المطبوع بهامش الإصابة: 1/210.

فروقاً في العمر بينهم أقل من ذلك(1)، ولم تذكر بعضها ولداً باسم طالب ولا ذكر له في التاريخ، وربما توهّمه بعضهم من جهة كنيته أبي طالب.

نشأته الطاهرة:

ولد ونشأ في بيت طهر وعفاف وإيمان وتوحيد قبل الإسلام وهو بيت أبي طالب سيد قريش وحامي رسول الله (صلی الله علیه و آله) وكافله وناصره، وفاطمة بنت أسد المضحّية المجاهدة(2)، لذلك عفّت نفسه منذ صباه عما كان يمارسه أهل الجاهلية من فواحش وعبادة للأوثان وهي حالة نادرة في ذلك المجتمع الجاهلي الغارق في الفسق والفجور، وقد أشاد النبي (صلی الله علیه و آله) بهذه الفضيلة لجعفر بعد ذلك وأراد إشهارها بين المسلمين ليعرفوا فضله وسمو بيته الطاهر حتى لا ينافسهم من لا يدانيهم في هذه المرتبة، فقد روي عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) (قال: أوحى الله تعالى إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) إني شكرت لجعفر بن أبي طالب أربع خصال، فدعاه النبي (صلی الله علیه و آله) فأخبره، فقال: لولا أن الله تبارك وتعالى أخبرك ما أخبرتُك، ما شربت خمراً قط، لأني علمت أني إن شربتها زال عقلي، وما كذبت قط، لأن الكذب ينقص المروة، وما زنيت قط لأني خفتأني إذا عملت عُمل بي، وما عبدت صنماً قط لأني علمت أنه لا يضر ولا ينفع، قال: فضرب النبي (صلی الله علیه و آله) على عاتقه وقال: حق لله تعالى أن يجعل لك جناحين تطير بهما مع الملائكة في الجنة)(3).

ص: 26


1- أنساب الأشراف، أحمد بن يحيى البلاذري (ت279 ه-): 40.
2- راجع كلمة سماحة المرجع اليعقوبي عن فاطمة بنت أسد في موسوعة خطاب المرحلة: 2/56-72.
3- علل الشرائع: 2/558.

فالخصال الحميدة الراسخة في قلب الانسان ونفسه يحبّها الله تعالى ويشكرها لعبده ويجازيه عليها.

إسلامه:

ولذا كان من الطبيعي أن يسارع إلى الإيمان بالنبي (صلی الله علیه و آله) حينما بعث بالنبوة لم يسبقه إلا علي وخديجة صلوات الله عليهما في الأيام الأولى من دعوته السرية قبل الصدع بها، وكان جعفر يومئذ في العشرين من عمره، روى في البحار عن علي بن إبراهيم صاحب التفسير عن بدء بعث النبي (صلی الله علیه و آله) إلى أن قال: (فلما أتى لذلك – أي البعثة والتحاق علي وخديجة – أيام دخل أبو طالب إلى منزل رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومعه جعفر، فنظر إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعلي بجنبه يصليان، فقال لجعفر: يا جعفر صِلْ جناح ابن عمك(1)، فوقف جعفر بن أبي طالب منالجانب الآخر)(2).

ورواه الشيخ الصدوق في الأمالي بسنده عن الإمام الصادق (علیه السلام) وفيه (فلما أحسَّه – أي التحاق جعفر به – تقدمهما وانصرف أبو طالب مسروراً وهو يقول:

إن علياً وجعفراً ثقتي *** عند ملم الزمان والكربِ

والله لا أخذل النبي ولا *** يخذله من بنيَّ ذو حسبِ

ص: 27


1- وهي تعني أن يقف إلى يسار رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليكمل وقوف أخيه علي إلى يمينه، أو تعني نصرته وتقويته كما في قول أمير المؤمنين (علیه السلام): (صِل عشيرتك فإنهم جناحك الذي به تطير) (نهج البلاغة:3/57).
2- بحار الأنوار: 18/184، ح14.

لا تخذلا وانصرا ابن عمكما *** أخي لأمي من بينهم وأبي

قال: فكانت أول جماعة جمعت ذلك اليوم)(1).

فليس صحيحاً ما ذكره ابن هشام في سيرته(2) وابن حجر في الإصابة عن ابن إسحاق أنه (أسلم بعد خمسة وعشرين رجلاً وقيل بعد واحد وثلاثين)(3) وذكر ابن هشام أسماءهم.

هجرته إلى الحبشة وإسلام ملكها على يديه:

كان على رأس المسلمين الأوائل في هجرتهم إلى الحبشة ومعه امرأته أسماء بنت عميس الخثعمية. روى ابن هشام عن ابن إسحاق قال: (فلما رأى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، لمكانه من الله ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه. فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفراراً إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة كانت في الإسلام)(4).

وقال: (فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد آمنوا واطمأنوا بأرض الحبشة، وأنهم قد أصابوا بها داراً وقراراً، ائتمروا بينهم أن يبعثوا فيهم

ص: 28


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 304 وأورده المجلسي في بحار الأنوار، وقال: (روى السيد في الطرائف عن أبي هلال العسكري من كتاب الأوائل مثله) (بحار الأنوار: 35/68، ح2 عن الطرائف: 87).
2- السيرة النبوية لابن هشام: 1/233.
3- الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر العسقلاني (ت 852 ه-): 1/237.
4- السيرة النبوية لابن هشام: 1/280.

منهم رجلين من قريش جلدين إلى النجاشي، فيردهم عليهم، ليفتنوهم في دينهم، ويخرجوهم من دارهم التي اطمأنوا بها وأمنوا فيها، فبعثوا عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص بن وائل، وجمعوا لهما هدايا للنجاشي ولبطارقته، ثم بعثوها إليه فيهم)(1).

ونفّذ الرجلان ما أرسلا به وطلبا من النجاشي رد المهاجرين إلىبلدهم وتسليمهم إلى قريش، وروت لنا أم المؤمنين أم سلمة ما جرت من أحداث وكانت مع زوجها أبي سلمة في المهاجرين، قالت (فأرسل النجاشيّ إلى أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟

قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائناً في ذلك ما هو كائن. فلما جاؤوا - وقد دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله - سألهم فقال لهم: ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في ديني، ولا في دين أحد من هذه الملل؟ قالت: فكان الذي كلّمه جعفر بن أبي طالب (رضوان الله عليه)، فقال له: أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن

ص: 29


1- المصدر السابق: 1/288.

الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام - قالت -أي أم سلمة- فعدّد عليه أمورالإسلام – فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً، وحرّمنا ما حرّم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن إلا نظلم عندك أيها الملك.

قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأه عليّ، قالت: فقرأ عليه صدراً من (كهيعص) -أي سورة مريم-. قالت: فبكى والله النجاشي حتى أخضلّت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال (لهم) النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون)(1).

ومن هذه الكلمات نعلم أن جعفراً قد أُشرِب بالإيمان في قلبه ووعى أحكام الإسلام فاستحق أن يكون سفيراً للنبي (صلی الله علیه و آله) وداعياً إلى الإسلام، وقد أجرى الله تعالى الخير على يديه حيثأسلم النجاشي ملك الحبشة ببركة جهوده(2).

ص: 30


1- نفس المصدر: 1/290.
2- الإصابة في تمييز الصحابة: 1/237.

بقي في الحبشة سنين طويلة ولم يحضر وفاة والده أبي طالب سيد البطحاء وناصر رسول الله وحاميه في مكة قبل الهجرة بثلاث سنين بعد محنة الحصار في الشِعب بين الجبال، ولا وفاة أمه فاطمة بنت أسد التي قال فيها رسول الله (صلی الله علیه و آله) لمّا أبلغه ولدها علي (علیه السلام) بوفاتها: (رحم الله أمك يا علي، أما إنها إن كانت لك أماً فقد كانت لي أماً)(1) وصلى عليها صلاة لم يصلها على أحد قبلها، وقد توفيت في المدينة بعد الهجرة.

عودته إلى المدينة وسرور النبي البالغ به:

ورجع إلى المدينة في أوائل السنة السابعة من الهجرة واختط له النبي (صلی الله علیه و آله) داراً إلى جنب المسجد(2)، وكان قدومه متزامناً مع انتصار النبي (صلی الله علیه و آله) على اليهود في خيبر وفتح حصونهم على يدي أخيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام)، وفرح النبي (صلی الله علیه و آله) بقدومه أشد الفرح فقد روى زرارة عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: (ولما افتتح رسول (صلی الله علیه و آله) خيبر أتاه البشير بقدوم جعفر بن أبي طالبوأصحابه من الحبشة إلى المدينة، فقال (صلی الله علیه و آله): ما أدري بأيهما أنا أسَرّ، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر)(3).

وعن سفيان الثوري، عن أبي الزبير، عن جابر قال: (لما قدم جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة تلقاه رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فلما نظر جعفر إلى رسول الله

ص: 31


1- بحار الأنوار للمجلسي: 78/350 عن أمالي الصدوق: 180.
2- الاستيعاب في معرفة الأصحاب، لابن عبد البر يوسف بن عبد الله القرطبي (ت 463ه-): 1/210.
3- التهذيب للشيخ الطوسي: 3/186.

(صلی الله علیه و آله) حجل(1)، فقبل رسول الله بين عينيه).

وروى زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام) (أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما استقبل جعفراً التزمه ثم قبل بين عينيه، قال: وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعث قبل أن يسير إلى خيبر عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي عظيم الحبشة ودعاه إلى الإسلام فأسلم، وكان أمر عمرواً أن يتقدم بجعفر وأصحابه، فجهز النجاشي جعفراً وأصحابه بجهاز حسن، وأمر لهم بكسوة وحملهم في سفينتين).

وروى الشيخ الصدوق في الخصال والعيون بإسناده عن أبي محمد العسكري، عن آبائه، عن علي (علیهم السلام) قال: (إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لمّا جاءه جعفر بن أبي طالب من الحبشة قام إليه واستقبله اثنتي عشرة خطوة، وقبل ما بين عينيه وبكى، وقال: لاأدري بأيهما أنا أشد سروراً، بقدومك يا جعفر أم بفتح الله على أخيك خيبر؟ وبكى فرحاً برؤيته)(2).

صلاة جعفر: هدية أهل الكمالات المعنوية:

وقدّم له النبي (صلی الله علیه و آله) هدية معنوية جليلة بهذه المناسبة وهي الصلاة المعروفة بصلاة جعفر الطّيار التي يصفها العرفاء بأنها الإكسير الأعظم لنيل الكمالات المعنوية، وهي من مختصات أهل الولاية التي حباهم الله تعالى بها، فكانت صدقة جارية لجعفر يأتيه مثل ثواب من أقامها إلى يوم القيامة فجزاه الله خير جزاء المحسنين وأحسن مثواه.

ص: 32


1- الحجل أن يمشي بخطوات متقاربة كالمقيد أدباً وهيبة لرسول الله (صلی الله علیه و آله)، وقيل في معناه أن يرفع رجلاً ويقفز على الأخرى من الفرح، وقد يكون بالرجلين إلا أنه قفزٌ.
2- بحار الأنوار: 21/24 عن الخصال: 2/82، عيون أخبار الرضا: 140.

وقد وردت عشرات الأحاديث في فضلها وثواب أدائها وكيفيتها، روى الكليني بسند صحيح عن أبي بصير عن الإمام الصادق قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لجعفر: يا جعفر ألا أمنحك ألا أعطيك ألا أحبوك فقال له جعفر: بلى يا رسول الله، قال: فظن الناس أنه يعطيه ذهباً أو فضة، فتشرف الناس لذلك، فقال له: إني أعطيك شيئاً إن أنت صنعته في كل يوم كان خيراً لك من الدنيا وما فيها وإن صنعته بين يومين غفر لك ما بينهما أو كل جمعة أو كل شهر أو كل سنة غفر لك ما بينهما، تصلي أربع ركعات تبتدئ فتقرأ وتقول إذا فرغت: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، تقول ذلك خمس عشرة مرة بعدالقراءة فإذا ركعت قلته عشر مرات فإذا رفعت رأسك من الركوع قلته عشر مرات فإذا سجدت قلته عشر مرات فإذا رفعت رأسك من السجود فقل بين السجدتين عشر مرات فإذا سجدت الثانية فقل عشر مرات فإذا رفعت رأسك من السجدة الثانية قلت عشر مرات وأنت قاعد قبل أن تقوم فذلك خمس وسبعون تسبيحة في كل ركعة ثلاثمائة تسبيحة في أربع ركعات ألف ومائتا تسبيحة وتهليلة وتكبيرة وتحميدة إن شئت صليتها بالنهار وإن شئت صليتها بالليل)(1).

أقول: وهي أربع ركعات كل اثنتين على حدة بتشهّد وتسليم، ويؤتى بها في أي وقت وأفضل أوقاتها صدر النهار من يوم الجمعة ويستحب أداؤها عند زيارة المعصومين فهي هدية مناسبة لهم سلام الله عليهم أجمعين.

وفي رواية إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي الحسن (علیه السلام) (تقرأ في

ص: 33


1- الكافي: 3/465، ح 1، وسائل الشيعة: 8/49، أبواب صلاة جعفر، باب 1، ح1.

الأولى إذا زلزلت، وفي الثانية والعاديات، وفي الثالثة إذا جاء نصر الله، وفي الرابعة بقل هو الله أحد. قلت: فما ثوابها؟ قال: لو كان عليه مثل رمل عالج - وهو جبل معروف - ذنوباً غفر (الله) له، ثم نظر إلي فقال: إنما ذلك لك ولأصحابك)(1).

قيادته الجيش إلى معركة مؤتة وشهادته:

ولم يلبث في المدينة طويلاً حيث أمّره النبي (صلی الله علیه و آله) في جمادى من السنة الثامنة للهجرة على جيش وأرسله إلى قتال الروم في بلاد الشام انتقاماً لقتل رسوله إليهم، وفي رواية أبان بن عثمان عن الصادق (علیه السلام) (أنه استعمل عليهم جعفراً فإن قُتل فزيد - بن حارثة - فإن قتل فعبد الله بن رواحة)(2)

وقد التقى الجيشان في مؤتة من بلاد الشام.

وروي عن ابن شهاب الزهري قال: (لما قدم جعفر بن أبي طالب من بلاد الحبشة بعثه رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى مؤتة واستعمل على الجيش معه زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة فمضى الناس معهم حتى كانوا بنحو البلقاء فلقيهم جموع هرقل من الروم والعرب فانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها: مؤتة ليعسكروا فيها فالتقى الناس عندها، واقتتلوا قتالاً شديداً)(3) حتى استشهدوا وكانت الحرب غير متكافئة فالمسلمون ثلاثة آلاف والروم ومن والاهم من القبائل العربية تجاوزا مائة ألف وروي أنهم مائتا ألف وفي الاستيعاب عن ابن

ص: 34


1- التهذيب: 3/187، ح 423، وسائل الشيعة: 8/54، أبواب صلاة جعفر، باب 2، ح3.
2- بحار الأنوار: 21 /55 ح 8 عن اعلام الورى بأعلام الهدى: 110 -- 112 من الطبعة الثانية
3- بحار الأنوار: 21/51 عن أمالي ابن الشيخ: 87-88.

عمر انه قال وجدنا ما بين صدر جعفر بن أبي طالب ومنكبيه وما أقبل منه تسعين جراحة ما بين ضربه بالسيف وطعنة بالرمح.

وأنه قاتل قتالاً شديداً، حتى قطعت يده اليمنى فأخذ الراية بيدهاليسرى وقاتل إلى أن قطعت اليسرى أيضاً فاعتنق الراية وضمها إلى صدره حتى قُتل، ووجد به نيف وسبعون وقيل نيف وثمانون ما بين طعنة وضربة ورمية(1).

وفي الاستيعاب أيضاً أنه لما أتى النبي (صلی الله علیه و آله) نعي جعفر أتى امرأته أسماء بنت عميس فعزاها في زوجها جعفر ودخلت فاطمة وهي تبكي وتقول وا عمّاه فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) على مثل جعفر فلتبك البواكي.

فضله وعظيم منزلته:

روى الفريقان في فضله وعظيم منزلته عند الله تعالى وعند رسول الله (صلی الله علیه و آله) أحاديث كثيرة، وقد تقدّم بعضها من مصادرنا حيث شكره الله تعالى على استقامته وحسن سيرته وأبان النبي (صلی الله علیه و آله) للمسلمين فضله وعلوّ منزلته.

وهو ممن نزلت في فضله آيات قرآنية، منها قوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب : 23).

روى الشيخ الصدوق في الخصال حديثاً طويلاً عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (ولقد كنت عاهدت الله عز وجل ورسوله (صلی الله علیه و آله) أنا وعمي حمزة وأخي جعفر، وابن عمي عبيدة علىأمر وفينا به لله عز وجل ولرسوله، فتقدمني أصحابي وتخلفت بعدهم لما أراد الله عز وجل فأنزل الله فينا (من المؤمنين

ص: 35


1- نقلها السيد الأمين في أعيان الشيعة: ج4، في ترجمته لجعفر بن أبي طالب.

رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً) حمزة وجعفر وعبيدة، وأنا -والله- المنتظر)(1).

وكان لجعفر منزلة كبيرة عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعند أخيه أمير المؤمنين (علیه السلام) ذكر ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة عن الشعبي قال: (سمعت عبد الله بن جعفر يقول: كنت إذا سألت عمي علياً شيئاً فمنعني أقول له: بحق جعفر فيعطيني)(2).

وكذا من مصادر العامة، ففي صحيح البخاري وسنن الترمذي أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال له: (أشبهت خلقي وخلقي)(3)، ورواه في الاستيعاب بسنده عن علي (علیه السلام) أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال لجعفر: (أشبهت خلقي وخلقي يا جعفر).

زوجه وأولاده وولاؤهم لأهل البيت (علیهم السلام):

تزوج في مكة قبل الهجرة أسماء بنت عميس الخثعمية وهاجرت معه إلى الحبشة، وهي امرأة جليلة واعية ذات بصيرة سبقت إلى الإسلام مع زوجها جعفر، أثنى عليها رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعلىرجحان عقلها.

وأسماء هي أم أولاد جعفر جميعاً، وتزوجها بعد شهادته أبو بكر فولدت منه محمد بن أبي بكر الذي قال فيه أمير المؤمنين (علیه السلام): (فلقد كان إليّ

ص: 36


1- الخصال: 376، ح58. ط. جماعة المدرسين.
2- بحار الأنوار: 21/64 عن شرح نهج البلاغة: 3/42-47.
3- صحيح البخاري، كتاب 62: فضائل الصحابة، باب 10، ح 3708، سنن الترمذي: ح 3765، وفي الإصابة وغيرها.

حبيباً وكان لي ربيباً)(1)، واستشهد في مصر حيث ولاه أمير المؤمنين (علیه السلام) عليها.

وبعد وفاة أبي بكر تزوج أمير المؤمنين (علیه السلام) من أسماء وولدت له يحيى بن علي.

وأولاد جعفر (رضوان الله عليه) ثلاثة وُلدوا كلهم في أرض الهجرة، وهم:

1- عبد الله بن جعفر زوج العقيلة زينب وهو من أجواد قريش وأسيادهم استشهد له ولدان مع الإمام الحسين (علیه السلام) في كربلاء.

2- محمد بن جعفر أثنى عليه أمير المؤمنين (علیه السلام) ووصفه بأنه يأبى أن يعصى الله تبارك وتعالى فقد روى الكشي في رجاله بسنده عن الإمام الرضا (علیه السلام) قال: (كان أمير المؤمنين (علیه السلام) يقول: إن المحامدة تأبى أن يعصى الله عز وجل، قلتومن المحامدة؟ قال: محمد بن جعفر ومحمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة وهو ابن عتبة بن ربيعة وهو ابن خال معاوية)(2).

أقول: وكلهم استشهد على يد معاوية.

وقد روى أبو الفرج الأصفهاني أن محمداً كانت معه راية أمير المؤمنين التي تسمى الجموح في معركة صفين واستشهد فيها(3).

ص: 37


1- نهج البلاغة: 1/117، الخطبة (68)، وروى بمعناه المجلسي في البحار: 33/566 عن المدائني: (قيل لعلي (علیه السلام): لقد جزعت على محمد بن أبي بكر جزعاً شديداً يا أمير المؤمنين! فقال: وما يمنعني؛ إنه كان لي ربيباً وكان لبنيّ أخاً وكنت له والداً أعده ولداً).
2- رجال الكشي: 47 في ترجمة محمد بن أبي حذيفة.
3- مقاتل الطالبيين: 11.

3- عون بن جعفر، قال صاحب العمدة: (وقتل عون بالطف مع الحسين (علیه السلام)، وقيل قتل هو وأخوه محمد بشوشتر شهيدين)(1).

أقول: عون الشهيد في كربلاء هو ابن عبد الله بن جعفر.

وعُرف هذا البيت بموالاته أهل البيت (علیهم السلام) وكثر فيه الشهداء دفاعاً عن المظلومين ومقارعة الظلم والطغيان وضمّ كتاب مقاتل الطالبيين أسماء الكثير منهم.

واشتهر من أحفاد جعفر: أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري وكان عالماً جليل القدر عظيم المنزلة عند الأئمة الذين عاصرهم وهم الإمام الرضا والجواد والهادي والعسكري (علیهم السلام).

نصرة آل جعفر للإمام الحسين (علیه السلام)

كان ذكر جعفر حاضراً في كربلاء فقد افتخر الإمام الحسين (علیه السلام) به وقال في مقام الاحتجاج على الجيش المعادي: (فأنشدكم الله هل تعلمون أن جعفر الطيار في الجنة عمي؟ قالوا اللهم نعم)(2).

واستشهد اثنان من أولاد عبد الله بن جعفر بين يدي الإمام الحسين (علیه السلام).

وكان عبد الله بن جعفر يأسى لعدم تمكنه من الشهادة بين يدي الإمام الحسين (علیه السلام) ويجد السلوة في أنه قدّم ولديه شهيدين وأن زوجه العقيلة

ص: 38


1- نقله عن العمدة السيد علي خان المدني (ت 1120 ه-) في كتاب الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة: 184.
2- الأمالي للصدوق: 222، ح 239، بحار الأنوار: 44/318.

زينب كان لها الدور العظيم في إنجاز ما خرج الإمام الحسين (علیه السلام) من أجله.

وفي تأريخ الطبري (لما بلغ عبد الله بن جعفر بن أبي طالب مقتل ابنيه مع الحسين دخل عليه بعض مواليه والناس يعزونه فقال أبو السلاسل مولى عبد الله: هذا ما لقينا ودخل علينا من الحسين، قال فحذفه عبد الله بن جعفر بنعله ثم قال: يا ابن اللخناء أللحسين تقول هذا! والله لو شهدته لأحببت أن لا أفارقه حتى أقتل معه، والله إنه لمما يُسخّي بنفسي عنهما ويهون عليّ المصاب بهما أنهما أصيبا مع أخي وابن عمى مواسيين له صابرين معه، ثم أقبل على جلسائه فقال: الحمد لله، عزّ علي مصرع الحسين، إن لا أكن آست حسيناً بيدي فقد آساهولدي)(1).

وكل الهاشميين الذين استشهدوا في كربلاء هم من ذرية أبي طالب وفاطمة بنت أسد ومن أولاد علي وأخويه جعفر وعقيل، وقال الشاعر في ذلك:

تسعه منهمُ لصلب عليٍّ *** وثمان لجعفرٍ وعقيلِ

وفي الرواية أنه ذكر عند الإمام الباقر (علیه السلام) قتل الحسين وأهل بيته فقال: (قتلوا سبعة عشر إنساناً كلهم ارتكض من بطن فاطمة بنت أسد)(2).

ص: 39


1- تاريخ الطبري: 4/357. ورواه الشيخ المفيد في الإرشاد: 232-233.
2- مثير الأحزان لابن نما الحلي (ت 645 ه-): 89.

خطاب المرحلة 598 : زيادة قيمة العمل بإهدائه

(الدنيا مزرعة الآخرة)(1) ومتجر أولياء الله تعالى وقد عبّر القرآن الكريم عن عمل الانسان في الدنيا وسعيه بالتجارة (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم) (الصف:10) (يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ) (فاطر:29) فمنها يكتسب الانسان نعيم الجنان في الآخرة وفيها يزرع الثمر المبارك الذي يحتاجه في حياته الباقية، وهذه الحقيقة تدفع الانسان الواعي البصير إلى السعي الحثيث لزيادة أرباحه ورصيد حسناته عند الله تبارك وتعالى.

ولزيادة الأرباح اسلوبان:

1- بأن يزيد من اعماله الصالحة ويستثمر كل ما يستطيع من اوقاته في اكتسابها وتجنب السيئات.

2- زيادة قيمة اعماله حتى يحصل على أجر ازيد في نفس العمل.

وكلامنا في الأسلوب الثاني فمثلاً ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (علیه السلام): (صلاة متطيب أفضل من سبعين صلاة بغير طيب)(2) فمسحة من العطر تضاعف قيمة الصلاة سبعين مرة، وفي حديث آخر عن الامام الصادق (علیه السلام) (ركعتان يصليهما متزوجأفضل من سبعين ركعة يصليها غير

ص: 40


1- عوالي اللئالي: 1/267 ح 66
2- الكافي: 6 / 511 / 7

المتزوج)(1) فالتزويج يضاعف قيمة الصلاة سبعين ضعفاً، وورد في الاحاديث ان الصلاة في المسجد تعدل كذا صلاة في غيره، والصلاة جماعة تعدل كذا، فإذن استطاع المؤمن بالالتزام بهذه الأمور من مضاعفة صلاته الاف المرات بضرب هذه الاعداد ببعضها.

ومما يزيد قيمة العمل اهداؤه إلى الآخرين، فان الاجر على العمل يتضاعف بعدد من اهدي إليهم وليس يُقسَّم ثوابه على من اهداه اليهم، لذا ورد الخبر عن أبي الحسن (علیه السلام) قال: (قال أبو عبدالله (علیه السلام): لو أشركت ألفا في حجتك لكان لكل واحد حجة من غير ان تنقص حجتك شيئاً)(2) وقد تزيد قيمته اكثر اذا اهداه الى والديه لأنه يكتب له برَّ بهما او إلى قرابته لأنه سيضاف إليه ثواب صلة الرحم ففي صحيحة هشام بن الحكم عن ابي عبدالله (علیه السلام) (في الرجل يشرك أباه وأخاه وقرابته في حجه؟ فقال: اذن يكتب لك حج مثل حجتهم وتزاد أجراً بما وصلت)((3).

ومما ورد في ذلك (موثقة إسحاق بن عمار عن ابي إبراهيم (علیه السلام) قال: سألته عن الرجل يحج فيجعل حجته عمرته أوبعض طوافه لبعض اهله وهو عنه غائب ببلد آخر، قال: قلت: فينقض ذلك من أجره؟ قال: لا هي له ولصاحبه وله أجر سوى ذلك بما وصل، قلت: وهو ميت هل يدخل ذلك عليه؟

ص: 41


1- بحار الأنوار: 103/219 ح 15.
2- الكافي: ج2 من الفروع، كتاب الحج، باب: من يشرك قرابته وإخوته في حجته أو يصلهم بحجة/ح10.
3- (3) المصدر السابق

قال: نعم، حتى يكون مسخوطاً عليه فيغفر له، أو يكون مضيقاً عليه فيوسع عليه، قلت: فيعلم هو في مكانه أن عمل ذلك لحقه؟ قال: نعم، قلت: وإن كان ناصبياً ينفعه ذلك؟ قال: نعم، يخفف عنه)((1).

وأفضل ما يكون الاهداء والنيابة عن المعصومين (علیهم السلام) فقد روي عن موسى بن القاسم قال: قلت لابي جعفر الثاني (علیه السلام): قد أردت أن أطوف عنك وعن أبيك فقيل لي: إن الاوصياء لا يطاف عنهم، فقال لي بل طف ما أمكنك فإنه جائز. ثم قلت له بعد ذلك بثلاث سنين: إني كنت أستاذنتك في الطواف عنك وعن أبيك فأذنت لي في ذلك فطفت عنكما ما شاء الله ثم وقع في قلبي شيء فعملت به قال: وما هو؟ قلت: طفت يوما عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: ثلاث مرات صلى الله على رسول الله، ثم اليوم الثاني عن أمير المؤمنين (علیه السلام) ثم طفت اليوم الثالث عن الحسن (علیه السلام) والرابع عن الحسين (علیه السلام) والخامس عن علي بن الحسين (‘) والسادس عن أبي جعفر محمد بن علي (‘) واليومالسابع عن جعفر بن محمد (‘) واليوم الثامن عن أبيك موسى (علیه السلام) واليوم التاسع عن أبيك علي (علیه السلام) واليوم العاشر عنك يا سيدي وهؤلاء الذين أدين الله بولايتهم فقال: إذن والله تدين بالدين الذي لا يقبل من العباد غيره، قلت: وربما طفت عن أمك فاطمة (علیها السلام) وربما لم أطف، فقال: استكثر من هذا فإنه أفضل، ما أنت عامله إن شاء الله)(2).

ص: 42


1- (1) الكافي: ج2 من الفروع، كتاب الحج، باب: من يشرك قرابته وإخوته في حجته أو يصلهم بحجة، الأحاديث: ح10.
2- فروع الكافي: ج2، كتاب الحج، باب الطواف والحج عن الأئمة (علیهم السلام)، ح 2.

وتذكر بعض الروايات ثواباً عظيماً لمن يهدي الاعمال الصالحة للمعصومين (علیهم السلام) بان يكون معهم في درجتهم فقد روى علي بن المغيرة، عن أبي الحسن (علیه السلام) قال: قلت له:(إن أبي سأل جدك، عن ختم القرآن في كل ليلة، فقال له جدك: كل ليلة، فقال له: في شهر رمضان، فقال له جدك: في شهر رمضان، فقال له أبي: نعم ما استطعت.

فكان أبي يختمه أربعين ختمة في شهر رمضان، ثم ختمته بعد أبي فربما زدت وربما نقصت على قدر فراغي وشغلي ونشاطي وكسلي فإذا كان في يوم الفطر جعلت لرسول الله (صلی الله علیه و آله) ختمة ولعلي (علیه السلام) أخرى ولفاطمة (علیها السلام) أخرى، ثم للأئمة (علیهم السلام) حتى انتهيت إليك فصيرت لك واحدة منذ صرت في هذا الحال - أي منذ التفت إلى ولايتكم أو الى هذه الفكرة - فأي شيءلي بذلك؟ قال: لك بذلك أن تكون معهم يوم القيامة، قلت: الله أكبر فلي بذلك؟! قال: نعم، ثلاث مرات)(1).

وهذا كله من فضل الله تعالى وكرمه، وفي الحديث القدسي (إنما خلقت الخلق ليربحوا علىّ ولم أخلقهم لأربح عليهم)(2).

وقد اشرت في بحثي الفقهي عندما تناولت مسألة (الفصل بين عمرتين) (3) إلى ما يذهب إليه المشهور من عدم صحة العمرتين في شهر واحد وانا أخالفهم في ذلك ولكن على المشهور فليس الاجراء الصحيح أن نعتمر مرة

ص: 43


1- الكافي: ج 2، ص 618
2- جامع السعادات - محمد مهدي النراقي - ج 1 - ص 228
3- راجع فقه الخلاف: 7/425 ط. الثانية

واحدة في شهر ما ثم ننتظر دخول الشهر الثاني للاعتمار مرة ثانية، بل الصحيح أن نكرر العمرة ولو في كل يوم مرة أو مرتين لكن بالنيابة عن المعصومين (علیهم السلام)، لأن ما اشترطوه من الفصل بين عمرتين بشهر واحد كاف عن نفسه اما النيابة فله أن يكرّرها.

ص: 44

خطاب المرحلة 599 : سمات الخطيب الناجح ودوره في الاصلاح والمواجهة الحضارية

أكد سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على ضرورة قيام المؤسسة الدينية بتطوير قابليات الخطباء وتعزيز مؤهلاتهم من خلال الاستفادة من التجارب المنبرية الناجحة وترسيخها وتطويرها وفرز عوامل نجاحها ودراستها من أجل نشر الوعي والدين والثقافة السليمة وافتتاح ساحات جديدة وخلق فرص نوعية للعمل الاسلامي وخدمة المجتمع ومواجهة الانحدارات المتسارعة على مستوى الدين والفكر والاخلاق وغيرها.

جاء ذلك خلال كلمة(1) أرتجلها بجمع من خطباء الجمعة والمنبر الحسيني الذين شاركوا في ورشة لتطوير قابليات الخطباء أقامتها مؤسسة الصلاة والمنبر بمكتبه في النجف الاشرف.

واشار سماحته الى ان التبليغ من أوضح وظائف الانبياء (علیهم السلام) (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّه) موضحاً الارتباط الوثيق بين عناصر شخصية الخطيب الناجح التي ينبغي ان تتوفر وتنصهر فيها ليستطيع أداء وظيفتهُ التبليغية العظيمة، والتي يمكن الاشارة الى جملة منها.

وهي: ان يكون الخطيب حوزوياً قد قطع شوطاً معتداً به في تحصيل العلوم الحوزوية فلكي يوصل رسالته للمجتمع لابد له من طلب العلم لنفسه

ص: 45


1- الخميس 7 /ذو القعدة/1440 ه- الموافق11-7-2019م.

ولمتعلقيه وللمجتمع واعاد التذكير بكلمته: نقص في الحوزوي أن لا يكون خطيباً ونقص في الخطيب أن لا يكون حوزوياً، لأن المنبر وسيلة قيام المؤسسة الدينية بواجباتها التبليغية، وقوام محاضرات الخطيب ما يتلقاه من علوم في الحوزة العلمية الشريفة.

ومنها أن يتحلى بالمقدار الكافي من الثقافة العامة وأن يكون له سعة اطلاع.. وأن تتوافر لديه المعلومة الحديثة والمواكبة المستمرة للتطورات.. فهذه من أدوات عمله وعليه أن يتقن العمل بها، وأن يكون جاداً في تطوير ثقافته وتوسيع مداركه خاصة في أوقات التعطيل أذا تعذر عليه ذلك ايام التحصيل الدراسي.

ومنها ان يكون ملماً بأساليب التأثير بالمستمع وقادر على شدهم إليه من دون ابتذال أو اسفاف مع الحفاظ على منهجية خطبته ووحدة موضوعها وخارطة الطريق التي أعدها لإلقائها.

ولفت سماحته الى أن الخطبة او المحاضرة المثالية هي بمثابة بحث مصغرّ يعده الخطيب ليلقيه سواء في الجمعة او على المنبر وهذا وحده يتطلب إلماماً بأسلوب كتابة البحث العلمي لضمان النجاح في أداء الرسالة والتأثير في الناس ... فنجاح الخطيب أنما هو نجاح للدين والحوزة العلمية والمجتمع ولابد من التكاتف لدعم ملف الخطباءوالتبليغ الديني واستحضار تجارب المدارس الخطابية المؤثرة والتي لا زالت بركاتها مستمرة كمدرسة عميد المنبر الحسيني الشيخ أحمد الوائلي (رحمة الله علیه) الذي اعتمد اسلوباً جديداً في وقته وهو افتتاحه المحاضرة بآيات القرآن الكريم ويبدأ بشرحها وتفسيرها وعرض

ص: 46

الدروس المستفادة منها وصولاً الى موضوعة النهضة الحسينية .. وهو أحد الاساليب الناجحة في هذا الباب وقد وثق (رحمه الله تعالى) قصته مع الخطابة في كتابه المعروف (تجاربي مع المنبر) والذي ذكر فيه انه استفاد من مدرسة شيخ الخطباء في عصره الشيخ محمد علي اليعقوبي (رحمه الله تعالى) والذي كان صاحب مدرسة متميزة ايضاً ونستطيع قراءة مدرسته الخطابية من خلال مدونات مجلة الايمان النجفية.. فقد ضم أحد اعدادها والذي وثق الكلمات والخطب والقصائد التي ألقيت في أربعينية الشيخ محمد علي اليعقوبي والتي دبجتها أقلام كبار المراجع والعلماء في منتصف ستينيات القرن الماضي.

وبإزاء هذا التفاعل من قبل جملة من المراجع والشخصيات العلمائية مع المدارس الخطابية المؤثرة ووجود تقدم في التفكير داخل الجوّ الحوزوي بهذا الصدد.. تأسف سماحته لوجود حالة من الابتعاد والترفع ضمن الإطار العلمائي والمرجعي عن الخطابة، وان العالم يأنف ان يكون خطيباً بل يُنتقصَ ويُثلَب إذا مارس الخطابة، ويقتصر على إلقاء الدروس الحوزوية المتعارفة ما أدى الى انعزال العلماء داخلأجواء دروسهم وبحثهم وحرمانهم من هذا الثواب العظيم.

وقال سماحته: وقد بادر جملة من الاعلام الاجلّاء الى سد هذا النقص والخلل وكسروا الطوق وبرعوا في هذا الميدان من أمثال الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والسيد الشهيد الصدر الاول (قدس سره) الذي بادر الى القاء محاضرات في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم وأخرى فكرية واخلاقية عامة.. ولم تبتعد الذاكرة عن خطب الجمعة التي القاها السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في مسجد الكوفة.. وقد كان حريصاً على موضوع الخطابة واقامة

ص: 47

المجالس في داره وفي مكتبه، وأتذكّر في أحد الايام وبعد تأخر الخطيب عن موعده بادر (قدس سره) لإقامة المجلس بنفسه وإلقاء محاضرة على الحاضرين بدل انفضاضهم وحرمانهم من ثواب حضور مجلس الامام الحسين (علیه السلام)، كما ان السيد الخميني (قدس سره) استثمر خطاباته لإيصال رسالته للشعب الايراني وقد اعطى وجوده في النجف الاشرف زخماً جديداً للمرجعية وللحوزة العلمية.

وكرر سماحته دعوته الخطباء وطلبة العلوم الى تخصيص وقت للمطالعة وتوسيع دائرة المعارف الثقافية وضرورة ان يتقدم طلبة العلوم الدينية بمن فيهم الخطباء بخطوة على اقل تقدير باتجاه الثقافة والوعي أزيد من المجتمع ليكون عند الخطيب ما يقدّمه الى المجتمع زيادة عمّا عندهم، منوها بقوله: (ولدى دراسة أسباب عزوف شريحة كبيرة عنحضور المجالس والخطب تبيّن أن أحدها عدم ارتقاء مستوى الخطاب الى مستوى انتفاع الحاضرين، انقل هذا عنهم وانا لا اعتبره مبرراً لعدم الحضور).

وفي سياق آخر حذّر سماحته من الاتكال على الزي الحوزوي والمكانة الدينية في شدّ الناس اليه، فهي وان كانت محترمة وتعطي قيمة في الاوساط المجتمعية لكن لا ينبغي التعويل عليها دون الأخذ بالأسباب الأخرى للنجاح والتوفيق لأداء التكليف.

ووجه سماحته كلامه الى الحضور بقوله: فالأمة بحاجة الى جهودكم والتحديات لازالت موجودة وتتكاثر بالرغم من وجود الكثير من الحالات الايجابية والحركة الايمانية الواسعة باتجاه الدين والاقبال عليه، لكن لا ينبغي الاكتفاء والاقتناع بهذا المستوى، بل لابد من السعي لهداية المجتمع، فاذا كان

ص: 48

شخص واحد غير متدين قبال 99 من المتدينين فعلينا السعي بجد لهدايته ولضمه لصفوف المؤمنين وعدم التفريط به.

واضاف سماحته: إن غض الطرف عما يعانيه المجتمع من مشاكل اخلاقية وفكرية وثقافية لا يخلي ساحتنا من المسؤولية، والشواهد كثيرة على وجود نوع من الانحدار الاخلاقي لم يكن موجوداً في السابق رغم التوسع الافقي في ظاهرة التدين، وبمتابعة بسيطة لمواقع التواصل وما ينشر فيها نجد ان المستهدف بذلك هو عقيدة هذا المجتمع وتدينه، وفيهذا السياق استشهد سماحته بإقرار قانون الاحوال الشخصية الجعفري بأغلبية ساحقة في مجلس الامة الكويتي(1) قبل اكثر من اسبوع بالرغم من عدم وجود اغلبية شيعية مما دفع بعض المعلقين في صفحات التواصل الى التساؤل عن سبب عدم اقراره في العراق بالرغم من وجود اغلبية شيعية في البرلمان والحكومة ونفوذ كلمة المرجعية الدينية، فتقوم الدنيا وتتعالى الصيحات وتثار ضجة كبيرة ليجهض القانون في بدايته.. أليست هذه مفارقة كبيرة تثير الاستغراب وتبعث التساؤل عن حجم المؤامرة التي تستهدف العراق وشعبه وما هو المصير الذي يسير اليه.. وما هي المخططات التي تحاك ضدنا.. وكيف نواجه هذا التحدي؟ والجواب: لا يوجد عندنا بعد التوكل على الله تعالى الا بث الوعي والمعرفة من

ص: 49


1- بتاريخ 2019/7/1 وافق مجلس الامة الكويتي بأغلبية 49 صوتاً من أصل 54 على اقرار قانون الاحوال الشخصية الجعفري المكون من 520 مادة بعد مناقشته مع المجلس الاعلى للقضاء والحكومة وفي اللجنة التشريعية، وقالوا انه صدر ليملئ الفراغ التشريعي في الدوائر القضائية الجعفرية بالمحاكم، وتقدّم النائب صالح عاشور باقتراح تدريسه في كليات الحقوق والشريعة ليفهمه طلاب الفقه والقانون).

خلال المنابر الصادقة والخطابة الهادفة والكتابة والتوجيه باستخدام الوسائل المتاحة.. هذه هي ادواتنا التي ينبغي ان نفعّلها ونعض عليها بالنواجذ.. وان نتواضع ونسجد لله شكراً ان جعلنا في هذه المواجهة من المدافعين عن دينه والعاملين لإعلاء كلمته تبارك وتعالى وحمّلنا هذه المسؤولية.. وأن لا نكترث للمثبطين والمستهزئين ومنأمثالهم فقد حفل القرآن الكريم بالكثير من الآيات التي تبين ندم وألم الكفار والمنافقين والمشركين الذين كانوا يستهزئون بالمؤمنين ويسخرون منهم في دار الدنيا حين بانت النتائجُ يوم الحساب (وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ * إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) (ص: 55 – 64) (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) ( القصص:83 ).

ص: 50

خطاب المرحلة 600 : شرف الانتماء ومسؤوليته

(فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) (إبراهيم:36)

شرف الانتماء ومسؤوليته (1)

الآية الكريمة تبيّن على لسان النبي إبراهيم (علیه السلام) المقياس الحقيقي للانتساب إلى النبي أو الامام أو القائد ورئيس الجماعة بشكل عام وانه يتحقق بالطاعة والاتباع في الأقوال والأفعال وليس بادعاء الانتساب أو اللحمة النسبية، لذلك يردّ الله تبارك وتعالى في آية أخرى على اليهود والنصارى الذين ادعوا انهم السائرون على دين إبراهيم (علیه السلام) والحافظون له، وثبت حقيقة الانتساب، قال تعالى (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَ-ذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران:68) بعد أن نفى في الآية السابقة دعواهم (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (آل عمران:67) .

والآية الكريمة تفيد حقيقتين، فهي من جهة تمنح الملتزمين بنهج النبي (صلی الله علیه و آله) وآله الكرام (علیهم السلام) وساماً تكريمياً من أعلى الدرجات بأن تجعلهم منهم (صلوات الله عليهم أجمعين) وتدلّ على الطريق الذي يوصلك الى أن تكون من أهل البيت(علیهم السلام) وكفى بذلك شرفاً وكرامة، وقد صرح المعصومون (علیهم السلام) لبعض أصحابهم بنيل هذا الوسام مثل سلمان الفارسي

ص: 51


1- الخطبة الأولى لصلاة عيد الأضحى المبارك سنة 1440 ه- الموافق 2019/8/12.

(رضوان الله تعالى عليه) حيث قال الإمام أبو جعفر الباقر (علیه السلام): لا تقولوا سلمان الفارسي، ولكنْ قولوا سلمان المحمّدي، ذلك رجلٌ منّا أهل البيت)(1) وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (وإنما صار سلمان من العلماء لأنه امرؤ منا أهل البيت فلذلك نسبه إلينا)(2) .

وروى ربعي بن عبدالله، قال (حدثني غاسل الفضيل بن يسار، قال: اني لأغسل الفضيل بن يسار وأن يده لتسبقني إلى عورته، فخبرت بذلك أبا عبدالله (علیه السلام) فقال لي: رحم الله الفضيل بن يسار ، وهو منا أهل البيت)(3) .

وروى عمر بن يزيد قال (قال لي أبو عبدالله (علیه السلام) : يا بن يزيد أنت والله منا أهل البيت ، قلت له: جعلت فداك من آل محمد؟ قال: أي والله من أنفسهم، قلت: من أنفسهم؟ قال: أي والله من أنفسهم يا عمر ، أما تقرأ كتاب الله عزوجل (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَ-ذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)(4) .

وروى يونس بن يعقوب قال (كنت بالمدينة فاستقبل جعفر بنمحمد (علیهم السلام) في بعض أزقتها، قال، فقال: اذهب يا يونس فان بالباب رجلاً منا أهل البيت. قال: فجئت إلى الباب فإذا عيسى بن عبدالله القمي جالس، قال: فقلت له من أنت؟ فقال له: أنا رجل من أهل قم، قال: فلم يكن بأسرع من أن أقبل أبو

ص: 52


1- اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي 12.
2- بحار الأنوار: 2/462 ح 25 باب 26.
3- اختيار معرفة الرجال: ج2 ص473.
4- رجال الكشي:2/623.

عبدالله (علیه السلام)، قال: فدخل على الحمار الدار، ثم التفت إلينا فقال: أدخلا. ثم قال: يا يونس بن يعقوب أحسبك أنكرت قولي لك أن عيسى بن عبدالله منا أهل البيت! قال قلت: أي والله جعلت فداك لأن عيسى بن عبدالله رجل من أهل قم، فقال يا يونس عيسى بن عبدالله هو منا حي وهو منا ميت)(1).

وروى يونس مثل هذا القول عن الامام الصادق (علیه السلام) في عيسى بن عبدالله القمي.

وروى الشيخ المفيد في كتاب الاختصاص(2) عن أبي حمزة قال (دخل سعد بن عبد الملك وكان أبو جعفر (علیه السلام) يسميه سعد الخير وهو من ولد عبد العزيز بن مروان على أبي جعفر (علیه السلام) فبينا ينشج كما تنشج النساء قال:

فقال له أبو جعفر (علیه السلام): ما يبكيك يا سعد؟ قال وكيف لا أبكي وأنا من الشجرة الملعونة في القرآن، فقال له: لست منهم أنت أموي منا أهل البيت أما سمعت قول الله عز وجل يحكي عن إبراهيم:(فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي).

وترقى هذه المنزلة إلى ما ورد في بكير بن أعين أخي زرارة من (أن أبا عبدالله (علیه السلام) لما بلغه وفاة بكير بن أعين قال: اما والله لقد انزله الله بين رسوله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما)(3) .

ومن جهة أخرى تبيّن شرط هذا الانتماء، وإن هذه الأوسمة ليست تشريفاً مجرداً من دون استحقاق وتحمّل للمسؤولية التي يوجبها الانتماء

ص: 53


1- رجال الكشي:2/624
2- الاختصاص- الشيخ المفيد: 85
3- رجال الكشي: 1/456 رقم الترجمة71

والانتساب إلى الجهة أية جهة، فلإسلامك حق عليك ولولايتك لأهل البيت (علیهم السلام) حقوق ولارتباطك بمرجعية معينة استحقاقات وكذا لانتسابك لبلد معين كالعراق أو لمدينة معينة كالنجف الأشرف أو لأسرة معينة وهكذا تكون لكل جهة تنتسب إليها مسؤولية الانتماء.

روى في مجمع البيان عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قوله (إن أولى الناس بالأنبياء اعملهم بما جاؤوا به) ثم تلا آية آل عمران المتقدمة وقال: (إن ولي محمد من اطاع الله وإن بعدت لحمته وإن عدو محمد من عصى الله وإن قربت قرابته)(1).

وروى في الدر المنثور عن النبي (صلی الله علیه و آله) قوله (يا معشر قريش أن أولى الناس بالنبي المتقون فكونوا أنتم بسبيل ذلكفانظروا لا يلقاني الناس يحملون الاعمال وتلقوني بالدنيا تحملونها فاصدُّ عنكم بوجهي) ثم تلا الآية(2) .

وروي عن الامام الصادق (علیه السلام) قوله (من اتقى منكم وأصلح فهو منا أهل البيت، قيل له: منكم يا بن رسول الله؟ قال: نعم، منا، أما سمعت قول الله عزوجل: (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) وقول إبراهيم (علیه السلام) (فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي)(3) .

اذن فالفرصة مفتوحة أمام الجميع ليكونوا من أهل البيت (علیهم السلام) وليس فقط من أصحابهم أو مريديهم وذلك ما نطقت به الآية الشريفة فإنها ظاهرة في

ص: 54


1- نور الثقلين: 1/353 عن المجمع.
2- الدر المنثور: 2/43.
3- دعائم الإسلام: ج1 ص 62.

كلا المعنيين: امتياز المتبع والمطيع للأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) بأن يكون منهم وبنفس الوقت تتضمن معنى اشتراط الاتباع والطاعة.

إن الارتباط النسبي بالنبي والأئمة المعصومين وكذا الانتماء إلى قومية معينة أو جنس أو لغة أو لون خارج عن اختيار الانسان فلا يمكن ان يكون سبباً للتفاضل بين الناس ومثل هذه الدعوات لتفوق بعض البشر على بعض عصبية جاهلية ، وإنما المقياس الحقيقي للانتماء هو الطاعة والاتباع، ولذا يؤدّب الله تعالى نساء النبي (صلی الله علیه و آله) أن لا يتخذن هذا العنوان سبباً للتفاخر وإن تميزهنّ الحقيقي بالعملالصالح (فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً* وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً... *يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ) (سورة الأحزاب: 29-32).

وكان الرد من الله تعالى حازماً في ابن النبي نوح لما عصى أباه، قال تعالى (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) (هود:46).

وقد بيَّن المعصومون (علیهم السلام) في أحاديث مفصَّلة صفات المنتسب لهذه الجماعة المباركة وحرصوا على بيان مسؤوليات الانتماء لهم (علیهم السلام) وجمع الأصحاب هذه الروايات في كتبهم ومنها (صفات الشيعة) للشيخ الصدوق ومن تلك الروايات ما ورد عن الامام الصادق (علیه السلام) قال (فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدى الأمانة وحسن خلقه مع الناس، قيل هذا جعفري، فيسرّني ذلك ويدخل عليّ منه السرور، وقيل هذا أدب جعفر، وإذا كان على غير ذلك دخل علي بلاؤه وعاره، وقيل هذا أدب جعفر)(1).

ص: 55


1- الكافي: 2/636.

وروى زيد الشحام عن الامام الصادق (علیه السلام) قال (يا زيد خالقوا الناس بأخلاقهم صلّوا في مساجدهم وعودوا مرضاهم واشهدوا جنائزهم - هذا مع العامة من غير الموالين ونحن نرى اليوم من يقاطع المسجد اذا كان إمام الجماعة يقلّد مرجعاً آخر --، وان استطعتم ان تكونوا الأئمة والمؤذنين فافعلوا، فانكم اذا فعلتم ذلك قالوا: هؤلاءالجعفرية، رحم الله جعفراً، ما كان أحسن ما يؤدب أصحابه، واذا تركتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية، فعل الله بجعفر، ما كان اسوأ ما يؤدب أصحابه)(1) .

وكانوا يحثون اصحابهم والمنتمين اليهم أن يكونوا بمستوى المسؤولية ولا يرى الناس منهم الا خيرا ليكونوا صورة مشرقة عن أئمتهم ومنها وصيتهم العامة (معاشر الشيعة، كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للناس حسناً، احفظوا ألسنتكم وكفّوها عن الفضول وقبيح القول)(2).

وفي رواية معتبرة عن الامام الصادق (علیه السلام) قال (مالكم تسؤون رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟ فقال له رجل كيف نسوؤه؟ فقال: أما تعلمون أن أعمالكم تعرض عليه، فإذا رأى معصية ساءه ذلك، فلا تسوؤا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وسَرّوه)(3).

فالانتماء والهوية ليست امراً بيدك فقط حتى تفعل ما تشاء من دون مراعاة لاستحقاقاتها بل لها طرف آخر يطالب بتحمّل مسؤولية هذه الهوية وهذا الانتماء لأن أي شيء حسن أو سيء والعياذ بالله يرجع على من تنتسب

ص: 56


1- وسائل الشيعة: 8/430 كتاب الصلاة ، أبواب الصلاة الجماعة ، باب 75 ح1 .
2- امالي الصدوق: 484.
3- الكافي : 1/171 ح 3.

إليه.

ويُحسن أن نشير باختصار إلى موقف لمن يشعر بمسؤولية الانتماء، فقد حكي ان شخصاً عثر على مال نفيس في السوق فاحتفظ به وراح يسأل عن صاحبه ليعيده إليه فقيل له ان صاحبه يهودي وليس عليك أن ترجعه له وانت احوج إليه، فقال: هل تريدون ان يشعر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالخجل يوم القيامة بسببي؟ قيل وكيف ذاك؟ قال لأن نبي صاحب المال وهو موسى (علیه السلام) سيقول لنبينا محمد (صلی الله علیه و آله) ان رجلاً من امتك أخذ مال رجل من امتي بدون رضاه؟

ص: 57

خطاب المرحلة 601 : الولاية ثمرة الحج

(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) (الحج:29)

الولاية ثمرة الحج (1)

قال أهل اللغة إن التَفَث هو الدرن والأوساخ وقضاء التفث هو إزالتها من البدن في إشارة إلى حال الحجاج بسبب حركتهم الطويلة في المشاعر المقدسة والقيود التي فرضها الإحرام فاذا انتهوا من أداء مناسكهم أحلوا من احرامهم وازالوا ما علق بأبدانهم وقصّوا أظفارهم وازالوا شعورهم ونحو ذلك، ولعلهم أخذوا هذا المعنى من الروايات مع أنها قد تكون بصدد بيان بعض التطبيقات أو أي نحو آخر.

وقيل أنها ليست كلمة عربية وأن أصلها عبراني بمعنى الإمساك والقبض وحينئذ يكون المراد بالتفث القيود التي تفرض على المحرم وهي التي نسميها (تروك الاحرام) وقضاؤها هو إتمامها على وجهها وإكمالها إلى حين الخروج منها، قال تعالى (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ) (البقرة:200) أي أتممتموها وكذا في (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ) (الجمعة:10) و (وَقُضِيَ الأَمْرُ) (البقرة:210) (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ) وغير ذلك.

ويمكن قبول كلا الاتجاهين من التفسير بأن يقال ان في الآية كناية لأنها ذكرت اللازم -- وهو إزالة الاظفار والشعر والادهان والتعطر -وهي تريد

ص: 58


1- الخطبة الثانية لصلاة عيد الأضحى المبارك سنة 1440 ه- الموافق 2019/8/12.

الملزوم وهو اكمال المناسك المطلوبة للإحلال من الاحرام وإباحة هذه الأفعال لهم، بأن يتمّوا ما ابتدأوا به من مناسك الحج ويحلوا من إحرامهم الذي التزموا به واوجبوه على أنفسهم ابتداءاً من الاحرام قبل الخروج إلى عرفة وما يتضمنه من تروك كثيرة تلبية لقوله تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (البقرة:197) فالتَفَث يراد به الفعل المصدري أي إتمام الالتزام بما يقتضيه الاحرام وإنهاؤه على النحو المطلوب أو اسم المصدر بمعنى التحلل من الاحرام وإزالة ما عَلُق بهم بسببه خلال مدة المناسك.

وقد اشارت الروايات إلى كلا المعنيين، ففي صحيحة البزنطي في قرب الاسناد والكافي قال: سألت الرضا (علیه السلام) عن الآية قال: (تقليم الأظفار وطرح الوسخ عنك والخروج من الاحرام)(1) ومثلها عدة روايات، وبين التعبير عن عقد الاحرام بترك الرفث وعن الاحلال منه بقضاء التفث انسجام جميل وبلاغة رائعة.

فاذا أدى الحاج مناسك منى يوم العاشر من ذي الحجة فرمى جمرة العقبة الكبرى وذبح وحلق فقد أحلّ من احرامه وابيحت له سائر تروك الاحرام الا الطيب والنساء ويحلّ الأول بأداء طواف الحج والثاني بطواف النساء لذا عطفت الآية على قضاء التفث (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ)(الحج:29) أي ليؤدوا ما ألتزموا به من تروك الاحكام ومناسك الحج (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج:29) وهما طوافا الحج والنساء.

ص: 59


1- الكافي: 4/503 ح 12.

هذا هو المعنى الظاهري الذي خُوطِب به جميع الناس، وهناك معنى باطني للخواص من أهل المعرفة، ففي صحيحة ذريح المحاربي عن أبي عبدالله (علیه السلام) في هذه الآية قال (علیه السلام) (التفث لقاء الامام)(1) وفي معاني الأخبار روى عبد الله بن سنان عن ذريح المحاربي قال (قلت لأبي عبدالله (علیه السلام): إن الله أمرني في كتابه فأحب أن اعمله، قال: وما ذاك؟ قلت: قول الله تعالى (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) (الحج:29) قال: (لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) لقاء الامام و (لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) تلك المناسك) قال عبدالله بن سنان فأتيت أبا عبدالله (علیه السلام) فقلت جعلت فداك قول الله عزوجل (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) قال (علیه السلام): أخذ الشارب وقص الأظافر، وما أشبه ذلك، قال: قلت: جُعِلت فداك فان ذَريحاً المحاربي حدثني عنك، أنك قلت (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) تلك المناسك؟ فقال (علیه السلام): صدق ذريح، وصدقتَ إن للقرآن ظاهراً وباطناً، ومن يحتمل ما يحتمل ذريح)(2) .

وهذا التفسير منطبق تماماً مع علل الحج والمنافع المطلوبة منهوالتي اشارت اليه الآية السابقة (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) (الحج:28) والمنافع المعنوية أولى من المادية وهي التي تتحقق بلقاء امام الأمة وقائد حركتها المباركة والاستفادة منه في تلك الأجواء الروحية النقية البعيدة عن عواصم السلطة والسياسة الماكرة الخبيثة لينقوا أنفسهم من الادران والأمراض المعنوية ويستعدون لحياة جديدة نقية من رواسب الماضي كما وعدت به الأحاديث

ص: 60


1- من لا يحضره الفقيه: 2/290 ح 1432
2- معاني الأخبار: 340 ح 10

الشريفة.

وفي رواية عن الامام الرضا (علیه السلام) يبيّن فيها فوائد الحج والحكمة من تشريعه وجعل منها هذا اللقاء بالإمام للتفقه في الدين ونقل تعاليمه إلى الناس في اقطار الأرض، قال (علیه السلام) (إنما أمروا بالحج لعلة الوفادة إلى الله عزوجل وطلب الزيادة والخروج من كل ما اقترف العبد تائباً مما مضى مستأنفاً لما يستقبل) إلى ان قال (علیه السلام) (مع ما فيه من التفقه ونقل اخبار الأئمة (علیهم السلام) إلى كل صُقع وناحية كما قال الله عزوجل (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة:122)..) (1) .

لذا يعبّر الامام الباقر (علیه السلام) عن ألمه من عدم التفات أكثر الناس إلى هذه الحقيقة فقد روى في الكافي بسنده عن أبي عبيدة الحذّاء قال (سمعت أبا جعفر (علیه السلام) ورأي الناس بمكة ومايعملون - قال فقال: فعال كفعال الجاهلية أما والله ما أمروا بهذا وما أمروا إلا أن يقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم فيمروا بنا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرتهم)(2) .

فالحج لا يكتمل معناه ويتحقق الغرض منه الا عندما يقترن بإظهار ولاية أهل البيت (علیهم السلام) واستحضار معانيها والقيام بتكاليفنا تجاه المعصومين كالدعاء لهم ونشر مناقبهم وفضائلهم واهداء الأعمال لهم والدعوة إلى اتباعهم

ص: 61


1- وسائل الشيعة: 11/12.
2- الكافي: 1/323 ح2.

وغير ذلك، روي عن الامام الباقر (علیه السلام) انه قال (تمام الحج لقاء الامام)(1) .

وينبغي للحاج أن يستحضر ولايته للمعصومين (علیهم السلام) في جميع مناسك الحج فيتذكر بالإحرام التجرد عن كل ما يعيق طاعة الامام والتواصل معه والعمل بأوامره، وبالوقوف الامتثال بين يدي الامام وبالسعي الحركة نحو الامام وبالذبح التضحية في سبيل نصرة الامام وإنجاح مشروعه الإلهي وبالرمي رفض كل الطواغيت والسلطات التي تنصب نفسها أئمة وقادة للناس بغير حق، فالإمامة نظام ومحور الطاعات الأخرى.

روى في الكافي بعدة طرق عن أبي جعفر (علیه السلام) قال (بني الإسلام على خمس: على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولايةولم ينادِ بشيء كما نودي بالولاية فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه - يعني الولاية-)(2) .

وفي صحيحة زرارة أضاف (قلت وأي شيء من ذلك أفضل؟ فقال: الولاية أفضل لأنها مفتاحهن والوالي هو الدليل عليهن) وقال فيه (ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن الطاعة للإمام بعد معرفته) فالاسرار المعنوية للحج وسائر العبادات لا تدرك الا في ظل ولاية المعصوم (علیه السلام) كما ان تحرير الانسان ونيل كرامته وحفظ استقامته لا تكون الا على يد الامام المعصوم (علیه السلام) وبقيادته المباركة ومن بعده نوابّه بالحق .

إن قيمة الحج التي يكتسبها الانسان لا تتحقق كاملة بالحركة البدنية بين المشاعر المقدسة وإنما هي منوطة بمقدار معرفته للإمام وإتباعه له فقد تزيد

ص: 62


1- وسائل الشيعة: 10/255 أبواب المزار، باب 2 ح12
2- الكافي: 2/18 باب دعائم الإسلام ح1،3،5

وقد تنقص إلى حد الصفر، وعن مثل هؤلاء المفلسين يقول الامام (علیه السلام) (أترى هؤلاء الذين يلبّون، والله لأصواتهم أبغض إلى الله من أصوات الحمير)(1) .

ويعلل الامام الباقر (علیه السلام) ذلك في صحيحة(2)

الفضيل حينما نظر الى الناس يطوفون حول الكعبة قال (علیه السلام) (هكذاكانوا يطوفون في الجاهلية إنما أمروا أن يطوفوا بها ثم ينفروا ألينا فيعلمونا ولايتهم ومودتهم ويعرضوا علينا نصرتهم) ثم قرأ هذه الآية (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) (إبراهيم:37) وفي تفسير العياشي عند هذه الآية عن الامام الباقر (علیه السلام) قال (ينبغي للناس أن يحجوا هذا البيت ويعظموه لتعظيم الله إياه وأن يلقونا حيث كنّا نحن الادلاء على الله)(3) .

وهذا الحج الشكلي الخالي من الغرض الحقيقي هو ما حصدوه من ابتعادهم عن الامام الحق، عن الفضيل عن أبي جعفر (علیه السلام) قال (من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية، ولا يعذر الناس حتى يعرفوا إمامهم)(4).

وان مكة تشرفت باحتضانها للمعصوم لذا أقسم بها مقيدة بوجوده (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) (البلد:1-2) ومن لطف الله تعالى

ص: 63


1- وسائل الشيعة: 9/57
2- الكافي: 1/322 ح 1
3- تفسير العياشي: 2/333 ح 39
4- بحار الأنوار: ج 23، ص 89

بعباده حضور المعصوم (علیه السلام) بنفسه في موسم الحج كل عام لتبقى الشعائر محتفظة بقيمتها المعنوية وليحظى الحجاج ببركات وجوده روي عن عبيد بن زرارة قال : سمعت أبا عبدالله (علیه السلام) يقول: (يفقد الناس إمامهم فيشهدو الموسم فيراهم ولا يرونه) وفي كتاب اكمال الدين بسنده عن السفير الثاني محمد بن عثمانالعمري قال (سمعته يقول: والله إن صاحب هذا الأمر يحضر الموسم كل سنة فيرى الناس ويعرفهم ، ويرونه ولا يعرفونه)(1).

ولهذا يقف الامام السجاد (علیه السلام) امام الطاغية يزيد ويعلنها صريحة واضحة (أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا)(2).

أي انا صاحب هذه المشاهد المشرفة والوريث الحقيق لها والمولود الطبيعي للقائمين عليها من لدن إبراهيم الخليل إلى النبي الأكرم محمد (صلی الله علیه و آله) فأنا أولى بولاية أمور الأمة وسياسة شؤون العباد والبلاد.

ص: 64


1- وسائل الشيعة: 11/135 أبواب وجوب الحج وشرائطه، باب 46 ح 8،9
2- بحار الأنوار: 45/138

خطاب المرحلة 602 : العطاء في سبيل الله تعالى غنيمة وليس خسارة

(وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً) (التوبة:98)

العطاء في سبيل الله تعالى غنيمة وليس خسارة (1)

تبيّن الآية الكريمة صفة من صفات المنافقين من أعراب وغيرهم وهي انهم يعدّون ما ينفقون من أموال ليحافظوا على وجودهم في المجتمع الإسلامي مغرماً أي تلفاً وخسارةً وتضييعاً للأموال لأنهم لم يعطوها عن إيمان وعقيدة ونية مخلصة لله تعالى حتى يبتغوا بها الأجر والعوض، وإنما انفقوها رياءاً أو سمعة أو ليتظاهروا بأنهم ملتزمون بالدين وهم يستبطنون التمرد على الله تعالى وعدم الاعتراف بشريعته فلا يستفيدون مما أنفقوا شيئا فينتابهم الأسى لما فقدوا من أموال بلا فائدة من وجهة نظرهم.

ولو كانوا صادقين في ايمانهم لاعتبروا ما ينفقون في سبيل الله تعالى ونصرة نبيه (صلی الله علیه و آله) ونشر دينه والمساهمة في المشاريع الخيرية ومساعدة المحتاجين (مغنماً) لأنه سيعود عليهم بالخير الكثير في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلأنه سينمي المال ويزيده وإنماسميت الزكاة بهذا لأنها سبب لنمو المال وزيادته وكذا الصدقة فإنها تستنزل الرزق وتدفع البلاء.

ص: 65


1- من حديث سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) مع مسؤولي مواكب الناصرية يوم 15/ذوالحجة/1440 الموافق 2019/8/17، ومع تجمع مرشدي الحجاج من كربلاء يوم 29/ ذوالحجة/1440.

وأما في الآخرة فان الله تعالى يضاعف الأجر لمن أنفق في سبيله أضعافاً مضاعفة حتى قال تعالى (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ) (البقرة:261) فالإنسان الواعي ذو البصيرة يجد ما ينفق في سبيل الله غنيمة ورزقاً لا يمكن تفويته فيسعى اليه ويحرص عليه، سواء تعلق الانفاق بالمال أو الجهد أو الوقت أو التفكير والاهتمام أو الكلمة الطيبة وغيرها ويرتقي ليكون الانفاق بالنفس والولد.

فيرى المنافقون - وربما بعض ضعاف الايمان - ان من يصرف المال لبناء مسجد أو تزويج شاب مؤمن أو إقامة مشروع خيري، قد أضاع ماله الذي جمعه بجهود مضنية، ويرى ان من يقتل في سبيل الله وحماية المقدسات مغررّاً به قد خسر دنياه وهكذا.

ولأن المنافقين يعتبرون كل هذا الانفاق مغرماً وخسارة وعملاً عبثياً لا فائدة منه فهم يثبّطون العاملين ويثنونهم عن عزمهم على فعل الخير والمعروف ويطلبون منهم ان يوفروا مالهم ووقتهم وجهدهم لشؤونهم الشخصية وعدم تضييعها في المشاريع العامة المثمرة، فعلى المؤمنين الواعين الذين يعرفون جيداً ان هذا العمل والانفاق مغنم وخير وبركة ان لا يتأثروا بأراجيف المنافقين.

واذا استوعب الانسان هذه الحقيقة فانه سيتجاوز الكثير من المصائب والمصاعب وسيندفع نحو عمل الخير، خذ مثلاً ما جاء فيمن فقد جنيناً سقط من بطن أمه قبل اكتمال نموه عن الامام الصادق (علیه السلام) حيث نقل قول جده

ص: 66

رسول الله (صلی الله علیه و آله) (إن السقط يجيء محبنطئاً على باب الجنة فيقال له: أدخل الجنة، فيقول: لا، حتى يدخل أبواي الجنة قبلي)(1) .

لاحظوا كيف تحول المغرم إلى مغنم والألم إلى أمل بفضل الله تعالى وان من مرّت به مثل هذه المصيبة قد انفتحت امامه فرصة عظيمة لطاعة الله تعالى والفوز برضوانه ذلك بأن هذا الجنين الذي مات سيكون شفيعه يوم القيامة ولا يدخل الجنة الا ويدخل أبويه معه، فأي غنيمة أعظم من هذه؟ فتهون عليه المصيبة ويرضى بقضاء الله تعالى.

وهكذا من يجمع الأموال بعرق جبينه ثم يضعها في مشروع خيري فأنه لا يرى نفسه قد خسر شيئاً وانه أضاع ماله بل قدمّه ثمناً لغنيمة عظيمة.

أقول هذا لاطمأن أحبّتي من المواكب والجمعيات الخيرية وسائر المؤسسات الدينية والإنسانية والاجتماعية المباركة الذين يواصلون الليل والنهار في خدمة الناس وعمل المعروف وإقامة شعائر الدين ان لا يثبطهم كلام الكسالى والمرائين وفاقدي البصيرة ومسلوبي التوفيق.

وقد حكى لنا التاريخ مواقف لعظماء عرفوا قيمة هذه الغنيمة مثل عبدالله بن عمرو الأنصاري والد جابر بن عبدالله الأنصاري فأنه بعد ان فاضت روحه الطاهرة شهيداً في معركة أحد مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) تلقته الملائكة وسأله الله تبارك وتعالى عن ماذا يريد وماذا يطلب؟ فقال: أريد ان ارجع الى الدنيا لأقاتل

ص: 67


1- وسائل الشيعة: 20 / 14 أبواب مقدمات النكاح، باب 1 ح 2

وأُقتل شهيداً مرة أخرى لما رأى من الكرامة التي تمنح للشهيد(1) .

وهكذا كان أصحاب الامام الحسين (علیه السلام) يقفون بين يديه ويسلّمون عليه ويتمنى أحدهم أن يقتل ثم يحيى ثم يقتل سبعين مرة دفاعاً عن الامام الحسين (علیه السلام) ولا يرى في ذلك مغرماًوتلفاً بل مغنماً وربحاً كقول زهير بن القين (والله لوددتُ لو أني قُتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى اقتل كذا الف قتلة، وان الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك)(2) ومثله قال سعيد بن عبدالله الحنفي.

ومثله ما ورد في خطاب العقيلة زينب (علیها السلام) للطاغية ابن زياد لما قال لها متشفياً (كَيْفَ رَأَيْتِ صُنْعَ اللَّهِ بِأَخِيكِ وَ أَهْلِ بَيْتِكِ ؟

فَقَالَتْ : مَا رَأَيْتُ إِلَّا جَمِيلًا ، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ فَبَرَزُوا إِلَى

ص: 68


1- روى طَلْحَة بن خِرَاش الأَنصاري قال: سمعت جابر بن عبد اللّه قال: نظر إِلي رسول الله صلی الله علیه و آله فقال: "ما لي أَراك منكسرًا مُهْتَمًّا"؟ قلت: يا رسول الله، قتل أَبي وترك دينًا وعيالًا. فقال: "أَلا أَخبرك؟ ما كلم الله أَحدًا قَطّ إِلا من وراءِ حجاب، وإِنه كلم أَباك كِفَاحًا، فقال: يا عبدي، سلني أُعطك. قال: أَسأَلك أَن تردني إِلى الدنيا فأُقتل فيك ثانية! قال: إِنه قد سبق مني أَنهم لا يردون إِليها ولا يرجعون. قال: يا رب، أَبلغ مَنْ ورائي"، فأَنزل الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ}... (آل عمران/ 169) أخرجه الترمذي في التفسير تفسير سورة آل عمران: 8 / 360 - 361 وصححه الحاكم في المستدرك: 3 / 203 وزاد السيوطي نسبته للطبراني وابن خزيمة وابن مردويه والبيهقي في الدلائل " الدر المنثور: 2 / 371" وأخرجه الواحدي بسنده في أسباب النزول ص (162). وقال الألباني في تخريج السنة: إسناده حسن رجاله صدوقون على ضعف في موسى بن إبراهيم بن كثير. تاريخ الطبري: 5/418 ، الكامل في التاريخ 2/559 ، الارشاد: 2/91 وغيرها من المصادر التي ذكرها ريشهري في كتاب الصحيح من مقتل سيد الشهداء: 628
2- تاريخ الطبري: 5/418 ، الكامل في التاريخ 2/559 ، الارشاد: 2/91 وغيرها من المصادر التي ذكرها ريشهري في كتاب الصحيح من مقتل سيد الشهداء: 628

مَضَاجِعِهِمْ ، وَ سَيَجْمَعُ اللَّهُ بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُمْ فَتُحَاجُّ وَ تُخَاصَمُ ، فَانْظُرْ لِمَنِ الْفَلْجُ يَوْمَئِذٍ )(1) .

وهذه الحقيقة القرآنية ثابتة بالاتجاه الآخر إذ قد يعدُّ أهل الدنيا والمغترّون بها والغافلون عن الآخرة أن بعض ما يعتبرونه مغنماً هو مغرم ووبال عليهم لأنهم لم يتورعوا في تحصيله ولا وضعوه في موضعه ولا أدوا فيه حقوق الله تعالى.

وعبّرت العقيلة زينب (علیها السلام) بوضوح عن هذه الحقيقة في خطابها الذي هزّ عرش يزيد الطاغية بقولها (ولئن اتّخَذْتَنا مَغْنَماً، لَتجِدَنّا وشيكاً مَغْرماً، حين لا تجدُ إلاّ ما قدمتْ يداك وما ربُّكَ بظَلاّمٍللعبيد)(2) .

ص: 69


1- راجع المصادر في الصحيح من مقتل سيد الشهداء: 1052 ح1523
2- الاحتجاج: 2/123، بحار الأنوار: 45 / 2157 ح 5، اللهوف في قتلى الطفوف: 107

خطاب المرحلة 603 : (الغنى والفقر بعد العرض على الله تعالى)

(الغنى والفقر بعد العرض على الله تعالى) (1)

من قصار كلمات أمير المؤمنين (علیه السلام) في الموعظة قوله (علیه السلام) (الغنى والفقر بعد العرض على الله تعالى) (2) فالإمام (علیه السلام) يصحّح هنا بعض المقاييس التي نتعامل بها ونقيّم الأمور على أساسها، ففي ثقافتنا واذهاننا ان الغني من ملك الأموال والعقارات والسيارات الفارهة ونحو ذلك وان الفقير من لا يوجد عنده ذلك حتى انه لا يستطيع سدَّ احتياجاته.

وهذا المفهوم صحيح بدرجة من الدرجات لكنه ليس حقيقياً لأن هذه الأموال زائلة والى نفاد فان صاحبها سيموت ويتركها خلفه، وبالعكس فقد تكون وبالاً عليه اذا جمعها من مصادر غير مشروعة أو صرفها في موارد غير مقبولة أو انه لم يخرج منها الحقوق المتعلقة بها لله تعالى كالخمس أو الزكاة أو للناس كردّ المظالم والديون وحينئذٍ سيتمنى دفع كل هذه الأموال مقابل تخليصه من العذاب الذي هو فيه، (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنسُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (الزمر:47) (لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَ-ئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ) (الرعد:18)

ص: 70


1- من حديث سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) مع وفد من شباب البصرة ملتقى العلم والدين بتاريخ 16/ ذو الحجة / 1440 الموافق 2019/8/18
2- نهج البلاغة: الحكمة 452

وهذا ليس في الآخرة فقط، بل في الدنيا يشعر بعض الأثرياء بعذاب الباطن وألم الضمير لما اقترفت يداه من ظلم وغصب لحقوق الآخرين وقد يؤدي به هذا الى الانتحار.

وهنا يقول أمير المؤمنين (علیه السلام) ان الغنى الحقيقي الدائم الذي يتعقبه الفوز والسعادة هو عندما تعرض اعمال العبد على الله تعالى يوم القيامة فيجد ميزانه ثقيلاً بالأعمال الصالحة الموجبة لرضا الله تبارك وتعالى، والفقير الحقيقي هو من خلت موازنيه من اعمال تنجيه من النار وتوجب له الجنة (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ، وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ، فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ، نَارٌ حَامِيَةٌ ) (القارعة:6-11).

روي ان النبي (صلی الله علیه و آله) قال يوماً لأصحابه (أتدرون من المفَّلس: إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى بها عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)(1)

.والانسان العاقل اللبيب ذو البصيرة هو من يدرك هذه الحقيقة في الدنيا ويعمل على أساسها ولا تغريه أوهام الدنيا وإنما يعمل وفق المقاييس التي ترضي الله تبارك وتعالى، ولا ينتظر الآخرة ليكتشف هذه الحقيقة لأنه حينئذٍ لا يكون قادراً على تصحيح الأخطاء وإصلاح الخطايا والتبعات.

ص: 71


1- كنز العمال: 4/127 ح 10327 ، تاريخ بغداد: 4/242 ، تفسير القرطبي: 15/255 ، صحيح ابن حبان:16/359

ويكون من توفيق الانسان ان يرزقه الله تعالى مالاً وفيراً من مصادره المحللة ويوفقه لإنفاقه في الموارد التي أمر الله تعالى بها وتوجب رضاه والجنة كمساعدة المحتاجين وتزويج الشباب المتعففين ونشر كتب الوعي والإصلاح والهداية وإعمار المساجد وغير ذلك فيكون قد جمع الله تعالى له خير الدنيا والآخرة، وادعية طلب الرزق تقيده بأن يكون من حلال (سعة في الحال من الرزق الحلال)(1)

.

وإن بعض الذين يقومون بمشاريع كبيرة واسعة البركة قد لا يمتلكون مالاً كثيراً لكن الله تعالى يبارك لهم في انفاقهم والله ذو الفضل العظيم.

ص: 72


1- من دعاء الامام السجاد (علیه السلام) ليوم الاربعاء

خطاب المرحلة 604 : حثَّ المؤمنين على زيارة يوم الغدير في النجف الأشرف في مختلف البلدان

نَحثُّ المؤمنين والمؤمنات عامة على زيارة أمير المؤمنين (علیه السلام) في النجف الأشرف بمناسبة عيد الغدير استجابة لنداء الأئمة المعصومين (علیهم السلام) على لسان الامام الرضا (علیه السلام) قائلاً لأحد أصحابه المقربين (يا ابن أبي نصر أينما كنت فأحضر يوم الغدير عند أمير المؤمنين (علیه السلام) فأن الله يغفر لكل مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة ذنوب ستين سنة ويعتق من النار ضعف ما اعتق في شهر رمضان وليلة القدر وليلة الفطر والدرهم فيه بألف درهم لإخوانك العارفين) (1).

والدعوة بصريح العبارة (أينما كنت) مطلقة موجهة إلى الجميع في شرق الأرض وغربها بلا استثناء الا من اقعده عذر غالب فيؤدي الزيارة من بعد.

وان هذا اليوم يستحق كل اهتمام لأنه يوم اكمال الدين واتمام النعمة بنص القرآن الكريم (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينا) (المائدة:3) وقد اكتمل الدين وتمتالنعمة بتنصيب علي بن أبي طالب خليفة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وأميراً للمؤمنين ومن بعده أولاده المعصومين (علیهم السلام)، فلا غرابة في اعتباره أعظم أعياد الإسلام، وفي الرواية السابقة عن الامام الرضا (علیه السلام) قال (ان يوم الغدير في السماء أشهر منه

ص: 73


1- وسائل الشيعة (آل البيت): 14/388/باب28/ح1

في الأرض).

ان النبي وآله المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين) يُسُّرون بتواجد الحشد المليوني عند أمير المؤمنين (علیه السلام) يوم الغدير ليلفتوا أنظار العالم إلى هذه القضية الكبرى التي رسمت مستقبل الأمة وحددّت لها طريقها في ذلك المفصل التاريخي المهم حتى لا تضيع الأمة بعد رحيل نبيها (صلی الله علیه و آله) كما ضاعت وانحرفت الأمم الأخرى.

وان حضور الملايين في زيارة الأربعين سلط الأضواء على قضية الامام الحسين (علیه السلام) ودفع الناس من مختلف الأديان والملل إلى السؤال عن هذه الظاهرة العجيبة والتعرفّ عليها لكن الاعلام المعادي استطاع ان يحولها الى فعالية بكاء وحزن على مقتل سبط رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتبرّأ بسهوله من فاعلها وهو يزيد فلم تقطف الأمة ثمراتها المباركة كاملة.

فلو حصل مثل هذا التحشيد في يوم الغدير -- ولو بعد سنين -- وأثار الانتباه لقضيته لكان في ذلك نصرة لرسول الله (صلی الله علیه وآله) ورداً على من يقول بأنه مات ولم يترك خليفة من بعده وهو منطق يخالف الحكمة وسيرة العقلاء، ولنفهم العالم بحقيقة ما جرى.

وفي هذا الاحياء المليوني انصاف لأمير المؤمنين (علیه السلام) ورفع بعض الظلامة عنه وشهادة بحقه المضيَّع، وفيه أيضاً اعلاء لذكر أهل البيت (علیهم السلام) وتمهيد للظهور الميمون وسيكون الامام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) على رأس المرحبّين بالزوّار الموالين والداعين لهم بكل خير وتوفيق.

فلا تضيعوا هذه الفرصة الثمينة وسجّلوا اسماءكم فيمن نصر الله ورسوله

ص: 74

وأمير المؤمنين وأدخل السرور عليهم (صلوات الله عليهم أجمعين).

كما ندعو كل الميسورين وأصحاب المواكب لتوفير الطعام وسائر مستلزمات الخدمة والدعم اللوجستي والنقل للزوار الكرام.

مسألة: وقد يعتذر بعض المؤمنين عن القدوم بأنه يريد أن يصوم هذا اليوم لما فيه من الأجر العظيم والسفر ينافي الصوم، ونبيّن هنا أن أجر الزيارة أعظم، ويستطيع الزائر ان يُمسك عن المفطرات خلال سفره ويجدد نية الصوم حين عودته إلى أهله ولو قبيل الغروب بلحظة لأن الصوم المستحب لا يشترط فيه ان يكون حاضراً في بلده عند الزوال باعتبار امتداد نيته إلى غروب الشمس.

ص: 75

خطاب المرحلة 605 : (اتَّقُوا مَعَاصِيَ اللَّهِ فِي الْخَلَوَاتِ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ هُوَ الْحَاكِمُ)

(اتَّقُوا مَعَاصِيَ اللَّهِ فِي الْخَلَوَاتِ (1)، فَإِنَّ الشَّاهِدَ هُوَ الْحَاكِمُ) (2)

هذه الكلمة في الموعظة مروية عن أمير المؤمنين (علیه السلام) يدعوا فيها الناس الى الحذر ومراقبة النفس عندما يكون الشخص في خلوة من الناس بنفس مستوى الحذر ومراقبة السلوك والتصرف وحفظ النفس من كل ما يشين ويقبح عندما يكون امام انظارهم.

والسبب في عدم الفرق واضح لأنه في جميع الأحوال بمحضر الله تبارك وتعالى وتحت نظره (وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ) (يونس:61) واذا كان القاضي في المحاكم الدنيوية يحتاج الى شهود وبيانات ليعرف صاحب الحق ويرّد دعوى المبطل، فان الحاكم يوم القيامة هو الله تعالى وهو لا يحتاج الى شهود لأنه هو الشاهد على أفعال العباد وهي حاضرة عنده، وإن نفس أعضائه شهود عليه.

يذكرّنا أمير المؤمنين (علیه السلام) بهذه الحقيقة ويطالبنا بأن نتقي الله تعالى ونحذره في خلواتنا كما لو كنا في مرأى من الناس بلأكثر، لأننا أمام الناس قد نتجنب الخطأ والذنب حياءاً وخجلاً وحفاظاً على سمعتنا بين الناس وأمثال

ص: 76


1- من حديث سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) مع الوفود التي قدمت لزيارة مرقد أمير المؤمنين (علیه السلام) في يوم عيد الغدير الأغر بتاريخ 18 / ذو الحجة / 1440 الموافق 2019/8/20.
2- وسائل الشيعة (آل البيت): 15/239/ح11

ذلك، وهذه الدواعي ترتفع في الخلوة ولا يبقى إلا رادع الورع والتقوى حيث يكون الشيطان متمكناً أكثر والنفس الأمارة بالسوء أكثر إقبالاً على المعصية كالشخص الذي يمتنع عن مشاهدة المناظر المحرّمة أمام الناس أو في مكان يكون عرضة لإطلاع الناس لسبب من الأسباب يكون التحدي عليه أصعب عندما يكون في خلوة ولا يحتمل وجود مطلِّع عليه فهنا عليه أن يتذكر هذه الكلمة المنيرة لأمير المؤمنين (علیه السلام) .

ص: 77

خطاب المرحلة 606 : ماذا يعني عقد المؤاخاة يوم الغدير

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات:10)

ماذا يعني عقد المؤاخاة يوم الغدير (1)

تضمّن يوم الغدير كبقية الأيام الشريفة سنناً ومستحبات كالصوم والغسل والصلوات والادعية والاذكار طلباً لرضوان الله تعالى وطمعاً في مضاعفة الأجر وتحصيل العفو والمغفرة.

لكن عيد الغدير تميّز بعمل انفرد به عن بقية المناسبات وهو إجراء المؤاخاة بين المؤمنين وتعهّد بعضهم لبعض ان لا يدخل الجنة الا وهو معه فيقول احدهما للآخر (آخيتك في الله وصافيتك في الله وصافحتك في الله) إلى آخر المؤاخاة، وهذه الفعالية المباركة تعني -- فيما تعني -- ان علامة اكتمال وصدق الولاية للنبي وآله (صلى الله عليهم أجمعين) هي مودة المؤمنين ومؤاخاتهم وان يضمر لهم كل خير، حتى لمن اساء إليه وظلمه بغيبة أو انتقاص أو فحش من القول أو إهانة أو تقصير في سائر حقوقه، لذا تضمن عقد المؤاخاة ان يقول للآخر (اسقطت عنك كل حقوق الاخوة) وهي عامة مطلقة تشمل كل الحقوق المادية والمعنوية.

فاذا سرنا بهذا المنهج والتزمنا بهذا السلوك السامي وتغاضينا عن الأخطاء

ص: 78


1- من حديث سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) مع رابطة خطباء محافظة الحلة يوم السبت 22/ذوالحجة/1440 الموافق 2019/8/24.

والكلمة الجارحة والتصرف الجاهل فسوف ننشئ أمة متماسكة متحدة قوية فاعلة، ونسدّ أبواب النزاع والتخاصم والخلاف الذي نخر بالأمة وأهدر طاقاتها واعاق تقدمها وازدهارها سواء على مستوى العائلة حيث تتصاعد ارقام حالات الطلاق وما يعنيه من تهديم الاسرة وضياع الأطفال وتفشي الضغينة والاحقاد وتضييع الأموال والاوقات على مراجعة المحاكم.

أو على مستوى العشائر حيث ازدادت الصراعات والمعارك بينها بمختلف أنواع الأسلحة ونقلت الاخبار حصول معارك برمائية بين بعض العشائر في جنوب العراق أو على أي مستوى آخر من الصراعات.

إن هذه الصراعات والخلافات والمهاترات وتغذيتها بالأحقاد والضغائن التي تصدّ عن ذكر الله تعالى وتعيق عمل المعروف تحقق رغبة الشيطان وامنيته (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء) (المائدة:91).

ومن يتتبع سيرة النبي (صلی الله علیه و آله) وقيادته الربانية المباركة يجد ان اول ما قام به من عمل بعد هجرته الى المدينة هو إيقاع المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وبين الأنصار أنفسهم من أوس وخزرج وبناء المسجد ليكون محلاً لاجتماع الأمة ولم شملها وإظهار عزّتها ووحدتها.وسار الأئمة المعصومون (علیهم السلام) على هذا النهج فوجّهوا اتباعهم إلى التحلي بأقصى صفات الأخوّة والمودّة بين المؤمنين، روى عبدالله بن المبارك قال (قال لنا أبو جعفر محمد بن علي : يدخل أحدكم يده في كم صاحبه (أي جيبه) فيأخذ ما يريد؟ فقال: قلنا: لا، قال: لستم بإخوان كما تزعمون)(1) .

ص: 79


1- حلية الاولياء: 3/187، البداية والنهاية: 9/341

وعن الحجاج بن أرطاة قال له الامام الباقر (علیه السلام) (يا حجاج كيف تواسيكم -- أي مواساة بعضكم لبعض -: قلت: صالح يا أبا جعفر، قال: يدخل أحدكم يده في كيس أخيه فيأخذ حاجته اذا احتاج اليه؟ قلت: أما هذه فلا، فقال (علیه السلام): أما لو فعلتم لما احتجتم)(1) .

وهذا يعني ان من شروط تمام الولاية وكمالها الارتقاء بالعلاقة مع الآخرين إلى هذا المستوى.

ولأهمية هذه الصفة المباركة يطلبها الامام السجاد (علیه السلام) في ادعيته ، ومن ذلك قوله (علیه السلام) (اللَّهُمَّ وَأَيُّمَا عَبْد نالَ مِنِّي مَا حَظَرْتَ عَلَيْهِ - كالغيبة والكلمة الجارحة مما حُرِّم- ، وَانْتَهَكَ مِنِّي مَا حَجَرْتَ عَلَيْهِ ، فَمَضَى بِظُلاَمَتِي مَيِّتاً ، أَوْ حَصَلْتَ لِيْ قِبَلَهُ حَيّاً ، فَاغْفِرْ لَهُ مَا أَلَمَّ بِهِ مِنِّي ، وَاعْفُ لَهُ عَمَّا أَدْبَرَ بِهِ عَنِّي ، وَلاَ تَقِفْ-هُ عَلَى مَا ارْتَكَبَفِيَّ ، وَلاَ تَكْشِفْهُ عَمَّا اكْتَسَبَ بِيْ ، وَاجْعَلْ مَا سَمَحْتُ بِ-هِ مِنَ الْعَفْ-وِ عَنْهُمْ ، وَتَبَ-رَّعْتُ بِ-هِ مِنَ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ ، أَزْكَى صَدَقَاتِ الْمُتَصَدِّقِينَ ، وَأَعْلَى صِلاَتِ الْمُتَقَرِّبِينَ ، وَعَوِّضْنِي مِنْ عَفْوِي عَنْهُمْ عَفْوَكَ ، وَمِنْ دُعَائِي لَهُمْ رَحْمَتَكَ ، حَتَّى يَسْعَدَ كُلُّ وَاحِد مِنَّا بِفَضْلِكَ ، وَيَنْجُوَ كُلٌّ مِنَّا بِمَنِّكَ)(2).

فالإمام السجاد (علیه السلام) يعتبر هذا العفو عن الآخرين من أفضل الصدقات وأكثرها بركة وانها سبب لنيل عفو الله تعالى ورضوانه ورحمته، وبذلك يسعد جميع الأطراف.

ص: 80


1- كشف الغمة: 2/333، بحار الأنوار: 75/185 ح 12
2- الصحيفة السجادية الكاملة: 190

وقد صدرت عن المعصومين (علیهم السلام) مئات الأحاديث في حقوق الأخوّة وآداب العلاقة مع الآخرين جمعها الأصحاب في كتب بعنوان (آداب العشرة)(1) وتعرضت لأدق التفاصيل واعطت قيمة كبيرة للإصلاح بين المؤمنين وحل خلافاتهم ومشاكلهم حتى جعلته أفضل من الصلاة والصوم، وقد روى الشيخ الكليني في الكافي عن الامام موسى بن جعفر (علیهم السلام) وصية أمير المؤمنين (علیه السلام) لولده الحسن (علیه السلام)، وجاء فيها (سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام ، وإن المبيرة الحالقة للدين فساد ذات البين، ولا وقوة إلاّ باللهالعلي العظيم)(2) .

إن البركة والخير والتقدم والازدهار لا يتحقق الا في ظل الايمان بولاية أهل البيت (علیهم السلام) والعمل بتعاليمهم المباركة ووحدة الأمة، وهذا ما خطّته السيدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) من أول يوم بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) لترسم للأمة المسار النقي الأصيل الذي يحفظ عزّتها وكرامتها فقالت (علیها السلام) (وطاعتنا : نظاماً للملة ، وامامتنا : اماناً للفرقة )(3).

ص: 81


1- راجع مثلاً كتاب وسائل الشيعة / الجزء الثامن من طبعة الإسلامية
2- فروع الكافي: 7/51 -52، بحار الأنوار: 42/248 ح 51 .
3- الاحتجاج: 1 ص 134

خطاب المرحلة 607 : أربعينية الفرج ... من عاشوراء إلى الأربعين

اشارة

ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام) قوله: (فلما طال على بني إسرائيل العذاب.. ضجّوا وبكوا إلى الله أربعين صباحاً فأوحى الله إلى موسى وهارون أن يخلّصهم من فرعون فحطّ عنهم سبعين ومائة سنة، هكذا أنتم لو فعلتم لفرّج الله عنّا، فأما إذا لم تكونوا فإن الأمر ينتهي إلى منتهاه)(1).

فبأيدينا طرف من تعجيل الفرج والنصر والتمكين لولي الله الأعظم (صلوات الله وسلامه عليه) وسبب من أسبابه، والإمام الصادق (علیه السلام) يدعونا إلى أن نقوم بواجبنا في تعجيل نصرهم وتمكينهم، ونشر الهداية والصلاح والعدل بين الناس، وتخليصهم من الظلم والجور والعدوان بأن نضجّ إلى الله تعالى ونتضرع إليه ونتوسّل ليصلح ما فسد من أمورنا بحسن حاله، وان لم نفعل فإن القضاء سيجري فيهم وفينا كما هو ولا يحصل تغيير نحو الأفضل ونكون نحن المسؤولين عمّا يجري عليهم وهم (علیهم السلام) مسلّمون لأمر الله تعالى على أي حال.

إن الأيام الأربعين المرتبطة بالأمام الحسين (علیه السلام) والممتدة من عاشوراء إلى زيارة الأربعين، أربعينية مناسبة لهذه الضجّةولهذا التضرع لارتباط قضية الامام الحسين (علیه السلام) بدولة العدل الإلهي، ولأنها ملهمة لكل خير ومصدر قوة

ص: 82


1- بحار الأنوار - المجلسي - ج 52 / ص 132

بيد الهداة والمصلحين، وإن هذه الدعوات ستكون جديرة بالاستجابة لأن عشرات الملايين سيتوجهون إلى زيارة ضريحه الشريف أو يحيون مجالسه المباركة في أنحاء العالم، وإن الدعاء مستجاب تحت قبة الإمام الحسين (علیه السلام) وفي مجالسه المباركة واجتماع هذه الملايين بقلوب مفعمة بالإيمان (وجوارح سعت إلى أوطان تعبّدك طائعة وأشارت باستغفارك مذعنة)(1) في المكان المقدس والزمان الشريف على طلب أمر، حريّ بأن يحظى بالاستجابة والقبول.

ولنعلم أن تحريك اللسان بكلمات الدعاء لا يكفي وحده ما لم يقترن بالإخلاص والصدق، وتغيير داخل النفس نحو الأفضل، وعزم على إصلاح الواقع الفردي والاجتماعي كما في وصية النبي (صلی الله علیه و آله) (فسلوا الله ربّكم بنيّات صادقة طاهرة أن يوفقكم)(2).

محمد اليعقوبي

النجف الاشرفليلة 9/محرم الحرام/ 1441

الموافق 2019/9/8

ص: 83


1- مفاتيح الجنان: دعاء كميل ص 105
2- من خطبة الرسول الاكرم في استقبال شهر رمضان- بحار الأنوار المجلسي :ج 93 /ص 356

تجدّد مصائب عاشوراء بفاجعة ركضة طويريج

اعتصر قلوبنا الألم ونحن نتلقى خبر استشهاد أكثر من ثلاثين من المواليين الحسينيين وإصابة أكثر من مائة أثناء أدائهم شعيرة ركضة طويريج عند باب الحرم الحسيني (1) المطهّر، فتجددت مصائب عاشوراء بهذا المصاب الجلل.

نتوسل الى الإمام صاحب العصر والزمان وهو المعزّى بجده الإمام الحسين (علیه السلام) أن يشملهم جميعا بألطافه ويدعو للشهداء بالرحمة وعلو المنزلة ولذويهم بالصبر وعظيم الأجر، وللمصابين بالشفاء والسلامة، فقد جاؤوا لمواساته (علیه السلام) وللدعاء بنصره ولاظهار عزته وكرامته فلا يضيعون بحضرته.

ونتوقع من الجهات المعنية عدم التقصير في منح حقوق الشهداء والمصابين وجبر قلوبهم والتخفيف من ألم المصيبة.

والله المستعان وهو نعم المولى ونعم النصير

محمد اليعقوبي- النجف الاشرف

10/محرم /1441

2019/9/10

ص: 84


1- حصل الحادث لدى دخول المهرولين من باب الرجاء التي فيها ضيق وانحدار كبير فتعثر بعض وسقطت عليهم الجموع المندفعة وكان الشارع المؤدي الى حرم ابي الفضل العباس (علیه السلام) مباشرة مغلقاً فانحصر توجّه الجموع نحو هذا الباب.

ملحق: وقوف سماحة المرجع عند موقع الحادث للترحم على الشهداء

تشرف سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) اليوم الثلاثاء بزيارة الإمام الحسين (علیه السلام) وأخيه أبي الفضل العباس (علیه السلام) وأصحابه الشهداء الميامين.

وقد توقف سماحته عند مدخل الصحن الحسيني الشريف في باب الرجاء حيث ارتقى العشرات من شهداء ركضة طويريج في الحادث المؤسف يوم عاشوراء، مؤبناً ومترحماً على أرواح الشهداء وداعيا لهم برفيع الدرجات والحشر في زمرة أصحاب الإمام الحسين (علیه السلام).

الثلاثاء 2019/9/17 م

17/ محرم الحرام/ 1441 ه

ص: 85

خطاب المرحلة 608 : السياسة النبوية المباركة في مكافحة داء التعصب

اشارة

(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) (الفتح:26)

السياسة النبوية المباركة في مكافحة داء التعصب (1)

تقع الآية في سياق الحديث عمّا وقع من أحداث انتهت إلى توقيع صلح الحديبية بين النبي (صلی الله علیه و آله) وقريش حيث عزم النبي (صلی الله علیه و آله) ومعه أصحابه على أداء العمرة وزيارة البيت الحرام في السنة السادسة للهجرة بعد واقعة الأحزاب وحين شارفوا على مكة محرمين ملبّين من غير سلاح منعتهم قريش من دخولها ومن الهدي أن يبلغ محله أنفةً واستكباراً وعتواً إذ إن البيت الحرام آمن للجميع وليس من حق قريش منع أحد يقصده لكنهم أنفوا أن يدخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) مكة وزعموا أن في هذا إهانة لهم امام العرب فصدّوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) واصحابه عن أداء نسكهم وانتهت العملية بصلح الحديبية ورجوع النبي (صلی الله علیه و آله) على أن يؤدي العمرة في السنة الآتية.

فالآية الكريمة تصف بعض أحوال مشركي قريش في مواجهتهم مع النبي (صلی الله علیه و آله)، وتشخص داءاً اجتماعياً فتاكاً يؤدي بصاحبه إلى الصدود عن الحق والابتعاد عن التفكير العقلائي ومنطقالحكمة وهو التعصب وحمية الجاهلية، حيث يصرّ المبتلى به على موقفه ورأيه ومعتقده ولا يريد أن يصغي إلى الآخر ولا يعطي لعقله الفرصة حتى يتعرف على ما هو الحق ليتبعه، وهو

ص: 86


1- كلمة القاها سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) في افتتاح الموسم الدراسي يوم الأحد 15/ نمحرم / 1441 الموافق 2019/9/15

داء كان ولا يزال يفتك بالأمم ويمزِّقها وينهي وجودها فلابد من الاستفادة من هذا الدرس القرآني لمعالجة هذا المرض الاجتماعي الخطير.

(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) فهم باختيارهم أوجدوا في قلوبهم عصبية الجاهلية وصيّروا الغضب المودع في نفوسهم وقلوبهم لنصرة الحق والدفاع عن المقدسات والمبادئ النبيلة ، غضباً جاهلياً فحرموا أنفسهم من رؤية الحق وإتباعه.

والحمية هي الغضب اذا اشتد وازداد حتى تشتعل حماوته في القلب، اما الجاهلية فهي من الجهل، والمعروف في ثقافتنا العامة ان الجهل مقابل العلم فيطلق على حالة عدم العلم، لكنه في المصطلح القرآني يراد به ما يخالف الحكمة، ووضع الشيء في غير موضعه، وفعل الشيء على خلاف ما يستحقه سواء على صعيد العلم أو العمل وبه صرحت الآية الكريمة (يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) (آل عمران:154) فجعل الجهل ما يقابل الحق، أما جعله في ثقافتنا مقابل العلم فباعتبار أن عدم العلم هو سبب الوقوع في ما يخالف الحكمة والحق.

واستقراء الآيات الكريمة يؤكّد هذا المعنى وهو ان الجاهلية حالةوأوضاع تعيشها الأمة عندما تبتعد عن المنهج الإلهي في العقائد والتشريعات والسلوك ولا تختص بزمن معين، لاحظوا الآيات التالية التي ورد فيها لفظ الجاهلية، والمجالات العديدة التي تتناولها:

1- (يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) (آل عمران:154) وهي تشير إلى جاهلية الاعتقادات والتصورات حينما لا يعتقد الانسان بالخالق أو لا

ص: 87

يعرف صفاته سبحانه، أو يتعلق بالمؤثرات والأسباب دونه سبحانه أو يجعل له شركاء في التدبير، أو يراقب غيره في الملأ أكثر مما يراقبه تعالى في الخلوة، ونحو ذلك، فهذه كلها اعتقادات وظنون جاهلية.

2- (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:50) وهي جاهلية التشريعات ووضع القوانين وفق ما تمليه اهواء الناس ومصالحهم وما تقتضيه ظنونهم وأنظارهم القاصرة من دون مراعاة الشريعة الإلهية، وقد وضع الأئمة المعصومون (علیهم السلام) حداً فاصلاً وحازماً في ذلك، روى الشيخ الكليني بسند صحيح عن أبي بصير عن الامام الباقر (علیه السلام) قال (الحكم حكمان: حكم الله وحكم الجاهلية، وقد قال الله عزوجل (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) وأشهدوا على زيد بن ثابت لقد حكم في الفرائض بحكم الجاهلية(1) .

3- (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) (الأحزاب:33) وهي جاهلية السلوك المنحرف عن تعاليم الشريعة والمخالف لما يريده الله تبارك وتعالى وقد فاقت جاهلية اليوم التصور في الانحلال والفساد والرجوع إلى أسوء حالات التخلف والحيوانية، وزادت على الجاهليات السابقة فكيف نحصر الجاهلية بزمان قبل الإسلام؟

4- (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) (الفتح:26) وهي جاهلية الفكر والثقافة والنزعات النفسية وسائر الدوافع التي تحرك الانسان في حياته ويبني عليها سلوكه وتصرفاته ويبرمج عليها سائر شؤونه.

ص: 88


1- الكافي: 7/407 ح 1

لذا قلنا في كتاب (شكوى القرآن) وغيره ان الوقوف على المعنى المدرسي المتداول للجاهلية والذي يراد به الفترة الزمنية التي سبقت الإسلام خاصة ليس دقيقاً ولا يطابق المصطلح القرآني، ونعتبره افراغاً لهذا المصطلح المهم من معناه الذي تترتب عليه آثار عظيمة ومسؤوليات كبيرة على مستوى إصلاح الفرد والمجتمع، وربما يكون عذرهم أنه تقسيم فني للفترات الزمنية، لكنه قد يكون فعلاً متعمداً لخلق شعور لدى الأمة الإسلامية بالاسترخاء والراحة والدعة باعتبارهم قد أدّوا ما عليهم وأصبح الناس مسلمين والمجتمع إسلامياً وما يستلزم ذلك من التخلي عن مسؤولية الدعوة إلى الله تبارك وتعالى ووعيتفاصيل ما جاء به النبي محمد (صلی الله علیه و آله) والالتزام بالشريعة على مستوى الفرد والمجتمع، وما يستلزم أيضاً من انتهاء وظيفة القرآن بإخراج الناس من الظلمات إلى النور، بينما الجاهلية بأشكالها المتعددة مستمرة ومسؤوليتنا في هداية الناس ورجوعهم الى الله تعالى متواصلة حتى يأذن الله تعالى بتطهير الأرض من الظلم والفساد والانحراف وإقامة دولة الحق والعدل.

وعلى أي حال، فان الآية محل كلامنا تتناول الشكل الرابع من مظاهر الجاهلية التي كانت تتحكم في المعسكر المقابل للنبي (صلی الله علیه و آله) فقد كانت قريش مصابة بمرض الانانية والتكبّر والعناد والتعنت والرياء والبطر وكان التعصب يقودهم ويذكي في قلوبهم تلك الأمراض فتتحول إلى نيران تغلي في صدورهم ثم يصير غضبهم حمماً من الكراهية والعنف والحقد والحسد والانتقام مما يزيد في ولوغهم في الجريمة والانحطاط والضلال، ويصرّون على عبادة أصنام يصنعونها بأيديهم من الخشب والحجارة ثم يعبدونها من

ص: 89

دون الله تعالى العظيم خالق السماوات والأرض ، فأي حمية وعصبية اسوأ من هذه؟

بينما الفريق المقابل لهم وهم المؤمنون يتمتعون بالسكينة والاطمئنان والحكمة وحب الخير للجميع (فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى - أي جعلها ملازمة لهم - وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا - لأنهم يستحقونها وهم حملتها من دون الناس- وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (الفتح:26) فقد سلّموا لأمر الله تعالى ورسوله ورجعوا عن زيارة البيت الحرام وخالفوا هواهم ورغبتهم في دخول مكة ولو عنوة.

ذم التعصب:

وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن التعصب لغير الحق، منها ما روي في الكافي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (من تعصّب أو تُعصِّب له فقد خلع رِبَق(1) الايمان من عنقه)(2) فالمتعصَّب له شريك في الذم لأنه رضي بفعلهم ولم ينههم عنها بل هيّأ الأجواء لها وزيّنها لهم، وعنه (صلی الله علیه و آله) قال : (من كان في قلبه حبّةُ من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع اعراب الجاهلية)((3) .

وقال (صلی الله علیه و آله) (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية)(4) .

ص: 90


1- رِبَق جمع رِبقة وهي كل ما يشدُّه إلى الايمان ويمسكه بها من عقائد واحكام وأخلاق، والرِبقة في الأصل عروة في حبل تجعل في عنق البهيمة أو يدة تمسكها.
2- الكافي: 2/308 ح 2 .
3- (3) الكافي: 2/308 ح 3.
4- سنن أبي داود: 4/332 ح5121

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام) في بعض خطبه (فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ وَأَحْقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّمَا تِلْكَ الْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ وَنَخَوَاتِهِ وَنَزَغَاتِهِ وَنَفَثَاتِهِ) وقال(علیه السلام) فيها (فَاللَّهَ اللَّهَ فِي كِبْرِ الْحَمِيَّةِ وَفَخْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مَلَاقِحُ الشَّنَئَانِ -- أي البغض -- وَمَنَافِخُ الشَّيْطَانِ الَّتِي خَدَعَ بِهَا الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ وَالْقُرُونَ الْخَالِيَةَ حَتَّى أَعْنَقُوا فِي حَنَادِسِ جَهَالَتِهِ وَمَهَاوِي ضَلَالَتِهِ)(1) .

ما هو التعصب:

التعصب يعني الانحياز للانتماء الشخصي أو الفئوي والتشدد في الدفاع عنه بغضّ النظر عن كون موقفه حقاً أو لا، فالمقياس عنده نصرة جهته وليس نصرة الحق ولو ظهر له الحق بالبرهان والدليل فانه يصرّ على ما هو عليه من معتقد أو موقف.

روي ان رسول الله (صلی الله علیه و آله) سئل عن العصبية فقال (أن تعين قومك على الظلم)(2) وأجاب الامام زين العابدين (علیه السلام) قال (العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قومٍ آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم)(3) .

وروى في البحار عن كتاب الزهد للحسين بن سعيد بسند صحيح عن الامام الباقر (علیه السلام) قال (لما كان فتح يوم مكة قام رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الناس

ص: 91


1- نهج البلاغة : الخطبة 192
2- سنن أب داود: 4/331 ح 5119
3- الكافي: 2/308 ح 7

خطيباً فحمد الله واثنى عليه ثم قال : ايها الناس ليبلغ الشاهد الغائب ان الله تبارك وتعالى قد اذهبعنكم بالإسلام نخوة الجاهلية والتفاخر بآبائها وعشائرها ايها الناس انكم من آدم وآدم من طين ألا وان خيركم عند الله واكرمكم عليه اليوم اتقاكم واطوعكم له ألا وان العربية ليست بأب والد ولكنها لسان ناطق فمن طعن بينكم وعلم انه يبلغه رضوان الله حسبه الا وان كل دم أو مظلمة أو احنة كانت في الجاهلية فهي تظل تحت قدمي الى يوم القيامة)(1) .

وقد تنوعت وتشعبت العناوين التي يتعصب لها الناس فالعصبية يمكن أن تكون للأنا أو للعشيرة أو للحزب أو للقومية أو المصالح المادية أو اللون أو للمدينة أو للدولة أو للفريق الرياضي أو لشخص يهواه وقد يكون التعصب لأمور تافهة، وأشدها خطورة وأكثرها قسوة التعصب المغلّف بالعناوين المقدسة التي يراد منها سوق الناس لأغراض دنيوية كالحروب الصليبية أو الفتن الطائفية التي تقع بين اتباع المذاهب داخل الدين الواحد ويذكر التاريخ الكثير من هذه الحروب والفتن الدامية، ومكمن خطورة هذا التعصب من جهة قوة تأثير الدين والمذهب على سلوك الانسان وتوجيهه، ومن جهة ان القداسة الدينية التي يغلّفون بها مأربهم الدنيوية تسدُّ على الناس منافذ التفكير العقلائي وتغيِّب منطق الحكمة خصوصاً اذا احاطوها بضجيج من التحشيد بكل الأدوات.

والتعصب من المهلكات التي تزّل فيها الأقدام وتكمن خطورته في انه

ص: 92


1- بحار الأنوار: 73 /292 ح 24 ، عن كتاب الزهد: 56 ح 150

يعمي صاحبه عن رؤية الحق ويفقده البصيرة فلا يقبل برأي الآخر وليس عنده الاستعداد لسماعه والتأمل فيه لأنه يعتقد أنه هو وحده صاحب الحق وانه وحده يمتلك الحقيقة وان غيره على باطل وضلال، مضافاً إلى أنه يؤجج في قلبه نيران الحقد والانتقام فيسير إلى شفاء غليله على غير هدى ويتخبط ويرتكب أفعال المجانين، روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قوله (الحِدّةُ ضرب من الجنون لأن صاحبها يندم، فإن لم يندم فجنونه مستحكم)(1) وعن الامام الباقر (علیه السلام) قال (إن هذا الغضب جمرة من الشيطان تتوقد في قلب ابن آدم، وإن أحدكم اذا غضب احمرّت عيناه وانتفخت أوداجه ودخل الشيطان فيه)(2).

تاريخ التعصب وما يتعصب له:

والعصبية متجذرة في بني آدم منذ أول الخلقة وكانت سبباً لهلاك ابليس وخروجه عن طاعة الله تعالى (أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) (الأعراف:12) (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) (الإسراء:61) قد أتخذها ابليس فخاً لإفساد الناس بعد أن تورط بها، قال أمير المؤمنين (علیه السلام) في ذم ابليس (فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ وَتَعَصَّبَ عَلَيْهِلِأَصْلِهِ فَعَدُوُّ اللَّهِ إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ وَسَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ وَنَازَعَ اللَّهَ رِدَاءَ الْجَبْرِيَّةِ وَادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ وَخَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ..)(3) .

وابتلي بها الناس من بعد ذلك، حتى في عصر النبوة والوحي والنور ترى

ص: 93


1- نهج البلاغة: الحكمة 255.
2- بحار الأنوار: 73/267 ح 21.
3- نهج البلاغة الخطبة 192 وهي خطبة جليلة مطوّلة في ذم العصبية والتحذير منها وبيان علاجها.

العصبية الجاهلية تحرك بعض الناس كالتي حصلت بين الأوس والخزرج(1) حتى تواعدوا القتال على طريقتهم في الجاهلية لو لاان النبي (صلی الله علیه و آله) بادر بسرعة واطفأ نار الفتنة.

وكذا الفتنة التي كادت تشتعل بسبب العصبية بين المهاجرين والأنصار وهي التي أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى (يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى

ص: 94


1- حكى العلامة المجلسي في بحار الأنوار: 9/72 عن العلامة الشيخ الطبرسي (رحمه الله تعالى) في مجمع البيان في قوله تعالى Pلِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِO (آل عمران:99) قيل أنهم -- أي اليهود -- كانوا يغرون بين الأوس والخزرج يذكرونهم الحروب التي كانت بينهم في الجاهلية حتى تدخلهم الحمية والعصبية فينسلخوا عن الدين، وروى بعض مفسري العامة في سبب نزول قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) (آل عمران:100) انها نزلت في شاس بن قيس وهو يهودي أراد تجديد الفتنة بين الأوس والخزرج بعد انقطاعها بالنبي (صلی الله علیه و آله)، فجلس بينهم وأنشدهم شعراً قاله أحد الحيين في حربهم. فقال الحي الآخر: قد قال شاعرنا في يوم كذا وكذا، فكأنهم دخلهم من ذلك شئ، فقالوا: تعالوا نرد الحرب جذعاء كما كانت. فنادى هؤلاء: يا آل أوس. ونادى هؤلاء. يا آل خزرج، فاجتمعوا وأخذوا السلاح واصطفوا للقتال فنزلت هذه الآية، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى وقف بين الصفين فقرأها ورفع صوته، فلما سمعوا صوته انصتوا له وجعلوا يستمعون، فلما فرغ ألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضا وجعلوا يبكون، عن عكرمة وابن زيد وابن عباس. والذي فعل ذلك شاس بن قيس اليهودي، دس على الأوس والخزرج من يذكرهم ما كان بينهم من الحروب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم وذكرهم، فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع النبي صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، فأنزل الله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا) يعنى الأوس والخزرج. (إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب) يعنى شاسا وأصحابه. (يردوكم بعد إيمانكم كافرين) قال جابر بن عبد الله: ما كان طالع أكره إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ إلينا بيده فكففنا وأصلح الله تعالى ما بيننا، فما كان شخص أحب إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيت يوما أقبح ولا أوحش أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم. (تفسير القرطبي: 4/155).

الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (المنافقون:8) روى البخاري بسنده عن جابر بن عبدالله قال (كنا في غزاة فكسع -- أي ضرب دبره بيده -- رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار فقال الأنصاري يا للأنصار وقال المهاجري يا للمهاجرين فسمّعها الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) فقال: ما هذا، فقالوا يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار فقال الأنصاري: يا للأنصار وقال المهاجري يا للمهاجرين، فقال النبي (صلی الله علیه و آله) دعوها فإنها منتنة)(1) فسمع بذلك عبد الله بن أبي فقال فعلوها أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل .وفي تفسير علي بن إبراهيم ان الحادثة وقعت والنبي (صلی الله علیه و آله) خارج في غزوة المريسيع فأسرع (صلی الله علیه و آله) في رجوعه إلى المدينة وواصل سيره ليلاً ونهاراً(2)

ليصل المدينة قبل وقوع المحذور.

وكان النبي (صلی الله علیه و آله) حازماً في مواجهة العصبية ولو بأبسط اشكالها. روى في تفسير القمي أن قوله تعالى (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) (الحجرات:17) (نزلت في عثكن -- كناية عن عثمان وصرحت بذلك روايات أخرى -- يوم الخندق وذلك أنه مر بعمار بن ياسر وهو يحفر الخندق وقد ارتفع الغبار من الحفر فوضع كمه على أنفه ومر، فأنشد عمار الرجز المروي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) :

ص: 95


1- صحيح البخاري، ح4907 كتاب تفسير القرآن.
2- تفسير القمي: 2/368 البرهان: 9/302 ح 3

لا يستوي من يعمر المساجدا *** كمن يمرّ بالغبار حائداً

يظلّ فيها راكعاً وساجدا *** يعرض عنه جاحداً معاندا

فالتفت إليه عثكن فقال: يا بن السوداء إياي تعني، ثم اتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال له لم ندخل معك لتسب أعراضنا، فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد أقلتك إسلامك فاذهب فأنزل الله (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)..) (1) .وروى الثمالي عن الإمامين الباقر والصادق (علیهم السلام) قال (إن أبا ذر عيّر رجلاً على عهد النبي (صلی الله علیه و آله) بأمه فقال له: يا ابن السوداء، وكانت أمه سوداء، فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): تعيره بأمه يا أبا ذر؟ قال: فلم يزل أبو ذر يمرغ وجهه في التراب ورأسه حتى رضي رسول الله (صلی الله علیه و آله) عنه)(2).

وهكذا كان النبي (صلی الله علیه و آله) حازماً في مواجهة التعصب ومحاولات التفرقة وإلقاء الفتنة، كما كان مهتماً بنشر قيم الوحدة والتألف والمودّة وله (صلی الله علیه و آله) مشاريع عملية في تعزيز هذه القيم الإنسانية النبيلة، انتهت بالمجتمع المسلم الى أن يصفه الله تبارك وتعالى (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(الحشر:9) (3).

لقد حكى القرآن الكريم نماذج من التعصب كتعصب فرعون لأصله

ص: 96


1- بحار الأنوار: 9/238 ح 136 عن تفسير القمي : 2/297 - 298
2- بحار الأنوار : 22 /481 ح28 عن كتاب الزهد للحسين بن سعيد : 78 ب 5 ح 109
3- راجع بعض قصص الايثار في ظل السياسة النبوية المباركة في أسباب نزول هذه الآية في تفسير البرهان: 9/268 وفي تفاسير العامة.

واستعلائه على بني إسرائيل (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص:4) ، وكتعصب بني إسرائيل وشعورهم بالأفضلية على سائر الناس وأنهم شعب الله المختار، وتعصب اليهودوالنصارى لديانتهم (وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة:111) (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) (المائدة:18) (قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) (آل عمران:75) وتعصب العرب لقوميتهم (وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) (الشعراء:198-199) أو التعصب للمال والولد (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَ-ؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا) (الأنعام:53) (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) (الكهف:34) (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ) (الزخرف:52-53)

وتعصب الرجال لجنسهم مما دفعهم إلى اضطهاد المرأة وحرمانها من حقوقها حتى حق الحياة فكانوا يقتلون المولودة الأنثى (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ) (التكوير:8-9) (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ) (النحل:58).

وتعصب بعض العشائر والقبائل لنفسها والافتخار على غيرها وانها افضل من الآخرين فلا تزوِّج بناتها لغيرهم لكنهم يتزوجون من غيرهم ويسمون أنفسهم (الحُمس) وقد انتقلت هذه العادة الجاهلية إلى بعض المنتمين نسبياً إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

ص: 97

ويكشف أمير المؤمنين (علیه السلام) عن ألمه لتفشي داءالتعصب في الأمة بلا رويّة ولا حكمة ولا سبب وجيه يقول (علیه السلام) في ذلك (ولقد نظرت فما وجدت أحدا من العالمين يتعصب لشيء من الأشياء إلا عن علة تحتمل تمويه الجهلاء، أو حجة تليط بعقول السفهاء، غيركم، فإنكم تتعصبون لأمر ما يعرف له سبب ولا علة، أما إبليس فتعصب على آدم لأصله، وطعن عليه في خلقته، فقال: أنا ناري وأنت طيني، وأما الأغنياء من مترفة الأمم فتعصبوا لآثار مواقع النعم، فقالوا: نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين)(1).

علاج التعصب:

إن علاج التعصب يبدأ من رفع مستوى الوعي والفكر والثقافة لدى الأمة وإدراك أن التنوع في الجنس واللون والعرق واللغة، وحالة الاختلاف والتعدد في الآراء والأفكار والتوجهات حالة طبيعية اقتضتها طبيعة الناس وإنها من السنن الجارية في الناس ولا يدل شيء منها على أفضلية أحد على أحد وإنما التفاضل بالتقوى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات:13) وقال تعالى (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً) (هود:118) ، حتى الاختلاف في الهداية والضلال فأنها طبيعية اقتضتها حرية الاختيار للإنسان (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة:256) ولو أراد الله تعالى أن يكون كل البشر مهتدين إلى دينه لماأعجزه ذلك (وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى) (الأنعام:35) (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَ-كِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم)

ص: 98


1- نهج البلاغة: الخطبة 192

(المائدة:48) .

والخطوة الثانية في العلاج هو الحوار والاستماع إلى الآخر والانفتاح عليه وافتراض ان كل الاحتمالات مفتوحة وان كل النتائج ممكنة والاتفاق على مبادئ يبنى عليها الحوار (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا) (آل عمران:64) (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (سبأ:24) وتمثل ارقى مراتب التواضع العلمي والحوار المنفتح فيجعل نفسه -- مع انه الحق المطلق -- مع الآخر في خط شروع واحد في بداية الحوار فلا توجد بيننا أفضلية أو شروط مسبقة.

والخطوة الثالثة تربية النفس والمجتمع على مبادئ الإنسانية العليا كالتسامح والعفو والرحمة والتعاون والعدالة والانصاف (وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ) (هود:85) (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة:8) وتعزيز القيم التي توحِّد الناس وتجمعهم كالمواطنة التي تؤسس لمساواة أبناء الوطن الواحد في الحقوق والواجبات من دون تميز قومية أو ديانة أو عشيرة أو مدينة ونحو ذلك.

ونبذ الثقافة الهدامة التي تدعو إلى التعصب والتكفير والحقد والكراهية والاستعلاء والاستبداد والاستئثار والتحذير من مثيري الفتنالذين يجترون بعض خلافات الماضي ويريدون جرّ الأمة إلى الوراء ولا يريدون لها ان تعيش حاضرها ومستقبلها.

التعصب المحمود:

إن الحميّة تكون محمودة اذا كانت لنصرة الدين والأخلاق الفاضلة

ص: 99

والدفاع عن الحرمات والنصرة المستندة إلى الحجة والبرهان والدليل وليس إلى الاهواء والمطامع والانتماء إلى الحزب أو العشيرة أو البلد ونحو ذلك، روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) (إن كنتم لا محالة متعصبين فتعصبوا لنصرة الحق وإغاثة الملهوف)(1) ، وقال موبخاً المتخاذلين ومحرضاً لهم (مُنِيتُ بِمَنْ لَا يُطِيعُ إِذَا أَمَرْتُ وَلَا يُجِيبُ إِذَا دَعَوْتُ لَا أَبَا لَكُمْ مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِكُمْ رَبَّكُمْ أَ مَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ وَلَا حَمِيَّةَ تُحْمِشُكُمْ)(2) -- أي تثير غضبكم -- .

وقال (علیه السلام) (فإن كان لابد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحامد الأفعال، ومحاسن الأمور، التي تفاضلت فيها المجداء النجداء من بيوتات العرب، ويعاسيب القبائل، بالأخلاق الرغيبة، والأحلام العظيمة، والأخطار الجليلة، والآثار المحمودة. فتعصبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار. والوفاء بالذمام، والطاعة للبر، والمعصية للكبر، والأخذ بالفضل، والكف عن البغي، والإعظام للقتل،والإنصاف للخلق، والكظم للغيظ، واجتناب الفساد في الأرض)(3) .

وهذه الحمية والغضب للحق تكون سبباً للتوفيق ودافعاً لفعل الطاعات، روي عن الامام زين العابدين (علیه السلام) أنه قال (لم يدخل الجنة حمية غير حمية حمزة بن عبدالمطلب -- وذلك حين أسلم -- غضباً للنبي (صلی الله علیه و آله) في حديث

ص: 100


1- غرر الحكم:3738
2- نهج البلاغة ، الخطبة 39
3- نهج البلاغة: الخطبة 192

السِّلا الذي القي على النبي (صلی الله علیه و آله)(1) .

إن من الخطوات المهمة على طريق التمهيد لدولة الحق والعدل تنقية المجتمع من رواسب الجاهلية ومنها التعصب وتربيته على مبادئ الإسلام الأصيل المستقاة من أهل البيت (صلوات الله عليهم أجمعين).

وتظهر هذه القيم السامية بشكل جلي وواضح في سلوك اتباع أهل البيت (علیهم السلام) أيام الزيارة الأربعينية ويعكسون صوراً من التفاني والايثار والمحبة والتضحية ليس لها نظير والمطلوب ادامة هذا السلوك على مدار السنة ما دمنا نعتقد انه حق وفيه رضا لله سبحانه ولأهل البيت (صلوات الله عليهم أجمعين) وعدم العودة الى ما يشين وما يسخط الله تعالى وأولياءه.

ص: 101


1- الكافي: 2/308 ح5 وقد ذكرت جملة من المصادر قصة اسلام حمزة منها بحار الأنوار: 18/211 و73/285 والسلا هو ما يرافق جنين الحيوان عند ولادته كالجلد الرقيق الذي يحيط به وأن أبا جهل وضع سلا جزور على رأس رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو يصلي.

خطاب المرحلة 609 : (من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته)

(من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته)(1)

معرفة قيمة النفس سبب لاجتناب المعاصي(2)

يعلّمنا أمير المؤمنين (علیه السلام) بهذه الكلمة القصيرة طريقة للتخلص من الوقوع في المعاصي، لأن سبب ارتكاب الذنوب مع معرفة خطرها في الدنيا وعقوبتها في الآخرة هو اتباع الشهوات، فالشهوة الجنسية تدفعه إلى النظرة المحرّمة والعلاقة غير المشروعة بكل مستوياتها، والشهوة الغضبية تدفعه إلى الظلم والعدوان على الآخرين، وشهوة المال تدفعه إلى الكسب غير المشروع والاستيلاء على أموال الآخرين، والانانية تدعوه الى انتقاص الآخرين وغيبتهم والتكبّر وحب الجاه والسمعة ونحو ذلك، وفي هذا المعنى كلمة قصيرة أخرى لأمير المؤمنين (علیه السلام) قال (من كساه الحياء ثوبه، لم ير الناس عيبه)(3) .

وعلاج هذا الاندفاع وراء الشهوات لا يكون باستئصالها وازالتهالأنها غرائز أودّعها الله تعالى في الانسان لتؤدي غرضاً ايجابياً مثمراً، فالشهوة الجنسية لحثه على الزواج والانجاب حتى تتكاثر البشرية وتنمو وبدون هذا الدافع القوي لا يسعى الشخص الى تحمل مسؤوليات الزواج والاسرة واعبائها،

ص: 102


1- نهج البلاغة: الحكم، الحكمة 446
2- من حديث سماحة المرجع الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من الطلبة والشباب الذين قضوا أيام المعايشة مع الحوزة العلمية في النجف الأشرف يوم الثلاثاء 2/ صفر / 1441 الموافق 2019/10/1
3- نهج البلاغة: الحكم، الحكمة 220

واودعت الشهوة الغضبية ليدافع عن المقدسات ويواجه من ينتهك الحرمات ونحو ذلك.

فالعلاج إذن في ضبط هذه الشهوات وجعلها تحت السيطرة لتتحرك نحو الهدف الإيجابي فقط وتؤدي غرضها المنشود، وفي هذه الكلمة القصيرة لأمير المؤمنين (علیه السلام) يلفت نظرنا إلى ما يساعدنا على عملية الضبط هذه من خلال التفات الانسان إلى أهمية نفسه وقيمتها الكبرى فانها نفخة الهية في جسد الانسان (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي) (الحجر:29) لينال بها الجنان والحياة الكريمة في ظل رحمة الله تعالى ولا يقبل لها ثمناً غير هذا فانه بذلك يحفظ قيمتها وكرامتها، اما من يتبع شهواته ويرتكب الذنوب والمعاصي فانه يهينها ويحتقرها ويهدر قيمتها الثمينة، ويكتسب بها النيران بدل الجنان ويضيّع عليه هذا الرأسمال العظيم، ولا اعتقد أن عاقلاً يقبل بأن يجلب بماله على نفسه الجحيم بدل الفوز بالنعيم.

علماً بأن التجربة لا تتكرر ومن يموت لا يرجع الى الحياة مرة أخرى ليصحح اخطاءه، وهذا المعنى ورد في حديث للإمام الصادق (علیه السلام) قال (اتقوا الله وانظروا لأنفسكم، فإن أحقّ من نظر اليهاأنتم، لو كان لأحدكم نفسان فقدم احداهما وجرّب بها استقبل التوبة بالأخرى ولكنها نفس واحدة اذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة)(1) .

وفي الرواية الأخرى تكملة (فأنتم أحق أن تختاروا لأنفسكم).

فلا تغرنكم بعض الدعوات الخادعة باسم الحرية أو المجتمع المدني أو

ص: 103


1- وسائل الشيعة: 15/53 أبواب جهاد العدو، باب 13 ح 10

حقوق المرأة ونحو ذلك والتي تهدف الى تحويل الانسان إلى عبد للشهوات والغرائز فان فيها امتهاناً لكرامة الانسان وحط قيمته وربما يسعون الى سن قوانين لشرعنة ذلك كبعض المواد التي تضمنها قانون العنف الأسري المقدَّم إلى البرلمان.

ص: 104

خطاب المرحلة 610 : لتكن لنا مشاركة في تحقيق الهدف الإلهي العظيم

بسم الله الرحمن الرحيم

(يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (التوبة:32)

لتكن لنا مشاركة في تحقيق الهدف الإلهي العظيم (1)

تشير الآية إلى المحاولات اليائسة والبائسة التي يقوم بها أعداء الإسلام من داخل المجتمع المسلم ومن خارجه (كفارّ ومنافقين ومشركين) للقضاء على الإسلام، ويسخر القرآن الكريم من تفاهتها ويصوّر محاولاتهم كمن يريد أن يطفئ نور الشمس الوهاج بنفخة هواء من فمه، فهل يستطيعون ذلك؟ والمثال يضرب لتقريب الفكرة وإلا فان نور الله تعالى الواصل إلينا من خلال القرآن والإسلام أعظم لأن (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (النور:35) .

(ويأبى الله) تعالى أي يرفض ويمتنع بشكل حتمي عن قبول أي خيار آخر غير تحقيق غرضه وقد عزم على أن يتم نوره وينزل نصره النهائي على المؤمنين وتهيمن شريعته على كل القوانين والأنظمة التي صنعها الناس وهو ما نطقت به الآية التالية (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة:33) وبشرت به آية أخرى أيضاً في

ص: 105


1- من حديث سماحة المرجع الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من المبلّغين وفضلاء الحوزة العلمية قبل انطلاقهم للتبليغ بين الملايين من زوار الامام الحسين (علیه السلام) في ذكرى اربعينيته يوم الاثنين 8/صفر/1441 الموافق 2019/10/7

قوله تعالى (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً) (الفتح:28) .

ولا يخفى ما في الآية من كناية عن (ظلامية) أعداء الإسلام وجهلهم وتخلفهم وهمجيتهم حيث يسعون لإطفاء النور واغراق البشرية في الظلام، وهل يسعى عاقل لإطفاء النور الذي فيه حياة البشر وصلاحهم وسعادتهم، فمن يسعى للقضاء على الإسلام يكون هذا تقييمه.

إن الآية الكريمة لما تسخر من محاولات الأعداء وتصفها بالعبثية وعدم الجدوى فهذا لا يعني أن جهود وامكانيات الاعداء تافهة أو ضعيفة في نفسها أي من الناحية المادية (وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) (إبراهيم:46) لأنهم يجندون كل ما عندهم من عدد وعدة قاهرة سواء على صعيد المال أو السلاح أو الاعلام أو التقنيات الحديثة أو أدوات الاغراء والافساد والاضلال والترغيب والترهيب.

وإنما هي كذلك عندما تُواجَه بالأيمان وقوة العقيدة والقلوب الثابتة التي ربط الله تعالى عليها وبتفعيل سائر إمكانيات الأمة وطاقاتها البشرية والمادية، وحينئذ يتحقق النصر النهائي لدين الحق الذي وعدت به الآية التالية (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَىالدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة:33) .

وتشير آية أخرى مشابهة إلى ان الأعداء لا يكتفون بالحرب الخشنة الظاهرة وإنما يستخدمون الحرب الناعمة أيضاً من خلال تحريف تعاليم الدين وتعطيل أحكامه وتمييعه، وتحويله إلى شكليات طقوسية كأي تقاليد شعبية

ص: 106

خالية من المضمون ولا تحقق الغرض الذي يريده الله تبارك وتعالى، قال سبحانه (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (الصف:8-9) وإنما فسرناهما بهذا المعنى بقرينة الآية التي سبقتهما (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (الصف:7) وبدلالة كلمة (أَفْوَاهِهِمْ) التي تعني ان محاولاتهم تكون بنشر الكلام الباطل مسموعاً أو مكتوباً.

وفي ذلك رواية عن أمير المؤمنين (علیه السلام) من حديث طويل في الاحتجاج على أحد الزناديق في آيات متشابهة إلى أن قال عن معنى هذه الآية (انهم أثبتوا في الكتاب ما لم يقله الله على الخليقة فأعمى الله قلوبهم حتى تركوا فيه ما دلَّ على ما أحدثوه فيه وحرفوا منه)(1)

وفيها أيضاً (وجعل أهل الكتاب القّيمين به، والعالمين بظاهره وباطنه، من شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حينباذن ربها، أي: يظهر مثل هذا العلم لمحتمليه – أي القادرين على تحملّه- في الوقت بعد الوقت، وجعل أعداءها أهل الشجرة الملعونة الذين حاولوا إطفاء نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره)(2).

فهذا التفسير ليس منافياً للأول بل يعبّر كل منها عن شكل من اشكال إطفاء النور أي الصراع والمواجهة.

ومن اشكالها استهداف قادة الإسلام العظيم -- الذين هم مظاهر النور

ص: 107


1- الاحتجاج: 1/371 ، تفسير الصافي: 3/400
2- الاحتجاج: 1/376 ، تفسير الصافي: 3/400

الإلهي -- بالتسقيط والحصار والتطويق وعزلهم عن الأمة في السجون وملاحقة أتباعهم وتنتهي بقتلهم ، روى الشيخ الصدوق في الاكمال عن الامام الصادق (علیه السلام) وقد ذكر شق فرعون بطون الحوامل في طلب موسى (علیه السلام) (كذلك بنو امية وبنو عباس لما ان وقفوا على أن زوال ملك الأمراء والجبابرة منهم على يد القائم (علیه السلام) ناصبونا العداوة ووضعوا سيوفهم في قتل أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإبادة نسله طمعاً منهم في الوصول إلى قتل القائم (علیه السلام) فأبى الله أن يكشف أمره لواحد من الظلمة الا أن يتم نوره ولو كره المشركون) (1).

وروى الحميري في قرب الاسناد بسنده عن البزنطي عن الامام الرضا (علیه السلام) قال (إن الناس قد جهدوا على إطفاء نور الله،حين قبض الله تبارك وتعالى رسوله (صلی الله علیه و آله) ، وأبى الله إلا أن يتم نوره. وقد جهد علي بن أبي حمزة - من زعماء الانشقاق على الامام الرضا (علیه السلام) واختلاس أمواله - على إطفاء نور الله حين مضى أبو الحسن الأول (علیه السلام) - أي حين وفاة الامام الكاظم - فأبى الله إلا ان يتم نوره، وقد هداكم الله لأمر جهله الناس، فاحمدوا الله على ما من عليكم به)(2) .

وتوجد التفاته لطيفة للفرق بين التعبير (يُطْفِؤُواْ) في سورة التوبة و (لِيُطْفِؤُوا) في سورة الصف، قال الراغب (والفرق بين الموضعين أن في قوله (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ) يقصدون إطفاء نور الله، وفي قوله (لِيُطْفِؤُوا) يقصدون

ص: 108


1- إكمال الدين وإتمام النعمة: 354 ، باب 33 ما روى عن الصادق (علیه السلام) ، ح 50
2- نقله المجلسي في بحاره 49: 262 / 5.

أمراً يتوصلون به إلى إطفاء نور الله)(1) فالتعبير الأول يشير إلى التفسير الأول لآية التوبة وهي المواجهة المباشرة والوصول إلى ما يريدون بلا واسطة، والتعبير الثاني يشير إلى اتخاذ الوسائل والأدوات والمقدمات للوصول الى الإطفاء وهو التفسير الثاني في آية الصف فالقرآن الكريم يؤكد حقيقة خيبتهم وفشلهم في مساعيهم سواء واجهوا مباشرة أو اتخذوا لذلك مقدمات وأسباباً.

ان الأعداء لا يكلّون ولا يملّون بل يستمرون في محاولاتهم ولذا استعملت صيغة المضارع في (يريدون) فاراداتهم لهذه النتيجة مستمرة،قال تعالى (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ) (البقرة:217) عملاً بأوامر شيطانهم الكبير إبليس الذي يردّد (لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (الأعراف:16) (وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (الأعراف:17).

مما يوجب علينا لزاماً ان نستمر بالعمل لإعلاء كلمة الله تعالى ولنشر تعاليم الدين وحث الناس على العمل بالشريعة وتعريفهم بسيرة اهل البيت (علیهم السلام) لنحدث التوازن مع محاولات الأعداء بل نتفوق عليهم إن شاء الله تعالى.

ولنعلم ان هذا الهدف الإلهي العظيم إنما يتحقق على ايدي العاملين الرساليين المخلصين(هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ)(الأنفال:62)، فلنحرص أشد الحرص على أن تكون لنا بصمة في تحقيق الهدف الذي ذكرته الآية فان المسيرة ماضية نحو التمام ولا تتوقف على وجود أحد، ومن يتخلف فإنما يحرم نفسه من هذا الفوز العظيم، وساحة العمل واسعة تتسع للجميع،

ص: 109


1- المفردات للراغب: مادة (طفأ) وقال في الهامش: راجع درة التنزيل للاسكافي: 195.

ولكلٍ دوره المناسب له، فوظيفتكم – كفضلاء وطلبة علوم الدينية – الدعوة الى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة والإرشاد وتهذيب النفوس وتعليم احكام الدين ونشر سيرة اهل البيت (علیهم السلام) والامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

إن دوام القضية الحسينية واتساعها وتحولّها إلى قضية إنسانيةعالمية من أوضح تجليّات هذه الآية المباركة حيث جهد الكثير من الطواغيت عبر التاريخ الماضي والحاضر لإطفاء هذا النور الإلهي العظيم لكنهم فشلوا وذهبوا إلى مزابل التاريخ وبقيت رسالة الامام الحسين (علیه السلام) تخاطب الأجيال جميعاً وتزداد قوةً وتأثيراً بفضل الله تبارك وتعالى، وهذا أوضح مثال على ان الله يتم نوره ولو كره الكافرون والمنافقون، فلا نتقاعس أولا ولا ننبهر بقوة الباطل ثانياً.

ص: 110

خطاب المرحلة 611 : المرجع اليعقوبي يدعو الى توسيع التبليغ الديني لدى الشعب الكردي في دول المنطقة والعالم

المرجع اليعقوبي يدعو الى توسيع التبليغ الديني لدى الشعب الكردي في دول المنطقة والعالم

دعا (1) سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) الى توسيع قنوات الاتصال وتوثيق الأواصر مع الأخوة المؤمنين الساكنين في المناطق الكردية من دول المنطقة والمهاجرين منهم في دول العالم

وشخّص سماحته وجود ضعف ملحوظ في العلاقة بين الشعب الكردي وشعوب المنطقة مشيرا الى تعدد الأسباب التي تقف وراء ذلك واشتراك كل الاطراف في تحمل مسؤوليتها.

وقال سماحته: ان الظروف اليوم مؤاتيه لتحقيق انجازات كبيرة في هذا المجال نظرا لتقدم تقنيات التواصل والانفتاح الحاصل على أوسع أبوابه فضلا عن وجود الرغبة لدى الجميع للتعرف على الاسلام المحمدي الأصيل الذي نقله أهل البيت الكرام عن جدهم العظيم (صلوات الله عليهم اجمعين) .

ورأى سماحته ان الاسلوب الامثل لذلك هو حث الشباب الكرد الواعين المثقفين المخلصين على الالتحاق بالحوزات العلمية الدينية تلبية لنداء الله تبارك وتعالى (فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوافِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة 122) ليكونوا مشاعل نور وهداية لأمتهم وليشملهم دعاء الأمام الرضا (علیه السلام) : (رحم الله عبدا أحيا أمرنا)

ص: 111


1- بتاريخ يوم الاثنين 2019/10/14 م 15/صفر/ 1441 ه-

مشيرا الى أن الإمام الرضا (علیه السلام) عندما سُئل عن كيفية إحياء أمر أهل البيت (علیهم السلام) قال : (تتعلمون علومنا وتنشرونها بين الناس ، فان الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا)(1).

وأكدَّ سماحته (دام ظله) على أهمية التواصل بين حوزة النجف الأشرف من جهة وأتباع ومحبي أهل البيت (علیهم السلام) من الكرد من جهة أخرى باعتماد مختلف الوسائل ومنها ارسال المبلغين المتحدثين باللغة الكردية وتفعيل البرامج الدينية والفكرية والثقافية الموجهة باللغة الكردية، بهدف نشر وتعميق الثقافة الانسانية والإسلامية الأصيلة وبيان القيم والمبادئ الصحيحة التي أرساها أئمة أهل البيت (علیهم السلام).

وقال سماحته خلال استقباله عدة وفود كردية من تركيا وشمال العراق ودول أوربية عديدة قدموا للمشاركة في زيارة الأربعين: إن هذا الاهتمام جزء من واجبنا ووظيفتنا في رعاية الناس وارشادهم وهدايتهم وتصويب مسيرتهم، مستشهداً بقول النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) (من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، ومن سمع رجلا ينادييا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم)(2) .

وفي معرض حثّه على الصبر وتحمل المشاق إزاء المعوقات والتحديات التي تواجه العمل الاسلامي في عموم المناطق التي يقطنها الأخوة الكرد أشار سماحته الى ضرورة التأسي بالرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) وما عاناه في سبيل إيصال صوت الحق وبيان تعاليم الدين الحنيف، مبينا أن أجلاء الصحابة كسلمان

ص: 112


1- معاني الاخبار
2- وسائل الشيعة

المحمدي وأبي ذر الغفاري وعمار بن ياسر دفعوا ثمنا غالياً وضحوا تضحيات جسيمة لأجل موالاتهم وتمسكهم بولاية محمد وآل محمد.

ص: 113

خطاب المرحلة 612 : البيان الختامي للزيارة الاربعينية المليونية

اشارة

الحمد لله وحده والحمد حقًّه كما يستحقُّه حمداً كثيراً، والصلاة والسلام على سادة الخلق أجمعين والهداة إلى الحق المبين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين.

السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين الذين بذلوا مهجهم دون الحسين (علیه السلام).

نعزّي المسلمين وأحرار العالم جميعاً بذكرى أربعينية الإمام الحسين (علیه السلام) خصوصاً الذين وفدوا من أصقاع الأرض إلى المشاهد المقدسة لأئمة أهل البيت (علیهم السلام) لينهلوا من معينهم الصافي كل قيم الصلاح والحرية والكمال والمبادئ الإنسانية العليا، وليرفضوا كل أشكال الظلم والفساد والانحراف والطغيان والاستعباد.

ونهنّئ الشعب العراقي الأبي الكريم، مواكب وهيئات، جهات، مؤسسات، أفراد- على وقفته العظيمة بكل تواضع وإيثار وحب لإنجاح هذه الشعيرة المباركة بكل تفاصيلها، فتحرّك بملايينه كأنه خلية نحل واحدة ليقدّم كل ما يحتاجه الزوّار مما أذهل العالم كله.

وما كان لهذا الحدث العظيم أن يقوم ويزدهر لولا هذه الجهودالمباركة، فلهم القدح المعلّى من الكرامة والمقامات الرفيعة التي أعدّها الله

ص: 114

تبارك وتعالى لزوّار الإمام الحسين (علیه السلام) فمن غير الانصاف ان تنتهي المناسبة دون تسجيل الشكر الجزيل لهم جميعا.

وإن من قدّموا كل هذا العطاء للإمام الحسين (علیه السلام) فإن الله لا يخذلهم ولا يضيع إحسانهم * إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (الكهف: 30) وسيجعل لهم من امرهم فرجاً ومخرجاً وسيزيح عنهم ببركة اقامتهم الشعائر الحسينية كابوس الظلم والفساد كما خلّصهم ببركتها من السابقين.

وإني مطمئن إلى أن الجهود المخلصة الواعية تدخل السرور على قلب إمامنا المهدي الموعود (صلوات الله وسلامه عليه) وتدعوه إلى تعجيل ظهوره المبارك وهو يرى الملايين من شيعته من عشرات الدول يجتمعون عند ضريح جدّه سيد الشهداء (علیه السلام) معلنين نصرتهم وطاعتهم المطلقة له (علیه السلام) والتحرر من سلطان الهوى والذّل والتبعية والتخّلف والجهل، فعلينا أن نديم زخم الانتصار على النفس الأمارة بالسوء وعلى شياطين الجن والإنس.

لقد كان ملفتاً غياب السياسيين وقادة الأحزاب عن مشاركة الزوار في مسيرتهم وتقديم الطعام لهم ونحو ذلك من الحركات الاستعراضية الماكرة التي كانوا يخدعون الشعب بها ليواصلوا فسادهم وتسلطهم العدواني، وهذا اعتراف منهم بالفضيحة وإقرار منهم بأن الشعب قد بلغمرتبة من الوعي ورفض الظلم بحيث لا تنطلي عليه تلك الألاعيب، والتستر بالعناوين المقدسة التي كانوا يدّعونها زوراً وبهتاناً، فكانت جنايتهم على الإسلام كبيرة ولا ترحضها كلماتهم المعسولة ووعودهم الإصلاحية الكاذبة التي فتحت لهم ابواباً جديدة من الفساد وسرقة أموال الشعب.

ص: 115

إن اليوم الذي تتوجه فيه هذه الملايين لاقتلاع الظلم والفساد من جذوره ليس ببعيد بعد أن استلهمت من زحفها المبارك نحو ضريح أبي الأحرار وسيد الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام) كل معاني الإصلاح والحرية والحياة الكريمة ورفض الذلّ والهوان والاستعباد والاحتقار والإهمال، ما لم يتدارك الظالمون الفاسدون أمورهم بالتوبة والعمل الجاد الصادق لرفع الظلم والحيف عن الشعب العراقي الكريم.

إن المرجعية الدينية الرشيدة والحوزة العلمية الدينية الشريفة لا يسعها أن تقف مكتوفة الأيدي وهي ترى الشعب يذبح بسيوف الفقر والحرمان والبطالة والفساد والتخريب والجهل والمرض والرصاص الحي، وتجد لزاماً عليها أن تضمّ صوتها إلى أصوات المطالبين بحقوقهم المشروعة بالطرق السلمية التي تكفّلها لهم الدستور وكل قوانين حقوق الإنسان متجنبين الاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة.

وعلى قادة البلاد أن يتصرفوا بحكمة ويستمعوا إلى نداء العقلوالإنسانية ويرضخوا لمطالب الجماهير بحلول حقيقية لمشاكلهم الآنيّة القائمة وبخطط استراتيجية تنتهي إلى تغيير النظام الفاسد القائم من أساسه وأن يتجنّبوا سياسة التخوين والتآمر والاتهام بالعمالة ونحو ذلك، فهذه لا يصدقها أحد على شباب عزّل يستقبلون الرصاص بصدور عارية.

ونجدّد دعوتنا إلى تأسيس مجلس للحكماء وأهل الخبرة في ميادين الحياة كافة، والعراق غني بأمثالهم، لينظر المجلس في مشاكل البلاد وطموحات الشباب وتطلعاتهم فيقدِّم الحلول الناجعة الآنية والمستقبلية، وعلى

ص: 116

الطبقة السياسية الحاكمة أن ترجع إليهم وتشاورهم وتأخذ برؤاهم، أما الحلول الترقيعية التي يراد منها ذرّ الرماد في العيون فلم تعد تقنع طالبي الحياة الحرة الكريمة.

قال الله تبارك وتعالى (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد: 38)

محمد اليعقوبي

20 من صفر الخير 1441

الموافق 19-10-2019

ص: 117

انتفاضة تشرين 2019

انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي دعوات للخروج في تظاهرات واسعة يوم 2019/10/1 الموافق 2/صفر/1441 احتجاجاً على المشاكل الكبرى المتجذرة التي يعاني منها الشعب.

(منها) انتشار الفساد الذي التهم ثروات العراق وخرّب ممتلكاته: -

(ومنها) سوء الخدمات كالكهرباء والماء والصحة.

(ومنها) تفشي البطالة وعدم وجود فرص عمل شريفة للشباب خصوصاً حملة الشهادات الجامعية.

(ومنها) ابتلاع الدولة من قبل الجماعات المسلحة المنفلتة فتقتل وتخطف وتبتز وتجني الأموال وتقتطع الأراضي بلا رادع.

(ومنها) استباحة العراق من قبل الدول الخارجية القريبة والبعيدة فلم تبق له حرمة ولا سيادة، وصار ساحة للصراعات وتصفية الحسابات الدولية بسبب تعدد ولاءات الجهات المتنفذة وتبعيتها.

ولأجل هذا فقد سّمى المتظاهرون حركتهم ب (انتفاضة تحرير العراق).

وقد سبق هذا الموعد وقوع أحداث قامت بها الحكومة استفزت الشارع وأثارته: -(منها) استعمال قوات مكافحة الشغب وسائل مهينة لتفريق تظاهرة لحملة الشهادات العليا من الرجال والنساء كانوا يطالبون بوظائف وقد أصيب عدد من النساء والرجال.

ص: 118

(ومنها) إزالة العشرات من دور الفقراء المتواضعة في كربلاء وفي أجواء شهر محرم الحرام بعنوان التجاوز وتُركوا بلا مأوى بينما يرتع السياسيون في القصور الفارهة والأراضي الواسعة من ممتلكات الشعب.

(ومنها) تجميد أبرز قادة الجيش العراقي الذي قاد عمليات تحرير الموصل من عصابات داعش وقد عدّه كثيرون اعتداءاً على كرامتهم ووطنيتهم ومجّدوا في هذا القائد ولاءه للعراق وليس لبعض الجهات السياسية المتنفذة.

وفي الموعد المحدد بل قبله تدفق الآلاف الى الساحات المقررة للتظاهر كساحة التحرير وسط بغداد وأمثالها في المحافظات وكان الحشد الجماهيري مفاجئاً فقد بلغ مئات الالاف في ساحة التحرير في بعض الليالي وكان حضور طلبة الجامعات مميزاً حيث كان يشارك الآلاف منهم بزتّهم الموحَّد في مسيرات منظمة تنطلق من جامعاتهم الى ساحات التظاهر، ونصب المتظاهرون بمختلف تنوعاتهم وميولهم خيماً ملأت الساحة لإدامة الاعتصام.

وأدركت الجهات المتنفذة في الحكومة خطورة الموقف وبدل أن تعالجه بالحكمة والاستماع للمطالب وفرز الحقّة عن المغرضة فانعناصر مجهولة واجهت المتظاهرين بإطلاق النار الحي والرصاص المطاطي والقنابل الدخانية فسقط العشرات بين قتيل وجريح منذ اليوم الأول واستمر النزيف.

وكان موقف سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) هو عدم الدخول في التظاهرات بعنوان الجهة لتبقى حركة وطنية إصلاحية عامة ومنع تمزقها بتعدد الولاءات والجهات لكن اتباعه ومريديه كانوا حاضرين لأنه من المعلوم عندهم ان هذه المطالب نادى بها سماحة المرجع (دام ظله) منذ سنين، كما

ص: 119

وجه سماحته الفضلاء للحضور في ساحات التظاهر وعدم الغياب عنها لتوعية الشباب وترشيد حركتهم إذ لا يمكن ترك هذه الجموع الضخمة من الشباب بأيدي تخريبية مجهولة يستغلون صدقهم وإخلاصهم لوطنهم، فلابد من العمل لحمايتهم من مشاريع الانحراف والتحلل الأخلاقي التي أريد لها أن تقود الساحات وجنّدوا له شباباً وشابات ورصدوا لها أموالاً كبيرة، وكان صوتهم عالياً وتروِّج لهم عدة فضائيات، وكانت من أولى النداءات لبعض الأجندات التي ارادت تزعم الحركة هي اقصاء الدين من حياة المجتمع ورفض حضور رجال الدين في الساحات وهددوا من حضر منهم، لكن فضلاء الحوزة العلمية -- جزاهم الله خير الجزاء -- تواجدوا واستوعبوا الجمهور بصدر رحب وتحملوا الاهانات بل الاعتداءات التي صدرت من بعض المغرضين وما لبثوا أن استعادوا موقعاً متقدماً في الساحات وأقاموا صلوات الجماعةومجالس الوعي والإرشاد، وصار الشباب يقصدونهم للسؤال عن مختلف القضايا وبيان حقيقة ما يجري والأهداف المشروعة التي يجب أن يطالبوا بها واستطاعوا اقناع منظمي الحفلات الغنائية بالغائها احتراماً لدماء الشهداء ومواساة لعوائلهم وقد ألغيت وأحبطت مشاريع الافساد والابعاد عن الدين بفضل الله تعالى .

وفي الأيام الأولى من الانتفاضة وجّه سماحة المرجع (دام ظله) رسالة الى رئيس الوزراء د. عادل عبد المهدي يدعوه فيها الى اجراء حلول جذرية حقيقية، وقدّم رؤية لها لأن الحلول الترقيعية وسياسة ذر الرماد في العيون لم تعد تنطلي على الجماهير المنتفضة التي تواجه الرصاص بصدور عارية، وهي تريد استرداد الوطن سالماً معافى مزدهراً سيداً كريماً وكان شعارهم (نريد

ص: 120

وطن)، وقد أجاب رئيس الوزراء برسالة بيّن فيها إنجازات حكومته خلال سنة من عمرها وان المشاكل ورثها من الحكومات السابقة ونحو ذلك من الكلام الذي كررّه في وسائل الاعلام.

وفي اليوم السادس هدأت التظاهرات والاعتصامات بعد أن أصدرت الحكومة حزمة قرارات منها منحة مالية لكل عاطل وتوزيع قطع أراضي وتوفير وظائف جديدة وكان السبب الآخر للتهدئة هو فسح المجال امام المشاركة الواسعة في الزيارة الأربعينية والسير على الأقدام الى الامام الحسين (علیه السلام) وخدمة الزوار.وبعد انتهاء الزيارة عادت التظاهرات والاعتصامات من جديد يوم 25/10 ولم تقتصر على ساحة التحرير في بغداد فقد امتدت الى ساحة الخلاني ثم الى ساحة الوثبة وشارع الرشيد عند بناية البنك المركزي، وظلت المواجهات مستمرة عند بوابة جسور الجمهورية والسنك والأحرار وعند بعض المؤسسات الحكومية مع القوات الأمنية وازدادت الإصابات فقتل المئات في بغداد والمحافظات وأصيب الالاف واختطف عدد من النشطاء الى جهات مجهولة وأصيب عدد كبير من القوات الأمنية.

ولما لم يلمس سماحة المرجع (دام ظله) جدّية لدى الحكومة كتب مشروعاً مقترحاً لحل الأزمة تقوده المرجعية الدينية في النجف الأشرف وبعثه بيد وفدٍ الى بعض الأساتذة الاعلام في الحوزة ممن له شأن في مكتب المرجع ليوصله إليهم وقد أوصله الوفد الى مكتب الأستاذ ولم يلتقهم.

ص: 121

ولم يتوقف سماحة المرجع (دام ظله) عن إصدار التوجيهات الى ساحات التظاهر لبلورة مشروع وطني صالح يلبي طموحات الشعب ويحقق آماله ويحل مشاكله من دون أن تحمل البيانات والمنشورات اسماً محدداً، وكانت هذه التوجيهات تأخذ طريقها الى مراكز المظاهرات ويكتب بعضها على لوحات كبيرة تعلق على بناية المطعم التركي عند رأس جسر الجمهورية وهو مقر توجيهات الانتفاضة فيساحة التحرير الذي سمي ب (جبل أحد) لإشرافه على ساحة المواجهة عند جسر الجمهورية وأنه يحمي ظهور المنتفضين من الالتفاف عليهم.

وكأي انتفاضة شعبية تفتقد الى القيادة الحكيمة القوية التي تعبّر بوضوح عن مطالبها وتحسن قطف ثمار الثورة فقد ركب موجتها جمع من المرتزقة وعملاء السفارات الأجنبية وعدد من الأحزاب والتيارات السياسية لتحقيق مكاسب شخصية وفئوية أو تصفية حسابات وحصلت صراعات مسلحة بين جهات متناحرة كمذبحة ساحة الخلاني التي ذهب ضحيتها العشرات من الأبرياء.

ولمزيد من الضغط وجني المكاسب فقد قامت بعض الجهات السياسية بحرق المقرات والمؤسسات وتعطيل الدوام الرسمي في الجامعات والمؤسسات الحكومية وشكلوا مجاميع تجوب الشوارع بالدراجات النارية لقطعها واغلاق الدوائر وتهديد كل من يخالف بالحرق وسموا أنفسهم (أفواج مكافحة الدوام) وكان من أعنف الاشتباكات ما حصل في ساحة ثورة

ص: 122

العشرين في النجف يوم الخميس 2019/11/28 حيث قتل (16) على الأقل وجرح أكثر من (500).

ولما بانت علامات الانحراف عن المطالب الحقيقية التي خرج الشعب من أجلها انسحب كثيرون من ساحات التظاهر وضعف الحماس لها، ولكن سماحته استمر في ترشيد الحركة، وبيان مواقفه في تأييدمطالب الشعب، وبقي جمع من الفضلاء ليؤدوا دورهم في التوعية والإرشاد.

وقد كانت المرجعية الدينية في النجف الأشرف تصعّد من لهجتها تجاه الحكومة كلّما تصاعد ضغط التظاهرات من خلال خطابات صلاة الجمعة في الصحن الحسيني الشريف حتى لمّحت الى استقالتها في اليوم التالي لمواجهات النجف أي يوم الجمعة 2019/11/29 فقدّم د. عادل عبد المهدي استقالته فور انتهاء الصلاة وبقيت حكومته لتصريف الأعمال حتى تشكيل الحكومة الجديدة، ثم تلتها أحداث سياسية وجدالات تشكيل الحكومة واختيار رئيس لها، كما شهدت الساحات مواجهات بين جهات حققت مكاسبها من المشاركة وجهات تشعر أنها لم تحقق المطالب الشعبية التي ضحت من أجلها وهكذا تآكلت الانتفاضة وانتهت وازيلت الخيم والمنصات وسائر الأدوات والحواجز وفتحت الطرق بعد عدة أشهر من غلقها.

ص: 123

خطاب المرحلة 613 : رسالة الى رئيس الوزراء للمطالبة بالاستماع الى مطالب الشعب

حضرة الدكتور عادل عبد المهدي رئيس الوزراء المحترم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أكتب اليكم هذه الكلمات من بين أزيز الرصاص وأنين الثكالى والمحرومين وصرخات الجياع والمحبطين، لعلنا نستطيع ان نقدم شيئا يخفف آلامهم ويحقق امالهم وطموحاتهم في حياة حرة كريمة.

لقد قلنا في البيان الذي اصدرناه تعليقاً على تشكيل الحكومة في تشرين الأول/2018 إنها أشعرت الشعب العراقي بالإحباط وأفقدته الأمل في التغيير نحو الأفضل، ووعدتم في حينها بتدارك الحال وإصلاحه، وها هو العام الأول من عمرها ينقضي وهي تثبت صدق تلك التوقعات، وان همها الأول كما ورد في خطابكم مساء أمس هو بيع المناصب وجمع المغانم غير المشروعة علناً وبلا استحياء من الشعب بينما يستكثرون على أصحاب الشهادات العليا والكفاءات الوطنية إيجاد فرص العمل الكريمة بحجة عدم وجود تخصيصات ويُحرَم المواطن الفقير من السكن الكريم بل تهدّم مساكنهم المتواضعة ويبقون في العراء.

نعم ان مشاكل البلد ليست وليدة الساعة، ولكن أداء الحكومةالحالية ذهب بها بعيداً في التدهور والإنحدار، ولم نلمس منها أيّة نيّة جدّية لمعالجة

ص: 124

تلك المشاكل.

وقد أثبتت الأخطاء الأخيرة للحكومة (1) -والتي وقعت متزامنة - عدم جواز الاستخفاف بأيّة مشكلة حتى وإن بدت صغيرة.

إن البلد يعيش على حافة الهاوية التي يمكن ان يتدحرج اليها الجميع في أي لحظة، ولا يسع أي وطني مؤمن غيور ان يصمّ أذنهُ عن سماع أنين الجياع والثكالى والمظلومين والمضطهدين، او يقابل تلك الصيحات بالعنف المفرط ويعوّل عليه كوسيلة لإسكاتهم.

حضرة السيد الرئيس..

إن الفرصة مؤاتيه لتنجز عملاً صالحاً وتكون به رجل الإنقاذ وإخراج البلد من أزمته، واستعادة كرامة الشعب وهيبة الدولة من الفاسدين والعابثين والباغين والمعتدين، وذلك بأن تتصرف بحزم وقوة وإرادة وطنية خالصة وتتحرّر من إملاءات الكتل السياسية النافذة التي تغوَّلت وابتلعت الدولة، ومن الاجندات التي لا تريد خيراً للعراق، وتقود مشروع الإصلاح بنفسك فتبدأ بعزل الوزراء الذين عليهم قضايا فساد أو انهم متهمون بدعم الإرهاب أو مشمولون بالاجتثاث أو غيرمؤهلين، وتعوّضهم بوزراء أكفاء وطنيين مهنيين.

ولعل عزلهم لا يحتاج الى تصويت البرلمان على سحب الثقة لأن أصل توزيرهم باطل وغير قانوني فهم فاقدون لأهلية الاستيزار للأسباب أعلاه.

ويرافق ذلك تشكيل لجان من خبراء متخصصين ومخلصين وطنيين

ص: 125


1- كإزالة مايعرف بالعشوائيات، والطرق المهينة التي استُعمِلَت في تفريق احتجاجات حملة الشهادات العليا وتجميد بعض كبار الضباط الذين يعدّهم جمهور واسع أبطالاً للتحرير والوحدة الوطنية.

لتقييم عمل كل الوزراء الآخرين تمهيداً لسحب الثقة عن الفاسد وغير الكفوء.

كما ان من الضروري اختيار مستشارين من أهل الكفاءة والنزاهة والاخلاص لوضع خطط واستراتيجيات لمكافحة الفساد ومعالجة المشاكل التي يعاني منها البلد ويرزح تحتها الشعب كأزمة السكن والفقر والخدمات العامة والبطالة وعدم العدالة في توزيع الثروات وخراب المرافق الاقتصادية في البلاد كالزراعة والصناعة والتجارة.

إن مكافحة الفساد ولو بالحد الأدنى وتوفير الأموال المنهوبة كفيل بايجاد فرص عمل لكثير من الشباب العاطلين وتحريك الكثير من المشاريع الكبرى التي تحيي البلاد ونستغني بها عن قروض المؤسسات العالمية الظالمة التي فرضت علينا شروطاً مجحفة وتخريبية.

دولة الرئيس..

أقدِم بشجاعة وقوة على فعل كل ما فيه مصلحة البلاد وردّ البسمة والأمل إلى الشعب، لأن من أهم صفات المسؤول الأبوية، خصوصاً منيقف على رأس الهرم تأسياً بالنبي (صلی الله علیه و آله) الذي قال لأمير المؤمنين (علیه السلام): (يا علي أنا وأنت أبوا هذه الأمة). والأب الرحيم الشفيق لا ينام الليل وهو يرى أبناءه في فجيعة وبلاء وجوع وحرمان.

ولا تخشَ اعتراض الكتل الغارقة في الفساد ولا تهديداتهم فإنهم أهون من أن يضرّوك بشيء والله معك ما دمت معه والشعب خلفك ولن ينفعك هؤلاء في الاعتذار أمام الله تعالى عمّا يحصل، وستضطر تلك الكتل الى مساندتك وتأييدك لأنهم مهزومون منبوذون ويعرفون حجم أنفسهم.

ص: 126

وكلما تقدمت فستنفتح أمامك آفاق جديدة للإصلاح وخطوات عملية أخرى ولا يبخل إخوانك الناصحون عن تقديم شيءٍ منها.

لقد أوصل المتظاهرون والمحتجون صوتهم بوضوح وكان مضمّخاً بالدماء ولاتحتاج إلى اجتماع مع قيادات أو تنسيقيات لتتعرف عليها فقدِّم لهم ما يطمئنهم وبادر إلى إطلاق مشاريع عاجلة تحل مشاكلهم وتعيد الأمل إليهم وأن تكون حقيقية وليست وعوداً فارغة أو تقع في جيوب الفاسدين، وإن مشاريع المجمعات السكنية من أوسع الأبواب لاستيعاب الأيدي العاملة وتحريك قطاعات واسعة كالنقل ومصانع المواد الإنشائية وتجارتها وما يلحق بها.

(وما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّ-هِ والْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِوالنِّساءِ) (النساء:75)

محمد اليعقوبي

الجمعة 5/صفر/1441

2019/10/4

ص: 127

خطاب المرحلة 614 : مقترح مبادرة أمام المرجعية لحل الازمة باذن الله تعالى

مقترح (1) مبادرة أمام المرجعية لحل الازمة باذن الله تعالى

لا شك ان الاحداث الراهنة هي من اعقد المراحل التي مرّ بها العراق واخطرها وهي مفتوحة على كل الاحتمالات ويمكن ان ينزلق البلد – والعياذ بالله- الى الهاوية باي تصرف أحمق وان مما يزيد تعقيد الحالة ويجعل الحال مستعصياً فقدان ثقة المتظاهرين بوعود الحكومة واجراءاتها ومن جهة الحكومة فانها لا تجد قيادات منظمة للجماهير حتى تتحاور معها.

ومن هنا نحتاج الى طرف ثالث يمتاز بالأبوية للجميع ليسّد هذا الخلل ويعالج الحلقة المفقودة وليس هو الا المرجعية الدينية في النجف الاشرف ومعها العلماء والمفكرون والنخب والوجهاء وزعماء العشائر لذا تطلق المرجعية الدينية هذه المبادرة التي تكون فيها جميع الأطراف رابحة وتجنب حالة الصراع وكسر العظم بين الجماهير الغاضبة والحكومة بإداراتها المختلفة مما يغرق البلد في فتنة مظلمة وبلاء عظيم وان هؤلاء الشباب الشجعان لا يمكن التفريط بهم.

وتبدأ المبادرة من إعلان خطيب الجمعة في كربلاء عن تشكيلمجلس خبراء وحكماء واهل الخبرة من قوى الشعب المتنوعة وشرائحه المختلفة ويضم (علماء ومفكرين وواجهات اجتماعية ونخب متخصصين في الاقتصاد

ص: 128


1- المشروع المقترح الذي ارسله سماحة المرجع اليعقوبي الى أحد كبار أساتذة الحوزة في النجف الاشرف لايصاله الى مكتب المرجعية لغرض إيجاد حلول للازمة، وتسلّمها مكتبه.

والاجتماع والسياسة والقانون والاستراتيجيات والتنمية البشرية) ويكون هذا المجلس راعياً للمبادرة وضامناً لتنفيذها ويستمر لاحقاً بأداء وظيفته في تقديم الاستشارات وحّل المشاكل والعقد واقتراح المشاريع وتصحيح المسار وتكون كلمته مسموعة لدى السلطات، ويصار فورا الى تعيين اشخاص منسقين لاختيار أعضاء المجلس.

وتتضمن المبادرة المقترحة عدة نقاط قابلة للاضافة والتعديل:

1.يقدم السيد عادل عبد المهدي استقالة حكومته ثمناً رخيصاً لدماء المئات من الشهداء والآلاف من الجرحى الذين خرجوا للاحتجاج وبذلك تستعيد العملية السياسية بعض ثقة الجماهير بها وتبقى الحكومة لتصريف الأعمال وتنفيذ الإصلاحات العاجلة وان يعلن المتظاهرون عدم ممانعتهم من تولّي السيد عادل عبد المهدي تشكيل الحكومة من جديد اذا تعهد بأن يكون حازماً قوياً شجاعا ًويتحرر من إملاءات الكتل النافذة والتأثيرات الخارجية ولا يراعي الا مصلحة العراق، او ترشيح بديل تتوفر فيه هذه الصفات التي اشترطتها المرجعية في بعض خطاباتها السابقة اذا لم يحصل الوثوق بقدرة السيد عادل عبد المهدي على تحقيقها.2. يكلف رئيس الجمهورية السيد عادل عبد المهدي من جديد او البديل المتفق عليه بتشكيل الحكومة باعتباره مرشح أكثر الكتل البرلمانية وأكبرها ويعمل على اختيار وزراء كفوئين مستقلين نزيهين وتقليص عدد أعضاء الحكومة الى أقل ما يمكن ويكون عمر الحكومة ستة أشهر وتجعل أولوياتها ما يلي:

ص: 129

أ. تنفيذ حزم الإصلاحات التي يطالب بها الشعب والتي تضمنتها خطبة المرجعية الدينية العليا يوم الجمعة الماضية 25/10 ضمن سقوف زمنية محددة، والإسراع في معالجة المشاكل الملحة كإيجاد فرص عمل للشباب وسكن مناسب للمحرومين وأمثال ذلك.

ب. تشكيل لجنة فنية متخصصة لتعديل الدستور إنطلاقا من المصالح العليا للبلد والشعب، وليس استجابة لمصالح جهات او فئات، وعرض النسخة الجديدة على استفتاء شعبي على انها دستور جديد وليس استفتاءاً على التعديل للتخلص من شرط عدم ممانعة ثلثي ثلاث محافظات الموجودة، ولان الدستور الحالي كتب بعقلية لا يعترف بها الشباب الذين يعيشون الحاضر والمستقبل فلا يحق لنا الزامهم به.

ج. إلغاء وإصلاح كل القوانين والقرارات التي روعيت فيها مصالح الأحزاب والأشخاص دون الدولة وإلغاء الامتيازات العالية

د. اختيار مفوضية مستقلة فعلاً للانتخابات تتألف من من متخصصين مهنيين كفوئين وبإشراف المنظمات الدولية والقضاةومنظمات المجتمع المدني ذات العلاقة.

ه-. تشريع قانون انتخابات يصون حق الناخب ويخرج بأعدل تمثيل للناخبين.

و. التهيئة لانتخابات خلال سنة 2020

ز. وضع معالجات جدية ذات مصداقية لمكافحة الفساد ومحاسبة المفسدين واسترداد المال العام.

ص: 130

ح. إنشاء صناديق تنمية وإعمار ودعم للمواطنين كافة.

3. تشكيل مجلس حكماء وأهل الخبرة من قوى الشعب المتنوعة وشرائحه المختلفة (علماء، مفكرين ووجهاء وزعماء عشائر وأساتذة جامعات وقضاة وعسكريين وفنانين ورياضيين) ويكون للمرأة حضور فاعل فيه، وهذا المجلس استشاري وظيفته تقديم المسورة وحلّ المشاكل والعقد واقتراح المشاريع وتصحيح المسار ويصار فوراُ الى تعيين أشخاص منسقين لإختيار أعضاء المجلس.

4. يقوم البرلمان بتشريع قوانين تستجيب لتطلعات الشباب وآمالهم المشروعة والاصغاء لهن باستمرار فإنهم يشكلون اغلب المجتمع وهي من ايجابيات هذا الشعب انه شبابي فتي فاعل ناهض طموح، تزيد نسبة الشباب فيه عن 60% .

5. يتعهد الجميع ببناء دولة مستقلة مزدهرة قوية لايعلو صوت عليها سواء من الداخل أو من الخارج واستعادة هيبة الدولة وان تكونكرامة الإنسان هي القيمة العليا التي يسعى الجميع لتحقيقها والتضحية من أجلها.

6. إصلاح القضاء وان يقوم بمهمة عاجلة وهي محاكمة الفاسدين والذين قتلوا المتظاهرين والقوات الأمنية وأصابوهم واعتدوا على الممتلكات العامة والخاصة.

غرة ربيع الأول 1441

2019/10/30

ص: 131

خطاب المرحلة 615 : رسالة الى طلبة الجامعات للعودة الى مقاعد الدراسة

رسالة الى طلبة الجامعات للعودة الى مقاعد الدراسة (1)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

احبتي طلبة وطالبات جامعة الكوفة الشرفاء

لقد أثبتم بمشاركتكم الفاعلة في المسيرات الرائعة واعتصامات الصمود انكم قلب الامة النابض وضميرها الحي والصوت النقي المعبر عن الأمها وآمالها ونرجو ان تستمروا بدوركم الفاعل حتى تحقيق طموحات الامة وتطلعاتها.

وان هذا الدور الحيوي لابد ان يقترن بعودتكم الى مقاعد الدراسة والجد والاجتهاد في تحصيل العلوم والمعارف لتتكافا فرصكم مع الجامعات المستمرة على الدوام ولكي لا تضيع عليكم السنة الدراسية ولتكونوا اهلاً لبناء وطن حر مزدهر مستقل يضمن الحياة الكريمة لأبنائه ويحفظهم من كل سوء، ولتطبقوا بدقة شعار الجماهير المنتفضة (نريد وطن) الذي يختصر كل تلك الجهود الجبارة والتطلعات الكبيرة.

ويستطيع احبتي الطلبة ان يعبروا عن تضامنهم المستمر مع الشعب

ص: 132


1- كتبها سماحة المرجع اليعقوبي وأرسلها الى رئيس جامعة الكوفة ليوجهها باسمه الى طلبة الجامعة يحثّم فيها على العودة الى الدراسة وان ذلك لا يتعارض مع مشاركتهم في التظاهر وتشكر السيد رئيس الجامعة الا انه اعتذر عن إعلانها لان ذلك يتنافى مع وظيفته الرسمية.

المنتفض الصامد من خلال:

1- وجود خيم الاعتصام قريبة من اسوار الجامعة ويتواجد فيها الطلبة عند خلو جدولهم من المحاضرات.

2- الحضور في ساحات التظاهر في أوقات ما بعد الدوام الرسمي.

3- الدعوة الى تنظيم مسيرات حاشدة لجميع الطلبة والطالبات في أوقات الحاجة.

4- العودة الى الاضراب والاعتصام إذا لم تتحقق مطالب الشعب الابي.

ابنائي الطلبة والطالبات

ارجو ان تكونوا اسوة لجميع الطلبة وتستشعروا المسؤوليات الملقاة على عواتقكم فعيون الامة شاخصة اليكم والله معكم وهو ناصركم.

ص: 133

خطاب المرحلة 616 : انتفاضة حرية العراق تستعيد الهوية الوطنية

اشارة

بسمه تعالى

انتفاضة حرية العراق تستعيد الهوية الوطنية

أعتقد ان من أغلى الثمرات التي حققتها نهضة الشباب الواعي الغيور في انتفاضة تحرير العراق هي استعادة الهوية الوطنية التي سلبها الطائفيون والفاسدون والعملاء حتى أفقدونا الأمل بإحيائها وأجبروا الكثير من أبناء الوطن على الهجرة منه تاركين أهلهم وذكرياتهم وعيونهم شاخصة الى من خلفهم، لكن الشباب الشجعان فجروا هذا البركان في نفوس الشعب كافة وأيقظوا هذه الطاقة العارمة ووحدوا جميع فئات الشعب تحت شعار واحد وهو الوطن الحر المستقل السيد الذي يحفظ كرامة أبنائه ويحقق لهم السعادة والازدهار في حاضرهم ومستقبلهم بعيدا عن التدخلات الأجنبية.

لقد رأينا من هؤلاء الشباب ما يثلج الصدور ويبهر العقول ويعيد الى العالم صورة العراق الأصيل مؤسس الحضارات ومنار العلوم والمعارف لكل الأمم , فقد لمسنا فيهم الايثار والشجاعة والوعي والإخلاص وتنظيم الأدوار والمطالبة بالحقوق ورفض الظلم والفساد بالطرق السلمية المتحضرة، وهذه خصال لا تجتمع في امة الا قدّسها الله تعالى ورفع شأنها، واذا توانت واستكانت وتخاذلت ومكّنت الباطلوالفساد فأنها تُهان وتُذل وتحرم من أبسط حقوقها، وهذا ما أخبر به النبي (صلی الله علیه و آله) في الحديث الشريف ( ما قدست

ص: 134

أمة لم يؤخذ لضعيفها من قويِّها غير متعتع)(1).

وهذا ما كنتُ أنادي به منذ عام 2005 حينما استبان فساد وظلم الأحزاب السياسية المتسلطة، وكنت أدعو الى يقظة الامة ووعيها لمطالبها الحقيقية ومكامن الخلل في قيادتها.

أدعو الحكومة والقيادات السياسية والعسكرية ان تعي ان هؤلاء الشباب هم الثروة الحقيقية للبلد وهم من يضمن مستقبلاً زاهراً للبلاد فلا يفرطوا بهذه الثروة الهائلة، لأن هؤلاء الشباب هم من واجهوا الإرهاب حتى قضوا عليه وخلصوا العالم كله من شرهم، وهؤلاء الشباب هم من أحيا الزيارة الاربعينية وبيضوا وجه العراق أمام العالم كله، فلابد من الاصغاء لهم والاستماع الى مطالبهم والمبادرة فوراً الى ما يطمئنهم ويعيد الأمل الى نفوسهم.

أما الإصرار على سياسة القمع واستعمال العنف فإنه لا يجدي نفعاً بل يجرّ البلاد والعباد الى الهاوية، وإنكم لا تستطيعون هزيمة شباب يُقدِمون على الموت ويتلقون الرصاص بصدور عارية.

وأوصي الشباب أن يحافظوا على سلمية الانتفاضة وأن يحافظوا على الممتلكات العامة والخاصة وأن لا يعتدوا على أحدٍ من القواتالأمنية او غيرهم ليكسبوا المزيد من التأييد والتعاطف الداخلي والخارجي، وان الانجرار وراء صيحات التخريب والعنف والفساد الأخلاقي والخلاعة والمجّون التي تحركها أجندات معادية يُفقِدكم التأييد ويُذهِب بحقّكم ويحوّلكم الى معتدين فانتبهوا وتفطّنوا.

ص: 135


1- وسائل الشيعة 120/16 .

لقد آن الاوان ان تستحي الأحزاب والكتل المتسلطة وتعتذر الى هذا الشعب الذي خرج بجميع شرائحه ونقاباته وأجناسه، رافضاً لمنهجهم الفاسد وفشلهم الذريع في إدارة البلاد وليفسحوا المجال لجيل وطني كفوء مخلص ان يأخذ دوره في قيادة البلاد.

ان هذه الانتفاضة أولى من صناديق الاقتراع المزوّرة في التعبير عن إرادة الشعب واختياره لمن يمثله، ولو صدّقنا ان السلطة جاءت عبر صناديق الاقتراع فهذه الانتفاضة تسلب المشروعية منه لأن الشعب مصدر السلطات وان إرادته مشروطة في البداية وعلى طول المدة وإذا سلبها في أي وقت سقطت الشرعية عن الحاكم.

محمد اليعقوبي - النجف الأشرف

1/ ربيع 1/ 1441 - 2019/10/30

ص: 136

من توجيهات سماحة المرجع اليعقوبي خلال الانتفاضة

تعديل قانون الانتخابات

لايحتاج تعديل الانتخابات الى وقت طويل لأن المطلوب باختصار تصويت البرلمان على (منح المقاعد المخصّصة لكل محافظة الى المرشحين الأعلى أصواتاً سواء كانوا أفراداً أو ضمن قوائم) فهذا المطلب هو حجر الأساس للإنطلاق الى إصلاح النظام السياسي، ويأتي بمرشحين وفق إرادة الشعب، وليس بالقوانين التي تصادر إرادة الناخبين.

ص: 137

اجراء استفتاء جديد على الدستور يعتمد أساس المواطنة في الحقوق والواجبات

يجري الحديث عن إجراء تعديلات في الدستور وقد كان هذامقرراً من حين اقراره عام 2005 ولم يحصل لأن دونه عقبات لا يمكن تجاوزها لعدم وجود إرادة موحدة وصادقة فليكن مطلب الجماهير هو اجراء استفتاء على الدستور جديد يأخذ بنظر الاعتبار إيجابيات الدستور الحالي ويعتمد أساس المواطنة في الحقوق والواجبات.

ان الدستور الحالي جرى التصويت عليه عام 2005 وهذا يعني ان أربعة عشر جيلاُ بلغ سن التصويت وهم غير ملزمين بالدستور الحالي ويضاف لهم من لم يصوّت اصلاً على الدستور في حينه ومجموع هؤلاء يزيد على نصف تعداد الشعب.

لقد كتب الدستور الحالي انطلاقاً من عقدة الخوف من الماضي ونحن نريد دستوراً ينظر الى الحاضر والمستقبل ويضمن عدم عودة الدكتاتورية.

ص: 138

التأكيد على سلمية التظاهرات وعقلنتها

أظهرت الصور قيام بعض الشباب بإحداث اضرار في الدعامات الساندة لجسر الجمهورية وبعض مؤسسات الدولة، وهذا عمل مرفوض، قد حذرّنا من قيام عناصر مدسوسة به لتشويه صورة التظاهرات وافشالها، او قد يقوم بها بعض المتحمسين المندفعين، وانا اعلم ان هذه الاعمال لا تمثل الرأي العام للمتظاهرين لما رأيناه منهم من تفانيهم في المحافظة على جمالية الشوارع والساحات، وتنظيفها وتوفير الخدمات العامة للناس، وان شعارهم المرفوع هو (نريد وطن) أي وطن حر يحفظ كرامة ابناءه، وهذا لا يتناسب مع كل ما فيه تخريب للوطن.

لذا طلبنا مراراً عدم الانسياق وراء هذه الأفعال، لان هذه الممتلكات هي ملك للشعب وتخريبها يضرّ بمصالحه، وان القيام بمثل هذه الاعمال يقلل من تأييد حركة الاحتجاج ويضعف جماهيريتها لان تأييدهم ليس مطلقاً بلا ضوابط، فالمأمول من المتظاهرين الكرام الالتزام بالسلمية وعقلنة حركتهم وترشيدها والاستماع الى أهل الحكمة والعقل فيما يقومون به من تصرفات او يطالبون به.

ص: 139

الشعب مصدر السلطات

لقد أثمرتْ إنتفاضة تحرير العراق عن إستعادة مبدأ (الشعب مصدر السلطات) فإنه بعد أن كان يُقاد ويُسيّر بالتضليل والتجهيل والتدليس من دون أن يملك قراره، أصبحَ اليوم هو الذي يقود، وكلمته مسموعة ومحترمة ويتسابق الآخرون لإرضائه.

فعليه أن يستثمر هذهِ اليقظة الواعية ويستجمع قواه ويختار ممثليه الحقيقيين ليصوغوا له مبادرة تستجيب لمطالبه وتحقق تطلّعاته ويُلزم قوى السلطة بالعمل بها بدل أن ينتظر تلك القوى تقدّم المشاريع والخطط التي يرفضها المتظاهرون لعدم المصداقية والجديّة.

ولابد أن لا تقتصر هذه المبادرة على المطالب السياسية كاستقالة الحكومة وحل البرلمان وكتابة دستور جديد يتجاوز عيوب الدستور الحالي ويبنى على أساس المواطنة والمساواة والعدالة الاجتماعية ويلغي ثقافة المكونات والتقسيم و نحو ذلك مما تضمنته المبادرات الموجودة، وإنما يتضمن المطالب الخدمية الأساسية للحياة الحرة الكريمة، كتوفير السكن المناسب وفرص العمل وتحسين الوضع الصحي والتعليمي والخدمي والارتقاء بمستوى المواطن ونحو ذلك.

نرجو أن يحصل هذا التحوّل عاجلاً لكي يتجاوز البلد أزمته وتعود قاطرته الى السكة والمسار الصحيح ويخرج من عنق الزجاجة وتعود الحياة الى طبيعتها بإذن الله تعالى.

ص: 140

خطاب المرحلة 617 : المرجع اليعقوبي يدعو الى الحفاظ على المسار الصحيح للتظاهرات السلمية...

المرجع اليعقوبي يدعو الى الحفاظ على المسار الصحيح للتظاهرات السلمية ويدعو النخب والكفاءات لتحمل مسؤوليتهم في ترشيد الحراك الجماهيري

دعا سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) الى الحفاظ على المسار الصحيح للتظاهرات السلمية المطالبة بالحقوق على طول خط المواجهة والثورة ضد الظلم والفساد مؤكداً على ضرورة منع الاجندات الدخيلة الرامية الى تشويه صورة المتظاهرين وحرف مسار التظاهرات وجعلها أداة للتخريب وإشاعة الفوضى.

وقد أشار سماحته خلال لقائه بعدة وفود شبابية من محافظة بغداد وبابل(1) الى أهمية تحمل النخب الرسالية والكفاءات الشبابية لمسؤوليتهم الوطنية التي تحتم عليهم النزول الى ساحات التظاهر من أجل تصحيح المفاهيم المغلوطة وتعميق الوعي والخصال النبيلة، لافتاً الى ضرورة الاستفادة من توصيات المرجعية وفضلاء الحوزة من أجل تصويب مسار التظاهرات والنأي بها عن الأهداف المشبوهة.

واستنكر سماحته إشاعة البعض للثقافة المناهضة للدين والمراجع العظام والحوزة الدينية متسائلاً عما قدمه مروجو هذه الثقافة المغلوطة من إنجازات تصب في مصلحة الناس في قبال الدور الكبيروالمسؤوليات العظيمة الملقاة على عاتق الحوزة الدينية التي تضطلع بتوعية الناس وارشادهم ورعاية الطبقات

ص: 141


1- بتأريخ يوم السبت 2019/12/28 الموافق 1/جمادي الأولى/ 1441 ه-.

المحرومة والمستضعفة من خلال مؤسساتها الخيرية المنتشرة في عموم البلد ، مؤكداً على ان الحوزة طالما كانت راعية للمطالب الحقة وشريكة مع أبناء هذا الوطن فيما يعانون منه من بؤس وحرمان ، فضلا عن التضحيات الجسيمة التي تمثلت بقوافل الشهداء من علماء وفضلاء الحوزة في الصراع مع الظلم والدكتاتورية والإرهاب .

وفي ختام حديثه شدد سماحة المرجع (دام ظله) على أهمية قيام الشباب بتزكية أنفسهم واعدادها فكرياً وعقائدياً تمهيداً لبناء الفئة الصالحة القادرة على قيادة المجتمع نحو حياة كريمة تسودها المحبة والكرامة والازدهار، مبيناً ان الابتعاد عن الدين وحمل الثقافة الفاسدة انما هو مرض معنوي يفوق في خطره الامراض المادية، لما تحمله تلك الثقافات من أفكار مشوهة تستهدف تشويه المنظومة الفكرية الاسلامية وتجريدها من قيمها الحقة.

ص: 142

خطاب المرحلة 618 : المرجع اليعقوبي يشدد على عدم الركون الى حالة الياس والإحباط...

اشارة

المرجع اليعقوبي يشدد على عدم الركون الى حالة الياس والإحباط التي يراهن عليها البعض للنيل من صمود وصبر الشباب المنتفض فيدفعهم للتخلي عن المطالب المشروعة

شدد سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على عدم الركون الى حالة الياس والإحباط التي يراهن عليها البعض للنيل من صمود وصبر الشباب المنتفض فيدفعهم الى التخلي عن المطالب المشروعة وتنطفئ جذوة الحراك الجماهيري داعيا النخب الواعية الى أخذ دورها في مساندة إخوانهم في تشكيل قيادة واضحة ومنظمة لتوحيد الرؤى وتقديم الأولويات ورفض الممارسات الخاطئة.

وأشاد سماحته بكلمة القاها بوفد شبابي من محافظة البصرة بمكتبه في النجف الاشرف(1) بالمواقف الشجاعة والواعية التي أظهرها المتظاهرون السلميون في ساحات التظاهر ومطالبهم المشروعة ببناء وطن كريم قوي آمن يبنى على أساس المواطنة وفي إطار منظومة الحقوق والواجبات تحفظ فيه كرامة الناس ويعزز الشعور بحقيقة الوطن.

كما أكد سماحته على أهمية بث الامل والتفاؤل والايمان به وترسيخه في نفوس الناس والمحافظة عليه لما يمنحه من محرِّكية نحوبلوغ الهدف والوصول الى الغاية المطلوبة، لافتاً الى ان الحراك الجماهيري أعاد الامل الى

ص: 143


1- بتأريخ يوم الأحد 2019/12/29 الموافق 2/جمادي الأولى/ 1441 ه-

النفوس المجدبة بعد ان ضاق الأفق السياسي ووصل مستوى الإحباط الى اعلى درجاته عند تشكيل هذه الحكومة بالطريقة البائسة، فالانتفاضة وحدت العراقيين واعادت لهم الروح الوطنية وعززت الانتماء الى الوطن فكان (العراق) هو العنوان الجامع الذي وحد المطالب وكان بحق سر نجاح الانتفاضة وديمومتها حتى الآن.

ونوه سماحته الى ان ما يعيشه المجتمع اليوم من انعدام للأمن والاطمئنان والعيش الكريم يجب أن لا يكون مدعاة لليأس والإحباط، لأنه يشكل على الرغم من مرارته فرصة ثمينة لاستشعار الفراغ الكبير الذي تتركه غيبة الأمام المنتظر (عجل الله فرجه الشريف)، فبالرغم من حجبه عن انظار الناس وغيابه عنهم الا ان وجوده (علیه السلام) يشعرنا بوجود من يرعانا بدعائه ويشفق علينا ويوجه مسيرتنا بالمقدار المتيسر وينمي الامل ويضفي الطمأنينة والسكينة في نفوسنا.. وهكذا ينبغي ان يكون الانسان المؤمن متفائلا بكرم الله تعالى ورحمته ورعاية صاحب العصر والزمان (عجل الله فرجه) ، فقد ورد عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: "عجبت للمؤمن إن الله لا يقضي له بقضاء إلا كان خيرا له، إن أغناه كان خيرا له وإن ابتلاه كان خيرا له، وإن ملكه ما بين المشرق والمغرب كان خيرا له، وإن قرّض بالمقارض كان خيرا له،وفي قضاء الله للمؤمن كل خير(1)".

ودعا سماحته الشباب الى قراءة التاريخ واستنطاقه ليستفيدوا منه في فهم حاضرهم واستشراف مستقبلهم ليتعلموا كيفية التعاطي مع الاحداث بوعي

ص: 144


1- البحار: ج 69 / ص 331 / ح 15.

وبصيرة، فقد مر العراق عبر التاريخ بمحن واهوال شديدة وصراعات كثيرة وفقد الناس الأمل بحياة جديدة وبواقع جديد فلم تلبث ان انقشعت الغيوم وفرج الله تعالى عن الناس بلطفه وكرمه.

ص: 145

مشاركة فاعلة للحوزة العلمية في انتفاضة تحرير العراق

شارك فضلاء الحوزة العلمية والشباب الواعي بشكل فاعل ومؤثر في مظاهرات تحرير العراق وتنوعت نشاطاتهم في ساحة التحرير ببغداد وساحات التظاهر في المحافظات كافة، وشملت مشاركاتهم عقد المجالس والندوات والحوارات وإقامة المحافل القرآنية ومعارض الكتب والفعاليات الثقافية الأخرى وانشاد القصائد وتوزيع البوسترات التي توجه الجماهير الى مطالبها الحقيقية وترشّد حركة المتظاهرين وتدعو الى عقلنتها ووعيها لما فيه مصلحة البلد وكرامة الانسان ورفض بعض التصرفات التي تسيء الى سمعة الانتفاضة وتقلل شعبيتها كالإضرار بالمصالح العامة وممتلكات الشعب، وقد لقيت هذه الفعاليات استجابة واسعة من قبل المتظاهرين والتفافاً واقبالاً مما يزيد الامل في تحقيق الأهداف المنشودة بأذن الله تعالى.

ص: 146

من أدب الانتفاضة

ثورة الشباب

قصيدة القاها الاديب النجفي السيد وسام الياسري بحضور سماحة المرجع في مجلسه العام تأييداً لانتفاضة تشرين

يا سيدي الشعبَ احتملتَ طويلا *** طال السرار وصبر فجرك عيلا

اشرق بشمسكَ بالدجى لتنيرَه *** اترى لشمسٍ في النجوم مثيلا

واصدح بصوتكَ معلنا عن امة *** ولدت بليلٍ تحمل القنديلا

ياسيدي الشعبَ احتمالك غيهم *** زاد اللئامَ تماديا وفضولا

جهل َ الطغاة فما ارعوا عن جهلهم *** حاشا لمثلكَ ان يطيع جهولا

لم يفهموا صبرَ الشعوب لانهم *** مثل البهائم بل اضل سبيلا

قد كنت تصبر املا ان يدركوا *** معنى لصبرك ان يكون طويلا

امنوا العقابَ فما اقل عقولهم *** فقدوا الصواب فلم يعوا تحليلا

رتعوا بمال الشعب قضم بهيمة *** لم يحسبوا منك العقاب وبيلا

وتكالبت اهل المنافع حولهم *** بمطامع عرض البلاد وطولا

نفخوا بهم حتى تعاظم حجمهم *** شكلا وقد بقي الاساس هزيلا

قد قلتَ للدنيا كلام فصاحة *** من ناطق جعل الدماء بديلا

ياهذه الدنيا مكانك فأشهدي*** حدثا عظيما حاسما وجليلا

اني اعيد الفاسدين لحجمهم *** كم كان حجم الفاسدين ضئيلا

ص: 147

ووقفتَ بأسم الله تعلن صرخة *** اذ ترفع القران والانجيلا

زلزلتَ بالصيحات اس عروشهم *** لم تستقم لتواجه التهليلا

قد كنت في الميدان تعلن ثورة *** تدعوا جهارا بكرة واصيلا

يا ايها القوم الصغار الا ارحلوا *** وكفى عنادا ترفضون رحيلا

وثب الشباب وعزمهم يحدو بهم *** في وجه هرمى لابثين طويلا

هم اججوا افق البلاد بثورة *** ليواصلوا درب الجهاد فصولا

في جمعة غضبٌ واخرى انذروا *** كما كان يوم المُنذرين ثقيلا

حتى تزاحمت الصفوف عليهم *** البا وهم لا يُظلمون فتيلا

لم يثنهم همج رعاع هالهم *** زحف الشباب فأمعنوا تقتيلا

ادوا الى عرس الشهادة مهره *** ممن تضمخ بالدماء قتيلا

لبى الشبابُ نداء حرِّ ضميرهم *** ما هادنوا او بدلوا تبديلا

حتى تكلل بالنجاح جهادهم *** ما أجمل النصرَ ازدهى إكليلا

ياسيدي الشعبَ اختصرتُقصيدتي *** وبعثتها مني اليك رسولا

حملت الى عينيك اجمل قبلة *** من شاعر قد فارق التقبيلا

ص: 148

خطاب المرحلة 619 : حوار يوم القيامة بين القادة واتباعهم

(قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) (سبأ:32)

حوار يوم القيامة بين القادة واتباعهم(1)

حكى لنا القرآن الكريم حوارات كثيرة تجري يوم القيامة لنتأمل فيها ونأخذ العظة والعبرة من الحقائق التي تبيّنها لنا ونتخذ الإجراءات اللازمة ازاءها ولا نصطدم بتلك الحقائق يوم القيامة حيث لا توجد فرصة للمراجعة وإعادة الحسابات وإصلاح الحال.

وهذا البيان من شفقة الله تعالى على عباده ورحمته بهم وحبّه لهم والا فانه يمكنه الاكتفاء بأوامره ونواهيه ومن يخالف فانه يستحق العقوبة ولا يستطيع ان يقول لم أكن أعلم ونحو ذلك (فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) (الأنعام:149).

وتجري بعض الحوارات بين الله تبارك وتعالى وعباده، وأخرى بين أهل الجنة وأهل النار، وبعضها بين الشيطان واتباعه الذين اغراهم بتسويلاته، ومحل الحديث هنا الحوار الاتي بين الاتباع وقياداتهم وزعمائهم ورؤسائهم سواء كانوا زعماء دينيين أو اجتماعيين كرؤساء العشائر أو سياسيين أو فكريين وغير ذلك فاتبعوهم وانقادوا لهموسلّموا لأوامرهم ونفذّوا رغباتهم واعتقدوا بوجوب طاعتهم من دون ان يتأكدوا من مطابقة هذه الأوامر للشريعة الإلهية

ص: 149


1- من حديث سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من المثقفين من بغداد يوم السبت 8 / ج1/1441 المصادف 2020/1/4

التي أُمروا بالالتزام بها وجعلها بوصلة حياتهم (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) (النساء:65) .

والحوار الآتي الوارد في سورة سبأ (الآيات 31-33) يكشف عن عمق الخيبة والخسران الذي يشعر به العصاة والمتمردون والمنحرفون عن شريعة الله تعالى فيتوجهون باللوم والتقريع الى قادتهم وزعمائهم الذين ساقوهم الى هذه النتيجة ويحملّونهم مسؤوليتها، وهو تبرير لا يجديهم نفعاً لأن قادتهم سيتبراون منهم ويلقون اللوم عليهم بأنهم اساؤوا الاختيار ولم يبذلوا الجهد الكافي للوصول الى الحقيقة والالتزام بها.

قال الله تبارك وتعالى (وَلَوْ تَرَى) أيها النبي (صلی الله علیه و آله) ليتك تكون حاضراً لتشهد هذا الحوار يوم القيامة أو ترى بقلبك ما سنقصه عليك والخطاب موجه الى الجميع (إِذِ الظَّالِمُونَ) الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي والابتعاد عن المنهج الإلهي وظلموا أمتهم (مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ) محبوسون في التوقيف بأسوأ حال كالمجرمين الذين تلقي الشرطة القبض عليهم وتودعهم في مراكز الشرطة الى حين احالتهم الى القضاء والتحقيق في تهمهم، فأوقف هؤلاء الظالمون عندربّهم ويا للفضيحة ان يحبسوا بمخالفتهم عند ربهم الذي تولى تربيتهم بالحسنى واغدق عليهم النعم وهم يعصونه ولا يستطيعون انكار شيء من افعالهم لأنه تعالى شاهد عليهم في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا أحصاها.

(يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ) يؤنب بعضهم بعضاً، ويتبادلون اللوم

ص: 150

بينهم وكل منهم يلقي الكلام الى الآخر، وكلهم ظالمون لأنفسهم لكن بعضهم كانوا قادة وزعماء استكبروا وطغوا بما عندهم وكان البعض الآخر تابعين لهم منفذين لأوامرهم، فظلمهم درجات، (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) وهم الاتباع الذين لم يكونوا ضعفاء لأن الله تعالى وهبهم العقل والقدرة على التمييز والاختيار، ولكنهم استضعفوا قدراتهم ولم يستعملوها بما ينفعهم، واستضعفهم القادة بما يملكون من أدوات القوة كالمال والسلاح والرجال وأساليب المكر والخداع والتجهيل وتسطيح العقول فساروا وراءهم من دون رؤية وتفكير وتدبّر وحكمة، فوجهوا كلامهم، (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا)(1) الذين طغوا بما آتاهم الله تعالى من أسباب القوة وعلوا في الأرض، وهم في ذاتهم ضعاف عاجزون لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يدفعون عن أنفسهم موتاً فهم مستكبرون وليسوا كباراً (لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) أنتم الذين حرمتمونا مننعمة الايمان والهداية ولولاكم لاتبّعنا طريق الهداية والصلاح.

(قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم) فالزعماء والقادة يعيدون اللوم في الانحراف على نفس الاتباع وان فرصة الهداية واتباع الحق كانت متاحة لكم بأوسع اشكالها وأيسر أسبابها إذ وصلت اليكم سهلة سمحاء على يد الأنبياء والمرسلين والائمة المعصومين (سلام الله عليهم أجمعين) والعلماء العاملين المخلصين، فيحمّلونهم مسؤولية الانحراف وارتكاب المعاصي ويذكرون لهم ان السبب كامن فيهم (بَلْ كُنتُم

ص: 151


1- يتبجح البعض بوصف نفسه كبيراً أو الأحزاب تصف نفسها بالكبيرة ولا يعلمون ان هذا يحمّلهم مسؤولية إضافية ويحاسبون على قدر مسؤوليتهم الكبيرة التي ادّعوها وتحملّوها.

مُّجْرِمِينَ) فأنتم أيها الاتباع ذوو نفوس ضعيفة ميّالة الى اتباع الأهواء وتعطيل العقول ولديكم الاستعداد لتوجيهكم نحو العبودية والذل واتباع القادة المنحرفين، فالسبب موجود فيكم.

(وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) وهنا يرجع الاتباع الخطاب الى قادتهم وزعمائهم رافضين تبرئة أنفسهم من الهاوية التي اوقعوهم فيها ويذكّرونهم بدورهم في ذلك (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) فيعللون انحرافهم بأنه كان نتيجة أساليب المكر والخداع والتضليل وخلط الأوراق الذي استعمله القادة معهم(إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ) فشبّهوا عليهم وصورّوا لهم الباطل حقاً والمنكر معروفاً والمعروف منكراً، وابعدوهم عن القادة الصادقين المخلصين وشوهوا صورتهم امامهم ليبعدوهم عنهم ويحرموهم من الاستماع لصوت الحق والهدىوالإخلاص والمحبة والحرية الحقيقية.

(وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً) فيعترف الاتباع ان قادتهم جعلوا لهم آلهة تعبد وتطاع من دون الله تعالى إذ صنع المستكبرون من ذواتهم وانانياتهم وشهواتهم والأفكار التي يريدون تسويقها اصناماً والهة تُقدّس وتطاع من دون الالتفات الى ما يريده الله تعالى ولو أمروهم بالمعاصي كسفك الدماء الزكية (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ) وهنا شعر الجميع -- في داخلهم من دون البوح به خجلاً وإقرار بالذم -- بالندامة والاسف لما صدر منهم ولما ضيّعوا وفرّطوا في جنب الله تعالى ولم تنفعهم دنياهم التي اغترّوا بها وجعلوها غاية همّهم ومنتهى آمالهم فاكتشفوا أنها سراب والأمور بخواتيمها، فكانت عاقبتهم مؤلمة (لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ) فلم تجدِ هذه التبريرات والقاء اللوم على الآخر نفعاً في تخفيف العذاب عنهم،

ص: 152

فالكل مجرمون آثمون وإن تفاوتوا في شدة العقوبة (وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) فالأغلال التي جعلت في اعناقهم يوم القيامة هم صنعوها بأفعالهم وغلّوا بها عقولهم وقلوبهم ونفوسهم مثل العبودية والاستكبار والاستضعاف واتباع الهوى والانانية والجهل وعدم الانصات الى الحق وغيرها مما ذكرناه في تفسير قوله تعالى (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأعراف:157).

إن هذا الحوار يتضمن الدعوة الى التثبت من حال القياداتوالزعامات التي تتبعوها وان لا تركضوا وراء كل صيحة وتلبّوا كل دعوة كالذي يحصل اليوم حيث يتحرك الكثيرون وراء منشور في وسائل التواصل الاجتماعي ويبنون عليه مواقفهم وربما يكلفهم ذلك تضحيات بالنفس أو المال أو الجهد والوقت، أو يصدّقون نكرات مجهولين لا يُعرف لهم اصل في ادعاءات كبيرة يتخذونهم سلماً لتحقيق مآربهم ووقوداً لنيران صراعاتهم، والصحيح هو الرجوع الى العلماء الربانيين الذين أمر الائمة المعصومون (علیهم السلام) باتباعهم والسير على نهجهم لأنهم يحبّون الناس ويضحّون من أجلهم ويحرصون على صلاحهم وسعادتهم.

ص: 153

خطاب المرحلة 620 : كيف يكون الغم ثواباً

(فَأَثَابَكُمْ غَمَّاً بِغَمٍّ) (آل عمران:153)

كيف يكون الغم ثواباً(1)

قال الله تبارك وتعالى (فَأَثَابَكُمْ غَمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً) (آل عمران:153-154).

تقع الآية في اجواء ما جرى في معركة اُحد وما تلاها من أحداث حيث انتصر المسلمون في بداية المعركة ثم وقعت بهم الهزيمة حينما عصوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيما أمرهم به من الثبات في مواقعهم وإرجاف بعض المنافقين بأن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد قتل فالتّف عليهم خالد بن الوليد ورجاله واوقعوا بهم خسائر فادحة.

الغم في اللغة يعني الستر والتغطية كما في الأحاديث الشريفة عن الهلال (فإن غُمّ عليكم فأكملوا العدة)(2) أي ستر عليكم ولم تروه، ويطلق الغم على الكرب والحزن والهم لأنه يستولي على القلب ويغطي على انشراحه وانبساطه.

ومن هنا ينشأ السؤال عن التعبير بقوله تعالى (فَأَثَابَكُمْ غَمَّاً) لأنالمرتكز في اذهاننا ان الثواب هو الجزاء الحسن فكيف اثابهم الله تعالى بالغم الذي هو

ص: 154


1- كلمة القاها سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على طلبة البحث الخارج يوم الاثنين 24 / ج1/ 1441 الموافق 2020/1/20
2- صحيح البخاري– البخاري: 2/229.- الناصريات- الشريف المرتضى: 292

الكرب والحزن، ولو تُرِك التعبير لنا لقلنا (أصابكم)، ويمكن عرض عدة وجوه للجواب مع بيان المراد من الغم الأول والثاني:

1- ان (الثوب) لغة يعني العود والرجوع(1) كما في قولنا ثاب إلى رشده أي رجع إلى عقله وحكمته وسُمّي المنزل مثابة لأن الشخص يرجع اليه بعد أن يخرج منه الى العمل أو قضاء الحوائج أو أي شيء آخر، قال تعالى (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ) (البقرة:125) أي محل لتحصيل الأجر يعود على الناس. فالثواب لغة هو مطلق الرجوع بالجزاء على العمل الذي يرجع على صاحبه خيراً أو شراً.

فما ارتكز في اذهاننا من كون الثواب مختص بالجزاء الحسن غير صحيح لأن الثواب هو مطلق الجزاء على الفعل بما يناسبه حسناً كان أو سيئاً فالعقاب ثواب أيضاً ولكن للفعل السيء، قال تعالى (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)(المطففين:36) وقال تعالى (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ) (المائدة:60) .

فالآية محل البحث من هذا القبيل وانهم يستحقون العقوبة بالغم وغيره لما اقترفوه من معصية رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيما أمر إليه من الثبات وعدم ترك مواقعهم.وهذا الجواب يزيل السؤال والاشكال من أصله، ونريد الآن ان نتجاوزه ونمضي مع فهم العرف ونقول:

ان استعمال الثواب في الجزاء الحسن أكثر وهو المعروف في الاستعمال،

ص: 155


1- أنظر: كتاب العين- الخليل الفراهيدي: 8/246.- لسان العرب- ابن منظور: 1/243

حتى في هذه الآية بدليل نتيجة الغم (لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ) وبدليل تفريعها عما قبلها (وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ) (آل عمران:152) وحينئذ يمكن فهم الآية على هذا المعنى من خلال عدة اشكال نذكرها بنفس التسلسل:

2- إن الله أصابهم بهذا الغم كفارة لما أدخلوا على رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الغم بهزيمتهم وانفضاضهم عنه وهو يناديهم ارجعوا إليَّ أنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد وُصفِت الحالة في الجزء السابق من الآية (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمَّاً بِغَمٍّ) (آل عمران:153) فيكون الغم الأول ما اصابهم هم والغم الثاني ما انزلوه برسول الله (صلی الله علیه و آله) فدفع الله تعالى عنهم العذاب العظيم المقدر لهم على فعلهم الذي توّعد به الفارين من المواجهة قال تعالى (وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (الأنفال:16) بأن اكتفى بما أصابهم من الغم حيث ورد في الآية السابقة عليها (وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران:152)، فهذا الغم ثواب حسن لأن الله تعالى دفع به عنهم عقوبة عظيمة.

3- ان أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) اغتموا لما فقدوه من الظفر بالمشركين وفوات الغنائم بعد ان أحرزوا النصر على الأعداء ولكنهم بعصيانهم لأوامر رسول الله (صلی الله علیه و آله) تحوّل النصر إلى هزيمة وهذا الغم لأجل الدنيا وهو مذموم فبدّل الله تعالى غمهم هذا بغمّ لاجل الآخرة وتفويتهم طاعة الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) وعصيانهم لأوامره فالغم الأول في الآية أخروي والثاني دنيوي فكان

ص: 156

هذا الغم ثواباً لأنه يصلح شأنهم ويصحّح مشاعرهم وسلوكهم ويجعل غمهم للآخرة وليس للدنيا فهو ثواب وجزاء حسن فعلاً ولعل هذا المعنى مناسب لتتمة النص (كَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ) وقد كان هذان الفريقان موجودين في جيش النبي (صلی الله علیه و آله) ، قال تعالى (مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) (آل عمران:152) فهذا الغم ابتلاء وتمحيص من الله تعالى ليميّز الفريقين، لذا جاء في بقية الآية في بيان حال الفئة التي نجحت في الامتحان وكان الغم ثواباً لها (ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) (آل عمران:154).

روي الترمذي والنسائي والحاكم بالإسناد عن ابي طلحة قال (رفعت رأسي يوم اُحد وجعلت انظر وما منهم يومئذٍ أحد الا يميلتحت جحفته) وفي لفظ آخر عنه قال (غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أُحد فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه)(1) فكان هذا النعاس نعمة لذيذة هنيئة على المؤمنين الذين رجعوا الى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعد أن علموا بأنه حي فكانت سبباً لطمأنينتهم وإزالة ما كان بهم من الخوف والرعب من عودة المشركين اليهم لاستئصالهم اما المنافقون فكانوا في قلق وتوجس ولم يستطيعوا النوم فقاموا من حيث لا يشعرون بحراسة المؤمنين النائمين.

4- ان الغم الثاني هو ما أصاب المسلمين في المعركة بسبب ما لحقهم من القتل والجرح، والغم الأول هو ما أصاب المشركين بعد رجوعهم من أُحد

ص: 157


1- سنن الترمذي- الترمذي: 5/79.- السنن الكبرى- النسائي: 10/105

حيث تذكر الروايات أنهم تلاموا على عدم إجهازهم على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأصحابه وتأديب أهل المدينة فقرّروا الرجوع فنزل الوحي من الله تعالى على رسول الله (صلی الله علیه و آله) يأمره بالخروج لملاقاة المشركين بمن كان معه في اُحد فقط، فخرج المسلمون مع ما بهم من الجراح والخوف والاعياء والانهيار النفسي ووصلوا موضعاً يسمى حمراء الأسد انتظار المشركين لكن الله تعالى القى الرعب في قلوب المشركين فقرّروا الرجوع إلى مكة فشكر الله تعالى هذا الموقف من المسلمين وأثابهم غماً ورعباً ادخله على المشركين مقابل ما دخلهم من الغم والرعب في معركة أُحد.

5- ان الغم الأول هو ما اصابهم من الحزن والكرب والغم الثاني ما اصابهم في المعركة من القتل والجرح وفقدان الأحبّة فأراد الله تعالى أن يسليهّم عن الثاني بالأول شفقة عليهم ورحمة بهم ولما حصلت التسلية أزال عنهم الغم وابدلهم آمنة نعاساً.

6- أراد الله تعالى أن يبين لهم ان الحياة متصرفة باهلها ومتقلبة من حال الى حال فلا يطمئنوا الى عافية ورخاء ولا يضجروا من شدة وبلاء فلا يوجد في الدنيا ثبات واستقرار قال تعالى (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران:140) فالنصر الذي حققه المسلمون في بدر ليس من الضروري أن يتكرر في كل المعارك، فيمكن ان يتحول الى هزيمة اذا لم يتمسكوا بأسباب الانتصار، قال تعالى (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ) (آل عمران:140) (إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ)(النساء:104) فليستفد المؤمنون من التجارب وليأخذوا العبر منها ، وعلى هذا فالغم الأول ما

ص: 158

أصابهم يوم أحد ، والغم الثاني ما أصاب المشركين في بدر ، وقد لُخِّصت التجربة والعبرة من هذه الواقعة بتكملة الآية (لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ) وفي آية أخرى (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) (الحديد/23).

7- إن الغم الأول هو ما دخلهم من الحزن والندم على هزيمتهم في المعركة وتفويت النصر الذي انزله الله تعالى عليهم في بدايتها بسبب عصيانهم لأوامر القيادة النبوية المباركة، والغم الثاني هو ما أصابهم قبل ذلك من الهلع والرعب بسبب ما اشيع من مقتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلما انكشف خلاف ذلك ابدلهم الله تعالى غماً وكرباً وندماً بدل حزنهم الأول على مقتل رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فكان غمهم بما حل بهم كالفرح بعد ان انكشف لهم ان غمّهم السابق بمقتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان وهماً .

8- ما ورد في كلام اهل المعرفة ومنهم سيدنا الأستاذ الشهيد(1) الصدر الثاني (قدس سره) من ان الله تعالى يحدث في قلب السائر في طريق الكمال كُربة عند وقوعه في المعصية ولو كانت قلبية أي على المستوى الأخلاقي وليس الشرعي لتنبيهه والفات نظره واعادته الى الصواب نظير ما يعرف بوخز الضمير أو تأنيب الضمير قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) (الأعراف :201) فهذا الغم الذي أصابهم هو نعمة من الله تعالى لتكميل نفوسهم وتطهير قلوبهم ويكون معنى (غم بغم) أي غماً بعد غم .

ص: 159


1- قناديل العارفين: 290 ، طبعة مؤسسة الرافد 2013

خطاب المرحلة 621 : السيدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) تحثنا على اللجوء إلى الكهف المعنوي

(فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ)(الكهف:16)

السيدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) تحثنا على اللجوء إلى الكهف المعنوي (1)

السلام عليكم أيها الاخوة والاخوات المحتشدون في ارض النجف الشريف لمواساة امير المؤمنين (علیه السلام) ونصرة السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) وتقديم التعازي الى سيدنا ومولانا صاحب العصر والزمان ورحمة الله وبركاته.

قال الله تبارك وتعالى: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً)

تقع الآية الشريفة في سياق قصة أصحاب الكهف التي حكاها القرآن الكريم في سورة باسم الكهف، وقد كان الإيواء إلى الكهف واتخاذه مأوى وسكناً بعيداً عن قومهم ليمارسوا شعائر الله تعالى هو القرار الذي ألهمه الله تعالى الفتية أصحاب الكهف الذين ربط الله تعالى على قلوبهم وزادهم هدى،

ص: 160


1- الخطاب السنوي الفاطمي الذي القاه سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) من خلال عارضة كبيرة على آلاف الموالين المحتشدين في ساحة ثورة العشرين في النجف الاشرف للتعزية في ذكرى استشهاد السيد فاطمة الزهراء ($) ثم خرج الى المنصّة ليحييهم مباشرة ويسلّم عليهم وقد أثارت هذه اللفته عواطف المؤمنين، يوم 3/ جمادي الثاني/ 1441 الموافق 2020/1/29 قبل الانطلاق بالتشييع الى حرم امير المؤمنين (علیه السلام)

فاتفقوا عليه بعد أن دعوا قومهم إلى الإيمان والتوحيد ونبذ الشركاء والآلهة التي يعبدونها من دون الله تعالى سواء كانت هذه الآلهة حجرية أو بشرية وهم أباطرة الرومان، لكن دعوتهم لم تؤثر في المجتمع الوثني يومئذٍ، وانكشف أمرهم للسلطة فلاحقتهم للقضاء عليهم وعلى دعوتهم، فرأوا أن القرار الذي يجب اتخاذه هو الفرار من قومهم واعتزالهم والابتعاد عنهم ونبذ ما يعبدون من دون الله تعالى واللجوء إلى كهف يقع في جبل خارج المدينة ليحافظوا على أنفسهم وعلى عقيدتهم وأخلاقهم، وكلّفهم هذا الإيواء التنازل عن مواقعهم في السلطة والحياة المترفة التي كانوا عليها ومفارقة الأهل والأحبة والأوطان، وافترشوا التراب في كهف ناءٍ مظلم موحش مخيف، لكنهم كانوا يرون في ذلك الكهف الضَيّق الحياة الرحيبة الهنيئة لأن رحمة الله تظلله ويملأه رضوان الله تعالى، أما الحياة المترفة في ظل السلطة البعيدة عن الله تعالى فإنها نكدة ضيَّقة وكأنهم يكررون بذلك ما قاله الصديق يوسف (علیه السلام) حين رفض الاستجابة لإغراءات امرأة العزيز مفضلاً حياة السجن الخشنة: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ) (يوسف:33)، وهذا سمو روحي لا يدركه إلا من أحبّ الله تعالى من أعماقه وتعلق به مخلصاً.

فهذا الإجراء قبل أن يكون مادياً – ان صح التعبير- لحفظ حياتهموأنفسهم من القتل، فإنه إجراء معنوي لحفظ عقيدتهم وطهارة قلوبهم ونفوسهم من التلوث ببيئة الكفر والشرك والنفاق وما تحويه من فتن وضلالات وانحراف وفساد، قال تعالى: (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً)

ص: 161

(الأنفال:25)، وقد كان خوفهم وقلقهم على دينهم أكثر من خوفهم على أرواحهم وقد حكى القرآن الكريم تصريحهم بذلك قال تعالى: (إِنَّهُمْ – أي قومهم الوثنيون - إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) (الكهف:20).

ولعل الفتية أصحاب الكهف كان نظرهم إلى الاعتزال المعنوي أكثر من المادي، وهذا واضح من النتيجة التي توخّوها فإنهم لم يقولوا نلجأ إلى الكهف لنأمن على أنفسنا ونحفظ حياتنا من القتل - وان كان هذا حقا مشروعاً لهم - وإنما قالوا: (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً) فقدموا الهدف المعنوي وهو تحصيل الرحمة الإلهية الخاصة التي كانوا يطلبونها من الله تعالى ويصفونها في دعائهم باللدنية، ويسألونه تعالى أن يمنَّ بها عليهم (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً) (الكهف:10)، ثم إيجاد حل ينفعهم ويرفق بهم ويجعل لهم فرجاً ومخرجاً من المأزق الشديد الذي هم فيه، ويخلصّهم من الأعداء المتربصين بهم.

والمرفق هو ما يرتفق به أي ينتفع، ولا يخفى ما في لفظ (يَنْشُرْ)من الإشارة إلى أن الرحمة الإلهية بكل درجاتها موجودة (لا بخل في ساحته) إلا أنها مطويّة وتُستحق بشروط، فنشرت عليهم حين أووا إلى الكهف، فلم يعد الكهف ضيّقاً خشناً بل أصبح واسعاً رفيقاً ليّناً برحمة الله تعالى، وهذه قيمة عظيمة للإيمان يُحرَم منها الماديون والملحدون. وقد كان الفتية على ثقة مطلقة بأن الله تعالى سيعتني بأمرهم وسيلطف بهم بحيث ذكروا النتيجة مسلّمة

ص: 162

(فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته) ولم يقولوا عسى ولعل، وهذا ما حصل فعلاً وأبقى الله تعالى ذكرهم خالداً بخلود كتاب الله تعالى لهداية الناس، وهذه سُنّة إلهية أمر الله تعالى بها كما في سورة الكافرون وغيرها، حاصلها إنَّ شرط نزول الرحمة والنصر الإلهيين يتحقق بمباينة أهل المعاصي واجتنابهم، وقد أدركها أصحاب الكهف بلطف الله وعنايته.

ومن لطائف القرآن الكريم أنه لا يذكر الحوادث ويسرد القصص بشكل يجعل آياته مختصة بالواقعة التي نزلت فيها، وإنما يصوغها بنحو مثمر مبارك ينتفع بها الخلق جميعاً إلى قيام يوم الساعة ولو توقفنا عند خصوصيات كل حادثة يحكيها القران الكريم، فأنها ستكون حكاية عن كيفية خاصة بأهل الكهف.

فالآية الكريمة تعطينا درساً في الرجوع إلى الله تبارك وتعالى دائماً واللجوء الى كهفه الحصين في الأزمات والشدائد وعند اختلاط الأمور وانتشار الفتن ليشملهم برحمته الخاصة ويهيئ لهم من أمرهمرشداً، وتبيّن بأن الوسيلة إلى النجاة من بيئة النفاق والفساد والضلال والظلم والانحطاط هو باعتزالها معنوياً وتجنب التأثر بها، وليس من الضروري الانعزال(1) عنها والانزواء في البيت أو أي مكان آخر لوجود ضرورة لممارسة الحياة الطبيعية من حيث

ص: 163


1- راجع خطاب المرحلة (سلامة الدين في اعتزال الناس) في موسوعة خطاب المرحلة:8/289 ونظائرها من الخطابات.

طلب الرزق وسدّ الاحتياجات المتنوعة والاهم من ذلك التفقه(1) في الدين وممارسة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الجاهل وارشاد الضال والدعوة الى الله تبارك وتعالى ورسوله (صلی الله علیه و آله) واهل بيته (صلوات الله عليهم اجمعين) وكلها تقتضي الاختلاط بالناس والتعامل معهم، فالمهم إذن هو الاعتزال المعنوي، وهكذا كان أصحاب الكهف فقد روى الشيخ الكليني (قده) في الكافي بسنده عن الامام الصادق (علیه السلام) قال:(ما بلغت تقية أحد تقية أصحاب الكهف إن كانوا ليشهدون الأعياد ويشدون الزنانير(2) فأعطاهم الله أجرهم مرتين)(3)

وقد دلّتنا الأحاديث الشريفة والأدعية المباركة على مصاديق الكهف المعنوي الذي نلجأ إليه والعروة الوثقى التي نتمسك بها عند اشتداد الفتن والأزمات وانتشار الفساد والضلال والانحراف والنفاق.

أولها: الإيمان بالله تعالى وتوحيده بإخلاص، ففي الآية الكريمة: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا) (البقرة:256)، وفي الحديث القدسي (لا إله إلا الله حصني فمن دخله أمِن من عذابي)(4)، ومن وصية أمير المؤمنين (علیه السلام) لولده الحسن (وألجئ نفسك في

ص: 164


1- كما روى الكليني بسند معتبر انّ رجلا قال للإمام الصادق (علیه السلام): جعلت فداك رجل عرف هذا الأمر لزم بيته ولم يتعرّف إلى احد من اخوانه، قال: فقال: كيف يتفقّه هذا في دينه: الكافي: ج1 / ح9
2- جمع زنار وهو ما يشده النصارى والمجوس على اوساطهم، شعاراً لهم يعرفون به.
3- الكافي 2: 173 /ح8، تفسير العياشي:2/323 ح9
4- عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق: 1/144، ح2، باب 37: ما حدث به الرضا (علیه السلام) في مربعة نيسابور وهو يريد قصد المأمون.

الأمور كلها إلى إلهك فإنك تلجئها إلى كهف حريز ومانع عزيز)(1)، وفي الدعاء الشريف: (يا كهفي حين تعييني المذاهب)(2) و (يا كهف من لا كهف له)(3).

وثانيها: كهف الإسلام والانقياد لأوامر الله ونواهيه والعمل الصالح، قال تعالى: (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (لقمان:22).

وثالثها: القرآن الكريم وولاية أهل البيت (علیهم السلام) كما في حديث الثقلين المشهور: (إني قد تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي ماإن تمسكتم بهما: كتاب الله وعترتي أهل بيتي)(4) وما رواه أبو الصلت عن أبي الحسن الرضا (علیه السلام): (يقول الله عز وجل ولاية علي بن أبي طالب حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي)(5) وعن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) في صفة أهل البيت (علیهم السلام) قال: (وهم الرحمة الموصولة والكهف الحصين للمؤمنين)(6).

حكى السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في إحدى رسائله التي جمعتها وطبعتها في كتاب قناديل العارفين قال: (إنني يوماً فتحت القرآن

ص: 165


1- نهج البلاغة: 3/39، بشرح محمد عبده.
2- الكافي للكليني: 3/325، ح 17، باب: الركوع وما يقال فيه من التسبيح والدعاء فيه وإذا رفع الرأس منه.
3- بحار الأنوار: 84/257، عن مصباح المتهجد والبلد الأمين وغيرهما.
4- الكافي: 2/415، ح 1، باب: أدنى ما يكون به العبد مؤمناً أو كافراً أو ضالاً.
5- عيون أخبار الرضا: 2/146، باب 38،
6- بحار الأنوار: 26/255 عن تفسير فرات بن إبراهيم.

الكريم لأجد فيه منزلتي أمام الله سبحانه أو قل -بالتعبير الدنيوي- (رأي) الله فيّ فخرجت هذه الآية من سورة الكهف: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً)، إن كل هذه الآية مفهومة لي بحسب حالي يومئذٍ إلا قصة (الكهف) الذي يكون من المطلوب أن آوي إليه، أي كهف هذا؟ وذهبت إلى الحرم العلوي على ساكنها السلام عسى أن ينفتح لي هناك عن هذا المعنى، وبدأت بزيارة (أمين الله) حتى وصلت إلى قوله (علیه السلام): (اللهم فاجعل نفسي مطمئنة بقدرك، راضية بقضائك.. إلى قوله: يا كريم) وقد حصل لي في تلك اللحظة(حدس) قوي بأن الكهف الذي يجب أن أدخله هو هذا، أي أن تصبح نفسي على هذه الأوصاف وتجانب ما سواها، وقد عرضت ذلك على (مولاي) - يقصد به استاذه (قدس سره) في السير والسلوك الى الله تعالى - فأقرّه وقال بصحته)(1).

وهؤلاء هم من وصفهم الامام السجاد (علیه السلام) في مناجاة العارفين بقوله (علیه السلام) (فهم الى اوكار الأفكار يأوون)(2) أي انهم يأوون الى كهف المعرفة بالله تعالى.

أيها الاحبّة يا أنصار السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام).

هذا اللجوء إلى الكهف المعنوي لتحصيل الرحمة الإلهية الخاصة وحل الأزمات والنجاة من الفتن والضلالات هو ما أرادته الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) من الأمة ودعتهم إليه حينما قالت لهم في خطبتها: (فجعل الله

ص: 166


1- قناديل العارفين: 188، ط. مؤسسة الرافد.
2- الصحيفة السجادية:275 مناجاة العارفين

الإيمان تطهيراً لكم من الشرك، وطاعتنا نظاماً للملة، وإمامتنا أماناً من الفرقة)(1).

وقالت في اللجوء إلى ولاية أمير المؤمنين (علیه السلام): (وتالله لو مالوا عن المحجّة اللايحة، وزالوا عن قبول الحجة الواضحة، لردّهمإليها، وحملهم عليها ولسار بهم سيراً سُجُحاً لا يكلم حشاشه ولا يكل سائره ولا يمل راكبه، ولأوردهم منهلاً نميراً، صافياً، روياً، تطفح ضفتاه ولا يترنق جانباه ولأصدرهم بطاناً، ونصح لهم سراً وإعلاناً، ولم يكن يتحلى من الدنيا بطائل، ولا يحظى منها بنائل، غير ري الناهل، وشبعة الكافل)(2).

وكثرت وصايا أهل البيت (علیهم السلام) في وصف أهل البيت (علیهم السلام) بأنهم (الكهف الحصين) الذي يجب على الأمة اللجوء إليه:

- ففي الصلوات الشعبانية للإمام السجاد (علیه السلام): (اللهم صلّ على محمد وآل محمد الكهف الحصين وغياث المضطر المسكين وملجأ الهاربين وعصمة المعتصمين)(3).

- وفي زيارة أمير المؤمنين (علیه السلام) (السلام عليك أيها الكهف الحصين)(4).

وأوصوا (سلام الله عليهم) من بعدهم بالإيواء إلى كهف العلماء العاملين المخلصين، روى في كتاب الاحتجاج عن الإمام الهادي (علیه السلام) قوله: (لولا مَن

ص: 167


1- الاحتجاج للطبرسي: 1/128.
2- الاحتجاج للطبرسي: 139.
3- بحار الأنوار: 84/67.
4- بحار الأنوار: 97/324.

يبقى بعد غيبة قائمنا (علیه السلام) من العلماءالداعين إليه، والدالّين عليه والذابّين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شِباك إبليس ومردته ومن فخاخ النواصب لما بقي أحد إلا ارتد عن دين الله ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة، كما يمسك صاحب السفينة سكّانها أولئك هم الأفضلون عند الله عز وجل)(1) وهم موجودون في كل جيل بحسب إخبار الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)(2) وعن الإمام الكاظم (علیه السلام) قال في حديث (لأن المؤمنين الفقهاء حصون المسلمين كحصن سور المدينة لها)(3).

والمجاهدون المدافعون عن مقدسات المسلمين وحرماتهم وأوطانهم هم حصون الإسلام، فقد خاطبت السيدة الزهراء (علیها السلام) الأنصارَ بقولها: (معشر البقية وأعضاد الملة وحصون الإسلام)(4) وورد في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (علیه السلام) في وصيته للأشتر حين ولاه حكم مصر: (فالجنود بإذن الله حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلا بهم)(5).

والمسجد كهف معنوي عظيم على من يأوي إليه ويتردد عليه، روى

ص: 168


1- بحار الأنوار: 2/6، ح12 عن الاحتجاج: 18، وتفسير العسكري: 344، ح225.
2- بصائر الدرجات: 1/30، ب 6، ح7.
3- الكافي: 1/38، كتاب فضل العلم، باب فقد العلماء، ح3، ورواه في قرب الإسناد.
4- بحار الأنوار: 29/243.
5- نهج البلاغة: 3/90.

الامام الحسن (علیه السلام) عن جده رسول الله (صلی الله علیه و آله) انه قال (من أدمن الاختلاف الى المساجد أصاب أحدى الثمان: أخاً مستفاداً في الله عزوجل أو علماً مستطرفاً أو كلمة تدلّه على هدى أو أخرى تصرفه عن الردى أو رحمة منتظرة أو ترك الذنب حياءاً أو خشيةً)(1) .

والإخوة في الإيمان يلجأ إليهم المؤمن، ورد عن الإمام الرضا (علیه السلام) قوله: (اعلم يرحمك الله أن حق الإخوان واجب فرض لازم) إلى أن قال: (وهم حصونكم التي تلجأون إليها في الشدائد في الدنيا والآخرة، لا تماطوهم (أي لا تفخروا عليهم ويحتمل أن يكون لا تمايطوهم أي لا تباعدوهم: هامش البحار) ولا تخالفوهم ولا تغتابوهم ولا تدعوا نصرتهم ولا معاونتهم، وابذلوا النفوس والأموال دونهم، والإقبال على الله عز وجل بالدعاء لهم، ومواساتهم ومساواتهم في كل ما يجوز فيه المساواة والمواساة ونصرتهم ظالمين ومظلومين بالدفع عنهم)(2).

كما بيّن الأئمة (علیهم السلام) مصاديق أخرى للكهف المعنوي لحثّ الأمة على التمسّك بها والإيواء إليها كالورع، ففي خطبة أميرالمؤمنين (علیه السلام) (ولا معقل أحرز من الورع)(3) والمعقل هو الحصن، فالورع أمنع الحصون وأحرزها من وساوس الشيطان وأهواء النفس.

ص: 169


1- بحار الأنوار: 71/226.
2- بحار الأنوار: 71/226.
3- الكافي: 8/19 وهي من كلامه (علیه السلام) الذي خطب الناس به في المدينة بعد سبعة أيام من وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله).

وكذلك الأعمال الصالحة والأخلاق الحسنة حصون للإيمان تحفظه من سراق شياطين الإنس والجن، وكل ما تجمعه كلمة (التقوى) من أفعال وتروك.

ومنها الدعاء كما في قول الصادق (علیه السلام): (الدعاء كهف الإجابة كما أن السحاب كهف المطر)(1)،

ومنها الموعظة عن أمير المؤمنين (علیه السلام): (الموعظة كهف لمن وعاها)(2).

ومنها عقول وقلوب المؤمنين التي تحفظ علوم ومعارف أهل البيت (علیهم السلام) وتكتم أسرارها إلا عن أهلها والتلطف في نشر أمرهم قال الصادق (علیه السلام) في وصيته لشيعته: (اقرَأ موالينا السلام، وأعْلِمْهم أن يجعلوا حديثنا في حصون حصينة وصدور فقيهة وأحلام رزينة، والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ما الشاتم لنا عِرضاً والناصب لنا حرباً أشدّ مؤونة من المُذيع علينا حديثنا عند من لايحتمله)(3).

احبّتي:

ما احوجنا اليوم وفي كل يوم خصوصاً ونحن نعيش في أعتى ازمنة الظلم والضلال والاستبداد والقهر والحرمان ان نأوي الى كهف الله تعالى الحصين وولاية النبي وآله الاطهار (صلى الله عليهم اجمعين) والسير خلف العلماء العاملين المخلصين ونبذ الفرقة واتباع الاهواء والانانيات وعدم الانسياق بالسلوك الجمعي وراء الدعوات المنكرة والمجهولة وغير المستندة الى الأسس الرصينة التي وضعها لنا أئمة اهل البيت (علیهم السلام) لكي ينشر الله تعالى علينا من

ص: 170


1- الكافي: 2/471.
2- الكافي: 8/23. من لا يحضره الفقيه: 4/39.
3- الاختصاص للشيخ المفيد: 258، ونقله في البحار: 1/89.

لدنه رحمة ويهيئ لنا من امرنا رشدا ويهدينا الى حل الازمات وفك العقد وإصلاح ما فسد من الأمور انه نعم المولى ونعم النصير.

ص: 171

خطاب المرحلة 622 : بشارة السيدة الزهراء (علیها السلام) للشيعة مشروطة بالورع

بشارة السيدة الزهراء (علیها السلام) للشيعة مشروطة بالورع(1)

بشّرت السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) شيعتها وشيعة أبيها وزوجها (صلوات الله عليهم أجمعين) ببشائر عديدة، ففي حديث طويل عن الامام الباقر (علیه السلام) جاء فيه (إنها -- أي الزهراء (علیها السلام) -- لتلتقط شيعتها ومحبيها كما يلتقط الطير الحب الجيد من الحب الرديء)(2) .

تصوروا أيها الأحبّة ذلك اليوم المهول في كل تفاصيله (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) (الحج:2) ويجتمع الخلائق كلهم من الأولين والآخرين -- وهم مليارات -- ينتظرون فتح ملفات اعمالهم وحسابهم على كل صغيرة وكبيرة في حياتهم التي قد تمتد سبعين او ثمانين سنة أو اكثر وفي تلك الظروف الصعبة وفي ذلك الانتظار المرعب تشير السيدة الزهراء (علیها السلام)الى هذا الشخص وذاك وتخرجهم من ذلك الموقف وتقول هؤلاء من حصتي فتشفع لهم وتأمر بأن يدخلوا الجنة ، فما أحلى هذه البشارة، وأي طمأنينة تسكبها على القلب الخائف من أهوال يوم القيامة.

ص: 172


1- من حديث سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من الزوار والمهنئيّن بذكرى مولد السيدة الزهراء (علیها السلام) بتاريخ 20 جمادي الآخرة 1441 الموافق 15 / 2 / 2020
2- بحار الأنوار: 8/52 ح 59

وحينئذ سيكتشف هؤلاء الذين يدعون الى نبذ الدين والخروج عن طاعة المرجعية أي وهم كان يعيشون واي غشاوة أعمت بصائرهم (فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلًا وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) (التوبة:82) .

ومن أقوالها (علیها السلام) في هذا المجال قولها (شيعتنا من خيار أهل الجنة)(1) أي ليسوا فقط يدخلون الجنة وإنما يكونون من أفضل ساكنيها، وقولها (علیها السلام) (إن أبي رسول الله (صلی الله علیه و آله) نظر إلى علي (علیه السلام) وقال: هذا وشيعته في الجنة)(2).

لكنها (علیها السلام) كالقادة المعصومين الآخرين (سلام الله عليهم أجمعين) الذين يشعرون بالمسؤولية الكاملة عن اتباعهم ومريديهم، ومن مظاهر تلك المسؤولية : بيان الصفات التي يجب توفرها في الشخص ليكون من الشيعة حقا ويحصل على تلك الجوائز، فتبيّن لهم ان التشيع حقيقة وليس ادعاءاً وعناوين تكتب في هوية الأحوال الشخصية لأنه ولد من أبويين شيعيين مثلاً أو انه يبكي على مصائبأهل البيت (علیهم السلام) ويشارك في شعائرهم، وهذا كله حسن ويثاب عليه ولكنه مشروط ليعبّر عن صدق التشيع لأهل البيت (علیهم السلام) ومن أقوالها (علیها السلام) بهذا الصدد (إن كنت تعمل بما أمرناك، وتنتهي عما زجرناك عنه فأنت من شيعتنا)(3) .

وقالت (علیها السلام) (أبوا هذه الأمة محمد وعلي يقيمان أودهم وينقذانهم من

ص: 173


1- بحار الأنوار: 68/155
2- ينابيع المودة: 257
3- بحار الأنوار: 68/155

العذاب الدائم ان اطاعوهما، ويبيحانهم النعيم الدائم ان وافقوهما)(1).

فهذه الامتيازات والحقوق التي تمنح لشيعة الزهراء (علیها السلام) لابد أن يقابلها واجبات واستحقاقات لتتحقق العدالة (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الجمعة:4).

فلنشكر الله تعالى على نعمة الهداية وولاية أهل البيت (علیهم السلام) والتمسك بها (الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَ-ذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ) (الأعراف:43).

ص: 174


1- تفسير العسكري: 357

خطاب المرحلة 623 : المرجع اليعقوبي يحث على الالتزام بالتعليمات و...

المرجع اليعقوبي يحث على الالتزام بالتعليمات والإرشادات الصحية لتطويق انتشار فيروس (1) كورونا المستجد ويؤكد على التضرع والرجوع الى الله تبارك وتعالى لكشف السوء والبلاء

نحث على الالتزام بكل التعليمات التي تؤدي الى تطويق الوباء ومنع انتشاره حفظاً للنفس والمجتمع من أضراره وقد نهى النبي (صلی الله علیه و آله) عن كل فعل يلحق الضرر بالنفس او المجتمع لقوله (صلی الله علیه و آله): (لا ضرر ولا ضرار) (2)، وان يبادر الشخص الذي تظهر عليه اعراض المرض والعياذ بالله او كان في دولة موبوءة الى اعلام الجهات الصحية المختصة لاتخاذ التدابير اللازمة. ومن تسبّب في الحاق الضرر بالأخرين فعليه الديّة وتكاليف العلاج، وقد شدّد النبي (صلی الله علیه و آله) على عدم إيذاء الاخرين حتى على مستوى (من يأكل البصل والثوم) من الحضور في المسجد إذا كانت في فمه رائحة مؤذية لغيره ففي رواية صحيحة لمحمد بن مسلم عن أبي جعفر (علیهالسلام) قال: (سألته عن أكل الثوم فقال: إنما نهى رسول الله (صلی الله علیه و آله) عنه لريحه، فقال: من أكل هذه البقلة ... فلا

ص: 175


1- ظهرت اول إصابة بأعراض المرض في النجف يوم الاحد 28/ج2/1441 الموافق 2020/2/23 على طالب علم إيراني قادم من قم حيث تفشى الوباء في إيران قبل ذلك ثم أغلقت الحكومة الحدود وحجرت على الزوار القادمين واتخذت الإجراءات الوقائية الأخرى، وقد أُعلن عن ظهور الفايروس اول مرة في الصين في الأيام الأخيرة من عام 2019 وانتشر في العالم كله.
2- وسائل الشيعة (آل البيت): 18/32/ح3

يقرب مسجدنا، فأما من أكله ولم يأت المسجد فلا بأس. وعن أبي عبد الله (علیه السلام) أنه سُأل عن أكل الثوم، والبصل، والكراث؟ قال: لا بأس بأكله نيا وفي القدور، ولا بأس بأن يتداوي بالثوم، ولكن إذا أكل ذلك فلا يخرج إلى المسجد.)(1)، فكيف بمن يسبب أمراضاً لغيره، فالحذر من التساهل في ما يؤدي الى ابتلاء الناس بالأمراض المعدية، فإن الخطر عظيم.

وفي الوقت الذي نشكر فيه الفرق الطبية وسائر العاملين في حقل مكافحة الوباء ومعالجته على جهادهم العظيم هذا، فإننا ندعوهم لبذل كل ما بوسعهم في هذا المجال وعدم التقصير فيه لأن البلاءات التي تمرّ بالشعب العراقي عظيمة ومتنوعة مما يزيد من خطورة الوباء.

ولا نغفل عن الإجراءات المعنوية بالتضرّع الى الله تعالى والتوسّل اليه سبحانه بأحبّ الخلق اليه لكشف السوء والبلاء عن عباده فان عافيته أوسع لنا، وقد كتب على نفسه الرحمة بعباده فيصرف عنهم العاقبة السيئة التي جنوها لأنفسهم بأفعالهم القبيحة، قال تعالى (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) (يونس : 98)، وقال تعالى(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف : 96) فلا تقصروا في ذلك وقد وجهنا ببعض التوجيهات في هذا المجال.

لقد أقرّ الغرب الغارق في الماديات بعد طول تمرد وجحود بهذه الحقيقة

ص: 176


1- وسائل الشيعة: 5/226

وهي ان الرجوع الى الله تعالى والالتجاء إليه هي القوة الحقيقة والوسيلة الفاعلة للتغلب على الامراض الجسدية والروحية فلا نستغرب إعلان الرئيس الأمريكي ترامب اليوم الأحد يوماً وطنياً للصلاة واعتبر الإعلان شرفاً عظيما له ووصف بلده بأنه يتطلّع عبر تاريخه الى الله للحماية والقوة في أوقات كهذه، وان ذلك يحقق الانتصار بسهولة.

فالعجب كل العجب من بعض الذين يدّعون الإسلام وهم يسخرون من الوسائل المعنوية مضافاً الى الأسباب الطبيعية التي يأمر بها ذوو الاختصاص.

محمد اليعقوبي – النجف الاشرف

الاحد 20 رجب الاصب 1441

2020/3/15

ص: 177

خطاب المرحلة 624: المرجع اليعقوبي: فايروس كورونا يغيّر العالم ويعيد تشكيله

لا شك ان وباء كورونا تسبّب في وفاة الالاف واصابة مئات الالاف في أكثر دول العالم وقطع ارزاق الكثير خصوصاً الذين يعملون بأجور يومية، وتسبّب أيضاً في تعطيل الكثير من مصالح الناس وشؤون حياتهم اليومية بسبب إجراءات الوقاية، وكل هذه المصائب والمعاناة والالام تستحق التعاطف والتراحم والمساعدة وهي المشاعر التي تفجرت لدى الكثير من أصحاب القلوب الرحيمة عبر العالم لم تمنعهم الحدود الجغرافية ولا الفوارق الدينية والعرقية والطائفية والأيدلوجية، ونسأل الله تعالى أن يرفع البلاء عن الجميع ببركة هذه الاعمال الانسانية النبيلة، ففي الحديث الشريف عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (إن الله يدفع بمن يصلي من شيعتنا عمن لا يصلي من شيعتنا ولو أجمعوا على ترك الصلاة لهلكوا، وإن الله ليدفع بمن يزكي من شيعتنا عمن لا يزكي ولو أجمعوا على ترك الزكاة لهلكوا، وإن الله ليدفع بمن يحج من شيعتنا عمن لا يحج ولو أجمعوا على ترك الحج لهلكوا وهو قول الله عز وجل (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة:251) فوالله ما نزلت إلا فيكم ولاعنى بها غيركم)(1).

وكمساهمة منا في المعالجة النفسية من الوباء نقول:ان كثيراً من

ص: 178


1- الكافي: ج 2 - ص 451

الحوادث الواقعة التي تسبب أضراراً ويكون لها آثار سلبية على حياة الفرد والمجتمع يمكن أن تكون حالة إيجابية نافعة لو نُظِر اليها من جهة أخرى، مثلا عندما ينزل المطر فأن أهل المدن ينزعجون لما يسببه من تجمع المياه والأوحال في الشوارع فتعيق حركتهم وتلوث ملابسهم أو تسبب أضرارا في أبنيتهم ونحو ذلك، لكن المطر نفسه مصدر خير وعطاء لأهل الأرياف والبساتين حيث تنتعش مزروعاتهم وتأتي لهم بحاصلٍ وفير، ويخلصهم المطر من الأتربة والغبار الذي يسبب ضيقاً في الصدر ويهيج الحساسية ونحو ذلك، وتجد هذا المعنى في قوله تعالى ( لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ) (الحديد:13)(1) وروي في كتاب عيون أخبار الرضا أنه (قيل: للإمام الصادق (علیه السلام) أخبرنا عن الطاعون فقال:عذاب لقوم ورحمة لآخرين قالوا: وكيف تكون الرحمة عذاب، قال: أما تعرفون ان نيران جهنم عذاب على الكفار وخزنة جهنم معهم فهي رحمة عليهم)(2).

وسُئل الامام السجاد (علیه السلام) عن الطاعون أنبرأ ممن يلحقهفقال (علیه السلام) في الجواب: (ان كان لله عز وجل مطيعاً فإن الطاعون مما تمحّص به ذنوبه فان الله عز وجل عذّب به قوماً ورحم به اخرين واسعةً قدرته لما يشاء، اما ترون انه جعل الشمس ضياءً لعباده ومنضجاً لثمارهم ومبلغاً لأقواتهم، وقد يعذب بها

ص: 179


1- راجع تفسير الآية في موسوعة خطاب المرحلة: ج8/ص164 - وفي تفسير (من نور القرآن): ج/1 ص 272 بعنوان: موعظة من سورة الحديد
2- بحار الأنوار:6/121 عن عيون أخبار الرضا: 2/3 باب 30 ح5

قوما يبتليهم بحرها يوم القيامة لذنوبهم وفي الدنيا لسوء أعمالهم)(1)

إن النظر الى الأمور بإيجابية يساعد على استقرار النفس واطمئنان القلب والرضا بما يجري والتخلص من القلق والازعاج الذي ينكّد الحياة ويدعو الى اليأس والإحباط ويدفع الى الاعتراض والتمرد وعلى الصعيد الصحي فانه (بحسب المختصين) يؤدي الى ضعف المناعة وزيادة احتمالية الإصابة بالأمراض.

بهذه النظرة الإيجابية يمكن ان يتحول وباء كورونا من مرض الى علاج لكثير من الامراض النفسية والاجتماعية والسياسية والفكرية، فقد استطاع هذا الفايروس بما أحدث من الخوف والهلع والعجز أن يخرج الناس من حالة الغفلة والتمرد على الله تعالى الى حالة الانقياد والتسليم لقدرته اللامتناهية وجعلهم يتوسلون الى الله تعالى وحده ليرفع عنهم البلاء(2) .

كما كشف الفايروس عن حقيقة الآية الكريمة (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ

ص: 180


1- بحار الأنوار:6/124 ح 10 عن دعوات الراوندي:171 ح478
2- سمحت بعض الدول الاوربية التي كانت تمنع من رفع الاذان علناً كإيطاليا واسبانيا والمانية برفعه من المآذن ومكبرات الصوت لجلب السكينة والاطمئنان للمواطنين، واعلن الرئيس الأمريكي ترامب يوم الاحد 2020/3/15 يوماً وطنيا للصلاة، ونقلت بعض وكالات الانباء بتاريخ 19-3-2020 عن رئيس وزارء إيطاليا جوسيبي كونتي قوله: (لقد فقدنا السيطرة، الوباء قتلنا نفسيًا بدنيًا وعقليًا، لم نعُد نعي ماذا سنفعل، لقد انتهت جميع الحُلول على وجه الأرض، الحل متروك للسماء ".علما بان إيطاليا اكثر الدول تضرراُ بالوباء من حيث الوفيات، وقد تحمسّت بعض الوكالات بعد عدة أيام لنفي صدور هذا التصريح بشكل رسمي عن كونتي وان إيطاليا لم تعلن الاستسلام للوباء فلعله كان تسريبا وليس في كلامه ما يوجب الانزعاج والإصرار على النفي الا لكونها مناهضة للدين).

الْعَنْكَبُوتِ) (العنكبوت:41) فقد ظهر عجز القوى المادية المتفرعنة التي ظنت انها قادرة على كل شيء وإنها لا يخرج من سيطرتها شيء وإذا بجيوشهم وأساطيلهم وتكنولوجيتهم التي أعدّوها لحرب النجوم فضلاً عن الأرض تقف عاجزة عن فعل شيء للحد من انتشار الفايروس.

وحّول

الفايروس أموالاً كثيرة مما كانوا يصرفونها على الترسانة العسكرية والعدوان على الشعوب الى الخدمات الصحية ومساعدة الناس، كما عطّل مؤتمراتهم التي كانت تُعقد لوضع الخطط الخبيثة لظلم الشعوب ونهب خيراتها.

كما استطاع الفايروس تعطيل فعاليات الفسق والفجور والشذوذ الجنسي في الملاهي والحانات وصالات الرقص والمجون والفنادق وسواحل البحار وأمثالها.

وجعلهم يقتنعون بأن المتع واللذات والزخارف الدنيوية التي كانوايلهثون وراءها وهمٌ صنعوه في مخيلاتهم ومتاع زائل يفقد كل قيمته في لحظة.

وألغى الفايروس مهرجاناتهم العبثية التي كانوا يقيمونها باستمرار لإلهاء الشعوب عن قضاياهم المصيرية وتضييع أوقاتهم بالألعاب الفارغة وتصرف فيها مليارات الدولارات ويحرم الجياع منها.

ودفعهم الى الاعتراف بأن ما يرتكبونه من موبقات كشرب الخمر وتناول المخدرات وأكل الأطعمة المحرمة هو سبب رئيسي لضعف المناعة والعجز عن مواجهة الاصابة بالفايروس.

وأدركوا أيضا ان اكتفائهم بممارسة الجنس بطرق غير المشروعة

ص: 181

وانحسار ظاهرة الزواج وما يتبعه من تباطؤ التكاثر جعل مجتمعهم هرماً ومتوسط أعماره عالية فأضعف قابليته على مواجهة الفايروس.

وعرّفهم هذا الوباء بعظمة الإسلام وتشريعاته الموافقة للفطرة الإنسانية والكفيلة بتحقيق السعادة الإنسانية في الدنيا قبل الاخرة، وان الإجراءات التي يوصي بها المختصون(1) لتطويق فايروس كورونا وهي النظافة والحجر الصحي قد أكّد عليها نبي الإسلام محمد (صلی الله علیه و آله) قبل ألف وأربعمائة عام واكّد على تناول الدواء لمعالجة المرض وعدم الاعتماد على القضايا الروحية فقط فضلاً عن الاستسلام للخرافات والدجل والشعوذة، فقد روى جابر بن عبد الله قال: (قيل يا رسول الله أنتداوى؟ فقال: نعم تداووا فأن الله تبارك وتعالى لم ينزل الداء والا وقد أنزل له دواء)(2) مضافاً الى العلاج الروحي بالصلاة والدعاء، فقد روى الصدوق عن الامام الصادق (علیه السلام) عن النبي العظيم (صلی الله علیه و آله)( وكره أن

ص: 182


1- نقلت وكالات الأنباء يوم 21-3-2020 تقريراً نشرته صحيفة نيوزويك الامريكية يوم 17-3-2020 قالت فيه: ان ما يقوله خبراء المناعة من أن النظافة الشخصية جيدة والحجر الصحي هي افضل الوسائل لتطويق كوفيد/19 وان أول من اقترح ذلك نبي الإسلام محمد قبل 1300 عام حيث قال:( اذا سمعت عن تفشي الطاعون في الأرض فلا تدخله ولكن اذا تفشّى الطاعون في مكان أثناء وجودك فيه فلا تترك ذلك المكان) الا بعد ان تضمن عدم تسببّك في عدوى الاخرين وقال( يجب إبعاد المصابين بالأمراض المعدية عن الأصحّاء) كما شجع محمد (صلی الله علیه و آله)بشدّه على الالتزام بممارسات النظافة فقال: (النظافة جزء من الايمان) و(اغسل يديك بعد الاستيقاظ ، فلا تعرف اين تحرّك يديك أثناء النوم) ( ان بركات الطعام تكمن في غسل اليدين قبل وبعد الأكل) وشجّع على استعمال العلاج الطبي والأدوية (لأن الله لم يصنع مرضاً دون تعيين علاج له) واستطرد كاتب التقرير قائلاً:( لعل اهم شيء هو أنه – النبي محمد صلی الله علیه و آله )عِلِمَ متى يوازن الدين والأسباب).
2- البحار: ج62 / ص68 /ح 21.

يكلم الرجل مجذوما إلا أن يكون بينه وبينه قدر ذراع، وقال: فر من المجذوم فرارك من الأسد)(1).

وأضعف اقتصادهم بعد ان أقنعوا البشرية بأنهم ملكوا زمام العالم بهذا الاقتصاد ولوثوا المناخ بما تفرزه مصانعهم وآلياتهم التي تملأ الشوارع من سموم فتعطلت هذه المصانع والسيارات وتحسّن المناخ بإيقافها.

وجعلهم يقتنعون أكثر من أي وقت مضى بالحاجة الى المنقذ والمخلِّص الذي يفك كل هذه العقد في حياتهم ويدلّهم على طريق السعادة والفلاح وهو ما نرجوه بظهور المهدي الموعود (صلوات الله وسلامه عليه)، وكان الكل يعجز عن تصور كيفية تحقيق دولة العدل الإلهي في ظل هذه القوى المستكبرة العتيدة وكانوا يسخرون من الآمال المعقودة على المهدي الموعود (علیه السلام) واصحابه، وإذا بفايروس لا يُرى بالعين المجردة يهزم طغيانهم وجبروتهم.

لقد كان الابتلاء بهذا الفايروس ميداناً لكشف أخلاق الشعوب وما تؤمن به الأيديولوجيات المختلفة من قيم ومبادئ فبينما هرع الكثير من المتطوعين في بلادنا للعمل على معالجة المصابين وخدمتهم ودفن المتوفين بكرامة وتوقير ومساعدة العوائل التي توقف مصدر رزقها بسبب حظر التجوال والحجر الصحي بتوفير السلّات الغذائية المجانية لهم والتطوع لتعقيم وتعفير المرافق العامة والطرقات، نجد بعضاً من الحكومات الغربية تدعو الى تطبيق سياسة (مناعة القطيع) التي تعني عدم اتخاذ الإجراءات الوقائية اللازمة لحماية

ص: 183


1- وسائل الشيعة: ج 15 /ص 345 - من لا يحضره الفقيه: - ج 4 /ص 357

الشعوب وترك الوباء يأخذ مداه في إصابة الناس ولينجو من ينجو بمناعته الذاتية ويموت كبار السن والذين يعانون من أمراض مزمنة من دون توفير الأجهزة والعناية اللازمة لهم حتى ينتهي وجود الفايروس بتحصيل مناعة الناجينوموت من لا يملك المناعة لتتخلص الحكومة من دفع مبالغ المعونة الاجتماعية لهم والتي تشكّل عبئاً مالياً على الدولة بحسب وجهة نظرهم رغم ان ما يدفع لهم هو حصيلة الضرائب التي كانوا يدفعونها خلال مدة عملهم، وبذلك سُحقت كرامة الانسان عندهم خصوصاً المسنّ الذي يستحق في شريعتنا كل توقيرٍ واحترام.

ان البشرية اذا عملت بما ينسجم مع المبادئ الإنسانية التي أمر بها الإسلام ورسّخها من التكاتف والتراحم والتضحية والايثار والإخلاص والالتزام فانها ستتمكن من ايقاف انتشار هذا الفايروس وغيره أخذاً بهذه السنن الإلهية الجارية في المخلوقات التي يحصل العاملون بها على ثمرتها وان لم يؤمنوا به تبارك وتعالى أو يطيعوه سبحانه (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) (الأحزاب:62)

إن كل ما حصل أو ما سيحصل يدعو البشرية الى إجراء مراجعة لأفكارها وسلوكياتها ولمبادئها وأولوياتها التي تؤمن بها، وأن يبادر نخب المفكرين والفلاسفة والمنظّرين الى حراك تغييري شامل مستفيدين من تجربة وباء فايروس كورونا وأسبابه وتداعياته قبل فوات الأوان لأننا لسنا بمأمن من الإبتلاء بأمر آخر تعجز عن مواجهته حتى الأساليب التي نجحت في تطويق كورونا ولو بمقدار ما.

ص: 184

ان الابتلاء بهذا الوباء واحد من كثير من الآثار السيئة التي يجلبها الانسان لنفسه ولمجتمعه بسوء تصرفه (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَاكَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)(1) (الشورى:30) وان الله تعالى يدفع عن مخلوقه الكثير من مظاهر هذا الابتلاء (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) (الرعد:11) ( إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) (هود:90).

هذه هي العلاقة الودودة المبنية على الرحمة بين الله تعالى وخلقه وان كانت من طرف واحد وهو الله تعالى لأن الانسان لا يقدّر هذا الود ولا يعطيه حقّه(2) (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (الأنعام:91)، لكن الله تعالى قد يجد من مصلحة عبده ان يتركه لنفسه ولما جنت يداه من دون ان يتدخل للدفاع وترفع الملائكة المعقبات التي تدافع عن الانسان يدها عنه بعد ان يطول تمرده وعصيانه ويصبح ضاراً لنفسه وللآخرين، فيتركه يعاني من نتائج أفعاله لمصلحته عسى أن يثوب الى رشده ويصلح ما فسد من أمره(3).

وعلى المؤمنين أن يتّعظوا من حرمانهم من زيارة البيت الحرام والمسجد النبوي الشريف والمشاهد المشرّفة للمعصومين (علیهمالسلام) وخلو المساجد من صلاة الجماعة والذكر والدعاء فيها، وأن يحذروا من كونهم مقصودين بقوله

ص: 185


1- راجع خطاب المرحلة ج11/ص201- وفي تفسير (من نور القرآن): ج/4 ص272 لبيان هذه الآية الكريمة.
2- راجع خطاب المرحلة ج9/ص 472- وفي تفسير (من نور القرآن): ج1/224 في تفسير قوله تعالى (وما قدروا الله حق قدره) (الحج/74).
3- راجع خطاب المرحلة: ج9/ص171- وفي تفسير (من نور القرآن): ج/1 ص85 لشرح هذه الفكرة من خلال تفسير قوله تعالى (له معقبات من بين يديه) المذكورة انفا

تعالى (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد:38).

فليبادروا الى الدعوة الى الله تعالى وتحبيبه للناس وأقناعهم بالرجوع(1) اليه تبارك وتعالى والالتزام بشريعته، وبيان عظمة الإسلام النقي الأصيل وأسراره وسمو أخلاق نبي الإسلام وأهل بيته (صلوات الله عليهم اجمعين) وتحقيق السعادة التي تنشدها البشرية في دولة المهدي الموعود (عجل الله تعالى فرجه).

وحذّروا الناس من العودة الى الغفلة والعصيان والتمرد كما وصفتهم الآية الكريمة (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) (الزمر:8) وذكرّوهم بأن الانسان باستقامته وجريه على السنن الآلهية الجارية في خلقه يستطيع أن يدفع(2) البلاء بل يمنع من وقوعه اصلاً، وندعو بما كان الامام زين العابدين (علیه السلام) يقول في دعائه:(إلهي لا تؤدّبني بعقوبتك) ( إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) (هود:90).

محمد اليعقوبي - النجف الاشرف

28/رجب/1441 - 2020/3/23

ص: 186


1- صدر الان لسماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) كتاب بعنوان (فلنرجع الى الله تبارك وتعالى) يبيّن جملة من أساليب الاقناع.
2- راجع تفاصيل الفكرة في الخطاب الاخير من هذا المجلد عند تفسير قوله تعالى {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} (يونس: 98)

خطاب المرحلة 625 : السيد عبد الستار الحسني: الموسوعة العلمية التي فقدناها

نُعيَ إلينا يوم الاثنين الخامس من شعبان عام 1441 الموافق 2020/3/30 العلامة المحقق السيد عبد الستار الحسني الذي كان جامعاً لكثيرٍ من الفضائل العلمية والادبية ومتبحراً في علوم اللغة العربية وآدابها ومجيداً في نظم الشعر وتاريخ الحوادث به، وكان شغوفاً بمطالعة الكتب وتسجيل الملاحظات عليها منذ صباه حتى وفاته رحمه الله، وله تدقيقات في علمي الفقه والأصول، وشهد له أحد الأعلام المعاصرين(1) في قم المقدسة ببلوغ درجة الاجتهاد بعد ان أثنى على طول باعه وتوقّد ذهنه.

استطاع بقوة حافظته وذهنه الوقّاد أن يستقصي الأنساب وأصبحت له خبرة بتمييز الصريح من اللصيق في الانساب العلوية، وكان العلماء يركنون اليه في ضبط الأنساب وتحقيقها.

نشأ يتيماً معدماً يعيل أمه وأخواته لكنه كان أبيّ النفس عفيفها يجود بما تحت يده ويؤثر على نفسه، ونَبَغَ مبكراً في أول صباه وكان محباً للقاء العلماء والاستفادة منهم وهم وجدوا فيه الاذن الواعية والحافظة القوية والفطنة فمنحوه مودتهم وثقتهم، ولعل أهم محطة فيحياته في تلك الفترة مصاحبته للعلامة المصلح المرحوم السيد هبة الدين الشهرستاني (توفي 1967) الذي

ص: 187


1- سماحة آية الله الشيخ جعفر السبحاني والاجازة منشورة في كتاب (رسائل وحوارات).

كان موسوعة من العلوم والمعارف في شتى مجالات الحياة وجد فيه العلامة ضالته ليطالع له الكتب (لفقدانه البصر) فاستفاد المرحوم الحسني من مطالعة الكتب ومما كان يفيض عليه العلامة، كما استفاد من علماء الكاظمية ثم النجف الاشرف وغيرها من حواضر العلم واتصل بعدد كبير من العلماء من الشيعة والسنة، تُعرفُ اسماؤهم من قائمة شيوخه في الاجازة بالرواية حتى أصبح شيخِّاً مميزاً فيها.

كان رحمه الله متواضعاً لا يحب الظهور ومنعزلاً يسكن في مدرسة آل كاشف الغطاء أو في مقبرة الأسرة، ولم يكن يعتني بمظهره الخارجي ولا يأبه بالموضع الذي يجلس فيه، وكان ينبذ إضفاء الألقاب العلمية عليه ويسخر منها مع انه حري بها ولا يتحدث عن نفسه وكتب بنفسه أنه يكره ان يترجم حياته أحد ويتأذى من ذلك، لكن العلماء والمحققين كانوا يعرفون مقامه ويستفيدون من تحقيقاته وملاحظاته ويطلبون منه المساعدة وهو يبذلها بسخاء وتشهد بذلك المقدمات الكثيرة التي كتبها للأعلام والبحوث والتعليقات التي سجّلها على أمهات المصادر التاريخية والرجالية، والتحقيقات التي نشرت له هنا وهناك، واستفاد من أفكاره وملاحظاته طلاب الدراسات العليا في الجامعات، لكنه أهمل جمع كتاباته وشعره الذي حفظ كثير منه في الكتب والمجاميع المطبوعةوالمخطوطة، وله نوادر وطرائف محفوظة في صدور اخوانه ونأمل ان يتصدى لجمعها أهل الفضل لينتفع بها أهل العلم والفضيلة والادب.

كان فطناً يحسن معاريض الكلام ولحن القول وشاعراً مجيداً سريع البديهية ينظم ارتجالاً ويُبدعُ في تضمين المناسبة ويتفنن في استخدام

ص: 188

الاساليب البديعة وذكرت عدة شواهد على ما تقدّم من كلماتي في مذكّراتي عن المرحوم الحسني.

أجد نفسي بمقتضى علاقتي معه التي استمرّت أكثر من خمسة عقود مديناً بالشكر لكل السادة العلماء والفضلاء والاساتذة الذين شاركوا في تشييع المرحوم والصلاة عليه رغم الحظر المشدد على الحركة وقاية من انتشار وباء كورونا، كما أشكر الذين أبّنوه بكلماتهم ورثوه بقصائدهم، فقد عرّفوا فضل الفقيد الراحل الذي خفي على الكثير.

تغّمده الله تعالى برحمته الواسعة واسكنه فسيح جناته وعوّض الأمة بموسوعيين من أمثاله.

محمد اليعقوبي – النجف الاشرف

ص: 189

خطاب المرحلة 626 : الاستغاثة بالله في ليلة النصف من شعبان

نحن في شهر شعبان الذي تتشعب فيه الخيرات للمؤمنين وعلى مقربة من ليلة النصف من شعبان التي روي في فضلها عن الإمام الباقر (علیه السلام) قوله : (هي أفضل ليلة بعد ليلة القدر فيها يمنح الله العباد فضله ويغفر لهم بمنَّه، فاجتهدوا في القربة الى الله تعالى فيها، فإنها ليلة آلى الله عز وجل على نفسه أن لا يردَّ سائلاً فيها ما لم يسأل الله فيها المعصية)، وروي أنها مقصودة بقوله تعالى (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)(الدخان : 4) لأن الله تعالى يثبت فيها الآجال ويقسّم فيها الأرزاق من السنة الى السنة، وينزل ما يحدث في السنة كلها بحسب الحديث النبوي الشريف .

فلنغتنم هذه الفرصة المباركة بالدعاء لبقية الله تعالى في أرضه (أرواح العالمين له الفداء) بالحفظ والنصر والتمكين وتعجيل الفرج حتى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً وأن يفرّج الله تعالى عنّا الهم والغم والكرب، ويختار لنا ما يحب ويرضى في يسر وعافية ويجعل عواقب أمورنا الى خير.

ومن الأدعية المأثورة في هذا المجال ما دعا به النبي (صلی الله علیه و آله) في يوم بدر(1) والإمام الحسين (علیه السلام) يوم عاشوراء(2) وهو (اللَهُمَّ أَنْتَ ثِقَتِي

ص: 190


1- مصباح الكفعمي صفحة 299، بحار الانوار :91/ ص 211 عن مهج الدعوات.
2- الارشاد للمفيد:2/96، بحار الانوار: 45 / 4، تاريخ الطبري: 5 / 423 وغيرها من المصادر في (الصحيح من مقتل سيد الشهداء 655).

فِي كُلِّ كَرْبٍ، وَأَنْتَ رَجَائِي فِي كُلِّ شِدَّةٍ، وَأَنْتَ لِي فِي كُلِّ أَمْرٍ نَزَلَ بِ-ي ثِقَةٌ وَعُدَّةٌ، كَمْ مِنْ هَمٍّ يَضْعُفُ فِيهِ الْفُؤَادُ، وَتَقِلُّ فِيهِ الْحِيلَةُ، وَيَخْذُلُ فِيهِ الصَّدِيقُ، وَيَشْمَتُ فِيهِ الْعَدُوُّ، أَنْزَلْتُهُ بِكَ، وَشَكَوْتُهُ إلَيْكَ، رَغْبَةً مِنِّي إلَيْكَ عَمَّنْ سِوَاكَ، فَفَرَّجْتَهُ عَنِّي، وَكَشَفْتَهُ، وَكَفَيْتَهُ، فَأَنْتَ وَلِي ُّ كُلِّ نِعْمَةٍ، وَصَاحِبُ كُلِّ حَسَنَةٍ، وَمُنْتَهَى كُلِّ رَغْبَةٍ).

(ومنها) دعاء الإمام السجاد (علیه السلام) إذا عرضت له مهمة أو نزلت به ملمّة وعند الكرب وهو الدعاء السابع في الصحيفة السجادية وأوله (يامن تُحلَّ به عُقد المكاره).

روى السيد أبن طاووس في مهج الدعوات(1) أن اليسع بن حمزة القمي كتب الى الإمام الهادي (علیه السلام) يشكو اليه ما حلَّ به من وزير الخليفة العباسي وما يتخوفه من القتل، فكتب اليه: لا روع عليك ولا بأس فادع الله بهذا الدعاء يخلصّك قريباً ويجعل لك فرجاً، فان آل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين) يدعون به عند نزول البلاء وظهور الأعداء وعند تخوّف الفقر وضيق الصدر، فدعا به في صدر النهار فما مضى شطره حتى أُطِلق وأُكرِم.(ومنها) طلب الاغاثة من الله تعالى والالتجاء إليه بالنداء (يا غياث المستغيثين أغثني)، حكى المرحوم الشيخ احمد الوائلي حادثة في تأثير هذا النداء، أن ملكاً أصبح في يوم حزيناً كئيباً ضيق الصدر ولم يعرف سبباً لذلك

ص: 191


1- مهج الدعوات: 197, عن بحار الأنوار: 92/229

فحاول مساعدوه ومستشاروه أن يفعلوا كل ما يستطيعون لتعديل مزاجه وإدخال السرور عليه وإزالة الغم عنه فلم يفلحوا، فأمرهم أن يعدّوا السفن ليخرج في نزهة بحرية لعل وضعه يتحسن، فهيأوا له ما يحتاج وانطلقوا في رحلة في عرض البحر، سمع نداء استغاثة من إنسان فأمر رجاله بالنزول الى البحر والبحث عنه حتى وجدوه وأنقذوه، وجاؤوا به الى الملك فسأله عن حاله وقال: كنا في سفينة فأضطرب البحر وانكسرت وغرق الركاب إلا أنا كنت أستغيث بالله تعالى وأصيح: (يا غياث المستغيثين أغثني) حتى جئتم فأنقذتموني.

فهذه كلها أبواب للرحمة الإلهية وموجبات لنزول ألطافه، نسأل الله أن يشملنا بها ويغيّر سوء حالنا بحسن حاله ويصلح ما فسد من أمور ديننا ودنيانا، وقد كانت من آثار الابتلاء بفايروس كورونا تعالي الصيحات في الغرب للرجوع الى الله تعالى، وترك الجرائم والموبقات التي أغضبت الرب(1).قال

الله تبارك وتعالى (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا) (الاسراء :67)

محمد اليعقوبي - النجف الاشرف

10/شعبان/1441 ه- - 4 / 4 / 2020 م

ص: 192


1- نشرت مواقع التواصل الاجتماعي خطاباً لرجل يصيح في أحد شوارع نيويورك يطالب أهلها بالتوبة وتغيير سلوكهم الجامح نحو المال والشهوات ويندّد بجرائمهم ويذكر منها إباحة الاجهاض وقتل الجنين في الاسبوع الاربعين.

خطاب المرحلة 627 : المرجع اليعقوبي: اجعلوا تقديم المساعدات نيابة عن الامام المهدي (علیه السلام)

تصدّى كثير من المؤمنين المحبين لفعل الخير الى توزيع المساعدات النقدية والعينية والسلّات الغذائية على المحتاجين والمتعففين وذوي الدخل المحدود، الذين أضرّ بهم حظر التجوال للوقاية من انتشار فيروس كورونا.

وهو عمل إنساني عظيم نسأل الله تعالى أن يتلقاه بالقبول وعظيم الأجر (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) (الكهف:30) (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: 195) (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف: 56)

ويعلن المتطوعون أفراداً ومؤسسات خيرية أن عملهم باسم المرجعية واستجابة لتوجيهاتها وهو سلوك يعبر عن طاعتهم وحسن انتمائهم لمرجعيتهم الرشيدة التي تمدّهم بالدعم المادي والمعنوي.

لكن العمل يكون أقرب إلى الله تعالى وأجلب للبركات لو كان بأسم الإمام المهدي (أرواحنا له الفداء) فإنه مصدر العطاء، ولولا وجوده المبارك لساخت الأرض بأهلها، وبألطافه ننال الخيرات.

ألسنا ندعو بأن يجعلنا الله ممن يسعى في قضاء حوائج الإمام(علیه السلام)، ولا شكّ في ان السعي في قضاء حوائج المؤمنين من مواليه واتباعه، هو من مصاديق السعي في قضاء حوائجه (صلوات الله عليه) لأن هذا العمل من

ص: 193

مسؤولياته، فاحرصوا على ان تكون نيتكم بهذا العمل النيابة عنه في مساعدة مواليه، واذكروا ذلك لمن تعطونه عند إيصال العطاء إليه ليتعلق قلب المسلم بإمامه وولي أمره، وليشعر أن إمامه المنتظر قائم بمسؤوليته تجاهه، وان أي تقصير يحصل فهو من تقصيرنا وقصورنا، وفي هذا العمل نصرة لإمامنا المنتظر (علیه السلام) ودفاع عن قضيته وردّ شبهة عدم الانتفاع بغيبته سلام الله عليه.

محمد اليعقوبي

22 / شعبان/1441 ه-

2020/4/16م

ص: 194

خطاب المرحلة 628 : (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)

قال الله تبارك وتعالى (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ) (1) (النمل:62)

المضطر من به ضُرّ ويعني سوء الحال وهو ما دلّت عليه نفس الآية (وَيَكْشِفُ السُّوءَ) والضرّ مقابل النفع كما أن الضرّاء مقابل السراء والنعماء، وقد يكون الضر مادياً كفقدان المال ونقص البدن بفقدان عضو فيه، أو معنوياً كنقص الإيمان أو العلم أو الأخلاق أو المكانة الاجتماعية. ومن جهة أخرى فإن الضر قد يمسّ الفرد كالأمثلة التي ذكرناها وقد يمس المجتمع كالحروب والأوبئة وفقدان الأمن وتسلّط الأشرار وانهيار الدولة والفوضى والخوف وتخريب الاقتصاد والبطالة وعدم العدالة الاجتماعية ونحو ذلك الذي قد يكون بسبب خارجي كالقهر والإكراه والتهديد أو الإغراء وقد يكون بسبب داخلي كالجوع المؤدي إلى الهلاك، قال تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (المائدة:3) (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاإِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (البقرة:173)، فهذه كلها أشكال للضرّ.

فالآية الكريمة تسأل عمَّن يجيب المضطر المنقطع إذا دعاه وطلب منه

ص: 195


1- خطبتا صلاة عيد الفطر السعيد لسنة 1441 هج- الموافق 2020/5/25، وقد أقام سماحة الشيخ المرجع الصلاة بعدد محدود في مكتبه مراعاة للإجراءات الوقائية من فايروس كورونا.

غير الله تعالى، وهي تقع ضمن سلسلة من الاستفهامات الاستنكارية والإقرارية، وهي تخاطب مراتب عديدة وواسعة ابتداءً من المنكرين لوجود الله تبارك وتعالى إلى المتخذين أنداداً وشركاء له سبحانه ويزعمون أن بيدهم تدبير الخلق إلى الذين يؤمنون بالله تعالى ويشهدون له بالوحدانية إلا أنهم معرضون عنه عاصون له متمردون عليه في غفلة لا يستحضرون وجوده تبارك وتعالى، فتستنطق الآية فطرة كل هؤلاء وتلفت نظرهم إلى هذه الحقيقة التي مهما أنكرها الإنسان بلسانه أو غفل عنها في حياته فإن وجوده وفقره واحتياجه الذاتيين ينطقان بها فالآية تقرّرهم بهذه الحقيقة كمقدمة للإيمان بالله تعالى وأنه وحده مدبّر الأمور، وبنفس الوقت تستنكر كفرهم وشركهم وتمردهم وهم بهذه الحاجة الحقيقية إلى الله تعالى، قال سبحانه: (وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (يونس:12)، وقال تعالى: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً) (الإسراء:67) (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) (الروم:33) (فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةًمِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (الزمر:49) وقال تعالى: (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) (النحل:53) وقد تكرر هذا المعنى كثيراً في القرآن الكريم.

فالإنسان يدرك بفطرته عند وقوعه في الضرّ والبلاء الخانق وتقطّع

ص: 196

الأسباب عنه أن قوة غيبية حكيمة رؤوفة حاضرة عنده ومطّلعة على حاله، وهي قادرة على أن تمدّ يد الرحمة إليه وتنقذه ولا يعجزها شيء وتجيبه إذا طلب منها التدخل لإنقاذه ولا تنتظر من أحد جزاءً ولا شكوراً، هذه الحالة التي يعيشها المسجون في الزنزانة الانفرادية المظلمة تحت التعذيب القاسي لجلاوزة الطواغيت(1)، أو مَن تحطمتبه السفينة التي يركبها وهو في عرض البحر أو من تتعرض الطائرة التي يركبها في أعالي الجوّ إلى عطل يسقطها، أو مَن يعاني من آلام الأمراض الفتاكة وهو يقترب من الموت ونحو ذلك من صور الاضطرار التي أشار إليها دعاء الجوشن الصغير(2).

فالآية الكريمة تثير هذا الشعور العاطفي الوجداني لتقرّب الإنسان إلى الهداية والصلاح، وهو الأسلوب الذي اعتمده المعصومون (سلام الله عليهم)

ص: 197


1- قال المرحوم علي شريعتي في بعض مذكراته: (فعندما ضيّقوا عليّ الخناق وجعلوني وحيداً فريداً، وجعلوا دنياي لا تتعدى عدّة أشبار في عدة أشبار مظلمة وضيقة، وقطعوني عن العالم والعالمين، بعيداً عن الأحياء، وفرّت من خيالي الأسماء والذكريات، كنت أشعر حتى في غياهب الخلوة، وفي الغيبة المطلقة، حيث لم يكن شيء ولم يبق ثمة شيء، كنت أشعر وكأنّي أملك شيئاً، وأن هناك وجوداً ما حتى في تلك الأجواء الغيبية المجرّدة، شعرت في تلك الظروف الخالية من الناصر والمعين، بأن هناك عيناً ترعاني، وتحرسني وأنني أُرى ويُشعَر بي، وأن هناك وجوداً له حضور في خلوتي، وهناك من يسدّ عليَّ خلّتي، وأن هناك ناصراً يبصرني وأنا في تلك الأجواء من غياهب النسيان، ويحقن في شراييني الاستذكار والوجود والحياة والنور، حتى أنني أحياناً أسلّم عليه، وأخجل منه، وأغض طرفي عنه، وأنتبه إلى أعمالي وسلوكي وحركاتي وأفكاري، وأتحبب إليه أحياناً وأنا وحيد في ذلك القبر، يسرّني رضاه عني، فأتباهى وأُسَرُّ، وأشبع أنانيّتي، فأشمخ وأمتلئ زهواً وقوّة وأغدو واضحاً وصالحاً) (أطروحة حياة: 211 عن الأعمال الكاملة لشريعتي: 1/269).
2- مفاتيح الجنان: 106. بحار الأنوار: 48، 219. عيون أخبار الرضا: 1/87، ح13، الباب 7: جلّ من أخبار موسى بن جعفر ((علیهما السلام)).

لإثارة الفطرة السليمة التي تدعو إلى الإيمان بالله تعالى والالتجاء إليه وحده، روي أن رجلاً قال للإمام الصادق (علیه السلام): (يا ابن رسول الله، دلّني على اللّه ما هو فقد أكثر علىّ المجادلون وحيّروني، فقال (علیه السلام): يا عبد اللّه، هل ركبت سفينة قطّ؟ قال: بلى، قال: فهل كُسِرت بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟ قال: بلى، قال: فهل تعلّق قلبك هناك أنّ شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك؟ قال: بلى، قال الصادق (علیه السلام): فذلك الشيء هو اللّه القادر على الإنجاء حين لا منجي وعلى الإغاثة حيث لا مغيث)(1).

وروى في الدر المنثور أن رجلاً سأل رسول الله (صلی الله علیه وآله): إلى مَ ندعو؟ قال (صلی الله علیه و آله): (ادعُ إلى الله وحده الذي إن نزل بك ضرّ فدعوته كشف عنك، والذي إن ضللت بأرض قفر فدعوته رد عليك، والذي إن أصابك سنة فدعوته أنزل لك)(2).

والإنسان المنصف حينما يقرأ هذه الآية الكريمة يشعر بالخجل حقيقة أمام الله تعالى من الجحود والانحطاط الذي وصل إليه البشر بحيث يتوسل الله تبارك وتعالى بهذه الحقائق الواضحة ويثير هذه المشاعر الوجدانية لكي يهديه إلى الإيمان به تعالى هذه الحقيقة التي بيّنها القرآن الكريم في أكثر من آية قبل أن يسأل عنها، قال تعالى: (وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ) (الأنعام:17) (يونس:107).

لذا لا نستغرب من أمير المؤمنين (علیه السلام) إذا ارتعد عجباً واستنكاراً من

ص: 198


1- بحار الأنوار: 3/41، ح 16 عن تفسير العسكري: 21، معاني الأخبار: 4 باب 5، ح5.
2- تفسير ابن كثير: 3/382.

جحود الناس وتمرّدهم حين سماعه هذه الآية والآيات التي معها (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) (النمل:60) والتي بعدها وكلها تنتهي بالسؤال (أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ)، روى ابن شهرآشوب عن أنس بن مالك قال: (لما نزلت الآيات الخمس في طس: (أَمَّنْ جَعَلَ الأرضَ قَرَاراً) انتفض عليّ (علیه السلام) انتفاض العصفور، فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما لك يا علي؟ قال: عجبت -يا رسول الله- من كفرهم وحِلم الله تعالىعنهم. فمسحه رسول الله (صلی الله علیه و آله) بيده ثم قال: أبشِر فإنه لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق، ولولا أنت لم يُعرف حزب الله)(1)، وسيأتي بيان الوجه في الإجابة بهذه البشرى.

وإنما ذكرت الآية (المُضطَرَّ) لأن الإنسان ينقطع في حال الاضطرار وتقطّع كل الأسباب والوسائل إلا الله تبارك وتعالى فتساعده هذه الحالة على تحقيق شرط إجابة الدعاء وهو التوجه الخالص الصادق إلى مَن بيده مقاليد الأمور فحينئذٍ يتطابق لسان مقاله بالدعاء مع حاله المتوجه فطرياً إلى الله تعالى، أي يتطابق الطلب التكويني بالفطرة مع الطلب التشريعي وهو التوجه بالدعاء حتى تتحقق الإجابة بإذن الله تعالى.

فاستجابة الدعاء وكشف الضر والسوء يتطلب عدة أمور:

1- الانقطاع إلى الله تعالى والتوجه بصدق إليه سبحانه، وتساعد حالة الاضطرار على تحقيق هذه الحالة.

ص: 199


1- البرهان في تفسير القرآن: 7/172، ح 61 عن مناقب ابن شهرآشوب: 2/125.

2- صدور الدعاء والطلب (إذَا دَعَاهُ) ليستجاب له، وأن يكون الطلب متوجهاً إلى الله تعالى دون سواه (دَعاهُ)، ولكن هذا لا يلزم منه أن الله تعالى لا يعطي إلا بطلب فنعمه ابتداء وإحسانه تفضّل (يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنناً منه ورحمة)(1) فالجملة (إذَادَعَاهُ) تبيّن المقتضي لا العلة التامة، ويمكن أن لا تكون شرطية لها مفهوم أصلاً وإنما هي مسوقة لبيان تحقق الموضوع على تعبير الأصوليين.

3- أن يكون الطلب لجلب الخير ودفع الضر والسوء (وَيَكشِفُ السُوءَ) أي لما فيه مصلحة العبد، فلو دعا على خلاف مصلحته فإنه لا يستجاب له.

فالتفصيل المذكور في هذه الآية يبيّن ما أجملته الآيات الأخرى من شروط الإجابة كقوله تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر:60) وقوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) (البقرة:186).

إن الاضطرار حالة تقرّب المسافات في طريق التكامل وتؤهل العبد لمقامات عليا إن أحسن اغتنام هذه الفرصة، فالوقوع في الضرّ والبلاء وإن كان فيه مشقة على النفس وشعور بالضيق، إلا أن حالة الاضطرار الناتجة عنه نعمة على العبد، تعيده إلى الله تبارك وتعالى وتنقذه من الغفلة التي يقع فيها بسبب انهماكه في الأمور الدنيوية وهذا وجه لفهم ما ورد في حديث عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (الاضطرار عين الدين)(2)، لأن الإنسان يصل بالاضطرار

ص: 200


1- من الدعاء المعروف في شهر رجب وأوله: (يا من أرجوه لكل خير).
2- جامع السعادات: 3/293، وأورده (الفرقان في تفسير القرآن: 21/274 عن تفسير بيان السعادة: 3/177).

إلى الحقيقة.

ولو كان الإنسان ذا بصيرة لعلم أنه في كل آنٍ من آناته ومع كل نفس هو في حالة اضطرار، لفقره الذاتي واحتياجه في كل شيء ولكنه لاعتياده على النعم فهو يغفل عن هذه الحقيقة ولا يلتفت إليها إلا إذا وقع في الضر (وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ) (يونس:12).

ومما ذكرناه من أن بعض الضرّ والسوء اجتماعي يحيق بالأمة كلها يُعرف أحد وجوه المناسبة بين هذا الجزء من الآية وما يليه من قوله تعالى: (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ) فإنه تبارك وتعالى لا يخلّصكم فقط من الضرّ الاجتماعي كتسلّط الأشرار وفقدان الأمن والعدالة الاجتماعية وانتشار الفوضى والظلم والفساد والخوف وانعدام فرص الحياة الحرة الكريمة، وإنما يجعلكم أنتم -الثلة الصالحة- خلفاء الأرض وحكّامها ووارثيها كما خلّص بني إسرائيل من طغيان فرعون وأورثهم أرضهم وديارهم.

وهذا الاستخلاف خاص يضاف إلى الاستخلاف العام وهو أصل جعل الإنسان خليفة الله في أرضه (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة:30) وتسخير كل ما في الأرض من موارد وإمكانيات تحت تصرّف الإنسان وفي خدمته (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الجاثية:13) فكيف يغفل الإنسان عن ربِّه الذي أغدق عليه كل تلك النعم. ولذايتساءل في نهاية الآية بتعجّب واستنكار من الغفلة عن الله تعالى الذي أفاض كل هذه النعم، قال تعالى: (أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا

ص: 201

تَذَكَّرُونَ) (النمل:62)).

ولعل هذا الوجه لارتباط السياق أقرب من غيره(1) لظهور الآية في الاستخلاف الخاص الذي وعد به تبارك وتعالى، قال سبحانه: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْوَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:55).

ومما يقرّب هذا الوجه أنه أكثر انطباقاً على قضية الإمام المهدي (علیه السلام) الذي فُسِّرت به الآية كما سيأتي.

ص: 202


1- كالذي ذكره السيد الطباطبائي (قدس سره) في الميزان، قال: (الذي يعطيه السياق أن يكون المراد بالخلافة الخلافة الأرضية التي جعلها الله للإنسان يتصرف بها في الأرض وما فيها من الخليقة كيف يشاء كما قال تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) (البقرة: 30). وذلك أن تصرفاته التي تصرف بها في الأرض وما فيها بخلافته أمور مرتبطة بحياته متعلقة بمعاشه فالسوء الذي يوقعه موقع الاضطرار ويسأل الله كشفه لا محالة شيء من الأشياء التي تمنعه التصرف أو بعض التصرف فيها وتغلق عليه باب الحياة والبقاء وما يتعلق بذلك أو بعض أبوابها ففي كشف السوء عنه تتميم لخلافته. ويتضح هذا المعنى مزيد اتضاح لو حمل الدعاء والمسألة في قوله: (إذا دعاه) على الأعم من الدعاء اللساني كما هو الظاهر من قوله تعالى: (وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) (إبراهيم: 34)، وقوله: (يسأله من في السماوات والأرض) (الرحمن: 29)، إذ يكون على هذا جميع ما أوتي الإنسان ورزقه من التصرفات من مصاديق كشف السوء عن المضطر المحتاج إثر دعائه فجعله خليفة يتبع إجابة دعائه وكشف السوء الذي اضطره عنه) (الميزان في تفسير القرآن: 15/385). وملخّص ما ذكره (قدس سره) أن كشف الضرّ والسوء فيه معالجة لنقصه واستعادة لقواه التي تمكّنه من ممارسة وظيفة الخلافة في الأرض ويكون زوالها بمثابة إزالة الموانع عن ممارسة الإنسان وظيفته في خلافة الأرض وهو معنى خلاف ظاهر الجعل.

مضافاً إلى ما سنذكره من وجه انتفاضة أمير المؤمنين (علیه السلام) حين سماعه قوله تعالى: (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ) فهذه قرائن ثلاث تقرّب ما ذكرناه.

إن خلافة الله تعالى في الأرض التي وعد عباد الله الصالحون الواعون الرساليون بالتمهيد لها وممارستها وحمل لواء التوحيد مهمة عظيمة ومسؤولية شاقة يستشعرها أهلها روى الشيخان المفيد في أماليه والشيخ الطوسي عنه في أماليه بالسند عن عمران بن الحصين قال: (كنت أنا وعمر بن الخطاب جالسين عند النبي (صلی الله علیه و آله)وعلي(علیه السلام) جالس إلى جنبه إذ قرأ رسول الله (صلی الله علیه و آله): (أمن يجيب المضطر لما نزلت الآيات الخمس في طس: (أَمَّنْ جَعَلَ الأرضَ قَرَاراً) انتفض عليّ (علیه السلام) انتفاض العصفور، فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما لك يا علي؟ قال: عجبت -يا رسول الله- من كفرهم وحِلم الله تعالى عنهم. فمسحه رسول الله (صلی الله علیه و آله)بيده ثم قال: أبشِر فإنه لا يبغضكمؤمن ولا يحبك منافق)(1).

وعن بريدة قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) إلى جنبه: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ)، قال: فانتفض علي (علیه السلام) انتفاضة العصفور، فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): لِمَ تجزع، يا علي؟ فقال: كيف لا نجزع وأنت تقول:(وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ)؟ قال: لا تجزع، فوالله لا يبغضُك مؤمن ولا يحبك كافر)(2).

وقيل في وجه هذا الجواب أنه لطمأنة الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وأنه

ص: 203


1- البرهان في تفسير القرآن: 7/173، ح4 عن أمالي المفيد: 307، ح5 وأمالي الطوسي: 1/75.
2- المصدر نفسه، ح5 عن تأويل الآيات: 1/401، ح3.

سيقوم بمسؤولية الخلافة على أحسن وجه (حيث ضمنت عدله في الحكم لحد (لا يبغضك مؤمن ولا يحبّك منافق) فإن الحكم غير العادل يبغضه المؤمن ويحبّه المنافق)(1).

فانتفاضة الإمام (علیه السلام) من جهتين: حين سمع قوله تعالى: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ) لإصرارهم على الكفر والعصيان مع طول حلمه تعالى، وحين سمع قوله تعالى: (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ) لثقل مسؤولية هذه الخلافة.

لذا كان الإمام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف)المصداق الأكمل للآية الكريمة بحسب الروايات الشريفة الآتية، وفي دعاء الندبة (أين المضطر الذي يجاب إذا دعى)(2) وذلك لأنه:

1- من (التامّين في معرفة الله)(3) فهو مستحضر لحقيقة الاضطرار والانقطاع إلى الله تعالى دائماً وليس في أوقات الضيق والشدة فقط.

2- ولأنه (علیه السلام) واقع في أوسع ضرّ وألم وأذى بسبب ما يطّلع عليه من عصيان وتمرّد الناس وانحرافهم عن الحق والهدى حتى من المحسوبين عليه، ولانتشار الظلم والفساد في البر والبحر، ولتألمه لما تعانيه البشرية عموماً وأتباعه ومواليه خصوصاً من الظلم والعدوان والحرمان.

3- ولأنه بقية الله وخليفته في أرضه الذي وعده الله بالاستخلاف والتمكين في الأرض ليقيم دولة الحق والعدل، ويقضي على الظلم والفساد

ص: 204


1- الفرقان في تفسير القرآن: 21/279، الهامش.
2- مفاتيح الجنان: 536.
3- من الزيارة الجامعة الكبيرة.

والجور.

روي عن الإمام الباقر (علیه السلام) أنه قال في حديث: (والله لكأني أنظر إليه وقد أسند ظهره إلى الحجر، فينشد الله حقه، ثم يقول: يا أيها الناس: مَن يحاجّني في الله، فأنا أولى الناس بالله، أيها الناس: من يحاجّني في آدم فأنا أولى الناس بآدم، أيها الناس من يحاجّني في نوح فأنا أولى الناس بنوح، أيها الناس: من يحاجّني في إبراهيم فأنا أولىالناس بإبراهيم، أيها الناس من يحاجّني في موسى فأنا أولى الناس بموسى، أيها الناس من يحاجّني بعيسى فأنا أولى الناس بعيسى، أيها الناس من يحاجّني بمحمد (صلی الله علیه و آله) فأنا أولى الناس بمحمد (صلی الله علیه و آله)، أيها الناس من يحاجني بكتاب الله فأنا أولى الناس بكتاب الله. ثم ينتهي إلى المقام فيصلّي عنده ركعتين). ثم قال أبو جعفر (علیه السلام): وهو المضطر الذي يقول الله فيه: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ) فيه نزلت وله)(1).

وروي عن الإمام الصادق (علیه السلام) قوله: (إن القائم (علیه السلام) إذا خرج دخل المسجد الحرام فيستقبل القبلة ويجعل ظهره إلى المقام، ثم يصلي ركعتين، ثم يقوم فيقول: يا أيها الناس، أنا أولى الناس بآدم، يا أيها الناس، أنا أولى الناس بإبراهيم، يا أيها الناس، أنا أولى الناس بإسماعيل، يا أيها الناس، أنا أولى الناس بمحمد (صلی الله علیه و آله)، ثم يرفع يديه إلى السماء ويدعو ويتضرع حتى يقع على وجهه، وهو قوله عز وجل: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ

ص: 205


1- كتاب الغيبة للنعماني: 181، ح 30.

وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ)(1).

وإذا عشنا بصدق معنى الاضطرار لظهور الإمام (علیه السلام)وإقامة دولته المباركة ودعونا بتعجيل ظهور الإمام (علیه السلام) فإن الآية المباركة ستجري حتماً (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) (الروم:4).

إن كلمات المعصومين (علیهم السلام) وأدعيتهم تفوح بعطر الاضطرار والانقطاع إلى الله تبارك وتعالى عن المخلوقين ومن ذلك ما روي من دعاء النبي (صلی الله علیه و آله) في يوم بدر حينما واجه المشركين الذين يفوقونه أضعافاً بالعدد والعدة ودعى به الإمام الحسين (علیه السلام) في يوم عاشوراء (اللَهُمَّ أَنْتَ ثِقَتِي فِي كُلِّ كَرْبٍ، وَأَنْتَ رَجَائِي فِي كُلِّ شِدَّةٍ، وَأَنْتَ لِي فِي كُلِّ أَمْرٍ نَزَلَ بِ-ي ثِقَةٌ وَعُدَّةٌ. كَمْ مِنْ هَمٍّ يَضْعُفُ فِيهِ الْفُؤَادُ، وَتَقِلُّ فِيهِ الْحِيلَةُ، وَيَخْذُلُ فِيهِ الصَّدِيقُ، وَيَشْمَتُ فِيهِ الْعَدُوُّ، أَنْزَلْتُهُ بِكَ، وَشَكَوْتُهُ إلَيْكَ، رَغْبَةً مِنِّي إلَيْكَ عَمَّنْ سِوَاكَ، فَفَرَّجْتَهُ عَنِّي، وَكَشَفْتَهُ، وَكَفَيْتَهُ. فَأَنْتَ وَلِي ُّ كُلِّ نِعْمَةٍ، وَصَاحِبُ كُلِّ حَسَنَةٍ، وَمُنْتَهَي كُلِّ رَغْبَةً)(2).

ودعاء الإمام السجاد (علیه السلام) (يا من تحَلّ به عقد المكاره) الذي كان يدعو به أئمة أهل البيت (علیهم السلام)، روى السيد ابن طاووس في مهج الدعوات أن اليسع بن حمزة القمي كتب إلى الإمام الهادي (علیه السلام) يشكو إليه ما حلّ به من وزير الخليفة العباسي وما يتخوفه من القتل، فكتب إليه: لا روعٌ عليك ولا بأس فادعُ بهذا الدعاء يخلّصك قريباً ويجعل لك فرجاً، فإن آل محمد (صلوات الله

ص: 206


1- تفسير البرهان: 7/173-174.
2- بحار الأنوار: 45/4، ورواه الكليني في الكافي: 2/579، باختلاف يسير في الألفاظ.

عليهم أجمعين) يدعون به عند نزول البلاء وظهور الأعداء وعند تخوّف الفقر وضيق الصدر، فدعى به في صدر النهار فما مضى شطره حتى أطلِقَ وأُكرِم(1).

ودعاء الإمام الكاظم (علیه السلام) وهو يعاني أشد أنواع العذاب النفسي والجسدي في الطامورة(2) الظلماء حيث لا يتميز الليل من النهار في حبس هارون العباسي وهو يناجي ربّه (يا سيدي نجني من حبس هارون، وخلصني من يده، يا مخلص الشجر من بين رمل وطين وماء، ويا مخلص اللبن من بين فرث ودم، ويا مخلص الولد من بين مشيمة ورحم، ويا مخلص النار من بين الحديد والحجر، ويا مخلص الروح من بين الأحشاء والأمعاء، خلصني من يدي هارون)(3).

ومن نداءات الاستغاثة عند الاضطرار التي لا يُخذل الداعي بها (يا غياث المستغيثين أغثني)، حكى المرحوم الشيخ أحمد الوائلي حادثة في تأثير هذا النداء، أن ملكاً أصبح في يوم حزيناً كئيباً ضيّق الصدر ولم يعرف سبباً لذلك فحاول مساعدوه ومستشاروه أن يفعلوا كل ما يستطيعون لتعديل مزاجه وإدخال السرور عليه وإزالة الغم عنه فلميفلحوا، فأمرهم أن يعدّوا السفن ليخرج في نزهة بَحرية لعل وضعه يتحسّن، فهيأوا له ما يحتاج وانطلقوا في رحلة في عرض البحر، فسمع نداء استغاثة من إنسان فأمر رجاله بالنزول إلى

ص: 207


1- مهج الدعوات: 197, عن بحار الأنوار: 92/229
2- كان بعض السجون التي حُبس (علیه السلام) فيها على هذا الحال كما ورد في زيارته (علیه السلام) والصلاة عليه التي أوردها السيد ابن طاووس في مصباح الزائر (اللهم صلِّ ... والمعذَّب في قعر السجون وظُلَمِ المطامير) (بحار الأنوار:99/17).
3- بحار الأنوار: 48/219 عن عيون أخبار الرضا: 1/193.

البحر والبحث عنه حتى وجدوه وأنقذوه، وجاؤوا به إلى الملك فسأله عن حاله وقال: كنّا في سفينة فاضطرب البحر وانكسرت وغرق الركاب إلا أنا كنت أستغيث بالله تعالى وأصيح: (يا غياث المستغيثين أغثني) حتى جئتم فأنقذتموني.

ص: 208

خطاب المرحلة 629 : الحراك العلمي للحوزة الشريفة في ظل إجراءات الوقاية

نشكر حضرات الأساتذة الكرام في الحوزة العلمية الشريفة على عودتهم(1) إلى التدريس والقاء البحوث عبر منصات الكترونية مع المراعاة الكاملة للإجراءات الوقائية التي وجّهت بها اللجان المختصة لمكافحة فايروس كورونا.

ان هذه العودة المباركة فيها تلبية لدعوة الله تبارك وتعالى (فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ) (البقرة:148) وهي صفة النخبة من عباده الصالحين (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) (الأنبياء:90) وموافقة للحث الوارد في قوله تعالى (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران:133) ولا شك أن طلب العلم وبذله لمن يستحقه من المصاديق الواضحة للخيرات ومن أهم أسباب المغفرة ونيل الدرجات الرفيعة عند الله تبارك وتعالى.

لقد أكّد الخبراء والمختصون بدراسة هذه الجائحة أنها قد تستمر لمدة طويلة إلا ما رحم ربّي لذا لا محيص عن التعايش وتكييف الحياةعلى وفق ذلك مع الالتزام الكامل بإجراءات الوقاية لوجوبها شرعاً وعقلاً ولا يمكن

ص: 209


1- بادر سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) إلى القاء محاضرات البحث الخارج بعد انتهاء عطلة شهر رمضان وعيد الفطر السعيد بحضور عدد محدود من الطلبة وبث الدروس على المواقع الالكترونية ليتيسر للطلبة متابعتها والاستفادة منها.

تعطيل الحياة إلى اجل غير منظور.

لذا ندعو الأساتذة الآخرين وإدارات المدارس الدينية الى وضع الخطط الكفيلة باستمرار تحصيل الطلبة ومتابعتهم واجراء الاختبارات الكاشفة عن جدِّهم في التحصيل ككتابة البحوث او الامتحانات عبر التواصل الالكتروني أو أي شكل آخر بحسب المراحل الدراسية.

كما ندعو الطلبة الى ان يكونوا حريصين على مستقبلهم وأوقاتهم الثمينة وأن يستشعروا مسؤوليتهم بالانتماء الى هذا الكيان الشريف وإرث رسالات الأنبياء والائمة (صلوات الله عليهم اجمعين)، واغتنام العمر في ما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم، وقد بذلت المرجعية الدينية جهداً في إيصال ما يعينهم على ذلك مادياً ومعنوياً الى مدنهم، والله ولي التوفيق.

محمد اليعقوبي - النجف الاشرف

24/شوال/1441 - 2020/6/17

ص: 210

خطاب المرحلة 630 : (فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) (الفرقان: 70)

بسم الله الرحمن الرحيم

(فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) (1) (الفرقان: 70)

قال الله تبارك وتعالى (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) (الفرقان:70).

يحظى التائب بصدق الذي يصحّح إيمانه ويقلع عن الذنوب ويعود إلى الاستقامة ويقوم بالأعمال الصالحة بعدة امتيازات وحوافز تشجّع العصاة والمنحرفين على التوبة والرجوع الى الله تعالى والسير على الطريق الصحيح، وتزيد من محبة العبد لله تعالى وتعميق الأمل بكرمه وهو بحد ذاته مانع قوي عن الوقوع في المعاصي، منها:

1- إنه يحظى بمحبة الله تعالى، قال تعالى (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة:222) وفي الحديث الشريف (من أحبّه الله لم يعذّبه)(2).

2- دعاء الملائكة وحملة العرش لهم ولذويهم ، قال تعالى (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ

ص: 211


1- محاضرة القيت يوم الجمعة 26 /شوال/1441 الموافق 2020/6/19
2- الكافي:2/315 ح 5

آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (غافر:7-9).

3- تبديل السيئات الى حسنات الذي ذكرته الآية محل البحث كنتيجة تفرعت - بدلالة الفاء - عن توبتهم وصلاحهم وصدق إيمانهم.

وظاهرة تبديل السيئات إلى حسنات موجودة بالاتجاه المعاكس أيضاً أي تبديل الحسنات إلى سيئات وهو المعروف بحبط الأعمال، قال تعالى (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ) (الحجرات:2) وقال تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) (محمد:9) وغيرها كثير.

وفي الحديث النبوي الشريف (أتدرون من المفلس: إن المفلس من امتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فان فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)(1).

والسيئات يمكن ان يراد بها طيف واسع فتشمل حتى حالاتالسوء والضر الماديين بقرينة قوله تعالى( أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) (النمل:62) فتكون الحسنة بمعنى النعمة والسراء والعافية كما في قوله تعالى (ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ) (الأعراف:95) (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ

ص: 212


1- كنز العمال: 4/127 ح 10327

قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) (الأعراف:131).

والسيئات مطلقة فتشمل الصغائر والكبائر فلا يقال ان المراد بها الصغائر فقط بقرينة المقابلة في قوله تعالى (إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) (النساء:31) لأن هذا الاختصاص عرف بالقرينة اما في الآية محل البحث فأن السيئات مطلقة.

وبالعودة الى بيان معنى التبديل فأن الظاهر من الآية -- كما افاد بعض المفسرين -- ان هؤلاء (كما بدلوا سيئاتهم حسنات كذلك يبدّل الله سيئاتهم حسنات، فسيئة اشراكهم بحسنة التوحيد، وقتلهم النفس بحسنة قتال المشركين، وزناهم بحسنة حل النكاح)(1) وذكر تبعاً للسيد الطباطبائي (قده) شاهداً على ذلك من نفس الآية لأنها تقول (يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) (لا بحسنات فسيئاتهم هي التي تتبدل بحسنات مكانها كما بيّنا، لا أن الله يكتب بدل سيئاتهم السابقة حسنات وهم لم يعملوها)ويمكن مناقشة هذا الوجه بأنه يمكن به تصحيح الأفعال الوجودية كالأمثلة المذكورة اما العدمية كترك الصلاة أو الصوم فكيف تصبح أفعالاً حسنة لاحقاً.

وأن التبديل بهذا الشكل حصل منهم فأنهم تركوا الشرك وتابوا واعتنقوا التوحيد وهم الذين تركوا قتل النفس المحترمة وتوجهوا الى قتال المشركين وهم الذين تركوا الزنا وتوجهوا الى الاحصان والعفاف وهكذا فاين التبديل من الله تعالى ويجيب (قده) عن الاشكال بقوله (ولماذا (يبدّل الله) وصاحب

ص: 213


1- الفرقان في تفسير القرآن: 21/53

السيئة هو الذي بدَّل؟ لأن الله هو الذي يقبل توبته، وهو الذي يقرّ في قلبه التوحيد، وهو الذي يوفقه لحسنات على غرار التوحيد).

أقول: هذا خلاف الظاهر لذا فإن هذا التفسير يبقى محتاجاً الى إيضاح فأنه يصعب قبوله لأول وهلة لما قيل من ان الفعل لا ينقلب عمّا وقع عليه ونحو ذلك فكيف يحصل هذا التبديل في الفعل؟

وقد قرّب السيد الطباطبائي (قده) تفسيراً للآية يدفع هذا الاشكال بما ملخصه: ان أفعال الانسان اذا لوحظت كحركات خاصة اي بلحاظ ذات الفعل الخارجي الصادر من فاعله فانها مشتركة بين السيئة والحسنة ولا تتميز فيها الحسنة عن السيئة كحركة الجماع المشتركة بين الزنا والنكاح وكأكل المال المشترك بين الغصب أو باذن صاحبه وانما يتصف بكونه حسنة أو سيئة بلحاظ موافقته أمر الله تعالى ومخالفته وهوالذي يُسجَّل على العبد ويحاسب عليه أما ذات الأفعال فانها لا تتصف بالحسنة أو السيئة وهي مجموعة حركات فانية ومنقضية وآثارها هي التي تبقى وهي التي تتصف بهاتين الصفتين، وهذه الآثار السيئة التي يتبعها العقاب اعني السيئات لازمة للإنسان حتى يؤخذ بها يوم تبلى السرائر.

وصدور هذه المخالفة لأمر الله تعالى نابعة من شقاوة وخبث في ذات الفاعل فاذا تبدلت الى ذات سعيدة وطيبة وتطهرت بالتوبة، أمكن ان تتبدل آثارها اللازمة التي كانت سيئات قبل ذلك فتناسب الاثار للذات بمغفرة من الله ورحمة وكان الله غفوراً رحيماً(1).

ص: 214


1- الميزان في تفسير القرآن: 15/241

وبتعبير آخر: ان الذي يتبدل ليس نفس الأفعال التي صدرت وانقضت وإنما آثارها السيئة التي انطبعت في نفس الانسان وباطنه، فاذا تاب وآمن وعمل صالحاً يزيل الله تعالى تلك الآثار السيئة من باطنه ويطبعه بآثار طيبة خيّرة فالتبديل يحصل في آثار الأفعال وليس في ذواتها.

لكن هذا التفسير رغم لطافته وقربه يواجه عدة إشكالات:

1- ان مما تسالم عليه المتشرعة ان نفس الأفعال توصف بالحسنة والسيئة، لأن اتصاف الفعل بهذه الصفة أو تلك لا يلحظ فيه ذات الفعل المجرد عن موافقته لأمر الله تعالى ونهيه لذا فالزنا غير النكاح في نظرالمتشرعة بهذا اللحاظ .

2- ان الآية صريحة بأن السيئة هي التي تتبدل إلى الحسنة وليس آثارها الباطنية من شقاوة وخبث الى سعادة وطيبة وقد صرّح (قده) بذلك أيضاً في مفاد الآية إذ قال أي (أن كل سيئة منهم نفسها تتبدل حسنة)(1).

3- أنه يدلّ على أن هذا الذات الإنسانية بعد أن تحوّلت إلى ذات طيبة فأن الآثار التي ستصدر منها تكون طيبة بعد هذا التغيّر، والآية صريحة بأن الأفعال السابقة على تغيّره تتبدل.

ويمكن ان نصّور كلامه (قده) بما يدفع هذه النقطة بأنه يريد ان الصور السيئة للأفعال التي انطبعت بها ذاته والتي سيعاقب عليه او بها على مبنى تجسّم الأعمال فأنها ستتحول الى صور حسنة في باطنه وسيثاب عليها او بها فهذه النقطة مردودة.

ص: 215


1- الميزان في تفسير القرآن: 15/241

وعلى أي حال فإن هذا التفسير بقي مثيراً للاستفهام لكثيرين إذ كيف يمكن أن يبدل الفعل الذي وقع حراماً كترك الصلاة والصوم والزنا وشرب الخمر وظلم الآخرين وغير ذلك الى حسنات، لذا ذكروا وجوهاً أخرى يستفاد بعضها من الروايات الشريفة، ومنها:

1- ان التبديل يحدثه الله تعالى في سلوك العبد التائب بتوفيق الله تعالى، فمن كان مشركاً وتاب يوفقه الله تعالى للتوحيد وإخلاص العمل1- لله تبارك وتعالى، ومن زنا يوفقه الله تعالى للسلوك العفيف الطاهر ويحصّنه بالزواج، ومن كان ظالماً للناس يوفقه لخدمتهم وقضاء حوائجهم وإدخال السرور عليهم، وإن هذه السيئات السابقة ستكون ماثلة في ضميره مما يشعره بالندم والأسف فيدفعه إلى مزيد من عمل الحسنات لمحوها وتغطيتها وإزالة تأثيرها وقد وردت أحاديث كثيرة في الحث على استذكار الذنوب لأجل هذا الغرض.

2- ان التبديل يحصل يوم القيامة بأن يضع الله تعالى للعبد التائب في كتابه بدل سيئاته حسنات ولا يكتفي بمحو السيئات ومغفرة الذنوب، وهذا ليس بعيداً عن كرم الله تعالى وفضله وسعة رحمته وهو معنى قريب لما في آية أخرى قال تعالى (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّ-يِّئَاتِ) (هود:114) وفي رواية البرقي في المحاسن بسنده عن الامام الصادق (علیه السلام) قال (يؤتى بالمؤمن المذنب يوم القيامة حتى يوقف بين يدي الله عزوجل، فيكون هو الذي يلي حسابه، فيوقفه على سيئاته، شيئاً فشيئاً، فيقول: عملتَ كذا وكذا في يوم كذا في ساعة كذا، فيقول: أعرف يا ربِّ - قال (علیه السلام)- حتى يوقفه على سيئاته كلها ، كل ذلك

ص: 216

يقول: أعرف، فيقول: سترتها عليك في الدنيا، واغفرها لك اليوم ، أبدلوها لعبدي حسنات - قال (علیه السلام) - فترفع صحيفته للناس (وفي رواية محمد بن مسلم عن الامام الباقر (علیه السلام) : (قال الله عزوجل للكتبة: بدّلوها حسنات وأظهروها للناس) ، فيقولون: سبحان1- الله، أما كانت لهذا العبد ولا سيئة واحدة ، فهو قول الله عزوجل (فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ))(1).

وروى مثلها الشيخ في الامالي وكتاب الحسين بن سعيد في الزهد عن الامام الباقر (علیه السلام) وفيها ان سبب تولي الله تعالى حساب المؤمن بنفسه لكي (لا يطلع على ذلك ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً) (ولا يطلع على حسابه أحداً من الناس)(2) وفي ذيل مثل هذه الرواية عن ابي ذر عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال (ورأيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ضحك حتى بدت نواجذه ثم تلى (فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ))(3).

3- إن هذا التبديل بلحاظ الدوافع والميول والمحركات نحو الذنوب المؤثرة على نفس الانسان وباطنه وما يحصل بسببها من الخبث والظلمانية وسوء السريرة والميل الى الشهوات ونفور من الطاعات فيبدل الله تعالى باطن التائب إلى نقاء وصفاء وميل إلى الطاعة وتقزّز من المعصية ونحو ذلك.

4- ويمكن ان اضيف وجهاً آخر مبنياً على الحديث (وإنما الأعمال

ص: 217


1- المحاسن: 170 ح 136
2- الزهد: 91/ح 245 ، امالي الشيخ الطوسي: 1/70
3- تفسير نور الثقلين: 4/33 ، البرهان: 7/120 ح 13 عن صحيح مسلم.

بخواتيهما)(1) فالإنسان العاصي لو مات من دون توبة فانهستكون عاقبته سيئة فاذا تاب وندم والتزم بالأعمال الصالحة فانه سيسجَّل ضمن الصالحين الطائعين ويجازى على أساس هذه الحالة الجديدة التي انتقل اليها ليس فقط من حين التغيير وإنما في كل حياته، فاذا كان تاركاً للصلاة ثم تاب والتزم بها في اوقاتها وفي المسجد مثلاً فانه يكتب في كل حياته حتى ما قبل التغيير على هذه الحالة الجديدة ، واذا كان زانياً ثم تاب وتزوج وحصَّن نفسه كتب في جميع حياته عفيفاً محصناً وممن عمل بهذه السنة الشريفة ، وهكذا. فالتبديل يكون بلحاظ ما سُجِّل على العبد من صفة افعاله، فالفعل الذي كان موصوفاً بأنه سيئة يزال ويُكفّر ويكتب بدلاً عنه الفعل الحسن الجديد وهو لا يخرج عن ظاهر الآية من تبديل نفس السيئات حسنات، وان تذييل الآية بقوله تعالى (وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) يدل على ذلك لأنه جعل التبديل من آثار المغفرة.

ومثاله الفقهي ما يحصل من تحوِّل الفعل المحرم إلى محلل بالإجازة اللاحقة، كمن أخذ مال غيره بغير رضاه فأنه فعل محرّم ولكن صاحب المال اذا أجاز الفعل لاحقاً صحّ وانتفت الحرمة وترتبت على البيع آثاره الصحيحة من حين وقوعه وهكذا وهذا الحكم الفقهي نقض على ما قالوه من ان الفعل لا ينقلب عما وقع عليه.

ولتقريب الفكرة نورد مثالاً من حياتنا وهو ما يحصل في الامتحانات المدرسية فقد يحصل الطلبة على نتائج متردية في امتحانٍ مافيقول لهم الأستاذ انه سيعيد الامتحان فمن جاء بدرجة ناجحة كتبها له والغى السابقة تشجيعاً لهم

ص: 218


1- بحار الأنوار: 9/330

فيحسب لهم الدرجة العالية وكأنها درجة الامتحانين ولا يخرج المعدل لهما وهذا ليس كثيراً على كرم رب العالمين ولا الأساتذة في المدارس أوسع منه تعالى فضلاً ورحمة بالعباد.

وينبغي الإشارة الى ان الروايات ذكرت موجبات عديدة لهذا التبديل.

(ومنها) ما في روضة الواعظين عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال (ما جلس قوم يذكرون الله الا نادى بهم منادٍ من السماء قوموا فقد بدّل الله سيئاتكم حسنات وغفر لكم جميعاً)(1).

(ومنها) ما روي عن الامام الرضا (علیه السلام) قال (قيل يا رسول الله (صلی الله علیه و آله) : هلك فلان، يعمل من الذنوب كيت وكيت ، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : بل قد نجا ولا يختم الله تعالى عمله إلا بالحسنى ، وسيمحو الله عنه السيئات ، ويبدلها له حسنات إنه كان مرة يمر في طريق عرض له مؤمن قد انكشف عورته وهو لا يشعر فسترها عليه ولم يخبره بها مخافة أن يخجل ، ثم إن ذلك المؤمن عرفه في مهواه فقال له : أجزل الله لك الثواب ، وأكرم لك المآب ، ولا ناقشك الحساب فاستجاب الله له فيه ، فهذا العبد لا يختمله إلا بخير بدعاء ذلك المؤمن ، فاتصل قول رسول الله (صلی الله علیه و آله) بهذا الرجل فتاب وأناب وأقبل إلى طاعة الله عزوجل فلم يأت عليه سبعة أيام حتى اغير على سرح المدينة فوجه رسول الله (صلی الله علیه و آله) في أثرهم جماعة ذلك الرجل أحدهم فاستشهد فيهم)(2).

(ومنها) ما صرحت به جملة من الروايات من ان الايمان والعمل الصالح

ص: 219


1- روضة الواعظين للفتال النيسابوري: 391
2- بحار الأنوار: 5/155

الموجبين لتبديل السيئات حسنات بحسب الآية الكريمة هما المتضمنان لولاية أهل البيت (علیهم السلام) والالتزام بهديهم وسنتهم ففي رواية الكافي بسنده عن الحلبي عن الامام الصادق (علیه السلام) قال (إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: إن رب وعدني في شيعة علي خصلة ، قيل: يا رسول الله وما هي؟ قال: المغفرة لمن آمن منهم، وإن الله لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، ولهم تبدل السيئات حسنات)(1).

وروى الشيخ ابن قولويه في كامل الزيارات بسنده عن صفوان الجمال عن الامام الصادق (علیه السلام) رواية في فضل زوار الامام الحسين (علیه السلام) إلى ان قال (فاذا ارادت الحفظة أن تكتب على زائر الحسين (علیه السلام) سيئة، قالت الملائكة للحفظة : كُفيّ فتكف فاذا عمل حسنة ، قالت لها: اكتبي، أولئك الذين يبدل الله سيئاتهمحسنات)(2).

وروى الشيخ في اماليه بسنده عن الامام الرضا (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) قال (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : حبُّنا أهل البيت يكفرّ الذنوب ويضاعف الحسنات وان الله ليحتمل عن محبينا أهل البيت ما عليهم من مظالم العباد، الا ما كان منهم فيها إصرار وظلم للمؤمنين: فيقول للسيئات كوني حسنات)(3) .

وهذا الحديث مضافاً الى الآية الكريمة يقيّد الأحاديث المطلقة كالذي رواه الشيخ المفيد في الاختصاص بسنده عن أصبغ بن نباتة، أن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال له في حديث (يا أصبغ، إن وليّنا لو لقي الله وعليه من الذنوب مثل

ص: 220


1- الكافي: 1/368 ح 15
2- كامل الزيارات: 330 ح 5
3- الامالي: 1/166

زبد البحر ومثل عدد الرمل، لغفرها الله له إن شاء الله تعالى)(1).

فأن هذا المزايا تمنح لمن تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً بفضل الله تعالى فأن ولاية أهل البيت (علیهم السلام) لا تتحقق بالعواطف والادعاءات وانما لها حقيقة في عقيدة الانسان وسلوكه.

ص: 221


1- البرهان في تفسير القرآن: 7/119 عن الاختصاص: 65

خطاب المرحلة 631 : مريم الصدّيقة الطاهرة برؤية قرآنية

بسمه تعالى

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ) (مريم:16)

مريم الصدّيقة الطاهرة برؤية قرآنية(1)

أمر متوجّه من الله تعالى إلى رسوله الكريم (صلی الله علیه و آله) ان يذكر مريم ونبأها في القرآن الذي هو كلامه تبارك وتعالى، وهي المرأة الوحيدة التي ذُكرت باسمها صريحاً في القرآن تكريماً لها وتشريفاً ولتبقى هذه الآيات الكريمات وثيقة تثبت طهارتها وعفّتها وسمّو مقامها وبرائتها مما اتهمها به قومها من بني إسرائيل.

إنها مريم ابنة عمران من فضليات النساء عبر التاريخ ففي الحديث الشريف الذي رواه الشيخ الصدوق بسنده عن ابن عباس عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال (أفضل نساء أهل الجنة أربع خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون)(2) وهذا مع تفاضلهن فيما بيّنهن أيضاً، فقد روى في الدر المنثور عن فاطمة الزهراء (علیها السلام) أنها قالت (قال لي رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنت سيدة نساء أهل الجنة لا مريم البتول)(3) .

وقد ضربها الله تعالى هي وامرأة فرعون مثلاً سامياً للذين آمنوا جميعاً من

ص: 222


1- القيت يوم الجمعة 25/ذي القعدة/1441 الموافق 2020/7/17
2- الخصال: 151، أبواب الأربعة ح 22، 23
3- الدر المنثور: 2/23

الرجال والنساء على طول الأجيال البشرية ليتأسوا بها ويعتبروا بسيرتها قال تعالى (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ) (التحريم:11) ثم قال تعالى (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) (التحريم:12) فكان عندها الاستعداد لتلقي الفيض الإلهي وأن ينفخ الله تعالى فيها من روحه جزاء لعفّتها وإحصانها في أعلى مراتبه بقرينة فاء التفريع (فنفخنا)، وجعلها تعالى وعاءاً لحمل وانجاب واحد من أعظم الأنبياء والرسل ومن اولي العزم عيسى ابن مريم (صلوات الله وسلامه عليه).

طهرها الله تعالى ونقاها من كل سوء واصطفاها على نساء العالمين أي انتخبها من نساء العالمين لتكون الأصفى والأنقى من كل نقص وشين قال تعالى (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (آل عمران:42-43) ويذّكر النبي الكريم عيسى (علیه السلام) بهذه النعمة عليه وعلى والدته (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) (المائدة:110).

هكذا هي مريم عظيمة المنزلة جليلة القدر سامية المكانة عند اللهتعالى في جميع الآيات القرآنية التي وردت فيها وقد ذكرت باسمها الصريح في (34) موضعاً منتشرة في 12 سورة من سور القرآن وبغير الصريح في غيرها، بينما ورد ذكرها في خمسة(1) مواضع من الانجيل بصور تحطّ من كرامتها

ص: 223


1- الفرقان في تفسير القرآن: 18/205

وقدسيتها.

واذا أردنا ان نستقرئ الآيات الكريمة لنكتشف العوامل التي صنعت هذه الشخصية الفذة في ضوء الكلمة المختصرة التي قالها الامام الجواد (علیه السلام) (المؤمن يحتاج الى توفيق من الله، وواعظ من نفسه، وقبول ممن ينصحه)(1)

فسنجد ما يلي:

1- الأسرة الكريمة والمنبت الطاهر قال تعالى (وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا) (آل عمران:37) كما في قوله تعالى (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) (الأعراف:58) فالأصل الطيب يساعد على صناعة الانسان الطيب بإذن الله تعالى، وهذا ما شهد به الجميع بقولهم (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) (مريم:28) وكان ابوها عمران صالحاً معلماً لمعارف التوحيد في المعبد وفي رواية ابي بصير عن الامام الباقر (علیه السلام) انه (كان نبياً مرسلاً إلى قومه)(2) لذا لما نُذرِت ابنته مريم للمعبد وكان قد توفي وهي حمل تنافس بعض انبياء1. بني إسرائيل الموجودين يومئذٍ وأحبار المعبد على كفالتها (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) (آل عمران:45) .

وكانت أمها صالحة ومن اسرة كريمة واختها زوجة نبي الله زكريا (علیه السلام) وكانت عارفة مخلصة لله تعالى وهذا واضح من تسمية ابنتها مريم التي قيل أنها تعني العابدة وقيل انها (لغة سريانية تعني الغالبة المرتفعة، ولعلَّها لأنها غلبت شهوتها وأحصنت فرجها رغم جمالها وكثرة الراغبين إليها، وارتفعت

ص: 224


1- تحف العقول:336
2- بحار الأنوار: 14/202 ح 14

عما افتروا عليها وعن اقرانها من نساء العالمين)(1) وارتفعت عن كل رجس ودنس ونقص.

وتظهر معرفتها بالله تعالى من خلال ادعيتها ونذرها (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (آل عمران:35) والتقبّل ليس كالقبول بل هو تمام القبول وأحسنه قال تعالى (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة:27).

وفي الرواية (إن الله تعالى أوحى إلى عمران: أني واهب لك ذكراً مباركاً يبرئ الأكمة والأبرص ويحي الموتى بإذني وجاعله رسولاً إلى بني إسرائيل فحدّث امرأته حنّة بذلك وهي أم مريم فلما حملت به كان حملها عند نفسها غلاماً ذكراً)(2) فنذرته لخدمة الدين والمسجد والتفرغ لعبادة الله تعالى (ومالم يحرّر الانسان نفسه من القيود فإنه لن يكونقادراً على خدمة الدين، فالشيء الذي لم يتحرّر من قيود الملكية كلها لن يكون متصفاً بقيد (الوقف) )(3). (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا) ورأتها انثى خلاف ما كانت ترجو وكانت خدمة المعبد وظيفة مقتصرة على الذكور وممنوعة على الاناث (قَالَتْ) بحسرة وأسف (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى) فالأنثى لا يتسنى لها التحرر لخدمة المعبد واثير هنا إشكال بأن مقتضى الاستعمال اللغوي أن يقال (وليست الأنثى كالذكر) أي ان ما وضعت -- وهي انثى -- ليست كما كنت

ص: 225


1- الفرقان في تفسير القرآن: 18/205
2- رواية عن الامام الصادق (علیه السلام) في نور الثقلين: 1/334 عن الكافي
3- تفسير تسنيم للشيخ الجوادي الآملي:14/125

أرجو لخدمة المعبد بأن يكون المولود ذكراً فالتشبيه معكوس، ولهذا قال أكثر المفسرين ان هذا من كلام أم مريم ليمكن الاشكال عليه وساعدهم على ذلك ظهور السياق في كونه من مقولة قولها وأجابوا على الاشكال بعدة أجوبة ككون المراد أصل المقايسة وليس التفضيل وفي رواية حريز عن أحدهما (‘) (وليس الذكر كالأنثى في الخدمة)(1).

لكن صاحب الميزان والكشاف قالا انه من مقول قول الله تبارك وتعالى ولا ضير في نسبته اليه تعالى وحاصل جواب الميزان بأن الحكمة الإلهية شاءت أن يجري الأمر على هذا بأن تكون المولودة انثى وهي مريم ثم تلد مريم الذكر الموعود وهو عيسى (علیه السلام) بتلكالآيات الباهرات التي رافقت الحمل والولادة (وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:91) وسيتبيّن لكم أنّ الذكر الذي كنتم ترجونه ليس كالأنثى التي قدرها الله تعالى ولو كان المولود لأم مريم ذكراً بالمباشرة وإن كان بمواصفات عيسى (علیه السلام) فان ولادته سوف لا تقترن بتلك المعجزات والحجج البيّنة، وعلى هذا يكون قوله تعالى (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى) من مقول قول الله تعالى كالفقرة قبلها وليس حكاية لقول أم مريم(2) الذي هو أظهر من السياق وتؤيده الروايات(3)، لكن الوجه الأول أفضل لدفع الاشكال.

ويمكن أن نقدّم معنى آخر بناء على كون الفقرة من مقول قول الله تعالى

ص: 226


1- تفسير العياشي:1/170 ، بحار الأنوار:5/319
2- استفدنا الوجه من كلام السيد الطباطبائي (قده) في الميزان في تفسير القرآن: 3/199
3- تفسير القمي: 1/109

حاصلهُ إن ما كنت ترجين من الذكر بأن يكون محرراً خادماً للمعبد لا يصل الى مقام هذه الأنثى والمعجزات والآيات التي ستجري لها فتكون اللام هنا عهدية.

وبذلك يرتفع الاشكال اللغوي ولا نحتاج الى ما قيل من أجوبة كقول بعض المفسّرين بأن ذهول أم مريم والمفاجأة الحزينة التي واجهتها جعلتها لا تعي ما تقول.

ونستمر مع أم مريم وقولها (وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (آل عمران:36) لتكون مخلصة لك ليسللشيطان مطمع في إضلالها أو اغوائها، لتكون اسماً مطابقاً للمسمى، وشملت بدعائها ذرية مريم لأنها علمت أن الولد المبارك الموعود منها بعد ان توفي زوجها ووفت بنذرها وغالبت كل عواطف الأمومة وبعثت ابنتها الوحيدة إلى المعبد خالصة لله تعالى متفرغة لعبادته وهي المفجوعة تواً بوفاة زوجها عمران(1).

(فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا) (آل عمران:37) واستجاب الله تعالى دعاء الأم فتقبّل الله تعالى مريم محرّرة خالصة له تعالى وهو معنى اصطفائها واعطاها وذريتها الكمال والنقاء والحصانة من وساوس الشيطان فتحققت لمريم صفتا الاصطفاء والطهارة اللتان بشرتها الملائكة بهما (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ) (آل عمران:42) وهكذا الأعمال الصالحة المخلصة تحظى بالجزاء الحسن.

ص: 227


1- الظاهر وفاة عمران خلال حمل زوجته لأنه من البعيد أن تستقل بالنذر مع وجود زوجها، ولعدم ورود أي ذكر له في احداث الولادة وما بعدها من الكفالة والنذر للمعبد.

2- المربّي الناصح المخلص العارف وقد حظيت مريم برعاية مباشرة وباهتمام خاص من نبي الله زكريا (علیه السلام) واحاطها الله تعالى بعناية عظيمة وربّاها تربية حسنة وأفاض عليها ألطافاً من عالم الغيب وأغدق أرزاقاً مادية ومعنوية وجعل قرعة كفالتها تحطّ عند زكريا (علیه السلام) (وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا1. زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ) (آل عمران:37) فهذا الرزق المطلق مادياً ومعنوياً كان من ثمرات العمل المخلص ومن مظاهر الانبات الحسن.

3- توفر البيئة المناسبة والمساعدة على الصلاح فقد قالت أم مريم (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا) (آل عمران:35) و (المحرر للمسجد يدخله ثم لا يخرج منه أبدا)(1) فيتحرر من أي مسؤوليات عائلية أو اجتماعية تجاه والديه وغيره، ومما تتطلبه معاشرة الناس من مساوئ وأذى، وقد تفرغت مريم للعبادة في محرابها وهو المكان المخصوص للعبادة في المسجد أو البيت وسمي(2) بذلك لأنه موضع محاربة الشيطان والهوى ويكون الانسان فيه حريباً أي سليباً من اشغال الدنيا وتوزع الخاطر ويكون في صدر المسجد والبيت وانزوت في مكان لا يعبأ به ولا يلفت الأنظار بقرينة التعبير القرآني (فَانتَبَذَتْ) والنبذ هو القاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به، ولم تكتفِ بذلك بل ضربت دونهم حجاباً، واعتزلت الناس المنهمكين في الدنيا واتباع الشهوات والمخدوعين بوساوس الشيطان الماكرة وإن رفعوا شعارات الدين أحياناً وكانوا من سدنة

ص: 228


1- في حديث عن الامام الباقر (علیه السلام) رواه في الكافي: 3/105 ح 4
2- عن مفردات الراغب

المعبد (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا)1. (مريم:16-17).

4. الوازع الداخلي والإرادة الجدية لفعل الخير وسلوك طريق الصلاح والعزم الراسخ على الالتزام به مهما تعاظمت الضغوط النفسية والاجتماعية ومهما تزينت الاغراءات. وقد التزمت مريم الصدّيقة بدقة تعاليم الأنبياء في التوحيد والعمل الصالح والسلوك العفيف حتى أثنى عليها تعالى (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) (التحريم:12) وأشاد بصفات خاصة منها وهي العفاف ونقاء النفس وطهارة القلب والتعلق الخالص بالله تعالى (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) (المائدة:75).

فاستحقت التكريم الإلهي بالاصطفاء والتفضيل والتطهير من كل الارجاس الظاهرية والباطنية قال تعالى (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (آل عمران:42-43).

وكرمّها أيضاً بحمل الرسول العظيم عيسى (إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (آل عمران:45) بمعجزة لم تتكرر عبر التاريخ البشري (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ) (النساء:171) (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) (مريم:17) وكان رد فعلها المباشر وقد فاجأها بشر سوي جميلفي عزلتها وهي العفيفة الطاهرة

ص: 229

الالتجاء الى الله تعالى والاستعاذة به مع تمام حسن الظن به أنه لا يدعها لأنه (الرحمن) وتذكير المتمثل بتقوى الرحمن التي هي صفة لا يمكن لأحد أن يرفضها عن نفسه (قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا) (مريم:18) ولولا كمال معرفتها ونفوذ بصيرتها ونقاء سريرتها وطهارة قلبها لما كانت أهلاً لتمثل روح الله تعالى لها (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا) (التحريم:12) فألقى الله تعالى في رحمها بواسطة الروح الأمين ما تخلّقت منه نطفة النبي الكريم عيسى (علیه السلام) (وهذا يكشف عن كمال الاستعداد الذاتي ووجود السنخية التامة بينها وبين الروح اللاهوتي حتى تتمكن من مقابلته وقبوله وحمله والتسليم لديه والعمل بالوظائف الخاصة)(1) لتكون معجزة(2) إلهية للوالدة والمولود لم تتكرر نسختها في جميع الأجيال (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:91) (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) (المؤمنون:50).

فبشرها الله تعالى بالمولود المبارك (قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا) (مريم:19) (إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِبِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (آل عمران:45) وكان وقع هذه البشارة عظيماً على نفسها لكن الأمر خطير إذ كيف تحمل المرأة من دون مقاربة الرجل ومريم لم يمسَّها رجل بالحلال ولا

ص: 230


1- التحقيق في كلمات القرآن الكريم للمصطفوي:11/96
2- لا تخلو الآية من إشارة الى إمكان قيام غير الحيامن بدور التلقيح للبيضة والمهم في تكوّن الجنين وجود بيضة الأنثى، وبعض المصادر الطبية ما يشير الى وجود تجارب في هذا المجال.

بالحرام (قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) (مريم:20) فاستشعرت عظمة الابتلاء لأن قومها سوف يتهمونها في اعزّ شيء عندها: شرفها وعفافها وطهارتها مع صعوبة ظروف الحمل والولادة حيث كانت وحيدة في مكانٍ نائي كالصحراء ليس فيه ماء ولا طعام والمرأة تحتاج حين الولادة إلى رعاية خاصة وحضور القابلة وغير ذلك (فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ) (مريم:22-23) فهو جذع مقطوع يابس لا ثمرة فيه وتحت وطأة هذه الظروف القاهرة التي لا يطيقها إنسان (قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا)(1) (مريم:23) قالت ذلك مع كمال التسليم لأمر الله تعالى وهذا أحد شواهد ما كانت عليه من مقام التصديق بكلمات ربها نظير ما ورد في ابراهيم (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) (البقرة:124) وطمأنها الله تعالى وربط على قلبها (قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا) (مريم:21).

وأراها معجزة لتطمئن نفسها فنبعت عين ماء عند قدميها (قَدْ جَعَلَرَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) (مريم:24) والسري هو جدول الماء لتشرب منه، وناداها أيضاً (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) (مريم:25) الجَذع تعني القطع فالجِذع هو المقطوع وفيه إشارة الى كونه يابساً لا ثمرة فيه فلما هزّته

ص: 231


1- الفرقان في تفسير القرآن: 18/206

تساقط منه رطب طري طيب(1)، ضرب لها بهذا الجذع الذي أثمر بعد أن كان ميتاً مثلاً لحالتها فهي امرأة لا زوج لها ولا تفعل الفاحشة فمثلها يستحيل عليها الحمل لكن الله تعالى هزّها بنفخة الروح فحملت بالثمرة المباركة روح الله وكلمته عيسى (علیه السلام) فتحققت لها البشرى واكتملت بما يسَّر لها من الطعام والشراب (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا) (مريم:26) وكان حملها (بعيسى بالليل ووضعته بالغداة وكان حملها تسع ساعات من النهار جعل الله لها الشهور ساعات)(2) وفي روايات أخرى ذكرت غير هذه المدة.

(ففقدوها في المحراب فخرجوا في طلبها)(3) ولما جاءتهم بالوليد المبارك حدث ما هو متوقع من لئام الناس (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا) (النساء:156) (قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا) (مريم:27) واتهموها بممارسة الفاحشة وهنا تدخلت القدرة الربانية لتنطق الوليد المبارك بكلمات ادهشت الحسّاد والمعاندين وأخزتهمونصرت العفيفة الطاهرة.

فنحن - المسلمين - نقدّس مريم ونعظمها لهذه المنزلة التي بيّنها الله تعالى في كتابه الكريم، ونرتبط - نحن اتباع أهل البيت (علیهم السلام) - بولدها روح الله وكلمته عيسى (صلوات الله وسلامه عليه) بأن لنا أملاً كبيراً فيه لأنه سيظهر مع المخلِّص العظيم الامام المهدي الموعود (علیه السلام) لينقذا البشرية من الضياع والضلال والشرور والآثام.

ص: 232


1- تكررت مثل هذه المعجزة للأئمة الطاهرين كالإمام الحسن والامام الباقر (عليهما السلام) (راجع روايات في تفسير نور الثقلين:3/331 ح 55)
2- تفسير القمي: 2/499
3- البرهان في تفسير القرآن: 6/194 ح 1 عن تفسير علي بن إبراهيم.

خطاب المرحلة 632 : مقارنة بين الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء ( علیها السلام )

والسيدة مريم إبنت عمران(1)

لنا -- اتباع أهل البيت (علیهم السلام) -- علاقة وجدانية خاصة بالصدّيقة الطاهرة مريم بنت عمران لأنها شابهت السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) في الكثير من الصفات مع حفظ التقدم للسيدة الزهراء (علیها السلام) في تلك الصفات.

فقد اقتبست من أنوار سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (علیها السلام) فكانت تتلألأ نوراً في محرابها وفي الرواية عن الامام الباقر (علیه السلام) (وكانت أجمل النساء، فكانت تصلي ويضيء المحراب لنورها)(2) .

وكانت مريم محدّثة -- وهو من أسماء السيدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) -- تحدّثها الملائكة كما أخبر به الله تعالى (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ) (آل عمران:42) (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا) (مريم:17) وروي عن الامام الصادق (علیه السلام) أنه قال (انما سميت فاطمة (علیهاالسلام) محدثة لان الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما تنادي مريم بنت عمران، فتقول يا فاطمة ان الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين يا فاطمة اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين، فتحدثهم

ص: 233


1- ملحق الخطاب السابق بعنوان (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ) (مريم:16)
2- البرهان في تفسير القرآن: 2/33 عن تفسير العياشي:1/193

ويحدثونها، فقالت لهم ذات ليلة: أليست المفضلة على نساء العالمين مريم بنت عمران؟ فقالوا: ان مريم كانت سيدة نساء عالمها، وان الله عزوجل جعلك سيدة نساء عالمك وعالمها، وسيدة نساء الاولين والآخرين)(1) .

وفي صفة التطهير فقد قال تعالى في مريم (وطهّرك) وأنزل في أهل البيت (علیهم السلام) آية التطهير (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (الأحزاب:33).

وفي الاصطفاء والسيادة فقد جعل مريم سيدة نساء العالمين وكانت فاطمة (علیها السلام) كذلك والفرق ما ذكرته الرواية عن المفضل بن عمر قال (قلت لأبي عبدالله -- الصادق -- (علیه السلام) أخبرني عن قول رسول الله (صلی الله علیه و آله) في فاطمة أنها سيدة نساء العالمين أهي سيدة نساء عالمها؟ قال: ذاك لمريم كانت سيدة نساء عالمها وفاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين)(2) ، واذا تمسكت باطلاق قوله تعالى (على نساء العالمين) فلا تختص بزمانهاكما في الميزان قلنا نعم لكنه اصطفاء خاص بآيات محددة كالتي رافقت حملها وولادتها بينما اصطفاء فاطمة الزهراء (علیها السلام) مطلق وهو وجه الفرق بين الاصطفاء المتعدي ب (على) كما في مريم والاصطفاء المطلق و (ان الاصطفاء المتعدي ب (على) يفيد معنى التقدم، وانه غير الاصطفاء المطلق الذي يفيد معنى التسليم، وعلى هذا فاصطفاؤها على نساء العالمين تقديم لها عليهن) ، فتقديم مريم كان من بعض الجهات (حيث لم تشمل مما تختص بها من بين

ص: 234


1- علل الشرائع:1/216 ، تفسير نور الثقلين 1/337
2- البرهان في تفسير القرآن: 2/216 ح 7 عن معاني الأخبار للصدوق: 107 ح 1

النساء الا على شأنها العجيب في ولادة المسيح (علیه السلام) أن هذا هو وجه اصطفائها وتقديمها على النساء من العالمين)(1).

وفي إنجاب المعصومين الأطهار (صلوات الله عليهم أجمعين) فقد اعاذهم الله تعالى من الشيطان الرجيم، ففي حديث لأمير المؤمنين (علیه السلام) في حدث تزويجه بفاطمة (علیها السلام) ودعاء النبي (صلی الله علیه و آله) لهما وقال (قم بسم الله وقل: على بركة الله، وما شاء الله، لا قوة الا بالله، توكّلت على الله - ثم جاءني حين اقعدني عندها ثم قال: اللهم إنهما أحبّ خلقك إليَّ فأحبهما، وبارك في ذريتهما واجعل عليهما منك حافظاً، وإني اعيذهما وذريتهما بك من الشيطان الرجيم)(2) .وفي الرزق الذي يأتيها في المحراب من عند الله تعالى ففي رواية عن الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان في طعام وجده النبي (صلی الله علیه و آله) وأصحابه في دار فاطمة ولم يكونوا يعرفوه من قبل إلى ان قال (وقام النبي (صلی الله علیه و آله) حتى دخل على فاطمة (علیها السلام) وقال (وأنى لك هذا يا فاطمة؟) فردّت عليه ونحن نسمع قولهما فقالت (هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) فخرج النبي (صلی الله علیه و آله) مستعبراً وهو يقول (الحمد لله الذي لم يمتني حتى رأيت لأبنتي ما رأى زكريا لمريم كان اذا دخل عليها المحراب وجد عندها رزقا فيقول: (يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ)(3)

ص: 235


1- الميزان في تفسير القرآن:3/218
2- أمالي الشيخ الطوسي: 40، تفسير نور الثقلين:1/333
3- البرهان في تفسير القرآن:2/216 ح 8 عن آمالي الشيخ الطوسي:2/227

ويعجبني نقل هذه الأبيات في المقارنة بين بعض حالات الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء (علیها السلام) والصدّيقة مريم :

إن قِيلَ حَوّا قُلتَ فاطمُ فَخرُها *** أوقيلَ مريمُ قلتُ فاطمُ أفضلُ

أفهلْ لمريم والدٌ كمحمدٍ *** أم هَلْ لمريمَ مثلُ فاطمَ أشبلُ

كلٌ لها عندَ الولادةِ حالةٌ *** فيها عقولُ بني البصائرِ تذهَلُ

هذي لنخلتِها التَجَتْ فَتَساقَطَتْ *** رُطَبَاً جَنياً فهي منه تأكُلُ

ولدت بعيسى وهي غيرُ مروعةٍ *** أنَّى وحارسُها السّري الأبسلُ

وإلى الجدارِ وصفحةِ البابِ التَجت *** بنتُ النَّبي فأسقَطَتْ ما تَحمِلُ

سَقَطت وأسقَطَتِ الجنينَ وحولَها *** من كلِّ ذي حسبٍ لئيمٍ جَحفل

هذا يعنفها وذاكَ يدُعُّها *** ويردها هذا وهذا يركُلُ

وأمامَها أسدُ الأسودِ يقودُهُ *** بالحبل قنفذ هل كهذا معضَلُ

ولسوفَ تأتي في القيامةِ فاطمٌ *** تشكوا إلى ربِّ السماءِ وتعولُ

ولتَرفَعَنَّ جنينَها وحنينَها *** بشكايةٍ منها السماءُ تَتَزلزَلُ(1)

ص: 236


1- ديوان الشيخ محسن أبو الحب الكبير/ ص 128

خطاب المرحلة 633 : مسؤوليتنا عن إقامة الدين ووحدة الأمة

(أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (الشورى:13)

مسؤوليتنا عن إقامة الدين ووحدة الأمة (1)

قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ) (الشورى:13).

الشرع كمصدر -- هو نهج الطريق الواضح البيّن، وأطلق كإسم على المنهج الإلهي، والشارع هو الطريق الواضح وشريعة الماء: المكان السهل على جرف النهر لاستقاء الماء، وفي الآية دلالات عديدة:

1- ان أصحاب الشرائع والأديان هم هؤلاء الخمسة لأن الآية في سياق كونها جامعة لهم ولم تذكر غيرهم وهؤلاء هم اولو العزم وقد ورد هذا التحديد في آيات أُخر، كقوله تعالى (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا) (الأحزاب:7)، ولازم ذلك عدم وجود شريعة بمعنى الاحكام والقوانين التي تنظّم حياة البشر وترفع اختلافاتهم قبل النبي نوح (علیه السلام) وهو معنى تفيده الآية الكريمة (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ) (البقرة:213).

ص: 237


1- الخطبة الأولى لصلاة عيد الأضحى المبارك عام 1441 الموافق 2020/7/31 م

2- ان الدين الذي أنزله الله تعالى إليكم -- وهو الإسلام -- والأديان التي سبقته مصدرها واحد وهو الله تبارك وتعالى وهي الحقيقة التي افتتحت السورة بها، قال تعالى (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الشورى:3) وأكدّتها آيات أخر كقوله تعالى (مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ) (فصلت:43).

وفي ذلك لمسة روحية رقيقة تثبّت قلوب المؤمنين وتطمئنهم خصوصاً العاملين الرساليين منهم الذين يتعرضون لضغوط اجتماعية ونفسية عظيمة بسبب حملهم رسالة الإصلاح فيحتاجون إلى تسلية ودعم معنوي كما يقال فتأتي هذه الآية وامثالها لتقول لهم: انكم لستم وحدكم على هذا الطريق الإلهي الواضح بل أنتم حلقة في سلسلة طويلة من كرام الخلق وسادتهم عبر التاريخ كالمعنى الذي تكشف عنه زيارة الامام الحسين (علیه السلام) المعروفة ب ((وارث)) حيث تجتمع لديه وراثة جميع الأنبياء والمرسلين فيزيدهم ذلك ثباتاً وسروراً بما وفقهم الله تعالى إليه.

3- وعلى غرار وحدة المصدر فانها تؤكد على وحدة الصادر أي مضمون هذه الرسالات بأنه واحد وان تنوعت بلحاظ الاجمال والتفصيل لكن ما تدعوهم اليه دين واحد وان تعدّدت الشرائع والطرق الواضحة البيّنة الموصلة إليه قال تعالى (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِإِلَى اللَّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (المائدة:48) فأراد الله تعالى بهذا التنوع في الشرائع ليختبر طاعتكم وامتثالكم وعدم تحيّزكم وتحزبكم لشريعتكم السابقة، والدنيا دار

ص: 238

الامتحان والاختبار وهذا التنوع في الشرائع ضرورة لتواكب ما يطرأ على البشرية من تغيرات حتى جاء بالشريعة الكاملة الخاتمة فكون الشريعة الإسلامية خاصة بالمسلمين وفق الآية الآنفة لا ينافي جامعيتها، والمطلوب منكم الالتزام بالطاعة والتسليم واستباق الخيرات. وفي ذلك حجة على أهل الكتاب ورفض لمواقفهم العدوانية تجاه الإسلام لأنها لا مبرر لها بعد أن ثبت ان هذه الأديان كلها من مصدر واحد وبمحتوى واحد وعليهم جميعاً أن يدخلوا في هذا الدين لأنه جامع لكل الأديان السابقة وقيّم عليها (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (التوبة:36).

4- تلّخص الآية ما تدعو اليه تلك الشرائع على محورين: إقامة الدين الواحد واتحاد الأمة على أساسه وعدم التفرق فيه (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (المؤمنون:52) فعلى جميع المؤمنين بالله تعالى أن يلتزموا بهاتين الغايتين العظيمتين وان يبذلوا جهودهم في سبيل تحقيقهما والتعبير ب- (وصيّنا) يشعر بهذا الاهتمام إذ لا يوصى الا بالشيء المهم، لأن الوصية لغة ((التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترناً بوعظ)) قال تعالى (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الجاثية:18) وقد عبّر تعالى عن الدين بالأمرلأن الدين هو الطاعة أي طاعة الأوامر والتشريعات الإلهية، ولعل التعبير عن شريعة النبي (صلی الله علیه و آله) ب- (أوحينا) وعن شريعة الأنبياء الآخرين بالوصيّة ((ان المراد بما أوحى إليه ما اختصت به شريعته من المعارف والاحكام، وإنما عبَّر عن ذلك بالايحاء دون التوصية، لأن التوصية كما تقدم إنما تتعلق من الأمور بما يهتم به ويعتني بشأنه خاصة وهو أهم العقائد والاعمال، وشريعته (صلی الله علیه و آله)

ص: 239

جامعة لكل ما جلَّ ودقّ محتوية على الأهم وغيره بخلاف شرائع غيره فقد كانت محدودة بما هو الأهم المناسب لحال أممهم والموافق لمبلغ استعدادهم))(1).

فعلينا إذن واجبان عظيمان ورسالتان يجب ان نؤديهما هما خلاصة كل الأديان والشرائع:

1- إقامة الدين والمنهج الإلهي في الحياة بكل تفاصيلها، عباداتها ومعاملاتها وإقامة الشيء تعني توفيته حقه علماً وعملاً، فإقامة الدين تتحقق بأن يتحول الدين إلى نظام شاخص في حياتنا تكون له الهيمنة والقيمومة على كل القوانين والتشريعات والأعراف والأنظمة وكل ما خالف الدين منها فهو عصيان لهذا الأمر الإلهي، وإن إقامة الدين لابد أن تكون على أساس الشريعة الحاضرة الفعلية لا الشرائع السابقة ((فإنإقامة الدين في كل دور هي إقامة طاعة الله في أمره الحاضر في شرعته الحاضرة، فالتصلّب على الغابرة عصيان للأمر وتضييع للدين))(2).

(إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) (آل عمران:19) لأن الدين أصول وفروع ومنظومة

ص: 240


1- الميزان في تفسير القرآن:18/28
2- الفرقان في تفسير القرآن:25/217

كاملة من العقائد والأخلاق والتشريعات العبادية وضوابط المعاملات لا تتحقق إقامة الدين الا بإقامتها (1) معاً.

2- وحدة الأمة وعدم التفرق تحت أي عنوان كان كالطائفة والقومية والوطن والأيدلوجية والانتماء العشائري أو الحزبي أو الاجتماعي أو الفئوي أو أي سبب كان فان التفرق من علامات الجاهلية وان أهم علامة لإقامة الدين اجتماعكم ووحدتكم لأنه ينظّم حياتكم بتوازن وعدالة ويسعدكم فتفرقكم وتنازعكم يعني عدم إقامتكم الدين، قال تعالى (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) (آل عمران:103) وتفرقكم يفرح الكفّار ويدعوهم إلى التمسك بضلالهم لأنهم يرونكم متفرقين مثلهم (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (الروم:32)والتفرق يحصل نتيجة اتباع الاهواء والشهوات والابتعاد عن الدين وتزيين المضلّين والمنحرفين، وفي الحديث عن الامام الرضا (علیه السلام) عن آبائه عن النبي (صلی الله علیه و آله) (وما على ديني من استعمل القياس في ديني)(2) لأن استعمال القياس يعني ادخال الرأي البشري والأهواء في الدين وهو ليس منه.

والمطلوب في ضوء ما ذكرناه في الغاية الأولى وحدة البشرية جميعاً على الدين العالمي الخاتم الكامل فالتفرق في الدين الى يهود ونصارى ومسلمين

ص: 241


1- لاحظ رواية السيد عبد العظيم الحسني عندما عرض دينه بين يدي الامام الهادي (علیه السلام) فأنه أتى على الأصول والفروع فقال له الامام (علیه السلام) (يا أبا القاسم هذا والله دين الله الذي ارتضاه لعباده فاثبت عليه ثبّتك الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) (مستدرك الوسائل:12/283).
2- وسائل الشيعة:27/45

فضلاً عن غيرها من الديانات والملل غير التوحيدية هي خروج عن سنة الله تعالى وفطرته التي أراد لخلقه السير عليها.

فالأديان الإلهية وإن اتفقت على أصل التوحيد الا أن هذا لابد أن يكتمل باجتماعهم على دين التوحيد أيضاً وليس فقط أصل التوحيد أي الشريعة الخاتمة أيضاً لأنها الطريق الواضح البيّن الى الله تبارك وتعالى بعد نزولها، فاللام هنا في الدين عهدية أي هذا الدين الذي شرع لكم، وان ما اختصوا به من احكام ثبت نسخه وارتفاعه.

وقد خاطب القرآن الكريم جميع المنتمين للرسالات السماوية بأن ادعاءهم هذا لا قيمة له اذا لم يقيموا الدين في حياتهم (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ) (المائدة:68) وبالتأكيد سوف لا يذعن الأعداء والحسّادوالمنتفعون لهذا الأمر ولا يقفون مكتوفي الأيدي بل سيعملون بكل ما في وسعهم لمنع تحقيق هذين الهدفين ( كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) أي عظم على الأعداء وتحرجوا من قبول ما تدعوهم -- يا رسول الله -- اليه من دين التوحيد ومن وحدة المعبود لأنهم يريدون آلهة متعددة لكل عشيرة إله ولكل حزب إله ولكل قوم إله وفي الروايات أنه كان حول البيت الحرام (360) صنماً يتاجرون بها ويخدعون السذّج والجهلة وتجلب لهم المصالح والامتيازات (أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) (ص:5).

ص: 242

وكبر عليهم ما تدعون اليه من الوحدة والوئام في ظل هذا الدين الواحد لأنهم تعودّوا أن يكونوا أحزاباً متفرقين متصارعين (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (الروم:32).

وكبر عليهم من قبل نزول الوحي عليك واختيارك للنبوة والرسالة مع وجود من هو أكثر مالاً واولاداً منك فهو أجدر بنزول الوحي بحسب زعمهم (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (الزخرف:31).

وكبر عليهم ما تقوله من أنَّ آباءهم واسلافهم كانوا على ضلال وان عاقبتهم سيئة فتعصّبوا لآبائهم.

كما كبر على أهل الكتاب خصوصاً اليهود أن يبعث نبي آخر الزمان من بني إسماعيل وليس من بني إسرائيل (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِمُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ) (البقرة:89).

ولكن الله تعالى يجيبهم جميعاً في نهاية الآية الكريمة بأن هذا اختيار إلهي ليس خاضعاً لأهواءكم ومقاساتكم (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ) وهو سبحانه من اختار النبي الأكرم محمداً (صلی الله علیه و آله) (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (الأنعام:124) واختار دينه الإسلام (وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) (المائدة:3) ولكن لا يذعن بهذه الحقيقة الا من رجع الى الله تعالى بصدق وطلب منه الهدى والاستقامة (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ) (الشورى:13).

ويمكن أن يكون معناها بناء على وحدة مرجع الضمير في (اليه) في المواضع الثلاثة وهو دين التوحيد ان الله تعالى ((يجمع ويجتلب الى دين التوحيد -- وهو

ص: 243

ما تدعوهم اليه -- من يشاء من عباده ويهدي إليه من يرجع اليه فيكون في معنى قوله (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) (الحج:78) ))(1).

أيها الأحبّة

هذه هي مسؤوليتنا التي نسعى بكل طاقتنا الى ان نتشرف بالتصدي لها وحملها اسوة بالأنبياء العظام والأئمة الكرام (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) فهي وصية الله تعالى ورسالتهم جميعاً: إقامة الدين في جميعمفاصل الحياة وتوحيد الأمة على ذلك لا تثنينا عن ذلك سعة التحديات وخطورة العوائق وصعوبة المشاكل، وأن لا يثبط عزائمنا وساوس شياطين الانس والجن ولا نحرف مسارنا مثل ما فعلت أحبار وكهنة الديانات السابقة عندما مالوا إلى الدنيا فاضطروا لتقديم التنازلات حفاظاً على مصالحهم واستمالة لاتباعهم، فلا يحقّ لنا أن ننزل بالدين إلى مستوى الناس وإنما يجب علينا أن نرتقي بالناس إلى مستوى الدين واذا لم يستجيبوا فعلينا أن نضاعف الجهود ونخلص النوايا ونتجرد عن الانانيات وننوِّع آليات العمل من دون أن نتنازل عما وصى به الله تعالى أنبيائه العظام.

ص: 244


1- الميزان في تفسير القرآن:18/30

خطاب المرحلة 634 : الحذر من هجر القرآن

(وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) (الفرقان:30)

الحذر من هجر القرآن(1)

تقع الآية ضمن سلسلة من الآيات التي تعرض صوراً من حالات الندم والأسف التي تنتاب الظالمين يوم القيامة بحيث يعضّ أحدهم على كلتا يديه وليس على اصبع واحدة جزاء تفريطهم وتمردهم على ما أمرهم الله تعالى به نتيجة لاتباعهم اهواءهم وعصبيتهم وقرناء سوء غشوّهم (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولا) (الفرقان:27-29) ومما يزيدهم ندماً وحسرة ورعباً من مصيرهم ان الرسول الذي بعثه الله تعالى رحمة بهم ومنقذاً وهادياً لهم سيكون خصمهم والحجة عليهم وهو الذي يرفع الشكوى ضدّهم فتقول الآية التالية (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) لأن القرآن هو الأصل في السبيل الموصل الى الله تبارك وتعالى الذي يندمون على عدم اتخاذه، فالإعراض عنه إعراض عن الرسول (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الطاهرين، فلما هجروه وابتعدوا عنه وقعوا في هذا المصير المشؤوم.

و (قَوْمِي) هنا وإن انصرفت إلى قريش قوم رسول الله (صلی الله علیه و آله) عند نزول الآية في مكة وتكون الآية حينئذٍ إخباراً عن دعاء وشكوى ناجى بها رسول الله

ص: 245


1- الخطبة الثانية لصلاة عيد الأضحى المبارك عام 1441 الموافق 2020/7/31 م

(صلی الله علیه و آله) ربَّه بعد ان رأى صدود واعراض قومه من قريش والله تعالى يعلم بهذا الواقع ويعلم ان رسوله لم يدّخر جهداً في ابلاغ الرسالة.

الا انها عامة لجميع الناس كما هو شأن القرآن لأن الجميع مخاطبون بهذا القرآن ومأمورون باتباعه فتكون الآية إخباراً عن شكوى يرفعها الرسول (|) في محكمة العدل الإلهي يوم القيامة والتعبير بالماضي بعناية تحقق الوقوع كما في الكثير من الآيات التي تحكي مشاهد القيامة في القرآن بصيغة الماضي، فتنضمّ شكواه (صلی الله علیه و آله) الى شكوى القرآن نفسه بحسب ما ورد في الرواية الشريفة عن جابر عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال (يجئ يوم القيامة ثلاثة يشكون إلى الله عز وجل: المصحف، والمسجد، والعترة. يقول المصحف: يا رب حرقوني ومزقوني، ويقول المسجد: يا رب عطلوني وضيعوني، وتقول العترة: يا رب قتلونا وطردونا وشردونا فأجثوا للركبتين للخصومة، فيقول الله جل جلاله لي: أنا أولى بذلك)(1).

وروى عنه (صلی الله علیه و آله) قوله (أنا أول وافد على العزيز الجبار يوم القيامة وكتابه وأهل بيتي ثم أمتي ثم اسألهم ما فعلتم بكتابالله وأهل بيتي)(2) .

وهجران الشيء تعني مفارقته بنحو من الانحاء، ولا شك ان هجر القرآن يصدق على مراتب عديدة تقابل مراتب القرب من القرآن، فأوطأ درك للهجران هم من صمّوا آذانهم عن سماعه خشية ان يدخل قلوبهم فأغلقوها دونه تعصباً وعناداً واستكبروا عن الايمان به (وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ

ص: 246


1- الخصال للصدوق: 132 أبواب الثلاثة، الحديث 232
2- الكافي: 2/600

وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا) (الإسراء:46) (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) (نوح:7) وانكروا كونه وحياً الهياً (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) (الفرقان:4) وغاية ما قالوا أنه كلام منمق جميل صنعه محمد (صلی الله علیه و آله) وهي الشبهة التي يرددها إلى اليوم بعض المعاندين أو إنه أملي اليه (يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ) (النحل:103) .

ومن مراتب هجر القرآن ما عليه المنافقون الذين أسلموا للقرآن ظاهراً لكنهم خالفوه في واقعهم وحياتهم العملية فبنو أمية وبنو العباس مسلمون ظاهراً ويؤمنون بالقرآن وما فيه وفيه قول الله تعالى (قُل لّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (الشورى:23) الا إنهم امعنوا في قتل أهل البيت (علیهم السلام) وسجنهم واضطهادهم، ويقرأون آيةتحريم الخمر ويشربونها علناً وسراً وأمثال ذلك.

ومن صور الهجران ما عليه أغلب المجتمعات الإسلامية اليوم حيث يستمدون أفكارهم وثقافتهم وأنظمتهم وقوانينهم وسلوكهم من مصادر غير ربانية ويعرضون عن تعاليم القرآن الكريم التي هي دستور حياتهم ومنهج سعادتهم وكمالهم ففقدوا رشدهم وضلّت مسيرتهم.

ومن مراتب هجران القرآن الاهتمام بمخارج حروفه وتلحين الصوت فيه ومعرفة قواعد قراءاته وأنواعها من دون التدبر بمعانيه والاستفادة من مضامينه

ص: 247

ولطائفه وهؤلاء قال فيهم الامام (علیه السلام) (حفظوا حروفه وضيّعوا حدوده)(1) .

ومنها اتخاذ الآيات القرآنية مسرحاً للصراعات العلمية البحتة والجدل والمراء في مختلف العلوم لإثبات آرائهم ومواقفهم والتعصب لها وتفوقهم على الخصوم مبتعدين عن الهدف الذي أنزل من أجله وهو هداية الناس وهذا الجدل يقسي القلب ويصدّ عن ذكر الله تعالى ومعرفته والاهتداء إليه.

ولا زالت الحوزات العلمية ومعاهد العلوم -- وهي المعين الذي ينهل الناس منه دينهم -- بعيدة عن الحياة في كنف القرآن الكريم، ولا يحظى هذا السبيل الأعظم الموصل إلى الله تعالى باهتمامهم، وينهي طالب العلم دراسته دون أن يحظى بدرس في القرآن الكريم، وربمايرى الكثيرون في التصدي لتفسير القرآن الكريم وشرح معانيه والاستفادة من لطائفه ودقائقه منقصة بعالم الفقه والأصول مما يشكّل ضغطاً نفسياً واجتماعياً عليه حتى يتركه.

فلابد ان نتدارك أمرنا ونبادر الى اتخاذ السبيل مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) لئلا نكون ممن يشكوهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومن الظالمين الذين يعضّون على أيديهم ويقول واحدهم (يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا) والقرآن هو السبيل الأعظم والثقل الأكبر روى في مجمع البيان عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله (أفضل العبادة قراءة القرآن)(2) وروي عنه (صلی الله علیه و آله) قوله (حملة القرآن عرفاء أهل الجنة)(3) .

ص: 248


1- الكافي: 2/598
2- مجمع البيان- الطبرسي: 1/44
3- الكافي: 2/443 ح 11، الخصال: 28 ح 100، معاني الأخبار:323

روى الشيخ الكليني بسنده عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله (فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع وماحل مصدق ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار وهو الدليل يدل على خير سبيل وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل)(1) وقال (صلی الله علیه و آله) (القرآن هدى من الضلالة وتبيان من العمى واستقالة من العثرة ونور من الظلمة وضياءمن الاحداث وعصمة من الهلكة ورشد من الغواية وبيان من الفتن وبلاغ من الدنيا إلى الآخرة وفيه كمال دينكم وما عدل أحد عن القرآن إلا إلى النار)(2) .

ومن خلال الرجوع إلى أهل البيت (علیهم السلام) في فهم مراداته فأنهم الثقل الآخر وهما متلازمان لا يفترقان بنص الحديث المشهور المتواتر لدى الفريقين (إني تارك فيكم أمرين إن أخذتم بهما لن تضلوا: كتاب الله عز وجل وأهل بيتي عترتي، أيها الناس اسمعوا وقد بلغت، إنكم ستردون علي الحوض فأسألكم عما فعلتم في الثقلين والثقلان: كتاب الله جل ذكره وأهل بيتي، فلا تسبقوهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم)(3)

فما تمسّك بأحدهما من لم يتمسك بالآخر، وقد اضيع القرآن عندما اقصي أهل البيت (علیهم السلام) عن مراتبهم التي وضعهم الله تعالى فيها ومما ورد في زيارة الامام الحسين (علیه السلام)

ص: 249


1- الكافي: 2/598
2- الكافي: 2/600
3- الكافي: 1/294

(وأصبح كتاب الله بفقدك مهجورا)(1) ، روى الشيخ الكليني في روضة الكافي خطبة لأمير المؤمنين (علیه السلام) المعروفة بخطبة الوسيلة إلى ان قال (فأنا الذكر الذي عنه ضل والسبيل الذي عنه مال والايمان الذي به كفر والقرآن الذي إياه هجر والدينالذي به كذب والصراط الذي عنه نكب)(2) .

وكان كل علم أهل البيت (علیهم السلام) من القرآن كما روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) وهو باب مدينة علم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وروى إبراهيم بن العباس قال (ما رأيت الرضا (علیه السلام) سئل عن شيء قط الا علمه، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان الأول إلى وقته وعصره، وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كل شيء فيجيب فيه وكان كلامه كلّه وجوابه وتمثّله انتزاعات من القرآن)(3) إن من الطبيعي ان يوجد أعداء للقرآن يهجرونه ويصدّون عنه ويحاربون حملته ويضعون العراقيل في طريق هدايته للبشر جميعاً ففي الآية التالية التي فيها تسلية لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وتخفيف عن آلامه (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ) (الفرقان:31) لكن الله تعالى شاء ألاّ يهجر القرآن فأوجب قراءته في الصلوات الخمس المفروضة يومياً، روى الفضل بن شاذان في علله عن الامام الرضا (علیه السلام) (فان قال : فلم أمروا بالقراءة في الصلاة قيل: لئلا يكون القرآن مهجورا مضيعاً وليكون محفوظاً فلا يضمحل ولا

ص: 250


1- مفاتيح الجنان: ص 552/ الزيارة المخصوصة ليوم عرفة.
2- روضة الكافي: 8/28
3- عيون أخبار الرضا (علیه السلام) : 2/180 ح 4

يجهل)(1) فلا خوف على القرآن لأن الله تكفل بحفظه، والمهم ان نكون نحن فيمعسكر القرآن ومن حملته والدعاة إليه ومنفذي أحكامه.

وقد ذكرتُ في سلسلة محاضرات (شكوى القرآن) (2) وغيرها عدة آليات وخطوات عملية لتفعيل دور القرآن الكريم في حياة الفرد والأمة يمكن الرجوع اليها والاستفادة منها.

فلابد ان نلتزم يومياً بتلاوة القرآن في أوقات الصلاة أو غيرها ففي صحيحة حريز عن ابي عبدالله الصادق (علیه السلام) قال (القرآن عهد الله إلى خلقه فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده، وان يقرأ منه في كل يوم خمسين آية)(3) والأولى ان يختم القرآن في الشهر مرة، فقد روي عن الامام الصادق (علیه السلام) قوله (لا يعجبني أن تقرأه في أقل من شهر)(4) وعلى الشباب أن يكونوا حريصين على ذلك، روى الشيخ الكليني بسنده عن الامام الصادق (علیه السلام) قال (من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن اختلط القرآن بلحمه ودمه، وجعله الله مع السفرة الكرام البررة، وكان القرآن حجيزاً عنه يوم القيامة)(5) إلى آخر الحديث.

وعلى الصعيد الاجتماعي اذكر فعالية واحدة الآن وذلك بأن يلتزم أئمة المساجد بأن يقرأوا مع المصلين صفحتين من القرآن الكريم بعدالانتهاء من

ص: 251


1- عيون اخبار الرضا: ج1/ ص 113
2- راجع: من نور القرآن: 3/284
3- الكافي: 2/441 ، ح4
4- الكافي: 2/451 ح 1
5- الكافي: 2/441 ، ح4

صلاة الجماعة يومياً ثم يشرح لهم باختصار موضوعاً ورد ذكره في الصفحتين كأهمية الصلاة أو بر الوالدين أو حرمة الغيبة أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو ولاية أهل البيت (علیهم السلام) وتوجد كتب مفيدة في هذا المجال كتفسير المعين فأنه يضع في حاشية كل صفحة من القرآن تفسيراً لمفرداتها ويشرح باختصار في أسفل الصفحة عنواناً ورد فيها وبذلك يحصل كل فرد على ثقافة قرآنية واسعة خلال مدة قصيرة بلطف الله تعالى وحسن توفيقه.

ص: 252

خطاب المرحلة 635 : يوم الغدير عيد الله الأعظم

(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (المائدة:67)

يوم الغدير عيد الله الأعظم(1)

كل آيات القرآن عظيمة وجليلة، وهذه الآية من أعظم الآيات القرآنية وأجلها قدراً لأنها أسست لمستقبل الإسلام بعد النبي (صلی الله علیه و آله) وخلوده وحفظته وصانته من الانحراف والتشويه في أهم منعطف ومفصل تاريخي بوفاة النبي (صلی الله علیه و آله) وغياب شخصه عن مسرح الحياة.

(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ) أمر متوجه إلى الرسول (صلی الله علیه و آله) وخوطب بهذا العنوان بصفته حامل رسالة إلهية عظيمة مهيمنة على كل الأديان وقيّمة عليها وخالدة تنظم شؤون الحياة لكل البشرية مدى الأجيال، ولأنه رسول فأنه لا يملك الا تبليغ الرسالة كما يريد المُرسل (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (النور:54).

(بَلِّغْ) أي أوصل الرسالة بوضوح وحسم وهو تعبير أقوى من (أبلغ) ولا يتحقق التبليغ الا بأمرين: كون البيان واضحاً معبراً عنالمطلوب بدقة، وكونه معلناً صريحاً وحاسماً ومشهوراً للناس.

ص: 253


1- كلمة ألقاها سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) يوم 14 /ذي الحجة/ 1441 الموافق 2020/8/4 بمناسبة حلول ذكرى عيد الغدير الأغر في اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة الحرام.

(مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) ولم يذكره صريحاً تعظيماً له وللإشارة إلى أنه منزّل إليك من الله تعالى وليس لك أي يد فيه حتى لا يتهم بمحاباة أو مصلحة شخصية وغير ذلك، ولأنه منزل إليك فليس لك خيار إلاّ تبليغه.

وهذا الأمر المراد تبليغه لا يراد به كل ما انزل إليك -كما قال بعض العامة -لأن الجملة تصبح لغواً وتحصيل حاصل مع الجملة التالية وتصبح كالتالي (وإن لم تبلّغ ما انزل اليك فما بلّغت ما انزل اليك).

وليس هو قضية التوحيد أو النبوة أو البعث يوم القيامة ونحو ذلك من العقائد الحقة لأن هذه كلها بلّغها النبي (صلی الله علیه و آله) منذ بداية البعثة من دون تردد فلا تحتاج إلى التطمين التالي (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).

وليس هذا الأمر من قبيل الأحكام الشرعية لأنها بُلّغت كلها تدريجياً بحسب نزول الآيات الآمرة بها.

وإنما هو أمر محدد أنزله الله تعالى إليك في آيات سابقة وبوحي متكرر في مناسبات متعددة لتبلّغه ولكنه لم يكن حاسماً قاطعاً كما يراد تبليغه الآن، وهو أمرٌ مهم وخطير بحيث أنه يعدل الرسالة كلها، وإن لم يبلّغه فكأنه لم يبلغ الرسالة كلها كما أفاد الجزء التالي من الآية.

(مِن رَّبِّكَ) اختار الرب دون الأسماء الحسنى وإضافه إليه (صلی الله علیه و آله) لإظهار مزيد من الرحمة والحنو على رسول الله (صلیالله علیه و آله) بأن هذا الأمر أنزله ربك الذي ربّاك وتكفل بك وحماك ونصرك وأعلى شأنك فلتطب نفسك وليطمئن قلبك.

(وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) جملة لم يرد مثلها في القرآن الكريم وتعزّز التأكيدات المتكررة على تبليغ هذا الأمر، وظاهرها التهديد الا ان هذا

ص: 254

المعنى غير وارد لأن النبي (صلی الله علیه و آله) لا يحتمل فيه عدم التبليغ حتى يذكر جزاؤه، وقد قال تعالى (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (الأنعام:124) فالآية في حقيقتها تعبير عن أهمية القضية بحيث ان اهمالها يعني التفريط بكل الرسالة وكأنه (صلی الله علیه و آله) لم يفعل شيئاً خلال مدة الدعوة التي تجاوزت عشرين عاماً.

وكان يُشقّ على النبي (صلی الله علیه و آله) تبليغ هذا الأمر لأنه كما يظهر من الآية يتعلق ب- (حكم نازل، فيه شوب انتفاع للنبي (صلی الله علیه و آله) واختصاصه بمزية حيوية مطلوبة لغيره أيضاً يوجب تبليغه والعمل به حرمان الناس عنه، فكان النبي (صلی الله علیه و آله) يخاف إظهاره فأمره الله بتبليغه وشدَّد فيه، ووعده العصمة من الناس وعدم هدايتهم في كيدهم إن كادوا فيه)(1).

(وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ليس المقصود بالناس اليهود وأمثالهم لأنهم قد قضي عليهم قبل ذلك بسنين ولم تبق لهم باقية، ولا يراد بهمالمشركون لأن شوكتهم كسرت بفتح مكة ودخلوا في الإسلام طوعاً أو كرهاً، وإنما المراد بهم جماعة من أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) كان يتوقع منهم التمرد والعصيان والانشقاق.

ولأن هذا الأمر يعرّضه (صلی الله علیه و آله) للاتهام بأنه يبتغي به مصلحة شخصية أو محاباة(2) وقد بلّغ النبي (صلی الله علیه و آله) أحكاماً فيها ما يفسَّر على أنه مصلحة شخصية له

ص: 255


1- تفسير الميزان- الطباطبائي: 6/48
2- روى الحسكاني في شواهد التنزيل عن ابن عباس وجابر قالا: أمر الله محمداً (صلی الله علیه و آله) أن ينصب علياً للناس ليخبرهم بولايته، فتخوف رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يقولوا حابى ابن عمه، وأن يطعنوا في ذلك عليه، فأوحى الله إليه (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ) الخ فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) بولايته يوم غدير الخم). وروى عن زياد بن المنذر عن أبي جعفر محمد بن علي (علیهما السلام) إلى أن قال (إن جبرئيل هبط إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: ان الله يأمرك أن تدلَّ أمتك على وليّهم على مثل ما دللتهم عليه من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم وحجهم ليلزمهم الحجة من جميع ذلك، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : يا ربِّ ان قومي قريبوا عهد بالجاهلية وفيهم تنافس وفخر، وما منهم رجل الا وقد وتره وليّهم، وإني أخاف -- أي من تكذيبهم -- فأنزل الله تعالى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ). (شواهد التنزيل: 1/191-192 وراجع تفسير الآية في أسباب النزول للواحدي ونزول القرآن لأبي نعيم.

كتزوجّه بأكثر من أربعة ولم يكن فيها حزازة ولا تردد لأنها لا تتعارض مع مصالحهم، لكن هذا الأمر المقصود بالآية من نوع خاص، لأنه يمسّ مصلحة مهمة لهم ويهدم طموحاً مُلحّاً ينتظرون تحقيقه وهو خطر عظيم قد يؤدي إلى إنهيار الكيان الإسلامي فأحبَّ النبي (صلی الله علیه و آله) تأجيلتبليغه إلى وقت الضرورة لأنه يتعلق بما بعد وفاته (صلی الله علیه و آله).

وهذا التحليل العقلائي المستفاد من ظاهر الآية الكريمة وتسلسل فقراتها ينسجم مع ما ورد في مصادر العامة والخاصة من نزولها في التبليغ بولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) الأمر بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد نزلت فيه منذ بداية الدعوة الإسلامية آيات كثيرة كقوله تعالى (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) (الشعراء:214) فجمع النبي (صلی الله علیه و آله) بني هاشم وأنذرهم ثم أخبرهم بأن علياً وزيره وخليفته. وتوالت الاخبارات حتى آية الولاية (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (المائدة:55) لكنها لم تصل إلى درجة التبليغ القاطع الحاسم وإقامة احتفال التنصيب الرسمي كما يقال، خشية أن يتهموه (صلی الله علیه و آله) في ابن عمه. ولما علم الله تعالى أن أجله ((9 قريب أمر بإنجاز الأمر فوراً وقد أشار (صلی الله علیه و آله) إلى ذلك فأنه قال قبل

ص: 256

تبليغ الأمر (أيها الناس يوشك أن أقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي...)(1).

وهذه القضية المهمة التي جعل تبليغها يعادل تبليغ الرسالة كلها هي تعيين القيادة المعصومة التي تخلف النبي (صلی الله علیه و آله) وتواصل حمل رسالة الإسلام وصيانتها ونشرها لتستمر في أداء دورها،أي نقل ارتباط الرسالة من الحامل الشخصي وهو النبي (صلی الله علیه و آله) إلى الحامل النوعي لها الذي يتصف بصفات الرسول (صلی الله علیه و آله) وعلى رأسها العصمة والعلم وهو أمير المؤمنين ومن بعده الأئمة الطاهرون من بنيه (صلوات الله عليهم أجمعين) فان دوام الرسالة وحفظها يتحقق بوجود المؤهّل لحملها والا تموت الرسالة بموت حاملها كما حصل في شرائع الأنبياء السابقين حيث بقيت عرضة للتلاعب والتزوير وقد شرحنا ذلك في بحث مستقل(2) .

وان مصدر قلقه (صلی الله علیه و آله) علمه بأن قوماً من أصحابه كانوا يتطلّعون للسلطة من بعده وينتظرون موته (صلی الله علیه و آله) ليمسكوا بزمامها مدعومين بقطاع واسع ممن اسلموا كرهاً وانصياعاً للواقع أو طمعاً في أن يكون لهم شيء في دولة الرسول الكريم (صلی الله علیه و آله) خصوصاً من قريش، وهذا ما ورد على لسان عمر بن الخطاب في أكثر من محاورة مع ابن عباس وفي أحداها قال (يا بن عباس! أتدري ما منع قومكم منه بعد محمد؟ فكرهتُ أن أجيبه، فقلت: إن لم أكن أدري فأمير المؤمنين يدريني، فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة فتبجحوا

ص: 257


1- الاحتجاج- الطبرسي: 1/216
2- راجع: بحث بعنوان: (كيف خطّط رسول الله (صلی الله علیه و آله) للخلافة من بعده), في (من نور القرآن: 1/395)

على قومكم بجحاًبجحاً، فاختارت قريش لأنفسها ووفقت)(1) وهذا يعني ان قريشاً كانت تجتمع وتناقش كيفية الاستيلاء على السلطة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وفق مصالحها هي وليس مصلحة الإسلام، وقد عزمت على انتزاع الأمر من علي (علیه السلام).

وهذا ما كشف عنه أمير المؤمنين (علیه السلام) واشتكى منه لاحقاً بقوله (اللهم إني أستعديك على قريش ومن أعانهم فإنهم قد قطعوا رحمي وأكفئوا إنائي وأجمعوا على منازعتي حقا كنت أولى به من غيري)(2).

وهؤلاء هم من كان يخشى النبي (صلی الله علیه و آله) من فتنتهم وتقليبهم الأمور لو نصّب علياً خليفة من بعده، وكثير منهم ينظر إلى النبي (صلی الله علیه و آله) على أنه ملك وزعيم نجح في بسط سلطانه كأبي سفيان في كلمته التي قالها عندما بويع لابن عمه عثمان بالخلافة (تلاقفوها يا بني أمية تلاقف الكرة بيد الصبيان فوالذي يحلف به أبو سفيان فلا جنة ولا نار ولا معاد)(3) وأكّد بها قوله السابق حينما رأس جيش رسول الله (صلی الله علیه و آله) على مشارف مكة وقد اضاؤوا النيران فقال للعباس بن عبدالمطلب (لقد أصبح ملك ابن أخيكعظيماً)(4) فقال له العباس (ويلك انها النبوة).

فلم يكن خوف رسول الله (صلی الله علیه و آله) على نفسه فقد صدع بالدعوة وحيداً

ص: 258


1- تاريخ الطبري: 1/30 ط . مصر الأولى في ذكر سيرة عمر من حوادث سنة 23 ه-
2- نهج البلاغة: 336 الخطبة 217
3- الجوهري: السقيفة 39 - 40، ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 2/ 44
4- بحار الأنوار: 21/ 104، مجمع البيان في تفسير القرآن:10/471

ولم يثنه بطش قريش وقسوتها (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) (الأحزاب:39).

فأمن الله تعالى نبيه من هذه المخاوف، وصدق وعده حينما انهال الجميع فوراً على بيعه أمير المؤمنين (علیه السلام) إماماً وخليفة من بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وكان اول المبايعين أبا بكر وعمر وهما يقولان (هنيئاً لك يا ابن ابي طالب، أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة)(1) وفي رواية أخرى قال ابن الخطاب (بخٍ بخٍ لك يا ابن ابي طالب)(2)

وظلّ يكرر الاعتراف بولاية علي (علیه السلام) في كل مناسبة(3) كما سيأتي ان شاء الله تعالى.

ولما تم الأمر استبشر النبي (صلی الله علیه و آله) وملأه السرور واطمأن على خلود الإسلام والقرآن ومستقبل الرسالة لأن الله تعالىقيّض لها من يحفظها ويصونها ونزل قول الله تبارك وتعالى (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) (المائدة:3) لأن فئات كثيرة كانت تعوِّل على وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) للتخلص من الإسلام بعد أن فشلت كل خططهم ومؤامراتهم للقضاء عليه، أما اليوم فقد دخل اليأس قلوبهم لأن النبي (صلی الله علیه و آله) وإن ارتحل بشخصه إلى الرفيق الأعلى فأنه سيبقى محفوظاً بأخيه وصنوه علي بن أبي طالب (صلوات الله

ص: 259


1- مسند أحمد: 4/281 وسنن ابن ماجة باب فضائل علي، والرياض النضرة: 2/169.
2- شواهد التنزيل: 1/157،158
3- أورد جملة منها في (الفرقان في تفسير القرآن: 9/43) منها ما أخرجه الطبراني وفي الفتوحات الإسلامية: 3/307: حكم علي مرة على اعرابي بحكم فلم يرضَ بحكمه فتلبّبه عمر بن الخطاب وقال له: ويلك إنه مولاك ومولى كل مؤمن ومؤمنة.

وسلامه عليه).

ان هذا الذي أوردنا من التفسير الظاهر من الآية الكريمة ينطبق تماماً على القضية التي نزلت فيها ونقلها جمع كبير من الصحابة أحصي منهم (110) ذكرت أسماؤهم في المصادر(1) وألف جمع غفير من علماء الفريقين كتباً خاصة فيه فقد صنف مسعود بن ناصر السجستاني(2) كتاب (الدراية في حديث الولاية) من سبعة عشر جزءاًروى فيه الحديث عن 120 صحابياً(3) وألّف فيه ابن عقدة(4) الذي وثقه ارباب المذاهب وسمى كتابه (الولاية ومن روى غدير خم) ورواه من 105 طرق وألف الطبري(5)

صاحب التفسير والتاريخ (كتاب الولاية) وروى الحديث من خمس وسبعين طريقاً(6).

وننقل النص من مصادر العامة فقالوا (لّما صدر رسول الله من حجّة

ص: 260


1- راجعها في بحار الأنوار:37/181-182 وذكرهم باسمائهم في (الفرقان في تفسير القرآن : 9/25) وأضاف لهم التابعين وتابعيهم وفي سائر القرون وقد أوفى المرحوم العلامة الأميني البحث والاستقصاء وسجَّل كل هذه الاسماء و الوثائق في المجلد الأول من كتاب الغدير : 214-223 وبذل صاحب تفسير الفرقان جهداً وافياً في استقصاد مصادر التفسير والحديث والتاريخ (الفرقان في تفسير القرآن: 9/23)
2- محدّث، قال عنه بعض مؤرخيه ان فوائده من الأخبار لا تحصى توفي سنة 477 ه- (الاعلام للزركلي:8/117)
3- بحار الأنوار: 37/126
4- أحمد بن محمد، حافظ مكثر فقد كان يقول: احفظ مئة ألف حديث بأسانيدها توفي سنة 332 ه- (الاعلام:1/198)
5- محمد بن جرير: مؤرخ مفسر إمام مجتهد قلده بعض الناس عرض عليه القضاء وديوان المظالم فأبى، صاحب التاريخ المعروف ووصف بأنه أوثق المؤرخين ، له تفسير مطبوع بثلاثين جزءاً وكتب كثيرة أخرى توفي سنة 310 ه- (الاعلام:6/294)
6- بحار الأنوار:37/183

الوداع نزلت عليه في اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة آية (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ...) فنزل غدير خمّ من الجحفة وكان يتشعب منها طريق المدينة ومصر والشام ووقف هناك حتّى لحقه من بعده وردّ من كان تقدّم ونهى أصحابه عن سمرات متفرقات بالبطحاء أن ينزلوا تحتهنّ، ثم بعث إليهن فقّمَّ ما تحتهن من الشوك ونادى بالصلاة جامعة وعمد إليهنّ وظلّل لرسول الله (صلی الله علیه و آله) بثوب على شجرة سمرة من الشمس، فصلى الظهر بهجير ثمّ قام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه، وذكر ووعظ وقال ما شاء الله أن يقول، ثمّ قال: (إنّي أوشك أنأُدعي فأجيب، وإنّي مسؤول وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟) قالوا: نشهد أنّك بلّغت ونصحت فجزاك الله خيراً، قال: (أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً عبده ورسوله وأنّ الجنّة حقّ وأنّ النار حقّ؟) قالوا: بلى نشهد ذلك. قال: (اللهمّ أشهد) ثم قال: (ألا تسمعون؟) قالوا: نعم. قال: (يا أيّها الناس إنّي فرط وأنتم واردون عليّ الحوض وإن عرضه ما بين بصرى إلى صنعاء فيه عدد النجوم قدحان من فضّة، وإنّي سائلكم عن الثقلين، فأنظروا كيف تخلفونني فيهما) . فنادى مناد: وما الثقلان يا رسول الله؟ قال: (كتاب الله، طرف بيد الله وطرف بأيدكم، فأستمسكوا به، لا تضلّوا ولا تبدّلوا، وعترتي أهل بيتي، وقد نبّأني اللّطيف الخبير انّهما لن يتفرّقا حتّى يردا عليّ الحوض، سألت ذلك لهما ربّي، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلّموهما فهم أعلم منكم) ثم قال: (ألستم تعلمون أنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟) قالوا: بلى يا رسول الله! قال : (ألستم تعلمون -أو تشهدون -أنّي أولى بكلّ مؤمن من نفسه؟) قالوا: بلى يا رسول الله. ثم أخذ بيد عليّ بن أبي طالب بضبعيه فرفعها

ص: 261

حتّى نظر الناس إلى بياض إبطيهما، ثم قال (أيها الناس! الله مولاي وأنا مولاكم، فمن كنت مولاه، فهذا عليّ مولاه. اللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وأنصر من نصره، وأخذل من خذله، وأحبّ من أحبّه، وأبغض من أبغضه). ثم قال (اللهم اشهد) ثم لم يتفرقا -رسول الله وعليّ -حتّى نزلت هذه الآية: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُلَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) (المائدة:3) . فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة، ورضا الربّ برسالتي والولاية لعلي)(1).

وروى جمع من علماء العامة عن ابن مسعود أنه قال (كنا نقرأ على عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ -أن علياً مولى المؤمنين -وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) )(2).

ومما اشكلوا به ان المولى لها عدة معانٍ في اللغة كالناصر والحبيب وغيرهما فلا تتعين بولي الأمر، وهو احتمال مدفوع بصريح الحديث النبوي الشريف لأنه (صلی الله علیه و آله) بيَّن مراده من الولي، وتكذبه أيضاً ظروف الحادثة فهل أوقف النبي (صلی الله علیه و آله) تلك الجموع الحاشدة ليقول اني أحبّ علياً وأنه نصرني ونحو ذلك من الأمور الواضحة عند كل أحد.

ان مما يؤسف له تحكم الاهواء والعصبيات في اذهان المفسرين الذين

ص: 262


1- نقلناه بواسطة معالم المدرستين للمرحوم السيد مرتضى العسكري: 1/483-486 عن مجمع الزوائد للهيثمي : 9/105 و 163-165 وشواهد التنزيل للحسكاني: 1/192-193 ومسند أحمد: 4/281 وسنن ابن ماجة 1/43 ح 116 وغيرها.
2- الفرقان في تفسير القرآن: 9/19 عن الحافظ ابن مردوية/108، الدر المنثور: 3/298، الشوكاني في فتح القدير، الاربلي في كشف الغمة.

لم يستقوا علومهم من أهل بيت النبوة فشرّقوا وغرّبوا واوردواوجوهاً في تفسير الآية وسبب نزولها مما لا يناسب أجواء نزول الآية وظروف الحدث، ولا يليق صدوره منهم وفيهم ذوو عقول كبيرة والمهم عندهم صرفها عن الحقيقة التي نزلت الآية لبيانها ورواها جمع كبير من الصحابة والتابعين مع انهم يكتفون في تفسير الآية برواية واحدة عن هذا الصحابي أو ذاك ولا نريد الاطالة في عرض هذه الوجوه ومناقشتها.

أقول: واذا كانوا إلى اليوم يرفضون سماع هذه الحقيقة والايمان بها مع تواتر روايتها والقطع بصدورها فكيف كانوا في لحظة الحدث مما يعطينا فكرة عن مخاوف رسول الله (صلی الله علیه و آله) من إبلاغ هذا الأمر.

وظل أمير المؤمنين وأهل بيته (علیهم السلام) وشيعته يؤكدون هذا الحق الثابت حتى لا يضيّعه المحرّفون، ومن أقواله (علیه السلام) في ذلك (فوالله ما زلت مدفوعاً عن حقي، مستأثراً عليّ منذ قبض الله نبيه (صلی الله علیه و آله) حتى يوم الناس هذا)(1).

وقال في الخطبة الشقشقية (أما والله لقد تقمصها فلان (ابن أبي قحافة) وانه ليعلم ان محلي منها محل القطب من الرحى)(2).

وقال (علیه السلام) (لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري، ووالله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلا عليخاصة التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه)(3).

ص: 263


1- نهج البلاغة: 49 الخطبة 6
2- نهج البلاغة: 47 الخطبة 4
3- نهج البلاغة: 102 الخطبة 74

وقال (علیه السلام) (فوالله إني لأولى الناس بالناس، لم تكن بيعتكم إياي فلتة، وليس أمري وأمركم واحدا. إني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم)(1) .

وقال (علیه السلام) (فلما مضى تنازع المسلمون الأمر من بعده، فوالله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده (صلی الله علیه و آله) عن أهل بيته ولا أنهم منحوه عني من بعده، فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد صلى الله عليه وآله! فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلما أو هدما، تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم، التي إنما هي متاع أيام قلائل)(2).

واعتبر الأئمة المعصومون (علیهم السلام) يوم الغدير أعظم أعياد الإسلام لعظمة النعمة التي منّ الله تعالى بها فأكمل بها الدين ورضي الإسلام لنا ديناً، روى الكليني بسنده عن سالم قال (سألت أبا عبد الله(علیه السلام) هل للمسلمين عيد غير يوم الجمعة والأضحى والفطر؟ قال : نعم أعظمها حرمة . قلت : وأي عيد هو جعلت فداك ؟ قال : اليوم الذي نصب فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمير المؤمنين (علیه السلام) وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه)(3) ومثلها عدة روايات في نفس الباب.

وفي آمالي الشيخ الصدوق بإسناده عن الامام الصادق (علیه السلام) عن آبائه

ص: 264


1- نهج البلاغة: 194 الخطبة 136
2- نهج البلاغة: 451 الخطبة 62
3- وسائل الشيعة: 10/440 أبواب الصوم المندوب، باب 14 ، ح 1

(علیهم السلام) قال (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : يوم غدير خم أفضل أعياد أمتي وهو اليوم الذي أمرني الله تعالى ذكره فيه بنصب أخي علي بن أبي طالب (علیه السلام) علماً لأمتي يهتدون به من بعدي وهو اليوم الذي أكمل الله فيه الدين وأتمّ على أمتي فيه النعمة ورضي لهم الإسلام دينا)(1) .

وروى الشيخ في التهذيب عن الامام الصادق (علیه السلام) قوله (وهو عيد الله الأكبر)(2) .

لذا يعبّر الامام الباقر (علیه السلام) بأسف وحسرة عن تضييع الأمة لهذا الأمر الإلهي العظيم الذي يعدل الرسالة كلها، بقوله (علیه السلام) (تعطى حقوق الناس بشهادة شاهدين وما اعطي أمير المؤمنين(علیه السلام) حقه بشهادة عشرة الآف نفس يعني الغدير) ومثله عن الامام الصادق (علیه السلام).

وقد جعل الأئمة (علیهم السلام) برنامجاً عبادياً مكثفاً في هذا اليوم شكراً لله تعالى على هذه النعمة وجعل عليها ثواباً عظيماً كالصوم والصلاة والدعاء والصدقة وتبادل التهاني مع المؤمنين، وزيارة أمير المؤمنين (علیه السلام) ولو من بعد لمن يتعذر عليه زيارة مرقد الشريف عن قرب، روى إبن ابي نصر قال (كنّا عند الرضا (علیه السلام) والمجلس غاص بأهله فتذكروا يوم الغدير فأنكره بعض الناس(3)

فقال الرضا (علیه السلام) : حدثني ابي عن أبيه (علیه السلام) قال: ان يوم الغدير

ص: 265


1- تفسير نور الثقلين:1/368 ح 29 من تفسير سورة المائدة
2- وسائل الشيعة: 8/89 أبواب الصلوات المندوبة باب 3 ح 1
3- الظاهر ان ذلك كان أيام ولايته العهد زمن المأمون فكان مجلسه الرسمي عاماً لكل الناس وليس للموالين فقط.

في السماء أشهر منه في الأرض) ثم قال ( يا ابن ابي نصر، أينما كنت فاحضر يوم الغدير عند أمير المؤمنين (علیه السلام) )وبعد ان ذكر ثواب ذلك قال (والله لو عرف الناس فضل هذا اليوم بحقيقته لصافحتهم الملائكة في كل يوم عشر مرات)(1).

ويمكن أن نفهم من الآية الكريمة أن على العاملين الرساليين ان لا يترددوا ولا يتلكأوا في نصرة مشروع الإسلام والتحرّك به مهما حاول الناس -بكل ما يحويه اللفظ من استصغار في هذا الموضع -وضعالعراقيل وبث التهم والشبهات لأن الله تعالى يعصمه من هذه المكائد والخبث والشيطنة، وإنه تعالى ينصر من ينصره (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ) (الحج:40) وقد ورد هذا المعنى في خطبه لأمير المؤمنين (علیه السلام) قال فيها (فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، واعلموا ان الأمر بالمعروف والنهي عن النكر لن يقرِّبا أجلاً ولن يقطعا رزقاً)(2).

ص: 266


1- وسائل الشيعة: 14/389 أبواب المزار، باب 28 ح 1
2- وسائل الشيعة: 16/120 ، أبواب الأمر والنهي، باب 1 ح 7

خطاب المرحلة 636 : إقامة الشعائر الحسينية في ظرف الوباء

لا شك ان الشعائر الحسينية من أعظم الشعائر الدينية وتضاهي في بركتها وتأثيرها في حفظ الدين الحق وتثبيته في قلوب المؤمنين ودعوة البشرية إلى الله تبارك وتعالى أعظم الشعائر الواجبة.

لذا فإقامتها والاهتمام بها من أوضح مصاديق قول الله تعالى (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج:32).

لكن تفشي الوباء الذي تعيشه جميع البلدان وإصابة الملايين من الناس حتى عدّته منظمة الصحة العالمية جائحة مهلكة توجب علينا شرعاً وعقلاً من باب لزوم دفع الضرر عن النفس وعن الآخرين الالتزام بالإجراءات الصحية التي تقي من سريان الوباء وانتشار العدوى به.

فعلى المؤمنين مراعاة إجراءات التباعد ولبس الكمامات وتعقيم المكان والأيدي عند الملامسة والامتناع عن احتشاد الناس بلا فواصل عند إقامتهم للشعائر الحسينية وسائر الشعائر الدينية وإذا توفرت أجهزة الفحص فيحسُنُ اجراء التحليلات الاستباقية وتوثيق سلامة الأشخاص بشهادات يبرزها الداخل إلى أي مكان عام كشرط للإذن له بالدخول.

وإذا لم يضمن المؤمنون ضبط الإجراءات فليقتصروا على إقامتها في البيوت بحضور افراد الاسرة فقط والانصات الى مجالس الخطباء الواعين الرساليين وهي موجودة بكثرة على مواقع التواصل الاجتماعيبفضل الله تبارك

ص: 267

وتعالى.

وليواظبوا على زيارة عاشوراء يومياً فإنها مجرّبة كسبب فعال لقضاء الحوائج ودفع البلاء وحل المشاكل ونيل الثواب وشفاعة المعصومين (علیهم السلام) في الآخرة.

ولا نغفل عن الاحياء النوعي لذكرى أبي عبدالله الحسين (علیه السلام) وإقامة شعائره كالتبرع بالدم وتبرع المتعافين من فايروس كورونا ببلازما الدم وزيارة المصابين المحجورين في منازلهم وإيصال قناني الأوكسجين لهم وللمستشفيات وتوفير الأدوية اللازمة أو ادخال الفرحة على الايتام ومواساة المفجوعين ومساعدة المحتاجين بالشكل الذي يحفظ كرامتهم باسم الامام الحسين (علیه السلام) وتوزيع النشرات ونصب اللوحات التي تقتبس من انوار كلمات الامام الحسين (علیه السلام) لتضيء للأمة طريق الهداية والصلاح أو عرض رسوم كارتونية تعالج الظواهر الاجتماعية المنحرفة وتشيد بالصور الإيجابية والافعال النبيلة تحقيقاً للغرض من خروج الامام الحسين (علیه السلام) وهو إقامة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

لقد جرّب العراقيون أنهم حينما التزموا بالتوجيهات الشرعية والإجراءات الصحية في بداية ظهور الفايروس مع حلول شهر رجب الماضي كانت الإصابات محدودة جداً ومحل فخر أمام العالم حتى تساءلت المنظمات الدولية المختصة عن السر في عدم انتشار الوباء فيالعراق رغم كونه محاطاً بدول موبوءة واستمر الحال ثلاثة أشهر حتى حصل الانفلات والمخالفة في عيد الفطر فقفز عدد الاصابات إلى مديات خطيرة والعراق في حال لا يسعه

ص: 268

التصدي لمثل هذه البلاءات لكثرة جروحه النازفة.

نسأل الله تعالى أن يكشف عنّا الضر والسوء ويمنّ علينا بالعافية في أمورنا كلها ويوفقنا لطاعته ونيل مرضاته إنه ولي النعم.

محمد اليعقوبي

19 / ذي الحجة/1441

2020/8/9

ص: 269

خطاب المرحلة 637 : نور القرآن

بسمه تعالى

نور القرآن(1)

وصف القرآن الكريم نفسه بأنه (نور) في آيات عديدة كقوله تعالى (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ) (المائدة:15) وقوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا) (النساء:174) وقال تعالى (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا) (التغابن:8) وقال تعالى (مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا) (الشورى:52) وغيرها من الآيات.

وهكذا وُصِف في الأحاديث الشريفة كقول رسول الله (صلی الله علیه و آله) (القرآن هو النور المبين والذكر الحكيم والصراط المستقيم)(2) .

ومن كلام لأمير المؤمنين (علیه السلام) في صفة رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال (حتى أكرمه الله عزوجل بالروح الأمينوالنور المبين والكتاب المستبين)(3) وقال الامام الحسن (علیه السلام) (إن هذا القرآن فيه مصابيح النور وشفاء الصدور، فليجلُ جالٍ بصره، فان التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات

ص: 270


1- من مقدمة الطبعة الجديدة من تفسير (من نور القرآن) لسماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله).
2- كنز العمال: 1/517 ح 2309
3- التوحيد: 72 ح 26 ، عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 1/124 ح 15

بالنور)(1).

ومن دعاء الامام زين العابدين (علیه السلام) عند ختم القرآن (وجعلته نوراً نهتدي من ظلم الضلالة والجهالة باتباعه... ونور هدى لا يُطفأ عن الشاهدين برهانه، وعلم نجاة لا يضِلُّ من أمَّ قصد سُنّته، ولا تنال أيدي الهلكات من تعلق بعروة عصمته)(2).

والنور هو الظاهر في نفسه المظهر لغيره بما يلقي على الأشياء من الضوء فيجعلها قابلة للإبصار، فالقرآن نور لأنه المصباح الذي يستضيئ به طالبو الكمال والسائرون على طريق الهداية والصلاح والسعادة في الدنيا والآخرة وهذه هي وظيفة القرآن والغرض من نزوله (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (المائدة:15-16).

وقد تسأل بأن القرآن اذا كان بيِّناً في نفسه مبيِّناً لغيره فما الحاجةالى التفسير الذي يعني كشف معنى اللفظ واظهاره وبيان مراد المتكلم ومدلولات كلامه. ويُجاب بأن القرآن كما وصف بيِّن ظاهر لذا يستفيد منه كل من يقرأه بحسب مؤهلاته (فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) (الرعد:17) وان الحاجة الى التفسير بلحاظ قصورنا عن ادراك معانيه لما ران على قلوبنا وعقولنا من رين الجهل والشك والسطحية في التفكير والنظر فالتفسير يزيل هذه الحجب ويقرّبنا الى

ص: 271


1- نزهة الناظر: 73 ح 18، كشف الغمة: 2/199 بواسطة معرفة القرآن على ضوء الكتاب والسنة للريشهري: 1/52
2- الصحيفة السجادية: 157 الدعاء 42.

القرآن الذي هو قريب منا الا اننا بعيدون عنه، مضافاً الى وجود تفاصيل لم تذكرها الآيات الكريمة فوظيفة الرسول (صلی الله علیه و آله) بيانها (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ) (الجمعة:2).

وإنّ للقرآن بطوناً من التفسير والحقائق المكنونة في طياته لا يتيسّر معرفتها الا لأهلها وهم يبيّنون لغيرهم.

والقرآن من أعظم أسباب تحصيل النور فهو ثقل الله الأكبر استمد نوره من مرسله ومنزله وهو (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) (النور:35) لا يضِل من تمسك به، والقرآن يجلي البصيرة ويكشف عنها فيتمكن الإنسان من النظر بها، ويفجّر في القلب والعقل نور الفرقان الذي يميّز للإنسان الحق من الباطل ويأخذ بيده على الصراط المستقيم.

فمن لم يتمسك بالقرآن ولم يأخذ بعروته الوثقى يسير كالأعمى على غير بصيرة (وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (الإسراء:72) وسيتميز الفريقان يوم القيامة (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَوَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (الحديد:12) اما المعرضون عن القرآن فيتوسلون اليهم لعلهم يشفقون على حالهم ويمدّونهم ببعض النور الذي اكتسبوه، وينقذونهم من حالهم وهم يتخبّطون في الظلمات ويحيط بهم العذاب (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ) ويأتيهم الجواب (قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا) (الحديد:13) لأن هذا النور في الآخرة هو حصيلة التعلق بالقرآن والعمل به في الدنيا وكان

ص: 272

عليكم اكتساب النور فيها لينير لكم في الآخرة.

وهكذا فالقرآن نور في الحياة الدنيا وفي الآخرة وما بينهما في البرزخ والقبر حيث الوحدة والوحشة والضيق وروي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله (عليك بتلاوة القرآن فأنه نور لك في الأرض، وذخرٌ لك في السماء)(1) ومن دعاء الامام السجاد (علیه السلام) (اللهم وما أجريت على ألسنتنا من نور البيان، وايضاح البرهان، فاجعله نوراً لنا في قبورنا ومبعثنا، ومحيانا ومماتنا، وعزّاً لنا لا ذلاً علينا، وامناً لنا من محذور الدنيا والآخرة)(2) .

فهذا التفسير محاولة للاقتباس من نور القرآن ما نُحيي قلوبناوتطهر به نفوسنا وتستقيم به حياتنا وتنتظم به أمورنا ويفتح عقولنا على ما لم نكن نعلم مما به صلاحنا وفلاحنا (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا) (أنعام:122) (فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف:157) وقال أمير المؤمنين (علیه السلام) (تعلموا القرآن فأنه أحسن الحديث، وتفقهوا فيه فأنه ربيع القلوب، واستشفوا بنوره فأنه شفاء الصدور)(3).

وقد ذكرنا تفاصيل أوفى عن سببية القرآن لتحصيل النور، والعمى والضلالة بهجرانه والحاجة إلى نور القرآن في الدنيا والآخرة في تفسير عدة اقباس موجودة في مواضعها كقوله تعالى (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ

ص: 273


1- ميزان الحكمة: 9/182
2- بحار الأنوار: 94/126 ح 19
3- نهج البلاغة: خطبة 110

مُّبِينٌ) (المائدة:15) وقوله (وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (الإسراء:72) وقوله تعالى (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم) (الحديد:12) وغيرها.

ص: 274

خطاب المرحلة 638 : (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (الفاتحة: 1)

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (1) (الفاتحة: 1)

أعظم آية في كتاب الله تعالى بحسب ما يأتي عن الامام الصادق (علیه السلام)، وتفتتح بها أعظم سور القرآن وأفضلهن وقد جمعت فيها كل علوم ومعارف القرآن الكريم كما في الرواية الآتية عن أمير المؤمنين (علیه السلام)، وتمثل كل آية منها قاعدة كلية ومبدءاً اساسياً من المبادئ التي يستند اليها الإسلام، وروي في ذلك عن ابن عباس قوله (إن لكل شيء اساساً، واساس القرآن الفاتحة واساس الفاتحة بسم الله الرحمن الرحيم)(2)

وقد روي في فضلها أحاديث كثيرة منها ما رواه ابن عباس عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال (اذا قال المعلم للصبي: قل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتب الله براءة للصبي وبراءة لأبويه وبراءة للمعلم) وعن ابن مسعود قال (من أراد أن يُنجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فإنها تسعة عشر حرفاً، ليجعل الله كلحرف منها جنة من واحد منهم)(3) .

ولا يبعد أن تكون البسملة وسورة الفاتحة التي تبتدئ بها أول الآيات

ص: 275


1- كلمة لسماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) ألقيت يوم الجمعة 1/محرّم الحرام/1442 الموافق 2020/8/21
2- مجمع البيان: 1/17 وحكيت عن ابن كثير في تفسيره: 1/9
3- مجمع البيان: 1/19 ، البرهان:1/82 ح 28 عن جامع الأخبار.

القرآنية نزولاً كما انها الأولى تدويناً في المصحف الشريف ولنا على ذلك عدة شواهد:

1- الإشارة إليها في أول سورة العلق التي يقول المشهور انها اول الآيات نزولاً وفيها أمر بأن يبدأ قراءته باسم الله تعالى (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (العلق:1) فالبسملة المشار إليها أسبق نزولاً وأنها كانت معروفة لدى رسول الله (صلی الله علیه و آله) قبل آية العلق.

2- ان النبي (صلی الله علیه و آله) كان يتعبد ويصلي قبل البعثة ويقرأ القرآن من حين نزوله عليه بل ان نفس سورة العلق فيها إشارة الى صلاته (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى) (العلق:9-10) ومن البعيد أنه كان يفعل ذلك من دون ان يفتتح عمله بالبسملة، وورد في الحديث المشهور (لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب) (1) .

3- عدة روايات تدل على ذلك، كالذي رواه في مجمع البيان عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (سألت النبي (صلی الله علیه و آله) عن ثواب القرآن، فأخبرني بثواب سورة سورة على نحو ما نزلت من السماء، فأوّل ما نزل عليه بمكة فاتحة الكتاب، ثم (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)(2).

وفي تفسير القمي في قوله تعالى (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (العلق:1) قال (قال: اقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وفي أسباب النزول للواحدي النيسابوري عن ابن عباس أنه قال (أول ما نزل به جبرئيل على النبي (صلی الله علیه و آله) قال: يا محمد استعذ ثم

ص: 276


1- عوالي اللئالي: 1/196، وسائل الشيعة : 6/37 ، صحيح البخاري: 1/192
2- معرفة القرآن في ضوء الكتاب والسنة للريشهري: 1/105

قل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ).

وما أخرجه الدارقطني عن ابن عمر (أن الرسول (صلی الله علیه و آله) قال (كان جبرئيل اذا جاء بالوحي أول ما يلقي عليَّ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)(1).

وروى الشيخ الكليني بسنده عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال (أول كل كتاب نزل من السماء (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (2) وروى البرقي في المحاسن بسنده عن الامام الصادق (علیه السلام) قال (ما نزل كتاب من السماء الا أوّله (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ))((3)، ومال الى هذا القول جملة من المفسرين، بل نسب الزمخشري إلى أكثرهم القول بأن سورة الفاتحة أول السور نزولاً(4).

وفي مقابلها روايات(5) كثيرة دلت على ان سورة العلق أول السور نزولاً، ويمكن الجمع بأن البسملة أو سورة الحمد اوحيت الى رسول الله (صلی الله علیه و آله) أولاً على نحو الحديث القدسي كجزء من تأديب الله تعالى لنبيه (صلی الله علیه و آله) بأن يفتتح كل أعماله بالبسملة ويبني حياته عليها ولا مانع من ان يكون ذلك قبل البعثة أصلاً، ففي دلائل النبوة للبيهقي (إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال لخديجة: إنيّ اذا خلوت وحدي سمعت نداءاً.. يا محمد قل (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) حتى بلغ (وَلاَ الضَّالِّينَ)(6) والظاهر أن هذا قبل البعثة أبان

ص: 277


1- الدر المنثور : 1/7
2- وسائل الشيعة : 6/59 أبواب القراءة / باب 11 ح8
3- (3) وسائل الشيعة : 6/59 أبواب القراءة / باب 11 ح12.
4- الكشاف:4/775
5- معرفة القرآن في ضوء الكتاب والسنة للريشهري : 1/102
6- معرفة القرآن في ضوء الكتاب والسنة للريشهري عن دلائل النبوة: 2/158، تفسير القرطبي:1/115

عزلته في غار حراء.

ثم نزلت سورة الحمد ثانياً بعد ذلك لتكون جزأً من القرآن النازل وليقرأها المسلمون في صلاتهم التي تأخر تشريعها عن بدء البعثة النبوية، ونزول سورة الفاتحة مرتين أحد معاني وصف سورة الحمد بالسبع المثاني.

قال تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (الحجر:87) وتدل هذه الآية على عظمة السورة بحيث افردها الله تعالى بالذكر في مقابل القرآن العظيم كله وفي هذا المعنى روى الامام الحسنالعسكري (علیه السلام) عن آبائه عن أمير المؤمنين (علیهم السلام) قال (سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول (ان الله تعالى قال لي : يا محمد (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (الحجر:87) فافرد الامتنان عليَّ بفاتحة الكتاب وجعلها بإزاء القرآن العظيم وان فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز العرش) وفيها (الا فمن قرأها معتقداً لموالاة محمد وآله الطيبين منقاداً لأمرهما، مؤمناً بظاهرهما وباطنهما، أعطاه الله تعالى بكل حرف منها حسنة، كل واحدة منها أفضل له من الدنيا وما فيها من أصناف أموالها وخيراتها، ومن استمع إلى قارئ يقرأها كان له قدر ما للقارئ، فليستكثر أحدكم من هذا الخير المعرض لكم، فأنه غنيمة لا يذهبنّ أوانه، فيبقى في قلوبكم الحسرة)(1) .

وروى الشيخ الكليني بسند صحيح عن محمد بن مسلم قال (سألت أبا عبدالله -- أي الصادق (علیه السلام) -- عن السبع المثاني والقرآن العظيم أهي الفاتحة؟

ص: 278


1- عيون أخبار الرضا (عليه الإسلام) : 1/360 ح 60، أمالي الصدوق : 148 ح 2 ، بحار الأنوار:92/227

قال: نعم، قلت: بسم الله الرحمن الرحيم من السبع؟ قال: نعم، وهي أفضلهن)(1).

ومن أسمائها (أم الكتاب) والأم لغة هي الأصل والجامع فكأنالسورة أصل القرآن وجامعةٌ لمقاصده ومحتوية على معارفه الإلهية.

ولسورة الفاتحة آثار وبركات عظيمة بحسب ما ورد في الروايات(2) ومنها ما في تفسير العياشي ( قال : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لجابر بن عبدالله: يا جابر الا اعلمك أفضل سورة أنزلها الله في كتابه! قال: فقال جابر: بلى بأبي أنت وأمي يا رسول الله علمّنيها، فعلمه (الحمدلله) أم الكتاب، قال: ثم قال له: يا جابر: الا أخبرك عنها؟ قال: بلى بأبي أنت وأمي، فأخبرني، قال: هي شفاء من كل داء الا السأم -- يعني الموت --)(3) وروي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله)قوله ( في فاتحة الكتاب شفاء من كل داء)(4) أي انها سبب لذلك والنتائج بيد الله تعالى كالأدوية.

وروي عن الامام الصادق (علیه السلام) قوله (كان النبي (صلی الله علیه و آله) اذا كسل أو اصابته عين أو صداع بسط يده فقرأ فاتحة الكتاب والمعوذتين ثم يمسح يده على وجهه، فيذهب ما كان يجده)(5)

وعن الامام الصادق (علیه السلام) قال (من نالته علة فليقرأ في جيبه الحمد لله سبع مرات فان ذهبت والا فليقرأ سبعين مرة وأنا

ص: 279


1- وسائل الشيعة: 6/57 أبواب القراءة ، باب: 11 ح 2
2- تجد جملة منها في تفسيري البرهان ونور الثقلين
3- عن تفسير العياشي: 1/20 ح 9 ، بحار الأنوار: 92/237 ح 33 ، مسند ابن حنبل: 6/187 ح 17608
4- سنن الدارمي: 2/902 ح 3247، شعب الايمان: 2/450 ح 2370 ، كنز العمال: 1/557 ح 2500
5- مكارم الاخلاق: 2/203 ح 2523

ضامن له العافية)(1) وقريب منه في كتاب طب الأئمة الا أنه أضاف اليه الاذان والإقامة(2).

ويصل عظيم تأثيرها إلى مستوى ما جاء في الرواية الصحيحة في الكافي عن الامام الصادق (علیه السلام) قال (لو قرئت الحمد على ميت سبعين مرة فرُدَّت فيه الروح ما كان ذلك بعجب)(3) .

والبسملة عندنا نحن الامامية جزء من كل السور القرآنية الا سورة التوبة لعلة ذكرتها الروايات(4) فلا يصح افتتاح أي سورة الا بها وجزئيتها من كل سورة تعني ان للبسملة في كل سورة معنى غير ما في السورة الأخرى وان اشتركت لفظاً، وهي آية من سورة الفاتحة وبها بلغ عدد آياتها سبعاً.وقد تكرّر الأمر بأن يبتدئ بالبسملة كقوله تعالى (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق:1) وقوله تعالى (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا) (المزمل:8) وقوله تعالى (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) (الأعلى:15).

فمن الغريب تعدد أقوال العامة في البسملة فنفى بعضهم ان تكون آية

ص: 280


1- الامالي للطوسي: 284 ح 553 بحار النوار: 92/231 ح 13 الدعوات: 189 ح 525
2- طبّ الأئمة(علیه السلام)- ابن سابور الزيات: 52
3- الكافي: 2/ 623 ح 16 / الدعوات: 88 ح 522 ، مكارم الاخلاق: 2/183 ح 2482
4- روى ابن عباس قال : (سألت علي بن ابي طالب (علیه السلام) لِمَ لم تكتب في براءة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟ قال: لأنها أمان، وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها أمان) المستدرك:2/330) ويرى قسم ان عدم البسملة لأنها استمرار لسورة الأنفال وإن كانت سورة مستقلة، وهنا التفاتة لاهل المعرفة بأن سورة التوبة التي نزلت في البراءة من المشركين وان لم تبدأ الا ان الله تعالى لرحمته بعباده لم يشأ حرمانهم من لطفه العام فبدأها بالباء التي جمعت فيها علوم البسملة التي جمعت فيها علوم الفاتحة التي اودع فيها علوم القران كما في الحديث الذي سنشرحه في الملحق ان شاء الله تعالى

من أية سورة وقال غيرهم بأقوال أخرى حتى انهم اسقطوها من سورة الفاتحة وتركوا قرائتها في الصلاة.

رغم انهم رووا في صحاحهم عن جمع من الصحابة ما يدل على انها آية من سورة الحمد وان النبي (صلی الله علیه و آله) كان يقرأها ويجهر بها وروى الثعلبي في تفسيره عن أبي هريرة ان النبي (صلی الله علیه و آله) زجر رجلاً قرأ الفاتحة بدون البسملة(1).

وعندنا استحباب الجهر(2) بالبسملة في جميع الصلوات وأنه من علامات المؤمن(3)

وأخرج الطبراني والدار قطني والبيهقي(4)

في شعب الايمان عن عدد من الصحابة ان النبي (صلی الله علیه و آله) كانيجهر بالبسملة في صلواته.

وآية البسملة فيها تأديب بأن نفتتح كل كلامنا وأفعالنا باسم الله تعالى لأنه عزوجل (هُوَ الأَوَّلُ) (الحديد:3) ليكون العمل مباركاً ولا يكون كذلك ولا تكون التسمية صادقة الا اذا توفر عنصران بأنٍ يكون الأمر حقاً ويكون مخلصاً لله تعالى فالتسمية تدعوا الى هذين الأمرين، وكان أول أمر نزل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) هو ان يبدأ رسالته وتبليغه عن الله تعالى بالبسملة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق:1) .

ص: 281


1- تفسير الثعلبي: 1/104
2- دلت عليه عدة روايات في وسائل الشيعة : 6/57 أبواب القراءة، باب 11
3- روى الشيخ الطوسي في (مصباح المجتهد:787) عن الامام الحسن العسكري (علیه السلام) قال (علامات المؤمن خمس: صلاة الاحدى والخمسين وزيارة الأربعين والتختم في اليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)
4- أنظر: تفسير الثعلبي: 1/104.- المستدرك على الصحيحين- الحاكم: 1/736.- الدر المنثور- السيوطي: 1/7

وهو أدب سار عليه الأنبياء الكرام (صلوات الله عليهم أجمعين) ومثاله قول النبي نوح (علیه السلام) (وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) (هود:41) وبدأ النبي سليمان رسالته بها (إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (النمل:30).

وقد جرت سيرة العقلاء على افتتاح كلامهم ومشاريعهم باسم عظيم في نظرهم أو اقترانه بمبدأ يخلّد الفعل والحدث، وقد نبّه القرآن الكريم إلى هذا الشأن قال تعالى (فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) (البقرة:200) والله تعالى هو مانح الخلود ومجمع صفات الكمال فأولى أن ترتبط كل الأمور به تبارك وتعالى.

واسم الله عظيم البركة قال تعالى (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) (الرحمن:78)، ومن الدلائل على عظمة البسملة ما رواه الشيخ الطوسي بسنده عنالامام الصادق (علیه السلام) والشيخ الصدوق بسنده عن الامام الرضا (علیه السلام) وفي عدة روايات عنهم (علیهم السلام) قالوا ((بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) أقرب الى اسم الله الأعظم من ناظر العين الى بياضها)(1) وفي ثواب الأعمال بسنده عن الامام الصادق (علیه السلام) (اسم الله الأعظم مقطع في أم الكتاب)(2).

ورد في تفسير العسكري (علیه السلام) عن آبائه عن علي (علیه السلام) قال (إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) حدثني عن الله عزوجل أنه قال: كل أمر ذي بال لا يذكر

ص: 282


1- التهذيب: 2/289 ح 1159 ، ثواب الأعمال: 104
2- ثواب الأعمال :104، البرهان:1/80

بسم الله فيه فهو أبتر)(1) وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (إن العبد اذا أراد أن يقرأ أو يعمل عملاً فيقول (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فأنه يبارك فيه)(2) وروى البرقي في المحاسن بسنده عن الامام الصادق (علیه السلام) (اذا توضأ أحدكم ولم يسمِّ كان للشيطان في وضوئه شرك، وإن أكل أو شرب أو لبس وكل شيء صنعه ينبغي له أن يسمي عليه، فإن لم يفعل كان للشيطان فيه شرك)(3)

وعن الامام الصادق (علیه السلام) قال (لا تدع (بِسْمِ اللَّهِالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وإن كان بعده شعر)(4) وعنه (علیه السلام) (ولربما ترك بعض شيعتنا في افتتاح أمره (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فيمتحنه الله عزوجل بمكروه لينبهه على شكر الله تبارك وتعالى عليه ويمحق عنه وصمة تقصيره عند تركه بسم الله)((5) ولما كانت الصلاة عمود الدين والقرآن ثقل الله الأكبر فهما أولى بهذا الافتتاح فكيف اسقطوا البسملة منها؟.

تفسير الآية:

(بِسْمِ) أي بإسم وحذفت الألف للوصل وهي ليست أصلية ومتعلق الباء محذوف يقدّر من سياق الكلام فعندما يسمى على أي فعل يكون تقديره ذلك الفعل وتقديره هنا (ابتدى) وورد هذا المعنى في الرواية عن الامام الرضا (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله)

ص: 283


1- وسائل الشيعة: 7/170 ، كتاب الصلاة ، أبواب الذكر، باب 17
2- بحار الأنوار:89/242، تفسير الامام العسكري (علیه السلام): 25
3- وسائل الشيعة: 6/57 أبواب القراءة : الباب 11، 12،21.
4- نور الثقلين:1/6.
5- (3) نور الثقلين:1/8.

قال الله عزوجل: قسّمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، اذا قال العبد: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قال الله جل جلاله: بدأ عبدي باسمي وحقَّ علي أن أتمم له أموره وابارك له في أحواله)(1) إلى آخر الحديث .ويمكن ان تكون الباء للاستعانة بحسب قصد الفاعل، ويكون التقدير (استعين)، ويدل عليه ما رواه الشيخ الصدوق في كتاب التوحيد بسنده عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (فقولوا عند افتتاح كل أمر صغير وعظيم: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) أي استعين على هذا الأمر بالله الذي لا تحق العبادة لغيره)(2)

والاسم ما يعرف به ذات الشيء ويدل على المسمى وأصله سِمْوُ بدلالة قولهم في الجمع أسماء مثل قِنوْ اقناء وحِنوْ احناء وتصغيره سُمَيّ واصله من السمو وهو الذي به رفع ذكر المسمى فيعرف به(3) من السمو والرفعة لأن المسمى يعلو بالاسم ويرتفع ويخرج من الخفاء إلى الظهور فيحضر في ذهن السامع.

وقيل أنه من الوسم والسمة أي العلامة، قال في مجمع البيان: والأول أصح، وقال السيد الخوئي (قده) (وهو خطأ لأن جمع اسم أسماء، وتصغيره سمي، وعند النسبة اليه يقال: سموي واسمي، وعند التعدية يقال: سميت واسميت، ولو كان مأخوذاً من السمة لقيل في جمعه أوسام، وفي تصغيره

ص: 284


1- عيون أخبار الرضا: 2/269، نور الثقلين : 1/9 ح 9.
2- وسائل الشيعة: 5/328 أحكام المساكن، باب 19
3- المفردات للراغب: 428 مادة (سمو) ، مجمع البيان: 1/19

وسيم، وفي النسبة إليه وسمي، وعند التعدية وسمّت وأوسمت) (1) .أقول: لوحظ في الجمع والتصغير والنسبة نفس لفظ (اسم) مستقلاً من دون لحاظ اشتقاقه كالذي يقال في اللقب فلا تكون شاهداً على أحد المعنيين، فالأول أقرب لكن الثاني ممكن وليس خطأ كما قال السيد الخوئي (قدس سره) ووردت فيه رواية عن الامام الرضا (علیه السلام) قال (معنى قول القائل بسم الله أي أسِمُ نفسي بسمة من سمات الله عزوجل وهي العبادة، قال: فقلت له: ما السمة، قال العلامة)(2).

(ويصح رجوع أحد المعنيين إلى الآخر في جامع قريب: وهو البروز والظهور، لأن الرفعة نحو علامة، والعلامة نحو رفعة لذيها، وهما يستلزمان البروز والظهور)(3) .

(الله) لفظ الجلالة اسم علم للذات المقدسة فيستجمع كل الأسماء الحسنى التي هي صفات.

(الرَّحْمَنِ) من صيغ المبالغة لكن ليس من جهة الموصوف وهو الله تعالى (لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) (النحل:60) وإنما من جهة اللفظ، في نفسه أو بلحاظ عطائه تبارك وتعالى كقوله تعالى (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) (البقرة:212) وهي صفة مشتقة من الرحمة وهي ضد الغلظة والقسوة والشدّة، قال تعالى (أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ) (الفتح:29).

ص: 285


1- البيان في تفسير القرآن: 449
2- نور الثقلين:1/12، ح 41 عن كتاب عيون أخبار الرضا (علیه السلام)
3- مواهب الرحمن:1/10

وقد عُرِّفت برقة القلب والشفقة والعطف والتأثر ونحو ذلك وهي بالدقة من لوازمها عند البشر ومقدماتها التي تؤدي إلى انبعاثها وهي بهذا المعنى لا يوصف بها الله سبحانه، وإنما تعرف رحمته بآثارها على خلقه بالأنعام والتفضل وسد الاحتياج، قال الامام الصادق (علیه السلام) (وإن رحمة الله ثوابه لخلقه) (فهو رحيم لا رحمة رقّة)(1) وفي نهج البلاغة (رحيم لا يوصف بالرقّة)(2).

وهي صفة فعل أي تتحقق بظهور آثارها ولم ترد متعلقة بشيء وهذا يدل على إطلاق الرحمة وإنها غير مختصة بشيء بل تسع كل شيء، قال تعالى (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) (يس:52) وقال تعالى (مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ) (الملك:3) .

(الرَّحِيمِ) صفة مشبهة تدل على الثبات والدوام وملازمتها للذات كالغريزة والسجية، وايرادها بعد وصف الرحمن للإشارة إلى أنّ صفة الرحمة راسخة في الذات لأن وصف الرحمن لا يدل عليها - بحسب اهل اللغة- وان دل على سعة الرحمة، فجمع الوصفين للدلالة على اجتماع الصفتين.

ولعل الابتداء بهذين الوصفين المشتقين من الرحمة دون اسمائه الحسنى لأنها أصل كل خير ولطف وعناية بالمخلوقين، وان أفعال اللهتعالى وعلاقته بعباده مبنية على أساس الرحمة، حتى في عذابه وابتلائه فأنه رحمة بالعباد ليؤهلهم إلى درجات أفضل (يا من سبقت رحمته غضبه)(3) والرحمة علة انزال

ص: 286


1- نور الثقلين: 1/14
2- نهج البلاغة: 2/100
3- مفاتيح الجنان، دعاء الجوشن الكبير، الفقرة:20 ، بحار الأنور: 239/91، 386

الكتب وبعث الرسل، قال تعالى (هَذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (الأعراف:203) وقال تعالى (وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) (يونس:57) وقال تعالى (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل:89) وقال تعالى (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) (الإسراء:82) وقال تعالى (وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) (النمل:77) وقال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107).

والرحمن اسم خاص بالله تعالى، والرحيم عام فقد وصف النبي (صلی الله علیه و آله) به (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة:128) ووصف به المؤمنون (رُحَمَاء بَيْنَهُمْ) (الفتح:29).

ووردت روايات في الفرق بينهما ووجه الاتيان بهما بأن الرحمن اريد به سعة رحمته الفعلية لكل المخلوقات وكل البشر محسنهم ومسيئهم، وان الرحيم للدلالة على رحمته الخاصة بالمؤمنين او في الآخرة وروى في مجمع البيان عن النبي (صلی الله علیه و آله) قوله (ان عيسى بن مريم قال: الرحمن رحمن الدنيا، والرحيم رحيمالآخرة)(1)،

وفي رواية عن الامام الصادق (علیه السلام) (والله إله كل شيء، الرحمن بجميع خلقه، والرحيم بالمؤمنين خاصة)(2) ووجه عموم الرحمن بجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم هو إنشاؤه إياهم وإخراج الجميع من العدم الى الوجود وخلقهم احياء قادرين، ورزقه إياهم،

ص: 287


1- تفسير مجمع البيان- الطبرسي: 1/54
2- توحيد الصدوق: 1/230، معاني الأخبار:1/3 ، الكافي:1/114

ووجه خصوص الرحيم بالمؤمنين هو ما فعله بهم في الدنيا من التوفيق وفي الآخرة من الجنة والاكرام وغفران الذنوب والآثام، وإلى هذا المعنى يؤول ما روي عن الصادق (علیه السلام) انه قال (الرحمن اسم خاص بصفة عامة، والرحيم اسم عام بصفة خاصة)(1)،

فالرحمن اسم خاص بالله تعالى لكنه يسع الجميع في عطائه وبركاته، والرحيم اسم عام يطلق على الله تعالى وغيره، الا انه خاص يتعلق بالمؤمنين وقيل في معناه ان الرحمة الرحمانية هي التي تمنح لجميع المخلوقات على حد سواء كإفاضة الوجود، اما الرحمة الرحيمية فهي التي تمنح للموجودات خصوصياتها، ( وتلك الخصوصيات غير المتناهية المجعولة منه تبارك وتعالى مورد الرحمة الرحيمية، فكما ان في الانسان نوعاً خاصاً منه وهو المؤمن مورد رحمته الرحيمية، وكذلك يكون في المَلَك والفَلَك والجماد والنبات ايضاً.وقد ذكرا في مفتتح القرآن العظيم للإعلام بان القرآن من ابرز مظاهر رحمتيه تعالى، اما الرحمانية فلفرض وحيه وانزاله، واما الرحيمية فلانه تبارك وتعالى تجلى لعباده فاظهر فيه المعارف الربوبية، وخلاصة الكتب السماوية، وزبدة حقائق التكوين والتشريع وربط به قلوب اوليائه)(2) لكن ما ورد في الدعاء إنه تعالى (رحمن الدنيا والآخرة ورحيمها)(3) قد ينافي بعض الفروق

ص: 288


1- نور الثقلين: 1/15 ح 54
2- مواهب الرحمن: 1/20
3- نُقل عن الامام الحسين (علیه السلام) في دعاء عرفة (أصول الكافي: 2/557 ح 6، وسائل الشيعة: 8/41 ح / 10057 وفي الصحيفة السجادية: (171) دعاؤه (علیه السلام) في استكشاف الهموم، نور الثقلين: 1/15 ح 55 ، مستدرك الحاكم: 1/155

المتقدمة، كما ان قوله تعالى (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة : 128) لا تدل على الاختصاص بهم لان الجملة ليس لها مفهوم ينفي الرحمة عن غير المؤمنين.

ان البسملة خلاصة سورة الفاتحة التي هي أم القرآن وأصله ومجمع معارفه وعلومه التي هي المبدأ والمعاد ومسيرة التكامل إلى الله تعالى، فالبسملة عنوان الدين كله والرمز الذي يحفظ المنهج الإلهي لذا أكّد المعصومون (علیهم السلام) على ترديدها واستحضار معانيها في كل آنات الانسان وأفعاله فاذا أكل سمى واذا شرب سمّى واذا خرج سمى واذا رجع سمى واذا ذهب لقضاء حاجة سمى وهكذا في كل شيء لأنها علامة العبودية والطاعة لله تبارك وتعالى والإخلاص له وتعين المؤمن وتثبّته وتزيد من عزيمته على فعل الخير.وقد ادرك شياطين الجن وفسقة الإنس عظمة هذه الآية فكانت ثقيلة عليهم، ففي الرواية المعتبرة عن الامام الصادق (علیه السلام) قال (إن ابليس رنَّ رنيناً -- أي بكى بصياح -- لما بعث الله نبيه على حين فترة من الرسل وحين نزلت أم الكتاب)(1) وروى علي بن إبراهيم بسنده عن الامام الصادق (علیه السلام) قال (قال أبو عبدالله (علیه السلام) : (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) أحق ما جهر به وهي الآية التي قال الله عزوجل (وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا) (الإسراء:46))((2).

ويظهر من الروايات أن الأمويين هم الذين أسّسوا لإزالة البسملة فقدّ

ص: 289


1- تفسير القمي: 1/29
2- (2) تفسير القمي: 1/29

(أخرج الشافعي في الأم والدارقطني والحاكم وصححه والبيهقي عن معاوية أنه قدم المدينة فصلى بهم ولم يقرأ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فناداه المهاجرون والأنصار حين سلّم يا معاوية أسرقت صلاتك؟ أين (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فلما صلى بعد ذلك قرأها لأم القرآن وللسورة التي بعدها. وأخرج البيهقي عن الزهري: ان أول من أسرَّ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) عمرو بن سعيد بن العاص بالمدينة)(1) .

وقد عبَّر الأئمة المعصومون (علیهم السلام) عن غضبهم لهذاالانحراف وأسفهم لتضييع الأمة هذه الكرامة في روايات عديدة كقول الامام الباقر (علیه السلام): (سرقوا أكرم آية في كتاب الله: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ))(2),

وروي عن علي (علیه السلام), لما بلغه ان اناساً ينزعون (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ), أنه قال: (هي آية من كتاب الله أنساهم إياها الشيطان)(3),

وعن الامام الصادق (علیه السلام) قال: (مالهم قاتلهم الله عمدوا الى أعظم آية في كتاب الله فزعموا أنها بدعة اذا اظهروها وهي(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ))(4).

هذا هو محور الاختلاف بين المنهجين واساس الصراع بين الفريقين فنحن نريد أن نثبّت اسم الله تعالى في كل الوجود ويكون كل شي لله تبارك وتعالى (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (الأنفال: 39) وهم يريدون محوه وان يأخذ

ص: 290


1- الفرقان في تفسير القرآن:1/80
2- تفسير العياشي- العياشي: 1/19/ح4.
3- تفسير العياشي- العياشي: 1/21/ح12.
4- تفسير العياشي- العياشي: 1/21/ح16.

الناس حريتهم في اتباع الشهوات وما تزيّنه الشياطين والفسقة لهم (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا) (النساء:27).

ص: 291

خطاب المرحلة 639 : خطوات عملية في أربعينية الفرج

أكدَّ سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على ضرورة الاتيان بكل ما يدخل السرور على قلب الامام المهدي (صلوات الله وسلامه عليه) ويحصّل رضاه ويقرب منه ويعجّل بظهوره ويمهد ليومه الموعود بإذن الله تعالى استكمالاً لضجيج الملايين بالدعاء والطلب من الله تعالى ان يعجّل بظهور وليّه الأعظم وحجته على خلقه (ارواح العالمين له الفداء) فإن تقديم ملايين الاصوات على مطلب موَّحد وفي أيام الله تعالى يُرجى ان لا يُردَّ. وفي هذا السياق ذكر سماحته عدة نقاط:

1- استحضار المعية الإلهية (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ) (الحديد:4) بكل ما تعنيه من آثار وبركات وأولها الورع عن محارم الله سبحانه واستشعار العون والرحمة والرفق والمصاحبة منه تبارك وتعالى، وغيرها مما ذكرناه في تفسير الآية الكريمة.

2- الالتزام بالصلاة وأن تكون في أوقاتها قدر الإمكان ويحسُن أن تؤدى في المساجد جماعة إذا تيسر ذلك.

3- نبذ الخلافات والصراعات وتجنب المهاترات والتسقيط وكل فحش في الكلام وحل المشاكل بحكمة وفق ما يرضي الله تعالى.

4- البر بالوالدين وصلة الرحم وحسن الجوار والتعامل بالأخلاقالحسنة مع الجميع.

ص: 292

5- عفة اليد واللسان والبطن والعين وتهذيب الشهوات والغرائز.

6- التفقه في الدين والتحاق النخب الواعية المثقفة بالحوزات العلمية بكل أشكالها الحضورية والإلكترونية.

7- السعي في قضاء حوائج الناس وإدخال السرور عليهم وتجنب إيذائهم.

8- مساعدة المحتاجين وخصوصا المتعففين وكفالة الأيتام معيشياً وتربوياً وثقافياً وتزويج الشباب المتعففين من الحقوق الشرعية أو التبرعات.

9- توعية الناس وهدايتهم وإرشادهم الى ما يصلح دنياهم وآخرتهم ودفع الشبهات عنهم وإجابة أسئلتهم.

10- الإخلاص في العمل والوظيفة التي في عهدتك وإتقانها وعدم التقصير فيها.

11- تجنب كل لهو وعبث وإذا احتاجت النفس الى ترويح وتسلية فلا بأس بمنحها مقدار الحاجة.

12- إحياء الشعائر الدينية والمشاركة فيها.

13- تلاوة ما تيسر من القرآن الكريم ولو ربع جزء يومياً.

14- القيام بما تيسر من المستحبات خصوصاً صلاة الليل ولو ركعة واحدة والبقاء على الطهارة أطول وقت ممكن من دون ضغطعلى النفس أو إجهاد او تأثير على المسؤوليات الأخرى.

15- الدعاء يومياً للإمام الحجة (صلوات الله وسلامه عليه) (اللهم كن لوليك) ودعاء (يا من تحل به عقد المكاره) وزيارة عاشوراء والتصدق عن

ص: 293

الامام وتسمية كل عمل يقوم به الافراد او الجماعات او المؤسسات باسم الامام لنشر ذكره المبارك وتوثيق علاقة الناس به (سلام الله عليه).

ويذكر أن سماحته (دام ظله) أصدر بياناً سابقاً في العام الماضي بعنوان (أربعينية الفرج.. من عاشوراء الى الأربعين) بتاريخ 8 /محرم الحرم / 1441 والذي دعا فيه الى استثمار الأيام الأربعين المرتبطة بالأمام الحسين (علیه السلام) والممتدة من عاشوراء إلى زيارة الأربعين، في الضجيج إلى الله تعالى والتضرع والتوسل إليه ليصلح ما فسد من أمورنا بحسن حاله، كون هذه الأربعينية مناسبة لهذه الضجّة ولهذا التضرع لارتباط قضية الامام الحسين (علیه السلام) بدولة العدل الإلهي، ولأنها ملهمة لكل خير ومصدر قوة بيد الهداة والمصلحين، في ضوء قول الامام الصادق (علیه السلام) : (فلما طال على بني إسرائيل العذاب.. ضجّوا وبكوا إلى الله أربعين صباحاً فأوحى الله إلى موسى وهارون أن يخلّصهم من فرعون فحطّ عنهم سبعين ومائة سنة، هكذا أنتم لو فعلتم لفرّج الله عنّا، فأما إذا لم تكونوا فإن الأمر ينتهي إلىمنتهاه)(1).

نسأل الله تعالى أن يوفقنا واياكم الى كل ما يدخل السرور على قلب امامنا المهدي (عجل الله فرجه) وتجنب كل ما يدخل الكرب والالم على قلبه الشريف انه سميع الدعاء.

مكتب سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)

14/محرم الحرام/1442

2020/9/3

ص: 294


1- بحار الأنوار: 52/132

خطاب المرحلة 640 : إنقلاب الأتباع عند غياب القائد

(أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) (آل عمران:144)

إنقلاب الأتباع عند غياب القائد(1)

قال الله تبارك وتعالى (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران:144).

تثير الآية الكريمة قضية مهمة وتؤشر مرضاً خطيراً يصيب اتباع الديانات والمشاريع الإلهية وهو ذوبانهم في شخصية القائد ذاته وليس في الرسالة التي حملها اليهم مما يؤدي إلى انهيارهم وانحرافهم وتشتتهم عند غيابه عنهم بموت أو قتل والآية الكريمة تؤسس لحقيقة يجب أن يعيها المؤمنون اتباع الرسالات الإلهية العظيمة في كل الأجيال وهي أن يكون ارتباطهم بالرسالة نفسها لأنها تمثل المبادئ التي أرادها المرسل تبارك وتعالى، والارتباط بالرسول وحامل الرسالة مهما عظمت مكانته لابد أن يكون على هذا الأساس وليس على أساس الشخصنة التي تؤدي الى الصنمية وعبادة الذات والذوبان فيها بمعزل عن المبدأ بحيث اذا مات أو قتل فكأنه ينتهي كل شيء.

وهذا من أخطر الأمراض التي تُصيب اتباع الرسالات والمشاريع الإلهية

ص: 295


1- كلمة لسماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) ألقيت يوم الجمعة 15 / محرّم الحرام / 1442 الموافق 2020/9/4

لأنه يؤدي إلى اندثار الرسالة وانحرافها وتفرق الاتباع عند موت القائد(1)، والصحيح أن يعتقدوا أن الرسالة باقية خالدة اما الرسول أو القائد عموماً فأنه معرَّض للموت أو القتل (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) (الزمر:30) وان الله تعالى يقيِّض لهذا الدين من يستمر بتبليغه وحفظه من التحريف والدّس وإقامته في حياة الأمة، قال أمير المؤمنين (علیه السلام) (يا أيها الناس: ان الله تبارك اسمه وعزّ جنده لم يقبض نبياً قط حتى يكون له في أمته من يهدي بهداه ويقصد سيرته ويدلّ على معالم سبيل الحق الذي فرض الله عباده، ثم قرأ (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ...) )(2) .

فالمؤمنون الصادقون هم الذين ذابوا في المبدأ -- وهو الدين -- واستوعبوه وجعلوه منهج حياتهم فلا تؤثر عليهم غيبة الرسول والقادة عموماً بل هم لا يرون انه قد غاب عنهم لأنه حاضر بينهم بالمبادئ التي أسسها لهم والمنهج الذي وضعه لهم فهم ينظرون إلى الرسالة (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا) (إبراهيم: 24-25).

وهذه الآية دليل على صدقه (صلی الله علیه و آله) وان القرآن كتاب منزل من الله تعالى، لأن دعوته (صلی الله علیه و آله) لو كانت لمنفعة شخصية له لعمل على تكريس ذاته كما يفعل الطواغيت (اذا متُّ ضمآناً فلا نزل القَطر) بينما كان (صلی الله علیه و آله) يعمل على تذويب ذاته في المبدأ والشواهد على ذلك من سيرته الشريفة كثيرة

ص: 296


1- راجع قبس/91 {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} (مريم:59), من نور القرآن: 3/144
2- تفسير العياشي: 1/200

كقوله (صلی الله علیه و آله) لمن ارتعدت فرائصه لما نظر إليه وهو يكلّمه (هوِّن عليك.. فأني لست بملك.. إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد)(1) ، وقد حكى الله تعالى هذا الموقف عن جميع أنبيائه، قال تعالى (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ) (آل عمران:79).

والآية تحكي فصلاً من احداث معركة أُحد فأنه لما نودي في جيش المسلمين من بعض المشركين أو المتآمرين والمنافقين وذيول قريش بأن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد قتل انهزموا (فجعل الرجل يقول لمن لقيه: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد قتل، النجاء النجاء -- أي انجوا بأنفسكم -- )(2) ودخل اليأس على أكثرالمسلمين والقوا سلاحهم وأيقنوا بأن كل شيء قد انتهى بحيث (قال أهل المرض والارتياب والنفاق حين فرَّ الناس عن النبي (صلی الله علیه و آله) قد قتل محمد فالحقوا بدينكم الأول)(3)

أي الشرك والجاهلية، وأخرج ابن جرير أيضاً ان بعضهم قال (ليت لنا رسولاً إلى عبدالله بن ابي -- زعيم المنافقين في المدينة -- فيأخذ لنا أماناً من ابي سفيان، يا قوم ان محمداً قد قتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلونكم)(4) ومن كلامهم يظهر انهم من المهاجرين.

فالآية توبّخهم وتقول بأن محمداً (صلی الله علیه و آله) ليس الا رسول مبلغ عن الله

ص: 297


1- سنن: ابن ماجة: 4/16 كتاب الاطعمة، باب القديد ح 3312 والطبراني في الأوسط: 2/64 رقم 1260 والحاكم في المستدرك: 3/50 رقم 4366 وصحّحوه
2- البرهان: 2/280 ح 1 عن تفسير القمي: 1/119
3- تفسير الطبري: 7/258
4- تفسير الطبري: 7/255

تعالى ما فيه هدايتكم وصلاحكم ولا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً (إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) (آل عمران:154) وقد مضى من قبله رسل كُثُر على ذات المنهج والدعوة إلى الله تعالى، وكلهم مضوا إلى ربّهم بعد أن ادّوا ما عليهم من دون أن تموت المبادئ التي حملوها إلى أممهم فلماذا -- والاستفهام هنا استنكاري -- هذا الانقلاب منكم والنكوص والرجوع عما أنتم عليه من الحق الى جاهليتكم الأولى والتخلي عن مواصلة اعتناق الرسالة والمضي على ما مضى عليه رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمجرد أن صيح بكم بموته أو قتله (صلی الله علیه و آله) وهذا يعني ان رواسب الجاهلية ما زالت فيكم (وَلَمَّايَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (الحجرات : 14)، وأن ارتباطكم بالنبي (صلی الله علیه و آله) شخصي لاجل الدنيا وليس مبدأياً، وتعلّل آية أخرى هزيمتهم من المعركة بأنها انعكاس لهزيمتهم الروحية (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ) (آل عمران:155).

وتضيف الآية: واعلموا إن انقلابكم هذا لن يضرّ الله تعالى ولن يؤثر على استمرار الرسالة وخلودها لأن الله تعالى يأتي بمن يواصل حملها وحمايتها والانطلاق بها كما يشهد لذلك ما حصل في كل حالات الانقلاب التي وقعت فيها الأمة وإنما يخسر المنقلبون على اعقابهم لأن الدين جاء لإسعادهم في الدنيا والآخرة فاذا تخلّوا عنه فان حياتهم ستكون نكدة وشقية (وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) (إبراهيم : 8).

وقد ثبت في المعركة قلة من الافذاذ احاطوا برسول الله (صلی الله علیه و آله) يقونه بأنفسهم يتقدمهم أمير المؤمنين (علیه السلام) واستشهد أكثرهم رُوي عن ابن عباس

ص: 298

(أن علياً (علیه السلام) كان يقول في حياة رسول الله (صلی الله علیه و آله) إن الله عزوجل يقول (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) والله لا ننقلب على أعقابنا بعد اذ هدانا الله، ولئن مات أو قتل لأقاتلنّ على ما قاتل عليه حتى أموت، والله إني لاخوه وابن عمهووارثه فمن أحق به مني)(1).

وقد اعتبر الله تعالى ثباتهم على الرسالة والمبدأ شكراً فقال تعالى (وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) لأن الشكر على النعمة هو استعمالها فيما يريده المنعم واستحضار ما يقتضيه حق الربوبية وان ثباتهم وتمسكهم شكر عملي على نعمة الايمان.

روى(2) ابان بن عثمان عن ابي جعفر (علیه السلام) (أنه أصاب علياً يوم أُحُد ستون جراحة وروى الشيخ المفيد في الاختصاص أنها ثمانون تدخل الفتائل من موضعّ وتخرج من موضع بحيث خاف المداوي من معالجته لأنه كلما عالج جزءاً انفتق جزء آخر من بدنه فدخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) والمسلمون يعودونه وهو قرحة واحدة فجعل النبي (صلی الله علیه و آله) يمسحه بيده ويقول: ان رجلاً لقي هذا في الله فقد أبلى وأعذر وكان القرح الذي يمسحه رسول الله (صلی الله علیه و آله) يلتئم فقال علي (علیه السلام): الحمد لله اذ لم أفرّ ولم أوليّ الدبر فشكر الله تعالى له ذلك في موضعين من القرآن وهو قوله تعالى (وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل

ص: 299


1- البرهان: 2/280 ح 4 عن آمالي الشيخ: 2/116، الرياض النضرة: 3/206 فوائد السمطين: 1/224
2- بحار الأنوار: 41 / 3 ، المناقب لابن شهرآشوب: 2/119، تفسير البرهان: 2/282 ح 2، نور الثقلين: 1/203

عمران:144)، (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) (آل عمران:145) .أقول: تصرّح الرواية بأن المقصود بالشاكرين هو أمير المؤمنين، ويمكن الاستدلال عليه بأن الثبات في المعركة كان شكراً حقيقة وقد ثبت مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) جمع مبارك من أصحابه، ولو أريد ذكر موقفهم لكان الأنسب في التعبير أن يكون (وسيجزّي الله الذين شكروا) في إشارة إلى فعل محدد وحالة معينة وبمقتضى المقابلة مع الفعل (انقَلَبْتُمْ).

أما وصف الشاكرين فلا ينطبق الا على أمير المؤمنين (علیه السلام) لأنه يدل على ثبات الصفة عند الموصوف واستمرارها وهذا الوصف الثابت يلازم وصف المخلصين، لأنه اذا علمنا بأنه ما من شيء الا وهو نعمة من الله تعالى فقد (بان ان الشكر المطلق هو ان لا يذكر العبد شيئاً -- وهو نعمة -- الا وذكر الله معه ولا يمس شيئاً -- وهو نعمة -- الا ويطيع الله فيه -- لأن الطاعة حقيقة الشكر فهو دائم الشكر والذكر- ، فقد تبيّن ان الشكر لا يتم الا مع الإخلاص لله سبحانه علماً وعملاً، فالشاكرون هم المخلصون لله، الذين لا مطمع للشيطان فيهم، ويظهر هذه الحقيقة مما حكاه الله تعالى عن ابليس، قال تعالى (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (ص:82-83) فلم يستثن من اغوائه أحداً الا المخلصين، وقال تعالى (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ)(الأعراف:16-17) فقد بدّل المخلصين بالشاكرين، وليس الا لأن الشاكرين هم المخلصون الذين لا مطمع للشيطان فيهم، لأن الشاكر متعلق بالله تعالى ولا مطمع له في سواه تبارك

ص: 300

وتعالى وبذلك فقد سدَّ على الشيطان منافذ اغوائه وإضلاله فكان من المخلصين، واتحدّ الشاكر والمخلص في المصداق وان اختلفا في المفهوم. اما المنقلبون فهم الذين قال عنهم إبليس (وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (الأعراف: 17) (وإن المقابلة بين الشاكر والمنقلب تشير إلى أن الثبات محصول الشكر وأن تثبيت كل فرد لموقعه الايماني يُعدُّ سبباً لارتقائه في درجات الشكر، ومن هنا يمكننا معرفة خطورة الشكر، وهذا الاهتمام هو الذي أدى الى التصريح بلفظ الجلالة في الآية بينما كان يمكن الاكتفاء باستعمال الضمير)(1) وكذا لم تذكر ماهية الجزاء للاشعار بعظمته وأنه يفوق التصور.

روى ابن هشام في السيرة (انتهى أنس بن النضر -- عم انس بن مالك وبه سمي -- إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد القوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قتل رسول الله (صلی الله علیه و آله)، قال: فماذا تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله (صلی الله علیه و آله)ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل)(2) .

والظاهر ان الانقلاب في الآية هو الرجوع عن الدين الى الكفر وليس مجرد الفرار من المعركة كما في آيات آخر كقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) (آل عمران:149) وقوله تعالى (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) (البقرة : 143)، وقد وصفت آية أخرى هذه

ص: 301


1- تفسير تسنيم للجوادي الآملي: 15/654
2- السيرة النبوية لابن هشام: 3/30

الحالة بأنها كانت بسبب عدم استقرار الايمان في قلوبهم عودة إلى الجاهلية تعرضوا لها بسبب وفاة أو قتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال تعالى (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) (آل عمران:154).

هذا هو حال الكثير من الصحابة الذين كانوا مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم أحد، قال ابن هشام في بيان ما نزل من القرآن في معركة أحد بعد أن ذكر هذه الآية ( (أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ) رجعتم عن دينكم كفاراً كما كنتم، وتركتم جهاد عدوكم ، وكتاب الله، وما خلف نبيّه (صلی الله علیه و آله) من دينه معكم وعندكم، وقد تبيّن لكم فيما جاءكم به أعني أنه ميت ومفارقكم (وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ) أي يرجع عن دينه (فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا) أي ليس ينقص ذلك عز الله تعالى ولا ملكه ولا سلطانه ولا قدرته، (وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) أي من اطاعهوعمل بأمره)(1).

والآية وان نزلت في حادثة وقعت الا انها تتحدث عن حالة انقلابية مستقبلية أيضاً شارك فيها جمع ممن انقلب على عقبيه يوم أحُد ولم تستطع السنوات التالية من مصاحبة رسول الله (صلی الله علیه و آله) من القضاء على ادران الجاهلية في قلوبهم، فكان ما وقع يوم أحُد تدريباً وإعداداً للمسلمين لكي يتحملوا تلك الصدمة الحقيقية ويتخذوا الموقف الحازم الذي أمرهم الله تعالى به، فيحذرهم من الانقلاب على الاعقاب عند موت أو قتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) والا فان المسلمين فرّوا من المعارك في مرات عديدة وان آياتٍ أخر ذكرت الفرار من دون هذه التعابير كقوله تعالى في هزيمتهم يوم حنين (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم

ص: 302


1- السيرة النبوية لابن هشام: 3/51

مُّدْبِرِينَ) (التوبة:25) .

بل يخبرهم أَن رسول الله (صلی الله علیه و آله) اذا مات أو قتل فعلاً في الزمان الآتي فأنكم ستنقلبون على اعقابكم وترجعون عن طاعة ما أمر به ربكم، والفرق ان ما وقع يوم أحُد من بعضهم كان ارتداداً عن الدين كما صرحوا في كلماتهم اما انقلابهم عند موت رسول الله (صلی الله علیه و آله) فعلاً فهو في الدين وليس عن الدين والكفر به كفر بالنعمة التي أنعم الله تعالى بها بإكمال الدين بالولاية لأمير المؤمنين(علیه السلام)، واستعمال صيغة الماضي (انقَلَبْتُمْ) لافادة التحقق القطعي كما في الحكاية عن أحداث يوم القيامة بصيغة الماضي، وقد حذرهم النبي (صلی الله علیه و آله) من هذا الانقلاب في يوم الغدير حين أمر المسلمين ببيعته ولياً لأمورهم بعده، فقال (صلی الله علیه و آله) (معاشر الناس أنذركم اني رسول الله إليكم قد خلت من قبلي الرسل، أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ، الا وان علياً هو الموصوف بالصبر والشكر، ثم من بعده ولدي من صلبه)(1) .

وقال في الحديث المشهور لدى الفريقين (ستفترق أمتي بعدي ثلاث وسبعين فرقة)(2).

وقد وقع هذا الانقلاب باتفاقهم على اقصاء من نصبه رسول الله (صلی الله علیه و آله) إماماً وخليفة من بعده، وأشار أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى هذا الرجوع على الاعقاب بقوله في خطبة الوسيلة (حتى إذا دعا الله عز وجل نبيه ورفعه اليه، لم

ص: 303


1- نور الثقلين: 1/253 ح 386 عن الاحتجاح: 1/150
2- بحار الأنوار: ج 28 / ص 4 عن الخصال: 585

يك ذلك بعده إلا كلمحة من خفقة، أو وميض من برقة، الى أن رجعوا على الأعقاب ، وانتكصوا على الأدبار، وطلبوا بالأوتار، وأظهروا الكتائب، وردموا الباب، وفلوا الديار، وغيروا آثار رسول الله، ورغبوا عن أحكامه، وبعدوا من أنواره،واستبدلوا بمستخلفه بديلا، اتخذوه وكانوا ظالمين، وزعموا أن من اختاروا من آل أبي قحافة أولى بمقام رسول الله ممن اختار رسول الله لمقامه، وأن مهاجر آل أبي قحافة خيرٌ من المهاجري الأنصاري الرباني ناموس هاشم بن عبد مناف)(1).

وقال (علیه السلام) في حديث طويل (وليس كل من أقرَّ أيضاً من أهل القبلة بالشهادتين كان مؤمناً، ان المنافقين كانوا يشهدون ان لا اله الا الله وان محمداً رسول الله (صلی الله علیه و آله) ويدفعون أهل رسول الله (صلی الله علیه و آله) بما عهد به من دين الله وعزائمه وبراهين نبوته إلى وصيه، ويضمرون من الكراهية لذلك والنقض لما أبرمه منه عند امكان الأمر لهم فيه بما قد بيّنه الله لنبيه (صلی الله علیه و آله) بقوله (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ))(2) .

وطبّقت السيدة الصديقة فاطمة الزهراء (علیها السلام) الآية الكريمة على فعلهم فقالت في خطبتها لما سلبوها فدكاً وانتهكوا حرمة دارها (أتقولون مات محمد (صلی الله علیه و آله) فخطب جليل استوسع وهنه واستنهر فتقه وانفتق رتقه وأظلمت الأرض لغيبته وكسفت الشمس والقمر وانتثرت النجوم لمصيبته وأكدت الآمال وخشعت الجبال وأضيع الحريم وأزيلت الحرمة عند مماته فتلك والله النازلة

ص: 304


1- نور الثقلين: 1/252 ح 384 عن روضة الكافي: 8/29، ضمن حديث 4
2- نور الثقلين:1/253 ح 388 عن الاحتجاج: 1/103

الكبرى والمصيبة العظمى لا مثلها نازلة ولا بائقة عاجلة أعلن بها كتاب الله جل ثناؤه في أفنيتكم وفي ممساكم ومصبحكم يهتف في أفنيتكم هتافا وصراخا وتلاوة وإلحانا ولقبله ما حل بأنبياء الله ورسله حكم فصل وقضاء حتم : (وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ))(1).

وقوله تعالى (فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) مطلق ينفي كل اشكال ومراتب الاضرار والتأثير، فهذا وعد من الله تعالى بأن كل اشكال الانقلابات لا تضرّ الله شيئاً لذا نرى ولاية أهل البيت (علیهم السلام) بقيت ثابتة وظل عَلمُهم خفاقاً رغم كل الظلم والاضطهاد والقتل والتعذيب الذي انزله الطغاة بهم وبشيعتهم (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف: 128) (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام : 45).

ص: 305


1- نور الثقلين: 1/253 ح 387 عن الاحتجاج : 1/103

خطاب المرحلة 641 : الحرمة الشديدة لسفك الدماء في الإسلام

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين.

للإنسان قيمة كبرى في الشريعة الإسلامية فهو خليفة الله تعالى في أرضه (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة:30) واستحق بذلك التكريم من الله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء:70) وجعل للنفس الإنسانية حرمة كبيرة تفوق حرمة الكعبة، ففي الحديث الشريف عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) أنه أقبل إلى الكعبة وقال: (الحمد لله الذي كرّمك وشرّفك وعظّمك، وجعلك مثابة للناس وأمناً، والله، لحَرمةُ المؤمن أعظم حرمة منك)(1)، وفي صحيحة أبي حمزة عن الامام الباقر أو الصادق (علیهم السلام) أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال في حادثة قتل وقعت وقيِّدت ضد مجهول كما اليوم حيث لم يُعرف القاتل: (قتيل بين المسلمين لا يُدرى من قتله! والذي بعثني بالحق لو أن أهل السماء والأرض شرِكوا في دم امرئ مسلم ورضوا به لأكَبَّهم الله على مناخرهم في النار، أو قال: علىوجوههم)(2). فقتل الإنسان لأخيه الإنسان خروج عن زيّ العبودية لله تعالى ومنازعة له سبحانه في سلطانه، لأن الله تعالى

ص: 306


1- مستدرك الوسائل، الميرزا حسين النوري الطبرسي: 9/46، باب 105.
2- الكافي: 7/272، باب 172، ح8. ط. دار الكتب الإسلامية.

خالق الإنسان ومالكه وهو وحده مَن له حقّ التصرف فيه.

ووقف رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمنى حين قضى مناسكه في حجة الوداع أمام عشرات الآلاف من المسلمين ليبلّغهم هذه الرسالة ولينزع من نفوسهم استخفاف الجاهلية -أي جاهلية لا تعمل بأحكام الإسلام- بحرمة الدماء وامتهان القتل فقال (صلی الله علیه و آله): (أي يوم أعظم حرمة؟ فقالوا: هذا اليوم، فقال: فأي شهر أعظم حرمة؟ فقالوا: هذا الشهر، قال: فأي بلد أعظم حرمة؟ قالوا: هذا البلد، قال: فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقونه فيسألكم عن أعمالكم، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد ألا من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها فإنه لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه، ولا تظلموا أنفسكم ولا ترجعوا بعدي كفاراً)(1).

ولبيان هول هذا الأمر فقد جُعل الاعتداء على الفرد الواحد اعتداءً على الإنسانية جميعاً (مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) (المائدة: 32).لذا غلّظت الشريعة الإسلامية العقوبات على إزهاق النفس، فمن قتل متعمداً فلولي الدم أي ذوي المجني عليه الاقتصاص من القاتل لأن مثل هذه العقوبة تردع من يفكّر بالعدوان على الآخرين وتدع الناس يعيشون حياتهم بأمن وسلام (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 179).

ص: 307


1- وسائل الشيعة: 29/10، أبواب القصاص في النفس، باب 1، ح3.

وأوجب الشارع المقدس دفع مال كثير يسمّى (الدية) لذوي المجني عليه إذا كان القتل خطأً محضاً أو خطأ شبيهاً بالعمد، لكي لا يذهب الدم المحترم شرعاً هدراً حتى لو وقع القتل خطأً محضاً.

ولكي يتجنب الناس أي فعل يمكن أن يؤدي إلى القتل أو الإضرار بالآخرين حتى ولو خطأً، وفي دفع الدية تطييب لخواطر ذوي المجني عليه وغلق باب الانتقام والثأر والانجرار إلى القتل المتبادل، ولذا سميت الدية (عقلاً) لأنها تعقل أي تمنع من وقوع الدم وتحمي المجتمع من التجري على الدماء قبل الحادث باجتناب الأسباب وتمنع استمرارها بعد وقوعه.

في ضوء كل هذا فأن ما نشهده اليوم من استخفاف بالدماء ووقوع حوادث القتل والاغتيال المتكررة لمجرد اختلاف في المواقف أو وجهات النظر أو الخلاف على أمر معين أو لصراع سياسي أو عشائري أو طائفي أو قومي أو جغرافي وغير ذلك هو من أفظع الحرمات وأشدّها إغضاباً لله تعالى وأجلبها لسخطه سبحانه.فعلى أهل الحكمة والعقل بذل الجهود الجبارة لإصلاح الحال وحماية المجتمع من أي فعل شنيع والله ولي التوفيق.

محمد اليعقوبي/ النجف الأشرف

18 محرّم الحرام 1442

2020/9/7

ص: 308

خطاب المرحلة 642 : الأنس بالإمام الحسين (علیه السلام) يشغل الذين اتقوا عن دخّول الجنة

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً)

الأنس بالإمام الحسين (علیه السلام) يشغل الذين اتقوا عن دخّول الجنة (1)

قال الله تعالى في كتابه الكريم: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) (الزمر:73).

قال أمير المؤمنين (علیه السلام) في وصف أحوال هؤلاء عندما قرأ الآية قال: (قد أُمِنَ العذاب، وانقطع العتاب. وزُحزحوا عن النار، واطمأنت بهم الدار، ورضوا المثوى والقرار. الذين كانت أعمالهم في الدنيا زاكية، وأعينهم باكية. وكان ليلهم في دنياهم نهاراً، تخشّعاً واستغفاراً. وكان نهارهم ليلاً، توحشاً وانقطاعاً. فجعل الله لهم الجنة مآباً، والجزاء ثواباً. وكانوا أحق بها وأهلها. في ملك دائم، ونعيم قائم)(2).

(سِيْقَ) فعل مبني للمجهول من (ساق) والسائق هم الملائكة، قال تعالى: (وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) (ق:21)، وفي المفردات (سوق الإبل جلبها وطردها يقال: سقته فانساق) ومنه (لا أستطيع أن أسوق إلى نفسي خير ما أرجو) أي أجلب، وسمي مهر المرأة سياقاً لأنالأصل فيه كان من

ص: 309


1- كلمة ألقيت بتاريخ الجمعة 29 محرم 1442 الموافق 2020/9/18
2- نهج البلاغة: 2/132، شرح محمد عبده.

الإبل والغنم يسوقها الرجل إلى المرأة، وعُبِّر عن النزع الأخير للإنسان في حال الاحتضار (السَوْق) لأن روحه تُساق لتخرج من البدن، وفي قول أمير المؤمنين (علیه السلام) لعثمان: (فلا تكونن لمروان سِيقة يسوقك حيث شاء) والسيقة الناقة التي ساقها العدو(1).

والزُمَر جمع (زمرة) وهي الجماعة فيُساقون على شكل جماعات، ربما ليأنس بعضهم ببعض ويعوَّضهم عن الوحشة والخذلان الذي لاقوه في الدنيا بحيث أصبحوا معزولين عن أغلبية المجتمع من أهل الدنيا(2).

ولأنهم على درجات متفاوتة وللجنة أبواب بحسب ما يناسب هذه الدرجات، كما أن أهل النار يساقون جماعات فقالت فيهم الآية السابقة: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً) لأنهم على دركات متفاوتة (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ) (الحجر : 44)، وللجنة ثمانية أبواب روى أنس بن مالك عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال: (إن للجنة ثمانية أبواب، وللنار سبعة أبواب)(3)، ورويعن أمير المؤمنين علي (علیه السلام): (إن للجنة ثمانية أبواب: باب يدخل منه النَبيُّون والصِّدِّيقون، وباب يدخل منه الشهداء والصالحون. وخمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومُحِبُّونا، وباب يدخل منه سائر المسلمين،

ص: 310


1- مجمع البحرين: 5-6 /118، مادة (سوق).
2- بعكس زمر الكافرين وجماعتهم فهي تزيدهم وحشة بعضهم من بعض لأنهم كما قال تعالى: (الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (الزخرف: 67)؛ لأنهم يذكّرونهم بصحبتهم السيئة وأفعالهم المشينة (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) (آل عمران:30).
3- وسائل الشيعة: 3/246، أبواب الدفن وما يناسبه، باب 72، ح11. عن أمالي الصدوق: 123.

مِمَّن شهد أن لا إله إلا الله، ولم يكن في قلبه مقدار ذَرَّة من بغضنا أهل البيت)(1)، وروي عن الإمام الباقر (علیه السلام) قوله: (أحسنوا الظن بالله تعالى واعلموا أن للجنة ثمانية أبواب عرض كل باب منها مسيرة أربعين سنة)(2).

ولا يخفى ما في التعبير بالزمر من إيحاء إلى تأثير الانتماء إلى الجماعة في سلوك الفرد حتى أنه يُحشر إلى الجنة أو النار بلحاظ انتمائه، وقد ورد التأكيد في الروايات على أن معرفة الشخص تتم من خلال معرفة الجماعة التي ينتمي إليها فإن كانوا من أهل الصلاح كان منهم ظاهراً وإن كان من أهل الضلال كان منهم كذلك، ففي وصية أمير المؤمنين (علیه السلام) لولده الحسن (علیه السلام): (قارن أهل الخير تكن منهم وباين أهل الشر تبِن عنهم)(3)، ومما روي عن نبي الله سليمان (علیه السلام) قوله: (لا تحكموا على رجل بشيء حتى تنظروا الى من يصاحب فإنما يُعرفالرجل بأشكال أقرانه ويُنسب إلى أصحابه وأخدانه)(4).

والملفت أن زمر النار قال تعالى فيهم: (حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) بينما قال في أهل الجنة (حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) ولعل الاختلاف يُشعر بأن أبواب النار تكون مغلقة وتفتح عند وصول مستحقيها إليها، كأبواب السجون المغلقة على أهلها وتفتح عندما يصل محكوم بالسجن إلى الباب، أما

ص: 311


1- الخصال: 406.
2- بحار الأنوار: 8/131، عن كتاب الخصال: 2/39.
3- نهج البلاغة: 3/52، بشرح الشيخ محمد عبده.
4- بحار الأنوار: 71/188، عن كنز الفوائد لأبي الفتح محمد بن علي الكراجكي (ت 449 هج-): 36.

الجنة فأبوابها مفتوحة قبل وصولهم إليها لأن الواو حالية أي أن المتقين جاؤوها حال كونها مفتوحة لانها تكون مهيئة لاستقبالهم بالزينة والتكريم.

ويثار هنا سؤال(1): أن السوق بالنسبة لأهل النار معلوم لأنهم يرغمون على دخولها ويُدفعون إليها دفعاً، قال تعالى: (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً) (الطور : 13) وقال تعالى: (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً) (مريم : 86)، لكن سَوقَ الذين اتقوا غير واضح لأن المفروض أنهم يسرعون إليها مبادرين لأنها غاية مناهم وقد تحققت.

وبتعبير آخر قاله بعض المفسرين: (استعمال لفظ (سيق) أثار التساؤل، كما لفت أنظار الكثير من المفسرين لأن هذا التعبير يستخدمفي موارد يكون تنفيذ العمل فيها من دون أي اشتياق ورغبة في تنفيذه، ولذلك فإن هذه العبارة صحيحة بالنسبة لأهل جهنم، ولكن لمَ استعملت بشأن أهل الجنة الذين يتوجهون إلى الجنة بتلهف واشتياق)(2).

ويمكن أن نذكر هنا عدة أجوبة:-

1- أن نسلّم بالإشكال ونقول إن اللفظ استُعمل من باب المشاكلة وهو من أساليب البديع المعروفة في الأدب العربي ومثاله قوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (البقرة:194) والمقابلة بالمثل واستنقاذ الحق ليس عدواناً لكن أحد وجوه استعمال اللفظ أنه استُعمل من باب

ص: 312


1- أثاره سماحة الشيخ في إحدى جلساته اليومية في شوال /1439 الموافق تموز /2018 لتحريك أذهان الجالسين وحثهم على التدبر في الآيات القرآنية ووعد سماحته بكتابة قبس في ذلك.
2- الأمثل في تفسير القرآن للشيخ مكارم الشيرازي: 11/579.

المشاكلة، وتوجد وجوه أخرى ذكرناها في قبس آخر.

2- إن نفس مفردة (السوق) لا تتضمن معنى التعنيف والزجر والإهانة، ولعل صاحب المفردات شرحها بلحاظ سوق الإبل، وإن جهود أهل اللغة مبنية على الاستقراء وهو قد يكون ناقصاً كقوله في مادة حشر: (إخراج الجماعة من مقرّهم وإزعاجهم عنها إلى الحرب وغيرها)(1) وهو لا يلائم قوله تعالى: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً)(مريم: 85)، لذا عرّف ابن فارس في معجم مقاييس اللغة السوقبأنه (حدو الشيء)(2) من دون أن يتضمن معنى الزجر أو التعنيف، وعرّفه الشيخ الطبرسي في مجمع البيان بأنه (الحث على السير)(3)، وقال بعض المحققين: (حث على سير من خلف في ظاهر أو معنى فالسوق في الظاهر كما في (فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ) (فاطر:9) والسوق المعنوي كما في (إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ) (القيامة : 30) والسوق في ما وراء المادة، كما في (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً) (الزمر:71) (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) (الزمر:72)، فكما أن السحاب يساق إلى بلد ميت لحفظ النظم وتتميم اللطف والفضل، كذلك يساق الكافر إلى جهنم، ويساق المؤمن إلى الجنة، حفظاً للنظم وإجراءً للعدل وإعطاءً لما تقتضيه الطبائع، وتطلبه النفوس من لوازم الضلال والهداية (أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى)

ص: 313


1- مفردات غريب القرآن- الأصفهانى: 119
2- معجم مقاييس اللغة- ابن فارس: 3/117
3- مجمع البيان للشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي: 8/221.

(القيامة:36) )(1).

وعلى هذا فيمكن استعمال لفظ السوق في المحبوب والمكروه ويُعرف ذلك من القرائن او من الغرض المقصود للسوق كلفظ البشرى الذي يُفهم منه الأمور المفرحة لكنه يستعمل أيضاً في الأمور السيئة (فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (آل عمران: 21)، فقد يكون السوق للتكريم والتبجيل كمن يلتمس ضيفاً على الباب لدخول داره فيأخذ بكتفيه اوبيديه ويدخله الدار فهذا سوق للتكريم، وهو ما يقوم به بكل إخلاص وسرور أصحاب المواكب الحسينية في أيام زيارة الأربعين فيعزمون على المشاة أن يستريحوا في مواكبهم ويتناولوا من طعامهم وشرابهم.

فاشتياق المتقين إلى الجنة مهما كان عظيماً فإن الجنة وملائكتها وحورها مشتاقون إليهم أكثر ويتلهفون إلى لقائهم فيسوقونهم إليهم بتكريم وحث، لذا فسّر في مجمع البيان سوق الذين كفروا بأنهم (يساقون سوقاً في عنف) وقال عن سوق الذين اتقوا: (أي يُساقون مكرمين) ولم يجد في ذلك بأساً لأن الحال لم يستظهره من اللفظ وإنما من القرائن.

وبذلك يقترب معنى السوق من الدلالة والهداية، لذا يستعمل أهل المعرفة لبيان غرض القرآن أو الدين عموماً تعبير السوق نحو الكمال، والهداية قد تكون إلى الجنة وهو معروف وقد تكون إلى النار، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً، إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً) (النساء: 168-169)، وقال تعالى:

ص: 314


1- التحقيق في كلمات القرآن الكريم للعلامة حسن المصطفوي: 5/330.

(شَيطَاناً مَرِيداً، كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ) (الحج : 3-4)، فسوقَ الذين اتقوا الى الجنة لانهم يحتاجون من يهديهم إليها ويدلّهم عليها في تلك الأجواء الرهيبة في محشر القيامة.

3- أو أن الذين اتقوا لمَّا يُنادى بهم لدخول الجنة يبقون فيالمحشر لأمرٍ ما كالشفاعة في ذويهم ومحبيهم (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ ) (الطور : 21) كالذي ورد في صحيحة محمد بن مسلم عن الإمام الصادق (علیه السلام) (إن السقط يجيء محبنطئاً على باب الجنة فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: لا، حتى يدخل أبواي الجنة قبلي)(1).

أو للوفاء بالعهد مع إخوانهم المؤمنين كما في المؤاخاة المذكورة في أعمال يوم الغدير (أن لا أدخل الجنة إلا وأنت معي)(2).

أو أنهم لتواضعهم وحسن أدبهم لا يريدون سبق إخوانهم في الدخول إلى الجنة فينتظرون الرفقة ليدخلوا زمراً وجماعات.

أو لكي يُعرف قدرهم كما في الحديث الوارد في شفاعة الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (علیهم السلام) أنها إذا (صارت عند باب الجنة تلتفت، فيقول الله: يا بنت حبيبي ما التفاتك وقد أمرت بك إلى جنتي؟ فتقول: يا رب أحببت أن يُعرف قدري في مثل هذا اليوم، فيقول الله: يا بنت حبيبي ارجعي فانظري من كان في قلبه حب لك أو لأحد من ذريتك خذي بيده فأدخليه، الجنة، قال أبو جعفر (علیه السلام): والله يا جابر إنها ذلك اليوم لتلتقط شيعتها ومحبيها كما يلتقط الطير الحب الجيد من الحب الرديء، فإذا صار شيعتها معها عند باب الجنة يلقي اللهفي قلوبهم أن يلتفتوا، فإذا التفتوا يقول الله: يا أحبائي ما التفاتكم وقد شفعت فيكم فاطمة بنت حبيبي؟ فيقولون: يا رب أحببنا أن يعرف قدرنا في مثل هذا اليوم، فيقول الله: يا أحبائي ارجعوا وانظروا من أحبكم لحب فاطمة، انظروا من أطعمكم لحب فاطمة، انظروا من كساكم لحب فاطمة، انظروا من سقاكم شربة في حب فاطمة، انظروا من ردّ عنكم غيبة في حب فاطمة فخذوا بيده وأدخلوه الجنة، قال

ص: 315


1- وسائل الشيعة: 20/1، كتاب النكاح، أبواب المقدمات، باب 1، ح2.
2- مستدرك الوسائل- المحدث النوري: 6/279

أبو جعفر (علیه السلام): والله لا يبقى في الناس إلا شاك أو كافر أو منافق فإذا صاروا بين الطبقات نادوا كما قال الله تعالى: (فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ، وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) فيقولون: (فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) قال أبو جعفر (علیه السلام): هيهات هيهات منعوا ما طلبوا (وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) )(1).

فلهذه الأسباب وغيرها يتأخرون عن دخول الجنة فتحثّهم الملائكة على دخولها وهو معنى السوق.

4- إن الذين اتقوا لا تؤهلهم أعمالهم إلى دخول الجنة فلا تحركهم الحركة الكافية نحوها، ولكن لطف الله تعالى ورحمته تشملهم فتعطيهم زخماً وتسرّع بهم نحو الجنة فهم يحتاجون إلى (سوق) أيضاً ليدخلوا الجنة بلا تأخير، وهذا السوق ورد في (الذين اتقوا) وليس في (المتقين) وبينهما فرق فالذين اتقوا حالة قد يحصل معها ما ينافيها كمافي قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ

ص: 316


1- بحار الأنوار: 8/52 عن تفسير فرات الكوفي: 113-115.

إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) (الأعراف : 201) والمتقون مقام تحولت التقوى عند أهَله إلى صفة ثابتة ولازمة لذواتهم، لذا لم يستعمل معهم لفظ السوق، قال تعالى: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً، وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً) (مريم : 85-86) والخلاصة أن أهل التقوى على درجات فبعضهم تكون حاله غير تامة فيحتاجون إلى تكميلها بسوق وبعضهم تكون عندهم تامة فلا يحتاجون.

5- إن السوق ليس للذين اتقوا وإنما لذويهم ومتعلقيهم ومحبيهم وقد وعد الله تعالى أن يلحقهم بهم (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) (الطور : 21) وهؤلاء يحتاجون إلى سوق لأن منزلتهم ليست بدرجة الذين اتقوا وإنما نسب السوق إلى الذين اتقوا لأنهم هم الملحوظون والمقصودون بالتكريم ودخول الجنة، فكل واحد منهم يمثل جماعة ويعادل جماعة نظير قوله تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) (النحل:120) كما أن الملك حينما يدعى يساق معه رفاقه وحاشيته وينسب السوق إلى الجميع.

6- إن الذين اتقوا لما يرون ما أعد الله لهم من الكرامة والفوز العظيم الذي تحقق لهم تخرج أرواحهم من أبدانهم فرحاً وشكراً وشوقاً إلى المنعم المتفضل فتساق أرواحهم إلى أبدانهم ليدخلوا الجنة وهمكانوا هكذا في الدنيا كما وصفهم أمير المؤمنين (علیه السلام) في خطبته في صفة المتقين (ولولا الأجل الذي كُتب لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى الثواب،

ص: 317

وخوفاً من العقاب)(1).

7- ما يُستفاد من بعض الروايات في فضل زيارة الإمام الحسين (علیه السلام) ونصرته لإقامة دين الله تعالى ونشر ولاية أهل البيت (علیهم السلام) وهي من سيماء الذين اتقوا (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج: 32)، فقد روى زرارة عن الإمام الباقر (علیه السلام) أو الصادق (علیه السلام) أنه قال: (يا زرارة إذا كان يوم القيامة جلس الحسين (علیه السلام) في ظل العرش وجمع الله زواره وشيعته ليبصروا من الكرامة والنصرة والبهجة والسرور إلى أمر لا يُعلم صفته إلا الله فيأتيهم رسل أزواجهم من الحور العين من الجنة فيقولون إنا رُسل أزواجكم إليكم يقلن: إنا قد اشتقناكم وأبطأتم عنا فيحملهم ما هم فيه من السرور والكرامة على أن يقولوا لرسلهن: سوف نجيئكم إن شاء الله)(2).

ورويت بشكل آخر أكثر تفصيلاً في كامل الزيارات عن زرارة وفيها (وما من عبد يُحشَرُ إلاّ وعيناه باكيةً إلاّ الباكين على جدِّيَ الحسين (علیه السلام)، فإنّه يحشر وعينه قَريرة، والبشارة تلقاه والسّرور (بيّن) على وجهه، والخلق في الفزع وهم آمنون، والخلق يعرضون وهمحدّاث(3) الحسين (علیه السلام) تحت العرش وفي ظلِّ العرش، لا يخافون سوءَ يوم الحساب، يقال لهم: ادخلوا الجنّة، فيأبون ويختارون مجلسه وحديثه، وأنَّ الحور لترسل إليهم أنّا قد اشتقناكم مع الولدان المخلّدين فما يرفعون رؤوسهم إليهم لما يرون في مجلسهم مِنَ السُّرور

ص: 318


1- نهج البلاغة: 2/161، خطبة 193، في وصف المتقين.
2- بحار الأنوار: 101/75، ح25 عن نوادر علي بن أسباط ضمن الأصول الستة عشر: 123.
3- أي يتحدثون مع الامام (علیه السلام)

والكَرامَة، وإنَّ أعداءَهم مِن بين مَسْحوب بناصيته إلى النّار، ومِن قائل: (ما لَنا مِن شافِعينَ وَلا صَدِيقٍ حَميم)، وإنّهم ليرون منزلهم، وما يقدرون أن يدنوا إليهم ولا يصلون إليهم، وإنَّ الملائكة لتأتيهم بالرِّسالة مِن أزواجهم ومِن خُزّانهم على ما أُعطوا مِن الكَرامة فيقولون: نأتيكم إن شاء الله، فيرجعون إلى أزواجهم بمقالاتهم، فيزدادون إليهم شوقاً إذا هم خبّروهم بما هم فيه مِنَ الكَرامة وقُربهم مِن الحسين (علیه السلام)، فيقولون: الحمد لله الَّذي كفانا الفَزَع الأكبرَ، وأهوال القيامة، ونجّانا ممّا كنّا نخاف، ويؤتون بالمراكب والرِّحال على النَّجائب، فيستوون عليها، وهم في الثَّناء على الله والحمد لله والصَّلاة على محمَّدٍ وآله، حتّى يَنْتَهوا إلى منازلهم)(1)، فهؤلاء المتقون من زوار الإمام الحسين (علیه السلام) وشيعته والمقيمين لشعائره بإخلاص يفضلون النظر إلى وجهه الكريم على المصير إلى الجنة وينشغلون به عنها فتأخذهم الملائكة برفق وتكريم إلى الجنة حينما أذن الله تعالى بذلك.والرواية لم تطبق هذه الحالة على الآية الكريمة لذلك لم يلتفت اليها أصحاب التفاسير بالروايات كالبرهان ونور الثقلين إلا أن معناها واضح الانطباق على الآية.

ص: 319


1- كامل الزيارة: 84.

خطاب المرحلة 643 : المرحوم الحاج ابو ذر مثال الخير والمعروف

بسمه تعالى

المرحوم الحاج ابو ذر مثال الخير والمعروف

رحل عنا الليلة الماضية الرجل العامل الصبور المثابر المضحي الخدوم صاحب القلب الطيب الحاج نبيل عباس المعروف ب- (ابي ذر) رحمه الله تعالى وأكرم مثواه، وكان رحيله بصمت كما كان عمله طيلة حياته فلم يكن يتحدث عن إنجازاته الكثيرة والمتواصلة طيلة عشرات السنين بل كان عمله هو الذي يتحدث عنه حتى ترك بصمة مباركة في بقاع كثيرة من خلال إنشاء العشرات من الجوامع والحسينيات والمدارس الدينية ودور السكن لطلبة العلوم الدينية والعوائل المتعففة وتزويج ما لا يحصى كثرة من الشباب ومساعدة المحتاجين وإطعامهم وكسوتهم ومعالجة مرضاهم حتى صار ذكره الطيب على كل لسان، ويشهد بذلك كل من عرفه وخالطه ولو لفترة قصيرة.

كان قلبه مفعماً بحب أهل البيت (علیهم السلام) وولائهم متفانياً في إقامة شعائرهم والخدمة في مواكبهم مواظباً على زيارة الامام الحسين (علیه السلام) ليالي الجمع وزيارة أمير المؤمنين (علیه السلام) منذ أيام البطش الصدامي، ولم يتوقف حتى في ظرف وباء كورونا والحظر.

كان منذ عرفته في ثمانينيات القرن الماضي رافضاً للظلم ثائراًقريباً من المجاميع الجهادية ضد نظام صدام في ذروة طغيانه وجبروته كمجموعة الشهيد حسين علوان اليعقوبي (استشهد هو ورفاقه سنة 1988) حيث كان يقوم

ص: 320

لهم ببعض الأمور اللوجستية التي تسهِّل حركة المجاهدين وتخفي أسمائهم الحقيقية.

وفي التسعينيات حيث الحصار الجائر الذي أنهك الشعب المظلوم، كان دائب الحركة في نقل المساعدات العينية والنقدية على دراجته النارية وتوزيعها على المحتاجين، يعمل بكل حب واخلاص وهو فرح بتوفيق الله تعالى لهذه الأعمال الخيرية، كما كان بارّاً بوالدته ويخدمها في سائر شؤونها بكل سرور.

إنه خير قدوة وأسوة لمن يريد حرث الآخرة ويسارع إلى الخيرات ونيل المكرمات، وكان زاهداً في الدنيا لم تمتدّ عينه إلى زخارفها، مؤثراً غيره على نفسه بما في يده.

وعاجله الموت وهو يقوم بإنشاء حوالي 300 دار لطلبة العلوم الدينية ضمن مدينة العلم الكبرى في النجف الأشرف.

ولو كان الموت يقنع بالبديل لافتديناه منه بما شاء ليستمر في هذه الأعمال المباركة ولكن الله تعالى اختاره لجواره فقبضه اليه راضياً مرضياً.

جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري

لقد زاد حزني وألمي أنه مضى من غير أن يودع بعضنا بعضاًونستذكر هذه السنين التي تجاوزت الثلاثين وحفلت بالمآثر، فما كنت أحسب أن فايروس كورونا سينشب مخالبه فيه بهذه الكيفية وهذه السرعة ولا سلوة لي الا الدموع التي أجريها من عينين قريحتين وقلب مكمد محزون.

أسأل الله تعالى أن يحسن وفادته وينزله منزلاً مباركاً مع أوليائه الطاهرين

ص: 321

ويخلف على أهله وذويه ومحبيه وأن يهيئ من يواصل أعماله في البر والاحسان.

محمد اليعقوبي

11 صفر 1442

29-9-2020

ص: 322

خطاب المرحلة 644 : كافل اليتيم المادي والمعنوي مع رسول الله (صلی الله علیه و آله)

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ) (الضحى: 9)

كافل اليتيم المادي والمعنوي مع رسول الله (صلی الله علیه و آله)(1)

اليتم يعني الانقطاع والانفراد فاليتيم في الانسان انقطاع الطفل الذي لم

يبلغ عن أبيه حيث (لا يتم بعد احتلام)(2)، أما في الحيوانات فهو الانقطاع عن الأم والجامع بينهما هو الانقطاع عن الكافل والرازق والمدبِّر والمدير، وبلحاظ معنى التفرّد والانقطاع يكون معنى اللفظ واسعاً فيشمل كل متفرد منقطع النظير فيقال جوهرة يتيمة أي انقطعت مادتها التي أخرجت منها فلا يوجد مماثل لها وقصيدة يتيمة أي لا نظير لها وهكذا.

وبهذا المعنى فسرَّت بعض الروايات يُتُم رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقد روى العياشي في تفسيره عن الامام الرضا (علیه السلام) عند تفسير قوله تعالى لنبيه محمد (صلی الله علیه و آله) (أَلَمْيَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى) (الضحى : 6) قال (فرداً لا مثل لك في المخلوقين فآوى الناس اليك)(3)

وروى الشيخ الصدوق مثله عن ابن عباس(4) وقال علي بن إبراهيم في

ص: 323


1- كلمة لسماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) ألقيت يوم السبت 29 صفر الخير 1442 الموافق 17 / 10 / 2020
2- وسائل الشيعة: 1/45 أبواب مقدمات العبادات، باب 4 ح 9
3- تفسير نور الثقلين: 5/358 سورة الضحى ح 13
4- معاني الاخبار: 52 ح 4

تفسيره ( اليتيم الذي لا مثل له ولذا سميت الدرة اليتيمة لأنه لا مثل لها)(1) ، واذا صح صدور الحديث عن الإمام (علیه السلام) فلا كلام وإن كان فهماً من بعض الرواة فهو خلاف الظاهر خصوصاً بمقابلته مع تفريع آية (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ) (الضحى : 9) عليها ويمكن قبول هذا المعنى اذا نُظر إلى الآية مستقلة عن الآية الأخرى.

واليتم حاله تثير الشفقة والتعاطف بشكل عاصف وتثير كوامن الإنسانية وهي محل لاختبار كرم الاخلاق من لؤمها وفي ذلك نسب إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) قوله:

ما إن تأوهت من شيء رزئت به *** قد مات والدهم من كان يكفلهم

كما تأوهت للأطفال في الصغر *** في النائبات وفي الاسفار والحضر

ونجد في القرآن الكريم التأكيدات المتكررة على الإحسان إلى الأيتام ورعايتهم مثل قوله تعالى (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىوَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ) (البقرة : 177) وقوله تعالى (قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى) (البقرة : 215) وقول تعالى (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى) (النساء : 36) ويصل التأكيد إلى ذروته عندما قرنها الله تعالى بتوحيده وبأفضل الطاعات في قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى) (البقرة : 83) .

وحذرت الآيات الكريمة من عقوبة من تمتد يده إلى أموال اليتامى بغير حق مستغلاً ضعفهم وقلة حيلتهم وعدم معرفتهم بالأمور كقوله تعالى (إِنَّ

ص: 324


1- تفسير نور الثقلين : 5/358 ح 17

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) (النساء : 10) وجعل تبارك وتعالى عدم اكرام اليتيم من علامات ضعف الايمان قال تعالى (كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) (الفجر : 17) بل من علامات عدم الايمان بالآخرة قال تعالى (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ* فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) (الماعون: 1-2) لأنه لو كان يؤمن بالآخرة حقاً لسعى إليها سعيها ونصح المعصومون (علیهم السلام) بالابتعاد عن ولاية أموال الايتام لمن لا يملك الخبرة ودقة النظر والقوة على تحمل هذه المسؤولية، روى الشيخ الطوسي بسنده عن أبي ذر (رضوان الله تعالى عليه) قال (ان النبي (صلی الله علیه و آله) قال: يا أبا ذر اني أحبّ لك ما أحبّ لنفسي أني أراكضعيفاً فلا تأمرَّن على ثنين ولا توليّن مال يتيم)(1).

فالآية الكريمة محل البحث موجهة الى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومنه إلى البشر كافة بأن يهتم باليتيم والحنو عليه وايوائه والاعتناء به وان يتعامل معه بشفقة ورحمة وتواضع ولا يتسبب في إيلامه وإزعاجه وإذلاله وتسليط من لا يرحمه عليه، قال تعالى له ذلك بعد ان ذكّره في الآيات السابقة بنعمة الله تعالى عليه (صلی الله علیه و آله) اذ كان يتيماً فآواه وكفله وأعزّه ونصره (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى) (الضحى : 6) فأنه (صلی الله علیه و آله) فقد أباه وهو حمل في بطن أمه فكفله جده عبدالمطلب سيد البطحاء ثم توفيت أمه وهو في الشهر السادس من عمره على ما هو الصحيح، وتوفي جده وهو في الثامنة من عمره فكفله عمه أبو طالب ونصره وحماه من أذى قريش وغيرهم.

ولا شك في ان أكثر من يقدّر معاناة اليتيم وآلامه وانكساره وآثاره

ص: 325


1- بحار الأنوار: 75/4 ح 7 عن امالي الطوسي: 384، الرقم 833

النفسية والاجتماعية هو من ذاق اليتم ومن هنا ارتبطت الآية بفاء التفريع والتسبيب (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ) أي اجعل تذكرك لحالة اليتم التي عشتها دافعاً لإكرام اليتيم والإحسان اليه وعدم اشعاره بالنقص الذي تسبّب بفقدان كافله ومعيله ومربّيه.

وقد أوصل (صلی الله علیه و آله) هذا التوجيه إلى الأمة بكل وضوح وبأبلغ التعابير وأعلى الأثمان فقال (صلی الله علیه و آله) (منعال يتيماً حتى يستغنى عنه أوجب الله عزوجل له بذلك الجنة كما أوجب الله لآكل مال اليتيم النار)(1) وقال (صلی الله علیه و آله) (إن في الجنة داراً يقال لها: دار الفرح، لا يدخلها الا من فرّح يتامى المؤمنين)(2) وقال (صلی الله علیه و آله): (إن اليتيم اذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن، فيقول الله لملائكته يا ملائكتي من ابكى هذا اليتيم الذي غُيِّب أبوه في التراب، فتقول الملائكة: أنت أعلم، فيقول الله تعالى: يا ملائكتي فإني أشهدكم ان لمن أسكته وأرضاه أن أرضيه يوم القيامة)(3).

ويصل تكريم كافل اليتيم إلى ذروته بقوله (صلی الله علیه و آله): (من كفل يتيماً وكفل نفقته كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وقرن بين إصبعيه المسبّحة والوسطى)(4).

وفي رواية أخرى قال (صلی الله علیه و آله): (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة إذا

ص: 326


1- بحار الأنوار: 75/4 ح 8
2- كنز العمال: 6008
3- مجمع البيان: 10/214
4- بحار الأنوار: 3/75 عن قرب الإسناد بسند مقبول

اتقى الله عز وجل وأشار بالوسطى والتي تليها)(1)، والحديث مشهور، وإن كان ينقل من دون جزئه الأخير الذي هو شرط قبول الأعمال، قال تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة : 27)لكنه هنا شرط لكون كافل اليتيم في درجة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وليس شرطاً لإعطاء الجزاء، لأن أعمال البر والإحسان يثاب عليها الإنسان ولو لم يقصد بها وجه الله تعالى.

وقد أكدت الآية الكريمة على الجانب المعنوي في رعاية الأيتام (فَلَا تَقْهَرْ) أي لا تذلّ اليتيم ولا تهنه ولا تستضعفه لأن حاجة اليتيم الى الرعاية المعنوية أشدّ إذ قد يكون مكتفياً مادياً لأن أباه ترك له مالاً يعيش منه لكن الجانب المعنوي تبقى الحاجة إليه وقد حثت الأحاديث الشريفة عليه حتى بأبسط صورة كالمروي عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال (من مسح على رأس يتيم كان له بكل شعرة تمر على يده نور يوم القيامة)(2).

وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (ما من مؤمن ولا مؤمنة يضع يده على رأس يتيم ترحماً الا كتب الله له بكل شعرة مرّت يده عليها حسنة)(3).

والروايات تدل على ان ذلك العطف والرحمة يعود بالفيض المعنوي على الماسح نفسه وليس فقط على اليتيم فقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لرجل يشكو قسوة في قلبه: (أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم

ص: 327


1- تفسير نور الثقلين: 597/5
2- تفسير مجمع البيان: 10 / 214
3- بحار النوار: 75/4 ح 9

وأمسح رأسه واطعمه من طعامكيلن قلبك وتدرك حاجتك)(1).

إن كفالة الأيتام والإحسان اليهم ليس فقط عملاً شخصياً يتقرب به الانسان إلى الله تعالى وينال به الدرجات المذكورة وانما هي مسؤولية اجتماعية لأن استمرار شعور اليتيم بالنقص والحرمان وانه ادون من الآخرين وعدم معالجة هذه الحالة عنده تجعله عنصراً مأزوماً محتقناً ويتحيّن الفرص للانتقام من المجتمع الذي لم يعوضه عن هذا النقص ويتحول الايتام إلى قنابل موقوته في المجتمع ما لم يتم دمجهم كافراد طبيعيين صالحين فيه، وهذا يعطي رساله إطمئنان لكل الناس بأن حقوقهم وحقوق أبنائهم مكفولة بأحسن صورة حتى لو خلفوا ايتاماً، وورد هذا المعنى في حديث عن الامام الرضا (علیه السلام) قال (حُرِّم أكل مال اليتيم ظلماً لعلل كثيرة من وجوه الفساد) إلى أن قال (علیه السلام) (فاذا أكل ماله فكأنه قد قتله وصيّره إلى الفقر والفاقة، مع ما في ذلك من طلب اليتيم بثأره اذا أدرك، ووقوع الشحناء والعداوة والبغضاء حتى يتفانوا)(2).

ولابد من الالتفات الى المعنى الواسع لآكل مال اليتيم فان عدم دفع الحقوق الشرعية الى مستحقيها من مصاديق هذا العنوان ففي رواية صحيحة عن أبي بصير قال (قلت لأبي جعفر -- الباقر (علیه السلام)-- ما أيسر ما يدخل به العبد النار؟ قال: من أكل من مال اليتيم درهماً، ونحن اليتيم)(3).

وان ما يأكله السياسيون الفاسدون من أموال الشعب بغير حق هو أكل

ص: 328


1- ميزان الحكمة: 9/614
2- علل الشرائع: 480 ح 1
3- وسائل الشيعة: 9/483 أبواب ما يجب فيه الخمس، باب 1 ح 1

لمال اليتيم بالباطل لأن المسؤول في موقع الأبّوة والكفالة والرعاية للشعب انطلاقاً من الحديث النبوي الشريف (يا علي أنا وأنت أبوا هذه الأمة)(1). فالشعب يتيم منقطع عن ثرواته ومصالحه وامكانياته المتنوعة التي اودعها الله تعالى في أرضه ومياهه واستأمن المسؤولين في السلطة عليها فاذا مدّ المسؤول يده اليها ولم يحسن وضعها في محلها فأنه أكل أموال هؤلاء الأيتام المنقطعين.

ان كل ما تقدم يلزمنا بإيجاد المؤسسات الخيرية والثقافية والتربوية والتعليمية التي تعنى برعاية الأيتام وكفالتهم وحسن تربيتهم وتعليمهم وتثقيفهم حتى يكونوا افراداً صالحين في المجتمع بل ربما من قادته، وقد أورد الفقهاء مسائل شرعية مفصّلة لحفظ أموال الأيتام وادارتها بما فيه مصلحة الصغير ووضعت شروطاً لمن يتولى القيمومة على الصغار والتصرف بأموالهم.

وعلينا ان نتذكر أن أكمل الخلق وأشرفهم وهو نبينا محمد (صلی الله علیه و آله) كان يتيماً، وان فاطمة الزهراء (علیها السلام) سيدةنساء العالمين فقدت أمها وهي في الخامسة من عمرها وعاشت وحيدة مع أبيها رسول الله (صلی الله علیه و آله) وان من أكمل سيدات النساء عبر التاريخ وهي الصديقة مريم كانت يتيمة توفى أبوها وهي حمل في بطن أمها لكن الله تعالى هيأ لها كفيلاً من انبيائه العظام (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) (آل عمران : 37) فحسن كفالة الايتام تصنع منهم عناصر مثمرة مباركة في المجتمع.

وكان لأئمة أهل البيت (علیهم السلام) سلوك متميز مع الايتام فقد روى الشيخ الكليني في الكافي انه (جاء إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) عسل وتين من همدان

ص: 329


1- بحار الأنوار: ج 36 / ص 11

وحلوان فأمر العرفاء أن يأتوا باليتامى، فأمكنهم من رؤوس الازقاق يلعقونها وهو يقسمها للناس قدحا، قدحا، فقيل له: يا أمير المؤمنين ما لهم يلعقونها؟ فقال: إن الإمام أبو اليتامى وإنما ألعقهم هذا برعاية الآباء)(1) وبهذا أوصى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بقوله (كن لليتيم كالأب الرحيم)(2).

ونظر علي (علیه السلام) إلى امرأة على كتفها قربة ماء، فأخذ منها القربة فحملها إلى موضعها، وسألها عن حالها فقالت: بعث علي بن أبي طالب صاحبي إلى بعض الثغور فقتل، وترك عليَّ صبياناً يتامى، وليس عندي شيء، فقد ألجأتني الضرورة إلى خدمة الناس، فانصرفوبات ليلته قلقاً، فلما أصبح حمل زنبيلا فيه طعام، فقال بعضهم: أعطني أحمله عنك، فقال: من يحمل وزري عني يوم القيامة؟ فأتى وقرع الباب، فقالت: من هذا؟ قال: أنا ذلك العبد الذي حمل معك القربة، فافتحي فإن معي شيئا للصبيان، فقالت: رضي الله عنك وحكم بيني وبين علي بن أبي طالب، فدخل وقال: إني أحببت اكتساب الثواب، فاختاري بين أن تعجنين وتخبزين وبين أن تعللين الصبيان لاخبز أنا، فقالت: أنا بالخبز أبصر وعليه أقدر، ولكن شأنك والصبيان، فعللهم حتى أفرغ من الخبز، قال: فعمدت إلى الدقيق فعجنته، وعمد علي (علیه السلام) إلى اللحم فطبخه، وجعل يلقم الصبيان من اللحم والتمر وغيره، فكلما ناول الصبيان من ذلك شيئا قال له: يا بني اجعل علي بن أبي طالب في حل مما أمر في أمرك، فلما اختمر العجين قالت: يا عبدالله اسجر التنور فبادر لسجره فلما أشعله ولفح

ص: 330


1- الكافي: 1/406، بحار الأنوار: 41/123 ح 3
2- بحار الأنوار: 77/171 ح 7

في وجهه جعل يقول: ذق يا علي هذا جزاء من ضيع الارامل واليتامى، فرأته امرأة تعرفه فقالت: ويحك هذا أمير المؤمنين، قال: فبادرت المرأة وهي تقول: واحيائي منك يا أمير المؤمنين، فقال: بل واحيائي منك يا أمة الله فيما قصرت في أمرك (1).

لنكن هكذا في رعاية الأيتام والأرامل وعموم الناس خصوصاً المحتاجين المتعففين وذوي العاهات وأمثالهم.

كفالة الأيتام المعنويين:

هذا ما يتعلق باليتيم المادي بحسب ما سمّيناه وهو المعنى المعروف لليتيم، ويوجد أيتام من نوع آخر هم أكثر عدداً يكاد يمثلون أغلب الناس، وكفالتهم لا تحتاج إلى المال، بل إلى الوعي والمعرفة والجهد والهمة والإخلاص، وكافلهم يكون أقرب إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الأول، تعرّفهم لنا جملة من الأحاديث الشريفة(2) وتبين منزلتهم (الكافلين) عند النبي (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته المعصومين (علیهم السلام) منها ما روي عن الإمام أبي محمد الحسن العسكري (علیه السلام) قال: (حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال: أشد من يُتم اليتيم الذي انقطع عن أبيه يتم يتيم انقطع عن إمامه ولا يقدر على الوصول إليه ولا يدري كيف حكمه فيما يبتلى به من شرائع دينه ألا فمن كان

ص: 331


1- بحار الأنوار: 41/52 ح 3 عن مناقب ابن شهرآشوب: 2/114
2- هذه المجموعة من الأحاديث أثبتها العلامة المجلسي (قده) في بحار الأنوار: 2/ 2-6 في الباب 8 من كتاب العقل والعلم والجهل، أبواب العقل والجهل، عن التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري ((علیه السلام) ) وكتاب الاحتجاج للطبرسي.

من شيعتنا عالماً بعلومنا وهذا الجاهل بشريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا يتيم في حجره ألا فمن هداه وأرشده وعلمه شريعتنا كان معنا في الرفيق الأعلى)(1).

وعن أبي محمد العسكري (علیه السلام) قال: (قال الحسن بن علي (علیهم السلام): فضل كافل يتيم آل محمد المنقطع عن مواليه الناشب في رتبة الجهل يخرجه من جهله، ويوضح له ما اشتبه عليه،على فضل كافل يتيم يطعمه ويسقيه كفضل الشمس على السها)(2).

وعنه (علیه السلام) قال: (قال الحسين بن علي (علیهم السلام) من كفل لنا يتيماً قطعته عنا محبتنا(3)

باستتارنا فواساه من علومنا التي سقطت إليه حتى أرشده وهداه، قال الله عز وجل: يا أيها العبد الكريم المواسي أنا أولى بالكرم منك، اجعلوا له يا ملائكتي في الجنان بعدد كل حرف علّمه ألف ألف قصر، وضموا إليها ما يليق بها من سائر النعم).

وعنه (علیه السلام) قال: (قال موسى بن جعفر (علیهم السلام): فقيه واحد ينقذ يتيماً من أيتامنا المنقطعين عنا وعن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه أشد على ابليس من ألف عابد، لأن العابد همّه ذات نفسه فقط، وهذا همّه مع ذات نفسه ذات عباد الله وإمائه لينقذهم من يد إبليس ومردته، فذلك هو أفضل عند الله من ألف ألف عابد، وألف ألف عابدة).

ص: 332


1- الأحاديث من بحار الأنوار الباب المذكور على التسلسل: 1، 4، 5، 9، 10، 11.
2- السها في لغة العرب کويکب صغير خفي الضوء، والناس يمتحنون به أبصارهم لصغره وخفائه.
3- أي كان سبب انقطاعه عنا رغبتنا في الاستتار رعاية الحكمة إلهية عظمى. وفي نسخة (محنتنا) وهو أظهر.

وعنه (علیه السلام) قال: (قال علي بن موسى الرضا (علیهم السلام): يقال للعابد يوم القيامة: نعم الرجل كنت همتك ذات نفسك وكفيت الناس مؤونتك فادخل الجنة، ألا إن الفقيه من أفاض علىالناس خيره، وأنقذهم من أعدائهم، ووفّر عليهم نعم جنان الله وحصل لهم رضوان الله تعالى. ويقال للفقيه: يا أيها الكافل لأيتام آل محمد الهادي الضعفاء محبيهم ومواليهم قف حتى تشفع لمن أخذ عنك، أو تعلَّم منك فيقف فيدخل الجنة معه فئاماً وفئاماً(1) حتى قال عشرة).

وعنه (علیه السلام) قال: (قال محمد بن علي الجواد (علیهم السلام): من تكفل بأيتام آل محمد المنقطعين عن إمامهم المتحيرين في جهلهم، الأُسراء في أيدي شياطينهم، وفي أيدي النواصب من أعدائنا فاستنقذهم منهم، وأخرجهم من حيرتهم، وقهر الشياطين برد وساوسهم، وقهر الناصبين بحجج ربهم ودليل أئمتهم لَيُفضّلون عند الله تعالى على العباد بأفضل المواقع بأكثر من فضل السماء على الأرض والعرش والكرسي والحجب على السماء، وفضلهم على هذا العابد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كوكب في السماء).

الزهراء (علیها السلام) تكفل الأيتام:

وقد كانت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) تحذو حذو أبيها (صلی الله علیه و آله) في أقواله وأفعاله وخصاله الكريمة وهديه وسمته، فقد أدت ما عليها ووفت بما عاهدت ربها عليه من الالتزامات فنجحت في الامتحان بأعلى درجات النجاح.

ص: 333


1- فئام: الجماعات الكبيرة من الناس، وطبقت في بعض الموارد -- كيوم الغدير -- على مئة ألف.

الأيتام بكلا النوعين:

ومن موارد صدقها فيما امتُحنت به كفالة الأيتام بالمستويين اللذين ذكرناهما.

أما الأول فقد شهد الله تبارك وتعالى لها ولزوجها أمير المؤمنين وولديها الحسن والحسين (صلوات الله عليهم) في القرآن الكريم بإطعامهم اليتيم مع حاجتهم للطعام حباً لله تبارك وتعالى وإخلاصاً لوجهه الكريم (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) (الإنسان : 8-9).

ونقرأ في سيرتها (صلوات الله عليها) أنها طحنت بالرحى حتى مجلت يداها وأشعلت التنور حتى دكنت ثيابها وما ذلك لإطعام زوجها وبنيها لأنهم خمص البطون، وكانوا يكتفون من الطعام بما يسد رمقهم، وإنما كان ذلك لكثرة من تطعمهم وتتكفل بهم كما تشهد به روايات أخر، ولم تغب عنها الوصية بالأيتام وهي تودع الحياة الدنيا، روي أنه جاء في وصيتها (علیها السلام) لأمير المؤمنين (علیه السلام) بالحسن والحسين (علیهم السلام): (يا أبا الحسن ولا تصح في وجهيهما فإنهما سيصبحان يتيمين من بعدي، بالأمس فقدا جدهما واليوم يفقدان أمهما)(1).

وأما على المستوى الثاني لكفالة الأيتام فقد كانت لها حركة دؤوبة وهمة لا تعرف التواني والتقصير، روي عن الإمام أبي محمد العسكري (علیه السلام) أنه قال: (حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء (علیها السلام) فقالت: إن لي

ص: 334


1- بحار الأنوار: 43/178

والدة ضعيفة وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بعثتني إليك أسألك، فأجابتها فاطمة (علیها السلام) عن ذلك، فثنت فأجابت ثم ثلثت إلى أن عشّرت فأجابت ثم خجلت من الكثرة فقالت: لا أشق عليك يا ابنة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، قالت فاطمة (علیها السلام): هاتي وسلي عما بدا لك، أرأيت من اكترى يوماً يصعد

إلى سطح بحمل ثقيل وكراه مائة ألف دينار يثقل عليه؟ فقالت: لا. فقالت: اكتريت أنا لكل مسألة بأكثر من ملء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤاً فأحرى أن لا يثقل عليّ، سمعت أبي (صلی الله علیه و آله) يقول: إن علماء شيعتنا يحشرون فيخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجدهم في إرشاد عباد الله حتى يخلع على الواحد منهم ألف ألف حلة من نور ثم ينادي منادي ربنا عز وجل: أيها الكافلون لأيتام آل محمد (صلی الله علیه و آله)، الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الذين هم أئمتهم، هؤلاء تلامذتكم والأيتام الذين كفلتموهم ونعشتموهم فاخلعوا عليهم خلع العلوم في الدنيا فيخلعون على كل واحد من أولئك الأيتام على قدر ما أخذوا عنهم من العلومحتى أن فيهم يعني في الأيتام لمن يخلع عليه مائة ألف خلعة وكذلك يخلع هؤلاء الأيتام على من تعلم منهم، ثم إن الله تعالى يقول: أعيدوا على هؤلاء العلماء الكافلين للأيتام حتى تتموا لهم خلعهم، وتضعفوها لهم فيتم لهم ما كان لهم قبل أن يخلعوا عليهم، ويضاعف لهم، وكذلك من يليهم ممن خلع على من يليهم. وقالت فاطمة (علیها السلام): يا أمة الله إن سلكة من تلك الخلع لأفضل مما طلعت عليه الشمس ألف ألف مرة وما فضل فإنه مشوب بالتنغيص والكدر)(1).

ص: 335


1- بحار الأنوار: 43/178 ح 3

وروي عنه (علیه السلام) قال: (قال علي بن أبي طالب (علیه السلام): من قوى مسكيناً في دينه ضعيفاً في معرفته على ناصب مخالف فأفحمه لقنه الله يوم يُدلي في قبره أن يقول: الله ربي، ومحمد نبيي، وعلي وليي، والكعبة قبلتي، والقرآن بهجتي وعدتي، والمؤمنون إخواني. فيقول الله: أدليت بالحجة فوجبت لك أعالي درجات الجنة فعند ذلك يتحول عليه قبره أنزه رياض الجنة)(1).

وان حديث النبي (صلی الله علیه و آله): (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة) يجري في هذه الكفالة أيضاً وقد شهد الامام الصادق (علیه السلام) بذلك للراوي الجليل بكير بن أعين فأنه لما بلغ الامام (علیه السلام) موته قال (أما والله لقد أنزله الله بين رسوله وأميرالمؤمنين صلوات الله عليهما)(2) .

وقال (علیه السلام) في أخيه حمران (نعم الشفيع أنا وآبائي لحمران بن أعين يوم القيامة، نأخذ بيده و لا نزايله حتى ندخل الجنة جميعا)(3).

مسؤوليتنا عن كفالة كلا النوعين من الأيتام:

أيها الأخوة والأخوات: لنعمل بهذه الأحاديث الشريفة حتى نكون مع الرسول الكريم (صلوات الله عليه وآله) في درجته في الجنة بكفالة كلا النوعين من الأيتام. فبلدنا اليوم يعج بمئات الآلاف من الأيتام بسبب ما تعرض له من جرائم القتل والبطش والحروب والمقابر الجماعية في عهد صدام ولجرائم القتل المنظم والإرهاب والفوضى المتعمدة والقتل العشوائي في عهد

ص: 336


1- بحار الأنوار: 43/178 ح 14
2- معجم رجال الحديث: 4/266
3- معجم رجال الحديث: 7/272

الاحتلال، وهؤلاء الأيتام في الوقت الذي يشكلون فيه مسؤولية على الأمة جميعاً تقتضي احتضانهم ورعايتهم وتربيتهم، وإلا تحولوا إلى جيل كامل من المجرمين والقتلة والمرضى النفسيين والمنحرفين أخلاقياً والحاقدين على المجتمع، في الوقت نفسه هم يمثلون فرصة عظيمة للطاعة امتثالاً للتوجيهات النبوية الشريفة المتقدمة.

أما النوع الثاني من اليتيم فهو صفة أكثر الناس فإنهم بين جاهل بالشريعة لا يعرف حتى الأحكام الأساسية التي يبتلى بها يومياً كالوضوءوالصلاة والغسل وبعض المعاملات، وبين مفتون قد اضطربت في ذهنه الأفكار وعصفت به الضلالات، وبين متورط في المعاصي بسبب غفلته وعدم وجود من يعظه ويذكره بالله تعالى، وبين إمّعةٍ ينعقون مع كل ناعق -- كما وصفهم الحديث الشريف -- وبين ضعيف أو مستضعف يحتاج إلى من يقوي فيه عقائده ويشدّ إيمانه، ولعلكم تعرفون أكثر مني مصاديق ذلك من خلال احتكاككم بالناس واطلاعكم على البيئة التي تعيشون فيها، ولعل بعضكم اطلع على الكثير مما ذكرت من خلال التجمعات الكبيرة التي تحصل في بعض المناسبات الاجتماعية والدينية وغيرها.

فأمامكم فرصة واسعة النيل القرب من رسول الله (صلی الله علیه و آله) برعاية الأيتام من النوع الأول وكفالتهم بالمساعدات المالية ورعايتهم وتربيتهم وإنشاء مؤسسات الحضانة والتعليم والترفيه لهم ونحوها، وقد أذنت المرجعية بصرف الحقوق الشرعية لكفالة الأيتام.

والفرصة الأوسع التي أمامكم هي كفالة الأيتام من النوع الثاني وهي

ص: 337

متاحة للجميع إذ ما من أحد منا إلا ويعرف مسألةً شرعيةً أو حديثاً شريفاً أو نصيحةً مفيدةً فلنُنظّم جميعاً حملة واسعة نقوم خلالها بتعليم الناس كل كلمة مفيدة أو موعظة تسمعونها أو مسألة شرعية تتعلمونها أو عمل صالح تهتدون إليه، أو نصيحة ترشدهم وتصحح أخطاءهم وغيرها كثير.فلا تبخلوا بكل ذلك على الناس سواء داخل الأسرة أو لزملائكم في العمل أو المنطقة أو رفقائك في السفر، وانقلوها لأكبر عدد منهم ليزداد أجركم وتحظون برضا الله تبارك وتعالى والمنزلة الرفيعة عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) والصديقة الطاهرة الزهراء (صلوات الله عليها)، فهذه الوظيفة ليست حكراً على الحوزة العلمية ونحوها بل هي مسؤولية كل من تعلم ولو مسألة واحدة وأنتم شيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) فاحفظوا وصيته بالأيتام عند وفاته (صلوات الله عليه) وقد رويت في الكافي بسند صحيح ومما جاء فيها: (الله الله في الأيتام، فلا تغبّوا(1) أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم، فقد سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: من عال يتيماً حتى يستغني أوجب الله عز وجل له بذلك الجنة كما أوجب الله لآكل مال اليتيم النار)(2).

ص: 338


1- أي تعطوهم حيناً وتقطعوهم حيناً آخر.
2- الكافي: 7/51-52 باب صدقات النبي (صلی الله علیه و آله) وفاطمة والأئمة (علیهم السلام) ووصاياهم، ح 7

خطاب المرحلة 645 : دعوة الى التأسي برسول الله (صلی الله علیه و آله)

(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) سورة الأحزاب:21

دعوة الى التأسي برسول الله (صلی الله علیه و آله)(1)

الاسوة بمعنى القدوة الذي يُتبَّع في الأقوال والأفعال والصفات الشخصية، فالأسوة لك هو من لك به اقتداء والأسوة من الاتسّاء كالقدوة من الاقتداء فهو اسم وضع موضع المصدر على وزنُ فعله كاللُقمة والأُكلة حيث تقال لما يُفعل به فالأسوة ما يؤتسى به وأصلها (أسو) بمعنى المداواة والإصلاح لذا يوصف الطبيب بأنه (آسي)، ويصلح به من الأفعال والصفات.

والآية وإن كانت بصيغة الأخبار الا انها تتضمن الدعوة والالزام بالتأسي برسول الله (صلی الله علیه و آله) في أقواله وأفعاله وغاياته وأهدافه وصفاته وملكاته لأن الانسان لابد له من أسوة وقدوة ليتعلم منه ويأخذ عنه، قال أمير المؤمنين (علیه السلام) (الا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه)(2) فعليه أن يتحقق من كون الأسوة حسنة صالحة ليتبعها قال رسول الله (صلی الله علیه و آله)(إن أئمتكموفدكم إلى الله، فانظروا من توفدون في دينكم وصلاتكم)(3). وتضيف الآية بأنه لا يستجيب لهذه الدعوة ولا ينتفع بها الا من وثق بالله تعالى وما عنده من

ص: 339


1- كلمة القاها سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) بتاريخ 13/ ربيع الأول /1442 الموافق 2020/10/30 بذكرى ولادة النبي الاكرم محمد (صلی الله علیه و آله)
2- نهج البلاغة: الخطبة 45 من كتابه الى عثمان بن حنيف
3- ميزان الحكمة :ج 1 / ص 124 عن البحار: 23 / 30 / 46.

الثواب الجزيل وخاف الآخرة وحرص على جلب الخير والسعادة والكمال والفوز في الآخرة لنفسه (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب :21).

ومن الطبيعي أن يختار الله تعالى لنا رسوله الكريم (صلی الله علیه و آله) ليكون الأسوة الحسنة لنا لأنه أكمل الخلق وأرقى نماذج الإنسانية وقد اجتمعت فيه كل صفات الكمال، وكيف لا يكون كذلك وقد تولى الله تعالى صنعه وتربيته وتأديبه بحسب الحديث الشريف (أدبني ربي فأحسن تأديبي)(1)،

ومن بعده الائمة المعصومون (علیهم السلام) من اهل بيته، قال (صلی الله علیه و آله) (من سره أن يحيى حياتي، ويموت مماتي ويسكن جنة عدن التي غرسها الله فليوال عليا من بعدي، وليوال وليه، وليقتد بالأئمة من بعدي، فإنهم عترتي خلقوا من طينتي، رزقوا فهما وعلما)(2)، وعنه (صلی الله علیه و آله) قال في بيان منزلة الائمة (علیهم السلام) ( هم أبواب العلم في امتي، من تبعهم نجا من النار، ومن اقتدى بهم هدي الى صراط مستقيم، لم يهب الله عزوجل محبتهم لعبد الا ادخله الجنة)(3).

وبذلك يكون اتخاذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) أسوة حسنة طريقاً لتطبيق الآية (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) (النحل : 60) فقد صنعه الله تعالى ليكون وسيلة تحقيق هذا الغرض فهو كتاب الله الناطق، وروي عن احدى أزواجه انها سئلت عن أوصافه

ص: 340


1- بحار الأنوار: 16/210، 68/382 ، 108 / 222
2- بحار الأنوار : ج 23 / ص 139/ ح85
3- ميزان الحكمة: 1/ 116 / عن امالي الصدوق: 74/42

فاختصرت الجواب قائلة (كان خلقه القرآن)(1) .

فالتأسي به (صلی الله علیه و آله) اتباع للقران الكريم، قال (صلی الله علیه و آله)(الا واني تارك فيكم الثقلين: احدهما كتاب الله عز وجل، هو الحبل الى الله، ومن تبعه كان على هدى، ومن تركه كان على الضلالة) فاصل ما يُتأسى به القران الكريم وسنة رسول الله(صلی الله علیه و آله) فهما صنوان لا يفترقان(2).

وكما ان القرآن شفاء وهدى ورحمة ونور وبيان وذكر ومبارك وحكيم ونحو ذلك مما ذكره القران الكريم فان رسول الله (صلی الله علیه و آله) كذلك، وان القرآن وصف نفسه بأن فيه (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) (النحل : 89) و (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام : 38) فكذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله) سفر واسع يجد فيه التواقون الىالكمال وطالبو السعادة والفلاح والنجاة كل ما يريدون.

أن التأسي يعني جعل حياة الأسوة الحسنة معياراً وميزاناً لسلوك المتأسي وصفاته ويجعلها فرقاناً في حياته يميزّ به بين ما يصح فعله وما لا يصح، ويسعى المتأسي الى ان يكون مثالاً ونسخة من الاسوة.

وصّور امير المؤمنين(علیه السلام) اكمل صور التأسي برسول الله (صلی الله علیه و آله) قال (علیه السلام) (وقد كنت أتبعَهُ إتباع الفصيل أثر أمّه، يرفع لي في كل يوم من اخلاقه عَلَما، ويأمرني بالاقتداء به)(3)

إن تقديم النبي (صلی الله علیه و آله) كأسوة حسنة يتطلب دراسة سيرته المباركة

ص: 341


1- شرح نهج البلاغة لابن ابي حديد: 6/340
2- ميزان الحكمة: 1/ 115 عن صحيح مسلم: 4/1874/ ح2408
3- نهج البلاغة : الخطبة القاصعة رقم 192.

وتحليلها وعدم الاكتفاء بالسرد التاريخي والروائي لتشخيص جوانب التأسي سواء على صعيد حياته الشخصية وملكاته وصفاته الذاتية أو على صعيد منهجه في سياسة الأمة ورعاية شؤونها وقد قمتُ بمحاولة في هذا المجال وطبعت في كتاب (الأسوة الحسنة).

وبالعودة إلى الآية الكريمة محل البحث نقول انها وقعت في سياق الحديث عن معركة الأحزاب وما رافقها من أهوال وكوارث ومخاوف حتى قال تعالى (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) (الأحزاب : 10 - 11) لكناقتحام النبي (صلی الله علیه و آله) بنفسه الشريفة ميدان العمل فيضرب بالمعول هنا ليحفر الخندق، ويحمل التراب هناك، ويشارك المجاهدين في اهازيجهم واشعارهم الحماسية، رفع من الروح المعنوية لهم وسكب عليهم الطمأنينة حتى أنه (صلی الله علیه و آله) كان أحياناً يلاطفهم ويرطب الأجواء فهو (صلی الله علیه و آله) أسوة في شجاعته(1)

وثباته وتواضعه وصدقه وتسليمه وعمله الدؤوب وحسن تخطيطه وتفانيه في سبيل الحق وغير ذلك مما افرزته سيرته المباركة والصبر على ذلك كله، روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قوله (ولأن الصبر على ولاة الأمر مفروض لقول الله عز وجل لنبيه (صلی الله علیه و آله) (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) (الأحقاف : 35) وإيجابه مثل ذلك على أوليائه وأهل طاعته بقول (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ

ص: 342


1- روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قوله (كنّا اذا احمّر البأس ولقي القومُ القومَ اتقينا برسول الله ص فما يكون أحد أقرب الى العدو منه) (بحار الأنوار: 16/232)

أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(1)

.

ولا يصح حصر مفاد الآية في تلك الأحداث بل هي دعوة عامة (لكم) أي لجميع البشرية أن تتأسى بالنبي (صلی الله علیه و آله) قال امير المؤمنين (علیه السلام) اقتدوا بهدي نبيّكم فإنه افضل الهدي، واستنوا بسنته فإنها اهدى السنن)(2)، و(كان) هنا ليست كان الناقصةالتي تعني ثبوت الوصف في زمان وارتفاعه في زمان آخر، بل هي كان التامة التي تفيد الثبات لأنه من شأنه ذلك وقد سبقتها (اللام) و (قد) لتفيد التحقق والتأكيد.

قال امير المؤمنين (علیه السلام) (فتأسَّ بنبيك الأطيب الأطهر، صلى الله عليه وسلم، فإن فيه أسوة لمن تأسى وعزاء لمن تعزى. وأحب العباد إلى الله المتأسي بنبيه، والمقتص لأثره.

قضم الدنيا قضما، ولم يعرها طرفا. أهضم أهل الدنيا كشحا، وأخمصهم من الدنيا بطنا، عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها، وعلم أن الله تعالى أبغض شيئا فأبغضه، وحقر شيئا فحقره، وصغر شيئا فصغره.

ولو لم يكن فينا إلا حبنا ما أبغض الله ورسوله، وتعظيمنا ما صغر الله ورسوله لكفى به شقاقا لله تعالى ومحادة عن أمر الله تعالى)(3)

وروى في مجمع البيان قال ثعلبة بن حاطب وكان رجلاً من الأنصار للنبي (صلی الله علیه و آله) (ادع الله أن يرزقني مالاً، فقال: يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من

ص: 343


1- نور الثقلين: 4/535 ح 38
2- نهج البلاغة: خطبة 110
3- نهج البلاغة: خطبة 160

كثير لا تطيقه، اما لك في رسول الله أسوة حسنة، والذي نفسي بيده لو أردتُ أن تسير الجبال معي ذهباً وفضة لسارت)(1)،

فلم يتأسَّ بنبيه (صلی الله علیه و آله) وآل أمره إلى الخسران وروي أنه المقصود بقوله تعالى (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَامِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) (التوبة : 75)

ولا شك في عدم قدرة أحد على الوصول إلى منزلة رسول الله (صلی الله علیه و آله) لكننا مطالبون ببذل الوسع في تحقيق الحالة قال أمير المؤمنين (علیه السلام) (الا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن اعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد)(2) وكلما حالة التأسي ارتقت منزلة المتأسي، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله)(إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ) (آل عمران : 68)

إن التأسي به (صلی الله علیه و آله) لا يقتصر على حياته الشخصية فنستفيد منها في حياتنا كأفراد بل على القادة أن يتاسوا به كأعظم قائد ومصلح عرفته البشرية واستطاع تأسيس خير أمة أخرجت للناس، وإن في سلوكه مع أصحابه في معركة الأحزاب درساً لكل المصلحين والقادة والزعماء والمسؤولين، وهكذا على الآباء أن يتأسوا به كأب والأزواج كزوج والأصدقاء كصديق والمربيّن كمربي والسائرين الى الكمال كأفضل خلق الله تعالى، فهو (صلی الله علیه و آله) طبيب آسي حقاً كما وصفه أمير المؤمنين (علیه السلام) (طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّه قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَه - وأَحْمَى مَوَاسِمَه يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْه - مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ وآذَانٍ صُمٍّ -

ص: 344


1- نور الثقلين: 4/535 ح 39
2- نهج البلاغة: 3/70 رقم 45 من كتابه الى عثمان بن حنيف

وأَلْسِنَةٍ بُكْمٍ - مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِه مَوَاضِعَالْغَفْلَةِ - ومَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ)(1).

لقد ورد لفظ الأسوة الحسنة في القرآن الكريم في موضع آخر، قال تعالى (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا) (الممتحنة : 4) وقال تعالى بعدها (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) (الممتحنة : 6) لكنها دعوة للتأسي بموقف محدد ذكرته الآية، اما الأسوة المحمدية فهي مطلقة في كل شيء، ولذا استدل بعضهم بالآية على عصمة النبي (صلی الله علیه و آله) لأن الله تعالى لا يدعو الى التأسي والاقتداء بأحد في كل شيء الا اذا كان معصوماً من الخطأ والزلل، وتدل بالتبع على عصمة أئمة اهل البيت (علیهم السلام) لان النبي (صلی الله علیه و آله) امر باتباعهم والاقتداء بهم كما في الاحاديث المتقدمة.

ولا يخفى ما في الآية من تعريض بكثير من المسلمين الذين كانوا جزءاً من المجتمع الإسلامي الملتصق برسول الله (صلی الله علیه و آله) الا أنهم لم يحسنوا التأسّي برسول الله (صلی الله علیه و آله) وخالفوه عن علم وعمد والشواهد كثيرة من سيرة الصحابة في حياته (صلی الله علیه و آله) وبعدها كصلاة التراويح التي أقاموها رغم نهي النبي (صلی الله علیه و آله) عن صلاة الجماعة في المستحبات(2)،وتحريم المتعة رغم إقرارهم بترخيص النبي (صلی الله علیه و آله) فيها(3)، والفرار من المعارك وترك النبي (صلی الله علیه و آله) محاطاً بالأعداء(4)،

ص: 345


1- نهج البلاغة: الخطبة 108
2- أنظر: صحيح البخاري: 7/99.
3- أنظر: بحار الأنوار- المجلسي: 30/637- 53/28.
4- أنظر: مسند أحمد- أحمد بن حنبل: 9/ 282, ط. الرسالة.

والانقلاب على الاعقاب في حياته وعند وفاته (صلی الله علیه و آله)، واقصاء أمير المؤمنين (علیه السلام) من بعده رغم أخذه (صلی الله علیه و آله) البيعة منهم على ولايته بعده(1)وظلم

أهل بيته (صلی الله علیه و آله) وغيرها.

ان وجود الأسوة الحسنة على الأرض من أعظم وسائل الاقناع برسالة الإسلام، وان كثيراً من الناس دخلوا الإسلام من دون ان يقرأوا أو يسمعوا عنه شيئاً لكنهم رأوا سيرة الأسوة الحسنة وهو النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة المعصومين (علیهم السلام) من أهل بيته فاقتنعوا بأحقية ما يدعون إليه.

وان تأثير رسول الله (صلی الله علیه و آله) في أصحابه مما شهد به اعداؤه حتى تملكهم الرعب وملأهم يأساً واحباطاً، ولنأخذ شاهداً على ذلك قول زعيم ثقيف عروة بن مسعود الثقفي لما أرسلته قريش ليستطلع خبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) عندما نزل الحديبية هل يريد زيارة البيت الحرام أم قتالهم، روى ابن هشام قال (فقام من عندرسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد رأى ما يصنع به أصحابه، لا يتوضأ الا ابتدروا وضوءه، ولا يبصق الا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شيء الا أخذوه، فرجع الى قريش فقال: يا معشر قريش: اني قد جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه، واني والله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء أبداً، فروا رأيكم)(2).

وهذا يبرز أهمية وجود الأسوة الحسنة في حياة الأمة، لعدم إمكان التفكيك بين الرسالة وحاملها وقد عبرّ أمير المؤمنين (علیه السلام) عن هذه الملازمة

ص: 346


1- أنظر: الكافي- الشيخ الكليني: 8/344.
2- السيرة النبوية لابن هشام: 3/201 طط دار الجيل

بقوله (علیه السلام) (اني والله ما أحثكم على طاعة الا وأسيقكم إليها ولا أنهاكم عن معصية الا واتناهى قبلكم عنها)(1)

فعلى من يتصدى لشأن من شوؤن الناس يجعله في مقام الاسوة والقدوة ان يؤهل نفسه أولا لهذا المقام، روي عن امير المؤمنين (علیه السلام) قال (من نصب نفسه للناس إماما فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه)(2)

ولذا قالوا: ان الواعظ إذا لم يكن متعظاً فلا يؤثر في القلوب ولا يهذب النفوس، ومن وصايا الامام الحسن العسكري (علیه السلام)لشيعته (اتقوا الله وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً، جرّوا إلينا كل مودة وادفعوا عنا كل قبيح)(3)

ولا يجرّون المودّة إلى أئمتهم (علیهم السلام) الا عندما يعكسون صورة الأسوة الحسنة في حياتهم وقد بيّن الامام (علیه السلام) ذلك في نفس الوصية فقال (علیه السلام) (فان الرجل منكم اذا ورع في دينه وصدق في حديثه وأدى الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل: هذا شيعي فيسرّني ذلك).

وفي ضوء هذه الملازمة نفهم خطورة وجود القدوة السيئة والمنحرفة، قال امير المؤمنين (علیه السلام) (ولا يجنح بكم الغي فتضلوا عن سبيل الله باتباع أولئك الذين ضلوا وأضلوا)(4) قال الله تعالى (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا*رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا)

ص: 347


1- نهج البلاغة: 250 الخطبة 175
2- بحار الأنوار :ج 2 /ص 56/ ح33
3- تحف العقول: 361 ط. مؤسسة الأعلمي
4- بحار الأنوار : ج 94 / ص 116

(الأحزاب :67- 68)

خصوصاً التي تحمل عنوان الاسلام وتدّعي العمل به كالمجاميع الإرهابية واجندات التعصب والتكفير والعنصرية فان خطرها عظيم على الإسلام وينفر الناس من الشريعة الإلهية السمحاء، وقد اتخذ اعداء الإسلام هذا الاسلوب لمحاربة الاسلام ومحاصرته من خلال صناعة مثل هذه النسخ الضالة المنحرفة، وخلق ما يعرف بالإسلام فوبيا أي الخوف من الإسلام، من كتاب امير المؤمنين (علیه السلام) الى معاوية( لبئسالخلف خلف يتبع سلفاً هوى في نار جهنم)(1).

ان الأسوة الحسنة قد لا يحتاج إلى الكلام مع الناس ليصلحهم ويهديهم وإنما يؤثر فيهم بسلوكه وأخلاقه وقد حثّ الأئمة (علیهم السلام) على ذلك بقولهم (كونوا لنا دعاة صامتين)(2)

و(كونوا لنا دعاة بأفعالكم لا بأقوالكم) وهكذا أثر أهل البيت (علیهم السلام) في الأمة بحيث تكفي دقائق من اللقاء بهم أو الاطلاع على سيرتهم والاستماع إلى حديثهم لانقلاب العدو الحاقد إلى صديق حميم وهو يقول (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (الأنعام : 124) تصديقا لقوله تعالى (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت : 34) والشواهد على ذلك كثيرة ومعروفة نذكر منها واحداً من حياة الامام الحسن العسكري (علیه السلام)، فقد روى الشيخ المفيد في الارشاد وصاحب اعلام الورى، انه (علیه السلام) قد سجن عند القائد التركي (علي بن اوتامش وكان شديد العداوة لآل محمد (صلی الله علیه و آله)

ص: 348


1- نهج البلاغة: كتاب 17
2- مستدرك الوسائل: 1/116 ، 8/310

غليظاً على آل ابي طالب وقيل له افعل به وافعل -- أي شدّد عليه وعامله بقسوة -- قال فما اقام الا يوماً واحداً حتى وضع خدَّه له وكان لا يرفع بصره إليه اجلالاً واعظاماً وخرج من عنده وهو أحسن الناس بصيرةوأحسنهم قولاً فيه)(1)

وقد عاتب العباسيون القائد التركي المتنفذ في الدولة صالح بن وصيف لعدم التضييق على الامام (علیه السلام) فقال لهم صالح (ما أصنع به وقد وكلّت رجلين شر من قدرت عليه فقد صاروا من العبادة والصلاة إلى أمر عظيم، ثم أمر بإحضار الموكلين فقال لهما: ويحكما ما شأنكما في أمر هذا الرجل فقالا له: ما نقول في رجل يصوم نهاره ويقوم ليله كله لا يتكلم ولا يتشاغل بغير العبادة فاذا نظر الينا ارتعدت فرائصنا وداخلنا مالا نملكه من أنفسنا)(2).

ان التأسي برسول الله (صلی الله علیه و آله) في حياته الشخصية والاجتماعية كفيل بإحداث نقلة إصلاحية عظيمة في حياة الأمة كالتي أحدثها هو (صلی الله علیه و آله) حين صنع من القبائل العربية المتخلّفة الجاهلة المتناحرة المنحطّة خلقياً أمة واحدة متماسكة حضارية قادت ما لا يقل عن نصف العالم المعروف آنذاك، وصنع من افراد المسلمين افذاذاً نادرين.

إن استيعاب السيرة الحسنة للنبي (صلی الله علیه و آله) وتمثّلها في حياتنا ليس فقط مسؤولية فردية لتحصيل القرب من الله تبارك وتعالى ونيل الكمالات وانما هي مسؤولية اجتماعية على الأمة أن تتحرك باتجاهها في ضوء التحديات الكثيرة التي تواجهنا ومنها:

ص: 349


1- بحار الأنوار: 50/307 ح 4 عن الارشاد للمفيد: 2/ 329 – 330 وإعلام الورى : 2/150
2- بحار الأنوار: 50/308 ح 5 عن الارشاد للمفيد: 2/ 334 وإعلام الورى : 2/150- 151

1 - تسافل العالم الى مستوى من الجاهلية انحطّ كثيراً عن الجاهليات السابقة(1)

وهو يلزمنا بانبعاث رسالي جديد في موازاتها.

2 - اننا مسؤولون عن التمهيد للدولة الكريمة المنتظرة وتعجيل الظهور الميمون، ومن متطلّباته اقناع البشرية بالإسلام المحمدي الأصيل وهو المشروع الذي ينهض به الامام (علیه السلام) وأفضل وسيلة لتحصيل هذه القناعة هو تجسيد الأسوة الحسنة في حياتنا، وقد ورد عن الامام الرضا (علیه السلام) قوله (فان الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا)(2)

وقد علّمنا الامام الحجة المنتظر (علیه السلام) في دعاء الافتتاح أن نقول (اَللّ-هُمَّ اِنّا نَرْغَبُ اِلَيْكَ في دَوْلَة كَريمَة تُعِزُّ بِهَا الاْسْلامَ وَاَهْلَهُ، وَتُذِلُّ بِهَا النِّفاقَ وَاَهْلَهُ، وَتَجْعَلُنا فيها مِنَ الدُّعاةِ اِلى طاعَتِكَ، وَالْقادَةِ اِلى سَبيلِكَ، وَتَرْزُقُنا بِها كَرامَةَ الدُّنْيا وَالاْخِرَةِ)(3) وهذه مرتبة عظيمة لا تنال الا بالتأسي برسول الله (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين).

3 - إن المسلمين اليوم ضائعون ممزقون متخلفون قد استمرؤا التبعية والعبودية لاعدائهم ومن يكيد لهم فهذا متخندق مع الغرب وذاك مع الشرق حتى تحالفوا مع اعدائهم ضد اخوانهم وأحد الأسباب المهمةفي بلوغهم هذا الانحطاط فقدان الأسوة الحسنة فلابد من إيجادها ليعودوا إلى حياة العزة والكرامة والانعتاق من العبودية الا لله تبارك وتعالى.

ص: 350


1- راجع المقارنة بين الجاهليتين في ملحق (شكوى القران) في تفسير من نور القران: ج3/291
2- عيون أخبار الرضا (علیه السلام) : 1/307 ، معاني الاخبار : 180
3- مفاتيح الجنان: دعاء الافتتاح

خطاب المرحلة 646 : مقوِّمات إحسان العمل

(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (الملك:2)

مقوِّمات إحسان العمل(1)

من علامات قدرة الله تبارك وتعالى وهيمنته وحكمته أنه (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) وقدّرهما على بني البشر وفي الحديث الشريف عن الامام الباقر (علیه السلام): (الحياة والموت خلقان من خلق الله)(2)، وقد جرت سنة الفناء في سائر المخلوقات كما في قول الامام الحسين (علیه السلام) (ان أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون)(3).

ثم تبّين الآية الغرض من اخراجكم الى هذه الدنيا (لِيَبْلُوَكُمْ) ويختبركم بالأوامر والنواهي والترغيب والتخويف حتى تتميزوا وتتفاضلوا أيّكم أحسن عملاً وتظهر معادنكم وحقيقتكم، ليُكافأ من أحسن بجنان الخلد ويحرم منها من اساء.

فلابد للإنسان أن يكون ملتفتاً للغرض الذي خُلِق من أجله، وأن يستحضر هذه الحقيقة دائماً ويجعلها ماثلة أمامه ولا يجعل للغفلة طريقاً إليه ولا للأهواء والمغريات وأسباب الضلال والانحراف سلطة عليه ويكرّس حياته

ص: 351


1- كلمة لسماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) القيت يوم الجمعة 27 ربيع الأول 1442 الموافق 2020/11/13
2- الكافي:3/259 ح 34
3- الإرشاد : ج2/ ص 94

لأفضل حرث وهو أحسن العمل.

ويظهر من الآية ان الموت والحياة لهما مدخلية في هذا الاختبار اما الحياة فلأنها ساحة العمل ووسيلة اكتساب الأعمال (الدنيا مزرعة الآخرة)(1)

واما الموت فلأن الاعتقاد به وبما بعده من البعث والنشور والحساب والجزاء يمثل أقوى باعث على العمل ولولا الآخرة وطلب رضا الله تعالى لا يوجد حافز على الجهد والتضحية والبذل والعطاء والايثار والتمايز بهدف الوصول الى ما يستحقه من الجزاء.

والموت ليس فقط جزءاً من عملية الاختبار والابتلاء بل هو مظهر للحكمة وللرحمة أيضاً اذ لو لم يكتب الموت على الناس وبقيت الأجيال البشرية من لدن آدم (علیه السلام) إلى نهاية الدنيا كيف ستسعهم الأرض، وكذا الحيوانات في الأرض أو الماء فانها ستغطي كل الأرض والماء بعدة طبقات، فكان الموت سبباً لحفظ التوازن البيئي والبشري.

والموت يأتي بعد الحياة لأنه إعدام الحياة ولا يقال للعدم السابق على الحياة أنه موت، وروي في ذلك قول الامام الباقر (علیه السلام): (وخلق الحياة قبل الموت)(2).

وإنما قدِّم ذكر الموت على الحياة لوجوه محتملة:-

1- لوجه بلاغي وهو ظاهر.

2- لأن الحياة لا تعرف قيمتها الا بمقابلتها بالموت من باب الأمور تعرف

ص: 352


1- عوالي اللئالي : 1 / 267 / 66
2- الكافي: 8/145

بأضدادها، أو ان النعم لا تعرف الا اذا فقدت.

3- لأن ظهور قدرة الله تعالى وعزّته وهيمنته وعظيم سلطانه تظهر بالموت أكثر من الحياة في أذهان البشر وورد في الدعاء (وقهر عباده بالموت والفناء)(1) .

4- ان تأخير الحياة لأنها هي ساحة التسابق والاختبار وتحصيل أحسن الأعمال فيناسبها أن تلتصق بقوله تعالى (لِيَبْلُوَكُمْ).

ومن الواضح ان الآية تحدد ان الغرض المقصود من الاختبار والامتحان في هذه الدنيا هو الوصول الى حالة أحسن العمل، وان التفاضل بين الناس هو على أساس تقديم أحسن العمل، فبم يتحقق حسن العمل وما هي ضوابط ومعايير كونه أحسن العمل.

روى في مجمع البيان عن النبي (صلی الله علیه و آله) قوله في معنى ايكم أحسن عملاً قال (صلی الله علیه و آله): (أيكم أحسن عقلاً، ثم قال (صلی الله علیه و آله): اتمكم عقلاً وأشدكم لله خوفاً وأحسنكم فيما أمر الله عزوجل به ونهى عنه نظراً، وإن كان أقلَّكم تطوعاً) فحسن العمل ليس بكثرة العبادات والطاعات وانما بنوعيتها وفي حديث آخر عنه (صلی الله علیه و آله) قال: (ايكم أحسن عقلاًوأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله)(2)

وروي عنه (صلی الله علیه و آله) قوله (الاحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فاذا فعلت ذلك فقد أحسنت)(3).

ص: 353


1- بحار الأنوار: 84/339 ، مفاتيح الجنان: دعاء الصباح لأمير المؤمنين (علیه السلام)
2- تفسير نور الثقلين: 5/230 ح 12،13
3- كنزل العمال: 3/16 ح 5254

في مجمع البيان عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: (ان الرجل ليكون من اهل الجهاد ومن اهل الصلاة والصيام وممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وما يُجزى يوم القيامة الا على قدر عقله) وروى انس ابن مالك قال: (أثنى قومٌ على رجل عند رسول الله (9فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) كيف عقله؟ قالوا: يا رسول الله نخبرك عن اجتهاده في العبادة واصناف الخير وتسألنا عن عقله؟ فقال: ان الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وانما يرتفع العباد غداً في الدرجات وينالوا الزلفى من ربّهم على قدر عقولهم)(1) .

روى الشيخ الكليني بسنده عن الامام الصادق (علیه السلام) في تفسير الآية قوله (ليس يعني أكثر عملاً ولكن أصوبكم عملاً وإنما الإصابة خشية الله والنية الصادقة والحسنة، ثم قال: الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد ان يحمدك عليه أحد الا الله عزوجل والنية أفضل من العمل، الا وإن النية هيالعمل ثم تلا قوله عزوجل (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) (الإسراء : 84) يعني على نيته)(2).

ويظهر من هذه الروايات: ان العمل لا يختص بأعمال الجوارح البدنية وإنما يشمل الأعمال القلبية أي ليس الظاهرية فقط وإنما الباطنية أيضاً بل لعلها الأهم.

ويظهر أيضاً إن من الاعمال ما هو حسن وأحسن منه كما أن منه ما هو سيء وأسوء، وان مقابل الأحسنين أعمالاً يوجد الأخسرون أعمالاً الذين

ص: 354


1- تفسير نور الثقلين: 5/231 ح 20، 21
2- أصول الكافي: 2/13 ح 4

ذكرتهم الآية الكريمة (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (الكهف : 103 - 104) .

ولا تخلو الآية الكريمة من إشارة الى أن الهدف من خلق الحياة والوجود هو تحصيل الأحسنين أعمالاً اما غيرهم فهم مخلوقون لأجلهم، وقد أثبتت الامتحانات التي مرّ بها النبي وآله (صلوات الله عليهم أجمعين) أنهم أحسن الخلق أعمالاً مما يصحح ما دل من الروايات(1)على ان الموجودات خلقت لأجلهم، لأن الغرض من الوجود تحقق بهن فيصح انهم خلق من أجلهم.

وهذا الاختبار خاص بالبشر (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الإنسان : 3) وورد في الرواية الصحيحة عن ابي جعفر (علیه السلام): (لما خلق الله العقل استنطقه، ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إلي منك ، ولا أكملتك إلا فيمن أحب، أما إني إياك آمر، وإياك أنهى، وإياك أعاقب، وإياك أثيب)(2). اما الموجودات

ص: 355


1- العلل ، والعيون ، والإكمال : عن الرضا ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين ( عليهم السلام ) قال : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما خلق الله عز وجل خلقا أفضل مني ولا أكرم عليه مني - إلى أن قال : - يا علي ، لولا نحن ما خلق آدم ولا حواء ولا الجنة ولا النار ولا السماء ولا الأرض – الخبر. (عيون أخبار الرضا(ع): الجزء 2/ صفحة 237) ، قال الشيخ المفيد (رحمه الله) في المسائل السرويّة : والصحيح من حديث الأشباح الرواية التي جاءت عن الثقات : بأن آدم (علیه السلام) رأى على العرش أشباحاً يلمع نورها ، فسأل الله تعالى عنها ، فأوحى إليه : " أنها أشباح رسول الله وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم " وأعلمه أن لولا الأشباح التي رآها ما خلقه ولا خلق سماء ولا أرضاً . . . (المسائل السروية : الجزء : 1 ، صفحة : 39)
2- وسائل الشيعة: 1/39 باب 3 ح1

الأخرى فهي سائرة بدقة في حركتها لتؤدي أحسن العمل المطلوب منها.

وتصرّح الآيات الكريمة بأن احسان العمل له آثار مباركة عظيمة في الدنيا والآخرة كقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة:195) وكفى بذلك شرفاً وفضلاً، وقوله تعالى (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف:56) وقوله تعالى (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) (الكهف:30) وقوله تعالى (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) (الرحمن:60) وقوله تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) (يونس:26)وقوله تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) (النحل:30) وقوله تعالى (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) (الحج:37) وقوله تعالى (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69) وقوله تعالى (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) (الزمر:34) وغيرها كثير.

وفي ضوء ما تقدم فأن مقوِّمات احسان العمل أمور:

1. ان يكون العمل حسناً محبوباً في نفسه ليصّح التقرب إلى الله تعالى بإحسانه والا لا معنى للتقرب بفعل اذا كان قبيحاً لذا لا يصح أن يكون متعلق النذر واليمين أمراً مرجوحاً كمقاطعة الأرحام أو ظلم أحد حقه أو ترك واجب أو فعل محرم، ولا معنى للحديث عن تحسين فعل اذا لم يكن حسناً في نفسه فلا يصحّ إضفاء عناوين حسنة على أفعال مبتدعة من وضع الناس لم يثبت حسنها في ذاتها.

2- اخلاص النية لله تبارك وتعالى وعدم شوبها بالرياء والعجب أو استهداف أغراض دنيوية كتحصيل الجاه والسمعة والثناء من الآخرين أو مكاسب مالية أو إرضاءاً لأشخاص آخرين ففي الحديث المشهور (إنما

ص: 356

الاعمال بالنيات ولكل أمرئ ما نوى)(1) وفي وصيته (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر (يا أبا ذر، ليكون لك في كل شيء نية حتى في النوم والأكل)(2) فالعاقل لا يجعل حركته تذهب هدراً فضلاً عن حبط1. اعماله روى عن الامام الصادق (علیه السلام) قوله (إعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله)(3).

3. ان يزيِّن العمل بالورع والتقوى ليبلغ غايته، في الحديث (عن مفضل بن عمر قال: كنت عند أبي عبد الله (علیه السلام) فذكرنا الأعمال، فقلت أنا: ما أضعف عملي؟ فقال: مه استغفر الله، ثم قال لي: إن قليل العمل مع التقوى خير من كثير بلا تقوى قلت: كيف يكون كثير بلا تقوى؟ قال: نعم مثل الرجل يطعم طعامه، ويرفق جيرانه، ويوطئ رحله، فإذا ارتفع له الباب من الحرام دخل فيه، فهذا العمل بلا تقوى، ويكون الآخر ليس عنده فإذا ارتفع له الباب من الحرام لم يدخل فيه)(4) وفي كلمة أمير المؤمنين (علیه السلام) (اعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد)(5) وروي عن الامام الصادق (علیه السلام) قوله: (اذا أحسن المؤمن ضاعف الله عمله لكل حسنة سبعمائة فأحسنوا أعمالكم التي تعملونها لثواب الله -- الى ان قال -- وكل عمل تعمله لله فليكن نقياً من الدنس)(6).

فمن علامات حسن العمل اقترانه بالتقوى وتنقيته من الشوائب التي

ص: 357


1- وسائل الشيعة: 1/49 ، أبواب مقدمة العبادات، باب 5 ح 10
2- وسائل الشيعة: 1/48 باب 5 ح 7/8
3- وسائل الشيعة: 1/100 باب 23 ح 6
4- بحار الأنوار: ج 67 / ص 104
5- بحار الأنوار: ج 40 / ص 340
6- الوسائل: 1/61 باب 8 ح 10

ذكرناها، ومن كل ما يشين، ونذكر ضمن هذه النقطة الحديثالشريف عن الامام الكاظم (علیه السلام) قال (ليس حسن الجوار كف الأذى ولكن حسن الجوار الصبر على الأذى)(1) وهذا معنى يجري في كثير من القضايا كحسن التبعل مثلاً وغيره.

4. دوام العمل بالمواظبة عليه ان أمكن كصلاة الليل او تلاوة القرآن وان لم يمكن كالحج مثلاً فبإدامة آثاره وحبّه وعقد العزم على الاتيان به اذا تيسرت ظروفه عن الامام الباقر (علیه السلام) قال: (أحب الأعمال الى الله عزوجل ما داوم العبد عليه وان قل)(2) فصّلنا الكلام في هذه النقطة في موضع آخر.

5. الرفق في العمل وعدم الافراط في تحميل النفس الى حد التمرد ورفض الطاعة فقد روي عن الامام الصادق (علیه السلام) قوله (لا تكرِّهوا الى أنفسكم العبادة)(3) وقال (علیه السلام) (اجتهدت في العبادة وأنا شاب فقال لي أبي: يا بني، دون ما اراك تصنع فان الله عزوجل اذا أحبّ عبداً رضي منه باليسير)((4).

6- المبادرة الى فعل الخيرات وتقدم الحديث الشريف في تفسير (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) أي (اسرع في طاعة الله) وروي عن الامام الصادق (علیه السلام) قوله (إذا هممت بشيء من الخير فلا تؤخره، فإن الله عزوجل ربما اطلع على العبد وهو على شيء من الطاعة، فيقول: وعزتي وجلالي، لا أعذبك بعدها أبدا، وإذا هممت بسيئة فلا تعملها، فإنه ربما اطلع الله على العبد وهو على شيء من

ص: 358


1- تحف العقول: 409، الكافي: 2/667 ح 9
2- الوسائل: 1/94 باب 21 ح 5
3- و(4) وسائل الشيعة: 1/108 باب 26 ح 1،2
4-

المعصية ، فيقول : وعزتي وجلالي لا أغفر لك بعدها أبدا)(1) .

7. التفقه في الدين ومعرفة كل ما يرتبط بالعمل من مقدمات وأجزاء وشرائط وما يسبب الخلل فيه لإتقانه والا فانه قد يأتي بما يفسد العمل من حيث لا يعلم، وتقدم في الحديث النبوي الشريف في تفسير (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) قال (صلی الله علیه و آله) (أحسنكم فيما أمر الله عزوجل به ونهى عنه نظراً).

8. معرفة الأولويات وتقديم الأهم على المهم اذ قد يكون الفعل حسناً في نفسه الا انه ليس أحسن لأن الأولى ان يقوم بالطاعة الأخرى لأنها أهم عند تزاحم الطاعتين وكمثال اذكر الرواية التالية: (أتى رسولَ اللَّه (صلی الله علیه و آله) رجلُ فقال إني رجل شاب نشيط وأحب الجهاد و لي والدة تكره ذلك- فقال له النبي (صلی الله علیه و آله) ارجع فكن مع والدتك فو الذي بعثني بالحق لأنسها بك ليلة خير من جهاد في سبيل اللَّه سنة.)(2) فقدَّم رسول الله (صلی الله علیه و آله) برّ الوالدين والإحسان اليهما على الجهاد الذي هو من أعظم الطاعات.وفي الرواية الصحيحة عن هشام بن المثنى قال (سأل رجل أبا عبدالله (علیه السلام) عن قول الله عزوجل (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأنعام : 141) فقال: كان فلان بن فلان الأنصاري -- سمّاه -- وكان له حرث فكان اذا أخذ يتصدق به فيبقى هو وعياله بغير شيء، فجعل الله عزوجل ذلك سرفاً)(3)، فعندما تؤثر الصدقة على نفقة العيال والتوسعة عليهم لا

ص: 359


1- وسائل الشيعة: 1/112 ح 6
2- الكافي: 10/ 2/ 163
3- وسائل الشيعة: 9/46 ، أبواب الصدقة، باب 42 ح 3.

تكون أحسن.

9. وعي حقيقة العمل واتيانه عن بصيرة والتفات للأغراض الحقيقية منه فيعرف ان الغرض من الصلاة ادامة ذكر الله تعالى (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) (طه : 14) والانتهاء عن الفحشاء والمنكر (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (العنكبوت : 45) كما في الحديث النبوي الشريف (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله الا بعداً)(1) .

وان الصوم لتقوية الإرادة والقدرة على الامتناع عن كل ما يسخط الله تعالى ولمواساة الفقراء والمحرومين والالتفات الى هذه الحالات في المجتمع ونحو ذلك.

ومن الشواهد الجليلة في هذا المجال موعظة الامام السجاد (علیه السلام) للشبلي في بيان الاسرار المعنوية للحج وهي مطولة تجدها فيكتاب مناسك الحج، منها قوله (علیه السلام) له : « حججت يا شبلي؟ قال : نعم يا أبن رسول الله ، فقال ( علیه السلام): أنزلت الميقات وتجرّدت عن مخيط الثياب واغتسلت؟ قال : نعم، قال : فحين نزلت الميقات نويت أنّك خلعت ثوب المعصية ، ولبست ثوب الطاعة؟ قال : لا ، قال : « فحين تجرّدت عن مخيط ثيابك ، نويت أنّك تجرّدت من الرياء والنفاق والدخول في الشبهات؟ قال : لا ، قال : « فحين اغتسلت نويت أنّك اغتسلت من الخطايا والذنوب؟ قال : لا ، قال : « فما نزلت الميقات ، ولا تجردت عن مخيط الثياب، ولا اغتسلت)(2) أي لم تحقق الغرض

ص: 360


1- ميزان الحكمة: 5/109 ح10705
2- وسائل الشيعة: 10/ 166 - 172

المطلوب من هذه المناسك.

10- ومن تمام إحسان العمل نشره وحثّ الآخرين عليه، قال تعالى (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (الضحى : 11) والنعمة هنا لا تقتصر على النعم المادية كالأموال والبنين والجاه الاجتماعي وإنما تشمل النعم المعنوية وهي عموم(1) الطاعات وأولها نعمة الإسلام والايمان، لذا فسّرتها بعض الروايات بولاية أهل البيت (علیهم السلام) لأنها أكمل مصاديقها وقد أمرت الآية بالتحديث بها وذلك بأن يدعو الناس اليها، لذا وعدت الأحاديث الشريفة بمضاعفة الثواب لمن ينشر الطاعة ويؤسس لها كحالة اجتماعية عامة ومنها الحديث النبوي المشهور (من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينتقص من أجورهم شيء)(2) .

وورد في الروايات استحباب تحسين العبادة ليُقتدى بالفاعل وللترغيب في اتباع الحق فقد روى عبيد بن زرارة قال (قلت لأبي عبدالله (علیه السلام) الرجل يدخل في الصلاة فيجّود صلاته ويحسّنها رجاء أن يستجّر - أي يجتذب - بعض من يراه إلى هواه، قال (علیه السلام): ليس هذا من الرياء)(3) .

لهذا كله دلت الأحاديث الشريفة على ان الثواب الذي يعطى للعالم العارف البصير على عمل قليل اضعاف ما يعطى العابد غير العارف بهذه الحقائق على العمل الكثير.

ص: 361


1- راجع هذا القبس في المجلد الخامس من التفسير.
2- الكافي: 5/9
3- وسائل الشيعة: 1/76 باب 16 ح 3.

وقد حثت الأحاديث الشريفة على الاحسان في كل شيء حتى على مستوى اختيار الاسم فجعلت من حقوق الولد على أبيه ان يحسن تسميته(1)

اما الاحسان الى الآخرين فقد وردت فيه روايات لا تحصى كثرة وفي القرآن الكريم (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) (القصص : 77) وبيّنت ان من الثمرات المعجلة للإحسان الى الآخرين ان يُحسن اليك ومن وصايا أمير المؤمنين (علیه السلام) الى نوف البكالي(أحسن يُحسن اليك)(2).

وقد اختصر أمير المؤمنين (علیه السلام) الكلام في الاحسان بان جعل قيمة كل انسان بمقدار ما يحسنه من اعمال وصفات وملكات وبمقدار ما يُحسن للآخرين فقال (علیه السلام) (قيمة كل امرئ ما يحسنه)(3) وهي كلمة مقتبسة من نور الآية الكريمة التي نحن بصددها (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) ان نتيجة الامتحان تعطي قيمة اكبر لمن كان اكثر احساناً في عمله وقد قلت في بعض احاديثي السابقة انه قد خطر على ذهني ذات مرة وأنا في الحضرة العلوية الشريفة هذا المعنى للحديث الشريف: (قيمة كل امرئ ما يحسنه)، أي أن درجته عند الله تبارك وتعالى تكون بمقدار ما يحمل من الصفات الحسنى لله تبارك وتعالى، فكلما ازدادت رحمته كان أقرب إلى الله، لأن الرحيم من الأسماء

ص: 362


1- وسائل الشيعة: 15 / 122 احكام الأولاد / باب استحباب تسمية الولد باسم حسن ، وتغيير اسمه إن كان غير حسن 22
2- بحار الأنوار: 77/385 عن امالي الصدوق: 174 المجلس 37 ح 9
3- نهج البلاغة: ج4 ، قصار الكلمات، 81 ، عيون أخبار الرضا: 2/ 53 ، الامالي: 362 المجلس 168 ح9

الحسنى، وكلما ازداد عفوه كان أقرب، لأن العفو من الأسماء الحسنى، وهكذا كلما ازداد كرمه وحلمه وعلمه وحكمته وصبره على أن تكون هذه الصفات ذاتية له وراسخة فيه وليست طارئة عليه ولا تصدر منه بتكلف)(1) وهو على أي حال تطبيق لقوله تعالى (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) (النحل : 60).

ان المطلوب منّا أن نتقدم خطوة أخرى بعد إحسان العمل وهي مكافأة المحسن على إحسانه فإنه من الإحسان لتشجيع الناس على الأعمال الحسنة وقد ضرب لنا الأئمة المعصومون (علیهم السلام) أروع الأمثلة لهذا السلوك، روى الخطيب البغدادي في كتابه المعروف (تاريخ بغداد): عن الإمام الحسن بن علي (علیهم السلام) انه كان ماراً في حيطان (أي بساتين) المدينة فرأى عبداً أسوداً بيده رغيف خبز يأكل ويطعم كلبه لقمة إلى أن شاطره طعامه في الرغيف)، ومثل الامام الحسن (علیه السلام) في منزلته الاجتماعية لا يهتم بعبد أسود معه كلب يأكل، لكن الامام الحسن (علیه السلام) توقف عنده (فقال له الإمام الحسن (علیه السلام) ما حملك على ما عملت وشاطرته؟ فقال الغلام: استحيت عيناي من عينه.) وفي رواية أخرى ان العبد قال: أشعر بضيق في صدري وكآبة فأردت ان أدخل السرور على هذا الكلب لعل الله تعالى يرفع عني هذا الهم بذلك (فقال الإمام (علیه السلام): غلام من أنت؟ أي سأله عن مالكه (فقال: غلام أبان بن عثمان، فقال: والحائط؟ قال: لأبان بن عثمان. فقال له الإمام الحسن (علیه السلام) أقسمتُ عليك لا برحت حتى أعود عليك. فمَّر على صاحب الحائط فاشترى الحائط والغلام معاً، وجاء إلى الغلام، فقال (علیه السلام) يا غلام قد اشتريتك فقام الغلام قائماً) أي

ص: 363


1- خطاب المرحلة: 2/104

قام ليذهب مع مالكه الجديد وهو الامام الحسن (علیه السلام) (وقال: السمع والطاعة لله ولرسولهولك يا مولاي. قال (علیه السلام): وقد اشتريت الحائط، وأنت حرٌ لوجه الله، والحائط هبة مني إليك. فقال الغلام: (يا مولاي قد وهبتُ الحائط للذي وهبتني له)(1).

أقول: لقد تعلّم الغلام هذا الأدب من الإمام الحسن (علیه السلام) نفسه، فقد روى أحدهم قال: (رأيت الحسن بن علي (علیها السلام) يأكل وبين يديه كلب، كلما أكل لقمة طرح للكلب مثلها، فقلت له: يا بن رسول الله، ألا أرجم هذا الكلب عن طعامك؟ قال: دعه: إني لاستحيي من الله عز وجل أن يكون ذو روح ينظر في وجهي وأنا آكل ثم لا أطعمه)(2).

وهذه هي سيرة أهل البيت (علیهم السلام) فانهم لا يكتفون بفعل المعروف والإحسان الى الآخرين بل كانوا يكافئون من يقوم بفعل حسن ويكرّمونه بأضعاف ما قام به ليشجّعوا على نشر المعروف وتحويله الى ظاهرة وثقافة عامة لدى المجتمع.

وعلى اتباع أهل البيت (علیهم السلام) التأسي بهذه الاخلاق الكريمة بأن يحسنوا في أعمالهم في سائر المواقع والمسؤوليات التي هم فيها.

فالطالب يبذل وسعه في المطالعة والمذاكرة حتى يحقق نتائجراقية يدخل بها السرور على أهله ومحبيه ويكون فخراً وعزاً وطاقة هائلة لوطنه وشعبه.

ص: 364


1- تاريخ بغداد: 6/34
2- بحار الأنوار: 43/ 352 ح29 عن مقتل الحسين للخوارزمي: 1/ 102-103.

والموظف يتقن عمله ويؤدي واجبه في كل الوقت المطلوب منه ولا يقصّر في خدمة الناس واستيعابهم.

والمدّرس يبذل وسعه في تعليم الطلبة والارتقاء بمستواهم العلمي ومساعدتهم في كل ما يحتاجون.

والمهندس يراعي شروط المتانة والامان والجدوى عند تنفيذ المشاريع ويكون اميناً ونزيهاً، وهكذا.

هذا على مستوى احسان العمل، ويبقى علينا ان نتقدم خطوة أخرى بتشجيع المحسنين في أعمالهم ومكافئتهم، فالامام الحسن (علیه السلام) مع هيبته وجلاله وسمو مقامه في المجتمع بحيث اذا جلس على الطريق انقطع المارّة وتهيّبوا المرور بين يديه، واذا مشى لم يبق أحدٌ راكباً ومع ذلك تراه توقّف عند العبد ولم يمرّ على هذا الموقف دون تكريم، اما الذين يثبّطون العاملين ويستهزئون بهمتهم وحركتهم الدائبة فهؤلاء لم يستفيدوا من سيرة أهل البيت (علیهم السلام) ولم يتأسوا بهم.

ويكفي المحسنين في عملهم وساماً يفتخرون به: محبة الله تعالى لهم (وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة:195).

ص: 365

خطاب المرحلة 647 : معجزة النبي (صلی الله علیه و آله) في أخلاقه

بسمه تعالى

(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4)

معجزة النبي (صلی الله علیه و آله) في أخلاقه(1)

الآية تخاطب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهي تقع ضمن مجموعة من الآيات الكريمة التي يظهر منها أنها نزلت لتسليته (صلی الله علیه و آله) وتطييب خاطره والدفاع عن حريمه المقدَّس بعد الهجمات الشرسة التي شنها عليه طواغيت قريش فرموه بكل وصف قبيح لتنفير الناس عنه (صلی الله علیه و آله) وعدم الاصغاء اليه (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ) (القلم : 2-3) فالآية تعطيه أعظم المقامات واختار الله تعالى من بينها أن يصفه بهذه الخصلة العظيمة.

وفي الآية تأكيد بعد تأكيد على اخلاقه العظيمة باستعمال (إِنَّ) و(اللام) ثم صيغة الوصف (عَلَى خُلُقٍ) لتدل على رسوخها وثباتها فيه بحيث أنه (صلی الله علیه و آله) تمكّن منها واستعلى عليها وجعلها تحت سلطته وتحولت الى ملكات وسجايا ذاتية، ولو قال (إن لك خلقاًعظيماً) فانها تدل على الاتصاف من دون إفادة الثبات واللزوم إذ ان ما يملك يمكن ان يفقد.

وكيف لا يكون (صلی الله علیه و آله) على هذه الاخلاق العظيمة وقد صنعه ربُّه بيديه

ص: 366


1- كلمة لسماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) ألقيت يوم الجمعة 11 ربيع الثاني 1442 الموافق 2020/11/27

وأدّبه وربّاه وبلغ به الغاية فيما يريد قال (صلی الله علیه و آله) (أدبني ربّي فأحسن تأديبي)(1)

حتى بلغ الكمال، روي عن الامام الصادق (علیه السلام) قوله (إن الله تبارك وتعالى أدبَّ نبيّه (صلی الله علیه و آله) فلما انتهى به الى ما أراد قال الله تعالى له (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(2)

وفي رواية أخرى عنه (علیه السلام) قال (إن الله عزوجل: أدبَّ نبيه فأحسن أدبه، فلما أكمل له الأدب قال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ))(3)

وقال تعالى في ذلك (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) (آل عمران:159) فما ناله النبي (صلی الله علیه و آله) كان برحمة الله تعالى وحسن رعايته.

وعنوان حسن الخلق وإن كان عاماً يشمل كل الاخلاق الحسنة والسجايا الكريمة، الا انه يطلق غالباً على جزء خاص منها وهو حسن المعاشرة مع الناس ومخالطتهم بالجميل والإحسان وبهذا اللحاظ يذكر حسن الخلق في عرض اخلاق حسنة أخرى رغم أنه يشملها بعنوانهالعام كقول الامام الصادق (علیه السلام) (اربع من كنّ فيه كمل ايمانه وإن كان من قرنه الى قدمه ذنوباً لم ينقصه ذلك قال: وهو الصدق وأداء الأمانة والحياء وحسن الخلق)(4)

ولعل مراده (علیه السلام) بقوله (وإن كان) مجرد فرض او المبالغة والا فأن صاحب هذه الخصال لا يكون كذلك لأن كل صفة من الأربع كفيلة بمعالجة الكثير من الذنوب كما هو واضح.

ص: 367


1- مجمع البيان: 10/50، بحار الأنوار: 68/382
2- أصول الكافي: 1/266
3- أصول الكافي: 1/266
4- أصول الكافي: 2/99، ح3 باب حسن الخلق.

وتشير الروايات أيضاً إلى ان هذا المعنى الذي ذكرناه لحسن الخلق هو المقصود في الآية فقد روى البرقي في بصائر الدرجات عنهم (علیهم السلام) (إن الله أدبّ نبيّه (صلی الله علیه و آله) فأحسن تأديبه فقال (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف:199) فلما كان ذلك انزل الله (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ))(1).

وروي أيضاً ان رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان يمشي ومعه بعض أصحابه فأدركه اعرابي فجذبه جذباً شديداً، وكان عليه بُرد نجراني غليظ الحاشية فأثرّت الحاشية في عنقه (صلی الله علیه و آله) من شدة جذبه، ثم قال: يا محمد هب لي من مال الله الذي عندك، فالتفت اليه رسول الله (صلی الله علیه و آله) فضحك ثم أمر باعطائه، ولما اكثرت قريش اذاه وضربه قال (صلی الله علیه و آله): اللهم اغفرلقومي فأنهم لا يعلمون فلذلك قال الله تعالى (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) )(2).

ويؤيد كون المراد من الآية هذه الاخلاق وليست كل الاخلاق الحسنة التي اتصف بها رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنها الأنسب بسياق السورة التي تقارن بين سلوكه (صلی الله علیه و آله) وسلوك المشركين وعاقبة كل منهما، ، قال السيد الطباطبائي (قدس) (والآية وإن كانت في نفسها تمدح حسن خلقه (صلی الله علیه و آله) وتعظمه غير أنها بالنظر الى خصوص السياق ناظرة الى اخلاقه الجميلة الاجتماعية المتعلقة بالمعاشرة كالثبات على الحق والصبر على اذى الناس وجفاء اجلافهم والعفو والاغماض وسعة البذل والرفق والمداراة والتواضع وغير ذلك)(3).

ص: 368


1- بصائر الدرجات: 378
2- تنبيه الخواطر: 1/99
3- الميزان في تفسير القرآن: 19/385

أقول: لكن هذا كله لا يقيّد اطلاق اخلاقه وليست كل الاخلاق الحسنة التي اتصف بها رسول الله (صلی الله علیه و آله) العظيمة على جميع المستويات.

وبهذه الاخلاق كسب قلوب الناس فاهتدوا ببركتها الى الإسلام، في الرواية (كان رسول الله أجود الناس كفّاً وأكرمهم عِشرة، من خالطهفعرفه أحبَّه)(1)

وكان اعداؤه قبل اتباعه يعلمون عظمة اخلاق رسول الله (صلی الله علیه و آله)، لما فتح النبي (صلی الله علیه و آله) مكة ومكّنه الله تعالى من قريش التي اذاقته القتل والتجويع والتهجير والوان الأذى والعذاب (ودخل صناديد قريش الكعبة وهم يظنون أن السيف لا يرفع عنهم، فأتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) البيت وأخذ بعضادتي الباب ثم قال: لا إله إلا الله أنجز وعده، ونصر عبده، وغلب الاحزاب وحده، ثم قال: ما تظنون؟ وما أنتم قائلون؟ فقال سهيل بن عمرو: نقول خيراً ونظن خيراً، أخ كريم وابن عم، قال: فإني أقول لكم كما قال أخي يوسف: (قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ))(2).

وروى في الكافي بسنده عن الامام الصادق (علیه السلام) قال (نزل رسول الله (صلی الله علیه و آله) في غزوة ذات الرقاع تحت شجرة على شفير واد، فأقبل سيل فحال بينه وبين أصحابه فرآه رجل من المشركين والمسلمون قيام على شفير الوادي ينتظرون متى ينقطع السيل فقال رجل من المشركين لقومه: أنا أقتل محمداً فجاء وشد على رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالسيف، ثم قال: من ينجيك مني يا محمد؟ فقال: ربي وربك فنسفه جبرئيل (علیه السلام) عن فرسه فسقط على ظهره، فقام

ص: 369


1- بحار الأنوار: 16/231
2- بحار الأنوار: 21/132

رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأخذ السيف وجلس على صدره وقال: من ينجيك مني يا غورث فقال جودك وكرمك يا محمد، فتركه فقام وهو يقول: والله لانت خير مني وأكرم)(1)

وقال (صلی الله علیه و آله) (أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحسنكم خلقاً وخيركم لأهله)(2).

وان أهم الشواهد على عظمة أخلاقه تلقيه هذا الثناء وهذه الشهادة من الخالق العظيم دون ان تضطرب أفكاره أو يفقد اتزان شخصيته او يتملكه عارض غير حسن فتلقى هذا التكريم من ربّه العظيم بنفس مطمئنة راضية متواضعة وقد حفلت كتب السيرة والحديث والتاريخ بشواهد لا تحصى من أخلاقه العظيمة.

إن هذه الاخلاق السامية التي اتصف بها رسول الله (صلی الله علیه و آله) دليلٌ واضحٌ على نبوته ورسالته وانه من صنع الله تعالى فحسب ولم يكن من صنع بيئته وظروفه أو تلقيّه من أحد لأن هذه المسمّيات كلها عاجزة عن انتاج مثل شخصية رسول الله (صلی الله علیه و آله) حيث كانت تلك البيئة والمجتمعات غارقة في الانحراف والفساد والجهل والضلال والتخلف.

إن أخلاق النبي (صلی الله علیه و آله) معجزة يتحدى بها اللهتعالى من يدعون من دونه ليأتوا بنسخة مماثلة له (صلی الله علیه و آله) وأنى لهم ذلك، فالآية نظير قوله تعالى (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) (لقمان:11) وهذه اخلاق الله تعالى فما هي أخلاق الذين من دونه؟ بأنهم على النقيض من ذلك، وقد صوّرت السورة

ص: 370


1- الكافي: 8/ 127 ح 97 ، بحار النوار: 20/ 179 ح 6
2- عيون اخبار الرضا (علیه السلام): 2/38

بعد أن بيّنت ما عليه رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الخلق العظيم والأجر غير المنقطع الذين يتصدون لمقاومته بما يستحقون من الأوصاف القبيحة ونهت عن اتباعهم (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ(1)

مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) (القلم:10-16) ، وهذه هي اوصاف المستهزئين برسول الله (صلی الله علیه و آله) أمس واليوم كما هو واضح.

ان اختيار هذه الصّفة في رسول الله (صلی الله علیه و آله) لتمجيدها والثناء عليها دليل على ثقل الاخلاق الحسنة في الميزان الإلهي والأمر كذلك حتى انك لتجد الغرض المطلوب من العقائد والتشريعات هو الاتصاف بهذه الاخلاق الحسنة وتربية الأمة عليها وقدلُخِّص الغرض في قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل : 90) وقد صرّح النبي (صلی الله علیه و آله) بهذا الغرض بقوله (صلی الله علیه و آله) (إنما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق)(2)

، ولخّص شريعة الإسلام بالأخلاق الحسنة قال (صلی الله علیه و آله) (الإسلام حسن الخلق)(3).

وكان (صلی الله علیه و آله) يحث اتباعه على حسن الخلق كأفضل ما يدعو اليه، روي

ص: 371


1- (حَلَّافٍ) كثير الحلف واليمين (مَهِينٍ) وضيع ضعيف الرأي حقير، (هَمَّازٍ) طعّان في اعراض الناس عيّاب (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) يمشي بالنميمة بين الناس فيفرّق بينهم ويلقي العداوة والبغضاء (مَنَّاعٍ) ممسك عن الانفاق بخيل (مُعْتَدٍ) ظالم متجاوز الحدود (أَثِيمٍ) كثير الأثم والخطايا (عُتُلٍّ) غليظ جافي (زَنِيمٍ) دعيّ لا يُعرف أبوه.
2- مجمع البيان: ج 10ص 500
3- كنز العمال: 5225، ميزان الحكمة: 3/133

عن الامام الرضا (علیه السلام) قوله (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما من شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق)(1)

، وقال (صلی الله علیه و آله) (إن صاحب الخلق الحسن له مثل أجر الصائم القائم)((2)

ونقل الامام الصادق (علیه السلام) قول جده رسول الله (صلی الله علیه و آله) (أكثر ما تلج به أمتي الجنة تقوى الله وحسن الخلق)((3)

وقال (صلی الله علیه و آله) (ثلاث من لم تكن فيه فليس مني ولا من الله عزوجل، قيل: يا رسول الله وما هنَّ، قال (صلی الله علیه و آله): حِلْمُ يرد به جهل الجاهل، وحُسنخلق يعيش به في الناس، وورع يحجزه عن معاصي الله عزوجل)(4).

وقال (صلی الله علیه و آله) (أفاضلكم أحسنكم أخلاقاً)(5)

وقال لزوجه ام سلمة (يا أم سلمة ان حسن الخلق ذهب بخير الدنيا والآخرة)(6).

ان حسن الأخلاق ليس أمراً ترفياً أو كمالياً بل فيه قوام الحياة، قال (صلی الله علیه و آله) (لو يعلم العبد ما في حسن الخلق لعلم أنه محتاج أن يكون له خلق حسن)(7)

وبه سعادة الآخرة كما تقدم في الأحاديث الشريفة مع سعادة الدنيا، قال الامام الصادق (لا عيش أهنأ من حسن الخلق)(8)

وتزداد الحاجة اليه لمن

ص: 372


1- عيون أخبار الرضا: 2 : 37 / 98
2- (3) أصول الكافي: 2/100 ح 4 باب حسن الخلق.
3- (4) أصول الكافي: 2/100 ح 6 باب حسن الخلق.
4- الخصال: 145 ح 172
5- تفسير البرهان: ح 9 ، عن تفسير علي بن ابراهيم
6- الخصال: 1/42
7- بحار الأنوار: 10 / 369 ح 20
8- علل الشرائع: 560/ ح1 ، ميزان الحكمة: 3/134

يكون في مواقع المسؤولية على اختلاف درجاتها كرب الأسرة ومدير الدائرة والمعلم في مدرسته والمربي والحاكم وغيرهم، روى الامام الجواد (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بطلاقة الوجه وحسن اللقاء فاني سمعت رسول الله يقول: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم)(1)وفي أحاديث أخرى خاطب (صلی الله علیه و آله) بني هاشم بهذا.

وأساس الأخلاق الحسنة الإسلام والايمان بالله تعالى ، ففي معاني الأخبار عن الامام الباقر (علیه السلام) في قول الله عزوجل (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) قال: (هو الإسلام)(2)

وروي ان الخلق العظيم هو الدين العظيم(3)

فان النبي (صلی الله علیه و آله) جسّد القرآن وتعاليم الإسلام في حياته فكان أعظم الناس أخلاقاً حتى وصفه الامام الصادق (علیه السلام) قال (كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) خلقه القرآن)(4) وهذا يعني ان طريق الوصول الى المقامات الرفيعة يمرّ من خلال القرآن، وكل شخص يرتفع سهمه من الاخلاق كلما ازداد اتباعاً للقرآن والتزاماً بالإسلام مما يدل على أنَّ الاخلاق التي يدعو اليها الإسلام ليست مقتصرة على الاخلاق الشخصية كالصدق والأمانة والشجاعة والكرم والإحسان ونحو ذلك وإنما يسعى إلى تأسيس منظومة اخلاقية اجتماعية متكاملة تؤسس لمنهج عادل قويم

ص: 373


1- عيون أخبار الرضا (علیه السلام) : 2/53، امالي الصدوق: 362/ المجلسي 68 ح 9
2- معاني الأخبار: 1/188
3- تفسير البرهان: 3/237 ح 25 عن تفسير علي بن ابراهيم
4- تنبيه الخواطر: 72، ميزان الحكمة: 3/135

يحفظ كرامة الانسان ويكفل له سعادته.

ومن هنا ينفتح الحديث عن الاخلاق الاجتماعية أي اخلاق الأمة كأمة غير اخلاق الأفراد كأفراد ويجعل الأمة كلها مسؤولة عنها وعلىرأس الاخلاق الاجتماعية إقامة الدين وحفظ وحدة الأمة وتماسكها (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (الشورى : 13) ومن تلك الاخلاق القيم بواجبات المواطنة وحفظ مصالح الدولة والشعب وحقوق الأقليات والتكافل والتعاون على البِّر والتقوى والعدالة الاجتماعية والتناصح والتواصي بالحق والصبر والمرابطة في ثغورها وتحصين الأمة فكرياً وعقائدياً وثقافياً وسلوكياً والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد سمّينا في بعض بحوثنا مثل هذه الواجبات بالواجبات الاجتماعية في مقابل مصطلح الوجوب الكفائي الذي يردده المشهور وشرحنا الوجه في ذلك.

ان سلوك الانسان وعاداته وصفاته قابلة للإصلاح والتغيير فليس صحيحاً ما يقال من انها غير قابلة لذلك وإن الانسان مسيَّر وفق ما جبلت عليه نفسه، قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11) ولذا تواترت الأنبياء والرسل لهداية الخلق وإصلاحهم، وألفّ العلماء كتباً في تهذيب الأخلاق واودعوها برامج في سلوك هذا الطريق، نقل العلامة المجلسي (قدس سره) عن الراواندي (6) قال (الخلق السجيّة والطبيعة ثم يستعمل في العادات التي يتعودها الانسان من خير أو شر، والخُلق ما يوصف العبد بالقدرة عليه، ولذا يُمدَح ويُذّم، ويدل على ذلك قوله (صلی الله علیه و آله) خالق الناس بخلقحسن)(1).

ص: 374


1- بحار الأنوار: 71/ 374

إن مساحة الأخلاق الحسنة كلما اتسعت في المجتمع فانها تعود بالخير على الجميع، وقد يمنّ الله تعالى على اعدائه ببعض الاخلاق الحسنة لمصلحة اوليائه ففي الكافي ان الامام الصادق (علیه السلام) قال (ان الله عزوجل أعار اعدائه اخلاقاً من اخلاق اوليائه لتعيش اولياؤه مع اعدائه في دولاتهم، وفي رواية أخرى: ولو لا ذلك لما تركو ولياً لله عزوجل الا قتلوه)(1).

ص: 375


1- الكافي: الجزء : 2 صفحة : 101

خطاب المرحلة 648 : دلالات معنى اسم اللطيف

(وَهُوَ اللَّطِيفُ) (الملك:14)

دلالات معنى اسم اللطيف(1)

قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك:14) ونريد في هذا القبس أن نستوحي دلالات ومعاني اسم اللطيف الذي هو من الأسماء الحسنى وقد تكرر ذكره في القرآن الكريم كقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (الحج:63) (لقمان:16) (إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا) (الأحزاب : 34) وغيرها كما سياتي.

واللطيف صفة مشبهة على وزن فعيل بمعنى اسم الفاعل مثل شهيد بمعنى شاهد للدلالة على ثبات الصفة ورسوخها، ومنشأ الاسم أكثر من وجه:

الأول: إن اللطيف هو كل ما خفي عن الحواس لدقته أو شفافيته أو أي سبب آخر بحيث تعجز عن إدراكه، والله تبارك وتعالى لطيف بهذا المعنى فهو لا تدركه الأبصار وبَعُد حتى عن خطرات الظنون، وهذا المعنى ورد في قوله تعالى (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الأنعام:103) .

الثاني: إنه تعالى لطيف لعلمه بالأشياء اللطيفة أي الدقيقة وإحاطته بها وفي الحديث عن الامام الرضا (علیه السلام) قال (إنما قلنا اللطيف، للخلق اللطيف،

ص: 376


1- كلمة القاها سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) يوم الجمعة 25 / ربيع الثاني / 1442 الموافق 2020/12/11

ولعلمه بالشيء اللطيف)(1)

وهو المعنى الذي تساءلت عنه الآية محل البحث باستنكار (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك : 14) وفي قوله تعالى (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (لقمان : 16) فهو سبحانه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

الثالث: وهو سبحانه لطيف لأن تدابيره لعباده لطيفة لا تتوصل اليها المخلوقات لذا عبَّر تعالى عن تدبيره للنبي يوسف (صلوات الله عليه) حين القاه اخوته في الجب واذا به يصبح عزيز مصر، قال تعالى (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (يوسف : 100) وأمثلة تدابيره اللطيفة بخلقه تفوق حد الإحصاء في كل مخلوق فضلاً عن جميع خلقه كما في الشعر المنسوب(2)

لأمير المؤمنين (علیه السلام):

وَكَم لِلّهِ مِن لُطفٍ خَفيٍّ *** يَدِقُّ خَفاهُ عَن فَهمِ الذَكيِّ

وَكَم يُسرٍ أَتى مِن بَعدِ عُسرٍ *** فَفَرَّجَ كَربَهُ القَلبُ الشَجيِّ

وَكَم أَمرٍ تُساءُ بِهِ صَباحاً *** وَتَأتيكَ المَسَرَّةُ بِالعَشيِّ

إِذا ضاقَت بِكَ الأَحوالُ يَوماً *** فَثِق بِالواحِدِ الفَردِ العَلِيِّ

تَوَسَّل بِالنَبِي فكُلُّ خَطبٍ *** يَهونُ إِذا تُوُسِّلَ بِالنَبيِّ

وَلا تَجزَع إِذا ما نابَ خَطبٌ *** فَكَم لِلّهِ مِن لُطفٍ خَفيِّ

واللطائف القرآنية هي المعاني الدقيقة التي لا يلتفت اليها الا ذو البصيرة

ص: 377


1- التّوحيد للشيخ الصدوق: الجزء : 1 ، الصفحة : 186
2- اعيان الشيعة: 7/306، وفيه تخميس الأبيات للشاعر سليمان السراوي

النافذة.

الرابع: وهو عظمت الاؤه لطيف لأنه رفيق بمخلوقاته من اللطف وهو الرفق، قال تعالى (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) (الشورى:19) والله لطيف بعباده ومخلوقاته أي رفيق بهم فينعم عليهم بما ينفعهم وما فيه صلاحهم في دنياهم وآخرتهم من حيث لا يعلمون ولا يحتسبون.

ويمكن إرجاع بعض المعاني الى بعض، فالألطاف الإلهية بالعباد خفية لا يدركونها وهم يتنعمون فيها رفقاً بهم فاللطف يتضمن معنيين: الدقة والرفق ففيه معرفة دقيقة وإحاطة بالأشياء واتخاذ التدابير الرفيقة العطوفة الودودة اللينة، ولذا اقترن اسم اللطيف بالخبير في الآيات الكريمة، لأن تحقق اللطف يستلزم الإحاطة والخبرة. في حديث عن الامام الرضا (علیه السلام) (واما الخبير فالذي لا يعزب عنه شيء ولا يفوته ليس للتجربة ولا للاعتبار بالاشياء)(1).

الخامس: اللطف في المصطلح الكلامي هو كل ما يقرّب منالطاعة ويبعّد عن المعصية قال تعالى (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) (الحجرات:7) من دون أن يصل إلى درجة الإلجاء وسلب الاختيار لمنافاته لاستحقاق الثواب والعقاب ولذا ورد في الرواية (لا جبر ولا تفويض، قلت: فماذا؟ قال: لطف من ربك بين ذلك)(2).

وألطاف الله تبارك وتعالى على العبد لا تعد ولا تحصى، فخلقه وايجاده

ص: 378


1- الكافي: الجزء: 1، صفحة: 122
2- الكافي: الجزء: 1، صفحة: 159.

لطف إذ لو كان معدوماً لما استطاع أن يعمل ويتكامل، والهداية إلى الإيمان بالله ورسوله (صلی الله علیه و آله) لطف، فلو لم يهدنا الله تبارك وتعالى لما عرفنا الطريق الموصل إلى الكمال (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) (الأعراف : 43)، وأعضاء البدن لطف إذ لو لم يكن له بدن لما استطاع أن يقوم بالعبادات المقرّبة لله تبارك وتعالى، والمال لطف فبدونه لا يستطيع الإتيان بالكثير من القربات كالحج والزيارة والإنفاق في سبيل الله تعالى والتوسعة على العيال إلى مالا يحصى من الألطاف المقربة من الطاعة والمعينة عليها.

والأدعية والمناجاة وسائر الأذكار لطف، إذ بدونها لا نعرف ماذا نقول بين يدي الله تبارك وتعالى وما هو مقتضى آداب العبودية، بل لا نعلم هل يحق لنا أن نقف بين يديه تبارك وتعالى ونخاطبه، ونحن نرىأن إنساناً وضيعاً يتبوأ موقعاً لا قيمة له كوزير أو ملك، يوضع (أتكيت) لزيارته ومحادثته والآداب الواجب إتباعها بحضرته، بينما نخاطب رب العالمين متى شئنا وبما شئنا وبأي لغة نشاء (الحمد لله الذي ادعوه فيجيبني، وإن كنت بطيئاً حين يدعوني، والحمد لله الذي اسأله فيعطيني وان كنت بخيلاً حين يستقرضني، والحمد لله الذي اناديه كلما شئت لحاجتي، واخلو به حيث شئت لسري بغير شفيع، فيقضي لي حاجتي)(1)

وهو جل جلاله يقبل علينا ويسمع منا ويبادلنا من الحب والرحمة أكثر مما نعطي، وهذا اللطف عبَّر عنه الامام السجاد (علیه السلام) في مناجاة الذاكرين بقوله (ومن أعظم النعم علينا جريان ذكرك على ألسنتنا،

ص: 379


1- مفاتيح الجنان: دعاء ابي حمزة الثمالي

وإذنك لنا بدعائك وتنزيهك وتسبيحك)(1).

ومن أعظم الألطاف الإلهية البعثة النبوية الشريفة، فقد شكلت أعظم نقلة في تاريخ البشرية لأمة كانت متهرئة متخلفة يقتل بعضها بعضاً وتتفاخر بالموبقات والجرائم كوأد البنات والزنا وشرب الخمر وهي مشتتة متفرقة أحاطت بها دول قوية تنهشها، حوت جميع المنكرات والمفاسد، فأصبحت ببركة رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمة متحضرة مدنية تقود العالم وتهدي البشرية وتقدم لبني الإنسان أعظم قانون يكفل السعادة والصلاح.ولو لم يبعث النبي (صلی الله علیه و آله) وتُركت الجاهلية على حالها فإنه لا يعلم إلا الله تعالى ما صرنا إليه اليوم، إذا كان حال أولئك وهم أقرب عهداً للرسالات والديانات السماوية ولهم فرص أقل من الفساد هو ما ذكرناه فكيف إذا طال عليهم الأمد إلى اليوم مع تنوع أدوات الضلال والفساد والجريمة وتقنينه بالشكل المذهل الذي نعاصره.

فكل خير يصل إلينا وكل مكرمة يمكن أن توجد فينا بل كل وجودنا فنحن مدينون بفضله لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وبركات بعثته الشريفة، التي هي من الألطاف الإلهية الخاصة لهذه الأجيال، فاعرفوا حق رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأكثروا من الصلاة عليه والدعاء له.

وهنا نشير إلى نكتة وهي أن اسم (اللطيف) يستعمل في موارد اللطف، وهذا من بلاغة القرآن الكريم حيث تنتهي الآية بما يناسب مضمونها، فإذا كان المضمون حكماً صارماً وموقفاً حازماً -كآية القطع في السرقة- فإنها تنتهي

ص: 380


1- الصحيفة السجادية: مناجاة الذاكرين ( 13 )

بالعزيز الحكيم، وإذا كان مورد رحمة ورفق انتهت بالرؤوف الرحيم، وعلى هذا جرت السنة الشريفة، فدققوا في الموارد التي ذكر فيها اسم (اللطيف) لتعرفوا موارد اللطف، وأوضحها في أذهانكم حديث الثقلين المشهور الذي ألزم الأمة بالتمسك بالثقلين وفيه (وقد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّالحوض)(1).

وأي لطف أعظم على الأمة بعد البعثة النبوية الشريفة من لطف الثقلين القرآن والإمامة؟

ونريد هنا أن نأخذ درسين من هذا الاسم المبارك (اللطيف):

1- إننا أمرنا بالتخلق بأخلاق الله تبارك وتعالى كما ورد في الحديث الشريف (تخلّقوا بأخلاق الله)(2)

وأن نتصف بأسمائه الحسنى، ومنها هذا الاسم المبارك (اللطيف) فإن الله تعالى لطيف بعباده يقربهم من الطاعة ويبعدهم عن المعصية، وخصوصاً أنتم أتباع أهل البيت (علیهم السلام) فإنكم تحظون بألطاف خاصة دون غيركم لذا تجدون هذا الحماس والاندفاع والتضحية في سبيل الله تعالى مما لا يوجد عند غيركم وهذا يكشف عن هذه الألطاف الخاصة.

فلا تتهيبوا أي طاعة ولا تستصعبوها بل أقدموا عليها وأحبّوها وتشوقوا إليها فإنها مهما كانت صعبة كالحج -- مثلاً -- الذي يجمع مشاق كل العبادات وقد تكفل الله تعالى بتيسيره وتذليل صعوباته، وحتى لو لم تتمكنوا من أداء الطاعة فانووا فعلها فإنكم تؤجرون على النية، فقد ورد في الحديث الشريف:

ص: 381


1- بحار الأنوار: الجزء 37 - الصفحة 114
2- بحار الأنوار: الجزء 58 - الصفحة 129

عن الامامين الباقر او الصادق (علیهما السلام) قال (ان الله تبارك وتعالى جعل لآدم في ذريته أن من همَّ بحسنة فلميعملها كتبت له حسنة، ومن همَّ بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه، ومن همَّ بها وعملها كتبت عليه سيئة)(1).

وكونوا ممن يلبي دعوة الله تعالى إلى الطاعة وامتثلوا قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الأنفال:24) وقوله تعالى (مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ) (الشورى:47)، ولا تلتفوا إلى الشيطان الذي يعمل عكس ذلك فيزيّن المعصية والفسوق ويصعّب الأعمال الصالحة ويجعل أمام الإنسان الاحتمالات والتصورات السيئة ويثير في النفس المخاوف والقلق والمثبطات (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ) (الأنفال : 48) .

يضرب لنا الله تبارك وتعالى مثلاً من بني إسرائيل لأنحاء من التقاعس عن الطاعة بسبب تثبيط الشيطان، قال تعالى حاكياً عن نبيه الكريم موسى (علیه السلام) وقومه (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) (المائدة: 21-22).

وهذا هو موقف أغلب الناس مع الأسف، لكن الأرض لا تخلو منالمخلصين الصادقين (قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)

ص: 382


1- وسائل الشيعة: 1/51 أبواب مقدمة العبادات، باب 6 ح6

(المائدة:23)، فالمطلوب منك الإقدام على الطاعة وعدم التهيب وامتلاك الحزم والشجاعة ودخول الباب كما في الآية وسيمنحكم الله تعالى القوة والغلبة وإنجاز العمل بفضله وكرمه.

فليكن كل منا لطيفاً بهذا المعنى أي يكون مقرباً للناس من الطاعة ويزينها لهم وييّسرها لهم بتهيئة اسبابها ويحثهم عليها، ويبعدهم عن المعصية ببيان مساوئها وأضرارها وأخطارها في الدنيا والآخرة ويوجد البدائل الصالحة عنها، كمن يؤذِّن لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة ودعوتهم اليها، او يشوِّق الآخرين للحضور في المساجد والمشاركة في صلوات الجمعة والجماعة لما فيها من البركات والثواب او يتبرع بأجور سيارة لنقل الزائرين الى مشاهد المعصومين (سلام الله عليهم) أو يدفع نفقات حاج او معتمر او يسعى لتزويج مؤمن ومؤمنة عفّاً عن الحرام ولم يستطيعا الزواج ونحو ذلك.

وليعرف من يعمل على عكس ذلك بانه يثبّط عزائم المؤمنين عن فعل الطاعات أنه بعيد عن الله تعالى وغير متصف بأسمائه، كما نرى من بعض المتدينين صدور بعض التصرفات المنفرة عن الدين بحيث أن البعض ممن يراد هدايتهم ودعوتهم إلى الالتزام بالدين يجيب: لا حاجة لي بالدين وانظر إلى المتدينين كيف يفعلون كذا وكذا.وهو مخطئ طبعاً بهذا التصور، ولكن هذه النتيجة قد حصلت على أي حال.

وقد يحصل التنفير من الطاعة بأن نحمل الناس ما لا يطيقون ولا نراعي الدرجات المتفاوتة لإيمانهم، فنثقل مثلاً على الشباب المهتدي حديثاً للإيمان

ص: 383

بقائمة طويلة من المستحبات والمكروهات ونحاسبه على بعض تصرفاته التي يمكن غض النظر عنها فينفر منها ومن الواجبات أيضاً.

إن كلاً منكم يستطيع أن يحقق صفة (اللطيف) بحسب عنوانه وموقعه ومساحة تأثيره ولا أقل من نفسه أولاً ثم أسرته وأصدقائه وزملائه في العمل، ولعل الحوزة العلمية تتمتع بأوسع الفرص من هذه الناحية، ومعها النخبة الواعية المتفقهة من أبناء المجتمع.

2- إن هذا الاسم المبارك دليل على وجود الامام المهدي المنتظر (علیه السلام) واستمرار المرجعية الدينية الرشيدة النائبة عنه (علیه السلام) بالنيابة العامة. وبيان ذلك: أن اللطف واجب على الله تعالى كما يقولون في كتب العقائد. بمعنى أنه سبحانه كتب على نفسه اللطف بعباده وقد ظهر هذا - فيما ظهر- في بعث الأنبياء وإرسال الرسل وإنزال الكتب، ثم واصلها بنصب الأئمة الطاهرين (سلام الله عليهم).

ولا ينقطع اللطف بانقطاع الوجود الظاهري للأئمة (علیهم السلام) لأن أسماء الله الحسنى ثابتة له تبارك وتعالى، فاللطف يقتضي وجود امتداد لهذه السلسلة المباركة من الأنبياء والأئمة متمثلاً بالعلماءالسائرين على نهجهم والمقتفين لآثارهم ولا تخلوا الأرض منهم، ومرور أربعة عشر قرناً حافلة بالأساطين منهم شاهد على ذلك وسيبقى حتى ظهور القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف).

وعلى هذا فمن يقول: أننا لا نحتاج إلى المرجعية واننا مستغنون عن تقليد أحد من مراجع الدين لأن عندنا من الرسائل العملية ما يكفينا، أو أنه لا توجد مرجعية نقلدها، فمثل هذا بعيد عن الصواب ولو حللنا كلامه فإنه ينكر هذا اللطف الدائم من اللطيف الخبير والعياذ بالله.

ص: 384

خطاب المرحلة 649 : احذروا مكر شياطين الجن والإنس

(مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ) (الناس:4)

احذروا مكر شياطين الجن والإنس(1)

سورتا المعوذتين من كرائم السور القرآنية وفيهما بركات كثيرة روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله (من قرأها عند النوم كان في حرز الله تعالى حتى يصبح، وهي عوذة من كل ألم ووجع وآفة وهي شفاء لمن قرأها)(2) .

وأخرج في مجمع البيان من حديث أبي (من قرأ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) فكأنما قرأ جميع الكتب التي أنزلها الله على الأنبياء)(3) وفيه أيضاً عن الامام الصادق (علیه السلام) قال (جاء جبرئيل إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وهو شاكٍ فرقاه بالمعوذتين وقل هو الله أحد وقال: بسم الله ارقيك والله يشفيك من كل داء يؤذيك، خذها فلتهنئك).

وروى علي بن إبراهيم في تفسيره عن الامام الصادق (علیه السلام) أنه قال (كان سبب نزول المعوذتين انه وعك رسول الله (صلیالله علیه و آله) فنزل عليه جبرئيل (علیه السلام) بهاتين السورتين فعوذه بهما)(4) ولاجل ذلك اشتبه بعض الصحابة فظنهما تعويذتين وليستا من القرآن لكن الأئمة (علیهم السلام) صححوا هذا الاشتباه ،

ص: 385


1- كلمة القاها سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) يوم الجمعة 17/ج1/1442 الموافق 2021/1/1
2- البرهان في تفسير القرآن: 10/281
3- مجمع البيان: 10/278
4- تفسير القمي: 2/450

فقد روى القمي في تفسيره بسنده عن الحضرمي قال (قلت لأبي جعفر (علیه السلام):ان ابن مسعود كان يمحو المعوذتين من المصحف) فقال (علیه السلام):كان أبي يقول: إنما فعل ذلك ابن المسعود برأيه وهما من القرآن)(1) وفي رواية أخرى (أمَّنا أبو عبدالله (علیه السلام) في صلاة المغرب فقرأ المعوذتين ثم قال: هما من القرآن)(2) .

والسورتان عظيمتا البركة والتأثير وقد دخلتا في عدد كبير من السنن والمستحبات روي عن الامام الصادق (علیه السلام) قوله (كان النبي (صلی الله علیه و آله) اذا كسل أو أصابته عين أو صداع بسط يده فقرأ فاتحة الكتاب والمعوذتين ثم يمسح يده على وجهه فيذهب ما كان يجده)(3)، روي عن الامام الباقر (علیه السلام) قوله (من أوتر بالمعوذتين وقل هو الله أحد) قيل له:يا عبدالله، أبشر فقد قبل الله وترك)(4) .والوسوسة: الحديث الخفي في باطن الانسان الذي لا كلام فيه وإنما هي معاني تخطر في الذهن وتسويلات وأوهام تلقى في مخيلة الإنسان ليقع تحت تأثيرها ويسير باتجاه امتثالها قبل التدقيق فيها لتمييز صوابها من خطأها، وعدم تحكيم العقل الرادع عنها.

وهذه الوساوس قد يكون مصدرها النفس الأمّارة بالسوء (وَنَعْلَمُ

ص: 386


1- تفسير القمي: 2/450
2- الكافي: 3/317 ح 26
3- مكارم الأخلاق: 2/203 ح 2523
4- ثواب الأعمال:129

مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) (ق:16) أو ابليس (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ) (الأعراف:20) أو عموم شياطين الأنس والجن (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) (الناس:4-6) ، في امالي الصدوق بإسناده عن الامام الصادق (علیه السلام) قال: (لما نزلت هذه الآية (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) (آل عمران:135) صعد إبليس جبلاً بمكة يقال له ثور، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه. فقالوا: يا سيدنا، لم دعوتنا؟ قال: نزلت هذه الآية، فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين، فقال: أنا لها بكذا وكذا. قال: لست لها. فقام آخر فقال مثل ذلك، فقال: لست لها. فقال الوسواس الخناس: أنا لها. قال: بماذا؟ قال: أعدهم وأمنيهم حتى يواقعوا الخطيئة، فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الاستغفار، فقال: أنت لها، فوكله بها إلى يوم القيامة)(1) .

وفي مقابل هذه الوسوسة يوجد حديث خفي رحماني يوجهالانسان نحو الخير والصلاح يسمى الهاماً أو ايحاءاً (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى) (القصص:7) (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ) (الأنبياء:73).

وهو من الالطاف الإلهية التي تجلب الخير والسعادة للإنسان ويتدافع هذان الحديثان داخل الانسان كسائر جنود الرحمن والشيطان البالغ خمسة وسبعين لكل منهم(2) وفي الحديث الشريف عن الامام الصادق (علیه السلام) قال (ما من قلب الا وله أُذنان، على أحدهم ملك مرشد وعلى الآخر شيطان مفتِّن، هذا

ص: 387


1- امالي الصدوق: 1/551
2- الكافي- ط الإسلامية: ج: 1 ص : 21

يأمره وهذا يزجره، وكذلك من الناس شيطان يحمل الناس على المعاصي، كما يحمل الشيطان من الجن)(1) .

هذا التدافع يحسُّه كل واحد منّا إزاء مختلف المواقف التي يواجهها والانسان بأختياره يرِّجح هذا الدافع او ذاك، وممن عبّر عن هذه الحالة عمر بن سعد ليلة تكليفه بقيادة الجيش لحرب الامام الحسين (علیه السلام) بأبياته المعروفة ومنها:

أأترك ملك الري والري منيتي *** أم ارجع مأثوماً بقتل حسينِ

روى الشيخ الكليني(2) بسند صحيح عن الامام الصادق (علیه السلام) قال (ما من مؤمن الا ولقلبه أُذنان في جوفه، أذن ينفث فيهالوسواس الخناس، وأُذن ينفث فيه الملك فيؤيد الله المؤمن بالملك فذلك قوله تعالى (وَأَيَّدَهُمْ

بِرُوحٍ مِنْهُ) (المجادلة:22) .

والخنس: الاستتار والتخفي بعد الظهور والانقباض والتراجع والتأخر والابتعاد، قال تعالى (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ) (التكوير:15) وهي النجوم اذا غابت وسمي الشيطان خناساً لأنه ينقبض ويتراجع عن وسوسته عندما يُذَكر الله تعالى وتبعه على ذلك شياطين الانس (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) (الزمر:45) وقد ورد في الحديث الشريف عن النبي (صلی الله علیه و آله) (ان الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فاذا ذكر الله سبحانه خنس واذا

ص: 388


1- تفسير القمي: 2/450
2- الكافي: 2/206 ح 3

نسي التقم قلبه فذلك الوسواس الخناس)(1) .

فالآية الكريمة تبين طبيعة عمل الشيطان وحدود تأثيره على الانسان اذ لا يزيد عمله على الوسوسة مستتراً متخفيّاً مبتعداً عمَّن يوسوس له، لذا فالانتصار عليه مقدور بترك الانسياق وراء وسوسته وتزيينه، ويعترف الشيطان يوم القيامة بانه لم يقم بغير هذا (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) (إبراهيم:22) ، روى علي بن ابراهيم في تفسير الوسواس الخناس (اسم الشيطان الذي في صدور الناس يوسوس فيها ويؤيسهم من الخير ويعدهم الفقر، ويحملهم على المعاصي والفواحش، وهو قولالله عزوجل (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) (البقرة:268))(2).

فيأمر الله تعالى نبيه (صلی الله علیه و آله) ومن خلاله الناس جميعاً ان يستعيذ بالله تعالى من شر هذا الوسواس المخادع (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا) (الأعراف:20) وهو يأمل من وسوسته انه حتى لو لم ينجح في إضلال الشخص وايقاعه في المعصية فلا أقل من تشويش ذهنه واضطراب نفسه وتضييع وقته وزيادة همه، قال تعالى (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) (المجادلة:10).

وتُعلمنا السورة ان لا طريق للتخلص من تأثيرات هذه الوساوس الشيطانية الا باللجوء الى الله تبارك وتعالى حتى النبي (صلی الله علیه و آله) المعصوم طلب منه ذلك لأنه ما كان ليصل إلى هذه المرتبة لو لا لطف الله تعالى وتأييده (وَلَوْلَا

ص: 389


1- مجمع البيان: 10/281
2- البرهان: 10 / 281 ح 1

أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا) (الإسراء:74) فغيره (صلی الله علیه و آله) أولى بهذه الاستعاذة بالله تعالى. لأنه سبحانه جامع لكل ما يوجب اللجوء اليه والاستعاذة به.

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ) (الناس:1-3) فان من طبع الإنسان إذا أقبل عليه شر يحذره ويخافه على نفسه وأحسَّ من نفسه الضعف أن يلتجئ بمن يقوى على دفعه ويكفيه وقوعه، والذي يراه صالحاً للعوذ والاعتصام به أحد ثلاثة إما رب يلي أمره ويدبرهويربيه ويرجع إليه في حوائجه عامة، ومما يحتاج إليه في بقائه دفع ما يهدده من الشر ، وهذا سبب تام في نفسه.

وإما ذو قوة وسلطان بالغة قدرته نافذ حكمه يجيره إذا استجاره فيدفع عنه الشر بسلطته كملك من الملوك ، وهذا أيضاً سبب تام مستقل في نفسه.

وهناك سبب ثالث وهو الإله المعبود فإن لازم معبودية الإله وخاصة إذا كان واحداً لا شريك له إخلاص العبد نفسه له فلا يدعو إلا إياه ولا يرجع في شيء من حوائجه إلا إليه فلا يريد إلا ما أراده ولا يعمل إلا ما يشاؤه.

والله سبحانه رب الناس وملك الناس وإله الناس كما جمع الصفات الثلاث لنفسه في قوله (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (الزمر:6)(1) .

أقول: ولعل عدم العطف بينهما بالواو للإشارة إلى استقلالية كل صفة في السببية.

ص: 390


1- الميزان في تفسير القرآن: 20/458

ويحتمل في مقابل ذلك أن يكون كل سبب لاحق مكمل للاحق فان الرب والمربي قد لا يقدر على إجارة من يربيه من كل سوء الا أن يكون عنده الملك والسلطنة والقدرة وهذا أيضاً قد يعجزه شيء ما الا اذا كان إلهاً حكيماً عليماً قادراً مهيمناً.والاستعاذة لا يكفي فيها تحريك اللسان من دون تعلق صادق بالله تعالى والتزام بما أمر به تعالى من شريعة وأحكام وسلوك ومعتقدات ونظام متكامل للحياة منهجاً وسلوكاً، غاية وأدوات والابتعاد عن أصدقاء السوء وأبواق الشيطان ومجالس اللهو والباطل التي تكون مرتعاً للشياطين.

(على المستعيذ الحقيقي ان يقرن قوله (رَبِّ النَّاسِ) بالاعتراف بربوبية الله تعالى، وبالانضواء تحت تربيته، وان يقرن قوله (مَلِكِ النَّاسِ) بالخضوع لمالكيته، وبالطاعة التامة لأوامره، وان يقرن قوله (إِلَهِ النَّاسِ) بالسير في طريق عبوديته، وتجنب عبادة غيره، ومن كان مؤمناً بهذه الصفات الثلاثة، وجعل سلوكه منطلقاً من هذا الايمان فهو دون شك سيكون في مأمن من شر الموسوسين)(1) .

علينا ان لا نستهين بوسوسة الشياطين ولا نقلل من تأثيرهم لأنهم يزينون الأعمال القبيحة ويصورونها وكأنها نافعة لهم وفي مصلحتهم ويلبسون الباطل ثوب الحق بطرق ماكرة خفية تنطلي على الشخص نفسه، في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (إنما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق فأما أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين ودليلهم سمت الهدى، واما أعداء الله فدعاؤهم

ص: 391


1- الأمثل: 15/627

فيها الضلال ودليلهمالعمى)(1).

وهكذا تختلط الأمور بسبب وسوسة الشياطين قال أمير المؤمنين (علیه السلام) (فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين - أي الطالبين - ولو أنّ الحق خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين، ولكن يؤخذ من هذا ضغث - أي قبضة - ومن هذا ضغث فيمزجان، فهناك يستولى الشيطان على اوليائه وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى)(2) وقال (علیه السلام) (احذروا الشبهة فانها وضعت للفتنة)(3) .

والوسوسة لها درجات وانماط كثيرة بحسب مناعة الشخص وورعه فبعضهم يغريه بالمعصية مباشرة كتزينه العلاقة مع امرأة أجنبية لذا ورد في التحذير من الخلوة بالمرأة عن النبي (صلی الله علیه و آله): (لا يخلون رجل بإمرأة فما من رجل خلا بامرأة إلاّ كان الشيطان ثالثهما)(4).

أو انه مؤتمن على مال أو موقع فيزين له أن يمدّ يده إليه ويحوِّله الى مغانم شخصية على حساب الشعب أو من ائتمنه عليه.

وقد يكون الشخص ورعاً فلا يغريه بالمعصية وإنما يأتيه من جهةتدينه وورعه فيدعوه تحت عنوان الاحتياط إلى التشدّد في العبادات والمبالغة وعدم القناعة بالأعمال التي يؤديها فيعيدها ويلّح فيها لكي يتعبه ويرهق اعصابه

ص: 392


1- نهج البلاغة: الخطبة 38
2- نهج البلاغة: الخطبة 50
3- تحف العقول : 155
4- جامع أحاديث الشيعة، ج20، ص309.

ويضيّع وقته وينفّره من العبادات.

روى الشيخ الكليني (قُدس سره) بسند صحيح عن عبدالله بن سنان قال (ذكرت لأبي عبدالله (علیه السلام) رجلاً مبتلى بالوضوء والصلاة، وقلت: هو رجل عاقل، فقال أبو عبدالله (علیه السلام):واي عقل له وهو يطيع الشيطان؟ فقلت له: وكيف يطيع الشيطان؟ فقال: سله: هذا الذي يأتيه من أي شيء هو؟ فيقول لك: من عمل الشيطان)(1) .

ونحن نرى اليوم شياطين الانس يلبسون مشاريعهم الخبيثة التي تدعو الى الابتعاد عن الله تعالى ونبذ القيم الدينية والاجتماعية السامية وتفكيك أواصر الاسرة والمجتمع والدعوة الى الشهوات والانفلات تحت عناوين خادعة، ولو أنهم اظهروا صورهم الحقيقية أمام الناس وتحدّثوا بصراحة عما يريدون لرفضوهم وطردوهم، مسخرين امكانياتهم المالية والإعلامية ومؤسساتهم واقلامهم وكُتابهم ومؤتمراتهم ومهرجاناتهم لخلط السم بالعسل وتسويق خططهم الشيطانية فيندفع وراءها كثير من المخدوعين والسذّج الذين لم يلتجأوا الى الله تعالى ولم يتحصنوا به من مكرهم وخبثهم، وقد يستعمل الطواغيت المتسلطون قوتهم العسكرية وأدوات بطشهم وقسوتهم أي القوة الخشنة مضافاً إلىالقوى الناعمة لإجبار الشعوب على التخلي عن دينها.

لقد كثرت وصايا المعصومين (علیهم السلام) بالامتناع عن السير وراء من لم تعرف صلاحهم وحجتهم البالغة من الله تعالى لنكون في مأمن من شر الموسوسين، وحذرونا من اقتحام الأمور المشتبهة، فروي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله)

ص: 393


1- وسائل الشيعة: 1/63 ، باب 10 ح 1

قوله (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فمن رعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه)(1) وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (لا ورع كالوقوف عند الشبهة)(2) وعنه (علیه السلام) (حلال بيِّن وحرام بيِّن وشبهات بين ذلك فمن ترك ما اشتبه عليه من الاثم فهو لما استبان له أترك)(3).

ان الوسوسة قد تتحول الى حالة مرضية غير طبيعية شخّصها الطب وتسمى بالوسواس القهري، وقد ذكرت الروايات بعض العلامات التي تكشف بلغة الجسد عن ان صاحبها مبتلى بدرجة من درجات الوسوسة كالحديث الذي رواه الشيخ الصدوق في الخصال فيما أوصى به النبي (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) (يا علي ثلاث من الوسواس: أكل الطين وتقليم الأظافر بالأسنان وأكل اللحية)(4).

فبعض الناس يبتلى بالوسوسة في عقيدته وتتحدث نفسه معهبأحاديث الكفر في ذات الله تعالى فيظن انه لم يعد مؤمناً والحقيقة غير ذلك بدليل رفضه لهذا الحديث الباطني، فقد روى الشيخ الصدوق بسند صحيح عن عبدالله بن سنان قال (كنّا جلوساً عند ابي عبدالله (علیه السلام) اذ قال له رجل: أتخاف عليَّ أن أكون منافقاً؟ فقال له: اذا خلوت في بيتك نهاراً أو ليلاً أليس تصلي؟ فقال: بلى:فقال فلمن تصلي؟ قال: لله عزوجل، فقال: فكيف تكون منافقاً وأنت تصلي

ص: 394


1- ميزان الحكمة: 4/361 ح 9293
2- نهج البلاغة : الحكمة: 113
3- من لا يحضره الفقيه: 4/75 ح 5149
4- بحار الأنوار: 76/108

لله عزوجل لا لغيره)(1).

وان كثيراً من الناس يبتلى بالوسوسة في صلاته ووضوئه وطهارته ويلبسّها عليه الشيطان باعتقاد انها من الاحتياط الحسن واتقان العمل والأمر غير ذلك كما تقدم في الرواية عن الامام الصادق (علیه السلام) في الرد على من اعتبرها من العقل.

ويبتلى آخرون بالوسوسة في علاقاتهم مع الاخرين فيشك في زوجته ويتهمها بالخيانة الزوجية ويحاول اقناع نفسه بأدلة تضحك الثكلى وآخر يشك في بنته وكم من سلطان شك في ان ابنه يتآمر عليه فيأمر بقتله كالشاه عباس الصفوي وآخرون يبتلون بالوسواس في حياتهم العامة فتراه ينجز عملاً ما ثم يشك هل قام به ام لا ونحو ذلك.

وقد وضع الأئمة (علیهم السلام) قاعدة عامة للقضاء على هذهالحالة صاغها الفقهاء بقولهم (لا شك لكثير الشك)(2) و(كثير الشك لا يعتني بشكه) فالعلاج ان يعرض عن هذه الوساوس ولا يلتفت اليها ويهملها ولا يرتب عليها أي اثر فانها ستزول بإذن الله تعالى اما اذا استجاب لها وبنى عليها عملياً واقتنع بها فانها ستتركز وتتعمق في نفسه حتى تصبح شغله الشاغل ولا تفارقه حتى تخرّب عليه دينه وتنكد حياته وتحرمه من الاستقرار وراحة البال، قال (صلی الله علیه و آله) (إذا

ص: 395


1- وسائل الشيعة: 1/60 ، باب 8 ح 6
2- تعبيران عن قاعدة فقهية معروفة، قد ذُكرت في أغلب بحوث القواعد الفقهية, وكذلك وردت كثيراً على لسان الفقهاء, ولم يخدش فيها أحد منهم؛ مما يدل على قبولها. اُنظر: البجنوردي، محمد حسن، القواعد الفقهية: ج2، ص345

تطيرت فامض، وإذا ظننت فلا تقض)(1) أي اذا حصل عندك شك وتردد ووسوسة فلا تلتفت اليه وامضِ الى ما عزمت عليه .

كما تضمنت الروايات ذكر بعض الأغذية المفيدة في دفع الوسوسة كالذي رواه الشيخ الكليني في الكافي بسنده عن الامام الصادق (علیه السلام) قال (من أكل حبة من الرمان أمرضت شيطان الوسوسة أربعين يوماً)(2) .

ص: 396


1- وسائل الشيعة: 18/ 38
2- الكافي: 6/353

خطاب المرحلة 650 : فتنة توظيف العناوين الدينية لأهواء شخصية

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) (التوبة:49)

فتنة توظيف العناوين الدينية لأهواء شخصية (1)

معنى الآية باختصار: أن من المنافقين من يقول لرسول الله (صلی الله علیه و آله) أئذن لي في ترك الجهاد والتخلف عن جيش المسلمين الذاهب مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) لقتال الروم في تبوك ويبرّر ذلك بأن تكليفه بالجهاد يوقعه في المعصية ومخالفة الأمر الشرعي ويسبب له الفتنة عن الدين فيجيبه الله تعالى بأنه بسلوكه المخادع هذا قد وقع في الفتنة عن الدين وارتكب معصية كبيرة.

والآية الكريمة تكشف عن حالة منافقة يسقط فيها بعض افراد المجتمع المسلم الذين يتبعون أهواءهم ويكون همُّهم إرضاءَ أنانياتهم فإنهم حينما يريدون التنصل من مسؤولياتهم الاجتماعية وعدم أدائهم لواجباتهم تجاه دينهم وأمتهم أو يريدون تحقيق مكاسب شخصية فأنهم يسوّقون أعذاراً بعناوين دينية متظاهرين بالورع والخوف على الدين لإقناع الآخرين ومحاولة خداعهم (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَايَشْعُرُونَ) (البقرة:9).

وكشاهد على ذلك نذكر الحادثة التي نزلت فيها الآية الكريمة بحسب ما

ص: 397


1- الخطاب الفاطمي السنوي الذي يلقيه سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على الجموع المحتشدة في ساحة ثورة العشرين في النجف الاشرف في ذكرى استشهاد الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) يوم الأحد 3/ جمادي الثاني / 1442 الموافق 2021/1/17 وهذه هي النسخة السادسة عشرة بفضل الله تعالى.

ذكره أرباب الحديث والسير والتأريخ وذلك أن النبي (صلی الله علیه و آله) لما بلغه اجتماع الروم في بلاد الشام لغزو المدينة والقضاء على الإسلام قرّر الذهاب لهم لمواجهتهم في عقر دارهم فاستنفر المسلمين وحثّهم على الجهاد فاستجاب له عدد كبير من أهل المدينة وقبائل العرب التي دخلت الإسلام رغم العسرة التي كان المسلمون فيها وقعد قوم من المنافقين وغيرهم (ولقي رسول الله (صلی الله علیه و آله) الجد بن قيس -- وهو من وجوه بني سلمة من بطون الخزرج وكان من المنافقين -- فقال له: يا أبا وهب الا تنفر معنا في هذه الغزاة لعلك ان تحتفد -- أي تستخدم -- من بنات الأصفر -- وهم الروم -- ؟ فقال: يا رسول الله إن قومي ليعلمون أنه ليس فيهم أحد أشد عجباً بالنساء مني، وأخاف إن خرجت معك أن لا أصبر إذا رأيت بنات الأصفر فلا تفتنِّي وائذن لي أن أقيم(1)،

وقال لجماعة من قومه: لا تخرجوا في الحر، فقال ابنه: تردّ على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتقول ما تقول؟ ثم تقول لقومك لا تنفروا في الحر؟ والله لينزلنّ الله في هذا قرآناً يقرؤه الناس إلى يوم القيمة، فأنزل الله على رسوله في ذلك: (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني الا في الفتنة سقطوا وإن جهنملمحيطة بالكافرين) ثم قال الجد بن قيس أيطمع محمد أن حرب الروم مثل حرب غيرهم؟ لا يرجع من هؤلاء أحد أبداً)(2).

فادعى هذا الشخص أنه يخاف على دينه لو أمره رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالجهاد من فتنة النساء الروميات أو من فتنة الانتصار ومكاسبه عموماً أو من ويلات الحرب فيضعف أمامها أو أنه يخشى ترك أهله

ص: 398


1- وفي رواية ابن إسحاق (فاعرض عنه رسول الله (|) وقال: قد أذنت لك)
2- تفسير نور الثقلين : 2/632 ح 169 عن تفسير علي بن ابراهيم

وأمواله فيطلب من النبي (صلی الله علیه و آله) الإذن له بترك الجهاد حتى لا يقع في المخالفة، ولكنه بتخاذله ونفاقه وقع في الفتنة التي زعم أنه يريد تجنبها.

وتضمنت آية أخرى ما ظاهره العتاب لرسول الله (صلی الله علیه و آله) على إعطائه (صلی الله علیه و آله) الإذن بالتخلف عن الجهاد، لكنها قدّمت أولاً الدعاء له بالعفو قال تعالى (عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) (التوبة:43) ولو جعلهم (صلی الله علیه و آله) على المحك ولم يأذن لهم، حتى يفتضحوا وينكشف عزمهم على المخالفة وتقاعسهم عن أداء الواجب حتى لو أمرهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالخروج ولكيلا يجعلوا الإذن غطاء لشرعنة ارتكابهم هذه المعصية الكبيرة، قال تعالى (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) (التوبة:46)، وروى علي بن إبراهيم في تفسيره عن الإمام الباقر (علیه السلام) في تفسيرها (لتعرف أهلالعذر والذين جلسوا لغير عذر)(1).

فأريد من هذا الخطاب الموجّه إلى النبي (صلی الله علیه و آله) تنبيه الأمة إلى أن هذه الأعذار لا تنطلي على الله تعالى ورسوله (|) لكن النبي (صلی الله علیه و آله) لكرم أخلاقه ستر عليه ورأى عدم الفائدة في خروجه بل إن وجوده وأمثاله ضارٌّ بجيش المجاهدين (لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (التوبة:47)، فترك الله تعالى نبيه (صلی الله علیه و آله) ليتصرف وفق ما تقتضيه أخلاقه الكريمة ثم أنزل ما يفضح أولئك المنافقين فتحقق بالنص الإلهي ما لم يتحقق لو لم يسبقه التصرف النبوي.

ص: 399


1- تفسير القمي: 1/293

ولخطورة هذه الفتنة فقد أخرّ الله تبارك وتعالى التنبيه عليها لما بعد ظروف المعركة، ولولا حكمة النبي (صلی الله علیه و آله) لاستطاع هذا المنافق أن ينشر فتنته في المجتمع لأنه غلّفها بإطار ديني تنخدع به فئة من الناس (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ)، نعم هناك معذورون عن الجهاد ذكرتهم الآيات الكريمة وليس هؤلاء المتخاذلون منهم.

وفي مقابل هؤلاء المتخاذلين كان المؤمنون الصادقون سبّاقين لطاعة الله تعالى ورسوله (صلی الله علیه و آله) من دون تردد ومناقشة (لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْوَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) (التوبة:44).

هذه الحالة المنحرفة للهروب من المسؤولية وتبرير مخالفة أوامر الله تعالى وتسخير الواجهات الدينية لتحصيل المصالح الشخصية موجودة على كل المستويات، وأخطرها على الإطلاق ما حصل بعد رحيل رسول الله (صلی الله علیه و آله) حيث برّر الانقلابيون مخالفتهم لرسول الله (صلی الله علیه و آله) في وصيته بأمير المؤمنين (علیه السلام) بأنهم خافوا الفتنة إن أمرّوا علياً (علیه السلام) ولم يتصدوا هم للسلطة وخلافة النبي (صلی الله علیه و آله) فقالوا تارة (ان قريشاً كرهت ان تجتمع فيكم -- أي بني هاشم -- النبوة والخلافة، فتجحفون على الناس)(1)

وقالوا (فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت)(2)،

وكأنّ الآية الكريمة تفضح نوايا الانقلابيين وما عزموا عليه قبل وقوع الحدث بسنتين تقريباً وقد كشف الله تبارك وتعالى محاولاتهم

ص: 400


1- المراجعات للسيد شرف الدين: 350 وقد نقله عن شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: 3/107 والكامل لابن الاثير: 3/24 في أحوال عمر
2- تاريخ الطبري: 3/289

العديدة في إخفاء الحق لكن الله تبارك وتعالى أظهره وأتمه في يوم الغدير، قال تعالى (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ) (التوبة:48) فجاء الحق وظهر أمر الله في يوم الغدير وهم كارهون معاندون (وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)(التوبة:45).

أيها الأحبّة الكرام

لقد ذكّرتهم السيدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) بهذه الآية الكريمة فقالت (علیها السلام): (فلما اختار الله لنبيّه دار أنبيائه ومأوى أصفيائه ظهر فيكم حسكة النفاق) الى أن قالت (علیها السلام) (زعمتم خوف الفتنة (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) فهيهات منكم وكيف بكم وأنى تؤفكون وكتاب الله بين أظهركم؟ أموره ظاهرة وأحكامه زاهرة وأعلامه باهرة وزواجره لائحة وأوامره واضحة وقد خلفتموه وراء ظهوركم، أرَغبة عنه تريدون أم بغيره تحكمون (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) )(1) .

ثم بيّنت (علیها السلام) لهم خطورة الفتنة التي أحدثوها فقالت (ويحهم أنى زحزحوها عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة والدلالة ومهبط الروح الأمين والطبين(2) بأمور الدنيا والدين (أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ))(3) فتبيّن السيدة الزهراء (علیها السلام) لهم أنهم بفعلهم هذا سقطوا في قعر الفتنة وإن ادعَّوا أنهم

ص: 401


1- الاحتجاج للطبرسي : 1/ 131
2- الطبين: الفطن الحاذق العالم بالاشياء
3- الاحتجاج للطبرسي: 1/138

يريدون وقاية الأمةمنها ففضحت زيف دعاواهم ونواياهم الحقيقية وعظم جنايتهم على حاضر الأمة ومستقبلها حيث جّر هذا الانقلاب الويلات والكوارث على الأمة من تحريف الدين وسفك الدماء وهدر الأموال وتسلط الأشرار وتشريد الصالحين وضياع القيم والمبادئ الإنسانية وغير ذلك(1).

وقد اعترف قادة الانقلاب بأن ما جرى في السقيفة كان فتنة تمزّق الأمة وتؤدي الى انحرافها عن طريق الصلاح والكمال لكنهم ادّعوا أنها مرّت بسلام قال عمر في كلمته المشهورة التي تناقلها المؤرخون وكتاب السير(2)

(ان بيعة أبي بكر كانت فلته وقى الله شرها فمن دعاكم إلى مثلها فاقتلوه)(3)

وقال ابن الأثير في معنى الحديث (أراد بالفلتة الفجأة، ومثل هذه البيعة جديرة بأن تكون مهيّجة للشر والفتنة فعصم الله من ذلك ووقى، والفلتة: كل شيء فُعل من غير رويَّة وإنما بُودِر بها خوف انتشار الأمر)(4).

وقد زرعوا هذه الفكرة في اذهان الناس لتضييع الحقيقة مما دعاالأئمة الى بيانها، روى الشيخ الكليني في روضة الكافي بسنده عن ابي المقدام قال (قلت لأبي جعفر الباقر (علیه السلام): ان العامة يزعمون ان بيعة ابي بكر حيث اجتمع

ص: 402


1- راجع تفصيل ذلك في موسوعة (خطاب المرحلة: 1/241) خطاب بعنوان (ماذا خسرت الأمة حينما ولّت أمرها من لا يستحق) وفي تفسير (من نور القرآن: 1/208) في ملحق قوله تعالى (أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ) (آل عمران:144).
2- مثل تاريخ اليعقوبي وشرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد والامامة والسياسة لابن قتيبة والصواعق المحرقة لابن حجر والملل والنحل للشهرستاني.
3- بحار الأنوار: 30/448
4- النهاية في غريب الحديث والأثر: 3/467 مادة (فلت)

الناس كانت رضا لله عز ذكره، وما كان الله ليفتن أمة محمد (صلی الله علیه و آله) من بعده، فقال أبو جعفر (علیه السلام) أوما يقرأون كتاب الله، أوليس الله يقول: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران:144))(1).

وأي فتنة أعظم من تصدي غير المؤهلين لقيادة الأمة والتسلط على رقاب الناس في ذلك الزمان وفي كل زمان سواء بالخداع والمكر أو بالتضليل الإعلامي أو بالانقلابات العسكرية أو عبر الانتخابات المزورة أو باستخدام المال السياسي المسروق من قوت الشعب فينتشر الفساد والانحلال وتسرق ثروات الشعب وتهدر كرامته وتسفك الدماء المحرّمة وتشيع الفوضى ويختل النظام والأمن وتضيع العدالة الاجتماعية ويؤول أمر البلاد الى الخراب.

إن هذه الفئة المتخاذلة والمتقاعسة عن أداء واجباتها هي نفسها التي كانت تواجه أمير المؤمنين (علیه السلام) عندما كان يستنهضهم لجهاد الباغين بالأعذار الواهية من الحر والبرد ففضحهم أمير المؤمنين(علیه السلام) وكشف عن حقيقة نفاقهم بقوله (فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ الْحَرِّ قُلْتُمْ هَذِه حَمَارَّةُ الْقَيْظِ أَمْهِلْنَا يُسَبَّخْ عَنَّا الْحَرُّ وإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ قُلْتُمْ هَذِه صَبَارَّةُ الْقُرِّ أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا الْبَرْدُ كُلُّ هَذَا فِرَاراً مِنَ الْحَرِّ

ص: 403


1- نور الثقلين: 1/164 ح 1015.

والْقُرِّ فَإِذَا كُنْتُمْ مِنَ الْحَرِّ والْقُرِّ تَفِرُّونَ فَأَنْتُمْ واللَّه مِنَ السَّيْفِ أَفَرُّ)(1).

إن فتنة هذه التبريرات تكون أخطر حينما تُغلّف بدعوة دينية كما في دعوى هؤلاء المنافقين الذين ذكرتهم الآية فأنهم يريدون التفريق بين الرسول والرسالة فيعصون الرسول ويزعمون أن ذلك من حرصهم على الالتزام بالرسالة كادعائهم الخوف من الفتنة عن الدين أو دعوى أصحاب السقيفة خوفهم على الناس من الارتداد ومن تمزق المجتمع، وكأنهم أعلم من رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيما ينبغي فعله وكأنهم يتهمونه في عدم إرادة صلاح الأمة، أو أنهم أعلم من الله تعالى بمصالح العباد وأحرص منه سبحانه على الدين وأحكامه قال الله تعالى مستنكراً ذلك منهم (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الحجرات:16) ويذكرهم الله تعالى بأن نواياهم الحقيقية لا تخفى على الله تعالى وانه سبحانه يميز بين الحقائق والادعاءات (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) (البقرة:220) .وختمت السيدة الزهراء (علیها السلام) تحذيرها بالعاقبة التي ذكرتها الآية الكريمة (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) فهم محاطون بالنار من جميع الجهات ولا يستطيعون التخلص منها، والتعبير باسم الفاعل (لمحيطة) الذي يدل على فعلية الاتصاف يعني انهم الآن واقعون حقيقةً في نار جهنم التي أججّوها بمعاصيهم(2)

الا انهم لغفلتهم لا يشعرون بها ككثير من الحقائق التي هم غافلون

ص: 404


1- نهج البلاغة: نهج البلاغة: 1/70
2- وفي الحديث إن رسول الله (|) كان قاعداً مع أصحابه فسمعوا هدّة عظيمة فارتاعوا فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) أتعرفون ما هذه الهدّة، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: حجر ألقي من أعلى جهنم منذ سبعين سنة وصل الآن الى قعرها وسقوطه فيها هذه الهدة فما فرغ من كلامه الا والصراخ في دار منافق من المنافقين قد مات وكان عمره سبعين سنة فكبّر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعلم الحاضرون أن الحجر هو ذلك المنافق الذي كان يهوي في جهنم مدة عمره فلما مات استقر في قعرها (حكاه السيد عبدالله الجزائري في كتاب (التحفة السنية:17) عن كتاب اليقين للفيض الكاشاني: 2/1002 ،أقول: أصل الحديث رواه مسلم في صحيحه ص 1007 رقم 2844 .

عنها (لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (ق:22).

ويمكن أن يكون معناها إن الكافرين صائرون حقيقة إلى هذه النتيجة فالتعبير باسم الفاعل يفيد الوقوع الأكيد لهذه النتيجة الآن أو في المستقبل.

أو إن إحاطتها بهم بلحاظ الأسباب والمقدمات أي انهم الآن محاطون بأسباب الوقوع في جهنم وهي الذنوب (بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(البقرة:81)، وقد أحاطت بهم ذنوبهم على مستوى النيات والأفعال.

إن هذه الحالة التي تحذّر منها الآية الكريمة لا تختص بواجب الجهاد بل سائر المسؤوليات الشرعية حيث تجد الذين في إيمانهم نقص وفي قلوبهم شك يقدمون أعذاراً واهية لا تخفى على من يستمع إليها وربما سوّقوها بعناوين دينية وقد يكون صاحبها ممن له اطلاع على الفقه فيغلفها بمصطلحات دينية لتمريرها لكن أعذارهم ونواياهم الحقيقة لا تخفى على الله تعالى ولا على الواعي الفطن، أعاذنا الله تعالى وإياكم من الفتنة.

ص: 405

خطاب المرحلة 651 : مجلة الايمان في حلّتها الجديدة

مجلة الايمان في حلّتها الجديدة (1)

كان صدور مجلة الايمان النجفية في ستينيات القرن الماضي(2) استجابة لضرورة تاريخية اقتضتها التحديات الفكرية والعقائدية التي عصفت ببلاد المسلمين، رافقتها حيرة لدى الطليعة المؤمنة الواعية في كيفية المواجهة، وعدم وجود صياغة للنظام الإسلامي ليكون البديل الذي يلقف ما يأفكون.

فلم يمثّل صدّور المجلة ترفاً فكرياً أو رغبة شخصية وإنما كانت اداءاً لواجب مقدس عبّر عنه رئيس تحرير المجلة(3) في افتتاحية العدد الأول بقوله (.. ولنأخذ بيد شباب اليوم ورجال الغد الى ما فيه صالحهم وصالح مجتمعهم، وليكن واضحاً أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم ومسلمة (كلكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيته)).

وقد أخذت المجلة دورها في نشر الوعي الإسلامي واستعادة المسلم ثقته بشخصيته وهوّيته واستلهام مبادئ الإسلام الأصيل، وقد اعترفت أجهزة القمع للنظام البائد في تقييمها للحركات الإسلامية فيالعراق أن على رأس المجلات التي تعتبر المصادر الثقافية للحركة الإسلامية هي مجلة الايمان(4).

ص: 406


1- كلمة الافتتاح لمجلة الايمان بعد معاودتها الصدور بفضل الله تعالى.
2- صدر منها ثلاثون عدد خلال الفترة 1963 – 1968 جمعت كل عشرة منها في مجلد ضخم.
3- المرحوم الشيخ موسى اليعقوبي
4- انظر الدراسة في كتاب (حزب الدعوة الإسلامية: حقائق ووثائق) للسيد صلاح الخرسان: ص 449

وشارك في تحرير مقالات المجلة نخبة من علماء الدين واعلام الفكر والثقافة والأدب الذين ازدانت بهم النجف الأشرف وحواضر العالم الإسلامي في تلك الفترة.

وقد تنوعت أبوابها لتشمل تفسير القرآن، ودراسات تحليلية في سيرة أهل البيت (علیهم السلام) ورجال العقيدة في الإسلام، وتحقيقات تاريخية، وأبحاث فلسفية وأخلاقية وعلمية واجتماعية، ونصوص من الأدب الإسلامي الملتزم وقصائد الولاء والوعي والجهاد، مضافاً الى تغطيتها لحركة المرجعية الدينية في النجف الأشرف، والنشاطات الدينية في مدن العراق كافة والتعريف بآخر الإصدارات النجفية.

وقد اتسعت اليوم تلك التحديات وتنجّز معها ذلك الواجب لذا عقدنا العزم على إصدار المجلة بحلة جديدة تأخذ بنظر الاعتبار طبيعة المسؤوليات الراهنة، وستُنشر في كل عدد مقالة من أرشيف المجلة للاستفادة من ذلك العطاء الثرّ وليحصل تواصل بين الأجيال، وردم الهوّة السحيقة التي أوجدها النظام البائد خلال ثلاثة عقود بقتل العلماءورجال الفكر والعمل الرسالي واعتقالهم وتهجيرهم.

نسأل الله تعالى أن يسدّد خطى العاملين الرساليين لتثبيت عقائد الأمة ورسم خطى الصلاح والإصلاح (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (هود:88).

ص: 407

خطاب المرحلة 652 : حوارية عن الشباب

أجرتها احدى المجلات النجفية مع سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله)

س: لقد كان لكم سماحة الشيخ في القيادة والتأليف تجارب مهمة، انعكست في رؤيتكم الإصلاحية المباركة، ما هي النتائج التي يمكن ان تخرجها منها..

بسمه تعالى

النتائج يكتشفها المراقبون والمتابعون في ضوء اهداف الحركة فيكون التقييم وفق نسبة ما تحقق من تلك الأهداف وقد سعيت بالتوكل على الله تعالى الى هدف عام وهو توسيع قاعدة الملتزمين بأحكام الشريعة الواعين للظروف المحيطة بهم وما تتطلبه من مواقف وسلوك، وهدف خاص وهو تربية نخبة رسالية تحمل هم الإسلام وتسعى لإقناع الناس بمشروعه في نواحي الحياة المختلفة وتقوية الحوزة العلمية في النجف الاشرف علمياً وفكرياً وأخلاقياً ودعمها مادياً ومعنوياً ونشر المدارس الدينية للرجال والنساء في مختلف المحافظات ليتسنى لأكبر عدد التفقه في الدين وينشرون هذه الرسالة الى الناس.

س: قد تكون مشاكل، أوجدها الأخر في واقعنا العراقي، مثل: الإرهاب والإلحاد، والتبشير الجديد والفساد، كيف عاينتم هذه المشاكلفي ضوء

ص: 408

خطابكم الإصلاحي والتربوي الإسلامي؟

بسمه تعالى

بعضها أوجدها الآخر وأكثرها نوجدها نحن بأنفسنا ولولا ذلك لم يجد الآخر الأرضية المناسبة لاختراقنا والنفود من خلال الثغرات التي لم نحكم غلقها لذا صحّت مقولة (حصوننا مهددة من داخلها) وطالما حذرت من تفسير كل مشاكلنا بنظرية المؤامرة بل علينا أن نبحث عن جذورها وأسبابها فينا، وهذا مما استفدته من طريقة القرآن الكريم في الإصلاح كقوله تعالى (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا) (آل عمران: 155) فالهزيمة وقعت بأسباب داخلية وقوله تعالى (فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) (الزخرف:54) فطاعة الطواغيت وفرعنتهم حصلت بسبب فسق الناس المعتادة على الفسق وعبادة الاصنام.

س: كيف ترون في هذه الأيام مشاكل الشباب وما يعانونه من بطالة وانسداد الأفق في إيجاد حلول لمشاكلهم، ما هي رسالتكم لهم وللحكومة معاً؟

يعاني الشباب اليوم من مشاكل حقيقية ومنها البطالة التي تجعله محبطاً وقلقاً على حاضره ومستقبله وتقتل الطموح عنده ولا شك ان مؤسسات الدولة هي المسؤول الأول عن إيجاد الحلول التي لا تقتصر على إيجاد الوظائف الرسمية فانها لا تستوعب كل الشباب -- والعراق بلد شبابي -- بل لابد أن تنشط القطاع الخاص كالزراعة والصناعةوالمهن المختلفة وتدعمه، وعلى الشباب أيضاً ان يتحركوا أو يخلقوا الفرص بالتعاون مع الجهات الداعمة لأفعال الخير

ص: 409

والمعروف فيظهروا لهم قابلياتهم واستعدادهم للعمل بكفاءة وأمانة وإخلاص وبذلك يستفيد الجميع ويزدهر البلد بعقول أبنائه وسواعدهم.

س: لقد كان لمرجعيتكم أثرها الفاعل في معالجة الأوضاع الاجتماعية والسياسية، كيف تجدون ملامح المستقبل المنشود لهذه الجماهير المؤمنة؟

بسمه تعالى

نحن متفائلون بفضل الله تعالى ووعوده الصادقة وبما نرى على ارض الواقع من نتائج طيبة ولسنا قلقين من بعض الفقاعات المعادية التي وصفها الله تبارك وتعالى بقوله (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ) (النور:39) لكن الحذر واجب وعلينا ان نتصف بالوعي والفطنة فان المشاريع الشيطانية متربصة بنا.

س: كيف يتصور سماحتكم العلاقة مع الغرب في ضوء الأحداث الأخيرة في المنطقة؟

بسمه تعالى

اعتقد أن فايروس كورونا وتداعياته وآثاره على حياة الناس وإيقاف الأنشطة والفعاليات والمهرجانات المختلفة في بلدان العالمقربَّت لنا المسافات لمخاطبة عقولهم والنفوذ الى قلوبهم لإقناعهم بما نريد ان نقوله، كما ان فضائح قادتهم وزعاماتهم وفشل أنظمتهم الوضعية تساهم في انشاء حوار ناجح وعلينا أن نكون نحن بمستوى هذا الحوار الحضاري كما أراد أئمتنا (كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً).

س: يرى عدد من الدارسين لظاهرة الإلحاد في المنطقة أسباب

ص: 410

ومسوغات كثيرة، كيف يكون بنظر سماحتكم، آليات المعالجة، وحماية الهوية الإسلامية؟

بسمه تعالى

الأسباب عديدة فعلاً فيجب تشخيصها أولاً ثم معالجة كل منها بما يناسبه ولا شك ان ادواتنا في ذلك هي الحوار الرصين المبني على أسس علمية وحجج دامغة وتقديم الأسوة الحسنة التي تجسّد الرسالة الإسلامية وخير من يمثلها رسول الله (صلی الله علیه و آله) والمعصومون من أهل بيته (علیهم السلام) ومن سار على نهجهم من السلف الصالح فإن تأثير الاسوة الحسنة يفوق ألف محاضرة أو منشور.

س: كيف يرى سماحتكم مستقبل المشروع الإسلامي المبارك في ضوء التجربة العراقية وما فيها من إحداث؟

بسمه تعالى

قال الله تبارك وتعالى (لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)(المائدة:105) فعلى النخب الرسالية الواعية المؤمنة بمشروع الإسلام ان لا تشعر باليأس والإحباط لسوء سلوك بعض المحسوبين على الحركة الإسلامية ولا نكون في ضيق مما يتقوله الخصوم فان أي شريحة اجتماعية لا تخلو من عناصر غير صالحة قال تعالى (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر: 97-99).

ص: 411

خطاب المرحلة 653 : في تأبين المرحوم سماحة الشيخ محمد جواد المهدوي

فقدت الحوزة العلمية في النجف الأشرف اليوم علماً من أعلامها وأُستاذاً عُرِف بالجدّ والتحصيل والتدقيق والمثابرة لنفع طلابه، عرفته بذلك منذ ثلاثين عاماً عندما كنّا في جامعة النجف الدينية برعاية المرحوم الحجة السيد محمد كلانتر (قدس سره)، وقد درَّس جميع المراحل العلمية في الحوزة الشريفة حتى البحث الخارج.

عرفه من خالطه بالتواضع واحترام الآخر ولو كان طفلاً صغيراً، وبالسعي لقضاء حوائج الناس خصوصاً طلبة العلوم الدينية، وكان ودوداً لطيف المعاشرة، ويحظى بتقدير مراجع الدين ومحبتهم.

لقد سبّب فقده المفاجئ ألماً وحزناً لدى زملائه وطلابه وعارفي فضله فتغمّده الله تعالى برحمته ولقّاه نضرة وسروراً وحشره مع أوليائه محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين).

محمد اليعقوبي

17 رجب 1442

2021/3/2

ص: 412

خطاب المرحلة 654 : الفقه الاجتماعي مظهر لحيوية الشريعة الاسلامية

الفقه الاجتماعي مظهر لحيوية الشريعة الاسلامية(1)

الشريعة الإسلامية هي خاتمة الرسالات السماوية والنبي محمد (صلی الله علیه و آله) هو (رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) (الأحزاب:40) وقد أبلغ (صلی الله علیه و آله) الرسالة كاملة (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة:3) واقتضت الإرادة الإلهية بأن يكون هذا الدين هو المهيمن على كل الأديان والايديولوجيات البشرية قال الله تبارك وتعالى (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) (المائدة:48) وقال تعالى (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) (التوبة:33)، (الفتح:28)، (الصف:9).

لذا فقد أودعت فيها ديناميكية وحركية لمواكبة تطورات الحياة البشرية في ميادينها المختلفة، وقد أثبتت الشريعة الإسلامية قدرتها على تقديم الحلول وحل المشكلات ومواجهة التحديات طيلة القرونالماضية، وأثْرتِ الحضارة الإنسانية بمختلف العلوم والمعارف والفنون، ولم يعجز الفقهاء عن العثور على الحكم والموقف والاجراء مع الدليل عليه في كل تلك المساحات.

وهذه الديناميكية تجلّت في مجالين:

ص: 413


1- كلمة القاها سماحة المرجع الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) يوم الجمعة 12 شعبان 1442 الموافق 2021/3/26 لعرضها تلفزيونياً في مؤتمر تقرر عقده في بغداد بحضور علماء وأساتذة جامعات من العراق وعدد من الدول العربية والإسلامية تحت عنوان (الاجتهاد في مجال النظريات والنظم المجتمعية).

الأول: نفس أحكام الشريعة فإن فيها ما هو ثابت لا يتغير عبر الأجيال لأنها أحكام لا تتأثر بتغيرات الحياة كحقوق الإنسان وكعلاقة الإنسان برّبه أو القيم الأخلاقية التي تستند اليها التشريعات وتنبع منها.

كما أن فيها ما هو متغير متحركُ وفق ضوابط جعلتها الشريعة، وهذا لا يعني تحريفاً في الدين أو تغييراً للأحكام الثابتة لموضوعاتها، وإنما يتغير الحكم لتبدّل موضوعه بمرور الزمن والأحكام تتبع موضوعاتها، أو مراعاة لأمر أهم منه فيقدَّم عليه عند تزاحم الحكمين، أو لوجود عناوين ثانوية مسقطة للتكليف كنفي الحرج (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج:78) أو دفع الضرر (لا ضرر ولا ضرار)(1) أو لانتفاء علة الحكم اذا كان منصوص العلة، أو لانتهاء أمده اذا كان موّقتاً بزمن معين، أو لصدور أمر بالولاية من الفقيه الجامع لشرائطها، ونحو ذلك.

فوجوب صوم شهر رمضان ثابت الا أنه اذا أضرَّ بصحة الانسان سقط عنه، وتصّرفُ الانسان في ملكه جائز لكنه اذا أضرَّ بالآخرين منعمنه، وأداء الصلاة في وقتها واجب الا انها اذا زاحمها انقاذ حياة انسان وجب تقديم هذه الحالة الإنسانية على الصلاة.

وإن الأحكام قسمان، فبعضها تخاطب الفرد كوجوب الصلاة يومياً والصوم في شهر رمضان والحج للمستطيع، وبعضها اجتماعية عامة تخاطب الأمة ككيان من خلال مؤسسات الدولة أو النقابات، أو منظمات المجتمع المدني وسائر التشكيلات المجتمعية، فكل من هذه الكيانات النظامية

ص: 414


1- وسائل الشيعة (آل البيت): 18/32/ح3

والنخبوية مصداقٌ للأمة في الآية الكريمة (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) (آل عمران:104).

وهذه الأحكام الاجتماعية العامة هي القسم الأهم من أحكام الشريعة، وتشكّل بعض الأحكام العامة مبادئ عليا وتكون أُطُراً ومحددات لسائر التشريعات التفصيلية، بحيث لو وقع تعارض بينها وبين الأحكام الأخرى فإنها تُقدَّم عليها ولا يصح منها الا ما وقع ضمن تلك المحددات، وتكون العلاقة بينها وبين سائر احكام الشريعة كالعلاقة بين الدستور والقوانين التي تشرّعها السلطة فيشترط فيها ان لا تخالف الدستور.

وقد تكّفل القرآن الكريم ببيان هذه المبادئ العليا والقوانين العامة فهو كالدستور بالنسبة للتشريعات التفصيلية، لذا أمر أئمة الإسلام (علیهم السلام) بعرض كل ما يرد عنهم من فتاوى وأحكام على كتابالله تعالى لاختبار صحة صدورها عنهم سلام الله عليهم، ففي رواية صحيحة عن الامام الصادق (علیه السلام) قال: (خطب النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: أيها الناس: ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فانا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله)(1)،

وقال (علیه السلام) (كل شيء مردود الى الكتاب والسنة، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف)(2).

فمبدأ كرامة الانسان مثلاً المستند الى قوله تعالى (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء:70) حاكم على كل التشريعات، فلو توصل الفقيه الى حكم يتنافى مع هذا المبدأ فإنه يعتبر لاغياً، كما هو المفروض في القوانين الوضعية فلو شرَّع

ص: 415


1- الكافي: 1/56 ح 5
2- الكافي: 1/55 ح 3 ، المحاسن: 220 ح 128

البرلمان قانوناً ينافي حقوق الانسان أو مبدأ العدالة الاجتماعية كالتمييز في الاستحقاقات على أساس القومية او الانتماء الحزبي او الجغرافي ونحو ذلك فانه قانون باطل لمخالفته المبدأ الثابت.

الثاني: آلية الوصول الى الحكم الشرعي واستخراجه من مصادر التشريع وهما القرآن الكريم والسنة الشريفة وهو ما يعرف بالاجتهاد الذي يُعرَّف بانه ملكة القدرة على استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها الأصلية، ففتح باب الاجتهاد اعطى للمقنن الإسلامي القدرةعلى معرفة الحكم الشرعي في كل الأمور قال تعالى (مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ) (الأنعام:38)، وقال أمير المؤمنين (علیه السلام) -- من حديث -- (ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق لكم أخبركم عنه إن فيه علم ما مضى وعلم ما يأتي الى يوم القيامة) وقال الامام الصادق (علیه السلام): (ما من شيء الا وفيه كتاب أو سنّة) وقال (علیه السلام): (ما من أمر يختلف فيه اثنان الا وله أصل في كتاب الله عزوجل ولكن لا تبلغه عقول الرجال) وقال (علیه السلام): (إن الله تبارك وتعالى انزل في القرآن تبيان كل شيء حتى والله وما ترك الله شيئاً يحتاج اليه العباد حتى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن؟ الا وقد أنزله الله فيه) وقال الامام الباقر (علیه السلام): (إن الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً يحتاج اليه الأمة الا أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله (صلی الله علیه و آله) وروى سماعة عن أبي الحسن موسى بن جعفر (علیهم السلام) قال: (قلت له أكلُّ شيء في كتاب الله وسنة نبيّه أو تقولون فيه -- أي تجتهدون فيه برأيكم -- ؟ قال (علیه السلام): بل كل شيء في كتاب الله وسنة نبيّه)(1).

ص: 416


1- هذه المجموعة من الروايات في كتاب الكافي: 1/59-62 : باب: الرد الى الكتاب والسنة

وفي كتاب الكافي للشيخ الكليني رواية صحيحة عن ابي عبدالله الامام الصادق (علیه السلام) قال فيها (إن عندنا الجامعة، قلت: وما الجامعة؟ قال: صحيفة فيها كل حلال وحرام وكل شيء يحتاج اليهالناس حتى الارش في الخدش)(1)

وارش الخدش يعني التعويض المالي على الخدش البسيط في جلد الانسان.

حتى اشتهرت كلمة لدى الفقهاء (ما من واقعة الا ولله فيها حكم) بما فيها الحالات المستحدثة وهو ما يعرف بفقه النوازل أو مستحدثات المسائل أو فقه الحوادث الواقعة التي ورد فيها التوجيه عن الامام (علیه السلام) إلى الأمة (واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله)(2).

ودعا الامام الصادق (علیه السلام) الفقهاء المؤهلين لممارسة عملية الاجتهاد الى تفعيل هذه الملكة في استنباط الأحكام الشرعية، قال (علیه السلام) (إنما علينا أن نلقي اليكم الأصول وعليكم أن تفرّعوا)(3).

فمثلاً حينما توصل الطب المعاصر الى معالجة العقم بالإنجاب عن طريق التلقيح الصناعي حصلت مسألة مستحدثة لا توجد بعنوانها في كتب الفقه لذا تصدى عدد من الفقهاء للبحث عن حكمها، وبحثنا نحن في النصوص الشرعية عن حكم صورها المختلفة سواء جرت العملية بين الزوجين أو غير الزوجين

ص: 417


1- وسائل الشيعة: 29/ 356 ط. مؤسسة آل البيت (عليهم السلام)
2- وسائل الشيعة: 27/140
3- وسائل الشيعة: 27/61 أبواب صفات القاضي، باب 6 ح 51 ط. مؤسسة آل البيت (علیهم السلام)

وهل التلقيح داخلي أم خارجي؟ وهلتزرع البويضة الملقحة في رحم الزوجة او امرأة غيرها وغير ذلك من التفاصيل وقد خرجنا بأحكام صورها المختلفة وحررّناها مع ادلتها في كتاب مطبوع بعنوان (فقه الإنجاب الصناعي).

وبالرغم من ان السلطات الحاكمة اهتمت بالفقهاء وأغدقت عليهم الأموال ومنحتهم مكانة اجتماعية مرموقة الا ان تدخلها في عمل الفقهاء أَثَّر سلباً في أداء وظيفتهم، فقد كانت السلطة تريد فتاوى تشرعن اعمالها وتمرّر مشاريعها، وعانى الفقهاء الذين لم يمشوا مع اهواء السلطة من السجن والتعذيب والحرمان والقتل، ووصل الأمر بالسلطة الى اغلاق باب الاجتهاد وحصر المذاهب الإسلامية التي يجوز التعبد بها بالمذاهب المعروفة مما أدى الى انكماش في قدرة الفقهاء على الاستنباط، فصار الفقهاء مقيّدين يتحركّون ضمن مساحة المذهب الذي ينتمون اليه.

وفي موازاة ذلك حوصر الفقهاء الذين يتبعون أئمة أهل بيت النبي (صلی الله علیه و آله) وحرموا من المشاركة الفاعلة في مؤسسات الدولة وتسيير أمور الأمة مما أدّى تدريجياً الى اهمال المسائل المرتبطة بالسياسة والحكم وإدارة الدولة والاقتصاد والاجتماع والشؤون العامة لشعورهم بأنها لا موضوع لها على أرض الواقع بالنسبة لهم فلا تستحق بذل العمر في التحقيق فيها فاقتصروا على ما يعرف بالفقه الفردي أي التعريف بتكاليف الفرد وهو الموجود في الرسائل العملية.

ونتيجة لهاتين المشكلتين تراجع الفقه الإسلامي عن أداء وظيفته في تقديم الإسلام كنظام شامل للحياة وأصبحت قدرة الإسلام على قيادة البشرية

ص: 418

وهي تصل ذروة التطور المادي وما يرافقه من تعقيد ومشاكل مثار جدل وتساؤل.

لذا نحن مطالبون بأن نكون على مستوى المسؤولية لإبراز الشريعة الإسلامية كنظام قادر على إدارة شؤون المجتمعات المدنية المتحضرة وحل مشكلات البشرية مهما كانت معقدة، فنؤسس الفقه الاجتماعي ونؤصّل له، لأن أصول الفقه وقواعده المتداولة لا تسدُّ حاجة هذا المشروع، فللفقه الاجتماعي أصوله كما ان للفقه الفردي أصوله وقد يلتقيان في بعضها دون بعض، فمن أصول الفقه الاجتماعي قاعدة وجوب حفظ النظام الاجتماعي العام وتقديم الأهم على المهم وطاعة ولي الأمر، وقد تصح وفق هذه النظرة قواعد لم تكن مقبولة على صعيد الفقه الفردي كالمصالح العامة ودفع المفاسد وسدّ الذرائع بعد إقامة الدليل عليها.

وسنحتاج الى تثبيت الأسس الأخلاقية والمبادئ العليا لهذا الفقه مثل كرامة الانسان وحفظ حقوقه (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)(الإسراء:70) والعدالة الاجتماعية كما في قوله تعالى (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ) (الحشر:7) وقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)(النحل:90) وبناء المجتمع الصالح على أساس الأمربالمعروف والنهي عن المنكر.

ونستثمر هذه المناسبة لتجديد الدعوة إلى المذاهب الإسلامية كافة لفتح باب الاجتهاد اسوة بالمذهب الامامي لتحرير العقل الفقهي ومنحه القدرة على المواكبة، وحصر الإفتاء بالمجتهدين الذين يملكون هذه الموهبة لقطع الطريق على المتطفلين الذين شوّهوا صورة الإسلام بفتاوى التكفير والإرهاب

ص: 419

والتخلّف والجهل مستدلين بروايات هنا وهناك من دون إعمال الفطنة والنظر الثاقب لفهم مراد الشارع المقدس بجعل بعض النصوص قرائن وشواهد على المراد من البعض الآخر.

ان البحث في الفقه الاجتماعي ليس ترفاً فكرياً نابعاً من فراغ، وإنما هو ضرورة حضارية، لأننا نفاخر الأيديولوجيات والنظم الوضعية الأخرى بأن الإسلام هو الأصلح لتنظيم حياة البشرية وانه النظام الأكمل والمستوعب لكل حاجات الناس في كل الأزمنة وله القدرة على مواكبة التغيرات، وهذا كله يتطلب تقديم الإسلام كنظام يدير شؤون الحياة في جوانبها المتعددة، وهذا لا يكفي فيه النمط المتعارف في الرسائل الفقهية، بل علينا أن نقدّمه كأنظمة ونظريات وقوانين تقنع الآخرين بما عندنا ولا تتركنا عاجزين عن مجاراة الأمم في إدارة شؤونها.

وقد بُذلت خلال العقود الأخيرة محاولات جادة في تقديم نظريات الإسلام على هذا الأساس ورأينا نتاجاً مثمراً ومثيراً للفخر والاعتزاز في شتى المجالات الاقتصادية والسياسية والقانونيةوالاجتماعية.

ان الفقه الاجتماعي ليس بديلاً عن الفقه الفردي ولا يحيا بمعزل عنه فان الفقيه لا يكون (اجتماعياً) الا بعد أن يكون (فردياً) أي بعد أن ينال درجة الاجتهاد وفق الآليات المتعارفة في الحوزات العلمية، لأن الاستنباط في الفقه الاجتماعي نوع من التخصص في إعمال ملكة الاجتهاد فهو فقيه مُتخصِّص والمعروف أن التخصص في أي مجال علمي كالطب مثلاً يأتي بعد نيل أصل الملكة والقدرة على ممارسة المهنة.

ص: 420

وهذا التخصِّص يحتاج إلى أدوات إضافية كالخبرة بالواقع المعاش والمعرفة بالعلوم المرتبطة بهذا التخصّص ويكون مصداقاً للحديث الشريف عن الامام الصادق (علیه السلام) (العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس)(1)

ولكي يبدع في عمله فأنه يحتاج إلى مستشارين ومراكز بحثية ترفده بالبيانات التي تنقح موضوعات المسائل التي يريد النظر فيها، وهنا يبرز الدور المهم لأساتذة الجامعات والمتخصصين والنخب الفكرية.

إن هذه النهضة تتطلب وجود فقهاء من صنف خاص أستطيع أن أصفهم بالمنظّرين وهم الذين يستوعبون القضايا والمشاكل والمسائل المستحدثة ويفهمون أسرارها ثم يغوصون في أعماق الشريعةليستخرجوا من دررها ما يحلّ تلك المشاكل ويجيب المسائل وقد عرفت أروقة الحوزات العلمية في القرن الأخير نماذج فذة منهم كالمحقق النائيني والشيخ حسين الحلي والسيد الشهيد محمد باقر الصدر والسيد محمود الهاشمي (قدس الله ارواحهم جميعاً)، (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (التوبة:105).

ص: 421


1- تحف العقول: 259

خطاب المرحلة 655 : لا تهولنّكم قوة الباطل فإنها إلى فناء

بسم الله الرحمن الرحيم

(فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) (مريم :84)

لا تهولنّكم قوة الباطل فإنها إلى فناء(1)

يشعر المؤمنون والعاملون الرساليّون بالإحباط واليأس أحياناً عندما يرون الباطل يتسلط ويتفرعن، والفساد ينتشر، وتصبح للظالمين دولة تملك المال والاعلام والسلطة وكل أدوات الحرب الناعمة والخشنة، ولا تتورع عن استخدام أي وسيلة حتى القذرة منها لتحقيق أهدافها، وحينئذٍ ينكمش المؤمنون وينزوون ويتخلون عن واجبهم في الدعوة الى الله (تبارك وتعالى) وهداية الناس وإرشادهم وإصلاحهم.

فتأتي هذه الآية الكريمة وآيات كثيرة غيرها لتحليل هذه الظاهرة وعلاجها لتقول : إنّ هذا الشعور ناشئ من العجلة، فكأن المؤمنين يستعجلون النصر وتحقق النتائج التي يسعون من أجلها، ويريدون أن ينزل الله تعالى العقوبة على كل ظالم بمجرد صدور الظلم منه فلما تتأخر عليهم يشعرون بالإحباط والضيق، وهذا خلاف سنة الله تعالىالجارية في خلقه (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ

ص: 422


1- كلمة سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) التي القاها على جمع من الأعضاء الفاعلين في ملتقى العلم والدين من عدة محافظات يوم الجمعة 26 شعبان 1442 الموافق 2021/4/9 وقد افتتح حديثه هذا بقراءة سورة الفاتحة الى روح الشهيد السيد محمد باقر الصدر في ذكرى استشهاده وكل شهداء الإسلام.

بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا) (فاطر:45) فتنهى الآية الكريمة عن الانبهار بدولة الباطل والشعور بالإحباط لعدم نزول العذاب (فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ) لعدم وجود المسوغ للعجلة ، ففي دعاء الإمام السجاد (علیه السلام) (وإنما يعجل من يخاف الفوت وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف)(1) والمفروض أننا مؤمنون نعتقد جازمين بأنّ الله تعالى لا يفوته شيء وهو قوي ومقتدر قال تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) (إبراهيم:42) وقال تعالى: (لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) (مريم :94-95) فإمهالهم وبال عليهم، قال الله تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) (آل عمران:178) وستقودهم شياطينهم إلى الهلاك فلماذا العجلة.

ويتضمن الجزء الثاني من الآية تعليل عدم صحة الاستعجال بقوله تعالى (إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) فإن الله تعالى بهذا الإمهال يريد أن يقيم الحجة البالغة عليهم ويدعهم يستوفون مدّتهم كاملة ، وهم في كل لحظة تمرّ عليهم في الدنيا ومع كل نفس يلتقطونه يزدادون إثماً واستحقاقاً للعقاب، والله تعالى يعدُّ عليهم هذه الأنفاس حتى تنتهي، إذالمعدود ينقصه العدّ وتتأكل به، ففي التعبير كناية عن انتهاء أعمارهم ورجوعهم الى الله تبارك وتعالى، وكأن الله تعالى يملك في خزائنه لكل منهم عدد أنفاسه المكونة لعمره ويطلقها لهم واحداً بعد واحد حتى تنتهي، روى الشيخ الكليني بسنده عن عبد الأعلى قال: ( قلت لأبي

ص: 423


1- - الدعاء الثامن والاربعون من الصحيفة السجادية في يوم الجمعة والأضحى .

عبد الله (علیه السلام): قول الله عز وجل: " إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا " قال: فما هو عندك؟ قلت: عدد الأيام، قال: إن الآباء والأمهات يحصون ذلك، قال: لا ولكنه عدد الأنفاس)((1) فتصوروا أنّ آثامهم بقدر أنفاسهم فضلاً عما لو لوثوها بجرائمهم ومعاصيهم، فإن عدَّ الأنفاس في الحقيقة هو عدَّ للأعمال المثبتة في صحيفة الحياة حتى تتم الصورة التي يؤول اليها في آخرته ((فكما أن مكث الجنين في الرحم مدة يتم بها خلقة جسمه كذلك مكث الانسان في الدنيا لأن يتم بها خلقة نفسه وأن يعدَّ الله ما قدّر له من العطية ويستقصيه))(2)

لذا لا يصح استعجال الجزاء ثواباً وعقاباً لأن في استيفاء المدة اكتمالاً لحسنات المحسن فيثاب عليها، ولسيئات المسيء فيعاقب عليها.

ولذا جاءت هذه الآية الكريمة متفرعة بقرينة الفاء على الآية التي قبلها ( أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) (مريم:83) أي تهزهم وتدفعهم بقوة وازعاج نحو الشر والفساد وتحرضهم على اتباعالباطل

فتزيدهم ضلالاً إلى ضلالهم، وليس ذلك من باب الإكراه حتى تسقط المسؤولية عنهم، وإنما لأنهم هم من مكّنوا هذه الشياطين من أنفسهم وأطاعوهم وانقادوا لهم قال تعالى: (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (النحل:100) ، روى علي بن ابراهيم في تفسير هاتين الآيتين قال: (لما طغوا فيها وفي فتنتها ، وفي طاعتهم ، مدّ لهم في طغيانهم وضلالهم ، وأرسل عليهم شياطين الإنس والجن (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) أي تنخسهم نخسا وتحضّهم على طاعتهم وعبادتهم فقال

ص: 424


1- الكافي: ج3 / ص 259 / ح 33 .
2- الميزان في تفسير القرآن: 14/108

الله: "فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا " أي في طغيانهم وفتنهم وكفرهم)(1).

والخطاب في الآية وإن كان موجهاً إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) الا انه في الحقيقة لنا من باب (إياك أعني واسمعي يا جارة) والا فان هذه الحقيقة ماثلة امام القادة المعصومين (علیهم السلام) على نحو اليقين، وكشاهد على ذلك نذكر ما كتبه الامام الكاظم (علیه السلام) من سجنه إلى هارون العباسي وقال فيه: (إنه لن ينقضي عنّي يوم من البلاء إلّا انقضى عنك معه يوم من الرخاء حتّى نفضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون)(2).

هذا ما نفهمه من الآية الكريمة على المستوى الحركي ونتيجته النهيعن التبرّم وضيق الصدر والتقاعس والانزواء عندما يطول الزمن بالظلم وتتمكن دولة الباطل، وان على العاملين الرساليين الاستمرار في أداء واجباتهم ولا تكن نظرتهم ضيقة محدودة تقتصر على مساحة صغيرة من الزمن بل لينظروا الى الأفق البعيد.

ويمكن أن نفهم منها على الصعيد المعنوي والأخلاقي بأن الإنسان يجب أن يكون متيقظاً ملتفتاً عارفاً بقيمة وقته لأنه ليس مغفولاً عنه، فإن الله سبحانه يحصي عليه أعماله ويعدّ عليه أنفاسه التي وصفها أمير المؤمنين (علیه السلام) بقوله: (نفسُ المرء خطاه إلى أجله)(3) فكلّما أمدّه الله سبحانه وتعالى بنفس فكأنما قربّه إلى أجله حتى إذا استنفدها وانتهت مدته جاءه الأجل وعُرِض للحساب

ص: 425


1- - تفسير القمي ج2 / ص55 ، البرهان ج6 / ص216 / ح 8 .
2- - كشف الغمة ج 3 /ص 3.
3- - نهج البلاغة / قصار الكلمات / رقم 74 .

أمام الله تعالى، وكما يعدّ الله تعالى للإنسان أنفاسه فإنه يحُصي عليه أعماله فلا يغتر الإنسان العاصي الغافل عن الله تعالى بإمهال الله تعالى له.

روى علي بن إبراهيم في تفسير الآية قال: (نزلت في مانعي الخمس والزكاة والمعروف، يبعث الله عليهم سلطاناً أو شيطاناً، فينفق ما يجب عليه من الزكاة والخمس في غير طاعة الله(1) ويعذبه الله على ذلك)(2).فاذا علم الانسان أن كل شيء محسوب حتى أنفاسه فانه سيكون متيقظاً حاضر الذهن مراقباً لنفسه فيما يقول ويفعل.

ولا تخلو الآية من إشارة الى قُصر عمر الانسان مهما طال لأنه عبارة عن عدد من الأنفاس مهما كثُرت فأنها تنقص بالعدّ، قال أمير المؤمنين (علیه السلام): (كُلُّ مَعْدُودٍ مُنْقَضٍ وكُلُّ مُتَوَقَّعٍ آتٍ)(3) لذا ورد في الحديث عن الإمام زين العابدين (علیه السلام): (أكبر ما يكون الانسان يوم يولد، وأصغر ما يكون يوم يموت)(4).

فلابدّ أن يتدارك الانسان عمره ويراجع نفسه ويعيد ترتيب ملفاته كما يقال، وسيجد الله تعالى قريباً اليه رحيماً به ويساعده على تغيير كل حياته نحو الأفضل، روى الشيخ الصدوق بسنده عن الامام الصادق عن آبائه (علیهم السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (من أحسن فيما بقي من عمره، لم يؤاخذ بما مضى من

ص: 426


1- شرحنا هذه الفكرة في قبس الآية {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} راجع : من نور القرآن ج2 ص 91
2- - تفسير القمي : ج2/ ص53 ، البرهان ج6/ ص216 / ح 9 .
3- نهج البلاغة - خطب الإمام علي (علیه السلام) ج 1 - الصفحة 197.
4- من لا يحضره الفقيه ج1/ ص194.

ذنبه، ومن أساء فيما بقي من عمره أخذ بالأول والآخر)(1)، وهي فرصة عظيمة يوفرّها الله تعالى لعباده رحمةً بهم.

ويشير أمير المؤمنين (علیه السلام) الى القيمة العظيمة لهذا الانقلاب والانعطاف في حياة الانسان في أي لحظة تحصل من حياته ويصفهابأنها

(لا قيمة لها) أي لا يمكن تقييمها لعظمتها، قال (علیه السلام): (بقيةُ عمر المرء لا قيمة لها: يُدرِكُ بها ما قد فات ويُحيي بها ما مات)(2).

والغريب أن نجد بعض الناس يقضون هذه البقية الثمينة من أعمارهم بعد تقاعدهم عن العمل في المقاهي وعلى أرصفة الطرق باللهو والعبث والأحاديث الفارغة بل المحرمة فيخسرون هذه الفرصة الثمينة وفي الوقت الضائع بل القاتل.

ونحن اليوم في آخر جمعة من شعبان وهو من أعظم المناسبات لإجراء هذه المراجعة لاستقبال شهر رمضان بقلوب نقية ونفوس مقبلة على الطاعة، روى أبو الصلت الهروي قال: (دخلت على الامام الرضا (علیه السلام) في آخر جمعة من شعبان، فقال لي: يا أبا الصلت، إن شعبان قد مضى أكثره، وهذه آخر جمعة فيه، فتدارك فيما بقي تقصيرك فيما مضى منه، وعليك بالإقبال على ما يعنيك، وأكثر من الدعاء والاستغفار، وتلاوة القرآن، وتب إلى الله من ذنوبك، ليقبل شهر الله إليك وأنت مخلص لله عز وجل، ولا تدعنَّ أمانة في عنقك إلا أديتها، ولا في قلبك حقداً على مؤمن إلا نزعته، ولا ذنباً أنت مرتكبه إلا أقلعت عنه

ص: 427


1- أمالي الصدوق :111.
2- بحار الانوار: 6/138 / ح46.

واتق الله وتوكّل عليه في سرّ أمرك وعلانيتك (ومن يتوكل على الله فهو حسبه ان الله بالغ أمره، قد جعل الله لكل شيء قدراً، وأكثر من أن تقولفيما بقي من هذا الشهر " اللهم ان لم تكن قد غفرت لنا في ما مضى من شعبان فاغفر لنا فيما بقي منه)(1)، ونحن ندعو بما علمنا الامام الرضا (علیه السلام).

ص: 428


1- مفاتيح الجنان: 171 أعمال ما بقي من شعبان.

خطاب المرحلة 656 : مسؤولية المؤمنين عن إعمار المساجد

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (التوبة:18)

مسؤولية المؤمنين عن إعمار المساجد (1)

قال الله تبارك وتعالى (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (التوبة:18).

المساجد هي محالّ عبادة الله تعالى، وأُخذ اسمها من السجود لأنه أوضح اشكال العبودية، وتسمى بيوت الله وهذه الإضافة والنسبة للتشريف، روي عن أبي بصير قال (سألت أبا عبدالله (علیه السلام)عن العلة في تعظيم المساجد فقال: إنما أمر بتعظيم المساجد لأنها بيوت الله في الأرض)(2) وقال الامام الصادق (علیه السلام) أيضاً (عليكم بإتيان المساجد، فإنها بيوت الله في الأرض، ومن أتاها متطهراً طهره الله من ذنوبه، وكتب من زواره فأكثروا فيها من الصلاة والدعاء، وصلوا

ص: 429


1- كلمة القاها سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) بحضور أعضاء مجلس التخطيط والمتابعة للحوزة العلمية في النجف الأشرف يوم الجمعة 3 شهر رمضان 1442 الموافق 2021/4/16
2- الحديثان في بحار الأنوار: 84 / 6

من المساجد في بقاع مختلفة، فان كل بقعة تشهد للمصلي عليها يوم القيامة)(1).

و(إِنَّمَا) تفيد الحصر كما هو معروف فكأن عمارة المساجد مختصة بقوم تتوفر فيهم شروط خمسة: الايمان بالله تعالى وبالآخرة وإقامة الصلاة وايتاء الزكاة وأن لا يخشى أحداً غير الله تعالى، فكأن الاعتقاد والايمان لا يكفي ما لم يقترن بالعمل الصالح والإخلاص لله تعالى والحرص على إقامة منهجه الإلهي، وأن لا يطيع ولا يعبد الا الله تعالى فكأن في الآية كناية عن ذلك لأن الداعي الى العبادة والطاعة هو الخوف من العقاب، حتى الرجاء وطلب الكرم والرحمة هو في الحقيقة خوف من انقطاعها وفواتها.

والجملة يمكن أن تكون خبرية بمعنى أن من طبيعة المؤمن المتصف بهذه الخصال أن يعمر مساجد الله، وان المساجد لا يعمرها الا مثل هؤلاء، وهو معنى صحيح إذ كيف يتصور إعمار المساجد التي هي بيوت الله ممن لم يؤمن بالله تعالى ولا يدين له بالطاعة، كما في الحديث النبوي الشريف (عمّار بيوت الله هم أهل الله) وقوله (صلی الله علیه و آله) (من ألف المسجد ألفه الله)(2)،

وتدلُّ بالملازمة علىالمعنى المقابل وهو أن من يوفَّق لإعمار المساجد فان هذا العمل يكشف عن أن عمّارها ممن تحققت فيهم هذه الصفات.

ويمكن أن تفيد الجملة الانشاء فتتضمن تكليفاً بأن لا تقبلوا من أي أحد إعمار المساجد والمساهمة فيها الا من كان بهذه الأوصاف إذ ليس لمن لا

ص: 430


1- بحار الأنوار: 83/384
2- الدر المنثور: 3/216

يتصف بهذه الصفات حق في ذلك (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ) (التوبة:17) فلا تجاملوا أصحاب الأموال غير المشروعة وتداهنوهم من أجل تشييد المسجد، فليس لأصحاب الأيادي غير النزيهة التشرف بمثل هذا العمل المبارك (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (الحج:26)، وقد كان بعض المسلمين يرغبون بأن يستمر المشركون في زيارة البيت الحرام بعد نزول الوحي بمنعهم (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا) (التوبة:28) لما في مجيئهم من مصالح اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية فوبّختهم هذه الآية والتي سبقتها (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ) (التوبة:17) فلا خير يرجى من مساهمتهم في بناء المسجد أو تجمّعهم فيه وكذا كل الناس غير المؤمنين.

والشواهد على ذلك من تاريخ الإسلام كثيرة اذ لما تدّخلت الحكومات غير الصالحة في شؤون المساجد وأشرفت عليها وعيّنت مرتزقتها، أو أصبح بناء المساجد وسيلة لتباهي أصحاب الثروات غيرالمشروعة وتفاخرهم أو لإضفاء شرعية لأعمالهم، فقد المسجد روحه وفشل في تحقيق أغراضه.

والإعمار هو إدامة الحياة والوجود، ومنه سمي عمر الانسان لأنه يعني عمران حياة البدن بوجود الروح فيه، وإعمار المساجد:

قد يكون مادياً بتشييدها وترميمها وإصلاح الخراب فيها وهو الظاهر بمقتضى المقابلة من قوله تعالى في الآية التالية (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (التوبة:19).

ص: 431

وقد يكون معنوياً بإدامة الحضور فيه للعبادة والطاعة وإقامة الشعائر الخالصة لله تعالى فيها، والآية الكريمة تعطي أهمية للثاني، بدليل نفيه في الآية السابقة عن المشركين وسائر غير المؤمنين (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ) (التوبة:17) فلا تصدق عليهم عمارة المسجد الذي هو بيت الله تعالى وهم يعبدون فيها الأصنام ويتخذونها أرباباً من دون الله تعالى فهي شهادة فعليه منهم بالكفر، ويستفاد من هذا القيد عدم المانع من دخول غير المسلم الى المسجد اذا كان لأجل الاهتداء وطلب الحقيقة لأنه ليس شاهداً على نفسه بالكفر، حيث كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يستقبل فيمسجده الشريف اتباع الديانات الأخرى لكي يستمعوا الوحي ويتعرفوا على الرسالة الإسلامية.

وهذه العمارة المعنوية هي التي تُبرِزُ حقيقة المسجد وتؤدي رسالته الإلهية المفعمة بالخير والصلاح والرحمة والسعادة، والتي هدفها بناء الانسان الصالح والمجتمع الصالح، أما بناء الجدران والسقوف وزخرفتها فإنها لا قيمة لها إذا خلت من هذه الحقيقة حيث يتحول المسجد الى مكان للنزهة واللهو والعبث ويصير متحفاً يرتاده السوّاح كما حصل فعلاً.

ولذا اشترطت الآية في إعمار المساجد الشروط الخمسة لأنها المحركات نحو هذه الغايات النبيلة. وهذه العمارة المعنوية هي ما عبَّر عنها أمير المؤمنين (علیه السلام) وهو يرتجز حينما كان يشارك رسول الله (صلی الله علیه و آله) والصحابة في بناء أول مسجد في الإسلام عندما هاجر النبي (صلی الله علیه و آله) الى المدينة:

ص: 432

لا يستوي من يعمر المساجدا *** يظلُّ فيها راكعاً وساجدا

ومن يُرى عن الغبار حائدا *** يُعرِضُ عنه جاحداً معاندا

واستشهد بها عمار بن ياسر عند حفر الخندق معرّضاً ببعض الصحابة(1).

والخراب المعنوي هو ما يشكو منه المسجد يوم القيامة ومن عدم اهتمام الناس به، فقد روى جابر عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال (يجيء يوم القيامة ثلاثة يشكون: المصحف، والمسجد، والعترة، يقول المصحف: يا ربّ، حرّفوني وَمزّقوني، ويقول المسجد: يا رب، عطّلوني وضيّعوني، وتقول العترة: يا ربّ، قتلونا وطردونا وشردونا، فأجثو للركبتين في الخصومة فيقول الله عزّ وجلّ لي: أنا أولى بذلك منك)(2).

وروى الشيخ الكليني والصدوق عن الامام الصادق (علیه السلام) انه قال (ثلاثة يشكون إلى الله عزّ وجلّ: مسجد خراب لا يصلي فيه أهله، وعالم بين جهّال، ومصحف معلّق قد وقع عليه الغبار لا يقرأ فيه)(3).

وهذه الروايات شاهدة بمقتضى المقابلة على ان المراد من الاعمار في الآية الشريفة هو المعنوي.

ثم تقول الآية (فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (التوبة:18) ويمكن ان نذكر عدة وجوه لاستعمال (عسى) التي تفيد الاحتمال ظاهراً بدل الجزم بكونهم من المهتدين، منها:

ص: 433


1- بحار الأنوار: 19/124، 20 /243، عن تفسير القمي: 2/97 ومناقب ابن شهراشوب: 1/236 والديوان المنسوب الى أمير المؤمنين (علیه السلام) : 36
2- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (علیهم السلام) : ج5 / ص 202 / ح 2
3- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (علیهم السلام) : ج5 / ص 201 / ح 1

1- لأن احتمالات الاستقامة والانحراف تبقى مفتوحة وان قام بفعل المهتدين الآن، فعلى العامل المخلص أن يبقى دائماً في يقظة وحذر ولا يتكل على عمله ولا يترك منفذاً للعجب أو الرياء الى قلبه فان النفس الامارة بالسوء متربصة بصاحبها ويمكن ان توقع به في أية لحظة فتزل قدمه عن الطريق المستقيم.

2- ان حصول الاهتداء في فعلٍ ما - وهو هنا إعمار المسجد - مرة أو مرات من الانسان لا يلزم منه أن يصبح من (المهتدين) الا بعد ان يتحول الاهتداء الى صفة ذاتية راسخة من خلال التكرار والاعتياد والتحول الى ملكة.

3- ويحتمل أن يكون وجهه التعريض بالمشركين وأمثالهم بأن من يرجى أن يكون من المهتدين هم أهل هذه الصفات من عمّار المساجد وليس أنتم، ولا ينفعكم مجرد بنيان المسجد وإعمار ما خرب منه ففي هذا حث لهم على أن يكونوا مؤمنين مخلصين ليصبحوا من المهتدين.

إن رسالة المسجد في الإسلام عظيمة كما كان في عهد رسول الله(صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) فهو مظهر عزة الإسلام وقوة المسلمين، وهو مجمع المؤمنين ومحل احتشاد الأخوة فيالعقيدة، وعمارته ونشاطه علامة يقظة المسلمين، وفيه يتعلم الناس أمور دينهم ويناقشون قضاياهم المصيرية، ومنه تصدر القرارات المهمة، وتنطلق حركة الوعي والإرشاد والإصلاح وقوافل الخير والمعروف والدفاع عن الإسلام، وبوجوده تغلق منافذ المنكر والفساد والشر، وبه تتحقق مصالح اجتماعية وأخلاقية واقتصادية وسياسية وفكرية جمّة لايسع المجال لشرحها، فهو جماع الخير ومركز كل حركة إسلامية فاعلة.

ص: 434

ولا مجال في المسجد للعابثين والمنافقين، روى ورّام في كتابه قال (قال: يأتي في آخر الزمان قوم يأتون المساجد، فيقعدون حلقاً، ذكرهم الدنيا وحب الدنيا، لا تجالسوهم فليس لله فيهم حاجة)(1).

وروى الامام الصادق (علیه السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال (الجلوس في المسجد لانتظار الصلاة عبادة ما لم يُحدِث، قبل: يا رسول الله وما الحدث؟ قال: الاغتياب))(2).

لذا حث القادة المعصومون (علیهم السلام) على كلتا العمارتين المادية والمعنوية:

ففي العمارة المادية روى الشيخ الكليني بسند صحيح عن ابي عبيدة الحذاء قال (سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: من بنى مسجداًبنى الله له بيتاً في الجنّة. قال أبو عبيدة: فمرّ بي أبو عبد الله في طريق مكّة وقد سوّيت بأحجار مسجداً، فقلت له: جعلت فداك، نرجو أن يكون هذا من ذاك؟ قال: نعم)(3).

وروى البرقي في المحاسن أن أبا الصباح سأل الامام الصادق (علیه السلام) قال: (ما تقول في هذه المساجد التي بنتها الحاج في طريق مكّة؟ فقال: بخّ بخّ، تيك أفضل المساجد، من بنى مسجداً كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنّة)(4).

وورد في العمارة المعنوية:

ص: 435


1- وسائل الشيعة / ط. آل البيت: ج 5/ ص 214 / ح 4
2- بحار الأنوار: 83/ 384
3- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (علیهم السلام) : ج5 / ص 203 / باب 8 / ح 1
4- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (علیهم السلام) : ج5 / ص 203 / باب 8 / ح 6

قول النبي (صلی الله علیه و آله) : (سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله عزّ وجلّ، ورجل قلبه متعلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان كانا في طاعة الله عزّ وجلّ فاجتمعا على ذلك وتفرّقا، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال فقال: إنّي أخاف الله، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما يتصدّق بيمينه)(1).

وروى الامام الصادق (علیه السلام) عن جده رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله: (من كان القرآن حديثه والمسجد بيته بنى الله له بيتاًفي الجنة) (2)

وروى الامام الباقر قال (علیه السلام) (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لجبرائيل (علیه السلام): يا جبرائيل أي البقاع أحبّ الى الله عزوجل ؟ قال: المساجد، وأحبُّ أهلها إلى الله أوَّلهم دخولاً وآخرهم خروجاً منها)(3).

وقوله (صلی الله علیه و آله): (من مشى إلى مسجد من مساجد الله فله بكلّ خطوة خطاها حتى يرجع إلى منزله عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيّئات، ورفع له عشر درجات)(4).

وقول أمير المؤمنين (علیه السلام) في آثار التردد على المساجد (من اختلف إلى المسجد أصاب إحدى الثمان: أخاً مستفاداً في الله، أو علماً مستطرفاً، أو آية

ص: 436


1- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (علیهم السلام) : ج5 / ص 199 / ح 4
2- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (علیهم السلام) : ج5 / ص 198/ ح 2
3- الكافي : 3 / 489 ، ح 14 باب النوادر
4- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (علیهم السلام) : ج5 / ص 201 / ح 3

محكمة، أو يسمع كلمة تدلّه على هدى، أو رحمة منتظرة، أو كلمة تردّه عن ردى، أو يترك ذنباً خشية أو حياءً)(1).

وروى الديلمي في الارشاد عنه (علیه السلام) قوله: (الجلسة في الجامع خير لي من الجلسة في الجنّة، لأنّ الجنّة فيها رضى نفسي والجامع فيه رضى ربّي)(2) .وقول الامام الصادق (علیه السلام): (لا يرجع صاحب المسجد بأقلّ من إحدى ثلاث خصال : إما دعاء يدعو به يدخله الله به الجنّة ، وإمّا دعاء يدعو به فيصرف الله به عنه بلاء الدنيا، وإمّا أخ يستفيده في الله)(3).

وقوله (علیه السلام): (من مشى إلى المسجد لم يضع رجلاً على رطب ولا يابس إلاّ سبّحت له الأرض إلى الأرضين السابعة)(4).

وقال الشيخ الصدوق في ثواب الأعمال وفي علل الشرائع (روي أنّ في التوراة مكتوباً: إنّ بيوتي في الأرض المساجد، فطوبى لعبد تطهّر في بيته ثمّ زارني في بيتي، ألا إنّ على المزور كرامة الزائر، ألا بشّر المشائين في الظلمات إلى المساجد بالنور الساطع يوم القيامة)(5).

وقد كان النبي (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) يهددان بالعقوبة من يتخلف عن حضور الصلاة في المساجد لغير عذر فقد روي بسند صحيح عن عبدالله بن سنان عن الامام الصادق (علیه السلام): (سمعته يقول: إن أُناساً كانوا على عهد

ص: 437


1- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (علیهم السلام) : ج5 / ص 197 / ح 1
2- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (علیهم السلام) : ج5 / ص 199 / ح 6
3- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (علیهم السلام) : ج5 / ص 193 / ح 2
4- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (علیهم السلام) : ج5 / ص 200 / ح 1
5- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (علیهم السلام) : ج5 / ص 244 / باب 39 / ح 1

رسول الله (صلی الله علیه و آله) أبطأوا عن الصلاة في المسجد، فقال رسول الله(صلی الله علیه و آله): ليوشك قوم يدعون الصلاة في المسجد أن نأمر بحطب فيوضع على أبوابهم فتوقد عليهم نار فتحرق عليهم بيوتهم) (1).

أيها الأحبة:

هذا بعض ما ورد في عظمة المساجد وبركتها على الفرد والمجتمع، وقد لمسنا ذلك على أرض الواقع، فكلما كانت المساجد عامرة وفاعلة كان المجتمع في خير لذا فنحن مطالبون اليوم ب- (صحوة) و (يقظة) وقيام استجابة لقوله تعالى (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ) (سبأ:46) فننفض عنا ركام هذه الغفلة والتقصير في حق المساجد بل في حق أنفسنا إذ لم نستثمر هذه الفرصة العظيمة للطاعة التي أتاحها الله تبارك وتعالى حتى لا نكون ممن يشكوهم المسجد كما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (علیه السلام): (ثلاثة يشكون إلى الله عز وجل: مسجد خراب لا يصلي فيه أهله، وعالم بين جهال، ومصحف معلق قد وقع عليه الغبار لا يقرأ فيه)(2).

وعلينا ان نستفيد من زخم المسجد وقوته وآثاره المباركة في المواجهة الحضارية التي يخوضها الإسلام مع اعدائه داخل بلاد المسلمين وخارجها لمحق الإسلام.

إن الفرصة متاحة اليوم لنشر المساجد ومحالّ العبادة وإقامة الشعائرالدينية في كل مكان ولو بأبسط اشكالها، كغرفة كبيرة تتخذ حرماً للصلاة مع مغاسل

ص: 438


1- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (علیهم السلام) : ج5 / ص 194 / ح 2
2- وسائل الشيعة:كتاب الصلاة، أبواب حكام المساجد، باب 5، ح1.

للوضوء، من دون الحاجة الى أبنية ضخمة، نعجز عن تفير أموالها، والمهم تأسيسها على التقوى (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (التوبة:108).

أهمية الإعمار المعنوي:

والأهم من الإعمار المادي هو الإعمار المعنوي الذي تشكو منه المساجد في الحديث المتقدم، وإعمارها يكون بإقامة الصلوات فيها والذكر والدعاء وبيان الأحكام الشرعية والأخلاق الفاضلة وتهذيب النفوس ومجالس الوعظ والإرشاد وذكر فضائل أهل البيت (علیهم السلام) ومظلوميتهم والشعائر الدينية، وجعلها خالصة لله تعالى (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) (الجن:18) وعدم تشويش المؤمنين بالدعوات الشخصية والفئوية وتجنيبها ما ينافي قدسيتها من المحرمات واللغو واللهو وأعمال الدنيا، وفي ذلك ورد عن أبي ذر (رضوان الله عليه) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال:(يا أبا ذر الكلمة الطيبة صدقة وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة، يا أبا ذر من أجاب داعي الله وأحسن عمارة مساجد الله كان ثوابه من الله الجنة، فقلت: كيف يعمر مساجد الله؟ قال: لا ترفع الأصوات فيها ولا يُخاض فيها بالباطل ولا يشترى فيها ولا يباع واترك اللغو ما دمت فيها، فإن لم تفعلفلا تلومن يوم القيامة إلا نفسك)(1).

ومن وصايا النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر (رضوان الله عليه): (يا أبا ذر: كل جلوس في المسجد لغو إلا ثلاثة: قراءة مصلٍّ أو ذكر ذاكر الله تعالى أو سائل

ص: 439


1- المصدر، باب 27، ح3.

عن علم)(1).

من بركات إعمار المسجد:

إن من بركات إعمار المساجد وإحيائها دفع البلاء عن الأمة وما أحوجنا إليه ونحن نسأل الله تعالى ان يكشف عنا هذا الوباء، روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال:(إن الله تبارك وتعالى ليريد عذاب أهل الأرض جميعاً حتى لا يحاشي منهم أحداً إذا عملوا بالمعاصي واجترحوا السيئات، فإذا نظر إلى الشيّب ناقلي أقدامهم إلى الصلوات، والوُلدان يتعلمون القرآن رحمهم الله فأخّر ذلك عنهم)(2)

ومن وصايا النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر:(يا أبا ذر: يقول الله تعالى: إن أحب العباد إليّ المتحابون بجلالي المتعلقة قلوبهم بالمساجد المستغفرون بالأسحار، أولئك إذا أردت بأهل الأرض عقوبة ذكرتهم فصرفت العقوبة عنهم)(3).

فسارعوا أيها المؤمنون (إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران:133).

إن أولى من يخاطب بوجوب التحرك لإعمار المساجد هم فضلاء الحوزة العلمية لأنهم بهم ينعقد نظام هذه الحركة المباركة وإمام المسجد هو القائد الديني والاجتماعي في منطقته، وقد عرضت في خطاب سابق(4) عدة خطوات

ص: 440


1- بحار الأنوار:83/370.
2- وسائل الشيعة:كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساجد، باب 3، ح3.
3- بحار الأنوار:83/370.
4- راجع كتاب (شكوى المسجد) و (خطاب المرحلة: 1/425-445)

لإعمار المساجد وتفعيل دورها في حياة الأمة نعيد التذكير بها مع إضافة خطوات أخرى منها:

1 - إشغال كل مسجد مهما كان بسيطاً ونائياً بإمام يقيم فيه الشعائر، وإذا خلت منطقة أو ناحية من مسجد فيمكن اتخاذ غرفة كبيرة في أحد البيوت مما يعرف بالمضيف أو الديوانية أو غرفة الاستقبال ويُتخذ لها باب خارجي يفتح للمصلين في أوقات الصلوات ولإقامة الشعائر الدينية وتجهيزها بمكبر صوت لرفع الآذان، ولا أعتقد أنّ هذا يكلّف شيئاً يذكر في قبال ما أعدّ الله لفاعله من الخيرات والبركات.

2 - الحرص على إقامة صلاة الجماعة في المسجد فإنها مفتاح البركات ولا تختص بالفرائض اليومية بل تشمل الصلاة في العيدين وعند حصول الخسوف والكسوف، ولقد ثبت بالتجربة أنّ المسجد الذي تقام فيه صلاة الجماعة يكون أكثر فاعلية واجتذاباً للناس من المسجد الخالي منها، وهم على حق في ذلك من أكثر من جهة:

أ - الثواب العظيم الذي أعدّ للمصلي جماعة بحيث إذا بلغ عدد المصلين عشرة فلا يحصي ثواب الجماعة إلا الله تبارك وتعالى.ب - إنّ وجود إمام الجماعة يلزم منه تحقيق فوائد كثيرة كإجابة الاستفتاءات وقضاء الحوائج الاقتصادية والاجتماعية وإلقاء المحاضرات في الوعظ والإرشاد وتبليغ الأحكام.

3 - اختيار إمام الجماعة المخلص لله تبارك وتعالى الحريص على المصالح الاجتماعية أكثر من مصلحة نفسه، وأن يكون ذا فضيلة علمية

ص: 441

ليستطيع تلبية احتياجات المجتمع الفكرية والفقهية والثقافية.

4- ان ينظم حلقات دراسية يتعلم فيها الناس أمورهم الدينية من عقائد واخلاق ومسائل الحرام والحلال خصوصاً المسائل الابتلائية وان يحث الشباب الواعين المثقفين الفطنين على الالتحاق بالحوزة العلمية في النجف الاشرف لينهلوا من معينها ويعودوا الى مجتمعهم مبلغين دُعاة الى الله تبارك وتعالى وأقل ما يجزيه من النشاط هو إلقاء محاضرة في الأسبوع مرة تطبيقاً لرواية الامام الصادق (علیه السلام) عن جده رسول الله (صلی الله علیه و آله): (أفٍّ لرجل لا يفرّغ نفسه في كلّ جمعة(1)

- أي أسبوع – لأمر دينه فيتعاهدوه ويسأل عن دينه) (2)،

ولما كانت فرصة القراءة والتفقه ليست متاحة لكلّ أحد لأسباب شتى فعلى إمام المسجد توفير هذه الفرصة للمجتمع، وبذلك فهو يعينهم على امتثال أمر الإمام،فإن دوره في المجتمع، يتمثل بتقريب الناس إلى طاعة الله تبارك وتعالى بتكثير فرصها وفتح المزيد من أبوابها، وتقليل فرص المعصية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

5 - إحياء الشعائر الدينية ومناسبات أهل البيت (علیهم السلام) جميعاً، وعدم الاكتفاء بشهر رمضان وشهر محرم، وأؤكد هنا على ضرورة إقامة المجالس

ص: 442


1- كان سماحة الشيخ يلقي خطبة أسبوعية بعد صلاة الظهر يوم الجمعة في جامع حي الكرامة في النجف حيث كان يؤم الجماعة ابتداءاً من عام 1995.
2- أصول الكافي: 1 / باب سؤال العالم وتذاكره ح 5

في المساجد(1) لعدّة أمور، فهي أبعد عن الرياء والعجب ويكون الحضور فيها خالصاً لله لا مجاملة لأحد، وفيها إعطاء أهمية للمسجد في حياة الناس، ولاقترانها بصلاة الجماعة عادة، ولأنها اعظم أجراً لما ذكرنا من أنّ الجلوس في المسجد عبادة.

6 - إقامة المسابقات الدينية والثقافية خصوصاً في شهر رمضان وليالي وأيام الجمع، وتعيين الجوائز للفائزين، وهذا يحقق أكثر من ثمرة:

أ - حثّ المؤمنين على قراءة الكتب والازدياد من العلم والمعرفة ليكونوا بمستوى المسابقات.

ب - حثّهم على الحضور في المساجد لما في جو المسابقات من متعة وفائدة وتسلية.7 - وضع لوحة إعلانات يسجل فيها كلّ يوم شيء جديد، كحديث شريف له ثمرة اجتماعية أو أخلاقية أو عقائدية، أو تدوّن فيها بعض الأحكام الابتلائية، أو استفتاءات مستحدثة، أو خبر نافع عن الحوزة، أو عن إصدار جديد، أو إلفات النظر إلى حالة اجتماعية منحرفة، أو معاملة باطلة تجري في السوق وتصحيح ذلك وفق الضوابط الشرعية، وأي شيء آخر يشدّ الناس إليها ويجعلهم في تفاعل مستمر مع المسجد.

8 - إنشاء حلقات تعليم القرآن الكريم قراءةً وتفسيراً وعقد المحافل

ص: 443


1- كان سماحة الشيخ يعقد مأتماً أسبوعياً بعد صلاتي المغرب والعشاء جماعة في جامع الكرامة مساء الأربعاء، وفي ذكرى شهادة المعصومين (عليهم السلام) والعشرة الأولى من محرم الحرام ويجلب لذلك عدداً من الخطباء.

القرآنية لشد الناس الى ثقل الله الأكبر.

9 - تأسيس مكتبة ولو بسيطة في كلّ مسجد تضم مجموعة من الكتب الدينية والثقافية التي يحسُن بالمسلم الإطلاع عليها.

10- أن يبذل إمام المسجد وسعه في قضاء حوائج الناس فيزوِّج هذا الشاب المتعفف ويساعد ذلك المحتاج ويُوجِد فرصة عمل لهذا العاطل وهكذا، مع مشاركتهم في مناسباتهم الاجتماعية وأفراحهم وأحزانهم حتى يكون للجميع كالأب والأخ الشفيق الرحيم وبذلك ينجذب الناس إلى المسجد ويجدون فيه المنقذ والمأوى والكهف الحصين.

11- أن يتشكل في المسجد موكب لإحياء الشعائر والمناسبات الدينية ولجان ومجاميع لإدارة مختلف النشاطات المطلوبة بحسبرغبات العاملين ومؤهلاتهم، فمجموعة للأعمال الخيرية والإنسانية ومساعدة العوائل، وأخرى للعلاقات الاجتماعية ولجنة للعمل الثقافي تتولى إصدار النشرات الجدارية والورقية وتوزيعها، ولجنة لرعاية الشباب وأخرى لتنظيم السفرات الدينية أو الترفيهية وهكذا.

12- ولا تقتصر هذه الحركة الفاعلة على الرجال، فللنساء نصيبهن بل الحظ الأوفر لهن لأن المجتمع النسوي أحوج إلى الرعاية بسبب طول الإهمال والحرمان وشدة المعاناة وضغط العوائق الاجتماعية وبعض رواسب التعصب والجهل والأنانية، فتُخصَّص حسينيات أو دور للعمل النسوي وتتصدى له المبلغات الرساليات، وقد توفرت المئات منهن بفضل الله تبارك وتعالى، فالساحة مهيأة لأداء هذه الرسالة الإلهية.

ص: 444

إن في هذه الحركة المباركة استجابة لدعوة الله تعالى ورسوله (صلی الله علیه و آله) قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال : 24).

وأنت ترى إنّ المسؤولية متبادلة بين الحوزة الدينية والمجتمع فإن بعضهم يكمل بعضاً، فالحوزة ترشد المجتمع وتوجهه إلى طريق الصلاح، والمجتمع يطبّق ويمتثل ويمارس دور الشاهد على الحوزة ليقيّمها هل أدّت دورها كما ينبغي.

وتتعاظم الفرصة والمسؤولية مع إطلالة شهر رمضان المبارك وإقبالالناس على الطاعة والحضور في المساجد، وفقنا الله تعالى وإياكم لما يحب ويرضى.

ص: 445

خطاب المرحلة 657 : الفوائد النفسية والاجتماعية في التردد على المساجد

بسم الله الرحمن الرحيم

(فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (التوبة:108)

الفوائد النفسية والاجتماعية في التردد على المساجد(1)

(فِيهِ) أي في المسجد إشارة الى ما تقدم من الآية الكريمة (لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ).

فالمسجد الذي يُشيَّد على أساس التقوى والاخلاص هو الذي يستحق ان تقوم فيه للصلاة والذكر وسائر الطاعات، لا المسجد الذي يؤسس رياءاً وسمعة أو نفاقاً أو ضراراً وتفريقاً بين المسلمين أو نحو ذلك، لأن مسجد التقوى يضم أناساً يحبون أن يتطهروا بحضورهم في المساجد أي يتنزهوا عن الرذائل والنقائص والعيوب، فتراهم يتسابقون لنيل الكمالات الروحية وتهذيب نفوسهم وتنقية قلوبهم، وقد وصفت آية أخرى جانباً من تطهرهم في قوله تعالى (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ* رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌوَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) (النور:36-37).

ص: 446


1- الكلمة التي القاها سماحة المرجع الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) يوم السبت 25 شهر رمضان 1442 الموافق 2021/5/8 على حوالي 150 شاباً من مختلف المحافظات كانوا يقضون المعايشة الرمضانية في النجف الاشرف في العشر الاواخر من الشهر.

وهذا التطهر المعنوي شامل في أول درجاته للتطهر المادي من الخبث لذا وردت بعض الروايات التي تفسِّر التطهّر بغسل موضع الغائط بالماء، ثم التطهر المعنوي من الحدث بالوضوء، ويظهر من الآية أن وجود هؤلاء المتطهرين في المسجد المؤسَّس على التقوى بيان لصفة من صفات هذا المسجد، أو إنه علة وكأنَّه هو السبب الذي جعله أحق ان تقوم فيه للصلاة.

وهؤلاء المهتمون بالتطهير يحبّهم الله تعالى، وهي الحقيقة التي أكدها قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة:222) فلا يريدون من حضورهم في المساجد رياءاً ولا سمعة ولا لخداع الناس أو التسلط عليهم والتعالي باسم الفضيلة.

وهذا العنوان الجميل (الْمُتَطَهِّرِينَ) يلخص كل ما يتصف به هؤلاء من معاني النقاء والسمو والعفاف والنبل والخير والمعروف، والواقع يشهد على ذلك فان المسلمين هم الأمة الوحيدة التي تعتني بالطهارة المفصَّلة من الخبائث، ونظافة البدن والثوب من اعيان النجاسات، وكثرت فيها أحكام الشريعة حتى كان كتاب الطهارة من أضخم الكتب الفقهية، وقد عرفهم به اعداؤهم أيضاً حينما أرادوا أن يلخصّوا توصيف سلوكهم العفيف وتحليهم بالفضائل واجتنابهم الفحشاء والمنكر والبغيوالظلم والخبائث قالوا عنهم (إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (النمل:56) ولكن ماذا كان ردّهم العاجز (أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (الأعراف:82) وقد تكرر الحدث في القرن الماضي عندما انفصل المسلمون عن الهندوس في الهند وأسسوا دولة جديدة اسمها باكستان وهي تعني دولة الانقياء والمتطهرين.

ص: 447

والتطهير سبب لتلقي الكمالات والمعارف الإلهية، قال تعالى (فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (الواقعة:78-79) أي أن حقائق القرآن الكريم ومعارفه التي فيها تبيان كل شيء في كتاب مكنون في لوح محفوظ لا يصل اليه ولا يطّلع عليه الا المطهَّرون، ومن هم المطهَّرون؟ انهم النبي وأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين)، لأنهم بلغوا الغاية في الطهارة والعصمة قال تعالى (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (الأحزاب:33)، أما غيرهم فينالون من حقائق الكمال والمعرفة بقدر درجاتهم من الطهارة المعنوية، قال تعالى (فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) (الرعد:17).

وتطهير القلب من الاغلال، والنفس من الادران هو غرض التشريعات الإلهية قال تعالى (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) (الأحزاب:53) وقال تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا) (التوبة:103) وقال تعالى (وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) (المائدة:6) وقال تعالى(ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة:232) وقال تعالى (فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ) (المجادلة:12).

هذا بيان مختصر لمعنى الآية، وما نريد أن نقتبسه من نورها أنها تبيّن عنوانين رئيسيين للثمرات الحاصلة من التردد على المساجد والتجمعات الإيمانية وهما:

1- نيل الكمالات الروحية بتطهير القلب وتهذيب النفس وتنزيههما عن الرذائل الخلقية والنقائص والعيوب.

ص: 448

2- اعلان الانتماء الى الجماعة الصالحة المؤمنة وهم المتطهرون.

ويتضمن كل من العنوانين عدة ثمرات جمعها أمير المؤمنين (علیه السلام) بقوله (من اختلف إلى المسجد أصاب إحدى الثمان: أخاً مستفاداً في الله، أو علماً مستطرفاً، أو آية محكمة، أو يسمع كلمة تدلّه على هدى، أو رحمة منتظرة، أو كلمة تردّه عن ردى، أو يترك ذنباً خشية أو حياءً)(1)،

أي يحصل على احداهن على الأقل والا فان المتوقع تحصيلها جميعاً بفضل الله تعالى، ونقل الشيخ الصدوق أيضاً حديثاً آخر بلفظ مقارب عن الحسن بن علي (علیهم السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله).

ويمكن توضيح هذه الثمرات ضمن نقاط:

1- نيل الثواب والقرب من الله تعالى والسمو الروحي: باعتبار أنّ هذا العمل فيه طاعة لله تبارك وتعالى وذكر له (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)(الرعد:28)، فيوفّر فرصة للعبد المؤمن في التقرب إلى الله سبحانه والرقي في مدارج الكمال، وتفيد الأحاديث الشريفة ان مجرد الحضور في المسجد يحقِّق هذه الثمرة، فاذا صلّى فيه تضاعف، فاذا كانت الصلاة في جماعة تضاعف أكثر، وقد ذكرنا جملة من هذه الأحاديث في قبس (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ) (التوبة:18)، ومنها قول رسول الله (صلی الله علیه و آله) (من مشى الى مسجد من مساجد الله فله بكل خطوة خطاها حتى يرجع الى منزله عشر حسنات ومحى عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات)(2)،وعن أبي عبد الله

ص: 449


1- كتاب الخصال للشيخ الصدوق: ج2 / ص409
2- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (علیهم السلام) : ج5 / ص 201 / ح 3

(علیه السلام) قال: (من أقام في مسجد بعد صلاته انتظاراً للصلاة فهو ضيف الله، وحقّ على الله أن يُكرم ضيفه)(1).

وكلٌ منّا يحس بوجدانه حالة السكينة والطمأنينة وسمو الروح وهو يدخل هذه المشاهد المشرفة، قال أمير المؤمنين (علیه السلام): (الجلسة في الجامع خير لي من الجلسة في الجنّة، لأنّ الجنّة فيها رضى نفسي، والجامع فيه رضى ربي)((2).

2- الجهة التربوية: فإن المسجد أحد المراكز التي يتلقى الإنسان فيه تربيته كالبيت والمدرسة، بل إنّ ما يناله الفرد من التربية في المسجد أهم وأكمل باعتباره متمحضاً في الخير، ولا يتصور فيه الانحراف والزيغ كالذي يمكن في البيت أو المدرسة، وإنّ الكثير من المؤمنين لم يحصل على تربيتهم فيهما لخلوهما من الصلاح، وإنمّا نالوا تربيتهم في المسجد، ومهما تراجع دور البيت والمدرسة في تنشئة الجيل نشأة صالحة فإن المسجد باقٍ يؤدي وظيفته، كما أنّ هناك بعض الجرعات الإيمانية الواعية تعجز عن إعطائها الأسر الاعتيادية لأبنائها فيضطلع بها المسجد الذي ما زال يركّز في نفوس مرتاديه حب الله وعدم الانخداع بأمور الدنيا ونبذ العادات السيئة كالكلام الفاحش والتنابز بالألقاب والمزاح المهين، والتغلب على الأمراض النفسية كالبخل والحرص والغرور والغضب والتكبر والعجب والرياء وحب النفس، والتحلي بالأخلاق الفاضلة كالإيثار والصبر والحلم والشجاعة والكرم والعطف واللين والتسامح والتواضع وحب الخير للآخرين، وبهذا تكتمل شخصية الفرد المؤمن وينعكس

ص: 450


1- بحار الأنوار: 85/351
2- 3- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (علیهم السلام) : ج5 / ص 199 / ح 6

ذلك واضحاً منه على علاقاته الاجتماعية وعلى أسرته، بل نراه يرجع إلى أسرته التي لم تعطه ما أعطاه المسجد فيفيض عليها مما رزقه الله من فيوضاته في المسجد، والشواهد على ذلك كثيرة في مجتمعنا(1).

3- الجهة العلمية والثقافية: فإن المسجد سيفتح لمرتاديه فرصاً عديدة للاستزادة من العلم النافع والثقافة المفيدة من خلال الدروس والمحاضرات الفقهية والأخلاقية والعلمية التي تعقد في المسجد، أو الاستفادة من إصدارات ونشرات العلماء والمفكرين التي تصل إلى المسجد، أو إجابة الأسئلة المختلفة التي تصل إلى أمام المسجد، أو استعارة الكتب الموجود فيه، أو من خلال اللقاءات والحوارات التي تدور مع المثقفين والواعين من مرتادي المسجد.

4- الجانب الانتمائي والارتباطي: فإن الإنسان بطبعه يميل إلى الانتماء للجماعة ولا يجد لنفسه قيمة الا عندما يكون جزءاً من جماعة. ولا يستطيع أن يعيش وحده، فلا يحس بوجوده الكامل إلا من خلال انتمائه للجماعة، فترى أحدهم يفتخر بانتمائه الى القومية أو البلد أو العشيرة لأنه يحسّ بأن انتماءه هو هويته، وآخر ينتمي إلى جماعة الرياضيين وتؤسَّس روابط لمشجعّي أندية الكرة، وآخر ينتمي إلى رواد الفن واللهو، وآخرون إلى الاتجاهات السياسية والفكرية وغيرها، وأيّ انتماء أفضل من ذلك الذي يحقّقه له وجوده في المسجد فيشعر بأنهّ عضو في الجماعة المؤمنة الصالحة هذا الكيان المقدس الذي رأسه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأركانه أمير المؤمنين والأئمة الطاهرون (علیهم السلام)

ص: 451


1- فكثير من الشباب هم الذين أثرّوا في آبائهم وأمهاتهم وذويهم بسبب المسجد فأصبحت العملية معكوسة فالمسجد هو الذي يربي.

من ولده، وأفراده المتبعون لسيرتهم من الراضين المرضيينالفائزين، والجميع تحت ظل ورعاية وولاية الله تبارك وتعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ) (محمد:11)، وكفى بذلك خسراناً للذين لهم أولياء من دون الله تبارك وتعالى.

5- الاحساس بقوة وعزة الإسلام ووحدة صف المسلمين، وتوحي بهذا صلاة الجماعة والجمعة والعيدين والشعائر الاجتماعية الأخرى التي هي من أبرز مظاهر قوة الإسلام والمسلمين، وتدل على اهتمام الإسلام وتشريعاته بنظام الكيان الموحد والروح الجماعية.

6- تقوية الأواصر الأخوية الإيمانية بين الأفراد من خلال تعرّف بعضهم على بعض، وإليه أشار في حديث الثمانية: (أخاً مستفاداً في الله) والتواصل والتزاور بينهم، والتكافل الاجتماعي بين المسلمين من خلال المساعدة في قضاء حوائجهم، وحل مشاكلهم، والتفكير في المشاريع الخيرية ذات المصلحة العامة كبناء وترميم المدارس والجمعيات التعاونية ومؤسسات الرعاية الاجتماعية خصوصاً الأرامل والأيتام، وقد يكون المسجد وسيلة للتعارف المؤدي الى التزويج أو الى إيجاد فرص عمل باعتبار أن الأمان الحضور فيه شاهد على تحقق صفة الأمانة والوثاقة..

7- حصول الاستقرار والسكون في نفس الإنسان المؤمن عند لقائه بإخوانه في المسجد، ويدلّ عليه قول الإمام الصادق (علیه السلام):(إنّ المؤمن ليسكن إلى المؤمن كما يسكن الظمآن إلى الماء البارد)(1).

ص: 452


1- الكافي ج 2 : 247

8- تحقق الفرصة الواسعة لممارسة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي هي أسمي الفرائض وأشرفها كما وصفها الامام (علیه السلام) اذ المتوقع أن يضمّ المسجد من يعينه على ذلك ويشخّص له التصرف السليم، وإليها أشار حديث الثمانية: (أو كلمة تردُّه عن ردى أو يسمع كلمة تدلّه على هدى).

9- يعتبر المسجد المشخّص الأول لما موجود في المجتمع من سلبيات لأنه ملتقى كلّ الطبقات، وإليه ترد جميع أنواع السلبيات والمشاكل، وبذلك فالتوجيهات بخصوص هذه المشاكل تصدر منه، والمجتمع يكون ميدان تطبيق ما يأمر به المسجد.

10- اطلاع المسلمين على القضايا والأحداث الآنية التي تهمهم ومواكبتها خاصة تلك التي تهدد كيان الإسلام ووحدته، لذا فالمسجد يربّي المجتمع على الاهتمام بأمور المسلمين، وقد ورد في الحديث: (من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم)(1).

11- يمثل المسجد مظهراً لوحدة المسلمين وتذويب خلافاتهم، ويوجّه دعوة للتقريب بينهم، لأن القلوب تتوحد فيه على ذكر إله واحد، وتتوجه نحو قبلة واحدة، وتتلو كتاباً واحداً في صفوف متراصة لا يفرّقبينهم اختلاف توجهاتّهم ما دامت كلها تستقي من منابع الرسالة، وخير موضع تتجسد فيه هذه الحقيقة المسجد الحرام في مكة المكرمة حيث يدرك المسلمون إنهّم وإن تفرقت أقطارهم واختلفت أنسابهم وألسنتهم وألوانهم، تجمعهم جامعة الدين والعقيدة، وأنهّ إذا جدَّ الجد وجب أن يضحي كلّ فريق منهم بمصالحه الخاصة

ص: 453


1- بحار الأنوار: ج 75/ ص66

في سبيل المصلحة المشتركة.

12- يمثل المسجد جهة إعلامية مرعبة لأعداء الإسلام، وذلك لأنهّ المبرز لنقاط القوة في الدين الإسلامي، والتي تميزه عن باقي الأديان والاعتقادات والأيديولوجيات، وهو بذلك ليساهم بشكل فعال في تحسين سمعة الدين الإسلامي، وترغيب أفراد باقي الأديان للدخول فيه، وقد اعتنق كثيرون الإسلام لمّا شاهدوا مساجد المسلمين وشعائرهم ومشاعرهم(1).

13- المسجد وسيلة مهمة لتقليل الفوارق الطبقية الاجتماعية والاقتصادية بين أفراد المجتمع، ولعل أوضح مصداق من المساجد في تطبيق هذه الفائدة هو المسجد الحرام وذلك أثناء شعائر الحج حيث اللباس الواحد والحركة الواحدة.

والخلاصة ان الإسلام بقوته وعزته وأحكامه وتشريعاته ووحدةأبنائه وقدرته على إصلاح الناس وإسعادهم يتجسد في المسجد الفاعل المبني على التقوى، وإن المسجد ليس فقط محل عبادة بل هو مقر قيادة ومدرسة للتربية والوعي ومنطلق لأعمال الخير والمعروف وحصن من الضلال والانحراف والفساد وعلينا ان نلتفت ان محور تحصيل هذه الثمرات وتحقيقها هو إمام المسجد مما يرفع سقف طموحنا بأن لا نكون من رّواد المساجد فقط بل أئمة فيها لنحصل على مجموع الفوائد التي يحصل عليها جماعة المسجد بفضل الله تعالى وكرمه، وهذا نداء للحوزة العلمية أن تأخذ دورها في تفعيل هذه

ص: 454


1- - تقرأ قصصاً كثيرة عن الذين اعتنقوا الإسلام كما في كتاب (لماذا اخترنا الإسلام؟) للسيد محمد رضا الرضوي، وهناك الكثيرون ممن دخل الإسلام تأثراً بمشاعر المسلمين داخل مساجدهم.

التجمعات المباركة، وللشباب المثقف الواعي الرسالي أن يلتحق بالحوزة العلمية ليؤهل نفسه لنيل هذا الشرف العظيم وهو من استجابة الدعاء للدولة الكريمة في زمان الغيبة (وتجعلنا فيها من الدعاة الى طاعتك والقادة الى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة).

هذه الثمرات وغيرها(1)

تجعل الحياة في المساجد ألذّ وأحبّ حالة يعيشها الانسان ويصوَّرها لنا الإمام السجاد (علیه السلام) بما رواه حفيده الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (إن علي بن الحسين (علیه السلام) استقبله مولى له في ليلة باردة وعليه جبة خزّ ومطرف خزّ وعمامة خزّ - وهي ألبسة غالية جداً - وهو متغلف بالغالية - وهو أرقى أنواع العطر - ، فقال له: جُعِلتُ فداك في مثل هذه الساعة على هذهالهيئة إلى أين؟ قال: إلى مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) أخطب الحور العين إلى الله عزّ وجلّ)(2).

ص: 455


1- راجع المزيد من التفاصيل في كتاب (شكوى المسجد) ضمن كتاب (ثلاثة يشكون)
2- الكافى ج 6 ص 517

خطاب المرحلة 658 : الفتن تصقل شخصية المؤمن وتفجّر طاقاته

بسم الله الرحمن الرحيم

(أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت:2)

الفتن تصقل شخصية المؤمن وتفجّر طاقاته (1)

تكشف الآية عن احدى السنن الإلهية الجارية في عباده، وهي سنة الابتلاء بالفتن لتمييز الصادق الثابت على الحق من المنافق والكاذب والضعيف الذي يعدل عن الحق الى الباطل بمجرد مروره بصعوبات ومضايقات تكلّفه التضحية بشيء من ماله أو جهده أو منزلته الاجتماعية.

وكأن غرض سورة العنكبوت بيان تفاصيل هذه السنة الإلهية وضغوط الفتن التي يتعرض لها المؤمنون، وتستعرض باختصار نماذج من جهود ومعاناة الأنبياء الكرام، نوح وإبراهيم ولوط وشعيب (صلوات الله عليهم أجمعين) في مواجهة الصعوبات والفتن من أقوامهم عاد وثمود وقارون وفرعون وهامان، ثم يبيّن هوان هؤلاء الطواغيت الذين فتنوا الناس عن دين التوحيد وأنهم أخذوا بذنوبهم بألوان متعددة منالعذاب (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ) (العنكبوت:40) ويصف جبروتهم بأنه أوهن من بيت العنكبوت، وبعد أن يذكر بعض

ص: 456


1- خطبتا صلاة عيد الفطر السعيد للعام 1442 الموافق 2021/5/14 التي أقامها سماحة المرجع الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) في مكتبه بعدد محدود بسبب وباء كورونا أعاذنا الله تعالى جميعاً منه.

اشكال الفتن واسبابها فإنه وفي نهاية السورة يطمئن المؤمنين بأن ما يصيبهم في مواجهة الفتن سبب لتكاملهم ورفعة درجاتهم فليصبروا وليثبتوا (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69).

و (حَسِبَ) بمعنى (ظنّ) فالآية تستنكر بصيغة الاستفهام ظَنَّ بعض الناس بأن مجرد التلفظ بالشهادتين يجعله في مصاف المؤمنين المستحقين للفوز برضوان الله تعالى، وهذا ظن خاطئ إذ لابد من اقتران الأقوال بالأفعال، والثبات على طريق الاستقامة فكراً وسلوكاً، وعدم الابتعاد عنه اتباعاً لشهوة أو انسياقاً وراء غضب أو طاعة لزعامة منحرفة.

وقيل في معنى الآية ان بعض الناس يظنون أنهم بمجرد قولهم آمنّا لابد أن يحظوا بالامتيازات وترفع عنهم التكاليف وتكون لهم كرامة تعفيهم من المسؤولية قال تعالى (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات:17)، وهذا الظن موجود عند بعض الناس الذين يعتقدون بأن لهم شأنية خاصة تميزهم عن باقي الناس لابد من مراعاتها فاذا طبّقت عليهم قواعد العدالة الاجتماعية فتِنوا وزلّت أقدامهم وانحرفوا كالذي حصل لبعض العناوين الكبيرة من الصحابة عندما تولّى أمير المؤمنين (علیه السلام) الخلافة وأرجع الجميع الى ميزان العدالةالاجتماعية فقاتلوه على هذه الامتيازات، والمعنى الأول على أي حال هو الأكثر انسجاماً مع سياق الآيات.

ص: 457

وفي معنى الفتنة قال الراغب ((أصل الفتن: إدخال الذهب النار لتظهر جودته من ردائته، واستعمل في ادخال الانسان النار، قال تعالى (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) (الذاريات:13))).

وقال بعض المحققين(1)

ان الفَتْن يعني إحداث الانقلاب والاضطراب والاختلال، وهو معنى قريب، وقد عبَّر أمير المؤمنين (علیه السلام) عن هذا المعنى الدقيق للفتنة بقوله (وَ اَلَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً وَ لَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً وَ لَتُسَاطُنَّ سَوْطَ اَلْقِدْرِ(2)

حَتَّى يَعُودَ أَسْفَلُكُمْ أَعْلاَكُمْ وَ أَعْلاَكُمْ أَسْفَلَكُمْ وَ لَيَسْبِقَنَّ سَابِقُونَ كَانُوا قَصَّرُوا وَ لَيُقَصِّرَنَّ سَبَّاقُونَ كَانُوا سَبَقُوا)(3)،

وهي تعابير صريحة في معنى الاختلال والاضطراب كالغليان، وحينئذٍ يكون اطلاق لفظ الفتن على الادخال في النار -- كما عن الأكثر -- باعتباره أحد موجبات حصول هذه الحالة، كما يطلق أحياناً على النتائج والمآلات كقوله تعالى (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) (الذاريات:14) أي عذابكم باعتباره نتيجة فتنة الضلال، وكقوله تعالى(أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا)(التوبة:49) أي العذاب باعتبار الفتنة السبب الموجب له.

وبهذه المناسبات واللحاظات يستعمل لفظ الفتنة في الامتحان والابتلاء والاختبار رغم انها ليست متطابقة في معانيها الدقية وإنما أطلقت باعتبارها أسباباً أو مظاهراً للفتنة أو نتائج لها فالفتنة ابتلاء وامتحان، والابتلاء والامتحان سبب للفتنة وهكذا، فلذا يطلق بعضها على بعض.

ص: 458


1- التحقيق في كلمات القرآن للمصطفوي: 9/ 23
2- أي تكونون كالأشياء المتعددة التي توضع في القدر ثم تُضرب باليد لتختلط
3- نهج البلاغة: الخطبة 16

وللفتنة مصاديق يتحقق بها معناها كالأموال والأولاد (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) (الأنفال:28) (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) (التغابن:15) والزوجة قد تكون فتنة (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) (التغابن:14) وفي وصف النبي الكريم عيسى (علیه السلام) (ولم تكن عنده زوجة تفتنه)(1)

كما ان للفتنة اسباباً ومناشئ نفسية واجتماعية مثل الكفر والجهل والحماقة والتطرّف والشهوات والتعصب والغضب والعجلة والاختلاف والفرقة والتحزب، فإنها كلِّها فتن تسبب اضطراباً واختلالاً في جريان الأمور وتحولاً نحو الخير أو الشر (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء:35)، فلابد أن يتثبت الإنسان من موقفه وموطئ قدمه، وإلا زلّ وهوى.

وتفيد الآية بأن الناس غيرُ متروكين لأنه لابد من تعرضهم للفتن، ومرورهم باختبارات وابتلاءات لتظهر معادنهم ولتميز حقائقهم (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (الأنفال:37) فان ادعاء العناوين الكبيرة كالمؤمن والمجاهد والمتقي والمصلح أمر سهل الا ان الإثبات والثبات أمر صعب لقوة التحديات التي تواجهه، وهو يحمل رسالة التوحيد وخلافة الله تعالى في الأرض، ويتحمل مسؤولية إصلاح الواقع الفاسد وهداية الناس الى الحق ونبذ ما سوى الله تعالى من الآلهة التي تطاع من دون الله ابتداءاً من النفس الأمّارة بالسوء إلى الأمور الأخرى التي يتعلق بها الناس ويطيعونها ونحو ذلك من لوازم تحمل الأمانة الإلهية، فهي سباحة ضد التيار الجارف كما يقولون خصوصاً مع

ص: 459


1- بحار النوار: ج 14/ ص 238

عناد ومقاومة الملأ وهم أهل النفوذ والمصالح المتحكمون في المجتمع، فيحتاج الى صبر وجهد وشجاعة حتى يصل الى بر الأمان.

وهو ما يفشل فيه الكثير من الناس فأنهم يسقطون في أدنى امتحان قال تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الحج:11) وقال تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ) (العنكبوت:10).

لذا كان من الحكمة الإلهية مرور الإنسان بهذه الفتن لتصقل شخصيته المعنوية ويتكامل إيمانه ويثبت ويستقر فان الطاقات تتفجّرعند الشدائد وتنضج القابليات وتصقل المواهب ويدرك المؤمن عظمة الرسالة التي تحملها فلا يفرّط فيها مهما كان الثمن لأنه دفع ثمناً غالياً في سبيلها فالتعرض للفتن يراد به مصلحته، روي عن الامام الصادق (علیه السلام) قوله (ليس شيء فيه قبض أو بسط مما أمر الله به أو نهى عنه إلا وفيه من الله عزوجل ابتلاء وقضاء)(1)، روى في الكافي بسنده عن معمر بن خلاد قال: (سمعت أبا الحسن (علیه السلام) يقول (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) ثم قال لي: ما الفتنة؟ قلت: جعلت فداك الفتنة في الدين، فقال: يفتنون كما يفتن الذهب، ثم قال يخلصون كما يخلص الذهب)(2)، وروى الكليني عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قوله في خطبة له: (ولكن الله عزوجل يختبر عبيده بأنواع الشدائد، ويتعبدهم

ص: 460


1- التوحيد: 354 ح 3
2- أصول الكافي: 1/370 ، نور الثقلين: 4/148

بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجاً للتكبر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلل في نفوسهم، وليجعل ذلك أبواباً فتحاً إلى فضله، وأسباباً ذللاً إلى عفوه وفتنته)) (1)( ثم قرأ الآية.

وقد تكون الفتنة شديدة والامتحان صعباً فاذا وجد الشخص نفسه ضعيفاً عاجزاً عن مواجهة الفتنة وتحمّل تكاليفها، ولم يستطيع المحافظةعلى إيمانه والتزامه بالدين في هذه البقعة لشدة البلاء فيها فليهاجر الى غيرها حيث يستطيع أن يحافظ على دينه ولو متستراً قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) (النساء:97)، ولا يجوز له أن يضعف أو يستسلم ويترك دينه ويتنازل عن عقيدته الحقّة فان الدين أهم شيء في حياة الانسان قال تعالى (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ)(2) (البقرة:191) وقال تعالى (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) (البقرة:217)، روى في الدر المنثور في قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ) (العنكبوت:10) قال ((ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون فاذا أوذوا وأصابهم بلاء من المشركين رجعوا الى الكفر والشرك مخافة من يؤذيهم وجعلوا أذى الناس في الدنيا كعذاب الله))(3).

ص: 461


1- الكافي: 4/200، ح2، تفسير البرهان: 7/232 ح 1
2- راجع القبس الذي يفسّر الآية في الجزء الأول.
3- الدر المنثور: ج6 / ص 453

وتؤكد الآية التالية بأن هذه السنة الإلهية غير مختصة بهذه الأمة بل هي شاملة لجميع البشر المكلفين المشمولين بقانون الثواب والعقاب (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) وما دامت الأمم الأخرى كلها قد تعرضت للفتن ابتلاءاً واختباراً فما الذي يعفي هذه الأمة منها؟، وقد تعرَّض المؤمنون في تلكالأمم لأشكال من فتن الشهوات والمغريات والترف والرخاء (وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا) (الروم:9)، كما تعرضوا لألوان قاسية من العذاب، قال في جوامع الجامع: في الحديث قد كان من قبلكم يؤخذ فيوضع المنشار على رأسه فيفرق فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه)(1)

ومنه ما يحكيه القرآن الكريم في سورة البروج عن المؤمنين الذين حفرت لهم خنادق واشعلت فيها النيران وألقوا فيها أو يتخلوا عن عقيدة التوحيد قال تعالى (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (البروج:4-8).

وتشتد الفتنة حينما يطول البلاء بالمؤمنين وتكثر الصعوبات عليهم ولا يرون في الأفق فرجاً قريباً حتى تذهب ببعضهم الظنون الى عدم صدق وعد الله تعالى بالنصر والفرج قال تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيب) (البقرة:214)، وقال

ص: 462


1- من نور الثقلين: 4/472 ح 14

تعالى (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (يوسف:110).وفي التذكير بذلك تثبيت لقلوب المؤمنين وتقوية لعزمهم، وتشجيع لهم بأنه مهما اشتدت معاناتهم أو الضغوط عليهم وأحاط بهم الفساد والضلال والانحلال لابد أن يثبتوا على الايمان ولا يتأثروا بالبيئة الملوثة التي تحيط بهم، وسيأتيهم الفرج بحسب ما تقتضيه الحكمة الإلهية لا بما نشتهيه نحن.

وبنفس الوقت عليهم أن لا ينبهروا بما يتنعم به الكفار والمنحرفون والعاصون من سلطة ومال وشعبية واسعة وهالة إعلامية وأمجاد مصطنعة، ويرون أنفسهم لا يعبأ بهم أحد فيعترضوا على ما هم فيه ويتمنوا أن يكونوا مثل أولئك المترفين ويغفلون عن حقيقة ان في هذا ابتلاءاً وفتنةً لهم (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (طه:131) وعلى المؤمنين ان لا يستعجلوا زوال الفتنة وفناء صاحبها، روى في علل الشرائع بسنده عن الامام الصادق (علیه السلام) (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) إياكم وجدال كل مفتون فإن كل مفتون ملقن حجته إلى انقضاء مدته فاذا انقضت مدته أحرقته فتنته بالنار)(1).

وقد تكون فتنة الشخص بأن تتواتر عليه النعم ويعيش في رخاء فتتحرك شهواته وتميل نفسه الى الدعة والراحة والاستكانة والتخلي عن التزاماته الدينية كمن يترك أداء حقوقه الشرعية اذا توسعت أمواله ويترك الصلاة لأنها تتعارض مع ذروة حركة السوق وهكذا يتخلى عنها واحدة واحدة، وقد تزيد عليه هذه

ص: 463


1- علل الشرائع: 599 باب 385 ح 51 قال في بحار الأنوار: 2/131 أي يلقنه الشيطان حجته

النعم رغم عصيانه وانحرافه فيظن انه على خير وانه مستحق للنعم (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِين) (آل عمران:178) لذا ورد التحذير من فتنة الرخاء أكثر من الضراء ففي الحديث النبوي الشريف (لأنا لفتنة السّراء أخوف عليكم من فتنة الضراء، إنكم ابتليتم بفتنة الضراء فصبرتم، وإن الدنيا حلوة خضرة)(1).

وقد تبيَّن ان أنواع الفتن عديدة فبعضها ما ذكرناه من تعرض المؤمن للأذى والقسوة والأساليب الوحشية ولا يجد ما يساعده على انقاذ نفسه، وهي ليست الأشد رغم عنفها، بل أشد منها ما تقدم من فتنة الرخاء ورؤية العاصين لله تعالى متنعمين.

والفتن قد تكون شخصية تتعلق بالنفس والمال والولد كالذي رواه في المجمع (ان معنى يفتنون يبتلون في أنفسهم وأموالهم) وهو المروي عن أبي عبدالله (علیه السلام).

وقد تكون عامة وهي التي تشمل قاعدة واسعة من الناس كما لو كانت عقائدية أو اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو فكرية يوقع بعض الناس بعضهم فيها، قال تعالى (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) (الفرقان:20).فعلى الإنسان المؤمن -- في أي موقع كان -- أن يراقب أقواله وأفعاله وسلوكه ويكون حذراً متيقظاً حتى يكون سبباً لإصلاح الآخرين وهدايتهم واستقامتهم وليس العكس كمن يكون ظاهره التدين والصلاح فيقوم بأفعال منكرة يأباها الشرع المقدس كسرقة المال العام فيُخدع به غيره ويظنون أن ما

ص: 464


1- ميزان الحكمة: 7/26 عن الترغيب والترهيب: 4/184 ح 74

يفعله صحيح وجائز، فكان الصالحون يسألون الله تعالى أن لا يكونوا سبباً لفتنة الآخرين، قال تعالى حكاية عنهم (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الممتحنة:5).

وكان الأئمة (علیهم السلام) دقيقين في بيان كل ما يكون سبباً للفتنة ويحذرّون منه وينبّهون عليه، روي أن أمير المؤمنين (علیه السلام) كان يمشي راكباً وكان أحد أصحابه يمشي معه راجلاً فقال (علیه السلام) (ارجع فان مشي مثلك مع مثلي فتنة للوالي ومذلة للمؤمن)(1)

ويصل التحذير الى مستوى مدحك لشخص بكلمات تجعله يفقد الاتزان والحكمة وينخدع بها فتكون انت القائل سبب افتتانه قال (علیه السلام) (ربَّ مفتون بحسن القول فيه)(2).

وقد وصف الله تعالى أي شخص يقف عائقاً في طريق إقامة دين الله تعالى وتطبيق أحكامه وتشريعاته، أو يعطّل سننه، فضلاً عمن يكونداعياً الى الضلال والانحراف ومروجاً له بأنه فتنة، قال تعالى في اتخاذ أولياء غير المؤمنين (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) (الأنفال:73).

أو كالذين يضعون شروطاً للتزويج ليست شرعية ولا عقلائية كعدم تزويج العلوية من غير العلويين وإن كانوا أكفاء ونحو ذلك من الشروط والموانع، ففي الحديث الشريف عن علي (علیه السلام) عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال (اذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوّه، قلت: يا رسول الله، وإن كان دنَّياً

ص: 465


1- نهج البلاغة ، الحكمة 322
2- نهج البلاغة ، الحكمة 462

نسبه؟ قال: اذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوّه، إلّا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)(1)

والتجربة والواقع يشهدان بذلك.

وتوعّد بالعقاب الشديد من يكون سبباً لفتنة الآخرين قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) (البروج:10) وقال تعالى محذراً (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور:63).

وإن صانعي الفتن ومثيريها فئات عديدة تبدأ من داخل الأسرة كالضغط الذي يتعرض له من أرحامه وذويه -- خصوصاً الوالدين -- باسم الشفقة والحب والالحاح عليه بأن لا يكون سبباً لإيذائهم فيدعونه الى التخلي عن إيمانه ولوازمه في القول والعمل، وقد عاش الشبابالمؤمن هذه الحالة بقوة ابان الثمانينات من القرن الماضي حيث بلغ بطش النظام الصدامي البائد ذروته، وتحكي الآية الثامنة من السورة أن الفتنة قد يكون مصدرها الوالدين من خلال التأثير السيئ المؤدي الى الرجوع عن الايمان (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا) (العنكبوت:8). وقد يكون الوالدان سبباً للفتنة بسوء تربيتهما، مثلاً يطرق شخص باب الدار فيقول الأب لولده قل له ان والدي غير موجود فيتعلم ابنه الكذب وهكذا.

وتتحدث الآية الثانية عشرة عن مكر أهل الضلال والانحراف وخداعهم حتى يفتنوا المؤمنين ويعيدوهم الى صفوفهم (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ

ص: 466


1- وسائل الشيعة : 20 / 78 ح 6

لَكَاذِبُونَ) (العنكبوت:12)، وهذا الأسلوب يتبعه البعض حتى اليوم فيقول أحدهم للآخر أفطر شهر رمضان وذنبك برقبتي أو يقول له خذ المال -- وهو محرم -- أو تقول المرأة لزميلتها ألقي الحجاب وبرقبتي وهكذا.

ويستمر أصحاب الفتن والضلالات والفساد والانحراف في الضغط على المؤمنين بوسائل الاغراء أو التهديد حتى يكسبوهم الى صفوفهم ويحرفوهم عن طريق الاستقامة، قال تعالى (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا) (الإسراء:73).وأخطر الفتن ما تأتي بسبب اتباع الزعامات الباطلة المنحرفة، قال أمير المؤمنين (علیه السلام) (الا فالحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم... فأنهم قواعد أساس العصبية ودعائم اركان الفتنة)(1).

ويحلّل أمير المؤمنين (علیه السلام) أسباب الوقوع في الفتن والفشل في اجتيازها، قال (علیه السلام) (وَ إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ مِنْ أَهْوَاءٍ تُتَّبَعُ وَ أَحْكَامٍ تُبْتَدَعُ يُخَالَفُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ يَتَوَلَّى فِيهَا رِجَالٌ رِجَالًا أَلَا إِنَّ الْحَقَّ لَوْ خَلَصَ لَمْ يَكُنِ اخْتِلَافٌ وَ لَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ لَمْ يَخْفَ عَلَى ذِي حِجًى لَكِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَيُجَلَّلَانِ مَعاً فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَ نَجَا الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنَى)(2).

وهذا ما حصل في الفتنة العظمى بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) حيث كان الانقلاب الذي أخبر به القرآن الكريم باباً لكل الشرور والآثام، روي عن الامام

ص: 467


1- نهج البلاغة: الخطبة /192
2- الكافي: 8/58 ح 21

الحسين (علیه السلام) عن أبيه أمير المؤمنين (علیه السلام) انه قال (لما نزلت (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) قال: قلت: يا رسول الله ما هذه الفتنة؟ قال: يا علي انك مبتلى بك، وانك مخاصم فأعِدَّ للخصومة)(1).ولابد ان نلتفت الى ان الفتن تزداد والبلاء يشتد كلما اتسعت مسؤولية الفرد والمجتمع وارتقى في تكامله، ففي الحديث النبوي الشريف (أشد الناس بلاءاً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء)(2)

لكي يتناسب العمل مع الجزاء ولكي يتحقق الاستعداد لتحمّل المسؤوليات الكبيرة، قال أمير المؤمنين (علیه السلام) (كلما كانت البلوى والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل)(3).

لذا فعلينا توقّع المزيد منها كلما اقتربنا من عصر الظهور المبارك روي عن الامام الرضا (علیه السلام) قوله (لا يكون ما تمدوّن إليه اعناقكم حتى تميزوا وتمحصّوا ولا يبقى منكم الا القليل)(4)

ثم قرا الآية الكريمة.

وهذا ما ينبّه اليه الامام (علیه السلام) في أدعية زمان الغيبة ومنها دعاء الافتتاح حيث يعلمنا الاستغاثة بالله تعالى من فتن هذا الزمن، قال (علیه السلام) (اللّهُمَّ إِنَّا نَشْكُو إِلَيْكَ فَقْدَ نَبِيِّنا صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَغَيْبَةَ وَلِيِّنا، وَكَثْرَةَ عَدُوِّنا، وَقِلَّةَ عَدَدِنا، وَشِدَّةَ الْفِتَنِ بِنا، وَتَظاهُرَ الزَّمانِ عَلَيْنا)(5).

ص: 468


1- تفسير البرهان: 7/232 ح 4
2- الترمذي 3289 وصححه الألباني 1/142
3- نور الثقلين: 4/470 ح 13
4- نور الثقلين: 4/470 ح 12
5- مفاتيح الجنان: أدعية ليالي شهر رمضان

وسيكون العراقيون أشد الناس ابتلاءً وامتحاناً بألوان الفتن الشديدة الشخصية والعامة، لأن الامام الموعود (علیه السلام) سيقيم دولته في ربوعهم ويتخذ من بلدهم عاصمة لهم ينطلق منها لإقامة دولته العالمية المباركة(1).

لذا علينا ان نتمسك بالمنجيات من الفتن وهم العلماء العاملون المخلصون فأنهم ورثة أهل البيت (علیهم السلام) حقاً، عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (أيها الناس: شقّوا أمواج الفتن بسُفن النجاة)(2)،

مع الالتزام بالتقوى والتفقه في الدين قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) (ستكون فتن يصبح الرجل فيه مؤمناً ويمسي كافراً، الا من أحياه الله تعالى بالعلم)(3)

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام) (اعلموا انه من يتقِ الله يجعل له مخرجاً من الفتن، ونوراً من الظلم)(4).

نسأل الله تعالى ان يثبّتنا على الهدى والاستقامة ويجنّبنا مضلّات الفتن وان يختار لنا الخير في أمورنا كلها إنه ولي النعم.

ص: 469


1- راجع بيان أسباب ما يمر به العراقيون من بلاء شديد في موسوعة خطاب المرحلة: 5/6-17.
2- نهج البلاغة: الخطبة / 5
3- كنز العمال: ح 30883
4- نهج البلاغة: الخطبة/183

خطاب المرحلة 659 : من البلاء ما نستطيع دفعه

بسم الله الرحمن الرحيم

(فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا) (يونس:98)

من البلاء ما نستطيع دفعه (1)

قال الله تبارك وتعالى (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) (يونس:98).

(لَوْلا) أداة حث وتحضيض، فالآية الكريمة تحث أهل الدنيا جميعاً بأن يرجعوا الى الله تعالى وأن يعودوا إلى طريق الاستقامة لينفعهم ذلك في كشف البلاء ورفع العذاب النازل عليهم أو دفعه قبل حلوله بهم، لكن هذا الحث مشوب بالتأسف والحسرة لعدم استجابة الأمم لهذه الدعوة المخلصة إلى أن ينزل بهم البلاء وتحلّ الكارثة ويرونها بأعينهم حيث لا ينفعهم الرجوع، كما أنبأت الآيتان المتقدمتان (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) (يونس:96-97) ومثل هذا الايمان باللسان الذي يحصل عند نزول العذاب لا ينفع في رفعه لأنه لا يكون عن صدق وإخلاص نيةكالذي حصل لفرعون، قال تعالى (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ

ص: 470


1- كلمة القاها المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) يوم الجمعة 22/شوال/1442 الموافق 2021/6/4

قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (يونس:90) فهذا ليس إيماناً صادقاً بالله تعالى لأنه ليس ايماناً اختيارياً منتجاً رغم الإنذارات والعلامات المتكررة وإنما تظاهروا به خوفاً من العذاب والبأس بعد حلوله.

وهذه من السُّنن الإلهية الثابتة التي لا تختص بقوم يونس قال تبارك وتعالى (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ) (غافر:84-85) وقال تعالى (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) (الأنعام:158) وتجري هذه السُّنة في كل عاصٍ مسوِّف للتوبة يخدع نفسه بالأمل من دون أن يصدقه بالعمل، ولا يحذر فوات فرصة التوبة بحلول الأجل.

وترغّبهم الآية الكريمة بأن يكونوا كقوم يونس وتقول لهم هلّا كنتم كقوم يونس الذين استثنتهم فأنهم آمنوا قبل حسم الأمر بنزول العذاب وبمجرد أن رأوا علاماته ونذره وتيقّنهم من صدق ما وعدهم به نبيهم يونس (صلوات الله عليه) فنفعهم إيمانهم وكشف عنهم العذاب، وقد وصفتهم الآية بصدق الايمان (لَمَّا آمَنُوا).

روى القمي في تفسيره بسنده عن الامام الصادق (علیه السلام) قال (ما ردّ الله العذاب إلا عن قوم يونس، وكان يونس يدعوهم إلىالاسلام فيأبون ذلك، فَهَمَّ أن يدعو عليهم وكان فيهم رجلان: عابد وعالم، وكان اسم أحدهما مليخَا، والآخر اسمه روبيل، فكان العابد يشير على يونس بالدعاء عليهم، وكان العالم ينهاه ويقول: لا تَدْعُ عليهم فإن الله يستجيب لك، ولا يُحِبُّ هلاك عباده،

ص: 471

فَقَبِلَ قول العابد ولم يقبل من العالم فدعا عليهم، فأوحى الله إليه: يأتيهم العذاب في سنة كذا وكذا، في شهر كذا وكذا، في يوم كذا وكذا، فلما قرب الوقت خرج يونس من بينهم مع العابد، وبقي العالم فيها، فلما كان في ذلك اليوم نزل العذاب، فقال العالم لهم: يا قوم افزعوا إلى الله فلعله يرحمكم ويرد العذاب عنكم، فقالوا: كيف نصنع؟ قال: اجتمعوا واخرجوا إلى المفازة وفرقوا بين النساء و الاولاد، وبين الابل وأولادها، وبين البقر وأولادها، وبين الغنم وأولادها، ثم ابكوا وادعوا، فذهبوا وفعلوا ذلك وضجوا وبكوا فرحمهم الله وصرف عنهم العذاب)(1)

والموقف يبيّن الدور العظيم للعالم الواعي الذي يقود أمته ببصيرة نحو الأمان.

ومما ورد في هذه الرواية مما يبيّن سعة رحمة الله تعالى وشفقته على عباده حتى الكفار منهم، أنه لما ألقى الحوت النبي يونس (علیه السلام) على الشاطئ مريضاً ضعيف البدن: وأنبت الله عليه شجرة من يقطين ليتغذى منها(2)

ويستظل بها (فلما أن قوي واشتد بعث الله دودةفأكلت أسفل القرع فذبلت القرعة ثم يبست، فشق ذلك على يونس فظل حزيناً فأوحى الله إليه: مالك حزيناً يا يونس؟ قال: يا رب هذه الشجرة التي تنفعني سلطت عليها دودة فيبست، قال: يا يونس أحزنت لشجرة لم تزرعها ولم تسقها ولم تَعْنَ بها إن يبست حين

ص: 472


1- بحار الأنوار: 14/381 ح 2 عن تفسير القمي 2/49
2- أثبتت الدراسات والتجارب العلمية فوائد القرع في تقوية جهاز المناعة وصحة القلب والشرايين وتزويد الجسم بالفيتامينات والمعادن الأساسية.

استغنيت عنها، ولم تحزن لأهل نينوى أكثر من مائة ألف؟ أردتَ أن ينزل عليهم العذاب؟ إن أهل نينوى قد آمنوا واتقوا فارجع إليهم)(1).

فالآية الكريمة تقدِّم علاجاً شافياً لكثير من مشاكلنا ومعاناتنا التي تؤلمنا وندعو الله تعالى أن يخلّصنا منها ولا نعلم أن طرف الحل بأيدينا. وإن من البلاء الذي يقع على الانسان يستطيع دفعه بنفسه، وذلك لأن جملة من هذه الصعوبات التي يمرّ بها الإنسان هي من صنعه وكسب يديه، فلو أراد التخلص منها فليتجنب الأسباب التي أدّت إليها وهي الأفعال السيئة، قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم:41) والباء هنا سببية أي بسبب ما كسبوا، وإن ما حصل لهم هو نتيجة لبعض ما جنت أيديهم، وإلا فإن استحقاقهم أكثر لكن الله تعالى يعفو بكرمه وحلمه عن كثير، قال تعالى (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ) (الشورى:34) أي يهلكهن –وهي السفن في البحر- بأهلهن بإرسال الرياح العاتية عليها بما كسبوا من الذنوب، ولكن الله تعالى يعفو عن الكثير وقالتعالى (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) (الشورى:30).

والخلاصة أن كثيراً من البلاء يستطيع الإنسان دفعه قبل حصوله، وليس فقط رفعه بعد حصوله من خلال اجتناب مسبّباته، ولكن الإنسان لا يلتفت إلى هذه الحقيقة، أو لا يلتفت إلى ما تكسبه يداه من أعمال، وإذا التفت فإن الكثيرين يستصغرون ما يصدر منهم من أقوال وأفعال ولا يقدّرون عواقبها،

ص: 473


1- بحار الأنوار: 14/383

فيتساهلون فيما يصدر منهم بينما حذَّر المعصومون (علیهم السلام) من الاستهانة بالذنوب بكل مراتبها (لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر لمن عصيت)(1)،

ولو على مستوى كلمة غير مسؤولة قد تقال هنا وهناك تسبّب سفك الدماء وهتك الأعراض وإهلاك الحرث والنسل، ولكي نقرب فكرة أن خطأً بسيطاً قد يؤدي إلى عواقب وخيمة، بما يحصل أحيانا من أن غفلة صغيرة من سائق السيارة أو التفاته تؤدي إلى حادث مفجع. كما يتساهل السياسيون والمتنفّذون في التجاوز على المال العام، الذي هو ملك عموم الناس الذين هم أيتام آل محمد (صلی الله علیه و آله) المقطوعون عن إمامهم فمن أكل أموالهم كان مشمولاً بالآية الشريفة (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (النساء:10)،

ولذلك تجد في الكثير من الأدعية أن الأئمة المعصومين (علیهمالسلام) يعلموننا الاستغفار مما نعلم ومما لا نعلم من الذنوب، وما ظهر منها وما بطن.

ولكي نقرأ هذه السُنّة الإلهية بشكل دقيق لابد من ملاحظة ما يلي:

1- إن بعض البلاء يجريه الله تعالى على عباده الذين اصطفاهم ليرفع درجاتهم ولينالوا المقام المحمود عند الله تعالى قال تعالى (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) وفي أخبار مقتل الإمام الحسين (علیه السلام) إن جده رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال له: (إن لك في الجنة درجات لا تنالها إلا بالشهادة)(2) فمثل هذا البلاء ليس سببه ما ذكرنا من أفعال سيئة والعياذ

ص: 474


1- بحار الأنوار: ج 77 / ص 79
2- بحار الأنوار: ج 44 / ص 313

بالله تعالى.

2- إن الله تبارك وتعالى حينما يترك بعض الناس يمرّون ببلاء معين ولا يتدخل لرفعه وإن ألّح صاحبه بالدعاء والطلب فليس ذلك انتقاماً منهم سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً وإنما يريد لهم الخير وما يصلح حالهم فقد يكون الفقر أصلح لحال شخص من الغنى لأن الغنى يبطره ويبعده عن الله تعالى ويوقعه في المعاصي، ويحرم آخر من الذرية لأنه لو رزق منها لكانت شريرة وبالاً عليه بسبب الظروف المحيطة بهم وهكذا.

3- بعض الذنوب اجتماعية عامة لا تقتصر في آثارها على مرتكبيها فقط بل تشمل كل الناس حتى الصالحين قال تعالى(وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّتُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً) ومثل هذه الابتلاءات يدفع ضريبتها ناسٌ لم يكونوا السبب فيها، وعلى رأسها ما يحصل من آثار سلبية بسبب ترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذكرتها الأحاديث الشريفة كتسلط الأشرار فأن صلحاء الأمة قبل فُسّاقها يشملهم هذا البلاء.

ومن أمثلة البلاءات العامة التي لا تقتصر آثارها على فاعليها من حياتنا المعاصرة سوء اختيار الناخبين عند الادلاء بأصواتهم في صناديق الاقتراع فإن النتيجة تحكّم الفاسدين والظلمة والمنحرفين الذين لا يرقبون في الأمة إلاًّ ولا ذمة فتحصل كوارث اقتصادية واجتماعية واخلاقية وفكرية وبيئية بسبب حماقات وسياسات ظالمة لبعض المتصدين لكن شرها عمّ الجميع ولم يقتصر على الناس الذين يستحقون ذلك لأنهم هم من انتخب أولئك الحمقى الأنانيين وأجلسوهم في مواقع المسؤولية.

ص: 475

ص: 476

مختارات من صحيفة الصادقين: الاعداد 192- 213

اشارة

أخبار- أستفتاءات - قصائد

ص: 477

ص: 478

رسالة تسلية من أحد الكتاب والادباء الإسلاميين المعروفين إلى سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)

أصدر بعض من يوصف بأنه أستاذ في الحوزة العلمية في النجف الأشرف في شهر رمضان من العام الماضي 1439 بياناً نال فيه من سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) ومن العلماء الذين شهدوا باجتهاده، وتسامى سماحة الشيخ عن الرد كعادته، فانبرى عدد من العلماء والادباء والمثقفين للإشادة بهذا الخلق الكريم ومنهم صاحب الرسالة التالية.

بسمه تعالى

إليكم أيها الأخ الكبير وانتم تتلقون الطعنات بصبر والم عميق...

إليكم أيها المرجع والمفكر الواعي والقلب المفعم بالحب الإلهي والنابض بالخير لجميع الناس...

إليك أيها الوقور وأنت ترفل بالطمأنينة والسكينة والسلام...

أشهد انك مصداق ناصع لقول الامام الرضا (علیه السلام) :

اني ليهجرني الصديق تجنيا *** فأريه ان لهجره أسبابا

واراه ان عاتبته أغريته *** فأرى له ترك العتاب عتابا

فإذا بليت بجاهل متحكم *** يجد المحال من الأمور صوابا

أوليته مني السكوت وربما *** كان السكوت عن الجواب جوابا

ص: 479

أتقدم إليكم بخالص التهاني والتبريكات بمناسبة حلول عيد الفطر المبارك 1439...

باقة ورد أضعها بين يديك أيها الشيخ الوقور وسلام عليك في العالمين...

المخلص لكم دوماً... .

ص: 480

المرأة العراقية الزينبية: عطاء لا ينضب

حضر سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) ندوة أقامها مركز عين للدراسات والبحوث المعاصرة مساء السبت 2/ ذ.ق/1440 الموافق 2019/7/6 وكانت بعنوان:

المرأة العراقية الزينبية: عطاء لا ينضب - قراءة في تاريخ الجهاديات العراقيات: صفحات من تاريخ مشرق..

حاضر فيها المؤرخ الإسلامي: الأُستاذ عباس الساعدي المعروف بالاسم الحركي علي العراقي.. مدير المركز الوثائقي لشهيدات الحركة الإسلامية في العراق ومؤلف كتاب (مذكرات سجينة) و(منارة بغداد) وغيرها.

وكان رئيس الجلسة البروفسور كامل علاوي، قدم فيها احتفاء بذكرى السجينات والشهيدات كلمات تدعو الى الالتفات الى هذا التاريخ المنسي، وأكد ضرورة تناول مثل هذه الموضوعات، وشكر مركز عين للدراسات والبحوث المعاصرة متمثلاً بمديره والاخوان العاملين معه..

وقدم الاستاذ المحاضر الساعدي موجزاً تاريخياً وأحداث ومشاهدات وذكريات عن النساء اللواتي قدمن تضحيات بكل شيء في سبيل الإسلام وفي سبيل حب الوطن أبان حقبة الثمانينيات والتسعينيات من الحقبة الدامية للنظام الصدامي..وكان من المفترض ان يأخذ هذا السجل المضيء في تاريخنا المعاصر مكانته ليقدم لنا اُسوة يحتذى بها، في كل الأصعدة، وخاصّة في الجانب النسوي، والحال نجد الاهمال عن تقصي سير الصالحات.

ص: 481

وقد شملت فقرات الندوة استعراض مشروع سلسلة كتب (مذكرات سجينة ) من تأليف الاستاذ الساعدي، والحث على ارشفة جهاد واستشهاد ( 3000 ) زينبية عراقية على يد نظام البعث الدموي ..

كما تناول الضيف المحاضر الموقف السلبي للصحافة العراقية المعارضة قبل وبعد سقوط النظام المباد عام 2003 .. ودعوات جادة للاعلام ليأخذ دوره في هذا الاطار..

يذكر ان مركز عين للدراسات يسعى ضمن حلقات بحثية خاصة لتقديم منهج اكاديمي ضمن وزارة التعليم العالي ليأخذ مكانته كمنهج درسي في سيرة الشهيدات والعطاء الذي قدمنه..

تخللت الندوة سلسلة اسئلة ومداخلات مهمة من الحضور الكرام . هذا وحضر الندوة بعض الفضلاء وأساتذة الحوزة العلمية والعديد من الأكاديميين والمثقفين ونخبة من النساء المتطلعات الى دور الشهيدات الصالحات في المجتمع.

ص: 482

المرجع اليعقوبي يحضر مجلس الفاتحة على روح آية الله الشيخ محمد آصف محسني (قده)

حضر(1) سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) مجلس الفاتحة الذي أقامه سماحة آية الله العظمى الشيخ الفياض (دام ظله) في مكتبه في النجف الأشرف على روح آية الله الشيخ محمد آصف محسني (قده) زعيم الشيعة في أفغانستان وكبير علماءها.

وقد عَبَّرَ سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) عن تعازيه لصاحب العصر والزمان (عجل الله فرجه) والحوزة العلمية وسائر ذوي الفقيد الكرام، مشيداً بمآثر الفقيد الراحل ومشاريعه التي عرف جملة منها من خلال سماحة المرجع الشيخ الفياض، واصفاً إياه بأنه أحيا أمة وأعاد لها عزتها وكرامتها، سائلا الله عزَّ وجل للفقيد الدرجات العالية والحشر مع الحسين وأصحابه (علیهم السلام).

وشهد المجلس حضور جمع كبير من ممثلي مكاتب المراجع العظام وأساتذة وفضلاء الحوزة العلمية وطلبتها.

ص: 483


1- الجمعة 7/ ذو الحجة / 1440 ه- الموافق 2019/8/9 م

المرجع اليعقوبي يؤكد أهمية الرياضة في تحقيق الاهداف المثمرة على الصعيد الروحي

أكدَّ سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على أهمية تحلي الشباب بالثقافة والعلم من أجل بناء شخصياتهم ومجتمعاتهم، مشيراً إلى ان المجتمع الصالح والقيادة الصالحة لا يمكن ان تتحقق الا من خلال بناء أفراد صالحين يشكلون بمجموعهم هذا المجتمع.

وقد بيّنَ سماحته خلال استقباله(1) لعدد من الوفود الرياضية الشبابية من محافظات البصرة وبغداد والنجف الأشرف بأن الشباب هم الذين يزرعون الأمل في النفوس، وعليهم ان يلتفتوا لهذا الدور المهم من خلال ما يقومون به من نشاطات وفعاليات انسانية واجتماعية وثقافية تساهم في رفع الحيف والظلم عن هذا الشعب المظلوم.

وأشار سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) الى أن الرياضة فضلاً عن كونها ذات منافع وفوائد كبيرة على الصعيد الجسماني، فهي وسيلة مهمة لتحقيق الاهداف المثمرة على الصعيد الروحي، من أجل السمو بروح الانسان وعقله وسلوكه وتعزيز حضوره الايجابي والفاعل على الصعيد الاجتماعي.

وقد بيّنَ سماحته أن حب الوطن والشعور بالانتماء اليه هو الدافع الرئيسي الذي يدفع الاشخاص الى الشعور بالمسؤولية وعدم ادخارالجهود والطاقات الهادفة الى رفعة البلد ونموه وازدهاره، داعياً الى تشجيع وتثبيت كل ما من شأنه ان يؤدي الى تعميق حب الوطن وخدمة أهله.

ص: 484


1- الثلاثاء 4/ ذو الحجة / 1440 ه- الموافق 2019/8/6 م والأيام التي بعدها

وتطرّق سماحته الى ان تلك المشاعر الجياشة والدموع التي يذرفها الرياضيون والجماهير عند عزف النشيد الوطني العراقي انما تدلّ على ذوبان الافراد في حب العراق وحب أهله، متأسفاً على التصرفات السلبية لبعض قادة البلد وسياسييه، والتي تبعث مشاعر الياس والحزن في نفوس أفراد المجتمع.

ص: 485

المرجع اليعقوبي خلال لقاءه بممثل عن وزارة البيئة يؤكد على أهمية الالتزام بالتوجيهات التي تحفظ البيئة وتضمن سلامة الزائرين

بسمه تعالى

أكدَّ سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على ضرورة الالتزام بالتوصيات التي تسهم في الحفاظ على البيئة وتضمن صحة الأفراد وسلامتهم وخصوصا في مواسم الزيارات المليونية كالزيارة الاربعينية وغيرها والتي تشهد توافد الملايين من زوار العتبات المقدسة.

وقد أشار سماحته خلال لقاءه(1) بممثل عن وزارة البيئة الى الأهمية الكبيرة التي يوليها الدين الاسلامي للحفاظ على البيئة النظيفة وسلامتها ونقاوتها مبينا اهتمام الشرع المقدس بأخلاقيات التعاطي مع البيئة، موضحاً أن بعض الفقهاء إنما حرَّموا التدخين لتلويثه للبيئة وما يترتب عليه من ضرر نتيجة استنشاق الهواء الملوث بدخان السجائر.

وتطرق سماحته الى الوصايا التي كان الرسول الاكرم (صلی الله علیه و آله) يوصي بها جيش المسلمين في زمن الحرب، كالنهي عن قطع الاشجار وتلويث الماء والهواء مبيناً أن هذه التوصيات في زمن الحرب الذي يكون فيه التركيز منصبا على تحقيق النصر انما تدلُّ على حرص الشرع المقدس على البيئة وسلامتها، فقد ورد في الحديث الشريف" وَلا تُحْرِقُوا النَّخْلَ وَلا تُغْرِقُوهُ بِالْمَاءِ وَلا تَقْطَعُوا شَجَرَةً مُثْمِرَةًوَلا تُحْرِقُوا زَرْعاً ..."(2).

ص: 486


1- تاريخ اللقاء : 2/ صفر/1441 الموافق 2019/10/1
2- وسائل الشيعة: 15/59، أبواب جهاد العدو، الباب 15ح3

ونهى النبي (صلی الله علیه و آله) عن استعمال السموم – أي ما يعرف اليوم بالأسلحة الكمياوية و الجرثومية – ففي الحديث (نهى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ان يلقى السم في بلاد المشركين)(1)

وأشاد سماحته في ختام اللقاء بالجهود التي تبذلها الدوائر المعنية في الحفاظ على سلامة زوار الأمام الحسين (علیه السلام) داعيا الى المزيد من التنسيق بين الجهات ذات العلاقة (الحكومية والأهلية) والاستفادة من تجارب مواسم الزيارات السابقة من اجل تقديم أفضل الخدمات للزوار الكرام.

ص: 487


1- وسائل الشيعة: 15/62، أبواب جهاد العدو، الباب 16ح1

المرجع اليعقوبي يدعو لإحياء الذكرى الالفية الأولى لتأسيس حوزة النجف الاشرف

المرجع اليعقوبي يدعو لإحياء الذكرى الالفية الأولى لتأسيس حوزة النجف الاشرف(1)

دعا سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) الى الاستعداد لإحياء ذكرى الالفية الأولى لتأسيس الحوزة العلمية في النجف الأشرف، مستذكراً دور العلماء الماضين وجهودهم المخلصة في الحفاظ على الوجود الإسلامي فضلاً عن رسم الملامح الصحيحة للرسالة الإسلامية السمحاء في عصر الغيبة الكبرى بعيداً عن التشويه والتزييف الذي يقوم به الأعداء.

وأكدَّ سماحته على ضرورة أن يكون لعلماء الحوزة الشريفة والمؤسسات الإسلامية والنخب الاكاديمية دور محوري في احياء هذه المناسبة العظيمة من خلال القيام بعدة فعاليات منها: إقامة المؤتمرات والندوات والحلقات النقاشية لاستذكار سير العلماء الماضين واستعراض مواقفهم في المنعطفات التاريخية الحرجة التي واجهت الامة الإسلامية من أجل استنباط العبر والدروس منها الحافلة بالجهد والمثابرة ومواجهة التحديات ، وتصنيف التراث الكبير الذي انتجته الحوزة العلمية في مختلف حقول العلم والمعرفة وطباعة نماذج منها ، وغيرها من الفعاليات، مشيراً الى ان الوقت الحالي بمتغيراته وتحدياته الكبيرة يمثل فرصة جيدة لإحياء هذه المناسبة ، خصوصاً وان الحوزةوالمرجعية تتعرض اليوم لهجمة شرسة تحاول النيل من

ص: 488


1- تأريخ الحديث يوم الأحد 25/ربيع الآخر/ 1441 ه- الموافق 2019/12/22 م

هيبتها والمساس بمكانتها الروحية في قلوب المسلمين ، لافتاً الى أهمية ان تتناسب تلك الفعاليات مع مستوى المناسبة المحتفى بها وان تتسع رقعة المشاركة الى عدة محافظات نظرا لسعة تأثير الحوزة العلمية في النجف الاشرف ومكانتها على الصعيد المحلي والعالمي .

وتجدر الإشارة الى ان سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) حث عدة شخصيات حوزوية وأكاديمية على الاستعداد لهذا الحدث الهام .. خصوصاً مع وجود سعة كافية من الوقت، فلا زلنا في عام 1441ه- وذكرى المناسبة تمتد الى عام 1447ه- (تاريخ انتقال الشيخ الطوسي قدس سره من بغداد الى النجف الاشرف عام 447ه-) .

وكمبادرة منه للحث والتشجيع على ذلك وجه سماحة المرجع بإعادة طباعة الكتب والبحوث التي تتناول تاريخ الحوزة النجفية ومراحل تطورها وتأثيرها على الحوزات الأخرى وريادتها العالمية ومواقفها الحاسمة إزاء الاحداث السياسية والاجتماعية والصراعات الفكرية والأيديولوجية ، وابتدأت اللجنة المعنية بنشر كتاب (مدرسة النجف وتطور الحركة الإصلاحية فيها) والذي ألفه المرحوم الشيخ محمد مهدي الآصفي في ذكرى وفاة استاذه المرحوم الشيخ محمد رضا المظفر (قدست اسرارهم) ليكون باكورة التحضيرات والاستعداد لذكرى تأسيس هذه الحاضرة العلمية العريقة .

ص: 489

راية قبة الأمام الرضا (علیه السلام) تحط رحالها عند المرجع اليعقوبي (دام ظله)

في ظل رعايته واهتمامه بالمواكب الحسينية استقبل(1) سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) وفدا من موكب أنصار الحسين الذي يبدأ رحلته لزيارة الأمام الحسين (علیه السلام) سيرا على الأقدام ابتداءً من مشهد الأمام الرضا (علیه السلام) حاملاً معه راية قبة العتبة الرضوية المقدسة.

وقد استمع الضيوف الى حديث سماحة المرجع اليعقوبي الذي بارك فيه هذه المسيرة التي تمتد لمسافة 2600 كم باعتبارها شعيرة الهية لها ثمراتها المباركة(2)، مؤكدا على ضرورة ايلاء هذه المسيرة الاهتمام الكافي وتسليط الضوء عليها اعلاميا.

ومن الجدير بالذكر أن موكب أنصار الحسين ينطلق سنويا من مدينة مشهد الى كربلاء في السابع من ذي الحجة ليصل في الثامن عشر من صفر بمسيرة تستمر 73 يوماً.

ص: 490


1- تأريخ اللقاء يوم السبت 13/صفر/ 1441 ه- الموافق 2019/10/12 م
2- ذكر سماحة المرجع (دام ظله) أكثر من عشر ثمرات للمسيرة الحسينية الراجلة (خطاب المرحلة / 108 -- المسيرات الراجلة ظاهرة حضارية -- الجزء الرابع صفحة 270)

من اخلاق أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (علیه السلام)

من اخلاق أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (علیه السلام)(1)

روى المتقي الهندي في كنز العمال عن يزيد بن بلال قال (شهدتُ مع علي صفين فكان اذا اُتي بالأسير قال: لن اقتلك صبراً(2) إني أخاف الله ربَّ العالمين، وكان يأخذ سلاحه ويحلِّفه لا يقاتله ويعطيه أربعة دراهم)(3) .

وروي ابن مزاحم في كتاب (وقعة صفين) قال: كان علي (علیه السلام) اذا أخذ أسيراً من أهل الشام خلّى سبيله الا أن يكون قد قتل أحداً من أصحابه فيقتله به، فاذا خلّى سبيله فان عاد الثانية قتله ولم يخلِّ سبيله(4).

هذه صور من اخلاق أمير المؤمنين (علیه السلام) مع اعدائه وفي وقت الحرب، ناهيك عن الصور الأخرى كإباحته ماء الفرات لأصحاب معاوية لما سيطر عليه جيش أمير المؤمنين (علیه السلام) بينما منع معاوية أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) من الماء لما كان على الفرات.فحسبكم هذا التفاوت بيننا *** وكل إناء بالذي فيه ينضح

ص: 491


1- خاطرة سنحت لسماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) يوم ميلاد أمير المؤمنين (علیه السلام) في 13 رجب 1441 الموافق 2020/3/8.
2- أي تنفيذ حكم الإعدام به مع تقييد يديه ورجليه
3- كنز العمال، الحديث: 3-317
4- وقعة صفين: 519

خلال استقباله وفداً من طلبة العلم الأفارقة

المرجع اليعقوبي (دام ظله) يحث على استثمار كافة الوسائل لنشر المعارف الإلهية

حثَّ سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) طلبة العلوم الدينية والمبلغين على استثمار الوسائل الالكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي من أجل نشر المعارف الإلهية وعلوم أهل البيت (علیهم السلام) وتوعية المجتمعات على الصعيد الفقهي والعقائدي والفكري.

وقد أشاد سماحته خلال استقباله(1) وفداً من طلبة العلم الأفارقة القادمين لزيارة الأمام الحسين (علیه السلام) بالجهود الكبيرة التي يبذلها طلبة العلم من أجل نشر ثقافة أهل البيت (علیه السلام)، مشيراً الى البعد الرسالي الذي تنطوي عليه هذه المسؤولية التي تعتبر امتداداً لمسؤولية الأئمة والأنبياء (علیه السلام) مما يجعلها مبعثاً للفخر والاعتزاز ومن مواطن شكر الخالق جلَّ وعلا على حسن توفيقه وتسديده .

ودعا سماحته للطلبة الأفارقة بان يكونوا مصداقاً للمعنى الوارد في الآية الشريفة (فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة: 122) .

ص: 492


1- بتأريخ يوم الأحد 14/صفر/ 1441 ه- الموافق 2019/10/13 ضمن أجواء الزيارة الأربعينية.

خلال لقائه بجمع من العلماء والأساتذة من باكستان وأفغانستان

المرجع اليعقوبي يؤكد على أهمية التبليغ الديني ويدعو الى تكثيف الجهود لإظهار الوجه الناصع للرسالة الاسلامية

أكدَّ سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على أهمية التبليغ الديني والنشاط التوعوي والفكري مشيداً بالدور الذي يقوم به المبلغون في شتى انحاء العالم وهم يحملون مشعل الإسلام ليخرجوا الناس من الظلمات الى النور ويعكسوا الوجه الناصع للرسالة الاسلامية، داعياً الى بذل المزيد من الجهود الهادفة الى تعزيز ونشر القيم والمفاهيم الاسلامية الصحيحة التي تستمد نورها من القرآن الكريم وسيرة الرسول الأكرم وأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين) .

وقد أشار سماحته خلال لقائه(1) بعدد من العلماء والاساتذة الباكستانيين الى ضرورة توعية الشباب واصلاحهم وتأهيلهم لكي يكونوا قادة صالحين يؤسسون لحياة كريمة لمجتمعاتهم مبيناً الخطر المحدق الذي يهدد البنية الفكرية لدى الشباب المسلم نتيجة للغزو الفكري والحرب الإعلامية الشرسة التي تستهدف تشويه المنظومة الفكرية الاسلامية وتجريدها من قيمها الحقة .

على صعيد منفصل التقى سماحته مع إمام جمعة مدينة قندهار الافغانية واستمع الى حديث مجمل حول أهم المعوقات التي يواجهها شيعة ومحبو أهل البيت (علیهم السلام) في أفغانستان والدول التيتجاورها، مؤكداً على نبذ الخلافات الطائفية وتعزيز التلاحم بين الطوائف الاسلامية بعيداً عن التطرف الديني وما

ص: 493


1- بتاريخ يوم الأحد 10/ ربيع الثاني/ 1441 الموافق 2019/12/8

يحاول الأعداء بثه من خلال قنواتهم من فرقة وخلاف.

ومن الجدير بالذكر أن سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) يرعى من خلال مكاتبه وممثليه في خارج العراق فعاليات ثقافية وتبليغية مختلفة تهدف الى ايصال صوت الدين الاسلامي الحنيف الى بقاع العالم المختلفة بما يواكب المتغيرات والتعقيدات المعاصرة.

توجيه بإعادة إقامة صلوات الجماعة في جميع المناطق...

توجيه بإعادة إقامة صلوات الجماعة في جميع المناطق غير الموبوءة والتي لم تشملها قرارات الحظر المناطقي، مع مراعاة الإجراءات الوقائية

وجّه سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) أئمة المساجد وسائر فضلاء الحوزة العلمية بإقامة صلوات الجماعة في المساجد والأماكن المعدة لها في جميع المناطق غير الموبوءة والتي لم تشملها قرارات الحظر المناطقي، وشدّد سماحته على مراعاة الإجراءات الوقائية من الوباء التي أوصت بها اللجان المختصة.

ولا يخفى على المؤمنين أن سرّ خفّة الوباء في العراق رغم أنه محاط بعدة دول موبوءة هو التجاؤهم إلى الله تبارك وتعالى وحالة التراحم التي انتشرت في المجتمع والتزام الأكثر بالتعاليم الشرعيّة المطابقة للتوجيهات الصحيّة. وفق الله تعالى الجميع لما يحب ويرضى.

مكتب سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)

3 شوال/ 1441

الموافق/ 2020/5/27

ص: 494

تنقية الأجواء السياسية عامل مهم لتحقيق الوحدة بين المسلمين

أكّد سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على ضرورة بذل الوسع لتحقيق وحدة المسلمين وإزالة الخلافات فيما بينهم فانها من أسمى المطالب التي نادى بها القرآن الكريم والسنة الشريفة، وذكر سماحته خطوتين مهمتين تفّعلان حركة التقريب والوحدة بين المسلمين وهما:

1. تنقية الأجواء (1) السياسية والعلاقات بين الدول الإسلامية في المنطقة خصوصاً التي لها تأثير خارج حدودها.

2. فتح باب الاجتهاد للعلماء المؤهلين لممارسة عملية الاستنباط من أهل السنة أسوة بإخوانهم الشيعة.

وفصّل سماحته خلال لقائه (2) سماحة حجة الإسلام والمسلمين الدكتور الشيخ حميد شهرياري (أمين عام المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية) الكلام في النقطة الأولى قائلاً : إنّ الاحتقان الطائفي والاختلاف المذهبي تؤجج ناره غالباً الصراعات السياسية التي تتمترس خلف الطائفية لتمرير مخططاتها وتحقيق أهدافها فيخدعون الناس بالشعارات المذهبية . وان الخلاف الذي شق المسلمين في أول يوم بعدوفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان سياسياً للاستحواذ على السلطة وإلا فإن قريشاً لم يكونوا يشككون في أهلية أمير المؤمنين (علیه السلام) للإمامة الدينية من حيث العلم والتقوى والجهاد والسابقة

ص: 495


1- كان حديث سماحته هذا قبل حصول اجتماع سري جرى يوم 2021/4/9 بين مسؤولين امنيين كبار من إيران والسعودية في بغداد لتطبيع العلاقات بينهما ثم تلتها تصريحات إيجابية من مسؤولي الدولتين
2- حصل اللقاء يوم الأربعاء 24 شعبان /1442 الموافق 2021/4/7.

إلى الدين والصدق في المواطن والقرب من رسول الله (صلی الله علیه و آله), وكانوا يؤكدون ذلك بأقوالهم وأفعالهم، إلا انهم كانوا يريدون السلطة والحكم والزعامة الدنيوية , وصرحوا بذلك حينما قالوا بأن قريشاً كرهت أن تجتمع النبوة والخلافة في بني هاشم ، فلم يمانعوا من بقاء وراثة العلم والدين لدى بني هاشم وإنما أرادوا انتزاع السلطة منهم .

وهكذا لو حللنا الصراعات التي تمزق المسلمين اليوم وتهدر طاقتهم وإمكانياتهم لوجدناها سياسية لا دخل للعقيدة فيها وإن حاولوا إلباسها هذا الثوب ، فعلى السلطات الحاكمة في بلاد المسلمين ان تتنازل عن بعض أطماعها ونزواتها وتقلل الفجوة بينها وتخفف حدة الشحن الإعلامي و سيساهم ذلك كثيراً في إزالة الاحتقان الطائفي فتنعم المنطقة الإسلامية بالحيوية والأمان والهدوء كالذي شهدته في فترة التسعينيات وكان من ثمراته وقوف المسلمين جميعاً سنة وشيعة خلف مقاومة حزب الله حتى تحرير الأراضي اللبنانية عام 2000 ، وبذلك تتمكن هذه الدول من التفرغ للتنمية والاعمار وتفجير الطاقات في مختلف المجالات .أما النقطة الثانية فقد جدّد فيها سماحة المرجع (دام ظله) دعوته لارتقاء مناهج الدراسة والبحث في الحوزات العلمية لأهل السنة حتى نحصل على مجتهدين أكفاء، لحصر مرجعية الفتوى لدى أهل السنة بالعلماء المجتهدين الورعين الذين يجعلون رضا الله تعالى وصلاح الانسان وكرامته الهدف الأسمى، ويستنبطون أحكام الشريعة من النصوص الدينية الصحيحة الواضحة

ص: 496

من دون تقّيد بمذهب معين، وبذلك نغلق الباب أمام فتاوى الضلال والانحراف والتخلف والجهل والتعصب(1).

وإننا نجد من أهل السنة في بلدان المسلمين ممن يمتلكون القدرة على استنباط الاحكام ويمكن أن تؤسس الخطوة الأولى بقيام مراجع الشيعة بإجازة الاجتهاد لمن يستحقها من علماء أهل السنة لفتح الطريق أمامهم لإجازة الأجيال اللاحقة.

وبارك سماحة المرجع المشروع الذي طرحه الضيف الكريم بعنوان (الجامعة الإسلامية) على غرار الاتحاد الأوربي والسوق المشتركة وقال سماحته: اننا أولى بهذه المشاريع الوحدوية لأن أسساجتماعنا حقيقية مبنية على طاعة الله تعالى ورسوله (صلی الله علیه و آله) وليس فقط المصالح المشتركة.

ص: 497


1- رفض شيخ الازهر احمد الطيب في بعض أحاديثه الرمضانية هذا العام 1442 في الحلقتين 18, 19 تقديس التراث الديني ومساواته بالشريعة وان ذلك يؤدي الى جمود الفقه الإسلامي المعاصر نتيجة تمسك البعض بالتقيد الحرفي بما ورد من فتاوى او احكام فقهية قديمة كانت تمثل تجديداً ومواكبة لقضاياها في عصرها وحذّر من وجود ما سماه بالفتاوى العتيقة ومن الترويج للفتاوى الماجنة.

فقه الانجاب الصناعي

بحث فقهي استدلالي مقارن يؤسس الاحكام الشرعية لعمليات معالجة العقم لدى الرجال والنساء، وهو سلسة محاضرات القاها سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي على فضلاء البحث الخارج في حوزة النجف الاشرف وامتدت عدة أشهر وانتهت في ذي القعدة 1441 الموافق 7/2020 وقد ذكر سماحته ان معالجة العقم تكون بثلاثة اشكال:

1- التلقيح الصناعي

2- زرع الأعضاء التناسلية

3- زرع خلايا نسيجية تنشى أعضاء جديدة بدل التالفة

ولما كان الشكل الثالث لم يتحول الى حالة عملية الى اليوم وما زال في طور الأبحاث المختبرية، فقد اقتصر سماحته على الشكلين الاولين فجعل البحث في قسمين، اما الثالث فقد ذكره استطرادا في مباحث الكتاب.

ولم يكتف سماحته بالبحث في حكم العملية نفسها تكليفاً ووضعاً وانما توسّع الى بيان ما يترتب عليها من احكام كإلحاق النسب شرعاً والميراث ولزوم العدة على المرأة التي تجرى لها العملية واجتناب الزوج لها وتناول الصور الكثيرة المحتملة لعملية التلقيح، اذ قد تجري بين الزوجين او غيرهما، وقد تكون من خلال التلقيح الداخلي او الخارجي، وقد يكون الرحم المستضيف للحمل هو رحم الزوجة نفسها او غيرها وغير ذلك من الصور المستوعبة للحالة حيث استعرض احكاماثنتي عشرة صورة.

وأصَّل سماحته خلال البحث لمطالب يتوقف عليها الاستدلال كقاعدة

ص: 498

الفراش وضابطة الانتساب إلى الأب والأم وأصالة الاحتياط في الفروج وصحة انتساب ابن الزنا إلى والديه شرعاً وجواز التبرع بالأعضاء وبيعها وغير ذلك.

والحق سماحته بحثاً في ضمان الطبيب فيما لو حصل تلف اثناء العملية لأهمية هذا البحث وشدة الابتلاء به.

وكما عودّنا سماحته في جميع أجزاء موسوعة (فقه الخلاف) التي بلغت اثني عشر مجلداً فان بحثه مليئُ بالتحقيقات العلمية المعمقة وسبر الروايات المرتبطة بتفاصيل البحث واستظهار المراد منها بسليقة عربية اصيلة والتدقيق في كلمات الاساطين والاعلام واستخراج مكنوناتها مع تأصيل رائع للمطالب الأصولية التي يستند اليها البحث.

كما اغنى البحث بالمطالب العلمية التي يتطلبها من العلوم الأخرى كالرجال واللغة والتاريخ والطب ويشعرنا سماحته في كل بحث يخوض فيه بان العصر الذهبي لمدرسة الفقاهة في النجف التي تسامت عند صاحب الجواهر (قدس سره) وتلامذته من بعده كالشيخ الانصاري (قدس سره) ومن ثم تلامذته يعود من جديد بفضل الله تعالى وكرمه.

ونلفت النظر الى ان الكتاب هو المجلد الثاني عشر من موسوعة فقه الخلاف ويقع في 340 صفحة وقامت بنشره دار الصادقين فيالنجف الأشرف.

ص: 499

ص: 500

استفتاءات

1- اتساع وقت الزيارة الاربعينية

السلام عليك..

عظم الله لكم الأجر والثواب باستشهاد سيد شباب أهل الجنة ابي الأحرار الإمام الحسين واهل بيته (علیهم السلام)، وبعد:

الكل منا يعرف زيارة الإمام الحسين (علیه السلام) في الأربعين مخصوصة ولكن الذي يحدث في مثل هذه الأيام وبسب الاعداد الكثيرة ان الزوار يذهبون سيرا على الاقدام ويؤدون الزيارة في غير وقتها ثم يعودون الى بيوتهم قبل موعد الزيارة ظنا منهم انهم أدوا زيارة الأربعين: السؤال هو، ما هو رأي سماحة الشيخ ادام الله ظله الوارف بهذا الامر هل تعتبر من الزيارات المطلقة للإمام ام تحسب لهم زيارة الأربعين؟

وجزاكم الله خيرا

بسمه تعالى

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

مقتضى القاعدة القيام بالعمل في الوقت والمكان المحددين شرعاً كزيارة الأربعين الى مرقد الامام الحسين (علیه السلام) يوم العشرين من الصفر لتحصيل ثواب الزيارة المخصوصة، هذا ولكنني لا استبعد إمكان اتساع وقت زيارة الأربعين المخصوصة في نهار العشرين من صفر لأن مدينة كربلاء بوضعها الحالي لا تتحمل أداء كل الزوار - الذين يتجاوز عددهم عشرة

ص: 501

ملايين - شعائر زيارتهم خلال نهارالعشرين من صفر فيمتد وقتها إلى الليلتين السابقة واللاحقة وربما الى النهار السابق أو أزيد إذا تحققت وحدة عرفية ليوم الزيارة تنشأ من اتصال الزحام وتأخر وصول الزوار بسببه.

وقد ذكرنا في موسوعة فقه الخلاف / كتاب الحج أنه لا يبعد إتساع الزمان شرعاً الى يوم آخر أو أكثر ازيد من الوقت المحدد شرعاً لعبادة معينة إذا ضاق الوقت عن استيعاب كل من يريد أن يؤديّها في وقتها، واستفدنا ذلك من النص الشرعي الوارد عن المعصوم (علیه السلام) في جواز وقوف الحجاج في المأزمين أو على الجبل وهما خارج حدود المكان المخصص للوقوف في المشعر الحرام اذا ضاقت المزدلفة عن استيعابهم ووردت في ذلك موثقة سماعه قال (قلت لابي عبدالله الصادق (علیه السلام) : اذا كثر الناس بجمع وضاقت عليهم كيف يصنعون؟ قال (علیه السلام): يرتفعون الى المأزمين) وزاد في موثقته الأخرى (قلت: فإن كانوا بالموقف كثروا وضاق عليهم كيف يصنعون؟ قال (علیه السلام) : يرتفعون الى الجبل)(1) .

وجعلنا هذه الاطروحة -- بعد التجريد عن الخصوصية لان هذه التوسعة من الامام (علیه السلام) بلحاظ رفع العسر والحرج عن الناسكين وهذا الملاك عام -- وجهاً لفهم جواز الوقوف في عرفة في اليوم التاسع من ذي الحجة عند قضاة العامة في ذلك البلد. وإن خالفونافي تحديده على موازيننا الشرعية، بحسب ما افادته الأدلة المعتبرة بان الائمة (علیهم السلام) بوقوفهم في عرفة مع العامة كأنهم وسعوا يوم التاسع من ذي الحجة ليشمل ما ذهب اليه قضاة العامة ايضاً.

ص: 502


1- وسائل الشيعة: 14/19 أبواب الوقوف بالمشعر، باب 9 ح 1 ،2

وعلى اية حال فان حسن الظن بالله تعالى وبالنبي (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الكرام (صلوات الله عليهم أجمعين) انهم يقبلون العذر في التقديم والتأخير (والعذر عند كرام الناس مقبول) فكيف بالكريم المطلق سبحانه وتعالى؟

مضافاً إلى ما ورد في الأحاديث النبوية الشريفة (انما الاعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى) (1) (ومن احبَّ قوماً حشر معهم ومن أحب عمل قوم أشرك في عملهم) (2) ونحو ذلك.

محمد اليعقوبي 14 صفر 1441

ص: 503


1- وسائل الشيعة: 1/49 أبواب مقدمة العبادات
2- مستدرك الوسائل: 12/108

2- احكام التلقيح الصناعي

السلام عليكم شيخنا الجليل ورحمة الله وبركاته:

نحن مجموعة من أطباء وطبيبات العقم نرفع استفتاءنا هذا إلى سماحتكم راجين فيه اجابتنا بما أفاض الله عليكم من علوم مدرسة اهل البيت (علیهم السلام).

تردنا عدد من حالات العقم عند الازواج بسب حالات مرضية او تشوهات خلقية فهل يجوز لنا إجراء عملية التلقيح الصناعي بإحدى الطرق المعروفة التي تناسب حالة العقم المشخصة؟

افتونا جزاكم الله عنا خير جزاء المحسنين

بسمه تعالى

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نحمد الله تعالى على ما الهم من العلوم وأبدع في صنع العقول التي لا تتوقف عن التفكير في إيجاد الحلول لمشاكل البشرية وإزالة معاناتها وله الحمد على وجود قاعدة واسعة من الملتزمين بدينهم الذين لا يقدمون على فعل وإن كانوا محتاجين اليه الا بعد ان يستفتوا العلماء لتكون أفعالهم مطابقة للشريعة.

وفي جواب المسألة نقول: يُنظر إلى مسالة التلقيح الصناعي أي تحصيل النطفة المخصّبة من بويضة المرأة وحيمن الرجل بغير الاتصال الجنسي المتعارف من جهتين:الأولى: ما تستلزمه هذه العملية من أفعال كالأطلاع على العورة

ص: 504

والاستمناء باليد ولمس الجسد من المخالف في الجنس ونحو ذلك وهذه كلها محرمة في الحالة الطبيعية وإنما تباح اذا سببت حالة العقم عذراً شرعياً لارتكاب هذه الأفعال كوقوع الزوجين أو أحدهما بسببه في ضرر أو مرض أو حرج نفسي أو اجتماعي لا يُتحمّل عادة، وبدون العذر المبيح شرعاً لا يجوز للزوجين الاقدام على هذه العملية وعليهما الصبر والرضا بما قُدِّر لهما وسيجزيهما الله تعالى أجور الصابرين (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر:10) ، واذا تطلّبت العملية طرفاً ثالثاً غير الزوجين -- كرجل أجنبي تؤخذ الحيامن منه أو امرأة أجنبية تؤخذ البويضة منها أو يستأجر رحمها -- فلابد من توفّر المسوِّغ فيها لارتكاب المحرّم، وهو لا يتوفر عادة.

الثانية: حكم نفس عملية التلقيح وما يترتب من آثار على المتولِّد منها

وتوجد هنا عدة صور بحسب طريقة التلقيح داخلياً أو خارجياً وبحسب العلاقة بين طرفي العملية هل هما زوجان أم لا وبحسب الرحم الذي سيحتضن البيضة الملقحة هل هو لنفس الزوجة أم غيرها وسنشير الى هذه الصور وحكم كل منها، وهي عمومها على نوعين:

النوع الأول: اجراء العملية بين الزوجين وهنا عدة صور:

1- أن يؤخذ ماء الزوج ويحقن في مهبل الزوجة ويتم التلقيح والحمل عندها والعملية جائزة والولد ولدهما ويتوارثون.

2- تلقيح حيمن الزوج وبويضة الزوجة خارج الرحم في انبوبة او وعاء ثم تزرع البويضة المخصَّبة (النطفة) في رحم الزوجة حتى يكتمل نمو الجنين، وهي عملية جائزة والولد ولدهما.

ص: 505

3- نفس الصورة السابقة لكن الجنين يبقى في الرحم الصناعي القابلة لنمو الجنين الى ان يكتمل ويجري نفس الحكم السابق فيها.

4- تلقيح بويضة الزوجة بحيمن الزوج خارجياً وزرع النطفة في رحم الزوجة الأخرى بإذنها والعملية جائزة وينسب الولد الى أبيه اما الأم فهي عندنا الزوجة صاحبة البويضة اما التي حملت به وولدته فهي كالأم الرضاعية حكماً، وعند السيد الخوئي والشهيد الصدر الثاني (قدس الله سرهما) تكون الأم هي المرأة الأخرى التي حملت به وولدته.

5- تلقيح بويضة الزوجة بحيمن الزوج خارج الرحم وزرع النطفة المخصَّبة في رحم امرأة اجنبية مستأجرة كانت أم متبرعة وهي عملية جائزة والولد شرعي يلحق بالزوج أما الأم ففيها قولان كالصورة السابقة، مع ملاحظة ما ذكرناه من وجود المسوِّغ الشرعي عند المرأة الأجنبية، وان لا تكون غير متزوجة واذا كانت متزوجة فلابد ان يكون حملها بإذن زوجها لأن العملية تلزمه باجتناب جماعها.

النوع الثاني التلقيح بين غير الزوجين وفيه عدة صور نذكرها بنفسالتسلل السابق:

6- تلقيح الزوجة بماء الرجل الأجنبي بحقنة في رحمها ونمو الجنين في رحم الزوجة والأحوط وجوباً الامتناع عنها لعدم جواز دخول ماء الأجنبي في رحم المرأة، ولو وقعت هذه الحالة فعلى الزوج تجنب جماع زوجته في الطهر الذي ينوي فيه اجراء العملية وكذا بعد اجرائها الى ان يستبين الحمل حتى لا تختلط المياه، ويكون الولد ابناً للأجنبي صاحب الماء وليس للزوج ،

ص: 506

وأمه المرأة التي لُقّحت وحملت به ويرثهما لأنه ليس ابن زنا حتى يحرم من الميراث.

واذا قيل بجواز العملية فلابد أن يكون بإذن الزوج لأن فيها حرماناً من حقه في الاستمتاع الجنسي.

7- التلقيح بين ماء الزوج وبويضة امرأة أجنبية خارج الرحم ثم تزرع النطفة في رحم الزوجة والاحتياط هنا باجتنابها لا يصل الى الوجوبي لكننا نحتاط لزوماً بعدم القيام بمثل هذه العملية ولو أجريت فالولد للزوج صاحب الماء، اما الأم فهي عندنا المرأة الأجنبية صاحبة البويضة، اما عند السيد الخوئي والشهيد الصدر الثاني (قدس الله سرهما) فهي الزوجة التي زُرعت في رحمها البيضة المخصبة وحملت الجنين وولدته.

8- تلقيح بيضة المرأة غير المتزوجة بماء الرجل خارجاً وزرع اللقيحة في رحم نفس المرأة صاحبة البويضة والاجتناب هنا مبني على الاحتياط لجريان سيرة المتشرعة على عدم حمل المرأة من غير زواج.

9- حقن البيضة المأخوذة من المرأة الأجنبية في رحم الزوجة وتلقيحها بماء الزوج بالاتصال الجنسي الطبيعي بين الزوجين والعملية جائزة اذا عُدَّت البيضة جزءً من جسم الزوجة بعد زرعها فيه وان بقيت محتفظة بالصفات الوراثية للمرأة صاحبة المبيض التي افرزته، وان لم يساعد العرف واعتبرها جزءً من المرأة المانحة كانت الحالة من تلقيح ماء الرجل وبويضة الأجنبية خارجاً أي خارج رحم المرأة صاحبة البويضة حيث جرت في رحم الزوجة، جرى فيها حكم الصورة السابقة من تلقيح ماء الرجل وبويضة الأجنبية خارجاً.

ص: 507

10- حقن المرأة غير المتزوجة داخلياً بماء الرجل الأجنبي وهي عملية محرمة.

وقد بحثتُ هذه المسائل مع ما يترتب عليها من آثار بحثاً استدلالياً مفصلاً في محاضرات القيت على فضلاء الحوزة العلمية في النجف الاشرف وستصدر بكتاب عنوانه (فقه التلقيح الصناعي ان شاء الله تعالى).

ملاحظة: في موارد الاحتياط الوجوبي أو اللزومي في هذه المسألة يستطيع المكلف الرجوع إلى أحد المراجع ممن يقع في دائرة محتملي الأعلمية الجائز تقليدهم.

محمد اليعقوبي

14/ر جب/1441

2020/3/9

ص: 508

3- سن بلوغ الانثى

بسم الله الرحمن الرحيم

سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

هل صحيح أنكم تخالفون مشهور الفقهاء في مسألة سن البلوغ للأنثى وأنه 13 سنة وليس 9 سنوات هجرية؟

بسمه تعالى

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الذي ظهر لنا من خلال النظر بتأمل في منظومة الروايات الشريفة الواردة عن الأئمة المعصومين (علیهم السلام) في هذه المسألة وجعل بعضها قرينة على بعض أن لا بلوغ للأنثى قبل إكمال تسع سنوات قمرية حتى لو رأت الدم ، فهذا السن يمثل إمكان بلوغ البنت وليس الحكم ببلوغها مطلقاً، أي ان البنت يمكن ان تبلغ سن التكليف عند إكمال عمر تسع سنوات قمرية(1) إذا رأت شيئاً من التغيرات الجسمية والنفسية والسلوكية الكاشفة عن بلوغها سن النضج الجنسي كالميل الجنسي للذكر والحياء من الاختلاط معه وتحّرك الشهوة والشبقونحوها من العلامات .

ص: 509


1- السنة القمرية تقل عن السنة الشمسية ب 11 يوماً

ونقطع ببلوغها هذا النضج إذا رأت دم الحيض بعد إكمال التاسعة، ولكن إذا بلغت عمر 13 سنة ولم ترَ اي علامة فيحكم ببلوغها سن التكليف ولا تنتظر أكثر من ذلك.

والخلاصة ان البلوغ حالة معلومة لدى العرف ولم يأتِ الشارع المقدس بتعريف جديد لها غير ما يعرفه أهل اللغة، وهم المرجع في تحديد معاني الألفاظ، لكن الشرع المقدس تدخل في وضع بعض الحدود للحالة، فالتسع هو سن نفي أي إمكان للبلوغ قبله، والثلاث عشرة هو السقف الأعلى للبلوغ فلا يتأخر بعده.

وقد قال الاختصاصيون ان الاناث يختلفن في العمر الذي يبلغن به النضج الجنسي تبعاً لعدة عوامل بايولوجية تتعلق بتركيبة البنت، وبيئيّة من حيث مناخ البلد الذي تعيش فيه، واجتماعية من حيث سلوكيات المجتمع هل هو محافظ أم متحلل، ونحو ذلك من المؤثرات.

وقد بحثتُ المسألة مفصلاً ونُشر البحث في موسوعة فقه الخلاف، ج 4، ص190 من الطبعة الأولى، ونَقضتُ في البحث على المشهور بأن البنت لو حجّت عند إكمال تسع سنوات قمرية، وهي لا تجد عندها أي علامة على النضج الجنسي، وتعيش حياة الطفولة كما في بعض المناطق الباردة فهل يقال بإجزائها عن حجة الإسلام التي يشترط فيها البلوغ؟فان أجابوا بالنفي فهو نقض على ما ذهبوا اليه، وان أجابوا بالإيجاب ففيه مخالفة للواقع ولفهم العرف والذي هو المرجع في فهم مداليل الالفاظ، ومنها البلوغ.

وينبغي الالتفات إلى ان الشارع المقدس قد حثّ على مباشرة الصبي

ص: 510

والصبيّة للعبادات من الصلاة والصوم والحجاب للأنثى قبل بلوغ سن التكليف، بحيث يستغرب الإمام الرضا (علیه السلام) في بعض الروايات من أبٍ لا يصلّي ابنه وهو في السابعة من العمر.

محمد اليعقوبي

22/شعبان/1441 ه-

2020/4/16 م

ص: 511

4-الإرهاب وحد الحرابة

سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أنا طالب ماجستير وعنوان رسالتي (العمل الإرهابي وتأثيره على حقوق الانسان دراسة مقارنة بين الفقه الامامي والقانون الدولي) ولم أجد في الموسوعات الفقهية لعلماء الإمامية تعريفاً للإرهاب في مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) لذا أرجوا أن تبينوا لنا ذلك لتضمينه في الرسالة.

بسمه تعالى

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

لم يرد مصطلح الإرهاب في موضوعات الاحكام الشرعية وإنما هو منقول من الثقافة الغربية المعاصرة، وأنا اسيء الظن بهم حين اختاروا(1) هذا اللفظ للتعبير عن الحالة بأنهم أرادوا تشويه صورة الإسلام بإلصاق تهمة الإرهاب به باعتبار ان القرآن الكريم أمر (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) (الأنفال:60) والمعنى المراد فيالآية غير ما قصدوه، لأن الآية تدعوا إلى اظهار القوة والاستعداد لمواجهة العدو كجزء من الحرب النفسية لإرعاب

ص: 512


1- كإطلاقهم لفظ الاستعمار على عدوانهم الوحشي على الشعوب وسحقها واذلالها ونهب ثرواتها مع انه مصطلح قراني حضاري يراد به اعمار الحياة بكل شيء مثمر مبارك (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) (هود : 61)

العدو وإخافته من أجل ردعه ودفع عدوانه وظلمه وإحداث حالة من توازن الرعب معه بل التفوق عليه.

وقد نهت الروايات الشريفة عن استعمال الاخافة والارعاب والترويع في غير الحالة الدفاعية المذكورة، فقد روى عبدالله بن سنان عن الامام الصادق (علیه السلام) أنه قال (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : من نظر إلى مؤمن نظرة ليخيفه بها، أخافه الله عزوجل يوم لا ظل الا ظلّه)(1)

وروي عن أمير المؤمنين علي قوله (لا يحل لمسلم أن يروّع مسلماً)(2).

فترويع الناس الآمنين المسالمين وإخافتهم محرم مطلقاً حتى بالنظرة، وهذا ملخص موقف الإسلام.

وقد جعل للأمن قيمة عليا واعتبره من مقومات الحياة الكريمة للإنسان فمن كلمات أمير المؤمنين (رفاهية العيش في الأمن) و (لا نعمة اهنأ من الأمن) و (شر البلاد بلد لا أمن فيه ولا خصب) (3)

وفي الحديث (خمس خصال من فقد واحدة منهن لم يزل ناقص العيش،زائل العقل، مشغول القلب، فأولها صحة البدن والثانية: الأمن، والثالثة: السعة في الرزق، والرابعة: الأنيس الموافق، والخامسة وهي تجمع هذه الخصال: الدعة)(4)

وفي الحديث (ثلاثة أشياء يحتاج الناس طراً إليها: الأمن والعدل والخصب)(5).

ص: 513


1- وسائل الشيعة: 12/303 أبواب احكام العشرة، باب 162 ح 1
2- وسائل الشيعة: 12/303 أبواب احكام العشرة، باب 162 ح 3
3- غرر الحكم:10254،10253،10255
4- وسائل الشيعة: 20/51-52 أبواب مقدمات النكاح، باب 14 ح 7
5- بحار الانوار

وكانت سيرة النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة المعصومين (علیهم السلام) حافلة بالشواهد على النهي عن ترويع الناس واخافتهم فعندما فتح النبي (صلی الله علیه و آله) مكة وصارت قريش التي مارست أنواع القتل والتعذيب والتهجير بحقه وحق أصحابه في قبضته نهى أصحابه عن إخافة أي شخص من أهل مكة وأمر بأخذ الراية من سعد بن عبادة لما علم (صلی الله علیه و آله) أنه هزّها فرحاً بنشوة الانتصار.

والمصطلح الموجود في الفقه الإسلامي مقابل مصطلح الإرهاب هو الحرابة والافساد في الأرض وقد ورد في القرآن الكريم وفرض عليه أشد العقوبات، قال الله تبارك وتعالى (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْعَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (المائدة:33-34) .

وبحسب فهمي فان الافساد في الأرض ذكر لوجهين

1- لبيان ملاك الحرابة الموجبة للعقوبة المذكورة لأن محاربة الله تعالى لها مصاديق كثيرة لا ينطبق عليها جميعاً عنوان الحرابة الموجب للحد المذكور كمخالفة الاحكام الشرعية، قال السيد الطباطبائي(قدس سره) ( محاربة الله ذات معنى وسيع يصدق على مخالفة كل حكم من الاحكام الشرعية وكل ظلم واسراف)(1)

فجيء بهذا العنوان لتحديد مفهوم الحرابة المقصودة بالحد.

2- ولأن الحرابة قد يظهر منها اشتراط استعمال السلاح أو التلويح به

ص: 514


1- الميزان في تفسير القران:5/354

لتحقق العنوان مع أن حد الحرابة قد يجب بغير ذلك اذا تحقق عنوان الافساد في الأرض، قال ابن ادريس (قدس) (ولا خلاف بين الفقهاء -- أي فقهاء العامة -- أن المراد بهذه الآية قطاع الطريق، وعندنا كل من شهر السلاح لإخافة الناس في بر كان أو في بحر، في العمران والامصار، أو في البراري والصحاري وعلى كل حال)(1).

وقال مثله المقداد السيوري (قدس سره) في تفسير الآية(2)

وذكر السلاح في بعض الروايات(3)

من باب التطبيق على المصاديق.فالحرابة والافساد في الأرض يراد به كل إخلال بالنظام الاجتماعي العام على نحو يهدّد الأمن أو الاقتصاد أو العقيدة، وهذا كلام مجمل، وإجماله مضرّ بل خطير لو ترك للعصبية والاهواء والتأويلات بلا محددات لسعة التطبيقات.

والذي يهوّن الخطب ان أمر الحدود من وظائف الحاكم الشرعي الجامع للشرائط ولا يحق لغيره النظر فيه مطلقاً فضلاً عن تطبيقه على أحد أو تنفيذه، والحاكم الشرعي هو الذي يحدّد من ينطبق عليه العنوان.

محمد اليعقوبي النجف الاشرف

27 شعبان 1441

2020/4/21

ص: 515


1- السرائر:3/505
2- كنز العرفان:2/351
3- راجع وسائل الشيعة:28/310، أبواب حد المحارب، باب1

5-الأمانة العلمية في النقل من المصادر

سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نحن مجموعة من طلبة الدراسات العليا تواجهنا عدة أمور في كتابة مصادر الرسالة أو الأطروحة.

يلزمنا معرفة حكمها الشرعي راجين عطفكم بالإجابة عليها ليكون الحكم واضحاً لدينا:

1- اذا قرأ الطالب فكرة معينة في كتاب معين ثم صاغها بصياغة جديدة أو اختصرها وانزلها في اطروحته او رسالته فهل يلزمه شرعاً ذكر المصدر الذي قرأها فيه مع أنه لم يكتبها بالنص نفسه؟

2- اذا قرأ الطالب نصاً في كتاب معين و هذا النص مقتبس من كتاب اخر والمصدر مذكور في الهامش فهل يجوز له أن ينزله في رسالته ويكتب المصدر الرئيسي دون الإشارة إلى المصدر الذي وجدها فيه ؟

3- ما الحكم في الفرض السابق مع ملاحظة انه يرجع الى المصدر الرئيسي ليقرأها فيه ثم ينزلها في رسالته من المصدر الرئيسي فيكون المصدر الناقل دالاً فقط ؟

4- اذا توصل الطالب لفكرة معينة بجهده ولكنه بعد ذلك وجد ان احد الكتّاب السابقين عليه قد توصل لهذه الفكرة قبله فهل يلزمهالإشارة الى ذلك؟

5- هل تجوز كتابة الرسالة بعنوان هو - نصاً - نفس عنوان رسالة سابقة او كتاب سابق مع اختلاف المادة العلمية أو أسلوب الطرح او سعته أو

ص: 516

اختصاره؟

تقبل الله اعمالكم بخير القبول ونسألكم الدعاء بالتوفيق لنا ولجميع الطلبة.

مجموعة من طلبة الدراسات العليا- جامعة الكوفة

21 / شهر رمضان/ 1441ه-

2020/5/15 م

بسمه تعالى

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

تقبّل الله أعمالكم وجعلكم من ضيوفه في هذا الشهر الكريم

1- لا مانع من عدم ذكر مصدر الفكرة ما دام قد صاغها الباحث بنفسه لأن الانسان بطبيعته يلتقط الأفكار مسموعة أو مقروءة أو مرئية ولا يجب عليه أن ينسب كل فكرة حررّها الى مصدر الهامها وانقداحها في ذهنه.

2- ليرجع الى المصدر الأصلي المذكور في الهامش ويأخذ منه مباشرة وإذا أخذها بالواسطة فليذكر ان النص ورد في المصدر الفلاني منقولاً عن المصدر الفلاني، وهذا مقتضى الامانة.3- تقدم جوابه بالجواز.

4- لا يلزمه، لكنه قد يعتبر نقصاً في بحثه العلمي إذ سيقال له ان هذه الفكرة موجودة في المصدر الفلاني فلماذا لم تشر اليها، فلو اورد ذكر المصدر الاخر لا بنحو النقل عنه وانما من باب الثقة بالرأي أنه وجده مطابقاً لما ذكره فلان.

ص: 517

5- اذا لم يلزم محذور آخر كإيهام المتلقين أو تضييع جهد السابق او التدليس او مخالفة القوانين المرعيّة في نيل الشهادات والدرجات العلمية وغير ذلك فلا مانع منه، وقد يختلف الحكم من شريحة لأخرى فالحوزة العلمية لا ترى بأساً في ذلك لذا تجد ان عدداً من مراجع الدين منذ السيد محسن الحكيم (قده) الى اليوم سمّوا رسالتهم الفقهية العملية (منهاج الصالحين).

محمد اليعقوبي

24شهر رمضان 1441

ص: 518

6-نشاط الإمام الحسين (علیه السلام) في فترة الهدنة

نلاحظ بشكل عام اختفاء سيرة الإمام الحسين (علیه السلام) في السنوات العشر التي مارس فيها ولايته منذ شهادة الإمام الحسن (علیه السلام) الى موت معاوية

والسؤال: ماهي أهم فعاليات الإمام الحسين (علیه السلام) كإمام مسؤول عن توعية وتوجيه وتعليم الأمة. ثم الإمام الحسين (علیه السلام) موعود بأنه صاحب النهضة.. وشهيد الأمة، ولابد هذه الحركة تحتاج مقدمات على جميع الأصعدة..

فماهي المقدمات التي قام بها الإمام الحسين (علیه السلام)؟ (هذا على فرض أنه كانت هناك مقدمات).

بسمه تعالى

السلام عليكم و رحمة الله ..

لم يعلن الإمام الحسين (علیه السلام) معارضة سياسية لمعاوية التزاماً بالاتفاق المعروف ب "صلح الإمام الحسن (علیه السلام) " وكان معاوية يلتزم ببعض بنود الصلح ظاهراً فلم يقتل رموز شيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) إلا بعد استشهاد الإمام الحسن (علیه السلام)، وحينئذ لم يتوقف الإمام الحسين (علیه السلام) عن التنديد بجرائم معاوية كقتله لصلحاء الأمة مثل حجر بن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي ورشيد الهجري واستلحاقه زياداً بنسبه وهو لم يولد علىفراش ورسالته الى معاوية في ذلك معروفة (راجعوا كتاب دور الأئمة في الحياة الإسلامية).

ثم بدا الإمام الحسين (علیه السلام) معارضته العلنية لسياسة معاوية عندما نكل ببنود الاتفاق وأعلن عن استخلاف يزيد حوالي سنة 55 هجرية بعد أن قضى

ص: 519

على رموز الأمة من العامة والخاصة كالإمام الحسن (علیه السلام) وسعد بن أبي وقاص خلافاً للاتفاق الذي يقضي بأن يكون الخليفة بعده الإمام الحسن (علیه السلام) ثم الإمام الحسين (علیه السلام)، ومن إجراءاته في ذلك جمعه لمن تبقى من الصحابة والتابعين الذين سمعوا من الصحابة في منى في موسم حج سنة 57 هجرية وأشهدهم على حديث الغدير وبيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) ليثبت هذا الحق في أذهان الأمة قبل أن ينقرض الصحابة و هم الشهود على الحدث، ولم يتحرك الإمام الحسين (علیه السلام) كنهضته ضد يزيد لأن الأمة لم تدعُهُ الى ذلك كما دعتهُ بعد موت معاوية باعتبار أن نصرة الأمة شرط للقيام بالحركة كما في قول أمير المؤمنين (علیه السلام) : (لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر.... ) فكان يستثمر الوقت لتوعيتها باتجاه فضح معاوية وبطلان الملك الأموي الزائف، لكن الأمة لم تصل الى مستوى الخروج عليه لأنه لخبثه ودهائه كان يراعي اللياقات الظاهرية هذا على الصعيد السياسي، أما على الصعيد العلمي والمعرفي فقد كان ينشر علومه فيالتفسير والفقه والأخلاق ووردت عنه روايات في ذلك إلا أنها قليلة لقلة من يأخذ العلم منهم (علیهم السلام) بسبب البطش الأموي ومن تلك الروايات ما ورد عنه (علیه السلام) في تفسير قوله تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56).

وكان يبث علوم الدين من خلال الأدعية وأشهرها دعاؤه يوم عرفة في الموسم وهو جليل القدر عالي المضامين يعتبره العرفاء الشامخون من أروع المعارف الإلهية.

وكان (علیه السلام) يهتم برعاية عوائل الشهداء مع أبيه أمير المؤمنين (علیه السلام)

ص: 520

في معركة صفين وغيرها ويغدق عليهم وعلى عموم المحتاجين ووردت روايات عديدة في كرمه، وكان يسأل طالب الحاجة أحياناً قبل أن يعطيه فان عرف الجواب أجزل له العطاء وان لم يعرف علّمه واعطاه ليجمع لهم العطاء المعنوي والمادي فيشجّعُهم بذلك على السؤال عن أمور دينهم وأن لا يكتفوا بسد احتياجاتهم المادية.

كما كان (علیه السلام) له نشاط اقتصادي في الإستثمار في الزراعة وشراء الأراضي فيوفِّر بذلك المال الكافي لتغطية النفقات أعلاه وأرضه في البغيبغة مشهورة.

هذه صورة مختصرة عن فعاليات الإمام الحسين (علیه السلام) أيام إمامته وقلت في بعض كلماتي أن يوماً واحداً من أيام الإمامالحسين (علیه السلام) وهو يوم عاشوراء تكفل بإحياء الأمة مدى الدهر فماذا سيكون الحال لو استفدنا من كل أيامه التي امتدته سبعة وخمسين عاماً مباركاً.

راجعوا كتاب دور الأئمة (علیهم السلام) في الحياة الإسلامية للاطلاع على المزيد من فعالياته المباركة.. و الحمد لله أولاً وآخراً..

ص: 521

7- دية القتل

يتخيّر الجاني في دية القتل غير العمد بين دفع مئة بعير أو مئتي بقرة أو ألف رأس من الغنم أو ثلاثة كيلوات واربعمائة وخمسين غراماً من الذهب الخالص، والأحوط التصالح بين الجاني وولي الدم بين أحد هذه الأجناس وقيمة أربعة وعشرين كيلو ومئة وخمسين غراماً من الفضة الخالصة.

اما في قتل العمد فيتعين على الجاني دفع مئة بعير أو قيمتها إن رضي ولي الدم بالدية بدل القصاص ولولي الدم -- وهم ورثة المجني عليه -- ان يرضى بأقل من ذلك إن كان بالغاً رشيداً

ص: 522

8-تسمية (عبد الزهراء)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

العبودية لا تكون إلا لله وحده يقول سبحانه وتعالى (بَلِ اللّهَ فَاعْبُدْ)(الزمر:66) فلماذا يتسمى الشيعة بعبد الحسين وعبد علي وعبد الزهراء وعبد الإمام؟

بسمه تعالى

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

إضافة (عبد) الى الأسماء المباركة للتشرف بالانتساب إليهم مثل (عبدالزهراء) أو (عبدالحسين) وليس هو بمعنى أداء وظائف العبودية للإله والرب فإنها لا تكون الا لله تعالى وهذا هو معتقد الشيعة الراسخ ويكررونه في صلواتهم وأدعيتهم فيقولون (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) (الفاتحة:5) وهي تفيد الحصر أي نعبدك وحدك فقط لا شريك لك.

ويصح إطلاق لفظ (عبد) لمعاني عديدة كالرق الذي كان معروفاً في الأزمنة القديمة فيقال هذا عبد بني فلان أي مولاهم، كما يطلق على الخادم فيقال (عبد السادة) أي خادمهم وغير ذلك من المعاني التي أقرها القرآن الكريم، قال تعالى (وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ) (النور:32) فقد سماهم عباداً ووصفهم بالصالحين فليس في المعنى الذي ذكرناه ضير، ولا ينافي العبودية الخالصة لله تبارك وتعالى.

محمد اليعقوبي

15شعبان 1442

ص: 523

9- دور المرجعية في مكافحة الثأر العشائري

سماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) السلام عليكم ورحمة الله وبركاته للمرجعية الرشيدة التي من وظائفها هداية الأمة وإصلاح الخلل فيها ادوار ومواقف في معالجة الظواهر الاجتماعية المنحرفة وغيرها، فما هو دور المرجعية الرشيدة في الحد من ظاهرة الثأر العشائري لأنه موضوع بحثي في بحث التخرج؟

بسمه تعالى

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

كان لمراجع الدين دور بارز في تهذيب سلوك أبناء المجتمع عموماً والعشائر خصوصاً باعتبارها تمثل ثقلاً اجتماعياً أصيلاً ومتماسكاً وله جذوره التاريخية وقيمه ومبادئه النبيلة الا انه كأي شريحة أو تجمع لا يخلو من سلبيات تحتاج الى إصلاح وفق القوانين الشرعية والإنسانية.

وقد مارست المرجعية هذا الدور عن طريق كتابه الاستفتاءات أو تأليف الكتب والكراريس في (فقه العشائر) كالذي ألفه سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قده) وكتبتُ مقدمته وصدر في حياته الشريفة أو عن طريق تدوين سنينة عشائرية موافقة للشريعة وللسلوك العقلائي لتسير العشائر على هديها وغير ذلك من البيانات المختصرة والتفصيلية ومن الخطوات العملية التي اتخذناها إقامة دورات لرؤساء العشائر ووجهائها لتعليمهم المسائل الشرعية التي تخصّ عملهم وتعريفهم لمسؤولياتهم الدينيةوالأخلاقية والاجتماعية في الدنيا والآخرة وقد استضفنا عدد كبيراً منهم عدة أيام في النجف الاشرف وزرناهم في محل

ص: 524

اقامتهم وتحدثنا معهم بكلمات لله فيها رضى ولنا ولهم فيها صلاح بإذن الله تعالى.

ومن القضايا العشائرية التي عالجتها المرجعية مسألة الثأر إذ لا يجوز لأي أحد الاقتصاص من آخر الا بعد ان يثبت حقه لدى الحاكم الشرعي والا حصلت فوضى واختلال للنظام وللحاكم الشرعي آلياته ووسائله لاثبات الحق الشرعي للمجني عليه أو اوليائه ومن يخالف يتحمل المسؤولية الشرعية ومن الملفت للنظر أن العشائر تعتبر كل افراد عشيرة المعتدي عليهم هدفاً للثأر والانتقام وهو سلوك مرفوض لقوله تعالى (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (فاطر:18) ولا يُحمل مسؤولية الجناية الا الجاني نفسه وبالعقوبة المحددة شرعاً، قال تعالى (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (البقرة:194).

فنهيب بإخواننا رؤساء العشائر ووجهائها وابنائها ان لا يندفعوا وراء العصبية والانتقام والثأر خارج الضوابط الشرعية فانها مهلكة في الدنيا وعاقبته وخيمة في الآخرة خصوصاً اذا أدت الى قتل النفوس المحترمة، قال تعالى (مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.

محمد اليعقوبي

3 شعبان 1442

ص: 525

10- تقادم الحق

بسمه تعالی

الى مكتب سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)

تذهب بعض المذاهب الإسلامية الى القول بعد سماع الدعوة بعد مرور فترة محددة من الزمن (التقادم)، فإذا سكت الدائن او صاحب الحق عن المطالبة بحقه مدة محددة شرعاً ثم طالب به بعد انقضاء تلك المدة سقط حقه في إقامة الدعوى.

فما هو رأي سماحتكم في هذه المسألة، وهل يوجد دليل على إسقاط حق إقامة الدعوى بمرور الزمن؟

حيدر رحيم الساعدي

2021/1/19

بسمه تعالی

لا تسقط الدعوى بالتقادم فلا توجد مدة لذلك، نعم إذا كان إهمال صاحب الحق للمطالبة به ومتابعة الدعوى مفيدة للاطمئنان بتنازله عنها أمكن العمل به، لكن هذا بعيد، إذ من غير المعهود في الشريعة أن يكون هذا السکوت مبرزاً قطعياً للتنازل لأنه أمر عدمي ولا يقاس علی حديث (سكوت المرأة رضاها) لأنه ورد في حالة خاصة كما هو معروف.

محمد اليعقوبي

13 / ج2 / 1442

2021/1/27

ص: 526

11- حول التعامل مع المصارف الأهلية

سماحة المرجع الشيخ محمد اليعقوبي دام ظله

سلام عليكم ونسأله تعالى أن يمد في عمركم خدمة للإسلام والمسلمين.

هذه عدة أسئلة حول التعامل مع المصارف الأهلية نلتمس منكم جوابها لمسيس الحاجة اليها جزاكم الله خيرا:

1- تقوم الدولة الان بما يعرف بتوطين الرواتب عند المصارف حيث تضع الحكومة مبلغ الرواتب في مصرف معيَّن ويستلم الموظف راتبه من المصرف الموطّن عليه وليس من صندوق دائرته كما كان سابقاً، فهل يوجد إشكال على الموظف بقبض راتبه من المصرف الأهلي؟ أم لا؟ وهل تعدّ البنوك الأهلية الموجودة الآن بحكم البنوك المشتركة باعتبار ان الدولة تضع فيها رواتب الموظفين لتسهيل استلامهم لها وعلى هذا تعد الأموال التي فيها من الأموال الحكومية لا الأهلية فتكون صفة هذه البنوك انها مشتركة ولو من غير اشتراك برأس المال بينها وبين الحكومة؟

2- هل الأموال الموجودة في البنوك المشتركة يُتعامل معها معاملة مجهول المالك؟3- ما حكم الاقتراض منها بفائدة يأخذها المصرف؟

4- ما حكم الإيداع فيها بفائدة يمنحها المصرف؟

مجموعة من المؤمنين

6 شهر رمضان المبارك 1442 ه-

ص: 527

بسمه تعالى

1- لا مانع من قبض الراتب من هذه المصارف اذا وطنّت الدولة الرواتب فيها لأنها هنا كالوسيط في إيصال الرواتب الى مستحقيها بعد أن تنزلها الجهة الحكومية في حسابها.

وهذه المصارف ليست بنوكاً مشتركة بمعنى الشركة المعروف بين القطاع العام والخاص لأن الدولة ليست شريكة فيها ولا تمتلك أسهماً فيها وإنما هي مملوكة لأصحابها ويتحملون هم مسؤوليتها ربحاً وخسارة وتكون الدولة كسائر الزبائن الذين يودعون الأموال في المصرف أو يسحبونها، لذا فحكم التصرفات المالية مع هذه المصارف يتبع نوع المعاملة المقصودة معها فقبض الرواتب منها جائز وكذا اذا وجدت منح أو مكافئات تمنحها الحكومة ونحو ذلك، لأن جملة من مصادر أموال هذه المصارف محللة تكفي لتصحيح قبض الراتب منها.2- اتضح مما تقدم ان هذا المقدار من تعامل الدولة مع المصرف لا يجعلها من البنوك المشتركة، وان أموالها ليست مجهولة المالك بل هي معلومة المالك وهو صاحب المصرف والزبائن المودعون فيها.

3- اذا كانت الدولة تضع أموالاً في المصارف لإقراض المواطنين كالقروض العقارية أو سلف الزواج ويكون المصرف الأهلي وسيطاً في المعاملة وله نسبة محددة تؤخذ مرة واحدة كأجرة على التوسط وهي الحالة التي نعرفها اليوم في مبادرة القروض التي يمنحها البنك المركزي من خلال هذه المصارف فلا مانع

ص: 528

من الاقتراض ودفع هذه الزيادة، اما اذا كان القرض يقدمه المصرف الأهلي من ماله الخاص بفائدة كعمل ربحي للمصرف فالمعاملة غير جائزة.

لكننا ذكرنا في غير موضع عدة وجوه لتحويل الحرام الى حلال في عمل المصارف الأهلية ومنها أن يقوم المصرف بشراء السيارة أو العقار ولو حصة منه بحسب مقدار القرض ويدفع المبلغ المقرر نقداً ويبيع المصرف ما اشتراه الى الزبون بالتقسيط بزيادة هي مقدار الفائدة ولا مانع منها لما قيل من ان للأجل قسطاً من الثمن ونحو ذلك.

4- لا مانع من الإيداع فيها - وهو يعني إقراضها - وسحب الودائع منها، ولكن لو كان المصرف يعطى فائدة على الإيداع فلابد من ملاحظة وجه محلل لقبضها عند التعاقد مع المصرف بشرط الفائدة ككونها تمثل حصة المودع من الأرباح التي يحققها المصرف من تشغيل المبالغالمودعة لديه في معاملاته المحللة وحينئذٍ لا تكون العملية ايداعاً بل استثماراً للمال، اما مع عدم اشتراط الفائدة على المصرف لكنه هو الذي يبادر بدفعها عن رضا وطيب نفس فلا مانع.

محمد اليعقوبي

7 شهر رمضان 1442

ص: 529

12- الحائض وقراءة القرآن

سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)

هل يجوز للحائض أن تقرأ القران حيث تمتنع بعض النساء عن تلاوة القران في أيام الدورة الشهرية ونحن مقبلون على شهر ر مضان ولا نريد أن نحرم من تلاوة القران فيه؟

بسمه تعالى

يجوز للحائض تلاوة القران وعليها اجتناب أمرين:

أ- مسّ كلمات القران بيدها أو أي جزء من بدنها مباشرة لقوله تعالى (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (الواقعة:79) فتستطيع متابعة القران بعلامة من ورق او قلم او تلبس بيدها ما يمنع المماسة المباشرة.

ب- قراءة آيات السجدة الواجبة وهي في سورة السجدة وفُصّلت و النجم والعلق، ولا بأس بالاستماع اليها، ولها قراءة ما سوى ذلك من القران الكريم.

ونغتنم هذه الفرصة لحث الاخوات والاخوة المؤمنين على الاستئناس بتلاوة القران الكريم والتدبر في معانيه على مدار السنة خصوصاً في شهر رمضان الذي وصفته الأحاديث الشريفة بأنه (ربيع القران) وأن من تلا آية من القران فيه كان كمن ختم القران كله في غيره من الشهور، وفقنا الله تعالى وإياكم لما يحب ويرضى.

ص: 530

قصائد مختارة

بك الاضحى

بكَ الأَضحى(1) بهياً مورقاً أضحى *** وشمسٌ أَنتَ فينا عانَقتْ صبحا

بكَ الأضحى سخيُّ الضوءِ في زمنٍ *** بِه ليلٌ يؤمُّ الأنفسَ الشُحَّا

بكَ الأَضحى رأينا حلوَ طلّتهِ *** عراقياً فراتيَّ الخطى سمحا

فتى يعقوبَ شيخَ الفقهِ يا سنداً *** لمن لبّى ومن صلّى ومن ضحّى

ويا دِفقاً من الآمالِ ما برِحت *** تُهدهدنا فمرحى يا غداً مرحى

لنا بلدٌ غزتهُ الحربُ موجعةً *** وقد أدمتهُ حتى أدمنَ الجُرحا

لنا بلدٌ نداءُ اللهِ في فمهِ *** أغيثوهُ وصوتُ مقالهِ بُحَّا

لنا بلدٌ رأينا فيكُمُ غدَهُ *** كمأذنةٍ وكنتم للنُهى صَرحا

ص: 531


1- أبيات ألقاها الأستاذ الشاعر ضرغام البرقعاوي في مجلس سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) بمناسبة عيد الأضحى 1440 ه- .

بسمه تعالى

سماحة المرجع الديني الكبير المجاهد الشيخ محمد اليعقوبي (دامت بركاته)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

لي كل الشرف أن ألقي أمام سماحتكم هذه الأبيات في مناسبة عيد الغدير الأغر عيد الله الأكبر فأطلب الرخصة والسماح في إلقائها مع جزيل الشكر وفائق الاحترام.

عيدٌ ودهُركَ كلُّ آنٍ عيدُ *** و (عليُّ) يَومُهُ في الغَديرِ سعيدُ

هُنِئتَ يا قطَب النجومِ غَديرَه *** فَوِلاهُ شَهدٌ طَيّبٌ مَحمودُ

أَمحمدَ الخيرِ الذي دوماً غدا *** من عُمقِ فكركَ للأنامِ سُعودُ

وَفتحتَ دَرباً للفَضيلةِ نيّراً *** أَبداً، شمُوعٌ مالَهنَّ رُقودُ

شَهدتْ لفقهكَ بالتجددِ في الرُؤى *** علماً ورأُيكَ (بالخلافِ) سَديدُ(1)

وسما(حديثُ الروحِ) منكَ إلى الورى *** يتلوهُ نُورٌ بالكتابِ جَديدٌ(2)

ولأنتَ في الأَمجادِ مَقصدُ أَهلِها *** بالجودِ أَوحدُ في العَطاءِ فَريدُ

دُمْ في سُرور ما بَقيتَ أَبا العُلى *** للشَرعِ إذْ ببقاكَ يَحلو العيدُ

خادمكم المخلص

إياد عيدان البلداوي

15 ذو الحجة الحرام 1440 ه-

ص: 532


1- إشارة إلى كتاب (فقه الخلاف) لسماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)
2- إشارة إلى محاضرات سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) في قناة النعيم المباركة من خلال محاضرة (حديث الروح) ومحاضرة (من نور القرآن).

رَسائِلُ العَطش

رَسائِلُ العَطش(1)

يا دارُ أين من الجموعِ عميدُها *** ومتى على الساعين عزَّ ورودُها

ومتى توسَّدها المغيبُ وطالما *** رفَّت بساريةِ الصباحِ بنودُها

لم تندرِس لكن أفَلتَ فأُمحِلَت *** فعلمتُ أن بزوغَ وجهِك عيدُها

وعلِمتُ أن اللهَ حين أرادهَا *** مهداً مُمَهِّدَةً كذاك يريدُها

انا يا جهنمَ لوعتي لم تنطفئ *** بل كان أن مُنِعَت لِقاك مزيدُها

هل أعلموكَ بأن داراً كُنتهَا *** برسائلِ العطشٍ استفاضَ بريدُها

حرمَ الوباءُ لقاءَنا بكَ مثلما *** حرم الحياةَ من الحسينِ يزيدُها

تسعون مرّت كالصريمِ عجاجةً *** صبغت وجوهَ أحبةٍ لك سودُها

عوّدتها رؤياك وهي مريضةٌ *** وترومُ وصلك يا متى ستعودُها

والبابُ تؤلمني أُطالعُهافيسألُني *** خيالُ البابِ أين وفودُها

باتت تذكرني ببابٍ عندها *** سقطت تُنازعُ فاطمٌ ووليدُها

وروامقٌ كانت طوامِحَ نظرةٍ *** تهبُ الربيعَ سناهُ أين عديدُها

إن قصّرَت عملاً أتَتكَ تؤمُّها *** ليَتِمّ فيك ركوعُها وسجودُها

ولطالما هتفَت ومِلءُ مسامِعي *** لبيك يابابَ الرجاءِ نشيدُها

عِد أن تُنجّزَ وصلَها بِك مُسعِفاً *** فالمحنةُ اتّقَدت وانت مفيدُها

ص: 533


1- قصيدة ألقاها فضيلة الشيخ الأديب حسنين قفطان بحضرة سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) بعد أدائه لصلاة عيد الفطر يوم الاثنين / 1441 الموافق 2020/5/25 في مكتبه الشريف حيث ترجم فيها مشاعر جموع المحبين الذين اضطرهم وباء كورونا لعدم التزود من بركات اللقاء بمرجعيتهم الرشيدة فجاءت أبيات القصيدة معبرة عن لسان حالهم.

قُدها لغائِبها الحزينِ فإنهُ *** أبداً سيفرحُ إن رآك تقودُها

وأعِد لها أملاً يكادُ بريقُهُ *** يخبو وأوقِدهُ ليُثمِرَ عودُها

وُئِدَت ملامحُها ولي ثقةٌ بأن *** يحيى بنظرةِ عالمٍ موؤودُها

لم تُبهِم الدنيا وضوحَك فاهتدت *** بك للهُدى أحرارُها وعبيدُها

بل انت اقربُ ما تكونُ لصَونِها *** لو كان يملكُ أن يقولَ وريدُها

لَيجودُ إن مُدِحَ الكريمُ وأنت مه- *** -جتُهُ لمُتلِفِها تنفّس جودُها

زار الوباءُ بلادَنا فتكدّرَت *** وتقاسماهُ شقيهُّا وسعيدُها

وبذِمَّتي ما إن ستُقنِتُ تنجلي *** نُوَبٌ نوايا الكائدين تكيدُها

ضحِكَت صلاةُ العيدِ حين أقمتها *** فأقام يفترِشُ النفوسَ جديدُها

العيدُ عندي منبرٌ وعليهِ تُل- *** -تلى خُطبةٌ ومحمدٌ غرِّيدُها

ص: 534

(وأرى الإمَامَ مُبَارِكاً لأيَادِي)

فيضُ العلومِ لقمةِ الأمجادِ *** ياعاشقينَ لشمسِنا وعماديْ

العلمُ نورُ اللهِ سرُ فضيلةٍ *** وهوَ الموحِّدُ للعقولِ يُناديْ

هذا عراقُكَ يَرتجيكَ لموقفٍ *** فدعْ البغاةَ ومَا بَغَوا بِبلاديْ

السرُّ أنْ تهبَ الخلودَ عَطاؤَكمْ *** مَنْ ضَمُّ فيضَ الآلِ يَشْرقُ حَادي

حُمِّلْتُمُ إرثَ العِراقِ وعَالِمٍ *** انتَ الوريثُ لِقمَّةِ الأجْدَادِ

فالمَالُ كالطُوفانِ يُغرِقُ عَالَماً *** وبهِ النجاةُ إِذا تَحَكَّمَ هَادي

أنظرْ لفيضِ اللهِ دعوةَ أمةٍ *** يبقى يُرددُهَا الزمانُ فؤادي

وقفتْ لكَ الأجيالُ تَرْقبُ طلعةً *** لا تستكينَ لظالمٍ بسَوادِ

أنتمْ عِماد النورِ إِنْ عكفَ الدُّجى *** أو قدْ تساوتْ قمةُ بوهَادِ

ذي قِمةُ التكريمِ مَنْ يَرقى لها *** جَمَعَ الدموعَ أناملاً كمِدَادِ

هَاكمْ عبيرَ القلبِ جئتُ مباركاً *** ذي صحبةُ الافذاذِ خيرُ سنادِ

الشَّيخُ كرَّمَ ذي العقول ممجداً *** وهوَ المهندسُ ما شذتْ اورادي

ومراجعُ للحقِّ ترسمُ بهجةً *** حتى توحدَ أمةَ الأمجادِ

فهُمُ الدعاةُ لوحدةٍ وتآلفٍ *** بل فيضُ نورِ الحقِ كلُّ سدادِ

ولَكَمْ أرى فيكمْ عِراقاً مزهراً *** وأرى الإمَامَ مُبَارِكاً لأيَادِي

قصيدة للأديب الفاضل الدكتور عدنان عبد اللطيف الحلي عَبَّرَ بها عن سروره بإقامة مهرجان تكريم الطلبة المتفوقين في السادس العلمي الذي أُقيم في جامع الرحمن في بغداد يوم 2020/11/21

ص: 535

نبوءةٌ من شهيدٍ

نبوءةٌ من شهيدٍ(1)

فجرٌ مضى بالقلوبِ *** إلى انتشاءٍ عجيب

مُذ مَدّ أولَ خيطٍ *** ألقتْ ثيابَ الكُروبِ

نبوءةٌ من شهيدٍ *** فِدىً له من مُصيبِ

أشارَ للنهر : لن *** تضمَؤوا فذا اليعقوبي

فكنتَ للظن طوعاً *** وذاك طبعُ النجيبِ

يا نبرةً كُنهها کم *** أذاقني من لُغوبِ

أمنْ زئيرٍ صداها *** أم من غِنا عندليبِ؟

فالليلُ من ذا وذاك *** معبَّأٌ للحروبِ

ولن يروعك يوماً *** ماريعَ ليثٌ بذيبِ

بل راح خطوك يرمي *** بالشوك وهمَ الدروبِ

ليزرعَ الأُفقَ سعداً *** إذ كان الفَ جديبِ

أحببتُ فيك عنادي *** ومهزئي بالهروبِ

ومطمحي الليس يخبو *** وَقودُهُ من صليبِ

أكلما ارتدْتُ حُلماً *** أثّثتَهُ بالطيوبِ

فكيف تشكو ابتعادي *** أتشتكي من قريبِ

معاكَ في كلِّ آهٍ *** تضجُّ :أينَ طبيِبي

فلا عُدِمتَ طبيباً *** لألفِ داءٍ عصيبِ

اركبْ أتاك الخلودُ *** الأريبُ طوعَ الاريبِ

ص: 536


1- قصيدة الى سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) من د. محمد سلمان الوالي

ليذرعَ المجدَ فاخترْ *** سَکناك دون حسيبِ

وخذ حروفيَ إنّ *** البقاءَ حلمُ الأديبِ

ص: 537

ص: 538

صور مختارة لبعض احداث الكتاب

صلاة عيد الفطر المبارك لسنة 1440ه- - 2019

راجع صفحة 5 من الكتاب

ص: 539

وقوف سماحة المرجع عند مكان فاجعة طويريج

راجع صفحة 85 من الكتاب

ص: 540

حضور سماحة المرجع اليعقوبي فاتحة الشيخ آصف محسني مع سماحة الشيخ الفياض

راجع صفحة487 من الكتاب

ص: 541

جانب من انتفاضة تشرين عام 2019

راجع صفحة 118 من الكتاب

ص: 542

الصورة

ص: 543

الخطاب الفاطمي السنوي الذي القاه سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)...

الخطاب الفاطمي السنوي الذي القاه سماحة المرجع الديني الشيخ محمد

اليعقوبي (دام ظله) في ساحة ثورة العشرين في النجف الاشرف عام 1442 -

2021

راجع صفحة 165 من الكتاب

ص: 544

الصورة

ص: 545

استقبال سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) بمكتبه في

النجف الاشرف سماحة حجة الإسلام والمسلمين الدكتور الشيخ حميد شهرياري

(أمين عام المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية) 1442 الموافق 2021

راجع صفحة 499 من الكتاب

ص: 546

لقاء سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) بمكتبه في النجف

الاشرف بجمع من فضلاء الحوزة العلمية في النجف الاشرف قبل انطلاقهم للتبليغ

في زيارة أربعينية الامام الحسين (علیه السلام) 1441ه

راجع صفحة 105 من الكتاب

ص: 547

لقاء سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) بمكتبه في النجف

الاشرف بجمع من فضلاء الهند وباكستان وأفغانستان في زيارة الأربعين 1441ه-

راجع صفحة 497 من الكتاب

ص: 548

الصورة

ص: 549

سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) بمكتبه في النجف الاشرف

يستلم علم قبة الامام الرضا (علیه السلام)

راجع صفحة 494 من الكتاب

ص: 550

محاضرة السيد بهاء الموسوي في ساحة التحرير

راجع صفحة 146 من الكتاب

ص: 551

لقاء سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) بالوفود الزائرة ومن

المختلف الجنسيات، التي قدمت لزيارة مرقد أمير المؤمنين (علیه السلام) في يوم عيد الغدير

الأغر بتاريخ 18 / ذو الحجة / 1440 الموافق 2019/8/20.

راجع صفحة 76 من الكتاب

ص: 552

لقاء سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) بمكتبه في النجف

الاشرف بجمع من الطلبة الافارقة 1441ه- - 2019

راجع صفحة 496 من الكتاب

ص: 553

الفهرس

خطاب (594) (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) (الكهف:13) الفتّوة زينة الانسان 5

خطاب (595) (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) (المائدة:28) من مبادئ الإسلام في التعايش السلمي.... 10

خطاب (596) (وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) (النحل:16) أهل البيت (علیهم السلام) نجوم أهل الأرض... 16

خطاب (597) جعفر الطيار (علیه السلام)فتى النقاء والعفاف والجهاد 25

خطاب (598) زيادة قيمة العمل بإهدائه.... 40

خطاب (599) سمات الخطيب الناجح ودوره في الاصلاح والمواجهة الحضارية....45

خطاب(600)(فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) (إبراهيم:36)شرف الانتماء ومسؤوليته....51

خطاب(601)(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) (الحج:29)الولاية ثمرة الحج... 58

خطاب(602) (وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً) (التوبة:98) العطاء في سبيل الله تعالى غنيمة وليس خسارة.... 65

خطاب(603) (الغنى والفقر بعد العرض على الله تعالى).... 70

خطاب(604) حثَّ المؤمنين على زيارة يوم الغدير في النجف الأشرف في مختلف البلدان....73

خطاب(605) (اتَّقُوا مَعَاصِيَ اللَّهِ فِي الْخَلَوَاتِ (، فَإِنَّ الشَّاهِدَ هُوَ الْحَاكِمُ) 76

ص: 554

خطاب (606)(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات:10) ماذا يعني عقد المؤاخاة يوم الغدير 78

خطاب(607) أربعينية الفرج ... من عاشوراء إلى الأربعين... 82

تجدّد مصائب عاشوراء بفاجعة ركضة طويريج.... 84

ملحق: وقوف سماحة المرجع عند موقع الحادث للترحم على الشهداء 85

خطاب(608) (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) (الفتح:26) السياسة النبوية المباركة في مكافحة داء التعصب... 86

خطاب (609) (من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته) معرفة قيمة النفس سبب لاجتناب المعاصي 102

خطاب (610) (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (التوبة:32) لتكن لنا مشاركة في تحقيق الهدف الإلهي العظيم... 105

خطاب (611) المرجع اليعقوبي يدعو الى توسيع التبليغ الديني لدى الشعب الكردي في دول المنطقة والعالم.... 111

خطاب (612) البيان الختامي للزيارة الاربعينية المليونية.... 114

انتفاضة تشرين 2019.... 118

خطاب (613) رسالة الى رئيس الوزراء للمطالبة بالاستماع الى مطالب الشعب.... 124

خطاب (614) مقترح مبادرة أمام المرجعية لحل الازمة باذن الله تعالى 128

خطاب (615) رسالة الى طلبة الجامعات للعودة الى مقاعد الدراسة 132

ص: 555

خطاب (616) انتفاضة حرية العراق تستعيد الهوية الوطنية.... 134

من توجيهات سماحة المرجع اليعقوبي خلال الانتفاضة... 137

تعديل قانون الانتخابات.... 137

اجراء استفتاء جديد على الدستور يعتمد أساس المواطنة في الحقوق والواجبات.... 138

التأكيد على سلمية التظاهرات وعقلنتها... 139

الشعب مصدر السلطات.... 140

خطاب (617) المرجع اليعقوبي يدعو الى الحفاظ على المسار الصحيح للتظاهرات السلمية ويدعو النخب والكفاءات لتحمل مسؤوليتهم في ترشيد الحراك الجماهيري... 141

خطاب (618) المرجع اليعقوبي يشدد على عدم الركون الى حالة الياس والإحباط التي يراهن عليها البعض للنيل من صمود وصبر الشباب المنتفض فيدفعهم للتخلي عن المطالب المشروعة....143

مشاركة فاعلة للحوزة العلمية في انتفاضة تحرير العراق.... 146

من أدب الانتفاضة ... 147

ثورة الشباب قصيدة القاها الاديب النجفي السيد وسام الياسري بحضور سماحة المرجع في مجلسه العام تأييداً لانتفاضة تشرين.... 147

خطاب (619) (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) (سبأ:32) حوار يوم القيامة بين القادة واتباعهم 149

خطاب (620) (فَأَثَابَكُمْ غَمَّاً بِغَمٍّ) (آل عمران:153) كيف يكون الغم ثواباً.... 154

ص: 556

خطاب (621) (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ)(الكهف:16) السيدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) تحثنا على اللجوء إلى الكهف المعنوي... 160

خطاب (622) بشارة السيدة الزهراء (علیها السلام) للشيعة مشروطة بالورع....172

خطاب (623) المرجع اليعقوبي يحث على الالتزام بالتعليمات والإرشادات الصحية لتطويق انتشار فيروس كورونا المستجد ويؤكد على التضرع والرجوع الى الله تبارك وتعالى لكشف السوء والبلاء....175

خطاب (624) المرجع اليعقوبي: فايروس كورونا يغيّر العالم ويعيد تشكيله....178

خطاب (625) السيد عبد الستار الحسني: الموسوعة العلمية التي فقدناها 187

خطاب (626) الاستغاثة بالله في ليلة النصف من شعبان.... 190

خطاب (627) المرجع اليعقوبي: اجعلوا تقديم المساعدات نيابة عن الامام المهدي (علیه السلام)....193

خطاب (628) (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ).... 195

خطاب (629) الحراك العلمي للحوزة الشريفة في ظل إجراءات الوقاية 209

خطاب (630) (فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) (الفرقان: 70)... 211

خطاب (631) (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ) (مريم:16) مريم الصدّيقة الطاهرة برؤية قرآنية.... 222

خطاب (632) مقارنة بين الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء ( علیها السلام )والسيدة مريم إبنت عمران....233

خطاب (633) (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (الشورى:13) مسؤوليتنا عن إقامة الدين ووحدة الأمة 237

ص: 557

خطاب (634) (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) (الفرقان:30) الحذر من هجر القرآن... 245

خطاب (635) (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (المائدة:67) يوم الغدير عيد الله الأعظم... 253

خطاب (636) إقامة الشعائر الحسينية في ظرف الوباء... 267

خطاب (637) نور القرآن .... 270

خطاب (638) (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (الفاتحة: 1).... 275

خطاب (639) خطوات عملية في أربعينية الفرج.... 292

خطاب (640) (أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) (آل عمران:144) إنقلاب الأتباع عند غياب القائد... 295

خطاب (641) الحرمة الشديدة لسفك الدماء في الإسلام.... 306

خطاب (642) (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) الأنس بالإمام الحسين (علیه السلام) يشغل الذين اتقوا عن دخّول الجنة... 309

خطاب (643) المرحوم الحاج ابو ذر مثال الخير والمعروف... 320

خطاب (644) (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ) (الضحى: 9) كافل اليتيم المادي والمعنوي مع رسول الله (صلی الله علیه و آله).... 323

خطاب (645) (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) سورة الأحزاب:21 دعوة الى التأسي برسول الله (صلی الله علیه و آله)... 339

ص: 558

خطاب (646) (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (الملك:2) مقوِّمات إحسان العمل... 351

خطاب (647) (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4) معجزة النبي (صلی الله علیه و آله) في أخلاقه....366

خطاب (648) (وَهُوَ اللَّطِيفُ) (الملك:14) دلالات معنى اسم اللطيف 376

خطاب (649) (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ) (الناس:4) احذروا مكر شياطين الجن والإنس....385

خطاب (650) (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) (التوبة:49) فتنة توظيف العناوين الدينية لأهواء شخصية (.... 397

خطاب (651) مجلة الايمان في حلّتها الجديدة .... 406

خطاب (652) حوارية عن الشباب.... 408

خطاب (653) في تأبين المرحوم سماحة الشيخ محمد جواد المهدوي 412

خطاب (654) الفقه الاجتماعي مظهر لحيوية الشريعة الاسلامية.... 413

خطاب (655) (فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) (مريم :84) لا تهولنّكم قوة الباطل فإنها إلى فناء 422

خطاب (656) (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (التوبة:18) مسؤولية المؤمنين عن إعمار المساجد.... 429

خطاب (657) (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (التوبة:108) الفوائد النفسية والاجتماعية في التردد على المساجد.... 446

ص: 559

خطاب (658) (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت:2) الفتن تصقل شخصية المؤمن وتفجّر طاقاته.... 456

خطاب (659) (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا) (يونس:98) من البلاء ما نستطيع دفعه 470

مختارات من صحيفة الصادقين: الاعداد 192- 213 أخبار- أستفتاءات - قصائد 477

رسالة تسلية من أحد الكتاب والادباء الإسلاميين المعروفين إلى سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله).... 479

المرأة العراقية الزينبية: عطاء لا ينضب.... 481

المرجع اليعقوبي يحضر مجلس الفاتحة على روح آية الله الشيخ محمد آصف محسني (قدس سره) 483

المرجع اليعقوبي يؤكد أهمية الرياضة في تحقيق الاهداف المثمرة على الصعيد الروحي 484

المرجع اليعقوبي خلال لقاءه بممثل عن وزارة البيئة يؤكد على أهمية الالتزام بالتوجيهات التي تحفظ البيئة وتضمن سلامة الزائرين.... 486

المرجع اليعقوبي يدعو لإحياء الذكرى الالفية الأولى لتأسيس حوزة النجف الاشرف....488

راية قبة الأمام الرضا (علیه السلام) تحط رحالها عند المرجع اليعقوبي (دام ظله)....490

من اخلاق أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (علیه السلام).... 491

خلال استقباله وفداً من طلبة العلم الأفارقة... 492

ص: 560

المرجع اليعقوبي (دام ظله) يحث على استثمار كافة الوسائل لنشر المعارف الإلهية....492

خلال لقائه بجمع من العلماء والأساتذة من باكستان وأفغانستان... 493

المرجع اليعقوبي يؤكد على أهمية التبليغ الديني ويدعو الى تكثيف الجهود لإظهار الوجه الناصع للرسالة الاسلامية.... 493

توجيه بإعادة إقامة صلوات الجماعة في جميع المناطق غير الموبوءة والتي لم تشملها قرارات الحظر المناطقي، مع مراعاة الإجراءات الوقائية.... 494

تنقية الأجواء السياسية عامل مهم لتحقيق الوحدة بين المسلمين.... 495

فقه الانجاب الصناعي... 498

استفتاءات.... 501

1- اتساع وقت الزيارة الاربعينية.... 501

2- احكام التلقيح الصناعي... 504

3- سن بلوغ الانثى... 509

4-الإرهاب وحد الحرابة.... 512

5-الأمانة العلمية في النقل من المصادر... 516

6-نشاط الإمام الحسين (علیه السلام) في فترة الهدنة.... 519

7- دية القتل.... 522

8-تسمية (عبد الزهراء).... 523

9- دور المرجعية في مكافحة الثأر العشائري.... 524

10- تقادم الحق.... 526

ص: 561

11- حول التعامل مع المصارف الأهلية...527

12- الحائض وقراءة القرآن.... 530

قصائد مختارة.... 531

بك الاضحى.... 531

رَسائِلُ العَطش... 533

(وأرى الإمَامَ مُبَارِكاً لأيَادِي).... 535

نبوءةٌ من شهيدٍ.... 536

صور مختارة لبعض احداث الكتاب ... 539

صلاة عيد الفطر المبارك لسنة 1440ه- - 2019.... 539

وقوف سماحة المرجع عند مكان فاجعة طويريج... 540

حضور سماحة المرجع اليعقوبي فاتحة الشيخ آصف محسني مع سماحة الشيخ الفياض 541

جانب من انتفاضة تشرين عام 2019... 542

الخطاب الفاطمي السنوي الذي القاه سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) في ساحة ثورة العشرين في النجف الاشرف عام 1442 - 2021... 544

استقبال سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) بمكتبه في النجف الاشرف سماحة حجة الإسلام والمسلمين الدكتور الشيخ حميد شهرياري (أمين عام المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية) 1442 الموافق 2021... 546

ص: 562

لقاء سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) بمكتبه في النجف الاشرف بجمع من فضلاء الحوزة العلمية في النجف الاشرف قبل انطلاقهم للتبليغ في زيارة أربعينية الامام الحسين (علیه السلام) 1441ه-... 547

لقاء سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) بمكتبه في النجف الاشرف بجمع من فضلاء الهند وباكستان وأفغانستان في زيارة الأربعين 1441ه-.... 548

سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) بمكتبه في النجف الاشرف يستلم علم قبة الامام الرضا (علیه السلام).... 550

محاضرة السيد بهاء الموسوي في ساحة التحرير.... 551

لقاء سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) بالوفود الزائرة ومن المختلف الجنسيات، التي قدمت لزيارة مرقد أمير المؤمنين (علیه السلام) في يوم عيد الغدير الأغر بتاريخ 18 / ذو الحجة / 1440 الموافق 2019/8/20.... 552

لقاء سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) بمكتبه في النجف الاشرف بجمع من الطلبة الافارقة 1441ه- - 2019... 553

الفهرس.... 554

ص: 563

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.