من نور القرآن المجلد 5

هوية الكتاب

اسم الكتاب: من نور القرآن

الكاتب: آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي

لسان: العربية

الناشر: دار الصادقين - النجف اشرف - العراق

الموضوع : التفسير

مشخصات : 5 ج

الطبعة : الرابعة

التاريخ : 1442ه - 2021م

ص: 1

اشارة

من نور القرآن

ص: 2

ص: 3

من نور القرآن

تفسير موضوعي حركي يقتبس من القرآن الكريم

ما يلقي ضوءاً على قضايا عقائدية أو أخلاقية

أو فكرية أو اجتماعية

سماحة المرجع الدینی الشیخ محمد الیعقوبی

الجزء الخامس

سورة ق – سورة الناس

دار الصادقين

ص: 4

القبس/152: سورة ق:22

اشارة

{لَّقَد كُنتَ فِي غَفلَة مِّن هَذَا}

التدبر في القرآن الكريم:

لا ينبغي لكم وأنتم مثقفون واعون وشباب رساليون أن تكتفوا من قراءة القرآن بتلاوة حروفه، بل لابد من التدبر في معانيه للوصول إلى حقائقه، وقد قدّمت في أحاديث سابقة أنماطاً للتدبر، ومنها ما أذكره اليوم وذلك بأن تلتفت بلطف الله تعالى إلى قضية معينة لها مساس بالواقع المعاش، ثم تجمِّع ما ورد فيها من آيات شريفة حتى تكتمل صورتها، وسيفتح الله عليك وستظهر أمامك حقائق عن تلك القضية، لم تكن ملتفتاً إليها عندما كنت تقرأ كل آية على حدة فتعرف كيفية تشخيصها، وأسباب حصولها، والأثار المترتبة عليها وهكذا.

وليس من الصعب تجميع الآيات المتعلقة بقضية معينة من خلال مراجعة معاجم وفهارس ألفاظ القرآن الكريم كفهرس الألفاظ الملحق بتفسير شبر او تفسير المعين.

ثم تنتقل بنفس الطريقة إلى معاجم كلمات المعصومين ككتاب (غرر الحكم) و (ميزان الحكمة) لتأخذ منها ما يزيد الأمر وضوحاً.

غفلة الإنسان عن نفسه:

وأشير اليوم إلى واحدة من هذه القضايا المهمة وهي غفلة الإنسان عن

ص: 5

نفسه، فالإنسان في هذه الدنيا في غفلة (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا)(1) وقد تحدثنا في خطاب سابق عن غفلة الإنسان عن قيادته الحقة وهو أمر متصور بسبب الجهل والتشويش والشبهات، ولكن أن يغفل الإنسان عن نفسه أعز الأنفس عليه وأثمن شيء عنده لأنه يستطيع أن يكتسب بها الجنان، فهذا أمر مستغرب.

التعاطي مع النفس:

ومن خلال الآيات الكريمة ستجد التباين الواسع بين البشر في التعاطي مع أنفسهم، فمن مستثمر لها كأفضل ما يكون يقول عنه الله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ} (البقرة:270) فتساعده نفسه على الطاعة والتثبيت على الاستقامة {يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ} (البقرة:265) فيخاطبهم الله تعالى {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي} (الفجر:27 28 29 30).

إلى آخرين فشلوا في الاستفادة منها فكانوا كما وصفهم الله تعالى {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (الأنعام:26) {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (النحل:118) {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم} (البقرة:9) {قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} (الأعراف:53)، ويبيّن القرآن الكريم سبب انحدارهم إلى هذه النتيجة وذلك

ص: 6


1- البحار: ج4 ص43.

لانهم {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (الحشر:19) {يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ} (البقرة:9)، {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} (الأنعام:24) فهذه أسباب خسران الإنسان نفسه من خلال مخادعة الإنسان نفسه ونسيان الله تبارك وتعالى والركون إلى الدنيا، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (إن الصفاة الزلال الذي لا تثبت عليه أقدام العلماء الطمع)(1).وتنتهي النتيجة إلى أعظم الخسارة وهي خسارة الإنسان نفسه، فيجعل ثمنها نار جهنم وكان يستطيع أن يجعلها سبباً لنيل جنات المقربين {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (الزمر:15) .

مواعظ عن النفس من كلمات أهل العصمة (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):

وإذا انتقلنا إلى أحاديث المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فسنجد مواعظ قيمة، فعن علي أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من باع نفسه بغير الجنة فقد عظمت عليه المحنة) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من باع نفسه بغير نعيم الجنة فقد ظلمها)(2) وفي نهج البلاغة (عباد الله... الله الله في أعزّ الأنفس عليكم، وأحبّها إليكم، فإن الله قد أوضح لكم سبيل الحق، وأنار طرقه فشقوة لازمة، أو سعادة دائمة)(3).

ص: 7


1- ميزان الحكمة : 2/ 1740.
2- غرر الحكم.
3- نهج البلاغة، خطبة 157.

وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أما ترحم من نفسك، ما ترحم من غيرك، فلربما ترى الضاحي من حر الشمس فتظلله، أو ترى المبتلى بألم يمض جسده فتبكي رحمة له، فما صبرك على ذاتك، وجلدك على مصابك، وعزاك عن البكاء على نفسك، وهي أعز الأنفس عليك)(1).وعن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(كتب رجل إلى أبي ذر (رضي الله عنه):يا أبا ذر أطرفني بشيء من الحكمة، فكتب إليه أن العمل كثير، ولكن إن قدرت أن لا تسيء إلى من تحبّه فافعل.

قال:فقال الرجل:وهل رأيت أحداً يسيء إلى من يحبّه؟ فقال له:نعم، نفسك، أحب الأنفس إليك، فإذا أنت عصيت الله فقد أسأت إليها)(2).

وفي غرر الحكم عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (عجبتُ لمن ينشد ضالته، وقد أضلَّ نفسه فلا يطلبها).

الواعظ الداخلي:

ولرحمة الله تعالى الواسعة بعباده فإنه لم يكتفِ بالواعظ الخارجي وهم الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) وحملة علومهم، فجعل لهم واعظاً من داخل أنفسهم ينبِّههم إلى الخطأ وهو ما يعرف ب(الضمير) يحذره من الخطأ قبل وقوعه، ويؤنبه بعد ارتكابه لردعه عن تكراره، بحيث انتشر مصطلح (وخز الضمير) أو (تأنيب الضمير) وهي عبارة عن حالة تألم ورفض داخل النفس تؤدي

ص: 8


1- نهج البلاغة: خطبة 233.
2- الكافي: 2/ 458.

إلى كربة في القلب، تدعو صاحبها لمراجعة نفسه والعودة إلى رشده.ولكن الإنسان لسوء اختياره يصمّ أذنه عن سماع الواعظ الخارجي ويكبت واعظه الداخلي، اما بمخادعة نفسه وقلب الحقائق ليوهم نفسه إنه ليس على خطأ، وربما يحاول الهروب من صراعه الداخلي من خلال احتساء الخمر وتناول المخدرات، أو بالانزلاق أكثر في ارتكاب الأخطاء ليعتاد عليها ويميت ضميره.

قصة في من يخدع نفسه:

كثير من الناس يتصور أنه يخدع الآخرين ولكنه في الحقيقة يخدع نفسه، مثلاً شابٌ ينشئ علاقة غير شريفة مع فتاة فيتبجح أمام زملائه بذلك وكأنّه حقق انتصاراً واستدرج هذه الفتاة، ولا يعلم انها هي التي استدرجته وخدعه الشيطان بها لأنها سلبت منه دينه وخسر نفسه.

يروى أن أحد الوعّاظ في بلد مقدس يقصده الزوار من دول العالم جمع التجار والكسبة في السوق وقال لهم إنني أحذركم من هؤلاء الزوار أن يخدعوكم، قالوا:كيف ذلك وهم غرباء لا يعلمون شيئاً ونحن نخدعهم ونبيع إليهم الأشياء بأضعاف سعرها، قال لهم:هذا ما عنيته بكلامي فلا يخدعونكم ويورطونكم في المعصية.

وأنتم –أيها الشباب أكثر المراحل العمرية عرضة للانخداع والغفلة عن النفس، فقد ورد في الحديث الشريف (السكر في أربعة)(1) أحدها سكر الشباب، فمرحلة الشباب سبب للغفلة والطيش والغرور.

ص: 9


1- تحف العقول ابن شعبة الحراني: ص124

إن الشباب والفراغ والجده *** مفسدة للمرء أي مفسدة

ولا نغفل تأثير الجو الاجتماعي العام الذي يساهم بشكل كبير في هذا التمويه والخداع وقلب الحقائق فيقول لك أنت شاب وعليك أن تتمتع وتلهو وتلعب، ليس هذا وقت الجدِّ والعمل، وإذا أراد الموظف أن يكون نزيهاً قيل له:حشر مع الناس عيد، وهل تستطيع بنزاهتك أن تقضي على الفساد، وهكذا حتى يموت الضمير ويخمد بريقه.

ص: 10

ملحق:الغنى والفقر بعد العرض على الله تعالى

من قصار كلمات أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الموعظة قوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الغنى والفقر بعد العرض على الله تعالى)(1) فالإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يصحّح هنا بعض المقاييس التي نتعامل بها ونقيّم الأمور على أساسها، ففي ثقافتنا واذهاننا ان الغني من ملك الأموال والعقارات والسيارات الفارهة ونحو ذلك وان الفقير من لا يوجد عنده ذلك حتى انه لا يستطيع سدَّ احتياجاته.

وهذا المفهوم صحيح بدرجة من الدرجات لكنه ليس حقيقياً لأن هذه الأموال زائلة والى نفاد فان صاحبها سيموت ويتركها خلفه، وبالعكس فقد تكون وبالاً عليه اذا جمعها من مصادر غير مشروعة أو صرفها في موارد غير مقبولة أو انه لم يخرج منها الحقوق المتعلقة بها لله تعالى كالخمس أو الزكاة أو للناس كردّ المظالم والديون وحينئذٍ سيتمنى دفع كل هذه الأموال مقابل تخليصه من العذاب الذي هو فيه، {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (الزمر:47) {لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ} (الرعد:18) و هذا ليس في الآخرة فقط، بل في الدنيا يشعر بعض الأثرياء بعذاب الباطن وألم الضمير لما اقترفت يداه من ظلم وغصب لحقوق الآخرين وقد يؤدي به هذا الى الانتحار.

وهنا يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ان الغنى الحقيقي الدائم الذي يتعقبه الفوز والسعادة هو عندما تعرض اعمال العبد على الله تعالى يوم القيامة فيجد ميزانه ثقيلاً

ص: 11


1- نهج البلاغة: الحكمة 452.

بالأعمال الصالحة الموجبة لرضا الله تبارك وتعالى، والفقير الحقيقي هو من خلت موازنية من اعمال تنجيه من النار وتوجب له الجنة {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ 6 فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ 7 وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ 8 فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ 9 وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ 10 نَارٌ حَامِيَةٌ 11} (القارعة:611).روي ان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال يوماً لاصحابه (أتدرون من المفَّلس:إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى بها عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)(1) .

والانسان العاقل اللبيب ذو البصيرة هو من يدرك هذه الحقيقة في الدنيا ويعمل على أساسها ولا تغريه أوهام الدنيا وإنما يعمل وفق المقاييس التي ترضي الله تبارك وتعالى، ولا ينتظر الآخرة ليكتشف هذه الحقيقة لأنه حينئذٍ لا يكون قادراً على تصحيح الأخطاء وإصلاح الخطايا والتبعات.

ويكون من توفيق الانسان ان يرزقه الله تعالى مالاً وفيراً من مصادره المحللة ويوفقه لإنفاقه في الموارد التي أمر الله تعالى بها وتوجب رضاه والجنة كمساعدة المحتاجين وتزويج الشباب المتعففين ونشر كتب الوعي والإصلاح والهداية وإعمار المساجد وغير ذلك فيكون قد جمع الله تعالى له خير الدنيا والآخرة،

ص: 12


1- كنز العمال: 4/ 127 ح 10327 ، تاريخ بغداد: 4/ 242، تفسير القرطبي: 15/ 255 ، صحيح ابن حبان:16/ 359

وادعية طلب الرزق تقيده بأن يكون من حلال (سعة في الحال من الرزق الحلال)(1) .وإن بعض الذين يقومون بمشاريع كبيرة واسعة البركة قد لا يمتلكون مالاً كثيراً لكن الله تعالى يبارك لهم في انفاقهم والله ذو الفضل العظيم.

ص: 13


1- من دعاء الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ليوم الاربعاء.

القبس/153: سورة الذَّاريات:50

{فَفِرُّواْ إِلَى ٱللَّهِ}

قال الله تعالى:{فَفِرُّواْ إِلَى ٱللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنهُ نَذِير مُّبِين} (الذاريات:50)، في هذه الآية الشريفة عدة دلالات وإرشادات نهتدي بها في حياتنا العملية وفي طريق التكامل إن شاء الله تعالى.

1 إن الأمر بالفرار يعني التسليم بأننا في وضع يوجب الفرار منه؛ لأن الفرار والهرب لا يكون إلا من خطر وضيق وعسر ومشقة، فالأمر بالفرار يعني أننا واقعون فعلاً فيه أو أننا في معرض الوقوع فيه سواء التفتنا إليه أو لم نلتفت لغفلتنا وجهلنا بحقائق الأمور، وما يستوجب الفرار كثير مما نواجه في الدنيا وفي الآخرة، ففي الدنيا:الفرار من المشاكل والتعقيدات والأزمات والصعوبات والقلق والأخطار وقساوة الحياة، أما في الآخرة فالفرار من طول الموقف وسوء الحساب وشدة العقوبة والعذاب، وهذه كلها تلزم كل عاقل بأن يهرب منها إلى ملجأ يحميه ويوفر له الأمن والاستقرار والسعادة، وقد كرّر تعالى في هذه الآية والتي تليها {إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} للتنبيه من الغفلة وإيقاظ العقول والتأكيد على هذه المخاطر.

2 إن الأمر بالفرار يستلزم من الآمر تحديد المهرب والملاذ الآمن كما أن الدول حينما تقوم بعملية عسكرية لتطهير مدينة أو موضع من إرهابيين ومجرمين

ص: 14

فإنها تحدد مسارات وملاجئ آمنة لخروج المدنيين الأبرياء، وقد حدّدت الآية الجهة التي نفرّ إليها وهي جهة النجاة الوحيدة إنه الله تبارك وتعالى ولا يوجد مفرّ إلا إليه {يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرّ، كَلا لا وَزَرَ، إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ، يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} (القيامة:1013)، وهي بهذا المعنى تلتقي مع آيات عديدة {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} (العلق:8) {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى} (النجم:42) (النجم:42) {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} (البقرة:156).وهذا المعنى الذي عبّر عنه الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في العديد من الأدعية والمناجاة كقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في مناجاة الراجين (يا من كل هارب إليه يلتجئ، وكل طالب إياه يرتجي) وفيها (كيف أرجو غيرك والخير كله بيدك، وكيف أؤمل سواك والخلق والأمر لك) وفي مناجاة التائبين (إلهي هل يرجع العبد الآبق إلا إلى مولاه، أم هل يجيره من سخطه أحد سواه) وفي مناجاة المطيعين لله قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(فإنا بك ولك ولا وسيلة لنا إليك إلا أنت) وفي مناجاة المفتقرين (إلهي كسري لا يجبره إلا لطفك وحنانك، وفقري لا يغنيه إلا عطفك وإحسانك، وروعتي لا يسكّنها إلا أمانك، وذلّتي لا يعزها إلا سلطانك، وأمنيتي لا يبلغنيها إلا فضلك) إلى غيرها من الفقرات التي اغتنت بها الصحيفة السجادية المباركة وأدعية الإمام السجاد الأخرى الملحقة بها.

3 ارتبطت الآية بفاء التفريع (فَفِرُّوا) فالأمر بالفرار إلى الله جاء تفريعاً ونتيجة على ما ذكر في الآيات السابقة التي ذكرت الأسباب الموجبة لكون الله تعالى الجهة الوحيدة التي نفر إليها وهي ثلاثة.

فالآية (47) بيّنت مثالاً لعظمة الله تعالى وقدرته {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا

ص: 15

لَمُوسِعُونَ} (الذاريات:47) التي تعني في بعض الوجوه استمرار توسع الكون وتمدده وقد اكتشف العلم الحديث التوسع الهائل الذي تتجه فيه النجوم والمجرّات بسرعة تصل إلى 66 ألف كيلومتراً في الثانية(1). والآية (48) بيّنت رعاية الله لخلقه وإغداقه النعم عليهم {وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} (الذاريات:48) فبسط لنا الأرض وجعل لها حركة هادئة مريحة وزودها بكل ما يوفر للإنسان السعادة والراحة والمتعة كما تفرش الأم مهد صغيرها وتجهّزه بكل وسائل الراحة والسعادة.

ثم عطفت الآية التالية على ذلك بيان شكل من أشكال فقر المخلوقات - كل المخلوقات ونقصها الذاتي واحتياجها إلى ربها الغني من خلال إظهار حاجتها إلى غيرها ووجود ما يضادها، {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الذاريات:49) إذ الزوجية هنا تعني أعم من الزوجية الجنسية كالذكر والأنثى، وزوجية السالب والموجب كشحنتي الإلكترون والبروتون في الذرة، وزوجية التضاد كالظلمة والنور أو زوجية الظاهر والباطن وغير ذلك؛ فالأشياء كلها إذن فقيرة ناقصة محتاجة في ذاتها.

فالفرار إلى الله تعالى لأن القدرة بيده والخير منه والسعادة عنده والكل محتاجون إليه.

فالآيات تقرر هذه الحقيقة وتدعو الناس إلى وعيها والالتفات إليها وتذكّرها دائماً لترتيب الأثر عليها وأخذ العبرة منها {لَعَلَّكُم تَذَكَّرُونَ} فمن

ص: 16


1- تفسير الأمثل: 13/ 236 عن كتاب (حدود النجوم) ل(فرد هويل).

الطبيعي أن تتفرع الآية التالية عليها {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} (الذاريات:50) فإن الله تعالى لشفقته على عباده وحبّه لهم ولطفه بهم لم يتركهم سدىً ولم يوكل أمورهم إلى الصدفة أو إلى حماقة الجهّال من البشر ولم يتركهم يجربون طريقة المحاولة والخطأ (tryial error) للتوصل إلى القوانين التي تكفل سعادتهم في الدنيا والآخرة وإنما أرسل إليهم منه الأنبياء والرسل لينذروهم ويبينوا لهم هذه الحقائق والمعارف كرماً منه وفضلاً {إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}.4 ولما كان الله تعالى أجلّ من أن تكون له جهة أو مكان أو حيّز يشغله فالفرار إليه ليس كالفرار إلى حصن أو أي مكان آمن يتوجه إليه الهارب، وإنما الفرار إليه يعني التمسك بالوسائل الموصلة إليه تبارك وتعالى وفعل ما يوجب قربه ورضاه وتجنب ما يسخطه سبحانه ويوجب غضبه؛ لذلك كانت الآية التالية كالبيان لمعنى الفرار ووسيلته {وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} فالفرار إلى الله تعالى يستند إلى الإيمان به وتوحيده ويبدأ من نفي الشركاء عنه.

والفرار إلى الله يعني الهروب من المعاصي والذنوب وكل ما يسخط الله تبارك وتعالى إلى طاعته ورضاه، ويعني الهروب من عذاب الله تعالى وعقابه إلى رحمته ورضوانه، من مناجاة الراغبين للإمام السجّاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(وها أنا فارٌّ من سخطك إلى رضاك وهارب منك إليك).

والفرار إلى الله تعالى يعني الانقطاع عما سواه والتحرر من كل الآصار،

ص: 17

والأغلال التي تعيق حركته نحو التكامل وتثقله إلى الأرض وتوجب عبوديته وأسره {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف:157).والفرار يعني الهروب والتحرر من ذل اتّباع كل الآلهة والمعبودات التي تطاع من دون الله سواء كانت بشرية أو أصناماً حجرية أو أهواء وشهوات وغرائز أو أنظمة وقوانين من صنع البشر أو أعراف وتقاليد اجتماعية أو عشائرية أو سلطات وزعامات تحكم بغير ما أنزل الله، أو ضلالات أو أفكار مبتدعة أو أوضاع اجتماعية خارجة عما يريده الله تعالى بحيث صارت الدول التي تصف نفسها بالتحضر والعظمة تبيح الشذوذ الجنسي بين المثليين بقوانين رسمية تحت عنوان الحرية والديمقراطية وأمثالها، فالفرار يعني الهروب من كل هذه المعبودات المطاعة إلى الإله الواحد القهار وهو الله تبارك وتعالى.

بل المطلوب أكثر من ذلك وهو السعي الحثيث لتحرير البشرية منها وإزالتها وليس الانعزال السلبي فضلاً عن مداهنة أتباعها ومسايرتهم كالذي حصل قبل أيام حينما نجح بعض الإخوة في استصدار قرار من البرلمان يحظر تجارة المسكرات(1) وتناولها في محلات علنية وهو موافق للدستور الذي يمنع من مخالفة ثوابت الإسلام، ومن ما يخالف الديمقراطية وقد نال القرار موافقة الأغلبية، فانبرت أصوات منبوذة لرفض القرار حتى قال أحدهم أن هذا القرار يثبّط عزائم الحشد الذي يقاتل داعش لأنهم يشربون الخمر وقاتلوا داعش لأنها

ص: 18


1- صوت البرلمان العراقي بأغلبية الحاضرين البالغين (229) عضواً يوم السبت 20/ محرم/ 1438 الموافق 22/ 10/ 2016 على قرار منع استيراد وصناعة وبيع المشروبات الكحولية وتغريم المخالفين وكان لكتلة الفضيلة دور في النجاح وحصل بعده جدل كثير واعتراض من العلمانيين.

منعتهم منها، ولم يمتلك أكثر مدعي الشعارات الإسلامية الشجاعة في نصرة الحق والإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على نهج أبي عبد الله الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فكانوا على عكس ما أرادت منهم الآية الكريمة فاريّن من الله تعالى وليس اليه سبحانه فبئست الصفقة.5ولما كانت هذه الوسائل على درجات، فإن الفرار إلى الله تعالى له درجات متصاعدة في الكمال، كما أن الابتعاد عنه تعالى له دركات في الانحطاط، فأُولى درجات الفرار وأساسها توحيد الله تعالى ونبذ الشركاء عنه، وأرقاها الانقطاع عما سواه حتى عن نفسه فيصبح مخلَصاً لله تعالى فاراً مما سواه، مستقراً عنده عز وجل {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} (القيامة:12).

6ووسائل الفرار إلى الله تعالى غير منحصرة فالقيام بكل عمل صالح ومثمر ومفيد للشخص أو المجتمع هو فرار إلى الله تعالى واجتناب كل فعل سيئ مضرّ لا ينسجم مع التعاليم الإلهية هو فرار إلى الله تعالى، وأساس كل ذلك التوحيد كما في الآية أعلاه ومفتاحه ولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) والأخذ عنهم والتمسّك بنهجهم قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} (المائدة:35) فهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أوضح الوسائل إلى الله تعالى كما أفادت الروايات(1)، وقد ذكرت الروايات مصاديق أخرى، فقد روى الكليني في الكافي والصدوق في معاني الأخبار بالإسناد عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير الآية قال:(حجّوا إلى الله عز وجل) وهذا من باب ذكر بعض المصاديق وهي واسعة ولعل الحج هنا يراد به معناه اللغوي أي القصد إلى الله تعالى وتدل عليه رواية الشيخ الصدوق في (مَن لا

ص: 19


1- راجع تفسير البرهان: 3/ 232.

يحضره الفقيه) بسنده عن زيد الشهيد عن أبيه الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(يعني حجّوا إلى بيت الله، يا بني إن الكعبة بيت الله، فمن حجّ بيت الله قصد إلى الله، والمساجد بيوت الله، فمن سعى إليها فقد سعى إلى الله وقصد إليه)(1).وقد دلّت بعض المنقولات على أن أوسع وسائل النجاة والفرار إلى الله تعالى إحياء ذكر أبي عبد الله الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والعمل على تحقيق أهدافه المباركة في إصلاح الأمة وإحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى قال الشاعر الشعبي (غير حسين ما عدنا وسيلة) أي أنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أيسر وأسرع سفن النجاة.

ص: 20


1- راجع مصادرها في تفسير البرهان: 9/ 134.

القبس/154: سورة الرحمن 60

اشارة

{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}

قاعدة يتسالم عليها العقلاء وتدعو اليها الفطرة الانسانية يقررّنا الله تبارك وتعالى عليها بصيغة الاستفهام الاقراري لتعليل ما سبق ذكره من النعم، حيث جاءت الآية من سورة الرحمن في هذا السياق حيث بدأ المقطع بقوله تعالى {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} {الرحمن:46}، وذكر عدة من نعم الجنان، وليطمئننا بأن الأعمال الحسنة لا تضيع لأن الاحسان لا يجازى إلا بالإحسان {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} {الكهف:30}.

وقد كتب الله تبارك وتعالى على نفسه إجراء هذه القاعدة في تعامله مع عباده، فإنه لم يعاملهم بمقتضى العدل والمجازاة بالمثل، وانما كافأهم على اساس الاحسان والفضل مع انه هو المنعم والهادي والممكّن لعبده في فعل الاحسان {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (الحجرات:17)، وفي آمالي الصدوق بسنده عن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (سمعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول:ان الله عز وجل قال ما جزاء من أنعمتُ عليه بالتوحيد إلا الجنة)(1)، ومع انه غني عن عباده وحينما يحسنون فإنما يحسنون

ص: 21


1- آمالي الصدوق : 316 ح7.

لأنفسهم {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} {الإسراء:7}، فعطاؤه تعالى إحسان في إحسان، في نهج البلاغة من كلام لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(وَلَوْ كَانَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْرِيَ لَهُ وَلَا يَجْرِيَ عَلَيْهِ، لَكَانَ ذَلِكَ خَالِصاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَلِعَدْلِهِ فِي كُلِّ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ قَضَائِهِ، وَلَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ حَقَّهُ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يُطِيعُوهُ وَجَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَيْهِ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ تَفَضُّلًا مِنْهُ وَتَوَسُّعاً بِمَا هُوَ مِنَ الْمَزِيدِ أَهْلُهُ)(1).ومن المعلوم أن الاحسان فوق العدل، لان العدل منح الاستحقاق فيأخذ ماله ويعطي ما عليه، اما الاحسان فإعطاء ما لا يلزمه من الخير والتنازل عما يستحقه، وقد أشارت آيات كثيرة الى هذا الاحسان، قال تعالى {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} {يونس:26} وقال تعالى {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} {الأنعام:160} وقال تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} {النساء:40}، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} {النمل:89} {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} {البقرة:261} .

ومن الروايات التي تصورّ لنا إحسان الله تبارك وتعالى ما ورد عن فضيل بن

ص: 22


1- نهج البلاغة : 333 خطبة 216.

عثمان المرادي قال:سمعت أبا عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):أربع من كن فيه لم يهلك على الله بعدهن إلا هالك، يهم العبد بالحسنة فيعملها فإن هو لم يعملها كتب الله له حسنة بحسن نيته، وإن هو عملها كتب الله له عشرا. ويهم بالسيئة أن يعملها فإن لم يعملها لم يكتب عليه شئ وإن هو عملها اجل سبع ساعات وقال صاحب الحسنات لصاحب السيئات وهو صاحب الشمال:لا تعجل عسى أن يتبعها بحسنة تمحوها، فإن الله عز وجل يقول: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (هود:114), أو الاستغفار فإن هو قال:" أستغفر الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم الغفور الرحيم ذو الجلال والإكرام وأتوب إليه " لم يكتب عليه شئ، وإن مضت سبع ساعات ولم يتبعها بحسنة واستغفار قال صاحب الحسنات لصاحب السيئات:اكتب على الشقي المحروم)(1)، ومع ذلك فأنه يمنح عدة فرص:(منها) فتح باب التوبة ما دام في هذه الدنيا، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(من تاب قبل أن يعاين قَبِل الله توبته) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال :(إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)(2).

و(منها) انه إذا فعل حسنات فانها تكفر السيئات بل تبدّلها الى حسنات {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} {هود:114}، {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}

ص: 23


1- شرح أصول الكافي المازندراني: 10/ 166
2- راجع مصادرها في ميزان الحكمة :1/ 514.

{الفرقان:70}.و(منها) اعتبار البلايا والصعوبات والالام التي يمر بها الانسان كفارة لذنوبه، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال :(الحمد لله الذي جعل تمحيص ذنوب شيعتنا في الدنيا بمحنتهم لتسلم بها طاعاتهم ويستحقوا عليها ثوابها)(1).

و(منها) العفو والصفح ابتداءاً تكرماً من الله تعالى وفضلاً من غير تسبيب العبد {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} {الشورى:30} .

عموم الآية للمسلم وغيره:-

والآية عامة لا تختص بالمؤمنين فكل من يصدر منه فعل الاحسان يكافئه الله تعالى بالإحسان مؤمنا كان او غير مؤمن على اختلاف درجاتهم في الكفر والشرك اوالجهل بالخالق، روى عبد الله بن مسعود قال:قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (ما أحسن محسن من مسلم، ولا كافر إلا أثابه الله :فقلنا:يا رسول الله، ما إثابة الكافر ؟ قال:إن كان قد وصل رحما، أو تصدق بصدقة، أو عمل حسنة أثابه الله المال والولد والصحة وأشباه ذلك، قال:فقلنا:فما إثابته في الآخرة ؟ قال:عذابا دون العذاب، وقرأ {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}(2) (غافر:46) .

هذا بالنسبة للمعاند اما غير المعاند فيكافئه الله تعالى بالهداية الى الاسلام والايمان وطريق الجنة والشواهد كثيرة على حصول مكافأة كبيرة لمن قام بعمل

ص: 24


1- بحار الانوار :67/ 232/ح48.
2- تفسير ابن كثير : 7/ 138.

يسير كتلك المرأة الفاسقة التي دخلت الجنة لأنها سقت قطة عطشى ماءاً، او الحر الرياحي(1) الذي لم يرّد على الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حين قال له ثكلتك امك يا حر لان امه الزهراء (س) فكوفئ بنيل الشهادة والسعادة الابدية.ونقل بعض المفسرين ان شخصا مسلماً شاهد امرأة كافرة تنثر الحب للطيور في الشتاء فقال لها:لا يقبل العمل من امثالك، فأجابته:اني اعمل هذا سواء قبل ام لم يقبل، ولم يمض وقت طويل حتى رأى الرجل هذه المراءة في حرم الكعبة، فقالت له يا هذا ان الله تفضل علي بنعمة الاسلام ببركة الحبوب القليلة(2).

ثمرة عملية لذكر الآية

أراد الله تعالى بتذكيرنا بهذا القانون الفطري وبتعامله معنا على اساسه أن يؤدبنا بهذا الأدب وان نتعامل بهذه القاعدة العقلائية الفطرية مع الله تبارك وتعالى المحسن المتفضل، وكذلك بيننا نحن البشر وإن خالفونا في الدين، فنجازي الاحسان بالإحسان، روى علي بن سالم قال: (سمعت ابا عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول: آية في كتاب الله مسجّلة، قلت:وما هي؟ قال:قول الله تبارك وتعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}, جرت في المؤمن والكافر والبرّ والفاجر، من صُنِع إليه معروف فعليه أن يكافىء به، وليس المكافأة أن يصنع كما صنع به، بل حتّى يرى مع فعله، لذلك ان له فضل المبتدى)(3).

وقد حثت الآيات الكريمة والروايات الشريفة على اتباع طريقة الاحسان في

ص: 25


1- الارشاد الشيخ المفيد: 78
2- تفسير الامثل: 13/ 475 حكاها عن روح البيان : 9/ 310.
3- تفسير البرهان : 9 / 193.

التعامل مع الاخرين وانه من افضل القربات التي توجب المحبة الالهية، قال تعالى {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (البقرة:195)،{وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت:69) ،{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (النحل:128)، ومن كلمات امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (عَلَيْكَ بِالإحْسانِ فَإنَّهُ أفْضَلُ زِراعَة وَ أرْبَحُ بِضاعَة) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)(رَأْسُ الإيمانِ اَلإحْسانُ إلَى النّاسِ) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (نِعْمَ زادُ المَعادِ الإحْسانُ إلَى العِبادِ) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)(لَوْ رَأيْتُمُ الإحْسانَ شَخْصاً لَرَأَيْتُمُوهُ شَكْلاً جَميلاً يَفُوقُ العالَمينَ)(1).

الانسان يخالف هذه القاعدة:

لكن الانسان العنود الكنود المجادل الجهول الظلوم خالف هذه القاعدة في علاقته مع ربّه ولم ينصفه بأدنى درجات الانصاف فيكون الاستفهام في الآية استنكارياً بهذا اللحاظ، ويكون فيها عتاب للإنسان بأنه لا يعمل بها بعد أخذ اقراره بها في عيون اخبار الرضا وآمالي الطوسي بالإسناد عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه الطاهرين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(حدثني أخي رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال :يقول الله عز وجل:يا أبن آدم ما تنصفني ! أتحبّبُ اليك بالنعم، وتتمّقت اليَّ بالمعاصي، خيري اليك نازل وشرُّك اليَّ صاعد، ولا يزال ملكُ كريم يأتيني عنك في كل يوم بعملٍ غير صالح، يا ابن آدم لو سمعت وصفك من غيرك

ص: 26


1- ميزان الحكمة 2:391.

وانت لا تدري من الموصوف لسارعت الى مقته)(1). وورد هذا المعنى في دعاء الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) المروي عن طريق ابي حمزة الثمالي (ذُنُوبُنا بَيْنَ يَدَيْكَ نَسْتَغْفِرُكَ الّلهُمَّ مِنْها وَنَتُوبُ اِلَيْكَ، تَتَحَبَّبُ اِلَيْنا بِالنِّعَمِ وَنُعارِضُكَ بِالذُّنُوبِ، خَيْرُكَ اِلَيْنا نازِلٌ، وَشُّرنا اِلَيْكَ صاعِدٌ، وَلَمْ يَزَلْ وَلا يَزالُ مَلَكٌ كَريمٌ يَأتيكَ عَنّا بِعَمَل قَبيح، فَلا يَمْنَعُكَ ذلِكَ مِنْ اَنْ تَحُوطَنا بِنِعَمِكَ، وَتَتَفَضَّلَ عَلَيْنا بِآلائِكَ، فَسُبْحانَكَ ما اَحْلَمَكَ وَاَعْظَمَكَ وَاَكْرَمَكَ مُبْدِئاً وَمُعيداً، تَقَدَّسَتْ اَسْماؤكَ وَجَلَّ ثَناؤُكَ، وَكَرُمَ صَنائِعُكَ وَفِعالُكَ)(2).

اما الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فيفصّل أكثر في بيان هذه العلاقة غير المنصفة بين الانسان وربّه في دعائه العظيم يوم عرفة فبعد ان قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (يا من قل له شكري فلم يحرمني، وعظمت خطيئتي فلم يفضحني، ورآني على المعاصي فلم يخذلني، يا من حفظني في صغري يا من رزقني في كبرى، يا من أياديه عندي لا تحصى، يا من نعمه عندي لا تجازى يا من عارضني بالخير والاحسان، وعارضته بالإساءة والعصيان) بدأ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بتفصيل عدم انصاف الانسان لربه، فيقول عن ربه تعالى (يا مَوْلاىَ اَنْتَ الَّذى مَنْنْتَ، اَنْتَ الَّذى اَنْعَمْتَ، اَنْتَ الَّذى اَحْسَنْتَ، اَنْتَ الَّذى اَجْمَلْتَ، اَنْتَ الَّذى اَفْضَلْتَ، اَنْتَ الَّذى اَكْمَلْتَ، اَنْتَ الَّذى رَزَقْتَ، اَنْتَ الَّذى وَفَّقْتَ، اَنْتَ الَّذى اَعْطَيْتَ، اَنْتَ الَّذى اَغْنَيْتَ، اَنْتَ الَّذى اَقْنَيْتَ، اَنْتَ الَّذى آوَيْتَ، اَنْتَ الَّذى كَفَيْتَ، اَنْتَ الَّذى هَدَيْتَ، اَنْتَ الَّذى عَصَمْتَ، اَنْتَ الَّذى سَتَرْتَ، اَنْتَ الَّذى غَفَرْتَ، اَنْتَ الَّذى اَقَلْتَ، اَنْتَ الَّذى مَكَّنْتَ، اَنْتَ الَّذى اَعْزَزْتَ، اَنْتَ الَّذى

ص: 27


1- امالي الطوسي : 202 ح 10 من الجزء الخامس ،عيون اخبار الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) :2/ 28.
2- مفاتيح الجنان : 337.

اَعَنْتَ، اَنْتَ الَّذى عَضَدْتَ، اَنْتَ الَّذى اَيَّدْتَ، اَنْتَ الَّذى نَصَرْتَ، اَنْتَ الَّذى شَفَيْتَ، اَنْتَ الَّذى عافَيْتَ) الى اخر ما قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) .وماذا عن العبد ؟ قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، (ثُمَّ أَنَا يَا إِلَهِي الْمُعْتَرِفُ بِذُنُوبِي فَاغْفِرْهَا لِي، أَنَا الَّذِي أسأت، أنا الّذي أَخْطَأْتُ، أَنَا الَّذِي جَهِلْتُ، أَنَا الَّذِي غفَلْتُ، أَنَا الَّذِي سَهَوْتُ، أَنَا الَّذِي اعْتَمَدْتُ، أَنَا الَّذِي تَعَمَّدْتُ، أَنَا الَّذِي وَعَدْتُ، أَنَا الَّذِي أَخْلَفْتُ، أَنَا الَّذِي نَكَثْتُ، أَنَا الَّذِي أَقْرَرْتُ، أنا الّذي اعترفت بِنِعْمَتِكَ عِليَّ وعنْدِي، وَأَبُوءُ بِذُنُوبِي فَاغْفِرها لِي)(1).

وإذا كان السائد على علاقة الانسان مع ربّه وخالقه هو عدم الانصاف، فهو كذلك مع الناس حيث يسود الناس الظلم والفساد والغش والخداع والاحتيال قال تعالى {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} (الروم:41) خلافاً للأدب الذي أمرنا الله تعالى به أن نجازي بالإحسان من احسن الينا وعلى رأسهم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والائمة الطاهرون (صلوات الله عليهم اجمعين) والعلماء العاملون المخلصون والوالدان {بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} (البقرة:83) وجيراننا وارحامنا والذين علّمونا والذين ربّونا وهكذا كل من أحسن الينا.

بل أمرنا بالإحسان حتى لمن اساء الينا، قال تعالى:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} (المؤمنون :96) {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلّت:34).

ص: 28


1- مفاتيح الجنان : 467 اعمال شهر ذي الحجة.

القبس/155: سورة الحديد:4

اشارة

{وَهُوَ مَعَكُم أَينَ مَا كُنتُمۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِير}

موضوع القبس:المعية الإلهية ... الثمرات والمراتب

تنبّه الآية الكريمة إلى حقيقة قرآنية عظيمة تزيد الانسان كمالاً ومعرفة بربّه كلما ازداد ايماناً بها واستحضرها في وجدانه فعلاً.

تلك الحقيقة هي ان الله تعالى معكم في جميع مراحل تكوّنكم في الدنيا والآخرة وفي كل مكان تكونون فيه ومهما اعتقدتم انكم في خلوة وانفراد فانه معكم، وهو تعالى معكم في كل زمان وفي كل حالة من حالاتكم ومطلّع عليكم ومحيط بكم {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (سبأ:3) فالمعيّة الإلهية متحققة من جميع الجهات، وان لفظ (اين ما) الوارد في الآية لا يحدّدها بالمعية المكانية، ولعل ذكرها باعتبار ان المعية المكانية هي الاوضح في الاذهان للتعبير عن الاقتران وكذا الغيبة المكانية أوضح في التعبير عن الافتراق.

ولذا جاءت الفقرة التالية لها {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} كالنتيجة لهذه الحقيقة لان لازم حضوره معكم وعدم احتجابكم عنه وإحاطة علمه بكم أن يكون بصيراً بأعمالكم عالماً بنيّاتكم وأغراضكم أي يعلم ظاهر الاعمال وباطنها.

وقد تكرر هذا المعنى في آيات كريمة أخرى كقوله تعالى {أَلَمْ تَرَ أَنَّ

ص: 29

اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (المجادلة:7) وقال تعالى {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} (النساء:108).وقد استلهم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هذه الحقيقة وقدّم توجيهاً تربوياً في وصيته لأبي ذر (رضوان الله تعالى عليه) بقوله (أعبد الله كأنك تراه فان كنت لا تراه فأنه يراك)(1) والعبادة تسري في كل شؤون الحياة.

إن الايمان بهذه الحقيقة له عدة آثار في حياة الانسان:

1 سيشعر انه ليس وحيداً في مواجهة الصعوبات والمحن والبلاءات وانما يكون معه رب رؤوف رحيم يشفق عليه ويرعاه ويدفع عنه ويحميه ويستجيب لدعائه وطلباته واذا تأخرت الإجابة فلمصلحته لانَّ ربه يختار له الخير ويكافئه على الاحسان ويعفو عن الإساءة وينصره عند الضعف والانقطاع {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} (الشعراء:62) {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ، وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} (الشعراء:7882) فهي معيّة الايجاد والهداية ومعيّة الاطعام والسقي ومعيّة الشفاء من المرض ومعيّة البعث والنشور. وبذلك يتحول عجز الانسان وضعفه إلى قوة واقتدار ويتبدل خوفه وقلقه

ص: 30


1- مكارم الاخلاق للطبرسي: 626

بفضل الله تعالى إلى أمن وطمأنينة قال تعالى {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} (محمد:35) وقال تعالى {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} (التوبة:40). روى الشيخ الصدوق عن إمامنا الْعَسْكَرِيِّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أَنَّهُ سُئِلَ إمامنا الصَّادِقُ عَنِ اللَّهِ؟ فَقَالَ لِلسَّائِلِ:" يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، هَلْ رَكِبْتَ سَفِينَةً قَطُّ "؟ قَالَ:بَلَى. قَالَ:" فَهَلْ كُسِرَ بِكَ حَيْثُ لَا سَفِينَةَ تُنْجِيكَ، وَلَا سِبَاحَةَ تُغْنِيكَ "؟ أي حالة انقطاع أسباب النجاة قَالَ:بَلَى. قَالَ:" فَهَلْ تَعَلَّقَ قَلْبُكَ هُنَاكَ أَنَّ شَيْئاً مِنَ الْأَشْيَاءِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُخَلِّصَكَ مِنْ وَرْطَتِكَ "؟ قَالَ:بَلَى. قَالَ الصَّادِقُ:" فَذَلِكَ الشَّيْ ءُ هُوَ اللَّهُ الْقَادِرُ عَلَى الْإِنْجَاءِ حِينَ لَا مُنْجِيَ، وَعَلَى الْإِغَاثَةِ حِينَ لَا مُغِيثَ ")(1) لاحظوا عظمة النعمة بحضور الله تعالى معنا، وأي وحشة وعجز وضعف يحسّ به المنكر للخالق.

وتزداد معية التوفيق والتأييد كلما ازداد العبد قرباً من ربّه {وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي} (المائدة:12) أي ان بعض مراتب المعيّة العالية مشروطة بالإيمان والعمل الصالح.

وفي الحديث الشريف (انا عند المنكسرة قلوبهم)(2) أي ان الالطاف الإلهية الخاصة تحضر عند انكسار القلب لاي سبب كان سواء من خشية الله تعالى او عند

ص: 31


1- التوحيد للصدوق: 231، معاني الأخبار: 4 / ح 2، بحار الانوار:64/ 137
2- منية المريد، ص 123، وفيه: (أنا عند المنكسرة قلوبهم) ودعوات الراوندي: ص 276، وفيه: روي أن داود (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: إلهي هل يذكر أحد الأموات حين درست قبورهم؟ قال: يا داود إني لم أنسهم أحياء مرزوقين، فكيف أنساهم أمواتاً مرحومين! كلما قطعت لهم إرباً غفرت لهم ذنباً وأغفر لهم بكل شعرة سقطت وبكل عظم بلي وأنا أرحم الراحمين.

التعرض لمظلومية وعدوان وغير ذلك . 2 وسيشعر أيضاً أنه ليس مطلق السراح في اتباع شهواته ونزواته واهوائه ويفعل ما يشاء من جرائم ومنكرات وظلم للآخرين وإنما هو تحت الرقابة الإلهية التي لا تحيط فقط بظاهر الاعمال بل تنفذ إلى باطن العمل فتعلم النية والغرض، فقد يكون العمل حسناً بحسب الظاهر الا انه في حقيقته سيئ لان نية صاحبه سيئة كما لو قام به رياء او طلباً للسمعة والجاه ونحو ذلك ولم يكن يبتغي به وجه الله تعالى لان الناقد بصير وهيهات لن يخدع الله عن جنته(1) كما ورد في كلمات أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

وهذا الشعور يدفع العباد إلى القيام بالمزيد من الاعمال الصالحة وتخليص النيات من الشوائب وتجنب الاعمال السيئة والظلم والعدوان، فهذه الرقابة الإلهية لمصلحة الإنسان وهي توجّه بوصلة حياته نحو الخير وتضبط استقامته وليست شيئاً قسرياً مفروضاً عليه.

وهي رقابة داخلية تستقر في ضمير الانسان وتكون حاضرة اذا غابت عنه رقابة الأجهزة والقوانين الحكومية أو الأعراف الاجتماعية.

ولأهمية هذه الحقيقة فقد ورد في الحديث الشريف عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (من أفضل ايمان المرء أن يعلم أن الله تعالى معه حيث كان)(2).

أيها الاحبّة:

لقد أرادت السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء (س) أن ترسّخ هذه الحقيقة في

ص: 32


1- نهج البلاغة: 2/ 12
2- سند أبي داود ح 1582، الدر المنثور: 6/ 171

قلوب وعقول الأمة لما رأت غفلة الكثيرين عنها وأن سلوكهم كان لا ينمّ عن إيمان حقيقي بها وإن اعتقدوا بها ظاهراً فخاطبت جمعهم بقولها (أنتم عباد الله نصب أمره ونهيه) وقالت (س) (فاتقوا الله حق تقاته ولا تموُّتن الا وانتم مسلمون، واطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه)(1). وتحذّر (سلام الله عليها) من عدم الالتفات إلى هذه الحقيقة والعمل بها فقالت (لتجدنّ والله محمله ثقيلاً، وغّبه - أي عاقبته - وبيلا اذا كشف لكم الغطاء، وبان ما وراءه الضراء، وبدا لكم من ربّكم مالم تكونوا تحتسبون وخسر هناك المبطلون)(2).

من هذا نعرف الخسارة العظمى التي تحل بالإنسان حينما يغفل عن هذه الحقيقة او ينفيها او يتسافل اكثر فينكر وجود الخالق ونعرف حجم الخسارة التي تحل بالأمة حينما يروّج البعض فيها إنكار هذه الحقيقة ويدعو إلى الالحاد ونبذ الدين ونحو ذلك، لا لشيء الا لكي يطلقوا العنان لشهواتهم واتباع اهوائهم ولكي لا يؤنّبهم ضميرهم وليغطّوا على الشعور بالذنب والخطيئة {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} (النمل:56) فيخدعون أنفسهم بإنكار هذه الحقيقة العظمى أعني وجود الخالق فيكون حالهم كالوصف المنقول عن النعامة أنها اذا أحدق بها الخطر دفنت رأسها في التراب لكي لا تراه وتخدع نفسها بالتخلص منه.

هذا هو الدافع الحقيقي لمن يقف وراء دعوات الالحاد ونبذ الدين اما

ص: 33


1- الاحتجاج للطبرسي: 1/ 128
2- الاحتجاج للطبرسي: 1/ 136

التابعون لهم فهم مخدوعون ببعض الشعارات والادعاءات، وإلا فإن دعاوى إنكار الخالق أو الشرك به أوهام باطلة من صنع خيالات فاسدة ولا يساعد عليها عقل ولا منطق عقلائي بل أن العقل السليم يسخر من هذه الأفكار لان أبسط جهاز أو آلة حولنا لا يمكن أن نصدّق انه وُجد بلا صانع عاقل فكيف بالكون المترامي الذي يتحرك بنسق متناهي الدقة ووفق قوانين محكمة أتاحت المجال لعلماء الفلك أن يحسبوها ويستفيدوا منها في الرحلات الفضائية.فأحذروا أيها الأحبة من كل سبب يؤدي الى الغفلة عن الله تعالى، وحذّروا الناس من كل الدعوات التي تريد تغييب الله تعالى عن الحياة وعزله والتحلل من هذا الالتزام معه سبحانه وتعالى، واعملوا على ترسيخ حقيقة أن الله معنا لدى عموم الناس، وادعوا بالحكمة والموعظة الحسنة المتأثرين بما ينشر في مواقع التواصل لتنقذوهم من ضلالهم حتى يستشعروا هذه النعمة العظيمة والمسؤوليات تجاهها، وذلك بعد ان تتسلحوا بالعلم والمعرفة ولو على المستوى الفطري والعقلائي الذي لا يحتاج إلى دراسات معّمقة ومتخصصة.

وقد ورد في رواية (1) عن السيدة الزهراء فيمن يقوي الايمان والدين وينصر المؤمنين ويدحض شبهات المضلّين والمنحرفين ان الله تعالى يضاعف له ما اعدَّ له من المنزلة الكريمة المستحقة له في الجنان الف الف ضعف، فعلى الجميع ان لا يتقاعسوا عن نصرة الدين وهداية الناس وخدمتهم، وقد حذّرت السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء (س) من ان حب الراحة والدعة واللامبالاة والكسل أسباب حقيقية لتضييع الحق وحذّرتهم من خذلانه فقالت (س) (الا وقد أرى أن قد

ص: 34


1- بحار الانوار : 2/ 8، ح 15

اخلدتم إلى الخفض - أي الحياة المرفّهة - وأبعدتم من هو أحقّ بالبسط والقبض، وخلوتم بالدعة - أي الراحة والسكون -)(1).وفقنا الله تعالى وإياكم لنصرة الدين وإعلاء كلمة الله رب العالمين ونشر شريعة سيد المرسلين (صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين).

ص: 35


1- الاحتجاج: 1/ 133.

القبس/156: سورة الحديد:12

اشارة

{يَومَ تَرَى ٱلمُؤمِنِينَ وَٱلمُؤمِنَتِ يَسعَى نُورُهُم}

موضوع القبس:موعظة من سورة الحديد

{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 12 يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ 13 يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ 14 فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ15}

أهمية المسبحات:

سورة الحديد من السور المباركة التي كان يهتم بها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وروي انه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان حينما يأوي إلى فراشه للنوم يتلو سور المسبّحات(1)، وهي السور التي تبدأ بكلمات التسبيح، وأولها سورة الحديد ومعها سورة الحشر

ص: 36


1- أنظر مستدرك الوسائل: ج4 ص289.

والصف والجمعة والتغابن وهي في الجزء الثامن والعشرين من المصحف الشريف. وروى العلامة الطبرسي في مجمع البيان عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (من قرأ المسبحات كلّها قبل ان ينام لم يمت حتى يدرك القائم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وان مات كان في جوار رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)(1).

سورة الحديد ومحاسبة النفس:

وسورة الحديد من السور النافعة في الموعظة وترقيق القلب، فإدامة تلاوتها قبل النوم يساعد على إجراء المراجعة مع النفس في نهاية كلِ يوم، وهي المحاسبة التي أمرنا المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بها، وقالوا في ذلك (ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم)(2) فمن يحاسب نفسه كل ليلة يكون منهم ومعهم (صلوات الله عليهم أجمعين) وهذا أحد وجوه تفسير الحديث السابق في ثواب قراءة المسبحات.

معاني الآية والموعظة منها:

ونأخذ منها اليوم مقطعاً يعطينا قاعدة في السلوك المعنوي خصوصاً لكم أيها الشباب الجامعيون ونستقي منه أيضاً درساً في الموعظة يعرض مشهداً من مشاهد يوم القيامة، ذلك اليوم المهول الذي ورد وصفه في القران الكريم بأوصاف مذهلة

ص: 37


1- مجمع البيان 9/ 345.
2- وسائل الشيعة: باب وجوب محاسبة النفس كل يوم وملاحظتها وحمد الله على الحسنات وتدارك السيئات، ح1، ج16 ص95.

{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (الحديد:12) يستعرض المشهد مقارنة بين حالي المؤمنين والمنافقين وحواراً، اما المؤمنون والمؤمنات فانهم {يَسْعَى نُورُهُمْ} في ذلك اليوم الذي تنكسف به الشمس وتنكدر النجوم وتكون الجبال كالقطن المنفوش وتشتد الظلمات بعضها فوق بعض، يلطف الله تعالى بالمؤمنين والمؤمنات فيوفّر لهم نوراً يسعى بهم الى الجنة والسعادة، والسعي هو السير الحثيث فهو يسرع بهم الى الجنة، ولما كان النور ينبعث منهم، فإنهم في الحقيقة هم الذين يسعون لأنهم مصدر النور، ونسب السعي إليه لأنه يتقدمهم.{بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} هذا النور ينبعث من امامهم ومن ايمانهم، ولعل الذي من امامهم هو نور الايمان وعقائدهم الحقة في التوحيد والنبوة والإمامة، لذا ورد في الكافي بسنده عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن النور قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أئمة المؤمنين يوم القيامة تسعى بين يدي المؤمنين وبإيمانهم حتى ينزلوهم منازل أهل الجنة)(1)، ولعله نور ذواتهم الطيبة المحبوبة عند الله تعالى، أما النور من يمينهم فهو نور أعمالهم الصالحة حيث يؤتى المؤمن كتابه بيمنه {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ، إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ، فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ، قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ،} (الحاقة:1924).

{بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (الحديد:12) وما دامت هذه عاقبتهم، فإنها بشرى حقيقية

ص: 38


1- الكافي: 1/ 151 ح5.

ويستحقون التهنئة على هذا الفوز العظيم وما أعظمه من فوز ومن خاتمة حسنة في تلك الحياة الخالدة.{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} (الحديد:13) هذه هي الصورة المقابلة للبائسين الخاسرين من المنافقين والمنافقات فإنهم في ظلمات وخوف ورعب وعذاب وألم، فالتفتوا إلى المؤمنين والمؤمنات وهم في ذلك العيش الرغيد وطلبوا منهم أن يلتفتوا إليهم ويسعفوهم بقبس من النور يخفّف عنهم بعض الأهوال.

{قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً} (الحديد:13), فجاءهم الجواب إنّ الفرصة قد فاتت الآن لتحصيل النور لأنّه حصيلة أعمالكم الّتي اكتسبتموها في الدنيا، فكان عليكم أن تلتفتوا إلى هذه الحقيقة في الدنيا فتؤمنوا وتعملوا الصالحات لتتحول إلى نور في هذا اليوم، فإن استطعتم أن ترجعوا إلى الدنيا لتحصيل النور، وذلك مستحيل {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} (ص:3).

{فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} (الحديد:13), ففصل بينهم بجدار عازل كما كانوا في الدنيا منفصلين ومتباينين في سلوكهم واعتقاداتهم ونظرتهم إلى الحياة، وإن كانوا متعايشين في مجتمع واحد وبيئة واحدة فجُسِّدَت تلك المباينة بسور عازل (له باب) لينظر بعضهم إلى بعض من خلاله وليجري بينهم هذا الحديث وليقارن كل من الفريقين حاله مع حال الآخر فيزداد المؤمنون والمؤمنات شكراً لله تعالى على ما انعم، والمنافقون والمنافقات ألماً وحسرة وندامة على ما فرطوا في أمر آخرتهم.

ص: 39

{بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} (الحديد:13), صفة هذا السور أن ما بداخله الرحمة والسعادة والعيش الهنيء وهو محل المؤمنين، أما خارجه فالعذاب والوحشة والخوف والألم وهو محل المنافقين والمنافقات، ومثاله المدن في ذلك الزمان عندما كانت تحاط بسور متين يحميها من هجمات الأعداء واللصوص والمحتلين والمجرمين، فتجد داخل المدينة البيوت المريحة والشوارع المنظّمة والأسواق العامرة والمياه العذبة وسائر أسباب الرفاهية، أما خارجها فالصحراء والوحشة والمخاطر والجوع والظمأ والخوف، وهذا مثال حال يوم القيامة.{يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} (الحديد:14)، وحينئذ نادى المنافقون والمنافقات المؤمنين والمؤمنات، وعبَّر بالمناداة وليس (قالوا) ونحوها للبينونة البعيدة بينهما ولم تكن مواضعهم متقاربة، فخاطب المنافقون المؤمنين الذين يعرفونهم ألم نكن معكم في مدينة واحدة وجامعة واحدة ودائرة واحدة ومجتمع واحد بل ربما في بيت واحد كنا نعيش سوية فلماذا حصل هذا التفاوت العظيم بيننا.

ويظهر من بعض الروايات ان المراد بهم المنحرفون عن ولاية أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فيناديكم أعداؤنا وأعداؤكم من الباب الذي في السور ظاهره العذاب:ألم نكن معكم في الدنيا، نبيّنا ونبيّكم واحد، وصلاتنا وصلاتكم واحدة، وصومنا وصومكم واحد، وحجُّنا وحجُّكم واحد).(1)

ص: 40


1- تفسير البرهان: 9/ 225.

{قَالُوا بَلَى} فأجاب المؤمنون نعم كنّا هكذا سوية بأبداننا لكن أرواحنا وعقائدنا وسلوكياتنا كانت متباعدة ومتباينة، ولنضرب مثالاً من واقعكم أنتم الشباب الجامعي فأنتم الموجودون هنا تأتون إلى زيارة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وتستمعون إلى المواعظ والتوجيهات بينما ذهب آخرون من زملائكم إلى حيث اللّهو والعبث والمجون، فيوجد انفصال بينكم في السلوك والرؤى وهذا هو الذي جسّد هذا التفاوت بيننا يوم القيامة. {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (الحديد:14) ومن هنا يبدأ تعداد الأسباب التي جعلت مساراتنا في الحياة الدنيا متباينة، انكم فتنتم أنفسكم واتبعتم الشهوات وسرتم وراء أهوائكم من دون بصيرة وتعقل واتباع لشرائع الله تعالى.

{وَتَرَبَّصْتُمْ} إذ كنتم تترقبون زوال الدين والقضاء على أهله وإسكات صوت الحق الذي كان يقض مضاجعكم ويسبب لكم ألماً باطنياً ووخز الضمير.

{وَارْتَبْتُمْ} حيث كنتم تشككون بالعقائد والأحكام الإلهية وتثيرون الشكوك والشبهات حولها لتجعلوا لأنفسكم مبررات لعدم الالتزام بها، وتفاقم ارتيابكم ليشمل حتى أقدس المقدسات كما نسمع اليوم من بعض أدعياء الحداثة تشكيكات في أصل نبوة النبي محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وكون القرآن نازلاً من الله وهم مسلمون!!!

{وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ} خدعتكم وعود الشيطان وأوليائه وعبيده بدنيا مزيّفة وأموال ومواقع وشهوات ونحوها.

{حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} حتى فاجأكم الموت وطويت صفحة أعمالكم

ص: 41

وانقطعت عنكم فرصة التدارك والتعويض والإصلاح والمراجعة.{وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} ونجح الشيطان بخداعكم والمكر والتغرير بكم وأنتم تتحملون المسؤولية باتّباعكم إيّاه رغم التحذير الشديد من قبل الله تعالى {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} (الإسراء:53) {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} (البقرة:168).

{فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (الحديد:15)، وكانت هذه النتيجة الحتمية لسوء أعمالهم أن يجتمعوا مع الكفّار في النار والعذاب الأليم لأنها هي الأولى بهم والأليق لخبثهم حتّى تطهرهم النار وتزيل أدرانهم.

وهنا يلتفت الله تعالى إلى المؤمنين والمؤمنات ويخاطبهم بعتاب رقيق وتساؤل ملؤه الحنان والشفقة بأن يستفيدوا من هذه المواعظ ويطهروا بها قلوبهم ويهذّبوا أنفسهم، وإلا فإنها تقسو وتسوَّد بطول الأعراض عن الموعظة وذكر الله تعالى والانغماس في الملذات واللهاث من أجل التوسع في الدنيا، حتى يطبع عليها فلا تنفع معها موعظة والعياذ بالله تعالى {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد:16).

قدّمت لكم هذا النموذج مما أدعو إليه من التفسير المبسّط للقرآن الكريم الذي يعيننا على التدبّر في آياته من دون الحاجة إلى الكتب المعمّقة في التفسير.

ص: 42

قاعدة مهمة في السير الى الله تعالى:

وأريد أن أركّز من خلاله على الوصف الذي ورد في المقطع {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} فهذه قاعدة مهمة في السلوك المعنوي إلى الله تعالى، وهي الالتفات إلى حقائق الأمور لاتخاذ المواقف الصحيحة، وعدم الانخداع بالظاهر وبناء القرارات عليه.

فإن كثيراً من الأفعال والمواقف تبدو في ظاهرها لذيذة ممتعة إلا أنّها تستبطن الشقاء والعذاب والألم، وعلى العكس من ذلك فإن بعضاً آخر منها يبدو ظاهره متعباً مكروهاً إلا أن حقيقته السعادة والنعيم، لذا ورد في الحديث (حُفّت الجنة بالمكاره والنار بالشهوات)(1).

أمثلة للشباب:

ولنأخذ أمثلة من واقعكم الشبابي الجامعي، فإن البعض قد يتصور ان إقامة علاقات غير مشروعة مع الجنس الآخر فيها لذة ومتعة وسعادة ولكن الحقيقة خلاف ذلك لأن المجتمع سيرفضهما خصوصاً البنت وسيؤثر ذلك على مستقبلها وتسبّب تلك العلاقة شقائها، وربما بعض ردود الأفعال المؤلمة، هذا في الدنيا أما ما بعد الموت وفي الآخرة فسيعيشون حالة الألم والندامة والعذاب.

والمثال الآخر بعض الشباب المهووسين بالسفر إلى بلاد الغرب ليعيش حياة مرفهة سعيدة لكنه يضيّع دينه وأسرته وتكون زوجته وأولاده متمردين عليه وخارجين عن إرادته بسبب القوانين المعمول بها هناك.

ص: 43


1- بحار الأنوار: ج68 ص72.

ومن أمثلتها من يلتحق بجهة سياسية أو دينية أو اجتماعية من دون أن يتحقق من إخلاصها واستقامة سيرتها ومصداقيتها في العمل بما يرضي الله تعالى، يغرونه بمواقع النفوذ وتحصيل المال والامتيازات فتزل قدمه ويبتعد عن جادة الاستقامة وتكون عاقبته زلل قدمه عن الصراط.فهذه كلها امور ظاهرها أنيق وفيها الراحة والدعة والترف والانسياق مع التيار العام إلا أن عاقبتها وخيمة.

وفي مقابل ذلك توجد نماذج أخرى كتعرض الفتاة الجامعية المحجّبةالعفيفة إلى ضغط اجتماعي بأن مظهرها غير أنيق وانها متخلفة أو معقدة ونحوها من الأوصاف الاستفزازية.

وكذا الشاب الذي يلتزم بالمظهر المهذّب أو يلتزم بالآداب والأحكام الشرعية فيضغط عليه بنفس الطريقة ليستسلم وينهار وينساق معهم، وربما يتبارى زملاؤه الفسّاق في استدراجه معهم وإنهاء مقاومته.

أو الموظّف الأمين الملتزم الذي لا يخون الأمانة التي تحت يده فإنه يعاني من استفزاز أقرانه وانه سوف لا يستطيع أن يعيش كأقرانه ويبقى في الحضيض ولا يتقدم، وما ذلك إلا لحسدهم إياه على سمّوه وعجزهم وضعفهم عن الوصول إلى قمّته.

أو محاولة البعض لثني الملتزمين بالدين – كالصوم في الأيام الحارة أو القيام في الليل البارد للعبادة ونحوها - عن عمله وإيجاد المبررات لترك العمل.

فهذه كلها أمور قد تبدو مكلفة ومتعبة وتحتاج إلى صبر ومصابرة وتحمّل للمكاره، إلا أن فيها الفوز والفلاح وحسن الخاتمة.

ص: 44

الاختبار مستمر في الدنيا:

وهذا الاختبار مستمر ما دمنا في الحياة الدنيا، والنجاح فيه يكشف عن الفوز في الآخرة، وستتجلى هذه الحقيقة بوضوح في عصر الظهور، ففي الرواية (يخرج الدجال عدو الله ومعه جنود من اليهود وأصناف الناس، معه جنة ونار ورجال يقتلهم ثم يحييهم، ومعه جبل من ثريد ونهر من ماء. وإني سأنعت لكم نعته إنه يخرج ممسوح العين في جبهته مكتوب كافر يقرأه كل من يحسن الكتاب ومن لا يحسن، فجنته نار وناره جنة، وهو المسيح الكذاب، ويتبعه من نساء اليهود ثلاثة عشر آلاف امرأة فرحم الله رجلا منع سفيهه أن يتبعه، والقوة عليه يومئذ القرآن فإن شانه بلاء شديد، يبعث الله الشياطين من مشارق الأرض ومغاربها فيقولون له استعن بنا على ما شئت)(1).

فالالتفات إلى القاعدة التي ذكرناها يعين على النجاح في تلك الاختبارات وبناء مستقبل معنوي متكامل بلطف الله تبارك وتعالى، وإنما سميناها قاعدة لأنها تعطي رؤية تبرمج حياة الإنسان وتنظم أموره والله المستعان.

ص: 45


1- الدر المنثور : ج 5 ص 354.

القبس/157: سورة المجادلة:6

اشارة

{أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ}

موضوع القبس: ذنوبٌ قلّما نلتفت إليها

قال الله تبارك وتعالى {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (المجادلة:6)

الناس بكل مستوياتهم ودرجاتهم في التكامل او التسافل سيبعثهم الله تعالى يوم القيامة ويخبرهم بأعمالهم تفصيلاً كما هي، وسيفاجأون لأنهم كانوا غافلين عما يصدر منهم من قول او فعل {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (ق:22) وكانوا لا يراقبون الله تعالى في افعالهم فوقعوا فيما وقعوا فيه.

لكن الله تعالى احصاه لأنه {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (الحج:17) {أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} (فصلت:54)، وتؤكد الآية التالية هذه الشهادة وهذه الإحاطة {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (المجادلة:7)، وله شهود من نفس الانسان {يَوْمَ تَشْهَدُ

ص: 46

عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النور:24)، هذا غير الملائكة التي تسجل افعال العباد وبقاع الأرض تشهد على ما جرى عليها وغير ذلك.وفي الآية طمأنة لمن عمل الطاعات بانها لا تضيع وأنها بعين الله تعالى {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} (الكهف:30) وتحذير لمن عمل المعاصي بانها مسجلة عليه ويحاسب عليها {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة:78).

هذه هي الحالة العامة للناس، وقد تخفى بعض الذنوب حتى على المراقبين والملتفتين ونتحدث الان عن حالة وردت في أدعية الصحيفة السجادية وهي إلفات نظر العبد إلى ذنوبٍ يغفل عنها تماماً، فقد يرضى البعض عن نفسه، ويعتقد أنه على خير ما دام قد أدّى الواجبات الرئيسية كالصلوات المفروضة وصيام شهر رمضان ودفع ما بذمته من خمس ونحوه من الحقوق الشرعية، وما دام قد اجتنب المحرّمات الرئيسية كالزنا وشرب الخمر واللواط والسرقة والقتل بغير حق ونحوها.

وهو لعمري خيرٌ كثير أن يلتزم العبد بذلك، لكن حالة الرضا عن النفس حالة غير صحيحة لأنّ أموراً أخرى كثيرة لا يلتفت إليها الإنسان، لكنّها مؤثرة في ميزان أعماله، وقد تقلب هذا الميزان رأساً على عقب باتجاه الفوز أو باتجاه السقوط والعياذ بالله تعالى.

وكلامنا في الحالة الثانية إذ قد يظنّ الإنسان أنه على خير، ولا يعلم ما سوّد به صحائفه، ولا يلتفت إليها أصلاً إمّا لغفلته، أو لجهله بأنّ هذه ذنوب، أو انّه يعلم

ص: 47

ذلك ولكنه يتساهل فيها ويقلّل من شأنها وتأثيرها، ولذا ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) التحذير من المحقّرات من الذنوب قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اتقوا المحقرات من الذنوب فإنّها لا تغفر، قلت:وما المحقرات ؟ قال:الرجل يذنب الذنب فيقول:طوبى لي إن لم يكن لي غير ذلك)(1).وأعطى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) درساً عملياً في ذلك التأثير لأصحابه كما في الرواية عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (أنّ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نزل بأرض قرعاء، فقال لأصحابه: ائتوا بحطب، فقالوا:يا رسول الله، نحن بأرض قرعاء! قال:فليأت كلّ إنسان بما قدر عليه. فجاؤوا به حتّى رموا بين يديه، بعضه على بعض، فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ). هكذا تجمع الذنوب، ثمّ قال:إيّاكم والمحقّرات من الذنوب، فإنّ لكلّ شيء طالباً، ألا وإنّ طالبها يكتب ما قدّموا وآثارهم وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين)(2).

أقول:هكذا تجتمع الذنوب التي يستصغرها صاحبها ويقدم عليها بلا اكتراث وتترك آثارها عليه حتّى تطبع على قلبه فتورده النار والعياذ بالله.

حُكيَ أنّ أحد التجّار كان يصنع القماش ليبيعه فيعاد عليه لعيب يوجد فيه، ففرّغ نفسه مدة وأتقن صنع القماش لكيلا يرد عليه، وباعه بعد أن تأكّد من سلامته من العيوب، وما لبث أن رجع إليه المشتري وأخبره بعيوب قماشه، فجلس التاجر يبكي والمشتري يطيّب خاطره ويقول له سأقبل القماش ولا أرجعه فلا تتأثّر، لكن التاجر (الواعي) قال:ما لإرجاع القماش أبكي، ولكن أبكي لأعمالي إذا عُرضت

ص: 48


1- وسائل الشيعة كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب 43، حديث 1، 3.
2- وسائل الشيعة كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب 43، حديث 1، 3.

على الناقد البصير، كم سيجد فيها من العيوب، وكيف سيردّها عليّ، وما موقفي غداً، إذا كان المخلوق القاصرُ يجد كل هذه العيوب في قماش أتقنت صُنعه.وقد يبقى الإنسان على غفلته ولا يلتفت منها حتى يأتيه الموت {لقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (ق:22) وقال تعالى{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (المجادلة:6) وقال تعالى {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} (الأنعام:60).

وقد ذكرنا آنفاً أسباب هذه الحالة، أمّا علاجها فيمكن أن يكون بعدّة إجراءات وردت في الأحاديث الشريفة منها:

1الإستغفار المستمر وطلب التوبة مما يعلم ومما لا يعلم من الذنوب، وقد وردت دعوات كثيرة يومية للاستغفار في تعقيبات الفرائض اليومية وفي صلاة الليل.

2أداء الصلاة في أوقاتها لأنّها كفّارة لما بينها ولأن فيها تذكيراً بالله تعالى وعودة إليه {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (طه:14) وفي الرواية عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله لو كان على باب دار أحدكم نهر فاغتسل في كلّ يوم منه خمس مرّات، أكان يبقى في جسده من الدرن شيء؟ قلنا:لا، قال:فإنّ مثل الصلاة كمثل النهر الجاري، كلّما صلّى صلاة كفّرت ما بينهما من الذنوب)(1).

ص: 49


1- وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب اعداد الفرائض ونوافلها، باب2 ح3.

3الإكثار من الطاعات لأن الحسنات يذهبن السيئات، قال تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (هود:114) وقال تعالى {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} (الفرقان:70).

4تجنّب الغفلة لأنّها الأصل في الوقوع بالمعاصي.

5محاسبة النفس يومياً، لأن المحاسبة والتدقيق والمراجعة تكشف أموراً يغفل عنها لو لم يُجرِ هذه المحاسبة، وهذا معلوم بالتجربة لرجال الأعمال، وفي وصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأبي ذر (يا أبا ذر لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة الشريك شريكه)(1) وعن الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسنا استزاد الله، وإن عمل سيئا استغفر الله منه وتاب إليه)(2)

6مطالعة كتب الأخلاق والموعظة، وزيادة المعرفة بالله تعالى لأنّها أصل الدين وأساسه.

7مجالسة الصالحين والتردد على المساجد والمشاهد الشريفة.

8الاعتراف أمام الله بالتقصير وكثرة الذنوب مما نعجز عن عدّه وإيكال الأمر إلى عفوه ومغفرته وصفحه وإحسانه وكرمه.

ص: 50


1- وسائل الشيعة (آل البيت): 16/ 98/ح7
2- وسائل الشيعة : ج 16 /ص 95

وكما أنّ الحسنات يذهبن السيئات، فإنّ بعض السيئات تُذهب الحسنات وتُحرقها، ففي كتاب الأمالي(1)للشيخ الصدوق (قدس سره) بسنده عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من قال سبحان الله غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال الحمد لله غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال لا إله إلا الله غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال الله أكبر غرس الله له بها شجرة في الجنة، فقال رجلٌ من قريش يا رسول الله إنّ شجرنا في الجنة لكثير، قال نعم ولكن إيّاكم أن تُرسلوا عليها نيراناً فتحرقوها، وذلك إنّ الله عزّ وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (محمد:33) ومن تلك النيران المناسبة للرجل من قريش إنكار ولاية علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وبقرينة الآية التي استدل بها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الآمرة بطاعة الله تعالى ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، ومن تلك الذنوب الغيبة فعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الآكلة في جوفه)(2).وأنقل لكم نصاً من الصحيفة السجادية يلفت نظرنا إلى ذنوب نغفل عنها وهي تتعلق بالعلاقات مع الآخرين، ولك أن تقيس عليها غيرها مما لا يعلمه إلاّ الله تبارك وتعالى، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الاعتذار من تبعات العباد ومن التقصير في حقوقهم (اللهم إنّي اعتذر إليك من مظلوم ظُلم بحضرتي فلم أنصره، ومن معروف أسدي إليّ فلم أشكره، ومن مسيئٍ اعتذر إليّ فلم أعذره، ومن ذي فاقة سألني فلم أوثره.

ص: 51


1- أوردها عنه في البحار: 93/ 168.
2- أصول الكافي، ج2، باب الغيبة والبهتان، ح1، وفي القاموس المحيط: أنّ الآكلة داء في العضو يأتكل منه.

ومن حقّ ذي حقٍ لزمني فلم أوّفره، ومن عيب مؤمن ظهر لي فلم أستره، ومن كل إثم عرض لي فلم أهجره)(1)، فالسيئات لا تقتصر على ما صدر منه من أمثالها، بل على ما فوّت مما ينبغي فعله، فلا ينشغل الإنسان بالنظر إلى ما قدّم من طاعة أو معروف بين الناس، بل إلى ما كان يجب عليه فعله ولم يفعله. كالشخص يفرح بما أنفق في سبيل الله، ويغفل عن مورد قصده فيه صاحب حاجة وكان قادراً على قضائها فلم يفعل، ووردت في ذلك روايات شديدة كالذي روي عن أبي الحسن(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال(من أتاه أخوه المؤمن في حاجة فإنّما هي رحمة من الله تبارك وتعالى ساقها إليه، فإن قبل ذلك فقد وصله بولايتنا وهو موصول بولاية الله وإن ردّه عن حاجته وهو يقدر على قضائها سلّط الله عليه شجاعاً من نار ينهشه في قبره إلى يوم القيامة مغفوراً له أو مُعذّباً فإن عذره الطالب(2)كان أسوأ حالاً).(3)فهذا شكل من السيئات يخفى على الإنسان، مضافاً إلى ما صدر منه فعلاً، ومن دعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ليوم الإثنين (وأسألك في مظالم عبادك عندي، فأيّما عبد من عبيدك أو أمةٍ من إمائك كانت له قبلي مظلمة ظلمتها إياه في نفسه أو في عرضه أو في ماله أو في أهله وَولده، أو غيبةٌ اغتبته بها، أو تحامل عليه بميل أو هوى، أو أنفة أو حميّة أو رياء أو عصبية، غائباً كان أو شاهداً، وحيّا كان أو

ص: 52


1- الصحيفة السجادية (ابطحي): 187
2- قال الشارع: (أي المطلوب منه الحاجة، ووجهه إنه إذا عذره صاحبها لم يندم ولم يتب ولم يستغفر، بل ظن عدم تقصيره في حق الطالب فاجترأ على منع غيره).
3- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب فعل المعروف، باب 25، ح9.

ميتاً، فقصرت يدي، وضاق وسعي عن ردّها إليه، والتحلل منه، فأسألك يا من يملك الحاجات وهي مستجيبة لمشيئته، ومسرعة إلى إرادته، أن تصلّي على محمد وآل محمد وأن ترضيه عني بما شئت، وتهب لي من عندك رحمة)(1).وفي ضوء هذه الحقيقة التي لا يلتفت إليها إلاّ الأقلّون، يمكن أن نفهم ما ورد في الحديث الشريف عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (لم يعبد الله عز وجل بشيء أفضل من العقل، ولا يكون المؤمن عاقلاً حتى يجتمع فيه عشر خصال)(2) إلى أن قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (والعاشرة وما العاشرة لا يرى أحداً إلا قال هو خير مني وأتقى)(3) وقد شرحت بعض فقرات الحديث في محاضرة سابقة.

نسأل الله تعالى أن ينبّهنا من نومة الغافلين المُبعدين بعفوه وكرمه.

ص: 53


1- مفاتيح الجنان: 51
2- الخصال الشيخ الصدوق: 2/ 433/ح17, وورد: (وقد شرحت بعض فقرات الحديث في محاضرة سابقة) راجع: القبس/143 {لِّيَغفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} (الفتح:2), من نور القرآن: 4/ 339
3- الخصال الشيخ الصدوق: 2/ 433/ح17

ملحق:كيفية الاعتصام من الذنوب

سألني أحدكم أن أتحدث عن كيفية المحافظة على حالة التوبة, والاعتصام من الذنوب التي يتوجه إليها الإنسان في يوم عرفة, يوم الدعاء وطلب التوبة، وقد ذكّرني سؤاله بفقرة, وردت في أحد أدعية شهر رجب وهي:(وَاعْصِمْنا مِنَ الذُّنُوِب خَيْرَ العِصَمِ)(1), وهذا يعني وجود أشكال عديدة من العواصم عن الذنوب, بعضها, خير من بعض.

وهو معنىً صحيح، إذا التفتنا إلى أنَّ من العواصم أن يفقد الإنسان النعمة التي يرتكب بها الذنب، كفقد نعمة البصر فيتخلص من النظرة المحرمة، أو يفقد الإحساس بالشهوة الجنسية، التي هي نعمة أودعها الله تبارك وتعالى في الإنسان ليدفعه نحو الزواج والإنجاب، ولولاها لما أقدم البعض على تحمل مسؤولية الأسرة، والأطفال، ومشاق التربية, والرعاية، فإذا فقد هذه النعمة فستزول تلقائياً فرصة ارتكاب جريمة الزنا والعياذ بالله تعالى.

لكن الإنسان لا يريد بالتأكيد هذه الطريقة من الاعتصام من الذنوب؛ لأنه يدعو الله تبارك وتعالى أن يمتعه بالعافية, وبحواسه من السمع والبصر. وغيرهما, (اللهم متعني بسمعي وبصري، واجعلهما الوارثين مني...)(2).

ص: 54


1- وهو الدعاء الوارد عن الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) بواسطة سفيره محمد بن عثمان بن سعيد وأوله (اللّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِمَعانِي...). مصباح المتهجد الشيخ الطوسي: 803.- مفاتيح الجنان عباس القمي:183.
2- بحار الأنوار المجلسي: 83/ 130.

ومع ذلك قد تكون هذه الطريقة؛ هي ما يختارها الله تبارك وتعالى لبعض عباده، يُحكى أن أبا بصير - وهو مكفوف دخل على الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), وسأله أن يدعو الله تبارك وتعالى ليرفع عنه البلاء, ويعيد إليه بصره، فدعا الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) له فردّ الله تعالى بصره, وصار يبصر, وفرح بذلك، فقال له الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), إن شئت مضيت على حالتك الجديدة هذه وتحاسب يوم القيامة كما يحاسب الخلق, أو ترجع إلى حالتك الأولى وتدخل الجنة بغير حساب، فاختار أن يعود إلى حالته الأولى ليضمن له الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الجنة.وعلى أي حال فهذا شكل من أشكال الاعتصام من الذنوب، ومن الأشكال الأخرى:أن يكون للإنسان رادع من نفسه عن الذنوب, أما حياءً من الله تعالى لما انعم عليه من النعم التي لا تعد ولا تحصى، أو خوفاً منه عز وجل، أو خشية الفضيحة, والعار, خصوصاً يوم القيامة, عندما تعرض الأعمال أمام الأشهاد, وتبدو السرائر، - نسأل الله تعالى عفوه وستره، وهذا الرادع يؤتاه الإنسان؛ بفضل الله تبارك وتعالى؛ حينما يخلص لله تعالى, ويكون صادقاً معه, ففي الحديث الشريف (إذا أراد الله تعالى بعبد خيراً, جعل له واعظا من نفسه, يأمره, وينهاه)(1).

ومن العواصم عن الذنوب:ذكر الله تعالى على كل حال, والتفات الإنسان إلى أنه دوماً في محضر ربّه, وإن ربّه مطّلع عليه, {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت:53), {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق:18), {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا}

ص: 55


1- كنز العمال المتقي الهندي: 11/ 95.

(الكهف:49), فمع حالة الالتفات هذه, لا يُقدم الإنسان على الذنب, وإلا كان مستخفاً بربه، وإنما يرتكب الذنب بغفلة, وجهالة, فإذا التفت, وتذكّر, ندم, وتاب {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف:201).ومن العواصم:أن يلتفت الإنسان إلى قبح الذنب, ونتن صورته الواقعية التي تُدرك بالبصيرة لا بالبصر, كما ورد في القرآن الكريم من تصوير الغيبة بأكل لحم الأخ ميتاً؛ وهي صورة مقززة تنفر منها النفوس، وكتصوير الدنيا في كلام أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالجيفة لميتة الحيوان, وحولها الكلاب تنهشها, وتقطعها, فمن يرضى أن يشارك الكلاب في هذه الجيفة، أو تصوير أكل الحرام بأنهم {يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} (النساء:10), أو تصوير حبس الحقوق الشرعية والبخل بها بأنها {يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} (التوبة:35), وغيرها من الصور المرعبة التي وردت في الآيات الكريمة, والأحاديث الشريفة, فكيف يُقدم عليها الإنسان بعد معرفته بحقيقتها؟

ومن العواصم أن يبتعد عن البيئة المساعدة لارتكاب الذنوب, كمجالس البطالين والفسقة, ويتواجد في البيئة المحفزة على الطاعة كالمساجد, والمشاهد المقدسة, ومجالس الذكر, والشعائر الدينية. ولا أقل من أن يشغل الإنسان نفسه بالمباحات, والأعمال الأخرى, فضلاً عن الطاعات, كالدراسة, ومطالعة الكتب, واللقاء مع الإخوان, وحينئذٍ لا يبقى مجال ولا فرصة للمعصية, والذنب؛ لأن من

ص: 56

أسباب ارتكابها الفراغ، قال الشاعر:

إن الشباب والفراغ والجِدَة *** مفسدة للمرء أي مفسدة(1)

ومن العواصم ما ورد في كلمة امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته)(2)ومعرفة قيمة النفس سبب لاجتناب المعاصي.

يعلّمنا أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بهذه الكلمة القصيرة طريقة للتخلص من الوقوع في المعاصي، لأن سبب ارتكاب الذنوب مع معرفة خطرها في الدنيا وعقوبتها في الآخرة هو اتباع الشهوات، فالشهوة الجنسية تدفعه إلى النظرة المحرّمة والعلاقة غير المشروعة بكل مستوياتها، والشهوة الغضبية تدفعه إلى الظلم والعدوان على الآخرين، وشهوة المال تدفعه إلى الكسب غير المشروع والاستيلاء على أموال الآخرين، والانانية تدعوه الى انتقاص الآخرين وغيبتهم والتكبّر وحب الجاه والسمعة ونحو ذلك، وفي هذا المعنى كلمة قصيرة أخرى لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من كساه الحياء ثوبه، لم ير الناس عيبه)(3) .

وعلاج هذا الاندفاع وراء الشهوات لا يكون باستئصالها وازالتها لأنها غرائز أودّعها الله تعالى في الانسان لتؤدي غرضاً ايجابياً مثمراً، فالشهوة الجنسية لحثه على الزواج والانجاب حتى تتكاثر البشرية وتنمو وبدون هذا الدافع القوي لا يسعى الشخص الى تحمل مسؤوليات الزواج والاسرة واعبائها، واودعت الشهوة الغضبية ليدافع عن المقدسات ويواجه من ينتهك الحرمات ونحو ذلك.

ص: 57


1- يُنسب هذا البيت الى أبي العتاهية. أنظر: سير أعلام النبلاء الذهبي: 10/ 196.
2- نهج البلاغة: الحكم، الحكمة 446
3- نهج البلاغة: الحكم، الحكمة 220

فالعلاج إذن في ضبط هذه الشهوات وجعلها تحت السيطرة لتتحرك نحو الهدف الإيجابي فقط وتؤدي غرضها المنشود، وفي هذه الكلمة القصيرة لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يلفت نظرنا إلى ما يساعدنا على عملية الضبط هذه من خلال التفات الانسان إلى أهمية نفسه وقيمتها الكبرى فانها نفخة الهية في جسد الانسان {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} (الحجر:29) لينال بها الجنان والحياة الكريمة في ظل رحمة الله تعالى ولا يقبل لها ثمناً غير هذا فانه بذلك يحفظ قيمتها وكرامتها، اما من يتبع شهواته ويرتكب الذنوب والمعاصي فانه يهينها ويحتقرها ويهدر قيمتها الثمينة، ويكتسب بها النيران بدل الجنان ويضيّع عليه هذا الرأسمال العظيم، ولا اعتقد أن عاقلاً يقبل بأن يجلب بماله على نفسه الجحيم بدل الفوز بالنعيم.علماً بأن التجربة لا تتكرر ومن يموت لا يرجع الى الحياة مرة أخرى ليصحح اخطاءه، وهذا المعنى ورد في حديث للإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (اتقوا الله وانظروا لأنفسكم، فإن أحقّ من نظر اليها أنتم، لو كان لاحدكم نفسان فقدم احداهما وجرّب بها استقبل التوبة بالأخرى ولكنها نفس واحدة اذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة)(1) .

وفي الرواية الأخرى تكملة (فأنتم أحق أن تختاروا لأنفسكم)(2).

فلا تغرنكم بعض الدعوات الخادعة باسم الحرية أو المجتمع المدني أو حقوق المرأة ونحو ذلك والتي تهدف الى تحويل الانسان إلى عبد للشهوات والغرائز فان فيها امتهاناً لكرامة الانسان وحط قيمته وربما يسعون الى سن قوانين

ص: 58


1- وسائل الشيعة: 15/ 53 أبواب جهاد العدو، باب 13 ح 10
2- وسائل الشيعة (آل البيت): 15/ 50/ح1

لشرعنة ذلك كبعض المواد التي تضمنها قانون العنف الأسري المقدَّم إلى البرلمان.ولله تبارك وتعالى مع أوليائه حالات من العصمة عن الذنوب لا يعرفها إلا أهلها، ولا يُنال كل ذلك إلا بالاعتصام بالله تعالى, والتوسل إليه بطلب التسديد, كما ورد في الدعاء (اللّهُمَّ ارْزُقْنا تَوْفِيقَ الطَّاعَةِ وَبُعْدَ المَعْصِيَةِ) (اللهم ارزقني توفيق الطاعة وبعد المعصية)(1).

ص: 59


1- المصباح – الكفعمي: 280.- مفاتيح الجنان عباس القمي: 163.

القبس/158: سورة الحشر:18

اشارة

{وَلتَنظُر نَفس مَّا قَدَّمَت لِغَد}(1)

لنراجع أنفسنا:

قال الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز:{يَأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلتَنظُر نَفس مَّا قَدَّمَت لِغَد وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعمَلُونَ 18

وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىهُم أَنفُسَهُمۚ أُوْلَئِكَ هُمُ ٱلفَسِقُونَ} (الحشر:19).

{وَلتَنظُر نَفس مَّا قَدَّمَت لِغَد}, هذا الغد ليس يوماً واحداً وإنما هو زمان واسع فسيح يبدأ من موت الإنسان ولا ينتهي عند عرصات القيامة والحساب بل هم فيها خالدون:فريق في الجنة وفريق في السعير نعوذ بالله.

ص: 60


1- في يوم الجمعة 27/ذو القعدة/1431 ه الموافق 5/ 11/ 2010 م أقدم سماحة الشيخ (دام ظله الشريف) على خطوة تأريخية مباركة وغير مسبوقة –على الأقل في العقود القريبة المنصرمة فقد أقام سماحته أول صلاة جمعة في مكة المكرمة في مقر إقامته، وقد ألقى سماحته خطبتي صلاة الجمعة مرتدياً ثوب إحرامه حيث أعاد إلى الأذهان تلك الأجواء التي عاشها المؤمنون في العراق أيام إقامة صلاة الجمعة في مسجد الكوفة المعظم من قبل السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وبكى فيها (دام ظله) وأبكى العيون لأكثر من مرة لما تضمنته الخطبة من مواعظ. وما في المتن الخطبة الأولى منها.

فالله تبارك وتعالى يدعونا في هذه الآية إلى أن نراجع أنفسنا وننظر ماذا قدمنا لهذا الغد المجهول العصيب الذي فيه أهوال وصعوبات لا يعلمها إلا هو تبارك وتعالى، لا نعرف نحن عنه شيئاً ولا نعرف ما معنى أن ننظر لهذا الغد حتى نستعد له ونهيئ له ما يناسبه، لكن الله تبارك وتعالى هو ولي هذا الغد وملك هذا الغد وخالق هذا الغد بيّن لنا ما ينفعنا في تلك الحياة وحاشا لله تبارك وتعالى الرحيم الرؤوف بعباده المحسن إليهم أن يتركهم سدى، قال تعالى {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (البقرة:197).

سفر الآخرة:

خذوا مثالاً:سفركم هذا إلى الحج وهو سفر قصير لا تتجاوز مدته الشهر ومعكم إدلاء يرشدونكم ومتعهدون يتولون إدارة شؤونكم ورفقة وإخوان وجهات توفر لكم الخدمة والمنزل والطعام ومع ذلك فإن أحدكم يستعد له منذ مدة طويلة ويتحسب لكل احتمال ويُعدّ كل ما يحتاجه من دقائق الأمور ويعيد النظر في جهازه خشية أن يكون قد نسي شيئاً.

فكيف بسفر الآخرة الذي لا أمد له ولا مُعين ولا رفيق ولا زاد إلا عملك فإنه قرينك صالحاً كان أو سيئاً والعياذ بالله تعالى وزادك التقوى التي يطلبها الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعاء يوم عرفة (اللهم اجعلني أخشاك كأني أراك وأسعدني بتقواك ولا تشقني بمعصيتك)(1).

وهذا المستوى الذي يطلبه الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ويحثّ على الوصول إليه

ص: 61


1- مفاتيح الجنان: ص413.

هو مستوى {اتّقُوا اللهَ مَا استَطَعتُمْ} (التغابن:16), وهو لا يتيسر إلا لعباد الله المخلصين ولكن لا مانع من طلبة والسعي لتحصيله من خلال تطبيق الآية الأخرى (اتّقُوا اللهَ مَا استَطَعتُمْ) فإن الله تعالى تكفّل لمن يعمل بما يتيسّر له أن يوفقه ما لم يكن يستطيعه بلطفه وكرمه.

التقوى حركات وسكنات:

وهذه الفريضة الإلهية التي وفقكم الله تعالى إليها فدعاكم لضيافته والوفود إلى بيته الآمن المحرم هي من أعظم مصاديق التقوى وأوثق الأسباب لتحصيلها بل أن آية {وَتَزَوَّدُوا} وردت في سياقها قال تعالى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} (البقرة:197).

والتقوى عنوان يتحلل إلى الكثير من الحركات والسكنات:الحركات باتجاه الأعمال الصالحة سواء كانت على نحو الواجبات أو المستحبات وهي أضعاف الأولى، والسكنات أي التوقف إزاء الأعمال غير الصالحة سواء كانت على نحو المحرمات أو المكروهات، وقد حفلت الكتب بتسجيلها جميعاً حتى دقائقها ولا يستطيع أحد استقصائها.

من حكمة الله تعالى تنوع القابليات:

ومن حكمة الله تعالى ورحمته بعباده أنه نوّع القابليات والقدرات والمؤهلات عند خلقه لتُغطّي كل مساحات عمل الخير ولكي لا يحرم أحد منها، فأعطى للبعض ثروة مالية فهو يتصدق منها ويساعد الفقراء والمحتاجين ويزوّج

ص: 62

الشباب المعسرين ويحج ويزور ويبني المساجد ويشيّد المشاريع الخيرية وآخر لم يعطه مالاً لكنه أعطاه علماً نافعاً فهو يرشد الناس ويهديهم ويصلح ما فسد من أمور دينهم ودنياهم ويوجههم ويعلمهم أمور دينهم.وآخر لم يُعطَ مالا ولا علماً لكنه أعطى أخلاقا حسنة فهو يعاشر الناس بالمعروف ويفشي السلام ويتصدق بالكلمات الطيبة، كما ورد في قول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لعمه العباس:(يا بني عبد المطلب إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم)(1).ففرص الطاعة والتقرب إلى الله تعالى متكافئة للجميع لكنها منوّعة بحسبهم، روي أن مجموعة من النسوة شكت إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تفضيل الرجال عليهن بإعطائهم فرصة الجهاد الذي هو (باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه)(2) –كما وصفه أمير المؤمنين وسقط عنهنّ، فأجاب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بأن (جهاد المرأة حسن التبعّل)(3) فالتساوي في فرص التكامل مكفولة للجميع. وكذلك فرصة الحج التي منحت للمستطيعين لم يُحرم منها الفقراء فورد فيهم (صلاة الجمعة حج المساكين)(4).

وهذه من عدالة الله تبارك وتعالى ومن حكمته لتُملأ كل مساحات عمل الخير بحسب اختلاف إمكانيات الناس وتوجهاتهم، وإذا قال أحد أنه لم يعطني الله شيئاً فليراجع نفسه وسيجد ما يتقرب به وتلقي ما ورد في الحديث الشريف (ما

ص: 63


1- بحار الأنوار: 71/ 169.
2- نهج البلاغة: خطبة 27.
3- بحار الأنوار: 18/ 107.
4- بحار الأنوار: 86/ 199.

عُبِد الله بشيء كالفرائض)(1). ونعود إلى ما بدأنا به من قوله تعالى (ولتنظر نفس ما قدمت لغد).

ص: 64


1- تحف العقول: 286 وفيه (ولا طاعة كأداء الفرائض).

القبس/159: سورة الممتحنة:1

اشارة

{يَأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُم أَولِيَاءَ تُلقُونَ إِلَيهِم بِٱلمَوَدَّةِ}

موضوع القبس:درس نبوي في المصالحة المجتمعية

قال تعالى:{يَأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُم أَولِيَاءَ تُلقُونَ إِلَيهِم بِٱلمَوَدَّةِ وَقَد كَفَرُواْ بِمَا جَاءَكُم مِّنَ ٱلحَقِّ يُخرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُم أَن تُؤمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُم إِن كُنتُم خَرَجتُم جِهَدا فِي سَبِيلِي وَٱبتِغَاءَ مَرضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيهِم بِٱلمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعلَمُ بِمَا أَخفَيتُم وَمَا أَعلَنتُمۚ وَمَن يَفعَلهُ مِنكُم فَقَد ضَلَّ سَوَاءَ ٱلسَّبِيلِ} (الممتحنة:1).

هذه الآيات الأولى من سورة الممتحنة فيها بحوث مهمة تتعلق بالموالاة والبراءة لكننا نتحدث الآن عن درس مستفاد من الحادثة التي نزلت بسببها هذه الآيات وتصرف النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أزائها، فقد روى علي بن إبراهيم في تفسيره سبب نزول الآيات قال (نزلت في حاطب بن ابي بلتعة(1)، ولفظ الآية عام ومعناه خاص،

ص: 65


1- حاطب بن بلتعة اللخمي من اليمن كان حليفاً لقريش، هاجر الى المدينة وشهد بدراً والحديبية والمشاهد كلها، وفي الإصابة (ج1/ص300 رقم الترجمة 1538) عن المرزباني في معجم الشعراء أنه كان أحد فرسان قريش في الجاهلية والإسلام، وقد يبعّد ذلك ما ذكره في الإصابة انه مات سنة 30

وكان سبب ذلك ان حاطب بن ابي بلتعة كان قد اسلم وهاجر إلى المدينة وكان عياله بمكة وكانت قريش تخاف ان يغزوهم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فصاروا إلى عيال حاطب وسألوهم ان يكتبوا إلى حاطب يسألوه عن خبر محمد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهل يريد ان يغزو مكة؟ فكتبوا إلى حاطب يسألونه عن ذلك فكتب اليهم حاطب ان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يريد ذلك، ودفع الكتاب إلى امرأة تسمى صفية(1)، فوضعته في قرنها ومرت، فنزل جبرئيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فاخبره بذلك فبعث رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والزبير بن العوام في طلبها فلحقوها، فقال لها امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):أين الكتاب؟ فقالت:ما معي، ففتشوها فلم يجدوا معها شيئا، فقال الزبير:ما نرى معها شيئا فقال امير المؤمنين:والله ما كذبنا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ولا كذب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على جبرئيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولا كذب جبرئيل على الله جل ثناؤه والله لتظهرن لي الكتاب او لأوردن رأسك إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فقالت تنحيا حتى أخرجه فأخرجت الكتاب من قرنها فأخذه امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وجاء به إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):يا حاطب ! ما هذا؟ فقال حاطب:والله يا رسول الله ما نافقت ولا غيرت ولا بدلت واني أشهد أن لا إله إلا الله وانك رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حقا ولكن أهلي وعيالي كتبوا إلى بحسن صنيع قريش

ص: 66


1- وفي (سيرة ابن هشام: 4/ 29) أن اسمها سارة مولاة لبني عبد المطلب وقال في موضع أخر كانت ممن يؤذي رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في مكة، وهي ممن أهدر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) دمها حين فتح مكة ثم توسطوا لها وطلبوا لها الأمان فآمنها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

اليهم، فأحببت ان اجازي قريشا بحسن معاشرتهم فانزل الله جل ثناؤه على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ - إلى قوله - لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (1).أقول:تضافرت روايات العامة في نقل هذه الحادثة ايضاً كالبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي والبيهقي وأبي نعيم وغيرهم(2) وفي هذا التصرف النبوي الشريف مثل أعلى يستحق ان يدرسه القادة والحكام في المصالحة المجتمعية والعفو عن الذين تزلّ أقدامهم من أبناء المجتمع ويخرجون على الدولة ويخرقون النظام بسبب ضعف النفس او الجهل او سوء التقدير أو أي سبب آخر، بينما الجرم الذي ارتكبه حاطب يدخل فيما يسمى بالخيانة العظمى لتسريبه اسراراً عسكرية تتعلق بأمن الدولة الى أعداء في حالة حرب مع الدولة، والقوانين المعاصرة تحكم على مرتكب هذا الجرم بالإعدام، لكن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قبل عذره وزجر عمر بن الخطاب لأنه طلب من النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن يأمر بقتله.

ولم يكتفي النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بل قام بما يسمى اليوم بإعادة تأهيله ودمجه في المجتمع وإزالة كل المضاعفات الاجتماعية التي حصلت له بسبب إرتكابه لهذه الجريمة فأرسله النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بكتابه الى المقوقس حاكم مصر في الإسكندرية حينما بعث برسائله الى ملوك العصر يدعوهم الى التوحيد وطاعة الله تعالى ومنهم:كسرى ملك الفرس وهرقل ملك الروم والنجاشي ملك الحبشة وملوك اليمن وعمان والبحرين وغيرهم، وعاد الى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومعه هدايا ومارية

ص: 67


1- تفسير القمي: 2/ 361، تفسير البرهان: 9/ 279.
2- الدر المنثور: 8/ 125.

القبطية التي تزوجّها وولدت أبنه الوحيد إبراهيم.وفي كتاب الاستيعاب(1) ان بعثه كان في السنة السادسة من الهجرة بعد صلح الحديبية أي قبل أحداث فتح مكة وربما يظهر ذلك ايضاً من سياق حديث ابن هشام في السيرة(2).

فعلينا ان نبرز هذه الصور المشرقة من رسالة الإسلام وقادته العظام لنعرف العالم بهذا الدين الرباني الذي هو أعظم هدية من الله تعالى خالق البشرية الى الانسان ليسعده.

ومضافاً الى هذا فأننا يمكن ان نستخلص عدة دروس أخرى من الآية الكريمة:

1 الانصاف والموضوعية حينما بدأ الخطاب ب{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} والخطاب وإن كان عاماً إلا انه نزل في حادثة حاطب فلم يخرجه عن الايمان بارتكاب هذه الجريمة الكبرى فالذين يكفرّون الناس لاختلافهم معهم في بعض الاحكام أو في فهم بعض العقائد الدينية مخالفون لمنهج القرآن وأدبه.

2 الطاعة والتسليم التام للقائد الذي تجلى في إصرار أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على تنفيذ أمر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعدم التهاون فيه كما حصل للزبير.

ص: 68


1- المطبوع بهامش الإصابة: 1/ 350.
2- السيرة النبوية لابن هشام: 4/ 188.

القبس/160: سورة الجمعة:6

اشارة

{إِن زَعَمتُم أَنَّكُم أَولِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلمَوتَ}

موضوع القبس:الاستعداد للموت:علامة صدق الايمان

قال تعالى:{قُل يَأَيُّهَا ٱلَّذِينَ هَادُواْ إِن زَعَمتُم أَنَّكُم أَولِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلمَوتَ إِن كُنتُم صَدِقِينَ 6 وَلَا يَتَمَنَّونَهُۥ أَبَدَۢا بِمَا قَدَّمَت أَيدِيهِمۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِٱلظَّلِمِينَ} (الجمعة:7).

الَهْود بمعنى الرجوع والميل والذين هادوا هم اليهود ومن وجهة نظرهم فإن منشأ التسمية لأنهم رجعوا عن عبادة العجل إلى عبادة الله تعالى، ولكن القرآن الكريم يرى فيهم أنهم مالوا عن الله تعالى وعن الحق.

ومن الشواهد على ذلك هذا التحدي الذي ذكرته الآية الكريمة، وهو ليس خاصاً باليهود وانما يتوجه إلى كل من يدعي القرب من الله تعالى والمنزلة الرفيعة في الآخرة وقد ورد هذا المعنى في آية أخرى بهذا العموم قال تعالى {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ} (البقرة:9495).

فالآية الكريمة تتحدى اليهود الذين زعموا أنهم أولياء الله وشعبه المختار

ص: 69

وان الجنة خالصة لهم وانهم أبناء الله وأحباؤه {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} (المائدة:18) وتُبيِّن لهم ان علامة صدق الايمان ومحبة الله تعالى الشوق للقائه وتمني الموت والخروج من هذه الدنيا وعلائقها المادية حتى تزول موانع اللقاء مع الحبيب والفوز بالنعيم فليتمنوه إن كانوا صادقين في دعاواهم، ومطمئنين لنتيجتهم، وعليهم أن لا يخافوا من تعرضهم لأسبابه كالجهاد الموجب للقتل، ولكنهم يعلمون أنهم محبون للدنيا وليس لله تعالى في قلوبهم وعقولهم أي نصيب خصوصاً أحبارهم الذين بنوا قداستهم المزيفّة على مثل هذه الأوهام والادعاءات، لذا فهم حريصون على البقاء فيها، ويكرهون الموت لأنه يحرمهم من وصال ما أحبّوه من الدنيا الدنيّة {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} (البقرة:96). ويكرهون الموت أيضاً ولا يتمنونه لأنهم اوغلوا في الظلم وفعل الموبقات واقتراف السيئات فهم لا يريدون الموت لأنه ينقلهم إلى دار الجزاء وهم يخافون مما سيواجهونه من العقاب {وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ} (البقرة:95) والآية تفيد التأبيد فهم لم ولن يتمنوا الموت والواقع يشهد بصدق هذه الحقيقة.

لكن الآية الكريمة التالية تصدمهم بقوة وتذكرّهم بحقيقة حتمية لا يمكن التغافل عنها حاصلها ان الموت الذي تفرّون منه سينزل بكم يوماً {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ

ص: 70

فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الجمعة:8) وعندما يأتيكم الموت فأنكم ستجدون أنفسكم بين يدي الله تعالى ليخبركم بما قدمتم من اعمال، فاذا كنتم تريدون الفرار من الموت ففروا إلى الله تعالى فأنه لا ملجأ منه الا إليه، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (أيها الناس كل امرئ لاق في فراره ما منه يفر، والأجل مساق النفس اليه، والهرب منه موافاته)(1).فإذن أنتم ستلاقون هذا الآتي مهما هربتم من أسبابه، بل انكم (ملاقوه) فعلاً الآن ومستمرون على ملاقاته بعد الآن بحسب دلالة اسم الفاعل (ملاقي) على الاستمرارية.

ولهذه الملاقاة الآنية للموت مع أنهم أحياء ظاهراً في هذه الدنيا أكثر من تفسير:

1 أنّهم موتى روحياً ومعنوياً وضمائرهم ميتة وجوارحهم لا ينتفعون بها {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وََلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف:179) فليس لديهم ما يدلّ على حياتهم المعنوية إلى ان يحين موعد قبض الروح بواسطة ملك الموت فيتحقق الموت الجسدي أيضاً.

2 ويمكن أن يكون استمرار الملاقاة ناشئاً من كون أعمارهم في كل يوم يمر عليهم في نقصان واقتراب من الأجل فكأنهم داخلون في مقدمات الموت، روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (عجبت لمن يرى أنه يُنقص كلَّ يوم في نفسه

ص: 71


1- الكافي 1:299، البحار 42:206

وعمره وهو لا يتأهب للموت)(1). وقد تسأل:ان اليهود الذين كانوا في عهد نزول الخطاب لماذا لم يتحدوا الآية الكريمة فلم يدّعوا تمني الموت ولو بألسنتهم لإثبات صدقهم

والجواب:ان هذا الخطاب كان دعوة على نحو المباهلة بين النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) واليهود لأنهم كانوا يدعّون أنهم على الحق وان دعوة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لا تشملهم وانها موجهة إلى الأميّين - أو الأمميين - بحسب تقسيمهم {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} (آل عمران:75) فدُعُوا إلى المباهلة ولازمها نزول العذاب على الكاذب منهما وهم يعلمون أنهم كاذبون فخافوا من نزول العذاب ورفضوا التحدي والمباهلة، وروي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالا)(2).

ولابد أن نلتفت إلى معنى مناسب لتمني الموت تدعو إليه الآية الكريمة لأن تمني الموت أمر غير مرغوب في الشريعة المقدسة كما اشارت إليه الأحاديث الشريفة كالحديث النبوي الشريف (لا يتمنى أحدكم الموت) (3) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (لا تمنوا الموت فأنه يقطع العمل ولا يُردُّ الرجل فيستعتب) (4) وعنه

ص: 72


1- غرر الحكم: 6253
2- رواه البخاري والترمذي والنسائي
3- كنز العمال: 42152.
4- كنز العمال42155 ، 42147.

(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (لا يتمنينّ أحدكم الموت فإنه لا يدري ما قدَّم لنفسه) (1) وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انه قال لرجل يتمنى الموت (تمنَّ الحياة لتطيع لا لتعصي، فلأن تعيش فتطيع خير لك من أن تموت فلا تعصي ولا تطيع)(2).فحينئذٍ نفهم لتمني الموت في الآية معنى آخر وهو عدم كراهيته وعدم المفاجأة به والرضا بقضاء الله وقدره اذا اختاره الله تعالى أو يراد به لازمه وهو الاستعداد للموت، روي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (إن النّور إذا دخل الصدر انفسح، قيل:هل لذلك من علم يعرف به؟ قال:نعم، التّجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله)(3).

ان اغلب الناس يخافون من الموت ويكرهونه ويحبّون الدنيا ولعل ذلك يرجع إلى أكثر من سبب:

1 إنكار وجود حياة ما بعد الموت ويعتبرونه فناءاً وعدماً فلا يريدون الانتقال من الوجود إلى العدم وهذه قضية غريزية كخوف الانسان من الظلمة التي هي عدم النور وهؤلاء يجب اعادتهم إلى العقيدة الحقة بالبعث والنشور يوم القيامة واقناعهم بالحجة والبرهان وإزالة شكوكهم بذكر امثلة واقعية على طريقة القرآن الكريم.

2 عدم الاستعداد للموت وعدم اعداد الزاد للرحلة الأبدية كالطالب الذي يكره حلول وقت الامتحان اذا لم يكن مستعداً له بينما يستعجله ويحب تحقق وقته

ص: 73


1- كنز العمال42149 ، 42153، 42154.
2- بحار الأنوار: 6 / 128 ، ميزان الحكمة: 8/ 228.
3- ميزان الحكمة: ج 8 / 223 ح 19253.

اذا كان مستعداً له، فهؤلاء الذين يكرهون الموت لم يلتزموا بما نبّههم الله تعالى إليه {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (البقرة:197) وانما شغلتهم الدنيا وافنوا أعمالهم في اللعب واللهو وتضييع الأوقات فيما لا ينفعهم، روي ان رجلاً سأل الامام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ما بالنا نكره الموت ولا نحبه، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لأنكم أخربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم وانتم تكرهون النُقلة من العمران إلى الخراب)(1).روي ان رجلاً سأل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (يا رسول الله مالي لا احبُّ الموت؟ قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):هل لك مال؟ فقدّم مالك بين يدك، فان المرء مع ماله، إن قدمَّه أحبَّ أن يلحقه، وإن خلّفه أحبّ أن يتخلفّ معه)(2).

لذا وردت الاحاديث الكثيرة في الحث على الاستعداد للموت، روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (من ارتقب الموت سارع في الخيرات)(3). وروي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (استعدّوا للموت فقد أظلكم، وكونوا قوماً صيح بهم فانتبهوا، وعلموا ان الدنيا ليست لهم بدارٍ فاستبدلوا... وما بين أحدكم وبين الجنّة أو النار إلا الموت أن ينزل به... نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم ممن لا تُبطره نعمة، ولا تقصِّر به عن طاعة ربِّه غايةٌ، ولا تحلُّ به بعد الموت ندامةٌ ولا كآبة)(4).

3 عدم معرفة حقيقة الموت وتفسيره وانه انتقاله من عالم ضيق منغص إلى

ص: 74


1- معاني الاخبار: 390 ح 29.
2- كنز العمال: ح 42139.
3- بحار الأنوار: 77/ 171 ح 7.
4- ميزان الحكمة: ج 8 / 223 ح 19255، عن نهج البلاغة: الخطبة 64.

عالم فسيح أنيق كانتقال الجنين من رحم أمه الضيق إلى الدنيا الفسيحة بالولادة واحتضان والديه له وحنوهما عليه واغداق أنواع النعم التي لم يكن يتصورها في بطن أمه وهو كان خائفاً متوجساً قبل الخروج إلى الدنيا لأنه لم يكن يعرف عنها شيئاً، فالموت كذلك نقلة إلى حالة أفضل وأكثر سعادة وانطلاقاً نحو النعيم وفيها خلاص من الظلم والشر ولئام الناس، فلو عرف الانسان ذلك لما كره الموت بل فرح به من دعاء الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم الثلاثاء (وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي فَإنَّهَا دارُ مَقَرِّي، وَإلَيْها مِنْ مُجاوَرَةِ اللِّئامِ مَفَرِّي)(1). وفي الحديث الشريف (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)(2), روي عن الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(كان الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وبعض من معه من خصائصه تشرق الوانهم وتهدأ جوارحهم وتسكنً نفوسهم، فقال:بعضهم لبعض:انظروا لا يبالي بالموت:فقال لهم الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):صبراً بني الكرام:فما الموت الا قنطرة تعبرُ بكم من البؤس والضراء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة، فأيُّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر)(3). وروي عن الامام الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(قيل لمحمد بن علي ابن موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):ما بال هؤلاء المسلمين يكرهون الموت؟ قال:لأنهم جهلوه فكرهوه، ولو عرفوه وكانوا من أولياء الله عز وجل لأحبّوه، ولعلموا أن الآخرة خيرٌ لهم من الدنيا، ثم قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):يا أبا عبدالله، ما بال الصبي والمجنون يمتنع من الدواء المُنقي لبدنه والنّافي للألم عنه؟ قال:لجهلهم بنفع الدواء. قال:والذي بعث محمداً

ص: 75


1- الصحيفة السجادية: الإمام زين العابدين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) / ص 548 / 241
2- البحار: 1/ 603
3- معاني الاخبار: 288 ح 3

بالحق نبياً إن من استعد للموت حق الاستعداد فهو أنفع له من هذا الدواء لهذا المتعالج، أما إنّهم لو عرفوا ما يؤدّي إليه الموت من النعيم لاستدعوه وأحبّوه أشدّ ما يستدعي العاقل الحازم الدّواء لدفع الآفات واجتلاب السلامات)(1).وروي عن الامام العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (دخل علي بن محمد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على مريضٍ من أصحابه وهو يبكي ويجزع من الموت، فقال له:يا عبد الله، تخاف من الموت لأنك لا تعرفه، أرأيتك إذا اتَّسخت وتقذّرت وتأذَّيت من كثرة القذر والوسخ عليك وأصابك قروح وجرب وعلمت أن الغسل في حمام يُزيل ذلك كله أما تريد أن تدخله فتغسل ذلك عنك؟ أو ما تكره أن لا تدخله فيبقى ذلك عليك؟ قال:بلى يا بن رسول الله. قال:فذاك الموت هو ذلك الحمام، وهو آخر ما بقي عليك من تمحيص ذنوبك وتنقيتك من سيئاتك، فإذا انت وردت عليه وجاوزته فقد نجوت من كُلِّ غَمٍّ وهَمٍّ وأذى، ووصلت إلى كُلِّ سرور وفرح، فسكن الرجل واستسلم ونشط وغمًّض عين نفسه ومضى لسبيله)(2).

وفي عيون أخبار الرضا:سئل الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن الموت فقال (للمؤمن كأطيب ريحٍ يشمُّهُ فينعسُ لطيبهِ وينقطع التَّعبُ والألمُ كلُّهُ عنه، وللكافر كلسع الأفاعي ولدغ العقارب وأشدَّ! قيل:فإن قوماً يقولون:إنه أشدُّ من نشرٍ بالمناشير، وقرضٍ بالمقاريض، ورضخٍ بالأحجار، وتدوير قُطب الأرحية على الأحداق! قال:كذلك هو على بعض الكافرين والفاجرين...)(3).

ص: 76


1- معاني الاخبار: 290 ح 8
2- معاني الاخبار: 290 ح 9
3- عيون أخبار الرضا: 1/ 274/ 9

وخير نموذج لمن فهم حقيقة الموت وسعادة من لاقاه في سبيل الله تعالى أصحاب الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأهل بيته حيث كانوا يتسابقون إلى ساحة المعركة لنيل الشهادة بين يدي الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قومٌ إذا نُودُوا لِدَفْع مُلِمَّة *** والخيلُ بين مُدَعَّس وَمُكَرْدَسِ(1)

لَبسوا القُلُوبَ على الدروعِ وأقبلوا *** يَتَهَافتون على ذَهَابِ الأَنْفُسِ

ومن كلام علي الأكبر مع أبيه الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما نعى نفسه واسترجع في طريقه إلى كربلاء (يا أبتِ لا اراك الله سوءاً ألسنا على الحق؟ قال:بلى والذي إليه مرجع العباد، قال:يا أبتِ إذن لا نبالي نموت محقين. فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) له:جزاك الله من ولدٍ خير ما جزى ولداً عن والده)(2).

وكان أصحاب الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فرحين مستبشرين تعلو وجوههم الابتسامة ويتمازحون بينهم قبل نزولهم إلى الميدان فقال أحدهم لبرير (دعنا فوالله ما هذه بساعة باطل! فقال له بُرير:والله، لقد علم قومي أنّي ما أحببت الباطل شاباً ولا كهلاً، ولكن والله إنّي لمستبشر بما نحن لاقون، والله أنّ بيننا وبين الحور العين إلّا أن يميل هؤلاء علينا بأسيافهم، ولوددت أنّهم قد مالوا علينا بأسيافهم)(3).

ص: 77


1- اللهوف في قتلى الطفوف ابن طاووس: 66
2- تاريخ الطبري: 5 / 407 الكامل: 2/ 555، مقاتل الطالبين: 112، الارشاد: 2/ 82، سير اعلام النبلاء: 3/ 298 وغيرها.
3- مقتل الحسين لأبي مخنف: 115.

ملحق:كيفية الاستعداد للموت

من الادعية التي يستحب تكرارها ما روي عن الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انه كان يلهج به في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان وهو قوله (اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي التَّجافِي عَنْ دارِ الْغُرُورِ، وَالإِنابَةَ إِلى دارِ الْخُلُودِ، وَالاسْتِعْدادَ لِلْمَوْتِ قَبْلَ حُلُولِ الْفَوْتِ)(1) ففي هذا الدعاء القصير تذكير لما يجب ان يكون عليه الانسان الواعي وهو أن يكون مستعداً لملاقاة أجله متى حلَّ به لأنه يأتيه بغتة ولا يعذر بتركه، وقد وردت أحاديث كثيرة(2) في الحث على الاستعداد للموت، منها عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إن العاقل ينبغي ان يحذر الموت في هذه الدار، ويُحسِن له التأهب قبل أن يصل إلى دار يتمنى فيها الموت فلا يجده) (3) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (بادروا الموت الذي إن هربتم منه ادرككم، وإن اقمتم أخذكم وان نسيتموه ذكركم) (4).

وتشير بعض الآيات الكريمة إلى ان الاستعداد للموت وعدم كراهة لقائه علامة على صدق الايمان وحب الله تعالى، قال عز من قائل {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (الجمعة:6) وقد تقدم الكلام عنها.

ولمعرفة كيفية الاستعداد للموت اكتفي بهذه الرواية التي ذكرتها بعض كتب الاخلاق وعنوانها (الهدايا العشر) ووردت بعض فقراتها في روايات مختلفة وهي

ص: 78


1- الصحيفة السجادية (ابطحي): 277
2- راجع ميزان الحكمة: 8/ 223
3- غرر الحكم: 3611
4- نهج البلاغة، الحكمة: 203

متدرجة بحسب المراحل التي يواجهها الانسان في رحلة الآخرة (جاء رجل إلى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال له:أتأذن لي أن أتمَّنى الموت؟ فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):الموت شيء لا بدّ منه، وسفر طويل ينبغي لمَن أراده أن يرفع عشر هدايا) فكأن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) صحّح القصد من السؤال لأن المؤمن لا يتمنى الموت بمعنى التمني المعروف ولا يقترح على الله تعالى فيما يختار له، ووردت أحاديث كثيرة في النهي عن تمني الموت كقول رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (لا تمنّو الموت، فأنه يقطع العمل، ولا يُردُّ الرجل فيستعتب) (1) فعليه أن يسأل عن كيفية الاستعداد للموت وماذا يهيء لرحلة الآخرة.(فقال:وما هي؟ فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):هديّة عزرائيل - وهو ملك الموت -، وهديّة القبر، وهديّة منكر ونكير، وهديّة الميزان، وهديّة الصّراط، وهديّة مالك - وهو خازن النيران -، وهديّة رضوان - وهو خازن الجنان -، وهديّة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وهديّة جبرائيل، وهديّة الله تعالى.

أمّا هديّة عزرائيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فأربعة أشياء:إرضاء الخُصماء، وقضاء الفوائت والشّوق إلى الله تعالى، والتّمنّي للموت) فأول خطوة عليه أن يبادر إلى رد حقوق الناس المادية والمعنوية واسترضائهم، وتمني الموت يعني الاستعداد له وعدم كراهة لقاء الله تعالى.

(وهديّة القبر أربعة أشياء:ترك النّميمة، والاستبراء من البول، وقراءة القرآن - باستمرار ولا يقتصر على شهر رمضان -، وصلاة اللّيل) وتوجد أحاديث في أن الميت يتعذب في قبره بسبب النميمة وترك الاستبراء - أي الخرطات التسعة لتنقية

ص: 79


1- ميزان الحكمة: 8/ 228 عن كنز العمال: 42127

المجرى من البول - بعد التبول.(وهديّة منكر ونكير أربعة أشياء:صدق اللّسان، وترك الغيبة، وقول الحقّ - ولو على نفسك ولا تكتم شهادة الحق -، والتواضع لكلّ أحد) بأن تسلِّم على الجميع وتجلس حيثما تيسَّر.

(وهديّة الميزان أربعة أشياء:كظم الغيظ إذا ازعجك شيء أو استفزك أحد، وورع صادق، والمشي إلى الجماعات - في صلوات الجمعة والجماعة والشعائر الحسينية ونحو ذلك -، والتداعي إلى المغفرات - أي المسارعة إلى أسبابها الموجبة لها كقوله تعالى {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} (آل عمران:133).

وهديّة الصّراط أربعة أشياء:إخلاص العمل - لله تعالى من أي شائبة وترك الرياء والعجب والمنّ -، وحُسن الخُلق، وكثرة ذكر الله، واحتمال الأذى) خصوصاً من القريبين منك كالوالدين والزوجة والجار ورفيق السفر. وإن الانسان ليبلغ بحسن أخلاقه وكثرة ذكر الله تعالى درجة الصديّقين.

(وهديّة مالك أربعة أشياء:البكاء من خشية الله، وصدقة السّرّ، وترك المعاصي، وبِرّ الوالدين.

وهديّة رضوان أربعة أشياء:الصبر على المكاره، والشكر على نعم الله، وإنفاق المال في طاعته، وحفظ الأمانة.

وهديّة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) - الذي ترجو شفاعته - أربعة أشياء:محبّته، والاقتداء بسنّته - كما في دعاء شهر شعبان:واعّنا على الاستنان بسنته فيه ونيل الشفاعة لديه، ومحبّة أهل بيته وحفظ اللّسان عن الفحشاء) لأن لسانك أصبح محلاً لذكر الله تعالى وتلاوة القرآن فلا يليق به أن يتلفظ بسوء أو أذى أو فحش.

ص: 80

(وهديّة جبرائيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أربعة أشياء:قِلّة الأكل، وقِلّة النّوم، وقِلّة الكلام ومداومة الحمد.وهديّة الله تعالى أربعة أشياء:الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، والنّصيحة للخلق، والرّحمة على كل أحد) (1) .

والملفت ان الهدية التي ادخرها الله تعالى لنفسه تتعلق بمخلوقاته كإصلاحهم وهدايتهم والرحمة بهم والشفقة عليهم وقضاء حوائجهم وإدخال السرور عليهم ولم يجعلها كثرة صلاة أو صوم أو أي عبادة أخرى مما يبرز عظمة هذه الخصال عند الله تعالى وأهمية العلاقات الإنسانية النبيلة في الدين.

ص: 81


1- كتاب ادخال السرور على اهل القبور: للسيد حسين نجيب محمد، ص207

القبس/161: سورة التغابن:9

اشارة

{ذَلِكَ يَومُ ٱلتَّغَابُنِۗ}

من أسماء يوم القيامة:

ليوم القيامة أسماء عديدة في القرآن الكريم كيوم الدين ويوم الحسرة والندامة ويوم الفصل ويوم الذهول ويوم الزلزلة ويوم الجمع ويوم الورود ويوم النشور ويوم الحشر ويوم البعث ويوم الحساب والصاخّة والطامة الكبرى، وهي أسماء مشتقة من صفات ذلك اليوم المهول وخصائصه وما يجري فيه، ومن تلك الأسماء يوم التغابن، قال تعالى:{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} (التغابن:9).

والغبن (أن تبخس صاحبك في معاملة بينك وبينه بضرب من الإخفاء)(1) فالبائع إذا أحسّ أنّه باع بأقل من استحقاق الشيء كان مغبوناً، وإذا شعر المشتري أنّه دفع أكثر مما يستحق الشيء كان مغبوناً.

المعاملة المغبونة والفائزة يوم القيامة:

فما هي المعاملة التي سيظهر فيها الغبن يوم القيامة؟ والجواب أنّها الصفقة التي عقدها الله تعالى مع عباده حينما جمعهم في عالم الذر {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن

ص: 82


1- المفردات للراغب، مادة (غبن).

بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (الأعراف:172) فأخذ تعالى العهد على عباده أن يعبدوه ويطيعوه ولهم جميع ما في الأرض على أن يسيروا وفق منهجه الرباني، ولهم بذلك الجنّة التي عرضها السماوات والأرض.هذه الصفقة أشير إليها في القرآن الكريم كثيراً كقوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ} (البقرة:207) {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة:111).

فمن وفى بهذه الصفقة ونال جزاءه الأوفى فهو الفائز، وأمّا المغبون فهو من لم يلتزم بتعهداته في تلك الصفقة وأضاعها وأضاع تلك المبايعة، قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} (آل عمران:77)، روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(المغبون من باعَ جنّة عليّة المرتبة بمعصية دنيّة)(1) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(المغبون من شُغِل بالدنيا، وفاته حظّه من الآخرة)(2) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من باع نفسه بغير نعيم الجنة فقد ظلمها)(3) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (المغبون من غبن نفسه من الله)(4) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(المغبون من غبن دينه)(5) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إنّ المغبون من غبن

ص: 83


1- غرر الحكم/ 1352.
2- غرر الحكم/ 2010.
3- غرر الحكم/ 9164.
4- بحار الأنوار: 77/ 215.
5- ميزان الحكمة: 6/ 357.

عُمَره، وإنّ المغبوط من أنفذ عمره في طاعة ربّه)(1).

الخاسر المغبون ومنزلته:

ويزداد فرح المؤمن الفائز وحزن الفاسق والكافر الخاسر المغبون حينما يُعرض عليهما منزلاهما في الجنة والنار، ففي الرواية (في مجمع البيان روى عن النبي ص أنه قال:ما منكم من أحد إلا له منزلان:منزل في الجنة ومنزل في النار، فان مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله)(2) فمن فقد منزله في الجنة يعاني ألمين، ألم العذاب في النار وألم الحسرة على منزله في الجنة وهو ينظر إليه.

وقد أشارت سورة التغابن إلى هذين الفريقين بعد وصف يوم القيامة بأنّه يوم التغابن، قال تعالى:{وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (التغابن:910).

وقد تقدّم في تعريف الغبن أنّه البخس بضرب من الإخفاء، والخفاء هنا هو ظهور الجزاء يومئذٍ للجميع بشكل لم يتوقعوه ولم يتصوروه قال تعالى بالنسبة للفريق الأول:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة:17) وقال تعالى في الفريق الثاني:{وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ

ص: 84


1- غرر الحكم/ 3502.
2- تفسير نور الثقلين: ج3/ 532.

يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} (الزمر:47) فهناك تبدو لهم الأمور مختلفة تماماً عن مقاييسهم في الدنيا {وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ، أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ، إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} (ص:6264).

من أشكال الغبن:

هذا الشكل من الغبن واضح، لكن شكلاً آخراً منه يحتاج إلى التفات وتأمّل، وهو أنّ نفس المؤمنين يشعرون بالغبن أيضاً لأنّهم سيكتشفون بعد ارتفاع حجاب الغفلة عن بصائرهم أنّهم فوّتوا على أنفسهم فرصاً عظيمة للطاعة ولو استثمروها لحصلوا على درجة أعلى ومقاماً أرفع وقرب متزايد من رضوان الله تعالى وأوليائه العظام، روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(من أغبن ممّن باع الله سبحانه بغيره)(1) وغير الله تعالى مطلق يشمل ما يرجوه عامة المؤمنين من نعيم الجنّة كالحور العين ولحم الطير وفواكه ممّا يشتهون.

وأشار السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) إلى هذا في إحدى رسائله إليّ قال فيها:(وأمّا الندم فهو للمؤمن لا للكافر، إن الكافر سوف يلهو بآلامه المبرحة في النار وأما المؤمن فسيعض على شفته ندماً من أنّه قضى حياته الدنيا (وهي بيت الطاعة) يطفّر كالقبّرة ولم ينل إلاّ هذا المقدار من الثواب.

إنّ ما ناله مهما كان ضخماً وعظيماً فإنّه مثل قشّة تجاه الدنيا وما فيها أزاء ما يرى من مقامات الأولياء وهذه المقامات تعرض عليه قليلاً ليعرف المؤمن ما

ص: 85


1- غرر الحكم/ 8083.

فوّته على نفسه، ثمّ تختفي لقلّة تحمله في النظر إليها)(1).ومثاله التاجر الذي يملك مالاً كثيراً ونفوذاً واسعاً وفرصاً جيدة للاستثمار ولا يوجد أيّ عائق في طريقه لكنّه يضع أمواله في أمور بسيطة لا تناسب المأمول فإنّه يشعر بالخسارة والغبن، فرأس مال الإنسان في هذه الدنيا عمره أيّاماً وليالي بل ساعات ودقائق لأنّها كلها يمكن أن تستثمر بطاعة ترفع درجته يوم القيامة بدل قضائها في أحاديث فارغة أو لهواً أو فضول أو أي عمل غير مثمر، ففي بعض الروايات أنّ ساعات عمر الإنسان تُعرض عليه على نحو صناديق بأشكال ثلاثة، ساعة الطاعة وساعة المعصية وساعة الفراغ فساعة الطاعة يفرح بها وساعة المعصية يتعذّب بها وساعة الفراغ يندم عليها، في الحديث عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(ما من ساعة تمرُّ بابن آدم لم يذكر الله فيها إلا حَسِر عليها يوم القيامة)(2).

تجارة مربحة:

إنّ كل ثانية من حياة الإنسان يمكن أن يحولّها إلى طاعة عظيمة كما لو شغلها بتسبيحة ليغرس الله تعالى له بكل تسبيحة عشرة أشجار في الجنة وفي رواية أخرى شجرة، ففي أمالي الصدوق بسنده عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(من قال سبحان الله غرس الله له بها شجره في الجنة ومن قال الحمد لله غرس الله له بها شجره في الجنة ومن قال لا اله الا الله غرس الله له بها شجره في الجنة ومن قال الله اكبر غرس الله له بها شجره في الجنة

ص: 86


1- قناديل العارفين: ص87.
2- كنز العمّال: 1819.

فقال رجل من قريش(1) يا رسول الله إن شجرنا في الجنة لكثير قال نعم ولكن إياكم أن ترسلوا عليها نيرانا فتحرقوها و ذلك إن الله عز وجل يقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (محمد:33)(2).إنّ هذه الطاعة التي قد لا تستغرق أكثر من ثانية واحدة من وقت الإنسان قد يكون لها دور خطير عندما تتساوى حسنات الإنسان وسيئاته فيحتاج إلى حسنة واحدة لترجيح كفّة الحسنات، فيتحسّر على ثوان يتمنى لو كان استثمرها في تسبيحة من عمره الكثير الذي أضاعه من دون فائدة.

الغبن فيما يخلّفه المؤمن بعد موته:

وينبغي الالتفات إلى حالة أخرى من الغبن يشعر بها حتى من استثمر عمره في الطاعة لكنّه لم يستفد من العمر الإضافي الذي يُعطى له لاكتساب المزيد من الحسنات، وهو الذي أشير إليه في الحديث الشريف (إذا مات المرء انقطع عمله إلا من ثلاث:علم يُنتفع به، صدقة جارية، ولد صالح يدعو له)(3) فيستطيع الإنسان بفضل الله تبارك وتعالى أن يستمر في اكتساب الحسنات حتى بعد وفاته بأن يصبح من أهل العلم الذين يخلّفون أثراً نافعاً أو يؤسس مشروعاً مباركاً يكون صدقة جارية كمسجد أو شقق سكنية للفقراء أو طلبة العلم أو مدرسة دينية أو مركزاً صحيّاً أو يجري شبكة ماء.

والمصدر الثالث هو الولد الصالح بأن يتزوج امرأة صالحة ويتعب نفسه في

ص: 87


1- لا يخفى على الفطِنْ من هو بقرينة الآية التي استشهد بها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في ذيل الرواية.
2- بحار الأنوار: 93/ 168 ح3.
3- شرح أصول الكافي، ج6، ص137.

تربية أولاده ليكونوا صالحين ثمّ يؤسس كلّ منهم أسرة صالحة وهكذا يتكاثرون وفق متوالية هندسية على مرِّ الأجيال أي أنّ الاثنين يصبحون أربعة والأربعة ستة عشر بل أكثر بفضل الله تبارك وتعالى، وإذا به بعد أجيال يكون من ذريته الآلاف من الصالحين وتستمر حسناته بالزيادة، فاغتنموا هذه الفرص بفضل الله تعالى ولطفه.

ص: 88

القبس/162: سورة التحريم:6

اشارة

{يَأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَارا}

قال الله تعالى:{يَأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَارا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلحِجَارَةُ عَلَيهَا مَلَئِكَةٌ غِلَاظ شِدَاد لَّا يَعصُونَ ٱللَّهَ مَا أَمَرَهُم وَيَفعَلُونَ مَا يُؤمَرُونَ} (التحريم:6).

درس في الأسرة الصالحة:

الآية الشريفة تتضمن درساً في المسؤولية الأسرية والاجتماعية انطلاقاً من الحديث الشريف (ألا كُلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على أهل بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)(1).

وتبرز أهمية هذه المسؤولية اليوم بشكل واضح لامتلاك الفساد والضلال والانحراف وسائل وتقنيات وأدوات متطورة وفاعلة ومثيرة وجاذبة مما يوجب أكثر من ذي قبل الاهتمام بهذا الأمر الإلهي العظيم ووضع الآليات المناسبة للالتزام به.

ص: 89


1- الأمثل في تفسير القرآن: 14/ 29 عن مجموعة ورام: 1/ 6.

في معنى مفردات الآية:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} خطاب عام موجّه لجميع المؤمنين والمؤمنات.

{قُوا} فعل أمر من الوقاية، و(الوقاية حفظ الشيء عما يؤذيه ويضرّه، قال تعالى:{فَوَقَاهُم اللهُ} (الإنسان:11) وقال تعالى: {وَوَقَاهُم عَذَابَ الجَحِيمِ} (الدخان:56)، والتقوى جعل النفس في وقاية مما يُخاف، وصار التقوى في تعارف الشرع حفظ النفس عما يؤثم، وذلك بترك المحظور، ويتم ذلك بترك بعض المباحات لما روي (الحلال بيِّن والحرام بيِّن ومن رتع حول الحمى فحقيق أن يقع فيه)(1).

{أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ} وجوب وقاية النفس وحفظها من النار ثابت وواضح، والجديد في الآية أنها تقرن الأهل بالنفس في حفظهم من ارتكاب ما يوجب النار التي وصفتها الآية الشريفة بأوصاف مرعبة.

الوجوب المؤكد بوقاية الأسرة:

وقد نبه القرآن الكريم إلى هذه العناية الخاصة بالأهل في آيات كثيرة، كقوله تعالى مخاطباً نبيه الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (طه:132) وكان من أوائل ما نزل عليه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في بداية الدعوة الإسلامية:{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء:214) وحكى عن إسماعيل صادق الوعد بقوله تعالى:{وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} (مريم:55). فهناك

ص: 90


1- المفردات للراغب: 881، مادة (وقى).

إذن مسؤولية خاصة عن الأهل جمعها قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} (التحريم:6). ويشهد لهذا الوجوب المؤكد نصوص شريفة أخرى، كقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدّبوهم)(1) كما يشهد له ورود تطبيقات لهذه المسؤولية الخاصة كتأديب الصبيان على الصلاة من عمر ست أو سبع سنين(2)، أو ما ورد في أعمال ليلة القدر أن السيدة الزهراء(س) كانت لا تدع أهلها ينامون في تلك الليلة وتعالجهم بقلة الطعام وتتأهب لها من النهار أي كانت تأمرهم بالنوم نهاراً لئلا يغلب عليهم النعاس ليلاً، وكان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يوقظ أهله في تلك الليلة ويرشّ وجوه النيام بالماء(3).

حدود المسؤولية في الأسرة:

ولا تعني هذه الدعوة التي أطلقتها الآية لوقاية الأهل من النار إكراههم على شيء، فقد شرحت حدود هذه المسؤولية روايات عديدة رواها الشيخ الكليني في الكافي(4):

(منها) عن أبي بصير عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قول الله عز وجل: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً}، قلتُ:كيف أقيهم؟ قال:تأمرهم بما أمر الله، وتنهاهم

ص: 91


1- كنز العمال:2/ 539، ح 4676.
2- وسائل الشيعة: 4/ 18، أبواب أعداد الفرائض، باب 3.
3- مفاتيح الجنان عن دعائم الإسلام.
4- الكافي:5/ 62، ح1، 2.

عما نهى الله، فإن أطاعوك كنت قد وقيتهم، وإن عصوك كنت قد قضيت ما عليك). (ومنها) عن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لما نزلت هذه الآية:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} جلس رجلٌ من المسلمين يبكي، وقال:أنا عجزت عن نفسي وكُلّفت أهلي! فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):حسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك، وتنهاهم عما تنهى عنه نفسك).

المطلوب من وعظ الأسرة:

فالمطلوب بمقتضى هذه الآية أن يحفظ الإنسان أهله من الوقوع في المعاصي وما يسخط الله تعالى بأن يرشدهم إلى الطاعة ويقرّبهم منها ويزيّنها لهم ويقنعهم بها ويكافئهم على فعلها، وبنفس الوقت يحذّرهم من المعصية ويردعهم عنها ويحميهم من الوقوع فيها.

وقد ذكر العلماء (قدس الله أرواحهم) في رسائلهم العملية أمثلة لهذه المسؤولية فقالوا:(يجب عليه إذا رأى من أهله التهاون في الواجبات، كالصلاة وأجزائها وشرائطها بأن لا يأتون بها على وجهها لعدم صحة القراءة والأذكار الواجبة منهم، أو أنهم لا يتوضأون وضوءاً صحيحاً، أو لا يطهرون أبدانهم ولباسهم من النجاسة على الوجه الصحيح، فيجب عليه تعليمهم وأمرهم ونهيهم على الترتيب المتقدم حتى يأتوا بها على وجهها الصحيح. وكذا الحال في بقية الواجبات، وكذلك في المعاملات وسائر الأحكام. وكذا إذا رأى منهم التهاون في المحرمات كالغيبة والنميمة والعدوان بين بعضهم على بعض أو على غيرهم

ص: 92

أو الزنا أو شرب الخمر أو السرقة، فإنه يجب عليه أن ينهاهم عن المنكر، حتى يرتدعوا عن المعصية)(1).

مناشئ المسؤولية تجاه الأسرة:

ويمكن أن نفهم لهذه المسؤولية المؤكدة عدة ملاكات ومناشئ:-

1إن هذا التأكيد وقرن الأهل بالنفس في الخير والشر يلاحظ أمراً فطرياً ونزعة لدى الإنسان فإنه يعتبر أهله كنفسه يصيبه ما يصيبهم، من وصية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لولده الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(ووجدتك بعضي، بل وجدتك كلي، حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني، وكأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي)(2). وقد حكى القرآن الكريم عن جملة من الأنبياء(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هذه الغريزة الإنسانية، قال تعالى عن إبراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):{قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي} (البقرة:124) وقال عن النبي نوح (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):{وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} (هود:45) وقال تعالى عن النبي لوط (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):{رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} (الشعراء:169). ومن الأدعية التي وردت في القرآن الكريم {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} (الأحقاف:15) والخلاصة أن الأمر بوقاية الأهل ينبّه الإنسان على أنك إن أردت الخير لأهلك

ص: 93


1- منهج الصالحين: 2/ 240، المسألة (888)، منهاج الصالحين للسيد الحكيم قدس سره: 1/ 490، مسألة (8)، وللسيد الخوئي قدس سره: 1/ 353، مسألة (1274).
2- نهج البلاغة: 616، قسم الرسائل والكتب، العدد 31.

وأن يلتحقوا بك في الجنة فعلّمهم ما يتقون.2إن للشخص سلطنة وقيمومة وولاية عرفية واجتماعية وشرعية خاصة على أهله وذويه مما تعطيه قوة في التأثير ومن غير المتوقع وجود موانع من ممارسة الفريضة كالتي يمكن أن تحصل مع الغير مثل حصول الضرر أو اختلال النظام ونحو ذلك، فتكون مسؤوليته أكبر لأن وجود المقتضي أقوى والمانع يكاد يكون مفقوداً.

3إن الأسرة هي الوحدة الأساسية للمجتمع فإذا صلحت هذه الأسرة وتلك وتلك صلح المجتمع، فصلاح المجتمع –الذي هو الهدف يتحقق بقيام كل فرد بإصلاح أسرته، فكأن الشارع المقدس بتأكيده على إصلاح الأسرة يضع لنا المنهج والطريق لإصلاح المجتمع.

4إن الفرد مسؤول اجتماعياً عن أسرته فإذا صدر منهم ما يزين كان له، وإذا صدر منهم ما يشين كان عليه؛ لذلك ورد عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مخاطباً شيعته:(كونوا زيناً لنا ولا تكونوا علينا شيناً)(1) لأنهم محسوبون على الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يتسمون باسمه، فإصلاح الفرد لأسرته إنما هو عمل يقدّمه لنفسه لأن الثناء يعود إليه فيما لو صلحوا وأحسنوا، كما أن الولد المنحرف يعيَّر به ويعتذر عن إساءته. وقد ورد مثل هذا الوجه في تعليل اشتراط إذن ولي الأمر في الدخول بالباكر (في

ص: 94


1- من لا يحضره الفقيه: 1/ 383، ح 1128وفيه: (يا زيد خالفوا الناس بأخلاقهم، صلّوا في مساجدهم، وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، وإن استطعتم أن تكونوا الأئمّة والمؤذنين فافعلوا فإنّكم إذا فعلتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية ما كان أحسن ما يؤدّب أصحابه، وإذا تركتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية فعل بجعفر ما كان أسوأ ما يؤدّب أصحابه).

زواج المتعة) لأن عارها يرجع على أهلها قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(يكره للعيب على أهلها) وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(كراهية العيب على أهلها)(1). .5إن عدم صلاح الأهل يضعف موقف الفرد عند قيامه بواجبه في ممارسة الأمر والنهي في المجتمع؛ لأنهم سيردّون عليه بأنه ليبدأ أولاً بإصلاح أهله، مما يجعله في حرج من ممارسة هذه الفريضة العظيمة.

6إن الأسرة وحدة مصغرة من المجتمع وفيها تنوع نفسي وفكري وثقافي فتصلح أن تكون معسكراً تدريبياً –كما يقال لأداء الوظيفة في المجتمع فيستفيد العامل من كيفية التعاطي مع الأهل مع تنوعهم في التعاطي مع المجتمع وهو أحد وجوه فهم الحديث النبوي الشريف (خيركم خركم لأهله وأنا خيركم لأهله)(2) وكذلك حديث (من عرف نفسه فقد عرف ربّه)(3).

الأسرة الصالحة تبدأ باختيار الزوجة الصالحة:

وما أكثر مصاديق هذا الوجوب المؤكد اليوم كتوفير البيئة الصالحة لهم في البيت بدءاً من اختيار الزوجة المؤمنة العفيفة المتفقهة، وأن يكون لهم أسوة حسنة لأن رب الأسرة يكون المثل الأعلى لهم، وأن يجنبهم أصدقاء السوء، وأن يعلمهم ويرشدهم إلى كل ما فيه صلاح الدنيا والآخرة، وأن لا يهمل أمر متابعتهم وتفقد شؤونهم بعذر الانشغال بالكسب أو أي أمر آخر، وأن ينبههم إلى أوقات الصلاة برفع الأذان في البيت –وقد ورد فيه عن الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):أنه مما يوجب كثرة

ص: 95


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب 11.
2- وسائل الشيعة (آل البيت): 20/ 171/ح8
3- بحار الأنوار المجلسي: 2/ 32

الولد والشفاء من الأمراض(1)- ويصلي بهم جماعة إن استطاع، وأن يختار لهم أحمد السبل وأرشدها في دراستهم وكسبهم وأوضاعهم الاجتماعية ونحو ذلك.وهذه المسؤولية ممتدة طول الزمان لأن الإنسان لا يخلو من المسؤولية عن الاهل فهو إما أن يكون ابناً أو أباً أو زوجاً أو أخاً، وكذلك بالنسبة للمرأة، أما مسؤوليته عن أسرته الخاصة فلا بد من الالتفات إليها ورعايتها من قبل الزواج باختيار المرأة الصالحة المؤهلة لحفظ بيته وماله وتربية أولاده.

ص: 96


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب أحكام الأولاد، باب 11، ح10.

القبس/163: سورة التحريم:11

اشارة

{وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱمرَأَتَ فِرعَونَ}

موضوع القبس:امرأة فرعون أسوة حسنة للرجال والنساء

قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم:{وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱمرَأَتَ فِرعَونَ إِذ قَالَت رَبِّ ٱبنِ لِي عِندَكَ بَيتا فِي ٱلجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرعَونَ وَعَمَلِهِۦ وَنَجِّنِي مِنَ ٱلقَومِ ٱلظَّلِمِينَ} (التحريم:11).

مثل يضربه الله تعالى ليتأسى به {الَّذِينَ آمَنُوا} جميعاً في جميع الأجيال رجالاً ونساءاً وليس النساء فقط وليأخذوا منه الدروس والعبر وهكذا كل الأمثال والقصص فليست هي للتسلية ولا لقضاء أوقات الفراغ قال تعالى {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر:21).

وهذا المثل شاهد على ما يمكن أن تصل إليه المرأة من مكانة سامية بحيث تصبح مثلاً وقدوة لجميع المؤمنين، انها امرأة فرعون التي ذكرت الروايات أن اسمها آسية.

وقدّم الله تعالى الآية التي تذكرها على الآية التي تذكر المثل الآخر وهي مريم ابنة عمران ربما لامتياز في آسية وهي انها عاشت في بيت كافر بل في قمة الكفر والتحدي لله تعالى حيث يزعم فرعون أنه ربهم الأعلى فاختيارها الايمان

ص: 97

كان على خلاف العادة وفيه مشقة كبيرة ومجاهدة عظيمة اما مريم فقد ولدت في بيئة صالحة وهم آل عمران الذين اصطفاهم الله تعالى وكانوا يقولون لمريم (س) {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} (مريم:28) ونشأت برعاية نبي {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} (آل عمران:37) فسمّوها وكمالها يكون منسجماً مع تلك الظروف.إن امرأة فرعون سجّلت موقفاً نادراً يصعب تصوره ويذهل المتأمل فيه فقد كانت زوجة فرعون مصر والسيدة الأولى في الإمبراطورية الفرعونية التي تنفذ كل رغباتها بلا مناقشة ولها مكانتها العظيمة في قلب فرعون وكانت تتقلب في حياة الترف والنعيم في قصور فرعون الباهرة مما تحلم به أي امرأة، وفي تلك الأبهة التي اشير الى بعض جوانبها في القرآن الكريم على لسان فرعون {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ} (الزخرف:5153). وكان أيضاً في قمة الطغيان والجبروت بحيث ينهار أمامه أشرس الأبطال الشجعان.

واذا بهذه المرأة تتنازل عن ذلك النعيم كله وتواجه ذلك الطغيان كله وتتحول إلى صف المؤمنين بموسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما سمعت دعوته إلى الله تبارك وتعالى ورأت آياته المعجزة في مواجهته مع السحرة وهي تعرف قبل ذلك صدق موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واستقامته وسمو اخلاقه عندما تبنته طفلاً رضيعاً لما وضعته أمه في تابوت وألقته في اليم {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} (القصص:8) وطلبت من فرعون أن يبقي على حياته {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى

ص: 98

أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (القصص:9)، روى الشيخ الصدوق في كتابه الخصال بسنده عن جابر بن عبدالله قال (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ثلاثة لم يكفروا بالوحي طرفة عين مؤمن آل ياسين وعلي بن أبي طالب وآسية امرأة فرعون)(1) .وفي بعض الروايات انها كانت من بني إسرائيل وهي من خيار النساء من بنات الأنبياء وكانت أماً للمؤمنين ترحمهم وتتصدق عليهم(2) .

وقد أخفت ايمانها في البداية لكن هذا التغير في حياتها وسلوكها لم يكن ليخفى على زوجها اللصيق بها فرعون فعلم بذلك وطلب منها الرجوع إلى كفرها فرفضت ثم تعرضت للضغط الاجتماعي حيث ابتدأ بأمها لتستعمل العاطفة لإرجاعها إلى دين فرعون، ثم حذروها من خسارتها لكل هذه الحياة المترفة في قصر فرعون ومن بطشه وعذابه فلم يفلحوا معها ثم وصفوها بالجنون واستهزؤا بقرارها وسخروا من هذا الانقلاب في حياتها وتفضيلها وعوداً غيبية مؤجلة يقدّمها النبي موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على نعيم عظيم حاضر تتمتع به لكنها أصرّت على الايمان فهدّدها فرعون بتعذيب غير مسبوق فلم تتراجع حتى نفّذ تهديده ليثبت بذلك هزيمة الطواغيت والفراعنة بكل جبروتهم امام ثبات وإصرار امرأة على الحق.

وروى الطبرسي ان فرعون أوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد وألقاها في الشمس ثم أمر أن يلقى عليها صخرة عظيمة وروى انها كانت ترمق السماء وتدعو بما ذكرته الآية الشريفة فمرّ عليها موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فدعا لها أن يخفّف عنها فلم

ص: 99


1- الخصال: 174، باب 3 ح 230
2- بحار الأنوار: 13/ 16

تجد للعذاب أثراً وأوحى الله تعالى إليها أن ارفعي رأسك ففعلت فرأت البيت في الجنة فضحكت، فقال فرعون:انظروا إلى الجنون التي بها تضحك وهي في العذاب(1) .فلا عجب أن تثني عليها الأحاديث الشريفة وتذكر درجتها في الجنة رابعة أربعة مع فضليات نساء الدنيا فاطمة الزهراء (س) وخديجة بنت خويلد ومريم بنت عمرآن(2) .

ان دعاءها الذي ذكرته يكشف عن كمال معرفتها وسمو ذاتها لخصت فيه هدفها في الحياة والغرض الذي ضحَّت من أجله فقد بدأته بقولها (ربِّ) للاعتراف بين يدي الله تعالى بالتربية الإلهية الخاصة التي حظيت بها وترجو أن يديمها ربها عليها وطلبت أن ينجيها الله تعالى من مكائد فرعون وضغوطه وفتنته وأن لا تكون جزءاً من نظامه الفاسد {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ} (القصص:17) لأنها رافضة لكفره ولسلوكه الشيطاني ومن كل أعمال المجتمع الفرعوني الغارق بالكفر والمعاصي، وتوجهت بقلبها وعقلها إلى ما عند الله تبارك وتعالى وزهدت بنعيم فرعون الذي فيه ما تشتهيه الأنفس وتهفو إليه القلوب بما يفوق التصور لكنها ادركت ببصيرتها أنه متاع دنيوي زائل ولم تكتفِ بطلب بيت في الجنة الذي فيه عوض عما زهدت به في الدنيا بل أن يكون هذا البيت عند الله تعالى وهي ما ارادت بالعندية عندية المكان لأن الله تعالى لا

ص: 100


1- بحار الأنوار:13: 164165
2- الخصال:205 206 باب 4 ح 22،23

يحدّه مكان وإنما ارادت عندية المكانة في جواره وقربه تعالى وفي ذلك كرامة معنوية فائقة.وهي بذلك تضرب مثلاً سامياً في قوة الإرادة والثبات على الايمان والإخلاص في العبودية لله تعالى والتنزه عن زخارف الدنيا الوهمية حيث كانت ترى قصر فرعون والدنيا عموماً سجناً تضيق نفسها بالحياة فيه فتطلعت إلى بيت تبنيه الإرادة الإلهية بدون واسطة حتى الملائكة.

إننا بحاجة ماسة إلى احياء ذكر هذه القمم لنزيد من همتنا في طاعة الله تعالى ومن مقاومتنا لكل مشاريع الفساد والانحلال والابتعاد عن الله تعالى مهما كانت الاغراءات أو الضغوط حتى تصبح هذه الظواهر المنحرفة التي تحصل هنا وهناك كالذي تقوم به بعض النساء في احتفالات الاعراس او على صفحات التواصل الاجتماعي او العلاقات المشبوهة ونحو ذلك تصبح ممقوتة ومثيرة للاشمئزاز فضلاً عن التأثّر بها والانسياق معها.

وهذه المرأة العظيمة حجة علينا جميعاً لأننا مهما تعرضنا لإغراءات الدنيا فهي دون ما كان متاحاً لامرأة فرعون وطوع ارادتها ومهما تعرضنا لضغوط وتهديدات فهي دون ما لاقت (رضوان الله تعالى عليها) وماتت تحت تعذيب ومع ذلك فقد صمدت وثبتت وازدادت سمواً وإخلاصاً حتى لاقت ربها وماتت تحت التعذيب شهيدة راضية مرضية، فما هو عذرنا(1) وما هي مبرراتنا إن ضعفنا أو قصرّنا.

ص: 101


1- الكلمة القاها سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) مع إدارة ملتقى العلم والدين النسوي في النجف والمحافظات يوم الخميس 8/جمادي ثاني/1440 الموافق 14/ 2/ 2019.

القبس/164: سورة المُلك:2

اشارة

{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}

موضوع القبس:مقوِّمات إحسان العمل

من علامات قدرة الله تبارك وتعالى وهيمنته وحكمته أنه {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} وقدّرهما على بني البشر وفي الحديث الشريف عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(الحياة والموت خلقان من خلق الله)(1)، وقد جرت سنة الفناء في سائر المخلوقات كما في قول الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ان أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون)(2).

ثم تبّين الآية الغرض من اخراجكم الى هذه الدنيا {لِيَبْلُوَكُمْ} ويختبركم بالأوامر والنواهي والترغيب والتخويف حتى تتميزوا وتتفاضلوا أيّكم أحسن عملاً وتظهر معادنكم وحقيقتكم، ليُكافأ من أحسن بجنان الخلد ويحرم منها من اساء.

فلابد للإنسان أن يكون ملتفتاً للغرض الذي خُلِق من أجله، وأن يستحضر هذه الحقيقة دائماً ويجعلها ماثلة أمامه ولا يجعل للغفلة طريقاً إليه ولا للأهواء والمغريات وأسباب الضلال والانحراف سلطة عليه ويكرّس حياته لأفضل حرث

ص: 102


1- الكافي:3/ 259 ح 34
2- الإرشاد : ج2/ ص 94

وهو أحسن العمل. ويظهر من الآية ان الموت والحياة لهما مدخلية في هذا الاختبار اما الحياة فلأنها ساحة العمل ووسيلة اكتساب الأعمال (الدنيا مزرعة الآخرة)(1) واما الموت فلأن الاعتقاد به وبما بعده من البعث والنشور والحساب والجزاء يمثل أقوى باعث على العمل ولولا الآخرة وطلب رضا الله تعالى لا يوجد حافز على الجهد والتضحية والبذل والعطاء والايثار والتمايز بهدف الوصول الى ما يستحقه من الجزاء.

والموت ليس فقط جزءاً من عملية الاختبار والابتلاء بل هو مظهر للحكمة وللرحمة أيضاً اذ لو لم يكتب الموت على الناس وبقيت الأجيال البشرية من لدن آدم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى نهاية الدنيا كيف ستسعهم الأرض، وكذا الحيوانات في الأرض أو الماء فانها ستغطي كل الأرض والماء بعدة طبقات، فكان الموت سبباً لحفظ التوازن البيئي والبشري.

والموت يأتي بعد الحياة لأنه إعدام الحياة ولا يقال للعدم السابق على الحياة أنه موت، وروي في ذلك قول الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(وخلق الحياة قبل الموت)(2) .

وإنما قدِّم ذكر الموت على الحياة لوجوه محتملة:

1 لوجه بلاغي وهو ظاهر.

2 لأن الحياة لا تعرف قيمتها الا بمقابلتها بالموت من باب الأمور تعرف

ص: 103


1- عوالي اللئالي : 1 / 267 / 66
2- الكافي: 8/ 145

بأضدادها، أو ان النعم لا تعرف الا اذا فقدت.3 لأن ظهور قدرة الله تعالى وعزّته وهيمنته وعظيم سلطانه تظهر بالموت أكثر من الحياة في أذهان البشر وورد في الدعاء (وقهر عباده بالموت والفناء)(1) .

4 ان تأخير الحياة لأنها هي ساحة التسابق والاختبار وتحصيل أحسن الأعمال فيناسبها أن تلتصق بقوله تعالى {لِيَبْلُوَكُمْ}.

ومن الواضح ان الآية تحدد ان الغرض المقصود من الاختبار والامتحان في هذه الدنيا هو الوصول الى حالة أحسن العمل، وان التفاضل بين الناس هو على أساس تقديم أحسن العمل، فبم يتحقق حسن العمل وما هي ضوابط ومعايير كونه أحسن العمل.

روى في مجمع البيان عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله في معنى ايكم أحسن عملاً قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(أيكم أحسن عقلاً، ثم قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):اتمكم عقلاً وأشدكم لله خوفاً وأحسنكم فيما أمر الله عزوجل به ونهى عنه نظراً، وإن كان أقلَّكم تطوعاً) فحسن العمل ليس بكثرة العبادات والطاعات وانما بنوعيتها وفي حديث آخر عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(ايكم أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله)(2) وروي عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (الاحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فاذا فعلت ذلك فقد أحسنت)(3).

ص: 104


1- بحار الأنوار: 84/ 339 ، مفاتيح الجنان: دعاء الصباح لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)
2- تفسير نور الثقلين: 5/ 230 ح 12،13
3- كنزل العمال: 3/ 16 ح 5254

في مجمع البيان عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(ان الرجل ليكون من اهل الجهاد ومن اهل الصلاة والصيام وممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وما يُجزى يوم القيامة الا على قدر عقله) وروى انس ابن مالك قال:(أثنى قومٌ على رجل عند رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كيف عقله؟ قالوا:يا رسول الله نخبرك عن اجتهاده في العبادة واصناف الخير وتسألنا عن عقله؟ فقال:ان الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وانما يرتفع العباد غداً في الدرجات وينالوا الزلفى من ربّهم على قدر عقولهم)(1) .روى الشيخ الكليني بسنده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير الآية قوله (ليس يعني أكثر عملاً ولكن أصوبكم عملاً وإنما الإصابة خشية الله والنية الصادقة والحسنة، ثم قال:الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد ان يحمدك عليه أحد الا الله عزوجل والنية أفضل من العمل، الا وإن النية هي العمل ثم تلا قوله عزوجل {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} (الإسراء:84) يعني على نيته)(2).

ويظهر من هذه الروايات:ان العمل لا يختص بأعمال الجوارح البدنية وإنما يشمل الأعمال القلبية أي ليس الظاهرية فقط وإنما الباطنية أيضاً بل لعلها الأهم.

ويظهر أيضاً إن من الاعمال ما هو حسن وأحسن منه كما أن منه ما هو سيء وأسوء، وان مقابل الأحسنين أعمالاً يوجد الأخسرون أعمالاً الذين ذكرتهم الآية

ص: 105


1- تفسير نور الثقلين: 5/ 231 ح 20، 21
2- أصول الكافي: 2/ 13 ح 4

الكريمة {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (الكهف:103104) .ولا تخلو الآية الكريمة من إشارة الى أن الهدف من خلق الحياة والوجود هو تحصيل الأحسنين أعمالاً اما غيرهم فهم مخلوقون لأجلهم، وقد أثبتت الامتحانات التي مرّ بها النبي وآله (صلوات الله عليهم أجمعين) أنهم أحسن الخلق أعمالاً مما يصحح ما دل من الروايات(1) على ان الموجودات خلقت لأجلهم، لأن الغرض من الوجود تحقق بهن فيصح انهم خلق من أجلهم.

وهذا الاختبار خاص بالبشر {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (الإنسان:3) وورد في الرواية الصحيحة عن ابي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(لما خلق الله العقل استنطقه، ثم قال له:أقبل فأقبل، ثم قال له:أدبر فأدبر، ثم قال:وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إلي منك، ولا أكملتك إلا فيمن أحب، أما إني إياك آمر،

ص: 106


1- العلل ، والعيون ، والإكمال : عن الرضا ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين ((عَلَيْهِ السَّلاَمُ)) قال : قال رسول الله ((صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)): ما خلق الله عز وجل خلقا أفضل مني ولا أكرم عليه مني - إلى أن قال : - يا علي ، لولا نحن ما خلق آدم ولا حواء ولا الجنة ولا النار ولا السماء ولا الأرض – الخبر. (عيون أخبار الرضا(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): الجزء 2/ صفحة 237) ، قال الشيخ المفيد (رحمه الله) في المسائل السرويّة : والصحيح من حديث الأشباح الرواية التي جاءت عن الثقات : بأن آدم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) رأي على العرش أشباحاً يلمع نورها ، فسأل الله تعالى عنها ، فأوحى إليه : أنها أشباح رسول الله وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم " وأعلمه أن لولا الأشباح التي رآها ما خلقه ولا خلق سماء ولا أرضاً . . . (المسائل السروية:الجزء:1،صفحة : 39)

وإياك أنهى، وإياك أعاقب، وإياك أثيب)(1). اما الموجودات الأخرى فهي سائرة بدقة في حركتها لتؤدي أحسن العمل المطلوب منها.وتصرّح الآيات الكريمة بأن احسان العمل له آثار مباركة عظيمة في الدنيا والآخرة كقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (البقرة:195) وكفى بذلك شرفاً وفضلاً، وقوله تعالى {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (الأعراف:56) وقوله تعالى {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} (الكهف:30) وقوله تعالى {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (الرحمن:60) وقوله تعالى {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (يونس:26) وقوله تعالى {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} (النحل:30) وقوله تعالى {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} (الحج:37) وقوله تعالى {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت:69) وقوله تعالى {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} (الزمر:34) وغيرها كثير.

وفي ضوء ما تقدم فأن مقوِّمات احسان العمل أمور:

1.ان يكون العمل حسناً محبوباً في نفسه ليصّح التقرب إلى الله تعالى بإحسانه والا لا معنى للتقرب بفعل اذا كان قبيحاً لذا لا يصح أن يكون متعلق النذر واليمين أمراً مرجوحاً كمقاطعة الأرحام أو ظلم أحد حقه أو ترك واجب أو فعل محرم، ولا معنى للحديث عن تحسين فعل اذا لم يكن حسناً في نفسه فلا يصحّ إضفاء عناوين حسنة على أفعال مبتدعة من وضع الناس لم يثبت حسنها في

ص: 107


1- وسائل الشيعة: 1/ 39 باب 3 ح1.

ذاتها.2.اخلاص النية لله تبارك وتعالى وعدم شوبها بالرياء والعجب أو استهداف أغراض دنيوية كتحصيل الجاه والسمعة والثناء من الآخرين أو مكاسب مالية أو إرضاءاً لأشخاص آخرين ففي الحديث المشهور (إنما الاعمال بالنيات ولكل أمرئ ما نوى)(1) وفي وصيته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأبي ذر (يا أبا ذر، ليكون لك في كل شيء نية حتى في النوم والأكل)(2) فالعاقل لا يجعل حركته تذهب هدراً فضلاً عن حبط اعماله روى عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (إعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله)(3).

3.ان يزيِّن العمل بالورع والتقوى ليبلغ غايته، في الحديث (عن مفضل بن عمر قال:كنت عند أبي عبد الله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فذكرنا الأعمال، فقلت أنا:ما أضعف عملي؟ فقال:مه استغفر الله، ثم قال لي:إن قليل العمل مع التقوى خير من كثير بلا تقوى قلت:كيف يكون كثير بلا تقوى؟ قال:نعم مثل الرجل يطعم طعامه، ويرفق جيرانه، ويوطئ رحله، فإذا ارتفع له الباب من الحرام دخل فيه، فهذا العمل بلا تقوى، ويكون الآخر ليس عنده فإذا ارتفع له الباب من الحرام لم يدخل فيه)(4) وفي كلمة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد)(5) وروي

ص: 108


1- وسائل الشيعة: 1/ 49 ، أبواب مقدمة العبادات، باب 5 ح 10
2- وسائل الشيعة: 1/ 48 باب 5 ح 7/ 8
3- وسائل الشيعة: 1/ 100 باب 23 ح 6
4- بحار الأنوار: ج 67 / ص 104
5- بحار الأنوار: ج 40 / ص 340

عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(اذا أحسن المؤمن ضاعف الله عمله لكل حسنة سبعمائة فأحسنوا أعمالكم التي تعملونها لثواب الله - الى ان قال - وكل عمل تعمله لله فليكن نقياً من الدنس)(1).فمن علامات حسن العمل اقترانه بالتقوى وتنقيته من الشوائب التي ذكرناها، ومن كل ما يشين، ونذكر ضمن هذه النقطة الحديث الشريف عن الامام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ليس حسن الجوار كف الأذى ولكن حسن الجوار الصبر على الأذى)(2) وهذا معنى يجري في كثير من القضايا كحسن التبعل مثلاً وغيره.

4.دوام العمل بالمواظبة عليه ان أمكن كصلاة الليل او تلاوة القرآن وان لم يمكن كالحج مثلاً فبإدامة آثاره وحبّه وعقد العزم على الاتيان به اذا تيسرت ظروفه عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(أحب الأعمال الى الله عزوجل ما داوم العبد عليه وان قل)(3) وسنفصّل الكلام في هذه النقطة في الملحق الآتي إن شاء الله تعالى.

5.الرفق في العمل وعدم الافراط في تحميل النفس الى حد التمرد ورفض الطاعة فقد روي عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (لا تكرِّهوا الى أنفسكم العبادة)(4) وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اجتهدت في العبادة وأنا شاب فقال لي أبي:يا بني، دون ما اراك تصنع فان الله عزوجل اذا أحبّ عبداً رضي منه باليسير)(5).

ص: 109


1- الوسائل: 1/ 61 باب 8 ح 10
2- تحف العقول: 409، الكافي: 2/ 667 ح 9
3- الوسائل: 1/ 94 باب 21 ح 5
4- وسائل الشيعة: 1/ 108 باب 26 ح 1.
5- وسائل الشيعة: 1/ 108 باب 26 ح 2.

6.المبادرة الى فعل الخيرات وتقدم الحديث الشريف في تفسير {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} أي (اسرع في طاعة الله) وروي عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (إذا هممت بشيء من الخير فلا تؤخره، فإن الله عز وجل ربما اطلع على العبد وهو على شيء من الطاعة، فيقول:وعزتي وجلالي، لا أعذبك بعدها أبدا، وإذا هممت بسيئة فلا تعملها، فإنه ربما اطلع الله على العبد وهو على شيء من المعصية، فيقول:وعزتي وجلالي لا أغفر لك بعدها أبدا)(1) .

7.التفقه في الدين ومعرفة كل ما يرتبط بالعمل من مقدمات وأجزاء وشرائط وما يسبب الخلل فيه لإتقانه والا فانه قد يأتي بما يفسد العمل من حيث لا يعلم، وتقدم في الحديث النبوي الشريف في تفسير {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (أحسنكم فيما أمر الله عزوجل به ونهى عنه نظراً).

8.معرفة الأولويات وتقديم الأهم على المهم اذ قد يكون الفعل حسناً في نفسه الا انه ليس أحسن لأن الأولى ان يقوم بالطاعة الأخرى لأنها أهم عند تزاحم الطاعتين وكمثال اذكر الرواية التالية:(أتى رسولَ اللَّه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) رجلُ فقال إني رجل شاب نشيط وأحب الجهاد ولي والدة تكره ذلك فقال له النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ارجع فكن مع والدتك فو الذي بعثني بالحق لأنسها بك ليلة خير من جهاد في سبيل اللَّه سنة)(2). فقدَّم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) برّ الوالدين والإحسان اليهما على الجهاد الذي هو من أعظم الطاعات.

ص: 110


1- وسائل الشيعة: 1/ 112 ح 6.
2- الكافي: 10/ 2/ 163.

وفي الرواية الصحيحة عن هشام بن المثنى قال (سأل رجل أبا عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن قول الله عزوجل {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأنعام:141) فقال:كان فلان بن فلان الأنصاري - سمّاه - وكان له حرث فكان اذا أخذ يتصدق به فيبقى هو وعياله بغير شيء، فجعل الله عزوجل ذلك سرفاً)(1)، فعندما تؤثر الصدقة على نفقة العيال والتوسعة عليهم لا تكون أحسن.9.وعي حقيقة العمل واتيانه عن بصيرة والتفات للأغراض الحقيقية منه فيعرف ان الغرض من الصلاة ادامة ذكر الله تعالى {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (طه:14) والانتهاء عن الفحشاء والمنكر {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (العنكبوت:45) كما في الحديث النبوي الشريف (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله الا بعداً)(2) .

وان الصوم لتقوية الإرادة والقدرة على الامتناع عن كل ما يسخط الله تعالى ولمواساة الفقراء والمحرومين والالتفات الى هذه الحالات في المجتمع ونحو ذلك.

ومن الشواهد الجليلة في هذا المجال موعظة الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) للشبلي في بيان الاسرار المعنوية للحج وهي مطولة تجدها في كتاب مناسك الحج، منها قوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) له:« حججت يا شبلي؟ قال:نعم يا أبن رسول الله، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):«أنزلت

ص: 111


1- وسائل الشيعة: 9/ 46 ، أبواب الصدقة، باب 42 ح 3.
2- ميزان الحكمة: 5/ 109 ح10705

الميقات وتجرّدت عن مخيط الثياب واغتسلت؟ قال:نعم، قال:« فحين نزلت الميقات نويت أنّك خلعت ثوب المعصية، ولبست ثوب الطاعة؟ قال:لا، قال:« فحين تجرّدت عن مخيط ثيابك، نويت أنّك تجرّدت من الرياء والنفاق والدخول في الشبهات؟ قال:لا، قال:« فحين اغتسلت نويت أنّك اغتسلت من الخطايا والذنوب؟ قال:لا، قال:« فما نزلت الميقات، ولا تجردت عن مخيط الثياب، ولا اغتسلت)(1) أي لم تحقق الغرض المطلوب من هذه المناسك.10.ومن تمام إحسان العمل نشره وحثّ الآخرين عليه، قال تعالى {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى:11) والنعمة هنا لا تقتصر على النعم المادية كالأموال والبنين والجاه الاجتماعي وإنما تشمل النعم المعنوية وهي عموم(2) الطاعات وأولها نعمة الإسلام والايمان، لذا فسّرتها بعض الروايات بولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لأنها أكمل مصاديقها وقد أمرت الآية بالتحديث بها وذلك بأن يدعو الناس اليها، لذا وعدت الأحاديث الشريفة بمضاعفة الثواب لمن ينشر الطاعة ويؤسس لها كحالة اجتماعية عامة ومنها الحديث النبوي المشهور (من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينتقص من أجورهم شيء)(3) .

وورد في الروايات استحباب تحسين العبادة ليُقتدى بالفاعل وللترغيب في اتباع الحق فقد روى عبيد بن زرارة قال (قلت لأبي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الرجل يدخل

ص: 112


1- وسائل الشيعة: 10/ 166 – 172.
2- راجع القبس/175, ص250.
3- الكافي: 5/ 9.

في الصلاة فيجّود صلاته ويحسّنها رجاء أن يستجّر - أي يجتذب - بعض من يراه إلى هواه، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):ليس هذا من الرياء)(1) .لهذا كله دلت الأحاديث الشريفة على ان الثواب الذي يعطى للعالم العارف البصير على عمل قليل اضعاف ما يعطى العابد غير العارف بهذه الحقائق على العمل الكثير.

وقد حثت الأحاديث الشريفة على الاحسان في كل شيء حتى على مستوى اختيار الاسم فجعلت من حقوق الولد على أبيه ان يحسن تسميته(2) اما الاحسان الى الآخرين فقد وردت فيه روايات لا تحصى كثرة وفي القرآن الكريم {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (القصص:77) وبيّنت ان من الثمرات المعجلة للإحسان الى الآخرين ان يُحسن اليك ومن وصايا أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الى نوف البكالي (أحسن يُحسن اليك)(3).

وقد اختصر أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الكلام في الاحسان بان جعل قيمة كل انسان بمقدار ما يحسنه من اعمال وصفات وملكات وبمقدار ما يُحسن للآخرين فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (قيمة كل امرئ ما يحسنه)(4) وهي كلمة مقتبسة من نور الآية

ص: 113


1- وسائل الشيعة: 1/ 76 باب 16 ح 3.
2- وسائل الشيعة: 15 / 122 احكام الأولاد / باب استحباب تسمية الولد باسم حسن ، وتغيير اسمه إن كان غير حسن 22.
3- بحار الأنوار: 77/ 385 عن امالي الصدوق: 174 المجلس 37 ح 9.
4- نهج البلاغة: ج 4 ، قصار الكلمات، 81 ، عيون أخبار الرضا : 2/ 53 ، الامالي : 362 المجلس 168 ح 9.

الكريمة التي نحن بصددها {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} ان نتيجة الامتحان تعطي قيمة اكبر لمن كان اكثر احساناً في عمله وقد قلت في بعض احاديثي السابقة (انه قد خطر على ذهني ذات مرة وأنا في الحضرة العلوية الشريفة هذا المعنى للحديث الشريف:(قيمة كل امرئ ما يحسنه)، أي أن درجته عند الله تبارك وتعالى تكون بمقدار ما يحمل من الصفات الحسنى لله تبارك وتعالى، فكلما ازدادت رحمته كان أقرب إلى الله، لأن الرحيم من الأسماء الحسنى، وكلما ازداد عفوه كان أقرب، لأن العفو من الأسماء الحسنى، وهكذا كلما ازداد كرمه وحلمه وعلمه وحكمته وصبره على أن تكون هذه الصفات ذاتية له وراسخة فيه وليست طارئة عليه ولا تصدر منه بتكلف)(1) وهو على أي حال تطبيق لقوله تعالى {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} (النحل:60).ان المطلوب منّا أن نتقدم خطوة أخرى بعد إحسان العمل وهي مكافأة المحسن على إحسانه فإنه من الإحسان لتشجيع الناس على الأعمال الحسنة وقد ضرب لنا الأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أروع الأمثلة لهذا السلوك، روى الخطيب البغدادي في كتابه المعروف (تاريخ بغداد):عن الإمام الحسن بن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انه كان ماراً في حيطان (أي بساتين) المدينة فرأى عبداً أسوداً بيده رغيف خبز يأكل ويطعم كلبه لقمة إلى أن شاطره طعامه في الرغيف)، ومثل الامام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في منزلته الاجتماعية لا يهتم بعبد أسود معه كلب يأكل، لكن الامام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) توقف عنده (فقال له الإمام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ما حملك على ما عملت

ص: 114


1- خطاب المرحلة: 2/ 104

وشاطرته؟ فقال الغلام:استحيت عيناي من عينه.) وفي رواية أخرى ان العبد قال:أشعر بضيق في صدري وكآبة فأردت ان أدخل السرور على هذا الكلب لعل الله تعالى يرفع عني هذا الهم بذلك (فقال الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):غلام من أنت؟ أي سأله عن مالكه (فقال:غلام أبان بن عثمان، فقال:والحائط؟ قال:لأبان بن عثمان. فقال له الإمام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أقسمتُ عليك لا برحت حتى أعود عليك. فمَّر على صاحب الحائط فاشترى الحائط والغلام معاً، وجاء إلى الغلام، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يا غلام قد اشتريتك فقام الغلام قائماً) أي قام ليذهب مع مالكه الجديد وهو الامام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وقال:السمع والطاعة لله ولرسوله ولك يا مولاي. قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):وقد اشتريت الحائط، وأنت حرٌ لوجه الله، والحائط هبة مني إليك. فقال الغلام:(يا مولاي قد وهبتُ الحائط للذي وهبتني له)(1).أقول:لقد تعلّم الغلام هذا الأدب من الإمام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) نفسه، فقد روى أحدهم قال:(رأيت الحسن بن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يأكل وبين يديه كلب، كلما أكل لقمة طرح للكلب مثلها، فقلت له:يا بن رسول الله، ألا أرجم هذا الكلب عن طعامك؟ قال:دعه:إني لاستحيي من الله عز وجل أن يكون ذو روح ينظر في وجهي وأنا آكل ثم لا أطعمه)(2).

وهذه هي سيرة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فانهم لا يكتفون بفعل المعروف والإحسان الى الآخرين بل كانوا يكافئون من يقوم بفعل حسن ويكرّمونه بأضعاف ما قام به ليشجّعوا على نشر المعروف وتحويله الى ظاهرة وثقافة

ص: 115


1- تاريخ بغداد: 6/ 34
2- بحار الأنوار: 43/ 352 ح29 عن مقتل الحسين للخوارزمي: 1/ 102103.

عامة لدى المجتمع.وعلى اتباع أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) التأسي بهذه الاخلاق الكريمة بأن يحسنوا في أعمالهم في سائر المواقع والمسؤوليات التي هم فيها.

فالطالب يبذل وسعه في المطالعة والمذاكرة حتى يحقق نتائج راقية يدخل بها السرور على أهله ومحبيه ويكون فخراً وعزاً وطاقة هائلة لوطنه وشعبه.

والموظف يتقن عمله ويؤدي واجبه في كل الوقت المطلوب منه ولا يقصّر في خدمة الناس واستيعابهم.

والمدّرس يبذل وسعه في تعليم الطلبة والارتقاء بمستواهم العلمي ومساعدتهم في كل ما يحتاجون.

والمهندس يراعي شروط المتانة والامان والجدوى عند تنفيذ المشاريع ويكون اميناً ونزيهاً، وهكذا.

هذا على مستوى احسان العمل، ويبقى علينا ان نتقدم خطوة أخرى بتشجيع المحسنين في أعمالهم ومكافئتهم، فالامام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مع هيبته وجلاله وسمو مقامه في المجتمع بحيث اذا جلس على الطريق انقطع المارّة وتهيّبوا المرور بين يديه، واذا مشى لم يبق أحدٌ راكباً ومع ذلك تراه توقّف عند العبد ولم يمرّ على هذا الموقف دون تكريم، اما الذين يثبّطون العاملين ويستهزئون بهمتهم وحركتهم الدائبة فهؤلاء لم يستفيدوا

ص: 116

من سيرة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ولم يتأسوا بهم.ويكفي المحسنين في عملهم وساماً يفتخرون به:محبة الله تعالى لهم {وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (البقرة:195).

ص: 117

ملحق:إدامة الآثار المعنوية للطاعات

ينتاب المؤمن في نهاية أي مناسبة لطاعة الله تعالى زمانية كموسم الحج وشهر رمضان أو مكانية كمشاهد المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) شعور بالأسى والحزن لفراقها والحرمان من استمرار تلك الفيوضات الإلهية التي تقترن بها ولنركّز حديثنا عن شهر رمضان كمثال عليها، فقد عبرّت عن هذا الحزن أدعية وداع شهر رمضان، وهذا الشعور له ما يبرّره، لأن شهر رمضان من أعظم محطات التزوّد بالتقوى والطاقة المعنوية حيث يحسُّ المؤمنون بسموٍّ وارتقاءٍ في حالتهم المعنوية وإقبالاً على الطاعات في شهر رمضان المبارك، وهذه واحدة من بركات موائد هذا الشهر في ضيافة الله تبارك وتعالى، ولا شك أن المؤمنين يتفاوتون في هذا التحصيل تبعاً لتفاوت درجاتهم وسعة آنيتهم التي يغترفون بها من عطاء الله تبارك وتعالى {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} (الرعد:17)، فبعضهم قد تنتهي عنده هذه الحالة بمجرد إنتهاء الشهر فيعود في العيد الى ما كان عليه حتى المعاصي والعياذ بالله، وبعض آخر تستمر حالته أكثر من ذلك ولكنّها تنتهي مالم يزوّدها بوقود جديد، وبعضٌ تدوم عنده وتثبت معه الى شهر رمضان المقبل كالاجسام التي تلامس النار، فبعضها يفقد الحرارة بمجرد ابعاده عنها، واخرى تحتفظ بها مدة ثم تفقدها، واخرى كالفحم تتحول الى جمرة متّقدة تهب النور والدفء الى الاخرين والسؤال كيف نستطيع إدامة هذه الحالة أكبر قدر ممكن بفضل الله تعالى {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (مريم:64) وما الذي يجدّد فينا الامل والرغبة لاستمرار الزخم الايماني

ص: 118

الذي استفدناه من هذه المحطة الشريفة. ويمكن طرح السؤال بصياغة اخرى وهو أنه ورد في الحديث الشريف (من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخرُ يوميه شرَّهما فهو ملعون، ومن لم يعرف الزيادة في نفسه كان إلى النقصان أقرب، ومن كان إلى النقصان أقرب فالموت خيرٌ له من الحياة) (1) ونحن نرى أن أيامنا في شهر رمضان خير من أيامنا في غيره حيث سنُحرم من موائد شهر رمضان ومن ضيافة الرحمن (أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة ودعائكم فيه مستجاب.....الخ) (2) وتلاوة آية فيه تعدل تلاوة القرآن كله في غيره ونحو ذلك فهل سيكون يومنا في شهر رمضان خيراً من غدنا في ما بعد شهر رمضان، ويكون امرنا الى النقصان ونصبح من اهل هذه الحالة المذمومة في الحديث الشريف فالأمر موجب للقلق وإيجاد الحل له.

ولرفع الشعور بالاسى والحزن لفراق شهر رمضان، ولتجديد الامل والرغبة بدوام بركاته ونفحاته، ولدفع القلق الناشئ من احتمال هبوط المعنويات نذكر عدة وجوه:

1إن شهر رمضان إذا انقضى ورُفِعَتْ موائده وبركاته فإن رب شهر رمضان باقٍ وهو الذي منَّ على عباده بتلك العطايا والمنن، قال تعالى:{وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} (البقرة:166) فليكن تعلقنا بالخالق لا بالمخلوق وبمسبب الأسباب لا بالأسباب نفسها، وهو قادر بكرمه على أن يجعل من الكرامة في غير شهر رمضان لعمل أكثر مما يعطي في شهر رمضان المبارك فان الله تعالى اخفى رضاه في اي

ص: 119


1- أمالي الصدوق: 766.
2- أمالي الصدوق : ص 93.

طاعة من طاعاته ولا يعلمها العبد، فلعلك ترحم انسانا ضعيفاً او تزوج شاباً عفيفاً لا يجد مؤونة الزواج فيكون لك من المنزلة عند الله تعالى اكثر مما نلته من شهر رمضان، فلا يشغلنا الأسف على فوات شهر رمضان عن الأمل بكرم ربِّ شهر رمضان.2إن الله تعالى الذي أوجب علينا الصوم في شهر رمضان هو الذي رفع هذا الوجوب في غيره، وعلينا ان نعبد الله تعالى من حيث هو يريد لا من حيث نحن نريد فكما نطيعه في وجوب الصوم نطيعه تعالى في عدم الوجوب، والحديث يقول (إنَّ اللهَ يُحِبُّ أن تُؤتى رُخَصُهُ - أي عدم إلزاماته كَما يُحِبُّ أن تُؤتى عَزائِمُهُ أي إلزاماته في الوجوب والحرمة)(1)، فهذه الإنتقالة بمشيئة الله تعالى وطاعة له، لذا فهي ليست مشمولة للحديث الشريف (ومن كان آخرُ يوميه........)(2).

3إن هذا التقلب في الحالات فيه أكثر من ثمرة مباركة فهو من جهة رحمة ورأفة من الله تعالى بالإنسان لأنه يعجز عن الاستمرار على الحالة العالية والدوام عليها حتى قيل (دوام الحال من المحال) (3)، فهذه الإنتقالة الى الحالة الأدنى فيها تخفيف عنه وإشفاق به، في الحديث الشريف (إن للقلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أقبلت فتنفلوا وإذا أدبرت فعليكم بالفريضة) (4) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال

ص: 120


1- بحار الأنوار : 93 / 29
2- امالي الصدوق: 776
3- مثل عربي.
4- الكافي: ج3/ 454

(إِنَّ هذِهِ الْقُلُوبَ تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ الأَبْدَانُ فَابْتَغُوا لَهَا طَرَائِفَ الْحِكْمَةِ) (1).والثمرة الاخرى في هذا التقلّب:هو ترسيخ عقيدة التوحيد والإيمان بأن الله تعالى هو المتصرّف بعباده والمدبّر لشؤونهم وهم لا يملكون لأنفسهم شيئاً، هذا المعنى الذي عبّر عنه الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعائه يوم عرفة بقوله (إلهي إنَّ اختلافَ تدبيِركَ وسرعةَ طواءِ مقاديرِكَ منعا عبادَكَ العارفينَ بك عَنِ السُّكونِ إلى عطاءٍ واليأسِ منكَ في بلاءٍ) (2) وقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وورد في نفس الدعاء (الهي علمت باختلاف الآثار وتنقلات الأطوار أن مرادك مني أن تتعرّف اليّ في كل شيء حتى لا أجهلك في شيء) (3).

4إن ثواب العمل يمكن تحصيله وإدامته بالنية، فمادام الإنسان راغبا في عمل ويحب القيام به اذا تحقّق موضوعه –كشهر رمضان وسنحت فرصته فانه يُعطى اجر ذلك العمل وان لم يقم به وان من احبّ عمل قوم أُشرك معهم محباً لعمله فإنه يُشْرَك في أجره كما في الرواية بعد معركة الجمل لما تمنى شخص أن يكون أخوه شاهداً المعركة ليشاركهم الأجر ويفرح بانتصار امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(أهوى أخيك معنا؟ فقال نعم، قال:فقد شَهَدَنا. ولقد شَهَدَنا في عسكرنا هذا أقوامٌ في أصلاب الرجال وأرحام النساء، سيرعف(4) بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان) (5)

ص: 121


1- نهج البلاغة: باب الحكم: الحكمة 194
2- مفاتيح الجنان: دعاء الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في يوم عرفة
3- نفس المصدر
4- يرعف : يجود.
5- نهج البلاغة: الخطبة 12.

وهذا باب واسع من كرم ربِّ العالمين لزيادة رصيد العبد من الطاعات والقربات، ويعبّر الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعائه يوم عرفة عن هذه الحالة (إلهي إنك تعلم أني وإن لم تدم الطاعة مني فعلاً جزماً فقد دامت محبة وعزماً) (1) وهذا الدوام في النية هو ايضاً من لطف الله تبارك وتعالى فكأننا نقدّمه عذراً بين يدي الله تعالى على تقصيرنا في العمل.5إن الله تعالى جعل بكرمه أسباباً اخرى تؤدي هذا الغرض –أي إدامة العمل فبخصوص الصوم ورد أنه (من صام ثلاثة أيام من كل شهر، كان كمن صام الدهر، لأن الله عز وجل يقول "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها")(2) وهي أول خميس وآخر خميس والأربعاء في الوسط، فإذا واظب عليها المؤمن كان في حالة صوم دائم ولم يفقد شيئا وهو من الأعمال التي أكّد عليها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في وصيته لأمير المؤمنين والتي جاء فيها (يَا عَلِيُّ أُوصِيكَ فِي نَفْسِكَ بِخِصَالٍ فَاحْفَظْهَا عَنِّي ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ أَعِنْهُ) الى ان قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (وَأَمَّا الصِّيَامُ فَثَلاثَةُ أَيَّامٍ فِي الشَّهْرِ الْخَمِيسُ فِي أَوَّلِهِ وَالأرْبِعَاءُ فِي وَسَطِهِ وَالْخَمِيسُ فِي آخِرِهِ) (3) ومن البدائل الواردة عن الحج قول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (الجمعة حج المساكين)(4) بل ورد في صحيحه ابي بصير ويونس بن ظبّيان عن أبي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (صلاة فريضة

ص: 122


1- مفاتيح الجنان: دعاء الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في يوم عرفة.
2- ميزان الحكمة/ ص 474 الحديث رقم 10668.
3- الكافىج8 ص79.
4- بحار الأنوار: 89 / 212

أفضل من عشرين حجة وحجة خيرٌ من بيت مملوء من ذهب يتصدق به حتى لا يبقى منه شيء)(1) .6إن للتشريعات الالهية أسراراً وعللاً وأن أوامر الله تعالى ونواهيه لم ترد عبثاً وإنما المصالح ترجع الى العباد {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سبحانك} (آل عمران:191) {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} (المؤمنون:115) فالمطلوب من هذه الأعمال ليس حركاتها الخارجية وشكلياتها فقط وإنما حقائقها، وما هذه الأفعال الخارجية الا وسيلة لتحصيل تلك الحقائق قال تعالى {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} (الحج:37) فأثر الصلاة النهي عن الفحشاء والمنكر {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} (العنكبوت:45) فالغرض من تشريع الصوم هو تحصيل التقوى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:183) وإنما تكتسب هذه الأعمال قيمتها بمقدار تحقق الغرض منها كما في الرواية أن (مَن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلاّ بُعداً) (2) ولما كان المراد من الأعمال هذه الحقائق الواقعية لها فإدامتها يكون بإدامة آثارها، أعني التقوى من الصوم فكلما كان محافظاً على الصوم كان محافظا على التقوى والاحسان في

ص: 123


1- وسائل الشيعة 4 / 40
2- مجمع البيان: 8/ 285

العمل فهو في ضيافة الله تعالى وينهل من موائده المباركة وإن لم يكن في شهر رمضان، وعن ادامة اثر الحج روى في الكافي والتهذيب بالإسناد عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (الحاج لا يزال عليه نور الحج ما لم يلم بذنب)(1) قال تعالى {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (النحل:128).

ص: 124


1- الكافي: 4/ 255

ملحق:زيادة قيمة العمل بإهدائه

(الدنيا مزرعة الآخرة)(1)ومتجر أولياء الله تعالى وقد عبّر القرآن الكريم عن عمل الانسان في الدنيا وسعيه بالتجارة {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم} (الصف:10) {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} (فاطر:29) فمنها يكتسب الانسان نعيم الجنان في الآخرة وفيها يزرع الثمر المبارك الذي يحتاجه في حياته الباقية، وهذه الحقيقة تدفع الانسان الواعي البصير إلى السعي الحثيث لزيادة أرباحه ورصيد حسناته عند الله تبارك وتعالى.

ولزيادة الأرباح اسلوبان:

1 بأن يزيد من اعماله الصالحة ويستثمر كل ما يستطيع من اوقاته في اكتسابها وتجنب السيئات.

2 زيادة قيمة اعماله حتى يحصل على أجر ازيد في نفس العمل.

وكلامنا في الأسلوب الثاني فمثلاً ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(صلاة متطيب أفضل من سبعين صلاة بغير طيب)(2) فمسحة من العطر تضاعف قيمة الصلاة سبعين مرة، وفي حديث آخر عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ركعتان يصليهما متزوج أفضل من سبعين ركعة يصليها غير المتزوج)(3) فالتزويج يضاعف قيمة الصلاة سبعين ضعفاً، وورد في الاحاديث ان الصلاة في المسجد تعدل كذا صلاة في غيره، والصلاة جماعة تعدل كذا، فإذا استطاع

ص: 125


1- عوالي اللئالي: 1/ 267 ح 66
2- الكافي: 6 / 511 / 7
3- بحار الأنوار: 103/ 219 ح 15

المؤمن بالالتزام بهذه الأمور من مضاعفة صلاته الاف المرات بضرب هذه الاعداد ببعضها.ومما يزيد قيمة العمل اهداؤه إلى الآخرين، فان الاجر على العمل يتضاعف بعدد من اهدي إليهم وليس يُقسَّم ثوابه على من اهداه اليهم، لذا ورد الخبر عن أبي الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال أبو عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):لو أشركت ألفا في حجتك لكان لكل واحد حجة من غير ان تنقص حجتك شيئاً)(1) وقد تزيد قيمته اكثر اذا اهداه الى والديه لأنه يكتب له برَّ بهما او إلى قرابته لأنه سيضاف إليه ثواب صلة الرحم ففي صحيحة هشام بن الحكم عن ابي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (في الرجل يشرك أباه وأخاه وقرابته في حجه؟ فقال:اذن يكتب لك حج مثل حجتهم وتزاد أجراً بما وصلت)(2).

ومما ورد في ذلك (موثقة إسحاق بن عمار عن ابي إبراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:سألته عن الرجل يحج فيجعل حجته عمرته أو بعض طوافه لبعض اهله وهو عنه غائب ببلد آخر ،قال:قلت:فينقض ذلك من أجره؟ قال:لا هي له ولصاحبه وله أجر سوى ذلك بما وصل، قلت:وهو ميت هل يدخل ذلك عليه؟ قال:نعم، حتى يكون مسخوطاً عليه فيغفر له، أو يكون مضيقاً عليه فيوسع عليه، قلت:فيعلم هو في مكانه أن عمل ذلك لحقه؟ قال:نعم، قلت:وإن كان ناصبياً ينفعه ذلك؟ قال:نعم، يخفف عنه)(3) .

ص: 126


1- و (2) و(3) الكافي: ج2 من الفروع، كتاب الحج، باب: من يشرك قرابته وإخوته في حجته أو يصلهم بحجة، الأحاديث: ح4،ح6،ح10

وأفضل ما يكون الاهداء والنيابة عن المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فقد روى عن موسى بن القاسم قال: (قلت لابي جعفر الثاني (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):قد أردت أن أطوف عنك وعن أبيك فقيل لي:إن الاوصياء لا يطاف عنهم، فقال لي بل طف ما أمكنك فإنه جائز. ثم قلت له بعد ذلك بثلاث سنين:إني كنت أستاذنتك في الطواف عنك وعن أبيك فأذنت لي في ذلك فطفت عنكما ما شاء الله ثم وقع في قلبي شيء فعملت به قال:وما هو؟ قلت:طفت يوما عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال:ثلاث مرات صلى الله على رسول الله، ثم اليوم الثاني عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ثم طفت اليوم الثالث عن الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والرابع عن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والخامس عن علي ابن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والسادس عن أبي جعفر محمد بن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واليوم السابع عن جعفر بن محمد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واليوم الثامن عن أبيك موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واليوم التاسع عن أبيك علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واليوم العاشر عنك يا سيدي وهؤلاء الذين أدين الله بولايتهم فقال:إذن والله تدين بالدين الذي لا يقبل من العباد غيره، قلت:وربما طفت عن أمك فاطمة (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وربما لم أطف، فقال:استكثر من هذا فإنه أفضل، ما أنت عامله إن شاء الله)(1) .وتذكر بعض الروايات ثواباً عظيماً لمن يهدي الاعمال الصالحة للمعصومين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بان يكون معهم في درجتهم فقد روى علي بن المغيرة، عن أبي الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:قلت له:إن أبي سأل جدك، عن ختم القرآن في كل ليلة، فقال له جدك:كل ليلة، فقال له:في شهر رمضان، فقال له جدك:في شهر رمضان، فقال له أبي:نعم ما استطعت.

ص: 127


1- فروع الكافي: ج2 ، كتاب الحج، باب الطواف والحج عن الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ، ح 2.

فكان أبي يختمه أربعين ختمة في شهر رمضان، ثم ختمته بعد أبي فربما زدت وربما نقصت على قدر فراغي وشغلي ونشاطي وكسلي فإذا كان في يوم الفطر جعلت لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ختمة ولعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أخرى ولفاطمة (س) أخرى، ثم للأئمة (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حتى انتهيت إليك فصيرت لك واحدة منذ صرت في هذا الحال - أي منذ التفت إلى ولايتكم أو الى هذه الفكرة - فأي شيء لي بذلك؟ قال:لك بذلك أن تكون معهم يوم القيامة، قلت:الله أكبر فلي بذلك؟! قال:نعم، ثلاث مرات)(1) .وهذا كله من فضل الله تعالى وكرمه، وفي الحديث القدسي (إنما خلقت الخلق ليربحوا علىّ ولم أخلقهم لأربح عليهم)(2) .

وقد اشرت في بحثي الفقهي عندما تناولت مسألة (الفصل بين عمرتين)(3) إلى ما يذهب إليه المشهور من عدم صحة العمرتين في شهر واحد وانا أخالفهم في ذلك ولكن على المشهور فليس الاجراء الصحيح أن نعتمر مرة واحدة في شهر ما ثم ننتظر دخول الشهر الثاني للاعتمار مرة ثانية، بل الصحيح أن نكرر العمرة ولو في كل يوم مرة أو مرتين لكن بالنيابة عن المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، لأن ما اشترطوه من الفصل بين عمرتين بشهر واحد كاف عن نفسه اما النيابة فله أن يكرّرها.

ص: 128


1- الكافي: ج 2 ، ص 618
2- جامع السعادات - محمد مهدي النراقي - ج 1 - ص 228
3- راجع: فقه الخلاف: 7/ 425, ط. الثانية

القبس/165: سورة المُلك:13

اشارة

{وَهُوَ اللَّطِيفُ}

موضوع القبس: دلالات معنى اسم اللطيف

قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك:14) ونريد في هذا القبس أن نستوحي دلالات ومعاني اسم اللطيف الذي هو من الأسماء الحسنى وقد تكرر ذكره في القرآن الكريم كقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (الحج:63) (لقمان:16) {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} (الأحزاب:34) وغيرها كما سياتي.

واللطيف صفة مشبهة على وزن فعيل بمعنى اسم الفاعل مثل شهيد بمعنى شاهد للدلالة على ثبات الصفة ورسوخها، ومنشأ الاسم أكثر من وجه:

الأول: إن اللطيف هو كل ما خفي عن الحواس لدقته أو شفافيته أو أي سبب آخر بحيث تعجز عن إدراكه، والله تبارك وتعالى لطيف بهذا المعنى فهو لا تدركه الأبصار وبَعُد حتى عن خطرات الظنون، وهذا المعنى ورد في قوله تعالى {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الأنعام:103) .

الثاني: إنه تعالى لطيف لعلمه بالأشياء اللطيفة أي الدقيقة وإحاطته بها وفي

ص: 129

الحديث عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إنما قلنا اللطيف، للخلق اللطيف، ولعلمه بالشيء اللطيف)(1) وهو المعنى الذي تساءلت عنه الآية محل البحث باستنكار {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك:14) وفي قوله تعالى {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (لقمان:16) فهو سبحانه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.الثالث: وهو سبحانه لطيف لأن تدابيره لعباده لطيفة لا تتوصل اليها المخلوقات لذا عبَّر تعالى عن تدبيره للنبي يوسف (صلوات الله عليه) حين القاه اخوته في الجب واذا به يصبح عزيز مصر، قال تعالى {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (يوسف:100) وأمثلة تدابيره اللطيفة بخلقه تفوق حد الإحصاء في كل مخلوق فضلاً عن جميع خلقه كما في الشعر المنسوب(2) لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):

وَكَم لِلّهِ مِن لُطفٍ خَفيٍّ *** يَدِقُّ خَفاهُ عَن فَهمِ الذَكيِّ

وَكَم يُسرٍ أَتى مِن بَعدِ عُسرٍ *** فَفَرَّجَ كَربَهُ القَلبُ الشَجيِّ

وَكَم أَمرٍ تُساءُ بِهِ صَباحاً *** وَتَأتيكَ المَسَرَّةُ بِالعَشيِّ

إِذا ضاقَت بِكَ الأَحوالُ يَوماً *** فَثِق بِالواحِدِ الفَردِ العَلِيِّ

ص: 130


1- التّوحيد للشيخ الصدوق: الجزء: 1، الصفحة: 186
2- اعيان الشيعة: 7/ 306، وفيه تخميس الأبيات للشاعر سليمان السراوي

تَوَسَّل بِالنَبِي فكُلُّ خَطبٍ *** يَهونُ إِذا تُوُسِّلَ بِالنَبيِّ

وَلا تَجزَع إِذا ما نابَ خَطبٌ *** فَكَم لِلّهِ مِن لُطفٍ خَفيِّ

واللطائف القرآنية هي المعاني الدقيقة التي لا يلتفت اليها الا ذو البصيرة النافذة.

الرابع: وهو عظمت الاؤه لطيف لأنه رفيق بمخلوقاته من اللطف وهو الرفق، قال تعالى {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} (الشورى:19) والله لطيف بعباده ومخلوقاته أي رفيق بهم فينعم عليهم بما ينفعهم وما فيه صلاحهم في دنياهم وآخرتهم من حيث لا يعلمون ولا يحتسبون.

ويمكن إرجاع بعض المعاني الى بعض، فالألطاف الإلهية بالعباد خفية لا يدركونها وهم يتنعمون فيها رفقاً بهم فاللطف يتضمن معنيين: الدقة والرفق ففيه معرفة دقيقة وإحاطة بالأشياء واتخاذ التدابير الرفيقة العطوفة الودودة اللينة، ولذا اقترن اسم اللطيف بالخبير في الآيات الكريمة، لأن تحقق اللطف يستلزم الإحاطة والخبرة. في حديث عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (واما الخبير فالذي لا يعزب عنه شيء ولا يفوته ليس للتجربة ولا للاعتبار بالاشياء)(1).

الخامس: اللطف في المصطلح الكلامي هو كل ما يقرّب من الطاعة ويبعّد عن المعصية قال تعالى {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي

ص: 131


1- الكافي: الجزء: 1، صفحة: 122

قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} (الحجرات:7) من دون أن يصل إلى درجة الإلجاء وسلب الاختيار لمنافاته لاستحقاق الثواب والعقاب ولذا ورد في الرواية (لا جبر ولا تفويض، قلت: فماذا؟ قال: لطف من ربك بين ذلك)(1).وألطاف الله تبارك وتعالى على العبد لا تعد ولا تحصى، فخلقه وايجاده لطف إذ لو كان معدوماً لما استطاع أن يعمل ويتكامل، والهداية إلى الإيمان بالله ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لطف، فلو لم يهدنا الله تبارك وتعالى لما عرفنا الطريق الموصل إلى الكمال {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} (الأعراف:43)، وأعضاء البدن لطف إذ لو لم يكن له بدن لما استطاع أن يقوم بالعبادات المقرّبة لله تبارك وتعالى، والمال لطف فبدونه لا يستطيع الإتيان بالكثير من القربات كالحج والزيارة والإنفاق في سبيل الله تعالى والتوسعة على العيال إلى مالا يحصى من الألطاف المقربة من الطاعة والمعينة عليها.

والأدعية والمناجاة وسائر الأذكار لطف، إذ بدونها لا نعرف ماذا نقول بين يدي الله تبارك وتعالى وما هو مقتضى آداب العبودية، بل لا نعلم هل يحق لنا أن نقف بين يديه تبارك وتعالى ونخاطبه، ونحن نرى أن إنساناً وضيعاً يتبوأ موقعاً لا قيمة له كوزير أو ملك، يوضع (أتكيت) لزيارته ومحادثته والآداب الواجب إتباعها بحضرته، بينما نخاطب رب

ص: 132


1- الكافي: الجزء 1 :، صفحة : 159.

العالمين متى شئنا وبما شئنا وبأي لغة نشاء (الحمد لله الذي ادعوه فيجيبني، وإن كنت بطيئاً حين يدعوني، والحمد لله الذي اسأله فيعطيني وان كنت بخيلاً حين يستقرضني، والحمد لله الذي اناديه كلما شئت لحاجتي، واخلو به حيث شئت لسري بغير شفيع، فيقضي لي حاجتي)(1) وهو جل جلاله يقبل علينا ويسمع منا ويبادلنا من الحب والرحمة أكثر مما نعطي، وهذا اللطف عبَّر عنه الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في مناجاة الذاكرين بقوله (ومن أعظم النعم علينا جريان ذكرك على ألسنتنا، وإذنك لنا بدعائك وتنزيهك وتسبيحك)(2).ومن أعظم الألطاف الإلهية البعثة النبوية الشريفة، فقد شكلت أعظم نقلة في تاريخ البشرية لأمة كانت متهرئة متخلفة يقتل بعضها بعضاً وتتفاخر بالموبقات والجرائم كوأد البنات والزنا وشرب الخمر وهي مشتتة متفرقة أحاطت بها دول قوية تنهشها، حوت جميع المنكرات والمفاسد، فأصبحت ببركة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أمة متحضرة مدنية تقود العالم وتهدي البشرية وتقدم لبني الإنسان أعظم قانون يكفل السعادة والصلاح.

ولو لم يبعث النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتُركت الجاهلية على حالها فإنه لا يعلم إلا الله تعالى ما صرنا إليه اليوم، إذا كان حال أولئك وهم أقرب عهداً للرسالات والديانات السماوية ولهم فرص أقل من الفساد هو ما ذكرناه

ص: 133


1- مفاتيح الجنان: دعاء ابي حمزة الثمالي
2- الصحيفة السجادية: مناجاة الذاكرين (13)

فكيف إذا طال عليهم الأمد إلى اليوم مع تنوع أدوات الضلال والفساد والجريمة وتقنينه بالشكل المذهل الذي نعاصره.فكل خير يصل إلينا وكل مكرمة يمكن أن توجد فينا بل كل وجودنا فنحن مدينون بفضله لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبركات بعثته الشريفة، التي هي من الألطاف الإلهية الخاصة لهذه الأجيال، فاعرفوا حق رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأكثروا من الصلاة عليه والدعاء له.

وهنا نشير إلى نكتة وهي أن اسم (اللطيف) يستعمل في موارد اللطف، وهذا من بلاغة القرآن الكريم حيث تنتهي الآية بما يناسب مضمونها، فإذا كان المضمون حكماً صارماً وموقفاً حازماً (كآية القطع في السرقة فإنها تنتهي بالعزيز الحكيم، وإذا كان مورد رحمة ورفق انتهت بالرؤوف الرحيم، وعلى هذا جرت السنة الشريفة، فدققوا في الموارد التي ذكر فيها اسم (اللطيف) لتعرفوا موارد اللطف، وأوضحها في أذهانكم حديث الثقلين المشهور الذي ألزم الأمة بالتمسك بالثقلين وفيه (وقد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)(1).

وأي لطف أعظم على الأمة بعد البعثة النبوية الشريفة من لطف الثقلين القرآن والإمامة؟

ونريد هنا أن نأخذ درسين من هذا الاسم المبارك (اللطيف):

1 إننا أمرنا بالتخلق بأخلاق الله تبارك وتعالى كما ورد في الحديث

ص: 134


1- بحار الأنوار: الجزء 37 - الصفحة 114

الشريف (تخلّقوا بأخلاق الله)(1) وأن نتصف بأسمائه الحسنى، ومنها هذا الاسم المبارك (اللطيف) فإن الله تعالى لطيف بعباده يقربهم من الطاعة ويبعدهم عن المعصية، وخصوصاً أنتم أتباع أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فإنكم تحظون بألطاف خاصة دون غيركم لذا تجدون هذا الحماس والاندفاع والتضحية في سبيل الله تعالى مما لا يوجد عند غيركم وهذا يكشف عن هذه الألطاف الخاصة.فلا تتهيبوا أي طاعة ولا تستصعبوها بل أقدموا عليها وأحبّوها وتشوقوا إليها فإنها مهما كانت صعبة كالحج -- مثلاً -- الذي يجمع مشاق كل العبادات وقد تكفل الله تعالى بتيسيره وتذليل صعوباته، وحتى لو لم تتمكنوا من أداء الطاعة فانووا فعلها فإنكم تؤجرون على النية، فقد ورد في الحديث الشريف: عن الامامين الباقر او الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ان الله تبارك وتعالى جعل لآدم في ذريته أن من همَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن همَّ بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه، ومن همَّ بها وعملها كتبت عليه سيئة)(2).

وكونوا ممن يلبي دعوة الله تعالى إلى الطاعة وامتثلوا قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال:24) وقوله تعالى {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ} (الشورى:47)، ولا

ص: 135


1- بحار الأنوار: الجزء 58 - الصفحة 129.
2- وسائل الشيعة: 1/ 51 أبواب مقدمة العبادات، باب 6 ح6.

تلتفوا إلى الشيطان الذي يعمل عكس ذلك فيزيّن المعصية والفسوق ويصعّب الأعمال الصالحة ويجعل أمام الإنسان الاحتمالات والتصورات السيئة ويثير في النفس المخاوف والقلق والمثبطات {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} (الأنفال:48) .يضرب لنا الله تبارك وتعالى مثلاً من بني إسرائيل لأنحاء من التقاعس عن الطاعة بسبب تثبيط الشيطان، قال تعالى حاكياً عن نبيه الكريم موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقومه {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} (المائدة: 2122).

وهذا هو موقف أغلب الناس مع الأسف، لكن الأرض لا تخلو من المخلصين الصادقين {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (المائدة:23)، فالمطلوب منك الإقدام على الطاعة وعدم التهيب وامتلاك الحزم والشجاعة ودخول الباب كما في الآية وسيمنحكم الله تعالى القوة والغلبة وإنجاز العمل بفضله وكرمه.

فليكن كل منا لطيفاً بهذا المعنى أي يكون مقرباً للناس من الطاعة ويزينها لهم وييّسرها لهم بتهيئة اسبابها ويحثهم عليها، ويبعدهم عن

ص: 136

المعصية ببيان مساوئها وأضرارها وأخطارها في الدنيا والآخرة ويوجد البدائل الصالحة عنها، كمن يؤذِّن لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة ودعوتهم اليها، او يشوِّق الآخرين للحضور في المساجد والمشاركة في صلوات الجمعة والجماعة لما فيها من البركات والثواب او يتبرع بأجور سيارة لنقل الزائرين الى مشاهد المعصومين (سلام الله عليهم) أو يدفع نفقات حاج او معتمر او يسعى لتزويج مؤمن ومؤمنة عفّاً عن الحرام ولم يستطيعا الزواج ونحو ذلك. وليعرف من يعمل على عكس ذلك بانه يثبّط عزائم المؤمنين عن فعل الطاعات أنه بعيد عن الله تعالى وغير متصف بأسمائه، كما نرى من بعض المتدينين صدور بعض التصرفات المنفرة عن الدين بحيث أن البعض ممن يراد هدايتهم ودعوتهم إلى الالتزام بالدين يجيب: لا حاجة لي بالدين وانظر إلى المتدينين كيف يفعلون كذا وكذا.

وهو مخطئ طبعاً بهذا التصور، ولكن هذه النتيجة قد حصلت على أي حال.

وقد يحصل التنفير من الطاعة بأن نحمل الناس ما لا يطيقون ولا نراعي الدرجات المتفاوتة لإيمانهم، فنثقل مثلاً على الشباب المهتدي حديثاً للإيمان بقائمة طويلة من المستحبات والمكروهات ونحاسبه على بعض تصرفاته التي يمكن غض النظر عنها فينفر منها ومن الواجبات أيضاً.

إن كلاً منكم يستطيع أن يحقق صفة (اللطيف) بحسب عنوانه وموقعه ومساحة تأثيره ولا أقل من نفسه أولاً ثم أسرته وأصدقائه وزملائه في

ص: 137

العمل، ولعل الحوزة العلمية تتمتع بأوسع الفرص من هذه الناحية، ومعها النخبة الواعية المتفقهة من أبناء المجتمع.2 إن هذا الاسم المبارك دليل على وجود الامام المهدي المنتظر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واستمرار المرجعية الدينية الرشيدة النائبة عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالنيابة العامة. وبيان ذلك: أن اللطف واجب على الله تعالى كما يقولون في كتب العقائد. بمعنى أنه سبحانه كتب على نفسه اللطف بعباده وقد ظهر هذا - فيما ظهر في بعث الأنبياء وإرسال الرسل وإنزال الكتب، ثم واصلها بنصب الأئمة الطاهرين (سلام الله عليهم).

ولا ينقطع اللطف بانقطاع الوجود الظاهري للأئمة (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لأن أسماء الله الحسنى ثابتة له تبارك وتعالى، فاللطف يقتضي وجود امتداد لهذه السلسلة المباركة من الأنبياء والأئمة متمثلاً بالعلماء السائرين على نهجهم والمقتفين لآثارهم ولا تخلوا الأرض منهم، ومرور أربعة عشر قرناً حافلة بالأساطين منهم شاهد على ذلك وسيبقى حتى ظهور القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف).

وعلى هذا فمن يقول: أننا لا نحتاج إلى المرجعية وأننا مستغنون عن تقليد أحد من مراجع الدين لأن عندنا من الرسائل العملية ما يكفينا، أو أنه لا توجد مرجعية نقلدها، فمثل هذا بعيد عن الصواب ولو حللنا كلامه فإنه ينكر هذا اللطف الدائم من اللطيف الخبير والعياذ بالله.

ص: 138

القبس/166: سورة المُلك:30

اشارة

{قُل أَرَءَيتُم إِن أَصبَحَ مَاؤُكُم غَورا فَمَن يَأتِيكُم بِمَاء مَّعِينِۢ}

من النعم الإلهية:

الماء من النعم الإلهية العظيمة التي يغفل عنها الإنسان لاعتياده لها وتوفرها حوله، فالماء قوام الوجود في هذه الدنيا وبه تقوم الحياة ولا يمكن للمخلوقات (بشراً وحيوانات ونباتات) أن تحيا إلاّ بالماء، قال تعالى {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْء حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ٍ} (الأنبياء:30) وقال تعالى {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء} (النور:45).

وقد ذكر الله تعالى الماء في القرآن الكريم في عشرات المواضع ليذكّر الناس بهذه النعمة لعلهم يتعظون ويعودون إلى ربهم قال تعالى {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ، لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} (الواقعة:6870) {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} (النمل:60) {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (العنكبوت:63) {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى

ص: 139

الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ} (السجدة:27).

تأثير الماء في الناس:

وتأثير الماء في حياة الإنسان واسع جداً فبه يتطهّرون ومنه يشربون وبه يهيئون طعامهم ويحمل أثقالهم إلى بلد لم يكونوا بالغيه إلاّ بشقّ الأنفس ويستخرجون منه لحماً طريّاً وحليّة يلبسونها، ويضفي جمالاً وسعادة على الحياة:

ثلاثة للناس ينفين الحزن *** الماء والخضراء والوجه الحسن

فلابد أن نستذكر عظيم نعمة الله تعالى عند تناول الماء أو استعماله ونتلذّذ بذكر الله وعظيم نعمته، في ثواب الأعمال عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(من تلذّذ بالماء في الدنيا لذّذه الله (تعالى) من أشربة الجنّة)(1).

التأويل المعنوي للماء:

ولا ينبغي أن نغفل عن التأويل المعنوي للماء في الآيات الكريمة والروايات الشريفة حيث يراد به العلم والمعرفة التي تُحيي قلب الإنسان وتُسعده في حياته المعنوية، ووجه المقاربة أنّ الماء قوام الحياة الطبيعية، والمعرفة قوام الحياة المعنوية فيتشابهان من جهة كونهما قوام الحياة في عالمهما المناسب لهما.

وكثيراً ما يعتمد القرآن الكريم أسلوب ضرب الأمثلة لتقريب الفكرة، والاحتجاج بالمثال للنقض على المنكرين والمشكّكين، كمن ينكر البعث يوم

ص: 140


1- سفينة البحار: 8/ 143.

القيامة فيمثّل له بالأرض الميّتة التي نزل عليها الماء وإذا هي اهتزّت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج وهكذا، ومن ثمرات ضرب الأمثلة فتح الذهن أمام طلاب الكمالات للتأمّل في المعارف الإلهية كقوله تعالى {وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (البقرة:164) فتأويلها أن لا ييأس المذنبون الذين جفّت أرض نفوسهم من حياة الإيمان والحبّ الإلهي من أن تشملهم الرحمة واللطف الإلهي فينزل عليهم ماء المعرفة فينبت فيها الإيمان والحب ويزدهر القلب.وفي تفسير قوله تعالى {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً} (الرعد:17) قال علي بن إبراهيم (أنزل الحق من السماء فاحتملته القلوب بأهوائها، ذو اليقين على قدر يقينه، وذو الشك على قدر شكّه، فاحتمل الهوى باطلاً كثيراً وجفاءا، فالماء هو الحق، والأودية هي القلوب، والسيل هو الهواء، والزبد هو الباطل)(1).

وفي قوله تعالى {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً} (الجن:16) ورد تفسير(2) الطريقة بولاية أمير المؤمنين والمعصومين من بنيه (صلوات الله عليهم أجمعين) والماء بالإيمان والعلم الذي يتلقونه من الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).

وكالآية محل البحث فإن ظاهرها الامتنان على العباد والاحتجاج عليهم

ص: 141


1- المصدر: 5/ 200.
2- المصدر: 10/ 48.

وتذكيرهم بهذه النعمة العظيمة التي تعرف قيمتها فيما لو تصوّروا فقدانها بأن يصبح الماء غائراً في الأرض فلا يستطيعون تحصيله قال تعالى {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً} (الكهف:41) فلو لم تكن في الأرض خاصية عدم النفاذ لما بقي الماء على سطحها لتتناولوه لأنه سيغور في أعماق الأرض، ولو لم تكن فيه خاصية النفاذ لبقي جميع الماء على سطحها وغرقت اليابسة كلها، أما تأويلها فقد وردت فيه الرواية عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قُلت:ما تأويل قول الله عز وجل {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ}؟ فقال:إذا فقدتم إمامكم فلم تروه فماذا تصنعون) وفي رواية عن الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قوله تعالى {فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ} قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (يعني بعلم الإمام)(1).

الماء والأحكام الصحية والاجتماعية:

ولارتباط الماء بتفاصيل الشؤون الحياتية للإنسان فقد ورد الكثير من الروايات الشريفة لبيان أحكامه وآدابه، وأول ما تبدأ كتب الفقه بأحكام المياه لاشتراط العبادات بالطهارة، وتناولت آداب شرب الماء الصحية والاجتماعية والمعنوية، كما تعرضت لأحكام استعمال الماء والتصرّف فيه باعتباره من المباحات العامة واشتراك الناس فيه على حد سواء.

وقد نظم المرحوم الفقيه الشيخ محمد علي الأعسم آداب شرب الماء في أرجوزته في الأطعمة والأشربة، ومما قال (قدس سره):

ص: 142


1- راجع الروايات ومصادرها في تفسير البرهان: 9/ 348 350.

سيدُ كلِّ المائعات الماءُ *** ما عنه في جميعها غناءُ

أما ترى الوحيَ إلى النبي *** منهُ جعلنا كلّ شيء حيِّ

ويكره الإكثار منه للنصِّ(1) *** وعبُّه أي شربه بلا مصِّ

يروى به التوريث للكُبادِ *** بالضمِّ أعني وجعُ الأكبادِ

ومن ينحيه ويشتهيه *** ويحمدُ الله تعالى فيه

ثلاث مرات فيروى أنّه *** يوجب للمرء دخول الجنّة(2)

وفي ابتداء هذه المرّات *** جميعها بسمل لنص آتِ

وليجتنب موضع كسر الآنية *** وموضع العروة للكراهية

تشربه في الليل قاعداً لما *** رووه واشرب في النهار قائما

ويندُب الشرب لسؤر المؤمن *** وان أدير يُبتدأ بالأيمنِ

من أفضل الآداب ذكر الإمام الحسين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):

ومن أفضل الآداب والسنن عند شرب الماء ذكر الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والسلام عليه وعلى الشهداء بين يديه، لأنّ ذكر الماء يلازم ذكر الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فلا يكاد يُذكر الماء أو يُشرب أو يُلتذّ ببارده إلا ويستحضر الموالي ذكر الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لأنه حُرم منه حتى قُتل ظمآناً إلى جنب الفرات، لقد حرموا الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من الماء وهو الإمام المعصوم حجة الله في أرضه الذي

ص: 143


1- في المحاسن عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إياكم والإكثار من الماء فإنّه مادة لكل داء) وعن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إذا أكل الدسم أقلّ من شرب الماء ويقول: هو أمرأ لطعامي وفي طب الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من أراد أن لا تؤذيه معدته فلا يشرب بين طعامه ماءاً حتى يفرغ).
2- روي (من شرب الماء فنحاه وهو يشتهيه فحمد الله يفعل ذلك ثلاثاً وجبت له الجنة) (سفينة البحار: 8:143).

خلق الكون لأجلهم،مضافاً إلى أنّ له (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أكثر من حق خاص وعام فيه(1)، فله حق خاص في نهر الفرات باعتباره مهر أمّه الزهراء (س)، وله حق خاص على أهل الكوفة لأنّه سقاهم في صفّين وسقى طليعة الجيش بقيادة الحر في القادسية أثناء الطريق وله حق عام لشموله مع كل الناس باعتبار ما ورد في النبوي الشريف (ثلاثة أشياء الناس فيها شرع سواء الماء والكلأ والنار) وله حق عام يشترك به مع كل ذي روح حتى الحيوان لوجوب حفظ حياته لذا لو دار استعمال الماء بين الوضوء وحفظ حياة حيوان محترم وجب صرفه في الثاني.يقول الشيخ الشوشتري، مقابل هذه الحقوق الأربعة التي ضيّعوها جعل الله تعالى له مياهاً أربعة، ماء الكوثر فقد كان شهداء كربلاء يسقون منها قبل خروجهم من الدنيا كما أخبر علي الأكبر، وماء الدموع فهو (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قتيل العبرة ما ذكره مؤمن إلاّ استعبر وماء الحيوان في الجنان يمزج بدموع الباكين ليزيد من عذوبته وفيه رواية معتبرة، وكل ماء بارد يشربه محبّوه والموالون له فإن للحسين حق ذكره عند شربه.

التأسيس لذكر الإمام الحسين ع:

وقد أسّس الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هذه السنة الشريفة وحادثته في سوق القصّابين معروفة، وروى داود الرقي قال (كنت عند الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فشرب ماء واغرورقت عيناه بالدموع فقال:ما أنغص ذكر الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) للعيش إني ما

ص: 144


1- أشار إلى هذا المعنى المرحوم الشيخ جعفر الشوشتري في كتاب الخصائص الحسينية 117 الموضوع الرابع.

شربتُ ماءاً بارداً إلاّ وذكرت الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)(1)، أي أنّ ذكر مصيبة الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) نغّص عليّ حياتي وأنا دائم الذكر لها.

إذا شربتم عذب ماء فاذكروني:

وقد أحبّ الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من شيعتهم هذا التذكر ووعدوهم بالأجر العظيم فروي أن (من شرب الماء فذكر الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولعن قاتله كتب له مائة ألف حسنة وحُطّ عنه مائة ألف سيئة ورفع له مائة ألف درجة وكأنما أعتق مائة ألف نسمة)(2) وروي عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مثل ذلك بزيادة (وحشره الله يوم القيامة ثلج الفؤاد).

وإلى هذا المعنى أشار المرحوم الأعسم:

والماء إن تفرغ من الشراب له *** صلِّ على الحسين والعن قاتله

تؤجر بآلافٍ عدادها مائة *** من عتق مملوك وحط سيئة

ودُرُج وحسنات ترفعُ *** فهي إذا مئاتُ ألف أربعُ

وقد نقل عن الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله بلسان الحال:شيعتي ما إن شربتم عذب ماء فاذكروني(3).

فضل الحسين ع على المسلمين:

أداءاً لحقّه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على جميع البشرية بل المخلوقات وليس على شيعته فقط

ص: 145


1- أمالي الصدوق: 122، كامل الزيارات:106 وأورده عنهما في البحار: 44/ 303.
2- سفينة للبحار: 8/ 144.
3- الخصائص الحسينية: 183 عن مصباح الكفعمي: 741.

واستذكاراً لموقفه العظيم وطلباً لما تقدم ذكره من الأجر الكبير، والمهم أن نلتفت إلى التأويل(1) المعنوي لهذا التذكر بأن نتذكر الحسين ونصلّي ونسلّم عليه كلما استفدنا من علوم أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ومعارفهم وكلما نفحتنا الألطاف الإلهية وكلما عمر زمان كشهر رمضان أو شهري محرم وصفر، أو مكانٌ كمسجد أو حسينية بذكر الله تعالى، لأن هذا الماء المعين العذب سقينا به ببركة أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، ولولا تضحياته لا ندرس الدين من ذلك الزمان وعاد الناس إلى أشنع من جاهليتهم الأولى، وشعر يزيد يشهد بذلك:لعبت هاشم بالملك فلا *** خبر جاء ولا وحي نزل(2)

لستُ من خندق إن لم أنتقم *** من بني أحمد ما كان فعل

قد قتلنا القرم من ساداتهم *** وعدلناه ببدر فاعتدل

وهذا هو تأويل الآية التي جعلناها عنوان البحث فإن الدين لو اندرس بفعل آل أمية وأمثالهم من الطواغيت ولم ينهض الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فمن الذي كان سيأتينا بهذه العلوم والمعارف والأحكام الإلهية.

تأويل الماء بالإمام المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)

وجاء تأويلها أيضاً بالإمامة وولاية أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وعليه حُمل القول المشهور (ما عرض الماء على عاقل فأبى) أي ولاية أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فإنها لا يرفضها

ص: 146


1- التفت إلى هذا المعنى المرحوم السيد عبد الحسين دستغيب في كتاب (سيد الشهداء عقائد ومفاهيم:31).
2- مقاتل الطالبيين الأصفهاني: 80

عاقل، وورد تفسير الآية في بعض الروايات بغَيبة الإمام المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (نزلت في الإمام القائم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول:إن أصبح إمامكم غائباً عنكم لا تدرون أين هو؟ فمن يأتيكم بإمام ظاهر يأتيكم بأخبار السماوات والأرض، وحلال الله وحرامه؟ ثم قال:والله ما جاء تأويل هذه الآية ولابد أن يجيء تأويلها)(1). وهكذا كل مصادر الهداية والصلاح إن فقدتموها فمن يأتيكم بها إلاّ الله تبارك وتعالى. فاشكروا الله تعالى ليديم بركتها عليكم.

ص: 147


1- كمال الدين وتمام النعمة الصدوق: 354

القبس/167: سورة القلم:4

اشارة

{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}

معجزة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في أخلاقه

الآية تخاطب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهي تقع ضمن مجموعة من الآيات الكريمة التي يظهر منها أنها نزلت لتسليته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتطييب خاطره والدفاع عن حريمه المقدَّس بعد الهجمات الشرسة التي شنها عليه طواغيت قريش فرموه بكل وصف قبيح لتنفير الناس عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)وعدم الاصغاء اليه{مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ، وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} (القلم:23) فالآية تعطيه أعظم المقامات واختار الله تعالى من بينها أن يصفه بهذه الخصلة العظيمة.

وفي الآية تأكيد بعد تأكيد على اخلاقه العظيمة باستعمال (إِنَّ) و(اللام) ثم صيغة الوصف (عَلَى خُلُقٍ) لتدل على رسوخها وثباتها فيه بحيث أنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تمكّن منها واستعلى عليها وجعلها تحت سلطته وتحولت الى ملكات وسجايا ذاتية، ولو قال (إن لك خلقاً عظيماً) فانها تدل على الاتصاف من دون إفادة الثبات واللزوم إذ ان ما يملك يمكن ان يفقد.

ص: 148

وكيف لا يكون (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على هذه الاخلاق العظيمة وقد صنعهُّ ربه بيديه وأدّبه وربّاه وبلغ به الغاية فيما يريد قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (أدبني ربّي فأحسن تأديبي)(1) حتى بلغ الكمال، روي عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (إن الله تبارك وتعالى أدبَّ نبيّه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فلما انتهى به الى ما أراد قال الله تعالى له {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(2) وفي رواية أخرى عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إن الله عزوجل:أدبَّ نبيه فأحسن أدبه، فلما أكمل له الأدب قال:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(3) وقال تعالى في ذلك {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} (آل عمران:159) فما ناله النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان برحمة الله تعالى وحسن رعايته.وعنوان حسن الخلق وان كان عاماً يشمل كل الاخلاق الحسنة والسجايا الكريمة، الا انه يطلق غالباً على جزء خاص منها وهو حسن المعاشرة مع الناس ومخالطتهم بالجميل والإحسان وبهذا اللحاظ يذكر حسن الخلق في عرض اخلاق حسنة أخرى رغم أنه يشملها بعنوانه العام كقول الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اربع من كنّ فيه كمل ايمانه وإن كان من قرنه الى قدمه ذنوباً لم ينقصه ذلك قال:وهو الصدق وأداء الأمانة والحياء وحسن الخلق)(4) ولعل مراده (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بقوله (وإن كان) مجرد فرض او

ص: 149


1- مجمع البيان: 10/ 50، بحار الأنوار: 68/ 382
2- أصول الكافي: 1/ 266
3- أصول الكافي: 1/ 266
4- أصول الكافي: 2/ 99، ح3 باب حسن الخلق.

المبالغة والا فأن صاحب هذه الخصال لا يكون كذلك لأن كل صفة من الأربع كفيلة بمعالجة الكثير من الذنوب كما هو واضح. وتشير الروايات أيضاً إلى ان هذا المعنى الذي ذكرناه لحسن الخلق هو المقصود في الآية فقد روى البرقي في بصائر الدرجات عنهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إن الله أدبّ نبيّه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فأحسن تأديبه فقال {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف:199) فلما كان ذلك انزل الله {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(1) .

وروي أيضاً ان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان يمشي ومعه بعض أصحابه فأدركه اعرابي فجذبه جذباً شديداً، وكان عليه بُرد نجراني غليظ الحاشية فأثرّت الحاشية في عنقه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من شدة جذبه، ثم قال:يا محمد هب لي من مال الله الذي عندك، فالتفت اليه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فضحك ثم أمر باعطائه، ولما اكثرت قريش اذاه وضربه قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):اللهم اغفر لقومي فأنهم لا يعلمون فلذلك قال الله تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (2) .

ويؤيد كون المراد من الآية هذه الاخلاق وليست كل الاخلاق الحسنة التي اتصف بها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنها الأنسب بسياق السورة التي تقارن بين سلوكه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وسلوك المشركين وعاقبة كل منهما،، قال السيد الطباطبائي (قدس) (والآية وإن كانت في نفسها تمدح حسن خلقه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)

ص: 150


1- بصائر الدرجات: 378
2- تنبيه الخواطر: 1/ 99

وتعظمه غير أنها بالنظر الى خصوص السياق ناظرة الى اخلاقه الجميلة الاجتماعية المتعلقة بالمعاشرة كالثبات على الحق والصبر على اذى الناس وجفاء اجلافهم والعفو والاغماض وسعة البذل والرفق والمداراة والتواضع وغير ذلك)(1) .أقول:لكن هذا كله لا يقيّد اطلاق اخلاقه وليست كل الاخلاق الحسنة التي اتصف بها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) العظيمة على جميع المستويات.

وبهذه الاخلاق كسب قلوب الناس فاهتدوا ببركتها الى الإسلام، في الرواية (كان رسول الله أجود الناس كفّاً وأكرمهم عِشرة، من خالطه فعرفه أحبَّه)(2) وكان اعداؤه قبل اتباعه يعلمون عظمة اخلاق رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، لما فتح النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مكة ومكّنه الله تعالى من قريش التي اذاقته القتل والتجويع والتهجير والوان الأذى والعذاب (ودخل صناديد قريش الكعبة وهم يظنون أن السيف لايرفع عنهم، فأتى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) البيت وأخذ بعضادتي الباب ثم قال:لا إله إلا الله أنجز وعده، ونصر عبده، وغلب الاحزاب وحده، ثم قال: ما تظنون؟ وما أنتم قائلون؟ فقال سهيل بن عمرو: نقول خيراً و نظن خيراً، أخ كريم وابن عم، قال: فإني أقول لكم كما قال أخي يوسف: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}(3).

ص: 151


1- الميزان في تفسير القرآن: 19/ 385
2- بحار الأنوار: 16/ 231
3- بحار الأنوار: 21/ 132

وروى في الكافي بسنده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (نزل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في غزوة ذات الرقاع تحت شجرة على شفير واد، فأقبل سيل فحال بينه وبين أصحابه فرآه رجل من المشركين والمسلمون قيام على شفير الوادي ينتظرون متى ينقطع السيل فقال رجل من المشركين لقومه: أنا أقتل محمداً فجاء وشد على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالسيف، ثم قال: من ينجيك مني يا محمد؟ فقال:ربي وربك فنسفه جبرئيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن فرسه فسقط على ظهره، فقام رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأخذ السيف وجلس على صدره وقال: من ينجيك مني يا غورث فقال جودك وكرمك يا محمد، فتركه فقام وهو يقول:والله لانت خير مني وأكرم)(1) وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحسنكم خلقاً وخيركم لأهله)(2).وان أهم الشواهد على عظمة أخلاقه تلقيه هذا الثناء وهذه الشهادة من الخالق العظيم دون ان تضطرب أفكاره أو يفقد اتزان شخصيته او يتملكه عارض غير حسن فتلقى هذا التكريم من ربّه العظيم بنفس مطمئنة راضية متواضعة وقد حفلت كتب السيرة والحديث والتاريخ بشواهد لا تحصى من أخلاقه العظيمة.

إن هذه الاخلاق السامية التي اتصف بها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) دليلٌ واضحٌ على نبوته ورسالته وانه من صنع الله تعالى فحسب ولم يكن من صنع بيئته وظروفه أو تلقيّه من أحد لأن هذه المسمّيات كلها عاجزة عن

ص: 152


1- الكافي: 8/ 127 ح 97 ، بحار النوار: 20/ 179 ح 6.
2- عيون اخبار الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 2/ 38.

انتاج مثل شخصية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كانت تلك البيئة والمجتمعات غارقة في الانحراف والفساد والجهل والضلال والتخلف.إن أخلاق النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) معجزة يتحدى بها الله تعالى من يدعون من دونه ليأتوا بنسخة مماثلة له (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأنى لهم ذلك، فالآية نظير قوله تعالى {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} (لقمان:11) وهذه اخلاق الله تعالى فما هي أخلاق الذين من دونه؟ بأنهم على النقيض من ذلك، وقد صوّرت السورة بعد أن بيّنت ما عليه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من الخلق العظيم والأجر غير المنقطع الذين يتصدون لمقاومته بما يستحقون من الأوصاف القبيحة ونهت عن اتباعهم {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ(1) مَهِينٍ، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ، أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ، إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} (القلم:1016)، وهذه هي اوصاف المستهزئين برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أمس واليوم كما هو واضح.

ان اختيار هذه الصّفة في رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لتمجيدها والثناء عليها دليل على ثقل الاخلاق الحسنة في الميزان الإلهي والأمر كذلك حتى انك لتجد الغرض المطلوب من العقائد والتشريعات هو الاتصاف بهذه

ص: 153


1- (حَلَّافٍ) كثير الحلف واليمين (مَهِينٍ) وضيع ضعيف الرأي حقير، (هَمَّازٍ) طعّان في اعراض الناس عيّاب (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) يمشي بالنميمة بين الناس فيفرّق بينهم ويلقي العداوة والبغضاء (مَنَّاعٍ) ممسك عن الانفاق بخيل (مُعْتَدٍ) ظالم متجاوز الحدود (أَثِيمٍ) كثير الأثم والخطايا (عُتُلٍّ) غليظ جافي (زَنِيمٍ) دعيّ لا يُعرف أبوه.

الاخلاق الحسنة وتربية الأمة عليها وقد لُخِّص الغرض في قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل:90) وقد صرّح النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بهذا الغرض بقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (إنما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق)(1)، ولخّص شريعة الإسلام بالأخلاق الحسنة قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (الإسلام حسن الخلق)(2).وكان (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يحث اتباعه على حسن الخلق كأفضل ما يدعو اليه، روي عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ما من شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق)(3)، وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (إن صاحب الخلق الحسن له مثل أجر الصائم القائم)(4) ونقل الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قول جده رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (أكثر ما تلج به أمتي الجنة تقوى الله وحسن الخلق)(5) وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (ثلاث من لم تكن فيه فليس مني ولا من الله عزوجل، قيل: يا رسول الله وما هنَّ، قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):حِلْمُ يرد به جهل الجاهل، وحُسن خلق يعيش به في الناس، وورع يحجزه عن معاصي الله عزوجل)(5).

ص: 154


1- مجمع البيان: ج 10ص 500
2- كنز العمال: 5225، ميزان الحكمة: 3/ 133
3- عيون أخبار الرضا: 2 : 37 / 98
4- و(5) أصول الكافي: 2/ 100 ح 4، 6 باب حسن الخلق.
5- الخصال: 145 ح 172

وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (أفاضلكم أحسنكم أخلاقاً)(1) وقال لزوجه ام سلمة (يا أم سلمة ان حسن الخلق ذهب بخير الدنيا والآخرة)(2).ان حسن الأخلاق ليس أمراً ترفياً أو كمالياً بل فيه قوام الحياة، قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (لو يعلم العبد ما في حسن الخلق لعلم أنه محتاج أن يكون له خلق حسن)(3) وبه سعادة الآخرة كما تقدم في الأحاديث الشريفة مع سعادة الدنيا، قال الامام الصادق (لا عيش أهنأ من حسن الخلق)(4) وتزداد الحاجة اليه لمن يكون في مواقع المسؤولية على اختلاف درجاتها كرب الأسرة ومدير الدائرة والمعلم في مدرسته والمربي والحاكم وغيرهم، روى الامام الجواد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بطلاقة الوجه وحسن اللقاء فاني سمعت رسول الله يقول:إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم)(5) وفي أحاديث أخرى خاطب (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بني هاشم بهذا.

وأساس الأخلاق الحسنة الإسلام والايمان بالله تعالى، ففي معاني الأخبار عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قول الله عزوجل {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ

ص: 155


1- تفسير البرهان: ح 9 ، عن تفسير علي بن ابراهيم
2- الخصال: 1/ 42
3- بحار الأنوار: 10 / 369 ح 20
4- علل الشرائع: 560/ ح1 ، ميزان الحكمة: 3/ 134
5- عيون أخبار الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) : 2/ 53، امالي الصدوق: 362/ المجلسي 68 ح 9

عَظِيمٍ} قال:(هو الإسلام)(1) وروي ان الخلق العظيم هو الدين العظيم(2) فان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) جسّد القرآن وتعاليم الإسلام في حياته فكان أعظم الناس أخلاقاً حتى وصفه الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (كان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) خلقه القرآن)(3) وهذا يعني ان طريق الوصول الى المقامات الرفيعة يمرّ من خلال القرآن، وكل شخص يرتفع سهمه من الاخلاق كلما ازداد اتباعاً للقرآن والتزاماً بالإسلام مما يدل على أنَّ الاخلاق التي يدعو اليها الإسلام ليست مقتصرة على الاخلاق الشخصية كالصدق والأمانة والشجاعة والكرم والإحسان ونحو ذلك وإنما يسعى إلى تأسيس منظومة اخلاقية اجتماعية متكاملة تؤسس لمنهج عادل قويم يحفظ كرامة الانسان ويكفل له سعادته.ومن هنا ينفتح الحديث عن الاخلاق الاجتماعية أي اخلاق الأمة كأمة غير اخلاق الأفراد كأفراد ويجعل الأمة كلها مسؤولة عنها ومن تلك الاخلاق، القيام بواجبات المواطنة وحفظ مصالح الدولة والشعب وحقوق الأقليات والتكافل والتعاون على البِّر والتقوى والعدالة الاجتماعية والتناصح والتواصي بالحق والصبر والمرابطة في ثغورها وتحصين الأمة فكرياً وعقائدياً وثقافياً وسلوكياً والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى رأس الاخلاق الاجتماعية إقامة الدين وحفظ وحدة الأمة

ص: 156


1- معاني الأخبار: 1/ 188
2- تفسير البرهان: 3/ 237 ح 25 عن تفسير علي بن ابراهيم
3- تنبيه الخواطر: 72، ميزان الحكمة: 3/ 135

وتماسكها {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى:13) وقد سمّينا في بعض بحوثنا مثل هذه الواجبات بالواجبات الاجتماعية في مقابل مصطلح الوجوب الكفائي(1) الذي يردده المشهور وشرحنا الوجه في ذلك.ان سلوك الانسان وعاداته وصفاته قابلة للإصلاح والتغيير فليس صحيحاً ما يقال من انها غير قابلة لذلك وإن الانسان مسيَّر وفق ما جبلت عليه نفسه، قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد:11) ولذا تواترت الأنبياء والرسل لهداية الخلق وإصلاحهم، وألفّ العلماء كتباً في تهذيب الأخلاق واودعوها برامج في سلوك هذا الطريق، نقل العلامة المجلسي (قدس) عن الراواندي (رحمه الله) قال (الخلق السجيّة والطبيعة ثم يستعمل في العادات التي يتعودها الانسان من خير أو شر، والخُلق ما يوصف العبد بالقدرة عليه، ولذا يُمدَح ويُذّم، ويدل على ذلك قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) خالق الناس بخلق حسن)(2).

إن مساحة الأخلاق الحسنة كلما اتسعت في المجتمع فانها تعود بالخير على الجميع، وقد يمنّ الله تعالى على اعدائه ببعض الاخلاق الحسنة لمصلحة اوليائه ففي الكافي ان الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ان الله عزوجل أعار اعدائه اخلاقاً من اخلاق اوليائه لتعيش اولياؤه مع اعدائه في

ص: 157


1- راجع: فقه الخلاف: 8/ 159, ط. الثانية
2- بحار الأنوار: 71/ 374

دولاتهم، وفي رواية أخرى:ولو لا ذلك لما تركو ولياً لله عزوجل الا قتلوه)(1).

تطبيق:معجزة لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تبيّن أخلاقه

روى لنا أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) معجزة تحققت لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وكان شاهداً عليها، نذكرها تبركاً وإحياءاً لهذه المنقبة العظيمة ولنأخذ منها بعض الخصائص النفسية والسمو الأخلاقي عند رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فمن خطبة جليلة لأمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تسمى القاصعة قال (ولَقد كُنتُ مَعَهُ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لَمَّا أتاهُ المَلأُ مِن قُرَيشٍ، فَقالوا لَهُ: (يا مُحَمَّدُ، إنَّكَ قَدِ ادَّعَيتَ عَظيما لَم يَدَّعِهِ آباؤكَ، ولا أحَدٌ مِن بَيتِكَ، ونحنُ نَسألُكَ أمرا إن أنتَ أجَبتَنا إلَيهِ، وأرَيتَناهُ عَلِمنا أنَّكَ نَبِيٌّ ورسولٌ، وإن لَم تَفعَل عَلِمنا أنَّكَ ساحِرٌ كَذَّابٌ). فَقالَ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (وما تَسألونَ؟) قالوا: (تَدعو لَنا هذهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى تَنقَلِعَ بِعُروقِها وتَقِفَ بَينَ يَدَيكَ)، فَقالَ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَي ءٍ قَديرٌ، فَإن فَعَلَ اللّهُ لَكُم ذلِكَ أتُؤمنونَ وتَشهَدونَ بِالحَقِّ؟) قالوا: (نَعَم). قالَ:(فَإنِّي سَأُريكُم ما تَطلُبونَ، وإنِّي لَأعلَمُ أ نَّكُم لا تَفيؤونَ إلى خَيرٍ، وإنَّ فيكُم مَن يُطرَحُ فِي القَليبِ، ومَن يُحَزِّبُ الأحزابَ) ثُمَّ قالَ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (يا أيَّتُها الشَّجَرَةُ إن كُنتِ تُؤمنينَ بِاللّهِ وَاليَومِ الآخِرِ، وتَعلَمينَ أنِّي رَسولُ اللّهِ، فَانقَلِعي بِعُروقِكِ حَتَّى تَقِفي بَينَ يَدَيَّ بِإذنِ اللّهِ!).

فَوَالَّذي بَعَثَهُ بِالحَقِّ لَانقَلَعَت بِعُروقِها، وجاءَت ولَها دَوِيٌّ شَديدٌ، وقَصفٌ كَقَصفِ أجنِحَةِ الطَّيرِ، حَتَّى وَقَفَت بَينَ يَدَي رَسولِ اللّهِ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مُرَفرِفَةً، وألقَت

ص: 158


1- الكافي: الجزء :2ص:101

بِغُصنِها الأعلى عَلى رَسولِ اللّهِ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وبِبَعضِ أغصانِها عَلى مَنكِبي، وكنتُ عَن يَمينِهِ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ). فَلَمَّا نَظَرَ القَومُ إلى ذلِكَ قالوا عُلُوَّا وَاستِكبارا: (فَمُرها فَليَأتِكَ نِصفُها ويَبقى نِصفُها)، فَأمَرَها بِذلِكَ، فَأقبَلَ إلَيهِ نِصفُها كَأعجَبِ إقبالٍ وأشَدِّهِ دَوِيَّا، فَكادَت تَلتَفُّ بِرَسولِ اللّهِ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فَقالوا كُفرا وعُتُوَّا:(فَمُر هذا النِّصفَ فَليَرجِع إلى نِصفِهِ كَما كانَ، فَأمرَهُ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فَرَجَعَ، فَقُلتُ أنا: (لا إلهَ إلا اللّهُ، إنِّي أوَّلُ مُؤمنٍ بِكَ يا رَسولَ اللّهِ، وأوَّلُ مَن أقرَّ بِأنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَت ما فَعَلَت بِأمرِ اللّهِ تَعالى تَصديقا بِنُبُوَّتِكَ، وإجلالا لِكَلِمَتِكَ)، فَقالَ القَومُ كُلُّهُم: (بَل ساحِرٌ كَذَّابٌ، عَجيبُ السِّحرِ خَفيفٌ فيهِ، وهَل يُصَدِّقُكَ في أمرِكَ إلا مِثلُ هذا؟) (يَعنونَني)(1).

ما الذي نستفيده؟

أقول:مما نستفيده منها باختصار:-

1أدبه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مع ربه تبارك وتعالى ومعرفته التامة بالله تعالى وأنه لا يملك شيئاً أمام ربّه وأنّه (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) فيقول للمشركين لما سألوه (فإن فعل الله لكم ذلك) ولم ينسب الفعل إلى نفسه فما من شيء يتحقق له إلا بلطف الله تعالى وفضله وكرمه، بعكس منطق الغافلين والبعيدين عن الله تعالى فإنّهم يرون لأنفسهم شيئاً ويتبجحون به ويتفاخرون ويطغون، كما حكى الله تعالى عن قارون قوله {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} (القصص:78)، ويأتي التعليق الإلهي {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} (القصص:78).

والقرآن الكريم حرص كثيراً على ترسيخ هذه المعرفة قال تعالى {وَما

ص: 159


1- نهج البلاغة: 2/ 412 الخطبة/ 190.

رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى} (الأنفال:17) وقال تعالى في فرعون وقومه {فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ،وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} (الشعراء:5758) مع أن فرعون وجيوشه هم الذين قرروا الخروج لكن بتدبير إلهي.2عدم اليأس من هداية الناس والدعوة إلى الله تبارك وتعالى وإصلاح الأمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوعظ والإرشاد والتوجيه، حتى لو كان يعلم بعناد الآخر وإصراره على الخطأ فيقول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (وإني لأعلم أنكم لا تفيئون إلى خير) فلم يتوقف ويقول ما الفائدة من دعوة هؤلاء وهم لا يُرجى منهم خير؟ لأن الأمور والنتائج والعواقب بيد مدبّرها الحقيقي، وليس على الإنسان إلا السعي الحثيث بكل ما أتاه الله تعالى، وقد مدح الله تعالى قوماً وأنجاهم من العذاب لأنّهم لم يتقاعسوا عن أداء وظائفهم الإلهية مع اليأس ظاهراً من هدايتهم، قال تعالى {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الأعراف:164).

3اعتماد لغة الحوار والحجة والبينة مع الآخر لتحصيل القناعة بالأمر وعدم إكراههم على شيء أو استخدام وسائل العنف والضغط لإجبارهم على اعتناق ما تعتقد به، ولو كنت تملك القوى الخارقة الغيبية، وهذا هو منطق القرآن الكريم {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة:256) {اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (الأحقاف:4).

4قساوة القوم الذين بُعث لهم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهمجيتهم بحيث يجري لهم كل هذه المعجزات وهم يصرّون على عنادهم واستكبارهم قال تعالى فيهم {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ

ص: 160

الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ} (البقرة:74) وقلوب أولئك كانت من القسوة بحيث لم تسمح بتفجير شيء من ينابيع المعرفة والإيمان فيها، فالجبل يتصدع من هذه الكلمات وهم موتى لا حراك فيهم {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (الحشر:21) وإلى اليوم نرى مثل هؤلاء الأقوام الذين تقام عليهم الحجج والبيّنات الدامغة، ولا جواب لهم إلا العناد والاستكبار والمضي على منهجهم المنحرف ومثل هؤلاء أتذكرهم عندما أصل إلى قوله تعالى {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (البقرة:75).5شفقة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) التي لا حدود لها وقلبه الكبير بحيث لا يتوانى عن تقديم أي عمل ما دام يُرجى منه صلاح الآخرين وهدايتهم رحمةً بهم لانقاذهم مما هم فيه من الضلال حتى لو كانوا من أسوأ خلق الله تعالى وأقساهم فلم يكن (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كأسلافه الصالحين من الأنبياء الذين دعوا على أقوامهم بالهلاك {لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} (نوح:26) وغاية ما كان يقول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عندما يصيبوه بالأذى والتكذيب (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)(1) ولم يثنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن المضي معهم استهزاؤهم وسخريتهم الواضحة من مطلبهم التعجيزي وكأنهم يتهكمون برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ويسفّهون دعوته.

إن وجود مثل هذا القلب الشفيق الرحيم خير حافز على العمل الإنساني النبيل، وهو موجود لدى الكثيرين ولكنه يحتاج إلى تحريك وإثارة والدليل على ذلك انه عندما يوجد انسان مبتلى أو مصاب بنكبة أو عاهة أو معدم يحتاج إلى

ص: 161


1- إقبال الأعمال الشيخ الصدوق: 385

مساعدة فإن الكثيرين تهتز قلوبهم بالشفقة والرحمة ويهبون لنجدته ومساعدته، وهذا عمل عظيم ولكن أليس أهم منه أن نهَّب لهداية الضّال وفاقد البصيرة والمنحرف والجاهل وهؤلاء أولى بالمساعدة والشفقة والرحمة، لأن حياتهم الباقية الدائمة في خطر، وهي أهم من حياتهم الدنيا.6والدرس الأخير نأخذه من أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بروايته لهذه المنقبة النبوية الشريفة، ولعلها كانت تضيع علينا لو لم ينقلها لنا أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فلنتعلم منه أن لا نبخل على الناس بما نتعلمه من مسألة شرعية أو موعظة أو نصيحة أو منقبة وفضيلة لأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أو شيء من سيرتهم الصالحة وأخلاقهم السامية، أو كلمات العلماء ومواقفهم ومآثرهم وبذلك تنتشر الهداية ويزكو العلم والعمل الصالح وينمو ففي الحديث (العلم يزكو بالإنفاق)(1).

ص: 162


1- البحار: ج75 ص76.

القبس/168: سورة القلم:9

اشارة

{وَدُّواْ لَو تُدهِنُ فَيُدهِنُونَ}

موضوع القبس:لا مساومة على المبادئ الحقّة

تكشف الآية الكريمة لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن خدعة يتخذها الكفار والمشركون والمكذبوّن كأسلوب لمواجهة دعوته المباركة وإيقاف انتشارها وذلك من خلال سعيهم بكل رغبة واهتمام إلى أن تداهنهم(1) وتتوصل معهم إلى انصاف حلول - كما يقال - ترضيهم ويرضونك فتتنازل عن بعض مبادئك وتقبل بواقعهم الفاسد والمنحرف مقابل ان يعترفوا بك وبألهك ورسالتك ويخففّوا من ضّغطهم عليك أو يتقاسمون معك المنافع والامتيازات.

وقدّموا عروضاً في ذلك كقول عتبة بن ربيعة (يا ابن أخي إنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرّقت به جماعتهم، وسفّهت به احلامهم، وعبت به ألهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من أبائهم فاسمع مني اعرض عليك اموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها، قال:فقال له رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):قل أبا الوليد أسمع، قال:يا ابن أخي:إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من اموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تريد به شرفاً سوّدناك علينا حتى لا نقطع

ص: 163


1- أي تلاطفهم وتلاينهم وتكون مرناً معهم، مأخوذة من الدهن الذي يليّن الاجسام الصلبة ويسّهل حركتها ويستعمل لفظ المداهنة في الحالة المذمومة.

أمراً دونك، وان كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا)(1).وفي مرة أخرى جاءه مجموعة من اسياد قريش وطواغيتهم فقالوا (يا محمد هلم فلتعبد ما نعبد ونعبد ما تعبد، ولنشترك نحن وانت في امرنا كله، فإن كان الذي نحن عليه أصح من الذي أنت عليه كنت قد أخذت منه حظاً، وإن كان الذي أنت عليه أصح من الذي نحن عليه كنّا قد أخذنا منه حظاً)(2).

وكان الرد الحاسم على مثل هذه المحاولات في الآية السابقة عليها (فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) (القلم:8) وفي سورة الكافرون {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} (الكافرون:12) وفي آية أخرى {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ} (المائدة:49) فقطع عليهم كل طرق المساومة والمداهنة رغم انه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان في اصعب الظروف واحلكها ويعاني الوان الألم والتضييق والتجويع والتعذيب والقتل.

ويتوجه أهل الباطل إلى هذا الأسلوب بعد أن يعجزوا عن القضاء على الحق وتطويقه ومنع الناس من اتباعه ويصبح امراً واقعاً لا يستطيعون الغاءه فيلجأون إلى المساومة وعقد الصفقات ويتخذون مختلف الوسائل لدفع أهل الحق للقبول بهذه المساومة فيهددونهم بالقتل والتجويع تارة أو يطمعوّنهم تارة أخرى أو يبثوا عليهم الاشاعات بإعلام قوي فاعل للضغط عليهم نفسياً وعزلهم اجتماعياً أو التأثير على

ص: 164


1- سيرة ابن هشام: 1/ 293
2- الدر المنثور: 8/ 655

اتباعهم لينفضّوا عنهم.وهم بذلك يحصلون على أكثر من هدف:

1 كسب الشرعية لباطلهم من دون ان يخسروا شيئاً لان ما عندهم أوهام وضلالات ودنيا زائفة لذلك فانهم يريدون منك المداهنه اولاً لانهم مستعدون لكل شيء يحفظ مصالحهم كلها او بعضها.

2 اسقاط أهل الحق في أعين اتباعهم حين يتنازلون عن بعض مبادئهم وإظهارهم منافقين يبتغون الدنيا بالدين.

وفي هذا الادب الإلهي لنبيه الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) درس لكل الرساليين وأصحاب المبادئ أن يحافظوا على استقامتهم ويتمسكوا بالحق الذي امنوا به وساروا عليه ولا ينساقوا وراء المطامع فيدخلوا في صفقات مع أهل الباطل، وهذا الامتحان جارٍ في كل حقول الحياة ولا يختص بمجال العقيدة فيشمل السياسة والتجارة والعمل الوظيفي وأصحاب المهن فكل هؤلاء وغيرهم يتعرضون لهذه المساومات وطلب المداهنة على حساب المبادئ والاستقامة وحتى الزعامات الدينية أيضاً فانهم معرضون لهذا الابتلاء وحينئذٍ يمتاز أهل المبادئ حقاً الذين لا يساومون عليها عن الذين يتاجرون بها ويضحّون بها في اول مغنم يعرض عليهم، فيصبحون العوبة بيد أهل الباطل يسيرّونهم وفق اغراضهم، لا يفرّق في ذلك بين رجال الدين او غيرهم.

وكثيرةً هي التحالفات التي وقعت بين الحكومات الجائرة والسلطة الدينية فالثاني يوفر للأول الغطاء الشرعي ويمكّنه من رقاب الناس ويوفر الأول للثاني الامتيازات والمنافع والجاه والنفوذ ويقف الاثنان معاً متحدين في مواجهة العاملين

ص: 165

الرساليين الذين يريدون ايقاظ الأمة وتوعيتها وتوجيهها نحو الصلاح، والمشكلة جارية حتى على صعيد الافراد فانهم يفضلّون الزعامات الدينية التي تؤمّن لهم هذه المصالح والامتيازات وتغضّ الطرف عن انحرافاتهم ومظالمهم مقابل ما يوصلون اليهم من أموال يفضّلونهم على القيادات الرسالية التي تنصحهم وتبيّن لهم عيوبهم ولا تداهنهم ولا تجاملهم، وهذا انحراف كبير في ثقافة الأمة وتديّنها لذا كان القرآن الكريم حازماً في رفض هذه الحالة {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} (المائدة:63).فالدرس الذي أخذناه من النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والقرآن الكريم أن لا مساومة على المبادئ الحقة وسار على هذا النهج الائمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لذا نجد في صفاتهم التي تسجّلها نصوص زياراتهم (ولا لأحداً فيك مطمع).

ص: 166

القبس/169: سورة القلم:44

اشارة

{سَنَستَدرِجُهُم مِّن حَيثُ لَا يَعلَمُونَ}(1)

موضوع القبس:سُنة الاستدراج

من سنن الله تعالى الجارية في عباده سنة (الاستدراج) وهي من الابتلاءات العظيمة التي يمر بها الفرد والمجتمع، عن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ما ابتلى الله أحداً بمثل الإملاء له)(2) وقد ذكرها القرآن الكريم صريحاً في موضعين بنفس النص في العنوان، لكن مضمونها ورد في آيات عديدة أخرى كما سيأتي ان شاء الله تعالى.

والاستدراج يعني الايقاع بالكافرين والمنافقين واهل المعاصي تدريجياً درجة بعد درجة من حيث لا يعلمون فكلما ازدادوا في المعاصي ازدادت عليهم النعم والشواغل والملهيات عن التوبة والرجوع وهكذا حتى تنتهي مهلتهم و يتفاجاؤا بالعذاب الذي يستحقونه وقد أحاط بهم وهم في ذروة سكر النعم واقبال الدنيا وورد عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير هذه الآية قال (هو العبد يذنب الذنب فتجدد له النعمة معه، تلّهيه تلك النعمة عن الاستغفار عن ذلك الذنب)(3).

ص: 167


1- وردت هذه الآية في سورة الأعراف:182, أيضاً.
2- نهج البلاغة: قصار الكلمات: 116.
3- الكافي: 2/ 452 ح 3

والذي يوقعهم في هذا الاستدراج ما ذكرته الآية التالية في الموضعين {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (القلم:44) أي اغترارهم بالإمهال والاملاء وعدم التعجيل بالعقوبة على الذنوب {وَأُمْلِي لَهُمْ} الذي هو رحمة وشفقة وإعطاء مزيد من الفرص للتوبة وليس عجزاً أو ضعفاً لأن الاستعجال ديدن من يخاف الفوت فيتوهمون أنهم على خير ولم يصدر معهم شيء سيء وإنهم يستحقون من الله تعالى إغداق النعم كقول قارون لما نصحه قومه بالإحسان كما أحسن الله تعالى إليه وعدم البغي والفساد في الأرض {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} (القصص:78).فيتملكهم الغرور وتستولي عليهم الغفلة حتى ينتهوا إلى سوء المصير، قال تعالى {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (آل عمران:178).

وسنة الاستدراج تأتي بعد الموعظة والتذكير والانذار والتحذير والتعريض لبعض الابتلاءات لعله يصحو من غفلته وينتبه إلى نفسه فاذا استمر بعصيانه وتمرده تواترت عليه النعم فينسى ربه وينسى نفسه {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} (الحشر:19).

ومن الآيات الكريمة التي اشارت إلى هذه المراتب قوله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ، ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} (الأعراف:9495) وفي كتاب الكافي عن

ص: 168

الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ان الله اذا أراد بعبد خيراً فأذنب ذنباً أتبعه بنقمة ويذكره الاستغفار، واذا أراد بعبد شراً أتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار ويتمادى بها وهو قول الله عز وجل {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} بالنعم عند المعاصي)(1).في الحديث عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إذا أحدث العبد ذنباً جدّد له نعمه فيدع الاستغفار، فهو الاستدراج)(2).

لذا يجب على الانسان العاقل أن يكون حذراً عندما تقبل النعم عليه قال امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أولى الناس بالحذر اسُلمُهم عن الغيَر)(3) أي من لا يتعرض للابتلاءات والصعوبات ويرفل بالنعم وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اذا رأيت ربَّك يتابع عليك النعم فاحذره) (4) بأن لا تبطره النعمة ولا يشعر بالعجب والزهو وان يتعاهد نفسه بالمحاسبة دائماً ولا يغفل عن أداء حق الله تعالى عليه في هذه النعم، فنعمة الايمان عليها حقوق ونعمة العقل عليها حقوق، ونعمة الصحة والعافية عليها حقوق، ونعمة المال عليها حقوق، ونعمة الجاه والوالدين والأولاد والعلم وغيرها فيها حقوق لله تعالى (راجع رسالة الحقوق للإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لتعرف تفصيلاً عن هذه الحقوق).

روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله في نهج البلاغة (أنه من وسع عليه في

ص: 169


1- نور الثقلين: 5/ 397 عن كتاب علل الشرائع
2- مجمع البيان: 10/ 340
3- غرر الحكم : رقم 3096
4- غرر الحكم : رقم 4082

ذات يده فلم يَر ذلك استدراجاً فقد أمن مخوفاً)(1).ومن كلماته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (كم من مستدرج بالإحسان إليه، ومغرور بالستر عليه، ومفتون بحسن القول فيه، وما أبتلى الله أحداً بمثل الاملاء له)(2).

وعن الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (الاستدراج من الله سبحانه أن يسبغ عليه النعم ويسلبه الشكر)(3).

وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (كم من مغرورٍ بما قد أنعم الله عليه، وكم من مستدرج يستر الله عليه، وكم من مفتون بثناء الناس عليه)(4).

وكان أصحاب الائمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) واعين لهذه الحالة وحذرين منها فروي أن أحد أصحاب الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إني سألت الله تبارك وتعالى أن يرزقني مالاً فرزقني، وإني سألت الله تبارك وتعالى أن يرزقني ولداً فرزقني، وسألته أن يرزقني داراً فرزقني، وقد خفت أن يكون ذلك استدراجاً؟ فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(أما مع الحمد فلا)(5) والمقصود بالحمد العملي منه وليس فقط القولي، و(أقل ما يلزمك لله تعالى ان لا تستعينوا بنعمه على معاصيه)(6)

هذا هو المعنى المعروف للاستدراج، ويستشف من القران الكريم معنى

ص: 170


1- نهج البلاغة: قصار الكلمات رقم 358، بحار الانوار: 5/ 220
2- نهج البلاغة: الحكمة 116
3- بحار الانوار: 78/ 117 ح 7
4- الكافي: 2/ 452 ح 4
5- أصول الكافي: 2/ 97 ح 17
6- كلمة لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في غرر الحكم : رقم 3330

آخر له، بأن يكون الاستدراج على شكل تزيين المعصية وتيسيرها بحيث تضعف مقاومة النفس عن تجنبها كما يحكي القرآن عن أصحاب السبت من اليهود، حيث حرم الله تعالى عليهم صيد السمك يوم السبت فكانت تأتي بكثرة يوم السبت وتكون في متناول أيديهم ولا يجدونها في غير السبت، فعملوا حيلة لحجزها يوم السبت ثم اصطيادها يوم الاحد فقال تعالى {واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (الأعراف:163). فمسخوا قردة وخنازير(1) . ومثل الصيد الذي حرمه الله تعالى على المحرم واذا به يكثر حولهم وهم محرمون ليبتلي صبرهم على الالتزام بالحكم الشرعي للمحرم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (المائدة:94).

فالمستفاد من الآية عدة دروس:

1 عدم الاغترار بالنعم والأمن من العقوبة لأن ذلك امهالاً وليس اهمالاً وأن العاقبة السيئة قد تحل به في أي لحظة في الدنيا والآخرة، مثلا الزعماء السياسيون عليهم أن لا تغرّهم الرئاسة والقدرة وكثرة الاتباع وضجيجهم وتداول

ص: 171


1- في تفسير العسكري: عن الامام علي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال : (ان الله تعالى مسخ هؤلاء لاصطياد السمك فكيف ترى عند الله عز وجل يكون حال من قتل أولاد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهتك حريمه، ان الله تعالى وان لم يمسخهم في الدنيا فان المعدَّ لهم من عذاب الاخرة اضعاف اضعاف هذا المسخ) (تفسير البرهان : 4/ 129).

وسائل الاعلام فتتضخم الانا عند احدهم ويتصور أنه قادر على كل شيء وأنه بمتناول يده أن يفعل ما يشاء فيتخلى عن مبادئه وينسى واجباته تجاه شعبه وبلده وينحرف مبتعداً عن جادة الصواب ويصمّ اذنه عن سماع النصيحة ويغفل عن قدرة الله عليه، او أصحاب الأموال يرون أموالهم تتكاثر بسرعة وتأتيهم من حيث لا يحتسبون، فيغتروا بها ويغضوا الطرف عن مصادرها وإخراج الحقوق الشرعية منها ويبقون في هذا الوهم حتى تذهب لذتها وتبقى تبعتها .2 أن لا ننساق وراء شهوات النفس واطماعها فنسقط في المعصية مهما بدت لذيذة وسهلة ومغرية وفي متناول اليد كالأموال الطائلة التي يبذلها الفاسدون من أجل تمرير باطلهم أو السكوت عنه، فيغتر بها ضعاف النفوس ويسقطون في فخوخهم أو كالعلاقات الجنسية التي تبذل بيسر للشباب في المجتمعات المختلطة أو على وسائل التواصل الاجتماعي والتقنيات الحديثة أو أي مجال آخر، فالحذر من كل ذلك لأن القدم اذا زلَّت فأن الانحراف يزداد بمرور الوقت وتصعب العودة إلى جادة الصواب.

3 الثقة بوعد الله تعالى وأنه لا يضيّع أجر المحسنين ولا يسكت عن ظلم او جور وأنه ينصر عباده المؤمنين ولكننا لا نستطيع توقيت ذلك وما يفعله الله تعالى هو الخير.

4 أن نعي هذه السنة الإلهية (الاستدراج) حتى لا يتحول الاغترار بها إلى ظاهرة خطيرة حينما ينخدع المجتمع ببعض المظاهر الجذابة المبهرة التي يتنعم بها المستدرجون فيتمنى أن يكون مثلهم ولا يعلم العاقبة الوخيمة التي تنتظرهم كما ابتلي الكثير من أبناء المجتمع اليوم بهوس السلطة والصراع على المغانم ونيل

ص: 172

الثراء الفاحش بسرعة، قال تعالى {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} (آل عمران:196197) ويحكي القرآن الكريم حادثة قارون من بني إسرائيل للتحذير من هذه الظاهرة الخطيرة حيث آتاه الله تعالى أموالا عظيمة {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} فنصحه قومه فلم يستجب{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} (القصص:78) أي ان هذه النعم حصلت عليها بقدراتي وامكانياتي الشخصية وهنا ترد الإشارة الى هذه الظاهرة {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ، وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ، فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ، وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ، تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (القصص:7683)، فلنحذر من السقوط في مقولة (ياليت لنا مثل ما اوتي قارون إنه لذو حظ عظيم) لان عاقبته الندم الكبير حيث لا ينفع الندم.

ويقدّم السيد الطباطبائي (قدس سره) تحليلاً لاستدراج هؤلاء ووقوعهم في العذاب الدنيوي قبل الآخرة، قال (قدس سره) ((ومن وجه آخر) لما انقطع هؤلاء عن ذكر ربهم وكذبوا بآياته سُلبِوا اطمئنان القلوب وأمنها للتشبث بذيل الأسباب التي

ص: 173

من دون الله، وعذبوا باضطراب النفوس وقلق القلوب وقصور الأسباب وتراكم النوائب، وهم يظنون انها الحياة ناسين معنى حقيقة الحياة السعيدة فلا يزالون يستزيدون من مهلكات زخارف الدنيا فيزدادون عذاباً وهم يحسبونه زيادة في النعمة حتى يردوا عذاب الآخرة وهو أمر وأدهى، فهم يستدرجون في العذاب من لدن تكذيبهم بآيات ربهم حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون)(1).

ص: 174


1- الميزان في تفسير القرآن: 8/ 351 تفسير الآية 182 من سورة الأعراف.

القبس/170: سورة المُدّثّر:2

{يَأَيُّهَا ٱلمُدَّثِّرُ 1 قُم فَأَنذِر}

{الْمُدَّثِّرُ} أصلها المتدثر والمخاطب هو رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى ورد في الرواية (1) أن من اسمائه ذلك ويعني عرفاً من ألقى عليه كساءً أو غطاءً وتلفّف به لأجل النوم أو وقاية من البرد ونحو ذلك.

وهو في اللغة أوسع من ذلك إذ يعني التدثر (تضاعف شيء وتناضد بعضه على بعض)(2) كما في معجم مقاييس اللغة أي تراكم وتكاثر شيء على شيء ولذا يطلق على المال الكثير:الدثر، فالمعنى الاوسع للمتدثر هو المحاط والمتغطي بما يمنعه من الحركة والفعالية سواء كان مادياً كما يفهم العرف أو معنوياً كالكسل والترف وحب الراحة والخوف والقلق والاغلال الدنيوية التي تعيق الحركة نحو التكامل مثل المال والمكانة الاجتماعية والأهل والولد وغير ذلك.

فالآيات الكريمة تأمر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بأن ينهض من دثاره ويقوم بالإنذار وتبليغ الرسالة الإلهية التي كُلِّف بها، ويشهد سياق الآيات أنها من أوائل ما نزل

ص: 175


1- روى الكلبي عن ابي عبدالله الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (قال لي: كم لمحمد اسم في القرآن؟ فقلت به اسمان أو ثلاث فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): يا كلبي له عشرة أسماء) ثم ذكر منها ما في آية المدثِّر (راجع بحار الأنوار: 16 / 101)
2- معجم مقاييس اللغة ابن فارس: 2/ 328

من القرآن الكريم حتى روى بعضهم أنها أول ما نزل منه ففسّر الدثار بأنه ((اعتزاله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وغيبته عن النظر فهو خطاب له بما كان عليه في غار حراء))(1)، لكن ما ورد في سبب نزولها وتعّرف النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على الوحي النازل عليه من قبل، مضافاً إلى تضمن الآيات لتكذيب قريش يدل على أنها مسبوقة بآيات البعثة النبوية الشريفة، فربما كانت الآيات الأولى التي أمرت بإعلان الدعوة إلى الإسلام والجهر بها بعد ان كانت سرّية في بدايتها، أو ان المقطع الأول من السورة نزل أولاً قبل التكذيب لإعداد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للمسؤولية القادمة شأنها في ذلك شأن مطلع سورة المزمِّل من دون ان تدل على ان حالة التدثر أو التزمل موجودة فعلاً وبذلك يصح القول بأنها أول ما نزل من القرآن بعد العلق أو هي والحمد ونحو ذلك.ويمكن أن يراد بالدثار مرحلتين زمنيتين من مراحل الرسالة الإسلامية:

الأولى:بعد نزول الوحي مباشرةً حيث امتلأ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هيبة من ثقل الرسالة التي كلِّف بها وحلّت به رعشة وقشعريرة فتدثّر وهنا جاءه الأمر بأن يتجاوز هذه الحالة ويستعد نفسياً وروحياً لحمل الرسالة الإلهية.

روى في الدر المنثور عن البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم بالإسناد عن يحيى بن ابي كثير قال (سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن فقال:يا أيها المدثر قلت:يقولون اقرأ باسم ربك الذي خلق فقال أبو سلمة:سألت جابر بن عبد الله عن ذلك قلت له مثل ما قلت، قال جابر:لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:جاورت بحراء فلما قضيت جواري فنوديت

ص: 176


1- حكاه السيد الطباطبائي (قدس سره) في تفسير الميزان: 2/ 87

فنظرت عن يميني فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ونظرت خلفي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجئثت منه رعبا فرجعت فقلت:دثروني فدثروني، فنزلت يا أيها المدثر قم فأنذر إلى قوله:والرجز فاهجر) (1)الثانية:بعد ما لاقاه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من تكذيب قريش واستهزائهم بالرسالة وتحشيد المجتمع ضد الرسول الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فبلغ به الغم والضغط النفسي مبلغاً كبيراً فتدثر بسبب الشعور بالاحباط لالتقاط الأنفاس كما يقال والتخفيف عن نفسه الشريفة فأمره الله تعالى أن يخرج من حالة الانكفاء على الذات وان لا يكترث بجمعهم وحشدهم وقوتهم فأن الله تعالى سيتكفل بدحرهم جميعاً ولينطلق هو (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بمشروعه الإلهي.

روى في الدر المنثور بسنده عن ابن عبّاسٍ أنّ الوليد بن المغيرة صنع لقريشٍ طعامًا، فلمّا أكلوا قال:ما تقولون في هذا الرّجل؟ فقال بعضهم:ساحرٌ، وقال بعضهم:ليس بساحرٍ، وقال بعضهم:كاهنٌ، وقال بعضهم:ليس بكاهنٍ، وقال بعضهم:شاعرٌ، وقال بعضهم:ليس بشاعرٍ، وقال بعضهم:سحرٌ يؤثر (وأجمع قولهم على أنّه سحرٌ يؤثر) فبلغ ذلك النّبيّ - (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سلّم - فحزن وقنّع رأسه وتدثّر، فأنزل اللّه - عزّ وجلّ - {يا أيّها المدّثّر ، قم فأنذر ، وربّك فكبّر ، وثيابك فطهّر ، والرّجز فاهجر ، ولا تمنن تستكثر ، ولربّك فاصبر،} (المدثر:17).

ص: 177


1- الدر المنثور: 8 / 324

فالآيات الكريمة فيها معنى كنائي وتعبير عن الانتقال من مسؤولية العمل على إصلاح الذات وتهذيب النفس - حيث كان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يتعبد لوحده - إلى مسؤولية العمل الاجتماعي وإصلاح الأمة والفرق بينهما واسع بحيث ان الأول كالقعود مقابل القيام والآن انتهى زمن القعود والخلّو عن المسؤولية الكبيرة وحان زمن العمل. وفي ضوء هذه الرواية والتفسير فأن الآيات الكريمة تفيد ان اشعال الحروب والتعامل بقسوة وبطش وخلق العراقيل متوقعة ممن يخافون على مصالحهم من كل أصحاب الدعوات الرسالية وليس دعوة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقط فلايصح مواجهتها بالتوقف عن العمل والانحسار والانغلاق على الذات لأن العمر أقصر من ان يضيّع بالقعود والتدثر والنفس ميّالة إلى الدعة والراحة فلابد من ملئ الحياة بالقيام والنهوض والحركة والاقدام واقتحام الصعاب وتعبئة كل الطاقات المادية والمعنوية وإبلاغ الرسالة {وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ} (البقرة:238) {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى:13) ولابد من هذا القيام لله تعالى وإن كان الشخص صالحاً في نفسه وملتزماً بالشريعة الا ان هذا لا يكفي بل عليه ممارسة الإنذار والإصلاح للمجتمع ما دام في المجتمع باطل وانحراف وفساد حيث يجب عليه تغييره والنهي عنه وهو المعنى الذي تفيده سورة العصر وغيرها.

والسمة الواضحة لهذه الرسالة الإنذار والتخويف من عاقبة الخروج عن أوامر الله تعالى ونواهيه {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً} (مريم:97) {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ} (القصص:46)

ص: 178

وعدم ارسال النذر اليهم يشعرهم بالطمأنينة والراحة ونسيان الله تعالى {حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء} (الأعراف:95) فان العامة لا يصلحهم الا الخوف، روي (عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), قَال الْمُؤْمِنُ بَيْنَ مَخَافَتَيْنِ ذَنْبٍ قَدْ مَضَى لَا يَدْرِي مَا صَنَعَ الله فِيه وعُمُرٍ قَدْ بَقِيَ لَا يَدْرِي مَا يَكْتَسِبُ فِيه مِنَ الْمَهَالِكِ فَهُوَ لَا يُصْبِحُ إِلَّا خَائِفاً ولَا يُصْلِحُه إِلَّا الْخَوْفُ)(1) ثم تأتي البشارة بعد التخويف والإنذار.وفي هذا الإنذار التنبيه إلى الخطر القريب في الدنيا والآخرة رحمة للناس لأن الله تعالى غني عنهم لكن شفقته على عباده أوجبت أن يواتر إليهم رسله بالإنذار ليجنبّهم المخاطر.

وتذكر الآيات التي تليها الأسس التي يرتكز عليها العاملون الرساليون الذين يسعون إلى الاصلاح في دعوتهم إلى الله تبارك وتعالى، نشير إليها باختصار:

1 {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (المدثر:3) ان تؤمن بان الله تعالى أكبر من ان يوصف ولا يعجزه شيء وكل قوة مهما كانت عظيمة فهي أمامه أوهن من بيت العنكبوت فلا موجب للخوف من أي قوة معارضة تمتلك المال والسلطة والجيوش لأن الخوف سيؤدي إلى المداهنة والتخلي عن المبادئ وهذا يعني الهزيمة وعلى المؤمنين العاملين أن يكونوا كما وصفهم أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم)(2) وعليهم أن يسقطوا من اعتبارهم كل ما دون الله تبارك وتعالى ولا يجعلوه من اهتمامهم.

2 {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (المدثر:4) ويمكن فهمها عن ظاهرها أي تطهير

ص: 179


1- الكافي، ج 2، ص 71
2- نهج البلاغة: الخطبة 193

الثياب وهو صحيح موافق للأحكام الشرعية أو عدم إطالة الثياب فتخطّ في الأرض كما في بعض الروايات، ولعل المراد بها المعنى الكنائي ويكون المراد من تطهير الثياب الاتصاف بالنزاهة وعفة اللسان واليد والجوارح كلها وطهارة القلب وسمو الاخلاق وحسن السيرة والالتزام بأحكام الشريعة، وجامع هذه الخصال التقوى وقد وصف القرآن الكريم التقوى باللباس قال تعالى {وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ} (الأعراف: 26) وهذا التعبير متداول في اللغة العربية ففي خطبة الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أنا ابن نقيات الجيوب)(1) وقال الشاعر في مدح أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)

مطهرون نقيات ثيابهم *** تجري الصلاة عليهم كلما ذكروا

ويطلق اللباس على الزوجة، قال تعالى {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} (البقرة:187) فتكون الآية آمرة باختيار الزوجة الصالحة لأهمية دورها في حياة العاملين الرساليين من عدة جهات.

3 {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (المدثر:5) فيجب تجنب كل أشكال المعاصي والمظالم وعدم الانجرار وراء الفتن ومكائد الشيطان واهواء النفس الأمارة بالسوء وعليهم التثبت مما يقال وعدم مداهنة الظالمين والجائرين.

4 {وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} (المدثر:6) فلا تعتد بنفسك ولا تثق بعملك ولا تمنّ به على الله تعالى ولا على الناس فان ما عندك هو من فضل الله تعالى ورحمته {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ

ص: 180


1- بحار الأنوار المجلسي: 45/ 174

أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (الحجرات:17) فالمن يبطل العمل ويحبطه ويعرّض صاحبه لغضب الله تعالى فيمحوا اسمه من المؤمنين، من وصية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لمالك الأشتر {وَإِيَّاكَ وَالْمَنَّ عَلَى رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ فَإِنَّ الْمَنَّ يُبْطِلُ الْإِحْسَانَ}(1) فاذا تواضع لله تعالى وعرف ان ما عنده توفيق من الله تعالى وواظب على الشكر عليه أغدق الله تعالى عليه المزيد من النعم.5 {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} (المدثر:7) لأن العمل شائك ويسير العامل في حقول من الألغام المادية والمعنوية حتى وصفت مواجهتها بالجهاد الأكبر فلابد من ان يتمسك بالصبر على الصعاب ليواصل الطريق ويثبت على خط الاستقامة وان يكون صبره في الله ولله تعالى.

إذن لنتأسى بالنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في هذا الخطاب القرآني وننفض دثار الكسل والتردد وسائر الأمور المحبطة وننطلق في ميدان الدعوة الى الله تبارك وتعالى بالحكمة والموعظة الحسنة بعد ان نبني أنفسنا بالخصال الكريمة التي ذكرتها الآيات الشريفة.

ص: 181


1- نهج البلاغة، كتاب 53

القبس/171: سورة القيامة:2

اشارة

{وَلَا أُقسِمُ بِٱلنَّفسِ ٱللَّوَّامَةِ}

موضوع القبس:محكمة الضمير دليل على وجود محكمة القيامة

قيل ان {لَا} زائدة للتأكيد وليست للنفي باعتبار ان الآية ظاهرة في إثبات القسم لا نفيه ولو بمعنى السياق، لذا وقيل هي (نافية) لكنها هنا ليست لنفي القسم وإنما كناية عن عظمة المقسم به أو وضوحه بحيث يستغنى عن القسم لإثباته وما يهمّنا هنا دلالة الآية على عظمة المقسم به وجلالة قدره وأهميته وهذا السياق متكرر في القرآن الكريم كقوله تعالى {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} (الواقعة:7576).

ويشير القرآن الكريم إلى ثلاث مراتب من النفس الإنسانية:

1 المطمئنة التي اكتملت فيها العبودية لله تعالى والطاعة والتسليم له تبارك وتعالى عن رضا واطمئنان، قال تعالى {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} (الفجر:2728).

2 الامّارة بالسوء التي دأبت على الاستسلام للشهوات واتباع الاهواء فهي تأمر بالسوء وتدعو إلى الفحشاء والمنكر من دون أي رادع، قال تعالى {إِنَّ

ص: 182

النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ} (يوسف:53) وقال تعالى {وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا} (يونس:7) وقد تتمرد هذه النفس أكثر فتصبح داعية للفساد والانحراف والضلال وساخرة من أهل الطاعة والايمان ومستهزئة بالدين، هذه النفس التي يصفها الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من خلال الشكوى منها، ويطلب من الله تعالى العون عليها (إلهِي إليْكَ أَشْكُو نَفْساً بِالسُّوءِ أَمَّارَةً، وَإلَى الْخَطيئَةِ مُبادِرَةً، وَبِمَعاصِيكَ مُولَعَةً، وَلِسَخَطِكَ مُتَعَرِّضَةً، تسْلُكُ بِي مَسالِكَ الْمَهالِكِ، وَتَجْعَلُنِي عِنْدَكَ أَهْوَنَ هالِك، كَثِيرَةَ الْعِلَلِ طَوِيلَةَ الاَمَلِ، إنْ مَسَّهَا الشَّرُّ تَجْزَعُ، وَإنْ مَسَّهَا الْخَيْرُ تَمْنَعُ، مَيَّالَةً إلَى اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ، مَمْلُوَّةً بِالْغَفْلَةِ وَالسَّهُوِ، تُسْرِعُ بِي إلَى الْحَوْبَةِ، وَتُسَوِّفُنِي بِالتَّوْبَةِ) (1).3 النفس اللوّامة وهي عنوان البحث وهي بين المرتبتين ويمكن ان ترتقي إلى الأولى او تتسافل إلى الثانية فهي نفس ليست بعيدة عن الصلاح ومحبّة للطاعة الا انها تضعف احياناً فتقود صاحبها الى الوقوع في المعاصي والذنوب فتحصل عندها حالة اللوم وتأنيب الضمير والندم فتحاسب نفسها باستمرار.

وقد تحصل هذه الحالة من اللوم لأجل التقصير في عمل الخير وعدم الاستثمار الأقصى للنعم الممنوحة له ولفرص الطاعة المتاحة اذ كان يمكنه الاستزادة منها ولم يفعل، وهذا الشعور يصحب الانسان إلى يوم القيامة فيشعر بالندم والغبن على تفريطه ببعض الفرص، لذا كان من اسمائه (يوم التغابن).

وهذه الحالة من تأنيب الضمير والشعور بكربة (2) في القلب إنما تحصل

ص: 183


1- الصحيفة السجادية، مناجاة الشاكين
2- أشار السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) إلى هذا المصطلح مراراً في كتاب (قناديل العارفين)

بقرار تصدره محكمة الوجدان وهي نعمة من الله تعالى على الانسان ودليل من باطنه ينبهه الى الوقوع في المحذور واقترابه من الخطر ويحذرّه من عاقبته ويدعو الى التصحيح والمعالجة، وهذا يعني ان ضميره لا زال حياً ويمكن الاطمئنان إلى حركته وقراراته ولذا يحيل إليه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عند الحكم في الأمور المشتبهة حيث روي قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (استفت قلبك، استفت نفسك، البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك)(1) .فعلى الانسان ان يبقي هذا الضمير حياً ليكون له واعظاً من نفسه ولا يميته باتباع الشهوات والانغماس في الرذائل والإصرار على الخطأ والخطيئة والتعصب والانانية. روي عن الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَا تَزَالُ بِخَيْرٍ مَا كَانَ لَكَ وَاعِظٌ مِنْ نَفْسِكَ وَمَا كَانَتِ الْمُحَاسَبَةُ مِنْ هَمِّكَ)(2)، وروي عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (من لم يجعل الله له من نفسه واعظا، فإن مواعظ الناس لن تغني عنه شيئاً)(3).

وهذا يبين احد وجوه البلاغة في الإتيان بهذا القسم مع القسم بيوم القيامة في الآية السابقة {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} فان محكمة الضمير صورة مصغرة للمحكمة الإلهية الكبرى فالحاكم واحد وهو الله تعالى، والشهود نفس الشهود وهم الجوارح والضمير، والقضايا حاضرة لا تحتاج الى تهيئة واعداد وجمع

ص: 184


1- كنز العمال: 7312، مسند احمد: 4/ 228
2- وسائل الشيعة: 16/ 96
3- تحف العقول: 294

المعلومات، والمجازاة نفسها في الروح بل والجسد حيث يقوم بعض المجرمين أحياناً بإيذاء جسده ندماً ولوماً مضافاً إلى كونها محكمة حق لا جور فيها ولا تحتاج الى مراجعة واستئناف للحكم {وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (الرعد:41). فهذه المحكمة في باطن الانسان دليل وجداني وفطري على وجود يوم القيامة والحساب والجزاء حيث لم يخلو الانسان من هذه المحكمة وهو ذرة صغيرة فكيف يعقل خلو الوجود الواسع من المحكمة الإلهية.

ويظهر ان هذه الملازمة معروفة حتى لغير المؤمنين لذا فإنهم لكي يتخلصوا من عذاب الضمير وتأنيبه عند انغماسه في الشهوات والظلم والعدوان يخدعون أنفسهم بنفي وجود يوم القيامة والحساب والجزاء، هذا ما أكدته بعض الآيات التالية لهذه {بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} (القيامة:5) أي انه يكذب بما هو واقع امامه من البعث والحساب ليستمر على فجوره والتحرر من الالتزام بالشريعة.

ويحسّ الانسان في وجدانه بهذا الجزاء قبل يوم القيامة، إذ إن هذا الضمير ينشر السعادة والانشراح والاطمئنان في باطن الانسان عندما يقوم بعمل صالح وتزداد السعادة كلما ازداد العمل أهمية وقيمة وكأنه يعجّل المكافأة لصاحبه، واذا صدر منه فعل سيء فانه سيبادر الى معاقبته بألم وعذاب في القلب لا يلبث ان ينعكس على شكل اعراض مرضية في البدن وقد يلجأ صاحبه الى تسليم نفسه للعقوبات كالسجن في المحاكم الوضعية ليتخلص من الألم وعذاب الضمير.

ولأهمية هذا الضمير الحي ودوره في تربية الانسان وتقويم سلوكه وتخليص صاحبه من اثار اعماله فقد استحق القسم به.

ص: 185

إذن علينا أن نمثل امام محكمة الوجدان والضمير يومياً وباستمرار، ونبادر إلى إثبات برائتنا ونقاوتنا أمام هذه المحكمة قبل يوم القيامة لنذهب إلى لقاء ربّنا ونحن مبرّئون من الذنوب بفضل الله ورحمته، ولنشعر بالسعادة والاطمئنان ولذا ورد التأكيد على محاسبة النفس باستمرار كقول رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (حاسبوا انفسكم قبل ان تحاسبوا، وزنوها قبل ان توزنوا) (1) وقال الامام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم فان عمل حسنة استزاد الله تعالى وان عمل سيئة استغفر الله تعالى)(2).وتصوروا لو أن الأمة عملت بهذا المنهج وهذه الثقافة فكيف ستكون سعيدة ناجحة لكن مشكلتنا الرئيسية في غياب هذه المبادئ الأخلاقية.

ص: 186


1- وسائل الشيعة ج16ص95
2- كتاب الزهد : 76 ، 203، وسائل الشيعة (آل البيت): 16/ 95/ح1

القبس/172: سورة الإنسان:8

{وَيُطعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِۦ}

الآية حلقة من سلسلة آيات نزلت في امير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حادثة مشهورة لدى الفريقين، وعدَّ المرحوم الاميني في كتاب الغدير(1)(34) ممن أوردها من علماء السنة، والف الحافظ أبو محمد العاصمي كتاباً في مجلدين اسماه(زين الفتى في شرح سورة هل اتى) ووصف الالوسي في روح المعاني خبر الواقعة بانه مشهور.

وخلاصة الحادثة في مصادر العامة كما أوردها العلامة الاميني (قده) عن ابن عباس قال إن الحسن والحسين مرضا فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس معه فقالوا:

يا أبا الحسن؟ لو نذرت على ولدك. فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما إن برئا مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام.

فشفيا وما معهم شيء، فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث أصوع من شعير، فطحنت فاطمة صاعا واختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال:السلام عليكم أهل بيت محمد؟ مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة.

ص: 187


1- الغدير: 3م107111 من الطبعة الاصلية، و 4/ 154161 من طبعة دار الغدير.

فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صياما، فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فأثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك، فلما أصبحوا أخذ علي رضي الله عنه بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال:ما أشد ما يسوئني ما أرى بكم؟! وقام فانطلق معهم، فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها، وغارت عيناها، فساء ذلك فنزل جبريل وقال:خذها يا محمد؟ هنأك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة.وحاول البعض التشكيك في نزولها في علي واهل بيته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) رغم شهرتها وكثرة مصادرها، ومما قالوه:ان السورة مكية والحادثة وقعت في المدينة بعد زواج امير المؤمنين وولادة الحسنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وجوابه:عدم الوثوق بما دل على مكية السورة بل الدليل على العكس أي مدنية السورة، لوجود ذكر الأسير فيها، ولم يكن للمسلمين اسرى في مكة بل كانوا قلة مستضعفين وانما قويت شوكتهم واصبح لديهم اسرى في المدينة، ولو تنزلنا فان مكية السورة لا ينافي كون بعض آياتها مدنية وهي 18 اية من قوله تعالى {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} (الإنسان:5) الى الآية 22 {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} (الإنسان:22).

وقد دلت عدة روايات من الفريقين على ان السورة مدنية ومنها ما دل على خصوص الآيات المذكورة كرواية للمفيد في الاختصاص بسنده الى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وفيها قوله مخاطباً امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (هل عملت شيئا غير هذا فان الله قد انزل عليَّ سبع عشر اية يتلو بعضها بعضاً، من قوله (ان الابرار)الى قوله (وكان

ص: 188

سعيكم مشكوراً)(1).ولشهرة الخبر فقد نظمها الشعراء في قصائدهم، ومنها قول الوزير الصاحب بن عباد:

وسائلٍ هل أتى نص بحق علي قلت (هل أتى) نص بحق علي(2)

ونحن لا نريد بهذا الحديث الاكتفاء بالتذكير بهذه المنقبة لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واهل بيته في ذكرى نزول هذه السورة في 25:ذي الحجة وانما نريد ان نستلهم بعض الدروس والعبر.

1 كرامة الانسان في الإسلام والإحسان اليه حتى لو كان مشركا محاربا كأسير الحرب مع الدولة النبوية الكريمة فلم يتخذ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سجناً لاسراه وانما كان يوزّع الاسرى على المسلمين ليحافظوا عليهم ويحسنوا اليهم حتى يجعل الله تعالى لهم فرجاً وورد في ذلك قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (استوصوا بالأسرى خيراً)(3)، (وقد كان يؤتى الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالأسير فيدفعه الى بعض المسلمين فيقول:احسن اليه فيكون عنده اليومين والثلاثة فيؤثره على نفسه)(4) واذا لم يجد الأسير ما يحفظ كرامته عند مضيفه فتعطى حريته ويذهب لينال ما يريد، ويختار ومنها ما في هذه الحادثة لذا قصد هذا الأسير دار علي وفاطمة (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما بلغهُ من ايثارهما على انفسهما وتكريمهما السائل والمحتاج .

ص: 189


1- البرهان في تفسير القرآن: 10/ 79 ح 5 عن الاختصاص :150 .
2- هذا البيت يُنسب الى عبد الباقي الفاروقي العمري أنظر: (أدب الطّف جواد شبر:7/ 134
3- الأمثل: 14/ 524 عن الكامل لابن الاثير: 2/ 131.
4- روح المعاني للألوسي: 29/ 155 عن الحسن .

2 الأولوية والاهمية التي يحظى بها اطعام المحتاجين والمعوزين من بين اعمال البر الكثيرة، وقد اشير اليه في الآيات الكريمة والاحاديث الشريفة كثيرا، قال تعالى {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} (البلد:11 - 16) روي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (من اطعم ثلاث نفر من المسلمين اطعمه الله من ثلاث جنان في ملكوت السماوات) والحديث مطلق ولم يقيّد المدعوّين للطعام لكونهم فقراء أو محتاجين وهذا يعني أن الاطعام مستحب بغض النظر عن كون الاكلين ذوي حاجة لما فيه من تقوية أواصر المحبة والموّدة وانفتاح النفوس على بعضها وزوال ما بينها من شحناء وبغض.

وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(من اطعم مؤمنا حتى يشبعه لم يدري احد من خلق الله ماله من الاجر في الاخرة لا ملك مقرب ولا نبي مرسل الى الله رب العالمين)(1).

وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(من افضل الاعمال عند الله ابراد الكباد الحارة واشباع الكباد الجائعة)(2) وهو حديث مطلق يشمل كل ذي كبد حتى الحيوانات، وتعززه روايات أخرى ففي بعضها ان أمراءه فاسقة غفر لها لأنها سقت قطة عطشى ماءاً، تضمنت تتمة الحديث تهديد المقصر في ذلك قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (والذي نفس محمد بيده لا يؤمن بي عبد يبت شبعاناً واخوه او قال جاره المسلم الجائع) .

ص: 190


1- أصول الكافي: 2/ 200 – 302 باب اطعام المؤمن .
2- بحار الانوار: 74:369.

ولو ألتزمت البشرية بهذه التوصيات لما مات ملايين البشر جوعاً بينما تتلف دول الغرب المترفة الاف الاطنان من الأغذية للمحافظة على الأسعار ونحو ذلك.3 ويمكن ان يتوسع معنى الأسير ليشمل كل محتاج الى رعاية غيره واعالته مادياً، كالمروي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في المديون لغيره:(غريمك اسيرك فأحسن الى اسيرك) (1)ومنهم عيال الرجل وأسرته عن الامام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ينبغي للرجل ان يوسع على عياله لئلاّ يتمنوا موته وتلى هذه الآية {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} قال:الأسير عيال الرجل ينبغي له اذا زيد في النعمة ان يزيد اسراءه في السعة عليهم)، ثم قال (ان فلاناً انعم الله عليه بنعمة فمنعها اسرائه وجعلها عند فلان فذهب الله بها، قال الراوي:وكان فلان حاضرا)(2).

وروي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله:(اتقوا الله في النساء فأنهن عندكم أعوان)(3) آي اسراؤه، وهكذا تشمل التوصية بالأسرى خيراً كل من كان راعياً لغيره في مؤسسة أو دائرة او كيان ونحو ذلك.

ويتوسع المعنى الى الحاجة المعنوية أيضاً فيشمل من هو في حاجة اليه فكرياً وعقائدياً واجتماعياً وهذا المعنى قد ورد في اليتيم في الاحاديث الشريفة

ص: 191


1- روح المعاني للألوسي: 29/ 156
2- فروع الكافي: 4/ 11 كتاب الصدقة باب 7: كفاية العيال والتوسيع عليهم، ح3
3- الفرقان في تفسير القران: 29/236 عن تفسير الرازي :30/ 245

وقد تناولناها في كلمة سابقة(1).4 ان الاطعام حصل (على حبّه) أي رغم وجود الحب للطعام لا من جهة نهم الاكولين والميّل الشهوي والتلذذ به فهم ابعد ما يكونون عن ذلك وهم المخلصون لله تبارك وتعالى، بل لحاجتهم اليه بحسب ما وصفتهم الروايات في الحادثة كما ذكرناها، ولأنهم يريدون التقّوي به على الصوم وسائر طاعة الله تعالى. ولكنهم آثروا الثلاثة على أنفسهم وقدّموا ما يريده الله تعالى على ما تريده نفوسهم لانهم يرون انفسهم عبيداً خالصين لله تبارك وتعالى ولا يملكون لها خيارا ولا إرادة ولا فعلاً الا لله تعالى فاخلصوا العبودية لله تعالى مما اكسب فعلهم قيمة اكبر.

ويمكن ان يكون معنى حبّه:حسنه وافضليته وطيبه ليكون ادعى للقبول قال تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران:92) أي من أفضل ما عندكم واحسنه الذين تحبّونه لأنفسكم.

وقد ارجع بعضهم الضمير في حبه الى الله تبارك وتعالى وكأنه لم يستسغ ارجاعه الى الطعام لكنه تصرف بعيد بحسب السياق ولان هذا المعنى سيأتي في الآيات اللاحقة ولان الضمير لو كان عائدا الى الله تعالى لكان الأولى التعبير (في حبّه) ولعدم الغرابة في عودة الضمير الى الطعام بعد الذي ذكرناه، وقد روى البرقي في المحاسن بسند صحيح عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في هذه الآية قال

ص: 192


1- خطاب المرحلة: (250) ... هل تريد أن تكون مع الصديقة الزهراء (س) في درجتها؟، أنظر: خطاب المرحلة: 6/ 258.

الراوي (قلت:حب الله او حب الطعام؟ قال:حب الطعام) (1)، فهذا الايثار الذي صاحب فعلهم (صلوات الله عليهم أجمعين) هو المنشأ الأول لإعطائه هذه القيمة الكبرى بحيث تنزّل فيهم سورة مباركة تتلّى الى نهاية الدنيا، مع أنه فعل بسيط في نفسه لا يعدو إنفاق خمسة أرغفة من شعير وليس من حنطة.5 والمنشأ الثاني والاهم الذي اعطى فعلهم (صلوات الله عليهم اجمعين) القيمة العظمى ان اطعامهم كان خالصاً لله تعالى {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} (الإنسان:9) فهم لم يبتغوا شكر المعطى وثناءه ولا جزاء منه ولو كان العطاء مشروطاً بالجزاء لحرم كثيرُ من المحتاجين لعدم امتلاكهم الجزاء، ولو كان مشروطاً بالشكر للزم منه توهين المعطى واذلاله.

فلكي يكون الاطعام طيباً هنيئاً لابد ان يكون مجردا من طلب الجزاء او الشكر، كإطعام عليٌ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واهل بيته فقد كان اطعامهم خالصا لوجه الله لا يبتغون عليه جزاء بجلب ثواب او دفع عقاب حتى من الله تبارك وتعالى. لان عبادتهم عبادة احرار وليست فعل التجار الذين يعبدون الله طمعاً في جنته ولا العبيد الذين يعبدون الله خوفاً من ناره بحسب تقسيم امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لعبادة الناس، ومن كلماته المشهورة (إلهي ما عبدتك خوفاً من عقابك، ولا طمعاً في ثوابك، ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك)(2).

وقد حصر القصد بإرادة وجه الله تعالى خالصاً باستعمال أداة الحصر (انما) أما ما ورد في الآية التالية {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً}

ص: 193


1- المحاسن: 397 ح71
2- البحار:41/ 14.

(الإنسان:10) فهو لا ينافي قصد وجه الله تعالى لأنه خوف من آثاره ورشحاته وليس مستقلاً عنه حتى يدخل في عبادة العبيد، بل خوف البعد عنه تبارك وتعالى وعدم نيل رضاه وبلوغ كمال معرفته.6 لم يسبق قولهم {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً} (الإنسان:9) بكلمة (قالوا) وهذا يعني أنهم لم يقولوا هذا الكلام للثلاثة المطعمين وهذا الاستظهار يناسب مقامهم السامي وكون إطعامهم لوجه الله، أما التفوّه بهذه الكلمات أمام المطعمين فأنه لا يخلو من توهين وترفّع عنهم، فالظاهر ان هذا التعبير من الله تبارك وتعالى لبيان حالهم ومقامهم الذي علمه الله تعالى منهم والروايات تدل على ذلك، فقد روى الشيخ المفيد في الاختصاص (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(أما ان علياً لم يقل في موضع:إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً، ولكن الله تعالى علم من قلبه أن ما أطعم لله، فأخبره بما يعلم من قلبه من غير أن ينطق به)(1).

7 إن هذه القيمة الكبرى التي اكتسبها الاطعام بالإخلاص لله تعالى لا تختص به بل يمكن أن تكتسبها أي طاعة لله تعالى فالآية نموذج للتربية القرآنية للإنسان على ان يبادر الى فعل الخير ويسارع اليه لا لشيء إلا لأن فيه رضا الله تبارك وتعالى لا ينتظر جزاءاً ولا شكوراً من أي أحد ولا يثبطه ولا يشعره بالإحباط واليأس عدم حصوله على الثناء والشكر والإشادة بعمله بل ربما يتعرض

ص: 194


1- البرهان في تفسير القران: 10/ 79 ح 6 عن الاختصاص :151 ورواها الشيخ الصدوق في الامالي عن الامام الصادق عن ابيه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)

للإساءة من نفس الذين يحسن اليهم لؤماً منهم وهو يمضي في معروفه وإحسانه متأسياً بربّه الذي يغدق على عباده بالنعم وهم يعصونه ويتمردون عليه ويشركون به ويعبدون غيره (مني ما يليق بلؤمي منك ما يليق بكرمك)(1).8 وهذا السلوك القرآني والسير على منهجه ثابت في سيرة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) – وهم القرآن الناطق – فقد روت كتب التاريخ والمقاتل أن الحر الرياحي وكتيبته البالغة ألف فارس من جيش الأمويين لما خرجوا لاعتراض ركب الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الطريق بلغ بهم العطش والاعياء أقصاه فتلقاهم الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وسقاهم ثم سقى خيولهم بيده الشريفة، ولما حاصره القوم في كربلاء ومنعوه واصحابه حتى الرضع من الماء حتى قضوا عطشى لم يروِ أحد أن الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ذكرهم بموقفهم ذاك أو قال لهم اسقوني كما سقيتكم في الطريق، لأنه من أولئك الذين قال الله تعالى {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً}.

فسلام الله عليك يا أبا عبد الله يا رمز الإباء والسمو والإنسانية.

ص: 195


1- مفاتيح الجنان: 339, دعاء عرفة

القبس/173: سورة عبس:24

{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}

{فَلْيَنْظُرِ} دعوة من الله تعالى للنظر بتدبر وتأمل وتفكر وليس مجرد النظر بالعين، وإن كان هذا النظر فيه فائدة نفسية وصحية كما أثبت العلم الحديث خلال هذه الأيام.

وهذه الدعوة موجهة الى {الْإِنْسَانُ} كل انسان يمتلك مقومات الإنسانية بأن يكون له عينٌ يبصر بها وله اذن يسمع بها، وله عقلٌ يفهم به، وليس كالذين {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف:179).

والحياة كلها حولنا مليئة بالعبر والدروس، لكن الله تعالى اختار لنا الطعام لنتدبر فيه ونأخذ منه الموعظة لأنه ألصق الاشياء بالإنسان في هذه الدنيا وحاجته اليه يومية ومستمرة وبه ديمومة الحياة، فأخذ العبرة منه يكون سهلاً ومؤثراً.

وحينئذٍ يحصل الانسان من هذا النظر والتأمل على عدة دروس ويلتفت الى عدة امور:

الأول:في الأية احتجاج على منكري وجود الخالق فيُخاطب عقولهم ويقول لهم أنظروا الى هذه المفردة في حياتكم التي تشتركون جميعاً في التعاطي معها ،كيف وجدت وهُيئت لها الظروف المناسبة ولاحظوا تنوع النباتات وكلها ترجع

ص: 196

في أصلها الى عناصر واحدة وهي المعروفة كيميائياً وانما أختلفت في نسب تركيبها ،ولاحظوا تنوع استخداماتها فبعضها طعامٌ أساسي وبعضها فواكه للتمتع لكم وبعضها للإنعام وبعضها للدواء وبعضها للألبسة أو الفراش كالقطن والكتان ونحو ذلك ،وحينئذٍ لابد أن يحكم العقل بوجود خالق مدبر حكيم عالم قادر ولا يمكن ان تحصل كل هذه التفاصيل في هذا الطعام من دونه، ومن يقول ذلك –كالملحدين أو يجعل له شريكاً لا يمتلك هذه الصفات فإنّه لا يحترم عقله .الثاني:وفي الآية احتجاج على منكري المعاد ودليل على قدرة الله تعالى على بعث الأموات ونشرهم فكما أن الأرض الميتة إذا سقيت بالماء تنبعث فيها الحياة وتخرجُ منها انواع الشجر والثمار فكذلك يكون بعث الموتى من قبورهم ،ومثل هذه الاحتجاجات كثيرة في القرآن الكريم كقوله تعالى {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} (فاطر:9) {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ،ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الحج:56) ،وقال تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (فصلت:39).

الثالث:شكر الله تعالى والاعتراف بالعجز عن تعداد نعمه فضلاً عن شكرها ،فلو تأمل الانسان في الطعام وانواعه وكيفية وصوله اليه لأيقنَ بان نعم الله تعالى لا تُعّد ولا تحصى ،خُذ مثلاً رغيف الخبز الذي يشترك كل الناس في تناوله وهو الجزء الاساسي من الطعام وتأمل فيه النعم ابتداءاً من خلق الأرض وشقها حتى تستطيع

ص: 197

مص الماء واخراج النبات وتجهيزها بالعناصر الأساسية لتغذية النباتات وقابلياتها على الانبات ،ومن فلق الحبة وخلق البذرة التي هي أصل النبات ،وأنزل من السماء الماء الذي هو أصل كل شيء حي وفق منظومة عجيبة من تبخر الماء وتكاثفه ونزوله، وخلق الشمس والهواء الضرورية لنمو النبات وتغذيته ،ومن ثم تعليم الانسان الزراعة والعناية بالسنابل حتى تنضج ثم حصدها وتنقيتها ثم نقلها وطحنها وعجنها وخبزها فكم من الناس عملوا ،وكم من الاجهزة والآلات سُخرت لك حتى يصل اليك هذا الرغيف الذي لا يلتفت اليه أحد ولا ينظر الى ما وراءه من النعم ،لاحظ بقية الآية {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ،ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ،فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا، وَعِنَبًا وَقَضْبًا، وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا، وَحَدَائِقَ غُلْبًا، وَفَاكِهَةً وَأَبًّا، مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} (عبس:24 – 32).الرابع:أن ينظر الانسان في طعامه ليتأكد من كونه حلالاً طيباً، لأن الذين يأكلون الحرام {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (النساء:10)، ولكي يكون الطعام حلالاً لابد ان تنظر في عدة جهات:

- (منها) نفس الطعام كأن يكون اللحم مذكى وغير مخلوط بمادة محرمة او نجسة كبعض الحلويات المخلوطة بجيلاتين حيواني من دولة غير مسلمة أو الصمون الذي يُطلى بفرشاة مصنوعة من شعر الخنزير، أو يكون الطعام غير مأذون في تناوله من قبل صاحبه لسبب أو أخر.

- (ومنها) طريقة تحصيله وكسبه فلا يكون بمعاملة محرمة وما أكثرها في

ص: 198

السوق حتى ورد في الحديث الشريف عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (من أراد التجارة فليتفقه في دينه ليعلم بذلك ما يحلّ لهُ مما يحرم عليه ،ومن لم يتفقه في دينه ثم أتجرّ تورط في الشبهات) (1) .أو يسرق المال العام بطريقة غير شرعية، أو يأخذ حق غيره بحيلةٍ وخداع ونحو ذلك، فهذه الأمور كلها يجب الانتباه اليها حتى يضمن كون الطعام حلالاً طيباً ،ولكل شريحة في المجتمع كالأطباء والمحامين والتجار والصيادلة والعمال والمدرسين وغيرهم فقهٌ خاص بهم ،وقد نشرنا العشرات من الكراريس في هذا المجال.

الخامس:أن يلتفت الى الجانب المعنوي للأية فان الطعام يُضرب مثالاً للعلم والمعرفة لأن كلاً منهما غذاء ،فأحدهما للبدن والأخر للروح عن زيد الشحام عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) :(في قول الله عز وجل {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} قلتُ :ما طعامه قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):علمه الذي يأخذه عمن يأخذهُ) (2).

وكما ان حاجة البدن للطعام دائمة ومستمرة ،فأن حاجة الروح والقلب للعلم والمعرفة والموعظة والتذكير بالله تعالى دائمة ومستمرة قال تعالى {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه:114) ،وروي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (إذا اتى عليَّ يومٌ لا أزداد فيه علماً يُقربني الى الله فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم) (3) .

فلابد أن ينظر الانسان في أحكامه الشرعية ومواقفه في مختلف شؤون الحياة ومنهجه وسلوكه عمن يأخذها ،وهل إن ذلك الأخذ والرجوع بحجة شرعية

ص: 199


1- وسائل الشيعة : 12/ 283 أبواب أداب التجارة باب 1 ح 4.
2- الكافي :1/ 39 حديث 8.
3- ميزان الحكمة : 6/ 145 عن كنز العمال حديث 28687.

معتبرة أم لا ،فيلتفت الى كون مصادرها صالحة ليسعد الانسان روي عن الامام الجواد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (من أصغى الى ناطقٍ فقد عبدهُ ،فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق ينطق عن لسان ابليس فقد عبد ابليس)(1) وهذا هو حال أغلب الناس ينعقون مع كل ناعق ويميلون مع كل ريح بحسب اهوائهم وامزجتهم وانفعالاتهم فيصبحون لقمة سائغة لكل من يريد أن يعبّئهم لمشروعه الخاص. وتراهم يستسلمون للإشاعات والأكاذيب التي تروجها وسائل الاعلام وكأنها حقائق حتى أصبحت هذه الاشاعات من أفتك الاسلحة التي توجه الى الخصوم لتقضي عليهم من دون قتال وتم القضاء معنوياً على جيوشٍ وعلى شخصياتٍ بالإشاعة والافتراء والتسقيط كمكائد عمرو بن العاص ومعاوية(2) ضد جيش أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وتسقيط سعد بن عبادة وما حصل للإمام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مع جيشه وغيرها من الشواهد، وما تمر به البلاد من كارثة أمنية وإنسانية شاهد حي على ذلك.

ولو أخذ الناس بالتعاليم القرآنية وتحققوا عن مصادر الخبر لما وقعوا في الأوهام والشكوك قال تعالى {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء:83)، وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات:6).

ص: 200


1- تحف العقول :336.
2- أنظر: الطبقات الكبرى محمد بن سعد: 4/ 257,- موسوعة الإمام علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الكتاب والسنة والتاريخ الريشهري: 6/ 266

القبس/174: سورة الانفطار:6

{يَأَيُّهَا ٱلإِنسَنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلكَرِيمِ}

قال الله تبارك وتعالى:{يَأَيُّهَا ٱلإِنسَنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلكَرِيمِ} (الانفطار:6) وهو خطاب موجّه الى الانسان على شكل سؤال واستفهام لكنه ليس لطلب المعرفة لان الله تعالى محيط بكل شيء علما، وإنما هو استنكاري لتوبيخ وعتاب المخاطب وتعجب من عصيان الانسان لربّه الكريم وتنبيه العاصي لقبيح فعله، فظاهر السؤال عن العلة وسبب الاغترار وحقيقته عن النتيجة وما حصل بالاغترار أي محاسبته على ما صدر منه من معاصي فيسأله ما الذي غرّر بك ودفعك وسوَّل لك حتى عصيت ربك الكريم وتمرّدت عليه، وهذا فعلٌ مخالف للفطرة الإنسانية التي توجب مقابلة الإحسان بالإحسان، لذا يصفه أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بقوله (أحمق الحمق الاغترار)(1).

وقد ذكرت الآية عدة عناصر تجعل الحجة أبلغ والتوبيخ أعنف:

(أولها) توجيه الخطاب اليه بما انه انسان عاقل مدرك للمسؤولية ولقواعد التعامل وقد أنعم الله تعالى عليه بنعم لا تعد ولا تحصى وقد ذكرت الآيات التالية بعضاً منها {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} (الانفطار:7) الخ، وليذكّره بأنَّ انسانيته هي أعظم النعم {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنون:14).

ص: 201


1- غرر الحكم: رقم 2915

(ثانيها) ويقول له:انك بمعصيتك تجاوزت على ربَّك الذي تّولى تربيتك ورعايتك وصناعتك ودبّر شؤونك كلها وانت لا تعلم.(ثالثها) وتعديّتَ على الكريم الذي أغدق عليك النعم من دون مقابل ولا توقع نفع منك فإنه تعالى غني عن العالمين، وقد كان من كرمه أنه حلم عنك ولم يعاجلك بالعقوبة وفتح لك باب التوبة والرجوع ولم يمنعه طول العكوف على المعصية من الاستمرار في إحسانه، ولم يقف كرمه عند العفو عن السيئات بل يبدلها إلى حسنات وغير ذلك من مظاهر الكرم.

والتغرير:الخداع والاستغفال والتجهيل بإراءة ظاهر محبوب تميل اليه النفس لكنه لا حقيقة له واخفاء الباطن والحقيقة حتى يسوقه الى الغرض الذي يريده على غفلة منه فإثارة السؤال فيه تنبيه من الغفلة والفات نظر الانسان إلى ما هو عليه من حالة الاغترار الذي ادى به لهذا التجاوز الكبير وتحذير من الوقوع فيه، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (سكر الغفلة والغرور أبعد إفاقة من سكر الخمور)(1).

والمستفاد من الآيات الكريمة والاحاديث الشريفة أن أسباب الاغترار الموجب للوقوع في المعصية عديدة منها:

1المظاهر الدنيوية الخداعة من مال وجاه ومناصب وانتماءات وعصبيات {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} (الأنعام:70) {وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} (آل عمران:185) اي الخداع والوهم، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (لا تغرنَّك العاجلة بزور الملاهي، فإن اللهو ينقطع ويلزمك ما

ص: 202


1- غرر الحكم: رقم 5651

اكتسبت من المآثم)(1).2تزيين إبليس وجنوده {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (لقمان:33) والغَرور صفة مشبّهة لكل من تأصّل فيه تغرير الآخرين لذا فُسِّر بالشيطان لانه كذلك {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} (النساء:120).

3أماني النفس واهواؤها وميلها الى اللذات واتباع الشهوات والعجب والاتكال على الذات {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (الحديد:14). من وصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لابن مسعود (لا تغترّنَ بصلاحك وعلمك وعملك وبّرك وعبادتك)(2) وروي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (جماع الشرّ في الاغترار بالمَهَل، والاتّكال على العمل) وقوله (غرور الأمل يفسد العمل) وقوله (كفى بالمرء غروراً أن يثق بكل ما تسوّل له نفسه)(3).

4مكر شياطين الانس وطواغيتهم ودّجاليهم والخداع والتضليل الذي يمارسونه والشبهات التي يلقونها {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} (آل عمران:24). روي عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (لا تغرّنك الناس من نفسك، فإن الأمر يصل اليك دونهم)(4) أي لا تغرّنك الناس من حولك ويوهمونك بأمور تسبب اغترارك، فإنك المسؤول عن افعالك وسوف يتخلّون عنك ولا ينفعونك

ص: 203


1- غرر الحكم: رقم 10363
2- مكارم الاخلاق: 2/ 350
3- غرر الحكم: رقم 4771، 6390، 7053
4- بحار الانوار: 72/ 323 ح 2.

بشيء وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لا يغرنّك بكاؤهم، فإن التقوى في القلب)(1).ومنشأ الوقوع في هذه الاسباب يرجع الى الجهل روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) انه لما تلا الآية عقّب مجيباً على السؤال:(جهله)(2)، هذا الجهل يشمل جهل الإنسان بربّه وحقوقه عليه ولزوم طاعته وعليه أن يْؤثر رضا ربّه على رضا نفسه أو أي أحد من المخلوقات، وان يتيقن انه بمحضر خالقه وتحت نظره سبحانه (عميت عين لا تراك عليها رقيبا)(3)، والجهل بمبدأ الانسان ومعاده ومآله، والجهل بحقيقة الدنيا الزائلة، والجهل بحقيقة الشيطان ومكره وخدعه وعداوته لبني آدم ونحو ذلك.

اما الانسان الصالح فانه كلما ازداد معرفة بربه الكريم يزداد طاعة ومحبة له تبارك وتعالى ويزداد خوفاً من عصيانه وغضبه سبحانه (سبحانك وبحمدك من ذا يعرف قدرك فلا يخافك، ومن ذا يعلم ما انت فلا يهابك)(4).

لذا قد يُنسب التغرير الى أسباب أخرى ليست هي بنفسها موجبة له، لكن الانسان لجهله وغفلته عن حقائق الأمور وعواقبها اغترَّ بها كحلم الله تعالى وعدم اخذه العاصين بالعقوبة عند صدور كل ذنب، واغداقه النعم على الكفار، وستره على قبائح العباد، وهذه كلها من الصفات الحسنى وكرم من الله تعالى ورحمة بالعباد لكن الانسان لجهله يسيء الاستفادة منها قال الله تبارك وتعالى {لاَ يَغُرَّنَّكَ

ص: 204


1- بحار الانوار: 70/ 283 ح 4.
2- الدر المنثور للسيوطي: 8/ 439.
3- مفاتيح الجنان، دعاء الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم عرفة.
4- مفاتيح الجنان، من دعاء الصباح عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} (آل عمران:196197) أي لا تجعل حلم الله تعالى بإمهال الكفار وعدم معالجتهم بالعقوبة سبباً للاغترار والغفلة عن الحساب والعقاب.وفي دعاء الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في ليالي شهر رمضان المعروف بدعاء ابي حمزة الثمالي (وَيَحْمِلُني وَيُجَرَّئُني عَلى مَعْصِيَتِكَ حِلْمُكَ عَنّي، وَيَدْعُوني اِلى قِلَّةِ الْحَياءِ سِتْرُكَ عَلَيَّ، وَيُسْرِعُني اِلَى التَّوَثُّبِ عَلى مَحارِمِكَ مَعْرِفَتي بِسِعَةِ رَحْمَتِكَ، وَعَظيمِ عَفْوِكَ)(1) وفيه أيضاً (اِلهي لَمْ اَعْصِكَ حينَ عَصَيْتُكَ وَاَنَا بِرُبُوبِيَّتِكَ جاحِدٌ، وَلا بِاَمْرِكَ مُسْتَخِفٌّ، وَلا لِعُقُوبَتِكَ مُتَعَرِّضٌّ، وَلا لِوَعيدِكَ مُتَهاوِنٌ، لكِنْ خَطيئَةٌ عَرَضَتْ وَسَوَّلَتْ لي نَفْسي، وَغَلَبَني هَوايَ، واَعانَني عَلَيْها شِقْوَتي، وَغَرَّني سِتْرُكَ الْمُرْخى عَلَيَّ).

اذن بهذا التقريب يمكن فهم معنى نسبة الاغترار الى حلم الله تعالى أو كرمه أو رحمته، وهذا دفع بعض المفسرين الى القول: (وانما قال الكريم دون سائر اسمائه وصفاته لانه كان لقنه الإجابة حتى يقول غرّني كرم الكريم)(2). وهذا التلقين بحد ذاته مظهر آخر للكرم الإلهي.

لكن السيد الطباطبائي (قدس سره) اعترض على هذا الفهم قائلاً: (ومن هنا يظهر ان لا محل لقول بعضهم:ان توصيف الرب بالكريم من قبيل تلقين الحجة وهو من الكرم ايضاً، كيف؟ والسياق سياق الوعيد، والكلام ينتهي الى مثل قوله {وَإِنَّ

ص: 205


1- مفاتيح الجنان للشيخ عباس القمي: 340، 335.
2- حكاه في مجمع البحرين: مج 2/ 263 مادة (غرر) عن الشيخ ابي علي وفي مادة (لقن) ايضاً وذكره آخرون.

الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ، يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ} (الانفطار:14 15)، ولو كفى الانسان العاصي قوله (غرني كرمك) لصرف العذاب عن الكافر المعاند كما يصرفه عن المؤمن العاصي، ولا عذر بعد البيان)(1).أقول:لا نجد وجهاً للاعتراض:

1 لان هذا المعنى وارد في كلام المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) كما تقدم.

2 واتضح مما تقدم ان الكرم والرحمة ونحوهما ليست هي السبب المباشر للاغترار الانسان حتى يعترض عليه، وانما السبب سوء استفادة الانسان منها وهي حالة موجودة حتى مع كرام الخلق كما في الرواية عن الإمام الحسن المجتبى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(انه وجد شاة له قد كُسرت رجلها، فقال لغلام له:من فعل هذا؟ قال الغلام:أنا، قال:لم فعلت ذلك، قال:لأجلب لك الهم والغم، فتبسم الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقال:لأسرُّك فاعتقه وأجزل له العطاء)(2). (ان علي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) دعا مملوكه مرتين فلم يجبه فلما أجابه في الثالثة قال له:يا بني اما سمعت صوتي قال:بلى، قال فما بالك لم تجبني، قال:أمنتك، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):الحمدلله الذي جعل مملوكي يأمنّي)(3).

3 ان هذا الاعتراف لا يفيد العاصي بل يوجب استحقاقه للعقوبة المضاعفة، لانه قابل الكرم والحلم والعفو بالعصيان والتمرد واغّتر بالحسنة والنعمة فحوّلها الى سيئة ونقمة بدل شكرها وأداء حقها وأمن مكر الله تعالى، واذا نفعه

ص: 206


1- الميزان في تفسير القرآن: 20/ 248.
2- موسوعة المصطفى والعترة (صلى الله عليهم أجمعين) للشاكري: 5/ 90.
3- بحار الانوار: 46/ 56 ح 6 عن ارشاد المفيد ومناقب ابن شهراشوب إعلام الورى.

هذا الجواب فلما فيه من الاعتراف بسعة كرم الله تعالى حتى طمع في معصيته وهذا الاعتراف أمر يحصل في الآخرة ولا علاقة له بمعاصيه في الدنيا.4 ان الكافر لا يستطيع ان يقول هذا الكلام لانه لم يكن يعتقده ولا يعرفه، وليس كرم الله تعالى الذي غرّه بالمعصية وإنما غرّه هواه وتسويل الشيطان وزخارف الدنيا. كما صرحت الآيات الكثيرة التي اوردناها في أسباب الاغترار.

5 ان هذا التلقين لا يفهمه الا أهل المعرفة خصوصاً وان الآية لم تذكر بصراحة ووضوح:أيها الكافر او العاصي قل (غرّني كرمك) عندما تسأل:لماذا كفرت وعصيت، وانما اكتفت بوصف الرب بالكريم وفهم أهل المعرفة من ذكر هذا الاسم دون غيره انه إشارة الى هذا المعنى، فهذا التلقين للحجة لا يفهمه الا من يستحقه ومثل هذا لا يغريه كرم الله تعالى بالمعصية وانما بمزيد من الطاعات واجتناب المعاصي والاعتراف بالعجز والتقصير ((فاذا كان الفرد مستحقاً لفهمها كان مستحقاً لتطبيقها ويتحمل مسؤوليتها، اما السائرون في المعصية والموغلون في الرذيلة فلا يعرفونها ولا يفهمونها ابداً، وليس لهم التوفيق في الرجوع الى مصادر التفسير))(1).

اقول:ولو قرأوها في التفاسير أو سمعوها من أحد فانهم لا ينتفعون بها لأنهم سيذهلون عنها.

6ان هذا السؤال يقع يوم القيامة بحسب الظاهر حيث يكون باب العمل والتكليف مغلقاً، وليس في الدنيا حتى يكون سبباً للتغرير بالعاصي، فقول (غرني كرمك) يكون لاستدرار الرحمة والعفو وليس للتمادي في الذنوب.

ص: 207


1- منّة المّنان في الدفاع عن القرآن للسيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر: 4/ 379.

7 ان السيد الطباطبائي يعلم ان هذا المعنى يليق بكرم الله تعالى، وان الله تعالى عند حسن ظن عبده، وانه عز وجل أكرم من ذلك، فقد يجيز كذب العبد اذا ادعّاه تطبيقاً لقوله تعالى {وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ} (يس:57) ففي تفسير القمي بسنده عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبدالله الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (إن آخر عبد يؤمر به الى النار، فاذا أٌمر به التفت، فيقول الجبار جلّ جلاله:ردّوه فيردّونه فيقول:لم التفتَّ إليَّ؟ فيقول:يا ربِّ لم يكن ظني بك هذا، فيقول:وما كان ظنّك بي؟ فيقول:يا ربِّ كان ظني بك ان تغفر لي خطيئتي وتسكنني جنتّك، قال:فيقول الجبار:يا ملائكتي، وعزّتي وجلالي وآلائي وعلّوي وارتفاع مكاني، ما ظنّ بي عبدي هذا ساعة من خير قطّ ولو ظن بي ساعة من خير ما روّعته بالنار، أجيزوا له كذبه فأدخلوه الجنة)(1).

8 اننا إنما نذكر هذه المعاني والروايات لنزداد معرفة بالله تعالى فنزداد حباً له تعالى وطاعة له سبحانه وتعلقاً به ونزداد فخراً واعتزازاً بأن ربنا ومولانا هو هذا الرب الكريم وليس مثل الكفار والمشركين والملحدين واللادينين الذين لهم آلهة وهمية مزيفة (إلهي كفى بي عزاً أن أكون لك عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي ربا)(2)

وقد استقرب السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) إفادة الآية لتلقين الحجة، واحتمل وجهاً لاعتراض السيد الطباطبائي على هذا المعنى قال فيه: ((ولعل الذي

ص: 208


1- بحار الانوار 7/ 87 عن ثواب الاعمال، وحكاه في هامش منّة المّنان: 4/ 382 عن تفسير القمي: 2/ 262265
2- بحار الأنوار المجلسي: 91/ 94

حدى بالسيد الطباطبائي الى نفي هذا المعنى لكي لا يكون كلام المشهور سبباً للذنوب، فجزاه الله خيرا، فقد سدَّ الباب وبيّن ان هذه الآية لا تعطي ذلك اطلاقاً حتى ان الناس اذا قرأوا القرآن او قرأوا التفاسير لا يكونون مطمئنين لذنوبهم، والا لو لا هذا العنوان الثانوي في الحقيقة – وهو انسداد باب الذنوب – فإن الآية تعطي ذلك حقاً (غرني كرمك) ولذا اوصي المبلغين وقادة المجتمع ان لا يركزوا على الروايات الباعثة على الاطمئنان والشفاعة وغفران الذنوب، لان الناس ليسوا على مستوى التطميع برحمة الله، فينفتح باب الذنوب ويستغل الشيطان هذه الثغرة للمرور إلى نفوس الناس وإغوائهم، وتكون ذممكم مشغولة من هذه الناحية، واذكر اني كنت ذات يوم في مجلس تعزية فصاح أحدهم (من صلّى عليَّ مرة لم تبقَ من ذنوبه مرة)(1) فهذا القول قد يكون صدر من النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) غير أنه صدر للمستحق لا لمن لا يستحق، اما ان يعلن في مجلس عام فهو مصيبة من المصائب، لانها اذا وصلت الى غير المستحقين يتذرعون بها لاقتراف الذنوب واقتحام المعاصي، وحينها اعترضت على صاحب المجلس (رحمه الله)- وكان من فضلاء الحوزة – ان لا يسمح بمثل ذلك)).أقول:هذه المخاوف في محلها إذ ان هذا الفهم قد اسيء استخدامه لدى العامة فعلاً فتراهم يوغلون في المعاصي والمنكرات ولما تنهى أحدهم يقول (الله كريم) وهذا جهلٌ فظيع بعلاقة العبد بربّه، وكأنهم لم يسمعوا الآيات الكثيرة كقوله تعالى {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم:7) وقوله تعالى {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ

ص: 209


1- بحار الانوار: 91/ 63، مستدرك الوسائل: 5/ 234 أبواب الذكر، الباب 31 ح 13.

الْعَذَابُ الأَلِيمَ} (الحجر:4950) وفي دعاء الافتتاح في ليالي شهر رمضان (وأيقنت أنك أنت أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة، وأشدّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة) فلابد من وضع هذه الإشارات الكريمة في سياقها الإيجابي الذي ذكرناه في النقطة (8) وليس سياقها السلبي، وهذا المعنى للآية إنما يُذكر شاهداً على سعة كرم الله تعالى ليزداد المؤمن محبة وتعلقاً بربه وليس فيه دفع للمعاصي والعياذ بالله بل إن فيه تأكيداً للحجة البالغة على العاصين.قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عند تلاوته هذه الآية (أَدْحَضُ مَسْئُولٍ حُجَّةً وَأَقْطَعُ مُغْتَرٍّ مَعْذِرَةً لَقَدْ أَبْرَحَ جَهَالَةً بِنَفْسِهِ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا جَرَّأَكَ عَلَى ذَنْبِكَ وَمَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ وَمَا أَنَّسَكَ بِهَلَكَةِ نَفْسِكَ أَمَا مِنْ دَائِكَ بُلُولٌ أَمْ لَيْسَ مِنْ نَوْمَتِكَ يَقَظَةٌ أَمَا تَرْحَمُ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَرْحَمُ مِنْ غَيْرِكَ فَلَرُبَّمَا تَرَى الضَّاحِيَ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ فَتُظِلُّهُ أَوْ تَرَى الْمُبْتَلَى بِأَلَمٍ يُمِضُّ جَسَدَهُ فَتَبْكِي رَحْمَةً لَهُ فَمَا صَبَّرَكَ عَلَى دَائِكَ وَجَلَّدَكَ عَلَى مُصَابِكَ وَعَزَّاكَ عَنِ الْبُكَاءِ عَلَى نَفْسِكَ وَهِيَ أَعَزُّ الْأَنْفُسِ عَلَيْكَ وَكَيْفَ لَا يُوقِظُكَ خَوْفُ بَيَاتِ نِقْمَةٍ وَقَدْ تَوَرَّطْتَ بِمَعَاصِيهِ مَدَارِجَ سَطَوَاتِهِ فَتَدَاوَ مِنْ دَاءِ الْفَتْرَةِ فِي قَلْبِكَ بِعَزِيمَةٍ وَمِنْ كَرَى الْغَفْلَةِ فِي نَاظِرِكَ بِيَقَظَةٍ وَكُنْ لِلَّهِ مُطِيعاً وَبِذِكْرِهِ آنِساً وَتَمَثَّلْ فِي حَالِ تَوَلِّيكَ عَنْهُ إِقْبَالَهُ عَلَيْكَ يَدْعُوكَ إِلَى عَفْوِهِ وَيَتَغَمَّدُكَ بِفَضْلِهِ وَأَنْتَ مُتَوَلٍّ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ فَتَعَالَى مِنْ قَوِيٍّ مَا أَكْرَمَهُ وَتَوَاضَعْتَ مِنْ ضَعِيفٍ مَا أَجْرَأَكَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَأَنْتَ فِي كَنَفِ سِتْرِهِ مُقِيمٌ وَفِي سَعَةِ فَضْلِهِ مُتَقَلِّبٌ فَلَمْ يَمْنَعْكَ فَضْلَهُ وَلَمْ يَهْتِكْ عَنْكَ سِتْرَهُ بَلْ لَمْ تَخْلُ مِنْ لُطْفِهِ مَطْرَفَ عَيْنٍ فِي نِعْمَةٍ يُحْدِثُهَا لَكَ أَوْ سَيِّئَةٍ يَسْتُرُهَا عَلَيْكَ أَوْ بَلِيَّةٍ يَصْرِفُهَا عَنْكَ فَمَا ظَنُّكَ بِهِ لَوْ أَطَعْتَهُ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ كَانَتْ فِي مُتَّفِقَيْنِ فِي الْقُوَّةِ مُتَوَازِيَيْنِ فِي الْقُدْرَةِ لَكُنْتَ أَوَّلَ

ص: 210

حَاكِمٍ عَلَى نَفْسِكَ بِذَمِيمِ الْأَخْلَاقِ وَمَسَاوِئِ الْأَعْمَالِ وَحَقّاً أَقُولُ مَا الدُّنْيَا غَرَّتْكَ وَلَكِنْ بِهَا اغْتَرَرْتَ وَلَقَدْ كَاشَفَتْكَ الْعِظَاتِ وَآذَنَتْكَ عَلَى سَوَاءٍ وَلَهِيَ بِمَا تَعِدُكَ مِنْ نُزُولِ الْبَلَاءِ بِجِسْمِكَ وَالنَّقْصِ فِي قُوَّتِكَ أَصْدَقُ وَأَوْفَى مِنْ أَنْ تَكْذِبَكَ أَوْ تَغُرَّكَ وَلَرُبَّ نَاصِحٍ لَهَا عِنْدَكَ مُتَّهَمٌ وَصَادِقٍ مِنْ خَبَرِهَا مُكَذَّبٌ وَلَئِنْ تَعَرَّفْتَهَا فِي الدِّيَارِ الْخَاوِيَةِ وَالرُّبُوعِ الْخَالِيَةِ لَتَجِدَنَّهَا مِنْ حُسْنِ تَذْكِيرِكَ وَبَلَاغِ مَوْعِظَتِكَ بِمَحَلَّةِ الشَّفِيقِ عَلَيْكَ وَالشَّحِيحِ بِكَ وَلَنِعْمَ دَارُ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِهَا دَاراً وَمَحَلُّ مَنْ لَمْ يُوَطِّنْهَا مَحَلًّا وَإِنَّ السُّعَدَاءَ بِالدُّنْيَا غَداً هُمُ الْهَارِبُونَ مِنْهَا الْيَوْمَ إِذَا رَجَفَتِ الرَّاجِفَةُ وَحَقَّتْ بِجَلَائِلِهَا الْقِيَامَةُ وَلَحِقَ بِكُلِّ مَنْسَكٍ أَهْلُهُ وَبِكُلِّ مَعْبُودٍ عَبَدَتُهُ وَبِكُلِّ مُطَاعٍ أَهْلُ طَاعَتِهِ فَلَمْ يُجْزَ فِي عَدْلِهِ وَقِسْطِهِ يَوْمَئِذٍ خَرْقُ بَصَرٍ فِي الْهَوَاءِ وَلَا هَمْسُ قَدَمٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا بِحَقِّهِ فَكَمْ حُجَّةٍ يَوْمَ ذَاكَ دَاحِضَةٌ وَعَلَائِقِ عُذْرٍ مُنْقَطِعَةٌ)(1).علماً بأن المؤمن الذي يتأسى بربّه وُصِفَ في بعض الأحاديث الشريفة بانه لكرمه يغري الآخر بالتجاوز عليه(المؤمن غرّ كريم)(2) لانه لا يظن الشر والسوء ولا يحتمله في الآخر ويتغافل عنه كرماً منه وإحساناً في أخلاقه لا جهلاً ولا لقلة فطنته ويظن الآخر أنه قد خدعه كالذي يروى عن أحد أسرى بدر حينما توسل لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن يفك أسره ويبقيه للصبية والعيال فعفا عنه رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ولما عاد الى مكة قال لقريش قال لهم:(خدعت كريماً فانخدع (3)،ثم أُسِر في المعركة التالية وأعاد نفس الطلب لكن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم يمنحه فرصة أخرى

ص: 211


1- نهج البلاغة خطبة 223.
2- امالي الطوسي ج 2 ص 77.
3- البداية والنهاية ابن كثير: 5/ 447, ط. هجر

وعاقبه بما يستحقه.وبعيداً عن هذا المعنى وإشكالاته فإنه يمكن أن يكون إيراد لفظ الكريم لبيان أن الله تعالى لا يريد من سؤاله هذا نفعاً أو فائدة لأنه كريم لا يريد بعطائه جزاءً ولا شكورا ولا تضرّه معاصي العاصين كما لا تنفعه طاعة المطيعين وإنما يراد هداية العباد وصلاحهم قال تعالى {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (النمل:40).

ويمكن أن نفهم الآية على نحو آخر بحيث لا يكون المخاطب فيها الانسان العاصي، بل المطيع الطامع بمراتب الكمال، فيُسأل ما الذي اغراك وطمّعك حتى صرت تطلب هذه المنازل السامية، فيقول:أطمعني كرمك يا ربّي لانني اراك تعطي الكثير بالقليل وتبتدى بالنعم من لا يستحق وتعطي من سألك ومن لم يسألك ومن لم يعرفك، فالتعجب في الآية قد يكون من انحطاط الانسان وتسافله وقد يكون من رقيّه وتساميه اذا نظرنا الى الآية بمعزل عن السياق الدال على الأول.

ونذكر الآن رواية عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تتضمن مثالاً للمغّتر بما تمنيه نفسه ويملي عليه جهله، ومثالاً لاغترار الناس بنماذج ظاهرها التدين والعمل الصالح الا انها في الحقيقة على العكس من ذلك، فقد روي عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال (قوله عز وجل: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ}، قال (يقول ارشدنا الى الصراط المستقيم ارشدنا للزوم الطريق المؤدي الى محبتك، والمبلّغ الى دينك والمانع من ان نتّبع اهواءنا فنعطب او نأخذ بآرائنا فنهلك) ثم قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فان من اتبع هواه وأعجب برأيه كان كرجل سمعت غثاء العامة تعظمه وتصفه فأحببت لقاءه من حيث لا يعرفني، فرأيته قد أحدق به خلق كثير من غثاء العامة، فما زال يراوغهم

ص: 212

حتى فارقهم ولم يقر، فتبعته فلم يلبث أن مر بخباز فتغفله فأخذ من دكانه رغيفين مسارقة فتعجبت منه، ثم قلت في نفسي:لعله معاملة، ثم مر بعده بصاحب رمان فما زال به حتى تغفله وأخذ من عنده رمانتين مسارقه فتعجبت منه، ثم قلت في نفسي:لعله معاملة، ثم أقول:وما حاجته إذاً إلى المسارقة؟! ثم لم أزل أتبعه حتى مر بمريض فوضع الرغيفين والرمانتين بين يديه - ثم ذكر أنه سأله عن فعله - فقال له:لعلك جعفر بن محمد؟ قلت:بلى، فقال لي:فما ينفعك شرف أصلك مع جهلك؟! فقلت:وما الذي جهلت منه؟ قال:قول الله عزّ وجلّ {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} (الأنعام:160)، وإني لما سرقت الرغيفين كانت سيئتين، ولما سرقت الرمانتين كانت سيئتين، فهذه أربع سيئات، فلما تصدقت بكل واحدة منها كان لي أربعين حسنة، فانتقص من أربعين حسنة أربع سيئات وبقى لي ست وثلاثون حسنة، فقلت له:ثكلتك امك، أنت الجاهل بكتاب الله، أما سمعت الله عزّ وجلّ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة:27) إنك لما سرقت رغيفين كانت سيئتين، ولما سرقت رمانتين كانت أيضا سيئتين، ولما دفعتهما إلى غير صاحبهما بغير أمر صاحبهما كنت إنما أضفت أربع سيئات إلى أربع سيئات، ولم تضف أربعين حسنة إلى أربع سيئات فجعل يلاحظني فانصرفت وتركته، قال الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):بمثل هذا التأويل القبيح المستكره يضلون ويضلون)(1).

ص: 213


1- وسائل الشيعة: 9/ 467 كتاب الزكاة ، أبواب الصدقة باب 46، ح 6.

القبس/175: سورة المطففين:26

{وَفِي ذَلِكَ فَليَتَنَافَسِ ٱلمُتَنَفِسُونَ}

جاءت الآية بعد سلسلة من الآيات التي تصف العاقبة الحسنة للأبرار {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ، يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ} (المطففين:2225). ففي مثل هذا النعيم يجب أن يكون التنافس على السبق والتحصيل، وقد دّلت لام الامر على الطلب والدعوة.

ولعل في تقديم (وفي ذلك) بدل تأخيرها كما هو مقتضى القاعدة نكتة إفادةَ الحصر أي ان التنافس لا يكون الا في مثل هذا النعيم، وإن هذا وحده يستحق التنافس دون غيره مهما كان ذلك الغير عظيماً في نظر الناس كالمال أو الجاه أو السلطة ونحو ذلك، وهو معنى يقتضيه لفظ التنافس، الذي هو بذل الجهد وإتعاب النفس وسبق الغير لتحصيل النفيس من دون إضرار بذلك الغير ولا كيد له ولا حرمان منه. ولا نفيس الا في ما يرضي الله تبارك وتعالى والفوز في الآخرة اما ما سواها فهي لذة ومتعة آنية فانية ولا قيمة لما في الدنيا الا بمقدار ما يقدّم للآخرة، فتكون الآية بمعنى قوله تعالى {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ} (الحديد:21) وقوله {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ} (البقرة:148) وقوله {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} (الأنبياء:90).

ص: 214

وعليه فما يرد في الكلام المتداول من تقسيم التنافس إلى شريف وغير شريف هو تعبير غير دقيق لان التنافس لا يكون الا شريفاً، أما التنافس غير الشريف لكون أغراضه كذلك أو ان وسائله كذلك فانه ليس تنافساً أصلاً لأنه ليس مسابقة على أمر نفيس بل على أمر وضيع فيخرج من موضوع التنافس، ولعل هذا التقسيم مبني على فهم التنافس بمعنى التغالب بشكل عام فيشمل القسمين، قال السيد الطباطبائي (قدس سره) (التنافس:التغالب على الشيء) وقال الشهيد السيد الصدر الثاني (قدس سره) (التنافس:التغالب على هدف معين، كل واحد منهم يجب أن يكون أسرع من صاحبه في الوصول إليه))(1).أقول:تضمين التنافس معنى التغالب مأخوذ من تداول استعمال اللفظ بهذا المعنى وشهرته والا فأنه لا يقتضي ذلك كما قدمّنا ولعلهم أخذوا المعنى من كون المرتكز في ذهن المشهور أن صيغة (تفاعل) تدل على الفعل المتبادل بين أثنين أو أكثر وهو غير لازم لورود الصيغة في معنى الثلاثي نحو (تعالى الله) أي علا وقد يستعمل للوقوع التدريجي نحو (تقاطر المطر) أو للدلالة على خلاف الواقع نحو (تظاهر وتمارض) وغير ذلك.

فالتنافس لا يعني المغالبة بل ما ذكرنا من المسارعة والاستباق لتحصيل الامر النفيس من نعيم الآخرة وهو لا حدود له ولا نفاد ولا اختصاص لاحد دون آخر {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} (ص:54) أما المغالبة فأنما تحصل في الأمور الدنيوية لمحدودية موجوداتها فيحرص كل واحد أن يغلب الآخر للحصول عليه دونه، والآخرة ليست كذلك فلا تحتاج إلى المغالبة، قال في مجمع

ص: 215


1- الميزان في تفسير القرآن: 20/ 263، منة المنّان: 4/ 271.

البيان ("التنافس":تمنّى كل واحد من النفسين مثل الشيء النفيس الذي للنفس الأخرى أن يكون له)(1).ولذا فان التنافس الحقيقي لبلوغ نعيم الآخرة يرتقي ويسمو بجميع المتنافسين إلى اعلى الدرجات،اما التنافس على أمور الدنيا كالسلطة او المال او الأرض وفي غير ذلك، فانه يجعل المتنافسين في صراع قد يحرق الأخضر واليابس كما هو المشاهد عبر التاريخ.

ومما تقدم تلخّص لدينا عدة وجوه لحصر الآية استحقاق التنافس في أمر الآخرة فقط، وهي تظهر الفوارق بين التنافس الدنيوي والآخروي:

1 لان نعيم الآخرة دائم وحقيقي {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} بينما لذات الدنيا ومغانمها فانية زائلة ومحدودة.

2 ان التنافس على نعيم الآخرة يؤدي إلى إعمار الحياة بالخير والعدل والإحسان والرحمة بينما التنافس على الدنيا يدع الأرض بلاقع ويهلك الحرث والنسل.

3 ان المتنافسين على الآخرة يسمون بتنافسهم ويزدّادون مودة ومحبة بينما يمتلئ المتنافسون على الدنيا ضغينة وحقداً وحسداً.

4 ان المتنافسين على الدنيا يبقون في دائرة ضيقة هابطة لان همهم إرضاء انانّياتهم واشباع نزواتهم وتلبية شهواتهم بينما يتسع أفق المتنافسين على الآخرة وترنو ابصارهم الى ما وراء هذا الكون العظيم.

ص: 216


1- مجمع البيان الطبرسي: 10/ 295

والاتيان بهذا المشهد من جنة الابرار ونعيمهم في سورة المطففين ثم التعقيب بالآية محل البحث يلفت النظر ويفتح الذهن على هذه المقارنة لإدراك ما يستحق المنافسة فالمطففون لا يتورعون ولا يخافون سوء الحساب فيظلمون الناس ويأكلون أموالهم بالباطل ويمضون حياتهم في التكالب على هذه الدنيا الدنية ومتاعها الرخيص ويتباهون بما يحصلون عليه منها ويزيد بذلك الاوزار والتبعات على ظهره فتذكر السورة مصيرهم {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} (المطففين:1) إلى ان يقول سبحانه {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} (المطففين:7) {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} (المطففين:16) إلى آخر الآيات.والدعوة في الآية الكريمة عامة لكل الناس ولا يضّر بعمومها إنها موجّهة للمتنافسين فان هذا ليس من باب التخصيص لان كل الناس داخلون في عنوان المتنافسين بعد ملاحظة ما هو مغروس في فطرة الانسان من حب التنافس والحرص على تحصيل النفيس لكنها توجّه هذه النزعة الإنسانية نحو حب الخير والازدياد منه فوجّهت تنافسهم إلى الهدف الصحيح الذي ربما كانوا غافلين عنه حتى المتدينون منهم ومن هنا يظهر أحد وجوه أهمية الدين في حياة الانسان بتوجيه تنافسه نحو الخير والعدل والإحسان {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} (النحل:90) بينما الماديون يتوجه تنافسهم على المصالح الدنيوية فتحصل الحروب والمنازعات وما يتبعها من دمار وخراب فلينتبه المنادون بإقصاء الدين عن الحياة إلى الكارثة التي يريدون جر المجتمع اليها.

واروع ما في هذه المنافسة أن فاعل الخير والحسن يُعطى أجره وإن لم يقصد بعمله نيل ما عند الله تعالى، ففي كتاب الكافي:ان من وصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)

ص: 217

لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (يا علي من ترك الخمر لغير الله سقاه الله من الرحيق المختوم، فقال علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):لغير الله؟ قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):نعم والله صيانة لنفسه يشكره الله على ذلك)(1).والآية تدعو الى التنافس و المسابقة والمسارعة الى فعل الخير والطاعة مطلقاً سواء كان على نحو الواجب او المستحب، وقد استعمل فيها لفظ (في) وليس على ولعله لبيان ان التنافس والتسابق الى الخير هو بنفسه خير، وهذا واضح لان في الاحاديث:ان من نوى حسنةً او همَّ بها ولم يفعلها كتبت له حسنة(2) .

واثار السيد الشهيد الصدر الثانيقدس سره سؤالاً هنا يناسب ذوقه العرفاني قال فيه ((ان السياق السابق للآيات هو وصف ثواب الابرار، وهو ليس هدفاً حقيقياً، وإنما حال المقرّبين هو الهدف الحقيقي(3) فلماذا امر بالتنافس على حال الابرار؟)) ثم ذكر عدة وجوه في الجواب قال منها:

1 انه هدف في الجملة جيد جداً لمن يكون دون ذلك.

2 انه هو الهدف الغالبي؛ لأن الأعمّ ألأغلب من الناس هم دون ذلك لا محالة، فالمنظور هو الغالبية.

ص: 218


1- الكافي: 6/ 430.
2- عن ابن عباس عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى انه قال: (ان الله كتب الحسنات والسيئات ثم بيَّن ذلك، فمن همَّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وان همَّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى اضعاف كثيرة، وان هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وان هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة) رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما بهذه الحروف.
3- كما في الترتيب الذي ورد في سورة الواقعة.

3 ان التنافس يصحّ فقط على هذا الهدف، واما هدف المقربين فلا يصح فيه التنافس، لأنه مما لا يتحمله الناس ولا يقيمونه، فلا ينبغي ان يؤمروا بالتسبيب اليه.

4 ان التنافس انما يكون في هذا الهدف فقط، اما هدف المقربين فلا يمكن التنافس فيه، لأنه انما هو عطاء محض من قبل الله سبحانه، وليس بيد العبد التسبيب إليه، كما قال في الدعاء:(بخدمةٍ توصلني إليك)(1) وقال:(يامن دلّ على ذاته بذاته)(2).

5 ان التنافس انما يمكن في هذا الهدف فقط دون هدف المقرّبين؛ لأن المقرّبين في حالة فناءٍ، فلا يصلحون للتنافس، وانما التنافس يكون في عالم الأسباب والنظر الاستقلالي إلى الأشياء، وهو مناسب مع نظر الابرار لا مع نظر المقرّبين. والا فهذا التنافس هو عين الشرك بالنسبة إلى المقرّبين، ومن هنا لزم ان يكون هذا خطاباً للمستويات التي تناسبه، والتي يكون هذا التنافس نافعاً لها ومنتجاً لنتائجه الحسنة فيها.)(3)

أقول:بغضّ النظر عن المناقشة في بعض تعبيراته (قدس سره) فان هذا السؤال واجوبته تناسب ذقوه ومستواه العرفاني (قدس سره)، ويمكن ان نضيف أجوبة أخرى:

1 ان السؤال لا موضوع له اصلاً لانه مبني على التقسيم المصطلح لدى اهل الفن من تقسيم المقامات كالموجود في سورة الواقعة إلى المقرّبين

ص: 219


1- مفاتيح الجنان: 340, دعاء عرفة
2- مفاتيح الجنان: 93, دعاء الصباح
3- منة المنان: 4/ 271.

وأصحاب اليمين، والا فلا مانع من دخول المقرّبين في عنوان الابرار وقد دلّت عليه الروايات الشريفة فقد روى القمي في تفسيره بسنده عن جعفر بن محمد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في المراد من الابرار قوله (وهم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والائمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)(1)، وهم سادة المقرّبين والخلق جميعاً. ويمكن ان يستظهر ذلك من صريح الآيتين التاليتين {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ، عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} (المطففين:2728) لكن التدقيق فيهما يؤيد التقسيم الذي ذكره السيد الشهيد لأن الآية تشير إلى ان المقربين يشربون من عين تسنيم صافياً اما الابرار فيخرج شرابهم منها.

2 ان الآية تراعي المرحلية والتدريج فان المتنافسين اذا بلغوا مرتبة الابرار لم يقفوا عندها لطموحهم المستمر إلى التكامل فيتنافسون للوصول إلى مقام المقربين فتكون نظير قوله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن:16) للوصول إلى مقام آية {اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (آل عمران:102) ولو طلب منهم مقام الثانية رأساً لعجزوا ويأسوا.

ويوجد هنا اشكال نقله السيد الطباطبائي (قدس سره) قال فيه: ((واستشكل في الآية بأن فيها دخول العاطف على العاطف اذ التقدير:فليتنافس في ذلك الخ))(2).

أقول:وبيانه:ان حق العبارة ان يؤخرّ الظرف (في ذلك) فتصبح الجملة وفليتنافس المتنافسون في ذلك فجيئ بعاطفين متتالين وهم الواو والفاء وهو مخلّ

ص: 220


1- البرهان في تفسير القرآن: 10/ 123 عن تفسير القمي: 2/ 410.
2- الميزان في تفسير القرآن: 20 /264.

بالبلاغة ومستهجن وحكى السيد قدس سره جواباً وأضاف جواباً ثانياً وكلاهما بعيدان ومبنيان على تقديرات غير عرفية لا نحتاج إلى بيان تفاصيلهما.والجواب الصحيح ان الاشكال لا موضوع له لانه مبني على افتراض وتقدير وليس على واقع الجملة للفصل بين العاطفين بالظرف وقد علمنا في بداية الكلام وجه تقديم الظرف بل ان هذه الصياغة ابلغ التعابير فلو حذف أحد العاطفين او حصل تقديم وتأخير فانها سوف لا تؤدي الغرض المطلوب.

وخير مثال على المتنافسين في هذا النعيم والمسارعين عليه أصحاب الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأهل بيته حيث وصفهم الامام بذلك، فقد روى بعض ارباب المقاتل والتواريخ انهم تنافسوا فيمن يسبق إلى الموت اولاً ويبرز لمقاتلة الأعداء فقال بنو هاشم نحن اولاً لأننا أولى بالتضحية في سبيل رسالة جدنا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقال الاصحاب لا يمكن ان تُقتلوا ونحن ننظر إليكم فما عذرنا غداً يوم القيامة من جدّكم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وحينئذٍ اذن الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) للأصحاب اولاً حتى استشهدوا جميعاً ثم لحقهم آل الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ووقف الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على أجسادهم الطاهرة يناديهم باسمائهم يؤبنّهم ويثني على موقعهم ويستنصرهم اذ بقي وحيداً بعدهم وينسب إليه قوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)

قوم اذا نودوا لدفع ملمة *** والخيل بين مدعس و مكردس

لبسوا القلوب على الدروع واقبلوا *** يتهافتون على ذهاب الانفس(1)

أي يتسابقون إلى الموت ويتنافسون على الفوز بالشهادة بين يدي الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

ص: 221


1- مقتل ابي مخنف : 133، ناسخ التواريخ : 2/ 377، معالي السبطين: 2/ 19.

القبس/176: سورة الشمس:12

اشارة

{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا1وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا}

موضوع القبس: وجه تشبيه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والائمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بالشمس

قسم من الله تبارك وتعالى بالشمس وفي حديث عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (ان لله عز وجل ان يقسم من خلقه بما يشاء وليس لخلقه ان يقسموا الا به)(1) وفي القَسّم بالشمس إلفات نظر الناس الى عظمة خلقتها وجميل منافعها بحيث ان حياة الانسان والحيوان والنبات قائمة بها كما هو واضح، لكن الانسان يغفل عن النعم التي يألفها وتتكرر عليه.

وفي شروق الشمس وغروبها وحركتها وحركة الكواكب والاقمار آيات ومعاجز لذوي العقول والبصائر، روى الشيخ الصدوق بسنده عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير قوله تعالى {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} (الإسراء:72) قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (من لم يدلّه خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ودوران الفلك والشمس والقمر والآيات العجيبات على ان وراء ذلك امراً اعظم منه فهو في الاخرة

ص: 222


1- الكافي: 7/ 449

اعمى واضل سبيلاً).(1)والقمر يتلو الشمس أي يتبعها سواء في حركته او في اضائته اذ انه لا يؤثر الا بعد ان تغيب الشمس وهو يستقي نوره منها، لذا ورد التعبير عن الشمس بالضياء والقمر بالنور {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} (يونس:5)، وقيل في وجه ذلك: إن الضوء ما كان ذاتياً وبالاصالة، اما النور فيشمل ما ينعكس عن غيره، والقمر يعكس نور الشمس.

وما نريد ان نعرضه في هذا القبس التفسير المعنوي للشمس والقمر فقد روى علي بن إبراهيم في تفسيره، والكليني في روضة الكافي باسنادهما عن ابي بصير عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (سألته عن قول الله عز وجل والشمس وضحاها، قال: الشمس رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أوضح الله به للناس دينهم قلت: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} قال ذلك أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قلت: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} قال: ذلك أئمة الجور الذين استبدوا للامر دون آل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وجلسوا مجلسا كان آل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أولى به منهم، فغشوا دين رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالظلم والجور وهو قوله: والليل إذا يغشاها، قال: يغشى ظلمهم ضوء النهار، قلت: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} قال: ذلك الامام من ذرية فاطمة (س) يسئل عن دين رسول

ص: 223


1- التوحيد: 455 باب 67 النهي عن الجدال والمراء في الله عز وجل،ح6

الله فيجلى لمن يسأله، فحكى الله قوله: والنهار إذا جلاها) (1).وروى مجاهد عن ابن عباس قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مثلي فيكم مثل الشمس، ومثل علي مثل القمر، فاذا غابت الشمس فاهتدوا بالقمر).(2)

وهو واضح لان ما عند امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) اخذه من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، قال: (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) علمني الف باب من الحلال والحرام مما كان الى يوم القيامة كل باب منها يفتح الف باب فذلك الف الف باب حتى علمت علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب).(3) وهو خليفة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ويتلوه في امامة الامة وقيادتها وهدايتها.

فاذا قيس امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فهو قمر يتلو الشمس، واذا نُظِر اليه بلحاظ المخلوقين فهو شمس يستضيئون بنوره قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الا وان لكل مأموم امام يقتدي به ويستضيئ بنور علمه)(4).

وهكذا الائمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من اهل البيت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فهم أقمار يتلقون معارفهم من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهم شموس للبشرية جميعاً، لذا ورد وصفهم(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالنجوم في الروايات والنجوم شموس بعيدة عنّا فنراها صغيرة، ورد في تفسير قوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ

ص: 224


1- روضة الكافي: 8/ 50، ح12 ، تفسير القمي: 2/ 424، البرهان في تفسير القران: 10:170/ ح1، نور الثقلين: 5/ 352،ح3
2- البرهان في تفسير القران: 10/ 170/ح4 عن تأويل الايات: 2/ 806/ح5
3- الخصال: 481
4- نهج البلاغة

لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا} (الأنعام:97)، عن علي بن إبراهيم ان (النجوم: آل محمد)(1). ووردت عدة روايات بهذا المعنى في تفسير(2) قوله تعالى {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} (النحل:16) منها عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) النجم، والعلامات هم الائمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بهم يهتدون)(3).

وقد وصفت الروايات الامام المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وغيبته بالشمس اذا جلّلها السحاب، ففي اكمال الدين للصدوق بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إنّه ذكر الإمام القائم في حديث وقال (ذاك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلاّ من امتحن الله قلبه بالإيمان، قال جابر: فقلتُ له: يا رسول الله فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته؟ فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): أي والذي بعثني بالنبوة إنّهم يستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن تجلّلها سحاب).(4).

وفي الأمالي للصدوق بسنده عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (لم تخلو الأرض منذ خلق الله تعالى آدم من حجة لله فيها ظاهرٌ مشهور أو غائب مستور ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجة لله فيها ولولاهُ لم

ص: 225


1- تفسير القمي: 1/ 211
2- (راجع: القبس/78, {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} (النحل:16), من نور القرآن: 3/ 5
3- الكافي: 1/ 160/ح1 وتجد مجموعة الروايات في البرهان:5/ 328
4- كمال الدين: 1/ 241 باب: نص الله تعالى على القائم، ح3.

يُعبد الله، فقلتُ للصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): فكيف ينتفع الناس بالحجة الغائب المستور؟ قال: كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب). (1)وفي الاحتجاج ورد توقيع من الناحية المقدسة على يد السفير محمد بن عثمان وفيه (وأما الانتفاع بي في غيبتي فكالإنتفاع بالشمس إذا غيّبها عن الأبصار السحاب وإني لأمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء فاغلقوا أبواب السؤال عمّا لا يعنيكم). (2)

أقول: في هذه الروايات تشبيهان، أحدهما تشبيهُ الإمام بالشمس، والآخر تشبيه غيبته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالشمس إذا غطّاها السحاب، ونريد الآن أن نبيّن وجوهاً لفهم تشبيه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والمعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من اهل بيته بالشمس وهم أئمة الخلق وقادتهم وسادتهم مما يوفّق الله تعالى له، ونؤجل وجوه التشبيه الثاني الى الملحق.

ولتشبيه الامام بمعناه العام الشامل للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والائمة من آله بالشمس عدة وجوه:

1إنّ الشمس أصل الحياة وبدونها تنعدم الموجودات وهي الواسطة لإفاضة الحياة على الموجودات، وهكذا الإمام علة الوجود وواسطة الفيض الإلهي على جميع الموجودات وهم علة الوجود ولأجلهم خلق، ولولاه ساخت الأرض بأهلها كما في الحديث الشريف وفي دعاء العديلة (ببقائه بقيت الدنيا وبيمينه رُزق الورى، وبوجوده ثبتت

ص: 226


1- نقلتهما بواسطة بحار الأنوار: 52/ 92
2- نقلتهما بواسطة بحار الأنوار: 52/ 93

الارض والسماء)(1).2ولأن الشمس أصل الحياة فقد وُجدت قبل أي شيء آخر، وكذلك نور محمد وآل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين) وجدوا قبل الخلق، روى الشيخ الصدوق عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (الحجّة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق)(2).

3إن الشمس مصدر النور وهي التي تنير الأشياء وتجعلها منظورة بالعين ويمكن التعرّف عليها ولولا هذا النور لما أمكن التعرّف على الشيء، وكذلك الإمام هو مصدر المعارف الإلهية والعلوم ولولا تأصيلات الأئمة الأطهار (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما أمكن الاهتداء إلى شيء منها، وما يؤخذ عن غيرهم فهو زخرف من القول.

4ان نفع الشمس عام لا تمنعه عن شيء من الموجودات، وهم (صلوات الله عليهم اجمعين) كالشمس في عموم نفعهم {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107) وإنما لا ينتفع بهم من أراد لنفسه أن يكون أعمى لا يستفيد من نور الشمس، في الخصال من حديث الأربعمائة عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (أشدّ العمى من عمي عن فضلنا وناصبنا العداوة بلا ذنب سبق إليه منا إلاّ أنّا دعونا إلى الحق ودعاهُ من سوانا إلى الفتنة والدنيا فأتاهما ونصب البراءة منّا والعداوة لنا) (3).

ص: 227


1- مفاتيح الجنان: 128
2- كمال الدين: 1/ 16.
3- الخصال: 474.

وروى الشيخ الصدوق في كتاب التوحيد بسند صحيح عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قوله تعالى {وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} (الإسراء:72)، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (من لم يدلّه خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار ودوران الفلك والشمس والقمر، والآيات العجيبات على أنّ وراء ذلك أمر أعظم منه فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلاً). (1)5إن الشمس من المطهرات –كما هو الصحيح فهي تطهّر من النجاسة المادية، فكذلك ولاية الإمام المعصوم وحبّه واتباعه من المطهّرات المعنوية فبها تقبل الأعمال وتكفّر الذنوب وفي ذلك أحاديث كثيرة، لأنها من أعظم الحسنات والقربات إلى الله تعالى، والآية الشريفة تقول {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (هود:114).

6ان أي شيء يقترب من الشمس يصلى بحرارتها ويحترق تدريجيا حتى يفنى في نورها، وكذلك من يتقرب من اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بطاعتهم وحبّهم والسير على هديهم يفنى فيهم وتذوب انانيته ونفسه الامارة بالسوء {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} (إبراهيم:36) وفي الحديث النبوي الشريف (سلمان مّنا اهل البيت) (2) .

7كما أنّ الناس متفاوتون في الاستفادة من نور الشمس فبعضهم

ص: 228


1- التوحيد: 455 باب 67 النهي عن الجدال والمراء في الله عز وجل، ح6.
2- رواه الحاكم في المستدرك (3/ 598) ، والطبراني (6/ 261) .

يمنعها من الدخول إلى داره فيغلق الأستار والنوافذ ولا يستفيد من ضوء الشمس، وبعضهم يفتح منافذ بسيطة للإنارة والآخر يملأ داره بالفتحات والآخر يستفيد منها في الزراعة وآخر لتوليد الطاقة الشمسية، فكذلك نور الهداية المتصلة بالمعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) التي تركوها لنا من خلال أحاديثهم الشريفة، تتفاوت الناس في الاستفادة منها والعمل بها، فربّما أغلق البعض نوافذ قلبه وعقله لمنع نور الهداية من دخولهما، بينما فتح آخر كلّ حواسه ومنافذه الظاهرية والباطنية لتلقي هذه العلوم والمعارف والكمالات اللاّمحدودة بإذن الله تعالى.

ص: 229

ملحق: في وجه تشبيه غيبة الإمام بالشمس إذا جلّلها السحاب

ويمكن أن نفهم له عدة وجوه:

1كما ان احتجاب الشمس بالسحاب لا يؤثر على حقيقة وجودها ولا يصح لعاقل أن يستدل على عدم وجودها لعدم ظهورها للعين بسبب تغطية السحاب لها، فكذلك لا يمكن إنكار وجود الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لمجرّد عدم ظهوره للناس فهو (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) موجود وتوجد معه آثاره المباركة وألطافه الكريمة ورعايته الحانية.

2إنّ جملة من منافع الشمس لا تتوقف على ظهورها المباشر وبتعبير آخر أن فائدة الشمس لا تقتصر على التعرض لأشعتها المباشرة حتى يُقال بعدم الانتفاع منها إذا حجب السحاب أشعتها، فاحتجابها بالسحاب لا يمنع من الانتفاع بها وتبقى تؤدي دورها في حفظ نظام الحياة واستقرار المجموعة الشمسية وحركة الافلاك، وكذلك الانتفاع بوجود الإمام وفيوضاته المباركة لا تتوقف على ظهوره المباشر وإن حرم الناس من بعض تلك الانتفاعات بسبب غيبته، ومنها ما تقدم في الرواية الشريفة من كونه اماناً لأهل الارض ورد في رسالته الشريفة (إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، لولا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء). (1)

3إن احتجاب الشمس بالغيوم إنما هو لمن كان على الأرض فلو خرج من جو الأرض كالذي يحصل لركاب الطائرة عندما ترتفع فوق الغيوم فإنهم سيرون

ص: 230


1- الاحتجاج: رسالة الناحية المقدسة إلى الشيخ المفيد (قدس سره).

السماء صافية والشمس ظاهرة، فكذلك الإمام فإنه غير مشخّص لذوي الدرجات الاعتيادية والمتدنّية، أما الأنقياء المخلصون ومن حلّقوا في سماء الكمالات المعنوية فإنّ الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يظهر لهم ويرونه ويعرفونه ويتعاملون معه، وما على المؤمن إلاّ أن يسمو ويرتقي ويخرج من الحجب الأرضية لتكتحل عينه بالنظر إلى الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).4إن تغطية السحاب للشمس فيه رحمة بالناس وفيها مصلحة لهم أما من جهة نفس الغيوم لكونها تحمل أمطاراً تحيي الأرض الميتة، أو لعجز الناس عن تحمّل الأشعة المباشرة للشمس فتضر أبصارهم وتصيب رؤوسهم بضربة الشمس وربما اضطروا إلى السكون في منازلهم والقعود عن أعمالهم حذراً من أشعة الشمس، وكذلك غيبة الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فيها مصلحة للناس، من عدة جهات كالتفاتهم إلى ذنوبهم التي أوجبت حرمانهم من الاتصال المباشر بالإمام أو لأنّ إيمانهم ليس قوياً يحتمل القيادة المباشرة والنظر المباشر للإمام، كالذين لم يتحملوا قيادة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ففشلوا وخسروا الدنيا والآخرة، فعدم الابتلاء بالقيادة المباشرة رحمة بالناس لئلاّ تزيغ بصائرهم كتضرّر بصر من ينظر إلى الشمس مباشرة ويفشلوا في الامتحان نظير نصيحة الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لبعض من تخاذلوا(1) عن نصرته بأن يبتعدوا لئلاّ يسمعوا صرخة الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فتصيبهم الكارثة، فمثل هؤلاء يكون من الرحمة بهم تربيتهم بعيداً عن القيادة المباشرة للمعصوم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقبولهم على ما هم عليه.

5إن احتجاب الشمس بالسحاب أمر نسبي أي لبعض الناس إذ يمكن أن

ص: 231


1- أنظر: الأمالي الشيخ الصدوق: 199/ح7

تكون الشمس في نفس الوقت ظاهرة لبعض في بلد آخر لا يحجبهم السحاب، كما يقال في النشرة الجوية غائم جزئي فكذلك غيبة الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) نسبية لبعض الخلق دون بعض فهو ظاهر لبعض الخلق (وما في ثلاثين من وحشة)(1).6إن احتجاب نور الشمس لا لسبب منها أي لا لقصور في المقتضي كما يقال وانما لوجود المانع وهو السحاب فمتى ما زال السحاب اشرقت الشمس على الموجودات، وكذلك الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لم يحتجب لسبب منه فان اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ابواب رحمة الله وكرمه وفضله، وهو تبارك وتعالى لا بخل في ساحته (بابك مفتوح للراغبين وخيرك مبذول للطالبين وفضلك مباح للسائلين ونيلك متاح للآملين ورزقك مبسوط لمن عصاك وحلمك معترض لمن ناواك)(2).

وسبب احتجابه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يعود الى الخلق أنفسهم (الا ان تحجبهم الذنوب دونك).

(كما أن الشمس المحجوبة بالسحاب مع انتفاع الناس بها ينتظرون في كل آن انكشاف السحاب عنها وظهورها ليكون انتفاعهم بها أكثر فكذلك في أيام غيبته ينتظر المخلصون من شيعته خروجه وظهوره في كل وقت وزمان ولا ييأسون منه). (3)

ص: 232


1- الكافي الشيخ الكليني: 1/ 340/ح16
2- مفاتيح الجنان : 168 من ادعية شهر رجب
3- بحار الأنوار: 52/ 93.

القبس/177: سورة الضُحى9

اشارة

{فَأَمَّا ٱليَتِيمَ فَلَا تَقهَر}

موضوع القبس:كافل اليتيم المادي والمعنوي مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)

اليتم يعني الانقطاع والانفراد فاليتيم في الانسان انقطاع الطفل الذي لم يبلغ عن أبيه حيث (لا يتم بعد احتلام)(1)، أما في الحيوانات فهو الانقطاع عن الأم والجامع بينهما هو الانقطاع عن الكافل والرازق والمدبِّر والمدير، وبلحاظ معنى التفرّد والانقطاع يكون معنى اللفظ واسعاً فيشمل كل متفرد منقطع النظير فيقال جوهرة يتيمة أي انقطعت مادتها التي أخرجت منها فلا يوجد مماثل لها وقصيدة يتيمة أي لا نظير لها وهكذا.

وبهذا المعنى فسرَّت بعض الروايات يُتُم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقد روى العياشي في تفسيره عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عند تفسير قوله تعالى لنبيه محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} (الضحى:6) قال (فرداً لا مثل لك في المخلوقين فآوى الناس اليك)(2) وروى الشيخ الصدوق مثله عن ابن عباس(3) وقال علي بن إبراهيم في تفسيره (اليتيم الذي لا مثل له ولذا

ص: 233


1- وسائل الشيعة: 1/ 45 أبواب مقدمات العبادات، باب 4 ح 9
2- تفسير نور الثقلين: 5/ 358 سورة الضحى ح 13
3- معاني الاخبار: 52 ح 4

سميت الدرة اليتيمة لأنه لا مثل لها)(1)، واذا صح صدور الحديث عن الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فلا كلام وإن كان فهماً من بعض الرواة فهو خلاف الظاهر خصوصاً بمقابلته مع تفريع آية {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} (الضحى:9) عليها ويمكن قبول هذا المعنى اذا نُظر إلى الآية مستقلة عن الآية الأخرى. واليتم حاله تثير الشفقة والتعاطف بشكل عاصف وتثير كوامن الإنسانية وهي محل لاختبار كرم الاخلاق من لؤمها وفي ذلك نسب إلى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):

ما إن تأوهت من شيء رزئت به *** كما تأوهت للأطفال في الصغر(2)

قد مات والدهم من كان يكفلهم *** في النائبات وفي الاسفار والحضر

ونجد في القرآن الكريم التأكيدات المتكررة على الإحسان إلى الأيتام ورعايتهم مثل قوله تعالى {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ} (البقرة:177) وقوله تعالى {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى} (البقرة:215) وقوله تعالى {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} (النساء:36) ويصل التأكيد إلى ذروته عندما قرنها الله تعالى بتوحيده وبأفضل العبادات في قوله تعالى {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} (البقرة:83).

وحذرت الآيات الكريمة من عقوبة من تمتد يده إلى أموال اليتامى بغير حق مستغلاً ضعفهم وقلة حيلتهم وعدم معرفتهم بالأمور كقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ

ص: 234


1- تفسير نور الثقلين : 5/ 358 ح 17
2- بحار الأنوار المجلسي: 33/ 47

يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (النساء:10) وجعل تبارك وتعالى عدم اكرام اليتيم من علامات ضعف الايمان قال تعالى {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} (الفجر:17) بل من علامات عدم الايمان بالآخرة قال تعالى {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} (الماعون:12) لأنه لو كان يؤمن بالآخرة حقاً لسعى إليها سعيها.فالآية الكريمة محل البحث موجهة الى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومنه إلى البشر كافة بأن يهتم باليتيم وايوائه والاعتناء به ولا يتسبب في إيلامه وإزعاجه وإذلاله وتسليط من لا يرحمه عليه، قال تعالى له ذلك بعد ان ذكّره في الآيات السابقة بنعمة الله تعالى عليه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) اذ كان يتيماً فآواه وكفله وأعزّه ونصره {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} (الضحى:6) فأنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقد أباه وهو حمل في بطن أمه فكفله جده عبدالمطلب سيد البطحاء ثم توفيت أمه وهو في الشهر السادس من عمره، وتوفي جده وهو في الثامنة من عمره فكفله عمه أبو طالب ونصره وحماه من أذى قريش وغيرهم.

ولا شك في ان أكثر من يقدّر معاناة اليتيم وآلامه وانكساره وآثاره النفسية والاجتماعية هو من ذاق اليتم ومن هنا ارتبطت الآية بفاء التفريع والتسبيب {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} أي اجعل تذكرك لحالة اليتم التي عشتها سبباً لإكرام اليتيم والإحسان اليه وعدم اشعاره بالنقص الذي تسبّب بفقدان كافله ومعيله ومربّيه.

وقد أوصل (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هذا التوجيه إلى الأمة بكل وضوح وبأبلغ التعابير واعلى الاثمان فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (من عال يتيماً حتى يستغنى عنه أوجب الله عزوجل له بذلك

ص: 235

الجنة كما أوجب الله لآكل مال اليتيم النار)(1) وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (إن في الجنة داراً يقال لها:دار الفرح، لا يدخلها الا من فرّح يتامى المؤمنين)(2) وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(إن اليتيم اذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن، فيقول الله لملائكته يا ملائكتي من ابكى هذا اليتيم الذي غُيِّب أبوه في التراب، فتقول الملائكة:أنت أعلم، فيقول الله تعالى:يا ملائكتي فإني أشهدكم ان لمن أسكته وأرضاه أن أرضيه يوم القيامة)(3). ويصل تكريم كافل اليتيم إلى ذروته بقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(من كفل يتيماً وكفل نفقته كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وقرن بين إصبعيه المسبّحة والوسطى)(4)وفي رواية أخرى قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): ((أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة إذا اتقى الله عز وجل)) وأشار بالوسطى والتي تليها)(5)، والحديث مشهور، وإن كان ينقل من دون جزئه الأخير الذي هو شرط قبول الأعمال، قال تعالى{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة:27) لكنه هنا شرط لكون كافل اليتيم في درجة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وليس شرطاً لإعطاء الجزاء، لأن أعمال البر والإحسان يثاب عليها الإنسان ولو لم يقصد بها وجه الله تعالى.

وقد أكدت الآية الكريمة على الجانب المعنوي في رعاية الأيتام {فَلَا تَقْهَرْ} أي لا تذلّ ولا تهن ولا تستضعف اليتيم لأن حاجة اليتيم اليه أشدّ إذ قد يكون

ص: 236


1- بحار الأنوار: 75/4 ح 8
2- كنز العمال: 6008
3- مجمع البيان: 10 /214
4- بحار الأنوار: 3/ 75 عن قرب الإسناد بسند مقبول
5- تفسير نور الثقلين: 597/ 5

مكتفياً مادياً لأن أباه ترك له مالاً يعيش منه لكن الجانب المعنوي تبقى الحاجة إليه وقد حثت عليه الأحاديث الشريفة حتى بأبسط صورة كالمروي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (من مسح على رأس يتيم كان له بكل شعرة تمر على يده نور يوم القيامة)(1) .وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ما من مؤمن ولا مؤمنة يضع يده على رأس يتيم ترحماً الا كتب الله له بكل شعرة مرّت يده عليها حسنة)(2).

وتذكر الروايات ان ذلك يعود بالفيض المعنوي على الماسح نفسه فقد قال (رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لرجل يشكو قسوة في قلبه: أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم وأمسح رأسه واطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك)(3).

إن كفالة الأيتام والإحسان اليهم ليس فقط عملاً شخصياً يتقرب به الانسان إلى الله تعالى وينال به الدرجات المذكورة وانما هي مسؤولية اجتماعية لأن استمرار شعور اليتيم بالنقص والحرمان وانه ادون من الآخرين وعدم معالجة هذه الحالة عنده تجعله عنصراً مأزوماً محتقناً ويتحيّن الفرص للانتقام من المجتمع الذي لم يعوضه عن هذا النقص ويتحول الايتام إلى قنابل موقوته في المجتمع ما لم يتم دمجهم كافراد طبيعيين صالحين فيه، وهذا يعطي رساله إطمئنان لكل الناس بأن حقوقهم وحقوق أبنائهم مكفولة بأحسن صورة حتى لو خلفوا ايتاماً،

ص: 237


1- تفسير مجمع البيان: 10 / 214
2- بحار النوار: 75/ 4 ح 9
3- ميزان الحكمة: 9/ 614

وورد هذا المعنى في حديث عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (حُرِّم أكل مال اليتيم ظلماً لعلل كثيرة من وجوه الفساد) إلى أن قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فاذا أكل ماله فكأنه قد قتله وصيّره إلى الفقر والفاقة، مع ما في ذلك من طلب اليتيم بثأره اذا أدرك، ووقوع الشحناء والعداوة والبغضاء حتى يتفانوا)(1)ولابد من الالتفات الى المعنى الواسع لآكل مال اليتيم فان عدم دفع الحقوق الشرعية الى مستحقيها من مصاديق هذا العنوان ففي رواية صحيحة عن أبي بصير قال (قلت لأبي جعفر - الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) - ما أيسر ما يدخل به العبد النار؟ قال:من أكل من مال اليتيم درهماً، ونحن اليتيم)(2).

وان ما يأكله السياسيون الفاسدون من أموال الشعب بغير حق هو أكل لمال اليتيم بالباطل لأن المسؤول في موقع الأبّوة والكفالة والرعاية للشعب انطلاقاً من الحديث النبوي الشريف (يا علي أنا وأنت أبوا هذه الأمة)(3) فالشعب منقطع عن ثرواته ومصالحه وامكانياته المتنوعة التي اودعها الله تعالى في أرضه واستأمن المسؤولين في السلطة عليها فاذا مدّ المسؤول يده اليها ولم يحسن وضعها في محلها فأنه أكل أموال هؤلاء الأيتام المنقطعين.

ان كل ما تقدم يلزمنا بإيجاد المؤسسات الخيرية والثقافية والتربوية والتعليمية التي تعنى برعاية الأيتام وكفالتهم وحسن تربيتهم وتعليمهم وتثقيفهم حتى يكونوا افراداً صالحين في المجتمع بل ربما من قادته، وقد أورد الفقهاء مسائل شرعية

ص: 238


1- علل الشرائع: 480 ح 1
2- وسائل الشيعة: 9/ 483 أبواب ما يجب فيه الخمس، باب 1 ح 1
3- بحار الأنوار: ج 36 / ص 11

مفصّلة لحفظ أموال الأيتام وادارتها بما فيه مصلحة الصغير ووضعت شروطاً لمن يتولى القيمومة على الصغار والتصرف بأموالهم. وعلينا ان نتذكر أن أكمل الخلق وأشرفهم وهو نبينا محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان يتيماً، وان فاطمة الزهراء (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سيدة نساء العالمين فقدت أمها وهي في الخامسة من عمرها وعاشت وحيدة مع أبيها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وان من أكمل سيدات النساء عبر التاريخ وهي الصديقة مريم كانت يتيمة توفى أبوها وهي حمل في بطن أمها لكن الله تعالى هيأ لها كفيلاً من انبيائه العظام {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} (آل عمران:37) فحسن كفالة الايتام تصنع منهم عناصر مثمرة مباركة في المجتمع.

وكان لأئمة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) سلوك متميز مع الايتام فقد روى الشيخ الكليني في الكافي انه (جاء إلى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عسل وتين من همدان وحلوان فأمر العرفاء أن يأتوا باليتامى، فأمكنهم من رؤوس الازقاق يلعقونها وهو يقسمها للناس قدحا، قدحا، فقيل له:يا أمير المؤمنين ما لهم يلعقونها؟ فقال:إن الإمام أبو اليتامى وإنما ألعقهم هذا برعاية الآباء)(1) وبهذا أوصى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بقوله (كن لليتيم كالأب الرحيم)(2) (ونظر علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى امرأة على كتفها قربة ماء، فأخذ منها القربة فحملها إلى موضعها، وسألها عن حالها فقالت:بعث علي بن أبي طالب صاحبي إلى بعض الثغور فقتل، وترك علي صبيانا يتامى، وليس عندي شيء، فقد ألجأتني الضرورة إلى خدمة الناس، فانصرف وبات ليلته قلقا، فلما أصبح حمل زنبيلا فيه طعام، فقال بعضهم:أعطني أحمله عنك، فقال:من يحمل

ص: 239


1- الكافي: 1/ 406، بحار الأنوار: 41/ 123 ح 3
2- بحار الأنوار: 77/ 171 ح 7

وزري عني يوم القيامة؟ فأتى وقرع الباب، فقالت:من هذا؟ قال:أنا ذلك العبد الذي حمل معك القربة، فافتحي فإن معي شيئا للصبيان، فقالت:رضي الله عنك وحكم بيني وبين علي بن أبي طالب، فدخل وقال:إني أحببت اكتساب الثواب، فاختاري بين أن تعجنين وتخبزين وبين أن تعللين الصبيان لاخبز أنا، فقالت:أنا بالخبز أبصر وعليه أقدر، ولكن شأنك والصبيان، فعللهم حتى أفرغ من الخبز، قال:فعمدت إلى الدقيق فعجنته، وعمد علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى اللحم فطبخه، وجعل يلقم الصبيان من اللحم والتمر وغيره، فكلما ناول الصبيان من ذلك شيئا قال له:يا بني اجعل علي بن أبي طالب في حل مما أمر في أمرك، فلما اختمر العجين قالت:يا عبدالله اسجر التنور فبادر لسجره فلما أشعله ولفح في وجهه جعل يقول:ذق يا علي هذا جزاء من ضيع الارامل واليتامى، فرأته امرأة تعرفه فقالت:ويحك هذا أمير المؤمنين، قال:فبادرت المرأة وهي تقول:واحيائي منك يا أمير المؤمنين، فقال:بل واحيائي منك يا أمة الله فيما قصرت في أمرك)(1).

كفالة الأيتام المعنويين:

ويوجد أيتام من نوع آخر هم أكثر عدداً يكاد يمثلون أغلب الناس، وكفالتهم لا تحتاج إلى المال، بل إلى الجهد والهمة والإخلاص، وكافلهم

ص: 240


1- بحار الأنوار: 41/ 52 ح 3 عن مناقب ابن شهرآشوب: 2/ 114

يكون أقرب إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من الأول، تعرّفهم لنا جملة من الأحاديث الشريفة(1) وتبين منزلتهم (الكافلين) عند النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأهل بيته المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) عن الإمام أبي محمد الحسن العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال:أشد من يُتم اليتيم الذي انقطع عن أبيه يتم يتيم انقطع عن إمامه ولا يقدر على الوصول إليه ولا يدري كيف حكمه فيما يبتلى به من شرائع دينه ألا فمن كان من شيعتنا عالماً بعلومنا وهذا الجاهل بشريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا يتيم في حجره ألا فمن هداه وأرشده وعلمه شريعتنا كان معنا في الرفيق الأعلى)(2).وعن أبي محمد العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (قال الحسن بن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):فضل كافل يتيم آل محمد المنقطع عن مواليه الناشب في رتبة الجهل يخرجه من جهله، ويوضح له ما اشتبه عليه، على فضل كافل يتيم يطعمه ويسقيه كفضل الشمس على السها. (3)

وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال الحسين بن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من كفل لنا يتيماً قطعته عنا محبتنا(4) باستتارنا فواساه من علومنا التي سقطت إليه حتى أرشده وهداه، قال الله

ص: 241


1- هذه المجموعة من الأحاديث أثبتها العلامة المجلسي (قده) في بحار الأنوار: 2/ 26 في الباب 8 من كتاب العقل والعلم والجهل، أبواب العقل والجهل، عن التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وكتاب الاحتجاج للطبرسي.
2- الأحاديث من بحار الأنوار الباب المذكور على التسلسل: 1، 4، 5، 9، 10، 11.
3- السها في لغة العرب کوکب صغير خفي الضوء، والناس يمتحنون به أبصارهم لصغره وخفائه.
4- أي كان سبب انقطاعه عنا رغبتنا في الاستتار رعاية الحكمة إلهية عظمى. وفي نسخة (محنتنا) وهو أظهر.

عز وجل:يا أيها العبد الكريم المواسي أنا أولى بالكرم منك، اجعلوا له يا ملائكتي في الجنان بعدد كل حرف علّمه ألف ألف قصر، وضموا إليها ما يليق بها من سائر النعم). وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):فقيه واحد ينقذ يتيماً من أيتامنا المنقطعين عنا وعن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه أشد على ابليس من ألف عابد؛ لأن العابد همّه ذات نفسه فقط، وهذا همّه مع ذات نفسه ذات عباد الله وإمائه لينقذهم من يد إبليس ومردته، فذلك هو أفضل عند الله من ألف ألف عابد، وألف ألف عابدة).

وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال علي بن موسى الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):يقال للعابد يوم القيامة:نعم الرجل كنت همتك ذات نفسك وكفيت الناس مؤونتك فادخل الجنة، ألا إن الفقيه من أفاض على الناس خيره، وأنقذهم من أعدائهم، ووفّر عليهم نعم جنان الله وحصل لهم رضوان الله تعالى. ويقال للفقيه:يا أيها الكافل لأيتام آل محمد الهادي لضعفاء محبيهم ومواليهم قف حتى تشفع لمن أخذ عنك، أو تعلَّم منك فيقف فيدخل الجنة معه فئاماً وفئاماً(1) حتى قال عشرة).

وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال محمد بن علي الجواد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):من تكفل بأيتام آل محمد المنقطعين عن إمامهم المتحيرين في جهلهم، الأُسراء في أيدي شياطينهم، وفي أيدي النواصب من أعدائنا فاستنقذهم منهم، وأخرجهم من حيرتهم، وقهر الشياطين برد وساوسهم، وقهر الناصبين بحجج ربهم ودليل أئمتهم لَيُفضّلون عند الله تعالى على العباد بأفضل المواقع بأكثر من فضل السماء على الأرض والعرش

ص: 242


1- فئام: الجماعات الكبيرة من الناس، وطبقت في بعض الموارد -- كيوم الغدير -- على مئة ألف.

والكرسي والحجب على السماء، وفضلهم على هذا العابد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كوكب في السماء).

الزهراء (س) تكفل الأيتام:

وقد كانت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (س) تحذو حذو أبيها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في أقواله وأفعاله وخصاله الكريمة وهديه وسمته، فقد أدت ما عليها ووفت بما عاهدت ربها عليه من الالتزامات فنجحت في الامتحان بأعلى درجات النجاح.

الأيتام بكلا النوعين:

ومن مورد صدقها فيما امتُحنت به كفالة الأيتام بالمستويين اللذين ذكرناهما.

أما الأول فقد شهد الله تبارك وتعالى لها ولزوجها أمير المؤمنين وولديها الحسن والحسين (صلوات الله عليهم) في القرآن الكريم بإطعامهم اليتيم مع حاجتهم للطعام حباً لله تبارك وتعالى وإخلاصاً لوجهه الكريم {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} (الإنسان:89).

ونقرأ في سيرتها (صلوات الله عليها) أنها طحنت بالرحى حتى مجلت يداها وأشعلت التنور حتى دكنت ثيابها وما ذلك لإطعام زوجها وبنيها لأنهم خمص البطون، وكانوا يكتفون من الطعام بما يسد رمقهم، وإنما كان ذلك لكثرة من تطعمهم وتتكفل بهم كما تشهد به روايات أخر، ولم تغب عنها الوصية بالأيتام وهي تودع الحياة الدنيا، روي أنه جاء في وصيتها (س) لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)

ص: 243

بالحسن والحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(يا أبا الحسن ولا تصح في وجهيهما فإنهما سيصبحان يتيمين من بعدي، بالأمس فقدا جدهما واليوم يفقدان أمهما)(1).وأما على المستوى الثاني لكفالة الأيتام فقد كانت لها حركة دؤوبة وهمة لا تعرف التواني والتقصير، روي عن الإمام أبي محمد العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال:(حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء (س) فقالت:إن لي والدة ضعيفة وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بعثتني إليك أسألك، فأجابتها فاطمة (س) عن ذلك، فثنت فأجابت ثم ثلثت إلى أن عشّرت فأجابت ثم خجلت من الكثرة فقالت:لا أشق عليك يا ابنة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، قالت فاطمة (س):هاتي وسلي عما بدا لك، أرأيت من اكترى يوماً يصعد إلى سطح بحمل ثقيل وكراه مائة ألف دينار يثقل عليه؟ فقالت:لا. فقالت:اكتريت أنا لكل مسألة بأكثر من ملء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤاً فأحرى أن لا يثقل عليّ، سمعت أبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول:إن علماء شيعتنا يحشرون فيخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجدهم في إرشاد عباد الله حتى يخلع على الواحد منهم ألف ألف حلة من نور ثم ينادي منادي ربنا عز وجل:أيها الكافلون لأيتام آل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الذين هم أئمتهم، هؤلاء تلامذتكم والأيتام الذين كفلتموهم ونعشتموهم فاخلعوا عليهم خلع العلوم في الدنيا فيخلعون على كل واحد من أولئك الأيتام على قدر ما أخذوا عنهم من العلوم حتى أن فيهم يعني في الأيتام لمن يخلع عليه مائة ألف خلعة وكذلك يخلع هؤلاء الأيتام على من تعلم منهم، ثم إن الله تعالى يقول:أعيدوا على هؤلاء العلماء

ص: 244


1- بحار الأنوار: 43/ 178

الكافلين للأيتام حتى تتموا لهم خلعهم، وتضعفوها لهم فيتم لهم ما كان لهم قبل أن يخلعوا عليهم، ويضاعف لهم، وكذلك من يليهم ممن خلع على من يليهم. وقالت فاطمة (س):يا أمة الله إن سلكة من تلك الخلع لأفضل مما طلعت عليه الشمس ألف ألف مرة وما فضل فإنه مشوب بالتنغيص والكدر)(1).وروي عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):من قو ّى مسكيناً في دينه ضعيفاً في معرفته على ناصب مخالف فأفحمه لقنه الله يوم يُدلي في قبره أن يقول:الله ربي، ومحمد نبيي، وعلي وليي، والكعبة قبلتي، والقرآن بهجتي وعدتي، والمؤمنون إخواني. فيقول الله:أدليت بالحجة فوجبت لك أعالي درجات الجنة فعند ذلك يتحول عليه قبره أنزه رياض الجنة)(2).

وان حديث النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة) يجري في هذه الكفالة أيضاً وقد شهد الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بذلك للراوي الجليل بكير بن أعين فأنه لما بلغ الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) موته قال (أما والله لقد أنزله الله بين رسوله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما)(3) .

وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في أخيه حمران (نعم الشفيع أنا وآبائي لحمران بن أعين يوم القيامة، نأخذ بيده ولا نزايله حتى ندخل الجنة جميعا)(4).

ص: 245


1- بحار الأنوار: 43/ 178 ح 3
2- بحار الأنوار: 43/ 178 ح 14
3- معجم رجال الحديث: 4/ 266
4- معجم رجال الحديث: 7/ 272

مسؤوليتنا عن كفالة كلا النوعين من الأيتام:

أيها الأخوة والأخوات:لنتأسّ بالصديقة الطاهرة الزهراء (س) حتى نكون معها ومع أبيها الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما) في درجتهما في الجنة بكفالة كلا النوعين من الأيتام. فبلدنا اليوم يعج بمئات الآلاف من الأيتام بسبب ما تعرض له من جرائم القتل والبطش والحروب والمقابر الجماعية في عهد صدام ولجرائم القتل المنظم والإرهاب والفوضى المتعمدة والقتل العشوائي في عهد الاحتلال، وهؤلاء الأيتام في الوقت الذي يشكلون فيه مسؤولية على الأمة جميعاً تقتضي احتضانهم ورعايتهم وتربيتهم، وإلا تحولوا إلى جيل كامل من المجرمين والقتلة والمرضى النفسيين والمنحرفين أخلاقياً والحاقدين على المجتمع، في الوقت نفسه هم يمثلون فرصة عظيمة للطاعة امتثالاً للتوجيهات النبوية الشريفة المتقدمة.

أما النوع الثاني من اليتيم فهو صفة أكثر الناس فإنهم بين جاهل بالشريعة لا يعرف حتى الأحكام الأساسية التي يبتلى بها يومياً كالوضوء والصلاة والغسل وبعض المعاملات، وبين مفتون قد اضطربت في ذهنه الأفكار وعصفت به الضلالات، وبين متورط في المعاصي بسبب غفلته وعدم وجود من يعظه ويذكره بالله تعالى، وبين إمّعةٍ ينعقون مع كل ناعق - كما وصفهم الحديث الشريف - وبين ضعيف أو مستضعف يحتاج إلى من يقوي فيه عقائده ويشدّ إيمانه، ولعلكم تعرفون أكثر مني مصاديق ذلك من خلال احتكاككم بالناس واطلاعكم على البيئة التي تعيشون فيها، ولعل بعضكم اطلع على الكثير مما ذكرت من خلال التجمعات الكبيرة التي تحصل في بعض المناسبات الاجتماعية والدينية وغيرها.

ص: 246

فأمامكم فرصة واسعة النيل القرب من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (س) برعاية الأيتام من النوع الأول وكفالتهم بالمساعدات المالية ورعايتهم وتربيتهم وإنشاء مؤسسات الحضانة والتعليم والترفيه لهم ونحوها، وقد أذنت المرجعية بصرف قسم كبير من الحقوق الشرعية لكفالة الأيتام.والفرصة الأوسع التي أمامكم هي كفالة الأيتام من النوع الثاني وهي متاحة للجميع إذ ما من أحد منا إلا ويعرف مسألةً شرعيةً أو حديثاً شريفاً أو نصيحةً مفيدةً فلنُنظّم جميعاً ببركة الزهراء (س) حملة واسعة نقوم خلالها بتعليم الناس كل كلمة مفيدة أو موعظة تسمعونها أو مسألة شرعية تتعلمونها أو عمل صالح تهتدون إليه، أو نصيحة ترشدهم وتصحح أخطاءهم وغيرها كثير.

فلا تبخلوا بكل ذلك على الناس سواء داخل الأسرة أو لزملائكم في العمل أو المنطقة أو رفقائك في السفر، وانقلوها لأكبر عدد منهم ليزداد أجركم وتحظون برضا الله تبارك وتعالى والمنزلة الرفيعة عند رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والصديقة الطاهرة الزهراء (صلوات الله عليها)، فهذه الوظيفة ليست حكراً على الحوزة العلمية ونحوها بل هي مسؤولية كل من تعلم ولو مسألة واحدة وأنتم شيعة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فاحفظوا وصيته بالأيتام عند وفاته (صلوات الله عليه) وقد رويت في الكافي بسند صحيح ومما جاء فيها:(الله الله في الأيتام؛ فلا تغبّوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم، فقد سمعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)

ص: 247

يقول:من عال يتيماً حتى يستغني أوجب الله عز وجل له بذلك الجنة كما أوجب الله لآكل مال اليتيم النار)(1).

التأسي بصاحب الزمان (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):

وتأسوا بإمامكم المهدي الموعود (صلوات الله عليه) فإنه مع ما يعانيه من ألم الابتعاد عن ممارسة دوره الكامل في حياة الأمة فإنه لم يغفل

لحظة عن رعاية شيعته، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(نحن وإن كنا ناوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسب الذي أرانا الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الفاسقين، فإننا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يعزب عنا شيء من أخباركم، ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم، مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون. إنا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكر كم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء فاتقوا الله جل جلاله..)(2) .

ص: 248


1- الكافي: 7/ 5152 باب صدقات النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وفاطمة والأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ووصاياهم، ح 7
2- الاحتجاج للطبرسي: 2/ 323

القبس/178: سورة الضُحى11

اشارة

{وَأَمَّا بِنِعمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث}

موضوع القبس:التحديث بولاية أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ونشرها

ماذا يتوجب علينا مع حصول النعمة؟

إذا حصلت للإنسان نعمة ما مادية كانت او معنوية فان هذا يوجب عليه أموراً(1) عديدة:

(منها) شكر هذه النعمة باللسان وبالفعل كسجدة الشكر او صلاة الشكر.

(ومنها) استعمالها في طاعة المنعم ونيل رضاه وأداء ما افترض الله تعالى من حقوق فيها كالحقوق المالية او حق الزوج والزوجة أو حق الوالدين او المعلم او القائد الصالح كما رسمها الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في رسالة الحقوق.

(ومنها) بذلها للناس وعدم التقصير في سد احتياجاتهم منها، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(إن لله عباداً أختصهم بالنعم يقرّها فيهم ما بذلوها للناس فإذا منعوها حوّلها منهم الى غيرهم)(2) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(من كثرت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس اليه، فمن قام لله فيها بما يجب فيها عرّضها للدوام

ص: 249


1- شرحناها بتفصيل أوسع في القبس/180 {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} (التكاثر:8) القادم, ص292, وفي القبس/73 {الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً} (إبراهيم:28), من نور القرآن: 2/ 331
2- بحار الأنوار المجلسي: 72/ 353

والبقاء، ومن لم يقم فيها بما يجب عرّضها للزوال والفناء)(1).

كيف نعرِّف بالنعمة ولا نُصاب بالعجب أو الرياء؟

(ومنها) ما ذكرته الآية الشريفة من وجوب التحديث بهذه النعمة، اذ الامر فيها لا يختص بالمخاطب وهو رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كما هو واضح في آيات القران الكريم، وقد يبدو الأمر غريباً إذا تعلق بالأمور المادية إذ من غير المألوف أن يتحدث الانسان في مجالسه بما عنده من اموال أو بنين او عقارات او نفوذ اجتماعي ونحو ذلك، وكذا الحديث في الأمور المعنوية فقد يدخل في باب الرياء او العجب ان يتحدث الانسان عن الطاعات التي قام بها من صلاة او صوم او صدقة ونحو ذلك، إذن كيف نفهم هذا الامر بالتحديث بالنعمة.

والجواب يتحقق من خلال فهم معنى (النعمة) او (التحديث) يناسب الامر الوارد في الآية، والتأمل فيهما يؤدي الى عدة وجوه :

1ان التحديث بالنعمة لا يكون بعنوان كونها إنجازاً شخصياً للاستعلاء والتفاخر وإنما بما هي منسوبة الى الله تبارك وتعالى لبيان فضله وكرمه وابتداءه بالنعم لتحبيبه تعالى الى الناس وتذكيرهم بما أنعم الله تعالى عليهم، لذلك أضافت الآية النعمة الى الرب {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}.

2ان التحديث بالنعمة لا يقتصر على الحديث اللساني وإنما يشتمل التحديث العملي بإظهار تلك النعمة أمام الآخرين روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)

ص: 250


1- وسائل الشيعة (آل البيت): 16/ 325/ح9

قوله:(إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده)(1) وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إذا أنعم الله على عبده بنعمة فظهرت عليه سُميّ حبيب الله محدثاً بنعمة الله، وإذا أنعم الله على عبد بنعمة فلم تظهر عليه سمّي بغيض الله مكذباً بنعمة الله)(2) ويكون ثمرة هذا التحديث للتأسي في فعلها أو السعي بنفس المقدمات التي تؤدي الى تحصيل تلك النعم ونحو ذلك روي عن الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(إذا عملت خيراً فحدّث إخوانك ليقتدوا بك)(3).3يحتمل في التحديث معانٍ آخر غير معنى التكلم بها وإطلاع الآخرين عليها، قال السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) الشريف (أمكن أن يُراد بمادة (حدّث) أمران أخران :

الأول:الحدوث.

والثاني:التحديث بمعنى الجدة.

فعلى الاوّل يعني:أوجد نعمة ربّك، أي :سبّب إلى وجودها في حدود إمكانك، وهو أمر معنوي.

وعلى الثاني يعني:جدّد نعمة ربّك:إما بالتسبيب إلى تكرارها وإما بتذكّرها. وإما أن يكون الحديث بمعنى التذكّر يعني:حدّث نفسك أو حدّث ربّك، ولم يقل حدّث الآخرين، وهو مجازٌ في التذكّر، وفيه ثوابٌ وتكاملٌ، أو إنَّك إنَّما تفعل ذلك كلّه بنعمة الربّ سبحانه.

ص: 251


1- بحار الأنوار المجلسي: 76/ 299
2- الكافي الشيخ الكليني: 6/ 438/ح2
3- مفاتيح الغيب :31/ 201.

وبتعبيرٍ آخر:تارةً يكون التركيز على النعمة وأخرى على التحديث بها، ويكون الآخر تابعاً نحو: العيش برزق الله)(1).4إن الآية لم تذكر صاحب النعمة التي يجري التحديث بها فقد لا يكون المقصود التحدث بنعمة الله على المتحدث نفسه بل على الآخرين لتذكيرهم ولتقريبهم الى الطاعة او لتسليتهم عن أمر فقدوه ولامتصاص غضبهم وسخطهم على ما فاتهم فيذكرهم بالنعمة التي أستفادوها ونحو ذلك، ورد أن الله تعالى قال لموسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (حبّبني الى خلقي وحبّب خلقي اليّ، قال:يا رب .. كيف أفعل ؟ قال:ذكرّهم آلائي ونعمائي ليحبّوني)(2).

النعمة هي الاسلام وولاية اهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ):

5الوجوه السابقة كلها مقبولة ومفيدة الا ان الوجه الادق والاهم هو أن نفهم من نعمة الرب مصداقاً يتناسب مع الأمر بالتحديث بها، وهذا موجود، لأن آيات عديدة وروايات كثيرة أفادت بأن هذه النعمة هي الاسلام وولاية أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، ومنها قوله تعالى {فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (آل عمران:103) ونعمة الله التي ألفت بينهم ووحدّت قلوبهم هو رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) برسالة الاسلام، عن الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال في تفسير هذه الآية (أمره أن يحدِّث بما أنعم الله عليه من دينّه)(3) ويكون هذا المعنى ظاهرا بمقتضى المقابلة بين الآيات في سورة

ص: 252


1- منة المنان في الدفاع عن القرآن: 2/ 96.
2- الأمالي : 484.
3- المحاسن البرقي: 1/ 218/ح115

الضحى فان هذه الآية قابلت قوله تعالى {وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى} (الضحى:7) فالنعمة التي امر بالتحدث بها هي نعمة الهداية الى دين الله تبارك وتعالى.وتمام هذه النعمة وكمال هذا الدين ولاية علي بن ابي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لقوله تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} (المائدة:3)، وورد عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير قوله تعالى {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} (التكاثر:8) قول الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى أبي حنيفة:(نحن – أهل البيت – النعيم الذي أنعم الله بنا على العباد وبنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين وبنا ألفّ الله بين قلوبهم وجعلهم إخواناً بعد أن كانوا أعداءاً وبنا هداهم الله الى الاسلام وهي النعمة التي لا تنقطع والله سائلهم عن حق النعيم الذي أنعم الله به عليهم وهو النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعترته)(1)، وقد يكون هذا المعنى هو المقصود لا غيره إذا لم نفهم اطلاق النعم وعمومها من قوله تعالى {بنِعْمَةِ رَبِّكَ} بأن يكون المراد التنويه بنعمة معينة فتكون هذه لا غيرها واكتفى بالإشارة اليها لعظمتها واهميتها على سائر النعم.

وورد عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير قوله تعالى {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} (لقمان:20) قال:(النعمة الظاهرة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وما جاء به النبي من معرفة الله عز وجل وتوحيده، وأما النعمة الباطنة ولايتنا أهل البيت وعقد مودتنا)(2).

ص: 253


1- تفسير العياشي ص 258
2- تفسير القمي: 2/ 166

وقد عمل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بهذه الآية المباركة وتحدّث بفضل اهل بيته ومقاماتهم الرفيعة وجعلهم صنو القرآن والزم الامة بالرجوع اليهم فظن بعض الاصحاب انه منحاز الى قومه ويتحدث بدافع العاطفة نحو اهل بيته(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهو المنزّه عن كل ذلك {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم34) فعمله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هذا كان التزاماً بالآية الكريمة.

آليات التحديث بالنعمة:

فالتحديث بهذه النعمة يكون بالتعرف عليها والتفقه فيها ثم نشرها بين الناس ودعوتهم اليها، وإذا أردنا أن نكون من الشاكرين على هذه النعمة فلابد أن نظهرها ونعظّمها ونبّين فضائل أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ومناقبهم ومكارم أخلاقهم وننشر مواعظهم وأحكامهم ومحاسن كلامهم ونوصلها الى البشرية جمعاء بكل صنوفها ولغاتها، وعلينا أن نحيي شعائرهم وأمرهم كما دعوا(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الى ذلك (احيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا)(1) ومن قصَّر في إظهار نعمة ولاية أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ولم يدعُ الناس اليها وإقناعهم بها بأي وسيلة ممكنة، أو لم يحفظ حرمة أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في سلوكه وصفاته فهو ممن لم يؤدِ حق هذه النعمة ولم يشكرها.

وكما تقدّم في قول الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فأنه أعتبر من لم يحدث بنعمة الله ولم يظهرها مكذباً بنعمة الله وبغيض الله، فليتفقه كل شيعة اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في دينهم وليطلعوا بعمق ووعي على سيرة أئمتهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ليستطيعوا إيصال هذه الرسالة العظيمة الى العالم كله بأمانة وإتقان (فإن الناس لو علموا محاسن

ص: 254


1- عيون أخبار الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- الشيخ الصدوق: 2/ 275

كلامنا لأتبعونا)(1).

مسؤولية التشيع اليوم:

أقول:بناءاً على هذه المسؤولية الكبيرة التي حملّتنا هذه الآية مع توفر أثمن فرصة اليوم لنشر تعاليم أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) والتمهيد لدولة العدل الإلهي بسبب:

1عظمة ما أحتوت عليه كلمات أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من احكام وإرشادات ومواعظ قال الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لأتبعونا)(2) وهذا ما تشهد به التجارب التي حدثنا بها الاخوة المبلغون في شرق الارض وغربها وما لمسوه من إقبال واسع وسريع لمذهب أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).

2فشل الأنظمة المادية التي صنعتها البشرية وعجزها عن توفير السعادة للإنسان.

3الصورة المشوهة للإسلام التي طرحتها المدارس البعيدة عن أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) حيث كان نتاجها التكفير والقتل والارهاب والتدمير وتخريب الحضارة.

فتوجهت الانظار كلها الى مدرسة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لذا كان لزاماً علينا في الحوزات العلمية والنخب الفكرية(3) والثقافية والمراكز العلمية والبحثية أن تضع البرامج والآليات للتحرك بهذه الرسالة العظيمة وسيفتح الله تعالى لهم العالم بأسره

ص: 255


1- معاني الأخبار الشيخ الصدوق: 180
2- معاني الأخبار الشيخ الصدوق: 180
3- حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع الضيوف المشاركين في مؤتمر الطف الدولي السابع الذي اقامته كلية الآداب في الجامعة المستنصرية وقد زاروا سماحة المرجع يوم الاربعاء 26/صفر/1437 المصادف 9/ 12/ 2015 وهم من دول عربية واسلامية واجنبية.

ولا نتخوف من الحكومات فإننا إذا توجهنا بخطابنا الى الرأي العام وصنعنا قضية أمامه من خلال مراكز اعلامية وفكرية وبحثية صانعة للمواقف ومقنعة للرأي العام على شكل (لوبيات) مؤثرة وفاعلة في مختلف دول العالم، فان الرأي العام سيقتنع بها ويضغط على أصحاب القرار ويجبره على الانصياع للرأي العام الذي تخشاه الحكومات.وأذكر كمثال مظلومية الشعب العراقي وإضطهاد صدام المقبور له، فعندما تحركت المعارضة العراقية يومئذٍ وشرحت هذه المظلومية كوّنت رأياً عاماً متعاطفاً معها وارتقى بهم الأمر حتى أقنعوا حكومات الدول الكبرى بضرورة إتخاذ إجراء وهذا ما حصل، كما ان القناعة حصلت لاثنتين من كبريات الصحف البريطانية والامريكية فنشرت مقالين عن زيارة الاربعين هذا العام واشارت الى الارقام القياسية المتحققة فيها من حيث عدد المشاركين في المشي وعدد المتطوعين للخدمة المجانية وعدد وجبات الطعام المجانية المقدّمة (قدروها ب 200 مليون وجبة) واطول مائدة طعام في العالم في اكبر حشد بشري، كما عتب كاتبا المقالين على وسائل الاعلام العالمية لإغفالها هذا الحدث مع انها تغطي تجمعا لعشرات في هذه الدولة او تلك.

وهذا كله يثبت اننا قادرون على صناعة وتوجيه الرأي العام العالمي اذا توفرت الارادة والعزم والسعي.

فلماذا نتخلى عن مشروعنا هذا بمجرد الوصول الى السلطة، فهل السلطة غايتنا أم إنها وسيلة لإحقاق الحق وإزالة الظلم والفساد.

ص: 256

القبس/179: سورة العلق:1

اشارة

{ٱقرَأ بِٱسمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ}

موضوع القبس:لنكن أمة {ٱقرَأ}

أمة القراءة:

بمناسبة البعثة النبوية الشريفة نريد أن نأخذ درساً من أول كلمة القاها الوحي على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إيذاناً بتحقق الوعد الالهي للبشرية الضالة الجاهلة المتعبة أن ينقذهم بالرسالة الكاملة الخاتمة ويأخذ بهم في هذه النقلة الهائلة التي لا تُقاس بها النقلة من الأرض الى السماء، فمن حقنا أن نفخر نحن أُمة الإسلام بأننا أُمة القراءة وطلب العلم وأن أول كلمة نزلت على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عند بعثه بالرسالة الإسلامية هي (إقرأ) أي الأمر بالقراءة، وإن معجزة الإسلام الخالدة (القرآن) هو كتاب مقروء وهو مصدر اشتق إسمه من القراءة.

النعمة الأولى:

وإن أول نعمة ذكّر الله تعالى بها عباده ممتناً عليهم القراءة والتعليم {إقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الأِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق 35)، فالإنسان خُلِقَ من علقةٍ وهي قطعة الدم الجامدة ووُلِدَ صفحة بيضاء خالية من المعارف والعلوم عدا ما توجهه به فطرته لكن الله تبارك وتعالى جهزّه ووفر له ما

ص: 257

يملأ به صحيفته من العلوم والمعارف مما لم يكن يعلمها من قبل وكلما حصل على معلومة تولّد له إحساسُ بجهله بجمع كبير من المعلومات، وهو تفسير كلمة بعضهم (كلما ازددنا علماً ازددنا جهلاً)(1).

في معنى:(عَلَّمَ بِالْقَلَمِ)

{عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} أي علّم البشر الكتابة واستعمال القلم أو بمعنى أنه تعالى علَّمهم ما لا يعلمون بواسطة القلم والكتابة وهو ابرز حدث في تاريخ البشر ولولاه لما تكاملت الحضارات ولما انتقلت العلوم واستفادت الامم من إنجازات غيرها، ولا تستطيع أُمة أن تتقدم وتبني حضارة إذا لم تُحسن الاستفادة من الكتاب والقلم. وبلغ تعظيم القلم الى مستوى القسم به {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (القلم:1).

في معنى:(عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)

{عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق:5) فالمصدر الاول للعلوم والمعارف هو الله تبارك وتعالى من خلال بعث الانبياء والرسل وانزال الشرائع السماوية والايحاء الى الانبياء والاولياء بما تحتاج اليه البشرية، وظلّت الالطاف الالهية مصدر الهام لكثير من المخترعين والمبدعين واصحاب النظريات الخلاقة كما اعترف جملة منهم بذلك، والتاريخ يشهد أن ازدهار العلوم وتدوينها وتعميقها شهد نقلة غير مسبوقة على يد المسلمين وأصبحت الكتابة والتعليم واسعة الإنتشار

ص: 258


1- العلل أحمد بن حنبل: 1/ 177/ح127

ومتيسرة الحصول لجميع الناس بعد أن كانت مقتصرة على نخبة محددة، هذا في الامم المتمدنة كالروم والفرس، أما العرب في الجزيرة فكان الذين يعرفون الكتابة بعدد الأصابع تقريباً وكان الذي يعرف الكتابة وبعض الفعاليات الاخرى كالرمي يسمى ب (الكامل)(1).

الوصيّة بالعلم:

وظل هذا الاهتمام بالقراءة وطلب العلم والمعرفة توجيهاً دائمياً في القرآن الكريم وقد أدّبَ الله تعالى نبيه بذلك، قال الله تعالى{وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْما} (طه:114) وفي الحديث النبوي الشريف (إذا أتى علي يوم لا أزداد فيه علما - يقربني إلى الله - فلا بارك الله لي في طلوع شمسه - شمس ذلك اليوم)(2)، وكانت الفدية(3) التي جعلها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأسرى المشركين في معركة بدر من الذين يعرفون الكتابة ان يعلّم الواحد منهم عشرة من المسلمين مقابل اطلاق سراحه فانتشرت المعرفة بالكتابة لدى المسلمين بهذه المبادرة المباركة وفي اصول الكافي بسنده عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(تذاكروا وتلاقوا وتحدثوا فإن الحديث جلاء للقلوب، إن القلوب لترين كما يرين السيف جلاؤها الحديث)(4).

ص: 259


1- أنظر: تهذيب التهذيب ابن حجر العسقلاني: 3/ 475
2- مجمع البيان للطبرسي: المجلد الأول ص6.
3- أنظر: موسوعة التاريخ الإسلامي محمد هادي اليوسفي: 1/ 79
4- اصول الكافي، كتاب العلم، باب سؤال العلم وتذاكره ح 8.

صاحبوا المعرفة:

وفي حديث آخر قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، الا وإن الله يحب بغاة العلم)(1) وهذه الوصايا لا تحتاج الى مؤونة لنتفهّم ملاكاتها ومصالحها فإن حياة الامم وسعادتها وتقدمها بالقراءة والتعلم، أما الامم الجاهلة المتخلفة فان ممارستها لا تفترق عن حياة الحيوانات قال تبارك وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال:24).

ولا شك أن الثقافة والعلم من مقومات حياة الامم فالآية الكريمة تدعونا الى التجاوب مع كل مصدر يزودنا بهما.

فعلى كل شخص أن يقرأ ويصاحب الكتاب وكل مصادر المعرفة الأُخرى ويتزود منها ليكون إنساناً بمعنى الإنسان الحقيقي لا الشكلي وليكون حياً فاعلاً في المجتمع، ولينسجم مع متطلبات الفطرة التي تنزع نحو الكمال، وليحظى برضى الله تبارك وتعالى ويتأسى برسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

في الثقافة الموجّهة لا العشوائية:

ومن وجهة نظري بغض النظر عن التعريفات التي قيلت فإن الثقافة هي منظومة الأفكار التي تجعل للإنسان رؤية فيما حوله ولا يكون إمّعةً من غثاء الناس ينعق مع كل ناعق ويسيّرَه السلوك الجمعي بلا رؤية وتأمل فيما يفعل، وفي الآية الكريمة إشارة الى ذلك {إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ

ص: 260


1- اصول الكافي، كتاب العلم: باب فرض العلم: ح / 5/ 7/ 8.

الَّذِي خَلَقَ} أي أن الامر بالقراءة ليس عشوائياً وبلا هدف وبلا محدِّدات بل تقرأ بإسم ربك ومن أجل ربك وضمن ما خطّط له ربُّك الذي خلقك فيجب عليك ان تسير بهداه جاعلا أمامك الغرض الذي خلقك الله تعالى من أجله واستخلفك في الأرض لتحقيقه وهو إعمار الحياة بكل خير وعطاء نافع واستثمار كل الأدوات والظروف التي هيأها الله تعالى لتوفير السعادة والصلاح للبشر {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود:61).

تفقهوا في الدين:

فالدعوة الى القراءة لا تختص بالمعارف الدينية بمختلف فروعها وإن كانت منها بل هي من أساسياتها، في حديث عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(عليكم بالتفقه في دين الله، ولا تكونوا أعراباً فإنه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله اليه يوم القيامة ولم يزكِّ له عملاً)(1) وروي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أيضاً أنه قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أُفٍّ لرجلٍوفي رواية لكل مسلم لا يُفَرِّغ نفسه في كل جمعة لأمر دينه فيتعاهده ويسأل عن دينه)(2) ويصل الحثّ الى حد الإلزام والعقوبة على الترك، ففي رواية عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لوددتُّ أن أصحابي ضربت

ص: 261


1- اصول الكافي كتاب العلم باب فرض العلم ح / 7.
2- اصول الكافي كتاب العلم، باب سؤال العلم وتذاكره: 15 / ح 8.

رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا)(1).

السعادة بمصاحبة الكتاب:

أقول:لكن القراءة لا تختص بهذا المجال بل كل كتاب نافع يساهم في تكوين تلك المنظومة الثقافية الصحيحة، فكتاب "كيف تكسب الأصدقاء" لمؤلف غير مسلم لكنه غني بالتوجيهات الرشيدة التي ترسم لك بوصلة العلاقات الناجحة والإيجابية مع الآخرين.

وهكذا كل كتب التنمية البشرية أو إدارة الوقت والاستفادة منه، أو كتب تعليم أسرار النجاح ومفاتيحه، أو التجارب الاجتماعية وغيرها كثير.

وقد جرّب مَن صاحبَ الكتاب وتولّع بالقراءة أيّ أُنسٍ وسعادةٍ يحياها برفقة الكتاب حتى لا يشعر احياناً بما يجري حوله وتمر عليه الساعات دون ان يدري وكأنه في روضة غنّاء ضمّت كل ما تهفو اليه النفس وتلذ به العين، وكان بعض العلماء يطرب اثناء أُنسه بالكتاب ويقول:أين الملوك وابناء الملوك من هذه اللذات، ومعه حق فما قيمة اللذات الجسدية التي يبحث عنها المترفون من لذة القراءة ومطالعة الكتاب.

لكي نستعيد مجد الأمة المهدور:

علينا ان نستعيد امجادنا ونكون امة القراءة والكتاب فعلاً ونقود

ص: 262


1- اصول الكافي كتاب العلم باب فرض العلم ح / 8.

نهضة ثقافية عامة تدعو الى قراءة الكتاب بمختلف اشكاله والاهتمام به ولننشره ولنشجع الناس على القراءة ونبتكر كل الاساليب التي ترفع مستوى الثقافة لدى الناس من خلال نشر معارض الكتب وتوفيرها بأسعار زهيدة وطباعتها بشكل جاذب للقراء، وتيسير بيانها، وتنويع مواضيعها، وان تكون ذات مساس بواقع الامة وهمومها وآمالها وتساهم في صنع شخصية الانسان وان تكون بحجوم مختلفة من الدورات ذات المجلدات العديدة الى المجلد الواحد الى الكتيبات والكراريس والمنشورات والمقالات المختصرة.إذن علينا ان نواصل القراءة لنكون امة حية حضارية متقدمة.

وعلى كل شخص ان يقرا ليكون انساناً حقيقياً.

وعليناً ان نقرأ لنرضي الله تعالى ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والاولياء العظام ونستجيب لدعوته الى ما يحيينا.

ونقرأ لنعيش حياة الانسِ والسعادةِ والسموِّ والارتقاء.

ص: 263

القبس/180: سورة العلق:7

اشارة

{كَلَّا إِنَّ ٱلإِنسَنَ لَيَطغَى 6 أَن رَّءَاهُ ٱستَغنَى}

الشعور بالغنى:

متلازمة ثنائية بين الشعور بالاستغناء والطغيان يشير إليها القرآن الكريم بأسف وحسرة يدل عليها استعمال لفظ (كلا) التي قيل عنها أنها تعبير عن الردع(1)، وإذا طبّقنا هذا المعنى على الآية فتكون ردعاً عن تصور السلوك الطبيعي الفطري الذي تقتضيه الآيات السابقة في بداية سورة العلق من الشكر والطاعة، فتكون بمعنى أداة الاستدراك (لكنّ)، وقيل أن معناها (حقاً).

من الأمراض المعنوية:غرور الغنى:

الأسف والحسرة لوجود هذا المرض المعنوي في الإنسان على خلاف

ص: 264


1- الردع هنا يمكن تصوره عن توقّع النتيجة الطبيعية لاغداق النعم وهو الشكر وطاعة المنعم لأن الذي يحصل على خلاف ذلك وبذلك نردّ إشكال سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) حين قال: (وفكرة الردع خطأ فضيع، لأنه ليس في الآيات السابقات إلاّ الحق فلا معنى للردع عنها) (منة المنان: 1/ 568) فيجاب على القول بأن (كلا) موضوعة للردع بما قربنا من إمكان حملها على هذا المعنى، ويمكن أن يكون الردع عما يليه من الكلام أي عن مقام الطغيان كما في بعض التفاسير، أو نفسرها بمعنى قريب من الردع بناءً على تقريب تعرضها لجملة من التحوّلات بمقتضى القرائن إلى معنى غير مقطوع الصلة عن الأصل، كمعنى الاستدراك الذي ذكرناه ولا مانع من ذلك.

الفطرة وحكم العقل، إذ المفروض أن يكون رد الفعل على تحصيل الغنى هو الشكر والتواضع والاحسان، لا الطغيان والكفر والجحود والتمرد، وهذه المتلازمة المرضية في عالم القلب والنفس أخطر من المتلازمة المرضية في عالم الجسد كمرض الايدز لأن الثاني يفتك بالحياة الدنيوية الزائلة أما الأول فيفتك بالحياة المعنوية الباقية.والغريب أن تكون هذه الثنائية هي الحالة العامة لدى (الإنسان) الذي تذكره الآية وكأنه ملازم لذاته بحيث صحّت نسبتها إلى الإنسان كجنس إلا من عصم الله تعالى، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(الغنى يطغي)(1)، وكأن هذه العلاقة دائمية مطلقة، وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(غرور الغنى يوجب الأشر)(2) وهو أسوأ من البطر ويحذر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من هذه النتيجة بسبب الشعور بالغنى، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إستعيذوا بالله من سكرة الغِنى، فإن له سكرة بعيدة الإفاقة)(3).

معنى الطغيان:

والطغيان في اللغة بمعنى تجاوز الحد، قال تعالى:{إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء} (الحاقة:11) وعبّر تعالى عن الفيضان بالطغيان قال تعالى:{فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} (الحاقة:5)، فتفيد الآية إن الإنسان يتجاوز حدود الشرع والعقل والفطرة فيتمرد على خالقه ويخرج عن زي العبودية، ثم يطغى على الناس ويتجاوز عليهم بمجرد

ص: 265


1- غرر الحكم: رقم 23.
2- عيون الحكم والمواعظ الليثي الواسطي: 349
3- غرر الحكم: رقم 2555.

أنه يرى نفسه قد استغنى بتوفر بعض الأسباب لديه، وهو شعور باطل لذا كان تعبير القرآن الكريم دقيقاً كما هو شأنه إذ قال (أن رآه) ولم يقل (أن استغنى) لأن شعوره بالغنى وهْم، إذ لا غني حقيقة إلا الله تعالى وكل الخلق محتاجون إليه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (فاطر:15) وفي دعاء الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم عرفة (إلهي أنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيراً في فقري)(1)، وإذا وُصف أحدٌ بالغنى فهو نسبي أي بلحاظ توفّر احتياجاته المعاشية واستغنائه عن الطلب من الآخرين.والذي ينصرف إليه لفظ الغنى الموجب للطغيان هو غنى المال وهو معنى صحيح، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(إنما أتخوف على أمتي من بعدي ثلاث خلال:أن يتأوّلوا القرآن على غير تأويله، أو يتبّعوا زلة العالم(2)، أو يظهر فيهم المال حتى يطغوا ويبطروا)(3).

من الموعظة:

ومن كلمات أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في صفة أعجب ما في الإنسان وهو القلب قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إن أفاد مالاً أطغاه الغنى وإن أصابته مصيبة فضحه الجزع)(4)، وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير العمل... إن استغنى بَطِر وفُتِن، وإن

ص: 266


1- مفاتيح الجنان: 473.
2- أي يتتبعون أخطاء العلماء وينشرونها لتسقيطهم، أو انهم يتبعون ما تشابه من سلوك العالم ويجعلونه ذريعة لزلاّتهم.
3- بحار الأنوار: 72/ 63ح7.
4- نهج البلاغة: الحكمة 108.

افتقر قنط ووهن)(1)، فما أعجب هذا الإنسان الذي لا يلتفت إلى مكامن ضعفه وانحرافه.ومن الحكايات في هذا المجال ننقلها للاتعاظ:ما روي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال جاء رجل موسر إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نقي الثوب فجلس إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فجاء رجل معسر درن الثوب فجلس إلى جنب الموسر، فقبض الموسر ثيابه من تحت فخذيه، فقال له رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (أخِفتَ أن يمسّك من فقره شيء؟ قال:لا، قال:فخفتَ أن يصيبه من غناك شيء؟ قال:لا، قال:فما حملك على ما صنعت؟ فقال:يا رسول الله:إنّ لي قريناً يزيّن لي كل قبيح، ويقبّح لي كل حسن، وقد جعلتُ له نصف مالي. فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):أتقبل؟ قال:لا، فقال له الرجل:ولمَ؟ قال:أخاف أن يدخلني ما دخلك)(2).

موجبات الطغيان عند الشعور بالغنى:

أقول:هذا الفهم - أي كون غنى المال موجب للطغيان صحيح إلا أن الأمر لا يقتصر عليه، فقد يطغى الإنسان بكثرة الولد والأنصار، قال تعالى:{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} (التكاثر:12) وقال تعالى:{واعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ و تَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} (الحديد:20) وقد يطغى بالعلم فيعتدُّ بنفسه {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيّ، قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ

ص: 267


1- نهج البلاغة: الحكمة 150.
2- الكافي: 2/ 262 ح1.

سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} (طه:95 96) {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} (القصص:78).ولاشك أن من أقوى أسباب الطغيان السلطة بكل أشكالها وليس الحكّام فقط، كما حصل لفرعون {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} (طه:24) حتى بلغ به الطغيان حدّاً أن يقول {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (النازعات:24) لأن السلطة تتضمن أدوات القوة والهيمنة والنفوذ {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (الزخرف:51).

السبب الجامع للطغيان:

والسبب الجامع للطغيان هو حب الدنيا والركون إليها والتعلّق بزخارفها {فَأَمَّا مَن طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعات:3739)، والأنانية وتزيين الشيطان، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(من شغل نفسه بغير نفسه تحيّر في الظلمات، وارتبك في الهلكات، ومدّت به شياطينه في طغيانه)(1).

الشعور بالاستقلالية:

وهنا ننقل التفاتة أخلاقية لسيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) قال: ((وإنما يشعر بالاستغناء إذا (رآه) يعني رأى نفسه بالجنبة الاستقلالية، أو رأى نفسه مستغنياً، أو أنّ رؤيته للنفس هي الاستغناء، أو أنّ هناك ملازمة بين رؤية النفس والاستغناء، فيكون المحصَّل:إن رؤية النفس سببٌ للشعور بالاستغناء،

ص: 268


1- نهج البلاغة: الخطبة 157.

والشعور بالاستغناء سبب للطغيان، أعاذنا الله من كل شر))(1).

عاقبة الطغيان:

فلينتبه الطاغي بكل مستوياته وأشكاله الى أن عاقبته سيئة في الدنيا والآخرة {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} (طه:81) {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} (ص:55) {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً، لِلْطَّاغِينَ مَآباً} (النبأ:2122) {فَأَمَّا مَن طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعات:3739)، وضرره في الدنيا خطير وسريع، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ما أسرع صرعة الطاغي)(2).

أسوأ الطغيان:

ولا شك أن من أسوأ اشكال الطغيان عصيان أوامر الإمام الحجة المنصوب على الخلق ومن نصّبه الأئمة المعصومون(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) حججاً على الخلق ورد في تفسير قوله تعالى {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ،أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} (الرحمن:78)، عن الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (الميزان أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) نصبه لخلقه) وفي معنى (ألا تطغوا في الميزان) قال (لا تعصوا الإمام)، ومثلها رواية عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (لا تطغوا في الإمام بالعصيان والخلاف)، وقال:(أطيعوا الإمام بالعدل ولا تبخسوه حقه)(3).

وورد عن الإمام الصادق في تفسير قوله تعالى {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ

ص: 269


1- منّة المنان: 1/ 569.
2- غرر الحكم: 9526.
3- راجع مصادرها في تفسير البرهان: 9/ 181.

أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} (الزمر:17)، فخاطب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أحد أصحابه بالبشارة في هذه الآية (أنتم هم أي المقصودون بقوله تعالى فبشر عباد ومن أطاع جباراً فقد عبده) وعن الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (أيها المؤمنون لا يفتننّكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في الدنيا) وعن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إياكم والولائج فإن كل وليجة دوننا فهي طاغوت).وروي عن الإمام الصادق قال (مرَّ عيسى بن مريم على قرية قد مات أهلها... فقال:يا أهل هذه القرية فأجابه منهم مجيب:لبّيك يا روح الله وكلمته، فقال:ويحكم ما كانت أعمالكم؟ قال:عبادة الطاغوت وحب الدنيا... قال:كيف كانت عبادتكم للطاغوت؟ قال:الطاعة لأهل المعاصي).

حينما يتجذر الطغيان في النفس:

ولأن الطغيان يزداد ويتركز في سلوك الفرد إذا استكبر عن سماع النصيحة والموعظة والارشاد، ولم يراجع نفسه ويحاسبها، {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} (الذاريات:53) {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} (الطور:32)، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(ومن طغى ضلّ على عمد بلا حجة)(1) وحينئذ يتجذّر في ذات الإنسان وطبيعته حتى يصبح صاحبه مثالاً للطغيان فيسمّى (طاغوتاً) وحينئذ يكون قدوةً للطغيان والتمرد والمعصية وداعياً لها ومعيناً عليها ويسنّ القوانين المخالفة لشريعة الله تعالى بسوء توفيقه فيضل أمة من الناس باتباعه، قال تعالى {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى

ص: 270


1- الكافي: 2 / 394.

الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:257).

ليحذر الرساليون من مجاملة المستغنين:

ولذا كانت مجاملة المستغنين الطاغين ومداهنتهم بحجة كسبهم وهدايتهم من التصرفات الخطرة على الدين خصوصاً للمتصدّين في العمل الرسالي لأنها تؤدي إلى مزيد من التمرد والطغيان وإغراء لهم بالمضي في هذا الطريق وإقصاء الفقير، قال تعالى ملفتاً نظر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلى هذه الحقيقة ومحذراً منها {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى} (عبس:510).

العلاج القرآني لحالة الشعور بالغنى:

وانتهت الآيتان محل البحث بإعطاء العلاج لتطهير القلب والنفس من هذه الرذيلة {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} (العلق:8) فإذا التفت إلى هذه الحقيقة وإنه سيموت ويرجع إلى ربِّه، فإنه يتيقن من أن غناه وهمٌ زائل وإن كل ما بيده سيفنى ويزول، وسيحاسبه ربّه على طغيانه وتمرده ويأوي إلى شر مآب، ولذا ورد في بعض الأدعية ما يذكّرنا بهذه الحقيقة (الحمد لله الذي قهر عباده بالموت والفناء)(1) ليرغم أنف الطاغين.

في التطبيقات الاجتماعية:

وإذا انتقلنا إلى تطبيقات الآية لنحوّل القرآن الكريم إلى واقع عملي، فإنّ هذه المتلازمة المنافية لمنطق العقل تتجلى في حياة الإنسان فرداً ومجتمعاً، ولنبدأ من داخل الأسرة حيث يغترّ الرجل بسلطته وقيمومته فيطغى ويظلم أهل بيته وكم

ص: 271


1- مفاتيح الجنان: 95, دعاء الصباح

رأينا من رجال لما صار بأيديهم مال أهملوا أهلهم وتوجهوا إلى اللهو والمتعة أو الوقوع في أسر الشهوات الجنسية أو عدم مراعاة مشاعر زوجته ونحو ذلك فيخرب بيته بيده.والمرأة تعتدّ بنفسها لجمالها أو لأنها من الأسرة الفلانية أو لأن لها مرتباً شهرياً جيداً أو لشهادتها الراقية ونحو ذلك فتشعر بالاستغناء عن الرجل وتطغى وتتمرد وتتعالى وتقصّر في واجباتها فتنهدم أواصر العلاقة الزوجية.

ومن الأمثلة على ذلك طغيان بعض حملة العلم واستعلاؤهم وترفعهم عن الآخرين ورفضهم النصح والتذكير واستهزاؤهم بمن يقوم بذلك، وفرض وضع خاص للتعامل معهم كعدم الرضا الا بتقبيل اليد وإظهار التبجيل والتعظيم لهم ونحو ذلك.

أما طغيان الزعامات ومن بيدهم شيء من السلطة فقد ملأ التاريخ بمصائبه وكوارثه، وكذا الزعامات الاجتماعية كبعض رؤساء العشائر والمتنفذين وأمثالهم.

خذ مثلاً أيضاً الغرب الذي اغترّ بالتقدم العلمي الذي توفّر لديه حتى غزا الفضاء وظن أنه قادرٌ على أن يحقق كل ما يريد فطغى وتجبر واستغنى عن ربّه وكفر به وصار التفكير المادي هو قائده ورائده ونسي ضعفه وعجزه وقصوره ونحوها من اللوازم لذاته حتى يأتيهم أمر ربهم {حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (يونس:24).

ص: 272

بأس الله تعالى في المستغنين:

وقد شهد التاريخ الماضي والحاضر كيف ينهار الطغاة وهم في أوج عنفوانهم كفرعون، {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ، إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} (الشعراء:5354) وكان جزاؤهم {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} (طه:78) وكقارون {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} (القصص:81) وكهارون العباسي الذي يخاطب السحاب (أينما تمطري فخراجك لي)(1) وإذا به يمرض مرض الموت وهو في ريعان الشباب فيأمر بحفر قبره وكان يقف عليه ويقرأ الآيات الكريمة {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ} (الحاقة:2829) وشهدنا في العصر الحديث كيف قُتل الرئيس المصري أنور السادات عام 1981 وهو في قمة طغيانه ويستعرض قواته المسلحة في ذكرى حرب 6:تشرين الأول ويملؤه زهو القوة والمقدرة، وهكذا.

على كل هؤلاء وكل من يطغى ويتمرد ويستكبر أن يستحضر قدرة الله تعالى، قال تعالى {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} (فصلت:15) أعاذنا الله تعالى وإياكم من تزيين الشيطان وخداع الدنيا والنفس الأمارة بالسوء.

ص: 273


1- تفسير الأمثل ناصر مكارم الشيرازي: 18/ 596, نقلها عن سفينة البحار

القبس/181: سورة القدر:3

اشارة

{لَيلَةُ ٱلقَدرِ خَير مِّن أَلفِ شَهر}

كيف تكون ليلة القدر خيراً من ألف شهر؟

قال الله تبارك وتعالى في فضل وشرف ليلة القدر التي هي أفضل ليالي السنة:{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} (القدر:3) والمشهور في فهمها أن العمل فيها يتضاعف برحمة الله تعالى وفضله ليكون خيراً من عمل ألف شهر، وهو معنى صحيح مَنَّ الله تعالى به على عباده ليزيدهم من عطائه كرماً منه، وقد دلت عليه الروايات ففي الكافي عن أبي عبد الله الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، (قال له بعض أصحابنا:كيف تكون ليلة القدر خيراً من ألف شهر؟ قال:العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر)(1)، ويدلّ عليه وصفها بالمباركة في قوله تعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} (الدخان:3) ومن بركاتها زيادة الأجر على الأعمال عن غيرها من الليالي والأيام.

من معاني ليلة القدر:

وهذا المعنى مأخوذ من اسمها؛ لأن القدر – الذي هو بمعنى الشأن العظيم فيقال عالي القدر متحقق فيها فلها قدر عظيم، كما أنه متحقق في غيرها بدرجات

ص: 274


1- من لا يحضره الفقيه الشيخ الصدوق: 2/ 158/ح2025

متفاوتة من الفضل في أمكنة وأزمنة متعددة كالصلاة في المساجد الأربعة وعند أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فإنها بآلاف الصلوات، وفي ليلة الجمعة ويومها وليالي شريفة متعددة تتضاعف الأعمال أيضاً.وهناك معنى آخر لهذه الليلة مأخوذ من اسمها بالمعنى الآخر وهو القدر بمعنى التقدير أي اتخاذ القرار والبت في الأمر وقد ورد هذا التفسير في الكافي بإسناده عن الإمام الباقر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في رواية جاء فيها:(يقدّر في ليلة القدر كل شيء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل:خير وشر وطاعة ومعصية ومولود وأجل أو رزق فما قدّر في تلك الليلة وقضي فهو المحتوم ولله عز وجل فيه المشيئة)(1).

ويكون معنى الآية حينئذٍ، أن الله تعالى يقدِّر في ليلة القدر مصائر العباد وأرزاقهم وأمورهم المستقبلية قال تعالى:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} ومعنى كونها خيراً من ألف شهر أن العبد قد يحظى بالتفاتة من ربه ويناله لطف خاص فيقدّر الله تبارك وتعالى له في هذه الليلة أمراً يساوي حياته كلها التي تمتد في المعدل ألف شهر وهي حوالي 83 سنة.

ولذا ورد في أدعية هذه الليلة (وإن كنت من الأشقياء فامحني من الأشقياء واكتبني من السعداء فإنك قلت في كتابك المنزل على نبيك المرسل صلواتك عليه وآله:{يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ})(2) فمثل هذا التغيير في القضاء إذا حصل في هذه الليلة فإنه يعادل العمر كله؛ لأن غاية سعي الإنسان في حياته هو بلوغ السعادة الحقيقية بفضل الله تبارك وتعالى.

ص: 275


1- الكافي الشيخ الكليني: 4/ 157/ح6
2- الكافي الشيخ الكليني: 4/ 157/ح6

إحياء ليالي القدر:

وكان الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) يعطون لهذه الليلة أهمية خاصة ويوجّهون شيعتهم لإحيائها بما يقرّبهم إلى الله تبارك وتعالى. روى الشيخ الطوسي (قدس سره) في التهذيب بسند معتبر عن زرارة عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(سألته عن ليلة القدر، قال:هي ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين، قلت:أليس إنما هي ليلة؟ قال:بلى، قلت:فأخبرني بها، قال:وما عليك أن تفعل خيراً في ليلتين)(1).

وعن الفضيل بن يسار قال:(كان أبو جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إذا كانت ليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين أخذ في الدعاء حتى يزول الليل، فإذا زال الليل صلّى)(2).

وروي عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال:(أتى رسولَ الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) رجلٌ من جهينة فقال:يا رسول الله إن لي إبلاً وغنماً وغُلمة وعمَلةً فأحب أن تأمرني بليلة أدخل فيها فأشهد الصلاة، وذلك في شهر رمضان، فدعاه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فسارّه في أذنه، فكان الجهني إذا كانت ليلة ثلاثة وعشرين دخل بإبله وغنمه وأهله فبات تلك الليلة بالمدينة فإذا أصبح خرج بمن دخل به فرجع إلى مكانه)(3).

وعن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إن ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان هي ليلة الجهني فيها يفرق كل أمر حكيم وفيها تثبت البلايا والمنايا والآجال والأرزاق والقضايا، وجميع ما يُحدث الله عز وجل فيها إلى مثلها من الحول، فطوبى لعبد

ص: 276


1- التهذيب: 3/ 58.
2- الكافي: 4/ 155، الخصال: 519.
3- التهذيب: 4/ 330، الدعائم: 1/ 282، بحار الأنوار: 83/ 128.

أحياها راكعاً وساجداً ومثّل خطاياه بين عينيه ويبكي عليها فإذا فعل ذلك رجوت أن لا يخيب إن شاء الله تعالى)(1).

حول أعمال ليلة القدر:

ولذلك ينبغي للمؤمن أن يلح في مثل هذا الطلب في ليلة القدر لعله يحظى بالقبول، فإن رحمة الله واسعة وفضله مبذول لمن سأله وأن يكون دعاؤه بالحال الذي وصفه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة) وينبغي أن يقوم بالأعمال التي تحقق له أهلية الاستجابة والقبول في ليلة القدر –كالإكثار من الصلوات المستحبة كصلاة مائة ركعة والدعاء والرحمة بالآخرين وسماع الموعظة وذكر فضائل أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ومصائبهم مما يحيي القلب وينقيه ويخلص النية، ومن أعمالها المؤكدة زيارة الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولو من بُعد لمن يتعذر عليه زيارة تربته المقدّسة فقد وردت فيها روايات عديدة منها ما في التهذيب عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وفيها:(نادى منادٍ تلك الليلة من بطنان العرش إن الله قد غفر لمن أتى قبر الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في هذه الليلة)(2).

وإذا وجد في عمل رتابة وملل فلينوِّع ولينتقل إلى عمل آخر، فإن الأعمال المذكورة لهذه الليالي كثيرة ومتنوعة، وأحد أهداف تنوعها هو منع الكسل والملل والرتابة، ولإحداث الحيوية، ولإعطاء الفرصة لكل شخص أن يأخذ ما يناسبه ويتفاعل معه من أعمال الجوارح والجوانح.

ص: 277


1- دعوات الراوندي: 207.
2- تهذيب الأحكام الشيخ الطوسي: 6/ 49/ح26

بماذا نستعد لليلة القدر؟

وينبغي الاستعداد لليلة القدر من قبلها بالورع عن معاصي الله تبارك وتعالى والإقبال على طاعته، ومن أشكال الاستعداد أن يأتي بأعمالها منذ ليلة التاسع عشر كما هو مقرَّر مع أنها لا يحتمل أن تكون ليلة القدر لأن المروي أن ليلة القدر تقع في العشر الأواخر من شهر رمضان لكن ليلة التاسع عشر جعلت منها وشملت بأعمالها ليوفّق المؤمن لليلة القدر، ومن يتهاون بها فلعله يحرم من شيء من فضل ليلة القدر إلا أن يتداركه الله تعالى بفضله وكرمه.

ولتوضيح مسألة دخول ليلة التاسع عشر في أعمال ليالي القدر –مع أن الليلة متعينة في العشر الأواخر من شهر رمضان نقول:إن أي طلب يمر بعدة مراحل من النظر فيه ثم دراسة كيفية تلبية وتهيئة ظروف استجابته، ثم اتخاذ القرار بالاستجابة له، ثم تنفيذ هذا القرار وتحقيق المراد، ففي الليلة التاسعة عشرة يبدأ المؤمنون بتقديم طلباتهم ويُنظر في تلبيتها لهم، وفي الليلة الحادية والعشرين:تتخذ القرارات بالاستجابة لمن يشمله اللطف الإلهي الواسع، لكن يبقى قلم المحو والإثبات لم يجفّ، وفي الليلة الثالثة والعشرين:تمضى تلك الأوامر نفياً أو إثباتاً، ولذا تكرر وصف القضاء الإلهي في ليلة القدر بأنه لا يرد ولا يبدَّل كما في دعاء الإمامين الصادق والكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعد كل فريضة، وفيه:(اللهم إني أسألك في ما تقضي وتقدّر من القضاء الذي لا يرد ولا يبدل)(1) إلى آخر الدعاء.

وهذا المعنى ورد في رواية ذكرها الشيخ الكليني في الكافي بإسناده عن زرارة قال:(قال أبو عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):التقدير في تسع عشرة، والإبرام في إحدى

ص: 278


1- مفاتيح الجنان: 289

وعشرين، والإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين)(1).ويكفي دليلاً على عظمة التغييرات التي تحصل للفرد وللبشرية جميعاً في ليلة القدر أن نزول القرآن كان فيها، القرآن الذي قلَبَ حياة البشرية وسما بها من حيوانية الجاهلية إلى قمة التوحيد وفتح آفاقاً واسعة للعلوم والمعارف والحضارات وأرسى أسس الحياة السعيدة، فكانت تلك الليلة خيراً من آلاف الشهور والسنين –لأن الألف لم تذكر للتحديد وإنما للتعبير عن الكثرة - التي قضتها البشرية في ظلمات الجاهلية.

وتبقى الأمة سعيدة ما دامت ملتفتة إلى عظمة ليلة القدر والقرآن الذي نزل فيها وملتزمة به ومستفيدة منه، وإلا فإنه لا يغنيها ما أصابته من عرض الدنيا وحطامها.

علاقة الزهراء (س) بليلة القدر:

وبهذا المعنى كان من ألقاب الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء (س) أنها ليلة القدر؛ لأن موقفها صحّح مسيرة الأمة إلى قيام يوم الساعة، فهذا الانقلاب الإيجابي المضاد الذي أحدثته الزهراء (س) بموقفها يعدل عمل الأمة آلاف السنين إلى آخر عمرها فيما لو لم تهتدِ إليه.

وكان لليلة القدر مكانة في قلب الزهراء (س)، فقد روي (أن فاطمة (س) كانت لا تدعْ أحداً من أهلها ينام تلك الليلة (ليلة القدر) وتداويهم بقلة الطعام

ص: 279


1- الكافي الشيخ الكليني: 4/ 159/ح9

وتتأهب لها من النهار، وتقول:محروم من حُرِمَ خيرها)(1).وعلى أي حال فإن الاهتمام بليلة القدر والتركيز على إحيائها لا يعني أن الإنسان يتكاسل في أيامه كلها ويتهاون ويفرّغ نفسه في الليالي المحتملة لليلة القدر، فهذا لا يناسب العاملين الراغبين فيما عند الله تبارك وتعالى، ولا أن ييأس إذا لم يشعر أنه قد وفق لإحياء ليلة القدر؛ لأن هذه الليلة وشهر رمضان وغيرها من أبواب اللطف الإلهي فإذا انقضت فإن رب شهر رمضان ورب ليلة القدر باقٍ ورحمته واسعة.

تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة:

إنَّ نفس هذا المعنى الذي شرحنا به الآية ورد في موضوع آخر ففي الرواية (تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة)(2) وهو مضافاً إلى معناه المنسبق إلى الذهن وهو أن التفكير والتأمل والفهم هو حقيقة العمل والغاية المنشودة منه لا الحركات الخارجية التي إنما تكتسب قيمتها من محتواها وهو التفكر والتأمل المنتج للخشوع والحب والرغبة والرهبة.

فإن للحديث معنى آخر كالذي ذكرناه عن ليلة القدر وهو أن الإنسان قد يقف ساعة للتفكر والمراجعة والتحقيق في مسيرة حياته وهدفه الذي يريد أن يصل إليه، ونيته في أعماله، والقيادة التي يرجع إليها في أموره، وإذا به يتخذ قراراً يقلب كل مسيرة حياته ويغير وجهتها إلى الهدف الصحيح، فتكون هذه الساعة

ص: 280


1- بحار الأنوار: 97/ 10.
2- بحار الأنوار المجلسي: 68/ 327

من المراجعة والتأمل خيراً من كل ما يؤديه خلال حياته عن غير بصيرة وهدى وكان يظن أنه يحسن صنعاً.وأوضح مثال على هذه الحالة الحر الرياحي(1) الذي أمضى ستين سنة من عمره بعيداً عن ولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وإتباع منهجهم، فوقف ساعة يوم عاشوراء وتأمل في حاله وأرجع نفسه واتخذ القرار الشجاع بالانتقال إلى معسكر الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وتحول من الشقاوة الأبدية إلى السعادة الأبدية، فقد كانت هذه الساعة هي كل حياته وليس تلك السنين الطويلة التي قضاها بعيداً عن الحق.

ليلة القدر مرتبطة بصاحب ليلة القدر:

ومما ينبغي التركيز عليه في هذه الليلة الدعاء للإمام صاحب العصر (أرواحنا له الفداء) لأنه صلوات الله عليه وسلامه هو صاحب هذه الليلة ويزداد فيها شرفاً وكرامة، سُئل الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عما إذا كان يعرف ليلة القدر؟ قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(كيف لا نعرف والملائكة تطوف بنا فيها)(2)، وعليه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تنزَّل الملائكة وتعرض عليه ما قضى الله تبارك وتعالى به على العباد في تلك الليلة إلى العام المقبل فينظر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فيها ويدعو لأصحابها بما يناسبهم، لأنه حجة الله تعالى الفعلية على المخلوقات، ويستحب الإكثار من دعاء (اللهم كن لوليّك الحجة بن الحسن) عسى أن نحظى بنظرة كريمة منه نستكمل بها الكرامة عند الله تبارك وتعالى ثم لا يصرفها عنا بجوده وكرمه.

ص: 281


1- الإرشاد الشيخ المفيد: 2/ 99
2- تفسير البرهان: 4/ 488، ح29.

تنبيه عن أعمال ليلة القدر:

وينبغي الالتفات أيضاً إلى أن أعمال ليلة القدر منتشرة في كتب السنن والمستحبات ك(مفاتيح الجنان) و(مصابيح الجنان) تحت أكثر من عنوان، فتوجد أعمال خاصة بالليلة وتوجد غيرها تحت عنوان (الأعمال المشتركة لليالي القدر وأخرى تحت عنوان العشر الأواخر من شهر رمضان وأخرى تحت عنوان الأعمال العامة لشهر رمضان، فالتهيؤ والاستعداد يشمل تجميع هذه المفردات في برنامج عمل يأخذ منه كل شخص بما يناسبه وما ييسّره الله تبارك وتعالى.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل ليلة القدر وأن يقسم لنا فيها خير ما قسم لأحد من عباده الصالحين إنه واسع كريم.

ص: 282

القبس/182: سورة البينة:7

اشارة

{أُوْلَئِكَ هُم خَيرُ ٱلبَرِيَّةِ}

موضوع القبس:حيَّ على خير العمل

والدعوة الى ولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)

(حيَّ على خير العمل) من فقرات الاذان والإقامة المستحبين الاكيدين قبل الصلاة وقال البعض بالوجوب(1)، وفي هذه الفقرة حث ودعوة مع طلب المبادرة الى خير العمل، ويمكن أن يكون المراد من (خير العمل) كل عمل خير من باب إضافة الصفة الى موصوفها وبهذا المعنى تكون الدعوة شاملة لكل أفعال الخير المرضية عند الله تعالى فتتطابق مع الآية الكريمة {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} (المائدة:48).

وقد يراد ب(خير العمل) عمل مخصوص هو خير الاعمال وأفضلها والدعوة تؤكد المبادرة اليه، والمستفاد من الروايات أن المقصود بهذا العمل أمران ظاهري عام وآخر خاص.

(أما) (المعنى الظاهري) فهو الصلاة نفسها التي هي عمود الدين إن قُبلت قبل ما سواها وإن رُدَّت رُدَّ ما سواها، روي عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن علة الأمر

ص: 283


1- أنظر: مختلف الشيعة العلامة الحلي: 2/ 120

بالآذان، الى أن قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ثم دعا الى خير العمل مرغباً فيه – أي الصلاة – وفي عملها وفي أدائها)(1).وفي رواية محمد بن الحنفية عن معراج النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وإمامته للصلاة في السماء السادسة والنداء الأول بالآذان يومئذٍ من قبل مَلَك خاص الى أن قال (حي على الصلاة، قال الله جل جلاله:فرضتها على عبادي وجعلتها لي ديناً، ثم قال:حيَّ على الفلاح، قال الله عز وجل:أفلح من مشى اليها وواظب عليها ابتغاء وجهي، ثم قال حيَّ على خير العمل، قال الله جل جلاله:هي أفضل الاعمال وأزكاها عندي)(2).

وفي رواية عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير الاذان قال:(وإذا قال حي على خير العمل فأنه يقول ترحموا على أنفسكم فأنه لا أعلم لكم عملاً أفضل من هذه فتفرغوا لصلاتكم قبل الندامة)(3).

(واما المعنى الخاص وهو الاكمل) فيراد بخير العمل ولاية علي بن ابي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأهل بيت النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) المعصومين، ففي معاني الاخبار وعلل الشرائع للشيخ الصدوق بسنده عن أبي جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (أتدري ما تفسير حيَّ على خير العمل، قال:قلت لا،

ص: 284


1- بحار الانوار: 84/ 144 عن علل الشرائع: 1/ 258 الباب 182 ح9، عيون أخبار الرضا: 2/ 105 الباب 34 ح1.
2- بحار الانوار: 84/ 141 عن معاني الاخبار: 42 ح4.
3- بحار الانوار: 84/ 154 عن جامع الأخبار: 171 الحديث 405.

قال:دعاك الى البر، أتدري برّ من؟ قلت:لا، قال:دعاك الى بر فاطمة وولدها (عَلَيْهِ السَّلاَمُ))(1)، وروايات أخرى ستأتي إن شاء الله تعالى.وليس في هذا المعنى أي غرابة فان ولاية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كمال دين التوحيد وتمام نعمة الإسلام وقد أعلم الله تعالى نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بأنه إن لم يبلغ الولاية فكأنه لم يبلّغ رسالة الإسلام أصلاً بنص الآية الشريفة {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (المائدة:67) وقوله تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} (المائدة:3) فهذا وجه لكون (خير العمل) ولاية أمير المؤمنين والأئمة من بنيه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، باعتبارها ذروة الإسلام وخلاصة التوحيد والايمان بالله تعالى.

والوجه الآخر، أن بها تقبل الاعمال وتزكى الأفعال، وفي كتاب العلل (وقوله حيَّ على خير العمل أي حث على الولاية وعلة أنها خير العمل أن الاعمال كلها بها تقبل)(2).

وسنشير الى وجهين آخرين إن شاء الله تعالى.

وقد صرحت الروايات بأن هذه الفقرة كانت موجودة في الاذان على عهد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لكن الثاني هو من أسقطها روى صاحب كتاب (دعائم الإسلام) عن ابي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(كان الاذان بحيَّ على خير العمل على عهد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبه امروا أيام ابي بكر وصدراً من أيام عمر، ثم امر عمر بقطعه

ص: 285


1- بحار الأنوار:81: 141 عن معاني الأخبار: 42، وعلل الشرائع: 368 الباب 89.
2- بحار الانوار: 84/ 170.

وحذفه من الاذان والإقامة، فقيل له في ذلك، فقال:إذا سمع الناس أن الصلاة خير العمل تهاونوا بالجهاد وتخلّفوا عنه)(1).وهذا فعل منكر لعدم جواز الاجتهاد مقابل النص، مضافاً الى أن في هذا توهيناً لمقام النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إذ كيف خفي عليه هذا التأثير السلبي للنداء ولماذا لم يحذفه حتى تفتقت عنه ذهنية الثاني، وهل ثبّط هذا النداء عزائم المسلمين في الجهاد أيام النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وما بعده من حروب الردة والفتوحات الإسلامية، حتى يدعّي مثل هذا السبب.

فالظاهر أن هذا السبب المعلن ليس هو الحقيقي، وإنما السبب الحقيقي هو طمس المعنى الثاني ومحاولة إطفاء نور الله تعالى المتمثل بأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لان تكرار هذا النداء في الصلاة سيدفع الناس الى السؤال عن خير العمل حتى يبادروا اليه ويلتزموا به فأراد غلق باب السؤال لدى الناس عن خير العمل فألغى الفقرة من أصلها.

فقد روى الشيخ الصدوق بسنده عن محمد بن ابي عمير أنه (سأل أبا الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) – موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) – عن حي على خير العمل لم تركت من الاذان؟ فقال:تريد العلة الظاهرة أو الباطنة، قلت أريدهما جميعاً، فقال:أما العلة الظاهرة فلئلا يدع الناس الجهاد إتكالاً على الصلاة، وأما الباطنة فأن خير العمل الولاية، فأراد من أمر بترك حي على خير العمل من الاذان أن لا يقع حث عليها ودعاء اليها)(2).

ص: 286


1- بحار الانوار: 84/ 156 عن دعائم الإسلام: 1/ 142.
2- بحار الانوار: 84/ 140 عن علل الشرائع: 2/ 368 الباب 89 ح4.

وهذه واحدة من محاولاتهم المحمومة لاستئصال أهل بيت النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) واقصائهم عن قيادة الأمة بل عن مسرح الحياة لولا لطف الله تعالى وحفظه، روى الكشي في رجاله عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لما قُبِض رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) جهد الناس في إطفاء نور الله فأبى الله إلا ان يتم نوره بأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)(1).وأمتدت محاولاتهم لتصل الى إزالة ذكر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من أصله وكل ما يمتّ اليه بصلة من معالم الدين وشعائره وإعادة الناس الى جاهليتهم الأولى لولا خشيتهم من انقلاب الرأي العام عليهم وإبقاءاً لشعرة معاوية مع الدين الذي به تسلّطوا على الأمة، ولنستمع الى هذا النص الذي اثبته بن ابي الحديد المعتزلي وهو من علماء العامة، روي أن المطرّف بن المغيرة بن شعبة(2) قال:دخلت مع أبي على معاوية - وكان أبي يأتيه فيتحدث معه ثم ينصرف إلي، فيذكر معاوية وعقله، و يُعجب بما يرى منه - إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء، ورأيته مغتماً فانتظرته ساعة، وظننت أنه لأمر حدث فينا، فقلت:ما لي أراك مغتماً منذ الليلة؟ فقال:يا بني جئتُ من عند أكفر الناس وأخبثهم! قلت:و ما ذاك؟ قال:قلت له وقد خلوت به:إنك قد بلغت سناً يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلا وبسطت خيراً، فإنك قد كبرت، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم، فوالله ما عندهم اليوم شيء تخافه، وإن ذلك مما يبقى لك ذكره و ثوابه .

ص: 287


1- معجم رجال الحديث:12/ 239 في ترجمة علي بن ابي حمزة البطائني عن رجال الكشي رقم 310.
2- المغيرة بن شعبة من دهاة العرب وكان له دور خفي في الاحداث منذ عهد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وما بعده، وغلامه أبو لؤلؤة الفارسي هو من قتل عمر وقد ساعد معاوية في تشييد ملكه فكافئه بولاية الكوفة وتزلّف اليه بأن القى اليه بدعة استخلاف ولده يزيد .

فقال:هيهات هيهات، أي ذكر أرجو بقاءه مَلكَ أخو تيم - أي أبو بكر فعدل، و فعل ما فعل، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلاّ أن يقول قائل:أبو بكر، ثم ملك أخو عدي - أي عمر فاجتهد و شمّر عشر سنين، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلاّ أن يقول قائل:عمر، وإن ابن أبي كبشة - أي النبي محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فهو يستكبر عن الاعتراف بنبوته - ليُصاح به كل يوم خمس مرات " أشهد أن محمداً رسول الله، فأيُّ عمل يبقى و أيُّ ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك، لا والله إلاّ دفناً دفناً !! (1).ومن هذا تبرز أهمية الحث على خير العمل بمعنى الدعاء الى ولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وبيان فضائلهم ومحاسن كلامهم وسيرتهم المباركة (فأن الناس لو سمعوا محاسن كلامنا لأتبعونا)(2) فبهم قوام الدين وديمومته وحفظه من التحريف والشبهات والتزييف والكذب والافتراء وإفشال هذه المحاولات الشيطانية الهدّامة ولولا وجود الأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وقيامهم بأمر الدين لنُقِض بناؤه حجراً حجر من أول يوم كما دلَّت عليه الروايات المتقدمة وقد تواصوا بهذه الجريمة جيلاً بعد جيل وكان الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لهم بالمرصاد {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ} (المائدة:64) فوصف ولاية أهل البيت والدعوة اليها والتمسك بها بخير العمل في محله لان بها يُحفظ الدين وكل الطاعات والاعمال الصالحة، وهذا وجه ثالث.

ص: 288


1- شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد ج5 ص129.
2- بحار الأنوار: ج 2 ص 30.

والوجه الرابع:ما ورد في تفسير قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} (البينة:7) من كتب الفريقين أنها نزلت في علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وشيعته، كالذي رواه الحسكاني في شواهد التنزيل وموفق بن أحمد في كتاب المناقب بالإسناد عن علي أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(حدثني رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأنا مسنده الى صدري، فقال:أي علي، ألم تسمع قول الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} أنت وشيعتك، وموعدي وموعدكم الحوض، إذا جثت الأمم للحساب تدعون غرّا محجلين) وهي مما احتج بها أمير المؤمنين على أهل الشورى حينما عدَّد مناقبه وان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال للمسلمين (إن هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة، فنزلت الآية (فكبرَّ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وكبرّتم وهنأتموني بأجمعكم فهل تعلمون أن ذلك كذلك؟ قالوا:اللهم نعم) (1).ولكي يتم الاستدلال بالآية على ما نريد نضمّ اليها قوله تعالى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (الملك:2) وقوله تعالى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات:13) ونحوهما الدالة على ان معيار التفاضل وتفاوت المنزلة عند الله تعالى هو خير العمل وأحسنه فتتحقق النتيجة وهي أن أكرم الناس وخير البرية هم أهل خير العمل وأفضله وأحسنه وقد أفادت آية البينة أن خير البرية هم علي ومن تمسك بولايته وسار على منهجه، فالنتيجة أن أهل خير العمل هم علي وشيعته المتمسكون بولايته ولازمه ان خير العمل هو هذا.

ص: 289


1- راجع مصادر الروايات في تفسير البرهان: 10/ 206.

اذن علينا أيها الاحبة(1) أن نلبي – كل من موقعه:علماء وخطباء ومثقفين وكتّاب وشعراء وناشطين على مواقع التواصل وغير ذلك - هذا النداء (حيَّ على خير العمل) بعد أن نفهم معناه ونواظّب عليه ونبذل وسعنا في دعوة الناس كافة الى الاستجابة لهذا النداء لنكون من خير البرية الذين وصفتهم الآية الكريمة {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} (البينة:7)، وقد أتانا الله تعالى من آليات العمل ووسائل التواصل ما يغبطنا عليه سائر الأجيال لسعة الفرصة وقوة التأثير وحسن الاستجابة بتوفيق الله تعالى تمهيداً وتعجيلاً للظهور الميمون المبارك وإقامة دولة العدل الالهية.

ص: 290


1- كلمة متلفزة وجهّها سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) الى مؤتمر المبلّغين الذي عقده مكتب المرجع في قم المقدسة يوم الخميس 20/ ذي الحجة/ 1437 الموافق 22/ 9/ 2016 بمناسبة عيد الغدير الآغر وقرب حلول موسم التبليغ في شهري محرم وصفر.

القبس/183: سورة التكاثر:8

اشارة

{ثُمَّ لَتُسَٔلُنَّ يَومَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ}

موضوع القبس:نعمة ولاية اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)

الالتفات الى نعم الله تعالى:

قال الله تبارك وتعالى في أكثر من موضع من كتابه الكريم {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} (إبراهيم:34) (النحل:18)، ولو أجهد الإنسان نفسه لإحصاء هذه النعم فإنه يعجز فعلاً، بل إن كل نعمة يذكرها –كصحة وسلامة البدن هي في الحقيقة مجموعة من النعم لا تُعدّ ولا تحصى، فكل نفس من الهواء يستنشقه هو نعمة، وكل قطرة دم تسري في عروقه هي نعمة وكل نبضة من قلبه هي نعمة وهكذا، وإذا أراد الإنسان أن يعرف أهمية هذه النعم التفصيلية فليلتفت إلى ما يحصل لو حُرم منها.

وهكذا كل نعمة كرغيف الخبز الذي يأكله كل إنسان يومياً ويعتبره أمراً عادياً، فليتأمل كيف وصل إليه وكم نعمة اشتركت في إعداده، من الأرض التي جعلت صالحة للزراعة والماء الذي يسقيها، والحب الذي ينبت في تلك الأرض، والزارع الذي يصلح الأرض ويداري الزرع إلى أن يحصده ويخرج الحب من سنبله، ثم التاجر الذي ينقله، إلى الطحان والعجان والخباز والبائع، وأودع الله تعالى في هؤلاء غرائز تدفعهم إلى القيام بهذه الأعمال وتحمل المشاق

ص: 291

والصعوبات كحب البقاء.

علينا أن نشكر الله تعالى على نعمه:

ولكن الإنسان يغفل عن هذه النعم، وحتى لو التفت إليها فإنه لا يشكرها ولا يؤدي حقها، قال تعالى في ذيل الآية في موضعها الأول من سورة إبراهيم {إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (إبراهيم:34) فهو يظلم ربّه إذ لا يوفيه حقه، ويظلم نفسه لأنه يوقعها في الخسران العظيم، وهو كفار لأنه جاحد ومتنكر لهذه النعم، لكن الله الرحمن الرحيم خالق هذا الإنسان والعالم بمكوناته غفر له هذا التقصير، قال تعالى في ذيل الآية في موضعها الثاني من سورة النحل {إنّ اللهَ لغفورٌ رحيم}.

ومن رحمته أن جعل الاعتراف بالقصور والتقصير عن إحصاء النعم فضلاً عن شكرها هو حق الشكر له تبارك وتعالى، كما روي في أخبار الرسول الكريم موسى بن عمران (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن الله تعالى أوحى إليه أن يا موسى اشكرني حق شكري، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأنّى لي أن أشكرك حقّ شكرك، فأوحى الله إليه:إن هذا الاعتراف بالعجز هو حق شكري.

وفي الكافي (كان الإمام علي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إذا قرأ هذه الآية (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا)(1) يقول:سبحان الذي لم يجعل في أحد من معرفة نعمة إلا المعرفة بالتقصير عن معرفتها، كما لم يجعل في أحد من معرفة إدراكه أكثر من العلم أنه لا يدركه، فشكر جل وعز معرفة العارفين بالتقصير عن معرفة شكره فجعل معرفتهم بالتقصير شكراً، كما عَلِم عِلْم العالمين أنهم لا يدركونه

ص: 292


1- الكافي الشيخ الكليني: 8/ 394/ح592

فجعله علماً). وفي مناجاة الشاكرين للإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فآلاؤك جمّة ضعف لساني عن إحصائها، ونعمائك كثيرة قصُر فهمي عن إدراكها، فضلاً عن استقصائها، فكيف لي بتحصيل الشكر وشكري إياك يفتقر إلى شكر، فكلّما قلتُ لك الحمد وجب عليّ لذلك أن أقول لك الحمد)(1).

شكر النعم المعنوية:

هذا كله في النعم المادية – إذا أمكن تسميتها وهي ملتفت إليها في الجملة، لكن ما لا نلتفت إليه إلا نادراً النعم المعنوية وعلى رأسها الإيمان بالله تعالى وبرسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وما جاء به، الذي هو وسيلة النجاة والفلاح في الحياة الباقية، وهو من أعظم النعم على الإنسان، بل به يصبح الإنسان إنساناً، أما غير المؤمنين فهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً.

نعمة الولاية لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):

ثم نعمة ولاية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والأئمة من بنيه (صلوات الله عليهم أجمعين)، في الكافي وتفسير القمي (قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} (إبراهيم:2829).

قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):ما بال أقوام غيّروا سنة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعدلوا عن وصيّه ولا يتخوّفون أن ينزل بهم العذاب:ثم تلا الآية ثم قال:نحن النعمة التي أنعم الله على

ص: 293


1- مفاتيح الجنان: 170

عباده وبنا يفوز من فاز يوم القيامة)(1) وورد في هؤلاء المبدلين لنعمة الله تعالى من طرق الفريقين عن علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وعمر بن الخطاب (هما الأفجران من قريش بنو أمية وبنو المغيرة، فقطع الله دابرهم يوم بدر وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين) وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (عنى بها قريش قاطبة الذين عادوا رسول الله ونصبوا له الحرب وجحدوا وصيه).وهذا التفسير شاهد على أن النعمة المقصودة هي الإيمان بالله تعالى وبرسوله الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وقد جاءت الآية محل البحث في ختام هذا السياق من الآيات المباركة.

تذكير الناس:

وفي ضوء هذا فقد كان الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) يصححون هذا الفهم لدى الناس وينبهونهم من غفلتهم، فقد ورد في تفسير قوله تعالى {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} (التكاثر:8) عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إن النعيم الذي يُسأل عنه:رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومن حلّ محله من أصفياء الله، فإن الله أنعم بهم على من أتبعهم من أوليائهم).

وفي تفسير العياشي عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أنه سأله أبو حنيفة عن هذه الآية، فقال له:ما النعيم عندك يا نعمان؟ قال:القوت من الطعام والماء البارد، فقال:لئن أوقفك الله يوم القيامة بين يديه حتى يسألك عن كل أكلة أكلتها أو شربة شربتها

ص: 294


1- تفسير الصافي4/ 240 عن الكافي، باب أن النعمة التي ذكرها الله عز وجل في كتابه الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).

ليطولّن وقوفك بين يديه، قال:فما النعيم جعلت فداك؟ فقال:نحن أهل البيت النعيم الذي أنعم الله بنا على العباد، وبنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين(1)، وبنا ألّف الله بين قلوبهم وجعلهم إخواناً بعد أن كانوا أعداءً. وبنا هداهم الله للإسلام، وهو النعمة التي لا تنقطع، والله سائلهم عن حق النعيم الذي أنعم به عليهم، وهو النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعترته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).وفي رواية:(انه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال له:بلغني انك تفسّر النعيم في هذه الآية بالطعام، والطيب، والماء البارد في اليوم الصائف؟ قال:نعم، قال:لو دعاك رجل وأطعمك طعاماً طيباً وسقاك ماءً بارداً ثم امتنّ عليك به إلى ما كنت تنسبه؟ قال:إلى البخل، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):أفيبخل الله تعالى؟ قال فما هو؟ قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):حبنا أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)(2).

وروايات أخر بهذه المضامين(3).

نعمة حسن الخلق:

ومن هذه النعم المعنوية حُسن الخلق وبها امتدح الله تعالى نبيه الكريم

ص: 295


1- هذا تطبيق منه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لقوله تعالى: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (آل عمران:103).
2- أقول: ذكر الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هذا لتصحيح فهم أبي حنيفة وإلا فإن الإنسان يُسأل عن ماله مم اكتسبه وفيم أنفقه، وعن أولاده كيف ربّاهم ومم أنفق عليهم وهكذا، نعم لا يُسأل عن ضرورات حياته وهذا وجه للجمع بين الروايات، ويشهد له صحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (ثلاثة أشياء لا يحاسب عليهن المؤمن: طعام يأكله، وثوب يلبسه، وزوجة صالحة تعاونه ويحصن بها فرجه) (وسائل الشيعة، أبواب مقدمات النكاح، باب9، ح1).
3- نقلها تفسير الصافي: 7/ 547548 عن تفسير القمي والعياشي وعيون أخبار الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والكافي والمحاسن.

{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4) والناس لا تلتفت إلى هذه النعم ولا تعيرها اهتماماً ولذا فإنهم لا يحسدون صاحبها عليها، وقد ورد في التواضع ما مضمونه انه نعمة لا يحسد عليها صاحبها، فهل يلتفت المجتمع إلى تهنئة من يكتسب خلقاً كريماً أو يؤدي طاعة عظيمة كصلاة الليل أو بر الوالدين أو قضاء حوائج الناس أو المواظبة على صلاة الجماعة في المساجد كما يهنئون من يرزق مالاً أو ولداً، وهل يعزّون أحداً على فوات شيء من ذلك كنومه عن صلاة الصبح أو عقوق الوالدين أو الإفطار في شهر رمضان كما يعزون على فقدان عزيز أو حصول خسارة.

نعمة الزوجة الصالحة:

ومن هذه النعم الزوجة الصالحة، ففي الحديث الشريف عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد الإسلام أفضل من زوجة مسلمة تسرّهُ إذا نظر إليها، وتطيعه إذا أمرها، وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله).(1)

علينا أن نتحدث بالنعم المعنوية:

هذه النعم المعنوية (الإيمان بالله وبرسوله وولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وحسن الأخلاق) هي الأوضح في عدم قبولها الإحصاء والاستقصاء لأنها تمتد إلى الحياة الباقية الخالدة، ولان بركاتها وأثارها واسعة، ولأنها مستمرة بالعطاء لا تنقطع كما عبّر الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حديثه مع أبي حنيفة وهذه النعم هي التي طلب الله تعالى من عباده أن يتحدثوا بها وينشروها ويدعوا الناس إليها لتغمرهم سعادتها، قال تعالى {وأمّا بنعمةِ ربّك فحدّث}.

ص: 296


1- وسائل الشيعة، كتاب النكاح، أبواب مقدماته وآدابه، باب9، ح10.

عن الحسين بن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(أمره أن يحدِّث بما أنعم الله عليه من دينه)(1).ولا نتوقع أن المطلوب أن يتحدّث الإنسان بما عنده من أموال وعقارات وأولاد ونحوها، نعم ورد في تطبيق الآية على هذا المستوى أن يُظهر الإنسان نعمة الله عليه، لأن التظاهر بعكسها كذب في الفعل وإخفاء لنعمة الله عليه، ففي الكافي عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إذا أنعم الله على عبده بنعمة فظهرت عليه سمي حبيب الله محدّثاً بنعمة الله، وإذا أنعم الله على عبده بنعمة فلم تظهر عليه، سمي بغيض الله مكذّباً بنعمة الله).(2)

شهر رمضان:من النعم المعنوية:

ومن تلك النعم المعنوية التي أكرمنا الله تعالى بها شهر رمضان الذي أطلّ علينا. بفضل الله تبارك وتعالى، فاستقبلوه بمعرفة فضله، وعظيم نعمة الله تعالى به، وأنّى لنا أن نعرفه حق معرفته لولا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأهل بيته الكرام، فاعرفوا حقه وقدره من خطبة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في آخر جمعة من شعبان(3) وتأملوا فيها جيداً.

واعرفوه أيضاً من دعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في استقباله، ودعائه في وداع شهر رمضان الذي نصحتُ مراراً بقراءته قبل دخول الشهر لنزداد بصيرة بعظمة هذا الشهر الشريف ونستعد له، والدعاءان موجودان في الصحيفة السجادية.

ومما ورد في ثانيهما في بيان عظيم نعمة الله تعالى بهذا الشهر الشريف قوله

ص: 297


1- تفسير الصافي: 70/ 504 عن المحاسن للبرقي.
2- المصدر نفسه عن الكافي: باب التجمّل وإظهار النعمة.
3- راجعها في مفاتيح الجنان في فضلِ شهر رَمضان وأعمالِه.

(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ما أفشى فينا نعمتك، وأسبغ علينا منّتك، وأخصّنا ببرّك، هديتنا لدينك الذي اصطفيت، وملتّك التي ارتضيت، وسبيلك الذي سهّلت، وبصّرتنا الزلفة لديك، والوصول إلى كرامتك) ثم قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اللهم وأنت جعلت من صفايا تلك الوظائف وخصائص تلك الفروض شهر رمضان الذي اختصصته من سائر الشهور، وتخيّرته من جميع الأزمنة والدهور، وآثرته على كل أوقات السنة، بما أنزلت فيه من القرآن والنور. وضاعفت فيه من الإيمان، وفرضت فيه من الصيام، ورغّبت فيه من القيام) إلى أن قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وقد أقام فينا هذا الشهر مُقام حمد، وصحبنا صحبة مبرور، وأربحنا أفضل أرباح العالمين)، وقد شرح النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هذه الأرباح في خطبته التي اشرنا إليها، وهي حقاً أفضل أرباح العالمين.

وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ:

والتزاماً بالآية الشريفة {وأما بنعمة ربك فحدّث} ينبغي لنا أن نستقبل هذا الشهر الشريف وهذه النعمة المباركة بمعرفته والاستعداد له بالتوبة والاستغفار والعزم على مضاعفة الهمة في الطاعات والورع عما حرّم الله تعالى، وصيام الأيام الأخيرة من شعبان ولو للقضاء عما في الذمة، وأن نضع لنا برامج نقضي بها أيامه ولياليه الشريفة تتضمن أداء صلوات مستحبة وأدعية وتلاوة القرآن لأنه شهر رمضان ربيع القرآن،وتتضمن حضور المساجد لأداء صلاة الجماعة والاستماع إلى محاضرات الوعظ والإرشاد مباشرة أو التي تنقلها الفضائيات بفضل الله تبارك وتعالى. وان نتحدث بفضل هذا الشهر وعظمته، وندعو الناس إلى أداء حق الله تعالى فيه أكثر مما في غيره من لزوم الطاعات واجتناب المعاصي، وان نقيم الفعاليات التي تحفّز المجتمع على طاعة الله تبارك وتعالى وذم معصيته بنشر

ص: 298

اللوحات الجدارية والبوسترات التي تتضمن الأحاديث الشريفة.ونذكركم بما قلناه سابقاً من وضع مكبرات الصوت على السيارات وتجوب شوارع المدن مرحبّة بالشهر الشريف ومبيّنة لعظمته وثواب الطاعة فيه وعقوبة المخالفين، إقامة المسيرات والمهرجانات الاحتفالية بقدوم هذا الشهر المبارك وتلبية الدعوة لضيافة الرحمن والتزوّد من الموائد الإلهية.

ماذا علينا تجاه النعم المعنوية؟

أقول كلامي هذا:

1 لنلتفت إلى النعم الحقيقية التي تبقى ونعمل على تحصيلها.

2 ولنزهد في ما سواها من النعم الزائلة التي يفني الغافل عمره في جمعها والعناية بها ومتابعتها فيكون خادماً لها بدل أن تكون هي خادمة له، فصاحبها لا يحسد عليها حقيقة.

3 وأن نبذل الوسع في التحدث بهذه النعم الحقيقية وندعو الناس إليها ونرغّبهم فيها.

4 ولنتجنّب هذا التزاحم والتغالب والصراع على تلك الأمور الوهمية التي يُخدع بها الغافلون.

قال تعالى في المقارنة بين النوعين من النعم {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ، قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا

ص: 299

الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (آل عمران:1415) إن اختيار اسم (النعيم) لهذه الفضائية(1) التي أنطلق بثها تزامناً مع حلول شهر رمضان المبارك، يحملّها مسؤولية التحدث بهذه النعم العظيمة.

أسأل الله تعالى أن يجعل هذه القناة منبراً لبيان النعم الحقيقية ودعوة الناس إليها وخلق الحوافز لديهم للتمسك بها مع عدم إهمال الحديث عن النعم المادية كسعة المال وصحة البدن والأمن والعافية والولد والاستقرار وكيفية استثمارها في طاعة الله تبارك وتعالى.

وأن تكون هذه القناة نافذةً يُطلّ منها العلماء والمفكرون والعاملون المخلصون على الدنيا لتسمع منهم وتهتدي بهم ويحققوا أمل الأئمة الأطهار (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عندما حثوا شيعتهم على إيصال صوتهم للبشرية جمعاء وقالوا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا)(2) فلتتحدث القناة بهذه النعم الإلهية وتدعو الناس إليها، فإن اختيار الاسم للقنّاة جاء منسجماً مع هذه المسؤولية {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (المطففين:26).

ص: 300


1- كلمة سجّلها سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) إلى قناة النعيم الفضائية لمباركة انطلاقتها تزامناً مع حلول شهر رمضان المبارك يوم الجمعة 27/شعبان/1432 المصادف 29/ 7/ 2011.
2- معاني الأخبار الشيخ الصدوق: 180

القبس/184: سورة العصر:3

اشارة

{وَتَوَاصَواْ بِٱلحَقِّ وَتَوَاصَواْ بِٱلصَّبرِ}(1)

أهمية سورة العصر:

سورة (العصر) قصيرة جداً في كلماتها لا تتجاوز السطرين لكنّها عظيمة في فضلها، خطيرة في مضمونها، وإنها مظهر من مظاهر إعجاز القرآن حينما يُقدِّم في سطر واحد منهجاً متكاملاً لنجاح البشريّة من أوّل الخلقة إلى نهايتها ويعرِّف هويّة الأمّة الرابحة الفائزة ويعلّمها وظائفها في هذا السطر.

روى الشيخ الصدوق بسنده عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(من قرأ (والعصر) في نوافله بعثه الله يوم القيامة مشرقاً وجهه ضاحكاً سنّه، قريرة عينه حتّى يدخل الجنة)(2)، ولأهمية ما جاء فيها فقد ورد أن أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كانوا اذا اجتمعوا لا يفترقون إلاّ بعد تلاوة سورة (والعصر) ويتذاكروا في مضامينها(3).

ص: 301


1- كلمة سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من منتسبي هيئة الحج والعمرة في بغداد والمحافظات يوم الخميس 2/ج1/ 1434 الموافق 14/ 3/ 2013.
2- ثواب الأعمال: 125.
3- الدر المنثور: 6/ 392.

معنى (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ):

يبتدئ الله تبارك وتعالى السورة بالقسم (والعصر) بمعانيه المختلفة كما وردت في التفاسير، فيقسم الله عزّ من قائل – وهو أصدق القائلين لتأكيد الكلام ولإثارة انتباه المخاطب إلى الحقيقة التي سيقولها، لأنّها حقيقة خطيرة {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} ليس الإنسان بحسب تكوينه وأصل خلقته، لأنّه خُلق للكمال وللمعرفة بالله تعالى ولإخلاص الطاعة له سُبحانه والاستقامة على ما أراد منه، لذلك أسجد له ملائكته وقال تعالى {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة:30), فليس الإنسان بالحمل الأولي –كما في المصطلح هو في خسر، بل الإنسان الموجود على أرض الواقع أي بلحاظ سلوكه وسيرته أي أفراد الإنسان ومصاديقه بالحمل الشائع –كما في المصطلح الذي يخالف فطرته حينما يخرج إلى هذه الدنيا وينسى عهده مع ربّه الذي واثقه عليه {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (الأعراف:172).

فهذا الإنسان الذي خلق للسمو والتكامل، تراه ينحدر ويتسافل ويعرض عن ذكر ربّه، فيخسر رأس ماله وكلّ القوى التي زوّدها الله تعالى بها لتحقيق الغرض المنشود من حياة ووجود وعقل وفكر وبدن وثروة وجاه وعلاقات وأسرة وعشيرة وموقع وغيرها، حتّى الأشياء البسيطة الدقيقة التي يمكن أن تُكتسب بها الجنان {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} (الزلزلة 7)، كتسبيحة أو ذكر مع كل شهيق وزفير وفي كل طرفة عين.

وإذا به على العكس يسخّرها للشقاء والعذاب، فإذن هو فعلاً (في خسر)، بل

ص: 302

خسر عظيم، قال تعالى {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}(الزمر15)، كمن يزوّد برأس مال عظيم وتوفَّر له كلّ فرص النجاح والاستثمار وتقدِّم له كلّ معونة والتسهيلات في السوق، لكنّه بحماقته وضيق نظره يخسر كلّ ذلك، عن الإمام الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الدنيا سوق ربح فيها قوم وخسر آخرون)(1).

ثمن النفس هو الجنة:

هذه الصفقة التي أنشأها الله تعالى مع عباده {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} (التوبة:111) فلا ثمن لهذه النفس إلاّ الوفاء بهذه الصفقة، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إنّه ليس لأنفسكم ثمن إلاّ الجنّة فلا تبيعوها إلاّ بها)(2).

والتعبير يمزج مع التحذير والتهديد والتوبيخ استغراباً وعتاباً، لأنّ الله تعالى خلقهم للرحمة والسعادة والفوز وأعطاهم كلّ ما يوصلهم إلى هذه النتيجة من أسباب معنوية ومادّية قال تعالى {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود 119), وروي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (يقول الله تعالى:يا ابن آدم، لم أخلقك لأربح عليك، إنّما خلقتك لتربح عليّ, فاتخذني بدلاً من كل شيء، فإني ناصر لك من كل شيء)(3).

ص: 303


1- بحار الأنوار: 72/ 366 ح1، تحف العقول: 361.
2- نهج البلاغة: قصار الكلمات، رقم 74.
3- ميزان الحكمة: 1/ 334 الحديث 1604 عن شرح نهج البلاغة: 20/ 319، 665.

لماذا يحصل الخسران؟

فلماذا يخسرون كلّ ذلك بتوظيفه في عكس الهدف الذي خلقوا من أجله {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} (يس30)، لذلك يسجّل القرآن الكريم استغرابه من دخول أهل النار إليها، قال تعالى {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} (المدثر42)، ولم يسجّل استغرابه من دخول أهل الجنة فيها لأن وجودهم على القاعدة ومع الهدف الذي خُلقوا من أجله.

والمرعب في هذه الحقيقة إطلاقها وعمومها (إن الإنسان) مطلقاً فتكون كقوله تعالى {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } (مريم:7172).

المستثنون من الخسران:

نعم استثني من هذه النتيجة المهولة بعض توفّرت فيه أربع خصائص مجتمعة:

1(إلاّ الذين آمنوا) واعتقدوا صدقاً وإخلاصاً بكل العقائد الحقّة بتوحيد الله تعالى والرسالة للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وولاية أمير المؤمنين والأئمة المعصومين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وسائر العقائد الحقّة.

2(وعملوا الصالحات) لأنّ الإيمان لا يكون حقيقياً وصادقاً إلاّ أن يظهر إلى الخارج بعمل صالح يكون موافقاً لما يريده الله تبارك وتعالى.

وهذا المقدار مفهوم وواضح وذكرته آيات عديدة، لكنّ الأهمية والخطورة التي أشرنا إليها في هذه السورة هي فيما أضافته الآية من شرطين للفوز والنجاة

ص: 304

من الخسران، حيث لم تكتفي بالركنين السابقين، وهما:3(وتواصوا بالحق) فلا يكتفون بكونهم صالحين في أنفسهم مؤمنين يعملون الصالحات بل يتحركون برسالتهم في المجتمع فيوصي بعضهم بعضاً بالتزام الحق والعمل به، والتعبير بالتواصي يتضمّن معنى الإستمرارية والتواصل، والحق الذي يتواصون به له مساحة واسعة، فكلّ خير وكل ما هو مثمر وكلّ ما يوصل إلى الله تبارك وتعالى ويعين على طاعته ويجنّب معصيته هو حق فيتواصون به.

وهذا له مدى واسع فيشمل الدعوة إلى الله تبارك وتعالى والإسلام وولاية اهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ونشر فضائل أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ومظلوميتهم من الأعداء، ونشر أحكام الدين وتقديم النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحقوق التفصيلية الكثيرة كالتي تضمنتها رسالة الحقوق للإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

ولا بدّ لمن يقوم بهذه الوظيفة أن يكون ملتفتاً قبل ذلك إلى نفسه فيتعاهدها ويتواصى معها ويشارطها على الهدى والصلاح والثبات، لأنّها أعز وأثمن من يتواصى معه.

إن الحقّ إذا لم يتم التواصي به والتواصل معه جيلاً بعد جيل وبين عامة الجيل الواحد أي التحرّك به أفقياً وعمودياً فإنّه يضيع كما ضاعت حقوق كثيرة وعلى رأسها حقّ الإمامة وولاية أمر الأمة لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأولاده المعصومين (سلام الله عليهم أجمعين).

قال الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إنّ حقوق الناس تثبت بشهادة شخصين، وقد أنكِرَ حق جدّي أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وعليه سبعون ألف شاهد كانوا مع رسول

ص: 305

الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في غدير خم)(1).4(وتواصوا بالصبر) فإنّ من يسير بهذا الطريق الذي تخلّى عنه أكثر الناس وأصبحوا ينظرون إليه بازدراء وسخرية سيلقى الكثير من المشقّة والعنت والأذى وسيتطلب منه تضحية كثيرة بأعز ما لديه فيحتاج إلى صبر ومصابرة ومرابطة وثبات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(آل عمران:200)، فيوصي هؤلاء الثلة القليلة بعضهم بعضاً بالصبر والمضي على هذا النهج المقدّس المبارك.

إصلاح الآخرين:

إنّ الحقيقة الخطيرة التي أضافتها هذه السورة المباركة أن الإيمان والعمل الصالح على مستوى النفس غير كافٍ للفوز وللنجاة من الخسران الشامل لأفراد الإنسان، بل لابد أن ينضم له التحرّك بهذه الوظيفة في المجتمع والاستمرار على ذلك والثبات عليه وتحمّل أعبائه.

وبتعبير مختصر أنّ صلاح الفرد الشخصي لا يكفي من دون أن يضم له العمل على إصلاح الآخرين، وهي مسؤولية كبيرة لكن منزلتها عظيمة لا مكان فيها للمتقاعس والمتكاسل الذي لا يكترث بما يعجّ به المجتمع من مفاسد وظلم وانحراف وضلالات وشبهات وخرافات وجهل وغير ذلك.

حينئذٍ يتحقق صلاح الفرد وصلاح المجتمع أيضاً، ونجاة الفرد ونجاة المجتمع وعزّتهما معاً بفضل الله تبارك وتعالى.

ص: 306


1- بحار الأنوار: 37/ 158 باب52.

التواصي بالحق والتواصي بالصبر:

وإذا قابلنا هذه الآية مع الآيتين المتقدّمتين من سورة {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} (مريم:72) نحصل على تعريف للتقوى فتكون حقيقتها الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر بمقتضى المطابقة وتحقيق ما تحصل به النجاة من النار والخسران.

وهذه الحقيقة طبيعية لأنّ الإيمان يدعو إلى العمل الصالح، والعمل الصالح لا يعرف الإنزواء والجمود والتقوقع، وإنّما يدعو للحركة المثمرة لهداية الآخرين وإرشادهم ونصحهم ومساعدتهم، فإنّ من أعظم الأعمال الصالحة ما كانت مندرجة في هذه الحركة الاجتماعية لذا ورد في بعض الروايات تفسير عمل الصالحات بمواساة الإخوان(1).

إن مسؤولية التواصي بالحق والتواصي بالصبر لا تختص بالمبلغين والمرشدين من الحوزة العلمية بل هي شاملة لكل الناس خصوصاً مع توفّر سبل الهداية وقنوات الإصلاح والتأثير لكل العاملين على شبكات المعلومات وصفحات التواصل الاجتماعي والفضائيات.

ص: 307


1- كمال الدين وإتمام النعمة: 656 ح1.

القبس/185: سورة الناس:4

اشارة

{مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}

موضوع القبس: احذروا مكر شياطين الجن والإنس

سورتا المعوذتين من كرائم السور القرآنية وفيهما بركات كثيرة روى عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (من قرأها عند النوم كان في حرز الله تعالى حتى يصبح، وهي عوذة من كل ألم ووجع وآفة وهي شفاء لمن قرأها)(1) .

وأخرج في مجمع البيان من حديث أبي (من قرأ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) فكأنما قرأ جميع الكتب التي أنزلها الله على الأنبياء)(2) وفيه أيضاً عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (جاء جبرئيل إلى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهو شاكٍ فرقاه بالمعوذتين وقل هو الله أحد وقال: بسم الله ارقيك والله يشفيك من كل داء يؤذيك، خذها فلتهنئك).

وروى علي بن إبراهيم في تفسيره عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال (كان سبب نزول المعوذتين انه وعك رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فنزل عليه جبرئيل

ص: 308


1- البرهان في تفسير القرآن: 10/ 281
2- مجمع البيان: 10/ 278

(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بهاتين السورتين فعوذه بهما)(1) ولاجل ذلك اشتبه بعض الصحابة فظنهما تعويذتين وليستا من القرآن لكن الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) صححوا هذا الاشتباه، فقد روى القمي في تفسيره بسنده عن الحضرمي قال (قلت لأبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):ان ابن مسعود كان يمحو المعوذتين من المصحف فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):كان أبي يقول: إنما فعل ذلك ابن المسعود برأيه وهما من القرآن)(2) وفي رواية أخرى (أمَّنا أبو عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في صلاة المغرب فقرأ المعوذتين ثم قال: هما من القرآن)(3) .والسورتان عظيمتا البركة والتأثير وقد دخلتا في عدد كبير من السنن والمستحبات روي عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (كان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) اذا كسل أو أصابته عين أو صداع بسط يده فقرأ فاتحة الكتاب والمعوذتين ثم يمسح يده على وجهه فيذهب ما كان يجده)(4)، روي عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (من أوتر بالمعوذتين وقل هو الله أحد) قيل له:يا عبدالله، أبشر فقد قبل الله وترك)(5) .

والوسوسة: الحديث الخفي في باطن الانسان الذي لا كلام فيه وإنما هي معاني تخطر في الذهن وتسويلات وأوهام تلقى في مخيلة الإنسان

ص: 309


1- تفسير القمي: 2/ 450
2- تفسير القمي: 2/ 450
3- الكافي: 3/ 317 ح 26
4- مكارم الأخلاق: 2/ 203 ح 2523
5- ثواب الأعمال:129

ليقع تحت تأثيرها ويسير باتجاه امتثالها قبل التدقيق فيها لتمييز صوابها من خطأها، وعدم تحكيم العقل الرادع عنها. وهذه الوساوس قد يكون مصدرها النفس الأمّارة بالسوء {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} (ق:16) أو ابليس {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} (الأعراف:20) أو عموم شياطين الأنس والجن {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} (الناس:46)، في امالي الصدوق بإسناده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: لما نزلت هذه الآية {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} (آل عمران:135) صعد إبليس جبلاً بمكة يقال له ثور، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه. فقالوا: يا سيدنا، لم دعوتنا؟ قال: نزلت هذه الآية، فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين، فقال: أنا لها بكذا وكذا. قال: لست لها. فقام آخر فقال مثل ذلك، فقال: لست لها. فقال الوسواس الخناس: أنا لها. قال: بماذا؟ قال: أعدهم وأمنيهم حتى يواقعوا الخطيئة، فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الاستغفار، فقال: أنت لها، فوكله بها إلى يوم القيامة)(1) .

وفي مقابل هذه الوسوسة يوجد حديث خفي رحماني يوجه الانسان نحو الخير والصلاح يسمى الهاماً أو ايحاءاً {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} (القصص:7) {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} (الأنبياء:73).

ص: 310


1- امالي الصدوق: 1/ 551

وهو من الالطاف الإلهية التي تجلب الخير والسعادة للإنسان ويتدافع هذان الحديثان داخل الانسان كسائر جنود الرحمن والشيطان البالغ خمسة وسبعين لكل منهم(1) وفي الحديث الشريف عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ما من قلب الا وله أُذنان، على أحدهم ملك مرشد وعلى الآخر شيطان مفتِّن، هذا يأمره وهذا يزجره، وكذلك من الناس شيطان يحمل الناس على المعاصي، كما يحمل الشيطان من الجن)(2) .هذا التدافع يحسُّه كل واحد منّا إزاء مختلف المواقف التي يواجهها والانسان بأختياره يرِّجح هذا الدافع او ذاك، وممن عبّر عن هذه الحالة عمر بن سعد ليلة تكليفه بقيادة الجيش لحرب الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بأبياته المعروفة ومنها:

أأترك ملك الري والري منيتي *** أم ارجع مأثوماً بقتل حسينِ

روى الشيخ الكليني(3) بسند صحيح عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ما من مؤمن الا ولقلبه أُذنان في جوفه، أذن ينفث فيه الوسواس الخناس، وأُذن ينفث فيه الملك فيؤيد الله المؤمن بالملك فذلك قوله تعالى {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} (المجادلة:22) .

والخنس: الاستتار والتخفي بعد الظهور والانقباض والتراجع والتأخر والابتعاد، قال تعالى {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} (التكوير:15) وهي النجوم

ص: 311


1- الكافي ط الإسلامية: ج: 1 ص : 21
2- تفسير القمي: 2/ 450
3- الكافي: 2/ 206 ح 3

اذا غابت وسمي الشيطان خناساً لأنه ينقبض ويتراجع عن وسوسته عندما يُذَكر الله تعالى وتبعه على ذلك شياطين الانس {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} (الزمر:45) وقد ورد في الحديث الشريف عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (ان الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فاذا ذكر الله سبحانه خنس واذا نسي التقم قلبه فذلك الوسواس الخناس)(1) .فالآية الكريمة تبين طبيعة عمل الشيطان وحدود تأثيره على الانسان اذ لا يزيد عمله على الوسوسة مستتراً متخفيّاً مبتعداً عمَّن يوسوس له، لذا فالانتصار عليه مقدور بترك الانسياق وراء وسوسته وتزيينه، ويعترف الشيطان يوم القيامة بانه لم يقم بغير هذا {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} (إبراهيم:22)، روى علي بن ابراهيم في تفسير الوسواس الخناس (اسم الشيطان الذي في صدور الناس يوسوس فيها ويؤيسهم من الخير ويعدهم الفقر، ويحملهم على المعاصي والفواحش، وهو قول الله عزوجل {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} (البقرة:268))(2).

فيأمر الله تعالى نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومن خلاله الناس جميعاً ان يستعيذ بالله تعالى من شر هذا الوسواس المخادع {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} (الأعراف:20) وهو يأمل من

ص: 312


1- مجمع البيان: 10/ 281
2- البرهان: 10 / 281 ح 1

وسوسته انه حتى لو لم ينجح في إضلال الشخص وايقاعه في المعصية فلا أقل من تشويش ذهنه واضطراب نفسه وتضييع وقته وزيادة همه، قال تعالى {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (المجادلة:10). وتُعلمنا السورة ان لا طريق للتخلص من تأثيرات هذه الوساوس الشيطانية الا باللجوء الى الله تبارك وتعالى حتى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) المعصوم طلب منه ذلك لأنه ما كان ليصل إلى هذه المرتبة لو لا لطف الله تعالى وتأييده {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} (الإسراء:74) فغيره (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أولى بهذه الاستعاذة بالله تعالى. لأنه سبحانه جامع لكل ما يوجب اللجوء اليه والاستعاذة به.

{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ} (الناس:13) فان من طبع الإنسان إذا أقبل عليه شر يحذره ويخافه على نفسه وأحسَّ من نفسه الضعف أن يلتجئ بمن يقوى على دفعه ويكفيه وقوعه، والذي يراه صالحاً للعوذ والاعتصام به أحد ثلاثة إما رب يلي أمره ويدبره ويربيه ويرجع إليه في حوائجه عامة، ومما يحتاج إليه في بقائه دفع ما يهدده من الشر، وهذا سبب تام في نفسه.

وإما ذو قوة وسلطان بالغة قدرته نافذ حكمه يجيره إذا استجاره فيدفع عنه الشر بسلطته كملك من الملوك، وهذا أيضاً سبب تام مستقل في نفسه.

وهناك سبب ثالث وهو الإله المعبود فإن لازم معبودية الإله وخاصة إذا كان واحداً لا شريك له إخلاص العبد نفسه له فلا يدعو إلا إياه ولا

ص: 313

يرجع في شيء من حوائجه إلا إليه فلا يريد إلا ما أراده ولا يعمل إلا ما يشاؤه.والله سبحانه رب الناس وملك الناس وإله الناس كما جمع الصفات الثلاث لنفسه في قوله {ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (الزمر:6)(1) .

أقول: ولعل عدم العطف بينهما بالواو للإشارة إلى استقلالية كل صفة في السببية.

ويحتمل في مقابل ذلك أن يكون كل سبب لاحق مكمل للاحق فان الرب والمربي قد لا يقدر على إجارة من يربيه من كل سوء الا أن يكون عنده الملك والسلطنة والقدرة وهذا أيضاً قد يعجزه شيء ما الا اذا كان إلهاً حكيماً عليماً قادراً مهيمناً.

والاستعاذة لا يكفي فيها تحريك اللسان من دون تعلق صادق بالله تعالى والتزام بما أمر به تعالى من شريعة وأحكام وسلوك ومعتقدات ونظام متكامل للحياة منهجاً وسلوكاً، غاية وأدوات والابتعاد عن أصدقاء السوء وأبواق الشيطان ومجالس اللهو والباطل التي تكون مرتعاً للشياطين.

(على المستعيذ الحقيقي ان يقرن قوله (رَبِّ النَّاسِ) بالاعتراف بربوبية الله تعالى، وبالانضواء تحت تربيته، وان يقرن قوله (مَلِكِ النَّاسِ) بالخضوع لمالكيته، وبالطاعة التامة لأوامره، وان يقرن قوله (إِلَهِ النَّاسِ) بالسير في

ص: 314


1- الميزان في تفسير القرآن: 20/ 458

طريق عبوديته، وتجنب عبادة غيره، ومن كان مؤمناً بهذه الصفات الثلاثة، وجعل سلوكه منطلقاً من هذا الايمان فهو دون شك سيكون في مأمن من شر الموسوسين)(1) .علينا ان لا نستهين بوسوسة الشياطين ولا نقلل من تأثيرهم لأنهم يزينون الأعمال القبيحة ويصورونها وكأنها نافعة لهم وفي مصلحتهم ويلبسون الباطل ثوب الحق بطرق ماكرة خفية تنطلي على الشخص نفسه، في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إنما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق فأما أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين ودليلهم سمت الهدى، واما أعداء الله فدعاؤهم فيها الضلال ودليلهم العمى)(2).

وهكذا تختلط الأمور بسبب وسوسة الشياطين قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين - أي الطالبين - ولو أنّ الحق خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين، ولكن يؤخذ من هذا ضغث - أي قبضة - ومن هذا ضغث فيمزجان، فهناك يستولى الشيطان على اوليائه وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى)(3) وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (احذروا الشبهة فانها وضعت للفتنة)(4) .

ص: 315


1- الأمثل: 15/ 627
2- نهج البلاغة: الخطبة 38
3- نهج البلاغة: الخطبة 50
4- تحف العقول : 155

والوسوسة لها درجات وانماط كثيرة بحسب مناعة الشخص وورعه فبعضهم يغريه بالمعصية مباشرة كتزينه العلاقة مع امرأة أجنبية لذا ورد في التحذير من الخلوة بالمرأة عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (لا يخلون رجل بإمرأة فما من رجل خلا بامرأة إلاّ كان الشيطان ثالثهما)(1).أو انه مؤتمن على مال أو موقع فيزين له أن يمدّ يده إليه ويحوِّله الى مغانم شخصية على حساب الشعب أو من ائتمنه عليه.

وقد يكون الشخص ورعاً فلا يغريه بالمعصية وإنما يأتيه من جهة تدينه وورعه فيدعوه تحت عنوان الاحتياط إلى التشدّد في العبادات والمبالغة وعدم القناعة بالأعمال التي يؤديها فيعيدها ويلّح فيها لكي يتعبه ويرهق اعصابه ويضيّع وقته وينفّره من العبادات.

روى الشيخ الكليني (قدس سره) بسند صحيح عن عبدالله بن سنان قال (ذكرت لأبي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) رجلاً مبتلى بالوضوء والصلاة، وقلت: هو رجل عاقل، فقال أبو عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):واي عقل له وهو يطيع الشيطان؟ فقلت له: وكيف يطيع الشيطان؟ فقال: سله: هذا الذي يأتيه من أي شيء هو؟ فيقول لك: من عمل الشيطان)(2) .

ونحن نرى اليوم شياطين الانس يلبسون مشاريعهم الخبيثة التي تدعو الى الابتعاد عن الله تعالى ونبذ القيم الدينية والاجتماعية السامية وتفكيك أواصر الاسرة والمجتمع والدعوة الى الشهوات والانفلات تحت عناوين خادعة، ولو

ص: 316


1- جامع أحاديث الشيعة، ج20، ص309.
2- وسائل الشيعة: 1/ 63 ، باب 10 ح 1

أنهم اظهروا صورهم الحقيقية أمام الناس وتحدّثوا بصراحة عما يريدون لرفضوهم وطردوهم، مسخرين امكانياتهم المالية والإعلامية ومؤسساتهم واقلامهم وكُتابهم ومؤتمراتهم ومهرجاناتهم لخلط السم بالعسل وتسويق خططهم الشيطانية فيندفع وراءها كثير من المخدوعين والسذّج الذين لم يلتجأوا الى الله تعالى ولم يتحصنوا به من مكرهم وخبثهم، وقد يستعمل الطواغيت المتسلطون قوتهم العسكرية وأدوات بطشهم وقسوتهم أي القوة الخشنة مضافاً إلى القوى الناعمة لإجبار الشعوب على التخلي عن دينها.لقد كثرت وصايا المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بالامتناع عن السير وراء من لم تعرف صلاحهم وحجتهم البالغة من الله تعالى لنكون في مأمن من شر الموسوسين، وحذرونا من اقتحام الأمور المشتبهة، فروي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فمن رعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه)(1) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (لا ورع كالوقوف عند الشبهة)(2) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (حلال بيِّن وحرام بيِّن وشبهات بين ذلك فمن ترك ما اشتبه عليه من الاثم فهو لما استبان له أترك)(3).

ان الوسوسة قد تتحول الى حالة مرضية غير طبيعية شخّصها الطب وتسمى بالوسواس القهري، وقد ذكرت الروايات بعض العلامات التي تكشف بلغة الجسد عن ان صاحبها مبتلى بدرجة من درجات الوسوسة كالحديث الذي رواه الشيخ

ص: 317


1- ميزان الحكمة: 4/ 361 ح 9293
2- نهج البلاغة : الحكمة: 113
3- من لا يحضره الفقيه: 4/ 75 ح 5149

الصدوق في الخصال فيما أوصى به النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) علياً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (يا علي ثلاث من الوسواس: أكل الطين وتقليم الأظافر بالأسنان وأكل اللحية)(1).فبعض الناس يبتلى بالوسوسة في عقيدته وتتحدث نفسه معه بأحاديث الكفر في ذات الله تعالى فيظن انه لم يعد مؤمناً والحقيقة غير ذلك بدليل رفضه لهذا الحديث الباطني، فقد روى الشيخ الصدوق بسند صحيح عن عبدالله بن سنان قال (كنّا جلوساً عند ابي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) اذ قال له رجل: أتخاف عليَّ أن أكون منافقاً؟ فقال له: اذا خلوت في بيتك نهاراً أو ليلاً أليس تصلي؟ فقال: بلى:فقال فلمن تصلي؟ قال: لله عزوجل، فقال: فكيف تكون منافقاً وأنت تصلي لله عزوجل لا لغيره)(2).

وان كثيراً من الناس يبتلى بالوسوسة في صلاته ووضوئه وطهارته ويلبسّها عليه الشيطان باعتقاد انها من الاحتياط الحسن واتقان العمل والأمر غير ذلك كما تقدم في الرواية عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الرد على من اعتبرها من العقل.

ويبتلى آخرون بالوسوسة في علاقاتهم مع الاخرين فيشك في زوجته ويتهمها بالخيانة الزوجية ويحاول اقناع نفسه بأدلة تضحك الثكلى وآخر يشك في بنته وكم من سلطان شك في ان ابنه يتآمر عليه فيأمر بقتله كالشاه عباس الصفوي وآخرون يبتلون بالوسواس في حياتهم العامة فتراه ينجز عملاً ما ثم يشك هل قام به ام لا ونحو ذلك.

ص: 318


1- بحار الأنوار: 76/ 108
2- وسائل الشيعة: 1/ 60 ، باب 8 ح 6

وقد وضع الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) قاعدة عامة للقضاء على هذه الحالة صاغها الفقهاء بقولهم (لا شك لكثير الشك)(1) و(كثير الشك لا يعتني بشكه) فالعلاج ان يعرض عن هذه الوساوس ولا يلتفت اليها ويهملها ولا يرتب عليها أي اثر فانها ستزول بإذن الله تعالى اما اذا استجاب لها وبنى عليها عملياً واقتنع بها فانها ستتركز وتتعمق في نفسه حتى تصبح شغله الشاغل ولا تفارقه حتى تخرّب عليه دينه وتنكد حياته وتحرمه من الاستقرار وراحة البال، قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (إذا تطيرت فامض، وإذا ظننت فلا تقض)(2) أي اذا حصل عندك شك وتردد ووسوسة فلا تلتفت اليه وامضِ الى ما عزمت عليه .كما تضمنت الروايات ذكر بعض الأغذية المفيدة في دفع الوسوسة كالذي رواه الشيخ الكليني في الكافي بسنده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من أكل حبة من الرمان أمرضت شيطان الوسوسة أربعين يوماً)(3) .

ص: 319


1- تعبيران عن قاعدة فقهية معروفة، قد ذُكرت في أغلب بحوث القواعد الفقهية, وكذلك وردت كثيراً على لسان الفقهاء, ولم يخدش فيها أحد منهم؛ مما يدل على قبولها. اُنظر: البجنوردي، محمد حسن، القواعد الفقهية: ج2، ص345
2- وسائل الشيعة: 18/ 38
3- الكافي: 6/ 353

اضاءات قرآنية

إضاءة(1) :أعطوا للقرآن الكريم دوراً متميزاً في حياتكم

بعض المتحدثين حينما ترد الآيات القرآنية في كلامه يميّزها بالإلقاء عن بقية كلامه فيرتّلها، وكذلك دأبت دور النشر في السنين الأخيرة على تمييز الآيات القرآنية بالخط عن بقية الكتاب فتوضع بنفس الرسم القرآني، ولعل غرضهم في ذلك لتنبيه القارئ إلى عدم مسِّها إلا بطهور ونحوها من الأغراض.

وهذا الفعل المبارك وهو تمييز النصوص القرآنية عن غيرها في محلّه لكننّا نفهم منه معنى أوسع من هذا الذي أرادوه، لأنّ نظم القرآن ومعانيه من صنع الخالق تبارك وتعالى فمن الطبيعي أن تتميّز عن صنع المخلوقين مهما كانوا متقنين للفصاحة والبلاغة.

يروي صاحب كتاب (في ظلال القرآن) انه كان على ظهر باخرة مسافراً إلى الولايات المتحدّة وفي يوم الجمعة أقام صلاة الجمعة وألقى خطبتيها، وكان المسافرون من أديان شتّى ولغات مختلفة، فوقف غير المسلمين ينظرون إلى هذا المشهد الغريب عنهم، بينهم سيّدة يوغوسلافية كانت تنصت وتتابع حتى انتهى من الصلاة فسألها عن معنى انشدادها وهي لا تفهم العربية، فقالت:لا أدري لكنّني وجدت نفسي منجذبة إلى الجو الذي أوجدته كلماتك وقالت أن الذي لم أستطع تفسيره هو أن كلمات تخللتها خطبتك كانت تشدّني وتجذبني أكثر ولا أعرف لماذا؟ يقول سيد قطب لكنني أعرف أنها الآيات القرآنية التي كنت أضمّنها في خطابي.

ص: 320

هذا هو القرآن الكريم في تأثيره على النفوس وبشفائه للروح وانسجامه مع الفطرة وتطهيره القلب الذي لم يطبع عليه الرين حتى وإن لم يكن يفهم ألفاظه، وهذا هو القرآن الكريم في تميّزه عن كلام المخلوقين، وهذا مظهر من مظاهر إعجازه، وربّانية صنعه ومصدره.خلافاً لما يرد في الإشكال الذي واجهه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ويردّده اليوم مدّعو الحداثة والتجديد الفوضوي غير المنضبط، وهو أن القرآن من صنع البشر سواء كان النبي محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نفسه أو غيره ممن يزعمون أنّه علّمه، وأجاب القرآن بوضوح {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (النحل:103) وقال تعالى {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} (النساء:82).

هذا التمييز للقرآن الكريم يجب أن نحافظ عليه في حياتنا فنعطيه هذا الدور المتميّز عن غيره من سائر أولوياتنا فنواظب على تلاوته ونتدبر في آياته ونتخذه دستوراً في حياتنا لا نحيد عنه، ونبراساً يضيء لنا الدرب، ومرجعاً لنا في كل قضايانا وحل مشاكلنا.

فلا نبخل على القرآن بدقائق يومياً في أوقات صلواتنا أو فراغنا لنتلو عدداً من الآيات الكريمة، وقلت مراراً أن الأولى أن تكون في مصحف مؤطّر بتفسير بسيط لمفرداته وآياته كتفسير شبر لنحيط ولو إجمالاً بالمعاني العامة للقرآن الكريم، وهو كتاب جليل وضعه مؤلفه بعد مراجعة عدة تفاسير واطّلع على الأقوال المختلفة. وليكن لكل فرد من الأسرة نسخة واحدة على الأقل من

ص: 321

المصحف تختص به، والأفضل أكثر من نسخة، هذا غير المصاحف الأخرى الموجودة في الدار.وأؤكد عليكم أيها الشباب بالعمل بهذه النصيحة فإنكم في بداية حياتكم ونقطة الانطلاق لتأسيس مستقبلكم، فعندما يكون الأساس هو القرآن الكريم وعلومه ومعارفه فإن المستقبل يكون سعيداً قوياً مثمراً بلطف الله تبارك وتعالى، وفي كل الميادين سواء في دراستك أو عملك وكسبك أو في علاقاتك مع أهلك والآخرين، فضلاً عن العلاقة السامية مع ربك والنبي وآله الطاهرين (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

وقد جّربت ذلك في حياتي عندما كنت في بداية العشرينيات من عمري ومنّ الله تعالى عليّ بالأنس بالقرآن وملازمة له ولازلت أحيى بركاته والحمد لله وحده.

ص: 322

الصورة

ص: 323

ص: 324

الفهرست الإجمالی

الصورة

ص: 325

الصورة

ص: 326

الصورة

ص: 327

الصورة

ص: 328

الفهارس

ص: 329

ص: 330

الصورة

ص: 331

الصورة

ص: 332

الصورة

ص: 333

الصورة

ص: 334

الصورة

ص: 335

الصورة

ص: 336

الصورة

ص: 337

الصورة

ص: 338

الصورة

ص: 339

الصورة

ص: 340

الصورة

ص: 341

الصورة

ص: 342

الصورة

ص: 343

الصورة

ص: 344

الصورة

ص: 345

الصورة

ص: 346

الصورة

ص: 347

الصورة

ص: 348

الصورة

ص: 349

الصورة

ص: 350

الصورة

ص: 351

الصورة

ص: 352

الصورة

ص: 353

الصورة

ص: 354

الصورة

ص: 355

الصورة

ص: 356

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.