من نور القرآن المجلد 4

هوية الكتاب

اسم الكتاب: من نور القرآن

الكاتب: آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي

لسان: العربية

الناشر: دار الصادقين - النجف اشرف - العراق

الموضوع : التفسير

مشخصات : 5 ج

الطبعة : الرابعة

التاريخ : 1442ه- - 2021م

ص: 1

اشارة

من نور القرآن

ص: 2

ص: 3

من نور القرآن

تفسير موضوعي حركي يقتبس من القرآن الكريم

ما يلقي ضوءاً على قضايا عقائدية أو أخلاقية

أو فكرية أو اجتماعية

سماحة المرجع الدینی الشیخ محمد الیعقوبی

الجزء الرابع

سورة النمل – سورة الحجرات

دار الصادقين

ص: 4

القبس /114: سورة النمل:62

(أَمَّن يُجِيبُ ٱلمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكشِفُ ٱلسُّوءَ وَيَجعَلُكُم خُلَفَاءَ ٱلأَرضِ ۗ أَءِلَٰه مَّعَ ٱللَّهِ ۚ قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ)

المضطر من به ضُرّ ويعني سوء الحال وهو ما دلّت عليه نفس الآية {وَيَكْشِفُ السُّوءَ}, والضرّ مقابل النفع كما أن الضرّاء مقابل السراء والنعماء، وقد يكون الضر مادياً كفقدان المال ونقص البدن بفقدان عضو فيه، أو معنوياً كنقص الإيمان أو العلم أو الأخلاق أو المكانة الاجتماعية. ومن جهة أخرى فإن الضر قد يمسّ الفرد كالأمثلة التي ذكرناها وقد يمس المجتمع كالحروب والأوبئة وفقدان الأمن وتسلّط الأشرار وانهيار الدولة والفوضى والخوف وتخريب الاقتصاد والبطالة وعدم العدالة الاجتماعية ونحو ذلك الذي قد يكون بسبب خارجي كالقهر والإكراه والتهديد أو الإغراء وقد يكون بسبب داخلي كالجوع المؤدي إلى الهلاك، قال تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (المائدة:3) {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (البقرة:173)، فهذه كلها أشكال للضرّ.

فالآية الكريمة تسأل عمَّن يجيب المضطر المنقطع إذا دعاه وطلب منه غير الله تعالى، وهي تقع ضمن سلسلة من الاستفهامات الاستنكارية والإقرارية، وهي تخاطب مراتب عديدة وواسعة ابتداءً من المنكرين لوجود الله تبارك وتعالى إلى

ص: 5

المتخذين أنداداً وشركاء له سبحانه ويزعمون أن بيدهم تدبير الخلق إلى الذين يؤمنون بالله تعالى ويشهدون له بالوحدانية إلا أنهم معرضون عنه عاصون له متمردون عليه في غفلة لا يستحضرون وجوده تبارك وتعالى، فتستنطق الآية فطرة كل هؤلاء وتلفت نظرهم إلى هذه الحقيقة التي مهما أنكرها الإنسان بلسانه أو غفل عنها في حياته فإن وجوده وفقره واحتياجه الذاتيين ينطقان بها فالآية تقرّرهم بهذه الحقيقة كمقدمة للإيمان بالله تعالى وأنه وحده مدبّر الأمور، وبنفس الوقت تستنكر كفرهم وشركهم وتمردهم وهم بهذه الحاجة الحقيقية إلى الله تعالى، قال سبحانه:{وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (يونس :12)، وقال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً} (الإسراء:67) {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} (الروم :33) {فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر :49) وقال تعالى:{وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} (النحل :53) وقد تكرر هذا المعنى كثيراً في القرآن الكريم.فالإنسان يدرك بفطرته عند وقوعه في الضرّ والبلاء الخانق وتقطّع الأسباب عنه أن قوة غيبية حكيمة رؤوفة حاضرة عنده ومطّلعة على حاله، وهي قادرة على

ص: 6

أن تمدّ يد الرحمة إليه وتنقذه ولا يعجزها شيء وتجيبه إذا طلب منها التدخل لإنقاذه ولا تنتظر من أحد جزاءً ولا شكوراً، هذه الحالة التي يعيشها المسجون في الزنزانة الانفرادية المظلمة تحت التعذيب القاسي لجلاوزة الطواغيت(1)، أو مَن تحطمت به السفينة التي يركبها وهو في عرض البحر أو من تتعرض الطائرة التي يركبها في أعالي الجوّ إلى عطل يسقطها، أو مَن يعاني من آلام الأمراض الفتاكة وهو يقترب من الموت ونحو ذلك من صور الاضطرار التي أشار إليها دعاء الجوشن الصغير(2).).

ص: 7


1- قال المرحوم علي شريعتي في بعض مذكراته: (فعندما ضيّقوا عليّ الخناق وجعلوني وحيداً فريداً، وجعلوا دنياي لا تتعدى عدّة أشبار في عدة أشبار مظلمة وضيقة، وقطعوني عن العالم والعالمين، بعيداً عن الأحياء، وفرّت من خيالي الأسماء والذكريات، كنت أشعر حتى في غياهب الخلوة، وفي الغيبة المطلقة، حيث لم يكن شيء ولم يبق ثمة شيء، كنت أشعر وكأنّي أملك شيئاً، وأن هناك وجوداً ما حتى في تلك الأجواء الغيبية المجرّدة، شعرت في تلك الظروف الخالية من الناصر والمعين، بأن هناك عيناً ترعاني، وتحرسني وأنني أُرى ويُشعَر بي، وأن هناك وجوداً له حضور في خلوتي، وهناك من يسدّ عليَّ خلّتي، وأن هناك ناصراً يبصرني وأنا في تلك الأجواء من غياهب النسيان، ويحقن في شراييني الاستذكار والوجود والحياة والنور، حتى أنني أحياناً أسلّم عليه، وأخجل منه، وأغض طرفي عنه، وأنتبه إلى أعمالي وسلوكي وحركاتي وأفكاري، وأتحبب إليه أحياناً وأنا وحيد في ذلك القبر، يسرّني رضاه عني، فأتباهى وأُسَرُّ، وأشبع أنانيّتي، فأشمخ وأمتلئ زهواً وقوّة وأغدو واضحاً وصالحاً) (أطروحة حياة: 211 عن الأعمال الكاملة لشريعتي: 1/ 269).
2- مفاتيح الجنان: 106. بحار الأنوار: 48، 219. عيون أخبار الرضا: 1/ 87، ح13، الباب 7: جلّ من أخبار موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

فالآية الكريمة تثير هذا الشعور العاطفي الوجداني لتقرّب الإنسان إلى الهداية والصلاح، وهو الأسلوب الذي اعتمده المعصومون (سلام الله عليهم) لإثارة الفطرة السليمة التي تدعو إلى الإيمان بالله تعالى والالتجاء إليه وحده، روي أن رجلاً قال للإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(يا ابن رسول الله، دلّني على اللّه ما هو فقد أكثر علىّ المجادلون وحيّروني، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):يا عبد اللّه، هل ركبت سفينة قطّ؟ قال:بلى، قال:فهل كُسِرت بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟ قال:بلى، قال:فهل تعلّق قلبك هناك أنّ شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك؟ قال:بلى، قال الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):فذلك الشيء هو اللّه القادر على الإنجاء حين لامنجي و على الإغاثة حيث لا مغيث)(1).وروى في الدر المنثور أن رجلاً سأل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):إلى مَ ندعو؟ قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (ادعُ إلى الله وحده الذي إن نزل بك ضرّ فدعوته كشف عنك، والذي إن ضللت بأرض قفر فدعوته رد عليك، والذي إن أصابك سنة فدعوته أنزل لك)(2).

والإنسان المنصف حينما يقرأ هذه الآية الكريمة يشعر بالخجل حقيقة أمام الله تعالى من الجحود والانحطاط الذي وصل إليه البشر بحيث يتوسل الله تبارك وتعالى بهذه الحقائق الواضحة ويثير هذه المشاعر الوجدانية لكي يهديه إلى الإيمان به تعالى هذه الحقيقة التي بيّنها القرآن الكريم في أكثر من آية قبل أن2.

ص: 8


1- بحار الأنوار: 3/ 41، ح 16 عن تفسير العسكري: 21، معاني الأخبار: 4 باب 5، ح5.
2- تفسير ابن كثير: 3/ 382.

يسأل عنها، قال تعالى:{وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} (الأنعام:17) (يونس:107).لذا لا نستغرب من أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إذا ارتعد عجباً واستنكاراً من جحود الناس وتمرّدهم حين سماعه هذه الآية والآيات التي معها {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} (النمل:60) والتي بعدها وكلها تنتهي بالسؤال {أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ}، روى ابن شهرآشوب عن أنس بن مالك قال:((لما نزلت الآيات الخمس في طس:{أَمَّنْ جَعَلَ الأرضَ قَرَاراً} انتفض عليّ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انتفاض العصفور، فقال له رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):ما لك يا علي؟ قال:عجبت -يا رسول الله- من كفرهم وحِلم الله تعالى عنهم. فمسحه رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بيده ثم قال:أبشِر فإنه لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق، ولولا أنت لم يُعرف حزب الله))(1)، وسيأتي بيان الوجه في الإجابة بهذه البشرى.

وإنما ذكرت الآية {المُضطَرَّ} لأن الإنسان ينقطع في حال الاضطرار وتقطّع كل الأسباب والوسائل إلا الله تبارك وتعالى فتساعده هذه الحالة على تحقيق شرط إجابة الدعاء وهو التوجه الخالص الصادق إلى مَن بيده مقاليد الأمور فحينئذٍ يتطابق لسان مقاله بالدعاء مع حاله المتوجه فطرياً إلى الله تعالى، أي يتطابق الطلب التكويني بالفطرة مع الطلب التشريعي وهو التوجه بالدعاء حتى تتحقق الإجابة بإذن الله تعالى.5.

ص: 9


1- البرهان في تفسير القرآن: 7/ 172، ح 61 عن مناقب ابن شهرآشوب: 2/ 125.

فاستجابة الدعاء وكشف الضر والسوء يتطلب عدة أمور:1- الانقطاع إلى الله تعالى والتوجه بصدق إليه سبحانه، وتساعد حالة الاضطرار على تحقيق هذه الحالة.

2- صدور الدعاء والطلب {إذَا دَعَاهُ} ليستجاب له، وأن يكون الطلب متوجهاً إلى الله تعالى دون سواه {دَعاهُ}، ولكن هذا لا يلزم منه أن الله تعالى لا يعطي إلا بطلب فنعمه ابتداء وإحسانه تفضّل (يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنناً منه ورحمة)(1) فالجملة (إذَا دَعَاهُ) تبيّن المقتضي لا العلة التامة، ويمكن أن لا تكون شرطية لها مفهوم أصلاً وإنما هي مسوقة لبيان تحقق الموضوع على تعبير الأصوليين.

3- أن يكون الطلب لجلب الخير ودفع الضر والسوء {وَيَكشِفُ السُوءَ} أي لما فيه مصلحة العبد، فلو دعا على خلاف مصلحته فإنه لا يستجاب له.

فالتفصيل المذكور في هذه الآية يبيّن ما أجملته الآيات الأخرى من شروط الإجابة كقوله تعالى:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر:60) وقوله تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (البقرة:186).

إن الاضطرار حالة تقرّب المسافات في طريق التكامل وتؤهل العبد لمقامات عليا إن أحسن اغتنام هذه الفرصة، فالوقوع في الضرّ والبلاء وإن كان فيه مشقة على النفس وشعور بالضيق، إلا أن حالة الاضطرار الناتجة عنه نعمة على العبد، تعيده إلى الله تبارك وتعالى وتنقذه من الغفلة التي يقع فيها بسبب انهماكه86

ص: 10


1- مفاتيح الجنان: 186

في الأمور الدنيوية وهذا وجه لفهم ما ورد في حديث عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(الاضطرار عين الدين)(1)، لأن الإنسان يصل بالاضطرار إلى الحقيقة.ولو كان الإنسان ذا بصيرة لعلم أنه في كل آنٍ من آناته ومع كل نفس هو في حالة اضطرار، لفقره الذاتي واحتياجه في كل شيء ولكنه لاعتياده على النعم فهو يغفل عن هذه الحقيقة ولا يلتفت إليها إلا إذا وقع في الضر {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ} (يونس :12).

ومما ذكرناه من أن بعض الضرّ والسوء اجتماعي يحيق بالأمة كلها يُعرف أحد وجوه المناسبة بين هذا الجزء من الآية وما يليه من قوله تعالى:{وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ} فإنه تبارك وتعالى لا يخلّصكم فقط من الضرّ الاجتماعي كتسلّط الأشرار وفقدان الأمن والعدالة الاجتماعية وانتشار الفوضى والظلم والفساد والخوف وانعدام فرص الحياة الحرة الكريمة، وإنما يجعلكم أنتم -الثلة الصالحة- خلفاء الأرض وحكّامها ووارثيها كما خلّص بني إسرائيل من طغيان فرعون وأورثهم أرضهم وديارهم.

وهذا الاستخلاف خاص يضاف إلى الاستخلاف العام وهو أصل جعل الإنسان خليفة الله في أرضه {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة:30) وتسخير كل ما في الأرض من موارد وإمكانيات تحت تصرّف الإنسان وفي خدمته).

ص: 11


1- جامع السعادات: 3/ 293، وأورده (الفرقان في تفسير القرآن: 21/ 274 عن تفسير بيان السعادة: 3/ 177).

{وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الجاثية:13) فكيف يغفل الإنسان عن ربِّه الذي أغدق عليه كل تلك النعم. ولذا يتساءل في نهاية الآية بتعجّب واستنكار من الغفلة عن الله تعالى الذي أفاض كل هذه النعم، قال تعالى:{أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} (النمل:62).ولعل هذا الوجه لارتباط السياق أقرب من غيره(1) لظهور الآية في الاستخلاف الخاص الذي وعد به تبارك وتعالى، قال سبحانه:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَل.

ص: 12


1- كالذي ذكره السيد الطباطبائي (قدس سره) في الميزان، قال: (الذي يعطيه السياق أن يكون المراد بالخلافة الخلافة الأرضية التي جعلها الله للإنسان يتصرف بها في الأرض وما فيها من الخليقة كيف يشاء كما قال تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30). وذلك أن تصرفاته التي تصرف بها في الأرض وما فيها بخلافته أمور مرتبطة بحياته متعلقة بمعاشه فالسوء الذي يوقعه موقع الاضطرار ويسأل الله كشفه لا محالة شيء من الأشياء التي تمنعه التصرف أو بعض التصرف فيها وتغلق عليه باب الحياة والبقاء وما يتعلق بذلك أو بعض أبوابها ففي كشف السوء عنه تتميم لخلافته. ويتضح هذا المعنى مزيد اتضاح لو حمل الدعاء والمسألة في قوله: (إذا دعاه) على الأعم من الدعاء اللساني كما هو الظاهر من قوله تعالى: ({وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} (إبراهيم:34)، وقوله: ({يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الرحمن: 29)، إذ يكون على هذا جميع ما أوتي الإنسان ورزقه من التصرفات من مصاديق كشف السوء عن المضطر المحتاج إثر دعائه فجعله خليفة يتبع إجابة دعائه وكشف السوء الذي اضطره عنه) (الميزان في تفسير القرآن: 15/ 385). وملخّص ما ذكره (قدس سره): أن كشف الضرّ والسوء فيه معالجة لنقصه واستعادة لقواه التي تمكّنه من ممارسة وظيفة الخلافة في الأرض ويكون زوالها بمثابة إزالة الموانع عن ممارسة الإنسان وظيفته في خلافة الأرض وهو معنى خلاف ظاهر الجعل.

آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور :55).ومما يقرّب هذا الوجه أنه أكثر انطباقاً على قضية الإمام المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الذي فُسِّرت به الآية كما سيأتي.

مضافاً إلى ما سنذكره من وجه انتفاضة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حين سماعه قوله تعالى:{وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ} فهذه قرائن ثلاث تقرّب ما ذكرناه.

إن خلافة الله تعالى في الأرض التي وعد عباد الله الصالحون الواعون الرساليون بالتمهيد لها وممارستها وحمل لواء التوحيد مهمة عظيمة ومسؤولية شاقة يستشعرها أهلها روى الشيخان المفيد في أماليه والشيخ الطوسي عنه في أماليه بالسند عن عمران بن الحصين قال:((كنت أنا وعمر بن الخطاب جالسين عند النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعلي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) جالس إلى جنبه إذ قرأ رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ} لما نزلت الآيات الخمس في طس: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا} انتفض عليّ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انتفاض العصفور، فقال له رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):ما لك يا علي؟

ص: 13

قال:عجبت -يا رسول الله- من كفرهم وحِلم الله تعالى عنهم. فمسحه رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بيده ثم قال:أبشِر فإنه لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق))(1).وعن بريدة قال:((قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى جنبه {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ}، قال:فانتفض علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انتفاضة العصفور، فقال له النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):لِمَ تجزع، يا علي؟ فقال:كيف لا نجزع وأنت تقول {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ}؟ قال:لا تجزع، فوالله لا يبغضُك مؤمن ولا يحبك كافر))(2).

وقيل في وجه هذا الجواب أنه لطمأنة الإمام أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأنه سيقوم بمسؤولية الخلافة على أحسن وجه ((حيث ضمنت عدله في الحكم لحد (لا يبغضك مؤمن ولا يحبّك منافق) فإن الحكم غير العادل يبغضه المؤمن ويحبّه المنافق))(3).

فانتفاضة الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من جهتين:حين سمع قوله تعالى{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ} لإصرارهم على الكفر والعصيان مع طول حلمه تعالى، وحين سمع قوله تعالى:{وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ} لثقل مسؤولية هذه الخلافة.ش.

ص: 14


1- البرهان في تفسير القرآن: 7/ 173، ح4 عن أمالي المفيد: 307، ح5 وأمالي الطوسي: 1/ 75.
2- المصدر نفسه، ح5 عن تأويل الآيات: 1/ 401، ح3.
3- الفرقان في تفسير القرآن: 21/ 279، الهامش.

لذا كان الإمام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) المصداق الأكمل للآية الكريمة بحسب الروايات الشريفة الآتية، وفي دعاء الندبة (أين المضطر الذي يجاب إذا دعى)(1) وذلك لأنه:1-من (التامّين في معرفة الله)(2) فهو مستحضر لحقيقة الاضطرار والانقطاع إلى الله تعالى دائماً وليس في أوقات الضيق والشدة فقط.

2-ولأنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واقع في أوسع ضرّ وألم وأذى بسبب ما يطّلع عليه من عصيان وتمرّد الناس وانحرافهم عن الحق والهدى حتى من المحسوبين عليه، ولانتشار الظلم والفساد في البر والبحر، ولتألمه لما تعانيه البشرية عموماً وأتباعه ومواليه خصوصاً من الظلم والعدوان والحرمان.

3-ولأنه بقية الله وخليفته في أرضه الذي وعده الله بالاستخلاف والتمكين في الأرض ليقيم دولة الحق والعدل، ويقضي على الظلم والفساد والجور.

روي عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال في حديث:(والله لكأني أنظر إليه وقد أسند ظهره إلى الحجر، فينشد الله حقه، ثم يقول:يا أيها الناس:مَن يحاجّني في الله، فأنا أولى الناس بالله، أيها الناس:من يحاجّني في آدم فأنا أولى الناس بآدم، أيها الناس من يحاجّني في نوح فأنا أولى الناس بنوح، أيها الناس:من يحاجّني في إبراهيم فأنا أولى الناس بإبراهيم، أيها الناس من يحاجّني في موسى فأنا أولى الناس بموسى، أيها الناس من يحاجّني بعيسى فأنا أولى الناس بعيسى، أيها الناس من يحاجّني بمحمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فأنا أولى الناس بمحمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، أيها الناس منة.

ص: 15


1- مفاتيح الجنان: 536.
2- من الزيارة الجامعة الكبيرة.

يحاجني بكتاب الله فأنا أولى الناس بكتاب الله. ثم ينتهي إلى المقام فيصلّي عنده ركعتين). ثم قال أبو جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):وهو المضطر الذي يقول الله فيه:{أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ} فيه نزلت وله)(1).وروي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(إن القائم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إذا خرج دخل المسجد الحرام فيستقبل القبلة ويجعل ظهره إلى المقام، ثم يصلي ركعتين، ثم يقوم فيقول:يا أيها الناس، أنا أولى الناس بآدم، يا أيها الناس، أنا أولى الناس بإبراهيم، يا أيها الناس، أنا أولى الناس بإسماعيل، يا أيها الناس، أنا أولى الناس بمحمد(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، ثم يرفع يديه إلى السماء ويدعو ويتضرع حتى يقع على وجهه، وهو قوله عز وجل:{أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}(2).

وإذا عشنا بصدق معنى الاضطرار لظهور الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وإقامة دولته المباركة ودعونا بتعجيل ظهور الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فإن الآية المباركة ستجري حتماً {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} (الروم :4).

إن كلمات المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وأدعيتهم تفوح بعطر الاضطرار والانقطاع إلى الله تبارك وتعالى عن المخلوقين ومن ذلك ما روي من دعاء النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في يوم بدر حينما واجه المشركين الذين يفوقونه أضعافاً بالعدد والعدة ودعى به4.

ص: 16


1- كتاب الغيبة للنعماني: 181/ح30.
2- تفسير البرهان: 7/ 173-174.

الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في يوم عاشوراء (اللَهُمَّ أَنْتَ ثِقَتِي فِي كُلِّ كَرْبٍ، وَأَنْتَ رَجَائِي فِي كُلِّ شِدَّةٍ، وَأَنْتَ لِي فِي كُلِّ أَمْرٍ نَزَلَ بِ-ي ثِقَةٌ وَعُدَّةٌ. كَمْ مِنْ هَمٍّ يَضْعُفُ فِيهِ الْفُؤَادُ، وَتَقِلُّ فِيهِ الْحِيلَةُ، وَيَخْذُلُ فِيهِ الصَّدِيقُ، وَيَشْمَتُ فِيهِ الْعَدُوُّ، أَنْزَلْتُهُ بِكَ، وَشَكَوْتُهُ إلَيْكَ، رَغْبَةً مِنِّي إلَيْكَ عَمَّنْ سِوَاكَ، فَفَرَّجْتَهُ عَنِّي، وَكَشَفْتَهُ، وَكَفَيْتَهُ. فَأَنْتَ وَلِي ُّ كُلِّ نِعْمَةٍ، وَصَاحِبُ كُلِّ حَسَنَةٍ، وَمُنْتَهَي كُلِّ رَغْبَةً)(1).ودعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (يا من تحَلّ به عقد المكاره)(2) الذي كان يدعو به أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، روى السيد ابن طاووس في مهج الدعوات أن اليسع بن حمزة القمي كتب إلى الإمام الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يشكو إليه ما حلّ به من وزير الخليفة العباسي وما يتخوفه من القتل، فكتب إليه:لا روعٌ عليك ولا بأس فادعُ بهذا الدعاء يخلّصك قريباً ويجعل لك فرجاً، فإن آل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين) يدعون به عند نزول البلاء وظهور الأعداء وعند تخوّف الفقر وضيق الصدر، فدعى به في صدر النهار فما مضى شطره حتى أطلِقَ وأُكرِم(3).71

ص: 17


1- بحار الأنوار: 45/ 4 - ورواه الكليني في الكافي: 2/ 579، باختلاف يسير في الألفاظ.
2- مفاتيح الجنان: 162
3- مهج الدعوات- ابن طاووس:271

ودعاء الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهو يعاني أشد أنواع العذاب النفسي والجسدي في الطامورة(1) الظلماء حيث لا يتميز الليل من النهار في حبس هارون العباسي وهو يناجي ربّه (يا سيدي نجني من حبس هارون، وخلصني من يده، يا مخلص الشجر من بين رمل وطين وماء، ويا مخلص اللبن من بين فرث ودم، ويا مخلص الولد من بين مشيمة ورحم، ويا مخلص النار من بين الحديد والحجر، ويا مخلص الروح من بين الأحشاء والأمعاء، خلصني من يدي هارون)(2).ومن نداءات الاستغاثة عند الاضطرار التي لا يُخذل الداعي بها (يا غياث المستغيثين أغثني)، حكى المرحوم الشيخ أحمد الوائلي حادثة في تأثير هذا النداء، أن ملكاً أصبح في يوم حزيناً كئيباً ضيّق الصدر ولم يعرف سبباً لذلك فحاول مساعدوه ومستشاروه أن يفعلوا كل ما يستطيعون لتعديل مزاجه وإدخال السرور عليه وإزالة الغم عنه فلم يفلحوا، فأمرهم أن يعدّوا السفن ليخرج في نزهة بَحرية لعل وضعه يتحسّن، فهيأوا له ما يحتاج وانطلقوا في رحلة في عرض البحر، فسمع نداء استغاثة من إنسان فأمر رجاله بالنزول إلى البحر والبحث عنه حتى وجدوه وأنقذوه، وجاؤوا به إلى الملك فسأله عن حاله وقال:كنّا في سفينة فاضطرب البحر وانكسرت وغرق الركاب إلا أنا كنت أستغيث بالله تعالى وأصيح:(يا غياث المستغيثين أغثني) حتى جئتم فأنقذتموني.3.

ص: 18


1- كان بعض السجون التي حُبس (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فيها على هذا الحال كما ورد في زيارته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والصلاة عليه التي أوردها السيد ابن طاووس في مصباح الزائر (اللهم صلِّ ... والمعذَّب في قعر السجون وظُلَمِ المطامير) (بحار الأنوار:99/ 17).
2- بحار الأنوار: 48/ 219 عن عيون أخبار الرضا: 1/ 193.

القبس /115: سورة القصص:5

اشارة

(وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱستُضعِفُواْ فِي ٱلأَرضِ)

موضوع القبس:المستضعفون وخلافة الأرض

أنتم المستضعفون بعدي:

لما عقد المنقلبون على الاعقاب المجتمعون في سقيفة بني ساعدة والنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مسجَّى لم يدفن بعد عزمهم على نبذ كتاب الله تعالى وراء ظهورهم ومخالفة وصية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في الخليفة من بعده وإقصاء أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن مقامه، وواجهوا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بذلك الكلام القاسي الذي فيه إعلان الحرب على الله تعالى ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في رزية يوم الخميس عندما أراد أن يؤكد الوصية ويكتب لهم كتاباً لن يضلّوا بعده أبداً، وقال قائلهم (إن الرجل ليهجُر)، جمع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أهل بيته خاصة ونظر اليهم وبكى وقال لهم (أنتم المستضعفون بعدي)(1).

الأحداث المحزنة:

وظاهر الحديث وبقرينة الظروف التي صدر فيها أنه إخبار بأمرٍ محزن

ص: 19


1- تفصيل الواقعة في بحار الأنوار: 22/ 469 عن كتاب (إعلام الورى بأعلام الهدى: 140-143. والإرشاد: 96-100. وأورد الحديث الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا: 2/ 72/ باب31 ح303.

ومؤلم بأن زعماء الإنقلاب سيظلمونهم ويعتدون عليهم بألوان الإيذاء، ولا يتورعون عن قتلهم وفعل اي شيء يتطلّبه مشروعهم، وفي الحديث إشارة إلى أن فعل القوم بأهل بيت النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سيشابه فعل فرعون ببني إسرائيل حينما استضعفهم كما في قوله تعالى {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (القصص:4) وهكذا فعل القوم بآل بيت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقد كان شعارهم الذي صرّحوا به في يوم عاشوراء بعد أن كان مخفياً (لا تبقوا لأهل هذا البيت من باقية)(1).روى في تفسير القمي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لقي المنهال بن عمرو علي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال له:كيف أصبحت يابن رسول الله، فقال:ويحك أما آن لك أن تعلم كيف أصبحت، أصبحنا في قومنا مثل بني إسرائيل في آل فرعون يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا)(2).

واستشهد أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بقول هارون أخي موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي} (الأعراف:150) عندما أجبروه على بيعة أبي بكر فقال:إن أنا لم أفعل فمه؟ قالوا إذاً والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك، قال:إذاً تقتلون عبد الله وأخا رسوله فالتفت إلى قبر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وخاطبه بقول هارون0.

ص: 20


1- أضواء على ثورة الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- السيد الصدر: 167, نقله عن مقتل الخوارزمي: 2/ 38
2- تفسير القمي: 2/ 110.

لأخيه موسى في الآية الشريفة(1).

الأمل بوراثة المستضعفين:

ولما كانت الآيات القرانية لا تختص بزمان دون زمان وإنما تعالج حالات وظواهر وتبيّن سنناً قابلة للتكرار في كل زمان إذا توفرت أسبابها وظروفها، فإن الآية التي تليها وهي قوله تعالى {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} (القصص:5-6) تعطي للحديث معنىً آخر ملؤه التفاؤل والأمل وفيه وعد بالنصر والتمكين في الأرض ووراثتها ومن عليها واستعادة الحق لأهله وجعل الأئمة والقادة منهم لأن الإرادة الإلهية تعلقت بذلك (ونريد) فلا تتخلف {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} (الروم:6)، فوصف النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أهل بيته بالمستضعفين فيه إشارة الى انطباق الآية عليهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولعلهم مقصودون أكثر من موسى وهارون (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالوعد الإلهي لورود كلمة (منهم) فيها وليس (منه) أو (منهما) فيما لو كان المقصود موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أو هو وأخاه هارون، بل أن لفظ الحديث يفيد حصر الوصف بهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كما لا يخفى على المتأمل في الحديث، ويجعلهم أيضاً المقصودين بالآية الشريفة.

هذه سنة الهية ثابتة، في عباده المستضعفين واعدائه المستكبرين قال تعالى {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ

ص: 21


1- الدرر السنية: الفصل الثاني عشر.

يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} (الأعراف:137).وكان الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) يصرِّحون بهذا المعنى في عدة روايات ليطمئنوا شيعتهم ويزرعوا الأمل فيهم ويدفعوهم الى العمل المثمر وليردعوا أعداءهم عن الظلم، ففي معاني الأخبار للصدوق بسنده عن المفضّل قال سمعت أبا عبد الله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول (إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نظر إلى علي والحسن والحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فبكى، وقال:أنتم المستضعفون بعدي)(1) قال المفضّل فقلت له:وما معنى ذلك يا ابن رسول الله قال معناه:أنكم الأئمة بعدي إن الله عز وجل يقول {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} فهذه الآية جارية فينا إلى يوم القيامة)(2).

وفي مجمع البيان.. صحت الرواية عن أمير المؤمنين علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال (والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لتعطفنّ الدنيا علينا بعد شماسها –أي امتناعها- عطف الضروس(3) على ولدها، ثم تلى الآية.

وفي كتاب الغيبة للطوسي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير الآية قال (هم آل محمد يبعث الله مهديهم بعد جهدهم فيعزَّهم ويذل عدوهم)(4).0.

ص: 22


1- بحار الأنوار: 22/ 469 عن كتاب (إعلام الورى بأعلام الهدى: 140-143. والإرشاد: 96-100. وأورد الحديث الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا: 2/ 72/ باب31 ح303.
2- معاني الأخبار: 79 باب31 ح1.
3- وهي الناقة سيئة الخلق تعض حالبها فإذا كانت كذلك حامت عن ولدها، وقيل الضروس الناقة يموت ولدها أو يذبح فيحشى جلده فتدنو منه وتعطف عليه.
4- نور الثقلين: 4/ 110.

والآية جارية بعد الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)في شيعتهم، روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (من أراد أن يسأل عن أمرنا وأمر القوم- اي خصومهم - فإنا وأشياعَنا يوم خلق الله السماوات والأرض على سنة موسى وأشياعه، وإن عدونا وأشياعه يوم خلق الله السماوات والأرض على سنة فرعون وأشياعه فنزلت فينا هذه الآيات)(1).وقال سيد العابدين علي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(والذي بعث محمداً بالحق بشيراً ونذيراً، ان الأبرار منا أهل البيت وشيعتهم بمنزلة موسى وشيعته، وان عدونا وأشياعهم بمنزلة فرعون وأشياعه) (2).

فالخصم قد تكون له جولة يغلب فيها وتكون بيده السلطة ويحكم قبضته على أولياء الله تعالى، ويستضعفهم وقد تطول مدة فرعنته ولكن الدولة والنصر والغلبة يكون في النهاية لأهل الحق الذين استضعفوا ويذهب ما سواه جفاءاً كالزبد.

لماذا سمّوا بالمستضعفين؟

وإنما سموا مستضعفين لأن أعدائهم يتوهمون فيهم الضعف بعد أن يسلبوهم كل أسباب القوة الظاهرية من السلطة والمال والنفوذ ويحاصروهم ويطوقوهم فيستكبرون عليهم ويظلمونهم، وهم ليسوا ضعفاء في ذاتهم بل انهم يملكون اسباب القوة، لكن لهم دين وورع وأخلاق وخوف الله تعالى يجعلهم

ص: 23


1- بحار الانوار: 24/ 170 ح8
2- مجمع البيان: 4/ 375.

يقدمون المصالح العليا للدين والمجتمع على المصالح الشخصية، ويمنعهم عن اتباع أساليب المكر والخداع لتحقيق مآربهم، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ولكن الله سبحانه جعل رسله أولي قوة في عزائمهم، وضعفةً فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعةٍ تملأ القلوب والعيون غنى، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذىً)(1).وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال في الثناء على أحد أصحابه المخلصين (كان لي فيما مضى أخ في الله وكان ضعيفاً مستضعفاً، فإن جاء الجدّ فهو ليث غاب، وصلّ واد)(2).

مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ:

لقد أرادت السيدة الزهراء (س) بمواقفها الرسالية أن تهدي الامة الى المنهج الذي يوصلهم الى نيل هذا المنّ الإلهي ليتخذ منهم قادة العالم ويمكنهم في الأرض ويجعلهم الوارثين باتباعهم علياً والأئمة من بعده والسير على هداهم، قالت (سلام الله عليها) في بعض كلماتها (أما والله لو تركوا الحق على أهله واتبعوا عترة نبيّه لما اختلف في الله اثنان ولورثها سلف عن سلف وخلف بعد خلف حتى يقوم قائمنا التاسع من ولد الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، ولكن قدموا من أخره الله، وأخروا من قدمه الله، حتى إذا الحدوا المبعوث وأودعوه الجدث المجدوث إختاروا بشهوتهم وعملوا بآرائهم، تباً لهم أولم يسمعوا الله يقول {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا

ص: 24


1- نهج البلاغة، الخطبة 192.
2- نهج البلاغة، الحكمة 289.

يُشْ-رِكُونَ}(القصص:68) بل سمعوا ولكنهم كما قال الله سبحانه {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}(الحج:46) هيهات بسطوا في الدنيا آمالهم، ونسوا آجالهم فتعساً لهم وأضل أعمالهم، أعوذ بك ياربّ من الحور بعد الكور)(1).

البركة في التوحّد خلف القيادة الصالحة:

فالصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (س) تدلّ الأمّة على ان وراثتهم الارض وتمكينهم فيها حتى تكون يدهم العليا وغيرها من البركات تتحقق بوحدتهم خلف قيادتهم الحقة وطاعتهم لها والتجرد عن الأهواء والتعصبات والانفعالات والتحزّبات والانانيات، وبذلك يحبطون خطط المستكبرين في استضعاف الناس من خلال تمزيق وحدتهم وجعلهم جماعات وأحزاباً ويضرب بعضهم بعضاً، قال تعالى {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} (القصص:4) اي فرقاً مختلفة فيفقدون قوتهم في صراعاتهم الداخلية ويسهل استضعافهم لانهم لم يقيموا الدين في حياتهم وتخاذلوا على تطبيقه وتركوا فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} (الروم:32) {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} (الأنعام:65) .

حركة الأمة نحو وراثة الأرض:

وتبين السيدة الزهراء(س)، ان حركة الامة نحو وراثة الارض والتمكين

ص: 25


1- موسوعة المصطفى والعترة للشاكري: 4/ 363 عن عوالم المعارف: 11/ 228، الجدث: القبر، والمجدوث: المحفور، والحور بعد الكور أي النقصان بعد الزيادة.

فيها لا بد ان يقف على راسها القائد الجامع للشروط قالت (س) في خطبتها على نساء المهاجرين والأنصار وهي تذكر بركات اتباعهم أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ولأوردهم منهلاً -وهو محل ورود الماء- نميراً –الماء العذب السائغ النامي للجسد- صافياً روياً -كثير- فضفاضاً -واسعاً- تطفح ضفتاه، ولا يترنّق –لا يتكدر- جانباه، ولأصدرهم بطاناً –أي أرجعهم مرتوين مملوئين- ونصح لهم سراً وإعلاناً {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَ-كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (الأعراف96) {وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ} (الزمر:51))(1).

للتمكين في الأرض درجات:

ولا بد ان نعلم ان التمكين في الارض ووراثتها له درجات متفاوتة لا يقتصر على تسلم السلطة والحكم فهذه وسيلة لا غاية وان التمكين الحقيقي هو ظهور وانتشار مشروعهم الالهي واقتناع الناس به فهذا هو المهم لان غرض الرسالات السماوية اصلاح الناس وهدايتهم وارشادهم الى السعادة والفلاح قال تعالى {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْ-رِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(النور:55).

ص: 26


1- المصدر السابق:4/ 324.

في تفسير العياشي عن أبي الصباح الكناني قال:(نظر أبو جعفر الى أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال:هذا والله من الذين قال الله {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} فالامام الصادق(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كان من اهل هذه الاية ولم يكن جزءا من السلطة لكنه(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) استطاع بحكمته وتسديد الله تعالى له بسط مشروعه المبارك.

التركيز نحو السنن الإلهية بشروطها:

هذا ولكن علينا أن نأخذ قضية تمكين المستضعفين من أهل الحق كسائر القضايا بحدودها وشروطها ونضعها في موضعها الصحيح من منظومة المعارف والقوانين الإسلامية والسنن الإلهية لأنها من مقتضيات العدل والرحمة الآلهية، أما مجرد تعرضهم للإستضعاف وألوان العذاب لا يجعل صاحبها موعوداً بالنصر والتمكين.

فقد وصُفِت مجاميع اخرى بالاستضعاف لكنها أُنذرت وحُذِّرت لتقصيرهم وتكاسلهم وظلمهم أنفسهم ولانهم رضوا بحياة الخنوع والذل والاستضعاف والاستكانة، وربما داهنوا اهل الباطل ومضوا معه، قال تعالى {إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَ-ئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً} (النساء:97).

وَوُبِّخَ مستضعفون آخرون لأنهم كانوا قاصرين ولم يبحثوا عن طريق المعرفة بالله تعالى والفقه في الدين والقيادة الحقة، قال تعالى {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ

ص: 27

مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَ-ئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً}(النساء:98-99).

خصائص المستضعفين:

أما الذين وُعدوا بالنصر والتمكين ووراثة الأرض فلهم خصائص وخصال توفرت فيهم لأن الظلم والعذاب والأضطهاد الذي تعرضوا له لم يدفعهم الى التنازل عن مبادئهم وأخلاقهم والتزامهم بالحق، بل حافظوا على وجودهم وعقيدتهم واخلاقهم والالتزام باتباع قيادتهم وما زادهم الاستضعاف الا هدى وصلاحاً ونضجاً.

وقد وردت أوصاف الذين يُمَكّنون في الأرض في عدة آيات منها قوله تعالى {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (الحج:41)، بعد قوله تعالى في وعدهم بالنصر {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (الحج:39).

فتمكينهم في الأرض تكون له بركات وآثار تكشف عن صدق نياتهم وإخلاصهم في أهدافهم وثباتهم على الاستقامة التي أمرهم الله تعالى بها وعدم انخداعهم بالدنيا البرّاقة التي تتزيّن لهم إذا مُكّن لهم في الأرض وهذه الخصائص هي:

1-{أَقَامُوا الصَّلاةَ} فهم لا يكتفون بأداء الصلوات المفروضة عليهم كتكليف شخصي، وإنما يبذلون جهدهم لحث الناس جميعاً على الالتزام بها

ص: 28

والمواظبة عليها وجعل الصلاة وجوداً اجتماعياً مؤثراً في حياة الناس ورادعاً لهم عن الفحشاء والمنكر ويشعر الجميع بمسؤوليتهم عن إقامته والمحافظة عليه، وأوضح مصداق لهذا الوجود صلاة الجمعة التي لا تؤدّى إلا جماعة وبحضور امة كبيرة من الناس مما يجعل لها كياناً مؤثراً في حياتهم، وهذا ما جرّبه المجتمع العراقي عندما أقيمت فيه صلاة الجمعة المباركة.2-{وَآتَوُا الزَّكَاةَ} بأن أخرجوا ما في ذممهم من حقوق شرعية وأقنعوا الآخرين بفعل ذلك وحثّوهم عليه وساعدوهم في إيصال هذه الأموال إلى مستحقّيها وانشئوا بها المشاريع الاقتصادية التي تؤدي إلى رفاه الناس وتوفير فرص العمل المناسبة والحياة الكريمة لهم.

3-{وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ} فلم يتركوا أهل المنكر يفعلون ما يشاؤون بل وعظوهم وزجروهم واتخذوا الإجراءات الكفيلة بردعهم حتّى لو اقتضى الأمر معاقبتهم، ولم يجاملوا أو يداهنوا كما يفعل الكثير من المتصدين اليوم تحت عناوين مخادعة كالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني وفصل الدين عن الدولة والحداثة والعصرنة والتقدم ونحوها من الخدع والأباطيل.

وأمروا بالمعروف وهو كل أمر مستحسن شرعاً وعقلاً وأقرّهُ العرف، ونشروه بين الناس وعرّفوهم به وأيقظوهم من غفلتهم وأرشدوهم إلى ما يصلح دنياهم وآخرتهم وعلموهم أحكام الدين وفضائل أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ومناقبهم وسيرتهم العطرة، واقنعوهم باتباع القيادة الحقّة.

هؤلاء هم من ينصرهم الله تعالى ويعزّهم ويؤيدهم ويمكن لهم في الأرض.

ص: 29

كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ:

إن كثيراً ممن مكنهم الله تعالى ليبتليهم وينظر في سيرتهم تنكّ-روا لتلك الشروط والصفات المطلوبة فانحرفوا وأفسدوا، فأوعدهم الله بعذابه {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ . أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} (محمد:22-23).

كالذي نشهده اليوم من تخلّي الكثيرين ممن وصل إلى السلطة عن أهدافهم وشعاراتهم والخصائص التي أشرنا إليها، حتّى آل الأمر إلى هذا الواقع التعيس الذي يعاني منه الكثيرون، وهذا كفر عظيم بالنعمة.

لكن بوادر النهضة والانبعاث تفجرّت من جديد هذه الايام وكانت الهجمة الوحشية لخوارج العصر ومن يقف وراءهم الضارة النافعة التي وحّدت الامة وابرزت مكامن قوتها فتحققت الانتصارات التي اذهلت القريب والبعيد.

ونأمل ان تكون هذه النهضة خطوة حقيقية على طريق اقامة دولة الحق والعدل:{وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً}(الإسراء:81).

ص: 30

القبس /116: سورة العنكبوت:2

اشارة

{أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}

موضوع القبس: الفتن تصقل شخصية المؤمن وتفجّر طاقاته

تكشف الآية عن احدى السنن الإلهية الجارية في عباده، وهي سنة الابتلاء بالفتن لتمييز الصادق الثابت على الحق من المنافق والكاذب والضعيف الذي يعدل عن الحق الى الباطل بمجرد مروره بصعوبات ومضايقات تكلّفه التضحية بشيء من ماله أو جهده أو منزلته الاجتماعية.

وكأن غرض سورة العنكبوت بيان تفاصيل هذه السنة الإلهية وضغوط الفتن التي يتعرض لها المؤمنون، وتستعرض باختصار نماذج من جهود ومعاناة الأنبياء الكرام، نوح وإبراهيم ولوط وشعيب (صلوات الله عليهم أجمعين) في مواجهة الصعوبات والفتن من أقوامهم عاد وثمود وقارون وفرعون وهامان، ثم يبيّن هوان هؤلاء الطواغيت الذين فتنوا الناس عن دين التوحيد وأنهم أخذوا بذنوبهم بألوان متعددة من العذاب {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} (العنكبوت:40) ويصف جبروتهم بأنه أوهن من بيت العنكبوت، وبعد أن يذكر بعض اشكال الفتن واسبابها فإنه وفي نهاية السورة يطمئن المؤمنين بأن ما يصيبهم في مواجهة الفتن سبب لتكاملهم ورفعة درجاتهم فليصبروا وليثبتوا {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت:69).

ص: 31

و {حَسِبَ} بمعنى (ظنّ) فالآية تستنكر بصيغة الاستفهام ظَنَّ بعض الناس بأن مجرد التلفظ بالشهادتين يجعله في مصاف المؤمنين المستحقين للفوز برضوان الله تعالى، وهذا ظن خاطئ إذ لابد من اقتران الأقوال بالأفعال، والثبات على طريق الاستقامة فكراً وسلوكاً، وعدم الابتعاد عنه اتباعاً لشهوة أو انسياقاً وراء غضب أو طاعة لزعامة منحرفة.وقيل في معنى الآية ان بعض الناس يظنون أنهم بمجرد قولهم آمنّا لابد أن يحظوا بالامتيازات وترفع عنهم التكاليف وتكون لهم كرامة تعفيهم من المسؤولية قال تعالى {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (الحجرات:17) وهذا الظن موجود عند بعض الناس الذين يعتقدون بأن لهم شأنية خاصة تميزهم عن باقي الناس لابد من مراعاتها فاذا طبّقت عليهم قواعد العدالة الاجتماعية فتِنوا وزلّت أقدامهم وانحرفوا كالذي حصل لبعض العناوين الكبيرة من الصحابة عندما تولّى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الخلافة وأرجع الجميع الى ميزان العدالة الاجتماعية فقاتلوه على هذه الامتيازات، والمعنى الأول على أي حال هو الأكثر انسجاماً مع سياق الآيات.

وفي معنى الفتنة قال الراغب ((أصل الفتن: إدخال الذهب النار لتظهر جودته من ردائته، واستعمل في ادخال الانسان النار، قال تعالى {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} (الذاريات:13)))(1).72

ص: 32


1- الراغب الأصفهانى : 372

وقال بعض المحققين(1) ان الفَتْن يعني إحداث الانقلاب والاضطراب والاختلال، وهو معنى قريب، وقد عبَّر أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن هذا المعنى الدقيق للفتنة بقوله (وَ اَلَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً وَ لَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً وَ لَتُسَاطُنَّ سَوْطَ اَلْقِدْرِ(2) حَتَّى يَعُودَ أَسْفَلُكُمْ أَعْلاَكُمْ وَ أَعْلاَكُمْ أَسْفَلَكُمْ وَ لَيَسْبِقَنَّ سَابِقُونَ كَانُوا قَصَّرُوا وَ لَيُقَصِّرَنَّ سَبَّاقُونَ كَانُوا سَبَقُوا)(3)، وهي تعابير صريحة في معنى الاختلال والاضطراب كالغليان، وحينئذٍ يكون اطلاق لفظ الفتن على الادخال في النار - كما عن الأكثر - باعتباره أحد موجبات حصول هذه الحالة، كما يطلق أحياناً على النتائج والمآلات كقوله تعالى {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} (الذاريات:14) أي عذابكم باعتباره نتيجة فتنة الضلال، وكقوله تعالى {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} (التوبة:49) أي العذاب باعتبار الفتنة السبب الموجب له.وبهذه المناسبات واللحاظات يستعمل لفظ الفتنة في الامتحان والابتلاء والاختبار رغم انها ليست متطابقة في معانيها الدقية وإنما أطلقت باعتبارها أسباباً أو مظاهراً للفتنة أو نتائج لها فالفتنة ابتلاء وامتحان، والابتلاء والامتحان سبب للفتنة وهكذا، فلذا يطلق بعضها على بعض.

وللفتنة مصاديق يتحقق بها معناها كالأموال والأولاد {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} (الأنفال:28) {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} (التغابن:15) والزوجة قد تكون فتنة {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا16

ص: 33


1- التحقيق في كلمات القرآن للمصطفوي: 9/ 23
2- أي تكونون كالأشياء المتعددة التي توضع في القدر ثم تُضرب باليد لتختلط
3- نهج البلاغة: الخطبة 16

لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} (التغابن:14) في وصف النبي الكريم عيسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ولم تكن عنده زوجة تفتنه)(1) كما ان للفتنة اسباباً ومناشئ نفسية واجتماعية مثل الكفر والجهل والحماقة والتطرّف والشهوات والتعصب والغضب والعجلة والاختلاف والفرقة والتحزب، فإنها كلِّها فتن تسبب اضطراباً واختلالاً في جريان الأمور وتحولاً نحو الخير أو الشر {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الأنبياء:35)، فلابد أن يتثبت الإنسان من موقفه وموطئ قدمه، وإلا زلّ وهوى.وتفيد الآية بأن الناس غيرُ متروكين لأنه لابد من تعرضهم للفتن، ومرورهم باختبارات وابتلاءات لتظهر معادنهم ولتميز حقائقهم {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (الأنفال:37) فان ادعاء العناوين الكبيرة كالمؤمن والمجاهد والمتقي والمصلح أمر سهل الا ان الإثبات والثبات أمر صعب لقوة التحديات التي تواجهه، وهو يحمل رسالة التوحيد وخلافة الله تعالى في الأرض، ويتحمل مسؤولية إصلاح الواقع الفاسد وهداية الناس الى الحق ونبذ ما سوى الله تعالى من الآلهة التي تطاع من دون الله ابتداءاً من النفس الأمّارة بالسوء إلى الأمور الأخرى التي يتعلق بها الناس ويطيعونها ونحو ذلك من لوازم تحمل الأمانة الإلهية، فهي سباحة ضد التيار الجارف كما يقولون خصوصاً مع عناد ومقاومة الملأ وهم أهل النفوذ والمصالح المتحكمون في المجتمع، فيحتاج الى صبر وجهد وشجاعة حتى يصل الى بر الأمان.38

ص: 34


1- بحار النوار: ج 14/ ص 238

وهو ما يفشل فيه الكثير من الناس فأنهم يسقطون في أدنى امتحان قال تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}(الحج:11) وقال تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} (العنكبوت:10).لذا كان من الحكمة الإلهية مرور الإنسان بهذه الفتن لتصقل شخصيته المعنوية ويتكامل إيمانه ويثبت ويستقر فان الطاقات تتفجّر عند الشدائد وتنضج القابليات وتصقل المواهب ويدرك المؤمن عظمة الرسالة التي تحملها فلا يفرّط فيها مهما كان الثمن لأنه دفع ثمناً غالياً في سبيلها فالتعرض للفتن يراد به مصلحته، روي عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (ليس شيء فيه قبض أو بسط مما أمر الله به أو نهى عنه إلا وفيه من الله عزوجل ابتلاء وقضاء)(1)، روى في الكافي بسنده عن معمر بن خلاد قال: (سمعت أبا الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول {الم ، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} ثم قال لي: ما الفتنة؟ قلت: جعلت فداك الفتنة في الدين، فقال: يفتنون كما يفتن الذهب، ثم قال يخلصون كما يخلص الذهب)(2)، وروى الكليني عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله في خطبة له: (ولكن الله عزوجل يختبر عبيده بأنواع الشدائد، ويتعبدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره،48

ص: 35


1- التوحيد: 354 ح 3
2- أصول الكافي: 1/ 370 ، نور الثقلين: 4/ 148

إخراجاً للتكبر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلل في نفوسهم، وليجعل ذلك أبواباً فتحاً إلى فضله، وأسباباً ذللاً إلى عفوه وفتنته)(1) ثم قرأ الآية.وقد تكون الفتنة شديدة والامتحان صعباً فاذا وجد الشخص نفسه ضعيفاً عاجزاً عن مواجهة الفتنة وتحمّل تكاليفها، ولم يستطيع المحافظة على إيمانه والتزامه بالدين في هذه البقعة لشدة البلاء فيها فليهاجر الى غيرها حيث يستطيع أن يحافظ على دينه ولو متستراً قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} (النساء:97)، ولا يجوز له أن يضعف أو يستسلم ويترك دينه ويتنازل عن عقيدته الحقّة فان الدين أهم شيء في حياة الانسان قال تعالى {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}(2) (البقرة:191) وقال تعالى {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} (البقرة:217)، روى في الدر المنثور في قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} (العنكبوت:10) قال ((ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون فاذا أوذوا وأصابهم بلاء من المشركين رجعوا الى الكفر والشرك مخافة من يؤذيهم وجعلوا أذى الناس في الدنيا كعذاب الله))(3).53

ص: 36


1- الكافي: 4/ 200، ح2، تفسير البرهان: 7/ 232 ح 1
2- راجع القبس الذي يفسّر الآية في الجزء الأول.
3- الدر المنثور: ج6 / ص 453

وتؤكد الآية التالية بأن هذه السنة الإلهية غير مختصة بهذه الأمة بل هي شاملة لجميع البشر المكلفين المشمولين بقانون الثواب والعقاب {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} وما دامت الأمم الأخرى كلها قد تعرضت للفتن ابتلاءاً واختباراً فما الذي يعفي هذه الأمة منها؟، وقد تعرَّض المؤمنون في تلك الأمم لأشكال من فتن الشهوات والمغريات والترف والرخاء {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} (الروم:9)، كما تعرضوا لألوان قاسية من العذاب، قال في جوامع الجامع: في الحديث قد كان من قبلكم يؤخذ فيوضع المنشار على رأسه فيفرق فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه)(1) ومنه ما يحكيه القرآن الكريم في سورة البروج عن المؤمنين الذين حفرت لهم خنادق واشعلت فيها النيران وألقوا فيها أو يتخلوا عن عقيدة التوحيد قال تعالى {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ، النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ، وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (البروج:4-8).وتشتد الفتنة حينما يطول البلاء بالمؤمنين وتكثر الصعوبات عليهم ولا يرون في الأفق فرجاً قريباً حتى تذهب ببعضهم الظنون الى عدم صدق وعد الله تعالى بالنصر والفرج قال تعالى : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ14

ص: 37


1- من نور الثقلين: 4/ 472 ح 14

وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيب} (البقرة:214)، وقال تعالى {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (يوسف:110).وفي التذكير بذلك تثبيت لقلوب المؤمنين وتقوية لعزمهم، وتشجيع لهم بأنه مهما اشتدت معاناتهم أو الضغوط عليهم وأحاط بهم الفساد والضلال والانحلال لابد أن يثبتوا على الايمان ولا يتأثروا بالبيئة الملوثة التي تحيط بهم، وسيأتيهم الفرج بحسب ما تقتضيه الحكمة الإلهية لا بما نشتهيه نحن.

وبنفس الوقت عليهم أن لا ينبهروا بما يتنعم به الكفار والمنحرفون والعاصون من سلطة ومال وشعبية واسعة وهالة إعلامية وأمجاد مصطنعة، ويرون أنفسهم لا يعبأ بهم أحد فيعترضوا على ما هم فيه ويتمنوا أن يكونوا مثل أولئك المترفين ويغفلون عن حقيقة ان في هذا ابتلاءاً وفتنةً لهم {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (طه:131) وعلى المؤمنين ان لا يستعجلوا زوال الفتنة وفناء صاحبها، روى في علل الشرائع بسنده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إياكم وجدال كل مفتون فإن كل مفتون ملقن حجته إلى انقضاء مدته فاذا انقضت مدته أحرقته فتنته بالنار)(1).

وقد تكون فتنة الشخص بأن تتواتر عليه النعم ويعيش في رخاء فتتحرك شهواته وتميل نفسه الى الدعة والراحة والاستكانة والتخلي عن التزاماته الدينية كمنته

ص: 38


1- علل الشرائع: 599 باب 385 ح 51 قال في بحار الأنوار: 2/ 131 أي يلقنه الشيطان حجته

يترك أداء حقوقه الشرعية اذا توسعت أمواله ويترك الصلاة لأنها تتعارض مع ذروة حركة السوق وهكذا يتخلى عنها واحدة واحدة، وقد تزيد عليه هذه النعم رغم عصيانه وانحرافه فيظن انه على خير وانه مستحق للنعم {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِين} (آل عمران:178) لذا ورد التحذير من فتنة الرخاء أكثر من الضراء ففي الحديث النبوي الشريف (لأنا لفتنة السّراء أخوف عليكم من فتنة الضراء، إنكم ابتليتم بفتنة الضراء فصبرتم، وإن الدنيا حلوة خضرة)(1).وقد تبيَّن ان أنواع الفتن عديدة فبعضها ما ذكرناه من تعرض المؤمن للأذى والقسوة والأساليب الوحشية ولا يجد ما يساعده على انقاذ نفسه، وهي ليست الأشد رغم عنفها، بل أشد منها ما تقدم من فتنة الرخاء ورؤية العاصين لله تعالى متنعمين.

والفتن قد تكون شخصية تتعلق بالنفس والمال والولد كالذي رواه في المجمع (ان معنى يفتنون يبتلون في أنفسهم وأموالهم) وهو المروي عن أبي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

وقد تكون عامة وهي التي تشمل قاعدة واسعة من الناس كما لو كانت عقائدية أو اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو فكرية يوقع بعض الناس بعضهم فيها، قال تعالى {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} (الفرقان:20).74

ص: 39


1- ميزان الحكمة: 7/ 26 عن الترغيب والترهيب: 4/ 184 ح 74

فعلى الإنسان المؤمن - في أي موقع كان - أن يراقب أقواله وأفعاله وسلوكه ويكون حذراً متيقظاً حتى يكون سبباً لإصلاح الآخرين وهدايتهم واستقامتهم وليس العكس كمن يكون ظاهره التدين والصلاح فيقوم بأفعال منكرة يأباها الشرع المقدس كسرقة المال العام فيُخدع به غيره ويظنون أن ما يفعله صحيح وجائز، فكان الصالحون يسألون الله تعالى أن لا يكونوا سبباً لفتنة الآخرين، قال تعالى حكاية عنهم {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الممتحنة:5).وكان الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) دقيقين في بيان كل ما يكون سبباً للفتنة ويحذرّون منه وينبّهون عليه، روي أن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كان يمشي راكباً وكان أحد أصحابه يمشي معه راجلاً فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ارجع فان مشي مثلك مع مثلي فتنة للوالي ومذلة للمؤمن)(1) ويصل التحذير الى مستوى مدحك لشخص بكلمات تجعله يفقد الاتزان والحكمة وينخدع بها فتكون انت القائل سبب افتتانه قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ربَّ مفتون بحسن القول فيه)(2).

وقد وصف الله تعالى أي شخص يقف عائقاً في طريق إقامة دين الله تعالى وتطبيق أحكامه وتشريعاته، أو يعطّل سننه، فضلاً عمن يكون داعياً الى الضلال والانحراف ومروجاً له بأنه فتنة، قال تعالى في اتخاذ أولياء غير المؤمنين {وَالَّذِينَ62

ص: 40


1- نهج البلاغة ، الحكمة 322
2- نهج البلاغة ، الحكمة 462

كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} (الأنفال:73).أو كالذين يضعون شروطاً للتزويج ليست شرعية ولا عقلائية كعدم تزويج العلوية من غير العلويين وإن كانوا أكفاء ونحو ذلك من الشروط والموانع، ففي الحديث الشريف عن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (اذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوّه، قلت: يا رسول الله، وإن كان دنَّياً في نسبه؟ قال: اذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوّه، إلّا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)(1) والتجربة والواقع يشهدان بذلك.

وتوعّد بالعقاب الشديد من يكون سبباً لفتنة الآخرين قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} (البروج:10) وقال تعالى محذراً {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور:63).

وإن صانعي الفتن ومثيريها فئات عديدة تبدأ من داخل الأسرة كالضغط الذي يتعرض له من أرحامه وذويه - خصوصاً الوالدين - باسم الشفقة والحب والالحاح عليه بأن لا يكون سبباً لإيذائهم فيدعونه الى التخلي عن إيمانه ولوازمه في القول والعمل، وقد عاش الشباب المؤمن هذه الحالة بقوة ابان الثمانينات من القرن الماضي حيث بلغ بطش النظام الصدامي البائد ذروته، وتحكي الآية الثامنة من السورة أن الفتنة قد يكون مصدرها الوالدين من خلال التأثير السيئ المؤدي 6

ص: 41


1- وسائل الشيعة : 20 / 78 ح 6

الى الرجوع عن الايمان {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} (العنكبوت:8). وقد يكون الوالدان سبباً للفتنة بسوء تربيتهما، مثلاً يطرق شخص باب الدار فيقول الأب لولده قل له ان والدي غير موجود فيتعلم ابنه الكذب وهكذا.وتتحدث الآية الثانية عشرة عن مكر أهل الضلال والانحراف وخداعهم حتى يفتنوا المؤمنين ويعيدوهم الى صفوفهم {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (العنكبوت:12)، وهذا الأسلوب يتبعه البعض حتى اليوم فيقول أحدهم للآخر أفطر شهر رمضان وذنبك برقبتي أو يقول له خذ المال - وهو محرم - أو تقول المرأة لزميلتها ألقي الحجاب وبرقبتي وهكذا.

ويستمر أصحاب الفتن والضلالات والفساد والانحراف في الضغط على المؤمنين بوسائل الاغراء أو التهديد حتى يكسبوهم الى صفوفهم ويحرفوهم عن طريق الاستقامة، قال تعالى {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} (الإسراء:73).

وأخطر الفتن ما تأتي بسبب اتباع الزعامات الباطلة المنحرفة، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الا فالحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم... فأنهم قواعد أساس العصبية ودعائم اركان الفتنة)(1).92

ص: 42


1- نهج البلاغة: الخطبة /192

ويحلّل أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أسباب الوقوع في الفتن والفشل في اجتيازها، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وَ إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ مِنْ أَهْوَاءٍ تُتَّبَعُ وَ أَحْكَامٍ تُبْتَدَعُ يُخَالَفُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ يَتَوَلَّى فِيهَا رِجَالٌ رِجَالًا أَلَا إِنَّ الْحَقَّ لَوْ خَلَصَ لَمْ يَكُنِ اخْتِلَافٌ وَ لَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ لَمْ يَخْفَ عَلَى ذِي حِجًى لَكِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَيُجَلَّلَانِ مَعاً فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَ نَجَا الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنَى)(1).وهذا ما حصل في الفتنة العظمى بعد وفاة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حيث كان الانقلاب الذي أخبر به القرآن الكريم باباً لكل الشرور والآثام، روي عن الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن أبيه أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انه قال (لما نزلت {الم ، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} قال: قلت: يا رسول الله ما هذه الفتنة؟ قال: يا علي انك مبتلى بك، وانك مخاصم فأعِدَّ للخصومة)(2).

ولابد ان نلتفت الى ان الفتن تزداد والبلاء يشتد كلما اتسعت مسؤولية الفرد والمجتمع وارتقى في تكامله، ففي الحديث النبوي الشريف (أشد الناس بلاءاً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء)(3) لكي يتناسب العمل مع الجزاء ولكي يتحقق42

ص: 43


1- الكافي: 8/ 58 ح 21
2- تفسير البرهان: 7/ 232 ح 4
3- الترمذي 3289 وصححه الألباني 1/ 142

الاستعداد لتحمّل المسؤوليات الكبيرة، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (كلما كانت البلوى والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل)(1).لذا فعلينا توقّع المزيد منها كلما اقتربنا من عصر الظهور المبارك روي عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (لا يكون ما تمدوّن إليه اعناقكم حتى تميزوا وتمحصّوا ولا يبقى منكم الا القليل)(2) ثم قرا الآية الكريمة.

وهذا ما ينبّه اليه الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في أدعية زمان الغيبة ومنها دعاء الافتتاح حيث يعلمنا الاستغاثة بالله تعالى من فتن هذا الزمن، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اللّهُمَّ إِنَّا نَشْكُو إِلَيْكَ فَقْدَ نَبِيِّنا صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَغَيْبَةَ وَلِيِّنا، وَكَثْرَةَ عَدُوِّنا، وَقِلَّةَ عَدَدِنا، وَشِدَّةَ الْفِتَنِ بِنا، وَتَظاهُرَ الزَّمانِ عَلَيْنا)(3).

وسيكون العراقيون أشد الناس ابتلاءً وامتحاناً بألوان الفتن الشديدة الشخصية والعامة، لأن الامام الموعود (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سيقيم دولته في ربوعهم ويتخذ من بلدهم عاصمة لهم ينطلق منها لإقامة دولته العالمية المباركة(4).

لذا علينا ان نتمسك بالمنجيات من الفتن وهم العلماء العاملون المخلصون فأنهم ورثة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) حقاً، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (أيها الناس: شقّوا أمواج الفتن بسُفن النجاة)(5)، مع الالتزام بالتقوى والتفقه في الدين قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (ستكون فتن يصبح الرجل فيه مؤمناً ويمسي كافراً، الا من أحياه الله تعالى 5

ص: 44


1- نور الثقلين: 4/ 470 ح 13
2- نور الثقلين: 4/ 470 ح 12
3- مفاتيح الجنان: أدعية ليالي شهر رمضان
4- راجع بيان أسباب ما يمر به العراقيون من بلاء شديد في موسوعة خطاب المرحلة: 5/ 6-17.
5- نهج البلاغة: الخطبة / 5

بالعلم)(1) وقال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اعلموا انه من يتقِ الله يجعل له مخرجاً من الفتن، ونوراً من الظلم)(2).نسأل الله تعالى ان يثبّتنا على الهدى والاستقامة ويجنّبنا مضلّات الفتن وان يختار لنا الخير في أمورنا كلها إنه ولي النعم.83

ص: 45


1- كنز العمال: ح 30883
2- نهج البلاغة: الخطبة/183

ملحق: شُ-ق-ّوا أمواج الفتن بسفن النجاة

ملحق: شُ-ق-ّوا أمواج الفتن بسفن النجاة(1)

قال الله تبارك وتعالى في بداية سورة العنكبوت {أحَسِبَ الناسُ أنْ يُترَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنّا الذِينَ مِنْ قَبلِهِمْ فلَ-يعلَم-َنَّ اللهُ الذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} (العنكبوت: 2-3). فسُنة الامتحان والابتلاء والاختبار جارية في عباد الله لتظهر استحقاقاتهم وهو مقتضى العدالة وبدونها لا يمكن تكريم محسنٍ ولا معاقبة مسيء ويكون من الظلم تقديم أحد على أحد كتقييم الطلبة في المدارس والجامعات.

وتتفاوت الامتحانات شدةً وضعفاً بحسب استعداد الشخص وقابليته ليستحق النتائج بجدارة، وقد مرّت الأمم السابقة ببلاءات عسيرة كانت فيها قلوب الصفوة من المؤمنين تتزلزل فضلاً عن عامة الناس، قال تعالى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (البقرة:214) وليس من الضروري أن يكون هذا النصر القريب هو بانفتاح الدنيا عليه وتنعّمه بالخيرات وتسلّمه لمواقع السلطة؛ لأن النصر الحقيقي والأكبر هو على النفس الأمارة بالسوء والتحرر من الانصياع لأهوائها ومطامعها والنصر على غواية الشيطان وعدم الاستجابة لإغراءاته، فهذا هو الميدان الأول

ص: 46


1- هذه خلاصات لبعض الأفكار التي وردت في أحاديث سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) مع تجمعات الوفود التي زارته من عدة مدن عراقية من بينها الديوانية وناحية الإمام في الحلة وناحية الفجر في الناصرية وناحية العزيزية في الكوت يومي 29-30 ج1 1426 المصادف 6-7/ 7/ 2005.

للنصر والهزيمة وعليه يتفرع النصر والهزيمة في الميدان الخارجي، وما هذه المظالم التي تحصل بين البشر إلا نتيجة الهزيمة في ذلك الصراع، كما أن البشرية لا تنعم بالسلام والخير والسعادة إلا إذا انتصرت على أهوائها ونزعاتها وملكت زمامها وضبطتها بميزان العدل والحكمة.إذن فهذه البلاءات والفتن التي تمر بها امتنا اليوم ليست حالة فريدة ولا شاذة، بل هو امتداد طبيعي لتلك السنة الإلهية العادلة، ولم يغفل التخطيط الإلهي للبشرية هذه الحالة بل وضع لهم معالم طريق النجاة من الفتن بالتمسك بحبل الله الممدود لإنقاذ البشر من التخبط والانحراف والضلال والضياع والتمزق.

ويتمثل حبل الإنقاذ هذا بكتاب الله وعترة نبيّه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الذين ينقلون بأمانة وتفصيل سنة جدّهم الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حيث قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) "إني تاركٌ فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً.

ونبّه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أمته في بعض خطبه بأن الفتن جاءتكم كقطع الليل المظلم وحذرهم من الوقوع فيها كما قال الله تعالى من قبل {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أو قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران:144)، وأرشد الأمة إلى أن نجاتها تكون باتباع قادتها الحقيقيين فهم سفن النجاة (شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة)، فهي ليست فتنة واحدة وإنما فتن كثيرة وهي كالأمواج متلاحقة لا تنتهي واحدة حتى تلحقها أخرى ولا تتخلص من واحدة حتى تأتي أكبر منها كما هي طبيعة الأمواج.

وقد أدى الأئمة دورهم في هداية الأمة وصيانة عقيدتها وأخلاقها من

ص: 47

الانحراف، ودافعوا عن دولة الإسلام وضحوا في سبيل الله والمستضعفين من الناس وأرشدوهم إلى ما يصلح حالهم.وبعد انتهاء عصر القيادة الظاهرة للأئمة جاء دور العلماء المجتهدين الجامعين لصفات وخصائص هذا الموقع الشريف، ليكونوا سفن النجاة بأمر من الأئمة حيث وصفوا العلماء بأنهم (أمناء الرسل وحصون الإسلام) فهم الأمناء على مسؤوليات الرسل، والأولى باستحقاقاتهم وجعلوا قولهم حجة على الناس جميعاً (هؤلاء حجتي عليكم وأنا حجة الله والرادّ عليهم كالراد علينا)(1).

وقد ورد تسمية مثل هؤلاء الفقهاء الأمناء سفن نجاة في الرواية التالية، فقد كان زرارة بن أعين من أعظم الفقهاء الذين رباهم الإمامان الباقر والصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأوسع الأوعية لحمل علمهما، ومع ذلك فقد صدرت من الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كلمات ذم في حق زرارة لم يفهم فلسفتها الكثيرون، وقد شرح الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ذلك بما روي عن عبد الله بن زرارة قال: قال لي أبو عبد الله الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): اقرأ مني على والدك السلام وقل له: إني إنما أعيبك دفاعاً مني عنك فإن الناس والعدو يسارعون إلى كل من قربناه وحمدنا مكانه لإدخال الأذى في من نحبُّ-ُه ونقرّب-ُه ويرمونه لمحبتنا له وقربه ودنوه منا، ويرون إدخال الأذى عليه وقتله، ويحمدون كلَّ من عبناه نحن فإنما أعيبك لأنك رجلٌ اشتهرت بنا وبميلك إلينا وأنت في ذلك مذموم عند الناس غير محمود الأثر بمودّتك لنا ولميلك إلينا، فأحببت أن أعيبك ليحمدوا أمرك في الدين بعيبك ونقصك ويكون بذلك منا دافع42

ص: 48


1- عوائدُ الأيّامِ : 442

شرهم عنك. يقول الله عز وجل {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} (الكهف:79) هذا التنزيل من عند الله صالحة لا والله ما عابها إلا لكي تسلم من الملك، ولا تعطب على يديه ولقد كانت صالحة ليس للعيب فيها مساغ والحمد لله، فافهم المثل يرحمك الله، فإنك والله أحبُّ الناس إليَّ وأحب أصحاب أبي حياً وميتاً. فإنك أفضل سفن ذلك البحر القمقام الزاخر، وإن من ورائك ملكاً ظلوماً غصوباً يرقب عبور كل سفينةٍ صالحة ترد من بحر الهدى ليأخذها غصباً ثم يغصبها وأهلها ورحمة الله عليك حياً ورحمته ورضوانه عليك ميتاً)(1).فإذا تاهت الأمة واضطربت وتخبطت وتمزقت فبسبب تخلّفها عن تعاليم قيادتها الرشيدة، وإلا فإن التخطيط الإلهي لم يغفل معالم طريق النجاة وقد تحصّل أن على الأمة مرحلتين من التكاليف أمام قيادتها:

الأولى: الفحص عن القائد الذي تجتمع فيه الصفات والخصائص التي اشترطها المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من الاجتهاد، والعدالة، والترفّع عن الدنيا والأنانية والاستئثار، وأن يستشعر حب الناس جميعاً والشفقة عليهم، وأن يكون واعياً ومحيطاً بقضايا الأمة وبصيراً بما يكتنفها، وقادراً على تشخيص العلل ووضع الحلول والعلاجات المناسبة لها، وقد أشرنا إلى ذلك في كلمات سابقة أكثر تفصيلاً، فإذا وجدت الأمة مثل هذا الشخص عليها أن تبقى مراقبة له لئلا يزلَّ وينحرف والعياذ بالله.

الثانية: وهي الطاعة والتسليم والنصيحة وبذل النصرة وعدم التقصير.

وهذا هو ما نقصده بالتقليد الواعي أي عدم الارتباط بالأشخاص7.

ص: 49


1- معجم رجال الحديث: 7/ 227.

وتقديسهم وإنما الذوبان في المبدأ ونرتبط بالشخص بمقدار تجسيده لتلك المبادئ مهما كان أصله وانتماؤه، ولا نقصد بالتقليد الواعي ما أسميه بالانتقائية أي الالتزام بما يعجبه من أوامر قيادته ومخالفة ما لا يعجبه، فهذا عين الانحراف والضياع وإذا كان عنده شيء يريد أن يقدّمه فإن أعظم هدية هي النصيحة، أما أن يجعل نفسه قيّماً على مواقف المرجعية فيحكم على بعضها بالصحة وعلى بعضها الآخر بالبطلان فهذا من خطل التفكير؛ لأن أي فرد لا يملك قدرة المرجع على استنباط الحكم من مصادر الشريعة وهي الكتاب والسنة، وتجتمع لدى المرجع خبرات عديدة ومستشارون متنوعون وعيون ترصد جميع مساحة العمل أما هذا الفرد وذاك فهو محدود من هذه الجهات.فالشذوذ عن خط المرجعية هو الخطأ الأكبر حتى لو تصورنا أن موقف المرجعية كان غير صائب لعدم ادّعاء العصمة، وعلى هذا ربّانا الأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، فلا يجوز لأي فرد من الأمة أن يحكّم مزاجه وأهواءه ويخضع لإسقاطاته النفسية.

فالمسؤوليات والحقوق والواجبات متبادلة بين القيادة والأمة، ويوجد تلازم بينها ولا تأخذ إلا بمقدار ما تعطي ونرفض أن تركّز القيادة على جانب الامتيازات فتتحدث عن وجوب الطاعة والانقياد وتترك جانب الواجبات والاستحقاقات والعطاء للأمة مما تقدم ذكره، فإن هذا عين التطفيف في المعايير الذي قال عنه تعالى {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} (المطففين: 1-3)، فإن هذه الحالة غير مختصة بميزان البيع والشراء بل تشمل كل التعاملات، فالأب الذي لا يقوم بواجباته تجاه

ص: 50

أسرته ويطالبهم باستحقاقات الأبوّة هو من المطففين، والمسؤول الذي يتنعم بامتيازات موقعه ولا يقدم الخدمات المطلوبة منه للمجتمع هو من المطففين، والدول التي تتعامل بمكيالين في علاقاتها مع الدول الأخرى هي من المطففين.

ص: 51

القبس /117: سورة العنكبوت:45

اشارة

(إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنهَىٰ عَنِ ٱلفَحشَاءِ وَٱلمُنكَرِ ۗ)

شكوى الشباب:

كثيراً ما ألتقي بوفود الشباب وطلبة الجامعات وأستمع إلى أسئلتهم وهمومهم ومشاكلهم، والسؤال الأكثر تردداً هو:كيف نستطيع مقاومة المغريات والشهوات وأساليب الإفساد وهم يعيشون في بيئة مليئة باسباب الفتنة والإغراء متزامنة مع فورة الشباب وعنفوان القوى وهيجان العواطف.

وفي الحقيقة فإنّ المشكلة لا تختص بالشباب، فإنّه مادام الإنسان في هذه الدنيا فهو مبتلى بالإغراءات والشهوات والفتن ويخوض (جهاداً أكبر) لمواجهتها كما سمّاه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في الحديث المشهور(1)، ويعزّز قوة هذه الضغوط الميل العارم للنفس الأمّارة بالسوء نحو الاستجابة لها، مع تزيين الشيطان لها (إلهي إليك أشكو نفساً بالسوء أمّارة وإلى الخطيئة مبادرة وبمعاصيك مولعة) (إلهي أشكو إليك عدواً يضلني وشيطاناً يغويني.. يعاضد لي الهوى ويزيّن لي حب الدنيا)(2).

الصلاة وسيلة للتحصين:

والإنسان في هذه المواجهة يحتاج إلى معونة ومناعة وتحصين كالتطعيم

ص: 52


1- معاني الأخبار:ص160
2- من مناجاة الشاكين للإمام السجاد(عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

الصحي ضد الأوبئة والأمراض الجسدية، وهذه المعونة يحتاجها الإنسان قبل التعرض للامتحان وأثناءه وبعده، فما هي الوسيلة لتحصيل هذه المعونة والتطعيم والتحصين؟ والجواب بكلمة واحدة إنّها (الصلاة)، ومن دلائل عظمة الصلاة إنها هي هذه الوسيلة التي توفر الحصانة والمناعة في جميع تلك المراحل المترتّبة في الفضل والسمو، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(عباد الله، إن أفضل ما توسل به المتوسلون إلى الله جل ذكره:الإيمان بالله وبرسله وما جاءت به من عند الله،... وإقامة الصلاة فإنها الملة)(1).

الحماية من المعاصي:

ولبيان ذلك نقول أما قبل الامتحان فيحتاج الإنسان إلى اللطف الإلهي والعناية الإلهية لتحميه من الابتلاء بالمعاصي أصلاً، أو حمايته منها عند عروضها عليه حيث يبصّره الله تعالى بحقائق تلك المعاصي المنفرّة الموجبة للاشمئزاز والتقزّز وليس الاقبال والرغبة، وهذا ما توفره الصلاة، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(الصلاة تستنزل الرحمة)(2) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ما دمت في الصلاة فإنك تقرع باب الملك الجبار ومن يُكثِر قرع باب الملك يُفتَح له)(3) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إذا قام الرجل إلى الصلاة أقبل إبليس ينظر إليه حسدا، لما يرى من رحمة الله التي

ص: 53


1- نهج البلاغة: الخطبة: 110.
2- الأحاديث المذكورة هنا نقلها عن مصادرها في جامع أحاديث الشيعة: 4/ 29 وما بعدها، وفي ميزان الحكمة: 5/ 107- 135.
3- المصدر السابق.

تغشاه)(1)، وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(لو يعلم المصلي ما يغشاه من جلال الله ما سره أن يرفع رأسه من سجوده)(2).ومن تغشته رحمة الله وأحاط به جلاله فهو في أمن وأمان وحصن وثيق من الوقوع في شراك إبليس، وعن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(إنّ الصلاة قربان المؤمن) وكلما اقترب الإنسان من ربّه ابتعد عن الشيطان وموجبات الوقوع في المعصية، وإذا وُفِّق الإنسان إلى هذه المرحلة فهي الأكمل والأسمى والأعظم عند الله تعالى حينما لا يجد في نفسه أي ميل للمعصية ولا رغبة له فيها، وبالتالي فهو لا يجد أي مشكلة في اجتنابها.

الثمرة الأبرز لإقامة الصلاة:

وفي المرحلة الثانية أي عند الابتلاء بما يوجب المعصية وحينما يكون بين خيارين أحدهما كبح جماحِ النفس والفوز بطاعة الله، وثانيهما الانسياق وراء الشهوة والوقوع في المعصية، وهنا يأتي دور الصلاة في زيادة مناعته وتحصينه من الوقوع في المعصية بل أن الثمرة الأبرز لإقامة الصلاة هي هذه، قال تعالى {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} (العنكبوت:45)، وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(اعلم أن الصلاة حُجزةُ الله في الأرض، فمن أحبّ أن يعلمَ ما أدركَ من نفعِ صلاته، فلينظر:فإن كانت حَجَزَتهُ عن الفواحش والمنكر فإنما أدرك من نفعها بقدرِ ما احتجزَ).

ص: 54


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.

وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الصلاة حصن من سطوات الشيطان)، وروي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (لا يزال الشيطان ذعراً من المؤمن هائباً له ما حافظ على الصلوات الخمس، فإذا ضيّعهن اجترأ عليه)، وهذه المرحلة وإن كانت أقل درجة من سابقتها لأن الإنسان يجتنب المعصية بمعاناة ومشقّة وجهاد، إلاّ انها مرحلة عظيمة أيضاً.

الصلاة حبل النجاة:

أما في المرحلة الثالثة:وهي ما بعد الفعل ونفترض أن العبد لم يستفد من بركات صلاته مما أدى إلى سقوطه في الخطأ لسبب أو لآخر فإن الصلاة هي التي تمدّ حبل النجاة لإنقاذه على نحوين:

أولهما:إعادته إلى الحالة الصحيحة وتطعيمه من جديد ضد الانحراف والمعصية وزيادة مناعته بجرعة أكبر، روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال - في رجلٍ يُصلّي معه ويرتكبُ الفواحش-:(إنّ صلاته تنهاهُ يوماً ما، فلم يلبث أن تابَ)، وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال -- في رجل يُصلّي بالنهار ويسرقُ بالليل-:(إنّ صلاته لتردعهُ).

ثانيهما:إنها تكفّر الإثم الذي ارتكبه وتبيّض صفحته التي اسودّت بفعل المعصية وتمنحه فرصة التكامل من جديد، روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنّه أخذ غصناً من شجرة كانوا في ظلّها فنفضه فتساقط ورقهُ ثم فسّر لأصحابه ما صنع فقال:(إن العبد المسلم إذا قام إلى الصلاة تحاتّت عنه خطاياه كما تحاتَت ورقُ هذه الشجرة).

وروي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (سمعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول

ص: 55

أرجى آية في كتاب الله {أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ} (هود:114)، وقال يا علي والذي بعثني بالحق بشيرا ونذيرا إن أحدكم ليقوم من وضوئه فتساقط عن جوارحه الذنوب فإذا استقبل الله بوجهه وقلبه لم ينفتل وعليه من ذنوبه شيء كما ولدته أمه فإن أصاب شيئا بين الصلاتين كان له مثل ذلك حتى عد الصلوات الخمس ثم قال يا علي إنما منزلة الصلوات الخمس لأمتي كنهر جار على باب أحدكم فما يظن أحدكم لو كان في جسده درن ثم اغتسل في ذلك النهر خمس مرات أكان يبقى في جسده درن فكذلك والله الصلوات الخمس لأمتي).

موقع الصلاة في الدين:

لهذا كله احتلت الصلاة موقعاً مهماً من الدين، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(مثلُ الصلاةِ مثلُ عمودِ الفُسطاط، إذا ثبتَ العمودُ نفعت الأطناب والأوتاد والغشاءُ، وإذا انكسرَ العمودُ لم ينفع طُنبٌ ولا وتدٌ ولا غشاء).

ولهذا كانت الصلاة مقياس دين الإنسان والتزامه بما فرض الله تعالى عليه، روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(لكل شيء وجهٌ، ووجهُ دينكم الصلاة)، وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(أولُ ما ينظر في عمل العبد في يوم القيامة في صلاته، فإن قبلت نُظر في غيرها، وإن لم تُقبل لم ينظر في عمله بشيء)، وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(الصلاة ميزانٌ، فمن وفّى استوفى).

ولذا كثرت الوصايا بها، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(ليكن أكثر همِّكَ الصلاة، فإنها رأس الإسلام بعد الإقرار بالدين)، ومما جاء في وصية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لأولاده قبيل وفاته (الله الله في الصلاة فإنها عمود دينكم)، وعن الإمام

ص: 56

الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(أحب الأعمال إلى الله عز وجل الصلاة، وهي آخرُ وصايا الأنبياء)، وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إن طاعة الله خدمته في الأرض فليس شيء من خدمته يعدل الصلاة).

التشديد على تارك الصلاة:

فليس غريباً التشديد في قضية ترك الصلاة، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (ما بين المسلم وبين الكافر إلاّ أن يتركَ الصلاة الفريضة متعمداً، أو يتهاون بها فلا يصلّيها)، وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(الصلاة عِمادُ الدين، فمن ترك صلاته متعمّداً فقد هدم دينه، ومن ترك أوقاتها يدخل الويل، والويلُ وادٍ في جهنّم كما قال الله تعالى {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} وعنه:(من ترك الصلاة لا يرجو ثوابها ولا يخافُ عِقابها، فلا أُبالي أن يموتَ يهودياً أو نصرانياً أو مجوسيّاً).

كيفية الصلاة التي تؤدي دورها الكامل في حياة الإنسان؟

ولكي تأخذ الصلاة دورها الكامل في حياة الإنسان لابد أن يؤتى بها بحدودها وشروطها.

(ومنها) الإتيان بها في أول وقتها، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(لكل صلاة وقتان:أوّلٌ وآخرٌ، فأول الوقت أفضلُه، وليس لأحدٍ أن يتّخذ آخر الوقتين وقتاً إلا من علّةٍ، وإنما جُعِل آخر الوقت للمريض والمعتل ولمن له عذرٌ، وأولُ الوقت رضوان الله، وآخرُ الوقت عفو الله). وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(فضل الوقت الأول على الآخر كفضل الآخرة على الدنيا)، وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(لفضل الوقت الأول على الآخر خيرٌ للمؤمن من ماله وولده).

ص: 57

وروى الشيخ الصدوق في الفقيه بسنده عن حماد بن عيسى:قال لي أبو عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوماً:(تُحسِنُ أن تُصلّيَ يا حمّاد؟... قُم فصلِّ، قال:فقمتُ بين يديه متوجّهاً إلى القبلة فاستفتحتُ الصلاة وركعتُ وسجدتُ، فقالَ:يا حمّاد، لا تُحسن أن تصلّي؟! ما أقبح بالرجل ان تأتي عليه ستون سنة أو سبعون سنة فما يقيم صلاة واحدة بحدودها تامّة)؟!(ومن) شروط تأثيرها الورع عن محارم الله تعالى، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(لو صلّيتم حتّى تكونوا كالأوتارِ، وصُمتم حتى تكونوا كالحنايا، لم يقبلِ الله منكم إلاّ بورعٍ).

موانع تأثير الصلاة في حياة الإنسان:

(ومن) أبرز الموانع من قبولها وتأثيرها:

1-عقوق الوالدين، عن الإمام الصادق(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من نظر إلى أبويه نظر ماقتٍ وهما ظالمان له، لم يقبل الله له صلاة).

2-الغيبة، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(من اغتاب مسلماً أو مسلمة لم يقبل الله تعالى صلاته ولا صيامه أربعين يوماً وليلة، إلاّ أن يغفر له صاحبه).

نصيحة وتوصية:

نصيحة وتوصية:(1)

فاهتموا بصلاتكم أيها الأحبّة وحافظوا على أول وقتها وواظبوا على أدائها

ص: 58


1- تحدّث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) بهذه الكلمة من خلال شاشة قناة النعيم إلى الآلاف من طلبة الجامعات والمعاهد العراقية المشاركين في فعاليات ومواكب الوعي الفاطمي مساء السبت 2/ج2/ 1434 الموافق 13/ 4/ 2013.

جماعة في المسجد مهما تيسر لكم لتزدادوا نوراً على نور واستزيدوا منها فوق الفرائض اليومية، روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) انه قال لأبي ذر لما سأله عن الصلاة (خير موضوع، فمن شاء أقلّ ومن شاء أكثر) وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما سئل عن أفضل الأعمال بعد المعرفة قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ما من شيء بعد المعرفة يعدل هذه الصلاة)، وعن الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(صلوات النوافل قُربات كل مؤمن).خصوصاً صلاة الليل ولو بأقل عدد من الركعات، قال تعالى {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} (الإسراء:79).

السيدة الزهراء (س) تبيّن سر تشريع الصلاة وفضلها:

لقد لخّصَتْ الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء (س) هذه الأهمية للصلاة ودورها في تهذيب الإنسان وتكامله بقولها في خطبتها (فجعل الله... الصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر) فالصلاة تنزّه الإنسان وتطهّره من التكبر والعتوّ والتمرّد والإستكبار والفرعنة التي هي أساس الوقوع في المعاصي وإتّباع الشيطان والابتعاد عن الله تعالى ولشدّة اهتمامها (سلام الله عليها) بالصلاة سألت أباها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (يا أبتاه ما لمن تهاون بصلاته من الرجال والنساء؟ قال:يا فاطمة:من تهاون بصلاته من الرجال والنساء ابتلاه الله بخمسة عشر خصلة، ستّ منها في دار الدنيا، وثلاث عند موته، وثلاث في قبره، وثلاث في القيامة إذا خرج من قبره) ثم عدّدها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فراجع المصدر(1).

ص: 59


1- مستدرك وسائل الشيعة: 3/ 23.

القبس /118: سورة الروم:54

اشارة

(ثُمَّ جَعَلَ مِن ۢ بَعدِ ضَعف قُوَّة)

لكي نتفكر في خلق الله وصنعه:

سورة الروم غنية بالآيات التي تدعوا الناس الى التفكر بآيات الله والتدبر فيها للارتقاء بمعرفة الله تعالى ومنها قوله تعالى {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} (الروم:54).

(خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ):

والآية تشير الى المراحل التكوينية التي يمر بها الانسان، {خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ} يبدا من ضعف النطفة وهو الماء المهين الذي يتكون منه ويلقح البويضة فتكون علقة تتغذى من جدار رحم الام ثم تتكاثر وتزداد وتتحول العلقة الى مضغة وهي قطعة لحمية صغيرة ثم يخلق الله تعالى العظام ويتكامل نموه، وهو في كل مرحلة من المراحل كائن ضعيف لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ويأتيه رزقه من امه وينمو جسمه بلا ارادة منه.

ثم يولد ويخرج الى الدنيا وهو لا يزال ضعيفاً لا يقدر على شيء فقيّ-ض الله تعالى له والدين شفيقين رحيمين محبين له يتوليان رعايته وتربيته ويجلبان له الخير ويدفعان عنه الضرر وخلال ذلك يتقلب في هذه الحالات من الضعف.

ص: 60

(ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً):

{ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} حينما تكتمل قواه الجسدية – البلوغ – والعقلية – بالرشد وحسن التصرف – وعلمية – بالتجربة والتعلم – ثم تضاف له قوى اخرى، مثلا – المالية – عندما يبدأ بالكسب والعمل -، والاجتماعية – حينما يصبح في موقع او يكون له عنوان اجتماعي او جاه معروف به – والثقافية – بما تزود من علوم ومعارف – وهكذا تجتمع عنده اسباب القوة التي عبّر عنها الله تعالى في مواضع عديدة ببلوغ الاشّد {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} (الأحقاف:15) {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} (يوسف:22).

(ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً):

{ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} حيث يؤول امره الى الضعف فيظهر عليه وهن الكهولة والشيخوخة وربما يبتلى بالأمراض ولم يعد بتلك القوة حينما كان يركض ويقفز بخفة ونشاط فاصبح يتوكأ حينما يقوم، وتضعف ايضا قواه الذهنية فيفقد قوة الحافظة التى كانت في شبابه حينما كان يحفظ القصيدة الطويلة عن ظهر قلب ويطالع كتبه الدراسية ويجيب عن كل سؤال يوجه اليه، اما اليوم فلا يقدر على شيء من ذلك بل لم يعد يحتفظ بالمعلومات التي كانت عنده، وربما يصاب البعض بالخرف وفقدان الذاكرة او ما يعرف بالزهايمر، فيعود امره من جديد الى الضعف ولكن هذا الضعف اشد من ضعف الطفولة لذا قرن معه (وشيبة) للإشارة الى هذا الفرق فقد كان ضعف الطفولة متجها نحو الصعود والتكامل وخيره مقبل وكان معه والدان يداريانه، اما ضعف الشيبة ففي طريق النزول ومزيد من الضعف وفقدان القوى وليس عنده مثل رحمة الوالدين

ص: 61

وشفقتهما قال تعالى {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ} (يس:68).وقال تعالى في اشارة لهذا النزول {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} (الحج:5) فاذا كان عنده علم لكنه لما امتد به العمر طويلا فقد تلك المعلومات.

الدروس المستفادة من الآية الكريمة:

بعد هذا الشرح الموجز للآية نستخلص عدة رسائل موجهة من خلالها:

الاولى:قدرة الله تبارك وتعالى الذي خلق الانسان عبر هذه المراحل التكوينية، وعلمه تعالى الذي اتقن الصنع بهذه الكيفية البديعة من دون ان يشاركه أحد (يخلق ما يشاء)، ولذا ختمت الآية بقوله تعالى {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}، وهكذا كل الآيات تنتهي بالأسماء الحسنى المناسبة لمضمون الآية، ويحكى ان احدهم قرأ اية (والسارق والسارقة) الى ان ختمها بقوله تعالى (والله غفور رحيم) فانكر احد الحاضرين ان تكون نهاية الآية هكذا وطلب من القارئ اعادة قراءتها في المصحف فاذا هي (عزيز حكيم) فقال هذا صحيح لان الامر بقطع اليد يناسبه هذه الاوصاف وليس الغفور الرحيم الذي يناسب العفو والصفح لا القطع(1).

الثانية:رسالة موعظة الى الناس ان لا يغتروا بما عندهم ولا يطغوا لمجرد حصولهم على شيء من اسباب القوة {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} (العلق:6-7) فيظلمون ويعتدون ويظنون انهم قادرون على فعل كل ما

ص: 62


1- أنظر: التحرير والتنوير- ابن عاشور: 2/ 281

يحلوا لهم، فهذه القوة لم تكن موجودة ثم وجدت وهي بعد ذلك تضمحل وتصير الى الضعف، والانسان عاجز عن تغيير هذا الانتقال في المراحل، والاحتفاظ بقوته وشبابه مدى الدهر {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} (الأحزاب:62).وهذه الرسالة ليست موجهة الى الافراد فقط بل الى الامم والدول ايضاً التي تغتر بقوتها وجبروتها فتتفرعن وتملأ الارض ظلماً وعدوانا وهي كالإنسان بدأت من ضعف ثم قويت ثم يؤول امرها الى الضعف والانهيار كما هو شأن كل الممالك والامبراطوريات عبر التاريخ فيسمون اوربا اليوم القارة العجوز بعد ان كانت في عنفوان القوة وتبسط سيطرتها من الشرق الاقصى الى الامريكيتين في الغرب الاقصى وهكذا كل الزعامات التي تغتر بكثرة الاتباع كرؤساء العشائر او بقوة المنصب لدى بعض الكيانات السياسية فيطغى ويطلب الدنيا من غير طرقها المشروعة، فعليه أن يأخذ الموعظة من تقلب أحواله ليعرف ان هذه القوة التي عنده ستزول فلا يغتر بها ويطغى ويظلم.

الثالثة:رسالة تطمين لمن في حالة الضر والمعاناة ورسالة تحذير لمن في حالة الرفاه والدعة وبحبوحة العيش بأنه لا يدوم حال على ما هو عليه كما قيل في المثل (دوام الحال من المحال) فمن كان يمر ببلاء وصعوبات وشدة وتظلم الدنيا في عينيه عليه ان لا ييأس ويشعر بالإحباط لان الفرح وزوال البلاء متوقع في كل لحظة، والدنيا متقلبة بأهلها حالاً بعد حال {إِنَّ مَعَ الْعُسْ-رِ يُسْ-راً} (الشرح:6) فليتمسك بالأمل ولينتظر الفرج وسيأتي ذلك اليوم وتصبح معاناته في خبر كان كما يقال.

ص: 63

وقد يجمع الله الشتيتين بعدما *** يظنان كل الظن ان لا تلاقيا(1)

لنحذر زوال النعمة:

ومن كان في سعة من الحياة ودعة من العيش عليه ان يحذر تبدّل هذه النعمة او زوالها في أي لحظة فيفقد المال او الصحة او المنصب او الجاه او الاتباع أو أي شيء آخر فعليه أن يحذر الدنيا ولا يسكن اليها وإن أقبلت عليه فكم من شخص كان هكذا ثم ادبرت عنه ولربما لأسباب مجهولة أو خارجة عن إرادته ولا يستطيع تفاديها.

كانت الدولة العباسية في أوج زهوها وانتشارها من حدود الصين شرقاً الى غرب افريقيا وكان هارون على رأس هذه الدولة مملوءً بالزهو والاستعلاء، لكنه في ريعان الشباب واقصى زهو السلطة مرض(2)واشرف على الموت فأمر بحفر قبره وكان يقف عليه ويقرأ الآيات الكريمة {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ} (الحاقة:28-29).هذه الرسائل ضمنّها الامام الحسين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعاء عرفة وفيه قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اِلهى اِنَّ اخْتِلافَ تَدْبيرِكَ، وَسُرْعَةَ طَوآءِ مَقاديرِكَ، مَنَعا عِبادَكَ الْعارِفينَ بِكَ عَنْ السُّكُونِ اِلى عَطآء، وَالْيأْسِ مِنْكَ فى بَلاء)(3).

هذا الاختلاف في الاحوال بتدبيرك فساعة في عنى واخرى في فقر

ص: 64


1- بيت من الشعر يُنسب الى أبو سعد الكاتب النيرماني, أنظر: الوافي بالوفيات للصفدي: 21/ 299
2- أنظر: البداية والنهاية- ابن كثير: 10/ 231
3- مفاتيح الجنان:311.

وساعة في عافية واخرى في مرض، وساعة في قوة وأخرى في ضعف وساعة في ليل واخرى في نهار، وساعة في صيف وأخرى في شتاء، وهكذا غيرها، فهذا التبدل والتغيّر الذي يجري بسرعة منع المؤمن الذي له بصيرة في الامور ومعرفة بالله تعالى من أن يطمئن الى حال حسنة ويسترخي لها، ولا ان يصيبه اليأس إذا مرّ بحال سيئة. وفي الحديث (الليل والنهار يبلّيان كل جديد)(1) وما اسرعهما.

التفتوا الى هذه الحقائق:

وبالالتفات الى هذه الحقائق تزداد المعرفة عند الانسان، والمعرفة هي اساس التفاضل عند الله تبارك وتعالى، ودعاء الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم عرفة غنيٌ بهذه المعارف الالهية، ومنه قوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بما يرتبط بحديثنا (آلهي عَلِمْتُ بِاِخْتِلافِ الاْثارِ، وَتَنقُّلاتِ الاْطْوارِ، اَنَّ مُرادَكَ مِنّى اَنْ تَتَعَرَّفَ اِلَىَّ في كُلِّ شَيء، حَتّى لا اَجْهَلَكَ في شَيء)(2) فاختلاف الاثار أي آيات الله في خلقه من ليل ونهار وشتاء وصيف وغير ذلك، ومن تنقلات الاطوار بين شباب وشيخوخة وعافية ومرض وغنى وفقر يُراد منه ان يتعرف الانسان على صفات ربه الحسنى حتى يتأدب بأدب العبودية قال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:56) وفسرها الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في بعض ما روي عنه أي (ليعرفون)(3)، قال الشاعر:

ص: 65


1- أصول الكافي- الكليني: 2/ 598/ح2
2- مفاتيح الجنان:311.
3- أنظر: ميزان الحكمة- الريشهري: 1/ 223

وفي كل شيء له اية *** تدل على انه واحد(1)

فالإنسان يقف عاجزاً أمام هذه الحركة الكونية ولا يملك إلا ان يكون جزءاً من هذا التدبير فيتيقن ان وراء هذه الحركة مدّبر حكيم، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال :(عرفت الله بفسخ العزائم، وحل العقود، ونقض الهمم)(2).

وانما على الانسان ان يغتنم حال القوة التي يكون فيها ويستثمرها في طاعة الله تعالى قبل فوات الفرصة فان إضاعة الفرصة غصة – كما قيل – والملفت ان الآية اطلقت كلمة قوة ولم تحددّها لتبقى مفتوحة على كل الصور الممكنة لها، فالصحة قوة والشباب قوة والمال قوة والجاه قوة والعلم قوة والمنصب قوة وكثرة الاتباع قوة وهكذا.

وقد جمع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في وصيته لابي ذر (رضوان الله تعالى عليه) عدة مصاديق وحالات للقوة وأمرهُ باغتنامها قبل زوالها كلها او بعضها وتحولها الى نقيضها قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فيما روي عنه :(يَا أَبَا ذَرٍّ :اغْتَنِمْ خَمْساً قَبْلَ خَمْسٍ :شَبَابَكَ :قَبْلَ هَرَمِكَ وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سُقْمِكَ وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغُلِكَ وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ)(3).

والوصية كما يظهر موجهة بشكل اساسي الى الشباب(4) الذين وصفتهم).

ص: 66


1- البيت منسوب الى أبي العتاهية, أنظر: الأغاني- أبي الفرج الأصفهاني: 4/ 39,- تاج العروس- الزبيدي: 19/ 61, وبعض نسبه الى لبيد بن ربيعة, أنظر: ديوان لبيد: 232
2- نهج البلاغة قصار الكلمات رقم 250.
3- مكارم الاخلاق 626.
4- راجع شرحها في الملحق التالي بعنوان (اغتنم شبابك).

الآية في حال قوةٍ وأن كانت الوصية عامة للجميع ويمكن القول ان الحديث ليس في مقام حصر حالات القوة ومظاهرها بهذه الخمسة فيمكن ان يشمل الحديث كل عناصر القوة الاخرى فيمكن ان نقول (واغتنم علمك قبل جهلك) لان العلم قوة ونور وربما يؤول أمره الى الضياع كما في الآية المتقدمة {لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً} (النحل:70) فعليه ان يستثمر علمه من خلال العمل به لإصلاح نفسه ومجتمعه أولاً ونشره بين الناس ثانياً لان زكاة العلم انفاقه، وبتنميته وزيادته ثالثاً {رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طه:114) لذلك تجد العلماء يعمرون طويلاً ويبقون الى آخر عمرهم يدرسّون ويؤلفون ويبحثون ويقدّمون أحدث الابداعات العلمية.وهذه الحقيقة أكدها الاطباء وقالوا أن العلاج من الإصابة بالخرف والزهايمر بالشيخوخة يكون بمواصلة المطالعة والقراءة.

ص: 67

ملحق:اغتنم شبابك

اغتنم خمساً:

وصيةُ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للصحابي الجليل أبي ذر الغفاري رسالة عظيمة للأجيال ينبغي مراجعتها والاستفادة منها باستمرار، ومنها قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(يا أبا ذر.. اغتنم خمساً قبل خمسٍ:شبابك قبل هرمك، وصحّتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)(1).

وهذه الوصية موجّهة بشكل رئيسي الى الشباب للتصريح بهم في أول فقرة، ولأنهم الأكثر توفّراً على هذه النعم الخمس، فهم شباب أصحّاء وقواهم البدنية متكاملة لم يضعفها مرور الزمن، وهم فارغون غالباً من المسؤولية غير مشغولين بهموم الحياة، وهم أغنياء لانهم غالباً مكفيو المؤونة بآبائهم وليسوا معيلين لكثيرين.

ليلتفت الشباب الى عناصر قوتهم:

فليلتفت الشباب الى ما حباهم الله تعالى من النعم ليستثمروها في اتجاهها الصحيح أي في طاعة الله تعالى وإعمار الحياة بكل خير ونفع لهم وللمجتمع عامة، وعدم هدر الطاقات وصرفها في اللغو والعبث فضلاً عن الاستخدامات السيئة والاجرامية والعياذ بالله، فكما يردّد الشاب أنني اريد أن أبني مستقبلي وأكوِّن نفسي، ويقصد النواحي المادية كحياة معيشية مرفّهة وزوجة وأطفال ومصدر رزق ونحو ذلك، وهو حقٌّ ومطلوب وحثَّ عليه الشارع المقدس، إلا أنه

ص: 68


1- مكارم الاخلاق للطبرسي: 626.

عليه أن يفكّر ببناء مستقبله المعنوي والإيماني أيضاً ليضمن السعادة والفوز في الآخرة كما في الدنيا، وأن البناء في مرحلة الشباب يكون أرسخ وأقوى.

عناصر القوة في الشباب:

إن الاهتمام بالشباب ليس اعتباطاً وإنما لوحظ فيه وجود عناصر النجاح والتكامل في الشباب أكثر من غيره وهي:

1-قوة الإرادة وتنفيذ ما يعزم عليه، ونجد كثيراً من الشباب يقوم بالمغامرات المهلكة ويرتكب الحماقات الجنونية لا لشيء إلا لأنه اقتنع بأمر وهو عازم على تنفيذه، وهو مستعد للتمرد والخروج على كل القوانين والأعراف، فيجب توظيف هذه الإرادة القوية فيما هو نافع ومثمر.

2-النقاء وسلامة الفطرة لأنهم قريبو عهد ببراءة الطفولة والخروج الى هذه الدنيا بصفحة بيضاء، وقلوبهم طاهرة كالمرآة الصافية لم تتكدّر بالاستعمال فيكون تلقيها للتربية والاصلاح والمعارف الحقة سريعاً وثابتاً، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إنما قلب الحدث كالأرض الخالية، ما القي فيها من شيء قبلته)(1) وفي كتاب الكافي بسنده عن اسماعيل بن عبد الخالق:(سمعت أبا عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول لأبي جعفر الأحول وأنا أسمع:أتيت البصرة؟ فقال:نعم، قال:كيف رأيت مسارعة الناس لهذا الأمر ودخولهم فيه؟ قال:والله إنهم لقليل، ولقد فعلوا وإن ذلك لقليل، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):عليك بالأحداث فإنهم أسرع الى كل خير)(2)، أما أذا امتد العمر فإن

ص: 69


1- تحف العقول: 70.
2- الكافي: 8/ 93 ح 66.

الأخطاء والمعاصي ستلوّث عقولهم وقلوبهم كما في دعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ويلي كلما طال عمري كثرت معاصيِّ)(1) ومن الصعب حينئذ جلاؤها وتنقيتها وإعادتها الى نفس الصفاء والفطرة السليمة.3-سلامة القوى البدنية والعقلية {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} (غافر:67) مما يساعده على فعل ما تتطلبه رسالته في الحياة وتلقي العلوم النافعة، وهذه القوى تضعف بمرور الزمن {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} (الروم:54)، ويصل الى مرحلة من العمر لا يتمكن فيها من أداء الواجبات فتراه لا يقدر على الصوم ويصلي من جلوس ويعجز عن أداء مناسك الحج والذهاب لزيارة الائمة الطاهرين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولا يتمكن من قراءة القرآن وأمثال ذلك {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ} (يس:68).

معنى أن نغتنم الشباب:

فاغتنام الشباب يعني الاستفادة من هذه العناصر مجتمعة لبناء حياة مؤمنة مطمئنة تسعى لنيل رضا الله تبارك وتعالى وتجنب سخطه. في الحديث عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(ان احب الخلائق الى الله عز وجل شاب حَدَث السن في صورة حسنة جعل شبابه وجماله لله وفي طاعته، ذلك الذي يباهي به الرحمن ملائكته، يقول

ص: 70


1- مفاتيح الجنان:481.

هذا عبدي حقاً)(1)، وفي حديث آخر عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (سبعة في ظل عرش الله عز وجل يوم لا ظل الا ظله:إمامٌ عادل، وشابٌ نشأ في عبادة الله عز وجل)(2)، وهذا يستلزم اهتماماً متزايداً بمطالعة الكتب والتثقف والازدياد من المعارف والعلوم التي تبني شخصية الانسان وتقوّم تفكيره وتحصّنه من الانحراف والضلال والفساد والشبهة، وستستفيدون كثيراً من المطالعة.

نصيحتي بأن تجعلوا لكم دفتر ملاحظات:

وقد نصحت مراراً بأن تتخذوا دفتر ملاحظات تسجلون فيه هذه الأحاديث الأخلاقية لأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وكلمات الحكماء التي تفهمون منها درساً مفيداً في حياتكم، وأن تتعبوا أنفسكم في مطالعة الكتب النافعة وتحصيل المعارف الدينية والأخلاقية والتوعوية، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لستُ أُحِبُّ أن أرى الشاب منكم إلا غادياً في حالين:إما عالماً او متعلماً، فإن لم يفعل فرّط، فان فرّط ضيّع، وإن ضيّع أثم، وإن أثم سكن النار والذي بعث محمدا (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ))(3).

وربما ستؤثر فيكم كلمة صغيرة تقلب حياتكم نحو الأفضل، كما حصل لبشر الحافي الذي يفتخر به المتصوّفة، فقد كان صاحب خمر ولهو وعبث مع أصدقاء السوء، وذات يوم بينما كانت جاريته تلقي القمامة ونفايات الطعام خارج الدار، مرَّ الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فرأى داراً فارهةً تصدر منها أصوات الغناء والمجون والفسق فسأل الجارية عن صاحب الدار، فقالت:لسيدي ومولاي بشر،

ص: 71


1- كنز العمال: 43103.
2- الخصال: 343 ح8.
3- الأمالي للطوسي:303 / ح604.

فقال الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):هل سيدك حرٌّ أم عبدٌ؟ فاستغربت الجارية من السؤال لوضوح أن سيدها حر فأجابت:بل سيدي حر، فقال الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):صدقتِ لو كان عبداً لاستحيا من مولاه، ولما عادت الجارية سألها سيدها بشر عن سبب تأخيرها فحكت له ما جرى فقال اذكري له أوصافه، فوصفت الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لسيدها، وهنا صحا بشر من سكره، وقال ذاك سيدي ومولاي موسى بن جعفر وفهم معنى الرسالة، بأن بشراً لو استشعر معنى العبودية لربه وخالقه الذي أغدق عليه نعماً لا تعد ولا تحصى لاستحيا منه ولم تصدر منه هذه المعاصي والقبائح، وسرعان ما خرج يبحث عن الإمام حتى وجده ووقع على يديه ورجليه يقبّلهما ويستغفر الله تعالى ويتوب على يديه وكانت توبته صادقة وارتقى في درجات الكمال ببركة كلمة صادقة من العبد الصالح، وما اكثر هذه الكلمات في بطون الكتب فاستخرجوها واستفيدوا منها.إن من أضاع شبابه في اللهو والعبث سوف يندم ويندب حظه السيء. عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(شيئان لا يعرف فضلهما الا من فقدهما:الشباب والعافية)(1) كما قال الشاعر:

ألا ليتَ الشبابَ يعودُ يوماً *** لاخبره بما فعلَ المشيبُ(2)

أما من اغتنم شبابه واستثمره في العمل الصالح والسلوك النظيف فانه لا يندم على انقضائه بل يفرح عند تذكره بلطف الله تعالى وعنايته به، روي أن ابراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما أصبح فرأى في لحيته شيباً شعرةً بيضاء، قال:(الحمد لله رب العالمين46

ص: 72


1- غرر الحكم: 5764.
2- البيت منسوب الى أبي العتاهية, أنظر: ديوان أبي العتاهية: 46

الذي بلّغني هذا المبلغ ولم أعصِ الله طرفة عين)(1).

عليكم أن تبنوا أنفسكم ثم تنطلقوا الى المجتمع:

إن عليكم أن تبنوا أنفسكم ثم تنطلقوا الى مجتمعكم فتبذلون وسعكم في توعيته وإصلاحه والمطالبة بحقوقه وأن توفّروا له القيادة الصالحة التي تؤسس له الحياة الكريمة كما أرادها الله تعالى لعباده، ولا تتقاعسوا أو تشعروا بالإحباط أو تنزووا أو تعتزلوا مجتمعكم، فإنكم تضرّون بذلك أنفسكم، وتحرمون أُمتكم من هذه الطاقات الخلاّقة التي عندكم، فأنتم محركو الامة وباعثو الحياة فيها.

إن الامم التي تقل نسبة الشباب فيها تقل قابليتها على النمو والازدهار كما هو حال اوربا اليوم حتى صارت تسمى (القارة العجوز) وقد جنت على نفسها بذلك لحماقتها واتباعها لشهواتها حيث العلاقات الجنسية غير المشروعة كبديل عن الزواج والتشجيع على قلة الانجاب وإباحة الاجهاض والشذوذ الجنسي للمثليين، ونحو ذلك، ومن الحلول التي ابتدعتها تشجيع هجرة ولجوء الشباب من الدول الاخرى خصوصا الاسلامية التي تتمتع بنسبة عالية من الشباب لتعوّض نقص الأيدي العاملة فيها.

ص: 73


1- علل الشرايع: 104 ح 2.

القبس /119: سورة لقمان:10

اشارة

{خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيرِ عَمَد تَرَونَهَا ۖ}(1)

سَقْفاً مَّحْفُوظاً:

ذكرت الآية عدداً من النعم الالهية ومعجزات الخلق قال تعالى {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} (لقمان:10).

خلقَ الله السماوات بكل تفاصيلها الهائلة الممتدة بغير حدود كالسقف للأرض الضئيلة التي نسبتها اليها كالعدم وهذه حقائق فلكية يعرفها حتى غير المختصين ممن له اطلاع على عجائب الكون. قال تعالى:{وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} (الأنبياء:32)، ومحفوظاً يمكن ان يكون معناها حافظاً اذ قد ياتي اسم المفعول بمعنى اسم الفاعل كقوله تعالى{حِجَاباً مَّسْتُوراً} اي ساتراً، وقد ثبت علميا ان غلاف الجو الغازي المحيط بالارض يقيها من اخطار الشهب والنيازك الساقطة عليها من جهاتها المختلفة.

ص: 74


1- كلمة مرتبطة بالقبس التالي من قوله تعالى{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ}.

والسقوف تحتاج الى اعمدة لتستند عليها لكن السماوات لم تستند الى اعمدة مرئية كالأعمدة المتعارفة وانما ثبتت واستمرت في وجودها واداء وظائفها, وفق مستندات غير مرئية، في رواية حسين بن خالد عن الامام الرضا(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انه قال:(سبحان الله! اليس الله يقول (بغير عمد ترونها) قلت:بلى، قال:ثَمَّ عمد ولكن لا ترونها)(1) وهي قوانين نظّم الله تعالى بها حركة الكون كقانون الجاذبية والكثافة والسرعة والكتلة ونحو ذلك، فهذه حقيقة علمية اشارت اليها الآية.

من عجائب خلق الكون:

وجعل تعالى على الارض جبالا راسيات تشبيهاً بالمرساة التي تثبّت السفينة في البحر وتحافظ على توازنها وتقودها الى الاستقرار على الساحل، وكذلك الجبال تحافظ على توازن الارض واستقرار حركتها وحفظها من الميلان والاضطراب، ولولاها لكانت الارض كالأرجوحة او كالبالون المنفوخ عندما يندفع الهواء منه بقوة فتتقاذفه الغازات من موضع الى اخر بلا استقرار وكذلك يحصل للأرض بسبب الغازات الهائلة في باطنها، او كانت الارض كالمياه التي تتعرض للمد والجزر باستمرار بفعل تأثيرات جاذبية القمر، فكانت الجبال سبباً لجعل {الاَرْضَ مِهَاداً} (النبأ :6) لأنها تعمل كسلسلة مترابطة الجذور مثل حديد التسليح للكونكريت، وهذه حقيقة علمية ثانية.

في معنى:وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ

{وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ} ونشر على الارض وفي المياه التي تغطي

ص: 75


1- تفسير البرهان: 2/ 278.

سطحها هذا التنوع الهائل من المخلوقات التي تدَبّ فيها بحركة دائبة، ففيها من احادية الخلية الى الانسان ذي التركيب المعقّد مما يعطي جمالية وتوازناً وتلبية للأذواق، وليُظهر الله تعالى قدرته وعلمه وحكمته، وليقيم الحجة على من يتصور عجز الخالق عن ايجاد شكل من الاشكال او نوع من الانواع(1)، وكنّا نقرأ في علم الحيوان ان عدد انواع الطيور فقط (900) الف نوع بحسب ما توصّلوا اليه آنذاك. فهذا التنوع معجزة من معجزات الخالق وحقيقة علمية يذكرها ولكل من هذه الانواع خصائصه وتركيبه الذي يناسب دوره في هذه الحياة، لتدحض ما زعمه دارون في نظريته (اصل الانواع)(2)، اذ ليست هذه الانواع مراحل متدرجة مرّت بها المخلوقات وارتقت فيه من نوع لآخر حتى وصلت الى ارقاها وهو الانسان، بل هي مخلوقة بهذا التنوع وبقيت على هذا التنوع ولم ينقلب احدها الى آخر.7.

ص: 76


1- في علل الشرائع: 1 /14 بسنده عن الامام الرضا(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقد سُئِل: لِمَ خلق الله سبحانه وتعالى الخلق على انواع شتى ولم يخلقهم نوعا واحدا، قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لئلا يقع في الاوهام انه عاجز ولا يقع صورة في وهم ملحد الا وقد خلق الله عز وجل عليها خلقا لئلا يقول قائل: هل يقدر الله عز وجل على ان يخلق صورة كذا وكذا، لانه لا يقول له من ذلك شيئا الا وهو موجود في خلقه تبارك وتعالى فيعلم بالنظر الى انواع خلقه انه على كل شيء قدير).
2- اختصر عالم الاحياء المجهرية المشهور البروفيسور (ميشيل دانتون) في كتابه (التطور: نظرية في مازق) رده على نظرية دارون في قوله (في عالم الجزئيات والاحياء المجهرية لا يوجد هناك كائن حي يعّد جدا لكائن اخر، ولا يوجد هناك كائن اكثر بدائية، او اكثر تطورا من كائن اخر) باعتبار كل كائن (ميسر لما خُلقَ له) بحار الانوار - ج5 ص157.

معنى:وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً

{وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} تعمر به الحياة {وَجَعَلْنَا مِ-نَ الْمَ-اء كُ-لَّ شَ-يْءٍ} (الأنبياء:30) وهيأ تعالى السماء والارض والمياه والرياح والحرارة وكل ما له دخل بنزول المطر بكيفيات تنظّم هذه النعمة وتديمها وهذه القوانين لا تدع اي عاقل يحتمل ان القضية عشوائية ووجدت صدفة(1) وهذه حقيقة علمية رابعة في الآية.

{فأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} (لقمان/10) وهذه الزوجية في النباتات وحاجتها الى التلقيح كالإنسان والحيوان بالطرق المختلفة المعروفة حقيقة علمية اخرى، ووُصِف النبات بانه كريمٌ لعطائه الواضح فهو غذاء الحيوان والانسان على كثرة افرادهما، ولأن الله تعالى نسبه اليه فنال التكريم بهذه النسبة، ولإظهار كمال العناية بهذه القضية انتقل بالضمير في هذا المقطع من الغائب الى المتكلم.

الخلق والتدبير والقيمومة:

ولعل هذه العناية الاضافية لأن هذه العجيبة – انزال المطر وانبات الارض- امتزج فيها الخلق مع التدبير والقيمومة التي هي من شؤون الربوبية وهي محل خلاف المشركين الذين لا ينكرون الخالقية لله تعالى وحده ولا يدّعون لآلهتهم ذلك {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (لقمان:25)، وانما يزعمون ان الهتهم تدبّر الكون وان الخالق اوكل اليها شؤون التصرف في

ص: 77


1- يأتي ما يتعلق بهذا الموضوع في القبس/163, {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ} (الملك :30), من نور القرآن: 5/ 139

المخلوقات {أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار} (يوسف:39) فيحتج عليهم بان تلك الالهة لو كان لها تدبير لكان عليها ان تخلق ادوات ووسائل هذا التدبير كإنزال الماء من السماء وانبات الارض، واذا عجزوا عن الخلق فهم عاجزون عن التدبير، فلا مدبّر ولا ربّ ولا خالق ولا اله الا الله تبارك وتعالى.فهذه حقائق علمية عديدة ومعجزات هائلة في الخلق جمعتها اية واحدة فكان مجيئ اية {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} تلقائيا وطبيعيا بعد الآية المذكورة.

ص: 78

القبس /120: سورة لقمان:11

اشارة

(هَٰذَا خَلقُ ٱللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ ۚ)

معنى الخلق:

{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} اي هذه مخلوقات الله تعالى ف- (خلق) اسم مصدر بمعنى المفعول، في تفسير القمي {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} اي مخلوق الله، لان الخلق هو الفعل، والفعل لا يُرى وانما اشار الى المخلوق، والى السماء والارض والجبال وجميع الحيوانات فأقام الفعل مقام المفعول(1).

ماذا وجد من فقدك:

{فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} من الآلهة والشركاء التي يدّعونها، وهذه الدعوة تتضمن عدة معانٍ:

1-تحدي المشركين والملحدين والكفار ليقدّموا ما صنعته الهتهم التي يعبدونها من دون الله، فاذا عجزوا - وهم عاجزون قطعاً حتى عن استنقاذ ما يسلبهم الذباب منه وهم يعلمون بعجزهم- فليذعنوا بألوهية الله تبارك وتعالى وليثوبوا الى رشدهم وليحترموا عقولهم، فالآية فيها تحدي وتعجيز وانتزاع للإقرار منهم.

ص: 79


1- تفسير البرهان: 7 / 278.

2-اظهار حب الله لخلقه وتكريمه تعالى اياهم واحترامه لهم باعتبارهم صنعا جميلا له تبارك وتعالى حتى انه سبحانه يتباهى بهم امام الاخرين فيقول {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} كما ان الصنّاع المبدعين يتباهون بما صنعوا امام اهل المهنة والزبائن.

3-تذكير عباده بنعمته العظيمة ومعجزاته في خلقه التي يغفلون عنها لطول الفتهم لها واعتيادهم عليها ولجهلهم او أي شيء اخر فتراهم يقفون مبهورين امام جهاز يصنعه الانسان ويتقن صنعه لكنهم يمرّون معرضين على هذا الخلق العجيب.

4-الفات نظرهم الى تجليات صفاته الحسنى في صنعه من القدرة والعلم والحكمة والعظمة والإنعام ونحو ذلك ليزدادوا معرفة بربهم {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الافَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت:53).

الذين ظلموا أنفسهم:

وهنا يأتي الحكم النهائي الذي يصدره كل عاقل منصف على من لم

يُذعن بهذه الحقائق وليتوجه الى خالقه الحقيقي {بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (لقمان:11) الذين ظلموا انفسهم بعدم اتباع الحق {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان:13) رغم كل هذه الحجج الدامغة {فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} (الأنعام:149)، فعبدوا وخضعوا لآلهةٍ من دون الله تعالى سواء كانت مادية صنعوها من الحجر او الخشب او التمر او اعتبارية صنعوها من شهواتهم وحماقاتهم او صنعها الاخرون من جبابرة وطواغيت او اسواق مالية او الفن او الرياضة ونحو

ص: 80

ذلك من الرموز التي تعبد وتُطاع من دون الله تعالى، فمن اضّل من هؤلاء، ومن هو احمق واجهل منهم {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف:179).

العلم والإيمان جناحا المعرفة:

بعد هذا العرض المختصر لما نفهمه من الآية الكريمة نقول انكم – معاشر الأطباء(1) والمتخصصين في العلوم الطبية والعلاجية- اقدر الناس على فهم المعاني التي ذكرتُها لهذه الآية من الانبهار والتحدي بخلق الله تعالى والفات النظر الى عظيم نعم الله تعالى لأنكم وقفتم على التفاصيل المذهلة في جسم الانسان وفي كل ذرة من ذراته، ومما ينسب الى امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:

أتحسب انك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبرٌ(2)

ويكون ايمانكم وتدينكم حينئذٍ ذا قيمة اكبر لأنه عن معرفة ووعي وبرهان.

قرأت كتاباً في فسلجة جسم الانسان صدر في اوائل سبعينيات القرن الماضي أبّان المواجهة بين الايمان والالحاد وكان عنوانه (الطب محراب الايمان) وهي اطروحة دكتوراه في هذا الاختصاص وذُهلتُ من عجائب خلق الانسان

ص: 81


1- تحدث سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) بهذه الكلمات مع حشد من اطباء الاختصاص واساتذة في كلية الطب والصيدلة من عدة مدن عراقية يوم السبت 14/محرم الحرام/1436 المصادف 8/ 11/ 2014.
2- جواهر المطالب في مناقب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- ابن الدمشقي: 2/ 136,- أعيان الشيعة- السيد الأمين: 1/ 552

وبنفس الوقت اصابني الرعب لان اي اختلال في موازين هذه القوى والهرمونات او اداء اعضاء لوظائفها – وهي عبارة عن مصانع معقدة ضخمة- فانه يؤدي الى كارثة صحية تجعل الحياة بائسة لولا لطف الله تبارك وتعالى.فهنيئا لكم هذه النعمة العظيمة اذ بعد تحصيلكم لهذا العلم الشريف وُفِّقتم لممارسته هذه المهنة النبيلة ذات الوزن الكبير في ميزان الاعمال الصالحة لان فيها انقاذ حياة الناس والتخفيف من آلامهم وادخال السرور عليهم وتفريج الكروب عنهم وهي من اعظم القربات الى الله تعالى وثوابها عند الله عظيم في الدنيا والاخرة مع اخلاص النية والعمل لما عند الله تبارك وتعالى.

تجارة مربحة:

هذا ولكن الامام الحسين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يدلّنا على تجارة اربح من تجارتكم العظيمة هذه، وتستطيعون الجمع بينهما من خلال حديثه الآتي، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لرجل:(ايهما احبُّ اليك، رجل يروم قتل مسكين قد ضعُف تنقذه من يده، او ناصب يريد اضلال مسكين من ضعفاء شيعتنا تفتح عليه ما يمتنع به ويفحمه ويكسره بحجج الله تعالى) قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(بل انقاذ هذا المسكين المؤمن من يد هذا الناصب، ان الله تعالى يقول َ{مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعا} (المائدة:32) اي ومن احياها وارشدها من كفرٍ الى ايمان فكأنما احيا الناس جميعا من قِبلَ ان يقتلهم بسيوف الحديد)(1).

فهذه المعرفة وهذا الايمان الذي اكتسبتموه من مشاهدة وبرهان مع

ص: 82


1- بحار الانوار: 2 / 9 ح17 عن تفسير العسكري: 348 / ح 231.

ماتضيفون اليه من معارف دينية واخلاقية وفكرية تستطيعون نقلها للآخرين فتجعلون منها وسيلة للهداية والاصلاح وتحصين اخوانكم من الانحراف فتسيرون بذلك على خُطى الانبياء والمرسلين والائمة (صلوات الله عليهم اجمعين).ان مجتمعنا خصوصا جيل الشباب يتعرضون لهجمات متنوعة من الداخل والخارج مليئة بالشبهات والفتن والضلالات لإبعادهم عن الدين القويم والصراط المستقيم فلابد من ان تتعبوا انفسكم وتتسلحوا بالعلم والمعرفة ونشرها لتحصين شبابنا من الانحراف الفكري والاخلاقي.

تأتيني رسائل عديدة من الشباب عبر الايميل يتحدثون فيها عمّا يتعرضون له اثناء ايفادهم خارج العراق من مؤثرات وغسيل دماغ بأساليب علمية ينبهر بها المتلقي فيتبع اجنداتهم، وهم مخادعون يعطونه نصف الحقيقة، ويوهمونهُ انها تنفي وجود الخالق او تؤدي الى عدم الحاجة الى الدين ونحو ذلك ولو اعطوا الحقيقة كاملة لوجدوها لا تنافي الدين على اقل تقدير وربما ستجدها مؤيدة للثوابت الدينية بل ان تعاليم الدين سبقت العلم الى الكثير من الحقائق التي اكتشفها لاحقاً وقد رأينا كيف صوّروا نظرية اصل الانواع او الانفجار العظيم او علم الداينتكس على انها تنفي وجود الخالق مع انها على العكس تماماً ولكن تحتاج الى اخذ المعلومة كاملة.

ص: 83

القبس /121: سورة لقمان:17

اشارة

(وَأمُر بِٱلمَعرُوفِ وَٱنهَ عَنِ ٱلمُنكَرِ وَٱصبِر عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ)

موضوع القبس: وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر قرآنيا:6

وصف الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حديث مروي عنه فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأنها (أسمى(1) الفرائض وأشرفها) وجاء فيه:(إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:سبيل الأنبياء، ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة، بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتَحِلُّ المكاسب، وتُرَدُّ المظالم، وتُعمر الأرض، ويُنتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر)(2).

وروي في فضل هذه الفريضة وشرفها عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(وما أعمال البرِّ كلها، والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا كنفثة في بحر لجّيّ)(3).

هذه هي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في شرفها وأهميتها،

ص: 84


1- هذا في رواية الكافي، وفي التهذيب: (أتم الفرائض).
2- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 1، ح6.
3- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 1، ح18.

وعظيم بركاتها وآثارها على الفرد والمجتمع، وإن واحداً من هذه الآثار كفيل بأن يجعلها في الصف الأول من الفرائض فكيف بمجموعها، لذا كانت أعظم من مجموع أعمال البرّ والجهاد في سبيل الله كما في كلمة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وأن نسبة مجموع تلك الأعمال إلى هذه الفريضة كالنفثة –وهي ما يمازج النفس من الريق عند النفخ- بالنسبة إلى البحر العميق الواسع.ويكفي هذه الفريضة شرفاً أن تكون هدف الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من نهضته ودفع دمه الشريف ودماء أهل بيته وسبي عقائل النبوة ثمناً لإحياء هذه الفريضة، كما عبّر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) صريحاً بقوله:(وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، أريد أن أأمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب) (1)، وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ألا ترون أن الحق لا يُعمل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقّاً)(2).

وأشار الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى ذلك بتعبير آخر في الزيارة المخصوصة بيوم الأربعين فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة)(3) وهي من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ومن الطبيعي أن تحظى الفريضة بهذه الأهمية والمكانة العظيمة عند الشارع المقدس، لأن كل أمة – والأمة:هي الجماعة التي يجمعها أمر تشترك به ويكون محور اجتماعها ومحط أنظارها- لا يكتب لها البقاء والاستمرار إلا إذا حصّنت17

ص: 85


1- بحار الأنوار- العلامة المجلسي: 44/ 329
2- اللهوف في قتلى الطفوف- ابن طاووس:48
3- تهذيب الأحكام- الشيخ الطوسي:6/ 113/ح17

نفسها بالتدابير اللازمة من الداخل والخارج ضد الأعداء الذين يريدون القضاء عليها، بتفكيكها وتمزيقها وإضعافها من الداخل، أو باستئصالها والقضاء عليها من الخارج.وهذا هو شأن الدول أيضاً، لذا تتضمن المؤسسات الحاكمة في الدول المتحضرة وزارتين عُدّتا سياديتين لارتباط سيادة الدولة وحفظ وجودها بهما، وهما وزارة الداخلية لحفظ الأمن الداخلي وحماية النظام العام، ووزارة الدفاع لحماية حدودها وسيادتها من الاعتداءات الخارجية.

ويمكن تصور نفس الشيء في الأفراد، فقد زوّدهم الله تعالى بقوة لحماية سلامتهم من الداخل وهي المناعة التي توفرها كريات الدم البيض وسائر الاحتياطات الأخرى لوقايته من الأمراض والجراثيم والفايروسات التي تهاجم أجهزة بدنه، وزوّده بالسلاح الذي يدافع به عن نفسه من الاعتداء الخارجي، قال تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحديد:25).

وقد أراد الله تعالى لهذه الأمة الإسلامية أن تكون خير أمة أخرجت للناس بنص الآية الشريفة، وأن تكون أمة خاتم الأنبياء ووارثة الأمم السابقة والمستخلفة في الأرض {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} (القصص:5).

فلا بد من اتخاذ التدابير اللازمة لحفظ كيانها من الداخل وحمايته من

ص: 86

عوامل النخر والانهيار كالنفاق والجهل والتخلف والخرافات والفساد والرياء والشبهات والفتن والضلالات، فكانت وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.وشرّع في عرضها وظيفة أخرى لحماية كيان الأمة المسلمة ودولتها من الخارج ولنشر دعوة الإسلام إلى الأمم الأخرى وإزالة كل العوائق التي يضعها الطواغيت والمستكبرون في طريق تعرّف الأمم الأخرى على الإسلام ليختار كل واحد منهم عقيدته بحرّية {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} (الأنفال:42) فكانت فريضة الجهاد.

فوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة (سيادية) بالمصطلح السياسي المتداول، لقيام وجود الأمة وديمومتها وحفظ رسالة الإسلام من التحريف والتشويه والدس والتأويل بغير ما أنزل الله تعالى بهذه الفريضة، ولولا قيام من انتجبهم الله تعالى بها لما بقي من الإسلام إلا اسمه ومن القرآن رسمه، كالذي حلّ بالديانات السابقة على الإسلام، ففي الحديث الشريف المروي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):ويحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين، وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين، كما ينفي الكير خبث الحديد)(1).

ولكن القائمين بهذه الفريضة قليل، والجهد المطلوب لمكافحة الانحراف والفساد والتزوير كبير جداً، لذا انحرفت سيرة المسلمين ومسيرتهم منذ اللحظة الأولى بعد رحيل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلى الرفيق الأعلى.د.

ص: 87


1- سفينة البحار: 1/ 204 عن رجال الكشي، والكير: الزق الذي ينفخ فيه في الحداد.

وهذا ما حذّر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أمته من الوقوع فيه، وحذّر من التداعيات التي تحصل عقب ترك هذه الفريضة العظيمة، من ضياع القيم وانقلاب المنكر معروفاً والمعروف منكراً، فلا يستطيع أحد حينئذٍ أن يصلح ويغير لأن ما يأمر به من المعروف سيبدو منكراً لأن الناس يرونه معروفاً، وهو ما ابتلي به المصلحون على مرّ الدهور، وهذا أحد وجوه فهم الحديث الشريف عن الإمام المهدي (عج) أنه يأتي بدين جديد وقرآن جديد، لرسوخ الحالة المزيفة المقابلة للحق.وقد ورد تحذيره (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هذا في حديث مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟ فقيل له:ويكون هذا يا رسول الله؟ فقال:نعم، وشرٌّ من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ فقيل له:يا رسول الله، ويكون ذلك؟ قال:نعم، وشرٌ من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً)(1).

وهذه المراحل من الانحطاط كما ينتكس إليها المجتمع كذلك يرتكس فيها الفرد، فإنه في بداية الأمر له فطرة وضمير يعرف به الحق والباطل والحسن والقبيح فيرتاح إذا فعل الأول ويؤنّبه ضميره إذا فعل الثاني. لكنه بتزيينٍ من الشيطان وضغطٍ من النفس الأمارة بالسوء وعوامل أخرى يخالف هذا الضمير الداخلي من دون أن يصلح ما صدر منه ويعود إلى رشده، بل ينتقل إلى المرحلة الثانية عندما تأخذه العزة بالإثم ويكابر ويغالط فيحاول إقناع نفسه بما فعل أو2.

ص: 88


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 1، ح12.

تبريره أو الهروب منه بارتكاب مزيد من الخطأ ومقارفة الخطيئة كمن يهرب من جريمته بشرب المسكر أو بجريمة أخرى ليتناسى جريمته الأولى. ثم تأتي المرحلة الثالثة عندما يسودّ قلبه ويموت ضميره ويُطبع على قلبه ويتحول إلى شيطان فيرى المعروف منكراً والمنكر معروفاً.وعلى أي حال فقد حصل هذا الانقلاب في المفاهيم والقيم في وقت مبكر في صدر الإسلام وبلغ ذروته في عهد يزيد رغم حداثة العهد بنبي الإسلام (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، ولا زال جملة من الصحابة وبعض أزواج النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على قيد الحياة، فقام الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لإحياء هذه الفريضة كما في النصوص التي قدمنا ذكرها.

ويبدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أسفه للحال الذي وصلت إليه الأمة بسبب تضييعها لهذه الفريضة، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما طلب منه والي المدينة البيعة ليزيد:(إنا لله وإنا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام إذا ابتليت الأمة براعٍ مثل يزيد)(1).

وهي النتيجة التي حذّرهم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من الوقوع فيها، ففي الكافي والتهذيب وعقاب الأعمال بالإسناد عن الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إذا أمتية.

ص: 89


1- موسوعة كلمات الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 346، عن مقتل الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) للخوارزمي: 184، والفتوح: 5/ 17. ويلاحظ أن الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لم يذكر يزيد باسم أبيه في جميع كلماته؛ لأن أم يزيد حملت به وهي خارج بيت الزوجية عندما حصلت قطيعة وهجران بينها وبين معاوية وذهبت إلى أهلها مدة طويلة.

تواكلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من الله)(1).وروى الشيخ الطوسي (قدس سره) في التهذيب عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال:(لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البرّ، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسُلّط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء)(2).

ومما يؤسف له أن هذا التهاون في أداء الفريضة على الصعيد العملي تحول تدريجياً في أذهان جملة من الفقهاء إلى عدم الاهتمام بشأن هذه الفريضة في الآثار الفقهية المباركة – سواء كانت متوناً فقهية، أو كتباً استدلالية- إما لحرص العلماء الأعلام على تناول المسائل الابتلائية أو خشية من بعض الممارسات التي حصلت بسبب سوء التطبيق بحيث اتخذ عنوان هذه الفريضة لتحقيق مكاسب شخصية، أو تنفيذ مخططات للسلطة عندما كانت تتبنى ذلك، هذا من جانب ومن جانبٍ الكتب الاستدلالية، فلعل عدم التعرض لعدم وجود مطالب معمقة فيها تستحق جعلها موضوعات للأبحاث الاستدلالية، ففيهم من لم يتعرض لهذه الفريضة أصلاً(3)، ومنهم من تعرض لها باقتضاب – كالديلمي في المراسم- أوة.

ص: 90


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 1، ح4.
2- نهج البلاغة: ج4، باب الحكم والمواعظ، رقم 373.
3- أما المتون فكالمقنع للصدوق والانتصار والناصريات للسيد المرتضى والمبسوط للشيخ الطوسي وجواهر الفقه للقاضي، والغنية لابن زهرة. وأما الاستدلالية فكالمحقق البحراني في الحدائق والسيد العاملي في مفتاح الكرامة.

ضمن كتاب الجهاد كالكليني في الكافي والشيخ (قدس سره) في التهذيب حيث جعله الباب الأخير من كتاب الجهاد ذي الثمانين باباً، كما خلت رسائل عملية كثيرة من هذا الكتاب.وهذه المعطيات تلزمنا ببذل جهد إضافي لإحياء هذه الفريضة العظيمة علماً –من خلال إشباعها بالبحث وإثارة تفاصيلها-، وعملاً –بتفعيلها في حياة الأمة وضبط حركتها بقواعد الشريعة- والله ولي التوفيق وهو المستعان.

إن عملية الإصلاح التي هي رسالة الأنبياء والأئمة (سلام الله عليهم أجمعين) {إنْ أُريدُ إلا الإصْلاحَ مَا استَطَعْتُ وَمَا تَوفِيقِيَ إلا بِاللهِ} (هود:88) إنما تتحرك وتُنفَّذ على أرض الواقع من خلال هذه الفريضة المباركة والدعوة إلى الخير، فإحياء هذه الفريضة يعني مواصلة تأدية رسالة الرسل والأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) في كل ميادين الإصلاح(1) السياسي والاجتماعي والفكري والأخلاقي والتشريعي والاقتصادي.

فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القرآن الكريم:

وقد اهتم القرآن الكريم بهذه الفريضة أيّما اهتمام، وأوصل اهتمامه بها إلى العباد بأنحاء مختلفة:

(الأول) الأمر المباشر بها والعاقبة السيئة لتاركها، وأن سبب النجاة هو القيام بهذه الفريضة، أما من تركها ومن فعل عكسها فيشملهم العذاب.

كقوله تعالى:{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران :104)

ص: 91


1- راجع القبس/65 {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ} (هود:88), من نور القرآن: 2/ 249.

وقوله تعالى:{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (آل عمران :110).وقوله تعالى على لسان لقمان:{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (لقمان:17).

وقوله تعالى:{لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} (المائدة :63).

وقوله تعالى:{فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} (هود :116).

وقوله تعالى:{وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} (الأعراف :164- 165).

وقوله تعالى:{كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} (المائدة :79).

وقوله تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف:199).

ص: 92

(الثاني) إيراد هذه الوظيفة كصفة بارزة للربانيين والمؤمنين والدعوة للتأسي بهم:كقوله تعالى:{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل :90).

وقوله تعالى:{الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج :41).

وقوله تعالى:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ} (الأعراف:157).

وقوله تعالى:{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} (التوبة:67).

وقوله تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَ-ئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة :71).

وقوله تعالى:{الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (التوبة :112).

أقول:فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صفات المؤمنين، ولازمه أن تاركها يخرج من دائرة الإيمان ولو بمرتبة من المراتب.

(الثالث) سوق هذه الوظيفة كغرض للتكاليف المهمة، وأن تركها هو همّ

ص: 93

الشيطان:كقوله تعالى:{إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} (العنكبوت:45).

وقوله تعالى:{وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} (النور:21).

(الرابع) الأوامر العامة والمطلقة التي تنطبق على هذه الوظيفة أو فُسِّرت بها:

كقوله تعالى(1):{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُ-مْ نَ-اراً وَقُودُهَ-ا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم :6).

ففي الكافي وتفسير القمي بإسنادهما عن أبي بصير قال:(سألت أبا عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن قول الله عز وجل:{قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} قلت:كيف أقيهم؟ قال:تأمرهم بما أمر الله، وتنهاهم عما نهى الله، فإن أطاعوك كنت قد وقيتهم، وإن عصوك كنت قد قضيت ما عليك)(2).

وفي الكافي عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لما نزلت هذه الآية جلس رجلٌ يبكي وقال:أنا عجزتُ عن نفسي وكُلِّفت أهلي! فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):حسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك، وتنهاهم عما تنهى عنه نفسك).

ويجري هذا العنوان على آيات كثيرة كقوله تعالى في سورة العصر:{إِلا7.

ص: 94


1- تناولناها بشكل مفصّل في القبس/159 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} (التحريم:6), من نور القرآن: 5/ 89.
2- الكافي: 5/ 62، ح1، 2. تفسير القمي: 2/ 377.

الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (العصر:3).أقول:لعلها من أهم الآيات(1) في بيان عظمة هذه الفريضة حيث أقسم الله تعالى بأن الإنسان في خُسر ولا يكفي للنجاة من هذا الخسران الإيمان والعمل الصالح وحدهما، بل لا بد أن ينضمّ معهما التواصي بالحق والتواصي بالصبر وهو شكل من أشكال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فالآية تفيد أن صلاح الإنسان في نفسه بالإيمان والعمل الصالح لا يكفي ولا بد أن يبذل وسعه في إصلاح الآخرين بشكل مكثف ومتواصل المعبّر عنه بالتواصي.

وقوله تعالى:{وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَ-كِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة:251).

وقوله تعالى:{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج:40).

والدفع يتحقق بفريضتي الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والآيتان تحذّران من مغبّة ترك الفريضة لأن عاقبته امتلاء الأرض بالفساد واضمحلال الدين وكيان المسلمين(2).91

ص: 95


1- تناولناها بشكل مفصّل في القبس/181 {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (العصر:3), من نور القرآن: 5/ 302.
2- راجع القبس/102 {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} (الحج:40), من نور القرآن: 3/ 191

وقوله تعالى:{وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة:2).أقول:أوضح مصاديق الآية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} (النساء:135).

وقوله تعالى:{وَاصبِر عَلَى مَا أَصَابَكَ} (لقمان:17)، في مجمع البيان عن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(اصبر على ما أصابك من المشقة والأذى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)(1).7.

ص: 96


1- البرهان: 7/ 287.

القبس /122: سورة الأحزاب:21

اشارة

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}

موضوع القبس:دعوة الى التأسي برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)

الاسوة بمعنى القدوة الذي يُتبَّع في الأقوال والأفعال والصفات الشخصية، فالأسوة لك هو من لك به اقتداء والأسوة من الاتسّاء كالقدوة من الاقتداء فهو اسم وضع موضع المصدر على وزنُ فعله كاللُقمة والأُكلة حيث تقال لما يُفعل به فالأسوة ما يؤتسى به وأصلها (أسو) بمعنى المداواة والإصلاح لذا يوصف الطبيب بأنه (آسي)، ويصلح به من الأفعال والصفات.

والآية وإن كانت بصيغة الأخبار الا انها تتضمن الدعوة والالزام بالتأسي برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في أقواله وأفعاله وغاياته وأهدافه وصفاته وملكاته لأن الانسان لابد له من أسوة وقدوة ليتعلم منه ويأخذ عنه، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه)(1) فعليه أن يتحقق من كون الأسوة حسنة صالحة ليتبعها قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)(إن أئمتكم وفدكم إلى الله، فانظروا من توفدون في دينكم وصلاتكم)(2).

ص: 97


1- نهج البلاغة: الخطبة 45 من كتابه الى عثمان بن حنيف
2- ميزان الحكمة :ج 1 / ص 124 عن البحار: 23 / 30 / 46.

وتضيف الآية بأنه لا يستجيب لهذه الدعوة ولا ينتفع بها الا من وثق بالله تعالى وما عنده من الثواب الجزيل وخاف الآخرة وحرص على جلب الخير والسعادة والكمال والفوز في الآخرة لنفسه {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب :21).ومن الطبيعي أن يختار الله تعالى لنا رسوله الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ليكون الأسوة الحسنة لنا لأنه أكمل الخلق وأرقى نماذج الإنسانية وقد اجتمعت فيه كل صفات الكمال، وكيف لا يكون كذلك وقد تولى الله تعالى صنعه وتربيته وتأديبه بحسب الحديث الشريف (أدبني ربي فأحسن تأديبي)(1)، ومن بعده الائمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من اهل بيته، قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (من سره أن يحيى حياتي، ويموت مماتي ويسكن جنة عدن التي غرسها الله فليوال عليا من بعدي، وليوال وليه، وليقتد بالأئمة من بعدي، فإنهم عترتي خلقوا من طينتي، رزقوا فهما وعلما)(2)، وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال في بيان منزلة الائمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) (هم أبواب العلم في امتي، من تبعهم نجا من النار، ومن اقتدى بهم هدي الى صراط مستقيم، لم يهب الله عز وجل محبتهم لعبد الا ادخله الجنة)(3).

وبذلك يكون اتخاذ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أسوة حسنة طريقاً لتطبيق الآية {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} (النحل :60) فقد صنعه الله تعالى ليكون وسيلة تحقيق هذا42

ص: 98


1- بحار الأنوار: 16/ 210، 68/ 382 ، 108 / 222
2- بحار الأنوار:ج 23 / ص 139/ ح85
3- ميزان الحكمة: 1/ 116 / عن امالي الصدوق: 74/ 42

الغرض فهو كتاب الله الناطق، وروي عن احدى أزواجه انها سئلت عن أوصافه فاختصرت الجواب قائلة (كان خلقه القرآن)(1)فالتأسي به (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) اتباع للقران الكريم، قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)(الا واني تارك فيكم الثقلين:احدهما كتاب الله عز وجل، هو الحبل الى الله، ومن تبعه كان على هدى، ومن تركه كان على الضلالة) فاصل ما يُتأسى به القران الكريم وسنة رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فهما صنوان لا يفترقان(2).

وكما ان القرآن شفاء وهدى ورحمة ونور وبيان وذكر ومبارك وحكيم ونحو ذلك مما ذكره القران الكريم فان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كذلك، وان القرآن وصف نفسه بأن فيه {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (النحل :89) و {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (الأنعام :38) فكذلك رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سفر واسع يجد فيه التواقون الى الكمال وطالبو السعادة والفلاح والنجاة كل ما يريدون.

أن التأسي يعني جعل حياة الأسوة الحسنة معياراً وميزاناً لسلوك المتأسي وصفاته ويجعلها فرقاناً في حياته يميزّ به بين ما يصح فعله وما لا يصح، ويسعى المتأسي الى ان يكون مثالاً ونسخة من الاسوة.

وصّور امير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) اكمل صور التأسي برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وقد كنت أتبعَهُ إتباع الفصيل أثر أمّه، يرفع لي في كل يوم من اخلاقه عَلَما، ويأمرني بالاقتداء به)(3)2.

ص: 99


1- شرح نهج البلاغة لابن ابي حديد: 6/ 340
2- ميزان الحكمة: 1/ 115 عن صحيح مسلم: 4/ 1874/ ح2408
3- نهج البلاغة:الخطبة القاصعة رقم 192.

إن تقديم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كأسوة حسنة يتطلب دراسة سيرته المباركة وتحليلها وعدم الاكتفاء بالسرد التاريخي والروائي لتشخيص جوانب التأسي سواء على صعيد حياته الشخصية وملكاته وصفاته الذاتية أو على صعيد منهجه في سياسة الأمة ورعاية شؤونها وقد قمتُ بمحاولة في هذا المجال وطبعت في كتاب (الأسوة الحسنة).وبالعودة إلى الآية الكريمة محل البحث نقول انها وقعت في سياق الحديث عن معركة الأحزاب وما رافقها من أهوال وكوارث ومخاوف حتى قال تعالى {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} (الأحزاب :10 – 11) لكن اقتحام النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بنفسه الشريفة ميدان العمل فيضرب بالمعول هنا ليحفر الخندق، ويحمل التراب هناك، ويشارك المجاهدين في اهازيجهم واشعارهم الحماسية، رفع من الروح المعنوية لهم وسكب عليهم الطمأنينة حتى أنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان أحياناً يلاطفهم ويرطب الأجواء فهو (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أسوة في شجاعته(1) وثباته وتواضعه وصدقه وتسليمه وعمله الدؤوب وحسن تخطيطه وتفانيه في سبيل الحق وغير ذلك مما افرزته سيرته المباركة والصبر على ذلك كله، روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (ولأن الصبر على ولاة الأمر مفروض لقول الله عز و جل لنبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ){فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ .

ص: 100


1- روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (كنّا اذا احمّر البأس ولقي القومُ القومَ اتقينا برسول الله ص)) فما يكون أحد أقرب الى العدو منه) (بحار الأنوار: 16/ 232) .

الرُّسُلِ} (الأحقاف :35) وإيجابه مثل ذلك على أوليائه وأهل طاعته بقول {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(1) .ولا يصح حصر مفاد الآية في تلك الأحداث بل هي دعوة عامة (لكم) أي لجميع البشرية أن تتأسى بالنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) اقتدوا بهدي نبيّكم فإنه افضل الهدي، واستنوا بسنته فإنها اهدى السنن)(2)، و(كان) هنا ليست كان الناقصة التي تعني ثبوت الوصف في زمان وارتفاعه في زمان آخر، بل هي كان التامة التي تفيد الثبات لأنه من شأنه ذلك وقد سبقتها (اللام) و (قد) لتفيد التحقق والتأكيد.

قال امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فتأسَّ بنبيك الأطيب الأطهر، (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فإن فيه أسوة لمن تأسى وعزاء لمن تعزى. وأحب العباد إلى الله المتأسي بنبيه، والمقتص لأثره.

قضم الدنيا قضما، ولم يعرها طرفا. أهضم أهل الدنيا كشحا، وأخمصهم من الدنيا بطنا، عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها، وعلم أن الله تعالى أبغض شيئا فأبغضه، وحقر شيئا فحقره، وصغر شيئا فصغره.

ولو لم يكن فينا إلا حبنا ما أبغض الله ورسوله، وتعظيمنا ما صغر الله ورسوله لكفى به شقاقا لله تعالى ومحادة عن أمر الله تعالى)(3)60

ص: 101


1- نور الثقلين: 4/ 535 ح 38.
2- نهج البلاغة: خطبة 110
3- نهج البلاغة: خطبة 160

وروى في مجمع البيان إن ثعلبة بن حاطب وكان رجلاً من الأنصار قال للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (ادع الله أن يرزقني مالاً، فقال:يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، اما لك في رسول الله أسوة حسنة، والذي نفسي بيده لو أردتُ أن تسير الجبال معي ذهباً وفضة لسارت)(1)، فلم يتأسَّ بنبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وآل أمره إلى الخسران وروي أنه المقصود بقوله تعالى {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} (التوبة :75)ولا شك في عدم قدرة أحد على الوصول إلى منزلة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لكننا مطالبون ببذل الوسع في تحقيق الحالة قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن اعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد)(2) وكلما حالة التأسي ارتقت منزلة المتأسي، قال تعالى {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} (إبراهيم :36) وقال تعالى {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} (آل عمران :68)

إن التأسي به (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لا يقتصر على حياته الشخصية فنستفيد منها في حياتنا كأفراد بل على القادة أن يتاسوا به كأعظم قائد ومصلح عرفته البشرية واستطاع تأسيس خير أمة أخرجت للناس، وإن في سلوكه مع أصحابه في معركة الأحزاب درساً لكل المصلحين والقادة والزعماء والمسؤولين، وهكذا على الآباء أن يتأسوا به كأب والأزواج كزوج والأصدقاء كصديق والمربيّن كمربي والسائرين الى الكمال كأفضل خلق الله تعالى، فهو (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) طبيب آسي حقاً كما وصفه أميريف

ص: 102


1- مجمع البيان: 5/ 52، نور الثقلين: 4/ 535 ح 39
2- نهج البلاغة: 3/ 70 رقم 45 من كتابه الى عثمان بن حنيف

المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّه قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَه - وأَحْمَى مَوَاسِمَه يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْه - مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ وآذَانٍ صُمٍّ - وأَلْسِنَةٍ بُكْمٍ - مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِه مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ - ومَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ)(1) .لقد ورد لفظ الأسوة الحسنة في القرآن الكريم في موضع آخر، قال تعالى {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا} (الممتحنة :4) وقال تعالى بعدها {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} (الممتحنة:6) لكنها دعوة للتأسي بموقف محدد ذكرته الآية، اما الأسوة المحمدية فهي مطلقة في كل شيء، ولذا استدل بعضهم بالآية على عصمة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأن الله تعالى لا يدعو الى التأسي والاقتداء بأحد في كل شيء الا اذا كان معصوماً من الخطأ والزلل، وتدل بالتبع على عصمة أئمة اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) امر باتباعهم والاقتداء بهم كما في الاحاديث المتقدمة.

ولا يخفى ما في الآية من تعريض بكثير من المسلمين الذين كانوا جزءاً من المجتمع الإسلامي الملتصق برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الا أنهم لم يحسنوا التأسّي برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وخالفوه عن علم وعمد والشواهد كثيرة من سيرة الصحابة في حياته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبعدها كصلاة التراويح التي أقاموها رغم نهي النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن صلاة الجماعة في المستحبات(2)، وتحريم المتعة رغم إقرارهم بترخيص النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فيها(3)، والفرار من المعارك وترك النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) محاطاً بالأعداء(4)، والانقلاب علىة.

ص: 103


1- نهج البلاغة: 207/ خطبة رقم: 108
2- أنظر: صحيح البخاري: 7/ 99.
3- أنظر: بحار الأنوار- المجلسي: 30/ 637- 53/ 28.
4- أنظر: مسند أحمد- أحمد بن حنبل: 9/ 282, ط. الرسالة.

الاعقاب في حياته وعند وفاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، واقصاء أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من بعده رغم أخذه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) البيعة منهم على ولايته بعده(1) وظلم أهل بيته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وغيرها.ان وجود الأسوة الحسنة على الأرض من أعظم وسائل الاقناع برسالة الإسلام، وان كثيراً من الناس دخلوا الإسلام من دون ان يقرأوا أو يسمعوا عنه شيئاً لكنهم رأوا سيرة الأسوة الحسنة وهو النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من أهل بيته فاقتنعوا بأحقية ما يدعون إليه.

وان تأثير رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في أصحابه مما شهد به اعداؤه حتى تملكهم الرعب وملأهم يأساً واحباطاً، ولنأخذ شاهداً على ذلك قول زعيم ثقيف عروة بن مسعود الثقفي لما أرسلته قريش ليستطلع خبر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عندما نزل الحديبية هل يريد زيارة البيت الحرام أم قتالهم، روى ابن هشام قال (فقام من عند رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقد رأى ما يصنع به أصحابه، لا يتوضأ الا ابتدروا وضوءه، ولا يبصق الا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شيء الا أخذوه، فرجع الى قريش فقال:يا معشر قريش:اني قد جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه، واني والله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء أبداً، فروا رأيكم)(2).

وهذا يبرز أهمية وجود الأسوة الحسنة في حياة الأمة، لعدم إمكان التفكيك بين الرسالة وحاملها وقد عبرّ أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن هذه الملازمة بقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)يل

ص: 104


1- أنظر: الكافي- الشيخ الكليني: 8/ 344.
2- السيرة النبوية لابن هشام: 3/ 201 طط دار الجيل

(اني والله ما أحثكم على طاعة الا وأسيقكم إليها ولا أنهاكم عن معصية الا واتناهى قبلكم عنها)(1) فعلى من يتصدى لشأن من شوؤن الناس يجعله في مقام الاسوة والقدوة ان يؤهل نفسه أولا لهذا المقام، روي عن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من نصب نفسه للناس إماما فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه)(2)ولذا قالوا:ان الواعظ إذا لم يكن متعظاً فلا يؤثر في القلوب ولا يهذب النفوس، ومن وصايا الامام الحسن العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لشيعته (اتقوا الله وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً، جرّوا إلينا كل مودة وادفعوا عنا كل قبيح)(3) ولا يجرّون المودّة إلى أئمتهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الا عندما يعكسون صورة الأسوة الحسنة في حياتهم وقد بيّن الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ذلك في نفس الوصية فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فان الرجل منكم اذا ورع في دينه وصدق في حديثه وأدى الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل:هذا شيعي فيسرّني ذلك).

وفي ضوء هذه الملازمة نفهم خطورة وجود القدوة السيئة والمنحرفة، قال امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ولا يجنح بكم الغي فتضلوا عن سبيل الله باتباع أولئك الذين ضلوا وأضلوا)(4) قال الله تعالى {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا43

ص: 105


1- نهج البلاغة: 250 الخطبة 175
2- بحار الأنوار :ج 2 /ص 56/ ح33
3- تحف العقول: 361 ط. مؤسسة الأعلمي
4- بحار الأنوار:ج 94 / ص 116، مصباح المجتهد: 756/ 843

فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا،رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} (الأحزاب :67- 68)خصوصاً التي تحمل عنوان الاسلام وتدّعي العمل به كالمجاميع الإرهابية واجندات التعصب والتكفير والعنصرية فان خطرها عظيم على الإسلام وينفر الناس من الشريعة الإلهية السمحاء، وقد اتخذ اعداء الإسلام هذا الاسلوب لمحاربة الاسلام ومحاصرته من خلال صناعة مثل هذه النسخ الضالة المنحرفة، وخلق ما يعرف بالإسلام فوبيا أي الخوف من الإسلام، من كتاب امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الى معاوية (لبئس الخلف خلف يتبع سلفاً هوى في نار جهنم)(1).

ان الأسوة الحسنة قد لا يحتاج إلى الكلام مع الناس ليصلحهم ويهديهم وإنما يؤثر فيهم بسلوكه وأخلاقه وقد حثّ الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) على ذلك بقولهم (كونوا لنا دعاة صامتين)(2) و(كونوا لنا دعاة بأفعالكم لا بأقوالكم) وهكذا أثر أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في الأمة بحيث تكفي دقائق من اللقاء بهم أو الاطلاع على سيرتهم والاستماع إلى حديثهم لانقلاب العدو الحاقد إلى صديق حميم وهو يقول {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام :124) تصديقا لقوله تعالى {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت :34) والشواهد على ذلك كثيرة ومعروفة نذكر منها واحداً من حياة الامام الحسن العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فقد روى الشيخ المفيد في الارشاد وصاحب اعلام الورى، انه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قد سجن عند القائد10

ص: 106


1- نهج البلاغة: كتاب 17
2- مستدرك الوسائل: 1/ 116 ، 8/ 310

التركي (علي بن اوتامش وكان شديد العداوة لآل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) غليظاً على آل ابي طالب وقيل له افعل به وافعل -- أي شدّد عليه وعامله بقسوة -- قال فما اقام الا يوماً واحداً حتى وضع خدَّه له وكان لا يرفع بصره إليه اجلالاً واعظاماً وخرج من عنده وهو أحسن الناس بصيرة وأحسنهم قولاً فيه)(1) وقد عاتب العباسيون القائد التركي المتنفذ في الدولة صالح بن وصيف لعدم التضييق على الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال لهم صالح (ما أصنع به وقد وكلّت رجلين شر من قدرت عليه فقد صاروا من العبادة والصلاة إلى أمر عظيم، ثم أمر بإحضار الموكلين فقال لهما:ويحكما ما شأنكما في أمر هذا الرجل فقالا له:ما نقول في رجل يصوم نهاره ويقوم ليله كله لا يتكلم ولا يتشاغل بغير العبادة فاذا نظر الينا ارتعدت فرائصنا وداخلنا مالا نملكه من أنفسنا)(2).ان التأسي برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حياته الشخصية والاجتماعية كفيل بإحداث نقلة إصلاحية عظيمة في حياة الأمة كالتي أحدثها هو (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حين صنع من القبائل العربية المتخلّفة الجاهلة المتناحرة المنحطّة خلقياً أمة واحدة متماسكة حضارية قادت ما لا يقل عن نصف العالم المعروف آنذاك، وصنع من افراد المسلمين افذاذاً نادرين.

إن استيعاب السيرة الحسنة للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتمثّلها في حياتنا ليس فقط مسؤولية فردية لتحصيل القرب من الله تبارك وتعالى ونيل الكمالات وانما هي51

ص: 107


1- بحار الأنوار: 50/ 307 ح 4 عن الارشاد للمفيد: 2/ 329 – 330 وإعلام الورى:2/ 150
2- بحار الأنوار: 50/ 308 ح 5 عن الارشاد للمفيد: 2/ 334 وإعلام الورى:2/ 150- 151

مسؤولية اجتماعية على الأمة أن تتحرك باتجاهها في ضوء التحديات الكثيرة التي تواجهنا ومنها:1 - تسافل العالم الى مستوى من الجاهلية انحطّ كثيراً عن الجاهليات السابقة(1) وهو يلزمنا بانبعاث رسالي جديد في موازاتها.

2 - اننا مسؤولون عن التمهيد للدولة الكريمة المنتظرة وتعجيل الظهور الميمون، ومن متطلّباته اقناع البشرية بالإسلام المحمدي الأصيل وهو المشروع الذي ينهض به الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأفضل وسيلة لتحصيل هذه القناعة هو تجسيد الأسوة الحسنة في حياتنا، وقد ورد عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (فان الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا)(2) وقد علّمنا الامام الحجة المنتظر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعاء الافتتاح أن نقول (اَللّ-هُمَّ اِنّا نَرْغَبُ اِلَيْكَ في دَوْلَة كَريمَة تُعِزُّ بِهَا الاْسْلامَ وَاَهْلَهُ، وَتُذِلُّ بِهَا النِّفاقَ وَاَهْلَهُ، وَتَجْعَلُنا فيها مِنَ الدُّعاةِ اِلى طاعَتِكَ، وَالْقادَةِ اِلى سَبيلِكَ، وَتَرْزُقُنا بِها كَرامَةَ الدُّنْيا وَالاْخِرَةِ)(3) وهذه مرتبة عظيمة لا تنال الا بالتأسي برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأهل بيته الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين).

3 - إن المسلمين اليوم ضائعون ممزقون متخلفون قد استمرؤا التبعية والعبودية لاعدائهم ومن يكيد لهم فهذا متخندق مع الغرب وذاك مع الشرق حتى تحالفوا مع اعدائهم ضد اخوانهم وأحد الأسباب المهمة في بلوغهم هذااح

ص: 108


1- راجع المقارنة بين الجاهليتين في ملحق (شكوى القران), من نور القرآن: 3/ 283
2- عيون أخبار الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):1/ 307 ، معاني الاخبار:180
3- مفاتيح الجنان: دعاء الافتتاح

الانحطاط فقدان الأسوة الحسنة فلابد من إيجادها ليعودوا إلى حياة العزة والكرامة والانعتاق من العبودية الا لله تبارك وتعالى.

ص: 109

ملحق (1):كراهة عدم الاتيان بسنن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ولو مرة واحدة في العمر

روي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إني لأكره للرجل أن يموت وقد بقيت خلة من خلال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم يأت بها)(1).

وجعل الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سنن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وسيرته ميزاناً يعرف بها الإنسان درجة صلاحه، فقد روى الشيخ الصدوق بسنده عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إنّ الله خصّ رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بمكارم الأخلاق فامتحنوا أنفسكم، فإن كانت فيكم فاحمدوا وارغبوا إليه في الزيادة منها).(2)

وهذا يدعونا إلى البحث والتحري عن سنن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى نتمكن من التأسي بها، ونحن لا نتوقع التمكن من الإتيان بها جميعاً، لكن علينا أن نسعى إلى تحقيق أكبر مقدار نستطيعه ونحافظ عليه وعندئذٍ يوفّقنا الله تعالى لا زيد من ذلك فنلتزم به ونحافظ عليه فنوفّق للمزيد وهكذا بالتدريج.

وسنن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومكارم أخلاقه تفوق حد الحصر، وما بين أيدينا هو ما نقل لنا منه عبر الروايات أما مقاماته وخصاله وملكاته فلا يعرفها إلا الله تبارك وتعالى.

ونحاول في هذه العجالة أن نقف عند بعض هذه السنن وأول مصدر لسننه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وآدابه التي أدّبه بها ربّه هو القرآن الكريم، وقد سجّل لنا جملة منها كقوله

ص: 110


1- بحار الأنوار: 16/ 254 عن مكارم الأخلاق للطبرسي: 39.
2- وسائل الشيعة كتاب جهاد النفس أبواب جهاد النفس باب4 ح1.

تعالى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(آل عمران:159)وقوله {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف:199)

وقوله {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (النمل:91)

وقوله {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} (الروم:60)

وقوله {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً} (الكهف:23)

وقوله {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} (الإسراء:79)

وقوله {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (العنكبوت:45).

ومن الروايات الجامعة لمكارم أخلاقه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وسننه:وصيته لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) التي رويت في الكتب المعتبرة عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) :يا علي اوصيك في نفسك بخصال فاحفظها ثم قال :اللهم اعنه، اما الاولى فالصدق لا يخرجن من فيك كذبة ابدا، والثانية الورع لا تجترأنّ على خيانة ابدا، والثالثة الخوف من الله كأنك تراه، والرابعة كثرة البكاء من خشية الله عزّ وجلّ يبني لك بكل دمعة بيت في الجنة، والخامسة بذل مالك ودمك دون

ص: 111

دينك، والسادسة الاخذ بسنتي في صلاتي وصيامي وصدقتي، اما الصلاة فالخمسون ركعة، واما الصوم فثلاثة ايام في كل شهر خميس في اوله، وأربعاء في وسطه، وخميس في آخره، واما الصدقة فجهدك حتى يقال :اسرفت ولم تسرف، وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الليل، وعليك بصلاة الزوال، وعليك بقراءة القرآن على كل حال، وعليك برفع يديك في الصلاة، وتقليبهما، عليك بالسواك عند كل صلاة، عليك بمحاسن الاخلاق فاركبها، عليك بمساوئ الاخلاق فاجتنبها، فإن لم تفعل فلا تلومن الا نفسك)(1).وقد تضمنت هذه الوصية عدّة محاور من سنته الشريفة منها على صعيد الصفات القلبية -كالورع والخوف من الله تعالى- ومنها على صعيد الخصال النفسية – كالصدق- ومنها على صعيد الأعمال الخارجية كالصوم والصلاة والصدقة.

ويعلمنا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن العمل بهذه السنن والأخذ بها لا يتحقق إلاّ بألطافٍ إلهية خاصة، لذلك فإنّه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يدعو لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اللهمّ أعنه).

وقد علمنا الأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أن ندعو نحن أيضاً بهذا الدعاء كالذي ورد في الدعاء اليومي لشهر شعبان (اللهم فأعنّا على الاستنان بسنته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فيه)(2).

كان (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يجتهد في العبادة فقيل له (يا رسول الله غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخّر وأنت تجهد هذا الاجتهاد؟ فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):أفلا أكون عبداً08

ص: 112


1- وسائل الشيعة كتاب الجهاد أبواب جهاد النفس، باب 4 ح1.
2- مفاتيح الجنان: 208

شكورا)(1)، وصفة العبودية لله تعالى وحده والتحرّر من طاعة غيره هي مصدر كل الكمالات الأخرى لذلك اختارها الله لتكون الصفة التي يسلّم عليه بها يومياً في صلواتنا (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله).وأذكر لكم عملاً عبادياً بسيطاً لو واظبتم عليه تكونون ممن أخذ بسنة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وجدّه إبراهيم الخليل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حيث أمرنا بالتأسي به أيضاً قال تعالى {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} (الممتحنة :4) وهي صلاة ركعتين يوم الجمعة بين الظهر والعصر، تقرأ في كلٍ منهما بالحمد مرة والتوحيد سبع مرات فإذا فرغت منها تقول (اللهمّ اجعلني من أهل الجنة التي حشوها البركة وعمّارها الملائكة مع نبينا محمد ص وأبينا إبراهيم ع)، روي عن الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ):أنّ من صلاّها لم تضره بليّة ولم تصبه فتنة إلى الجمعة الأخرى، وجمع الله بينه وبين محمدٍ وبين إبراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).(2)

ومن سنن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) التي أكّد عليها وذمّ تركها الزواج وحبذا أن يكون مبكّراً روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(تزوّجوا فإنّ التزويج سنة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فإنّه كان يقول:من كان يحبّ أن يتّبع سنتي فإنّ من سنّتي التزويج، واطلبوا الولد فإنّي مكاثر بكم الأمم).(3)

ومن سننه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) منع نقل أي كلام عن الآخرين يؤدي إلى إيجاد حزازة في الصدر على الإخوان لذلك روى عن ابن مسعود عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنّه قال (لا يبلغني6.

ص: 113


1- وسائل الشيعة كتاب الجهاد أبواب جهاد النفس، باب 4 ح2.
2- مفاتيح الجنان: 90 أعمال يوم الجمعة فقرة 26.
3- وسائل الشيعة، كتاب النكاح، أبواب مقدماته، باب1 ح6.

أحدٌ منكم عن أصحابي شيئا فإنّي أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر).(1)وكانت أبغض خصلة له (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الكذب فقد رُوي عن أمّ المؤمنين عائشة قولها (كان أبغض الخلق إليه الكذب) وقالت:(كانت (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إذا اطّلع على أحدٍ من أهل بيته كذبَ كذبةً لم يزل معرضاً عنه حتى يحدث توبة).(2)

وكان يحبّ صفة الرحمة للناس والشفقة عليهم والعفو عن إساءاتهم وقضاء حوائجهم. قال تعالى {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة:128).

وكان (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول (أيّها الناس إنّما أنا رحمة مهداة).(3)

وسُئلَ الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بِمَ ساد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الخَلق، فأجابَ بما مضمونه:بخصلتين العفو عمن ظلمه وأنّه لا يرد سائلاً.

تصوروا لو أنّ هذه الصفات (الصدق، الرحمة، العفو إلى المسيء، العمل على تحقيق مصالح الناس وإسعادهم) توفّرت في قادة البلاد هل تصل الحال إلى ما نحنُ عليه الآن من التمزّق والتناحر والصراع الطائفي والعرقي والفساد والعبث بأموال الشعب، فإذا أردنا الحل فإنّه يبدأ من الالتفات إلى هذه المبادئ السامية والأخلاق الكريمة حتى تتحوّل إلى خلق ثقافة عامة مبنيّة عليها، والعمل الجاد لترسيخها والله تعالى وليّ التوفيق.

ومن سُننه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ما روته السيدة الزهراء (صلوات الله عليها) قالت:(دخل عليَّ2.

ص: 114


1- بحار الأنوار: 16/ 231 عن مكارم الأخلاق: 17.
2- ميزان الحكمة: 8/ 571 عن كنز العمال: ح18379 و 18381.
3- ميزان الحكمة: 8/ 542 عن الطبقات الكبرى: 1/ 192.

رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقد افترشتُ فِراشي للنوم، فقالَ لي يا فاطمة:لا تَنامي إلاّ وقد عملتِ أربعة:ختمتِ القرآن، وجعلتِ الأنبياء شُفعائكِ، وأرضيتِ المؤمنين عن نفسكِ، وحججتِ واعتمرتِ، قال هذا وأخذَ في الصلاة، فصبرتُ حتّى أتمّ صلاته، قلت:يا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، أمرتَ بأربعة لا أقدر عليها في هذا الحال، فتبسّم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وقال:إذا قرأتِ (قُل هو الله أحد) ثلاث مرات فكأنكِ ختمتِ القرآن، وإذا صلّيتِ عليَّ وعلى الأنبياء قبلي كُنّا شُفعائكِ يوم القيامة، وإذا استغفرتِ للمؤمنين رضوا كلّهم عنكِ، وإذا قُلتِ:سُبحانَ الله، والحمدُ لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر فقد حججتِ واعتمرتِ)(1).ومن مستحبات ما قبل النوم تسبيح الزهراء (س) والنوم على طهور وقراءة سورة التكاثر للوقاية من فتنة القبر كما رويَ عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)(2).25

ص: 115


1- صحيفة الزهراء (س)- الشيخ جواد القيومي: 164
2- أنظر: الكافي- الشيخ الكليني: 3/ 468,- بحار الأنوار- المجلسي: 82/ 335,- ثواب الأعمال- الصدوق125

ملحق(2):حاجتنا الى الاسوة الحسنة

ملحق(2):حاجتنا الى الاسوة الحسنة(1)

أن أي رسالة إصلاحية ومنها رسالة الإسلام، لابد لها لكي تنجح في بناء أمة من شكلين من المقومات سميناهما الذاتية والموضوعية، وقلنا إن الذاتية منهما لها دعامتان:

الأولى:ما يرجع إلى ذات الرسالة، أعني شريعة الإسلام التي توفرت فيها كلّ عناصر الكمال من الاستيعاب لكلّ شيء، كما قوله تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (الأنعام:38)، ومن خطابها للجميع في قوله تعالى:{هُدىً لِلْعَالَمِينَ} (آل عمران:96)، ومن خلودها قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(حتى يردا عليّ الحوض يوم القيامة)(2)، ومن صيانتها من الانحراف والتغيير، قوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر:9) وغيرها مما لا يحتاج إلى بيان، لأنها صنعة الله تبارك وتعالى الذي له الأسماء الحسنى.

الثانية:ما يرجع إلى ذات الرسول وهو النبي محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهو أكمل الخلق، ربًته يد الرعاية الإلهية، لعدم وجود من هو أكمل منه حتى يُربيه ويأخذ بيده في

ص: 116


1- محاضرة القيت على حشد من فضلاء الحوزة العلمية وطلبتها في مسجد الرأس الشريف يوم 16/ربيع الأول/ 1423 المصادف 28/ 5/ 2002 في ذكرى المولد النبوي الشريف، ونشرت في موسوعة خطاب المرحلة:1/ 290 ثم تلتها محاضرة أخرى في تلك الفترة واعيد تسجيلها كمحاضرات لقناة الانوار الفضائية سنة 1426/ 2005 وقد طبعت في كتاب (الاسوة الحسنة)
2- تاريخ بغداد- الخطيب البغدادي: 14/ 322,- بحار الأنوار- المجلسي: 38/ 29

مدارج الكمال، وعن ذلك قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(أدبني ربي فأحسن تأديبي)(1).ولا تكون الرسالة فاعلة ومؤثرة وتؤدي دورها في حياة الأمة إذا لم يكن حاملها مستوعباً لها قد أُشرب بها وتمثلها في حياته وجسدَها في سلوكه وواقعه، حتى عاد صورة خارجية لها وعادت صورة نظرية له، لذا لما سُئِلت إحدى أمهات المؤمنين عن سيرة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأخلاقه قالت باختصار:(كان خلُقه القرآن)(2).

ولعدم إمكان التفكيك بين النظرية - ولا أقصد بالنظرية ما يراد منها في المصطلح أعني المعلومة القابلة للصحة والخطأ، وإنما أعني مجموع ما احتوت عليه الرسالة من أصول وفروع وأخلاق التي أسسها القرآن الكريم - والتطبيق، أي بين الرسالة وسلوك القائمين عليها، صار الناس لا يقتنعون بأي رسالة مهما كانت ترفع من مبادئ ومثل وأخلاق عالية ونبيلة إذا كان حاملوها والقائمون عليها أول من يخالفها.

وهذا أحد أسباب انحطاط المسلمين وتشوه صورة الإسلام، فكيف يقتنع الناس بحرمة شرب الخمر إذا كان حاكم المسلمين أو ولاته يشربونها على منابر المسلمين؟ وكيف يقتنعون بحرمة الغناء أو السفور أو ممارسة الفاحشة إذا كان الخليفة يعقد الليالي الحمراء لإقامتها؟

ونحن - الحوزة العلمية وكل مؤمن رسالي - حملة رسالة إصلاحية كيف نستطيع أن نردع الناس عن الغيبة وإهانة المؤمن إذا كنا نلوكها بألسنتنا؟ وكيف0.

ص: 117


1- كنز العمال: 11 / 406.
2- شرح نهج البلاغة لإبن ابي الحديد ج 6 ص 340.

نمنعهم من مشاهدة الأفلام والمسلسلات إذا كان هذا الجهاز اللعين في بيوتنا؟ وكيف نأمرهم بالصلاة في أوقاتها إذا كنا ننام عن صلاة الصبح؟ وكيف نحثهم على صلاة الليل ونحن لا نؤديها؟ أو نحثهم على إفشاء السلام ونحن لا نرد التحية بمثلها؟ فضلاً عما هو أحسن منها، وكيف نقنعهم بترك التدخين ونحن نزاوله ونصرف الأموال في سبيله بدلاً من أن ننفقها في قضاء حوائج المؤمنين وما أكثرهم اليوم.هذا الترابط الوثيق بين الرسالة وسلوك حاملها عبّر عنه أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ما أمرتكم بطاعة إلاّ كنت أول من يؤديها، ولا نهيتكم عن معصية إلاّ كنت أول من يجتنبها)(1)، ولذا قالوا:إنّ الواعظ إذا لم يكن متعظاً لم يؤثر في القلوب ولم يهذب في النفوس.

لا قيمة للعلم إذا لم يقترن بالعمل:

ومن هنا أكدت أحاديث المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) على ضرورة اقتران العلم بالعمل، وأنهّ لا قيمة للعلم إذا لم يقترن بالعمل، فعن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قول الله عز وجل:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر:28) قال:(يعني بالعلماء من صدَق فعله قوله، ومن لم يصدق فعله قوله فليس بعالم)(2)، وعن سليم بن قيس الهلالي قال:سمعت أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يحدَث عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال في كلام له:(العلماء رجلان:رجل عالم آخذ بعلمه فهذا ناجٍ، وعالم تارك2.

ص: 118


1- تفسير كنز الدقائق: 2 / 194.
2- الكافي: 1 / 36، ح2.

لعلمه فهذا هالك، وإن أهل النار ليتأذون من ريح العالم التارك لعلمه، وإن أشد أهل النار ندامة وحسرة رجل دعا عبداً إلى الله فاستجاب له وقبل منه فأطاع الله فأدخله الله الجنة، وأدخل الداعي النار بتركه علمه واتباعه الهوى وطول الأمل، أما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة)(1)، وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(العلم مقرون إلى العمل، فمن علم عمل ومن عمل علم، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلاّ أرتحل عنه)(2)، وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(أيها الناس إذا علمتم فاعملوا بما علمتم لعلكم تهتدون، إن العالم العامل بغيره كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق عن جهله، بل قد رأيت أن الحجة عليه أعظم والحسرة أدوم على هذا العالم المنسلخ من علمه منها على هذا الجاهل المتحير في جهله، وكلاهما حاير باير)(3)، وعن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قول الله عز وجل:{فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ}(الشعراء:94) قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(هم قوم وصفوا عدلاً بألسنتهم ثم خالفوه إلى غيره)(4).هذه الوشيجة بين النظرية والتطبيق أو قل بين الرسالة وسلوك حاملها نخرج منها بعدة نتائج:4.

ص: 119


1- الكافي: 1 / 44، ح1.
2- الكافي: ح2.
3- الكافي: ح6.
4- الكافي: 1 / 47، ح4.

1 - إن الشريعة كلما كانت أكمل فحاملها يكون أكمل، ولما كانت شريعة الإسلام أكمل الشرائع الإلهية فيكون رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أكمل الخلق وأشرفهم.

2 - إن شريعة الإسلام خالدة ودائمة، فيكون وجود المعصوم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) دائمياً ومستمراً، وهو ما نعتقد به ودلت عليه الأحاديث الشريفة التي مضمونها:(لا تخلو الأرض من حجة قائم مشهور أو خفي مستور)(1)، وما جاء في حديث الثقلين:(إنيّ تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً:كتاب الله، وعترتي أهل بيتي)(2).

3 - إن الاعتداء على حامل الرسالة وممثليها من أنبياء أو أئمة إنما هو اعتداء على الشريعة نفسها، وبالعكس فإن أي اعتداء على الشريعة بتحريفها أو تمييعها أو مخالفتها إنما هو اعتداء على حامل الرسالة نفسه، لذا ورد في تفسير قوله تعالى:{وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ} (البقرة:61) أي بتحريف تعاليمهم ومخالفتها وتشويهها، فليعلم هؤلاء الذين يعصون الله تبارك وتعالى بترك الصلاة أو الخمس أو السفور أو التبرج أو ترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو يشيعون الفاحشة في المجتمع المسلم بنشر الصور الخلاعية وفتح محلات الفسق والفجور إنما يقتلون بها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمير المؤمنين والأئمة الطاهرين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).ح9

ص: 120


1- الأمالي- الشيخ الصدوق: 253
2- وسائل الشيعة (آل البيت): 27/ 33/ح9

4 - إن الإسلام إنما يتقدم وينتشر وتحصل القناعة به بتقدم أبنائه - خصوصاً العلماء والحوزة الشريفة والمؤمنين الرساليين - وتكاملهم وحسن تجسيدهم له، فحينما يقول الحديث:(العلماء أمناء الرسل، وحصون الإسلام)(1) إنما يشير إلى هذه المسؤولية المزدوجة (أعني المسؤولية النظرية أو قل العلمية، ببيان محاسن الإسلام وعظمة تشريعاته وتكاملها وقدرتها على قيادة البشرية نحو السعادة والصلاح، والمسؤولية العملية بتمثيل الإسلام في سلوكهم وتفاصيل حياتهم) فهاتان مسؤوليتان لا تنفكان عن بعضهما.

وقد وعدت الأحاديث الشريفة بأنّ الله تعالى يقيّض لهذا الدين في كلّ زمان من يمثله هذا التمثيل، ليكون حصناً حقيقياً للإسلام، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)(2) فكونوا من هذا الخلف، فإنها فرصة متاحة لأي أحد يعمل بجد واجتهاد لتأهيل نفسه لهذا الموقع، والله تعالى لا يبخل بإعطاء المستحق حقه وهو القائل:{وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} (الأعراف:85).

أهمية الأسوة الحسنة:

لأجل هذه النقاط ركز القرآن الكريم على أهمية الأسوة الحسنة في تربية البشر وهدايتهم وإصلاحهم، قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب:21) فقد يؤثر الأسوة الحسنة في حياة الناس أكثر مما تؤثر فيهم كتب كثيرة، وأكدته

ص: 121


1- ميزان الحكمة- الريشهري: 3/ 2101
2- الكافي: 1 / 32، ح2.

الأحاديث الشريفة كما في قوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(كونوا لنا دعاة صامتين... كونوا لنا دعاة بأفعالكم لا بأقوالكم)(1).وبمقدار ذلك تكون خطورة القدوة السيئة(2) والعياذ بالله، لذا ورد التهديد الكبير للعلماء إذا نكبوا عن الصواب وفارقوا الطريقة المثلى، لأن هذا يؤدي إلى إعراض الناس عن الشريعة، فعن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إذا رأيتم العالم محباً لدنياه فاتهموه على دينكم، فإن كلّ محب لشيء يحوط ما أحب، وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):أوحى الله إلى داود (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):لا تجعل بيني وبينك عالماً مفتوناً بالدنيا، فيصدك عن طريق محبتي، فإن أولئك قطاع طريق عبادي المريدين، إن أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي عن قلوبهم)(3)، وعن حفص بن غياث عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(يا حفص، يُغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد)(4)، وعنه إنّه قال:قال أبو عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):قال عيسى بن مريم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ويل لعلماء السوء كيف تلظى عليهم النار)(5) وقد اشتهرت كلمة بعضهم:(إذا فسد العالِم فسد العالَم).

إننا اليوم أحوج ما نكون إلى عرض صورة الأسوة الحسنة في حياتنا، فنحن مسؤولون أكثر من أي وقت مضى عن دراسة حياة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وسيرته2.

ص: 122


1- مستدرك الوسائل: 1 / 116.
2- كالمطرب والممثل والرياضي.
3- الكافي: 1 / 46، ح4.
4- الكافي: 1 / 47، ح1.
5- الكافي: ح2.

دراسة تحليلية، لكي نتمثلها في حياتنا وتكون نبراساً لنا، ليس فقط في حياته الشخصية الخاصة لكونه أكمل المخلوقات وأشرفها وأحقها بالإقتداء في حياته العامة، بل لكونه أعظم مصلح اجتماعي عرفته البشرية، ولكونه مؤسس خير أمة أخرجت للناس من العدم، ولكون قيادته المباركة وفرت للبشرية أسعد عصر من عصورها، هذه الأبعاد المتعددة في شخصيته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) جعلته أولى الناس بالتأسي والاقتداء لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وأراد السعادة لنفسه ولأمته.وقد ذكرت في بعض المناسبات وجهاً لمعنى الكلمة العامية:(إن سفرة الحسين واسعة)، ويمكن أن يراد بها عدة معانٍ بحسب ما أراد بها قائلوها، لكنني أفهم لها معنى واقعياً غير ما ذكروه، وهو أن حياة الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سِفرٌ مبارك يتسع كل ما يريده الطامحون إلى الكمال التواقون إلى السعادة الفارون من الحضيض، وجدُّه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أولى بهذه السعة منه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فلنأخذ من هذا السِفر المبارك ما يعيننا على مسؤولياتنا التي قلنا إنها أضخم من إي يوم مضى من أكثر من جهة:

مسؤوليتنا اليوم أضخم من الماضي:

1-إننا نواجه جاهلية عاتية تضرب بإطنابها أرجاء الأرض في أفكارها واعتقاداتها وفي سلوكياتها وأهوائها ونزعاتها(1)، بل إن جاهلية اليوم جمعت كل مساوئ جاهليات الأمس القريب والبعيد، وقد عقدت فصلاً طويلاً في كتاب (شكوى

ص: 123


1- من فاسقات نصبن فخاخ الفتنة والإغراء، إلى بورصات اقتصادية يسيل لها اللعاب، إلى فنانين لا عمل لهم إلا تدمير الأخلاق والقيم الاجتماعية، إلى قوانين وضعية تبيح اللواط وتجيز الزواج بين الذكور، إلى الزنا الذي يفوح برائحته الكريهة وأمراضه الفتاكة كالإيدز.

القرآن) لبيان مفهوم الجاهلية بحسب ما يستفاد من القرآن، وذكرت خمس عشرة نقطة التقاء بين الجاهليتين(1) وخرجنا بنتيجة أن الجاهلية ليست فترة زمنية ومرحلة تأريخية انتهت بظهور الإسلام، وإنما هي نمط من أنماط الحياة تتردى إليه البشرية وتسقط فيه كلما ابتعدت عن شريعة الله تبارك وتعالى.فما أحوجنا إلى أن نستلهم من سيرته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كيفية مواجهة هذه الجاهلية بحيث استطاع أن ينقلهم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في مدة ضئيلة من عمر الزمن هي ثلاثة وعشرون عاماً، من حضيض الجاهلية إلى قمة الإسلام السامقة(2)، وقد ذكرت في نفس الكتاب عدة دروس مستفادة من هذه التجربة(3).

2 - إننا نقترب بسرعة من يوم الظهور المبارك لبقية الله الأعظم، ومن شروطه وصول البشرية إلى قناعة كاملة بالإسلام، وقد قلنا قبل قليل:إن القناعة بالإسلام كنظام ورؤية للحياة لا تنفك عن القناعة بسلوك حامليه ومعتنقيه، فكلما كان التطبيق أكثر صدقاً كان أسرع في حصول هذه القناعة، وقد وردت التطمينات بأن الإسلام لا يحتاج إلى جهد كبير من أبنائه لتحصل قناعة الآخرين به، لأنه يغلب العقول ويفتح القلوب بلا عناء كثير، بخلاف المبادئ الأرضية التي لا تستطيع أن تُحَصّل هذه النتيجة بكل أساليب الإغراء أو البطش والتهديد، وقد ورد عن الإمامم.

ص: 124


1- تجدها في بحث (شكوى القرآن)، الملحق بقبس الاية {يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (الفرقان:30) في المجلد الثالث من هذا التفسير
2- فحاشا لله تعالى أن يترك جاهلية اليوم سدى ولا يبعث لها مصلحاً معصوماً هو الحجة ابن الحسن المهدي أرواحنا لمقدمه الفداء.
3- تجدها في كتاب (شكوى القرآن): وقد تقدم.

الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا)(1)، و(كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً)(2).والتأريخ شاهد على ذلك، فإن المغول - وهم أكثر الشعوب وحشية- ما لبثوا أن دخلوا الإسلام بعد أن اكتسحوا بلاده قتلاً ونهباً وتدميراً، وها هو ذا الغرب ينتابه القلق من إقبال أبنائه على الإسلام، فتقول إحصائية في بريطانيا:إن عشرين ألف امرأة بريطانية اعتنقت الإسلام إحداهن أستاذة جامعية أعلنت إسلامها في كلمة ألقتها في تجمع في حدائق هايد بارك الشهيرة في قلب لندن، وسوف ترى عن قريب كيف أن الإسلام يفتح قلوب أعدائه إلاّ من ضرب عليها إبليس بالأغلال كالصهاينة.

ألسنا ندعو الله تبارك وتعالى أن ينتصر بنا لدينه وأن يجعلنا من أنصار وليه الأعظم؟ بل نقرأ في دعاء الافتتاح أن نكون من الدعاة إلى طاعته تبارك وتعالى والقادة إلى سبيله في دولته الكريمة؟ فها هي الخطوة الأولى والمهمة التي رسمها القرآن الكريم في قوله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب:21) وشرحها أمير المؤمنين نفس رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بقولة (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد)(3).

الحرب التي يعيشها الإسلام اليوم:0.

ص: 125


1- بحار الأنوار: 2/ 30.
2- بحار الأنوار:65/ 261.
3- نهج البلاغة: 3 / 70.

3- إننا نعيش حرباً شعواء على الإسلام بأشكال مختلفة، أحدها الحرب العسكرية التي يسمونها الحرب ضد الإرهاب، وقد اتحدوا جميعاً وتناسوا خلافاتهم وكل عداوات الأمس ليكونوا يداً واحدةً في هذه الحرب، وقد أعلنت الأخبار اليوم (28/ 5/ 2002) - وأنا أكتب هذه السطور - أنهم وضعوا المسمار الأخير في نعش الحرب الباردة بالاشتراك في اتخاذ القرار بين روسيا وحلف شمال الأطلسي.

وهذا الشكل من الحرب واضح وملتفت إليه، لكن الأخطر منه هو الحرب الخفية بتشويه صورة الإسلام وتمييع أحكامه وإفراغه من مضامينه والاكتفاء بالشكليات، فيسوّقوا لنا أنه لا مانع من أن تتحجب المرأة ولكن على الطريقة الأمريكية أو الفرنسية، ولا بأس بأن يلتزم الشاب بالصلاة والصوم مادام غربياً في أفكاره وولائه ومظهره، وأن يكون اهتمام الناس منصباً على الازدياد من المظاهر الدنيوية فلا يستقر في دار حتى يطمح إلى أحسن منها، وسرعان ما يبدل سيارته إلى أحدث موديل أو أثاثه، أو يتفاخر بكثرة أمواله، هذا غير ضياعه في المتع المتنوعة من رياضة وفن، فلا يلبث أن يمل من متعة حتى يأتوه بغيرها، ليبقى في هذه الدوامة والدائرة المفرغة، ولا يلتفت إلى أهدافه الحقيقية رغم أن القرآن صريح وواضح:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة:24).

ومحل الشاهد إننا لو درسنا أسباب هذا الضياع لوجدنا أن أهمها غياب القدوة الحسنة التي تبهر العقول وتدخل القلوب وتقنعهم بالاتباع والتأسي وتلغي كل ما

ص: 126

سواها، وقد دأب الإنسان على المتابعة والمشاكلة للشخصيات التي ينبهر بها حتى في الأشياء التي لا علاقة لها بسبب انبهاره، فمثلاً هو يعجب به كبطل أفلام أو رياضي إلا أنه يقلده في ملبسه وحركاته ومظهره، بل حتى أفكاره ومعتقداته أحياناً، فإذا غابت عن حياته الأسوة والقدوة الحسنة، فإنه سينجذب إلى الأسوة السيئة من رياضي أو فنان أو بطل فلم وهمي ونحوه. علينا ألاَّ نتبوّأ موقعاً إلا بجدارة:

لذا تجد من أهم العوامل التي جذبت الناس إلى الإسلام الانبهار والذوبان في شخصية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، التي ظلت مؤثرة في نفوس أصحابه حتى بعد وفاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بل إلى اليوم، فإن الكثير ممن اعتنقوا الإسلام إنما اعتنقوه إعجاباً بسيرة رجاله، كرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمير المؤمنين والصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء والحسن والحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

وهذا - أي تأثير شخصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في نفوس أصحابه - مما شهد به الأعداء وجعل الرعب يتملكهم ويملؤهم الشعور بالإحباط واليأس من المواجهة، وعندما خرج وفد من قريش لاستطلاع أخبار النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأصحابه فوجدهم محدقين به يتبركون بتراب أقدامه، ولا يدعون ماء وضوئه يسقط إلى الأرض بل يتقاسمون قطراته.

وقد اقتضت المشيئة الإلهية أن لا يتبوأ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هذا المقام الرفيع إلاّ بعد أن ملك القلوب وخطف الألباب بأخلاقه وحسن سيرته، حتى سمّوه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في الجاهلية بالصادق الأمين، وما وجدوا له خطلة في قول ولا زلة في فعل، وألقى عليهم الحجة بذلك حين أعلن (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) دعوته قائلاً:(لو قلت لكم أن وراء هذه

ص: 127

الأكمة جيش جاءوا للإغارة عليكم أتصدقونني؟ قالوا بأجمعهم:نعم، لأنك الصادق الأمين، قال:فإني رسول الله إليكم ونذير لكم من بين يدي عذاب أليم، قولوا:لا إله إلا الله تفلحوا)(1).وهذا درس يمكن أن نستفيده من سيرة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) غير ما ستأتي الإشارة إليه أن لا نتبوأ موقعاً اجتماعياً إلاّ حينما نكون أهلاً له، بحيث تتوفر القناعة الكاملة لدى الأمة باستحقاق هذا الموقع.

وحياته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حافلة بالكثير مما يتأسى به، وكيف لا يكون كذلك وهو صنو القرآن الذي هو {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} (النحل:89) و{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (الأنعام:38) وهو (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كذلك، والقرآن شفاء وهدى ورحمة ونور وبيان وذكر ومبارك وحكيم وهو (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كذلك، وقد أشبعنا البحث عن هذه الملازمة في كتاب (شكوى القرآن).

ما هي الأمور التي يمكن أن نتأسى بها؟

ولكي نختصر الوقت ونخفف عنكم المؤونة نلفت أنظاركم إلى بعض ما يمكن أن نتأسى به من حياته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ويعيننا على أداء مسؤولياتنا، وسنجعله على شكل نقاط، وهي عبارة عن سلسلة محاضرات بعنوان (الأسوة الحسنة في بناء الذات وإصلاح المجتمع)(2) لكني أختصرها لكم بذكر عناوينها وقد ذكرت).

ص: 128


1- صحيح البخاري: 6/ 29
2- طبعت لاحقاً في كتاب بعنوان (الأسوة الحسنة للقادة والمصلحين).

بعضها في مناسبات متعددة، لكن تذكرها ضروري، فإن الذكرى تنفع المؤمنين ومنها:1 - المعرفة بالله تعالى والإخلاص له، فما من كلمة يقولها أو فعل يفعله أو ترك يتركه إلا لله تبارك وتعالى، ولو خيَر بين أمرين اختار أرضاهما لله، وكان على ذكر دائم لله دلَّ عليه ما روي من مكارم أخلاقه، حيث تجد له في كل حالٍ ذكراً، فللأكل دعاء، وللنوم دعاء، وللتخلي دعاء، وللوضوء دعاء، وللسفر دعاء، فكانت حياته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كلها عبادة وفناء تام في الله سبحانه، وإذا اقتضت طبيعته البشرية وجسده المادي أن يعطيه حقه من النوم والأكل ونحوهما مما يراه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) غفلة عن الله تبارك وتعالى وتقصيراً في وظائف العبودية، فكان يستغفر الله سبحانه من ذلك حتى نزل الوعد من قبل المولى تبارك وتعالى:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} (الفتح:1-2) وإن كان الاعتقاد أنهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إذا ناموا نامت أعينهم فقط، أما قلوبهم فهي واعية متصلة ببارئها، كما هو المنقول عنهم(1)(عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

وقد ربًى أصحابه المخلصين على هذه العبودية الكاملة، فيوصي أبا ذر (رضي الله عنه):(يا أبا ذر، اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)(2)، ويقول له ما معناه:يا أبا ذر إنك تستطيع أن تجعل كل حياتك طاعة لله تبارك وتعالى حتى أكثر الأمور ارتباطاً بشهوات النفس كإتيانك امرأتك، فقال أبو ذر (رضي الله عنه):وكيف يا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)؟ -فبينها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) له-:أليس في هذا العمل إدخال74

ص: 129


1- أنظر: ميزان الحكمة- الريشهري: 4/ 3020
2- بحار الأنوار- المجلسي: 74/ 74

السرور على أهلك وتحصين نفسك وزوجتك من الحرام وزيادة عدد النسمات الموحدة لله، وكل تلك النيات وغيرها طاعات وقربات إلى الله تعالى)(1).ولمعرفته بحقيقة العبودية لله سبحانه كان كثير العبادة لا يفتر عنها(2)، وقد قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(قرة عيني الصلاة)(3) لأنها معراجه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقربانه واتصاله بالحبيب، يصلي حتى تتورم قدماه فيقف على واحدة ويرفع الأخرى لتستريح قليلاً فأشفق الله عليه بقوله:{طه، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} (طه:1-2).

الإعراض عن الدنيا المحللة:

2 - الإعراض عن الدنيا وعدم الاغترار بها، وطبعاً نقصد بالدنيا المحللة منها لا المحرمة، لأن اجتناب المحرمات من أول شروط العصمة المتحققة فيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والاهتمام بالأعمال الصالحة، يوصي قيس بن عاصم المنقري:(يا قيس، إن مع العز ذلاً، وإن مع الحياة موتاً، وإن مع الدنيا آخرة، وإن لكلّ شيء حسيباً وعلى كل شيء رقيباً، وإن لكل حسنة ثواباً، ولكلّ سيئة عقاباً، وإن لكلّ أجل كتاباً، وإنه يا قيس لا بدَّ لك من قرين يدفن معك وهو حي وتدفن معه وأنت ميت، فإن كان كريماً أكرمك وإن كان لئيماً أسلمك، لا يحشر إلاّ معك ولا تحشر إلاّ معه، ولا18

ص: 130


1- شعب الإيمان- البيهقي: 7/ 514
2- واعلم أن باب الله تعالى مفتوح للجميع حيث لا بخل في ساحته تعالى ولكن الأمر يحتاج شيئاً من الالتفات والهمة والمواظبة على العبادة وخصوصاً قراءة القرآن وأدعية المعصومين ((عَلَيْهِ السَّلاَمُ)) فإنها تؤثر تأثيراً نورانياً في النفس وإن لم تقرأ بخشوع.
3- الخصال- الشيخ الصدوق: 165/ح218

تُسأل إلاّ عنه، ولا تبعث إلاّ معه، فلا تجعله إلاّ صالحاً، فإنه إن كان صالحاً لم تأنس إلا به، وإن كان فاحشاً لا تستوحش إلاّ عنه، وهو عملك)(1).نزل جبرائيل الأمين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يوماً وقال له:(إنّ العلي الأعلى يُقرؤك السلام ويخصك بالتحية والإكرام وهو يقول لك أن لو شئت صيرت لك تهامة ذهباً وفضةً وأنت على ما أنت عليه من المقام الرفيع عند الله تبارك وتعالى، فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):حبيبي جبرائيل ثم ماذا؟ قال:الموت، قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):إذن دعني أجوع يوماً وأشبع يوماً، أما اليوم الذي أجوع فيه فأسأل ربي وأصبر، وأما اليوم الذي أشبع فيه فأشكر ربي)(2)، فما الذي يضرنا لو قللنا إقبالنا على الدنيا واكتفينا منها بالضروري لنكون من المخفين الذين يقال لهم جوزوا، لا المثقلين الذين يقال لهم حطوا.

3 - قوة الإرادة والثبات على الحق، فلا يحيد عنه مهما كانت المغريات أو الضغوط، وهو (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) القائل لعمه أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما جاءته قريش وعرضت عليه عروضاً مقابل تخليه عن الدعوة إلى الله، إن شاء ملكاً ملّكناه أو مالاً جمعنا له أو امرأة زوجناه أجمل نسائنا، قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أموت دونه)(3).74

ص: 131


1- الخصال: ص114.
2- بحار الأنوار: 42 / 276.
3- تاريخ الطبري: 2/ 67,- السيرة النبوية- ابن كثير: 1/ 474

ويقول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن إيمان المؤمن بأنه (أقوى من الجبل. قيل:وكيف يا رسول الله؟ قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):لأن الجبل يُستقل منه بالمعاول ولا يُستقل من إيمان المؤمن شيء)(1)، لم يثنه الأذى الجسدي ولا المعنوي عن مواصلة رسالته، فقد وصفوه بأسوء الصفات:ساحر، كذاب، مجنون، واتهموه بأشنع التهم حتى لم يسلم من الطعن في شرفه كما في حديث الإفك الذي تقصه سورة النور.4 - الاهتمام بأمور المسلمين وهو (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) القائل:(من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، ومن سمع منادياً ينادي بالمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم)(2)، أين نحن من هذا الشعور بالمسؤولية وتذويب الأنانية لمصلحة الأمة، وهل يسوغ لنا أن نهتم بأنفسنا ونعتني بمصالحنا الخاصة ونترك حبل المجتمع على غاربه ولا تتحرك مشاعرنا لما يُعانيه فنعمل على مساعدته بما نستطيع، حتى إنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان يسعى بمشاريع الزواج والتوسط والشفاعة لانجاز هذا الامر، فيبعث جويبر إلى الدلفاء أشرف نساء قومها بني بياضه من الأنصار لتزوجه بوساطته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

5 - الاهتمام بالقرآن الكريم شغفاً به، لأنه رسالة الحبيب وهل تُمَل رسالة الحبيب؟ وامتثالاً لأمره تبارك وتعالى:{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً، أوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} (المزمل:1-5).ح3

ص: 132


1- الكافي- الشيخ الكليني: 5/ 63/ح1
2- وسائل الشيعة (آل البيت): 16/ 337/ح3

وكان (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يطلب من ابن مسعود أن يتلو القرآن عليه، فيقول ابن مسعود:اقرأه عليك وقد نزل عليك، فيقول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(أحب أن أسمعه منك)، يريد أن يمتع جميع جوارحه بكلام الله تعالى، فيقرأ ابن مسعود وعين رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تفيض من الدمع(1).وكان (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لا ينام حتى يقرأ سور المسبّحات، أي التي تبدأ بكلمات التسبيح، ويوصي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بتلاوة القرآن وتدبر معانيه والعمل به، ويبين الثواب العظيم لذلك، وقد بينا بعضاً منه في كتاب (شكوى القرآن).

وإنك لتشعر أنّ أي مصلح اجتماعي أو قائد عظيم لا يكون ناجحاً إلا إذا عاش في ظل القرآن وتربى في أحضانه وتفاعل مع آياته.

6 - التواضع(2) بحيث كان الأعرابي يدخل إلى المسجد فيقول:أيكم محمد؟(3) لأنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم يتميز عن أصحابه بمجلس أو ملبس أو أي شيء آخر، يواسي في حياته أدناهم، وهو يفعل ذلك أدباً مع الله تعالى واستشعارا للحقارة في حضرة الربوبية.86

ص: 133


1- أنظر: صحيح مسلم: 2/ 196
2- روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في كتاب غرر الحكم هذه الروايات: 1 - لو رخص الله سبحانه في الكبر لأحد من الخلق لرخص فيه لأنبيائه لكنه كره إليهم التكبر ورضي لهم التواضع. 2 - ثلاث يوجبن المحبة حسن الخلق حسن الرفق و لتواضع. 3 - أشرف الخلائق التواضع الحلم ولين الجانب.
3- سنن أبي داود: 1/ 261/ح486

7 - عدم الاستماع إلى النميمة ونقل الكلام السيئ عن أصحابه خصوصاً من المتزلفين وضعيفي النفوس، فكان إذا أراد أحد أصحابه أن ينقل كلاماً سيئاً عن أحد منعه، وقال له (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(أحب أن أمضي عنكم وأنا سليم الصدر)(1).

8 - عدم اتخاذ بطانة وحاشية غير مخلصة لله تعالى، أو تفكر في الانتفاع من مواقعها وجني مكاسب شخصية ولو على حساب الدين والأمة كما في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} (آل عمران:118).

9 - الالتزام بالأخلاق الفاضلة، وقد امتدحه الله تبارك وتعالى عليها قائلاً:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4) وفي وصيته لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(عليك بمحاسن الأخلاق فاركبها، عليك بمساوئ الأخلاق فاجتنبها، فإن لم تفعل فلا تلومنًّ إلا نفسك)(2)، وقد جعلها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) محور رسالته قائلاً:(إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)(3)، وهذه النقطة وحدها تستوعب مجلدات من الكلام والمصادر حافلة بالشواهد التفصيلية(4).ال

ص: 134


1- بحار الأنوار: 16/ 231, عن مكارم الأخلاق: 17
2- الكافي- الشيخ الكليني: 8/ 79/ح33
3- بحار الأنوار- المجلسي: 68/ 382
4- جاء في كتاب أخلاق أهل البيت ((عَلَيْهِ السَّلاَمُ)) تعريف حسن الخلق: هو حالة نفسية تبعث على حسن معاشرة الناس ومجاملتهم بالبشاشة وطيب القول، وكما عرّفه الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حينما سئل عن حده فقال: (تلين جناحك وتطيب كلامك وتلقى أخاك ببشر حسن). وقال

10 - التركيز على أداء وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتحذير الشديد من التقاعس عن أدائها، فقد قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟ فقيل له:ويكون ذلك يا رسول الله؟ قال:نعم وشر من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ فقيل له:يا رسول الله ويكون ذلك؟ قال:نعم وشر من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً)(1) وهذه المراحل الثلاث كلها وصلتها الأمة كما هو واضح، وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(إنّ الله عز وجل ليبغض المؤمن الضعيف الذي لا دين له، فقيل:وما المؤمن الضعيف الذي لا دين له، قال:الذي لا ينهى عن المنكر)(2)، وكان (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول:(إذا أمتي تواكلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من الله)(3)، فاحذروا أيها الأخوة من التواكل والتخاذل والتقاعس عن أداء هذه الوظيفة الإلهية العظيمة.

11 - الاهتمام بنشر العلم والمعرفة في جميع الحقول، وكان يوصي أمته قائلاً:(اطلبوا العلم ولو في الصين)(4) باعتبارها أبعد نقطة مقصودة يومئذ، وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:سمعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول:(طلب العلم فريضة على كل20

ص: 135


1- الكافي:5/ 59.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 5/ 59/ح14
3- الكافي- الشيخ الكليني: 5/ 59/ح13
4- وسائل الشيعة (آل البيت): 27/ 27/ح20

مسلم، فاطلبوا العلم من مظانه واقتبسوه من أهله، فإن تعلمه لله حسنة، وطلبه عبادة، والمذاكرة فيه تسبيح، والعمل به جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة إلى الله تعالى لأنهّ معالم الحلال والحرام، ومنار سبيل الجنة، والمؤنس في الوحشة، والصاحب في الغربة والوحدة، والمحدث في الخلوة والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والتزين عند الأخِلاّء، يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة، تُقتبس آثارهم ويهتدي بأفعالهم، وينتهى إلى رأيهم وترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم، وفي صلاتها تبارك عليهم...)(1) إلى آخر الحديث، وفي معركة بدر جعل مما يفدي الأسير نفسه أن يعلم عشرة من المسلمين. فأين أدعياء الحضارة اليوم من هذا التفكير الواعي في ذلك الزمان البعيد؟12 - احتضان الشباب ورعايتهم فقد أوصى (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(أوصيكم بالشباب خيراً فأنهم أرق أفئدة)(2)، لأنّ قلوبهم ما زالت نقية وقريبة العهد بالفطرة، ولم تتكدر بالذنوب فتحرم من نور المعرفة، فلا عجب أن يكون أسبق الناس إلى اتباعه هم الشباب، وفي رواية عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يسأل أحد أصحابه:كيف حال دعوتكم في الكوفة؟ فأخبره بأنها تواجه صعوبات كثيرة وقلّة استجابة، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ما معناه:(عليكم بالأحداث، فإن قلب الحدث كالأرض الطيبة)(3)، وقد بسطت الكلام نسبياً عن ذلك في محاضرات (الحوزة ومشاكل الشباب).70

ص: 136


1- الأمالي- الشيخ الطوسي: 487/38
2- جواهر الحكمة- الريشهري: 20
3- تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 70

13 - محاربة العادات الاجتماعية السيّئة والقضاء عليها، فمثلاً كانت قريش لا تزوج نساءها لغيرها، فزوج ضباعة بنت عمه الزبير بن عبد المطلب وهي من أشرف بيوتات قريش إلى المقداد بن الأسود، وزوج زينب ابنة عمته من متبناه زيد بن حارثة، ثم تزوجها بعده، وقد كان العرب لا يتزوجون زوجات متبنيهم، ويوصي بالبنات ويقول:إنهن حسنات، ويبين عظمة ابنته الزهراء وشرفها في قوم كانوا يئدون البنات ويعتبرونهن عاراً، بل إن الله سمّى ابنته الكوثر وجعل نسله منها، والأبتر هو من عيّره بعدم الولد(1).

14 - الحث على الحضور في المساجد وصلاة الجماعة والشعائر الدينية، فعن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(اشترط رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على جيران المسجد شهود الصلاة)(2)، وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(لينتهين أقوام لا يشهدون الصلاة أو لآمرن مؤذناً يؤذن ثم يقيم ثم أأمر رجلاً من أهل بيتي وهو علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فليحرقن على أقوام بيوتهم بحزم الحطب، لأنهم لا يأتون الصلاة)(3).

ويحذر الأمة من أن يشكوهم المسجد والقرآن والعترة يوم القيامة، فعن جابر قال:سمعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول:(يجيء يوم القيامة ثلاث يشكون لله عز وجل:المصحف، والمسجد، والعترة، يقول المصحف:يا رب حرفوني ومزقوني،73

ص: 137


1- للوقوف على مصادر هذه الاحداث أنظر: الكافي- الشيخ الكليني: 5/ 344/ح1و2,- المستدرك على الصحيحين- الحاكم: 4/ 24,- تهذيب التهذيب- ابن حجر العسقلاني: 12/ 420,- ميزان الحكمة الريشهري: 4/ 3672,- تفسير القرطبي: 20/ 222
2- ثواب الأعمال- الشيخ الصدوق: 232
3- الأمالي- الشيخ الصدوق: 573

ويقول المسجد:يا رب عطلوني وضيعوني، وتقول العترة:يا رب قتلونا وطردونا وشردونا، فاجثوا للركبتين للخصومة، فيقول الله جل جلاله لي:أنا أولى بذلك)(1).وقد حررنا شكويين(2) منها بعنوان (شكوى المسجد) و(شكوى القرآن)، ويصل الاهتمام إلى درجة أنّ رجلاً أعمى يأتيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فيقول له:أنا ضرير البصر وربما أسمع النداء ولا أجد من يقودني إلى الجماعة والصلاة معك، فقال له النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(شُد من منزلك إلى المسجد حبلاً واحضر الجماعة)(3).

15 - التشديد على الوحدة بين المسلمين وعدم إعطاء أية فرصة لإيقاع الفرقة بينهم، قال تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (آل عمران:103) وفسر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حبل الله الذي بالاعتصام به تحفظ وحدة المسلمين فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(وإني تارك - مخلّف - فيكم الثقلين:الثقل الأكبر القران والثقل الأصغر عترتي أهل بيتي، هما حبل الله ممدود بينكم وبين الله عز وجل ما إن تمسكتم به لم تضلوا، سبب منه بيد الله وسبب بأيديكم)(4).

وذات يوم عمل بعض اليهود على الوقيعة بين الأوس والخزرج، وذكرهم بعداواتهم في الجاهلية ومن قتل من أشرافهم، حتى ثارت عصبيتهم فتواعدوا القتال كما كانوا يفعلون فى الجاهلية، فبلغ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ذلك، فخرج مسرعاً48

ص: 138


1- الخصال- الشيخ الصدوق: 175
2- ثم حررت الثالثة بعنوان: (شكوى الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)).
3- تهذيب الأحكام- الشيخ الطوسي: 3/ 266/ح73
4- كتاب الغيبة- النعماني: 1/ 48

يجر رداءه حتى وافى القوم قبل أن يقع السيف بينهم، فوعظهم وذكرهم، فتابوا وعادوا إلى رشدهم(1). فاحفظوا وحدتكم أيها الأحبة ولا تعطوا فرصة للأعداء ليوقعوا بينكم فلا يوجد شيء يستحق الاختلاف بيننا.16 - الإكثار من ذكر الموت(2)، وكان (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يسميه هادم اللذات، ويقول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد، قيل:وما جلاؤها يا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)؟ قال:ذكر الموت وتلاوة القرآن)(3)، وكان يقول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(إنّي ما أطبقت79

ص: 139


1- تفسير القرطبي: 4/ 155
2- إتماماً للفائدة نورد هذه الرواية من كتاب مصباح الشريعة ص171: قَالَ الصَّادِقُ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (ذِكْرُ الْمَوْتِ يُمِيتُ الشَّهَوَاتِ فِي النَّفْسِ وَيَقْطَعُ مَنَابِتَ الْغَفْلَةِ وَيُقَوِّي النَّفْسَ بِمَوَاعِدِ اللَّهِ وَيُرِقُّ الطَّبْعَ وَيَكْسِرُ أَعْلامَ الْهَوَى وَيُطْفِئُ نَارَ الْحِرْصِ وَيُحَقِّرُ الدُّنْيَا وهُوَ مَعْنَى مَا قَالَ النَّبِيُّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فِكْرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ وَذَلِكَ عِنْدَ مَا يَحُلُّ أَطْنَابَ خِيَامِ الدُّنْيَا وَيَشُدُّهَا فِي الآخرة وَلا تَسْكُنْ بِزَوَالِ الرَّحْمَة عِنْدَ ذِكْرِ الْمَوْتِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَمَنْ لا يَعْتَبِرْ بِالْمَوْتِ وَ قِلَّةِ حِيلَتِهِ وَكَثْرَةِ عَجْزِهِ وَطُولِ مُقَامِهِ فِي الْقَبْرِ وَتَحَيُّرِهِ فِي الْقِيَامَةِ فَلا خَيْرَ فِيهِ قَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) اذْكُرُوا هَادِمَ اللَّذَّاتِ قِيلَ وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ الْمَوْتُ فَمَا ذَكَرَهُ عَبْدٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي سَعَةٍ إِلا ضَاقَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَلا فِي شِدَّةٍ إِلا اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ وَالْمَوْتُ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الآخِرَةِ وَآخِرُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الدُّنْيَا فَطُوبَى لِمَنْ أُكْرِمَ عِنْدَ النُّزُولِ بِأَوَّلِهَا وَطُوبَى لِمَنْ أُحْسِنَ مُشَايَعَتُهُ فِي آخِرِهَا وَالْمَوْتُ أَقْرَبُ الأشْيَاءِ مِنْ بَنِي آدَمَ وَهُوَ يَعُدُّهُ أَبْعَدَ فَمَا أَجْرَأَ الإنسان عَلَى نَفْسِهِ وَمَا أَضْعَفَهُ مِنْ خَلْقٍ وَفِي الْمَوْتِ نَجَاةُ الْمُخْلِصِينَ وَهَلاكُ الْمُجْرِمِينَ وَلِذَلِكَ اشْتَاقَ مَنِ اشْتَاقَ الْمَوْتَ وَكَرِهَ مَنْ كَرِهَ قَالَ النَّبِيُّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءهُ).
3- عوالي اللئالي- ابن أبي جمهور: 1/ 279

عينيَّ إلاّ وظننت إنّي لا أفتحهما، ولا فتحتهما إلاّ وظننت إني لا أطبقهما)(1)، ولذكر الموت فوائد عديدة:العظة والاعتبار وتحقير الدنيا وعدم الإكتراث بها، ترقيق القلوب، استباق الخيرات، والإكثار من الأعمال الصالحة، وغيرها.17 - الاهتمام بالمرأة من حيث تثقيفها وتعليمها وإعطاؤها حقوقها وهو بذلك يرد على الأفكار والمعتقدات الجاهلية التي تمتهنها وتجعلها سلعة بيد الرجل يقضي بها حاجته ثم يرميها في سلة المهملات، فبيّن تعالى أن المرأة كالرجل في المسؤولية وتحمل التكليف في قوله تعالى:{أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} (آل عمران:195).

وربّى (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ابنته الزهراء (س) لتكون سيدة نساء العالمين، وكان يبيّن لها تفاصيل رسالته العظيمة كما كانت هي تلتقط أخبار أبيها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أولاً بأول من خلال ولديها الحسنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وكان (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يستقبل النساء ويجيبهن عن أسئلتهن وقد صدرت منه كلمات ثناء وإطراء على عدد منهن كأم سلمة وأم أيمن وأسماء بنت عميس وهند أخت عبد الله والد جابر الأنصاري وغيرهن، وبذلك أعطاهن دورهن الكامل في الحياة بشكل لم تعطيه لهن أي شريعة أو نظام، حتى المتشدقين بحقوق المرأة اليوم وهم يريدونها بذلك أن تكون وسيلة لإشباع شهواتهم وغرائزهم ويمتهنون بذلك كرامتها.

اللهم أحينا حياة محمد وآل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمتنا مماتهم، رب أدخلني في كل خير أدخلت فيه محمداً وآل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأخرجني من كل سوء أخرجت41

ص: 140


1- جامع الأحاديث- السيوطي: 6/ 33/ح4641

منه محمد وآل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 141

القبس /123: سورة الأحزاب:22

اشارة

(وَلَمَّا رَءَا ٱلمُؤمِنُونَ ٱلأَحزَابَ قَالُواْ هَٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ)

موضوع القبس:التحديات التي يواجهها العراق المعاصر

هذه الآية من سورة الأحزاب تصف لنا جانباً من ثبات وشموخ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأصحابه الآخذين بسنته المباركة، حيث يصف الله تعالى أعداء الإسلام وإحاطتهم بالمدينة وحصار أهلها للانقضاض عليهم والرعب والهلع الذي أصاب المسلمين، قال تعالى:{إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} (الاحزاب:10-11) هكذا تحزّب عشرة الاف مقاتل من المشركين واحلافهم من اليهود وعشائر العرب وحاصروا المسلمين في المدينة متوعدين اياهم بالقتل والتدمير فماذا كان موقف المؤمنين إزاء هذه الأجواء التي تنخلع لها القلوب، قال تعالى:{لَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} (الأحزاب:22) ومن ملاحظة السياق والمضمون يظهر أن المراد بما وعدهم الله بقوله تعالى في سورة البقرة – وهي من أوائل السور نزولاً في المدينة {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى

ص: 142

يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْ-رُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْ-رَ اللّهِ قَرِيبٌ} (البقرة:214) فتلاحظ أن آية الأحزاب أكدت تحقق ما وعدت به آية سورة البقرة من اشتداد البلاء حتى يُزلزل المؤمنون ويفقدون الأمل بنزول النصر، لكن الله تعالى يطمئنهم ويبشرهم بأن نصر الله قريب.وهذا ما حصل فقد تبدّلت بعد واقعة الأحزاب موازين القوى وتحولت لصالح المسلمين، فوقع صلح الحديبية بعد عام أي في السنة السادسة وهو ما وصفه الله تعالى بالفتح المبين وفي السابعة أدى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عمرة القضاء ثم فتح مكة في الثامنة وانتهت سطوة المشركين ونفوذهم.

إن هذا الدرس من سورة الأحزاب لا يختص بالنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأصحابه الذين كانوا معه فالقران خالد مستمر بإداء دوره الى يوم القيامة فيشمل كل حالة مماثلة، اذ قال الله تعالى {مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} (البقرة:214) اي انها سنة جارية في كل القادة والأمم جميعاً.

لنكن بمستوى تحديات عصرنا تشخيصاً وعلاجاً:

ولذا يجد الواعي أن من السمات البارزة في مسيرة كل الائمة الطاهرين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ومنهم الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وهم قادة الإسلام الذين وهبهم الله تعالى للبشرية هو مواكبتهم لتحديات عصرهم، ولا أقول أنهم كانوا بمستوى تحديات عصرهم بل فوق ذلك لأنهم محيطون بعصرهم وما سبقه وما لحقه، ولكن الذي نريد أن نفهمه نحن هو أن نكون بمستوى تحديات عصرنا تشخيصاً وعلاجاً.

ص: 143

تحديات العراق المعاصر:

ويمكن أن ننظم استطلاعاً للرأي العام واستبياناً لتصور الناس عن هذه التحديات والمشاكل التي يواجهها العراق المعاصر ونعني به عراق ما بعد احتلال عام 2003، وسيكون هذا الاستطلاع مصدراً مفيداً للتعرف عليها لأنه سيجمع رؤى متعددة ومن زوايا مختلفة للامور، وإن كان الكثير منها ملتفتاً اليه وواضحاً.

تحدي الاحتلال وتخريبه للمنظومة الثقافية والأخلاقية:

وما دمنا شخّصنا الموضوع بأنه عراق ما بعد الاحتلال، إذن فالاحتلال هو أول هذه التحديات وقد قلنا في عدة خطابات منذ الأيام الاولى للاحتلال أنه لا يقتصر على الاحتلال العسكري لأن مجيء القوات المحتلة ومكثها انما هو أداة ووسيلة لفرض واقع جديد له عدة أبعاد منها الهيمنة على القرار السياسي ودمج العراق في نظامهم العالمي الجديد، وتبعية الاقتصاد لنظامهم الحر كما يصفون والاستحواذ على خيراته، والافساد الأخلاقي وتبديل الثقافة والتقاليد التي يبنى عليها سلوك الفرد والمجتمع، والانسلاخ من القيم والمبادئ، وتصل حتى التغيير الديمغرافي لأجل مصالح معينة وبقيت هذه الأخطار تنخر في جسد العراق وشعبه حتى بعد رحيل القوات العسكرية للمحتلين.

تحدي الإرهاب:

وجاء مع هذه التحديات التي جلبها الاحتلال الإرهاب الذي اتخذ من مقاومة الاحتلال غطاءاً لخداع المغفلين حتى يلتحقوا به وينفذوا جرائمه، ووفر هذان التحديان بيئة مناسبة لانخراط الكثير من الشباب في جماعات العنف التي

ص: 144

تمارس القتل والخطف والابتزاز والسرقة والاعتداء على الممتلكات العامة.

فساد المتسلطين:

ورغم خطورة هذه التحديات الا أن الأخطر منها –كما وصفت في الخطاب الفاطمي عام 1429(1) هو فساد المتسلطين الماسكين بمفاصل الدولة واستئثارهم بالمال العام وسرقته تحت عناوين وهمية وتهريبه الى خارج العراق وقد تفننوا بهذا بشكل لا نظير له في التاريخ ولا في الجغرافيا كما يقولون .

ورافق هذه المسارات تدمير ممنهج لمؤسسات الدولة المدنية والعسكرية لإضعافها وجعلها عاجزة عن القيام بمسؤولياتها في حفظ النظام وحماية المواطنين وحقوقهم والنهوض بالبلاد والقيام بالمشاريع التنموية ومحاسبة المفسدين، ليغطوا بذلك على فشلهم وفسادهم وشغلوا الناس بنزاعاتهم وصراعاتهم ونشر غسيلهم التي لا يُرجى منها أي خير سوى لي بعضهم ذراع بعض وابتزازه وقضم كمية أكبر من كعكة العراق كما يصفونها، فكان هذا الفساد هو المموّن للإرهاب والعامل المساعد على انتشاره وتجذّره، وأسوأ ما خلّفه الاحتلال وجاء به سياسيو العصر الجديد.

التحدي الخطير في تبعية أغلب السياسيين لأجندات أجنبية:

وكان التحدي الخطير الآخر تبعية أغلب الطبقة الحاكمة لأجندات أجنبية ينفذونها على حساب العراق ومصالح أهله أما لأنه يعتقد أن هذه الدولة تحميه

ص: 145


1- راجع خطاب المرحلة 161 (اعداء الشعب ثلاثة: الاحتلال، الارهاب، فساد الحكومة) المجلد 6 من كتاب خطاب المرحلة. ص 139.

وتمكِّنه وتدعمه أو لأن الكثير منهم كانوا في خارج العراق ويعتاشون على مساعدات تلك الدول ويحمل بعضهم جنسية تلك الدول أو جواز سفرها ولازالت عائلته مستقرة فيها فهو يدين بالولاء لها وهمُّه تسخير ما يستطيع من موارد العراق لمصلحة تلك الدول حتى وهو في أعلى المواقع في قيادة البلاد.

حينما نتكلم نحن ويسكت الاخرون:

وقد نبهنا الى هذه الأخطاء والاخطار قبل عشر سنوات وطالبنا بإصلاحها وقدمنا الخطط الكفيلة بذلك إلا أنني كنت الوحيد الذي أتكلم أما الآخرون - من الزعامات الدينية والسياسية - فكانوا سكارى بمغانم السلطة والدنيا التي حصلوا عليها بعد الاحتلال واجتمعوا على معاداتي وتسقيطي وإقصائي لأنهم لا يريدون ارتفاع صوت من يوقظ الناس من جهلهم وغفلتهم.

ونبهنا أيضاً من أول يوم الى الغزو الاخلاقي لإفساد المجتمع من خلال إغراقه بالتقنيات الحديثة لوسائل التواصل الاجتماعي والانترنت وإباحة كل شيء من دون فلترة أو تشفير وهو مالا تجده حتى دول الغرب المتحللة التي تتخذ الاجراءات لتحصينهم من بعض ما يعرض من الانتاج المدمّر لكل القيم أما العراق فمستباح لكل شيء، واوردنا في عدة خطابات عشرات المضّار لإباحة هذه الوسائل.

تجهيل العقول وتسطيحها:

ومن مشكلات العراق المعاصر عملية التجهيل والتضليل وتسطيح العقول للناس لأن الجاهل يسهل قياده حيث يشاؤون مما أدى الى نقص معرفي وثقافي

ص: 146

عام وصل حد التخلف أحياناً ومن المؤسف ممارسة القيادات لذلك حتى بعض الزعامات الدينية ومحاربة من يوقظ الناس وينبهها الى حقوقها ومصالحها وتسقيطه وافتراء الشبهات عليه لخوفهم من يقظة الناس ووعيهم وبصيرتهم في الامور، وأصبح الكتاب وأدوات المعرفة الاخرى آخر ما يثير اهتمام الناس وشغفهم رغم أن الكتاب أرخص الأشياء سعراً وأعظمها فائدةً ولعل أوضح مثال إعادة انتخاب الناس للفاسدين والظالمين بعد أن يعضّوا على أصابع الندم لانتخابهم في المرحلة السابقة ويقولون سنقطع أصابعنا التي تلوّنت بحبر الانتخاب، هكذا يُساق الشعب الى الظلم والخراب والقتل طائعاً مختاراً بفعل ما تقوم به الجهات الدينية والسياسية من مكر وخداع وتجهيل وتقديس الأصنام.

الفتنة القذرة:الحرب الطائفية وتقسيم البلد:

وإن أخطر المشاكل التي صنعوها للعراق وأقذرها فتنة الحرب الطائفية التي لا ثمرة فيها ويخرج الجميع منها خاسرين وتمتاز بالقسوة وفقدان البصيرة وعدم التورع عن ممارسة ابشع الاساليب الوحشية لانها تجري بأسم الدين والمذهب وتُرّوج على انها حرب مقدسة.

والمشكلة الخطيرة الاخرى مشروع تقسيم البلاد التي تؤدي الى تمزيق أهله وإدخالهم في صراعات دموية مدمرة لا نهاية لها، فتتحارب هذه القومية وتلك وهذه الطائفة وتلك وهذا الاقليم وذاك وهذه المحافظة وتلك وهذه العشيرة وتلك، مع ضعف الدولة وعجزها عن إطفاء هذا الاتون الملتهب، بل أن الكثير من السياسيين والانتهازيين وأصحاب الأجندات الهدّامة يغذّون هذه الصراعات لأنهم يعتاشون عليها وتديم وجودهم ونفوذهم.

ص: 147

وفي خضم هذه الصراعات انمحت الهوية الوطنية ولم يبق شعور بالانتماء الى العراق أو تدفق الاحساس بالوطنية ولم يعد يوجد ما يوحد العراقيين ويلهب مشاعرهم الا بعض الحالات النادرة، بل لا يستحي بعضهم من الحديث عن عدم وجود أي شيء إسمه العراق.

الأزمة الاقتصادية:

ومنها سوء ادارة اقتصاد البلد وعدم وجود خطط مدروسة لاستثمار ثرواته، فضاع بسبب ذلك مئات المليارات من الدولارات واقصي المتخصصون والخبراء المهنيون، وهذا ما حصل في كل مؤسسات الدولة التي عبثت بها الاحزاب ورؤساؤها من امراء الحروب وآخر ما تفتقت عنه شيطنة الفساد عند المتسلطين هو عرض قطاع الكهرباء للخصخصة وان حاله لا ينصلح الا بإحالته الى المستثمرين، هذا بعد صرف اكثر من 35 مليار دولار من اموال الشعب على هذا القطاع، ولنا تجربة مؤلمة مع احالة مؤسسات الدولة الى القطاع الخاص الذي قامت به وزارة الصناعة وعقود التراخيص لوزارة النفط وبيع اموال وعقارات الدولة حيث تباع بسعر التراب الى المستثمرين ويأخذ المسؤول عمولته من السحت الحرام ثم يحسبها المستثمر بمليارات الدولارات في فاتورة حسابات المشروع الاستثماري ليستوفوا اجور عالية من الشعب المسكين، فهل التفت المتظاهرون المتحمسون لحقيقة ما يجري.

العراق يشبه الحسين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في وحدته ومظلوميته:

هذه وغيرها بعض مشكلات العراق والتحديات التي تواجهه بل الطعنات التي توجه اليه من القريب قبل البعيد ومن أبنائه قبل أعدائه، ومن الجار والأخ قبل

ص: 148

الغريب والأجنبي لأنهم ينفّذون طوعاً وبذلةِ التبعية وبيع الضمائر والولاءات أجندات أعداء العراق، فتتابعت عليه النكبة بعد النكبة والجرح على الجرح والكارثة على الكارثة، وحينما أتصور العراق بهذه الحالة ينتقل ذهني الى الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم عاشوراء وهو ينزف دماً قد أصابته مئات الجراحات لأن الطعنة على الطعنة والضربة على الضربة والرمية على الرمية، لكنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كان واقفاً شامخاً أبياً عزيزاً منتصراً وأعداؤه مهزومون خائفون مرعوبون قلقون من مستقبلهم المظلم، وهكذا العراق يبقى ثابتاً شامخاً عصياً على الأعداء بإذن الله تعالى وبما ضمَّ في ترابه من أجساد الائمة الطاهرين والأنبياء العظام (صلوات الله عليهم اجمعين) والمشاهد المشرفة، وبوجود ثلة مؤمنة مخلصة شجاعة تمتلك الهمة العالية والروح الكبيرة.

مسؤولياتنا أمام كل الأعداء:درس من سورة الأحزاب:

وهنا أمام هذا الحشد المرعب من الأعداء المجرمين مصاصي الدماء وناهبي ثروات الشعوب وأعداء الحياة والحضارة والإنسانية الذين تحزّبوا وأعدّوا عدتهم للهيمنة على العراق واستعباد أهله واستئصال كل غيور حر شريف علينا أن نستلهم موقفنا مما حكاه الله تعالى من سورة الأحزاب ازاء ما يتعرض له العراقيون من اشتداد البلاءات وكثرتها وتحزب شياطين الإنس والجن عليه، لأنه مركز النور ومنطلق الهداية للعالم أجمع، فيخاف الجميع من نهضته وقيامه وكل منهم ينطلق من زاويته في النظر الى ما يقلقه من العراق، فعلينا ان نستلهم الموقف مما ذكره الله تعالى في سورة الاحزاب.

ص: 149

القبس /124: سورة الأحزاب:41

اشارة

(يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكرا كَثِيرا)

موضوع القبس :ذكر الله تعالى على كل حال

الذكر في القرآن الكريم:

لقد أولى القرآن الكريم قضية (الذِكر) أي ذكر الله تعالى اهتماماً بالغاً لأهميتها وعظيم آثارها، حتى أن هذه المفردة ومشتقاتها تكررت في عشرات الآيات، والملاحظ أن ورودها في الآيات المكية حوالي ثلاثة أضعاف الآيات المدنية تقريباً حيث كان القرآن المكي يركّز على بناء عقيدة التوحيد وعلاقة المسلم بالله تعالى ونبذ الشركاء والأنداد وتطهير القلب وتهذيب النفس.

قال تعالى:{وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} (آل عمران:41) وقال تعالى:{وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} (الأعراف:205) وقال تعالى:{وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} (الكهف:24)، وقال تعالى:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} (البقرة:152) وقال تعالى:{وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} (البقرة:203)، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} (الأحزاب:9)، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً،

ص: 150

وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الأحزاب:41-42)، وقال تعالى:{وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الجمعة :10) وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِ-رُونَ} (الأعراف :201) وقال تعالى:{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ} (آل عمران:191) وقال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد :28) وقال تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} (العنكبوت:45) وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (المنافقون :9) وقال تعالى:{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} (المزمل:8). وجاءت الأحاديث الشريفة لتؤكد هذه الأهمية، وتدعوا المؤمنين إلى ذكر الله تعالى على كل حال، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(أكثروا من التهليل والتكبير فإنه ليس شيء أحبَّ إلى الله من التكبير والتهليل)(1)، ويشرح الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) معنى التكبير في رواية عن أحد أصحابه قال:(قال لي أبو عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):أي شيء الله أكبر؟ فقلتُ:الله أكبر من كل شيء، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):فكان ثَمَّ شيء فيكون أكبر منه؟ فقلت:فما هو؟ فقال:الله أكبر من أن يوصف)(2).

وفي رواية أخرى (قال رجلٌ عنده:الله أكبر، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):الله أكبر من أي11

ص: 151


1- ثواب الأعمال: 18، باب ثواب لا إله إلا الله، ح13.
2- الحديث والذي يليه في معاني الأخبار: 11

شيء؟ فقال:من كل شيء، فقال أبو عبد الله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):حدّدته! فقال الرجل:وكيف أقول؟ فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):الله أكبر من أن يوصف).وروى الحسن بن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):بادروا إلى رياض الجنة، فقالوا:وما رياض الجنة؟ قال:حَلَقُ الذِكر)(1)، حتى عُدَّ الذكر زينة المؤمنين في الخصال روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله:(زيّنوا أعيادكم بالتكبير) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(زيّنوا العيدين بالتهليل والتكبير والتحميد والتقديس)(2).

معنى (ذكر الله تعالى على كل حال):

في الخصال عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):يا علي سيد الأعمال ثلاث خصال:إنصافك الناس من نفسك، ومواساتك الأخ في الله عز وجل، وذكر الله تعالى على كل حال)،

ونفهم من (على كل حال) عدة مستويات وكلها صحيحة ومستفادة من الآيات المتقدمة:

1-أي في كل زمان وفي كل آن، كما في الآية (41 من آل عمران) {بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} و (الآية 205 من الأعراف) {بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} عن أبي جعفر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(مكتوب في التوراة أن موسى سأل ربه فقال:إني أكون في حال أُجِلُّك أن أذكرك فيها، قال:يا موسى اذكرني على كل حال وفي كل أوان)(3).

ص: 152


1- معاني الأخبار: 321، أمالي الصدوق: 297، المجلس 58، ح2.
2- ميزان الحكمة: 6/ 323، باب 2962.
3- هذا الحديث وما بعده بحار الأنوار: 93/ 160.

2-أي في كل وضع من أوضاع الإنسان قائماً وقاعداً وعلى جنوبهم كما في (الآية 191 من آل عمران) {قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ}، وعن الإمام الباقر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لا يزال المؤمن في صلاة ما كان في ذكر الله قائماً كان أو جالساً أو مضطجعاً إن الله تعالى يقول:{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ}).

3-في كل مكان وموضع كان فيه، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إن سمعت الأذان وأنت على الخلاء فقل مثل ما يقول المؤذن ولا تدع ذكر الله عز وجل في تلك الحال لأن ذكر الله حسن على كل حال) ثم ذكر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) المكتوب في التوراة أعلاه، وفي كتاب الخصال في حديث الأربعمائة قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(اذكروا الله في كل مكان فإنه معكم، وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(أكثروا ذكر الله عز وجل إذا دخلتم الأسواق وعند اشتغال الناس فإنه كفارة للذنوب وزيادة في الحسنات ولا تُكتبوا من الغافلين)(1).

4-في كل قضية تعرض لك وكل معاملة وكل قضية، فإن كان فيها رضا الله سبحانه فعلتها، وإلا تركتها، روي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(ألا أحِّدثك بأشد ما فرض الله عز وجل على خلقه، قلتُ بلى، قال، قال:إنصاف الناس من نفسك مواساتك لأخيك وذكر الله في كل موطن، أما إني لا أقول:سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر –وإن كان هذا من ذاك- ولكن ذكر الله في كل موطن إذا هجمت على طاعته أو معصيته)(2). وفي حديث آخر عنه:(وذكر2.

ص: 153


1- الخصال: 2/ 614، باب الأربعمائة، ح10.
2- معاني الأخبار: 192.

الله على كل حال فإن عرضت له طاعة لله عمل بها وإن عرضت له معصية تركها)(1)الكافي: 2/ 183.(2).5-في كل حال من أحوال النفس من الغضب أو الرضا، والفرح أو الحزن، والغم والضيق أو الانشراح والسرور، روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(يقول الله عز وجل:يا ابن آدم، اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب، ولا أمحقك في من أمحق)(3). وفي حديث:(إنما المؤمن الذي إذا غضب لم يخرجه غضبه من حق وإذا رضي لم يدخله رضاه في باطل وإذا قدر لم يأخذ أكثر مما له)(3).

6-أن يُعِدَّ لكل حالٍ ذِكره الخاص به، فللنعمة ذكر وللمصيبة ذكر وللقتال ذكر وللوضوء ذكر ولتناول الطعام ذكر وللنوم ذكر وللنكاح ذكر وللتخلي ذكر ولركوب السيارة ذكر، وهكذا، وهذا معنى شرحناه مفصلاً في كتاب (شكوى القرآن)(4).

وخلاصة الوجوه أن معنى الذكر الكثير أن يكون الإنسان في جميع أحواله مطيعاً لله تبارك وتعالى، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):من أطاع الله فقد ذكر الله وإن قلّت صلاته وصيامه وتلاوته، ومن عصى83

ص: 154


1- أمالي الطوسي: 88، المجلس
2- ، ح135.
3- أمالي الطوسي: 279، المجلس (10) ح 532.
4- أنظر: ملحق (شكوى القران), من نور القرآن: 3/ 283

الله فقد نسي الله وإن كثرت صلاته وصيامه وتلاوته)(1).

جزاء الذكر وآثاره وفضل مجالس الذكر:

فضل مجالس الذكر:كهذا الحشد الذي نذكر فيه الله تعالى، وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة منها:

1-عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(ما جلس قومٌ يذكرون الله إلا ناداهم منادٍ من السماء:قوموا فقد بدّلتُ سيئاتكم حسنات وغفرت لكم جميعاً، وما قعد عدة من أهل الأرض يذكرون الله إلا قعد معهم عدة من الملائكة)(2).

2-وروي أن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) خرج على أصحابه فقال:(ارتعوا في رياض الجنة، قالوا:يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال:مجالس الذكر، اغدوا وروحوا واذكروا، ومن كان يحبّ أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده، فإن الله تعالى ينزل العبد حيث أنزل العبدُ اللهَ من نفسه، واعلموا أن خير أعمالكم عند مليككم وأزكاها وأرفعها في درجاتكم وخير ما طلعت عليه الشمس ذكر الله تعالى، فإنه تعالى أخبر عن نفسه فقال:أنا جليس من ذكرني)(3).

3-وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:ذاكر الله في الغافلين كالمقاتل في الفارّين والمقاتل في الفارّين نزوله الجنة)(4) فأكثر اجتماعات الناس تتخللها أحاديث فارغة لا جدوى منها، وقد

ص: 155


1- معاني الأخبار: 399.
2- وسائل الشيعة (آل البيت): 7/ 153/ح3
3- بحار الأنوار- المجلسي: 90/ 163
4- المحاسن: 1/ 110، ح99.

تتضمن محرمات، فمن يلتفت حينئذٍ إلى ذكر الله تعالى يكون من أهل هذا الحديث.4-وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(البيت الذي يُقرأ فيه القرآن ويذكر الله فيه تكثر بركته وتحضره الملائكة وتهجره الشياطين ويضيء لأهل السماء كما تضيء الكواكب لأهل الأرض)(1) ولتلافي الغفلة التي تحصل في بعض المجالس والأحاديث، فقد ورد استحباب أن يقول الشخص عند قيامه من المجلس:{سُبحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى المُرسَلِينَ، وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ}(الصافات:180-182)(2).

جزاء الذكر وآثاره:

إن التوفيق لذكر الله تعالى من أعظم النعم على العبد، من دعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إلهي لولا الواجب من قبول أمرك لنزّهتك عن ذكري إياك، على أن ذكري لك بقدري لا بقدرك، وما عسى أن يبلغ مقداري حتى أُجعلَ محلاً لتقديسك، ومن أعظم النعم علينا جريان ذكرك على ألسنتنا) إلى أن يقول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(وقلتَ وقولك الحق:(فَاذكُرُونِي أذكُركُم) فأمرتنا بذكرك ووعدتنا عليه أن تذكرنا تشريفاً لنا وتفخيماً وإعظاماً، وها نحن ذاكروك كما أمرتنا، فأنجز لنا ما وعدتنا، يا ذاكر الذاكرين)(3).

ص: 156


1- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 610/ح3
2- بحار الأنوار- المجلسي: 83/ 23
3- مفاتيح الجنان: 206، المناجاة (13) مناجاة الذاكرين.

ومما ورد في كتاب الله تعالى:-1-ذكر الله سبب لطمأنينة القلب وما أعظمها من نتيجة، قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد:28)، ومن آثار الطمأنينة الأُنس، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ذكر الله ينير البصائر ويؤنس الضمائر)(1) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ذاكر الله مؤانسه) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إذا رأيت الله سبحانه يؤنسك بذكره فقد أحبّك، وإذا رأيت الله يؤنسك بخلقه ويوحشك من ذكره فقد أبغضك).

2-أنه سبب ليقظة القلب من غفلته، وحياته بعد قسوته، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف :201)، وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من ذكر الله استبصر) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من كثر ذكره استنار لبّه) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(دوام الذكر ينير القلب والفِكر).

3-إن الله تعالى يذكر من ذكره، قال تعالى:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} (البقرة :152)، وفي عدة الداعي:(يعني اذكروني بالطاعة والعبادة أذكركم بالنعم والإحسان والرحمة والرضوان، وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال الله تعالى:يا ابن آدم اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي، ابن آدم اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي، ابن آدم اذكرني في الخلاء أذكرك في خلاء، ابن آدم اذكرني في ملأ أذكرك في ملأ خير من ملأك، وقال:ما70

ص: 157


1- الحديث وما بعده تجدها في ميزان الحكمة- الريشهري: 2/ 970

من عبد يذكر الله في ملأ من الناس إلا ذكره الله في ملأ من الملائكة)(1).4-إن الذكر سبيل موصل إلى الله تعالى، قال تعالى:{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} (المزّمِّل:19) (الإنسان:29).

جزاء الذكر في الأحاديث الشريفة:

أما الأحاديث الشريفة فقد ورد فيها الشيء الكثير:-

1-إن الذكر يوجب محبة الله تعالى للذاكر، عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال:(يا ربّ وددتُ أن أعلم من تحبُ من عبادك فأحبّه، فقال:إذا رأيت عبدي يكثر ذكري فأنا أذنت له في ذلك وأنا أحبُّه، وإذا رأيت عبدي لا يذكرني فأنا حجبته وأنا أبغضته)، وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من أكثر ذكر الله أحبَّه).

2-وأن الله تعالى يتولى أمر الذاكر وجميع شؤون حياته في دنياه وآخرته، فكم يكون الإنسان سعيداً حينما يتولى شؤونه محبٌّ له شفيق عليه حكيم بأفعاله عالم بكل شيء إلى غيرها من الأسماء الحسنى، ففي بعض الأحاديث القدسية قال الله تعالى:(أيما عبدٍ اطلعتُ على قلبه فرأيتُ الغالب عليه التمسك بذكري تولّيتُ سياسته وكنتُ جليسَه ومحادثه وأنيسه)، وعن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(قال الله سبحانه إذا علمت أن الغالب على عبدي الاشتغال بي نقلتُ شهوته في مسألتي ومناجاتي، فإذا كان عبدي كذلك فأراد أن يسهو حِلتُ بينه

ص: 158


1- أكثر الأحاديث المذكورة نقلناها عن مصادرها بواسطة: بحار الأنوار: 93/ 148-175، وميزان الحكمة: 3/ 341-360.

وبين أن يسهو، أولئك أوليائي حقاً، أولئك الأبطال حقاً، أولئك الذين إذا أردتُ أن أهلك أهل الأرض عقوبةً زيتها عنهم من أجل أولئك الأبطال)، وروي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(إن الله تبارك وتعالى يقول:من شُغِل بذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي مَن سألني)، وروي فيما ناجى به موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ربَّه عز وجل:(إلهي ما جزاء من ذكرك بلسانه وقلبه؟ قال:يا موسى أُظلُّه بظل عرشي وأجعله في كنفي)(1).3-أنه يوجب الثواب العظيم فعنهم (سلام الله عليهم):(إن في الجنة قيعاناً فإذا أخذ الذاكر في الذكر أخذت الملائكة في غرس الأشجار فربما وقف بعض الملائكة فيقال له:لم وقفت؟ فيقول:إن صاحبي قد فتر، يعني عن الذكر)(2). وعن أحد الإمامين الصادقين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لا يكتب الملك إلا ما أسمع نفسه وقال الله:{وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} قال:لا يعلم ثواب ذلك الذكر في نفس العبد لعظمته إلا الله)(3).

4-الذكر الطيب، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من اشتغل بذكر الله طيّب الله ذكره)، ومن وصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأبي ذر قال:(عليك بتلاوة القرآن وذكر الله كثيراً فإنه ذكر لك في السماء ونورٌ لك في الأرض)(4).

5-يقيه الكثير من الحوادث، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إن الصاعقة لا3.

ص: 159


1- أمالي الصدوق: 173، المجلس (37) ح8.
2- بحار الأنوار: 93/ 162-164.
3- بحار الأنوار: 93/ 159، ح36.
4- معاني الأخبار: 334، الخصال: 2/ 525، أبواب العشرين وما فوقه، ح13.

تصيب ذاكراً لله عز وجل)(1).6-في الذكر إعمار القلب وصلاحه وهذا القلب هو الذي ينجو صاحبه يوم القيامة، من وصية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لولده الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(أوصيك بتقوى الله أيْ بُني، ولزوم أمره، وعمارة قلبك بذكره) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(وأصل صلاح القلب اشتغاله بذكر الله) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(مداومة الذكر قوت الأرواح ومفتاح الصلاح) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من عمر قلبه بدوام الذكر حسنت أفعاله في السر والجهر).

7-وبالذكر تحيى القلوب، روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله:(بذكر الله تحيى القلوب، وبنسيانه موتها)، وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(اذكروا الله ذكراً خالصاً تحيوا به أفضل الحياة وتسلكوا به طرق النجاة) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من ذكر الله سبحانه أحيى الله قلبه ونوّر عقله ولبّه).

8-وبه شفاء القلوب، قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(ذكر الله شفاء القلوب)، وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(عليكم بذكر الله فإنه شفاء، وإياكم وذكر الناس فإنه داء)، وفي دعاء كميل:(يا من اسمه دواء وذكره شفاء).

9-بالذكر يطرد الشيطان، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(إن الشيطان واضع خطمه –أي فمه- على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله سبحانه خنس، وإذا نسي التقم قلبه، فذلك الوسواس الخنّاس) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ذكر الله مطردة الشيطان) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ذكر الله رأس مال كل مؤمن، وربحه السلامة من الشيطان).3.

ص: 160


1- أمالي الصدوق: 375، المجلس (71) ح3.

10-وأن في الذكر أماناً من النفاق، عن رسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(من أكثر من ذكر الله فقد برئ من النفاق).

خطبة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في فضل الذكر:

ولأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) خطبة جامعة في فضل الذكر والذاكرين قالها عند تلاوته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قولَه تعالى:{رَجَالٌ لا تُلهِيهِم تِجَارَةٌ وَلا بَيعٌ عَن ذِكرِ اللهِ} قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إن الله سبحانه جعل الذكر جلاءً للقلوب، تسمع به بعد الوَقْرة، وتُبصر به بعد العَشوة، وتنقاد به بعد المعاندة، وما برح للهِ عزّت آلاؤه في البرهة بعد البرهة، وفي أزمان الفترات، عبادٌ ناجاهم في فكرهم، وكلّمهم في ذات عقولهم، فاستصبحوا بنور يقظة في الأسماع والأبصار والأفئدة، يذكّرون بأيام الله، ويخوّفون مقامه، بمنزلة الأدلّة في الفلوات، من أخذ القصد حمدوا إليه طريقه، وبشّروه بالنجاة ومن أخذ يميناً وشمالاً ذمّوا إليه الطريق وحذّروه من الهلكة. وكانوا كذلك مصابيح تلك الظلمات وأدلة تلك الشبهات. وإن للذكر لأهلاً أخذوه من الدنيا بدلاً، فلم تشغلهم تجارة ولا بيع عنه، يقطعون به أيام الحياة ويهتفون بالزواجر عن محارم الله في أسماع الغافلين)(1).

من مصاديق الذكر الكثير:

1)تسبيح الزهراء (س) عقب كل فريضة، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حديث يقول في آخره:(تسبيح فاطمة من الذكر الكثير الذي قاله عز

ص: 161


1- نهج البلاغة: الخطبة: 211، ص211.

وجل:{فَاذْكُرُونِي أَذكُركُم}(1) وفي رواية أخرى عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):إنه (التسبيح في دُبُر كل صلاة ثلاثين مرة)(2).2)وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه (صلوات الله عليهم وسلامه) قال:(قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من أطاع الله فقد ذكر الله وإن قلّت صلاته وصيامه وتلاوته، ومن عصى الله فقد نسي الله وإن كثرت صلاته وصيامه وتلاوته).

3)وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قوله تعالى:{اذْكُرُوا اللهَ ذِكراً كَثِيراً} قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إذا ذكر العبد ربَّه في اليوم مائة مرة كان ذلك كثيراً)(3).

4)وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(من ذكر الله في السر فقد ذكر الله كثيراً، إن المنافقين يذكرون الله علانية ولا يذكرونه في السر قال تعالى:{يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} (النساء:142))(4).

خسارة الغفلة والإعراض عن الذكر:

قال تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَ-ى} (طه:124-126)، وقال تعالى:{وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (الزخرف:36) وقال

ص: 162


1- معاني الأخبار: 194.
2- ميزان الحكمة: 3/ 344.
3- بحار الأنوار: 93/ 160، ح38.
4- بحار الأنوار: 93/ 160، ح41.

تعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (الحشر:19).

الروايات المحذرة من الغفلة:

ومن الروايات المحذِّرة من الغفلة عن ذكر الله تعالى:

1-روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله:(ما من ساعة تمرُّ بابن آدم لم يذكر الله فيها إلا حسِر عليها يوم القيامة)(1).

2-وفي عدة الداعي روى الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال:(ما من قوم اجتمعوا في مجلس فلم يذكروا الله ولم يصلّوا على نبيّهم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلا كان ذلك المجلس حسرة ووبالاً عليهم).

3-وفي تتمة الحديث السابق(2) عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(والبيت الذي لا يُقرأ فيه القرآن ولا يذكر فيه الله تقل بركته وتهجره الملائكة وتحضره الشياطين).

4-وروى الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن أبيه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(أوحى الله تبارك وتعالى إلى موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):لا تفرح بكثرة المال ولا تدع ذكري على كل حال، فإن كثرة المال تنسي الذنوب وترك ذكري تقسي القلوب)(3).

ص: 163


1- ميزان الحكمة: 3/ 344.
2- مرّ الحديث في كلام سماحته في النقطة الرابعة من (فضل مجالس الذكر) وهو قول الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (البيت الذي يقرأ فيه القرآن ويذكر الله فيه تكثر بركته ..) الحديث.
3- الخصال: 1/ 39، باب الاثنين، ح23.

5-عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من (نسي الله سبحانه أنساه الله نفسه وأعمى قلبه)(1).

حقيقة الذكر:

قالوا:إن الذكر بمعنى الحفظ، إلا أن الاختلاف بينهما باللحاظ، فيقال الحفظ باعتبار إحراز المحفوظ، والذكر يقال اعتباراً باستحضاره.

وأقول:إنه تارةً يراد بالذكر معناه المصدري فيكون معناه حضور الشيء في القلب أو على اللسان، وتارة يراد به المعنى اسم المصدري، فيعبر عن قابلية عقلية وقلبية بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة.

والمعنى الحقيقي لذكر الله تعالى هو حضوره في القلب والالتفات إليه لأنه الذي تتحقق به الآثار، أما حركة اللسان به فهي تعبير وكاشف عنه ومظهر ومبرز له، وليست ذكراً حقيقياً إلا من باب ذكر الدال وإرادة المدلول به، ولا تترتب الآثار المتقدمة عليه وحده.

أترى لو أن إنساناً كان له حصن يحميه من عدوه فهل يكفيه أن يكرّر:أعوذ بهذا الحصن من عدوي لحمايته من العدو إذا هجم عليه، أم المطلوب الدخول فعلاً في الحصن، وهكذا كل الأذكار لها حقائق تترتب عليها الآثار ولا يكفي مجرد لقلقة اللسان، كما في الرواية عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في نهج البلاغة لرجل قال بحضرته:أستغفر الله، فعلّمه الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حقيقة الاستغفار.

لكن الله تعالى بكرمه جعل ثواباً حتى على مجرد تحريك اللسان بالذكر

ص: 164


1- غرر الحكم:8875.

وإن كان ليس ذا قيمة مقابل ما يقترن بالذكر القلبي، لذا لا ينبغي الالتفات إلى ما يقوله بعض الصوفية من أن الذكر باللسان دون حضور القلب لا قيمة له وتركه أولى، فهذا من تسويلات الشيطان، لأن لكل جارحة ذكراً، والذكر اللساني يحقق طاعة بمقداره ويصونه من استعماله في المعاصي اللسانية بمقداره أيضاً، وفيه إرغام للشيطان ولو بأدنى مستوياته فلا ينبغي تركه. يقول السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) عن قيمة الذكر القلبي إنه ((من أعظم الرياضات التي توصل إلى المدارج والمقامات التي فوقه بلطف الله سبحانه. وإن من أفضل أشكال الذكر القلبي هو استحضار مضمون الأسماء الحسنى ذات المدلول الطيب أعني ليس من قبيل (شديد العقاب) و (ذو الانتقام) ونحوها، بل نحو (العظيم) و (الرحيم) و (الحليم) و (الغفور) و (الشكور) وغيرها.

ثم التفكير في الخلق الذي يرجع إلى مضمون مجموعة أخرى من الأسماء الحسنى كالخالق والرازق والمدبّر والمنعم والمعطي والحنّان والمنّان ونحوها.

ثم التفكير في شأن الفرد أمام خالقه من القصور والجهل والذنب والتقصير وحسن الظن به تبارك وتعالى وكونه محل لطفه ونعمه وسبحانه ونحو ذلك))(1).

مجالس أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من الذكر:

ومن حلق الذكر التي وصفتها الأحاديث الشريفة بأنها رياض الجنة:المجالس التي تعقد لذكر فضائل أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ومصائبهم، وللوعظ

ص: 165


1- قناديل العارفين: 148.

والإرشاد وتعليم أحكام الشريعة، عن الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(ليس من عبد يذكر عنده أهل البيت فيرق لذكرنا إلا مسحت الملائكة ظهره وغفر له ذنوبه كلها، إلا أن يجيء بذنب يخرجه من الإيمان)(1)، وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(شيعتنا الرحماء بينهم، الذين إذا خلوا ذكروا الله (إن ذِكرنا من ذكر الله) إنّا إذا ذُكرنا ذُكر الله وإذا ذُكر عدونا ذُكر الشيطان)(2).1.

ص: 166


1- سفينة البحار: 3/ 207.
2- الكافي، ج2، باب تذاكر الإخوان، ح1.

القبس /125: سورة سبأ:20

{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ}

لما عصى إبليس أمر ربه تبارك وتعالى في السجود لآدم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وطرد من زمرة الملائكة أطلق تهديداً خطيراً واستراتيجياً يستمر إلى يوم يبعثون {قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (الحجر:36) (ص:79) فهدّد بقوله الذي حكاه القرآن الكريم {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (ص:82-83) وفي آية أخرى {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (الحجر:39-40) وفي آية ثالثة {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف:16-17).

وهو -لعنة الله عليه- حينما أطلق هذا التهديد لم يكن يعلم الغيب ليجزم بهذه النتيجة، وإنّما كان يهدّد ويأمل أن يحقّق هذه النتيجة ويبذل وسعه لتحقيقها وهي غواية جميع البشر إلاّ عباد الله الذين استخلصهم لنفسه، ولا أدري إن كان يحتمل نجاحه في هذه العملية وهو يعلم أنّه يُقابل حشداً إلهياً فيه لطف رباني عميم ورحمة واسعة وإرادة دائمة لهداية البشر وصلاحهم وتواتر الحجج والبيّنات

ص: 167

ظاهرة وباطنة (لا تخلو الأرض من حجّة)(1) مضافاً إلى مواسم كثيرة تُغلُّ فيها الشياطين خصوصاً في شهر رمضان ورميهم بالشهب الثاقبة، بينما لا يملك إبليس إلاّ الدعوة والتزيين {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} (إبراهيم:22) لذا قال تعالى {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} (النساء:76).لكن المفاجئة إن البشر أعرضوا عن الاستجابة لداعي ربّهم مع هذه الألطاف والتأييدات المعدّة للهداية وأقرّوا عين إبليس ولم يخيّبوا ظنّه، قال تعالى {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} (سبأ:20-21) والمراد بظنّ ابليس الذي صدقوه تهديداته السابقة، بل ما أسرع استجابتهم له بمجرّد أن دعاهم.

وتسجّل السيّدة الزهراء (س)هذا التعجّب والاستغراب في خطبتها:(وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم فألفاكم لدعوته مستجيبين وللعزّة فيه ملاحظين، ثمّ استنهضكم فوجدكم خفافاً وأحشمكم فألفاكم غضاباً) (2)، أي وجدهم الشيطان مسارعين خفافاً للاستجابة له وترك وصيّة الله تعالى رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

لذا يحذّر أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الناس من الاغترار بهذه الدعوة والاستجابة30

ص: 168


1- أنظر: الكافي- الشيخ الكليني: 1/ 178
2- الاحتجاج: 1/ 130

لها، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللَّهِ عَدُوَّ اللَّهِ أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ وَأَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ بِنِدَائِهِ)(1).ولم يأخذ بهذا التحذير إلاّ القلة {إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} (سبأ:20) وبثبات هذه القلة وإخلاصها وعملها الدؤوب حفظ الله تعالى هذا الدين وبارك في عطائهم وجعلهم مناراً للأجيال، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أولئك هم الأقلون عدداً والأكثرون عند الله قدراً)(2).

أمّا أكثر الناس فقد سقطوا في فخوخ الشياطين، قال تعالى:{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} (يس:62).

ولم يكتفِ منهم اللعين بالغواية في موقف أو حالة أو زمان بل ظلّ يمعن في غوايتهم وإضلالهم حتّى نزع من قلوبهم الاطمئنان بالآخرة فجعلهم يشكون فيها، وعدم الإيمان بالآخرة تعني التحلّل من كلّ رادعٍ عن الفساد والانحراف والظلم والانحطاط والحيوانية.

وقوله تعالى في آية سورة سبأ المتقدّمة (لنعلم) ليس علماً بعد جهل تعالى الله عن ذلك، وإنّما معناه لنظهر لهم حقائقهم وبواطنهم حتى يعرفوا أنهم نالوا العذاب باستحقاق ولا يعترضوا لو عوقبوا بناءً على العلم الإلهي من دون إبراز لحقائق أعمالهم بأنهم لو اعطوا الفرصة لكانوا على خير.

ولكنّ الله تعالى يحذّرهم بحقيقة يجب أن ينتبهوا إليها وهي أنّه محيط بأفعالهم ونياتهم لأنّه تعالى حفيظ على كل شيء {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي7.

ص: 169


1- نهج البلاغة، الخطبة 192.
2- نهج البلاغة، قصار الكلمات: 147.

السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} (سبأ:3) (يونس:61).وهكذا كان الناس في كلّ موقف وفي كل مفصل من مراحل التاريخ ينحازون إلى صفّ إبليس إلاّ قليل ممن عصم الله تعالى {إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} (سبأ:20)، في تفسير القمي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لما أمر الله نبيّه أن ينصّب أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) للناس في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} في علي بغدير خم فقال:من كنت مولاه فعلي مولاه، فجاءت الأبالسة إلى إبليس الأكبر وحثوا التراب على وجوههم، فقال لهم إبليس:مالكم؟ قالوا:إن هذا الرجل، قد عقد اليوم عقدة لا يحلها شيء إلى يوم القيامة. فقال لهم إبليس:كلا إنّ الذين حوله قد وعدوني فيه عدة، فأنزل الله على رسوله(1) {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} (سبأ:20).

ويجب أن نفهم من إقرار عين إبليس باتباعه له مراتب وإذا عجز اللعين عن المرتبة الشديدة للانحطاط فإنّه يقبل بما هو أهون منها والمهم عنده الإبعاد عن رضوان الله تعالى ولو درجة وإيجاد النقص في ما يقرّب إلى الله تعالى، فلا يقتصر عمله على الغواية إلى حدّ الكفر والشرك أو إلى حد ارتكاب المعاصي من المؤمنين، بل يعمل-في حالة عجزه عن ذلك- على التزيين لترك الأولى بفعل المكروه أو ترك المستحب.

روى الشيخ الطوسي في الأمالي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إنّ إبليس كان يأتي الأنبياء من لدن آدم حتّى عيسى (صلوات الله عليهم أجمعين) ويحادثهم،7.

ص: 170


1- البرهان: 8 /68 عن تفسير القمي: 2/ 201، الأمثل: 10/ 547.

وفي إحداها (قال يحيى بن زكريا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):فهل ظفرت بي ساعة قط، قال:لا، ولكن فيك خصلة تعجبني. قال يحيى:فما هي؟. قال:أنت رجل أكول فإذا أفطرت أكلت وبَشَمَت –أي امتلأت- فيمنعك ذلك من بعض صلاتك وقيامك بالليل، قال يحيى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):فإنّي أعطي الله عهداً أن لا أشبع من الطعام حتّى ألقاه، قال له ابليس:وأنا أعطي الله عهداً إني لا أنصح مسلماً حتّى ألقاه. ثمّ خرج فما عاد إليه بعد ذلك.)(1)هذا مثال على صعيد الفرد، أما على صعيد الأمة –وفي نفس المستوى من الحديث- فإنّ مما يسعد إبليس اللعين إعراض أغلب الناس عن نصرة واتباع المرجعية الرسالية العاملة المخلصة المتأسيّة بوصف أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (طبيب دوّار بطبّه)(2) ورجوعهم في المرجعية والقيادة إلى الحوزة المتقاعسة عن تحمّل مسؤولياتها اتجاه الدين والأمة مع اعترافنا بأنّها تقيم طقوس الدين، إلاّ أنّها لا تهتم بأمور الإسلام ولا المسلمين ولا تشعر بالغيرة عليهما والرحمة بهما وهذه أوصاف مأخوذة من طبيعة عملها ومنهجها الذي اختارته فلا ينبغي لها الاستياء من هذا التوصيف.

ولقد دلّت الأحاديث الشريفة على أنّ المرجعية الأولى أشدّ على إبليس من الثانية عن معاوية بن عمّار قال:(قلت لأبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) رجل راوية لحديثكم يبُثُّ ذلك في الناس ويشدّده في قلوبكم وقلوب شيعتكم، ولعلّ عابداً من شيعتكم ليست له هذه الرواية أيّهما أفضل، قال:الراوية لحديثنا يشدُّ به قلوب شيعتنا أفضل08

ص: 171


1- أمالي الطوسي: 348- 349، بحار الأنوار: 13/ 173.
2- نهج البلاغة: 207/ خطبة رقم: 108

من ألف عابد)(1) ومن المعلوم أنّ شدّ قلوب الشيعة لا يتحقّق بمجرد كتابة الرسالة العملية.وفي الاحتجاج وتفسير العسكري عن الإمام الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(لولا من يبقى بعد غيبة قائمنا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من العلماء الداعين إليه والدالّين عليه والذابين عن دينه بحجج الله والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك ابليس ومردته ومن فخاخ النواصب لما بقي أحدٌ إلاّ ارتدّ عن دين الله ولكنّهم الذين يمسكون أزمّة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكّانها، أولئك هم الأفضلون عند الله عزّ وجل)(2) وهذا ما تقوم به المرجعية الرسالية العاملة كما هو واضح، والأدلة كثيرة، فإنّ قولهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (الفقهاء قادة)(3) وأنّم نوّاب الأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) الذين هم (ساسة العباد)(4) لا ينطبق إلاّ على المرجعية العاملة.

إنّ تصدّي الحوزة غير العاملة للمرجعية، يتسبّب في نتائج خطيرة تساعد اللعين في مشاريعه، منها:

1-تعطيل فرائض مهمة كصلاة الجمعة التي عُطّلت مئات السنين وهي عنوان عزّة الأمة وكرامتها ومصدر وعيها وتربيتها، وكفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتي وصفها الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بأنّها أسمى الفرائض وأشرفها (وأنّها سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب59

ص: 172


1- أصول الكافي، ج1، كتاب فضل العلم، باب فضل العلماء، ح9.
2- بحار الأنوار: 2/ 6.
3- الأمالي- الشيخ الطوسي: 225
4- بحار الأنوار- المجلسي: 26/ 259

وتحلّ المكاسب وتردّ المظالم وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر)(1)، والمتابع يلاحظ كيف أن المنكر يجري على مرأى منهم فلا يغيّرونه وفيهم نزل تقريع الله تبارك وتعالى وتهديده {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} (المائدة:63) وقوله تعالى:(كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) (المائدة:79) وقوله تعالى:{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} (الأعراف:165).2-تراجع العمل الاجتماعي للحوزة العلمية إلى حدّ الإصابة بالشلل أحياناً لأنّ كلّ مؤسسة تقوم برأسها وعقلها المدبّر، فالحوزة مرهونة بمرجعيتها وطريقة تفكيرها ومنهجها في التعاطي مع شؤون الأمة، فتجد في مرجعية الشهيدين الصدرين (قدس الله روحيهما) كيف انطلق وكلاؤهما وطلبتهما في الإصلاح الاجتماعي وإيجاد يقظة وصحوة لدى المجتمع.

3-ضعف الحالة الدينية في المجتمع وانتشار الفساد والظلم والجهل وترك الواجبات الشرعية وهي نتيجة طبيعية للعاملين أعلاه، وكشاهد على ذلك نذكر وضع المجتمع العراقي في السبعينيات قبل نهضة السيد الشهيد الصدر الأول وقبل نهضة الشهيد الصدر الثاني في التسعينيات.

4-خمول الحركة الإسلامية وتعطيل المشاريع الإسلامية عن الانتشار والتوسع والنمو والإزدهار لتخلي سدنته وحفاظه عنه بينما في عهد مرجعية55

ص: 173


1- الكافي- الشيخ الكليني: 5/ 55

الشهيدين الصدرين (قدس الله سرهما) يقدّم الإسلام كمشروع يقود الحياة ويعيد للأمة هيبتها وعزّتها وكرامتها وريادتها ويقيم الحجّة على الأنظمة الوضعية الأخرى.5-عدم وجود من يرعى شؤون الأمة ومصالحها ومن يستمع لهموم الناس ويقضي حوائجهم ويرفع الظلم عنهم ويدافع عن حقوقهم خلافاً للعهد الذي أخذ عليهم، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كِظّةِ ظالم ولا سغب مظلوم)(1).

6-بسبب تقوقع هذه الجهة وانكفائها على ذاتها وأنانيتها فيحصل لديها ضعف الوعي بقضايا الأمّة والظروف والملابسات المحيطة بها ونتيجته فقدان الرؤية الصحيحة لمعالجتها واتخاذ المواقف الحكيمة وفي ذلك مخالفة لتوجيهات أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) حيث ورد عنهم:(العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس)(2).

وغيرها من الأمور التي تظهر لمن يتابع حركة المرجعية في حياة الأمة وعلاقتها معها.

والأمر لا يقتصر على إبليس فإنّ شياطين الإنس أيضاً يصدق ظنهم على هؤلاء الناس فيستجيبون لهم بشكل غريب، هذا فرعون يحكي عنه القرآن الكريم {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} (الزخرف:54) أي أنّه بمجرد دعوته للناس لاتباعه والاستجابة لعبادته وجدهم يسارعون خفافاً لطاعته، لا لأهلية عند فرعون ولا لقوة ذاتية يملكها وإنّما لأنهم قوم فاسقون يسرعون إلى7.

ص: 174


1- نهج البلاغة: 44 الخطبة الشقشقية.
2- الكافي: ج1 ص27.

الباطل.وهذا عبيد الله بن زياد كان يتوقّع انقلاباً عليه من أهل الكوفة حينما وصل الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأهل بيته لأنّه من غير المعقول أن تتخاذل الناس عن ابن بنت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الإمام المعصوم الطاهر وتنصر الخبثاء أولاد الحرام، فعبأ جيشاً يعادل ألف مرة أصحاب الحسين وأسنده بقوّاتٍ من كربلاء إلى الكوفة، لكن شيعة آل أبي سفيان(1) – كما وصفهم الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- لم يخيّبوا ظنّ ابن زياد وصدّقوا عليهم ظنّه واتبعوه ونفّذوا إرادة ابن زياد بوحشية فاقت ما طلبه منهم.

ومن ذلك ما يجري اليوم من تكاثر أدعياء الزعامات والعناوين المقدّسة وكلّ منهم يصاحبه القلق في بداية دعوته لأنه يتوقع أنّ الناس ستسأله عن أصله ومؤهلاته وتوفّر الشروط فيه وإنّ الأمة ستراقب حركته ليتأكدوا من مصداقيته، لكن شيئاً من ذلك لا يحدث ويصدّق هؤلاء المدعون على الناس ظنّهم فيتخذونهم ألعوبة بأيديهم.

نسأل الله تعالى العصمة والتوفيق والتأييد (وإن خذلني نصرك عند محاربة النفس والشيطان فقد أسلمني خذلانك إلى حيث النصب والحرمان)(2).اح

ص: 175


1- اللهوف في قتلى الطفوف- ابن طاووس: 71
2- مفاتيح الجنان: 93, دعاء الصباح

القبس /126: سورة سبأ:32

اشارة

(قَالَ ٱلَّذِينَ ٱستَكبَرُواْ لِلَّذِينَ ٱستُضعِفُواْ)

موضوع القبس:حوار يوم القيامة بين القادة واتباعهم

حكى لنا القرآن الكريم حوارات كثيرة تجري يوم القيامة لنتأمل فيها ونأخذ العظة والعبرة من الحقائق التي تبيّنها لنا ونتخذ الإجراءات اللازمة ازاءها ولا نصطدم بتلك الحقائق يوم القيامة حيث لا توجد فرصة للمراجعة وإعادة الحسابات وإصلاح الحال.

وهذا البيان من شفقة الله تعالى على عباده ورحمته بهم وحبّه لهم والا فانه يمكنه الاكتفاء بأوامره ونواهيه ومن يخالف فانه يستحق العقوبة ولا يستطيع ان يقول لم أكن أعلم ونحو ذلك {فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} (الأنعام:149).

وتجري بعض الحوارات بين الله تبارك وتعالى وعباده، وأخرى بين أهل الجنة وأهل النار، وبعضها بين الشيطان واتباعه الذين اغراهم بتسويلاته، ومحل الحديث هنا الحوار الاتي بين الاتباع وقياداتهم وزعمائهم ورؤسائهم سواء كانوا زعماء دينيين أو اجتماعيين كرؤساء العشائر أو سياسيين أو فكريين وغير ذلك فاتبعوهم وانقادوا لهم وسلّموا لأوامرهم ونفذّوا رغباتهم واعتقدوا بوجوب طاعتهم من دون ان يتأكدوا من مطابقة هذه الأوامر للشريعة الإلهية التي أُمروا بالالتزام بها وجعلها بوصلة حياتهم {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا

ص: 176

شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} (النساء:65).والحوار الآتي الوارد في سورة سبأ (الآيات 31-33) يكشف عن عمق الخيبة والخسران الذي يشعر به العصاة والمتمردون والمنحرفون عن شريعة الله تعالى فيتوجهون باللوم والتقريع الى قادتهم وزعمائهم الذين ساقوهم الى هذه النتيجة ويحملّونهم مسؤوليتها، وهو تبرير لا يجديهم نفعاً لأن قادتهم سيتبراون منهم ويلقون اللوم عليهم بأنهم اساؤوا الاختيار ولم يبذلوا الجهد الكافي للوصول الى الحقيقة والالتزام بها.

قال الله تبارك وتعالى {وَلَوْ تَرَى} أيها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ليتك تكون حاضراً لتشهد هذا الحوار يوم القيامة أو ترى بقلبك ما سنقصه عليك والخطاب موجه الى الجميع {إِذِ الظَّالِمُونَ} الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي والابتعاد عن المنهج الإلهي وظلموا أمتهم {مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ} محبوسون في التوقيف بأسوأ حال كالمجرمين الذين تلقي الشرطة القبض عليهم وتودعهم في مراكز الشرطة الى حين احالتهم الى القضاء والتحقيق في تهمهم، فأوقف هؤلاء الظالمون عند ربّهم ويا للفضيحة ان يحبسوا بمخالفتهم عند ربهم الذي تولى تربيتهم بالحسنى واغدق عليهم النعم وهم يعصونه ولا يستطيعون انكار شيء من افعالهم لأنه تعالى شاهد عليهم في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا أحصاها.

{يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} يؤنب بعضهم بعضاً، ويتبادلون اللوم بينهم وكل منهم يلقي الكلام الى الآخر، وكلهم ظالمون لأنفسهم لكن بعضهم

ص: 177

كانوا قادة وزعماء استكبروا وطغوا بما عندهم وكان البعض الآخر تابعين لهم منفذين لأوامرهم، فظلمهم درجات, {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} وهم الاتباع الذين لم يكونوا ضعفاء لأن الله تعالى وهبهم العقل والقدرة على التمييز والاختيار، ولكنهم استضعفوا قدراتهم ولم يستعملوها بما ينفعهم، واستضعفهم القادة بما يملكون من أدوات القوة كالمال والسلاح والرجال وأساليب المكر والخداع والتجهيل وتسطيح العقول فساروا وراءهم من دون رؤية وتفكير وتدبّر وحكمة، فوجهوا كلامهم {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا}(1) الذين طغوا بما آتاهم الله تعالى من أسباب القوة وعلوا في الأرض، وهم في ذاتهم ضعاف عاجزون لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يدفعون عن أنفسهم موتاً فهم مستكبرون وليسوا كباراً {لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} أنتم الذين حرمتمونا من نعمة الايمان والهداية ولولاكم لاتبّعنا طريق الهداية والصلاح.{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم} فالزعماء والقادة يعيدون اللوم في الانحراف على نفس الاتباع وان فرصة الهداية واتباع الحق كانت متاحة لكم بأوسع اشكالها وأيسر أسبابها إذ وصلت اليكم سهلة سمحاء على يد الأنبياء والمرسلين والائمة المعصومين (سلام الله عليهم أجمعين) والعلماء العاملين المخلصين، فيحمّلونهم مسؤولية الانحراف وارتكاب المعاصي ويذكرون لهم ان السبب كامن فيهم {بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ}ا.

ص: 178


1- يتبجح البعض بوصف نفسه كبيراً أو الأحزاب تصف نفسها بالكبيرة ولا يعلمون ان هذا يحمّلهم مسؤولية إضافية ويحاسبون على قدر مسؤوليتهم الكبيرة التي ادّعوها وتحملّوها.

فأنتم أيها الاتباع ذوو نفوس ضعيفة ميّالة الى اتباع الأهواء وتعطيل العقول ولديكم الاستعداد لتوجيهكم نحو العبودية والذل واتباع القادة المنحرفين، فالسبب موجود فيكم.{وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} وهنا يرجع الاتباع الخطاب الى قادتهم وزعمائهم رافضين تبرئة أنفسهم من الهاوية التي اوقعوهم فيها ويذكّرونهم بدورهم في ذلك {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} فيعللون انحرافهم بأنه كان نتيجة أساليب المكر والخداع والتضليل وخلط الأوراق الذي استعمله القادة معهم {إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ} فشبّهوا عليهم وصورّوا لهم الباطل حقاً والمنكر معروفاً والمعروف منكراً، وابعدوهم عن القادة الصادقين المخلصين وشوهوا صورتهم امامهم ليبعدوهم عنهم ويحرموهم من الاستماع لصوت الحق والهدى والإخلاص والمحبة والحرية الحقيقية.

{وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً} فيعترف الاتباع ان قادتهم جعلوا لهم آلهة تعبد وتطاع من دون الله تعالى إذ صنع المستكبرون من ذواتهم وانانياتهم وشهواتهم والأفكار التي يريدون تسويقها اصناماً والهة تُقدّس وتطاع من دون الالتفات الى ما يريده الله تعالى ولو أمروهم بالمعاصي كسفك الدماء الزكية. {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ} وهنا شعر الجميع - في داخلهم من دون البوح به خجلاً وإقرار بالذم - بالندامة والاسف لما صدر منهم ولما ضيّعوا وفرّطوا في جنب الله تعالى ولم تنفعهم دنياهم التي اغترّوا بها وجعلوها غاية همّهم ومنتهى آمالهم فاكتشفوا أنها سراب والأمور بخواتيمها، فكانت عاقبتهم مؤلمة {لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} فلم تجدِ هذه

ص: 179

التبريرات والقاء اللوم على الآخر نفعاً في تخفيف العذاب عنهم، فالكل مجرمون آثمون وإن تفاوتوا في شدة العقوبة، {وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فالأغلال التي جعلت في اعناقهم يوم القيامة هم صنعوها بأفعالهم وغلّوا بها عقولهم وقلوبهم ونفوسهم مثل العبودية والاستكبار والاستضعاف واتباع الهوى والانانية والجهل وعدم الانصات الى الحق وغيرها مما ذكرناه في تفسير قوله تعالى {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف:157).إن هذا الحوار يتضمن الدعوة الى التثبت من حال القيادات والزعامات التي تتبعوها وان لا تركضوا وراء كل صيحة وتلبّوا كل دعوة كالذي يحصل اليوم حيث يتحرك الكثيرون وراء منشور في وسائل التواصل الاجتماعي ويبنون عليه مواقفهم وربما يكلفهم ذلك تضحيات بالنفس أو المال أو الجهد والوقت، أو يصدّقون نكرات مجهولين لا يُعرف لهم اصل في ادعاءات كبيرة يتخذونهم سلماً لتحقيق مآربهم ووقوداً لنيران صراعاتهم، والصحيح هو الرجوع الى العلماء الربانيين الذين أمر الائمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) باتباعهم والسير على نهجهم لأنهم يحبّون الناس ويضحّون من أجلهم ويحرصون على صلاحهم وسعادتهم.

ص: 180

القبس /127: سورة سبأ:46

اشارة

(قُل إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَٰحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثنَىٰ وَفُرَٰدَىٰ)

معنى:قُلْ

(قل) يا رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لجميع الناس وأبلغهم رسالة من الله تعالى واستعمال (قل) للتأكيد على كون متعلقها مما أمر النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بتبليغه للناس، وإن كان كل القرآن هكذا، {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل/44) إلا ان استعمال (قل) يعني الاهتمام بالقضية الملقاة وإيصالها إلى الناس.

في معنى:أَعِظُكُم

ولإعطاء هذه القضية زخماً من التأثير الواسع في المجتمع فقد أمر(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن يبلغ هذه الرسالة على نحو الموعظة (أعظكم) ولا يكتفي بمجرد ابلاغها لهم على أي نحو كان، والوعظ (هو التذكير بالخير فيما يرقُّ له القلب) كما في المفردات عن الخليل، فالمراد اختيار الطريقة الرقيقة الشفيقة الرحيمة التي تتجاوز

الاذن وتدخل القلب وتدفعه إلى التسليم بها لتحقيق الخير والصلاح لكم.

وللتأكيد على أهمية هذه القضية وتركيز النظر عليها فقد استعمل اسلوبان للدلالة على انحصار تحقق الغرض بهذه الوسيلة، احدهما اداة الحصر (إنما) وتأكيدها بكلمة (واحدة) أي لا ثانية لها فلا يوجد امامكم الا طريقة واحدة إن أخذتم بها تحققت الغاية ووصلتم إلى الهدف واستقمتم على الطريق الصحيح.

ص: 181

اكسروا أغلال الهوى:

والقضية بسيطة منسجمة مع الطبيعة البشرية ومع الفطرة، لكنّها واسعة بسعة حاجات الانسان وطموحاته ومشاكله حاصلها:أيها الناس إنكم في كل حقيقة تريدون البحث عنها وفي كل موقف تريدون اتخاذه، وكل مشروع تودون الاقدام عليه، وفي كل محنة تنزل بكم وكل مشكلة تعجزون عن حلها وكل كارثة تحيط بكم وكل قضية تقلقكم لا حلَّ لكم ولا علاج إلا بواحدة، وذلك بأن (تقوموا) وتنهضوا وتتهيأوا وتستيقظوا وتكونوا على أهبة الاستعداد لأي شيء للرجوع إلى ربكم والتسليم لأمره، والالتزام الكامل بما يريده الله تعالى منكم، وتكسروا اغلال الهوى والتعصب والجهل والميول.

لأن الفرد والأمة إن لم يأخذوا بهذه الوسيلة ورضوا بأن يكونوا في غفلة وفي سبات وفي جهل وعمى فإنهم يتخبطون ويقعون بأيدي اللصوص وقطاع الطرق من شياطين الإنس والجن.

قوموا بإخلاص:

وان يكون قيامكم ونهضتكم خالصاً (لله) تعالى وليس اتباعاً لأهواء أو ميول أو عواطف أو تعصبات وتحزبات أو لنيل مغانم دنيوية أو تحت مؤثرات من صنع البشر.

ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا:

والمطلوب من هذه النهضة إعمال الفكر (ثم تتفكروا) في القضية المقصودة وسيلهمكم الله تعالى الحل ويّدلكم على الفعل المناسب وييسّر لكم

ص: 182

اسبابه ومقدماته، وفي الآية دلالة على أهمية الفكر والتفكير العقلاني المتحرر من اغلال التعصب والهوى فإن مثل هذا الفكر الحر هو حجر الأساس في بناء الهداية والكمال ومفتاح الوصول إليهما، ولإنجاز كل مشروع اجتماعي أو علمي أو سياسي أو اقتصادي ونحو ذلك.وهذا التفكر يكون مقدمة لمعرفة ما يتطلبه الأمر الإلهي في تلك القضية والتسليم التام لما يريده الله تعالى منك فتأتمر بأمره وتنتهي بنهيه، وقد اطلقت الآية التفكير فلم تقيّده بماذا لكي تجعل هذه القاعدة عامة لكل قضية ولكل مسألة ابتداءاً من القضية المحورية الكبرى وهي التوحيد والإيمان بالله تعالى والمعاد يوم القيامة {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} (سبأ:46) عندما يخاطَبْ المشركون والكافرون بهذه الآية، إلى قضية النبوة والرسالة للمنكرين لها {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} (سبأ:46) إلى قضية الإمامة والولاية للجاحدين بها إلى سائر القضايا الحياتية الأخرى الصغيرة والكبيرة.

مَثْنَى وَفُرَادَى:

وليكن قيامكم ونهضتكم (فرادى) أي مع أنفسكم لكي تخلوا بربكم وتنفتحوا عليه ويكون ادعى للتأمل والتفكر، واتخذوا أيضاً شخصا اخر (مثنى) أي اثنين اثنين ليكون رفيقا لكم وناصحا ومرآة (المؤمن مرآة المؤمن)(1) فيعينك على التعرف على اخطائك وعيوبك وتستشيره فيما ينبغي فعله ويعينك على الخير، وتجنبوا الانسياق وراء العامة وكثرة الناس مما يعرف بالسلوك الجمعي وقيل فيه

ص: 183


1- بحار الأنوار- المجلسي: 74/ 269

(حشر مع الناس عيد) فان هذا الانسياق مذموم ويوردك مواطن الهلكة والبوار لأنه انفعالي عاطفي يسِّيره اهل المكر والخديعة والباطل {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ} (الأنعام:116) {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف:103) {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف:106).

البيئة الصالحة للتكامل:

وهذه العناصر الثلاثة التي تُفهم من الآية كفيلة بصنع البيئة المناسبة للتكامل والتي تأخذ بيد الانسان نحو الكمال وقد جمعها الامام الجواد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بقوله (المؤمن يحتاج الى توفيق من الله وواعظ من نفسه وقبول ممن ينصحه)(1)، فالواعظ من نفسه ثمرة القيام فرادى والقبول ممن ينصحه ثمرة القيام مثنى والتوفيق من الله ثمرة القيام لله.

وهذه القاعدة التي يقدمها الله تعالى هدية لنا من خلال كتابه الكريم هي البداية الصحيحة لكل مشروع، وتقيّم من خلالها كل حركة او دعوة، وتواجه بها كل مشكلة، اما اتخاذ المواقف الارتجالية والانفعالية العاطفية فهو فعل غير منتج.

لا عزّ إلا بالله:

فلنغتنم هذه الهدية الالهية المباركة في كل حياتنا خصوصا في وقت الازمات والمحن كالتي تمر بها البلاد اليوم حيث يعيث فيها الارهاب الاعمى فسادا وقتلا وتشريدا واجراما، فقبل ان نلهث وراء هذا وذاك ونستجدي منه النصرة

ص: 184


1- تحف العقول: 290.

والعون وهو يزيدنا اذلالا واهانة، علينا ان ننتفض على انفسنا واهوائنا لان الاغلب غفلوا عن الله تعالى ونسوه تبارك وتعالى فأنساهم الله انفسهم وتركوا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بل صاروا عقبة كؤود في طريق المصلحين والآمرين بالمعروف والنهي عن المنكر وكثير منهم ممن يرجى ان يكون عوناً على طاعة الله تعالى ولذا تحققت النتيجة التي حذر منها المعصومون (سلام الله تعالى عليهم) كقول الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر، او ليستعملن عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لكم)(1)، فهذا هو سبب تسلّط الأشرار الارهابيين والمجرمين.

لا وسيلة للنجاة إلا بواحدة:

فلا وسيلة لنا ولا حل ينجينا الا بواحدة {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} وهي ان ننهض لله وفي سبيل الله ونرجع إلى الله تبارك وتعالى، وندعوه ونتوسل بأقرب الوسائل إليه تعالى:حبيبه محمد المصطفى وآله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين ونستغيث بصاحب العصر والزمان (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ليشملنا بألطافه ورعايته وسيلهمنا الله تعالى الحلول الصحيحة ويعيننا على تنفيذها والعمل بها، خصوصاً ونحن نستقبل شهر الله الكريم شهر المغفرة والرحمة والفوز بالجنة والنجاة من النار.

ص: 185


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 38، ح10.

نموذج من الرجوع الى الله تعالى:

روى السيد ابن طاووس بالإسناد عن اليسع بن حمزة القمي(1) فقال:أخبرني عمرو بن مسعدة وزير المعتصم الخليفة إنه جاء علي بالمكروه الفظيع حتى تخوفته على اراقة دمي وفقر عقبي، فكتبت إلى سيدي أبي الحسن العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) –أي الإمام الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- أشكو إليه ما حلَّ بي، فكتب إليّ:لا روع عليك ولا بأس، فادع(2) الله بهذه الكلمات، يخلّصك الله وشيكاً مما وقعت فيه، ويجعل لك فرجاً، فإن آل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يدعون بها عند إشراف البلاء وظهور الأعداء وعند تخوّف الفقر وضيق الصدر.

قال اليسع بن حمزة فدعوت الله بالكلمات التي كتب إليّ سيدي بها في صدر النهار فوالله ما مضى شطره حتى جائني رسول عمرو بن مسعدة فقال لي:أجب الوزير، فنهضت ودخلت عليه، فلما بصُر بي تبسّم إليّ وأمر بالحديد ففُكَّ عني، وبالأغلال فحُلَت مني، وأمر لي بخلعه من فاخر ثيابه، واتحفني بطيب، ثم أدناني وقرّبني وجعل يحدثني ويعتذر إليّ، وردّ عليّ جميع ما كان استخرجه مني وأحسن رفدي.

وكان الدعاء:يا من تحلُّ به عقد المكاره)(3)، والموجود في الصحيفة

ص: 186


1- لعل الصحيح أحمد بن حمزة بن اليسع الذي وُصف بأنه (ثقة ثقة) لأنه من أصحاب الإمام الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أما اليسع بن حمزة فذُكر في أصحاب الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهو مجهول.
2- لاحظ تعبير الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فأدع) اي اطلب بصدق ووفّر حقيقة الدعاء في باطنك ووجدانك ولم يقل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فاقرأ) اي مجرد تحريك اللسان بكلمات.
3- مهج الدعوات: 271.

السجادية(1).

لنستمطر غمام رحمته:

فبهذا الدعاء وأدعية الفرج الأخرى نستمطر رحمة الله تعالى ومغفرته وأن يرفع عنّا البلايا والفتن، ولنجعل هذه العودة إلى الله تعالى والانتباه من الغفلة واحدة من منافع المرور بهذا البلاء الشديد والتعرّض لهذه الصدمة(2) ليكون بلاء خير لنا وليس جزاءً لسوء أفعالنا، تصديقاً لعنوان البيان الذي أصدرناه تعليقاً على هذه الأحداث (ربّ ضارة نافعة)، ولا تخفى المنافع الأخرى التي تحققت حيث:

1-أعادت تذكير الناس بإمام زمانهم الذي غفلوا عنه وما غفل عنهم بدعائه وعنايته واستشعروا الحاجة لظهوره وتولّيه بنفسه الشريفة قيادة البشرية نحو الهدى والصلاح والقضاء على الباطل والانحراف والجاهلية.

2- التفّ الناس حول مرجعيتهم الدينية واستجابوا لنداءاتها حتى التطوع للقتال وملأوا معسكرات التدريب وألقوا الحجة عليها لتنهض بمسؤوليتها وأفشلوا خطط من حاولوا اضعاف المرجعية الدينية وفصل القواعد عنها.

3-انبعثت الروح الوطنية بعد أن ضاعت في هوس الانتماءات القومية والطائفية والايدلوجية وتفرّق الشعب أيدي سبأ.

ص: 187


1- ص57.
2- كلمة وجهها سماحة المرجع اليعقوبي من خلال قناة النعيم الفضائية يوم الجمعة 28-شعبان-1435 المصادف 27/ 6-2014 للتذكير بالمعالجة الاخلاقية للمحنة التي تمر بها البلاد بعد احتلال التكفيريين لمناطق شاسعة من البلاد، ولتتميم المعالجتين العسكرية والسياسية. (راجع كتاب خطاب المرحلة للتعرّف عليها).

4-صحا المسؤولون السياسيون والعسكريون من سكر المغانم التي انهمكوا في جمعها وحيازتها من مواقعهم بغير حق.

5-نسي الكثير خلافاتهم واتحدوا على هدف واحد وهو دفع هذا الخطر الخبيث.

وغيرها من النتائج التي ينبغي للعقلاء الالتفات إليها من دون الحاجة إلى تعريضهم لهذا البلاء الشديد كما ورد في الدعاء (الهي لا تؤدبني بعقوبتك ولا تمكر بي في حيلتك) (1).لي

ص: 188


1- مفاتيح الجنان: 240, دعاء أبي حمزة الثمالي

القبس /128: سورة فاطر:5

(يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعدَ ٱللَّهِ حَقّ ۖ)

قال تعالى:{يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعدَ ٱللَّهِ حَقّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ ٱلحَيَوٰةُ ٱلدُّنيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلغَرُورُ 5 إِنَّ ٱلشَّيطَٰنَ لَكُم عَدُوّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدعُواْ حِزبَهُۥ لِيَكُونُواْ مِن أَصحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ} (فاطر:6)

{يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ} نداء لكل البشر وليس فقط الكافرين او الفاسقين او الذين اسلموا او الذين امنوا لان الناس كلهم معنيون بهذا النداء ومن المتعارف ان من يصيح يا أيها الناس فان الناس يلتفتون اليه ويصغون لما يقول لان مثل هذا النداء يتبعه امر مهم او تحذير من شيء خطير او نحو ذلك، فكيف اذا كان المنادي رب العزة والجلال على لسان مئة وأربعة وعشرين الف نبي ومرسل.

{إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} هذه هي القضية المنادى بها وقد تكرر ذكرها في غير موضع من كتاب الله كقوله تعالى {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (لقمان:33) وحاصلها ان ما وعدكم الله به من انتهاء حياتكم الدنيا بالموت ووجود حياة بعد الموت يكافأ فيها المحسن على أساس احسانه ويعاقب المسيء على اساءته ولكل من المثوبة والعقوبة درجات ودركات، كله حق لابد ان يقع والا كان ظلماً {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (آل عمران/182) لانه يعني مساواة الظالم والمظلوم والجلاد والضحية والمسيء

ص: 189

والمحسن وهذا باطل وخلاف الحكمة والعدالة {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران:191) {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ}(الأنبياء:16).وهذا الاعلان عن الوعد الحق فيه تحذير للعاصين والظالمين حتى يرتدعوا، وفيه تطمين المظلوم والمحروم بانه سيأتي اليوم الذي يعوضه الله تعالى فيه ويرد اليه الحق فيستقر ويهدأ.

ومادام الموت حق ومنكر ونكير حقاً والنشور حقاً والحساب حقاً والجنة والنار حقاً وكل ما اخبر به الأنبياء والرسل، اذن {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} فلا تخدعكم الدنيا بزينتها ومظاهرها الخلابة من مال وبنين وعشيرة وجاه وزعامة ومواقع في السلطة واي شيء اخر فأنها كلها تزول لذتها وتبقى تبعتها فالمظاهر الدنيوية التي تبعدكم عن الله تعالى عدو لكم فاحذروها وعليكم ان توظّفوا ما خولكم الله تعالى به من أمور الدنيا للفوز بالأخرة واكتساب الجنان (الدنيا مزرعة الاخرة)(1).

{وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} وهذا هو العدو الآخر، أنه الشيطان (الْغَرُورُ) وهي صفة مشبهة او صيغة مبالغة من الغرور أي إن التغرير بالأخرين صفته اللازمة لذاته ووظيفته التي لا يتوقف عنها، ويواجه الانسان مع هذين العدوين العدو الأول والاكبر وهي النفس الامارة بالسوء الميالة الى اللهو واللعب وارتكاب المعاصي والمليئة بالشهوات والغرائز النهمة التي لا تشبع في الحديث الشريف عن رسول6.

ص: 190


1- غوالي اللآلي 267:1 / ح 66.

الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك)(1)، وكل ما يقوم به العدوان الاخران (الشيطان والدنيا) هو استثارة هذه الشهوات والغرائز وتزيينها والتعمية على العقل والفطرة بالخداع والتغرير وخلط الأوراق وتشبيه الباطل بالحق ونحو ذلك، أي انها كالعامل المساعد في علم الكيمياء الذي يساعد على التفاعل ويسرّعه كوجود النفط او البنزين على الخشبة المحترقة َ(وقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم) (إبراهيم:22).وتغرير الشيطان يكون من طريقين:

1-تزيين مشتهيات النفس واهوائها كالشهوة والغضب والعصبية والحسد وغيرها وكذلك تزيين زخارف الدنيا وبهارجها بغضّ النظر عن موافقتها لما يرضي الله تبارك وتعالى وعدمها.

2-الاغترار بحلم الله تعالى وطول اناته عن الظالمين وعفوه وكرمه فيدعوه ذلك الى تسويف التوبة والتمادي والاستمرار على المعصية، والا ما الذي يدعو العاصي الى ارتكاب المعاصي وهو يعلم انها معصية وفيها غضب الله تبارك وتعالى وسوء العاقبة في الدنيا والاخرة لولا هذا الاغترار وفي دعاء ابي حمزة الثمالي عن الامام السجاد {إِلهِي لَمْ أَعْصِكَ حِيْنَ عَصَيْتُكَ وَأَنا بِرُبُوبِيَّتِكَ جاحِدٌ6.

ص: 191


1- المجلسي- محمد باقر- بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة- ج67 ص36.

وَلا بِأَمْرِكَ مُسْتَخِفٌ وَلا لِعُقُوبَتِكَ مُتَعَرِّضٌ وَلا لِوَعِيدِكَ مُتَهاوِنٌ، لكِنْ خَطِيئَةٌ عَرَضَتْ وَسَوَّلَتْ لِي نَفْسِي وَغَلَبَنِي هَوَايَ وَأَعانَنِي عَلَيْها شِقْوَتِي وَغَرَّنِي سِتْرُكَ المُرْخَى عَلَيَّ}(1) وقد يستغل الشيطان حالة الاستدراج والاغراق بالنعم التي يملي بها الله تعالى العاصين ليوهمه بأنه على صواب وان الخير كل الخير هو في الاستمرار على هذا المنهج الذي هو باطل ومنحرف، مادام يجلب له هذه السعادة الموهومة فيستمر على عصيانه ويتسافل اكثر في جهنم.وتعلل الآية التالية هذا الفعل من الشيطان وسببه {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} وقد أعلن هذا العداء منذ بدأ الخليقة حينما لعن وطرد من زمرة الملائكة عقب استكباره عن السجود لآدم، وقد شهر سلاحه ونصب فخوخه لكم بجميع الاتجاهات {قالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف:16- 17).

فعداؤه لكم دائم ودائب من حيث تتوقعون ومن حيث لا تتوقعون {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:27) وهذا الخفاء يعقد المواجهة ويصعبّها، تصوروا ان واحد من فخوخه وخدعه وهو الشرك الخفي كالرياء يوصف خفاؤه في باطن الانسان في الحديث النبوي الشريف (ان الشرك اخفى من دبيب النمل على صفاة- أين.

ص: 192


1- أنظر: مفاتيح الجنان: 240 دعاء أبي حمزة الثمالي للإمام علي ابن الحسين زين العابدين.

صخرة- سوداء في ليلة مظلمة)(1) أذن كيف يمكن معرفة كل فخوخه وخدعه لولا لطف الله تعالى.وامام هذا الهجوم الشرس والمستمر بكل الوسائل والخدع والمكائد فعليكم ان تقابلوه بالمثل {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} وليس من العقل والحكمة أن تغفلوا عنه وتتسامحوا مع خططه وأساليبه فضلاً عن اتباعه والانسياق وراء تسويلاته وتزيينه {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} (الكهف:50) ولعله اليوم أكثر خبرة وتقنية مما سبق وقد استطاع في أول محاولة مخادعة آدم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ} (الأعراف:22) فكيف اليوم وقد كثرت أدواته وتفنن فيها شياطين الانس والجن {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ، وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ، وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} (يس:60-62).

وهذا الشيطان لا يرضى من الناس إلا ان يرميهم في السعير {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ} (فاطر:6) واتباعه والحزب الجماعة الذين يوحدّهم هدف معين ولهم تأثير وفاعلية {لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} كما ان شياطين الانس ودوائر الاستكبار والماسونية لا ترضى من الناس الا ان ينحّطوا الى اخّس درجات الهمجية التي تترفع حتى الوحوش عن ممارستها بحيث يُسنّ الشذوذ الجنسي المسمى بزواج المثليين بقانون رسمي تُباركه الحكومات التي تدعي التحضّر.

اما سلاح الانسان في هذه المواجهة الشرسة والمعقدة والمفتنة على الجميع2.

ص: 193


1- بحار الانوار: 72/ 93 ح2.

الاتجاهات فانه أولا بعد التوكل على الله تعالى وطلب العصمة والتسديد والتأييد ففي دعاء نهار شهر رمضان (اَللّ-هُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَاَعِذْني فيهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجيمِ وَهَمْزِهِ وَلَمْزِهِ وَنُفْثِهِ وَنُفْخِهِ وَوَسْوَسَتِهِ وَتَثْبيطِهِ وَبَطْشِه وَكَيْدِهِ وَمَكْرِهِ وَحبائِلِهِ وَخُدَعِهِ وَاَمانِيِّهِ وَغُرُورِهِ وَفِتْنَتِهِ وَشَرَكِهِ وَاَحْزَابِهِ وَاَتْباعِهِ واَشْياعِهِ وَاَوْلِيائِهِ وَشُرَكائِهِ وَجَميعِ مَكائِدِهِ)(1).وثانيا:الحذر والحيطة والتحفز والانتباه الى كل اشكال المكر والخداع حتى وإن اُلبست ثوب الخير والطاعة والدين والنصيحة، فان الشيطان يأتي لكل فرد أو جماعة من الجهة التي يخدعهم بها فعنده أدوات لعلماء الدين وأخرى للتجار وأخرى للسياسيين وأخرى للزعماء والوجهاء وأخرى للنساء وأخرى للشباب وهكذا مما يتطلب ذكرها الى تفصيل، ورد عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ان من وصايا الله عز وجل الى موسى بن عمران (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) التي أوصاه بحفظها (ما دمت لا ترى الشيطان ميتاً فلا تأمن مكره)(2)، والجزء الاخر من الأمور كلها على ميزان العقل والفطرة والدين واتباع من أمر الله تعالى باتباعه.

وثالثا:كان المرحوم الشيخ جعفر الشوشتري صاحب كتاب الخصائص الحسينية (توفي سنة 1303ه-) واعظاً مؤثراً وله منبر وعظ في الصحن الحيدري الشريف يحضر عنده العلماء والفضلاء وعامة الناس، وذات يوم قال للحاضرين بلغني من مخبرين ثقات ان سراقاً تخللوا صفوفكم ليقتنصوا الفرصة ويسرقون ما في جيوبكم فأوصيكم بالحذر والانتباه، وهنا هاج الناس ولملموا ثيابهم وصاروا7.

ص: 194


1- مفاتيح الجنان: 257
2- الخصال: 1/ 217.

يراقبون كل حركة ولما سكن المجلس قال لهم:ألا تعجبون من غفلتنا وتقصيرنا إذ نهتم كل هذا الاهتمام بدرهم نخشى سرقته وهو متاع زائل ولا نكترث لنداء الله تعالى وانبيائه ورسله بأن الشيطان لكم عدو متربص بكم ويريد أن يسرق منكم دينكم وتقواكم وهو أثمن ما يجب المحافظة عليه لأنه سبب نجاتكم وفوزكم في الآخرة فكيف نغفل عنه ونسقط في تسويلاته.

ص: 195

القبس /129: سورة فاطر:32

اشارة

(وَمِنهُم سَابِقُ ۢ بِٱلخَيرَٰتِ بِإِذنِ ٱللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلفَضلُ ٱلكَبِيرُ)

موضوع القبس:القرآن الكريم يدعو الى التعامل مع الحياة بإيجابية

معنى أن نقول المؤمن خَيِّر:

قال الله تبارك وتعالى مخاطبا نبيه الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ){وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء :107) وقال تعالى {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (الكوثر:1) والكوثر تعني الخير الكثير، وقال تعالى على لسان زكريا في دعائه لطلب الولد {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} (مريم :6) وقال على لسان عيسى بن مريم {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} (مريم :31) أي كثير البركة والعطاء، ونحو ذلك من الآيات التي ضمت مجموعة من صفات الإنسان الصالح ويجمعها الوصف الذي نطلقه على المؤمن بانه (خَيِّر) وهي من صيغ المبالغة أي لا ترى منه إلا الخير، لذا وصفته بعض الاحاديث الشريفة بانه (الخير منه مأمول والشر منه مأمون)(1).

الحث على قضاء الحوائج وإدخال السرور:

ووردت احاديث كثيرة تدعو إلى ان يكون الأنسان مصدر خير وعطاء

ص: 196


1- علل الشرائع- الشيخ الصدوق: 1/ 116

وعنصرا مثمرا في المجتمع كالاحاديث التي تحث على السعي في قضاء حوائج الناس ومساعدتهم وإدخال السرور(1) عليهم ورفع الأذى عنهم وفعل المعروف لجميع الناس بغضّ النظر عن الدين أو القومية أو النسب ونحو ذلك وتذكر لهذه الأعمال الإنسانية الصالحة ثوابا عظيما يفوق اكثر العبادات أهمية.

العفو والصفح عن الإساءة:

وأكمل الشارع المقدس هذه الصورة الحسنة لسلوك المؤمن فطالبهُ بالعفو والصفح عن إساءة الآخرين، قال تعالى {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} (النور :22) وامر بنسيان إساءة الآخرين وكأنها لم تقع وان يبقى دائما يتذكر إحسان الآخرين اليه بل دعا الى مقابلة السيئة بالحسنة {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت :34)، كما امر بان يكون على عكس ذلك في العلاقة مع نفسه، وذلك بان يتذكر دائماً أساءته للآخرين حتى يكون رادعا عن تكرارها، وان ينسى إحسانه للآخرين حتى لا يحصل عنده شعور بالعجب والمنّ و التفضّل عليهم فيمنعه ذلك من الاستمرار في فعل المعروف، ففي الحديث الشريف ما مضمونه (انسى اثنين :إحسانك إلى الغير وإساءة الغير اليك، واذكر اثنين:أساءتك إلى الغير وإحسان الغير اليك)(2).

ص: 197


1- اذكر حديثا واحدا عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (فوالذي وسع سمعه الأصوات ، ما من احد أودع قلبا سرورا ألا وخلق الله له من ذلك السرور لطفا، فاذا نزلت به نائبة جرى اليها كالماء في انحداره حتى يطردها عنه ، كما تطرد غريبة الابل) (نهج البلاغة/ الحكمة 257).
2- للوقوف على مضامين هذه الأحاديث أنظر: ميزان الحكمة- الريشهري: 1/ 641

الحمل على الحسن:

وطلب الشارع المقدس أن تختار الأحسن والأفضل للآخرين عندما تكون بين خيارين أو بين موقفين أو سلوكين فأمر بان تحمل فعل أو قول أخيك على سبعين محملاً حسنا، وان كان ظاهره السوء، لكنه مادام يحتمل أن يكون حسناً فلا تقصّر في الأخذ بهذا الاحتمال، حتى وان تجاوزت السبعين احتمالا، وهو رقم يقال للتعبير عن الكثرة فلا يمنع من الأزيد .

وان يكون هذا هو منهج حياتك بان تفتش عن أحسن ما عند الآخرين فتنظر اليه على أساسه، وان تفتش عن أسوء ما في نفسك فتُقيّمها على أساسه لتكون بين هذا وذلك أنسانا صالحا يسعى نحو الكمال ويحب الخير للناس .

روي أن أخوة يوسف الصديق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما تعارفوا معه واعترفوا بجريمتهم تملكهم الحياء مما صنعوا به لكنه خففّ عليهم واعتبرهم أصحاب فضل عليه لانهم عرفّوه الى أهل مصر انه ابن الأنبياء الكرام وكان يُنظر اليه على انه عبد كنعاني أُشتريَ من سوق النخّاسين، فهل يوجد سمو في التعاطي مع الأمور مثل هذا ؟

فيما روي من مواعظ النبي الكريم عيسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انه مرَّ هو وأصحابه على جيفة كلب ميت فقال بعضهم ما انتن ريحه وقال الآخر ما اقبح منظره وهكذا، لكن النبي الكريم المتأدب بخلق الله تعالى قال (ما اشَّد بياض أسنانه)(1).

ص: 198


1- حلية الأولياء لابي نعيم الأصبهاني بحار الأنوار- المجلسي: 14/ 327.

بركة الانسجام مع الكون:

إن الإنسان حينما يسير وفق هذه الرؤية ويتبع هذا المنهج من التفكير يحصل على ثمرات عديدة، منها القرب إلى الله تعالى، وراحة البال، والسعادة(1) وحسن الذكر عند الناس مضافا الى شيء مهم يحسُن الالتفات اليه وهو انه ستتجاوب معه كل عناصر الخير في الكون لأنه محكوم بسنن الهية ثابتة فمن اخذ بها نال كل خيراتها وبركاتها، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (الأعراف :96).

وبذلك يكون قوله تعالى {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (إبراهيم :7) على القاعدة الطبيعية- كما يقال - وليس بالجعل التشريعي لزيادة النعم مقابل الشكر، وإنما هي حالة تكوينية طبيعية فان الإنسان الشاكر يكون جزءا منسجماً مع الكون فيحظى ببركات القوانين الإلهية التي تنظم حركة الكون .

وهذا ما يعترف به غير الموحدين أيضا فانهم يقولون إن الإنسان يجب أن يكون ممتنا شاكرا للكون - بحسب تعبيرهم لانهم لا يعتقدون بوجود الله سبحانه - على نعمه لكي يحصل الإنسان على المزيد من النعم وغيرها مما تستحق أن يسعى اليها الإنسان.

أهمية التفكير الإيجابي في التنمية البشرية:

هذا المنهج والسلوك الذي أسس له الشارع المقدّس اصبح اليوم من اهم

ص: 199


1- واذكر حديثاً واحداً في ذلك باختصار وهو قول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (السرور يبُسُط النفس ويثير النشاط، الغمّ يقبِضُ النفس ويطوي الانبساط) (غرر الحكم:2203و2024).

قضايا علم الاجتماع والتنمية البشرية التي يهتم بها العالم المتحضر فتؤلف الكتب وتعقد الندوات وتقدّم البرامج التلفزيونية التي تتحدث عن ((أهمية التفكير الإيجابي)) وتوصلوا فيها إلى جملة من النتائج التي بيّنها الشارع المقدس .ونُقل لي أنّ من الكتب الواسعة الانتشار في هذا المجال كتاب (السر) ومما جاء فيه ((إن للأفكار قوة مغناطيسية ولها تردد وعندها قدرة على الأرسال والاستقبال مثل الموجات الكهرومغناطيسية ويتم أرسال الأفكار هذه إلى الكون فتنجذب لها مغناطيسياً كل الأشياء التي تشبهها ثم ترجع ثانياً إلى المصدر الذي هو نفس الشخص، وان الإنسان اذا كان إيجابيا فانه يجذب كل خير اليه)).

وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ:

إن الشارع المقدس علَّم الإنسان أن يكون تفكيره إيجابيا في كل حالاته حتى عندما يشتد عليه البلاء من خلال إعطائه ثقافة إيجابية توجه سلوكه فانه وعده بالأجر العظيم اذا صبر واحتسب وأن هذا البلاء كفارة لذنوبه التي اجترحها وبذلك يكون فرصة للإنسان حتى يراجع نفسه ويحاسبها ويصلح أخطاءه، ووعده بالفرج وزوال البلاء مع ثبات الأجر، {وَبَشِّ-رِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} (البقرة :155-156)، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (الطلاق :2-3) وبذلك يكون الإنسان سعيداً وهو في اشدَّ حالات البلاء كالذي مرّ به الأنبياء والأئمة صلوات الله عليهم أجمعين .

ص: 200

أمثلة من التفكير الإيجابي:

خذ مثلاً ما جرى في واقعة كربلاء التي مثلّت اشرس جريمة عبر التاريخ لكن أصحاب الأمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كانوا فرحين سعداء لانهم نظروا إلى صورتها الأخرى المتمثلة فيما اعدَّ لهم من الكرامة والمقام المحمود عنده تبارك وتعالى والبركات العظيمة التي تثمرها إلى نهاية الدنيا.

وحينما حاول ابن زياد أن يظهر حقده وسمومه على عقائل النبوة وخاطب العقيلة زينب شامتاً (أرايت صنع الله بأخيك والعتاة المردة من أهل بيتك) قالت (س) (ما رأيت إلا جميلاً أولئك قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك أمك يأبن مرجانة)(1) فوصفت ما حصل بانه جميل .

والإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قعر السجون المظلمة والتعذيب وقيود الحديد لكنه كان يرى الجانب الآخر من الصورة ويقول في مناجاته (اللهم إنك تعلم أني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، اللهم وقد فعلت فلك الحمد)(2).

وهكذا النبي الكريم يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} (يوسف :33) فالسجن مع عذابه ومشقته وضيقه يرى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فيه الصورة الأخرى وهي نجاته من مكائد النسوة وفخوخ الشيطان لإيقاعه في معصية الله تعالى والأمثلة كثيرة .

ص: 201


1- بحار الأنوار- المجلسي: 45/ 116
2- الإرشاد- الشيخ المفيد: 2/ 240

نتيجة التفكير السلبي:

أما من يتعامل مع الأمور والأحداث بسلبية فانه يكون في شقاء وتعاسة ويكون عيشه منكدا ونحو الأسوأ من دون ان يغيِّر في الواقع شيئاً لان الأحداث جارية شاء أم أبى عن أمير المؤمنين عليه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إنك إن صبرت جرت عليك المقادير وأنت ماجور، وان جزعت جرت عليك المقادير وأنت مأزور)(1)

حكي إن مكتشف الكهرباء اجرى 2000 تجربة على نماذج المصباح الكهربائي قبل أن يصل إلى مراده فسخروا منه وانك أتعبت نفسك وخسرت الكثير في أجراء هذه التجارب الفاشلة فقال :ليس الأمر كذلك فقد استفدت معلومة وهي أن هذه الألفي طريقة للعمل غير منتجة.

مثال عن التفكير السلبي:

تقول احدى النساء أنها كانت أمّاً لطفلين ثم حصلت مشاكل مع زوجها وانفصلت عنه وكانت تشعر بضيق وحزن ومتعبة نفسيا وغاضبة على زوجها لأنه تركها وترك مسؤولية إعالة الأطفال على عاتقها حيث كانت مسؤولة عن دفع إيجار المنزل وفواتير الكهرباء والماء وغيرها وكانت الديون تتراكم عليها فبسبب كل تلك الضغوط كانت تشعر بالحقد والكره الشديد تجاه زوجها وبسبب الضغوط النفسية اصبح ذلك يؤثر على عملها فكانت ترتكب أخطاء في العمل وتتأخر في إنجاز ما هو مطلوب منها في العمل لأنها محطمة ولا تستطيع العمل بكفاءة عالية لإنجاز الأعمال المطلوب منها في وظيفتها ولكنها عندما قرات كتاب

ص: 202


1- ميزان الحكمة:5/ 26.

السر بدأت تغير طريقة تفكيرها وبدأت تنظر إلى الجوانب الإيجابية الموجودة في حياتها حيث قالت إن الجانب الإيجابي الذي استفدته من زواجي هو الحصول على طفلين جميلين وانها سعيدة بهم وبوجودهم بحياتها ولا تتحمل فكره فقدانهم أو عدم وجودهم بحياتها فعندما بدأت تركز على الأمور الإيجابية والنعم الموجودة عندها في حياتها أصبحت اكثر راحة وأصبحت ممتنة لله وشاكرة لله على النعم الذي انعمها عليها وأصبحت مشاعرها إيجابية وبالتالي تركيزها وكفاءتها في عملها اصبح افضل وإنتاجها في العمل اصبح اكثر وبالتالي بداء راتبها يزداد وبدأت تستطيع تسديد الفواتير ....

لكي تفكر بإيجابية:

ولكي يكون الإنسان معطاءاً محّبا للخير صبوراً عند الشدائد متفائلا عليه ان يصلح عقائده وتصوراته ونظرته للحياة أولا لأنها هي التي توجّه سلوكه، لذا ينبغي ان يلتفت إلى أمور:

1-إن كل ما حوله هو خلق الله وان الناس عيال الله تعالى، عن النَّبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (الخلقُ كُلُّهم عِيالُ الله عزَّ وجلَّ، فأَحَبُّ خلقِه إليه أنفعُهم لعِيالِه)(1) وفي دعاء الإمام السجاد(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) برواية أبي حمزة الثمالي (والخلق كلهم عيالك)(2) فلابد أن يكون كريماً معهم رحيماً بهم محبّا لهم مهما كانوا.

ص: 203


1- أخرجه البزار (2/ 398/ح1949 - كشف الأستار - و البيهقي في شعب الايمان (6/ 6/ 42-43 ح 7446-7447).
2- مفاتيح الجنان: 248

2-إن ما يجري هو بقضاء الله وقدره {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (التوبة :51) وما دام الله مولانا وهو الذي يتولى أمورنا فلا يختار لنا إلا خيرا ولكننا قد لا نفهم ذلك {وَعَسَ-ى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَ-ى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} (البقرة:216) فلابد من التسليم له والرضا به لان الاعتراض والسخط له عواقب وخيمة في الدنيا و الآخرة.

3-إن الله تعالى يقول (انا عند ظن عبدي بي ان ظن خيرا فله، وان ظن شراً فله)(1) فمن يكون ظنه حسناً ويبحث عن الأمور الحسنة في الحياة فانه سيتحقق له ذلك بأذن الله تعالى

4 -إن الدنيا زائلة ولا يستحق أي شيء فيها أن يكون محط الاهتمام إلا ما يقرّب إلى الله تعالى وينفع في الآخرة

5-إن من ينظر إلى الجوانب الإيجابية الحسنة للأمور وان لم تكن كذلك حقيقة يكون سعيدا مرتاح البال وكفى بذلك ثمرة طيبة فالسعادة ليست في تحقيق كل ما تتمنى وتريد بل في كونك في طريق الوصول اليها وفي أجواء العمل من اجل تحقيقها.

6-أما من ينظر إلى الأمور بسلبية فانه يكون في تعاسة وشقاء من دون أن يتغير حاله إلى الأفضل بل إلى الأسوأ.3.

ص: 204


1- الترغيب والترهيب – الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 72/ح3.

القبس /130: سورة الصافات:24

اشارة

{وَقِفُوهُم ۖ إِنَّهُم مَّسُٔولُونَ}

موضوع القبس:المسؤوليات الثابتة والمتحركة

لكي نؤدي مسؤوليتنا:

قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} (الصافات:24).

قال امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اتقوا الله في عباده وبلاده فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم)(1).

فمسؤولية الإنسان إذن لا تنتهي بالموت، بل لا بد من وقوفه في يومٍ للسؤال عن كل ما صدر منه صغيراً كان أو كبيراً {فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} (طه:52) وسيقف الإنسان يومئذٍ مبهوتاً متعجباً مستسلماً {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (الكهف:49).

ص: 205


1- نهج البلاغة:ج 2 - ص 80/ رقم الخطبة 167 من خطبه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في اول خلافته

ولو أنا إذا مِتنا تُركنا *** لكان الموتُ غايةَ كل حيِّ(1)

ولكنّا إذا متنا بُعثنا *** ونسألُ بعدها عن كلّ شيِّ

فعلى الإنسان أن يستعد ليوم السؤال وأن يحضّر أجوبته عن كل أفعاله ومعتقداته لكي لا يُفاجأ بصحائف أعماله ويجد فيها ما جنت يداه ولا يستطيع التدارك فلا ينفعه الندم {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} (ص:3) وأن يعي مسؤولياته أي ما سيُسألُ عنه -لأن المسؤولية اسم شيء مشتق مما يُسألُ عنه- لكي يؤديها بالشكل الصحيح.

أصناف المسؤوليات:

والمسؤوليات على صنفين:ثابتة ومتغيرة، ولا نعني بالمتغيرة:أن حكمها يتغير لأن (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة)(2) وإنما نعني حصول التغيّر في الموضوع والعناوين فيتغير الحكم تبعاً لها، فالخمر حرام لكن إذا عولجت وانقلبت خلاً صارت حلالاً لتغير الموضوع، والميتة حرام ولكن لمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ تكون حلالاً لطروّ عنوان ثانوي عليها وهو الاضطرار، فالتغير ليس في أصل الأحكام وإنما في تطبيقاتها.

والتكاليف الثابتة معلومة على مستوى العقائد كالإيمان بوجود الله تبارك وتعالى ووحدانيته وصفاته الحسنى والأنبياء والرسل والأئمة سلام الله عليهم،

ص: 206


1- تُنسب هذه الأبيات الى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنظر ديوان الإمام علي- محمد الخفاجي: 156- ونسبت الى غيره, أنظر: تاريخ بغداد- الخطيب البغدادي: 14/ 407
2- الكافي- الشيخ الكليني: 1/ 58/ح19

وعلى مستوى الأحكام كوجوب الصلاة والصوم والخمس وحرمة شرب الخمر والزنا والغيبة وغيرها أو على مستوى الأخلاق كمحبوبية الصدق والكرم والحلم ومبغوضية الحسد والأنانية والتهور وغيرها.أما المتغيرة فيمكن أن تتأثر بعناصر عديدة:

التأثر بالموقع:

منها:الموقع، فإن الإنسان العادي مسؤول عن نفسه وأهله وما يرتبط به، وحينما يكون وزيراً مثلاً فإنه مسؤول عن مؤسسات كاملة وإدارة كل الشؤون المرتبطة بوزارته ورعاية مصالح جميع الناس بما يرتبط بوظيفته، وحينما يكون إماماً في مسجد فإنه يكون مسؤولاً عن أبناء تلك المنطقة فيتفقدهم ويصلهم ويقضي حوائجهم ويساعدهم ويهديهم ويصلح شأنهم، فإذا أصبح قائداً أو مرجعاً دينياً شملت مسؤوليته الملايين من الناس في شرق الأرض وغربها، ولذا نجد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول وهو بالكوفة (ولعلَّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع)(1)، ويروي التأريخ أن المعتصم العباسي وصلته استغاثة امرأة في عمورية من بلاد الروم نادت:وامعتصماه، فقاد جيشاً كبيراً وخرج بنفسه لتأديب الروم وإغاثة المرأة(2).

وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم ومن سمع رجلاً ينادي:يا للمسلمين فلم يجبه فليس

ص: 207


1- نهج البلاغة: 70/ كتاب رقم 45
2- الكامل في التاريخ- ابن الأثير: 6/ 480

بمسلم)(1).وكم من فقير وجائع ومكروب ومهجّر ومريض ومسجون بغير حقٍّ ينادي اليوم:يا للمسلمين، يا للحكومات، يا لعلماء الدين، يا للمرجعيات.

فليعلم كل واحدٍ مسؤوليته وإذا عجز عن حل المشكلة وقضاء الحاجة فلا أقل من التفاعل مع القضايا ونصرة أصحابها بالكلمة والموقف، عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إن المؤمن لترد عليه الحاجة لأخيه فلا تكون عنده فيهتمّ بها قلبُه فيدخله الله تبارك وتعالى بهمِّه الجنة)(2)، أما الذين في موقع يسعهم قضاء حوائج الناس ويقدرون عليها فلا يهتمون ويقصرون في إنجازها فقد خرجوا من ولاية الله تبارك وتعالى، ففي الحديث عن موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من قصد إليه رجل من إخوانه مستجيراً به في بعض أحواله فلم يُجره بعد أن يقدر عليه فقد قطع ولاية الله عز وجل)(3)، وعن الإمام الصادق(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لم يَدَعْ رجلٌ معونةَ أخيه المسلم حتى يسعى فيها ويواسيه إلا ابتلي بمعونة من يأثم ولا يؤجر)(4).

تأثر المسؤولية بالظروف المحيطة:

ومنها:الظروف المحيطة به، فنحن في العراق نعيش حالة احتلال وصراع سياسي وفقر وحرمان وقتل وتهجير واختطاف وفساد إداري وسرقة للمال العام

ص: 208


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب فعل المعروف، باب18، ح3.
2- المصدر السابق، ح4.
3- المصدر السابق، باب 37، ح4.
4- المصدر السابق: ح5.

واعتقال للأبرياء وغيرها من القضايا التي تحتم اتخاذ مواقف بإزائها لم نكن مكلفين بها قبل وجودها، ولا يعذر الإنسان حين يصمّ آذانه عن كل هذه القضايا من دون أن يقوم بواجبه تجاهها، كما لا تعذر الحكومة حين تصمُّ آذانها عن مطالبة عوائل الأبرياء المعتقلين للإفراج عنهم أو تصمّ آذانها عن سماع الشعب العراقي المحروم الذي يطالب بتوفير مفردات البطاقة التموينية وتحسينها فتَفعل الحكومة العكس وتعلن عزمها على تقليل المفردات إلى النصف.

تأثر المسؤولية بالبلد:

ومنها:البلد الذي يؤثر في نوع المسؤولية، فالشخص الذي يسكن العراق له تكاليف تختلف عن الذي يسكن في بلاد الغرب مثلاً فهذا تبرز عنده وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنه يعيش في وسط مجتمع مسلم فوظيفته تقويم الانحراف داخل المجتمع المسلم بهذه الوظيفة، أما المقيم في الغرب فتبرز عنده وظيفة الدعوة إلى الإسلام لأنه يحاور غير المسلمين.

ويؤثّر في حجم المسؤولية ومقدارها وجرّبتم لو أن مجموعة من الطلبة الجامعيين ينتمون إلى محافظات متعددة صدر منهم تصرف معين فإن الطالب النجفي يحاسب أكثر من غيره، ومعذّريته أقل.

تأثر المسؤولية بالعلم:

ومنها:العلم، فكلما ازداد الإنسان علماً ازدادت مسؤوليته بكلا شقّيها أي من حيث الثواب على الإحسان والعقاب على الإساءة لذا ورد في الحديث أن الجاهل

ص: 209

يغفر له سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد(1).

تأثر المسؤولية بالمعرفة الإلهية:

ومنها:المعرفة بالله تبارك وتعالى، فكلما ازدادت معرفته ازدادت مسؤوليته، فقد تكون حالة مباحة وليست في دائرة المسؤولية ضمن مستوى معين ولكنها تكون ضمن دائرة المسؤولية في المستوى الآخر، لذا قيل (حسنات الأبرار سيئات المقرّبين) (2) فهي ليست سيئات بالمعنى المتعارف وإلا لما أصبحت حسنات بالنسبة للأبرار، فهي سيئات بالمعنى المناسب للمقربين.

مثلاً يستغفر البعض لأنه غفل فلبس الحذاء الأيسر قبل الأيمن على خلاف الاستحباب، وروي عن بعض العلماء أنه كان يبكي لما دنت منه الوفاة رغم أنه أنفق كل ما عنده لقضاء حوائج الناس لكنه يبكي لأنه كان يستطيع أن يستعمل جاهه لخدمة مزيد من الناس.

روى سيدنا الشهيد الصدر (قدس سره) أنه صلى ركعتي استغفار ذات مرة لأنه التقى بشخص لم يره منذ مدة فقال له:مشتاقين. ولما عاد إلى نفسه خشي أن لا يكون صادقاً.

ومستويات الناس من هذه الناحية متباينة جداً ومتفاوتة بدرجات لا تنتهي لأن الكمال لا ينتهي، وقد ورد ما يدلّ على ذلك في حديث عن الأمام علي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه جاء إليه رجل فسأله (فقال له:ما الزهد؟ فقال:الزهد عشرة

ص: 210


1- الكافي: 1 / 47، ح1.
2- بحار الأنوار- المجلسي: 25/ 205,- 70/ 316

أجزاء فأعلى درجات الزهد أدنى درجات الورع، وأعلى درجات الورع أدنى درجات اليقين، وأعلى درجات اليقين أدنى درجات الرضا، وإن الزهد في آية من كتاب الله عز وجلّ {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ})(1).

الإيمان عشر درجات:

وقد ورد عن المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) عدم جواز استعلاء صاحب الدرجة الأرقى على من هو دونه والاستخفاف به أو عدم مراعاة حاله، ففي كتاب الخصال للشيخ الصدوق (رضوان الله عليه) عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله لأحد أصحابه واسمه عبد العزيز:(يا عبد العزيز الإيمان عشر درجات بمنزلة السُلّم له عشر مراقي وترتقي منه مرقاة بعد مرقاة فلا يقولن صاحب الواحدة لصاحب الثانية لست على شيء، ولا يقولن صاحب الثانية لصاحب الثالثة لست على شيء ... حتى انتهى إلى العاشرة، قال:وكان سلمان في العاشرة، وأبو ذر في التاسعة، والمقداد في الثامنة، يا عبد العزيز لا تسقط من هو دونك فيسقطك من هو فوقك، إذا رأيت الذي هو دونك فقدرت أن ترفعه إلى درجتك رفعاً رفيقاً فافعل، ولا تحملنَّ عليه ما لا يطيقه فتكسره فإنه من كسر مؤمناً فعليه جبره)(2).

قصة للجد الشيخ اليعقوبي مع الميرزا النائيني:

وروى(3) السيد الصدر (قدس سره) أن جدي اليعقوبي كان يقيم مجالس العزاء

ص: 211


1- الخصال للشيخ الصدوق، باب العشرة، ص 437.
2- الخصال للشيخ الصدوق، أبواب العشرة، ص 448.
3- قناديل العارفين: ص92.

الحسيني في دار الميرزا النائيني (قدس سره) المرجع الديني في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي فإذا أنهى المجلس قال الناس:أحسنت وأمثالها إلا النائيني فكان يقول:غفر الله لك، فسأله الشيخ اليعقوبي عن سرّ ذلك فقال له النائيني (قدس سره):لأنك تأتي في كلامك بروايات لم تثبت صحتها فأطلب لك المغفرة لذلك، فالتزم الشيخ اليعقوبي (قدس سره) في اليوم التالي بالتحقيق في سند الروايات وعدم ذكر إلا ما يصحّ منها فلم يؤثر في الجالسين ولم تتحرك عواطفهم ولم يتفاعلوا مع المصيبة فأذن له الشيخ النائيني (قدس سره) بالعودة إلى طريقة التسامح في الروايات أي ما يسمى بقاعدة التسامح في أدلة السنن والمستحبات، وعلّق السيد الصدر (قدس سره) بأن (حال) اليعقوبي أو درجته هي (من بكى أو أبكى أو تباكى كان له كذا من الأجر) وحال الشيخ النائيني (قدس سره) (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) فتكليفهما مختلف.

تأثر المسؤولية بالانتماء:

ومنها:الانتماء، فالذي يوالي أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) عليه مسؤوليات أكثر من غيره من المسلمين والذي ينتمي إلى المرجعية الناطقة الحركية يشعر بالمسؤولية عن دينه ومجتمعه أكثر ممن ينتمي إلى المرجعيات التقليدية الساكنة لذا تجد الحيوية والاندفاع والسبق إلى تنفيذ المشاريع التي تعلي كلمة الله تبارك وتعالى وترفع راية الإسلام في أتباع المرجعية الأولى أكثر.

مسؤولية الإيمان بالإمام المهدي (عج):

ولعل من أهم المسؤوليات التي يتحملها من ينتمي إلى مدرسة أهل البيت

ص: 212

(سلام الله عليهم) هو الإيمان بالإمام المهدي (عج) والتفاعل مع قضيته واستشعار مراقبته ورعايته واطلاعه على أعمال العباد والعمل على تعجيل ظهوره الشريف وإقامة دولته المباركة.

ما الذي نفهمه من دعاء الفرج؟

وأشير هنا إلى واحدة من تلك المسؤوليات وهي ما ورد في الدعاء الشريف (اللهمّ كُنْ لِوليِّكَ الحجةِ بن الحسنِ صَلواتُكَ عَليهِ وعلى آبائِهِ)(1) إلى أن يقول (حتى تُسكِنهُ أرضك طوعاً) أي طواعية وسلماً من دون قتال أو صعوبات أو معوقات. والدعاء عند أهل البيت ليس فقط كلمات تتلى للثواب وإنما هو وسيلة لإلقاء العلوم والمعارف إلى شيعتهم.

ويمكن أن نفهم هذه الفقرة بعدة أشكال:

1-الطلب من الله تبارك وتعالى أن يذلل للإمام (سلام الله عليه) السماوات والأرض والبحار فتكون في أوضاع مناسبة لحركته المباركة وأن توظف لخدمته وتكون عوامل مساعدة لعمله المبارك كما نصر الله تبارك وتعالى رسول الله (ص وسلم) في معركة بدر بألفٍ من الملائكة والنعاس والمطر والرعب في قلوب الكفّار، قال تعالى {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ، وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ

ص: 213


1- مفاتيح الجنان: 290

الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ، إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (الأنفال:9-12) وكيف أرسل الله تبارك وتعالى الرياح العاتية على الأحزاب فقلّعت خيامهم وهزمتهم حتى انسحبوا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} (الأحزاب:9).2-أن يمكّن المؤمنين من الوصول إلى مواقع النفوذ والسلطة والحكم في البلاد التي ينطلق منها الإمام (عج) لتأسيس دولته الكريمة وهؤلاء يهيئون تسليم الحكم للإمام (عج) بكل طاعة وولاء أما إذا كانت بأيدي المنافقين والكفار والمعادين فإن الإمام سيبذل كثيراً من الجهد والتضحيات لفتح هذه البلاد، وقد وردت روايات تسمي فيها بعض القيادات الصالحة التي تلتحق بالإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مع قواتها سلماً وتسلّم له القيادة في العراق في حين تحاربه جيوش من بعض الدول المجاورة وبعض المنافقين في هذه البلاد.

3-إن البشرية ستكون قريباً من الظهور مستعدة لاستقبال المصلح الموعود بسبب الأزمات الخانقة التي تعجز عن حلها سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو بيئية أو صحية أو عسكرية وغيرها فحينما تبلغهم دعوة الإمام (عج) لإقامة الحق والعدل وسعادة البشرية وإنصاف المظلومين والمحرومين واجتثاث أصول الفساد فسينقادون إليه ويؤمنون به، ويساهم السيد المسيح (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بدور

ص: 214

فاعل في إذعان الأمم المسيحية للإمام المهدي (عج)، بحسب ما ورد في الروايات.

تكاليفنا تجاه أحداث الظهور:

فكلّ من هذه المحاور يوجب تكليفاً بإزائه، فالشكل الأول يدعو إلى ديمومة الدعاء للإمام (عج)، والشكل الثاني يدعو شيعة الإمام (عج) التواقين لظهوره الميمون أن يزيدوا من خبرتهم في الإدارة والحكم وينظموا صفوفهم ويعبئوا طاقاتهم للوصول إلى هذه المواقع وبذل الوسع في النجاح في أداء مهامهم حتى يتمكنوا في الأرض وينجحوا ثم يسلّموا مقاليد الأمور إلى بقية الله الأعظم (عج).

والشكل الثالث يقضي بأن لا يقصّر المؤمنون في عرض الإسلام النقي الأصيل كما ورد عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وآله الطاهرين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على شعوب العالم وأن يبينوا لهم محاسنه ويرغبوهم بالدخول فيه ويشوّقونهم إلى اليوم الذي تسود فيه مبادئ الإسلام -التي هي مبادئ الإنسانية- الأرضَ كلها مستفيدين من وسائل الإعلام والاتصالات التي بلغت حداً عظيماً، ويشرحون لهم الحال المزرية التي أوصلتهم إليها أنظمتهم التي وضعها البشر بجهله وغروره من أمراض فتاكة كالآيدز ومن قلق ورعب ومستقبل مجهول وتفكك اجتماعي وضياع وأزمات اقتصادية وتلوث بيئة وغيرها من المشاكل المستعصية.

لا تكونوا من المطففين:

إن كل العناصر السابقة كولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أو الكون في موقع مهم

ص: 215

يمكن أن تكون سبباً لامتيازات يحصل عليها الإنسان في الدنيا والآخرة، ومقتضى العدالة والإنصاف أن يفي بالمسؤوليات التي تقابلها وإلا كان من المطففين الذين يأخذون أكثر مما يعطون فهدّدهم الله تبارك وتعالى بالويل {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (المطففين:1-6).روي أن الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كان يذهب إلى مكة(1) ماشياً على قدميه وإن النجائب المعدّة للركوب تُقاد بين يديه تعظيماً لله تبارك وتعالى، ولكنه كان يتنكب عن الطريق العام فقيل له في ذلك، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(أخشى أن أأخذ من رسول الله أكثر مما أعطيه) فالحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) صاحب أعظم عطاء في البشرية يستقلّ ما يقدم إزاء ما يأخذ من امتيازات كالتقديس والحب والتبرك وغيرها.

لنحاسب أنفسنا على ما أدينا من مسؤوليات:

أيها الأحبة:

أمام هذه المديات الواسعة والتنوع الكبير والتباين الهائل في المسؤوليات والاستحقاقات والامتيازات ينبغي للإنسان أن يراجع نفسه ويقيّم أعماله ويجري محاسبة يومية انطلاقاً من الأحاديث الشريفة كقول الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه)(2)

ص: 216


1- تاريخ مدينة دمشق- ابن عساكر: 14/ 180
2- وسائل الشيعة: ج11، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب69، ح1، 2.

وقول الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا عليها، فإن للقيامة خمسين موقفاً كل موقف مقداره ألف سنة، ثم تلا قوله تعالى {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ})(1)، ولا أقل من استغلال الأيام الشريفة لهذه المراجعة والتأمل فيما قدّم وأخّر كيوم عرفة يوم التوبة العالمي والاستغفار والإنابة إلى الله تعالى وفي يوم العيد الذي يعني العود والرجوع إلى الله تبارك وتعالى، وكان من المعالم البارزة لإحياء هذه الشعائر الحشد الكبير الذي غصّ بهم الصحن الحسيني المطهّر أمس لتلاوة دعاء الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم عرفة وهم يبكون ويتضرّعون ونقلته لنا بعض الفضائيات، ومثل هذا الاجتماع المبارك سبب مهم لرفع البلاء عن هذه الأمة.

ما الذي يقتضيه الشعور بالمسؤولية؟

إن الشعور بهذه المسؤوليات والالتفات إليها يقتضي عملين:

الأول:رفع التقصير عما لم يقم به الإنسان والندم عليه وتداركه.

الثاني:شحذ الهمّة والعزيمة ورفع مستوى الطموح ليبلغ أعلى هذه الدرجات ويستوعب أكبر مساحة من المسؤوليات ليحظى بأعلى الامتيازات عند الله تبارك وتعالى {وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة:72) {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ

ص: 217


1- وسائل الشيعة: ج11، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب69، ح1، 2.

النَّارِ، الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} (آل عمران:15-17).

ملحق :صفات المسؤول

روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (الا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راعٍ، وهو مسؤول عن رعيته والرجل راعٍ على اهل بيته وهو مسؤول عنهم والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم)(1).

وعن امير المؤمنين قال:اتّقوا اللّه في عباده وبلاده فإنّكم مسؤولون حتّى عن البقاع والبهائم، وأطيعوا اللّه ولا تعصوه)(2).

اذن كلنا مسؤولون، ولكن قد تختلف دائرة المسؤولية سعةً وضيقاً ولا يخلو احدٌ منها فانه مسؤول عن نفسه اولاً بتهذيبها وإصلاحها ثم عن اسرته وعائلته ثانياً وعن أصدقائه وزملائه في العمل وعن جيرانه وعن مجتمعه إذا كان في موقع المسؤولية السياسية او الدينية وهكذا الى ان تصل الى ولاية أمور الامة والمسؤولية العامة عن الناس وإدارة امورهم ورعاية شؤونهم.

وقد ذكرت الروايات الشريفة الصفات والخصائص التي ينبغي توفرها في المسؤول لينجح في عمله واداء وظيفته وليُعَّد محسناً عند الله تبارك وتعالى فينال رضاه، ورأيتها تركّز على صفة (الابوة) في المسؤول وأغلب الصفات المطلوبة في

ص: 218


1- صحيح مسلم: 3/ 1459/ 20
2- نهج البلاغة: الخطبة 167

المسؤول – بأي مستوى كان – مندرجة في هذا العنوان بحيث ان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) اختار هذا العنوان ليصف به نفسه واخاه امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (انا وعلي بن ابي طالب ابوا هذه الامة)(1).واقول لكم بصراحة ان اكثر صفة نفتقدها في الذين يتولون امراً ما صغيراً كان او كبيراً هي هذه الصفة وفقدانها سبب رئيسي لفشل عمل اكثر مؤسساتنا ليس فقط الرسمية بل حتى الخيرية والدينية والاجتماعية والثقافية.

روى الشيخ الكليني (قده) بسنده عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) :لا تصلح الامامة إلا لرجل فيه ثلاث خصال :ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم)(2).

وروى في نفس المصدر أنه (جاء الى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عسل وتين من همدان وحلوان فأمر العرفاء –أي المسؤولين ورؤساء اللجان- أن يأتوا باليتامى، فأمكنهم من رؤوس الازقاق يلعقونها وهو يقسمها للناس قدحاً قدحاً، فقيل له :يا أمير المؤمنين ما لهم يلعقونها؟ فقال :إن الامام ابو اليتامى وإنما العقتهم هذا برعاية الاباء)(3).

فما هي صفات وسلوكيات الوالد الرحيم التي ارادت الاحاديث الشريفة من .

ص: 219


1- بحار الانوار: 36/ 6-9 والتفاصيل في خطاب المرحلة 9/ 64.
2- اصول الكافي، ج1، كتاب الحجة، باب:ما يجب من حق الامام على الرعية، وحق الرعية على الامام.
3- اصول الكافى (الجزء الاول من الطبعة الحديثة):406 .

كل مسؤول الاتصاف بها؟اولاً :لنحققها في انفسنا ونعمل بها لأنها من مكارم الاخلاق ومحاسنها التي تنال بها الدرجات الرفيعة عند الله تعالى وهذا مما لا يلتفت اليه اكثر الناس ويغفلون عن هذه الوسيلة العظيمة المقرِّبة الى الله تعالى، عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة وشرف المنازل وانه لضعيف العبادة) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (ما من شيء اثقل في الميزان من حسن الخلق)(1) وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال :(ما يَقْدِم المؤمنُ على الله عزّ وجلّ بعملٍ بعد الفرائض أحبَّ إلى الله تعالى مِن أن يَسَع الناسَ بخُلقه)(2) .

ثانياً:ولأننا محاسبون عليها كما نطقت به الآيات الشريفة، {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} (الصافات:24) {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الحجر:92-93).

ثالثا:ولنأخذ دروساً في تربية الأبناء تربية صحيحة وفق تعاليم اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وينبغي الالتفات الى ان بعض الصفات قد نعرضها من جانب مسؤولية الآباء في الاسرة ولكن لما طلبت الروايات المتقدمة من كل مسؤول يلي أمور مجموعة من الناس ان يكون كالوالد الرحيم لهم فعلينا تجريد هذه الروايات من خصوصياتها وتعميمها الى المسؤوليات الأخرى:

1- الحب للولد او للرعية إذا نظرنا الى المسؤولية الاجتماعية:عن الامام 4

ص: 220


1- ميزان الحكمة:3/ 134
2- الكافي 100:2 /ح 4

جعفر الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال :(قال موسى بن عمران:يا رب، أي الاعمال أفضل عندك؟ فقال عز وجل:حبُ الاطفال، فأني فطرتهم على توحيدي، فإن أمتُّهم أدخلتهم برحمتي وجنتي)(1).وعن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(أحبوا الصبيان وارحموهم...)(2).

وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(نظر الوالد الى ولده حباً له عبادة)(3).

عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إن الله عز وجل ليرحم العبد لشدة حبه لولده)(4) وفي الحقيقة فان الحب ينبغي ان يشمل كل الناس لانهم صنع الله تعالى وآثار قدرته والمحب يحب كل آثار محبوبه وما يرتبط به .

2-الرحمة:قال تعالى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}(آل عمران :159) وفي عهد امير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لمالك الاشتر لما ولاه مصر {وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، والْمَحَبَّةَ لَهُمْ، واللُّطْفَ بِهِمْ . ولا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً، تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ :إِمَّا أَخٌ لَ-كَ فِ-ي الدِّينِ، وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ}(5) .

وفيما نحن فيه من علاقة الاب بأولاده، ورد عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(أحبواصر

ص: 221


1- البرقي، المحاسن،ج1،ص200،باب المحبوبات، ح15.
2- الكافي، ج6،ص49.
3- مستدرك الوسائل، ج15،ص170،ح17894.
4- اصول الكافي، ج 6، ص 50.
5- جواهر البحار – كتاب الروضة: باب عهد أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى الأشتر حين ولاه مصر

الصبيان وارحموهم...)(1). ومن مظاهر حب الولد والرحمة به:تقبيله، وتفريحه، وإرضاؤه، وإدخال السرور على قلبه، والمسح على رأسه، والنظر برحمة إليه...

عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(من قبل ولده كتب الله عز وجل له حسنة، ومن فرحه فرحه الله يوم القيامة، ومن علمه القرآن دعي بالأبوين فيكسيان حلتين يضيء من نورهما وجوه أهل الجنة)(2).

وعنه(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(قبلوا أولادكم فإن لكم بكل قبلة درجة في الجنة ما بين كل درجتين خمسمائة عام)(3).

وعنه(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لما قبل الحسن والحسين، فقال الأقرع بن حابس:إن لي عشرة من الأولاد ما قبلت واحدا منهم، فقال رسول الله:(ما علي إن نزع الله الرحمة منك)(4).

وكان رسول الله يقبل الحسن والحسين، فقال عيينة :إن لي عشرة ما قبلت واحدا منهم قط فقال:(من لا يرحم لا يُرحم)(5).

عن الإمام موسى الكاظم عن آبائه ع)عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):

(إذا نظر الوالد الى ولده فسرّه، كان للوالد عتق نسمة، قيل:يا رسول الله،7.

ص: 222


1- الكافي ح6/ص49 .
2- الكافي ج6 ص 49 .
3- مكارم الاخلاق ص 220 .
4- مكارم الاخلاق ص 220 .
5- وسائل الشيعة ، ح27657.

وإن نظر ستين وثلاثمائة نظرة؟! قال:الله أكبر)(1).وكان النبي إذا أصبح مسح على رؤوس ولده وولد ولده (2).

عن الإمام علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(قبلة الولد رحمة)(3).

وعن رسول الله لما خرج على عثمان بن مظعون ومعه صبي له صغير يلثمه، قال له:(ابنك هذا؟ قال نعم. قال:أتحبه يا عثمان؟ قال إي والله يا رسول الله، إني أحبه! قال(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):أفلا أزيدك له حباً؟ قال:بلى، فداك أبي وأمي !قال(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):إنه من يرضي صبيا له صغيرا من نسله حتى يرضى ترضاه الله يوم القيامة حتى يرضى)(4).

3- التغافل:وغضّ النظر عّما فعل وكأنك لم تعلم بما صدر منه من خطأ لكن مع الانتباه والمراقبة لما يفعل من طرف خفي.

وقد ورد هذا المعنى في بعض روايات ائمة اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) عن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إن العاقل نصفه احتمال، ونصفه تغافل)(5) .

وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال :(اشرف اعمال – او أحوال- الكريم غفلته عما يعلم)(6).

وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال :(صلاح حال التعايش والتعاشر ملء23

ص: 223


1- مستدرك الوسائل ج15 / ص 169، ح17886
2- عدة الداعي ، ص87
3- مكارم الاخلاق ، ص220
4- كنز العمال ح 45958
5- غرر الحكم: 2378
6- نهج البلاغة / الحكمة 323

مكيال، ثلثاه فطنة، وثلثه تغافل) (1) .وعن الامام علي بن الحسين السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال :(اعلم يا بني ان صلاح الدنيا بحذافيرها في كلمتين :اصلاح شأن المعايش ملء مكيال ثلثاه فطنه وثلثه تغافل، لان الانسان لا يتغافل الا عن شيء قد عرفه ففطن له)(2).

4- المداراة واللين والرفق بهم، وهو أدب عام من آداب المعاشرة مع الناس، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض)(3) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(مداراة الناس نصف الإيمان، والرفق بهم نف العيش)(4) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف)(5).

فالرفق من صفات الله تعالى، ومقتضى التوحيد العملي – كما في المصطلح – أن يتخلق الانسان بأخلاق الله فيكون رفيقاً، ويترك العنف والغلظة في الأفعال والاقوال على الخلق في جميع الأحوال، سواء صدر عنهم بالنسبة اليه خلاف الآداب او لم يصدر.0.

ص: 224


1- تحف العقول ص 393
2- الخزاز القمي / علي ابن محمد ، كفاية الاثر ص240 . تحقيق عبد اللطيف الحسني ، انتشارات بيدار ن مطبعة الخيام قم 1401 م
3- الكافي: 2/ 117.
4- الكافي: 2/ 117.
5- الكافي: 2/ 120.

وروي عنه قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(خذوا بالناس الميسَّر ولا تملّوهم)(1).وعن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال :(إن الله يحب الرفق، ويعين عليه)(2).

وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(لو كان الرفق خلقاً ما كان مما خلق الله شيء أحسن منه)(3).

وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(إن في الرفق الزيادة والبركة، ومن يحرم الرفق يحرم الخير)(4).

وعن الامام جعفر الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من كان رفيقاً في أمره نال ما يريد من الناس)(5).

وكان آخر ما اوصى به الخضر، موسى بن عمران (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن قال له (وإن أحب الأمور الى الله عز وجل ثلاثة.....الرفق بعباد الله، وما رفق أحد بأحد في الدنيا إلا رفق الله عزّ وجلّ به يوم القيامة)(6).

وهو من آداب الدعوة إلى الله تعالى وإلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:قال تعالى مخاطباً نبيه الكريم موسى وأخاه هارون (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):{اذْهَبَا إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ1.

ص: 225


1- كنز العمال: ح 5393.
2- الكافي،ن.م،ح12.
3- الكافي،ن.م،ح 13.
4- الكافي،ن.م،ح 7.
5- الكافي،ن.م،ح 16.
6- الصدوق، الخصال، ص111.

يَخْش-َى} (طه:43-44)، وهذا الأدب له آثار نفسية واجتماعية كبيرة(1) ويزيد من فرص التأثير والترغيب، أما الشدة والغلظة فتوجب النفور والعناد(2)، وقال تعالى:{ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل:125) وقال تعالى:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت:34).ويتأكد هذا الادب في علاقة الوالدين بالأبناء.

5- العفو عنه :بمعنى عدم معاتبته ولا معاقبته او توبيخه، وقد اكد القران الكريم والنبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)في منهاجه على مبدأ العفو في العلاقات الاجتماعيةى.

ص: 226


1- من الفوائد المرتبطة بالآية ما رواه الشيخ (قدس سره) في التهذيب بسنده عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال: (إن الحرب خدعة.. واعلم أن الله عز وجل قال لموسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حين أرسله إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} وقد علم أنه لا يتذكر ولا يخشى ولكن ليكون ذلك أحرص لموسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على الذهاب) (التهذيب: 6 /163 /299)، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} (النساء:142) –أي مجازيهم بالخداع-. والخداع كما عن مفردات الراغب: (إنزال الغير عما هو بصدده بأمر يبديه على خلاف ما يخفيه) والمكر: (صرف الغير عما يقصده بحيله وهو محمود ومذموم بحسب ما يراد منه، والاستدراج والإمهال من مكر الله).
2- هذا بحسب الغالب أو بحسب ما يناسب مع مراعاة المراتب وبعضها غليظ كما هو واضح، كما عبّر الشاعر بقوله: ووضع الندى في موضع السيف في العلا مُضِرٌٌّ كوضع السيف في موضع الندى.

داخل الاسرة وخارجها بشكل عام.قال تعالى:{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُ-ورٌ رَحِيمٌ} (النور:22) {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} (البقرة :109)،{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} (البقرة :219)، {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (البقرة :237)، {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} (النساء :149).

فالله تعالى رغم قدرته على العقاب وصف نفسه بانه عفو، ونحن مأمورون بان نتأدب بأدب الله تعالى {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(النحل:60) ونتخلق بأخلاقه أي اسمائه الحسنى (تخلقوا بأخلاق الله)(1) ففيما ناجى الله تعالى به نبي الله عيسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (طوبى لك ان اخذت بأدب الهك)(2) .

عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) :(رحم الله من اعان ولده على بره، وهو ان يعفو عن سيئته ويدعو له فيما بينه وبين الله)(3).

6- المشاورة والمشاركة في الرأي، قال تعالى{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (آلم.

ص: 227


1- الجامع الحديثي الثانوي كتاب بحار الأنوار للعلامة المجلسي.
2- الكافي:ج8/ ص135.
3- الحلي احمد ابن فهد عدة الداعي ونجاح الساعي ، ص 86 مؤسسة الرسول الاعظم ، العراق ط1 2010 م.

.عمران:159) ولأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عشرات الكلمات في المشاورة(1) منها قوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الشركة في الرأي تؤدي الى الصواب)(2) و(حقٌ على العاقل أن يضيف الى رأيه رأي العقلاء، ويضمَّ الى عمله علوم الحكماء)(3) و(من شاور الرجال شاركها في عقولها)(4) و(ما استنبط الصواب بمثل المشاورة)(5) وعلى صعيد العلاقة مع الولد فقد قيل في المثل العامي (إذا كبر ابنك خاويه) أي أجعل أبنك أخاً لك إذا بلغ الرشد.وعن ابي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال :قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) :(عليكم بالعفو، فان العفو لا يزيد العبد الا عزا، فتعافوا يعزكم الله) (6).

فعلى المسؤول والمربي والمؤدب ان لا يلجأ الى استعمال اسلوب العقوبة مباشرة، بل يوازن بين اسلوب العفو واسلوب العقوبة، فلعل اسلوب العفو عن العقوبة على السلوك غير المرغوب فيه يكون له فائدة اشد تأثيرا في العملية التربوية.

7- بر الولد واعانته على البر:عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال :(قال رجل من08

ص: 228


1- هداية العلم في تنظيم غرر الحكم:311.
2- غرر الحكم: 1942
3- غرر الحكم: 4920
4- غرر الحكم: 8652
5- غرر الحكم: 9527
6- الكافي:ج2/ ص 108

الانصار للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) :من أبر ؟ قال :والديك . قال قد مضيا . قال:برّ ولدك)(1).وعن يونس بن رباط، عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (رحم الله من اعان ولده على بره، قال :قلت :كيف يعينه على بره؟ قال :يقبل ميسوره، ويتجاوز عن معسوره، ولا يرهقه، ولا يخرق به)(2).

وعن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال :(رحم الله والداً أعان ولده على البر)(3).

وهكذا ينبغي للمسؤول اعانة رعيته على بِّره وطاعته من خلال أدائه لمسؤولياته كما ينبغي.

8- التصابي معه:فقد وجدنا الأحاديث الشريفة تحث الوالد على اللعب مع الطفل، والتصابي معه، بمعنى النزول الى مستوى مدارك الطفل الحسية والحركية وتعامل الاب معه كأنه صبي مثله.

عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) :(من كان عنده صبي فليتصاب له)(4).

وعن الامام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من كان له ولد صبا)(5).

وعن جابر بن عبد الله الانصاري قال : (دخلت على النبي، والحسن50

ص: 229


1- الكافي ج6، ص49
2- الطوسي محمد بن الحسن ، تهذيب الاحكام في شرح المقنعة ج8/ص113 ح390 تحقيق الموسوي الخرسان ، دار الكتب الاسلامية طهران،1365ه- شرح مفردات الحديث (لايرهقه): أى لا يسفه عليه ولا يظلمه من الرهق محركة او يحمل عليه ما لا يطيقه. و(الخرق) بالضم: الحمق والجهل اى لا ينسب اليه الحمق.
3- مستدرك الوسائل ،ج15/ ص168/ ح17885
4- من لا يحضره الفقيه ج3،ص483، ح4707
5- الكافي ج6/ص50

والحسين على ظهره، وهو يجثو لهما، ويقول :(نعم الجمل جملكما، ونعم العِدلان(1) انتما)(2).وعن سعد بن ابي وقاص :دخلت على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والحسن والحسين يلعبان على بطنه فقلت يا رسول الله أتحبهما فقال وما لي لا أحبهما وهما ريحانتاي)(3).

وعن أبي هريرة قال:كنا نصلي مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)العشاء, فإذا سجد, وثب الحسن والحسين على ظهره، فإذا رفع رأسه, أخذهما بيده من خلفه أخذا رفيقا, ويضعهما على الأرض، فإذا عاد, عادا، حتى إذا قضى صلاته, أقعدهما على فخذيه...)(4).

واذا اردنا نقل هذا المعنى الى الحالة العامة فنفهم منها رفع الحواجز بين المسؤول والناس ومشاركة الناس في فعالياتهم ومشاركتهم همومهم وافراحهم واحزانهم ولا نقصد بالحواجز المادية فقط وانما المعنوية اي بجعل الحواشين.

ص: 230


1- العدلان مثنى العِدل وهو نصف الحمل على احد شقي الجمل وسميا بذلك لتساويهما
2- ابن شهر آشوب ، محمد بن علي ، مناقب آل ابي طالب ج3/ص158 تحقيق لجنة اساتذة من النجف الاشرف المطبعة الحيدرية 1376ه- -1956 م والطبراني ، سليمان بن احمد المعجم الكبير ج3/ص52، تحقيق عبد المجيد السلفي ، دار احياء التراث العربي ط2، 1404ه- 1984م.
3- الهيثمي- المصدر: مجمع الزوائد - الصفحة أو الرقم: 9/ 184 خلاصة حكم المحدث: رجاله رجال الصحيح.
4- (حم) 10669، انظر الصحيحة: 3325، وقال الأرناؤوط: إسناده حسن.

والحجّاب المانعين من وصول المظلومين والمحتاجين والبوح بمطالبهم من دون اي حزازة وقد يكون الحجاب بايجاد (اتكيت) او (برستيج) خاص كالتي كانت تعرف في زمن الامويين والعباسيين (رسوم دار الخلافة) وألفّت الكتب فيها، تعرف احياناً في اوساطنا بالشأنية، فهذه كلها من مبتدعات الحكّام وليست من خصال الانبياء (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والائمة وورثتهم من العلماء الصالحين، حيث لم يمّيز احد منهم نفسه عن الناس كما وصف احدهم امير المؤمنين بقوله (كان فينا كأحدنا).9- العدل والمساواة بينهم :عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(... اتقوا الله واعدلوا بين اولادكم ...)(1) .

وعنه (إن لهم عليك من الحق أن تعدل بينهم كما لك عليهم من الحق أن يبروك) (2).

وعنه :(ساووا بين اولادكم في العطية)(3).

وعنه :(إن الله تعالى يحب ان تعدلوا بين اولادكم حتى في القُبل)(4).

وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال : (نظر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الى رجل له ابنان، فقبّل احدهما وترك الآخر، فقال له النبي :فهلا واسيت بينهما؟)(5).3.

ص: 231


1- كنز العمال ، ج16ص445.
2- كتاب السنن الكبرى – عن ابي داوود.
3- كتاب حديث خالد بن مرداس السراج /حديث 12 .
4- ميزان الحكمة – ج4/ص3673.
5- من لا يحضره الفقيه ج3/ص483.

وعن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(من كان له ابنة، فلم يؤذها، ولم يهنها، ولم يؤثر ولده عليها ادخله الله الجنة) (1).وعن سعد بن سعد الاشعري قال :سألت ابا الحسن الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ...(فقلت جعلت فداك، الرجل يكون بناته احب اليه من بنيه؟ قال الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):البنات والبنون في ذلك سواء، انما هو بقدر ما ينزلهم الله عزّ وجلّ منه)(2).

وتطبيقه ان من يلي امر مجموعة من الناس عليه ان يعدل بينهم فلا يحابي او يجامل او يقرّب هذا وذاك لانه ذو مال او جاه او موقع ونحو ذلك.

10- الاكرام والاحسان والتآلف :عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال :(اكرموا اولادكم، واحسنوا آدابهم)(3).

وعنه قال :(رحم الله عبداً أعان ولده على بره بالإحسان اليه، والتآلف له وتعليمه وتأديبه)(4).

11- الشفقة :عن الامام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال :(يجب عليك ان تشفق على ولدك اكثر من اشفاقه عليك) (5) وهي مطلوبة في التعامل مع جميع الخلق، في الحديث القدسي (الخلق عيالي فاحّبهم اليَّ اشفقهم على عيالي)(6).93

ص: 232


1- عوالي اللئالي، ج1،ص181.
2- الكافي ج6 / ص51.
3- مستدرك الوسائل ج15/ص167،ح17883
4- مستدرك الوسائل ج15/ص167،ح17886
5- شرح نهج البلاغة:ج20 / الحكم المنسوبة الى امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ح 152
6- دعائم الإسلام ج2 ص320 ح1207. وشرح نهج البلاغة: ج20 ص340 الرقم 893

وهي منزلة عظيمة ينالها الانسان حيث يكون أحبَّ الخلق الى الله تعالى بكثرة شفقته على الخلق، والخلق لا تقتصر على الانسان بل تشمل الحيوانات والحشرات وكل شيء من خلق الله تعالى .12-الوفاء بالوعد:عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(أحبوا الصبيان، وأرحموهم، وإذا وعدتموهم شيئا فوفوا لهم، فإنهم لا يدرون إلا أنكم ترزقونهم)(1).

وعن الإمام علي بن أبي طالب(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ،قال:قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(إذا واعد أحدكم صبيه فلينجز)(2).

وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ،قال:(لا يصلح من الكذب جدُّ ولا هزل، ولا أن يعد أحدكم صبيه ثم لا يفي له، إن الكذب يهدي الى الفجور، والفجور يهدي الى النار.....)(3).

وعن أبي الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ،قال:(إذا وعدتم الصبيان فوفوا لهم ،فإنهم يَرَوْن أنكم الذين ترزقونهم ،إن الله عز وجل ليس يغضب لشيء كغضبه للنساء والصبيان)(4).

وهكذا المسؤول عليه ان يفي لرعيته بوعوده التي قطعها على نفسه ولا يجعلها خديعة ليعطيه الناس اصواتهم ثم يدير ظهره لهم بعد تحقيق مبتغاه .50

ص: 233


1- الكافي ج6، ص49
2- مستدرك الوسائل ، ج15،ص 170، ح 17893
3- الصدوق / الامالي ،ص505ن ح696 تحقيق قسم الدراسات الاسلامية – مؤسسة البعثة، طهران ط1،1417ه-
4- الكافي ج6، ص 50

13- ايثارهم على النفس قال تعالى {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر:9) فالأبوان يجوعان ليشبعا أطفالهما ويهجران لذيذ النوم من اجلهم ويشقيان في الحياة من اجل اسعادهم وهكذا يكون المسؤول كالوالد الرحيم للرعية وهذه الخصلة مما وصفت به السيدة الزهراء (س) امير المؤمنين في خطبتها قالت :(س) عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ولم يكن يتحلى من الدنيا بطائل، ولا يحظى منها بنائل، غير ري الناهل وشبعة الكافل)(1) .

14- ومن صفات المسؤول:سعة الصدر في الحديث الشريف عن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (آلة الرئاسة سعة الصدر)(2) .

15- ومن لوازم موقع المسؤولية النصيحة عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال :(طلبت الرئاسة فوجدتها في النصيحة لعباد الله)(3).10

ص: 234


1- الاحتجاج: 1/ 139
2- نهج البلاغة / الحكمة 176
3- مستدرك الوسائل:12/ 173/ ح 13810

القبس /131: سورة ص:24

اشارة

{وَإِنَّ كَثِيرا مِّنَ ٱلخُلَطَاءِ لَيَبغِي بَعضُهُم عَلَىٰ بَعضٍ}

موضوع القبس:ضع الله تعالى نصب عينيك عندما تكون في خلاف مع الآخر

قال الله تبارك وتعالى:{وَإِنَّ كَثِيرا مِّنَ ٱلخُلَطَاءِ لَيَبغِي بَعضُهُم عَلَىٰ بَعضٍ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَقَلِيل مَّا هُم ۗ} (ص:24).

تشخّص الآية الكريمة ظاهرة اجتماعية خطيرة وحالة لا إنسانية متفشية في المجتمع، وقد وردت الكلمة في سياق قضية الخصمين اللذين احتكما إلى نبي الله تعالى داود (صلوات الله عليه وعلى نبينا) {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} (ص :22) والخلطاء الاشخاص الذين بينهم نحو من انحاء الاختلاط ولا يختص بالشركة المالية حتى يقال انه لا دلالة في الآية على وجود شراكة بينهما فيمكن أن يكون اختلاطهما بسبب الرعي المشترك أو تجاورهما أو أي سبب آخر، ويمكن أن تكون نفس هذه المنازعة اختلاطاً بينهما.

والقرآن الكريم يشخّص هذه الحالة المذمومة التي تحصل بين الخلطاء وهي بغي بعضهم على بعض ومحاولة كل منهما الاستئثار بالكل وانتزاع ما في يد الآخر بشتى الوسائل كالدعوى الباطلة وتزوير الشهادات والوثائق والكلام المعسول وقد يتوسل بالقوة لتحقيق ذلك (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً

ص: 235

وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) (ص :23) أي طلب مني ضم نعجتي إلى نعاجه وغلبني بكلامه وحججه وخدعه.ولعل تسجيل هذا المورد من الظلم والبغي مع أن مواردهما كثيرة لالفات النظر إلى خطورة هذه الظاهرة ولؤم الباغي فيها لان المفروض أن خلطتهما وتواصلهما المستمر يكون سبباً لتبادل الثقة والمودة بينهما وأن يكون كل منهما أميناً على حق الآخر وحافظاً له وان لا يتوقع كل منهما صدور الظلم والبغي من الآخر.

وقد استثنت الآية المؤمنين ذوي السيرة الصالحة لكنهم الاقلّون عدداً فانهم يصمدون بايمانهم امام اهواء النفس وانانيتها وطمعها وحبّها للغلبة والاستعلاء وحسدها، وهذا يعني ان ما يعصم من الوقوع في هذا البغي والظلم هو الايمان الصادق الذي يتمظهر في العمل الصالح والسيرة الحسنة، ومراعاة حقوق الاخوة والمعاشرة، هذه الرقابة الداخلية من الضمير الحي والقلب المفعم بالحب والرحمة وتقوى الله تعالى هو ما يجعل صاحبه لا يفكّر الا بالخير للآخرين اما أي رقابة أخرى كالسلطة والقانون والعقوبات فانها يمكن التخلص منها والتحايل عليها والاحتماء منها، وهذا الفرق يظهر لنا أحد مميزات الدين والالتزام به ودور الدين في حياة الانسان.

ونذكر هنا حديثين نبويين شريفين لردع من تسوِّل له نفسه التجاوز على حق خليطه ومن له نزاع او اختلاف معه مستخدماً شتى الوسائل والذرائع.

1- روى الشيخ الطوسي في كتابه الآمالي عن عدي قال (اختصم امرؤ القيس ورجل من حضرموت إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في أرض، فقال:ألك بينّة ؟)

ص: 236

باعتبار ان القاعدة المعمول بها في حل النزاعات هي بأن يقدّم المدّعي بينّة واضحة على ما يدعيه (قال :لا، قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):فيمينه) لان المدعي اذا لم تكن لديه بيّنة يحلف المدّعى عليه وهو المنكر للدعوى على نفسها فيحكم له بالحق (قال :إذن والله يذهب بأرضي) أي ان المدعي خاف من ان خصمه لا يتورع عن الحلف كذباً فيحكم له بالأرض (قال:إن ذهب بأرضك بيمينه كان ممن لا ينظر الله إليه يوم القيامة، ولا يزكيه، وله عذاب اليم، قال :ففزع الرجل وردّها إليه)(1)2- صحيحة هشام بن الحكم، عن أبي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) :إنما اقضي بينكم بالبينات والايمان وبعضكم ألحن بحجته – أي افطن لها - من بعض، فأيما رجل قطعتُ له من مال أخيه شيئا، فإنما قطعت له به قطعة من النار) (2).

ومن الواضح ان هذه الظاهرة لها مدى واسع في حياة المجتمع فيمكن ان تكون بين زوجين مختلفين فيحاول كل منهما ان يثبت انه على الحق وان الاخر هو المخطئ ويكشف من اسراره وخصوصياته ويسعى لتسقيطه وتشويه صورته، ويبالغ كل منهما في تحميل الآخر مبالغ واستحقاقات كبيرة بالاستفادة من القانون الوضعي الحاكم.

او بين متنازعين في السوق وما أكثر الاختلافات بين المتعاملين، او النزاع بين ورثة او أي شركاء فيعمل كل منهما على كسب الشيء له بلا وازع من دين او ضمير او اخلاق .1.

ص: 237


1- وسائل الشيعة: 27/ 235، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم/ باب 3/ح7.
2- وسائل الشيعة: 27/ 232، باب 2/ح1.

وتتوسع الأمثلة الى الشركاء السياسيين او حكومات الدول المختلفة فأنها مبنية على الاستئثار والهيمنة وتجريد الاخر من حقوقه وليس على أساس العدالة والانصاف والمرؤة والحقوق المتبادلة الا من عصم الله تعالى كما ذكرت الآية. فالدرس الذي نستفيده من الآية أنه يجب على الانسان أن يضع الله نصب عينيه حينما يكون في نزاع مع الآخر فلا يكون همه الا إحقاق الحق لا الغلبة على الآخر، وتقرّر الآية أن من يكونون كذلك قليلون.

ولأجل هذا كُرهت الشركة الا اذا وجدت مُبررّاتها وضماناتها، روي عن امير المؤمنين ((عَلَيْهِ السَّلاَمُ)) قوله (الشركة في الملك تؤدي الى الاضطراب) (1)

نعم تستحب الشركة في الرأي أي المشاورة واستمزاج الرأي (الشركة في الرأي تؤدي الى الصواب) (2)42

ص: 238


1- غرر الحكم: 1941
2- غرر الحكم: 1942

القبس /132: سورة الزمر:30

اشارة

{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}

موضوع القبس:دروس وعبر من وفاة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)

خطاب موجه الى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ولجميع البشر استعمل فيه لفظ الفعلية بصيغة الصفة المشبهة (ميّت) رغم انهم مازالوا أحياء ولم يقل انك ستموت لافادة التحقق القطعي وانهم صائرون اليه لا محالة، قال تعالى {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (آل عمران :185).

ان الموت لا يعني الفناء بل التحرر من البدن والانتقال من عالم الدنيا الى عالم الاخرة الذي ستكون فيه الحياة الحقيقية {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} (العنكبوت :64) وستظهر للإنسان حينئذ حقيقة {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} (العنكبوت :64)، وسيندم على عدم اخذه من حياته الدنيا الزائلة ما ينفعه في تلك الحياة الباقية ويقول {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} (الفجر :24)، وقوله هذا اعتراف صريح بأن الاخرة هي الحياة ولكنه لم يقدم لها شيئاً.

وقد عقدنا هذا القبس لبيان دلالات موت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)وآثاره، منها

الأول:كانت وفاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) شهادة من الله تعالى على أن البقاء لله وحده قال تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (الزمر:30) وقال الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ليلة

ص: 239

عاشوراء لأخته العقيلة زينب (س):(إن أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون)(1) ولو استحق أحد أن يبقى لكان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأنه أكمل الخلق وأفضلهم وجعل الكون بما فيه طوع إرادته وهو عند الله تعالى أكرم من نبيه سليمان بن داود الذي قال فيه أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ولو أن أحداً يجد إلى البقاء سلّماً، أو لدفع الموت سبيلاً، لكان ذلك سليمان بن داود (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، الذي سُخّر له مُلك الجن والإنس، مع النبوة وعظيم الزلفة. فلما استوفى طُعمته، واستكمل مدّته، رمَته قِسيُّ الفناء بنبال الموت، وأصبحت الديار منه خالية والمساكن معطّلة، وورثها قومٌ آخرون)(2) وفي ذلك موعظة للخلق جميعاً.الثاني:هوان الدنيا على الله تبارك وتعالى حين يُخليها من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فما قيمتها بدونه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فأصبحت الدنيا بفقده مظلمة، والآخرة بنوره مزهرة، وفي ذلك عبرة لمن تطمح عينه إلى الدنيا ويجعلها هدفاً لحياته، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ولقد كان في رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كافٍ لك في الأسوة، ودليل لك على ذم الدنيا وعيبها، وكثرة مخازيها ومساويها، إذ قُبضت عنه أطرافها، وَوُطِّئت لغيره أكنافها، وفُطمَ عن رضاعها، وزوي عن زخارفها) (فتأسَّ بنبيِّك الأطيب الأطهر (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فإن فيه أسوةً لمن تأسّى، وعزاءً لمن تعزّى. وأحبُّ العباد إلى الله المتأسّي بنبيه والمقتصّ لأثَرِه) (عُرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها، وعلمَ أن الله سبحانه أبغضَ شيئاً فأبغضه، وحقَّر شيئاً فحقّره، وصغّر شيئاً فصغّره. ولو لم يكن فينا إلا حبُّنا ما أبغضَ اللهُ ورسولُه وتعظيمُنا ما صغّرَ اللهُ ورسولُه، لكفى به شقاقاً لله،7.

ص: 240


1- الارشاد للمفيد:2/ 94.
2- نهج البلاغة، الخطبة 182، صفحة 262، شرح د. صبحي الصالح، بيروت 1967.

ومحادَّةً عن أمر الله)(1)الثالث:انقطاع جملة من البركات كانت مرتبطة بشخصه المبارك ووجوده بين الناس (منها) الوحي المباشر الذي كان ينزل عليه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (ومنها) ارتفاع ألوان من العذاب، قال تعالى:{وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (الأنفال:33) وورد في أخبار الفريقين أن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(أنزلَ الله عليَّ أمانين لأمتي:{وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة)(2) ومع ذلك فإن خيره وبركاته متواصلة حتى بعد وفاته، عن أبي جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):مقامي بين أظهركم خير لكم فإن الله يقول: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} ومفارقتي إياكم خير لكم. فقالوا:يا رسول الله مقامك بين أظهرنا خير لنا فكيف يكون مفارقتك خير لنا؟ فقال:أما مفارقتي لكم خير لكم فإن أعمالكم تعرض علي كل خميس واثنين فما كان من حسنة حمدت الله عليها، وما كان من سيئة أستغفر الله لكم)(3).

الرابع:انفتاح باب الظلم والعدوان على آل بيت النبي (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) وقد قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأهل بيته:(أنتم المستضعفون بعدي)(4) وحصل3.

ص: 241


1- نهج البلاغة، الخطبة 160، صفحة 226-228.
2- الميزان في تفسير القرآن، في ذيل الآية 33 من سورة الأنفال.
3- الميزان في تفسير القرآن: 9/ 86.
4- بحار الأنوار: 22/ 469 عن كتاب (إعلام الورى بأعلام الهدى: 140-143. والإرشاد: 96-100. وأورد الحديث الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا: 2/ 72/ باب31 ح303.

ما حصل على دار علي وفاطمة (صلوات الله عليهما وآلهما) - لذا لا يكاد ينفك الحديث عن وفاة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من الحديث عما تعرضت له الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (س)- مخالفين بذلك قول الله تبارك وتعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (الشورى:23) ووصايا نبيه الأكرم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الكثيرة.الخامس:الانقلاب على الأعقاب ومخالفة وصية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالإمامة والخلافة، قال تعالى:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران:144) وهذه أهم قضية بلّغها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأدّاها عن ربه بنص القرآن الكريم قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة:67).

وكل واحد من هذه الأمور يستحق أن نطيل الوقوف عنده والتأمل فيه، ولكن الوقت لا يسع لذلك فنقتصر على الأخير لأهميته.

إن قضية الإمامة والخلافة أعظم قضية في الإسلام فهي مفتاح كل خير لو أن الأمة اهتدت إليها وأخذت بها، ومفتاح كل شرّ - والعياذ بالله- من سفك دماءٍ وتخريب ديار وانحرافٍ عن الدين، عندما يتخلفون عنها، وقد كان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بدأ التصريح بها والدعوة إليها منذ أيام الإسلام الأولى عندما نزلت الآية الشريفة {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء:214) فقد روى الفريقان أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)

ص: 242

جمع بني عبد المطلب وكانوا أربعين رجلاً ودعاهم إلى الإيمان ومؤازرته واختار علياً ليكون وصيه وخليفته(1) ثم والى (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الإعلان والتبليغ بها حتى دعاه الله تبارك وتعالى إلى إكمال الدين وإتمام النعمة بإلزام المؤمنين بولاية علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في غدير خم قبل وفاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بشهرين وعشرة أيام، لكن بعض الصحابة ولأسباب معلومة نكثوا البيعة، وعندما حاول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تأكيدها قبل وفاته بأربعة أيام أي يوم الخميس الذي سبق وفاته يوم الاثنين حصل لغط وخلاف بين الصحابة فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لهم:قوموا، ثم أوصى أهل بيته بالاستعداد للبلاء واتخاذ الصبر جلباباً، هذه الحادثة التي أطلق عليها عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن:(رزيّة يوم الخميس)(2) لأنها أساس المصائب والانحراف عن خط الرسالة.الانحراف الذي –كأي خط مائل عن الصراط المستقيم- يزداد بعداً كلما تقدم الزمن فبدأت عُرى الإسلام تُنقَض، ومقدساته تنتهك ولم تبق حرمة له حتى آلت الخلافة إلى أناس يقتلون أولاد النبيين ويحرقون الكعبة ويشربون الخمر ويفعلون المنكرات جهاراً على منابر المسلمين، ونشأت أجيال من المسلمين لا تفقه من أحكام الإسلام شيئاً لأن الناس على دين ملوكهم، ولا سبيل للوصول إلى الأئمة الهداة الحقيقيين فهم معتقلون ومعذبون ومحاصرون، وكان الداخلون الجُدد في الإسلام من الأمم التي غزاها المسلمون لا يرون من الإسلام إلا ما يظهر على سلوك الأمراء، ولولا جهاد وجهود الأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) والثلة36

ص: 243


1- الميزان في تفسير القرآن: ذيل تفسير الآية 214 من سورة الشعراء.
2- بحار الأنوار- المجلسي: 30/ 536

المباركة من أصحابهم لما بقي للدين عين ولا أثر(1) كأبان بن تغلب الذي قال فيه الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما بلغه موته:(لقد اوجع قلبي موت أبان)(2)، وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في بعض أصحابه لعله زرارة او محمد بن مسلم (لولا فلان لمات فقه أبي)وكان لهذا الانقلاب على وصية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في مستحقي الإمامة والخلافة من بعده وإقصاء القادة الحقيقيين للأمة آثار(3) كارثية وويلات عظيمة على الأمة:

منها:تصدي غير المؤهلين للخلافة بل الفاسدين من بني أمية وبني العباس وأضرابهم مما أدى إلى:

1-تشوّه صورة الإسلام نفسه لأن أي دين أو نظام أو آيديولوجية تُقيَّم من خلال سلوك القائمين عليها لعدم التفكيك بين النظرية والممارسة والتطبيق، فلما يتصدى للحكم باسم الإسلام قتلةٌ ومجرمون وفاسدون فإنهم يشوّهون صورته.

2- طمع أعداء الإسلام في الكيد له واستئصال قواعده وتعاليمه حيث وجدوا لهم منفذاً بل حظوة لدى أولئك المتسلطين الجبابرة.

3- ضياع مقاييس ومعايير الاستحقاق لهذا المنصب العظيم فأصبحت هدفاً لكل الطامعين في السلطة والحكم ولو بالقهر والسيف ما دام الحكم لمن غلب.

ومنها:ابتداع وسائل من صنع الإنسان للوصول إلى التشريعات كالقياس97

ص: 244


1- أنظر: وسائل الشيعة (آل البيت): 27/ 142
2- رجال النجاشي: 10, الفهرست للشيخ الطوسي: 57
3- تجد تفصيل هذه النقاط في القبس/15, {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (آل عمران:144), من نور القرآن: 1/ 197

والشورى وأمثالها لابتعادهم عن مصادر التشريع الأصلية ولحاجتهم إلى قوانين تؤصّل لسلطتهم وتعطيهم الشرعية، لذا تبدلت الأحكام وصارت القوانين التي تحكم الحياة وضعية وليست إلهية.ومنها:عرقلة تربية البشرية وتكاملها، لأن المعلم يجب أن يكون عالماً والواعظ متّعظاً والمصلح صالحاً فكيف يربي الأمة من يتبع هواه ويطلق لنفسه الأمارة بالسوء العنان وقد جعل الشيطان ولياً له من دون الله العظيم فافتقدت الأمة الأسوة الحسنة والمربي الصالح الحنون إلا القليل ممن اهتدى إلى الحق ورزقه الله اتباعه، وعلى العكس من ذلك فقد شجعت تلك السلطات الفساد والانحراف وكانت تمارسه علناً وتوفّر أسبابه.

ومنها:تمزّق الأمة وتشتتها إلى فرق وأحزاب وطوائف متناحرة يستحل بعضهم دماء البعض الآخر {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون:53) ولم يلتفتوا إلى وصية الله تبارك وتعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} (آل عمران:103) وقوله تعالى:{وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال:46) وقد فسّرت الأحاديث الشريفة حبل الله بالقرآن الكريم وعترة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأهل بيته(1).

ومنها:انحسار دور الدين عن التأثير في حياة الأمة، فبعد أن كانت رسالته تنظيم شؤون الحياة كلها اقتصر أثره على عدد من المتدينين من خلال طقوس وعبادات يؤدونها، وقد عمل الطغاة على ذلك لأنهم يعلمون أن إعطاء دور شامل للدين يعني94

ص: 245


1- أنظر: تفسير العياشي: 1/ 194

الحاجة إلى الرجوع إلى القيّمين الحقيقيين عليه مما يعني خسارة الحكام الجائرين لسلطتهم ومواقعهم فقرروا عزل الدين ليعزلوا أئمته والأدلاّء عليه.ومنها:تأخر ركب الحضارة الإنسانية، لأن أوصياء النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان لديهم كل ما تحتاجه البشرية من علوم وقد احتوت المصادر على نظريات علمية في الفيزياء والفلك والرياضيات والفسلجة والكيمياء والطب وغيرها لأئمة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) (راجع كتاب قضاء أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وتوحيد المفضّل ورسائل جابر بن حيّان في الكيمياء) فلو أُتيحت الفرصة لأئمة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لإظهار علومهم وثنيت لهم الوسادة، لما احتجنا إلى أربعة عشر قرناً لنصنع الطائرة والكومبيوتر والإنسان الآلي والتكنولوجيا النووية وغيرها مما يضمن للبشرية حياةً أفضل وأهنأ وأسعد.

وعلى أي حال فقد كانت خسارتنا برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عظيمة بعظم النتائج التي حصلت بوفاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فما أصيبت البشرية بمثل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعلى مثله فليبك الباكون وليندب النادبون:

أنسَتْ رزيّتُكم رزايانا التي *** سلفتْ وهوّنت الرزايا الآتية(1)89

ص: 246


1- بيت من قصيدة مطولة للشيخ عبد الحسين الأعسم، أنظر أدب الطف- السيد جواد شبر: 6/ 289

القبس /133: سورة الزمر:54

اشارة

{وَأَنِيبُواْ إِلَىٰ رَبِّكُم وَأَسلِمُواْ لَهُۥ مِن قَبلِ أَن يَأتِيَكُمُ ٱلعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ}

موضوع القبس:دعوة إلى الرجوع إلى الله تعالى والانقياد له

هذه وصية من ربكم أوصلها إليكم من خلال رسالته العظيمة إلى الناس، أعني القرآن الكريم وهو مليء بالموعظة لأنه كتاب هداية وصلاح وحياة للقلوب والموعظة أهم ادواتها، ومنها هذه الآيات الكريمة في سورة الزّمر الحافلة بهذه المواعظ وهي تحذّر من عاقبة الافعال السيئة. وتتضمن الوصية حركتين:

الأولى:قوله تعالى {وَأَنِيبُوا} أي ارجعوا عن ذنوبكم واخطائكم وغيّروا طريقة حياتكم البعيدة عن الله تعالى ولا تغرّنكم الحياة الدنيا بشهواتها واطماعها وزخارفها فأنها كلها أوهام زائلة، وعودوا {إِلَى رَبِّكُمْ} واختيار هذا الوصف للتذكير بصفة الربوبية والرعاية والتربية والتنشئة من عالم إلى عالم ومن حال إلى حال.

وباب التوبة هذه والرجوع إلى الله تعالى مفتوحة لكل أحد مهما عظم ذنبه وقد أطلقت الآية السابقة هذه الحقيقة لتفتح الباب على مصراعيه امام الجميع {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر:53) فهذه الانابة والتوبة هي الخطوة الأولى وهي ممهدة للتالية.

ص: 247

الثانية: {وَأَسْلِمُوا لَهُ} أي اطيعوا رّبكم وانقادوا لأحكامه ولا تجعلوا لغيره نصيباً في قلوبكم ولا تأثير لغيره في افعالكم سواء كان هذا الغير الذي تطيعونه وتتبعونه هي انانيتكم وأهواءكم واطماعكم أو اعرافكم الاجتماعية أو العشائرية أو الرموز التي تتبعونها أو الجماعات والأحزاب التي تنتمون اليها وغير ذلك.هاتان الخطوتان تضمنان لكم السعادة والفوز والنجاة من عذاب معصية الله تعالى والتمرد على طاعته والابتعاد عن دينه فبادورا اليهما الآن وفي هذه اللحظة لأن المستقبل غير مضمون والموت يأتي بغتة وبشكل مفاجئ ولا يعلم وقته الا الله تعالى.

{مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ} لأن الانسان اذا لم يتدارك أمره ويعود إلى ربه فانه قد حكم على نفسه بالشقاء والتعاسة وعندما يموت يغلق عليه باب العمل، ويحرم من الفرص الكثيرة التي اتاحها الله تعالى له.

{ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} لا ينصركم شيء مما كرستم له حياتكم من مال أو أولاد أو منصب أو جاه أو اتباع أو غير ذلك {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} (البقرة:166).

ولا ينفع الندم وتمني العودة والرجوع {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} (الفرقان:27) من وصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأبي ذر (رضوان الله تعالى عليه) (يا أبا ذر اغتنم خمسا قبل خمس:شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل

ص: 248

موتك)(1) ومن كلام لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في المبادرة إلى التوبة والعمل الصالح (أيها الناس! الآن الآن ما دام الوثاق مطلقاً -- أي الحياة وفرصة العمل موجودة -- والسراج منيراً، وباب التوبة مفتوحاً، من قبل أن يجفَّ القلم وتُطوى الصحف، فلا رزق ينزل، ولا عمل يصعد، المضمار اليوم والسباق غداً وانكم لا تدرون إلى جنة أو إلى نار ! ! ! وأستغفر الله لي ولكم)(2).ثم تبيّن الآية التالية ما أجملته الآية السابقة {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم} (الزمر:55) وهو هذا القرآن العظيم الذي فيه تبيان كل شيء فعليكم العمل به وتدبر معانيه واتخاذه هادياً ومرشداً وقائداً ولكن عقولنا تقصر عن الإحاطة بتفاصيله فيأتي دور كلام المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في بيانه.

وتتكرر المطالبة بالمبادرة والمسارعة واغتنام الفرصة قبل فواتها {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} (الزمر:55) فإن باب التوبة قد يغلق {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} (غافر:85).

وحينئذٍ لا ينفع الندم ولا الحسرة ولا التأسف لأن هذه الحقيقة قد بيّنها الله تعالى للناس وحذرهم منها فلا عذر لهم {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} (الزمر:56) في كل ما يرتبط بالله تعالى من دين وأئمة وقادة هداة، وسيندم على استخفافه واستهزائه بهذا كله {وَإِن كُنتُ لَمِنَ86

ص: 249


1- مكارم الاخلاق للطبرسي: 626
2- أمالي الشيخ الطوسي: 686

السَّاخِرِينَ} (الزمر:56) فقد كان يسخر ممن يدعوه إلى الله تعالى ويسخّف كلامه ويتهم دعوته بأنواع الأوصاف المنفرّة، فاذا طلبت منهم، إقامة شريعة الله تعالى والالتزام بقوانينها عارضوك ووصفوها بأنها رجعية وتخلّف أو أن الوقت غير مناسب لتطبيقها، لاحظوا معي هذا المشهد لهم يوم القيامة {وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الأنعام:27).فكل إعراض عن الشريعة وصدُّ عنها وعن العمل بها هو تفريط في جنب الله تعالى، وكل نكران لنبوة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وإمامة آله الكرام هو تفريط في جنب الله ففي الكافي بسنده عن موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (جنب الله أمير المؤمنين)(1)، وفي بصائر الدرجات عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول (أنا عين الله، وأنا جنب الله، وأنا يد الله، وأنا باب الله)(2) وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (انا شجرة من جنب الله فمن وصلنا وصله الله)(3) وفي المناقب بسنده عن ابي ذر في خبر عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (يا ابى ذر يؤتى بجاحد علي يوم القيامة أعمى أبكم يتكبكب في ظلمات يوم القيامة ينادي {يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} وفي عنقه طوق من نار)(4) .64

ص: 250


1- الكافي: ج1 ص 145
2- بصائر الدرجات:19
3- بصائر الدرجات:19
4- مناقب آل أبي طالب 3: 64

فالله تعالى يدعونا دائماً إلى تذكر هذه الحقائق ونحن في هذه الدنيا لنستطيع معالجة الخلل وتدارك التقصير قبل فوات الأوان، ورد في الحديث عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (أكثروا من ذكر هادم اللذات، فأنكم إن كنتم في ضيق وسعه عليكم فرضيتم به فأثبتم، وإن كنتم في غنى بغضّه اليكم فجُدتم به - أي أنفقتم منه - فأُجِرتم، ألا إن المنايا قاطعات الآمال، والليالي مدنيات الآجال، وان المرء عند خروج نفسه وحلول رمسه يرى جزاء ما قدَّم وقلة غنى ما خلَّف، ولعله من باطل جمعه ومن حق منعه)(1).إن هذه الآيات الكريمة فيها قانون عظيم لإصلاح المجتمع بفتحه باب العودة إلى الصواب والاندماج في المجتمع من جديد مهما كان خطؤه عظيماً، لأن كثيراً ممن يرتكبون مثل هذه الأخطاء يفقدون الأمل ويظنون ان باب التوبة اغلق في وجوههم فيقدمون على الانتحار للتخلص من آلام تأنيب الضمير أو يندفعون نحو الجريمة أكثر لإسكات صوت الضمير وإماتته، وما يريده الله تعالى من الانسان اعترافه بخطئه ورجوعه عنه إلى طاعة الله تعالى، وسيقبله ويمحو ما سبق منه.

أيها المؤمنون الموالون للصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (س)

لقد ارادت السيدة فاطمة الزهراء (س) بقيامها المبارك أن تعيد الأمة إلى رشدها وأن تعمل بهذه الوصية من ربها لأنهم ارتكبوا اثماً عظيماً بانقلابهم على اعقابهم ومخالفتهم لنبيّهم وعصيانهم لإمامهم وأسسّوا خطاً باطلاً منحرفاً ويزيد

ص: 251


1- ارشاد القلوب:1/ 48

ابتعاده عن الحق كلما مرّ عليه الزمن، تأملوا في قولها سلام الله عليها (وكيف بكم وانى تؤفكون وكتاب الله بين اظهركم، اموره ظاهرة واحكامه زاهرة واعلامه باهرة وزواجره لائحة وأوامره واضحة، وقد خلّفتموه وراء ظهوركم، أرغبة عنه تريدون؟ ام بغيره تحكمون؟ بئس للظالمين بدلا {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:85) (أفحكم الجاهلية تبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون؟! أفلا تعلمون؟))(1) .وتذكّر الأمة بأن الانابة إلى الله تعالى والإسلام له يتحققان بطاعة ولي الأمر الذي فرض الله طاعته، قالت (س) (أما والله لو تركوا الحقّ على أهله، واتبعوا عترة نبيّه، لما اختلف في الله اثنان، ولورثها سلف عن سلف، وخلف بعد خلف، حتّى يقوم قائمنا التاسع من ولد الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).. ولكن قدّموا من أخّره الله، وأخّروا من قدّمه الله، حتّى إذا ألحدوا المبعوث -- أي دفنوا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وأودعوه الجدث المجدوث، اختاروا بشهوتهم وعملوا بآرائهم، تبّاً لهم! أوَلم يسمعوا الله يقول {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} (القصص:68) بل سمعوا ولكنّهم كما قال الله سبحانه {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج:46) هيهات! بسطوا في الدنيا آمالهم ونسوا آجالهم فتعساً لهم وأضلّ أعمالهم، أعوذ بك يا ربّ من الحَوَر بعد31

ص: 252


1- الاحتجاج للطبرسي: 1/ 131

الكور)(1) .

أيها الأحبَّة :

لا يمكن ان يجتمع حب فاطمة وموالاتها وطلب شفاعتها مع ما انحدر اليه المجتمع من مفاسد وانحراف وانحلال بلغ مديات غير معقولة من فساد مالي تحَّول إلى ثقافة عامة فأدى إلى تخريب مؤسسات الدولة وشمل حتى الخدمات الحيوية كالصحة والتعليم والقضاء والأمن ومن تجارة للمخدرات وادمان عليها إلى احتفالات الفسق والفجور إلى العلاقة المشبوهة بين الجنسين مما أدى إلى كثرة حالات الطلاق والانتحار، وازدادت الصراعات العشائرية التي تخلّف ضحايا وخسائر بالأموال وتغذيها أحياناً بعض الأحزاب المتنفذة للحفاظ على مصالحها الشخصية، وانتشرت الملاهي ومحلات بيع الخمور بشكل غير مسبوق وأصبحت متاحة حتى للصبيان وتمارس عملها بشكل علني وبحماية السلطة وبعض الجهات المتنفذة، والتشكيك في العقائد الحقة والثابتة بل الاستهزاء بها والدعوات إلى نبذها أصبحت علنية بلا حياء ولا مراعاة لمقدسات المجتمع وحرماته.

هل من المعقول أن يحصل كل هذا على أرض ضمت الأجساد الطاهرة لأمير المؤمنين والحسين والكاظمين والعسكريين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وفي ظل حكومات يتسيّدها الإسلاميون وتدعي الالتزام بتوجيهات المرجعية الدينية؟

وهل يمكن أن نرجو شفاعة الزهراء (س) ونعدُّ أنفسنا من شيعتها الذين

ص: 253


1- موسوعة المصطفى والعترة للشاكري: 4/ 362، عن عوالم المعارف:11/ 228، والحور بعد الكور أي النقصان بعد الزيادة.

تلتقطهم يوم المحشر لتشفع لهم، ونحن نرى كل هذا الظلم والانحراف ولا نتحرك بالشكل الكافي لمواجهته. روى الشيخ الطوسي في مجالسه بسنده قال (كان يقال:لا يحل لعين مؤمنة ترى الله يُعصى فتطرف حتى تغيّره)(1) .وقد جعلت سلام الله عليها معياراً لمن يستحق عنوان شيعة فاطمة قالت (س) (إن كنت تعمل بما أمرناك، وتنتهي عما زجرناك عنه فأنت من شيعتنا)(2) .

ان الله تعالى يستنهض عباده المؤمنين خصوصاً النخبة العاملة الرسالية الواعية للدفاع عن المحرومين والمستضعفين الذين لا حول لهم ولا قوة الا بالله العلي العظيم(3) ويدعوهم الى التحرك لإنقاذ إخوانهم من ضعاف الايمان والعقيدة والجاهلين بأحكام الشريعة فيرفعون عنهم الشبهات والشكوك ويعلمونهم الاحكام الدينية ويطلعونهم على سيرة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وأخلاقهم وتعاليمهم وليغيّرون الظلم والفساد، قال تعالى {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران:104).

كما يستنهضهم لدفع الظلم والحرمان والاضطهاد عن المؤمنين الذين لا حول لهم ولا قوة فيطلبون النجدة من إخوانهم {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ16

ص: 254


1- وسائل الشيعة: 16 / 125 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الباب 1 ح 25.
2- بحار الأنوار: 68/ 155.
3- راجع القبس/26, {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} (النساء:75), من نور القرآن: 1/ 316

هَ-ذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً} (النساء:75).ويستنكر في أحاديث شريفة على المتقاعسين عن هذه الواجبات كالحديث المروي عن الامامين الباقر والصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ويل لقوم لا يدينون الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)(1) وعن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (بئس القوم قوم يعيبون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)(2) وروي الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن جده رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (اذا أمتي تواكلت -- أي اتكّل بعضهم على بعض فتركوا فريضته -- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من الله)(3) .

أيها الأخوة والاخوات

إذن نحن بحاجة إلى أن نحيي في أنفسنا هذه الغيرة الفاطمية ونستمد من القيام الفاطمي العزم والقوة للتحرك في جميع الساحات وبكل الوسائل الفاعلة والمؤثرة للعمل بما أمرت به هذه الآية الشريفة اداءً لرسالة الصلاح ولمكافحة الفساد والانحراف والضلال والظلم أسوة بالأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين).

ص: 255


1- وسائل الشيعة: 16 / 111-118 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باب 1.
2- - وسائل الشيعة: 16 / 111-118 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باب 1.
3- وسائل الشيعة: 16 / 111-118 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باب 1.

القبس /134: سورة الزمر:67

اشارة

{وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدرِهِ}(1)

معنى وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ:

أي ما عرفوا الله حق معرفته ولا أعطوه المنزلة التي يستحقّها ويتميّز بها عن غيره من المخلوقات، ولا أحسنوا فهم صفاته وأسمائه المباركة، ففي الآية عتابٌ وتوبيخٌ لهذا التقصير في إدراك حقوق الربوبية ووظائف العبودية أمام الله تبارك وتعالى، وبنفس الوقت تستبطن الآية الدعوة لتحصيل هذه المعرفة، مع الاعتراف بالعجز عن إدراك الحقيقة الإلهية، روى في الكافي عن الفضيل بن يسار، قال:سمعت أبا عبد الله يقول:(إن الله لا يوصف، وكيف يوصف وقد قال الله في كتابه {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} فلا يوصف بقدر الا كان أعظم من ذلك)(2). وفي الحديث المشهور عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (ما عرفناك حقَّ معرفتك، وما عبدناك حقَّ عبادتك)(3)، وهذا معنى للتكبير (الله اكبر) أي أكبر من أن يوصف، إذ ليس لله تعالى قدر، وإنما يقدِّر المخلوقون {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرا} (الطلاق:3).

ص: 256


1- وردت هذه الآية في سورة الانعام:91, وسورة الحج:74, أيضاً.
2- الكافي: 1/ 80 ح11.
3- بحار الانوار: 71/ 23.

بل نحن عاجزون عن إدراك اسمٍ من اسمائه تعالى وصفةٍ من صفاته كالمنعم، قال الله تعالى {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} (النحل:18)، روي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال:(أوحى الله تعالى الى موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):يا موسى اشكرني حقَّ شكري، فقال:يا ربِ كيف أشكرك حقَّ شكرك، وليس من شكرٍ أشكرك به الا وأنت أنعمت به عليَّ؟ فقال:يا موسى شكرتني حق شكري حين علمت أن ذلك مني)(1) وهذا فضلٌ من الله تعالى وكرمٌ حين جعل الاعتراف بالعجز أداءاً للحق، فإذا كنّا عاجزين عن معرفة اسم من اسمائه فكيف نقدر على معرفته حق المعرفة سبحانه وتعالى.

معنى الزجر والتوبيخ في الآية:

فالاستغراب والزجر والتوبيخ ليس من عدم معرفة الخلق للخالق حق معرفته، لانهم عاجزون عن بلوغ ذلك، ولكن الاستغراب والتوبيخ من عدم سعيهم لتحصيلها بالمقدار الممكن لهم أولا ولاستكبارهم على ربّهم مع هذا العجز ثانياً.

والآية شاملة لكل الناس فكل الناس ما قدروا الله حَقَّ قدره، وكان النبي وأهل بيته(صلوات الله عليهم اجمعين) الذين نخاطبهم بوصف (التامين في معرفة الله)(2) اكثر الناس اقرارا بالعجز عن معرفة الله تعالى، لان الانسان كلما ازداد معرفة ازداد ادراكا لقصوره وتقصيره وخضوعه وتذلله لله تعالى، وانما يستكبر الجاهل {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} (الإسراء :43)، نعم كما أن

ص: 257


1- ميزان الحكمة: 4/ 473.
2- من زيارة الجامعة الكبيرة.

الناس على درجات متسافلة في عدم إعطاء الله تعالى حق قدره كذلك هم درجات متصاعدة في تعظيم قدر الله تعالى.فبعض الذين ما قدروا الله تعالى حقَّ قدره أنكر وجوده تعالى وبعضٌ أشرك به غيره بل قدّموا غيره تعالى عليه فعبدوا الغير من دون الله تعالى فهؤلاء ما قدروا ربوبيته والوهيته حق قدرها، وبعض أنكر وحيه وبعثة الانبياء والرسل وانزال الكتب فهؤلاء ما قدروا لطفه ورحمته وحكمته وعلمه حق قدرها هذه الاسماء الحسنى التي تقتضي بعث الانبياء والرسل اذ ان الله تعالى يعلم ان الانسان عاجز عن الوصول بمفرده الى الكمال والسعادة ما لم يهده الله تعالى ببعث الانبياء وانزال الكتب، وان رحمته بعباده وحكمته تقتضيان ذلك ولا بخل في ساحته فكيف ينكرون بعث الانبياء والرسل.

وبعض أنكر المعاد يوم القيامة، فهؤلاء ما قدروا عدله وقدرته حق قدرها وبعض انكر صفاته وأسماءه كالقدرة على تدبير الكون والغلبة على اعدائه، قال تعالى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الزمر:67).

وقال تعالى:{مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج:74).

وقال تعالى:{وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (الانعام:91) فينزِّه الله تعالى نفسه عن هذه

ص: 258

الأباطيل {سبحانه و تعالى عما يشركون} (النحل:1)، اذ حق قدره ان يوحَّد في الوهيته وربوبيته وفي انه المبدأ واليه المعاد وله ما بينهما، وننزهه عن كل نقص وانه لا يشبهه شيء (وتنزه عن مجانسة مخلوقاته).

الهيمنة اللا محدودة:

وتذكر الآية في سورة الزمر مظهراً من مظاهر قدرته فالسماوات والأرضون كلها في قبضته وتحت هيمنته اللامحدودة كما أن الورقة حينما تُطوى تكون في القبضة فهو تعبير عن التسلط التام على السماوات والأرضين، وهو كذلك في الدنيا وليس في الآخرة فقط، لكن الفرق أنه تعالى في الدنيا خَوّل عباده ببعض الملك وأنحاء التصرفات، لكن الإنسان يأتي في الآخرة مجرداً عن كل ذلك {تَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ} (الأنعام:94).

المؤمنون ما قدروا حق ربهم:

وننتقل الآن الى دائرة أضيق من الذين ما قدروا الله حق قدره وهم المؤمنون بالله تعالى فإنهم أيضا ما قدروه حق قدره بأشكال عديدة، أوضحها ارتكاب الذنوب والمعاصي فإن فيها استخفافاً بحقوق الربوبية، روى إسحاق بن عمار عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)حديثاً جاء فيه:(يا إسحاق خَفِ الله كأنك تراه فإن كنت لا تراه فإنه يراك، فإن شككت أنه يراك فقد كفرت وإن أيقنت أنه يراك ثم بارزته بالمعصية فقد جعلته أهون الناظرين اليك)(1).

ص: 259


1- بحار الانوار: 5/ 323 عن ثواب الاعمال ورجال الكشي وقضاء حقوق المؤمنين.

من أشكال (َمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ):

ومن أشكال {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} عدم مراعاة حقّ من أمر الله تعالى بمراعاة حقه، كالنبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) والحجج من بعدهم، وفي موارد كثيرة اخرى وردت في الروايات.

كقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ومن لم يوقّر القرآن فقد استخف بحرمة الله)(1)، ومن مصاديق عدم توقير القرآن نبذ احكامه والعمل بالقوانين الوضعية التي يصنعها البشر .

وقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(الا ومن استخف بفقيرٍ مسلمٍ فقد استخف بحق الله والله يستخفُّ به يوم القيامة إلا أن يتوب)(2).

وفي الحديث القدسي قوله تعالى:(يا موسى إن من إعظام جلالي إكرام عبدي الذي أنلتُهُ حظاً من حطام الدنيا عبداً من عبادي مؤمناً قَصُرَتْ يدُهُ في الدنيا، فإن تكّبر عليه فقد استخف بعظيم جلالي)(3).

ومن أشكال {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الاعتقاد بأن الاسباب المخلوقة هي المؤثرة من دون الله تعالى كقول البعض (لولا فلان لما حصل كذا)، ومنها طاعة المخلوقين في غير ما امر الله تعالى به، أو تطبيق القوانين الوضعية في الحياة وترك القوانين الالهية وهكذا. وآية سورة الحج صريحة في ذلك فقد سبقها قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ

ص: 260


1- البحار: 89/ 19 ح18.
2- البحار:69/ 38 ح30.
3- البحار: 23/ 267 ح12.

لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} (الحج:73) فلا فرق بين من كان في الأزمنة السابقة يعبد الأصنام طمعاً في منفعة أو دفعاً لمضرةٍ بحسب اعتقاده وبين من يلتجئ اليوم الى المخلوقين من دون الله تعالى لنفس الغرض مهما كانت القوة والقدرة الموجودة عند المخلوقين كأمريكا التي يسمونها (القوة العظمى) أو أي دول أو شخصيات متفرعنة اخرى {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} فهؤلاء كلهم ما قدروا الله حق قدره (إنَّ الله لقوي عزيز) فالعزة والقدرة والعظمة لله تبارك وتعالى.

علاقة غير منصفة مع الله تعالى:

تتناول بعض الأحاديث القدسية هذه العلاقة غير المنصفة بين الناس وخالقهم، روى الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن أباه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):يقول الله تبارك وتعالى يا بن آدم ما تنصفني أتحبّب اليك بالنعم، وتتمقّت اليّ بالمعاصي، خيري اليك نازل وشرك اليّ صاعد ولا يزال ملك كريم يأتيني عنك في كل يوم وليلة بعمل قبيح يا بن آدم لو سمعت وصفك من غيرك وأنت لا تعلم من الموصوف لسارعت الى مقته)(1).

هذا النقص والتقصير في معرفة الله تعالى بسبب الجهل أو التعصب أو اتبّاع الهوى أو التلقّي من وسائل غير صحيحة وبأدوات غير طاهرة يأخذه الإنسان الى يوم القيامة أيضاً ويجادل فيه {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} (الكهف :54) فيريد أن يعرف ربه من خلال تلك القنوات المعرفيّة المشوّهة المملوءة بالشوائب،

ص: 261


1- بحار الانوار: 77/ 19 ح2 عن عيون اخبار الرضا: 2/ 28.

أي يفصِّل له رباً على طبق معتقداته المستندة الى الأوهام التي ذكرناها آنفاً فلو تجلى له ربه بما يليق بقدسه وجلاله فانه ينكر ربه لانه يريد رباً يصوره هو ويعرفه هو ويتناغم مع هواه، مثلاً كان في الدنيا يتعصب لشخص او جهة او كان يؤمن بعقيدة معينة او باتجاه ما واخبره ربه في الاخرة ان محبوبه الذي يتعصب له وهم باطل فانه سيقول له انت لست ربي حقيقة، ولو كنت ربا حقا لقلت لي ان هذا الشخص او العقيدة او الحالة حق(1)، فهم يحكمون على الله تعالى بما عندهم من غث وسمين وليس العكس بأن يحكّمون الله تعالى فيما عندهم، والاول هو الذي يسميه بعض أهل المعرفة بالرب المقيد بتصوراتنا واوهامنا والثاني بالرب المطلق الذي لاتحددّه اوهامنا وعقولنا واهواؤنا وهو الاعتقاد الصحيح. وتوجد رواية يظهر منها هذا المعنى عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول من كان يعبد شيئا فليتبعه، فيتّبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت(2)، وتبقى هذه الامة فيها منافقوها، فياتيهم الله تبارك وتعالى في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول:انا ربكم، فيقولون:نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى).

ص: 262


1- مثلاً الذين يقدّسون بعض الطقوس التي اضيفت الى الشعائر الحسينية فلو تجلى لهم رب العزة والجلال وقال لهم هذا الفعل ليس من الشعائر الحسينية وانما هو طقس وفعالية ابتدعها البعض للتعبير عن تفاعله مع قضية الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فان هؤلاء سيقولون انت لست رباً حقاً، ولو كنت الرب الحقيقي لقلت لنا أن الدين هو هذا الفعل.
2- وقد يكون هؤلاء الطواغيت متلبسين بزي علماء الدين {تَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (التوبة:31).

ياتينا ربّنا فاذا جاء ربنا عرفناه فياتيهم الله تعالى في صورته التي يعرفون، فيقول:انا ربكم فيقولون:انت ربنا فيتبعونه)(1).فإذا أردنا معرفة الله حق معرفته فلنأخذها من أهل لها وهم أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) عدل القرآن وصنوه والقرآن الناطق، ومن ادعية أمير المؤمنين والامام الحسين والامام السجاد (صلوات الله عليهم اجمعين) والكلمات الاخرى للائمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).9.

ص: 263


1- صحيح مسلم: 82، باب 81 معرفة طريق الرؤية، ح 299.

القبس /135: سورة الزمر:73

اشارة

{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً}

موضوع القبس:الأنس بالامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يشغل الذين اتقوا عن دخّول الجنة

قال الله تعالى في كتابه الكريم:{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} (الزمر:73).

قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في وصف أحوال هؤلاء عندما قرأ الآية قال:(قد أُمِنَ العذاب، وانقطع العتاب. وزُحزحوا عن النار، واطمأنت بهم الدار، ورضوا المثوى والقرار. الذين كانت أعمالهم في الدنيا زاكية، وأعينهم باكية. وكان ليلهم في دنياهم نهاراً، تخشّعاً واستغفاراً. وكان نهارهم ليلاً، توحشاً وانقطاعاً. فجعل الله لهم الجنة مآباً، والجزاء ثواباً. وكانوا أحق بها وأهلها. في ملك دائم، ونعيم قائم)(1).

(سِيْقَ) فعل مبني للمجهول من (ساق) والسائق هم الملائكة، قال تعالى:{وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} (ق:21)، وفي المفردات ((سوق

ص: 264


1- نهج البلاغة: 2/ 132، شرح محمد عبده.

الإبل جلبها وطردها يقال:سقته فانساق)) ومنه (لا أستطيع أن أسوق إلى نفسي خير ما أرجو) أي أجلب، وسمي مهر المرأة سياقاً لأن الأصل فيه كان من الإبل والغنم يسوقها الرجل إلى المرأة، وعُبِّر عن النزع الأخير للإنسان في حال الاحتضار ((السَوْق)) لأن روحه تُساق لتخرج من البدن، وفي قول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لعثمان:(فلا تكونن لمروان سِيقة يسوقك حيث شاء) والسيقة الناقة التي ساقها العدو(1).والزُمَر جمع (زمرة) وهي الجماعة فيُساقون على شكل جماعات، ربما ليأنس بعضهم ببعض ويعوَّضهم عن الوحشة والخذلان الذي لاقوه في الدنيا بحيث أصبحوا معزولين عن أغلبية المجتمع من أهل الدنيا(2).

ولأنهم على درجات متفاوتة وللجنة أبواب بحسب ما يناسب هذه الدرجات، كما أن أهل النار يساقون جماعات فقالت فيهم الآية السابقة:{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً} لأنهم على دركات متفاوتة {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ) (الحجر:44)، وللجنة ثمانية أبواب روى أنس بن مالك عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال:(إن للجنة ثمانية أبواب، وللنار سبعة).

ص: 265


1- مجمع البحرين: 5-6 /118، مادة (سوق).
2- بعكس زمر الكافرين وجماعتهم فهي تزيدهم وحشة بعضهم من بعض لأنهم كما قال تعالى: {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (الزخرف: 67)؛ لأنهم يذكّرونهم بصحبتهم السيئة وأفعالهم المشينة {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} (آل عمران:30).

أبواب)(1)، وروي عن أمير المؤمنين علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إن للجنة ثمانية أبواب:باب يدخل منه النَبيُّون والصِّدِّيقون، وباب يدخل منه الشهداء والصالحون. وخمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومُحِبُّونا، وباب يدخل منه سائر المسلمين، مِمَّن شهد أن لا إله إلا الله، ولم يكن في قلبه مقدار ذَرَّة من بغضنا أهل البيت)(2)، وروي عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(أحسنوا الظن بالله تعالى واعلموا أن للجنة ثمانية أبواب عرض كل باب منها مسيرة أربعين سنة)(3).ولا يخفى ما في التعبير بالزمر من إيحاء إلى تأثير الانتماء إلى الجماعة في سلوك الفرد حتى أنه يُحشر إلى الجنة أو النار بلحاظ انتمائه، وقد ورد التأكيد في الروايات على أن معرفة الشخص تتم من خلال معرفة الجماعة التي ينتمي إليها فإن كانوا من أهل الصلاح كان منهم ظاهراً وإن كان من أهل الضلال كان منهم كذلك، ففي وصية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لولده الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(قارن أهل الخير تكن منهم وباين أهل الشر تبِن عنهم)(4)، ومما روي عن نبي الله سليمان (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(لا تحكموا على رجل بشيء حتى تنظروا الى من يصاحب فإنما يُعرف الرجل بأشكال أقرانه ويُنسب إلى أصحابه وأخدانه)(5).6.

ص: 266


1- وسائل الشيعة: 3/ 246، أبواب الدفن وما يناسبه، باب 72، ح11. عن أمالي الصدوق: 123.
2- الخصال: 406.
3- بحار الأنوار: 8/ 131، عن كتاب الخصال: 2/ 39.
4- نهج البلاغة: 3/ 52، بشرح الشيخ محمد عبده.
5- بحار الأنوار: 71/ 188، عن كنز الفوائد لأبي الفتح محمد بن علي الكراجكي (ت 449 هج-): 36.

والملفت أن زمر النار قال تعالى فيهم:{حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} بينما قال في أهل الجنة {حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} ولعل الاختلاف يُشعر بأن أبواب النار تكون مغلقة وتفتح عند وصول مستحقيها إليها، كأبواب السجون المغلقة على أهلها وتفتح عندما يصل محكوم بالسجن إلى الباب، أما الجنة فأبوابها مفتوحة قبل وصولهم إليها لأن الواو حالية أي أن المتقين جاؤوها حال كونها مفتوحة لانها تكون مهيئة لاستقبالهم بالزينة والتكريم.ويثار هنا سؤال(1):أن السوق بالنسبة لأهل النار معلوم لأنهم يرغمون على دخولها ويُدفعون إليها دفعاً، قال تعالى:{يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً} (الطور:13) وقال تعالى:{وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} (مريم:86)، لكن سَوقَ الذين اتقوا غير واضح لأن المفروض أنهم يسرعون إليها مبادرين لأنها غاية مناهم وقد تحققت.

وبتعبير آخر قاله بعض المفسرين:((استعمال لفظ (سيق) أثار التساؤل، كما لفت أنظار الكثير من المفسرين لأن هذا التعبير يستخدم في موارد يكون تنفيذ العمل فيها من دون أي اشتياق ورغبة في تنفيذه، ولذلك فإن هذه العبارة صحيحة بالنسبة لأهل جهنم، ولكن لمَ استعملت بشأن أهل الجنة الذين يتوجهون إلى الجنة بتلهف واشتياق))(2).9.

ص: 267


1- أثاره سماحة الشيخ في إحدى جلساته اليومية في شوال /1439 الموافق تموز /2018 لتحريك أذهان الجالسين وحثهم على التدبر في الآيات القرآنية ووعد سماحته بكتابة قبس في ذلك.
2- الأمثل في تفسير القرآن للشيخ مكارم الشيرازي: 11/ 579.

ويمكن أن نذكر هنا عدة أجوبة:-1- أن نسلّم بالإشكال ونقول إن اللفظ استُعمل من باب المشاكلة وهو من أساليب البديع المعروفة في الأدب العربي ومثاله قوله تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (البقرة:194) والمقابلة بالمثل واستنقاذ الحق ليس عدواناً لكن أحد وجوه استعمال اللفظ أنه استُعمل من باب المشاكلة، وتوجد وجوه أخرى ذكرناها في قبس آخر.

2- إن نفس مفردة (السوق) لا تتضمن معنى التعنيف والزجر والإهانة، ولعل صاحب المفردات شرحها بلحاظ سوق الإبل، وإن جهود أهل اللغة مبنية على الاستقراء وهو قد يكون ناقصاً كقوله في مادة حشر:((إخراج الجماعة من مقرّهم وإزعاجهم عنها إلى الحرب وغيرها))(1) وهو لا يلائم قوله تعالى:{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً} (مريم :85)، لذا عرّف ابن فارس في معجم مقاييس اللغة السوق بأنه ((حدو الشيء))(2) من دون أن يتضمن معنى الزجر أو التعنيف، وعرّفه الشيخ الطبرسي في مجمع البيان بأنه ((الحث على السير))(3)، وقال بعض المحققين:((حث على سير من خلف في ظاهر أو معنى فالسوق في الظاهر كما في {فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ} (فاطر:9) والسوق المعنوي كما في {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} (القيامة :30) والسوق في ما وراء المادة، كما في1.

ص: 268


1- مفردات غريب القرآن- الأصفهانى: 119
2- معجم مقاييس اللغة- ابن فارس: 3/ 117
3- مجمع البيان للشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي: 8/ 221.

{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً} (الزمر:71) {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً} (الزمر:72)، فكما أن السحاب يساق إلى بلد ميت لحفظ النظم وتتميم اللطف والفضل، كذلك يساق الكافر إلى جهنم، ويساق المؤمن إلى الجنة، حفظاً للنظم وإجراءً للعدل وإعطاءً لما تقتضيه الطبائع، وتطلبه النفوس من لوازم الضلال والهداية {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} (القيامة:36)))(1).وعلى هذا فيمكن استعمال لفظ السوق في المحبوب والمكروه ويُعرف ذلك من القرائن او من الغرض المقصود للسوق كلفظ البشرى الذي يُفهم منه الأمور المفرحة لكنه يستعمل أيضاً في الأمور السيئة {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (آل عمران:21)، فقد يكون السوق للتكريم والتبجيل كمن يلتمس ضيفاً على الباب لدخول داره فيأخذ بكتفيه او بيديه ويدخله الدار فهذا سوق للتكريم، وهو ما يقوم به بكل إخلاص وسرور أصحاب المواكب الحسينية في أيام زيارة الأربعين فيعزمون على المشاة أن يستريحوا في مواكبهم ويتناولوا من طعامهم وشرابهم.

فاشتياق المتقين إلى الجنة مهما كان عظيماً فإن الجنة وملائكتها وحورها مشتاقون إليهم أكثر ويتلهفون إلى لقائهم فيسوقونهم إليهم بتكريم وحث، لذا فسّر في مجمع البيان سوق الذين كفروا بأنهم ((يساقون سوقاً في عنف)) وقال عن سوق الذين اتقوا:((أي يُساقون مكرمين)) ولم يجد في ذلك بأساً لأن الحال لم يستظهره من اللفظ وإنما من القرائن.0.

ص: 269


1- التحقيق في كلمات القرآن الكريم للعلامة حسن المصطفوي: 5/ 330.

وبذلك يقترب معنى السوق من الدلالة والهداية، لذا يستعمل أهل المعرفة لبيان غرض القرآن أو الدين عموماً تعبير السوق نحو الكمال، والهداية قد تكون إلى الجنة وهو معروف وقد تكون إلى النار، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً، إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً} (النساء:168-169)، وقال تعالى:{شَيطَاناً مَرِيداً، كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} (الحج :3-4)، فسوقَ الذين اتقوا الى الجنة لانهم يحتاجون من يهديهم إليها ويدلّهم عليها في تلك الأجواء الرهيبة في محشر القيامة.3- أو أن الذين اتقوا لمَّا يُنادى بهم لدخول الجنة يبقون في المحشر لأمرٍ ما كالشفاعة في ذويهم ومحبيهم {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} (الطور :21) كالذي ورد في صحيحة محمد بن مسلم عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إن السقط يجيء محبنطئاً على باب الجنة فيقال له:ادخل الجنة، فيقول:لا، حتى يدخل أبواي الجنة قبلي)(1).

أو للوفاء بالعهد مع إخوانهم المؤمنين كما في المؤاخاة المذكورة في أعمال يوم الغدير (أن لا أدخل الجنة إلا وأنت معي)(2).

أو أنهم لتواضعهم وحسن أدبهم لا يريدون سبق إخوانهم في الدخول إلى الجنة فينتظرون الرفقة ليدخلوا زمراً وجماعات.79

ص: 270


1- وسائل الشيعة: 20/ 1، كتاب النكاح، أبواب المقدمات، باب 1، ح2.
2- مستدرك الوسائل- المحدث النوري: 6/ 279

أو لكي يُعرف قدرهم كما في الحديث الوارد في شفاعة الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (س) أنها إذا (صارت عند باب الجنة تلتفت، فيقول الله:يا بنت حبيبي ما التفاتك وقد أمرت بك إلى جنتي؟ فتقول:يا رب أحببت أن يُعرف قدري في مثل هذا اليوم، فيقول الله:يا بنت حبيبي ارجعي فانظري من كان في قلبه حب لك أو لأحد من ذريتك خذي بيده فأدخليه، الجنة، قال أبو جعفر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):والله يا جابر إنها ذلك اليوم لتلتقط شيعتها ومحبيها كما يلتقط الطير الحب الجيد من الحب الرديء، فإذا صار شيعتها معها عند باب الجنة يلقي الله في قلوبهم أن يلتفتوا، فإذا التفتوا يقول الله:يا أحبائي ما التفاتكم وقد شفعت فيكم فاطمة بنت حبيبي؟ فيقولون:يا رب أحببنا أن يعرف قدرنا في مثل هذا اليوم، فيقول الله:يا أحبائي ارجعوا وانظروا من أحبكم لحب فاطمة، انظروا من أطعمكم لحب فاطمة، انظروا من كساكم لحب فاطمة، انظروا من سقاكم شربة في حب فاطمة، انظروا من ردّ عنكم غيبة في حب فاطمة فخذوا بيده وأدخلوه الجنة، قال أبو جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):والله لا يبقى في الناس إلا شاك أو كافر أو منافق فإذا صاروا بين الطبقات نادوا كما قال الله تعالى:{فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ، وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} فيقولون:{فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قال أبو جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):هيهات هيهات منعوا ما طلبوا {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ})(1).فلهذه الأسباب وغيرها يتأخرون عن دخول الجنة فتحثّهم الملائكة على دخولها وهو معنى السوق.5.

ص: 271


1- بحار الأنوار: 8/ 52 عن تفسير فرات الكوفي: 113-115.

4- إن الذين اتقوا لا تؤهلهم أعمالهم إلى دخول الجنة فلا تحركهم الحركة الكافية نحوها، ولكن لطف الله تعالى ورحمته تشملهم فتعطيهم زخماً وتسرّع بهم نحو الجنة فهم يحتاجون إلى (سوق) أيضاً ليدخلوا الجنة بلا تأخير، وهذا السوق ورد في (الذين اتقوا) وليس في (المتقين) وبينهما فرق فالذين اتقوا حالة قد يحصل معها ما ينافيها كما في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف :201) والمتقون مقام تحولت التقوى عند أهَله إلى صفة ثابتة ولازمة لذواتهم، لذا لم يستعمل معهم لفظ السوق، قال تعالى:{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً، وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} (مريم :85-86) والخلاصة أن أهل التقوى على درجات فبعضهم تكون حاله غير تامة فيحتاجون إلى تكميلها بسوق وبعضهم تكون عندهم تامة فلا يحتاجون.

5- إن السوق ليس للذين اتقوا وإنما لذويهم ومتعلقيهم ومحبيهم وقد وعد الله تعالى أن يلحقهم بهم {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (الطور:21) وهؤلاء يحتاجون إلى سوق لأن منزلتهم ليست بدرجة الذين اتقوا وإنما نسب السوق إلى الذين اتقوا لأنهم هم الملحوظون والمقصودون بالتكريم ودخول الجنة، فكل واحد منهم يمثل جماعة ويعادل جماعة نظير قوله تعالى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} (النحل:120) كما أن الملك حينما يدعى يساق معه رفاقه وحاشيته وينسب السوق إلى الجميع.

ص: 272

6- إن الذين اتقوا لما يرون ما أعد الله لهم من الكرامة والفوز العظيم الذي تحقق لهم تخرج أرواحهم من أبدانهم فرحاً وشكراً وشوقاً إلى المنعم المتفضل فتساق أرواحهم إلى أبدانهم ليدخلوا الجنة وهم كانوا هكذا في الدنيا كما وصفهم أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في خطبته في صفة المتقين (ولولا الأجل الذي كُتب لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى الثواب، وخوفاً من العقاب)(1).

7- ما يُستفاد من بعض الروايات في فضل زيارة الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ونصرته لإقامة دين الله تعالى ونشر ولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وهي من سيماء الذين اتقوا {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج:32)، فقد روى زرارة عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أو الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال:(يا زرارة إذا كان يوم القيامة جلس الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في ظل العرش وجمع الله زواره وشيعته ليبصروا من الكرامة والنصرة والبهجة والسرور إلى أمر لا يُعلم صفته إلا الله فيأتيهم رسل أزواجهم من الحور العين من الجنة فيقولون إنا رُسل أزواجكم إليكم يقلن:إنا قد اشتقناكم وأبطأتم عنا فيحملهم ما هم فيه من السرور والكرامة على أن يقولوا لرسلهن:سوف نجيئكم إن شاء الله)(2).

ورويت بشكل آخر أكثر تفصيلاً في كامل الزيارات عن زرارة وفيها (وما من عبد يُحشَرُ إلاّ وعيناه باكيةً إلاّ الباكين على جدِّيَ الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فإنّه يحشر وعينه قَريرة، والبشارة تلقاه والسّرور (بيّن) على وجهه، والخلق في الفزع وهم3.

ص: 273


1- نهج البلاغة: 2/ 161، خطبة 193، في وصف المتقين.
2- بحار الأنوار: 101/ 75، ح25 عن نوادر علي بن أسباط ضمن الأصول الستة عشر: 123.

آمنون، والخلق يعرضون وهم حدّاث(1) الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تحت العرش وفي ظلِّ العرش، لا يخافون سوءَ يوم الحساب، يقال لهم:ادخلوا الجنّة، فيأبون ويختارون مجلسه وحديثه، وأنَّ الحور لترسل إليهم أنّا قد اشتقناكم مع الولدان المخلّدين فما يرفعون رؤوسهم إليهم لما يرون في مجلسهم مِنَ السُّرور والكَرامَة، وإنَّ أعداءَ هم مِن بين مَسْحوب بناصيته إلى النّار، ومِن قائل:(ما لَنا مِن شافِعينَ وَلا صَدِيقٍ حَميم)، وإنّهم ليرون منزلهم، وما يقدرون أن يدنوا إليهم ولا يصلون إليهم، وإنَّ الملائكة لتأتيهم بالرِّسالة مِن أزواجهم ومِن خُزّانهم على ما أُعطوا مِن الكَرامة فيقولون:نأتيكم إن شاء الله، فيرجعون إلى أزواجهم بمقالاتهم، فيزدادون إليهم شوقاً إذا هم خبّروهم بما هم فيه مِنَ الكَرامة وقُربهم مِن الحسين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فيقولون:الحمد لله الَّذي كفانا الفَزَع الأكبرَ، وأهوال القيامة، ونجّانا ممّا كنّا نخاف، ويؤتون بالمراكب والرِّحال على النَّجائب، فيستوون عليها، وهم في الثَّناء على الله والحمد لله والصَّلاة على محمَّدٍ وآله، حتّى يَنْتَهوا إلى منازلهم)(2)، فهؤلاء المتقون من زوار الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وشيعته والمقيمين لشعائره باخلاص يفضلون النظر إلى وجهه الكريم على المصير إلى الجنة وينشغلون به عنها فتأخذهم الملائكة برفق وتكريم إلى الجنة حينما أذن الله تعالى بذلك.والرواية لم تطبق هذه الحالة على الآية الكريمة لذلك لم يلتفت اليها أصحاب التفاسير بالروايات كالبرهان ونور الثقلين إلا أن معناها واضح الانطباق على الآية.4.

ص: 274


1- أي يتحدثون مع الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)
2- كامل الزيارة: 84.

القبس /136: سورة غافر:60

اشارة

{ٱدعُونِي أَستَجِب لَكُم ۚ}

موضوع القبس:الدعاء:فضله وظروف استجابته

الأعمال بآثارها وخواتيمها:

قال الله تبارك وتعالى:{ادْعُونِي أستَجِبْ لَكُم} وقال تعالى:{وإذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدَاعِ إذَا دَعَانِ فَليَستَجِيبُوا لِي وَليُؤمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ} (البقرة:186).

ورد عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير قوله تعالى{مَا يَفتَحِ اللهُ للنَاسِ مِنْ رَحمَةٍ فَلا مُمسِك لَهَا} (فاطر:2) قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(الدعاء)(1).

الدعاء أيسر الوسائل إلى أعظم الخزائن:

أيها الأحبة..

هذه حقيقة نغفل عنها وهي امتلاكنا لهذه الوسيلة التي تفتح خزائن رحمة الله تبارك وتعالى التي وسعت كل شيء من خلال الدعاء، تصوروا لو أن لأحدكم وسيلة إلى مسؤول كبير وشخصية ذات نفوذ وقوة فإنه سيكون حريصاً على إبقاء

ص: 275


1- الروايات الواردة في الخطبة موجودة في كتاب بحار الأنوار، المجلد التاسع عشر، عن مصادرها الأصلية، وأصول الكافي.

تلك الوسيلة والاستفادة منها، وها نحن نمتلك أيسر الوسائل إلى أعظم الخزائن وهو الدعاء، ولا نستثمره، يقول الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ولو دلّ مخلوق مخلوقاً من نفسه على مثل الذي دللت عليه عبادك منك، كان موصوفاً بالإحسان ومنعوتاً بالامتثال ومحموداً بكل لسان، فلك الحمد ما وُجِد في حمدك مذهب، وما بقي للحمد لفظ تُحمد به، ومعنى ينصرف إليه)(1)، يقول الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(فأكثر من الدعاء فإنه مفتاح كل رحمة ونجاح كل حاجة ولا ينال ما عند الله إلا بالدعاء، فإنه ليس من باب يكثر قرعه إلا أوشك أن يُفتح لصاحبه)(2).وللدعاء أهمية كبرى في كتاب الله تبارك وتعالى والأحاديث الشريفة عن أهل بيت العصمة (صلوات الله وسلامه عليهم) ففي خبر صحيح عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير قول الله تبارك وتعالى:{إَنَّ الذِينَ يَستَكبِرُونَ عَن عِبَادَتِي سَيَدخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر:60) قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(هو الدعاء وأفضل العبادة الدعاء) ويشهد لذلك صدر الآية {ادْعُونِي أَستَجِبْ لَكُم}، وفي تفسير قوله تعالى:{إنَّ إِبرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} (التوبة:144) قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(الأواه هو الدَعّاء) وقال الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(وكان أمير المؤمنين رجلاَ دَعّاءً)(3).

وقال تعالى:{قُلْ مَا يَعبَؤ بِكُم رَبّي لَولا دُعاؤُكُم فَقَد كّذّبتُم فَسَوفَ يَكونُ لِزَاماً} (الفرقان:77) وقال تعالى:{وَاسأَلُوا اللهَ مِن فَضلِهِ إنَّ اللهَ كَانَ68

ص: 276


1- الصحيفة السجادية، من دعائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في وداع شهر رمضان.
2- الكافي:ج 2 /ص 470
3- الكافي:ج 2 /ص 468

بِكُلِّ شيءٍ عَلِيماً} (النساء:32).

الدعاء لكل حاجة:

والدعاء لكل حاجة مهما صغرت ونحن في كل نفس وكل طرفة عين محتاجون إلى الله تبارك وتعالى الغني فلا نتوقف عن اللجوء إلى الله تبارك وتعالى في كل شيء حتى إذا كان تافهاً بنظرك أو أن الحصول عليه سهل يسير فقد روي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال:(سلوا الله عز وجل ما بدا لكم من حوائجكم حتى شسع النعل فإنه إن لم ييسره لم يتيسر، وقال:ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع)(1) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(ألا أدلّكم على سلاح ينجيكم من عدوكم ويدرّ أرزاقكم؟ قالوا:نعم، قال:تدعون بالليل والنهار فإن سلاح المؤمن الدعاء)(2) وروي أن الإمام الكاظم سئل عما قيل:لكل داء دواء فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(لكل داء دعاء فإذا أُلهم العليل الدعاء فقد أُذن في شفائه)(3)، وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(عليكم بالدعاء، فإنكم لا تقربون بمثله، ولا تتركوا صغيرة لصغرها أن تدعوا بها، إن صاحب الصغار هو صاحب الكبار)(4).

الدعاء في كل زمان:

والدعاء في كل زمان حتى زمان اليسر والرخاء ويشتد في زمان العسر

ص: 277


1- بحار الأنوار:ج 90 /ص 295
2- الكافي:ج 2 /ص 468
3- فقه الرضا:الصفحة 345
4- الكافي:ج 2 /ص 467

والضيق والبلاء، يروي أحد أصحاب الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الثقات في شدة المحنة التي فرضها المنصور العباسي بعد استشهاد الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وسيفه يقطر دماً من شيعة أهل البيت يقول:(دخلت على أبي الحسن موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالمدينة وكان معي شيء فأوصلته إليه فقال:أبلغ أصحابك وقل لهم:اتقوا الله عز وجل فإنكم في إمارة جبار -يعني أبا الدوانيق- فأمسكوا ألسنتكم وتوقّوا على أنفسكم وادفعوا ما تحذرون علينا وعليكم منه بالدعاء، فإن الدعاء - والله- والطلب إلى الله يرد البلاء وقد قدّر وقضي ولم يبق إلا إمضاؤه فإذا دعي الله وسئل:صُرف البلاء صرفاً، فألحوا في الدعاء أن يكفيكموه الله، قال أبو ولاّد:فلما بلّغت أصحابي مقالة أبي الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:ففعلوا ودعوا عليه وكان ذلك في السنة التي خرج فيها أبو الدوانيق إلى مكة فمات عند بئر ميمون قبل أن يقضي نسكه فأراحنا الله منه، قال الراوي:وكنت تلك السنة حاجاً فدخلت على أبي الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال:يا أبا ولاد كيف رأيتم نجاح ما أمرتكم به وحثثتكم عليه من الدعاء على أبي الدوانيق، يا أبا ولاد:ما من بلاء ينزل على عبد مؤمن فيلهمه الله الدعاء إلا كان كشف ذلك البلاء وشيكاً، وما من بلاء ينزل على عبد مؤمن فيمسك عن الدعاء إلا كان ذلك البلاء طويلاً فإذا نزل البلاء فعليكم بالدعاء)(1).وقد ورد عن الإمام الهادي في حق دعاء (يا من تُحَلُّ به عُقَدُ المكاره) وهو من أدعية الصحيفة السجادية:(إن آل محمد صلى الله عليهم أجمعين يدعون بهذه الكلمات عند إشراف البلاء وظهور الأعداء وخوف الفقر وضيق الصدر)(2).29

ص: 278


1- بحار الأنوار: ج 90 /ص298
2- بحار الأنوار: ج 92 /ص 229

الدعاء يمنع اليأس والإحباط:

ولمنع الإنسان من الوقوع في حالة اليأس والإحباط والقنوط والاستسلام لما يصيبه فقد نبّه الأئمة سلام الله عليهم إلى أن الدعاء يبقى مؤثراً وكفيلاً بتغيير الحال حتى لو أحكم القضاء والقدر ومهما كان التغيير عسيراً قال الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ادع ولا تقل:إن الأمر قد فرغ منه. إن عند الله عز وجل منزلة لا تنال إلا بمسألة، ولو أن عبدا سد فاه ولم يسأل لم يعط شيئا فسل تعط)(1) وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال:(الدعاء يرد القضاء بعدما أُبرم إبراماً)(2).

وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ما زالت نعمة عن قوم ولا نضارة عيش إلا بذنوب اجترحوها، إن الله ليس بظلاّم للعبيد، ولو أنهم استقبلوا ذلك بالدعاء والإنابة لم تنزل، ولو أنهم إذا نزلت بهم النقم وزالت عنهم النعم فزعوا إلى الله بصدق من نيّاتهم ولم يهنوا ولم يسرفوا:لأصلح الله لهم كل فاسد ولرد عليهم كل صالح)(3).

ظروف استجابة الدعاء:

ولا شك أن ليس كل لقلقة لسان هو دعاء بل لا بد من توفّر ظروف لاستجابة الدعاء، روي أن رجلاً من أصحاب الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (قال:إني لأجد آيتين في كتاب الله أطلبهما فلا أجدهما، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):وما هما؟ قال الرجل: {ادْعُونِيْ أَسْتَجِبْ لَكُمْ} فندعوه فلا نرى إجابة، قال:أفتَرى الله أخلف وعده؟

ص: 279


1- شرح أصول الكافي:ج 10 /ص 229
2- شرح أصول الكافي:ج 10 /ص 237
3- بحار الأنوار:ج 90/ص 289

قلت:لا، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):فمه؟ قلت:لا أدري، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):لكني أخبرك:من أطاع الله فيما أمر به ثم دعاه من جهة الدعاء أجابه، قال الرجل:وما جهة الدعاء؟ قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):تبدأ فتحمد الله وتمجّده وتذكر نعمه عليك فتشكره ثم تصلّي على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ثم تذكر ذنوبك فتقرّ بها ثم تستغفر منها فهذه جهة الدعاء، ثم قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):وما الآية الأخرى؟ قلت:قوله:{وَمَا أَنفَقتُم مِن شَيءٍ فهُوَ يُخلِفُهُ} وأراني أنفق ولا أرى خلفاً، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):أفتَرى الله أخلف وعده؟ قلت:لا، قال:فمه؟ قلت:لا أدري، قال:لو أن أحدكم اكتسب المال من حله وأنفقه في حقه لم ينفق درهما إلا أخلف الله عليه)(1).

إشكال ورد:

وهنا نصحح فكرة وهي أننا حينما نقول:إن لاستجابة الدعاء ظروفاً فهذا لا يعني تضييقاً في كرم الله تبارك وتعالى وأنه سبحانه يشترط شيئاً لعطائه فإن نعمه تفضلٌ ويبتدئ بها من لا يستحق كما ورد في أدعية شهر رجب (يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنناً منه ورحمة)، والإنسان الكريم لا يشترط ثمناً لعطائه فكيف يشترطها الكريم الحقيقي، يقول الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعاء يوم عرفة:(إلهي تقدس رضاك أن يكون له علّة منك، فكيف يكون له علة مني)(2) وهكذا كل صفاته عز شأنه ومنها الكرم تقدست أن يكون لها علة منه تبارك وتعالى لأنها ذاتية فكيف يكون لكرمه سبب من خلقه. وإنما أراد الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)

ص: 280


1- بحار الأنوار:ج 90 /ص 317
2- مفاتيح الجنان: 341

بذكر تلك الظروف تربية الإنسان وتكامله ليسعد وليكون لائقاً بمقام العبودية لله تبارك وتعالى ومحلاً قابلاً لنزول الفيوضات الإلهية، هذا المقام الذي يفخر به أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حين يقول:(إلهي كفى بي فخراً أن تكون لي ربّاً، وكفى بي عزّاً أن أكون لك عبداً، إلهي أنت كما أحب فاجعلني كما تحب)(1).

ظروف الاستجابة بحسب الأحاديث:

ويمكن من خلال الأحاديث الشريفة الحصول على ظروف الاستجابة.

فمنها:زمانية، كليلة الجمعة ويومها وما بين الطلوعين وعند الزوال وأيام الأعياد كهذا اليوم وغيرها من المذكورات في كتب السنن والمستحبات.

ومنها:مكانية، كالروضات الشريفة للمعصومين (سلام الله عليهم) والمساجد خصوصاً الأربعة المعظمة وعند قبر الوالدين ونحوها.

ومنها:حالية، كحال نزول المطر وإذا كان الدعاء جماعياً وإذا كان يدعو لغيره.

ومنها:ذاتية مرتبطة بنفس الشخص، ككونه متطهراً وفي حالة السجود وبعد الصلاة خصوصاً الفريضة فإن للمؤمن دعوة مستجابة إثر كل صلاة مفروضة(2) وأن يسبق الدعاء بالحمد والثناء على الله تبارك وتعالى والصلاة على النبي وآله (صلوات الله عليهم أجمعين) وأن يعترف بذنبه ويستغفر وأن يكون متوجهاً لما يقول وليس ساهياً(3) غافلاً ويلحّ في الدعاء ولا يمل من تكراره وأن يكون بحال

ص: 281


1- بحار الأنوار- المجلسي: 91/ 94
2- عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (من أدّى فريضة فله عند الله دعوة مستجابة).
3- عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إن الله لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساهٍ، فإذا دعوت فأقبل

الاضطرار ومن تقطعت به الأسباب واثقاً بالإجابة وإن تأخرت فلعل تأخيرها خير له(1) وأن يدعو لإخوانه المؤمنين أولاً بالمغفرة والرحمة وقضاء الحوائج(2) وأن يطلب من الغير أن يدعو له(3) خصوصاً الإمام العادل والوالدين(4).).

ص: 282


1- في صحيحة البزنطي عن الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (والله لَمَا أخَّرَ اللهُ عن المؤمنين مما يطلبون في هذه الدنيا خير لهم مما عجل لهم منها) ثم قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) له: (أخبرني عنك لو أني قلت قولاً كنت تثق به مني؟ قلت له: جعلت فداك: وإذا لم أثق بقولك فبمن أثق وأنت حجة الله تبارك وتعالى على خلقه، قال: فكن بالله أوثق فإنك على موعد من الله، أليس الله تبارك وتعالى: (وَإذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدَاعِ إذا دعَانِ) وقال: (وَلا تَقنَطُوا مِن رَحمَةِ اللهِ) وقال: (وَاللهُ يَعِدُكُم مَغفِرَةً مِنهُ وفَضلاً) فكن بالله عز وجل أوثق منك بغيره، ولا تجعلوا في أنفسكم إلا خيراً فإنكم مغفورٌ لكم.
2- عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (إذا دعا أحد فليعم فإنه أوجب للدعاء ومن قدم أربعين رجلاً من إخوانه قبل أن يدعو لنفسه استجيب له فيهم وفي نفسه) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (ما من مؤمن أو مؤمنة مضى من أول الدهر أو هو آتٍ إلى يوم القيامة إلا وهم شفعاء لمن يقول في دعائه: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات وإن العبد ليؤمر به إلى النار يوم القيامة فيسحب، فيقول المؤمنون والمؤمنات: هذا الذي كان يدعو لنا فشفّعنا فيه فيشفعهم الله فينجو).
3- روي أن الله سبحانه أوحى إلى موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (يا موسى ادعني على لسان لم تعصني به، فقال: أنى لي بذلك؟ فقال: ادعني على لسان غيرك)، وبذل الإمام الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مالاً لأحد أصحابه كي يذهب إلى كربلاء ويزور جده الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ويدعو له.
4- عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (أربع لا ترد لهم دعوة: الإمام العادل لرعيته، والأخ لأخيه بظهر الغيب يوكل الله به ملكاً يقول له ولك مثل ما دعوت لأخيك، والوالد لولده، والمظلوم يقول الرب عز وجل: وعزّتي وجلالي لأنتقمن لك ولو بعد حين).

إن من مفاخر شيعة أهل البيت (سلام الله عليهم) هذا العطاء المبارك الوفير من الأدعية التي صدرت عن أهل بيت العصمة وغطّت كل حاجات الإنسان، ولولا أنهم (سلام الله عليهم) علّمونا كيف ندعو الله تبارك وتعالى وأدب الوقوف بين يديه لما علمنا كيف نناجي ربنا، وماذا تقتضي وظائف العبودية لله العظيم سبحانه.لقد تضمنت تلك الأدعية أرقى معاني المعرفة بالله تبارك وتعالى وأسمى الأخلاق الكريمة وأفضل العلاقات الإنسانية وأعمق العلوم مما لا يمكن صدوره عن غيرهم (سلام الله عليهم) وليتأمل من يطلب الشواهد على ذلك في الأدعية الواردة عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمير المؤمنين والإمام الحسين والإمام السجاد (سلام الله عليهم أجمعين) ومنها الأدعية التي ورد الحث على المواظبة عليها كدعاء كميل ودعاء الصباح والمناجاة الشعبانية ودعاء الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم عرفة.

فوائد الدعاء:

إن الأدعية المأثورة لا تتلى فقط لأنها عبادة بل أفضل العبادة كما ذكرنا ولا طلباً للثواب المرصود لها وإن كان عظيماً وإنما للتزود مما فيها من علوم ومعارف، وللتعرض للنفحات والألطاف الإلهية المودعة فيها فيطلب من الله تبارك وتعالى أن يحققها له ويتحفه بها، ولمعرفة الحلول لكل المشاكل والعقد النفسية والاجتماعية والفكرية والعقائدية والأخلاقية، بل حتى السياسية والاقتصادية.

وخلاصة ما تقدم أن نكثر من الدعاء في كل صغيرة وكبيرة وأن نحرص على توفير ظروف استجابته وهي يسيرة ومتوفرة وأيسرها أن لا ننفتل من صلاتنا

ص: 283

المفروضة حتى نسبّح تسبيح الزهراء (س) ونسجد شكراً لله تعالى ثم نقول:(يا أرحم الراحمين) سبعاً ونصلّي على النبي وآله أجمعين ثم نستغفر الله تعالى مما صدر منا ونطلب العصمة منه تبارك وتعالى لما يأتي وندعو لإخواننا المؤمنين والمؤمنات بحوائجهم العامة والخاصة ثم ندعو لأنفسنا.والأفضل أن نضم إليه مجالس الدعاء الجماعي في المساجد وعقيب صلاة الجماعة وغيرها وبذلك تحققون أكثر ظروف الاستجابة المذكورة.

اللهم صلِ على محمد وآل محمد (صلاة لا يقوى على إحصائها إلا أنت، وأن تشركنا في صالح من دعاك في هذا اليوم من عبادك المؤمنين يا ربَّ العالمين، وأن تغفر لنا ولهم إنك على كل شيء قدير، اللهم إليك تعمدّت بحاجتي، وبك أنزلت اليوم فقري وفاقتي ومسكنتي، وإني بمغفرتك ورحمتك أوثق مني بعملي، ولَمغفرتك ورحمتك أوسع من ذنوبي، فصلّ على محمد وآل محمد وتولَّ قضاء كل حاجة هي لي بقدرتك عليها، وتيسير ذاك عليك، وبفقري إليك، وغناك عني، فإني لم أُصِب خيراً قطّ إلا منك، ولم يَصرف عني سوءاً قط أحدٌ غيرك، ولا أرجو لأمر آخرتي ودنياي سواك)(1).

وأفضل الدعاء وأكمله لسيدنا ومولانا صاحب العصر والزمان (أرواحنا له الفداء) أن يجمع الله تبارك وتعالى له الخير كله.ى.

ص: 284


1- الصحيفة السجادية، من دعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في يوم الأضحى.

القبس /137: سورة فُصلت36

اشارة

{وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيطَٰنِ نَزغ فَٱستَعِذ بِٱللَّهِ ۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلعَلِيمُ}

موضوع القبس:الاستعاذة بالله تعالى من شياطين الجن والانس

ومثلها قوله تعالى:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأعراف:200) الا انهما تختلفان في ان الآية عنوان البحث ظاهرة في الحصر بأن الله تعالى وحده هو الذي يسمع استعاذتك واستجارتك وهو العليم الذي يعلم بحاجتك واضطرارك بينما اكتفت آية الأعراف بالوصف دون الحصر، ولذا يستحب (1) ذكر هذين الاسمين من الأسماء الحسنى في الاستعاذة فتقول مثلاً (اعوذ بالله السميع العليم من الشيطان اللعين الرجيم).

والنزغ يعني الضغط بطرف قضيب او الاصبع بعنف مؤلم واستعمل هنا بمعنى الوسوسة الباعثة على الشر لذا عرّفه الراغب وغيره بأنه الدخول في الامر لإفساده قال تعالى {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} (الإسراء:53) وقال تعالى {مِن بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} (يوسف:100).

ص: 285


1- في تفسير العياشي: 2 / 270 ح 67 عن سماعه عن ابي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قول الله (فاذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) قلت: كيف أقول: قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (تقول: استعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم)

فالآية الكريمة ترشد الانسان إلى انه اذا تعرض لتسويل من النفس الامارة بالسوء وتزيين من الشيطان او اغراء من الآخرين او هيجان للشهوة او غريزة الغضب فليستعذ بالله تعالى خاصة دون غيره ويطلب منه بصدق ان يحميه من الزيغ والانحراف والاستجابة لدعوة الشيطان, ولا يتهاون بالأمر ويترك الاستعاذة والاحتراز، وأن لا يتكل على قدراته الذاتية في الاعتصام من الذنوب والاخطاء كما يتصور بعض المعتدين بأنفسهم ويجازف احياناً ويصل الى حدود الذنب -- كمجالسة الفسّاق أو الخلوة بالأجنبية -- ولا يمتنع من ان يحوم حول حدود المعصية معتمداً على ثقته بانه قادر على أن يملك زمام نفسه والامتناع من الوقوع فيها، ولا يعلم أنه بمفرده عاجز عن مواجهة الشيطان الخبيث الماكر الطامع، فيجب عليه بمقتضى الآية الكريمة اتخاذ اجرائين عندما تسوِّل له نفسه امراً ويزيّنه الشيطان ويتحرك فيه داعي المعصية والباعث نحو الشر:أولهما الاستعاذة {فَاسْتَعِذْ} وثانيهما أن تكون {بِاللَّهِ}.يضرب بعض أهل المعرفة مثالاً ليقرًب الفكرة فيقول لأحد تلاميذه لو أنك كنت في طريق زراعي وكان هناك قطيع من الغنم يرعاه صاحبه ومعه كلب الحراسة فنبح عليك الكلب وأراد مهاجمتك فماذا ستفعل؟ قال:ألتقط حجراً وأرميه به لزجره, قال المعلم فلو لم يرتدع الكلب وعاد الى النباح والمهاجمة قال الطالب أرميه بآخر قال المعلم فأن لم ينفع ذلك ثانيةً وثالثة , فسكت الطالب , وهنا قال المعلم :أما كان الاجدر بك أن تطلب من الراعي ليبعد الكلب عن طريقك فإنه قادر على توجيهه ويأتمر بأمره .

وتقريب الفكرة إننا لا نملك القدرة لوحدنا على مواجهة مكائد الشيطان

ص: 286

وخدعه وتسويلاته ووسوسته إلا أن نستعيذ بالله تعالى القادر عليه والماسك بزمام أمره.روي عن أمير المؤمنين ((عَلَيْهِ السَّلاَمُ)) قوله (اذا وسوس الشيطان الى أحدكم فليستعذ بالله وليقل :آمنت بالله مخلصاً له الدين)(1).

وروى الحاكم بسنده عن سليمان بن صرد قال (استبّ رجلان عند النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فأشتد غضب احدهما فقال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الغضب:اعوذ بالله من الشيطان الرجيم فقال الرجل:امجنون (2) تراني؟ فتلا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ}(3).

ولابد ان نلتفت الى ان الاستعاذة المنتجة والمؤثرة ليست مجرد لقلقة لسان بل هي حالة معنوية لابد فيها من حضور الذكر في القلب والتقوى في النفس والإخلاص في العمل، اما من كان باطنه ملوثاً فلا ينفعه تحريك اللسان بالاستعاذة، لاحظ قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (الأعراف:201) أي ان ذهاب مس الشيطان متوقف على التذكر، فهذه الآية مشابهة لما نحن فيه وعبرت عن النزغ بالمس ومن المقابلة يعرف ان الاستعاذة تلزم التذكر بأن تذكروا نعمة الله عليهم واستحقاق الشكر عليها25

ص: 287


1- كتاب الخصال:باب الاربعمائة
2- ربما يقصد هل انه فيه مسّ من الشيطان حتى تعوذه فيه حيث كانوا يعتبرون المجنون مساً من الشيطان او انه يستنكر اعتراض رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على غضبه ولا يرى سلوكه المتعصب خارجاً عن تصرف العقلاء.
3- روح المعاني :24/ 125

وتذكروا العاقبة الوخيمة لاتباع الشيطان في الدنيا والآخرة وتذكروا تفاهة ما يمنيهّم الشيطان به وان بدا مغرياً لذيذا فبهذا الذكر والحضور الوجداني لله تعالى وهذه القوة المعنوية الحاصلة له يعصمه الله تعالى من الشيطان والتي تنتجها الاستعاذة لكن ليس مجرد الكلمات الخالية من المعاني.الا ترى ان من هاجمه حيوان مفترس فانه لا يتخلص منه بان يقف مكانه ويقول بلسانه اعوذ بهذا المكان الحصين من هذا الحيوان بل عليه ان يدخله ويغلق بابه بإحكام لينجوا، وقد وعد تعالى من يستعيذ به بالنجاة من مكائد الشيطان، قال تعالى {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْ-رِكُونَ} (النحل:99-100) وقال تعالى {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (ص:82-83) وقال تعالى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} (الإسراء:65).

ويظهر من هذه الآيات الكريمة أن أهم شروط الاستعاذة المؤثرة الإخلاص: وفي الحديث القدسي (لا إله الا الله حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي) (1) فالإخلاص في التوحيد ونفي سائر المعبودات غير الله تعالى فلا طاعة للهوى ولا للشهوة ولا لذوي النفوذ والجاه وأصحاب الأموال وانما لله تعالى وحده فهذا هو الحصن الذي يحمي من العذاب ومكائد الشيطان والإخلاص له مراتب فيتخلص من شر الشياطين بنفس مقدار إخلاصه.

ومن شروطها:الايمان والتقوى والتوكل على الله تعالى وحده دون غيره من92

ص: 288


1- التوحيد للصدوق: 25، بحار الأنوار: 3/ 13، 90/ 192

الأسباب واستشعار معنى العبودية لله تعالى وأداء استحقاقاتها كما نطقت به الآيات المتقدمة وغيرها.هذا من جانب الأمور القلبية، وهناك إجراءات محصّنة على صعيد العملي ففي الحديث عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (قال ابليس:خمسة ليس لي فيهنّ حيلة وسائر الناس في قبضتي:من اعتصم بالله عن نية صادقة، واتكلَّ عليه في جميع اموره، ومن كثر تسبيحة في ليله ونهاره، ومن رضي لأخيه المؤمن بما يرضاه لنفسه، ومن لم يجزع على المصيبة حين تصيبّه، ومن رضي بما قسم الله له ولم يهتمّ لرزقه)(1). وروى الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):ألا أخبركم بشيء إن أنتم فعلتموه تباعد الشيطان منكم كما تباعد المشرق من المغرب؟ قالوا:بلى، قال:الصوم يسوِّد وجهه، والصدقة تكسر ظهره، والحب في الله والمؤازرة على العمل الصالح يقطعان دابره، والاستغفار يقطع وتينه)(2).

فهذه الشروط والملكات الباطنية التي تبرزها مثل هذه الاعمال الصالحة تجعل الحالة المعنوية قويّة وعصيّة على اختراق الشيطان. لان الوساوس الشيطانية كالجراثيم الضارة لا تخترق الا الابدان الضعيفة ذات المناعة القليلة ولا تقدر على اختراق الابدان القوية ذات المناعة العالية.

أيها الأحبة:

اننا مطالبون بالاستعاذة من الشيطان على الدوام لأنه توعدّ البشر بالقعود على02

ص: 289


1- الخصال: 285 ح 37
2- أمالي الشيخ الصدوق: 117 ح 102

الصراط {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} (الأعراف:16) لحرفهم عن الاستقامة أو ردّهم ومنعهم من السير نحو الكمال كقطّاع الطرق ولا يدع الانسان حتى يجعله من اتباعه بلا فرق بين شياطين الجن والانس فان دأبهم صد البشر عن التقرب من الله تعالى {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً} (النساء:60) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ} (المائدة:91).وتتأكد الحاجة إلى الاستعاذة اليوم اكثر، لأنّ زماننا اعقد من أي زمان مضى في كثرة ابتلاءاته وتحدياته وصعوباته وتنوع ادواتها واساليبها وقوة تأثيرها الفائقة، وقد توعدّ شياطين الأنس بإيصال آلات الافساد والضلال الى داخل غرف النوم ولا يوجد احد بمنأى منها الا من تحصّن بدرع الله تعالى الحصينة، لذا تركّز الادعية المباركة على طلب العصمة من الذنوب والقدرة على النجاح في تجاوز المحن والصعوبات من الله تعالى وعدم الاتكال على النفس والقدرات الذاتية، كدعاء الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في صحيفته المباركة (اللهم احْصُرْنِي -- أي امنعني -- عَن الذُّنُوبِ، وَوَرِّعْنِي عَنِ الْمَحَارِمِ، وَلا تُجَرِّئْنِي عَلَى الْمَعَاصِي) وفي دعاء اخر قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وَأَوْهِنْ قُوَّتَنَا عَمَّا يُسْخِطُكَ عَلَيْنَا وَلَا تُخَلِّ فِي ذَلِكَ بَيْنَ نُفُوسِنَا وَاخْتِيَارِهَا، فَإِنَّهَا مُخْتَارَةٌ لِلْبَاطِلِ إِلَّا مَا وَفَّقْتَ، أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمْتَ) (1) تصوّروا ان الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الذي يقول في دعاء آخر (لا تؤدّبني بعقوبتك) أي اجعل تأديبك ايايّ من دون بلاء وسلب للنعم كأن يكون بالموعظة والتعليمسع

ص: 290


1- الصحيفة السجادية: الدعاء التاسع

والتبصّر والاستفادة من تجارب الآخرين، لكن لما لم تفلح هذه الأساليب في الردع عن المعصية يطلب الاجتناب عنها ولو بسلب بعض القوى والأدوات التي يعصي بها الانسان ربّه المنعم.لقد تفتقت الذهنيات الشيطانية عن خطط ماكرة وخبيثة لاستدراج الشخص وايقاعه في فخ المعاصي والخطايا والذنوب كالاتصال بأجهزة النقال مع نساء لا على التعيين وخداعهن بكلمات الحب والمشاعر العاطفية الجياشة التي تنطلي على المرأة الساذجة حتى تثق بهم وتلتقي بهم او تعطيهم صورا شخصية فيهددونها بالفضيحة او ابتزازها في اعمال منكرة او اغراء الشباب بمستقبل زاهر وحياة هنيئة ليكون جزءا من فسادهم واداة لتحقيق مآربهم.

ان الله تعالى يقدٍّر ضعف الانسان وعجزه عن مواجهة شياطين الجن والانس فجعل له ملائكة يحفظونه ويدافعون عنه (1)، وفي بعض الروايات (2) انه لو كشف لكم الغطاء لرأيتم العدد الكبير من الشياطين الذين يحيطون بكم ويتربصون بكم، لكن الله تعالى جعل الملائكة الحافظة لدفعهم.

وجعل بلطفه وكرمه شهر رمضان المبارك الذي تُغّلَ فيه الشياطين ففي خطبة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في استقبال شهر رمضان (و -- إن -- الشياطين مغلولة -- في هذا).

ص: 291


1- راجع القبس/69 {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (الرعد:11), من نور القرآن: 2/ 296
2- في الحديث عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اذا مات المؤمن خُلِّي على جيرانه من الشياطين عدد ربيعة ومضر كانوا مشتغلين به) (الكافي:2 / 251 ح 10) وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إن الشياطين اكثر على المؤمنين من الزنابير على اللحم) (بحار الأنوار: 81 / 211 ح 27).

الشهر -- فسلوا ربكم أن لا يسلطها عليكم) واذا استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا فقد فتح لهم باب التوبة ليعودوا إلى الحالة النقية الطاهرة خصوصاً في هذا الشهر الكريم حيث تغفر فيه الذنوب بدرجة لا يحرم منها الا الاشقياء (فان الشقي من حُرِمَ غفران الله في هذا الشهر العظيم) (1), وفي رواية صحيحة عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من لم يغفر له في شهر رمضان لم يُغفر له إلى قابل الا أن يشهد عرفة) (2) .6.

ص: 292


1- مفاتيح الجنان: خطبة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في اخر جمعة من شعبان .
2- وسائل الشيعة: 10 / 305 أبواب احكام شهر رمضان، باب 18 ح 6.

القبس /138: سورة الشورى:13

اشارة

{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}

موضوع القبس:مسؤوليتنا عن إقامة الدين ووحدة الأمة

قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} (الشورى:13).

الشرع كمصدر -- هو نهج الطريق الواضح البيّن، وأطلق كإسم على المنهج الإلهي، والشارع هو الطريق الواضح وشريعة الماء:المكان السهل على جرف النهر لاستقاء الماء، وفي الآية دلالات عديدة:

1- ان أصحاب الشرائع والأديان هم هؤلاء الخمسة لأن الآية في سياق كونها جامعة لهم ولم تذكر غيرهم وهؤلاء هم اولو العزم وقد ورد هذا التحديد في آيات أُخر، كقوله تعالى {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} (الأحزاب:7)، ولازم ذلك عدم وجود شريعة بمعنى الاحكام والقوانين التي تنظّم

ص: 293

حياة البشر وترفع اختلافاتهم قبل النبي نوح (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهو معنى تفيده الآية الكريمة {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} (البقرة:213).2- ان الدين الذي أنزله الله تعالى إليكم -- وهو الإسلام -- والأديان التي سبقته مصدرها واحد وهو الله تبارك وتعالى وهي الحقيقة التي افتتحت السورة بها، قال تعالى {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الشورى:3) وأكدّتها آيات أخر كقوله تعالى {مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ} (فصلت:43).

وفي ذلك لمسة روحية رقيقة تثبّت قلوب المؤمنين وتطمئنهم خصوصاً العاملين الرساليين منهم الذين يتعرضون لضغوط اجتماعية ونفسية عظيمة بسبب حملهم رسالة الإصلاح فيحتاجون إلى تسلية ودعم معنوي كما يقال فتأتي هذه الآية وامثالها لتقول لهم:انكم لستم وحدكم على هذا الطريق الإلهي الواضح بل أنتم حلقة في سلسلة طويلة من كرام الخلق وسادتهم عبر التاريخ كالمعنى الذي تكشف عنه زيارة الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) المعروفة ب- ((وارث))(1) حيث تجتمع لديه وراثة جميع الأنبياء والمرسلين فيزيدهم ذلك ثباتاً وسروراً بما وفقهم الله تعالى إليه.

3- وعلى غرار وحدة المصدر فانها تؤكد على وحدة الصادر أي مضمون هذه الرسالات بأنه واحد وان تنوعت بلحاظ الاجمال والتفصيل لكن ما تدعوهم اليه دين واحد وان تعدّدت الشرائع والطرق الواضحة البيّنة الموصلة إليه قال تعالى02

ص: 294


1- مفاتيح الجنان: 502

{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (المائدة:48) فأراد الله تعالى بهذا التنوع في الشرائع ليختبر طاعتكم وامتثالكم وعدم تحيّزكم وتحزبكم لشريعتكم السابقة، والدنيا دار الامتحان والاختبار وهذا التنوع في الشرائع ضرورة لتواكب ما يطرأ على البشرية من تغيرات حتى جاء بالشريعة الكاملة الخاتمة فكون الشريعة الإسلامية خاصة بالمسلمين وفق الآية الآنفة لا ينافي جامعيتها، والمطلوب منكم الالتزام بالطاعة والتسليم واستباق الخيرات. وفي ذلك حجة على أهل الكتاب ورفض لمواقفهم العدوانية تجاه الإسلام لأنها لا مبرر لها بعد أن ثبت ان هذه الأديان كلها من مصدر واحد وبمحتوى واحد وعليهم جميعاً أن يدخلوا في هذا الدين لأنه جامع لكل الأديان السابقة وقيّم عليها {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (التوبة:36).4- تلّخص الآية ما تدعو اليه تلك الشرائع على محورين:إقامة الدين الواحد واتحاد الأمة على أساسه وعدم التفرق فيه {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (المؤمنون:52) فعلى جميع المؤمنين بالله تعالى أن يلتزموا بهاتين الغايتين العظيمتين وان يبذلوا جهودهم في سبيل تحقيقهما والتعبير ب (وصيّنا) يشعر بهذا الاهتمام إذ لا يوصى الا بالشيء المهم، لأن الوصية لغة ((التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترناً بوعظ)) قال تعالى {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} (الجاثية:18) وقد عبّر تعالى عن الدين بالأمر لأن الدين هو الطاعة أي طاعة الأوامر والتشريعات الإلهية، ولعل

ص: 295

التعبير عن شريعة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ب- (أوحينا) وعن شريعة الأنبياء الآخرين بالوصيّة ((ان المراد بما أوحى إليه ما اختصت به شريعته من المعارف والاحكام، وإنما عبَّر عن ذلك بالايحاء دون التوصية، لأن التوصية كما تقدم إنما تتعلق من الأمور بما يهتم به ويعتني بشأنه خاصة وهو أهم العقائد والاعمال، وشريعته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) جامعة لكل ما جلَّ ودقّ محتوية على الأهم وغيره بخلاف شرائع غيره فقد كانت محدودة بما هو الأهم المناسب لحال أممهم والموافق لمبلغ استعدادهم))(1) .فعلينا إذن واجبان عظيمان ورسالتان يجب ان نؤديهما هما خلاصة كل الأديان والشرائع:

1- إقامة الدين والمنهج الإلهي في الحياة بكل تفاصيلها، عباداتها ومعاملاتها وإقامة الشيء تعني توفيته حقه علماً وعملاً، فإقامة الدين تتحقق بأن يتحول الدين إلى نظام شاخص في حياتنا تكون له الهيمنة والقيمومة على كل القوانين والتشريعات والأعراف والأنظمة وكل ما خالف الدين منها فهو عصيان لهذا الأمر الإلهي، وإن إقامة الدين لابد أن تكون على أساس الشريعة الحاضرة الفعلية لا الشرائع السابقة ((فإن إقامة الدين في كل دور هي إقامة طاعة الله في أمره الحاضر في شرعته الحاضرة، فالتصلّب على الغابرة عصيان للأمر وتضييع للدين)) (2) .

{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} (آل عمران:19) لأن الدين أصول وفروع ومنظومة17

ص: 296


1- الميزان في تفسير القرآن:18/ 28
2- الفرقان في تفسير القرآن:25/ 217

كاملة من العقائد والأخلاق والتشريعات العبادية وضوابط المعاملات لا تتحقق إقامة الدين الا بإقامتها (1) معاً.2- وحدة الأمة وعدم التفرق تحت أي عنوان كان كالطائفة والقومية والوطن والأيدلوجية والانتماء العشائري أو الحزبي أو الاجتماعي أو الفئوي أو أي سبب كان فان التفرق من علامات الجاهلية وان أهم علامة لإقامة الدين اجتماعكم ووحدتكم لأنه ينظّم حياتكم بتوازن وعدالة ويسعدكم فتفرقكم وتنازعكم يعني عدم إقامتكم الدين، قال تعالى {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (آل عمران:103) وتفرقكم يفرح الكفّار ويدعوهم إلى التمسك بضلالهم لأنهم يرونكم متفرقين مثلهم {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم:32) والتفرق يحصل نتيجة اتباع الاهواء والشهوات والابتعاد عن الدين وتزيين المضلّين والمنحرفين، وفي الحديث عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (وما على ديني من استعمل القياس في ديني)(2) لأن استعمال القياس يعني ادخال الرأي البشري والأهواء في الدين وهو ليس منه.45

ص: 297


1- لاحظ رواية السيد عبد العظيم الحسني عندما عرض دينه بين يدي الامام الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فأنه أتى على الأصول والفروع فقال له الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (يا أبا القاسم هذا والله دين الله الذي ارتضاه لعباده فاثبت عليه ثبّتك الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) (مستدرك الوسائل:12/ 283).
2- وسائل الشيعة:27/ 45

والمطلوب في ضوء ما ذكرناه في الغاية الأولى وحدة البشرية جميعاً على الدين العالمي الخاتم الكامل فالتفرق في الدين الى يهود ونصارى ومسلمين فضلاً عن غيرها من الديانات والملل غير التوحيدية هي خروج عن سنة الله تعالى وفطرته التي أراد لخلقه السير عليها.فالأديان الإلهية وإن اتفقت على أصل التوحيد الا أن هذا لابد أن يكتمل باجتماعهم على دين التوحيد أيضاً وليس فقط أصل التوحيد أي الشريعة الخاتمة أيضاً لأنها الطريق الواضح البيّن الى الله تبارك وتعالى بعد نزولها، فاللام هنا في الدين عهدية أي هذا الدين الذي شرع لكم، وان ما اختصوا به من احكام ثبت نسخه وارتفاعه.

وقد خاطب القرآن الكريم جميع المنتمين للرسالات السماوية بأن ادعاءهم هذا لا قيمة له اذا لم يقيموا الدين في حياتهم {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} (المائدة:68) وبالتأكيد سوف لا يذعن الأعداء والحسّاد والمنتفعون لهذا الأمر ولا يقفون مكتوفي الأيدي بل سيعملون بكل ما في وسعهم لمنع تحقيق هذين الهدفين {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} أي عظم على الأعداء وتحرجوا من قبول ما تدعوهم -- يا رسول الله -- اليه من دين التوحيد ومن وحدة المعبود لأنهم يريدون آلهة متعددة لكل عشيرة إله ولكل حزب إله ولكل قوم إله وفي الروايات أنه كان حول البيت الحرام (360) صنماً يتاجرون بها ويخدعون السذّج والجهلة

ص: 298

وتجلب لهم المصالح والامتيازات {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص:5) .وكبر عليهم ما تدعون اليه من الوحدة والوئام في ظل هذا الدين الواحد لأنهم تعودّوا أن يكونوا أحزاباً متفرقين متصارعين {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم:32).

وكبر عليهم من قبل نزول الوحي عليك واختيارك للنبوة والرسالة مع وجود من هو أكثر مالاً واولاداً منك فهو أجدر بنزول الوحي بحسب زعمهم {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزخرف:31).

وكبر عليهم ما تقوله من أنَّ آباءهم واسلافهم كانوا على ضلال وان عاقبتهم سيئة فتعصّبوا لآبائهم.

كما كبر على أهل الكتاب خصوصاً اليهود أن يبعث نبي آخر الزمان من بني إسماعيل وليس من بني إسرائيل {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ} (البقرة:89).

ولكن الله تعالى يجيبهم جميعاً في نهاية الآية الكريمة بأن هذا اختيار إلهي ليس خاضعاً لأهواءكم ومقاساتكم {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} وهو سبحانه من اختار النبي الأكرم محمداً (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام:124) واختار دينه الإسلام {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا}

ص: 299

(المائدة:3) ولكن لا يذعن بهذه الحقيقة الا من رجع الى الله تعالى بصدق وطلب منه الهدى والاستقامة {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} (الشورى:13).ويمكن أن يكون معناها بناء على وحدة مرجع الضمير في (اليه) في المواضع الثلاثة وهو دين التوحيد ان الله تعالى ((يجمع ويجتلب الى دين التوحيد -- وهو ما تدعوهم اليه -- من يشاء من عباده ويهدي إليه من يرجع اليه فيكون في معنى قوله {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} (الحج:78)))(1) .

أيها الأحبّة

هذه هي مسؤوليتنا التي نسعى بكل طاقتنا الى ان نتشرف بالتصدي لها وحملها اسوة بالأنبياء العظام والأئمة الكرام (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) فهي وصية الله تعالى ورسالتهم جميعاً:إقامة الدين في جميع مفاصل الحياة وتوحيد الأمة على ذلك لا تثنينا عن ذلك سعة التحديات وخطورة العوائق وصعوبة المشاكل، وأن لا يثبط عزائمنا وساوس شياطين الانس والجن ولا نحرف مسارنا مثل ما فعلت أحبار وكهنة الديانات السابقة عندما مالوا إلى الدنيا فاضطروا لتقديم التنازلات حفاظاً على مصالحهم واستمالة لاتباعهم، فلا يحقّ لنا أن ننزل بالدين إلى مستوى الناس وإنما يجب علينا أن نرتقي بالناس إلى مستوى الدين واذا لم يستجيبوا فعلينا أن نضاعف الجهود ونخلص النوايا ونتجرد عن الانانيات وننوِّع آليات العمل من دون أن نتنازل عما وصى به الله تعالى أنبيائه العظام.30

ص: 300


1- الميزان في تفسير القرآن:18/ 30

القبس /139: سورة الشورى:30

{وَمَا أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَة فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيكُم وَيَعفُواْ عَن كَثِير}

حقيقة قرآنية تكشف عن واحدة من السنن الإلهية الجارية في العباد، فالمصيبة هي النازلة والنائبة التي تحل بالإنسان وسُميت بذلك لأنها تصيب الإنسان المقصود والمستهدف بها وتحقق الغرض المطلوب كما يصيب السهم الهدف بدقة، وسياق الآية ظاهر في كون المراد من {كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} خصوص السيئات والمعاصي وستأتي الإشارة إلى احتمال آخر بإذن الله تعالى، والباء سببية.

فيكون معنى الآية ان المصائب التي تنزل بكم أيها الناس في دينكم أو أنفسكم أو أهليكم أو أموالكم أو امتيازاتكم وسائر ما أنعم الله به عليكم من نعم معنوية ومادية هي بسبب بعض ما صدر منكم من الذنوب وليس كلها، لأن الله تعالى {يَعْفُو عَن كَثِيرٍ} ابتداءاً بالفضل أو جزاءاً على عمل صالح، قال تعالى {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (النساء:31).

وكون المصائب بسبب افعالكم لا يلغي كونها من عند الله وبإذن الله لأنه تعالى مسبب الأسباب ومدبّر الأمور فالأسباب طولية، فالمصائب تقع بسبب أفعال العباد المباشرة وغير المباشرة لكن بإذن الله تعالى وبفعل القوانين التي جعلها الله تعالى للموجودات ولو شاء سبحانه لدفع عنهم {وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} لكن الله تعالى يتركهم أحياناً أهدافاً للسهام التي اعدّوها هم لأنفسهم لتصيبهم بفعل

ص: 301

القوانين الطبيعية التي جعلها الله تعالى، كمن يسقط من شاهق بفعل الجاذبية الأرضية فتتكسر عظامه فان ما أصيب به نتيجة فعله ولو شاء الله تعالى لعطّل قانون الجاذبية كما عطّل قانون الاحراق للنار التي اوقدت للنبي إبراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لكن حكمة الله تعالى اقتضت جريان قانون الجاذبية لتستقر الحياة وتنتظم، قال تعالى {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (التغابن:11).ومن هنا يتضح الفرق بين السيئة التي فيها رفع يد وعدم دفع من الله تعالى وبين الحسنة التي هي بتوفيق وتمكين مباشر من الله ومن عند الله قال تعالى {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَ-ذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَ-ذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَ-ؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً، مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} (النساء:78-79).

وقد أضاف الله تعالى مزيداً من فضله بأن جعل هذه البلاءات التي تمرّ على الانسان بسبب أفعاله أو أفعال المجتمع كفارة لذنوبه وعلواً في درجاته، لذا دلَّت بعض الروايات على ان هذه الآية من أكثر الآيات الكريمة التي تعيد الأمل والرجاء إلى العاصين لما تضمنّته من البشارة بسقوط الكثير من الذنوب بالمصائب والبلاءات أو العفو والمغفرة ابتداءاً بإذن الله تعالى ففي مجمع البيان والدر المنثور عن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (خير آية في كتاب الله هذه الآية:يا علي ما من خدش عود ولا نكبة قدم الا بذنب، وما عفا الله عنه في الدنيا فهو أكرم من أن يعود فيه، وما عاقب في الدنيا فهو أعدل من ان يثني على عبده)، وروي

ص: 302

عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (إني احدثكم بحديث ينبغي لكل مسلم أن يعيه:ما عاقب الله عبداً مؤمناً في هذه الدنيا الا كان أحلم وأجود وأمجد من أن يعود في عتابه يوم القيامة)(1).فالآية فيها تطمين بكرم الله تعالى ورحمته اذ إن ما يحل بهم من مصائب هو بعين الله تعالى وفيه تخفيف للذنوب والاوزار التي تثقل الظهر، والله تعالى شفيق رؤوف بعباده فيختار لهم الحال الذي يناسب صلاحهم، ففي مجمع البيان:روى أنس عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن جبرئيل عن الله جل ذكره (إن من عبادي من لا يصلحه الا السقم ولو صححته لأفسده، وإن من عبادي من لا يصلحه الا الصحة ولو اسقمته لأفسده، وإن من عبادي من لا يصلحه الا الغنى ولو أفقرته لأفسده، وذلك أني ادبّر عبادي لعلمي بقلوبهم)(2).

وفيها تحذير أيضاً من اقتراف المعاصي لأنها ستكون سبباً لتعرضهم لمزيد من البلاء في الدنيا فاذا أرادوا دفع هذا البلاء أو تقليله فليتجنبوا أسبابه وهي الذنوب، فهذا التحذير رحمة أخرى بالإنسان وشفقة عليه، روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (توقوا الذنوب، فما من نكبة ولا نقص رزق الا بذنب حتى الخدش والكبوة والمصيبة، قال الله تعالى:{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} وأوفوا بالعهد إذا عاهدتم، فما زالت نعمة ولا نضارة عيش الا بذنوب اجترحوها ان الله ليس بظلام للعبيد، ولو أنهم استقبلوا ذلك بالدعاء والإنابة لما نزلت، ولو أنهم إذا نزلت بهم النقم وزالت عنهم النعم فزعوا52

ص: 303


1- نور الثقلين: 4/ 580 ح 94
2- مجمع البيان- الشيخ الطبرسي: 9/ 52

إلى الله عز وجل بصدق من نياتهم ولم ينهوا ولم يسرفوا لأصلح لهم كل فاسد ولرد عليهم كل صالح.)(1) وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إن العبد اذا كثرت ذنوبه، ولم يكن عنده من العمل ما يكفّرها، ابتلاه بالحزن ليكفرها)(2) وعلى هذا فالآية عامة للمؤمنين والكافرين.وهنا تثار عدة أسئلة حول مضمون الآية:

الأول:كيف نطّبق الآية على ما يصيب الأنبياء والائمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من البلاءات وهم معصومون من الزلل والذنب؟ أو الأطفال الذين هم دون سن التكليف مثلاً؟ والجواب يمكن أن يكون بوجوه:

1.ان يقال ان المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) خارجون من موضوع الآية وهم الناس الذين يكونون عرضة للمعاصي بعد ان علمنا ان المقصود بها المصائب التي تحصل بسبب الذنوب فالمخاطب بها من يجوز صدور المعصية منه، والأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) معصومون منها فهم خارجون من الخطاب أصلاً أي تخصصاً لا تخصيصاً.

وان بلاءاتهم تكون لرفع مقاماتهم عند الله تبارك وتعالى ففي الكافي بإسناده عن علي بن رئاب(3) قال (سألت أبا عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن قول الله عزوجل {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} أرأيت ما أصاب علياً وأهل بيته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من بعده أهو بما كسبت أيديهم وهم أهل بيت طهارة معصومون؟ فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان يتوب إلى الله ويستغفر في كل يوم وليلة0.

ص: 304


1- نور الثقلين: 4/ 582 ح 101 عن كتاب الخصال في باب الاربعمائة.
2- أصول الكافي: ج 2، كتاب الايمان والكفر، باب تعجيل عقوبة الذنب، ح 2
3- بحار الأنوار- المجلسي: 78/ 180.

مائة مرة من غير ذنب، إن الله يخصُّ اولياءه بالمصائب ليأجرهم عليها) وفي قول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لسبطه الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إن لك عند الله مقامات لن تنالها الا بالشهادة)(1).فبلاءاتهم (سلام الله عليهم) مشمولة بخطاباتها المناسبة فقد ورد عن أميرالمؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (إن البلاء للظالم أدب وللمؤمن امتحان وللأنبياء درجة وللأولياء كرامة)(2) وهذا مستفاد من الحوار الذي جرى بين الامام زين العابدين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والملعون يزيد، حينما أُدخل أهل بيت النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على يزيد فقال للإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) متشفياً شامتاً:يا علي:ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم) فأجاب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (كلا، ما نزلت هذه فينا، إنما نزل فينا {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (الحديد:22 –23) فنحن الذين لا نأسى على ما فاتنا من أمر الدنيا ولا نفرح بما أوتينا)(3). فيمكن ان يكون البلاء للتزهيد في الدنيا وزيادة التبصرة في حقيقتها.

2.ان يقال ان الخطاب في الآية ليس موجهاً لأفراد الناس بما هم افراد أي لكل فرد على حدة بل بما هم مجموع فالعموم هنا مجموعي وليس استغراقياً، أي أن ما أصابكم كمجتمع من بلاءات خاصة أو عامة كالمجاعة والزلازل والفتنم.

ص: 305


1- ينابيع المودة لذوي القربى، للقندوزي،ج3،ص46.
2- بحار الانوار: 81 / 198
3- نور الثقلين: 4 / 580 عن تفسير علي بن إبراهيم.

الداخلية والعدوان الخارجي ونحو ذلك هي بسبب ما صدر من بعضكم من معاصي وسكوت أو رضا بعض آخر فأصاب البلاء الجميع بلا استثناء حتى من لم يكن من هذين القسمين ويكون البلاء رحمة للمؤمنين ونقمة على الكافرين، وحينئذٍ يكون ضمير (كم) في (أصابكم) أعم من (كم) في (أيديكم) لان الأول يشير إلى الكل والثاني إلى البعض، وتكون حينئذ الآية بمعنى قوله تعالى {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الأنفال:25) وقوله تعالى {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم:41). وفي الحديث الشريف عن محمد بن عرفة قال (سمعت أبا الحسن الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول:لتأمرن بالمعروف، ولتنهن عن المنكر، أو ليستعملن عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم.)(1).3.أن نقول كأطروحة ان {مَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} تشمل الحسنات أيضاً فتكون المصائب التي تقع على الصالحين هي بما كسبت أيديهم ولكن من الحسنات لأنها تثير حسد الأعداء وتوغر صدورهم ويزين لهم الشيطان الانتقام من الصالحين بألوان الظلم والعدوان قال تعالى {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ} (النساء:54) فتكون اصابتهم في سبيل الله على يد أعداء الله ويكون للآية حينئذٍ دور في تخفيف الآم ومعاناة الصالحين والعاملين الرساليين بأن ما يصيبهم نتيجة نجاحهم وتألقهم.30

ص: 306


1- وسائل الشيعة: 21130

الثاني:ان المعروف ان الدنيا دار عمل ولا حساب، والآخرة دار حساب ولا عمل فكيف حصل الجزاء في الدنيا؟ والجواب يكون بأكثر من وجه أيضاً:1.ان هذا المعنى المعروف صحيح في الجملة وعلى القاعدة الا أنه ليس بشكل مطلق ولا يمنع من حصول جزاء في الدنيا تخفيفاً على العبد واشفاقاً عليه حتى لا يتعذب بها في الآخرة كما أسلفنا والأول لا يقارن بالثاني كما في دعاء أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) المعروف بدعاء كميل (وَأَنْتَ تَعْلَمُ ضَعْفِي عَنْ قَلِيلٍ مِنْ بَلاءِ الدُّنْيا وَعُقُوباتِها..)(1) (فَكَيْفَ احْتِمالِي لِبَلاءِ الآخِرَةِ وَجَلِيلِ وُقُوعِ المَكارِهِ فِيها، وَهُوَ بَلاءٌ تَطُولُ مُدَّتُهُ..)، أو تحذيراً للعبد حتى يراقب نفسه أكثر ويجتنب المعاصي.

كما أن الانتقال إلى الآخرة لا يمنع من استمرار العمل ووصول الأجر على العمل ففي الحديث الشريف (اذا مات المؤمن انقطع عمله الا من ثلاث:صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)(2) وقال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (من سن سنة حسنة فله اجرها واجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء)(3) .

2.ان هذه المصائب ليست جزاءاً للأعمال وإنما هي آثار طبيعية لها اقتضتها العلاقات الوثيقة والسنن الكونية الرابطة بين المخلوقات والقوانين اذ تؤكد الآيات الشريفة ان الناس كلما وافقوا النظام الكوني وانسجمت طاعتهم للقوانين التشريعية مع انقيادهم للقوانين الكونية فانهم سينالون بركات كثيرة وان خالفوها أصابتهم27

ص: 307


1- مفاتيح الجنان: 96
2- البحار: ج2 ص22 ، جامع الأخبار: ص105
3- جامع أحاديث الشيعة - السيد البروجردي - ج 14 - ص 27

الكوارث قال تعالى {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَ-كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (الأعراف:96).ويظهر هذا الارتباط الوثيق من قوله تعالى {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد:11) فأن حالهم في جميع نواحي الحياة المادية والمعنوية يتغير من الصلاح إلى الفساد وبالعكس بحسب سلوكهم هم في هذا الاتجاه او ذاك.

هذا بغضّ النظر عمّا تقتضيه بعض الاستثناءات أحياناً كالابتلاء لرفع الدرجات أو اغداق النعم للاستدراج {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} (الأعراف:95).

الثالث:ان مقتضى الآية حينئذٍ عدم بقاء ذنوب على الناس لأنها بين مكفّرة بالمصائب أو مُعفى عنها فلا يؤاخذون على ذنب في برزخ او قيامة وهو خلاف ما دلّ على وجود العذاب والمؤاخذة في القبر وفي القيامة، قال تعالى {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (آل عمران:185) وقال تعالى {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (النحل:61) فكل مظلمة وذنب يؤاخذ بها في البرزخ أو القيامة الا ما غفرت بالتوبة أو تذهب بحسنة أو بشفاعة في الآخرة ونحو ذلك، ويزداد الاشكال في الكافرين باعتبار شمول الآية للمؤمنين

ص: 308

والكافرين.والجواب:

1.لا مانع من الالتزام بعدم بقاء ذنوب على من محصّهم البلاء وطهرهمّ في الدنيا ولو لخصوص المؤمنين بفضل الله تعالى وكرمه وقد ورد هذا المعنى في بعض الروايات كقول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (لا يزال البلاء في المؤمن والمؤمنة في جسده وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة)(1) .

2.ان الآية لا تفيد هذا المعنى لأنها بصدد بيان الترابط بين الذنوب وآثارها الوضعية في الدنيا بإصابته بأنواع البلاء وليست بصدد بيان المجازاة على الأفعال مع ملاحظة العفو عن كثير بلطف الله تعالى وكرمه حيث جعل اسباباً لتكفير الذنوب والعفو عنها كالصدقة والدعاء والاستغفار وفعل الحسنات ونحو ذلك.

وفي الختام ينبغي الانتباه إلى ان هذه المعنى للآية لا يبرّر الاستسلام للمصاعب والمشاكل وعدم السعي لمعالجتها وإزالتها بإذن الله تعالى على أساس أن الله تعالى أرادها أن تكون كذلك فهذا فهم غير مستقيم، وإنما على المؤمن التوسل بالأسباب لدفع الضرر والاذى والسوء، فاذا لم ينجح في دفعها لاحظ المعنى المذكور في الآية وحينئذٍ تحصل له حالة الندم على فعل المعصية فيستغفر منها ويعقد العزم على عدم العودة إليها.

فتكون الآية وسيلة تربوية ناجحة لعودة الانسان إلى رشده وإعادة الأمل إليه، وتكشف عن مظهر من مظاهر الرحمة الإلهية.85

ص: 309


1- بحار الأنوار: 67 / 236 ح 54 وأحاديث أخرى في ميزان الحكمة: 3/ 385

القبس /140: سورة الزُخرف:54

اشارة

{فَٱستَخَفَّ قَومَهُۥ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُم كَانُواْ قَوما فَٰسِقِينَ}

موضوع القبس:قابلية الشعوب على الاستعباد

لو قرآنا الآية بمعزل عن السياق لكان ظاهرها ان فرعون أمر قومه ان يخفوا ويسرعوا لنصرته ويبادروا للخروج معه للقضاء على النبي موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واتباعه وهم أطاعوه واستجابوا لدعوته التي اشير اليها في قوله تعالى {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} (الشعراء:53) وبهذا المعنى ورد في خطبة السيدة الزهراء (س) في مسجد أبيها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (وأطْلَعَ الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم، ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً)(1) بعكس التثاقل الذي يعني التباطؤ والتكاسل قال تعالى {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} (التوبة:38).

لكننا لو قرآنا الآية ضمن سياقها فإنها تعني ان فرعون استخف بعقول قومه ووجدهم سلسي القياد طائشين نزقين لا حكمة لهم ولا رشد ولا وعي ولا بصيرة ينعقون مع كل ناعق فمضى في مشروعه الاستكباري والاستعلائي واستعباد الناس

ص: 310


1- الاحتجاج: 1/ 130

وتسييرهم وفق هواه، وهم صدّقوا ظنه فيهم حين أطاعوه ورضوا بحالة العبودية فهي هنا كما في قوله تعالى {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} (الروم:60) أي لا يذهبن بحلمك وعقلك ما يفعله المشركون.وتعلّل الآية الكريمة هذه الحالة عند قوم فرعون بأنهم كانوا فاسقين خارجين عن حدود العقل والفطرة ومجردين من الخصائص الإنسانية الكريمة، ورضوا لأنفسهم حياة الذل والهوان والعبودية، والفسق لغةً هو الخروج، وفي لغة العرب (فسق الرطب) إذا خرج عن قشره، وفي المصطلح:الفسق هو الخروج عن حدود الشريعة والعقل والفطرة.

وهذا يعني انهم لو لم يكونوا فاسقين خارجين عن صراط الحق طائعين لأهوائهم لما استطاع فرعون ان يستعبدهم ويستخف بهم، فالمظالم والكبائر التي يرتكبها الطغاة ليسوا فقط هم المسؤولين عنها، وإنما تتحمل الشعوب جزءاً من المسؤولية إزاء ما يحلّ بها لأنها مكنّتهم من ذلك بفسقها وانحرافها، واستسلموا لخداع ومكر الزعامات والمتسلطين، فأعانوا عدوهم – من شياطين الانس والجن – على أنفسهم، أما المؤمنون المتبعون للقيادة الحقة فأنه يصعب خداعهم وسوقهم.

فالآية تقدّم لنا حقيقة سبق اليها القرآن الكريم وقررّها قبل ان يتوصل اليها علماء الاجتماع بعد قرون طويلة وهي ان الشعوب المستضعفة والمستعبدة من قبل الطواغيت او القوى الخارجية المحتلة لا تسقط في هذه الانتكاسة إلا لأنها تتوفر فيها قابلية الاستعباد، وعلى تعبير بعضهم قابلية الاستعمار، وعلى تعبير آخر:قابلية الاستحمار لان الشعوب حينئذٍ تُقادُ الى حيث يريد مستعبدوها بلا بصيرة ولا وعي

ص: 311

وإدراك لمصيرها البائس الذي تسير اليه بحيث تغفل هذه الشعوب عن أشد المظالم وأوضح الجرائم بحقها وتصرّ على السير خلف الظالمين المستبدين فيسوقونهم الى الموت ويسلبون أموالهم ويُسخرونهم لتحقيق نزواتهم وهم يصفِّقون لهم ويقدسونهم ويطيعونهم طاعة عمياء.والتأمل في سلوك فرعون مع شعبه الذي حكته الآيات الشريفة السابقة يشير الى الأساليب التي يتبعها الطواغيت والمستكبرون لتدجين الشعوب واستخفافها وهي لا تختلف عن أساليب اليوم إلا من حيث الشكل والأدوات التي تتغير تبعاً للزمان وإلا فالحقيقة واحدة.

قال تعالى {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ، أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ، فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ،فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ}(الزخرف:51-54).

والأساليب هي:

1-سلب حالة الوعي والادراك والفطنة التي عبّر عنها القرآن الكريم ب-(البصيرة) وتكريس حالة الجهل والتخلف والانقطاع عن أسباب المعرفة الحقيقية والاهتمام بالقشور وقلب موازين التقييم من معنوية حقيقية جوهرية الى مادية سطحية زائفة وهكذا ضمن عملية غسل دماغ تسلب عقولهم ووعيهم ويتحولون الى قطيع منفذ للأوامر، ولذا قال لهم {أَفَلَا تُبْصِ-رُونَ} فدعاهم الى النظر الحسّي ولم يدعوهم الى التأمل والتدبر والتفكر لئلا تظهر الحقائق ويُفتضح

ص: 312

المخادع، والأمور التي دعاهم فرعون الى إبصارها قريبة محسوسة أما موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فيدعوهم الى الايمان بامورٍ غيبيةٍ بعيدة عن إدراك الناس الغافلين.وتحاط عملية غسل الدماغ احياناً بالقدسية والخطوط الحمراء التي لا تقبل النقاش، وهنا يكون دور لعلماء الدين المحبين للدنيا والواجهات المؤثرة في المجتمع (السحرة ومعبرو الاحلام في قوم فرعون) لإضفاء هذه القدسية وشرعنة ما يفعله الطغاة وإدامة سلطتهم وهيمنتهم وإحكام الطوق على الشعوب المستعبدة باسم الدين وشعائره، لكن أي دين؟ لقد وصفهم أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بأنهم (لبسوا الإسلام لبس الفرو مقلوباً)(1).

وهذا ما يدفع الزعامات الحريصة على مواقعها الى استخدام كل أساليب البطش والقسوة المادية والمعنوية بحق المصلحين الواعين الذين ينهضون لإيقاظ الأمة وتبصرتها وترشيد سلوكها, وتحريرها من الاغلال والآصار التي تُحجرّ على عقولهم وتلّوث باطنهم وفطرتهم(2).

2-استحقار الآخر (فرداً او شعباً) والاستهزاء به لسحق شخصيته وإظهار عجزه وضعفه ليقتنع بأنه مخلوق ليكون تابعاً لغيره فموسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عند فرعون (مهين) لأنه من بني إسرائيل المستضعفين المواطنين من الدرجة الثانية الذين لا يحق لهم العمل إلا في المجالات المتدنية كرعي الأغنام وخدمة الأغنياء والمترفين، وكان المظهر الخارجي لموسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) متواضعاً قال أمير المؤمنين في6.

ص: 313


1- شرح نهج البلاغة ج7 ابن أبي الحديد ص191.
2- راجع القبس/44 {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف:157), من نور القرآن: 2/ 56.

وصفه (وَلَقَدْ دَخَلَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَمَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عَلَى فِرْعَوْنَ وَعَلَيْهِمَا مَدَارِعُ الصُّوفِ وَبِأَيْدِيهِمَا الْعِصِيُّ فَشَرَطَا لَهُ إِنْ أَسْلَمَ بَقَاءَ مُلْكِهِ وَدَوَامَ عِزِّهِ فَقَالَ أَلا تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَيْنِ يَشْرِطَانِ لِي دَوَامَ الْعِزِّ وَبَقَاءَ الْمُلْكِ وَهُمَا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ وَالذُّلِّ فَهَلا أُلْقِيَ عَلَيْهِمَا أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وَجَمْعِهِ وَاحْتِقَاراً لِلصُّوفِ وَلُبْسِهِ)(1).ووصفه فرعون ثانية بأنه (ولا يكاد يبين) مستغلاً ما كان معروفاً عن موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قبل خروجه من مصر بأنه كانت له عقدة في لسانه فلا يكاد يبّين ما يريد قوله بوضوح فخدعهم بهذه الحالة التي كانت قبل بعثه بالنبوة، فلما بعثه الله تعالى بها شكى حاجته {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ}).

ص: 314


1- نهج البلاغة: الخطبة 192 ويشير الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الى الحكمة في ذلك، وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ الذِّهْبَانِ وَمَعَادِنَ الْعِقْيَانِ وَمَغَارِسَ الْجِنَانِ وَأَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُيُورَ السَّمَاءِ وَوُحُوشَ الْأَرَضِينَ لَفَعَلَ وَلَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلَاءُ وَبَطَلَ الْجَزَاءُ وَاضْمَحَلَّتِ الْأَنْبَاءُ وَلَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ الْمُبْتَلَيْنَ وَلَا اسْتَحَقَّ الْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ الْمُحْسِنِينَ وَلَا لَزِمَتِ الْأَسْمَاءُ مَعَانِيَهَا وَلَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّةٍ فِي عَزَائِمِهِمْ وَضَعَفَةً فِيمَا تَرَى الْأَعْيُنُ مِنْ حَالَاتِهِمْ مَعَ قَنَاعَةٍ تَمْلَأُ الْقُلُوبَ وَالْعُيُونَ غِنًى وَخَصَاصَةٍ تَمْلَأُ الْأَبْصَارَ وَالْأَسْمَاعَ أَذًى وَلَوْ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ أَهْلَ قُوَّةٍ لَا تُرَامُ وَعِزَّةٍ لَا تُضَامُ وَمُلْكٍ تُمَدُّ نَحْوَهُ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ وَتُشَدُّ إِلَيْهِ عُقَدُ الرِّحَالِ لَكَانَ ذَلِكَ أَهْوَنَ عَلَى الْخَلْقِ فِي الِاعْتِبَارِ وَأَبْعَدَ لَهُمْ فِي الِاسْتِكْبَارِ وَلَآمَنُوا عَنْ رَهْبَةٍ قَاهِرَةٍ لَهُمْ أَوْ رَغْبَةٍ مَائِلَةٍ بِهِمْ فَكَانَتِ النِّيَّاتُ مُشْتَرَكَةً وَالْحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَةً وَلَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الِاتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ وَالتَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ وَالْخُشُوعُ لِوَجْهِهِ وَالِاسْتِكَانَةُ لِأَمْرِهِ وَالِاسْتِسْلَامُ لِطَاعَتِهِ أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً لَا تَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا شَائِبَةٌ وَكُلَّمَا كَانَتِ الْبَلْوَى وَالِاخْتِبَارُ أَعْظَمَ كَانَتِ الْمَثُوبَةُ وَالْجَزَاءُ أَجْزَلَ).

(الشعراء:13) {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً} (القصص:34) ودعا ربّه بإطلاق لسانه {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي} (طه:27- 28) وقد استجاب الله تعالى دعاءه وأطلق لسانه {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} (طه:36).3-إقناعهم بحاجتهم لهؤلاء المستكبرين وانهم لا يستطيعون الحياة بدونهم وخلق حالة رعب وقلق وخوف (فوبيا) من البديل {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} كان نهر النيل والانهار والجداول المتفرعة عنه التي روي انها وصلت الى 360 فرعاً مصدر حياة المصريين ورخائهم وازدهارهم وفخرهم وعزتهم، فصّور لهم ان هذه الشبكة الإروائية تجري بأمره ووفق تدبيره وهي تحت سلطته وقدرته، وموسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لا يملك شيئاً من هذا والذهاب معه يحرمكم من هذه العزة والرخاء.

4-خلق حالة الانبهار به لدى الطرف الآخر وجعله باهتاً امام هذه الجبروت والعظمة التي هي زائفة في الحقيقة فتأخذ بألباب الناس ومجامع قلوبهم وعقولهم ويكون غاية هم الناس أن ينالوا شيئاً من فتات دنياهم {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي} {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} وحالة الانبهار تولد تبعية وانقياد لما أنبهر به:ولا يفكر المنبهرون حينئذٍ في الخروج عن طاعتهم فضلاً عن التفكير في إزالتهم وإقامة النظام البديل.

فالمستكبرون يوهمون الناس بأن من يتطلّع الى القيادة والأمرة لابد ان

ص: 315

يكون كالفراعنة متزيناً بالذهب والفضة ويملك الثروة طائلة، وهذا غاية الاستخفاف بالناس أن يجعل دليل صدق النبوة والسفارة الإلهية وتبليغ رسالة الله تعالى حيازته للثروة والذهب والاعراض عن الآيات والبينات التي جاءهم بها وهو نفس إشكال قريش في الآية (31) من سورة الزخرف {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}.وكان سرد هذه الحكاية عن آل فرعون هو موعظة وتحذير لقريش من سلوك هذا المنهج الضال، ولا شك ان عملية الإصلاح في المجتمع المترف اقتصادياً والمستقر يكون أصعب ويواجه عقبات جمة ورفضاً من عامة الناس فضلاً عن المتسلطين.

وكرّر فرعون الاشكال الذي أثارته الأمم المكذّبة على انبيائها بأن الله تعالى لو شاء أن يبعث رسولاً لجعله ملكاً ولو اختاره انساناً فلابد أن تأتي معه الملائكة {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً} (الإسراء:92).

ولم يغب عن فرعون إثارة النعرات والعصبيات الجاهلية بقوله (يا قوم) وهم الاقباط المتسيّدون قوم فرعون لعزل موسى ومن معه من بني اسرائيل.

وهنا يأتي قوله تعالى {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} وفيه إشارة الى ان فرعون كان يعرف انه مخادع وأن أدلته لا قيمة لها لكنه استخف بعقول قومه واستصغر شأنهم واستعمل وسائل الخداع والمكر مع الاغراء والترهيب فوجدهم طائعين ومسلّمين له.

ص: 316

هذا السلوك الفرعوني هو ديدن الطواغيت والمستكبرين والطامحين الى الزعامة والتسلط على رقاب الناس في كل زمان ومكان وأدواتها في تطور مستمر، لاحظ سلوك الحكومات الغربية تجاه شعوبنا الإسلامية من أجل السيطرة عليها وسلب خيراتها والتحكم في شؤونها مما يسمى بالاستعمار، فهم يسحقون شخصية هذه الشعوب ويشعرونها دائماً بالدونية وجعلهم مستهلكين غير قادرين على بناء حضارة متينة قادرة على البقاء والتقدم وإن كانوا من حيث المظاهر المادية في أرقى صورها – كدول الخليج مثلاً – فهم دائماً مرتهنون لأولئك المتحكمين.كما استطاعوا أن يبهروا شعوب المنطقة بإبراز مظاهر التقدم العلمي والتكنولوجي وهذا الانبهار أدى الى الانسياق وراء كل ما يصدرّونه الينا من تقاليد وأفكار وسلوكيات كشرب الخمر والانحلال الخلقي تحت شتى العناوين وإشاعة الفاحشة باسم الفن او الرياضة او الحرية، والبحث عن اللهو والعبث واللعب وهكذا في سائر أنماط الحياة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية، حتى سوقوا أكثر الجرائم انحطاطاً كزواج المثليين بقوانين رسمية تحت عنوان الحرية الشخصية وامثالها والاعتداء على الإسلام ورسوله الكريم محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بذريعة حرية التعبير عن الرأي وأمثالها من الامور التي جعلوها مقدسة لا يجوز المساس بها ما دامت تصب في مصالحهم بينما يعاقبون بشدة من يتحدث بمظالمهم ويفضح ادعاءاتهم – كمعاداة السامية – ولا يشفع له حرية التعبير عن الرأي.

واستغلوا أنس الناس الغافلين بالماديات المحسوسة وسرعة التصديق بها لينكروا الغيبيات وما وراء المادة، والناس لا تفرّق بين ما يدرك بالحواس المادية وما يدرك بالعقل والفطرة الإنسانية السليمة. ولجعل الشعوب في غفلة دائمة

ص: 317

وإشغال فكرهم اعتمدوا سياسة الالهاء تارة بالسباقات الرياضية التي ما ان تنتهي واحدة حتى تبدأ الأخرى، وبالحرية الجنسية وبوسائل التواصل الاجتماعي وتقنيات وسائل الاعلام والمواقع الالكترونية وشبكة الانترنت التي تقدّم باستمرار الجديد والمثير والجذّاب فينشغل الناس بهذه ولا يفكرون في مناقشة أوضاعهم الاجتماعية وإصلاحها ولا يبقى عندهم وقت للتأمل والتدبر قال تعالى {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ، لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَ-رٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} (الأنبياء:2-3).خذ مثلاً تصويت أغلب البريطانيين قبل أيام(1) لصالح انسحابهم من الاتحاد الأوربي مع انه قرار ليس لصالحهم لكن الدوائر الاستكبارية التي تريد تمزيق الاتحاد الأوربي نجحت في خداع هذه الاغلبية بالأكاذيب والمخاوف المفتعلة والغريب ان البريطانيين بعد أن صوتوا للخروج ذهبوا بالملايين الى المواقع الإلكترونية ليسألوا عن ماهية الاتحاد الأوربي والفوائد التي تجنيها بريطانيا من بقاءها فيه، فكيف صوتوا وهم لا يعرفون شيئاً عن أصل الموضوع.

وفي الختام نشير الى ان علاج هذه الحالة –أي قابلية الاستعباد- التي تؤسس للانحطاط يبدأ باجتثاثها من عقل الانسان وقلبه ونفسه وقد اختصره أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بقوله (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً)(2) أياً كان هذا1.

ص: 318


1- تاريخ القاء القبس 27/رمضان/1437 الموافق 3/ 7/ 2016
2- غرر الحكم / ح 10371.

الغير:أهواء النفس الأمّارة بالسوء او الطواغيت والزعامات المصطنعة، أو شياطين الجن والانس.

ص: 319

القبس /141: سورة الأحقاف:13

اشارة

{إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱستَقَٰمُواْ}

موضوع القبس:الاستقامة

لنستفد من القرآن الكريم:

البعض يقرأ القرآن بلسانه طلباً للثواب الذي أفادته الروايات الكثيرة، والبعض يقرأ القرآن بعقله ليستخرج منه نظرية علمية أو يستدل به على مطلب ما، كاستدلال الأصولي بآية النفر(1) على حجية خبر الواحد، أو استدلال النحوي على بعض القواعد الإعرابية، والبعض يقرأ القرآن ليتدبر في آياته، ويثير مكنوناته ليأخذ منه علاجاً لأمراضه المعنوية، وبرنامجاً لسيره التكاملي لنيل رضا الله تعالى.

فالذي يريد أن يكون من المفلحين الفائزين بما عند الله تبارك وتعالى يجد وصفة العلاج المتضمنة لعدة فقرات في قوله تعالى في أول سورة المؤمنون:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ..}

ص: 320


1- يعني بها سماحة الشيخ (دام ظله) قوله تعالى: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمَْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة:122) والاستدلال بها مذكور في كتب أصول الفقه.

إلى قوله تعالى:{أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (المؤمنون:1-11).وهكذا الآيات التي تصف عباد الرحمن أو المتقين وغيرهم.

مفردة الاستقامة:

واليوم نقف عند آية مباركة تتحدث عن امتيازات جليلة ومنن عظيمة وهي قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ، نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} (فصلت:30-31-32) ووردت بتفصيل أقل في موضع آخر {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (الأحقاف:13) فنحن أما مفردة قرآنية هي (الاستقامة) تتحقق بها آثار عظيمة نطقت بها آية سورة فصلت.

تتنزل عليهم الملائكة فتطمّئنهم أن لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، وقد قيل في الفرق بين الخوف والحزن أن الأول من الأمور القادمة والثاني من الأسى على ما مضى، فلا يخافون من القادم في القبر أو أهوال يوم القيامة أو مما يخوفونهم به في الدنيا بسبب رفضهم الانصياع لما سوى الله تعالى من طواغيت أو تقاليد اجتماعية وغيرها، ولا يحزنون على ما فاتهم في الدنيا من أمورها الزائلة، لأنهم سيجدون أن الله تعالى قد عوّضهم بكرمه بما هو خير وأبقى. وقيل إن ((الخوف إنما يكون من مكروه متوقع كالعذاب الذي يخافونه والحرمان من

ص: 321

الجنة الذي يخشونه، والحزن إنما يكون من مكروه واقع وشر لازم كالسيئات التي يحزنون من اكتسابها، والخيرات التي يحزنون لفوتها عنهم، فتطيّب الملائكة أنفسهم أنهم في أمن من أن يخافوا شيئاً أو يحزنوا لشيء فالذنوب مغفورة لهم والعذاب مصروف عنهم))(1).

ثمرات الاستقامة:

وتبشّرهم الملائكة بالجنة التي وُعدوا بها على لسان القرآن الكريم والناطقين به (صلوات الله عليهم أجمعين) بما تتضمن من نِعم وما لا عين رأت ولا أذن سمعت خالدين فيها.

وتتولى أمورهم الملائكة بإذن الله تعالى مدبر الأمور وليسوا هم البشر الضعيف الجاهل الضال العاجز عن أن يتولى أموره، وإذا تولّتها الملائكة فإنها لا تأتي إلا بالخير وترعاهم وتداريهم أكثر مما تداوي الأم الشفيقة ولدها،وتجنّبهم كل سوء، في كل المواطن التي يحتاج فيها إلى المعونة حيث لا ناصر إلا الله تعالى في صعوبات الدنيا وعند سكرات الموت وعندما يترك وحيداً في قبره وفي أهوال القيامة وعتباتها، وتعوّضهم عما سيفقدونه من إخوان وأصدقاء وأصحاب بسبب استقامتهم على الحق وسقوط الآخرين وابتعادهم عن الاستقامة، كما نُسِب إلى أبي ذر (رضي الله عنه):(ما ترك الحق لي صديقاً)(2).

لهم في الجنة ما تشتهي أنفسهم بل أوسع من ذلك فلهم كل ما يتمنون من

ص: 322


1- الميزان في تفسير القرآن، تفسير الآية 30 من سورة فصلت.
2- بحار الأنوار: 31/ 180.

النعم المعنوية والحسّية من دون أن يطلبها، عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من حديث عن نعم الله تعالى في الجنة قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فيه:(فإذا دعا وليُّ الله بغذائه أُتي بما تشتهي نفسه عند طلبه الغذاء من غير أن يسمي شهوته)(1) وهكذا ما يدّعي.وأعظم النعم التي ذكرتها الآية الكريمة لهم أنهم يَحُلُّون ضيوفاً عند الله الغفور الرحيم معززين مكرمين مرَحَبّاً بهم وتكون النُزُل التي تقّدم للضيوف كما يليق بأي ضيف كريم عند الرب العظيم.

هذه المواهب الجليلة لا تُعطى للإنسان لمجرد أن يؤمن بالله تعالى بلسانه من دون استقامة على التوحيد ورفض الخضوع والانقياد لكل الآلهة المصطنعة من دونه، وأولها النفس الأمّارة بالسوء، وهذا أمر طبيعي، إذ لا يبقى للتوحيد معنى إذا لم يستقم عليه، ويلتزم بمتطلباته.

والإيمان الحقيقي يدعو إلى الاستقامة وهي من ثمراته كما يدعو إلى العمل الصالح، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعد أن تلا الآية الشريفة المتقدمة:(وقد قلتم (رَبُّنَا اللهُ) فاستقيموا على كتابه، وعلى منهاج أمره، وعلى الطريقة الصالحة من عبادته، ثم لا تمرقوا منها، ولا تبتدعوا فيها، ولا تخالفوا عنها، فإن أهل المروق منقطع بهم عن الله يوم القيامة)(2).

معنى الاستقامة:

وفي ضوء كلمة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يظهر أن الاستقامة تتضمن عدة معانٍ:

ص: 323


1- الكافي: 8/ 99.
2- نهج البلاغة: الخطبة (176).

(أولها) الثبات وعدم الميلان والانحراف تحت ضغط الشهوة أو الخوف أو الحرص على منصب أو المجاملة أو التقليد ونحوها فيخرج عن حد الاستقامة، في حديث عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بعد أن تلا هذه الآية قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(قد قالها الناس – أي كلمة الإيمان - ثم كفر أكثرهم فمن قالها حتى يموت فهو ممن استقام عليها)(1)، فعلامة الاستقامة عدم الزيغ والانحراف باتجاه المعصية أو التقصير في الطاعة، يقول الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في معنى قوله تعالى: {اهدِنَا الصِرَاطَ المُستَقِيمَ} يعني أرشدنا إلى لزوم الطريق المؤدي إلى محبّتك، والمبلّغ إلى جنتك، والمانع من أن نتبع أهواءنا فنعطب، أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك)(2).(ثانيها) المداومة على الطاعة وعمل الخير والاستمرارية فيه، إذ لا

يصل الإنسان إلى الهدف بمجرد وضع قدمه على الطريق الصحيح بل لا بد من الحركة الصحيحة باستمرار على الطريق الصحيح، عن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في معنى قوله تعالى{اهدِنَا الصِرَاطَ المُستَقِيمَ} :(يعني أدِم لنا توفيقك الذي أطعناك به في ماضي أيامنا، حتى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا)(3).

(ثالثها) الاعتدال فلا إفراط ولا تفريط، لأن كلاً منهما ابتعاد عن الاستقامة، قال تعالى:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (هود:112) والطغيان هو الخروج عن حد الاعتدال.3.

ص: 324


1- مجمع البيان في ذيل تفسير آية (30) من سورة فصلت.
2- معاني الأخبار: ص33.
3- معاني الأخبار: ص33.

(رابعها) الوضوح في الإيصال إلى الهدف فلا شبهات ولا شكوك ولا غموض ولا التفاف ولا حيرة أو تردد، كما أن من صفات استقامة الطريق ذلك ليتحقق المطلوب منه بشكل كامل ولا يضل السائر عليه.(خامسها) الإخلاص، فالاستقامة لا تكون إلا إذا كانت لله تبارك وتعالى وعلى الصراط الذي أمر باتباعه، وليس لنيل غاية معينة من شهرة أو مال أو منصب أو جاه، قال تعالى:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} لا كما تشتهي ولا أي نحو آخر.

صعوبة الاستقامة:

إن الوصول إلى النجاح أو القمة أيسر من الثبات عليها والمحافظة على التمسك بها، وهذا معروف لدى المتنافسين في كل المجالات وهو أمر شاق لا ينال إلا بلطف من الله تبارك وتعالى، لذا يظهر من الآية الشريفة أن الخطوة الأولى من العبد بأن يستقيم وحينئذٍ يستحق مزيداً من اللطف الإلهي فتنزل عليه الملائكة لتتولى أمره وتقوده إلى الخير، وتثبته على الاستقامة، قال تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} (النساء:66).

ويكون الأمر أشق حينما يكلَّف الإنسان بأن يأخذ بيد من معه في طريق الاستقامة، قال تعالى:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (هود:112)، روى في الدر المنثور بسنده عن الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لما نزلت هذه الآية :{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ} قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):شمِّروا شمِّروا، فما رؤي ضاحكاً) وفي مجمع البيان في قوله تعالى (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) ((قال ابن عباس:ما نزل على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) آية كانت أشدَّ عليه ولا أشقّ من

ص: 325

هذه الآية، ولذلك قال لأصحابه -حيث قالوا له:أسرعَ إليك الشيب يا رسول الله-:(شيّبتني هود والواقعة))(1).وأرجع البعض سبب ذلك إلى تكليفه بمن معه، لأن آية أخرى أمرت بالاستقامة وليس فيها هذا الذيل فلم يذكرها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وهو قوله تعالى:{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} (الشورى:15).

فالمسؤوليات شاقة وعديدة، إذ عليه الاستقامة في كل لحظة وفي كل قول وفعل، وهو أمر شاق، وأن يكون كل ذلك خالصاً لله تعالى وهو أشق، ثم عليه أن يقوّم الآخرين على هذا الطريق على اختلاف طباعهم وتباين مستوياتهم وتنوع اتجاهاتهم، وتتسع هذه المسؤولية وتزداد المشقة بسعة من كلّف بقيادتهم، حتى تكون بمستوى ولاية أمر المسلمين، وبمستوى المواجهة التي نشهدها اليوم حيث برز الشرك والكفر والفسوق والظلم والاستبداد بكامل عدته وعدده.

لنحقق الاستقامة:

هذه الاستقامة على الصراط الذي ارتضاه الله تعالى وسار عليه الصالحون من عباده، علّمنا الله تبارك وتعالى أن نسأله إياها ونطلبها منه يومياً عشر مرات على الأقل في صلاتنا، لأنه متضمن لكل خصال الخير قال تعالى:{اهدِنَ-ا الصِّرَاطًَ.

ص: 326


1- سورة الواقعة ليس فيها أمر بالاستقامة ومما قيل في وجه الاشتراك مع سورة هود أنها متشابهة في ذكر أهوال يوم الفصل وأحوال القيامة الأمر الذي يخشاه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على أمته لما علمه من عدم استقامة الكثير منهم على الصراط من بعده رغم أنهم أقروا بالإيمان بالله لساناً.

المُستَقِيمَ} (الفاتحة:6)، ويعرفنا الله تبارك وتعالى بهذا الصراط ويدلنا على معالمه فيصفه بأنه:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} (الفاتحة:7) ومَن هؤلاء الذين أنعم الله عليهم؟، قال تعالى:{وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَ-ئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَ-ئِكَ رَفِيقاً} (النساء:69).فالاستقامة تتحقق بطاعة الله تبارك وتعالى ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومَن أمر بطاعته بعده وهم الأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ثم نوّابهم بالحق، فاتباع القيادة الدينية الحقة ضمان للبقاء على الاستقامة على الصراط المستقيم، وفي مجمع البيان عن الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أنه سُئل:ما الاستقامة؟ قال:هي والله ما أنتم عليه) وفي تفسير القمي في تفسير قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قال: (ثم استقاموا على ولاية علي أمير المؤمنين)، وفي الكافي بسنده عن محمد بن مسلم قال:(سألت أبا عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن قول الله عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} فقال أبو عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):استقاموا على الأئمة واحداً بعد واحد {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ}.وفي معاني الأخبار في تفسير قوله تعالى {اهدِنَ-ا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} (الفاتحة:6) عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وهي الطريق إلى معرفة الله، وهما صراطان:صراط في الدنيا، وصراط في الآخرة، فأما الصراط الذي في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة من عرفه بالدنيا واقتدى بهداه مَّر على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة، ومن لم يعرفه في الدنيا زلت

ص: 327

قدمه عن الصراط في الآخرة فتردّى في نار جهنم(1).إن الإنسان إذا استقام على طاعة الله ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والأئمة الطاهرين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من بعده يتنعم في الدنيا فضلاً عن امتيازات الآخرة التي ذكرناها، قال تعالى:{وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً} (الجن:16) في الكافي بسنده عن الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (في قوله تعالى {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً} قال:يعني لو استقاموا على ولاية علي بن أبي طالب أمير المؤمنين والأوصياء من وُلدِه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقبلوا طاعتهم في أمرهم ونهيهم لأسقيناهم ماءً غدقاً، يقول:لأشربنا قلوبهم الإيمان، والطريقة هي الإيمان بولاية علي والأوصياء.

كيف نحقق الاستقامة؟

أيها الأحبة:

إن تحقق الاستقامة والثبات عليها التي نطلبها يومياً في صلاتنا –مما يعني أنها شيء يجب السعي لتحصيله- تتطلب أموراً:

1-العزم والإرادة الصادقة والشجاعة في اتخاذ القرارات والمواقف وإنجاز الأعمال المطلوبة.

2-الوعي والمعرفة والمطالعة الواسعة لروايات المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وآثار السلف الصالح لأن أي عمل لا بد أن تسبقه معرفة، وبعد العمل يكتسب معرفة جديدة.

3-الالتفات إلى موجبات الانحراف عن صراط الاستقامة مقدمة لاجتنابها

ص: 328


1- معاني الأخبار: ص2 ح1، تفسير الصافي: 1/ 126.

وهي اتباع الشهوات والركون إلى الدنيا بزخارفها الباطلة أو الخوف من فقدان شيء أو القلق من فوات أمور، ومن موجبات الانحراف أيضاً أمور تبدو خارجة عن إرادة الإنسان، لكن مقدماتها بيده فيستطيع تجنبها بإزالة مقدماتها كالجهل والنسيان والغفلة والسهو فقد يشذّ الإنسان عن الصراط المستقيم لا عن عمدٍ بل جهلاً وغفلة، وبالنتيجة فقد فاته خير كثير.ولذلك فإن الإنسان يدعو يومياً عشر مرات على الأقل في صلواته بعد طلب الهداية للصراط المستقيم أن يعصمه الله ويحميه من كلا النوعين من موجبات الانحراف عن الاستقامة، ابتداءً واستدامة لأنه معرض في أي لحظة للزلل والانحراف والإغواء إلا أن يمدَّه الله تعالى بلطفه ونوره.

مفردات عملية لتحقيق الاستقامة:

ولتحصيل الاستقامة مفردات عملية وبرامج ذكرتها الآيات الكريمة والروايات الشريفة، ولو التفتنا فإن الآيات التالية لقوله تعالى:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} تتضمن مفردات أساسية لهذا البرنامج وهي عدم الركون إلى الظالمين والمحافظة على الصلاة في أوقاتها والصبر، قال تبارك وتعالى:{وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَ-رُونَ، وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّ-يِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ، وَاصْبِرْ فإن اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (هود:113-115).

ص: 329

موعظة وتذكير:

وأُورد هنا للموعظة والتذكير روايتين تتضمنان وصفتين مهمتين لتطهير القلب وتهذيب النفس لمن أراد الكمال على طريق تحقيق الاستقامة.

(الأولى):رواية صحيحة رواها الثقات في كتبهم جميعاً كالكليني والصدوق والشيخ الطوسي (قدس الله أسرارهم والبرقي في المحاسن عن أبي جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):يا علي أوصيك في نفسك بخصال فاحفظها، ثم قال:اللهم أعنه، أما الأولى:فالصدق لا يخرجن من فيك كذبة أبداً، والثانية:الورع لا تجترين على خيانة أبداً، والثالثة:الخوف من الله كأنك تراه، والرابعة:كثرة البكاء من خشية الله عز وجل يبنى لك بكل دمعة بيت في الجنة، والخامسة:بذل مالك ودمك دون دينك، والسادسة:الأخذ بسنتي في صلاتي وصيامي وصدقتي، أما الصلاة فالخمسون ركعة، وأما الصوم فثلاثة أيام في كل شهر خميس في أوله، وأربعاء في وسطه، وخميس في آخره، وأما الصدقة فجهدك حتى يقال:أسرفت ولم تسرف، وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الليل، وعليك بصلاة الزوال، وعليك بقراءة القرآن على كل حال، وعليك برفع يديك في الصلاة، وتقليبهما، عليك بالسواك عند كل وضوء وصلاة، عليك بمحاسن الأخلاق فاركبها، عليك بمساوي الأخلاق فاجتنبها، فإن لم تفعل فلا تلومنّ إلا نفسك)(1).

(الثانية) وصية الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لعنوان البصري وكان شيخاً كبيراً حضر عند مالك بن أنس ثم هداه الله إلى الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وجاء في الرواية

ص: 330


1- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس وما يناسبه، باب 4، ح2.

(ثم قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):ما مسألتك؟ فقلت:سألت الله أن يعطف قلبك علي ويرزقني من علمك، وأرجو أن الله تعالى أجابني في الشريف ما سألته، فقال:يا أبا عبد الله (وهي كُنية عنوان البصري أيضاً) ليس العلم بالتعلم، إنما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه، فإن أردت العلم فاطلب أولاً في نفسك حقيقة العبودية، واطلب العلم باستعماله، واستفهم الله يفهمك. قلت:يا شريف فقال:قل يا أبا عبد الله، قلت:يا أبا عبد الله ما حقيقة العبودية؟ قال:ثلاثة أشياء:أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله الله ملكاً، لأن العبيد لا يكون لهم ملك يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله به، ولا يدبّر العبد لنفسه تدبيراً، وجملة اشتغاله فيما أمره تعالى به ونهاه عنه، فإذا لم يرَ العبد لنفسه فيما خوّله الله تعالى ملكاً هان عليه الإنفاق فيما أمره الله تعالى أن ينفق فيه، وإذا فوض العبد تدبير نفسه على مدبره هان عليه مصائب الدنيا، وإذا اشتغل العبد بما أمره الله تعالى ونهاه لا يتفرغ منهما إلى المراء والمباهاة مع الناس، فإذا أكرم الله العبد بهذه الثلاثة هان عليه الدنيا، وإبليس، والخلق، ولا يطلب الدنيا تكاثراً وتفاخراً، ولا يطلب ما عند الناس عزاً وعلوّاً، ولا يدع أيامه باطلاً، فهذا أول درجة التقى، قال الله تبارك وتعالى:{تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}. قلت:يا أبا عبد الله أوصني، قال:أوصيك بتسعة أشياء فإنها وصيتي لمريدي الطريق إلى الله تعالى، والله أسأل أن يوفقك لاستعماله، ثلاثة منها في رياضة النفس، وثلاثة منها في الحلم، وثلاثة منها في العلم، فاحفظها وإياك

ص: 331

والتهاون بها، قال عنوان:ففرغت قلبي له. فقال:أما اللواتي في الرياضة:فإياك أن تأكل ما لا تشتهيه(1) فإنه يورث الحماقة والبله، ولا تأكل إلا عند الجوع، وإذا أكلت فكل حلالاً وسمّ الله، واذكر حديث الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):ما ملأ آدمي وعاءً شرّاً من بطنه فإن كان ولا بد فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه.وأما اللواتي في الحلم:فمن قال لك:إن قلت واحدة سمعت عشراً فقل:إن قلت عشراً لم تسمع واحدة، ومن شتمك فقل له:إن كنت صادقاً فيما تقول فأسأل الله أن يغفر لي، وإن كنت كاذباً فيما تقول فالله أسأل أن يغفر لك، ومن وعدك بالخنى(2) فعده بالنصيحة والرعاء.

وأما اللواتي في العلم:فاسأل العلماء ما جهلت، وإياك أن تسألهم تعنتاً وتجربة وإياك أن تعمل برأيك شيئاً، وخذ بالاحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلاً، و اهرب من الفتيا هربك من الأسد، ولا تجعل رقبتك للناس جسراً.

قم عني يا أبا عبد الله فقد نصحت لك ولا تفسد علي وِردي، فإني امرؤٌ ضنين بنفسي)(3).4.

ص: 332


1- أي لا تأكل شيئاً قبل أن تجوع فتشتهي.
2- الخنى: الفحش في الكلام.
3- بحار الأنوار: 1/ 224.

القبس /142: سورة الأحقاف:35

اشارة

{وَلَا تَستَعجِل لَّهُم ۚ}(1)

موضوع القبس:لا تعاجل الذنب بالعقوبة

من كلمات الامام الحسن السبط الزكي المجتبى (صلوات الله عليه) في بيان أحد الأداب العامة لتنظيم العلاقة الإيجابية مع الآخرين خصوصاً للمربين وأولياء الأمور كالأب في البيت او معلم المدرسة أو مدير الدائرة أو رئيس العمال ونحو ذلك، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لا تعاجل الذنب بالعقوبة وأجعل بينهما للاعتذار طريقاً)(2).

والمعنى واضح فالإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ينهى عن المبادرة الى معاقبة من يخطأ أو يذنب أو يقصِّر فهذا التريث والإمهال وغض النظر المؤقت يُعطي المذنب فرصة للتأمل والتفكير والمراجعة وسيدفعه ذلك إلى الاعتذار والاعتراف بالتقصير وتدارك التقصير وهذه نتيجة طيبة لجميع الأطراف، أما المبادرة الى المحاسبة والمعاقبة بغض النظر عن كون العقوبة بمستوى الذنب أو أقل أو أكثر فأنها تؤدي الى التشنج والتعصب وتأخذه العزة بالإثم.

وهذا الادب يندرج ضمن التأسي بالصفات الإلهية فأن الله تعالى كتب

ص: 333


1- أُلقيت يوم الاثنين 13 صفر 1438 الموافق 14/ 11/ 2016 تزامناً مع ذكرى استشهاد الامام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).
2- المجالس السنية: 5/ 348، موسوعة المصطفى والعترة: 5/ 126-128.

على نفسه الرحمة بأن لا يُعاجل العباد العقوبة حتى الكفار والمتجبرين والمتمردين قال تعالى {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} (الأحقاف:35) وقال تعالى {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} (يونس:11) وقال تعالى {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} (الطارق:17) فإن ثابوا الى رشدهم وعادوا الى الطريق كان فيه خير الدنيا والاخرة للجميع ولا نفقد الامل بهداية أي أحد وهذا ما عبّر عنه بعض الربانيين لما قال لهم بعض اليائسين والمتقاعسين {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} كان جوابهم الأمل والاندفاع {قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}(الأعراف:164) حتى في مثل فرعون الذي كان يقول {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (النازعات:24) و{مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} (غافر:29) فأن الله تعالى أبقى الامل في نفس موسى وهارون (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال تعالى {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى،فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه:43-44).وإن استمروا بالعصيان والاستكبار كان أبلغ بالحجة عليهم وأقطع لعذرهم قال تعالى {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (آل عمران:178).

ويتأكد هذا الادب كلما ازدادت أواصر القرب والعلاقة ويبلغ ذروته مع الموالين لأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فترى الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يُعلل تريثه في اتخاذ الإجراءات ضد قيادات من أصحابه أنشقّوا عنه وخانوه في الأموال العظيمة التي أودعها عندهم بأنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يأمل منهم ان يتقدموا خطوة ليحظوا باللطف الالهي

ص: 334

قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ولولا ما قال أبو جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حين يقول:لا تعجلوا على شيعتنا إن تزلّ قدم تثبت أخرى، وقال:من لك بأخيك كله:لكان مني من القول في ابن أبي حمزة وابن السراج وأصحاب ابن ابي حمزة)(1).وهذه الميزة لشيعة أمير المؤمنين الموالين وردت في حديث سابق عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(ما ثبتّ الله حب علي في قلب مؤمن فزلَّت به قدمٌ إلا ثبت الله قدماً يوم القيامة على الصراط)(2).

وقد جسّد الأئمة (سلام الله عليهم أجمعين) هذا الادب في حياتهم بصوره المتنوعة، فقد انتظر أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ما يقارب السنة قبل ان يتوجه لمقاتلة الباغين معاوية وأصحابه وأكثر إرسال المواعظ اليهم لعلهم يعودون الى الهدى والرشد حتى بدأ المرجفون والمنافقون يشيعون أن علياً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) شاك في أمر أهل الشام ولا يجد مسوغاً لقتالهم فصعد الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على المنبر وبيّن لهم انه لم يشكّ طرفة عين في ظلال معاوية واصحابه وكونهم بغاة يستحقون القتل والقتال وانما تأخّر إمهالاً لهم لعلهم يثوبوا الى رشدهم ويفيئوا الى أمر الله وليستضيئوا بنور أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(أما قولكم:أكلُّ ذلك كراهية الموت، فوالله ما أبالي، دخلتُ الى الموت أو خرج الموت إليَّ، وأما قولكم شكاً في أهل الشام! فوالله ما دفعتُ الحرب يوماً إلا وأنا أطمع ان تلحق بي طائفة فتهتدي بي وتعشو الى ضوئي، وذلك أحبُّ إليَّ من أقتلها على ضلالها، وإن كانت تبوء بآثامها)(3)4.

ص: 335


1- بحار الانوار: 49/ 267-268 عن قرب الاسناد: 348-352/ ح1260.
2- كنز العمال: 11/ 621/ ح 33022.
3- نهج البلاغة الخطبة 54.

ومن رسالة له (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعثها الى معاوية قال:(وليس أبطأني عنك إلا ترقباً لما أنت له مكذب وأنا له مصدّق)(1) وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(اني قلبت أمري وأمرهم ظهرا لبطن، فما وجدت إلا قتالهم أو الكفر بما جاء محمد(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ))(2).كما كان (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يمنع افراد جيشه من ان يدعو أحدهم للمبارزة، وكانوا لا يبدؤون اعداءهم بقتال ففي يوم عاشوراء حينما حاول بعض أصحاب الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن يرمي شمراً أو بعض الأعداء أن يرميه بسهم فمنعه لهذا الغرض النبيل حتى رمى عمر بن سعد بسهم نحو معسكر الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وتبعه جيشه لهذا نادى الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أصحابه قائلاً قوموا الى الموت الذي لابد منه فهذه رُسل القوم اليكم(3).

وقد أثمر هذا الادب عن توبة قائد كبير في جيش بني أمية وهو الحر الرياحي ولو استعجل الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مواجهته في الطريق لما حظي بهذه السعادة الابدية.60

ص: 336


1- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: 4/ 50.
2- علل الشرائع: 220 باب 160، بحار الأنوار: ج 44، ص35.
3- أنظر: اللهوف في قتلى الطفوف- ابن طاووس: 60

القبس /143: سورة محمد:7

اشارة

{إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُركُم وَيُثَبِّت أَقدَامَكُم}

من السنن الإلهية:

قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد7) تبيّن الآية إحدى القواعد والسنن الالهية، وهي ثنائية متلازمة عبّر القران الكريم المعَبّر عنها بجملة شرطية، الشرط فيها {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ} والجزاء {يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} وهي متلازمة تكرّرت في القرآن الكريم كقوله تعالى {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج40).

معنى نصرة الله تعالى:

ولا بدّ أن نفهم أولاً معنى نصرة الله لأن الله تعالى غنيّ عن العالمين ولا يحتاج الى معونة ونصرة احد بل الكل محتاج اليه، وفي نهج البلاغة قول امير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فَلَمْ يَسْتَنْصِرْكُمْ مِنْ ذُلٍّ وَلَمْ يَسْتَقْرِضْكُمْ مِنْ قُلٍّ اسْتَنْصَرَكُمْ وَلَهُ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَاسْتَقْرَضَكُمْ وَلَهُ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)(1) فنصرة الله بنصرةِ رسوله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأوليائه وحججه الذين يدعون الى طاعته ويقيمون الدين

ص: 337


1- نهج البلاغة:183 / الوصية بالتقوى.

ويعملون لتطبيق منهج الله تبارك وتعالى في الأرض وتتحقق نصرة الله بنصرة دينه وتحكيم شريعته واحكامه في واقع الحياة، قال تعالى {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ الله} (الصف:14) فنصرة الله تعالى تعني نصرة السائرين الى الله تعالى والهادين الى الله تعالى والعاملين لإعلاء كلمة الله تعالى، فهي نصرة لهؤلاء قال تعالى {وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (الحشر8) وإنما نسبها الى الله تعالى لأكثر من نكتة:1-لإعطائها أهمية بنسبتها الى الله تعالى ولو نُسِبَتْ النصرة الى رسوله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أو أوليائه فقط لكانت أقل زخماً لذا قرن الله تعالى نصرة رسوله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بنصرته تبارك وتعالى {وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (الحشر8).

2-للتنبيه الى شرط القبول وإعطاء الجزاء بأن تكون النصرة وسائر الأعمال خالصة لله تعالى اي ان الجزاء يتحقق حينما تكون نصرة اولياء الله تعالى نصرة لله، هذا الذي يقال في الاصول ان تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية، فقد ينصر الشخص رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أو الإمام ويخرج معه لكنه لهدف آخر غير خالص كالرياء أو الشهرة أو تحصيل منفعة دنيوية أو تعصباً لمدينته أو قبيلته ونحو ذلك فهذه النصرة لا قيمة لها عند الله تعالى.

في صحاح العامة عن أبي موسى قال (سُئل رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حميةً ويقاتل رياءً، أيُّ ذلك في سبيل الله؟ فقال:(من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله))(1).ي.

ص: 338


1- اخرجه الشيخان وابو داوود والترمذي والنسائي.

موارد من الالتفاتات حول الآية:

ونلفت النظر الى جملة امور قد لا يلتفت اليها الكثيرون ممن يتداولون هذه الآية ويجعلونها عنواناً لبياناتهم وخطاباتهم:

1-إن نصرة الله تعالى مفتوحة على كل المجالات وإن كان أرقاها والذي كانت الآيات بصدده هو القتال في سبيل الله لكن نصرة الله تعالى تتحقق بما لا يحصى من الطرق فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نصرة لله تعالى وغضب له أذا عُصي، وكذا دعوة الناس الى الله تعالى وهدايتهم وإصلاحهم، وتتحقق أيضاً بأي مشروع فيه رضا الله تعالى وصلاح العباد، وبأي حوار تردّ به الإشكالات الموجهة الى الدين أو فيها انتقاص من قادته العظام، وحينما نؤيد مسعى لتطبيق قوانين الله تعالى وأحكامه في حياة الناس كمشروع القانون الجعفري فهذه نصرة لله تعالى، وتتحقق أيضاً بأي خدمة تقدمها للناس المحتاجين لأنك بذلك تدفع عنهم الاعتراض على قضاء الله وقدره فهو نصرة لله تعالى ودفاع عنه كما ورد عن أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما سُئل عن لبسه القميص المرقّع البالي وتوزيعه المساعدات بنفسه على بيوت الفقراء والايتام قال: لكيلا يتبيّغ بالفقير فقره)(1) أي لكيلا يغلبه الفقر ويقهره فيؤدي الى الاعتراض على الله تبارك وتعالى.

وهكذا تتعدد أشكال نصرة الله تعالى ويتحقق معها الجزاء وهو أن ينصركم الله ويؤيدكم في سائر شؤونكم ويزيد من توفيقكم ويهيئ لكم الاسباب والمقدمات للتقدم ومزيد من الانتصارات، وكلما ازددت نصرة لله تعالى، زاد الله من نصرته لك وتسديدك.

ص: 339


1- نهج البلاغة 2: 204.

2-إن الكثيرين يستشهدون بالآية الى قوله تعالى (ينصركم) ويعتقدون ان هذا كافٍ وان هذا هو موضع الحاجة ولا يلتفتون الى ما هو أهم من النصر وهو الثبات عليه الذي ذكرته فإن النصر قد يتحقق لكنه لا يدوم لعدم توفير إمكانية المحافظة عليه، أو لأنهم بعد أن انتصروا تغيرّت نواياهم وانحرفت فلم يعودوا مستحقين للنصر، وتزول عنهم نعمة الانتصار ويكون بلا قيمة، كالجيش الذي يهجم على العدو ويأخذ مواقعه لكنه لا يستطيع الامساك بالأرض فيتراجع عنها ويعود العدو اليها وربما يستغل العدو هذا التراجع ويستفيد من زخم العودة ليتقدم أكثر في عمق هذا الطرف الذي انتصر اولاً، وكمثال من التاريخ نذكر ما حصل للمسلمين في معركة أُحُد فانهم انتصروا(1) في بداية المعركة لكنهم لما عصوا اوامر رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) واتبعوا اهوائهم والتفتوا الى جمع الغنائم لم يدم ذلك النصر وانقلب الى هزيمة وخسروا شهداء كثيرين، لذا كان التوجيه الرباني بعد ان فتح الله تبارك وتعالى مكة للنبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وللمسلمين ونصرهم على قريش بحسب سورة النصر {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ 1 وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا 2}فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا 3} (النصر:1- 3) فعليك ان تسبح الله وتنزهه عن اي وهم وظن بانك صاحب القدرة في تحقيق النصر وتستغفره من كل ما يفقدك هذا النصر ويزيل اسبابه، وهكذا التاريخ حافل بالمنقلبين على الاعقاب.

فقيمة الانتصار في الثبات عليه وإدامته بإدامة الأسباب الموجبة له، ولا شك48

ص: 340


1- أنظر: الكامل في التاريخ- ابن الأثير: 2/ 148

أن هذا التثبيت هو من مصاديق الجزاء (ينصركم) وأحد مفرداته فيكون من قبيل ذكر الخاص بعد العام كما يقال وانما ذكر تثبيت الاقدام مع انه داخل في عنوان (ينصركم) لأكثر من نكتة:أ-إلفات النظر اليه والاهتمام به.

ب-ولتمييزه عن ثبات آخر يسبق النصر لا بد أن يحققه العبد الناصر لربه بشجاعة وإصرار ليتحقق الانتصار على العدو كقول طالوت لما بارز جالوت الطاغية {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة250) فتلاحظ ان ثبات الاقدام كان مقدمة للنصر، فيوجد ثبات يسبق النصر وتثبيت يلحقه.

3-إن كل هذه الألوان من النصرة بما فيها القتال المؤدي الى الموت إنما هي على مستوى (الجهاد الأصغر)، والأسمى من ذلك تطبيق هذه المعادلة على (الجهاد الأكبر) أي على صعيد مجاهدة النفس ومنعها من اتباع الاهواء والشهوات وتطبيعها على طاعة الله تبارك وتعالى والورع والتقوى وتتجرد عما سوى الله تبارك وتعالى حتى تكون احبّ الى الشخص من نفسه ومن كل ما سوى الله تبارك وتعالى، وفي الحديث الشريف (أعدى أعداءك نفسك التي بين جنبيك)(1) فهي تهشّ الى المعصية ويزيّنها الشيطان فمقاومتها نصرة لله تبارك وتعالى على ادعائه الشيطان وأوليائه والنفس الأمارة بالسوء، وحينئذ ينصرك الله تعالى ويزيدك قوة وعزيمة ويرقّيك في درجات التكامل، من دعاء الصباح لأمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وَإِنْ خَذَلَنِي نَصْرُكَ عِنْدَ مُحارَبَةِ النَّفْسِ وَالشَّيْطانِ، فَقَدْ وَكَلَنِي خِذْلانُكَ إِلى حَيْثُ4.

ص: 341


1- عدة الداعي ص 314.

النَّصَبِ وَالحِرْمانِ)(1)، فاذا اعانك الله تعالى ونصرك على نفسك ونجحت في الامتحان وحققت تقدماً في هذه الاشهر المباركة او المشاهد المشرّفة او بحضورك مجالس الصالحين وفي المساجد وصلوات الجمعة والجماعة وغيرها فثبت عليه وادمه ولا تضيّعه بسبب شهوة او غضب او تزيين من شياطين الانس والجن، فان السقوط في الهاوية حينذٍ يكون مريعاً والعياذ بالله تعالى.ايها الاخوة:

أنتم بفضل الله تبارك وتعالى بإقامتكم لهذه الشعيرة المباركة:السير على الأقدام من حرم أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الى حرم الإمام الحسين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لزيارة الإمام الحسين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في النصف من رجب ولإحياء وفاة عقيلة الهاشميين السيدة زينب بنت أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وفاطمة الزهراء(س) بنت رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):وبإدامتكم لها منذ بضع سنوات:تنصرون الله تبارك وتعالى بعدة أشكال تتضح من خلال ما ذكرناه سابقاً فأسأل الله تعالى أن ينصركم ويثبت أقدامكم.4.

ص: 342


1- مفاتيح الجنان: 94.

القبس /144: سورة محمد:11

اشارة

{ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَولَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَأَنَّ ٱلكَٰفِرِينَ لَا مَولَىٰ لَهُم}

المولى بمعنى الولي الذي له ولاية ما خاصة كولاية السيد على العبد او عامة كولاية الله تعالى على خلقه في التصرف والتدبير وله سبحانه ولاية التشريع وهداية العباد إلى ما يصلح شؤونهم، والظاهر انها هنا تشير الى ولاية النصر والتأييد.

والآية تبين واحدة من ثمرات الايمان بالله تعالى وأحد الفروق بين المؤمنين وغيرهم وهو ان للمؤمنين مولى ورباً. يرعاهم ويدبر شؤونهم ويهديهم وينصرهم ويسدّدهم ويرشدهم ويشفق عليهم ويرحمهم بالرحمة والرعاية الخاصة (أما الولاية العامة فشاملة لجميع المخلوقات) قال تعالى {وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} (يونس:30).

أما غير المؤمنين بالله تعالى سواء كانوا من المنكرين للخالق والملحدين والمشركين الذين يعبدون آلهة أخرى من دون الله تعالى - وهو عنوان يشمل في بعض مراتبه الذين هم مسلمون بحسب العنوان الا أنهم عملياً لا يعبدون الله تعالى وإنما يطيعون شهواتهم ونزواتهم وغرائزهم وما تدعوه إليه انانيتهم ويقدّسون رموزاً ويطيعونها من دون عرض أفعالهم على ما يريده الله تعالى ويرضاه - فهؤلاء قد يكون لهم مولى وناصر ومعين من سلطة أو عشيرة أو مال أو جاه أو حزب أو

ص: 343

قوى خارجية يسمونها بالعظمى أو غيرها كقول المشركين للمسلمين يوم أحد (لنا العّزى ولا عزى لكم) فاجابهم المسلمون (الله مولانا ولا مولى لكم)(1) الا أن الآية الكريمة تعتبر هؤلاء الموالي أوهاماً لا قيمة لها وتنفي وجودهم على نحو الحقيقة (وان الكافرين لَا مَوْلَى لَهُمْ) فكأنهم لاشيء وهم كذلك، قال تعالى {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ} (العنكبوت:41) واذا أثبتت آيات أخرى ولاية لهؤلاء فأنما هي ولاية الاغواء والاضلال والافساد {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:27) {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِ-رُونَ} (الأعراف:202) {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَ-ئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:257).فمن لم يكن مولاه ومعبوده ومطاعه الله تعالى فان الهه هواه والشيطان شاء ام ابى {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (الفرقان :43) وان اعطى عناوين محببّه لها كأن يسمّون اتباع الاهواء الشخصية غير المنضبطة بالحرية وهي في الحقيقة عبودية للهوى. ويذكر القرآن الكريم الفرق بين المنهجين في الطاعة والاتباع كقوله تعالى {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة :268)

ولتقريب هذا الفرق بين الولايتين تصوّر وجود أطفال لهم أب يربّيهم30

ص: 344


1- أنظر: تاريخ الطبري: 2/ 202,- صحيح البخاري: 5/ 30

ويرشدهم ويصرف عليهم ويرعاهم ويدافع عنهم ويوفّر لهم أسباب الحياة الكريمة وأطفالاً آخرين أيتاماً ليس لهم من يعيلهم فهم في ضياع واحتياج وحرمان قد سقطوا في حبال عصابة شريرة مفسدة فاستخدمتهم لأغراضها الشيطانية، مع ان حاجتنا إلى رعاية الله تعالى لا تقارن بحاجة الأطفال إلى أبيهم أو أمهم.وتبين الآية التالية محل البحث النتيجة التي سيؤول إليها أمر الفريقين {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} (محمد:12).

ومظاهر هذه الولاية الإلهية في حياة الانسان لا تعد ولا تحصى، نجد في دعاء الافتتاح بياناً لجوانب منها (فَكَمْ ياإِلهِي مِنْ كُرْبَةٍ قَدْ فَرَّجْتَها، وَهُمُومٍ قَدْ كَشَفْتَها، وَعَثْرَةٍ قَدْ أَقَلْتَها، وَرَحْمَةٍ قَدْ نَشَرْتَها، وَحَلْقَةِ بَلاٍ قَدْ فَكَكْتَها) (1).

ومن مظاهر هذه الولاية الإلهية للناس انه تعالى أنزل لهم شريعة سمحاء تتكفل بسعادتهم في الدنيا وفلاحهم في الآخرة، وهذه الولاية يتنعمون فيها وبها حتى وهم في أشد الظروف قسوة ولعلهم يجدون في أنفسهم شيئاً لأن الله تعالى لم يستجب لدعائهم (فَإنْ أَبْطاء عَنِّي عَتِبْتُ بِجَهْلِي عَلَيْكَ، وَلَعَلَّ الَّذِي أَبْطَاءَ عَنِّي هُوَ خَيْرٌ لِي لِعِلْمِكَ بِعاقِبَةِ الاُمُورِ) فأنه تبارك وتعالى لم ولن يتخلى عنهم ولا يخلفهم وعده {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} (الشرح:5) ولكن التأخير لمصلحتهم أمارك

ص: 345


1- فقرات من دعاء الافتتاح الذي يقرأ في ليالي شهر رمضان المبارك

في الدنيا أو في الآخرة، بينما يتخبط غير المؤمنين بقوانين وأنظمة تجلب لهم الشقاء والتعاسة.وهذه الولاية الإلهية مستمرة في الحياة الدنيا وفي الآخرة ما بعد الموت، قال تعالى {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} (إبراهيم:27) وقال تعالى {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (غافر:51) وقال تعالى {الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (يونس:63-64) .

واذكر لكم مثالا على ولاية الله الشفيقة بعباده بعد الموت (قيل: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: لطفي بالعصاة من أهل القبور، كلما بليت أبدانهم غفرت لهم، وكلما صارت عظامهم نخرة محوت عنهم ذنوبهم جوداً مني وكرماً. يا موسى، إني لم أنسهم أحياء مرزوقين، فكيف أنساهم وهم موتى مقبورين، ما من عاصي عصاني حتى إذا كان في كرب الموت لم أنظر إلى جهله وتقصيره، ولكن أنظر إلى ضعفه ومسكنته، وإذا نظرت إلى حاله ألهمته وحدانيتي أريد له بها النجاة، الله لطيف بعباده، خلقي خلقتهم، وعبادي رزقتهم وجعلت ذنوبهم مستورة مغفورة، وجعلت لهم محمداً صلى الله عليه وسلم شفيعاً، وأن الله تعالى لا ينظر إلى شيء إلا رحمه، ولو نظر إلى أهل النار لرحمهم، ولكن قضى الله لا ينظر إليهم)(1)15

ص: 346


1- الزهر الفائح- ابن الجزري: 115

وفي المناجاة الشعبانية لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إِلَهِي لَمْ يَزَلْ بِرُّكَ عَلَيَّ أَيّامَ حَيَاتِي فَلاَ تَقْطَعْ بِرَّكَ عَنِّي فِي مَمَاتِي) أما البعيدون عن الله تعالى على اختلاف اشكالهم فأنهم حرموا أنفسهم من هذه الولاية الإلهية الخاصة {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَ-كِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (النحل:118) ومع ذلك فان الله تعالى لم يتخلى عنهم ولم يمنعهم من رحمته الواسعة (يا من يعطيّ من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنناً منه ورحمة) وبدلاً من ان يشعرهم هذا بالخجل والحياء من رب العالمين ويدعوهم إلى العودة إليه سريعاً فأنهم يتمادون في غيّهم وعصيانهم وابتعادهم عنه تبارك وتعالى (فَلَمْ أَرَ مَوْلىً كَرِيماً أَصْبَرَ عَلى عبْدٍ لَئِيمٍ مِنْكَ عَلَيَّ يارَبِّ، إِنَّكَ تَدْعُونِي فَأُوَلِّي عَنْكَ، وَتَتَحَبَّبُ إِلَيَّ فَأَتَبَغَّضُ إِلَيْكَ، وَتَتَوَدَّدُ إِلَيَّ فَلا أَقْبَلُ مِنْكَ، كَأَنَ لِيَ التَّطَوُّلَ عَلَيْكَ، فَلَمْ يَمْنَعْكَ ذلِكَ مِنَ الرَّحْمَةِ لِي وَالاِحْسانِ إِلَيَّ، وَالتَّفَضُّلِ عَلَيَّ بِجُودِكَ وَكَرَمِكَ، فَأرْحَمْ عَبْدَكَ الجاهِلَ، وَجُدْ عَلَيْهِ بِفَضْلِ إِحْسانِكَ إِنَّكَ جَوادٌ كَرِيمٌ) (1) فليعتز المؤمنون بهذه النعمة الإلهية العظيمة وليقولوا كما قال الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعاءه يوم عرفة مفتخرا برّبه العظيم (ماذا وجد من فقدك وما الذي فقد من وجدك) وليجدّوا ويجتهدوا في دعوة غيرهم إليها {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى:11) ولتكن دعوتهم برفق ولين وحجة وبرهان {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل:125).رك

ص: 347


1- فقرات من دعاء الافتتاح الذي يقرأ في ليالي شهر رمضان المبارك

القبس /145: سورة محمد:19

اشارة

{فَٱعلَم أَنَّهُۥ لَا إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ}

موضوع القبس:نبذ الآلهة من دون الله تعالى

ما المراد من رمي الجمرات؟

موضوع القبس:نبذ الآلهة من دون الله تعالى(1)

من مناسك الحج رمي الجمرات الثلاث في منى بالحصى، وقد ورد في الروايات عن أصلها(2) بأن خليل الرحمن إبراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما أخذ ولده إسماعيل لذبحه امتثالاً لأمر الله تبارك وتعالى اعترضه إبليس في الموضع الأول ليردّه ويخذلّه ويحرّك عواطفه حتى يتراجع عن تنفيذ ما أمر الله تعالى فرماه إبراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالحصى فانهزم اللعين، ثم تمثّل له مرة أخرى في الموضع الثاني والثالث وكان رد إبراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الحازم هو هو فتحوّل إلى منسك يؤديه الموحدّون لرمي الشياطين.

وقد يثار هنا إشكال حاصله إن رمي الجمرات في الإسلام تعبير عن نبذ أصنام الجاهلية ورفض عبادتها، وقد كان هذا العمل مبرراً وله وجه في صدر الإسلام حيث كانوا حديثي عهد بالجاهلية فأراد لهم الشارع المقدس قلع عبادة

ص: 348


1- أقام سماحة الشيخ (دام ظله) صلاة الجمعة الثانية في مقر إقامته في مكة المكرمة يوم 6/ذو الحجة/1431 المصادف 12/ 11/ 2010، وما في المتن هو الخطبة الثانية منها.
2- أنظر: علل الشرائع- الشيخ الصدوق: 2/ 432

الأصنام بالكلية من داخل نفوسهم وترسيخ رفضها، أما اليوم حيث لم تعد توجد أصنام تُعبد من دون الله تعالى فلا يبقى معنى لأداء هذا المنسك. وأجوبة هذا الإشكال عديدة نريد أن نجعل واحداً منها محور خطبتنا.

الاصنام التي تعبد من دون الله تعالى:

وهو أن الأصنام والآلهة التي تُعبد من دون الله تعالى عديدة ومتنوعة وباقية ما بقي البشر إلا أن يملأ الله تبارك وتعالى الأرض قسطاً وعدلاً ويبسط كلمة التوحيد على إرجاء الأرض، ولئن زال أحد أشكالها وهي الأصنام والأوثان التي تُصنع من الحجر والخشب وربما التمر ثم تعبد من دون الله وتقدس وتقدم لها النذور والقرابين، فإن أشكالاً أخرى من الأصنام تعبد وتقدس وهي أشد وطئاً على الإنسان وأكثر إذلالاً للبشرية وتكلف الناس أضعاف ما كانت تكلفهم تلك الأصنام، وأولها هوى النفس وشهواتها وأطماعها وغرائزها التي يطيعها الإنسان ويسعى لتنفيذ إرادتها ويخضع لسلطتها وإن كان في ذلك معصية الله تبارك وتعالى، فأصبح الهوى إلهاً يعبد من دون الله تعالى لأن معنى العبادة هي الطاعة والانقياد والاستسلام بحيث ورد عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(من أصغى إلى ناطق فقد عبده فإن كان الناطق يؤدي عن الله عز وجل فقد عبد الله وإن كان الناطق يؤدي عن الشيطان فقد عبد الشيطان)(1)، وقد سمى الله تبارك وتعالى الهوى إلهاً في قوله تعالى {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ...} (الجاثية:23)، كم من تاجر تعرض له معاملة مشبوهة ينهى عنها الشرع المقدس

ص: 349


1- الكافي: ج6 ص434.

لكن ربحها يسيل لعابه ويثير طمعه فيرتكبها؟ وكم من امرأة تعلم أن السفور حرام وإن إبداء مفاتنها أمام الرجل الأجنبي معصية فتفعله إرضاءً لغرائزها؟ وكم من شاب يعلم أن الصلاة واجبة عليه وأنها عمود الدين وهوية المسلم لكنه يتركها كسلاً وحباً للراحة والدعة؟ أليس كل هؤلاء وأمثالهم قد نصبوا من أهوائهم وأنفسهم الأمّارة بالسوء أصناماً وآلهة يعبدونها ويطيعونها من دون الله تبارك وتعالى؟

التشريعات البشرية:

وثاني الآلهة التشريعات التي تُسنُّها عقول الناس القاصرة وبحسب ما يقدرونها من مصالح بنظرهم الضيّق ويتعبدون بها ويلتزمون بها ويعاقبون على مخالفتها من دون الرجوع إلى شريعة الله تبارك وتعالى تحت عناوين مختلفة كالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان وحاكمية الشعب والقوانين والدساتير الوضعية وغيرها، وهذا الوضع قائم حتى في الدول التي تصف نفسها بأنها إسلامية، وقد ذكر الله تبارك وتعالى هذه الآلهة وهذه الأرباب في قوله تعالى:{اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَ-هاً وَاحِداً لاَّ إِلَ-هَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْ-رِكُونَ} (التوبة:31) وورد في تفسيرها عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم ما أجابوهم، ولكن أحلوا لهم حراماً، وحرموا عليهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون)(1) فانطبق عليهم اتخاذهم أرباباً

ص: 350


1- الكافي: ج6 ص434.

من دون الله تعالى لأنهم شرّعوا لهم من أنفسهم قوانينَ تحكمهم من دون الرجوع إلى الشريعة الإلهية.وهذه الرواية تنطبق على كثير مما يجري في مجتمعاتنا كبعض القوانين التي يسنّها البرلمان، والسنينة العشائرية التي يضعها ناس جاهلون بأحكام الشريعة وتفاصيلها فتأتي مليئة بالمظالم والفساد والانحراف.

آلهة الأعراف والتقاليد غير الصحيحة:

ومن الآلهة الأخرى الأعراف والتقاليد الاجتماعية التي يضعها الناس ثم يعطونها قداسة وأهمية بحيث لا يستطيع الفرد الخروج عنها خشية العار والفضيحة والضغط الاجتماعي ونحوها.

فبعض السادة التزموا بعدم تزوج بناتهم العلويات إلا من سادة ولو أدى ذلك إلى عنوستهن وحرمانهن من هذا الحق المقدس رغم إقدام الشباب الأكفاء على خطبتهن، أو إلزامهن التزويج من أبن العم فلو نهى عليها ابن عمها فلا يحق لأي أحدٍ خطبتها ولو أعرض عنها ابن العم ولم يتزوجها.

أو المغالاة في المهور الذي حرم الكثير من الشباب عن التفكير في الزواج لعدم قدرته على هذه التكاليف الباهظة، وكل هذه الأعراف والتقاليد مخالفة للشريعة ولوصايا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الذي روي عنه:(إن جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوّجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفسادٌ كبير)(1) وقوله

ص: 351


1- عوالي اللئالي: ج3 ص340.

(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(النكاح سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني)(1) ومثلهم بعض النساء اللواتي يلزمن أزواجهن بتوفير احتياجات باهظة كلبس بدلة جديدة في كل مناسبة أو تغيير أثاث بيت في كل سنة أو موسم مما يكلف الزوج كثيراً وقد يضطر إلى الإغماض عن مصدر الأموال الواردة إليه ليلبي رغبة امرأته، فهؤلاء يعبدون هذه الأعراف والتقاليد ويقدّسونها من دون الله تعالى.

الحكام والطواغيت:

ومن تلك الآلهة الحكام والطواغيت الذين يريدون من شعوبهم الاستسلام لهم وتنفيذ أطماعهم ونزواتهم والتضحية من أجل إدامة حكمهم وتقديم الشعب كله قرابين لهم، وهكذا سائر النظم الاقتصادية والسياسية والقوانين الوضعية المتبعة في المحاكم والكيانات المتنفذة كالمصارف وغيرها مما صنعه البشر من دون الرجوع إلى حكم الله تعالى {آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ} (يونس:59).

كونوا موحدين:

هذه نماذج من الآلهة التي تُعبد وتطاع من دون الله تعالى ومن الأصنام التي لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً ولكنها تُقدَّس وتُتخذ أرباباً للبشر الذين يصنعونها بأيديهم ويعلمون أنها زائفة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً

ص: 352


1- كنز العمال: ج16 ص272.

لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} (الحج:73)، يَسخر الناس اليوم من عقول أسلافهم في الجاهلية ويسخفونهم حيث اتخذوا آلهة من أصنام يصنعونها بأيديهم وهاهم اليوم يفعلون فعلتهم وينقادون لأصنام وآلهة من صنعهم وإن كان من نوعٍ آخر.هذه الحقيقة التي يدمغ اللهُ تبارك وتعالى بها الناس في قوله تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف:106).

موعظة الشيخ جعفر الشوشتري:

نُقل عن الواعظ الشهير الشيخ جعفر الشوشتري (توفي عام 1303 هجرية) صاحب كتاب الخصائص الحُسينية وقد كان له منبر وعظ في الصحن الحيدري الشريف يحضره المجتهدون والعلماء والفضلاء وعامة الناس، نُقل عنه أنه قال يوماً:أيها الناس أن مئة وأربع وعشرين ألف نبي بعثهم الله تعالى كلهم يقولون للناس:(كونوا موحدين وأنا أقول كونوا مشركين) فتعجب الناس من كلامه ولم يفهموا مرامه فأمهلهم حتى قال لهم:(إنكم أصبحتم كلكم للدنيا وأنا أدعوكم إلى أن تجعلوا لله نصيباً من حياتكم فأشركوه في أعمالكم).

خسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيباً:

وستجدون في دعاء الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم عرفة:(إلهي عميت عينٌ لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيباً)(1) وهذه هي الخسارة الحقيقية أن لا يخلص الإنسان عمله لله تبارك وتعالى ويوحّد هدفه في

ص: 353


1- مفاتيح الجنان: ص331.

هذه الحياة ليجعله رضا الله تبارك وتعالى، ولا يُثبت على الصراط المستقيم ويتيه يمنة ويسرة بين هذه الآلهة والأرباب المصطنعة.إن رسول الله (ص وسلم) بُعث ليحرّر الإنسان من هذه التبعية المقيتة التي تُكبّله بقيود وأغلال وآصار تعيقه عن التكامل ونيل رضوان الله تبارك وتعالى {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَ-ئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف:157)، فلا يحق للإنسان الحر أن يعيد إلى عنقه تلك الأغلال ويحيط نفسه بتلك القيود.

وهذه بعض معاني رمي الجمرات أن نرفض كل الآلهة التي تُعبد وتُطاع والأرباب التي تتخذ من دون الله تبارك وتعالى.

ص: 354

القبس /146: سورة محمد:38

اشارة

{وَإِن تَتَوَلَّواْ يَستَبدِل قَومًا غَيرَكُم ثُمَّ لَا يَكُونُواْ أَمثَٰلَكُم}

موضوع القبس:سنة الاستبدال

من السنن الإلهية:

تبيّن الآية سنة إلهية وقانوناً ثابتاً وفي نفس الوقت توجّه تحذيراً لكل الناس، مفاده أن المشروع الإلهي الذي حملته رسالة الاسلام العظيمة ماضٍ وسائر في طريق تحقيق الأهداف المرسومة له، وإنَّ تقاعسَ واعراض البعض –مهما كثر عددهم- لا يعرقل هذه المسيرة الإلهية وإنما تُعرض الرسالة عليهم وتطلب النصرة منهم لطفاً بهم من الله تعالى وامتناناً عليهم ليحصلوا على شرف المشاركة وثواب العاملين في الدنيا والآخرة، فإذا أعرضوا عن هذا التكليف ولم يتحملوه فإنهم هم الخاسرون وسيوفق الله تعالى أقواماً غيرهم لينهضوا بهذه المسؤولية ويحصلوا على نتائجها المباركة.

والخطابات القرآنية عامة شاملة لكل الأجيال ولكل الأزمان فلا يتصور أحد أن هذه الآية خاصة بالقوم الذين كانوا حول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وإنه تهديد لهم فقط، وإنما هي سنة إلهية عامة ثابتة {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر:43) وقد أشارت عدة آيات قرآنية إلى هذه السنة الإلهية ،قال تعالى {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُ-رُّوهُ

ص: 355

شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (التوبة:39) {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} (الواقعة:60- 61) ،{إِنَّا لَقَادِرُونَ، عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} (المعارج:41).

لماذا التقاعس والارتماء في الايديولوجيات الفاسدة؟

وقد تركت الآية كلمة (تتولوا) بلا ذكر لمتعلقها، وإن التولي يكون عن ماذا؟ لتكون مطلقة وتكون السُنة جارية في كل تولي واعراض سواء تعلق بأصول الدين أو فروعه أي مطلق طاعة الله تعالى.

إذ من الناس من يعرض ويتولى عن أصل الإيمان والدين ويتجرد منه ويتحول إلى لا ديني ويتبنى أفكاراً وأيديولوجيات مناهضة للدين ومشككة فيه بأي عنوان كان كالملحد أو الكافر ونحو ذلك، وهذا المورد من التولي والاعراض ذكرته آية أخرى قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} (المائدة:54).

ومنهم من يؤمن نظرياً بالإسلام لكنه لا يقوم بالتزاماته وقد ذكرت الآيات المتقدمة على الآية محل البحث من سورة الحديد صوراً من الخذلان الذي يصيب الانسان كعدم الانفاق في سبيل الله تعالى وكالقعود عن الجهاد في آية سورة التوبة المتقدمة، أو أي فرصة من فرص الطاعة التي يهيئها الله تعالى للإنسان كمساعدة محتاج أو قضاء حاجة مؤمن فإنه إن فوّتها ولم يستثمرها فإن الله تعالى سيقيِّض من يقوم بها وهو شاكر لله تعالى على توفيقه.

ص: 356

الإعراض عن طاعة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):

ولا شك أنّ من أكثر الموارد التي تظهر فيها هذه السنة الإلهية هي طاعة من أمر الله تعالى بطاعته وهو النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومن بعده الأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ثم العلماء العاملون المخلصون النوّاب عن الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في غيبته، فإنّ من يتقاعس عن طاعتهم والالتزام بتوجيهاتهم فضلاً عمّن يشكّك فيهم ويفتري عليهم ويسقّطهم فإن التوفيق يُسلبُ منه ويُمنَح إلى آخرين مطيعين مخلصين {ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (محمد:38) بل يكونون ثابتي الإيمان ذوي همم عالية وإصرار على العمل.

وهذا الابتلاء مرّت به الامم ففشل اكثرهم وتولّوا واعرضوا فاصيبوا بأسوء النتائج، ماذا كان دعاء أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حينما خذله أصحابه وتقاعسوا وتفرقوا، (قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في سحرة اليوم الذي ضُرب فيه:ملكتني عيني وأنا جالس، فسنح لي رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقلت:يا رسول الله، ماذا لقيتُ من امتك من الأَوَد –أي الاعوجاج- واللَدد- أي الخصام-؟ فقال:ادع عليهم، فقلتُ:أبدلني الله بهم خيراً منهم وأبدلهم بي شراً لهم مني)(1).

نموذج معاصر من الإعراض عن طاعة الله تعالى:

خذ مثلاً السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) فإن كثيراً من العناوين الكبيرة وغيرهم داخل الحوزة وخارجها خذلوه وعارضوه وشككوا فيه وفي حركته فحرموا من هذا اللطف الإلهي، وهيّأ الله تعالى للسيد الشهيد شباباً مليئين بالإيمان

ص: 357


1- نهج البلاغة: 135، الخطبة 70.

والحيوية والتفاني أخذوا المواقع المخصّصة لأولئك الذين حرموا أنفسهم من هذا الفضل العظيم، واستمرت هذه الحركة المباركة حتى بعد استشهاده ومرور (16) سنة على رحيله، لكن صدى حركته اليوم وآثارها المباركة أوسع مما كانت في حياته الشريفة.

نموذج تاريخي في وجدان الطف:

وإذا أردنا أن نعرّج على كربلاء ونأخذ الشواهد منها، فهناك شخصان نقرّب جريان سنة الاستبدال عليهما بحسب الظاهر.

أحدهما:عبيد الله بن الحر الجعفي أحد الفرسان المعروفين بالفتك وهو معدود من شيعة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وله نسخة يرويها عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) – بحسب رجال النجاشي-، التقاه الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في طريقه إلى كربلاء ودعاه إلى نصرته فامتنع عبيد الله عن الإجابة وقدّم للحسين فرسه المسماة بالمحلّقة وقال ((هذه فرسي المحلّقة فاركبها فوالله ما طلبت عليها شيئاً إلاّ أدركته ولا طلبني أحد إلا فتّته حتى تلتحق بمأمنك وأنا ضمين بعيالاتك أؤديهم إليك))، فقال الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(لا حاجة لنا فيك ولا في فرسك، وما كنت متخذ المضلّين عضداً)(1) فنصحه الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بأن يغيّب وجهه ولا يشهد واعيته وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فوالله لا يسمع اليوم واعيتنا أحد ثم لا يعيننا إلاّ كبّه الله على منخريه في النار).

ثانيهما:الحر الرياحي الذي كان قائداً كبيراً في جيش الأمويين وهو الذي

ص: 358


1- راجع تفصيل ترجمته ومصادرها في أدب الطف للمرحوم الخطيب السيد جواد شبر: 1/ 94-100.

قاد الكتيبة التي اعترضت الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في طريقه ومنعته من العودة إلى أهله ودياره ورافقته حتى نزل كربلاء لكنه في لحظة من لحظات التوفيق والألطاف الإلهية وقف وتأمل في مصيره وعاقبته وخيّر نفسه بين الدنيا المزخرفة التي كان يتمتع بها في ركاب بني أمية لكن عاقبتها النار، وبين القتال والشهادة بين يدي أبي عبد الله الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وختامها مسك والفوز والجنة ورضوان الله فقال كلمته التي نقلت عبر الأثير إلى كل الأجيال (لا أختار على الجنة شيئاً أبداً) (1).محل الشاهد ان هذا المقعد في قافلة شهداء الخلود لما تولى عنه عبيد الله وأعرض عنه ملأه غيره وهو الحر الرياحي وفاز به ومضت القافلة في طريقها، وبقي عبيد الله نادماً متحسراً على تفويت هذه الفرصة فالتحق بالمختار لأخذ الثأر ثم اختلف معه والتحق بمصعب ثم اختلف معه وقاتله. ومن شعره المعبّر عن عظيم حسرته:

فيا لَكِ حسرةً ما دمتُ حياً *** تَردُّد بين حلقي والتراقي

حسين حين يطلبْ بذل نصري *** على أهل الضلالة والنفاق

غداة يقول لي بالقصر قولاً *** أتتركنا وتزمع بالفراق

ولو أني أواسيه بنفسي *** لنلت كرامة يوم التلاق

مع ابن المصطفى نفسي فداه *** تولى ثم ودّع بانطلاق

فلو فلق التلهف قلبَ حي *** لهمَّ اليوم قلبي بانفلاق21

ص: 359


1- تاريخ الطبري: 4/ 325,- مقتل الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- أبو مخنف الأزدي: 121

فقد فاز الاولى نصروا حسيناً *** وخاب الآخرون إلى النفاق(1)

الهزيمة الداخلية هي التي انتجت الاستبدال:

ولابد أن نلتفت إلى أن هذا الاستبدال من الله تعالى ما كان ليحصل في الخارج إن لم يسبقه استبدال في داخل النفس من قبل الشخص نفسه فاستحق ذلك التبديل {أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} (التوبة:38) {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} (البقرة:61) .

وهذا كله تطبيق لسنة الله تعالى {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد:11) سواء بإتجاه الخير أو الشر، ولذا كان من الادعية الواردة عن اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) (وتجعلني ممن تنتصر به لدينك ولا تستبدل بي غيري)(2).

فعلينا أن نكون حذرين يقظين ونبادر إلى أي فرصة للطاعة ولا نفوّتها أو نؤخرها أو نعتقد أنه لا أحد يستطيع أن يأخذها منّا ويملأ مكاننا فيها، فإن الله تعالى غني عن خلقه ويستبدل بالمقصرين والعاصين من يحبّهم الله تعالى ويحبونه ثم لا يكونوا أمثالكم.

ص: 360


1- أدب الطف أو شعراء الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) للمرحوم السيد جواد شبر: 1/ 96.
2- مفاتيح الجنان :327 ادعية ليالي شهر رمضان.

القبس /147: سورة الفتح:2

اشارة

{لِّيَغفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَن ۢبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}

موضوع القبس:معنى استغفار المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من الذنوب

إثارة لإشكال:

عند تلاوة هذه الآية يُثار سؤال أو إشكال من جهة المنافاة ظاهراً بين ما نعتقده من عصمة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وعدم صدور الذنب والمعصية منهم، وبين ما يظهر من الآية من الأخبار عن صدور الذنب من النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ويكون الإشكال أوضح في الإقرار والاعتراف الوارد في الأدعية والمناجاة عن الأئمة (سلام الله عليهم).

مثلاً ما ورد في دعاء الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم عرفة:(ثم إني يا إلهي المعترف بذنوبي فاغفرها لي، أنا الذي أخطأت أنا الذي هممت، أنا الذي جهلت..) إلى أن يقول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إلهي أمرتني فعصيتك ونهيتني فارتكبت نهيك).

ومثل هذا الاعتراف بالذنب بين يدي الله تبارك وتعالى تكرر كثيراً في أدعيتهم ومناجاتهم (سلام الله عليهم) كقول الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعاء أبي حمزة:(أنا يا رب الذي لم أستحيك في الخلاء ولم أراقبك في الملأ أنا صاحب الدواهي العظمى أنا الذي على سيده اجترا، أنا الذي عصيت جبار السما، أنا الذي أعطيت على معاصي الجليل الرُشى، أنا الذي حين بُشرت بها خرجت إليها أسعى،

ص: 361

أنا الذي أمهلتني فما ارعويت وسترت عليَّ فما استحييت وعملت بالمعاصي فتعديت)(1).

جواب الإشكال:

ويقال في الجواب أحياناً أنهم إنما يتحدثون بلسان الناس الآخرين لأنهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في مقام التعليم للناس فيلقنونهم ما يقولون عندما يقفون بين يدي الله تبارك وتعالى، كما علّم الله تعالى عباده في سورة الحمد ما يقولون عندما يقفون بين يدي الله تبارك وتعالى في الصلاة وغيرها.

وهذا الجواب قد يناسب صدور بعض تلك الأدعية لكنه لا يفسّرها كلها، لأن الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يعبر فيها فعلاً عن وجدانه وعن مشاعره تجاه الخالق العظيم.

ويروى هذا الجواب عن ابن طاووس، فقد قال الأربلي في كشف الغمة:(كنت أرى الدعاء الذي كان يقوله أبو الحسن موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في سجدة الشكر وهو (ربِّ عصيتك بلساني ولو شئت وعزّتك لأخرستني، وعصيتك ببصري ولو شئتَ وعزتك لأكمهتني.. وعصيتك بجميع جوارحي التي أنعمتَ بها عليّ لم يكن هذا جزاك مني) فكنت أفكر في معناه وأقول كيف يتنزل على ما تعتقده الشيعة من القول بالعصمة وما اتضح لي ما يدفع التردد الذي يوجبه).

فاجتمع بالسيد علي بن طاووس (قدس الله روحه) وسأله عن ذلك فقال:(إن الوزير مؤيد الدين العلقمي (رحمه الله) سألني عنه فقلت كان يقول هذا ليعلم الناس، ثم إني فكرت بعد ذلك فقلت هذا كان يقوله في سجدته في الليل وليس عنده

ص: 362


1- مفاتيح الجنان:240

من يعلّمه).(ومات السيد ابن طاووس (رحمه الله) فهداني الله إلى معناه ووفقني على فحواه فكان الوقوف عليه والعلم به وكشف حجابه بعد السنين المتطاولة والأحوال المحرمة والأدوار المكررة من كرامات الإمام موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ومعجزاته ولتصح نسبه العصمة إليه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وتصدق على آبائه وأبنائه البررة الكرام وتزول الشبهة التي عرضت من ظاهر هذا الكلام.

وتقريره أن الأنبياء والأئمة ع تكون أوقاتهم مشغولة بالله تعالى وقلوبهم مملوءة به وخواطرهم متعلقة بالملأ الأعلى وهم أبداً في المراقبة كما قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) اعبد الله كأنك تراه فإن لم تره فإنه يراك.

فهم أبداً متوجهون إليه ومقبلون بكلهم عليه فمتى انحطوا عن تلك الرتبة العالية والمنزلة الرفيعة إلى الاشتغال بالمأكل والمشرب والتفرغ إلى النكاح وغيره من المباحات عدوه ذنباً واعتقدوه خطيئة واستغفروا منه.

ألا ترى أن بعض عبيد أبناء الدنيا لو قعد وأكل وشرب ونكح وهو يعلم أنه بمرأى من سيده ومسمع لكان ملوماً عند الناس ومقصراً فيما يجب عليه من خدمة سيده ومالكه فما ظنك بسيد السادات وملك الأملاك. وإلى هذا أشار (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه ليران على قلبي وأني لأستغفر بالنهار سبعين مرة ولفظه السبعين إنما هي لعد الاستغفار لا إلى الرين وقوله حسنات الأبرار سيئات المقربين)(1).

ثم قال:(ونزيده إيضاحاً من لفظه ليكون أبلغ من التأويل ويظهر من قوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(وعصيتك بفرجي ولو شئت وعزتك لأعقمتني) أعقمتني والعقيم الذي لا8.

ص: 363


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: 3/ 47-48.

يولد له والذي يولد من السفاح لا يكون ولداً فقد بان بهذا أنه كان يعد اشتغاله في وقت ما بما هو ضرورة للأبدان معصية يستغفر الله منها وعلى هذا فقس البواقي وكلما يرد عليك من أمثالها).

وجوه أخرى لجواب الإشكال:

وقد ذكر العلامة المجلسي (قدس سره) هذا الوجه ووجوهاً أخرى لفهم صدور هذه الأقوال منهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، قال (قدس سره):((فأما ما يوهم خلاف ذلك –أي عصمتهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- من الأخبار والأدعية وهي مؤولة بوجوه:

1-أن ترك المستحب وفعل المكروه قد يسمى ذنباً وعصياناً بل ارتكاب بعض المباحات أيضا بالنسبة إلى رفعة شأنهم وجلالتهم ربما عبروا عنه بالذنب لانحطاط ذلك عن سائر أحوالهم كما مرت الإشارة إليه في كلام الأردبلي (رحمه الله).

2-إنهم بعد انصرافهم عن بعض الطاعات التي أُمروا بها من معاشرة الخلق وتكميلهم وهدايتهم ورجوعهم عنها إلى مقام القرب والوصال ومناجاة ذي لجلال ربما وجدوا أنفسهم لانحطاط تلك الأحوال عن هذه المرتبة العظمى مقصرين، فيتضرعون لذلك وإن كان بأمره تعالى، كما أن أحداً من ملوك الدنيا إذا بعث واحداً من مقربي حضرته إلى خدمة من خدماته التي يحرم بها من مجلس الحضور والوصال فهو بعد رجوعه يبكي ويتضرع وينسب نفسه إلى الجرم والتقصير لحرمانه عن هذا المقام الخطير.

3-إن كمالاتهم وعلومهم وفضائلهم لما كانت من فضله تعالى، ولولا ذلك لأمكن أن يصدر منهم أنواع المعاصي، فإذا نظروا إلى أنفسهم وإلى تلك

ص: 364

الحال أقروا بفضل ربهم وعجز نفسهم بهذه العبارات الموهمة لصدور السيئات فمفادها أني أذنبت لولا توفيقك، وأخطأت لولا هدايتك)).أقول:هذا المعنى ذكره الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في أدعيتهم كما في دعاء الصباح عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إلهي إن لم تبتدئني الرحمة منك بحسن التوفيق، فمن السالك بي إليك في واضح الطريق؟ وإن أسلمتني أناتك لقائد الأمل والمنى فمن المقيل عثراتي من كبوات الهوى؟ وإن خذلني نصرك عند محاربة النفس والشيطان فقد وكلني خذلانك إلى حيث النصب والحرمان).

4-(إنهم لما كانوا في مقام الترقي في الكمالات والصعود على مدارج الترقيات في كل آن من الآنات في معرفة الرب تعالى وما يتبعها من السعادات فإذا نظروا إلى معرفتهم السابقة وعملهم معها اعترفوا بالتقصير وتابوا منه، ويمكن أن ينزل عليه قول النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(وإني لاستغفر الله في كل يوم سبعين مرة)).

أقول:هذا معنى مجرَّب في حياتنا فالعالم أو الباحث الذي ينضجّ علمه ويتعمق ويتسع تدريجياً عندما يراجع ما كتبه وما قدّمه قبل سنين فإنه يخجل منه ويعترف بالتقصير إزاءه وربما يطلب إتلافه وتغييبه مع أنه كان يمثل قدراته في ذلك الوقت وكان مقتنعاً به، إلا أنه لما ترقّى صار يراه موجباً للخجل والاعتذار.

أما كونهم (صلوات الله عليهم أجمعين) في ارتقاء وزيادة حتى بعد وفاتهم فهذا ما نطقت به الروايات لذا ورد الحث على الدعاء لهم بطلب الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود والصلاة عليهم، وورد في ذلك قول الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(لولا أنّا نزداد لأنفدنا)(1).م.

ص: 365


1- أصول الكافي: ج1، كتاب الحجة، باب: لو أن الأئمة يزدادون لنفد ما عندهم.

5-إنهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما كانوا في غاية المعرفة لمعبودهم فكل ما أتوا به من الأعمال بغاية جهدهم ثم نظروا إلى قصورها عن أن يليق بجناب ربهم عدوا طاعاتهم من المعاصي واستغفروا منها كما يستغفر المذنب العاصي.

ومن ذاق من كأس المحبة جرعة شائقة لا يأبى عن قبول تلك الوجوه الرائقة، والعارف المحب الكامل إذا نظر إلى غير محبوبه أو توجه إلى غير مطلوبه يرى نفسه من أعظم الخاطئين، رزقنا الله الوصول إلى درجات المحبين))(1).

وهذا المعنى عرفي أيضاً فإن من حلّ به ضيف عالي الشأن وقدّم له غاية جهده إلا أنه يواصل اعتذاره عن التقصير، لأنه يرى أن ما قدّمه وإن كان كل ما يستطيع تقديمه إلا أنه بلحاظ مقام ذلك الضيف يرى كل ما قدّمه موجباً للخجل والاعتذار.

وجوه أخرى لفهم معنى استغفارهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من الذنوب:

ونضيف وجوهاً أخرى إلى ما ذكره (قدس سره) مع المحافظة على الترتيب:

6-إنهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يستغفرون من الذنوب التي تحسب عليهم بما اجترح أتباعهم، وهذا معنى أخلاقي جرت عليه السيرة العقلائية، فإن المرجع يتحمل أوزار أتباعه إذا أساؤوا، والأب يعتبر نفسه مسؤولاً عما جناه ابنه، والمدير لمؤسسةٍ ما يعتبر نفسه مسؤولاً عن تقصير أحد موظفيه، أو خيانتهم، فيقدم الاعتذار ويتحمّل التبعة وقد يستقيل من موقعه.

ص: 366


1- بحار الأنوار: 25/ 210.

فالمعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) يستغفرون الله تعالى من التبعات التي لحقتهم بسبب سوء تصرفات أتباعهم بل هم آباء لهذه الأمة بنص الحديث النبوي الشريف:(يا علي أنا وأنت أبوا هذه الأمة)(1)، فما يصدر من الأمة يحسب عليهم.ووردت في بعض الروايات كما في تفسير القمي بسنده عن عمر بن يزيد قال:(قلت لأبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قول الله عز وجل في كتابه {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):ما كان له ذنب ولا همَّ بذنب ولكن الله حمّله ذنوب شيعته ثم غفرها له)(2).

لذا وردت الوصايا عن المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لشيعتهم:(كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً)(3).

7-إنهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يعتبرون أنفسهم مذنبين ومقصّرين ما دام يوجد فرد في هذه الدنيا لم يتكامل ولم يحقق العبودية الكاملة في حياته، لأن هذا يعني أنهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لم يحققوا هدفهم ولم تنجح وظيفتهم بشكل كامل وهي بسط التوحيد الخالص في الأرض، فكيف إذا كانت أكثر البشرية ضالة {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف:103).

وهذا النقص في تحقيق الغرض وإن كان بسبب خارج عنهم وهو سوء اختيار المتلقي من الناس وعدم استجابتهم لداعي الحق، أي في قابلية القابل وليس في فاعلية الفاعل كما يعبّرون، إلا أنهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على أي حال يشعرون بالذنب84

ص: 367


1- بحار الأنوار- المجلسي: 36/ 11
2- تفسير القمي: 2/ 290 وأوردها عنه العلامة المجلسي في البحار: 17/ 89 ح19.
3- الأمالي- الشيخ الصدوق: 484

والتقصير وحرقة القلب لعدم اكتمال أهداف رسالتهم، ويطلبون من الله تعالى العفو والصفح.ولذا وردت تطمينات من الله تبارك وتعالى لنبيه وعفو عن مسؤولية هذه النتائج المؤسفة، وتطييب لقلبه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، قال تعالى:{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ(1) نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} (الكهف:6) وقال تعالى:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (الشعراء:3).

8-في ضوء الحديث المروي عن أبي جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):لم يُعبد الله عز وجل بشيء أفضل من العقل، ولا يكون المؤمن عاقلاً حتى يجتمع فيه عشر خصال) إلى أن قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(والعاشرة وما العاشرة:لا يرى أحداً إلا قال:هو خير مني وأتقى، إنما الناس رجلان فرجلٌ هو خير منه وأتقى، وآخر هو شر منه وأدنى، فإذا رأى من هو خير منه وأتقى تواضع له ليلحق به، وإذا لقي الذي هو شرٌّ منه وأدنى قال:عسى خير هذا باطن وشره ظاهر، وعسى أن يختم له بخير، فإذا فعل ذلك فقد علا مجده، وساد أهل زمانه)(2).

أقول:عقول المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) هي أكمل العقول فهذا التواضع وهذا الشعور بأنه أقل الخلق أمام الله تعالى في أعلى درجاته عندهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، لأنهم لا ينظرون إلى أنفسهم ولا يتّكلون على أعمالهم مهما عظمت وخلصت ولا يأمنون مكر الله تعالى وهم يتلون خطاب الله لجدهم المصطفى (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سيد7.

ص: 368


1- باخع: أي قاتل.
2- الخصال للشيخ الصدوق (رضوان الله عليه): 2/ 433 أبواب العشرة، ح17.

الخلق:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الزمر:65) ويقول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(لو عصيت لهويت)(1).والحكاية المروية عن كليم الله موسى بن عمران (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إن الله سبحانه أوحى إلى موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):إذا جئت للمناجاة فاصحب معك من تكون خيراً منه، فجعل موسى لا يعترض (يعرض) أحداً إلا وهو لا يجسر (يجتري) أن يقول:إني خير منه، فنزل عن الناس وشرع في أصناف الحيوانات حتى مر بكلب أجرب فقال:أصحب هذا فجعل في عنقه حبلا ثم جرّ به فلما كان في بعض الطريق شمر الكلب من الحبل وأرسله، فلما جاء إلى مناجاة الرب سبحانه قال:يا موسى أين ما أمرتك به؟ قال:يا رب لم أجده فقال الله تعالى:وعزتي وجلالي لو أتيتني بأحد لمحوتك من ديوان النبوة)(2).

9-إن استغفار المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) إنما هو من وجود مقتضيات الذنب والمعصية فيهم فعندهم شهوة جنسية وقوة غضبية وحاجة للطعام ونحو ذلك وإن كانت عندهم الملكة القدسية الرادعة عن توظيفها إلا في طاعة الله تبارك وتعالى، فتعتبر الشهوة الجنسية شراً بمعنى من المعاني، وكذا الغضب لأنها مناشئ الذنوب، ففي الخصال بسنده عن هشام بن الحكم في تفسير عصمة الإمام قال:((إن جميع الذنوب لها أربعة أوجه لا خامس لها:الحرص والحسد والغضب والشهوة فهذه منتفية عنه))(3).6.

ص: 369


1- بحار الأنوار- المجلسي: 22/ 467
2- عدة الداعي لابن فهد الحلي: 204
3- الخصال: 1/ 215 أبواب الأربعة، ح36.

فالأئمة يستغفرون من وجود هذه المقتضيات للذنوب عندهم وإن كانوا بلطف الله تبارك وتعالى لا يستعملونها إلا في ما يرضي الله تبارك وتعالى كما في معاني الأخبار بسنده عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(المعصوم وهو الممتنع بالله من جميع محارم الله وقد قال تبارك وتعالى:{وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (آل عمران:101))(1).10-إن الله تعالى يقول:{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} (إبراهيم:34) فإذا كان الإنسان عاجزاً عن معرفة نعم الله وعدّها فكيف يتسنى له شكرها فهو عن أداء الشكر أعجز وفي ذلك ورد في دعاء للإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ونعماؤك كثيرة قصُر فهمي عن إدراكها فضلاً عن استقصائها، فكيف لي بتحصيل الشكر وشكري إياك يفتقر إلى شكر، فكلما قلت لك الحمد وجبَ عليَّ لذلك أن أقول لك الحمد)(2).

فإذا ضممنا إلى ذلك مقدمة أخرى مأخوذة من وصية الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) المشهورة لهشام بن الحكم وفيها (يا هشام إن كل نعمة عجزت عن شكرها بمنزلة سيئة تؤاخذ بها)(3) ينتج وجه جديد لفهم الذنوب وهو العجز عن أداء شكر النعم، ويكون الشعور بالذنب أكبر كلما كانت النعم أكثر، ولذا يشعر الأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أنهم أكثر الخلق ذنوباً كقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(وما في الورى شخص جنا كجنايتي)2.

ص: 370


1- معاني الأخبار: 132 باب 64، ح2.
2- مفاتيح الجنان: 198 مناجاة الشاكرين.
3- تحف العقول: 383-402.

لأنهم حُبوا بأعظم النعم فقد أعطاهم الله تعالى منزلة يغبطهم عليها الأولون والآخرون وخلق الكون لأجلهم.

ما الذي استفدناه من هذه الإثارات:

أيها الأحبة:حينما نذكر هذه الوجوه التي هي صحيحة وقد يناسب بعضها بعض الموارد وبعضها موارد غيرها، فإنما نريد تحصيل عدة أمور:

1-دفع هذا الإشكال والدفاع عن عقيدتنا في عصمة النبي وأهل البيت (صلوات الله عليهم) التي هي ثابتة بأدلة قطعية تفوق الحصر والاستقصاء، وفهم الآية الكريمة وفق هذه العقيدة.

2-أن نتعرف على طبيعة العلاقة مع الله تبارك وتعالى من خلال التأسّي بما كان يقوم به المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).

أن نستشعر المسؤولية تجاه أفعالنا بل أفعال كل من يمكن أن تُحسب تصرفاته علينا، وتزداد سعة التبعة بسعة دائرة المسؤولية، فلا بد أن نكون مراقبين متابعين محاسبين حازمين والله المستعان.

ص: 371

القبس /148: سورة الفتح:25

اشارة

{وَلَولَارِجَال مُّؤمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤمِنَٰت.....لَعَذَّبنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنهُم عَذَابًا أَلِيمًا}

قال تعالى:{وَلَولَا رِجَال مُّؤمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤمِنَٰت لَّم تَعلَمُوهُم أَن تَطَُٔوهُم فَتُصِيبَكُم مِّنهُم مَّعَرَّةُ ۢ بِغَيرِ عِلم ۖ لِّيُدخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۚ لَو تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنهُم عَذَابًا أَلِيمًا} (الفتح:25).

السياقات التاريخية للآية الكريمة:

الآية من سورة الفتح التي سجّلت الفتح المبين الذي منّ الله تعالى به على نبيه الكريم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعلى المسلمين بصلح الحديبية الذي انقلبت فيه موازين القوى ومعادلة الصراع بين المؤمنين والمشركين حيث كسر الله تعالى شوكة المشركين بقيادة قريش وشتت شملهم واصبحوا يُغزون في عقر دارهم وكانوا قبل عام من ذلك يحشدون عشرة الاف من الاحزاب ويحاصرون المدينة وأهلها، فصاروا يطلبون من النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الصُّلح والرجوع عن مكة ذلك العام، مما مهد الطريق لانتشار الاسلام في جزيرة العرب وفتح مكة، وكل ذلك تحقق بدون قتال، قال تعالى {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} (الفتح:24)، ودع عنك

ص: 372

ذكر بعض اصحاب النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الذين لم يفهموا هذا الفتح المبين فاعترضوا على رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وشككوا في مصداقيته كما ورد في كتب العامة(1).

معنى الآية الكريمة:

وجواب (لولا) في الآية محل البحث غير مذكور ولكنه يعرف من هذه الآية السابقة عليها، أي لولا وجود هؤلاء لما كفّ الله تعالى أيديكم وأيديهم عن القتال الذي كان سينتهي حتماً بانتصار المسلمين كما في الآية السابقة عليهما {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً} (الفتح:22).

فيكون معنى الآية انه لولا وجود رجال مؤمنين ونساء مؤمنات ما زالوا يقيمون بين المشركين يخفون اسلامهم تقية واستضعافاً او لمصالح معينة لكونهم عيوناً للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على المشركين وانتم لا تعرفونهم، لأوقع الله تعالى القتال بينكم وبين قريش وقد اقتحمتم عليهم ديارهم والنصرُ لكم، لكن الله تعالى كفّ أيديكم وأيديهم عن القتال، حمايةً لكم ولأولئك المؤمنين، لأنكم بسبب جهلكم بهم فيخشى عليكم من إصابتهم بقتل أو جرح فتصيبكم بسبب ذلك (معرّة) أي ضرر وعار في الدنيا أو الآخرة، لأن المشركين سيعيرّون المسلمين ويقولون أن هؤلاء مجرمون قساة لم يرحموا حتى جماعتهم المؤمنين، وسيقولون أيضاً أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم يراعي حرمة بيت الله الآمن فقاتل على أرض الحرم.

ولو تزَّيل هؤلاء المؤمنون أي انفصلوا وتباينوا عن مجتمع المشركين لوقع

ص: 373


1- أنظر: جامع البيان- إبن جرير الطبري/ 26/ 138/ح24461,- تفسير القمي: 2/ 315

العقاب على الكافرين خاصة {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا} من دون محذور، كما ان الفريقين متزايلون يوم القيامة فيحل العذاب بالكافرين.والغرض الاخر الذي لوحظ في تجنب القتال وكفّ الايدي عنه هو قوله تعالى {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} (الفتح :25) اي لإعطاء مزيد من الوقت والفرصة حتى يخرج المؤمنون من وسط قريش ويأووا الى كهف رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الرحيم، او حتى يهتدي من يشاء الله من هؤلاء المشركين والمعاندين، وهؤلاء لا تعرفون عنهم شيئا اكيدا، فلو تزيل هؤلاء اي تحقق الغرض بهداية من يُريد الله تعالى هدايته وانفصالهم عن المشركين لعذبنا الذين كفروا فالكفّ عن القتال يحقق مصلحتين:

1-دفع الخطر عن المؤمنين غير المعروفين ودفع المعّرة عن المسلمين.

2-اعطاء الفرصة لهداية المزيد من الاعداء للإيمان.

من معاني الرحمة في الآية:

وهذه الرحمة لا تختص بالقوم الموجودين في ذلك الزمان، بل يشمل من سيأتون لاحقا كما ورد عن أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في عدة روايات(1)، وفي إحداها قال الراوي للإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):ما بال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لم يقاتل فلاناً وفلانا؟ قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لأيةٍ في كتاب الله عز وجل {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} (الفتح:25) قال:قلت:وما يعني بتزايلهم؟ قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين، وكذلك القائم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لن يظهر أبدا حتى

ص: 374


1- ذكرها في تفسير البرهان: 9/ 71.

تخرج ودائع الله عز وجل, فإذا خرجت ظهر على من ظهر من أعداء الله عز وجل فقتلهم)(1).

سنة الله في عباده:

وهذه سنة الهية ثبّتها القرآن الكريم في قصة النبي نوح (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، لذلك فإنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لم يستنزل العذاب على قومه إلا بعد أن حصل عنده اليأس من ولادة شخص مؤمن، قال تعالى {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً، إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّارا} (نوح:26-27) ولكن العذاب لم ينزل إلا عندما أخبره الله تعالى بهذه الحقيقة وعندئذٍ أيقن النبي نوح (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بنزول العذاب، قال تعالى {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ، وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ} (هود:36-37).

دروس من الآية:

والآن بعد أن فهمنا أكثر من وجه لتفسير الآية نستطيع استنباط عدة دروس من الآية:

1-ان الغرض الذي يجب أن يكون ماثلاً دائماً أمام كل القادة والعاملين في السلم وفي الحرب وفي كل عمل هو إدخال الناس في الرحمة الإلهية {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ} لأن الغرض من الخلق رحمتهم {إِلاَّ مَن

ص: 375


1- عن كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق:641.

رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود:119) فالرحمة المُشار اليها في الآية يمكن أن يكون المقصود بتحصيلها المؤمنين المستضعفين المتخفين بإيمانهم، أو المؤمنين الموجودين في أصلاب المشركين ولو بعد عدة أجيال، أو لنفس المشركين بأن يُوفقوا للإيمان، وقوله تعالى (من يشاء) ليس اعتباطياً وإنما مبني على أهلية الشخص وقابليته وحسن اختياره، لأن الله تعالى حكيم والحكيم يضع الاشياء في مواضعها.فليست الحرب في الاسلام لتوسيع النفوذ وبسط السلطة وجني المزيد من المكاسب والمغانم وإنما لشمول الناس بالنفحات الالهية فإذا تحقق ذلك بالسلم والكفّ عن القتال فقد تحقق الغرض ولا معنى للحرب، فليفهم المعترضون على تشريع الاسلام للقتال.

2-إن الآية تعطينا تفسيراً لصبر أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على الظلم الذي لحق به وبالصديقة الزهراء (س) بعد وفاة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعجز الكثيرون عن فهم موقفه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لذا بادروا الى إنكار أصل الموضوع مع تسليم المصادر بوقوعه، لكن أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كان يعلم بما علّمه الله تعالى من أن في أصلاب هؤلاء من يكونون موالين عاجلاً أو آجلاً ولو قتلهم فأنه سيقطع نسلهم ويحرم اولئك من الكمال.

3-وتعرّفنا أيضاً على سرّ من أسرار طول غيبة الامام المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهو استفراغ الوسّع في إخراج المؤمنين من أصلاب الكافرين والمنافقين وتوفر فرصة الهداية لكل البشر كما ان النبي نوح (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لبث طويلاً في قومه {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} (العنكبوت:14) للوصول الى هذه النتيجة فلا نستغرب من طول

ص: 376

غيبة الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) - وان ضاقت صدور المؤمنين بذلك- لإنه مُدّخر لإقامة دولة العدل الالهي، واذا كان النبي المعصوم المزوّد بالعلم اللدنّي يعجز عن معرفة هذا الوقت فيظن انهم لا يلدون الا فاجراً كفار فكيف يعرفه الجهلة، وفي هذا جواب للمشككين والمتسائلين.4-ان الله تعالى يدفع بالمؤمنين عن غيرهم {وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ.... لَعَذَّبْنَا} وفي رواية عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إن الله يدفع بمن يصلي من شيعتنا عمن لا يصلي من شيعتنا، ولو اجتمعوا على ترك الصلاة لهلكوا. وإن الله ليدفع بمن يزكي من شيعتنا عمن لا يزكي من شيعتنا، ولو اجتمعوا على ترك الزكاة لهلكوا. وإن الله ليدفع بمن يحج من شيعتنا عمن لا يحج، ولو اجتمعوا على ترك الحج لهلكوا وهو قول الله عز وجل:{وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ}(1).

وقد قلت في الخطاب الفاطمي في نيسان من العام الماضي ان تخاذل الكثيرين عن نصرة القانون الجعفري ومعارضة البعض الآخر حتى أجهضوه كانت سبباً في التقدير الإلهي لنزول بلاء عام لولا نصرة البعض للقانون وحماسهم للدفاع عن إقراره وتثقيف الأمة على المطالبة به، وبعد شهرين من ذلك نزلت بلاءات لم نكن نعهدها من سقوط عدة محافظات بيد داعش وتهجير الملايين وتدمير المدن وأخذ النساء سبايا ووقوع مذابح بالآلاف جملة واحدة وكادت تسقط بعض المدن المقدسة لولا أن الله تعالى رفع جزءاً من البلاء ببركة تلك النصرة، فأقرأوا5.

ص: 377


1- البرهان :2/ 145 نقلاً عن تفسير العياشي 446.1/ 135.

جيداً السنن الإلهية وتأثيرها في الحياة لئلا تتكرر الاخطاء والخطايا الكارثية.ولا زالت الفرصة موجودة لانهم قرّروا في حينها تشكيل لجنة علمائية للنظر في القانون وآلية اقراره وقد مرّت مدة كافية لإنجاز هذا الامر والله المستعان.

5-إن الكف عن القتال كان رعاية لجمع من المؤمنين أن يصيبهم ضرر جهلاً بغير علم {لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ} وهذا يكشف حكمة المرجعية الرشيدة في توقفها عن الاذن بالتشكيلات الشعبية المسلحة إلا في ساحات المواجهة والدفاع عن الدين والنفس والعرض والمال، واشترطت أن يكون العمل العسكري منضبطا ومحدودا بإشراف قيادات مهنية وكفوءة ومخلصة ونزيهة وأن ينالَ المتطوعون تثقيفاً كاملاً حول واجباتهم الدينية والوطنية وتدريباً جيداً وتسليحاً يناسب المعارك التي يدخلونها، أما اطلاق الدعوة للناس عامة من دون وضع التدابير والخطط لتحقيق هذه الشروط وتنظيم العمل والسيطرة عليه، فأنه تقع هذه المحاذير التي ذكرتها الآية الشريفة، حيث تتناول وسائل الاعلام هذه الايام وقبلها اخباراً عن وقوع انتهاكات وجرائم بحق الابرياء من قبل المندسين والجهلة والمتعصبين والنزقين الذين لم يتعرفوا على أداب وأخلاق العمل العسكري وأهدافه وقوانينه الشرعية والمهنية، فالجهد الشعبي غير المنظم يلزم منه الوقوع في هذه الكوارث، فكيف وهم لا يعلمون ولا يميزون المسلمين الابرياء (لم تعلموهم)(بغير علم).

6-عدم اليأس من صلاح الناس وهدايتهم مهما رتعوا في الكفر والشرك فمن الممكن شمولهم بالرحمة الالهية فقد دخل المشركون بعد ذلك في الاسلام طوعاً أو طمعاً أو لأي سبب آخر، وعلى العاملين أن يستمروا في محاولاتهم فأن

ص: 378

كل شيء ممكن عند الله تعالى {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِر} (الغاشية:21-22) وان الاسلام قادر على استيعاب حتى اعتى الناس واكثرهم همجية ووحشية كالمغول الذين اكتسحوا العالم الاسلامي وأوغلوا فيه قتلاً وتدميراً، وما اسرع ما دخلوا في الاسلام واصبحوا جزءاً من المجتمع المسلم وآمن كثير منهم بولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).وقد وجهّت في عدد من لقاءاتي مع المسؤولين بأن يكون من اولوياتنا في مواجهة داعش والقاعدة والتنظيمات الارهابية الأخرى هدايتهم وإقناعهم وإلقاء الحجج عليهم وإزالة الشبهات والأوهام عن اذهانهم والغشاوة عن بصائرهم لان أكثرهم مضلّلون تعرضوا لغسيل الدماغ وقد تناقلت وسائل الاعلام خلال المدة الماضية رجوع كثير منهم الى بلدانهم والتبرّي من داعش والقاعدة بعد ان اطّلعوا على التصرفات المشينة والوحشية لقياداتهم والتقطت عدة رسائل نصية وبريدية لمقاتلين اجانب في العراق وسوريا تبيّن شعورهم بانهم قد خُدِعوا واتخذهم الذين جنّدوهم كبش فداء لاغراضهم الشيطانية.

فيمكن الاستفادة من مواقع التواصل الاجتماعي للحوار معهم وسلوك الطرق الممكنة للوصول الى عقولهم وقلوبهم وفضح الاجندات المعدّة له، كما فعل امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مع أسلافهم من الخوارج عندما حاججهم وناظرهم قبل خوض معركة أمير المؤمنين فتاب ثلثا عددهم (ستة الاف من تسعة)(1) وتركوا عقيدتهم وهو إنجاز عظيم، والشواهد الحاضرة كثيرة أيضاً حيث أن كثيراً من76

ص: 379


1- الاحتجاج- الشيخ الطبرسي: 1/ 276

الوهابيين والسلفيين استبصروا بعد الاطلاع على حجج وبراهين أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) عندما تلقى اليهم بالحكمة والموعظة الحسنة من دون استفزاز في بعض البرامج والحوارات الرصينة التي تعرضها الفضائيات فلا نقلل من اهمية هذا التوجه ولنباشر به جميعاً، ولنعطه الجهد الذي يستحقه.

ص: 380

القبس /149: سورة الفتح:26

اشارة

{إِذ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ٱلجَٰهِلِيَّةِ}

موضوع القبس:السياسة النبوية المباركة في مكافحة داء التعصب

تقع الآية في سياق الحديث عمّا وقع من أحداث انتهت إلى توقيع صلح الحديبية بين النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقريش حيث عزم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومعه أصحابه على أداء العمرة وزيارة البيت الحرام في السنة السادسة للهجرة بعد واقعة الأحزاب وحين شارفوا على مكة محرمين ملبّين من غير سلاح منعتهم قريش من دخولها ومن الهدي أن يبلغ محله أنفةً واستكباراً وعتواً إذ إن البيت الحرام آمن للجميع وليس من حق قريش منع أحد يقصده لكنهم أنفوا أن يدخل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مكة وزعموا أن في هذا إهانة لهم امام العرب فصدّوا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) واصحابه عن أداء نسكهم وانتهت العملية بصلح الحديبية ورجوع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على أن يؤدي العمرة في السنة الآتية(1).

فالآية الكريمة تصف بعض أحوال مشركي قريش في مواجهتهم مع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وتشخص داءاً اجتماعياً فتاكاً يؤدي بصاحبه إلى الصدود عن الحق والابتعاد عن التفكير العقلائي ومنطق الحكمة وهو التعصب وحمية الجاهلية،

ص: 381


1- أنظر: مجمع البيان- الشيخ الطبرسي: 9/ 210,- تفسير القرطبي: 16/ 288

حيث يصرّ المبتلى به على موقفه ورأيه ومعتقده ولا يريد أن يصغي إلى الآخر ولا يعطي لعقله الفرصة حتى يتعرف على ما هو الحق ليتبعه، وهو داء كان ولا يزال يفتك بالأمم ويمزِّقها وينهي وجودها فلابد من الاستفادة من هذا الدرس القرآني لمعالجة هذا المرض الاجتماعي الخطير.{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا} فهم باختيارهم أوجدوا في قلوبهم عصبية الجاهلية وصيّروا الغضب المودع في نفوسهم وقلوبهم لنصرة الحق والدفاع عن المقدسات والمبادئ النبيلة، غضباً جاهلياً فحرموا أنفسهم من رؤية الحق وإتباعه.

والحمية هي الغضب اذا اشتد وازداد حتى تشتعل حماوته في القلب، اما الجاهلية فهي من الجهل، والمعروف في ثقافتنا العامة ان الجهل مقابل العلم فيطلق على حالة عدم العلم، لكنه في المصطلح القرآني يراد به ما يخالف الحكمة، ووضع الشيء في غير موضعه، وفعل الشيء على خلاف ما يستحقه سواء على صعيد العلم أو العمل وبه صرحت الآية الكريمة {يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} {آل عمران:154} فجعل الجهل ما يقابل الحق، أما جعله في ثقافتنا مقابل العلم فباعتبار أن عدم العلم هو سبب الوقوع في ما يخالف الحكمة والحق.

واستقراء الآيات الكريمة يؤكّد هذا المعنى وهو ان الجاهلية حالة وأوضاع تعيشها الأمة عندما تبتعد عن المنهج الإلهي في العقائد والتشريعات والسلوك ولا تختص بزمن معين، لاحظوا الآيات التالية التي ورد فيها لفظ الجاهلية، والمجالات العديدة التي تتناولها:

ص: 382

1- {يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} (آل عمران:154) وهي تشير إلى جاهلية الاعتقادات والتصورات حينما لا يعتقد الانسان بالخالق أو لا يعرف صفاته سبحانه، أو يتعلق بالمؤثرات والأسباب دونه سبحانه أو يجعل له شركاء في التدبير، أو يراقب غيره في الملأ أكثر مما يراقبه تعالى في الخلوة، ونحو ذلك، فهذه كلها اعتقادات وظنون جاهلية.

2- {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة:50) وهي جاهلية التشريعات ووضع القوانين وفق ما تمليه اهواء الناس ومصالحهم وما تقتضيه ظنونهم وأنظارهم القاصرة من دون مراعاة الشريعة الإلهية، وقد وضع الأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) حداً فاصلاً وحازماً في ذلك، روى الشيخ الكليني بسند صحيح عن أبي بصير عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(الحكم حكمان:حكم الله وحكم الجاهلية، وقد قال الله عزوجل:{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} وأشهدوا على زيد بن ثابت لقد حكم في الفرائض بحكم الجاهلية)(1).

3- {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (الأحزاب:33) وهي جاهلية السلوك المنحرف عن تعاليم الشريعة والمخالف لما يريده الله تبارك وتعالى وقد فاقت جاهلية اليوم التصور في الانحلال والفساد والرجوع إلى أسوء حالات التخلف والحيوانية، وزادت على الجاهليات السابقة فكيف نحصر الجاهلية بزمان قبل الإسلام؟1.

ص: 383


1- الكافي: 7/ 407/ح1.

4- {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} (الفتح:26) وهي جاهلية الفكر والثقافة والنزعات النفسية وسائر الدوافع التي تحرك الانسان في حياته ويبني عليها سلوكه وتصرفاته ويبرمج عليها سائر شؤونه.

لذا قلنا في كتاب (شكوى القرآن)(1) وغيره ان الوقوف على المعنى المدرسي المتداول للجاهلية والذي يراد به الفترة الزمنية التي سبقت الإسلام خاصة ليس دقيقاً ولا يطابق المصطلح القرآني، ونعتبره افراغاً لهذا المصطلح المهم من معناه الذي تترتب عليه آثار عظيمة ومسؤوليات كبيرة على مستوى إصلاح الفرد والمجتمع، وربما يكون عذرهم أنه تقسيم فني للفترات الزمنية، لكنه قد يكون فعلاً متعمداً لخلق شعور لدى الأمة الإسلامية بالاسترخاء والراحة والدعة باعتبارهم قد أدّوا ما عليهم وأصبح الناس مسلمين والمجتمع إسلامياً وما يستلزم ذلك من التخلي عن مسؤولية الدعوة إلى الله تبارك وتعالى ووعي تفاصيل ما جاء به النبي محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والالتزام بالشريعة على مستوى الفرد والمجتمع، وما يستلزم أيضاً من انتهاء وظيفة القرآن بإخراج الناس من الظلمات إلى النور، بينما الجاهلية بأشكالها المتعددة مستمرة ومسؤوليتنا في هداية الناس ورجوعهم الى الله تعالى متواصلة حتى يأذن الله تعالى بتطهير الأرض من الظلم والفساد والانحراف وإقامة دولة الحق والعدل.

وعلى أي حال، فان الآية محل كلامنا تتناول الشكل الرابع من مظاهر الجاهلية التي كانت تتحكم في المعسكر المقابل للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقد كانت قريش83

ص: 384


1- أنظر: ملحق (شكوى القران), من نور القرآن: 3/ 283

مصابة بمرض الانانية والتكبّر والعناد والتعنت والرياء والبطر وكان التعصب يقودهم ويذكي في قلوبهم تلك الأمراض فتتحول إلى نيران تغلي في صدورهم ثم يصير غضبهم حمماً من الكراهية والعنف والحقد والحسد والانتقام مما يزيد في ولوغهم في الجريمة والانحطاط والضلال، ويصرّون على عبادة أصنام يصنعونها بأيديهم من الخشب والحجارة ثم يعبدونها من دون الله تعالى العظيم خالق السماوات والأرض، فأي حمية وعصبية اسوأ من هذه؟بينما الفريق المقابل لهم وهم المؤمنون يتمتعون بالسكينة والاطمئنان والحكمة وحب الخير للجميع {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى - أي جعلها ملازمة لهم- وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا - لأنهم يستحقونها وهم حملتها من دون الناس- وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} (الفتح:26) فقد سلّموا لأمر الله تعالى ورسوله ورجعوا عن زيارة البيت الحرام وخالفوا هواهم ورغبتهم في دخول مكة ولو عنوة.

ذم التعصب:

وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن التعصب لغير الحق، منها ما روي في الكافي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(من تعصّب أو تُعصِّب له فقد خلع رِبَق(1) الايمان من عنقه)(2) فالمتعصَّب له شريك في الذم لأنه رضي بفعلهم ولم ينههم

ص: 385


1- رِبَق جمع رِبقة وهي: كل ما يشدُّه إلى الايمان ويمسكه بها من عقائد واحكام وأخلاق. والرِبقة في الأصل عروة في حبل تجعل في عنق البهيمة أو يدة تمسكها.
2- الكافي: 2/ 308/ح2.

عنها بل هيّأ الأجواء لها وزيّنها لهم، وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(من كان في قلبه حبّةُ من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع اعراب الجاهلية)(1).وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية)(2).

وقال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في بعض خطبه:(فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ وَأَحْقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّمَا تِلْكَ الْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ وَنَخَوَاتِهِ وَنَزَغَاتِهِ وَنَفَثَاتِهِ) وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فيها:(فَاللَّهَ اللَّهَ فِي كِبْرِ الْحَمِيَّةِ وَفَخْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مَلَاقِحُ الشَّنَئَانِ - أي البغض- وَمَنَافِخُ الشَّيْطَانِ الَّتِي خَدَعَ بِهَا الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ وَالْقُرُونَ الْخَالِيَةَ حَتَّى أَعْنَقُوا فِي حَنَادِسِ جَهَالَتِهِ وَمَهَاوِي ضَلَالَتِهِ)(3).

ما هو التعصب:

التعصب يعني الانحياز للانتماء الشخصي أو الفئوي والتشدد في الدفاع عنه بغضّ النظر عن كون موقفه حقاً أو لا، فالمقياس عنده نصرة جهته وليس نصرة الحق ولو ظهر له الحق بالبرهان والدليل فانه يصرّ على ما هو عليه من معتقد أو موقف.

ص: 386


1- الكافي: 2/ 308/ح3.
2- سنن أبي داود: 4/ 332/ح5121.
3- نهج البلاغة: الخطبة192.

روي ان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سئل عن العصبية فقال:(أن تعين قومك على الظلم)(1) وأجاب الامام زين العابدين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قومٍ آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم)(2).وروى في البحار عن كتاب الزهد للحسين بن سعيد بسند صحيح عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لما كان فتح يوم مكة قام رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في الناس خطيباً فحمد الله واثنى عليه ثم قال:ايها الناس ليبلغ الشاهد الغائب ان الله تبارك وتعالى قد اذهب عنكم بالإسلام نخوة الجاهلية والتفاخر بآبائها وعشائرها ايها الناس انكم من آدم وآدم من طين ألا وان خيركم عند الله واكرمكم عليه اليوم اتقاكم واطوعكم له ألا وان العربية ليست بأب والد ولكنها لسان ناطق فمن طعن بينكم وعلم انه يبلغه رضوان الله حسبه الا وان كل دم أو مظلمة أو احنة كانت في الجاهلية فهي تظل تحت قدمي الى يوم القيامة)(3).

وقد تنوعت وتشعبت العناوين التي يتعصب لها الناس فالعصبية يمكن أن تكون للأنا أو للعشيرة أو للحزب أو للقومية أو المصالح المادية أو اللون أو للمدينة أو للدولة أو للفريق الرياضي أو لشخص يهواه وقد يكون التعصب لأمور تافهة، وأشدها خطورة وأكثرها قسوة التعصب المغلّف بالعناوين المقدسة التي يراد منها سوق الناس لأغراض دنيوية كالحروب الصليبية أو الفتن الطائفية التي0.

ص: 387


1- سنن أب داود: 4/ 331/ح5119.
2- الكافي: 2/ 308/ح7.
3- بحار الأنوار: 73/ 292/ح24, عن كتاب الزهد: 56/ح150.

تقع بين اتباع المذاهب داخل الدين الواحد ويذكر التاريخ الكثير من هذه الحروب والفتن الدامية، ومكمن خطورة هذا التعصب من جهة قوة تأثير الدين والمذهب على سلوك الانسان وتوجيهه، ومن جهة ان القداسة الدينية التي يغلّفون بها مأربهم الدنيوية تسدُّ على الناس منافذ التفكير العقلائي وتغيِّب منطق الحكمة خصوصاً اذا احاطوها بضجيج من التحشيد بكل الأدوات.والتعصب من المهلكات التي تزّل فيها الأقدام وتكمن خطورته في انه يعمي صاحبه عن رؤية الحق ويفقده البصيرة فلا يقبل برأي الآخر وليس عنده الاستعداد لسماعه والتأمل فيه لأنه يعتقد أنه هو وحده صاحب الحق وانه وحده يمتلك الحقيقة وان غيره على باطل وضلال، مضافاً إلى أنه يؤجج في قلبه نيران الحقد والانتقام فيسير إلى شفاء غليله على غير هدى ويتخبط ويرتكب أفعال المجانين، روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(الحِدّةُ ضرب من الجنون لأن صاحبها يندم، فإن لم يندم فجنونه مستحكم)(1) وعن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إن هذا الغضب جمرة من الشيطان تتوقد في قلب ابن آدم، وإن أحدكم اذا غضب احمرّت عيناه وانتفخت أوداجه ودخل الشيطان فيه)(2).

تاريخ التعصب وما يتعصب له:

والعصبية متجذرة في بني آدم منذ أول الخلقة وكانت سبباً لهلاك ابليس وخروجه عن طاعة الله تعالى {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}

ص: 388


1- نهج البلاغة: الحكمة255.
2- بحار الأنوار: 73/ 267/ح21.

(الأعراف:12) {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} (الإسراء:61) قد أتخذها ابليس فخاً لإفساد الناس بعد أن تورط بها، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):في ذم ابليس (فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ وَتَعَصَّبَ عَلَيْهِ لِأَصْلِهِ فَعَدُوُّ اللَّهِ إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ وَسَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ وَنَازَعَ اللَّهَ رِدَاءَ الْجَبْرِيَّةِ وَادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ وَخَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ..)(1).وابتلي بها الناس من بعد ذلك، حتى في عصر النبوة والوحي والنور ترى العصبية الجاهلية تحرك بعض الناس كالتي حصلت بين الأوس والخزرج(2) حتى5.

ص: 389


1- نهج البلاغة: الخطبة192, وهي خطبة جليلة مطوّلة في ذم العصبية والتحذير منها وبيان علاجها.
2- حكى العلامة المجلسي في بحار الأنوار: 9/ 72 عن العلامة الشيخ الطبرسي (رحمه الله) في مجمع البيان في قوله تعالى: {لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} (آل عمران:99) قيل أنهم - أي اليهود- كانوا يغرون بين الأوس والخزرج يذكرونهم الحروب التي كانت بينهم في الجاهلية حتى تدخلهم الحمية والعصبية فينسلخوا عن الدين. وروى بعض مفسري العامة في سبب نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} (آل عمران:100) (انها نزلت في شاس بن قيس وهو يهودي أراد تجديد الفتنة بين الأوس والخزرج بعد انقطاعها بالنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فجلس بينهم وأنشدهم شعراً قاله أحد الحيين في حربهم. فقال الحي الآخر: قد قال شاعرنا في يوم كذا وكذا، فكأنهم دخلهم من ذلك شئ، فقالوا: تعالوا نرد الحرب جذعاء كما كانت. فنادى هؤلاء: يا آل أوس. ونادى هؤلاء. يا آل خزرج، فاجتمعوا وأخذوا السلاح واصطفوا للقتال فنزلت هذه الآية، فجاء النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى وقف بين الصفين فقرأها ورفع صوته، فلما سمعوا صوته انصتوا له وجعلوا يستمعون، فلما فرغ ألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضا وجعلوا يبكون، عن عكرمة وابن زيد وابن عباس. والذي فعل ذلك شاس بن قيس اليهودي، دس على الأوس والخزرج من يذكرهم ما كان بينهم من الحروب، وأن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أتاهم وذكرهم، فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سامعين مطيعين، فأنزل الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا} يعنى الأوس والخزرج. {إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب} يعنى شاسا وأصحابه. {يردوكم بعد إيمانكم كافرين} قال جابر بن عبد الله: ما كان طالع أكره إلينا من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فأومأ إلينا بيده فكففنا وأصلح الله تعالى ما بيننا، فما كان شخص أحب إلينا من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فما رأيت يوما أقبح ولا أوحش أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم). تفسير القرطبي: 4/ 155.

تواعدوا القتال على طريقتهم في الجاهلية لو لا ان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بادر بسرعة واطفأ نار الفتنة.وكذا الفتنة التي كادت تشتعل بسبب العصبية بين المهاجرين والأنصار وهي التي أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى:{يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (المنافقون:8) روى البخاري بسنده عن جابر بن عبدالله قال:(كنا في غزاة فكسع - أي ضرب دبره بيده- رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار فقال الأنصاري يا للأنصار وقال المهاجري يا للمهاجرين فسمّعها الله ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال:ما هذا، فقالوا يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار فقال الأنصاري:يا للأنصار وقال المهاجري يا للمهاجرين، فقال النبي

ص: 390

(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):دعوها فإنها منتنة)(1) فسمع بذلك عبد الله بن أبي فقال:فعلوها أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.وفي تفسير علي بن إبراهيم(رحمه الله) ان الحادثة وقعت والنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) خارج في غزوة المريسيع فأسرع (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في رجوعه إلى المدينة وواصل سيره ليلاً ونهاراً(2) ليصل المدينة قبل وقوع المحذور.

وكان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حازماً في مواجهة العصبية ولو بأبسط اشكالها.

روى في تفسير القمي أن قوله تعالى:{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} (الحجرات:17) ((نزلت في عثكن - كناية عن عثمان وصرحت بذلك روايات أخرى- يوم الخندق وذلك أنه مر بعمار بن ياسر وهو يحفر الخندق وقد ارتفع الغبار من الحفر فوضع كمه على أنفه ومر، فأنشد عمار الرجز المروي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):

لا يستوي من يعمر المساجدا *** يظلّ فيها راكعاً وساجدا

كمن يمرّ بالغبار حائداً *** يعرض عنه جاحداً معاندا

فالتفت إليه عثكن فقال:يا بن السوداء إياي تعنى، ثم اتى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال له لم ندخل معك لتسب أعراضنا، فقال له رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قد أقلتك إسلامك فاذهب فأنزل الله {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ3.

ص: 391


1- صحيح البخاري: ح4907/ كتاب تفسير القرآن.
2- تفسير القمي: 2/ 368/ البرهان: 9/ 302/ح3.

إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}))(1).وروى الثمالي عن الإمامين الباقر والصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إن أبا ذر عيّر رجلاً على عهد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بأمه فقال له:يا ابن السوداء، وكانت أمه سوداء، فقال له رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):تعيره بأمه يا أبا ذر؟ قال:فلم يزل أبو ذر يمرغ وجهه في التراب ورأسه حتى رضي رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عنه)(2).

وهكذا كان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حازماً في مواجهة التعصب ومحاولات التفرقة وإلقاء الفتنة، كما كان مهتماً بنشر قيم الوحدة والتألف والمودّة وله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مشاريع عملية في تعزيز هذه القيم الإنسانية النبيلة، انتهت بالمجتمع المسلم الى أن يصفه الله تبارك وتعالى:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(3) (الحشر:9).

لقد حكى القرآن الكريم نماذج من التعصب كتعصب فرعون لأصله واستعلائه على بني إسرائيل {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (القصص:4)، وكتعصب بني إسرائيل وشعورهم بالأفضلية علىة.

ص: 392


1- بحار الأنوار:9/ 238 ح 136 عن تفسير القمي:2/ 297 - 298
2- بحار الأنوار:22 /481 ح28 عن كتاب الزهد للحسين بن سعيد:78 ب 5 ح 109
3- راجع بعض قصص الايثار في ظل السياسة النبوية المباركة في أسباب نزول هذه الآية في تفسير البرهان: 9/ 268 وفي تفاسير العامة.

سائر الناس وأنهم شعب الله المختار، وتعصب اليهود والنصارى لديانتهم {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة:111) {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} (المائدة:18) {قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} (آل عمران:75) وتعصب العرب لقوميتهم {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ 198 فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} (الشعراء:199) أو التعصب للمال والولد {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَ-ؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا} (الأنعام:53) {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} (الكهف:34) {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ 52 فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ} (الزخرف:53).وتعصب الرجال لجنسهم مما دفعهم إلى اضطهاد المرأة وحرمانها من حقوقها حتى حق الحياة فكانوا يقتلون المولودة الأنثى {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ 8 بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} (التكوير:9) {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} (النحل:58).

وتعصب بعض العشائر والقبائل لنفسها والافتخار على غيرها وانها افضل من الآخرين فلا تزوِّج بناتها لغيرهم لكنهم يتزوجون من غيرهم ويسمون أنفسهم (الحُمس) وقد انتقلت هذه العادة الجاهلية إلى بعض المنتمين نسبياً إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

ص: 393

ويكشف أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن ألمه لتفشي داء التعصب في الأمة بلا رويّة ولا حكمة ولا سبب وجيه يقول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في ذلك (ولقد نظرت فما وجدت أحدا من العالمين يتعصب لشيء من الأشياء إلا عن علة تحتمل تمويه الجهلاء، أو حجة تليط بعقول السفهاء، غيركم، فإنكم تتعصبون لأمر ما يعرف له سبب ولا علة، أما إبليس فتعصب على آدم لأصله، وطعن عليه في خلقته، فقال:أنا ناري وأنت طيني، وأما الأغنياء من مترفة الأمم فتعصبوا لآثار مواقع النعم، فقالوا:نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين)(1).

علاج التعصب:

الخطوة الأولى:إن علاج التعصب يبدأ من رفع مستوى الوعي والفكر والثقافة لدى الأمة وإدراك أن التنوع في الجنس واللون والعرق واللغة، وحالة الاختلاف والتعدد في الآراء والأفكار والتوجهات حالة طبيعية اقتضتها طبيعة الناس وإنها من السنن الجارية في الناس ولا يدل شيء منها على أفضلية أحد على أحد وإنما التفاضل بالتقوى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات:13) وقال تعالى:{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} (هود:118)، حتى الاختلاف في الهداية والضلال فأنها طبيعية اقتضتها حرية الاختيار للإنسان {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة:256) ولو أراد الله تعالى أن يكون

ص: 394


1- نهج البلاغة: الخطبة192.

كل البشر مهتدين إلى دينه لما أعجزه ذلك {وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} (الأنعام:35) {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَ-كِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم} (المائدة:48).والخطوة الثانية:في العلاج هو الحوار والاستماع إلى الآخر والانفتاح عليه وافتراض ان كل الاحتمالات مفتوحة وان كل النتائج ممكنة والاتفاق على مبادئ يبنى عليها الحوار {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا} (آل عمران:64) {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (سبأ:24) وتمثل ارقى مراتب التواضع العلمي والحوار المنفتح فيجعل نفسه - مع انه الحق المطلق- مع الآخر في خط شروع واحد في بداية الحوار فلا توجد بيننا أفضلية أو شروط مسبقة.

والخطوة الثالثة:تربية النفس والمجتمع على مبادئ الإنسانية العليا كالتسامح والعفو والرحمة والتعاون والعدالة والانصاف {وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ} (هود:85) {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة:8), وتعزيز القيم التي توحِّد الناس وتجمعهم كالمواطنة التي تؤسس لمساواة أبناء الوطن الواحد في الحقوق والواجبات من دون تميز قومية أو ديانة أو عشيرة أو مدينة ونحو ذلك.

ونبذ الثقافة الهدامة التي تدعو إلى التعصب والتكفير والحقد والكراهية والاستعلاء والاستبداد والاستئثار والتحذير من مثيري الفتن الذين يجترون بعض

ص: 395

خلافات الماضي ويريدون جرّ الأمة إلى الوراء ولا يريدون لها ان تعيش حاضرها ومستقبلها.

التعصب المحمود:

إن الحميّة تكون محمودة اذا كانت لنصرة الدين والأخلاق الفاضلة والدفاع عن الحرمات والنصرة المستندة إلى الحجة والبرهان والدليل وليس إلى الاهواء والمطامع والانتماء إلى الحزب أو العشيرة أو البلد ونحو ذلك، روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إن كنتم لا محالة متعصبين فتعصبوا لنصرة الحق وإغاثة الملهوف)(1)، وقال موبخاً المتخاذلين ومحرضاً لهم {مُنِيتُ بِمَنْ لَا يُطِيعُ إِذَا أَمَرْتُ وَلَا يُجِيبُ إِذَا دَعَوْتُ لَا أَبَا لَكُمْ مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِكُمْ رَبَّكُمْ أَ مَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ وَلَا حَمِيَّةَ تُحْمِشُكُمْ}(2) - أي تثير غضبكم- .

وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(فإن كان لابد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحامد الأفعال، ومحاسن الأمور، التي تفاضلت فيها المجداء النجداء من بيوتات العرب، ويعاسيب القبائل، بالأخلاق الرغيبة، والأحلام العظيمة، والأخطار الجليلة، والآثار المحمودة. فتعصبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار. والوفاء بالذمام، والطاعة للبر، والمعصية للكبر، والأخذ بالفضل، والكف عن البغي،

ص: 396


1- غرر الحكم: 3738.
2- نهج البلاغة: الخطبة39.

والإعظام للقتل، والإنصاف للخلق، والكظم للغيظ، واجتناب الفساد في الأرض)(1).وهذه الحمية والغضب للحق تكون سبباً للتوفيق ودافعاً لفعل الطاعات، روي عن الامام زين العابدين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال:(لم يدخل الجنة حمية غير حمية حمزة بن عبدالمطلب - وذلك حين أسلم- غضباً للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حديث السِّلا الذي القي على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ))(2).

إن من الخطوات المهمة على طريق التمهيد لدولة الحق والعدل تنقية المجتمع من رواسب الجاهلية ومنها التعصب وتربيته على مبادئ الإسلام الأصيل المستقاة من أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).

وتظهر هذه القيم السامية بشكل جلي وواضح في سلوك اتباع أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أيام الزيارة الأربعينية ويعكسون صوراً من التفاني والايثار والمحبة والتضحية ليس لها نظير والمطلوب ادامة هذا السلوك على مدار السنة ما دمنا نعتقد انه حق وفيه رضا لله سبحانه ولأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وعدم العودة الى ما يشين وما يسخط الله تعالى وأولياءه.ي.

ص: 397


1- نهج البلاغة: الخطبة192.
2- الكافي: 2/ 308/ح5. وقد ذكرت جملة من المصادر قصة اسلام حمزة منها بحار الأنوار: 18/ 211 و73/ 285, والسلا: هو ما يُرافق جنين الحيوان عند ولادته كالجلد الرقيق الذي يحيط به وأن أبا جهل وضع سلا جزور على رأس رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهو يصلي.

القبس /150: سورة الحُجُرات: 10

اشارة

{إِنَّمَا ٱلمُؤمِنُونَ إِخوَة}

موضوع القبس:ماذا يعني عقد المؤاخاة يوم الغدير

تضمّن يوم الغدير كبقية الأيام الشريفة سنناً ومستحبات(1) كالصوم والغسل والصلوات والادعية والاذكار طلباً لرضوان الله تعالى وطمعاً في مضاعفة الأجر وتحصيل العفو والمغفرة.

لكن عيد الغدير تميّز بعمل انفرد به عن بقية المناسبات وهو إجراء المؤاخاة بين المؤمنين وتعهّد بعضهم لبعض ان لا يدخل الجنة الا وهو معه فيقول احدهما للآخر (آخيتك في الله وصافيتك في الله وصافحتك في الله) إلى آخر المؤاخاة، وهذه الفعالية المباركة تعني -- فيما تعني -- ان علامة اكتمال وصدق الولاية للنبي وآله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هي مودة المؤمنين ومؤاخاتهم وان يضمر لهم كل خير، حتى لمن اساء إليه وظلمه بغيبة أو انتقاص أو فحش من القول أو إهانة أو تقصير في سائر حقوقه، لذا تضمن عقد المؤاخاة ان يقول للآخر (اسقطت عنك كل حقوق الاخوة) وهي عامة مطلقة تشمل كل الحقوق المادية والمعنوية.

فاذا سرنا بهذا المنهج والتزمنا بهذا السلوك السامي وتغاضينا عن الأخطاء والكلمة الجارحة والتصرف الجاهل فسوف ننشئ أمة متماسكة متحدة قوية

ص: 398


1- أنظر: مفاتيح الجنان: 344

فاعلة، ونسدّ أبواب النزاع والتخاصم والخلاف الذي نخر بالأمة وأهدر طاقاتها واعاق تقدمها وازدهارها سواء على مستوى العائلة حيث تتصاعد ارقام حالات الطلاق وما يعنيه من تهديم الاسرة وضياع الأطفال وتفشي الضغينة والاحقاد وتضييع الأموال والاوقات على مراجعة المحاكم.أو على مستوى العشائر حيث ازدادت الصراعات والمعارك بينها بمختلف أنواع الأسلحة ونقلت الاخبار حصول معارك برمائية بين بعض العشائر في جنوب العراق أو على أي مستوى آخر من الصراعات.

إن هذه الصراعات والخلافات والمهاترات وتغذيتها بالأحقاد والضغائن التي تصدّ عن ذكر الله تعالى وتعيق عمل المعروف تحقق رغبة الشيطان وامنيته {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء} (المائدة:91).

ومن يتتبع سيرة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقيادته الربانية المباركة يجد ان اول ما قام به من عمل بعد هجرته الى المدينة هو إيقاع المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وبين الأنصار أنفسهم من أوس وخزرج وبناء المسجد ليكون محلاً لاجتماع الأمة ولم شملها وإظهار عزّتها ووحدتها(1).

وسار الأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) على هذا النهج فوجّهوا اتباعهم إلى التحلي بأقصى صفات الأخوّة والمودّة بين المؤمنين، روى عبدالله بن المبارك قال:(قال لنا أبو جعفر محمد بن علي:يدخل أحدكم يده في كم صاحبه (أي جيبه) فيأخذ ما يريد؟ فقال:قلنا:لا، قال:لستم بإخوان كما تزعمون)(2).1.

ص: 399


1- أنظر: السيرة النبوية- ابن هشام: 2/ 351
2- حلية الاولياء: 3/ 187- البداية والنهاية: 9/ 341.

وعن الحجاج بن أرطاة قال له الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(يا حجاج كيف تواسيكم - أي مواساة بعضكم لبعض-, قلت:صالح يا أبا جعفر، قال:يدخل أحدكم يده في كيس أخيه فيأخذ حاجته اذا احتاج اليه؟ قلت:أما هذه فلا، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):أما لو فعلتم لما احتجتم)(1).وهذا يعني ان من شروط تمام الولاية وكمالها الارتقاء بالعلاقة مع الآخرين إلى هذا المستوى.

ولأهمية هذه الصفة المباركة يطلبها الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في ادعيته، ومن ذلك قوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (اللَّهُمَّ وَأَيُّمَا عَبْد نالَ مِنِّي مَا حَظَرْتَ عَلَيْهِ - كالغيبة والكلمة الجارحة مما حُرِّم-، وَانْتَهَكَ مِنِّي مَا حَجَرْتَ عَلَيْهِ، فَمَضَى بِظُلاَمَتِي مَيِّتاً، أَوْ حَصَلْتَ لِيْ قِبَلَهُ حَيّاً، فَاغْفِرْ لَهُ مَا أَلَمَّ بِهِ مِنِّي، وَاعْفُ لَهُ عَمَّا أَدْبَرَ بِهِ عَنِّي، وَلاَ تَقِفْ-هُ عَلَى مَا ارْتَكَبَ فِيَّ، وَلاَ تَكْشِفْهُ عَمَّا اكْتَسَبَ بِيْ، وَاجْعَلْ مَا سَمَحْتُ بِ-هِ مِنَ الْعَفْ-وِ عَنْهُمْ، وَتَبَ-رَّعْتُ بِ-هِ مِنَ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ، أَزْكَى صَدَقَاتِ الْمُتَصَدِّقِينَ، وَأَعْلَى صِلاَتِ الْمُتَقَرِّبِينَ، وَعَوِّضْنِي مِنْ عَفْوِي عَنْهُمْ عَفْوَكَ، وَمِنْ دُعَائِي لَهُمْ رَحْمَتَكَ، حَتَّى يَسْعَدَ كُلُّ وَاحِد مِنَّا بِفَضْلِكَ، وَيَنْجُوَ كُلٌّ مِنَّا بِمَنِّكَ)(2).

فالإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يعتبر هذا العفو عن الآخرين من أفضل الصدقات وأكثرها بركة وانها سبب لنيل عفو الله تعالى ورضوانه ورحمته، وبذلك يسعد جميع الأطراف.88

ص: 400


1- كشف الغمة: 2/ 333 - بحار الأنوار: 75/ 185/ح12.
2- الصحيفة السجادية (أبطحي): 188

وقد صدرت عن المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) مئات الأحاديث في حقوق الأخوّة وآداب العلاقة مع الآخرين جمعها الأصحاب في كتب بعنوان (آداب العشرة)(1) وتعرضت لأدق التفاصيل واعطت قيمة كبيرة للإصلاح بين المؤمنين وحل خلافاتهم ومشاكلهم حتى جعلته أفضل من الصلاة والصوم، وقد روى الشيخ الكليني في الكافي عن الامام موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وصية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لولده الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وجاء فيها (سمعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول:صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام، وإن المبيرة الحالقة للدين فساد ذات البين، ولا وقوة إلاّ بالله العلي العظيم)(2).إن البركة والخير والتقدم والازدهار لا يتحقق الا في ظل الايمان بولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) والعمل بتعاليمهم المباركة ووحدة الأمة، وهذا ما خطّته السيدة فاطمة الزهراء (س) من أول يوم بعد وفاة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لترسم للأمة المسار النقي الأصيل الذي يحفظ عزّتها وكرامتها فقالت (س) (وطاعتنا :نظاماً للملة، وامامتنا:اماناً للفرقة)(3).4.

ص: 401


1- راجع مثلاً كتاب وسائل الشيعة/ الجزء الثامن من طبعة الإسلامية.
2- فروع الكافي: 7/ 51 -52 - بحار الأنوار: 42/ 248/ح51.
3- الاحتجاج: 1/ 134.

القبس /151: سورة الحُجُرات:13

اشارة

{وَجَعَلنَٰكُم شُعُوبا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ ۚ}

موضوع القبس:تقييم الواقع العشائري

وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا:

قال الله تبارك وتعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات:13).

فالغرض من جعل الشعوب والقبائل والعشائر لتُعرفوا بها ولتتميز الأنساب فإن الأسماء كثيراً ما تتشابه وإنما تتميز بالعشيرة واللقب، والمعنى الآخر لقوله تعالى:{لِتَعَارَفُوا} أي لتتعارفوا بينكم وتتواصلوا وتنسجموا ويتكامل بعضكم بالبعض الآخر ويسودكم عمل المعروف فيما بينكم. وليس لتتفاخروا بأنسابكم أو لتتنابزوا بالألقاب بينكم أو لتتباهوا بكثرتكم أو لتتحزبوا لعشائركم وتتعصبوا لها حتى وإن كانت على باطل.

أهمية الرابطة العشائرية:

هذا ما أراده الله تبارك وتعالى ورتّب عليه آثاراً وهي صلة الأرحام والإحسان إليهم ورعايتهم وعظّم حرمة الرحم فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ

ص: 402

رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (النساء:1) وكان أول ما بدأ به رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حين بعثه الله تعالى بالنبوة أن جمع عشيرته ودعاهم إلى هذا الخير الكثير حينما نزل قوله تعالى:{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء:214).مضافاً إلى أن النظام العشائري يجعل من الأفراد كياناً فيكسبهم قوة إلى قوتهم وتنظيماً لشؤونهم والتنظيم قوة، وفي ذلك يوصي أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (صل عشيرتك فإنهم جناحك الذين بهم تطير)(1).

انحراف الرابطة العشائرية عن أهدافها:

لكن هذه الرابطة التي جعلها الله تعالى لتلك الأغراض الإنسانية تحوّلت منذ القدم إلى نظام اجتماعي يحكم أبناءه ويدير شؤونهم وربما أملاه نمط الحياة التي يعيشونها كمجتمعات بداوة ونمط الأعمال كامتلاك الثروة الحيوانية ورعيها أو الزراعة ونحوها، وأصبح بديلاً للنظام السياسي والدولة والحكومة كما هو المعروف من حال العرب قبل الإسلام، وكان نظاماً متخلفاً متعصباً قائماً على التفرد وإلغاء الآخر ولو بإبادته ومصادرة ممتلكاته فأزهقت الأرواح وانتهكت الأعراض وسالت أبحر من الدماء لا لشيء إلا لتلبية نداء هذه العصبية الجاهلية، وكان من أيسر الأمور إذكاء الحروب الجنونية بين القبائل لأتفه الأمور كحرب

ص: 403


1- نهج البلاغة: 5/ 57

داحس والغبراء(1) التي استمرت أربعين سنة على إثر مسابقة للخيول، وأشعلت حرب أخرى لأن شخصاً قتل كلباً كان شيخ العشيرة الأخرى قد أجاره ونحو هذه الأمور مما لا يصدقها عاقل لولا أنها قد وقعت فعلاً.وكان حول العرب أمم نبذت هذا النظام وأنشأت لنفسها أنظمة سياسية للدولة والحكم فتقدمت مادياً وأنشأت حضارات مرموقة كالرومان والفرس.

حتى بعث الله تعالى نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله أي على كل الأنظمة والقوانين التي حكمت البشر وأردتهم في الهلاك فذوَّب هذه الانتماءات وآخى بين المهاجرين والأنصار والذين جاءوا بعدهم من سائر الذين اعتنقوا دين الإسلام، فكانوا كما وصفهم الله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات:10) ووصف حالهم السابق من التشرذم والتفرق وما آلوا إليه من الوحدة والأخوة فقال تعالى:{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران:103).

ولكن لما ارتحل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلى الرفيق الأعلى وانقلبت الأمة على الأعقاب رجعت إليها بعض العادات الجاهلية ومنها العصبية القبلية وكان بنو أمية يغذّون هذا التقسيم ويذكون التفرقة ويقرّبون بعض القبائل على حساب بعض ليملكوا زمام الجميع.66

ص: 404


1- أنظر: الكامل في التاريخ- ابن الأثير: 1/ 566

حال العشائر اليوم:

واليوم حينما تنظر إلى وضع العشائر تجده في حال سيئ وتعيس ومتخلف، والغالب في رؤساء العشائر ومن بيدهم الأمر والنهي أنهم يحكمون بغير ما أنزل الله تعالى، والظلم متفشي في أرجائها وعلى مختلف الأصعدة، ويئن أبناء العشائر من قساوة هذا النظام وأحكامه الجائرة ولكنهم لا يستطيعون الخروج من قبضته، أو يستطيعون ولكنهم لا يملكون الشجاعة لاتخاذ مثل هذا القرار.

جهود المرجعية الرشيدة في إصلاح الواقع العشائري:

لقد بذلت المرجعية الرسالية جهداً في سبيل إصلاح نظام العشائر وكتب سيدنا الشهيد الصدر (قدس سره) كتاب (فقه العشائر) لتصحيح تصرفاتهم وأحكامهم على وفق الشريعة، ووضع سنينة عشائرية على طبق التشريع الإسلامي لتكون بديلاً عن السنينة العشائرية المتعارفة.

وأصدرنا بعده كتاب (رؤى إسلامية في نظام العشائر وتقاليدها) لتصحيح الجانب الفكري والثقافي لدى العشائر وإقناعهم بتطبيق النظام الإسلامي، وتبعته فتاوى كثيرة في ما يتعرضون له من حالات، لكن هذا الجهد كله لم يُجدِ نفعاً إلا عند القلة ممن وفقهم الله تعالى لطاعته، وتردى الحال إلى الأسوأ بعد سقوط صدام واختلال النظام وانتشار الفوضى والعنف ووقوع السلاح بيد الجهلة والغوغائيين، ولم يعد للدولة والسلطة وجود مهاب مما شجع على بروز قيادات محلية اجتماعية أو دينية أو عشائرية وأصبح كل منهم حاكماً في مساحته ويحصل الصدام بينهم أحياناً بحسب تضارب المصالح والولاءات.

ص: 405

الايجابي والسلبي من مبررات النظام العشائري:

إننا نفهم بعض المبررات لوجود النظام العشائري كحفظ الأرض وزراعتها والدفاع عنها وتقارب ذوي الأرحام لزيادة الأواصر بينهم، ولكن ما لا نفهمه ولا نقبله تحوّله إلى نظام استبدادي ظالم يحكم بالأهواء والعصبية وشهوات النفس والأنانية، ونحذّر من تحوله إلى نظام متخلف يكون غالباً من أكبر المعوقات لقيام مجتمع مدني متحضّر، وإذا بقي على وضعه الحالي فسيبقى التخلف والجهل سائداً في أمة كبيرة تخضع لقوانينه، وقد أثبتت التجارب التي أشرنا إليها أن محاولات إصلاحه غير مجدية ما دام يدار بنفس الذهنية السائدة.

العشائر والعمل الجماعي المشترك:

أيها الأحبة..

أنتم تعلمون أنا جميعاً مطالبون بأن يكون لنا دور في التمهيد لظهور الإمام (أرواحنا له الفداء) وتمكينه من إقامة دولة العدل الإلهي، والجميع مشتركون بدورهم كأفراد وأعني به أن يكونوا صالحين يعملون ما يرضي الله تبارك وتعالى ويجتنبون ما يسخطه تعالى ويبعدهم عنه وهو باب ينفتح منه ألف باب كما هو واضح.

ومضافاً إلى هذا الدور الفردي فإن على كل فرد تكاليف اجتماعية أوسع من ذلك وهي متباينة ومتفاوتة من فرد لآخر بحسب موقعه وعنوانه ومؤهلاته والأدوات المتاحة لديه مادياً –كالمال- ومعنوياً –كالعلم أو الجاه أو النفوذ- ونحوها. ولعل الأغلب إن لم يكن الكل مشمولون بهذا التكليف أيضاً لأن لهم شيئاً مما ذكرنا وإن تفاوتوا فيه. وتدخل في هذا التكليف وظيفة الأمر بالمعروف

ص: 406

والنهي عن المنكر وتشييد مشاريع الخير والجهاد لإقامة السنن الصالحة وإقامة الشعائر الدينية وغيرها كثير.

دور العشائر في التمهيد للظهور الميمون:

ورؤساء العشائر ممن لهم تكليف واسع على النحو الثاني لامتلاكهم عناصر تأثير عديدة كالجاه والنفوذ والسطوة وكثرة الأتباع والقوة وربما المال والسلاح وغيرها، وهذا يعني أن مسؤوليتهم أوسع من غيرهم بكثير، لأن هذه كلها نعمٌ يُسأل الإنسان عن توظيفها في طاعة الله تعالى، قال عز من قائل:{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} (التكاثر:8) والنعيم شامل لكل نعمة أنعم بها الله تعالى على عبده، وقال تعالى:{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} (الصافات:24) وهذه المساءلة شاملة لكل أنحاء المسؤولية وأشكالها، وأعتقد أن رؤساء العشائر وغيرهم من المسؤولين -كأعضاء الحكومة وأصحاب السلطان- لو كُشف لهم الغطاء وعرفوا خطورة موقعهم وطول وقوفهم للسؤال بين يدي الله تعالى لما تنافسوا على شيء من هذا، ولنبذوه وراء ظهورهم وهربوا منه.

التحذير من الرئاسات الباطلة:

وقد ورد في الحديث عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (ألا ومن تولى عرافة قوم حبسه الله عز وجل على شفير جهنم بكل يوم ألف سنة وحشر يوم القيامة ويداه مغلولتان إلى عنقه، فإن قام فيهم بأمر الله أطلقه الله، وإن كان ظالما هوى به في نار جهنم وبئس المصير)(1).

ص: 407


1- بحار الأنوار: 72/ 343 في مناهي النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

وقد بيّن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والأئمة الطاهرون (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لأصحابهم الواعين الصادقين في طاعة ربهم هذه الحقيقة، روى الشيخ الطوسي في كتاب الأمالي عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(يا أبا ذر إني أحبّ لك ما أحبّ لنفسي، إني أراك ضعيفاً فلا تأمّرنّ على اثنين ولا تولّينّ مال يتيم)(1) فإذا كان مثل أبي ذر الذي تشتاق له الجنة والذي قال فيه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر)(2) يشفق عليه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ويدعوه إلى عدم الإمرة ولو على اثنين لأنه يعجز عن القيام بالأمر كما يجب فكيف بغيره؟ خصوصاً رؤساء العشائر الذين نعلم افتقاد أكثرهم لمؤهلات الإمرة وهي العلم بأحكام الدين والورع والحلم والحكمة والرحمة والشفقة على الناس.

على العشائر أن تكون زيناً لا شيناً:

فالذي نأمله من رؤساء العشائر وهم مسلمون موالون لأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وأولى الناس باتباعهم أن يكونوا لهم زيناً كما قال إمامنا جعفر الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولا يكونوا عليهم شيناً، ومن المقترحات التي نتبناها في هذا المجال أن ننظم لهم دورات دراسية في النجف الأشرف، مدة الدورة شهر واحد، نستضيفهم فيها ونعطيهم ما يحتاجونه في عملهم من دروس في الفقه والعقائد والأخلاق والعلاقات الإنسانية والإدارة ليكونوا مباركين دالين على الخير وآمرين بالمعروف

ص: 408


1- بحار الأنوار: 75/ 4.
2- الأمالي- الشيخ الطوسي: 710

وناهين عن المنكر(1).

خطوات عملية في إصلاح النظام العشائري:

وندعوهم كما ندعو كل أبناء العشائر إلى اتخاذ خطوات عملية لتحويل مجتمعهم إلى أمة متحضرة متمدنة واعية منها:

1- المطالبة بإنشاء المدارس الأكاديمية في كل تجمع من الناس مهما كان نائياً ولو بأبسط صورها - كالمدارس المتنقلة - والقضاء على الأمية تماماً وإلزام الفئات العمرية جميعاً بالالتحاق بها.

2- نشر المؤسسات الثقافية والإنسانية والصحية والاجتماعية والخيرية والدينية مما يعرف بمؤسسات المجتمع المدني في كل العشائر والقرى والأرياف والمدن في أنحاء البلاد لتؤدي كل منها دورها بحسب الغرض الذي أسست له.

3- دعوة الخطباء والمبلغين إلى كل ناحية أو قرية أو عشيرة أو أي مكان ممكن لتعليم الأحكام وإرشاد الناس ووعظهم.

4- انخراط أبناء العشائر في الوظائف وتحصيل الشهادات العلمية العالية وتشجيع من يتمكن منهم على السكن في المدن.

5- وضع القوانين الرسمية الصارمة التي تحرّم بعض التقاليد العشائرية البالية وتعاقب عليها بحسب نوع الجناية أو الخطأ كالنهوة أو القتل لغسل العار في غير ما حددته الشريعة وسائر الأحكام الظالمة الأخرى.

ص: 409


1- استجاب جمع من وجهاء العشائر لهذه الدورة ومكثوا في النجف أياماً تلقوا خلالها تلك الدروس، راجع تفصيل الخبر في الجزء السادس من كتاب خطاب المرحلة.

الخطر من الانفتاح على المفاسد الإخلاقية:

وهنا قد يقال بأن تحويل المجتمع العشائري إلى مجتمع مدني -كما لو فتحت فيه الجامعات والمؤسسات الحكومية- يعني الانفتاح على المفاسد الأخلاقية ونحوها.

والجواب:

1- إن حالات الفساد والانحراف في العشائر ليست قليلة كالقتل بلا ذنب والزنا والنهوة والنهيبة والظلم والبطش وامتهان المرأة وغيرها.

2- إن الخلل المذكور ليس بسبب كون المجتمع مدنياً وإنما بسبب النفوس الأمارة بالسوء وقلة الواعظين والمتعظين فالجميع معرضون للفساد والانحراف إلا من عصم الله تعالى.

3- إننا لو سلّمنا الإشكال فإن عملية الإصلاح في مجتمع متحضر ومثقف أسلس وأثبت مما في مجتمع عشائري متخلف ونحن نجد اليوم كيف انغمست العشائر أكثر من ذي قبل في الظلم وابتداع العادات والتقاليد المنكرة.

إن مما يؤسف له أن الكثير من القيادات الدينية والسياسية تعي حقيقة هذا الوضع البالي الذي يعيشه حوالي نصف المجتمع العراقي ولكنهم لا يتحركون لإصلاحه، بل قد يعملون على إبقائه ودعم رؤساء العشائر من أجل المحافظة على مواقعهم وسلطتهم كما يحصل قبيل الانتخابات، فيتحمل هؤلاء وزر هذا الوجود ودوامه وإذا كانوا لا يعون ذلك فالمصيبة أعظم.

وإزاء هذا كله لا يحل لنا أن نهمل الإشادة بدور بعض زعماء العشائر أو الأفخاذ الذين وعوا مسؤوليتهم أمام ربّهم وقادتهم المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فأصلحوا

ص: 410

أنفسهم وسعوا بحزم وشجاعة إلى إصلاح وضع عشائرهم فطوبى لهم، وضاعف الله تعالى لهم الحسنات بعدد من اهتدى بهم من الموجودين ومن الذين يأتون بعدهم والله ولي التوفيق.

ص: 411

الصورة

ص: 412

الفهرس الإجمالی

الصورة

ص: 413

الصورة

ص: 414

الصورة

ص: 415

الصورة

ص: 416

الصورة

ص: 417

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.