من نور القرآن المجلد 3

هوية الكتاب

اسم الكتاب: من نور القرآن

الكاتب: آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي

لسان: العربية

الناشر: دار الصادقين - النجف اشرف - العراق

الموضوع : التفسير

مشخصات : 5 ج

الطبعة : الرابعة

التاريخ : 1442ه- - 2021م

ص: 1

اشارة

من نور القرآن

ص: 2

ص: 3

من نور القرآن

تفسير موضوعي حركي يقتبس من القرآن الكريم ما يلقي ضوءاً على قضايا عقائدية أو أخلاقية أو فكرية أو اجتماعية

سماحة المرجع الدینی الشیخ محمد الیعقوبی

الجزء الثالث

سورة النحل - سورة الفرقان

دار الصادقين

ص: 4

القبس /80: سورة النحل:16

اشارة

{وَعَلَمَت ۚ وَبِٱلنَّجمِ هُم يَهتَدُونَ}

موضوع القبس:أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) نجوم أهل الأرض

فسرّت روايات كثيرة النجوم الواردة في عدة آيات كريمة بأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لعدة وجوه مشتركة سنشير اليها ان شاء الله تعالى، وقد استعمل القرآن الكريم التشبيه لإيصال حقائق كثيرة تعرّف فضل أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ووظائفهم ودورهم في حياة البشرية فكانوا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تأويل هذه الآيات الكريمة وهذا شأن القرآن الكريم في كثير من الحقائق التي لم يبيّنها في التنزيل لمصلحةٍ ما خصوصاً ما يتعلق بأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لكن الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أفادوا تأويلها {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (العنكبوت:43) {تِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر:21).

وقد بيّن القرآن الكريم اهتمامه بالنجوم وما يرتبط بها من وظائف وحركة متقنة ومواقع دقيقة، قال تعالى {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} (الواقعة:75-76) ونشير هنا استطراداً إلى نكتة القسم بالمواقع دون نفس النجوم ولعلها لأمرين على الأقل:

1-بيان دقة توزيع هذه النجوم في مواقعها والانسجام التام في حركتها

ص: 5

فتكون من آيات الخالق، ولعلمنا بهذه الدقة والانسجام فإننا نبني على قوانينها الكونية المنضبطة ونستطيع معرفة أمور وحوادث قبل وقوعها بسنين، ولو كانت مبعثرة وعشوائية لما أمكن الاعتماد عليها قال تعالى {وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} (الإسراء:12) فهذه الدقة في المواقع والحركة جُعِلَت في كل شيء ليتعلمها الانسان ويستفيد منها في حياته.2-لتصحيح عقائد الناس خصوصاً وأنهم قريبو عهدٍ بالجاهلية حيث كانوا يعتقدون بأن للنجوم أرواحاً وانها تتحرك بإرادتها وبقى هذا الاعتقاد إلى وقت قريب(1) وكانوا أيضاً يعتقدون بتأثيرها المستقل وجلبها للخير والشر ويحلفون بها فعدل الى الحلف بمواقعها ليعرفوا أنها مخلوقات مدبّرة ومسيّرة من قبل الخالق العظيم.

وهذا المعنى وارد في الروايات ففي حديث عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إن مواقع النجوم رجومها للشياطين، فكان المشركون يقسمون بها فقال سبحانه (فلا أقسم بها))(2) وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (كان أهل الجاهلية يحلفون بها فقال الله عزوجل:فلا أقسم...).

والمستفاد من استقراء الآيات الكريمة:ان للنجوم عدة وظائف وهي جارية ببعدها المعنوي في أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).

ص: 6


1- حيث استطاع يوهانس كبلر (1571 – 1630) وصف حركتها بمعادلة رياضية ثم علل إسحاق نيوتن (1642 – 1727) حركتها بمحصلة قوى الاستمرارية والجاذبية.
2- مجمع البيان: 9/ 287

1 – الهداية، قال تعالى {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} (النحل:16) وقال تعالى {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأنعام:97) حيث كان الناس يتخذونها دليلاً لمعرفة الطرق في اسفارهم خصوصاً في البحار والمحيطات حيث لا توجد أي علامة غيرها قبل اختراع الآلات واستفادوا منها لتحديد الاتجاهات كالكعبة وبعض الأوقات فمن دون علامات في البر(1) ، ونجوم في الجو لا يهتدون الى الطريق الموصل للغرض.

وكان الجاهليون يستهدون بها لمعرفة حظوظهم ومستقبلهم ويتفاءلون بها ولذا كانوا يطلبون الخير والبركة منها، ولعل هذا يفسّر الحركة التمويهية التي قام بها إبراهيم في قوله تعالى {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ، فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ، فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} (الصافات:88-90) فكأنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) طلب منهم أن يكتشفوا من النجوم التي يعتقدون بها ما يشير إلى سقمه، وما كان سقيماً في جسده ولكنه كان مرتاداً طالباً للحقيقة وهي معرفة الله تبارك وتعالى.

وهذه الوظيفة -- وهي الهداية -- هي من أهم وظائف أئمة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فقد اختارهم الله تعالى ليكونوا هداة إليه وادلاء على طاعته يأخذون بأيدي الناس من ظُلمات الجهل والتعصب والضلال واتباع الشهوات والفتن إلى نور الهداية والسعادة والفلاح، قال تعالى {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ

ص: 7


1- كاختلاف التضاريس الأرضية من جبال وسهول وأنهار لذا كانوا يتيهون في الصحراء لعدم وجود علامات مميزة

الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} (الأنبياء:73) فهم يهدون بأمر الله تعالى كالنجوم التي وصفها الله تعالى بأنها {مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} (الأعراف:54)، ورد في تفسير قوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ} (الأنعام:97) عن علي ابن إبراهيم ان (النجوم:آل محمد(عَلَيْهِ السَّلاَمُ))(1) ووردت عدة روايات بهذا المعنى في تفسير قول الله عز وجل:{وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} منها عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) النجم، والعلامات هم الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بهم يهتدون)(2) .وهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أولى بالهداية لأنهم آيات الله العظمى التي تمشي على الأرض بين الناس اما النجوم فهي بعيدة عنهم ولا يعرفون تفاصيلها.

فمن سار على هداهم نجا ومن تنكب عنهم هلك:وقد اشتهر عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (الا مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف هنها هلك) (3) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وخلف فينا راية الحق، من تقدمها مرق، ومن تخلّف عنها زهق، ومن لزمها لحق)(4).

وهذا ما أكدته السيدة فاطمة الزهراء (س) في خطبتها (أما والله لو تركوا الحق على أهله واتبعوا عترة نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لما اختلف في الله أثنان ولورثها سلف

ص: 8


1- تفسير القمي:1/ 211
2- الكافي: ج 1 / 160 ح 1 وتجد مجموعة الروايات في البرهان: 5/ 328
3- فضائل الصحابة: أحمد بن حنبل: 2/ 785
4- نهج البلاغة: خطب الامام علي، ج 1 / ص 193

عن سلف وخلف بعد خلف حتى يقوم قائمنا التاسع من ولد الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولكن قدّموا من أخره الله وأخروا من قدّمه الله)(1) .ومن رسالة الامام المهدي (عج) إلى شيعته (او ما رأيتم كيف جعل الله لكم معاقل تأوون اليها، واعلاماً تهتدون بها من لدن آدم كلما غاب علم بدا علم، واذا أفل نجم طلع نجم)(2) .

2 – الزينة قال تعالى {وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (فصلت:12) {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} (الصافات:6) والزينة ما يحسِّن الانسان ويجمّل هيئته الظاهرية {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (الأعراف:31) والزينة تشمل الأمور الظاهرية والباطنية روى جابر الانصاري عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (زيّنوا مجالسكم بذكر علي بن أبي طالب)(3) عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (كنت انا وعلي نوراً بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق الله آدم بأربعة عشر الف عام، فلما خلق الله آدم قسّم ذلك النور جزأين ركّبا في آدم فجزء أنا وجزء علي بن أبي طالب، فنور الحق معنا نازل حيثما نزلنا)(4) .

روى الكليني (قال أبو عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):إن الله خلقنا فأحسن صورنا وجعلنا عينه في عباده ولسانه الناطق في خلقه ويده المبسوطة على عباده، بالرأفة والرحمة

ص: 9


1- موسوعة المصطفى والعترة للشاكري: 4 / 362 عن عوالم المعارف:11/ 228
2- الاحتجاج: 2/ 272.
3- بشارة الإسلام، أبو جعفر الطبري: 2/ 104
4- تذكرة خواص الأمة:46

ووجهه الذي يؤتى منه وبابه الذي يدل عليه وخزانه في سمائه وأرضه، بنا أثمرت الأشجار وأينعت الثمار، وجرت الأنهار وبنا ينزل غيث السماء وينبت عشب الأرض وبعبادتنا عبد الله ولولا نحن ما عبد الله)(1) .3 - الحماية والأمان:قال تعالى {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ، وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} (الحجر:16-17) روي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (النجوم أمان لأهل السماء، اذا ذهبت النجوم ذهب أهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض فاذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض)(2).

وقد اكتشف العلم الحديث الكثير من هذه الوظائف للنجوم من حيث حفظ التوازن في الكون وصدّ الشهب الثاقبة ومعرفة موقع واتجاه الحركة في الكون ونحو ذلك.

واخرج الحاكم عن ابن عباس، قال:قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق -- فلو لم يستهدوا بالنجوم فأنهم يتيهون في البحار ويغرقون --، وأهل بيتي أمان لامتي من الاختلاف فاذا خالفها قبيله من العرب اختلفوا فصاروا حزب ابليس)(3).

وقد روي عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين كما ينفي

ص: 10


1- الكافي: 1 / 144
2- امالي ابن الشيخ: 241.
3- المستدرك على الصحيحين: 3/ 162

الكير خبث الحديد) (1) وروى البرقي في المحاسن (فانظروا علمكم هذا عمن تأخذونه، فان فينا أهل البيت في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)(2).عن معاوية بن وهب قال (سمعت أبا عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (ان لله عند كل بدعة تكون بعدي ويُكاد بها الايمان ولياً من أهل بيتي موكلاً به يذبّ عنه، ينطق بالهام من الله ويعلن الحق وينوره ويرد كيد الكائدين ويعبر عن الضعف فاعتبروا يا اولي الابصار وتوكلوا على الله)(3).

ونستشعر هذا الأمان من خلال ولايتنا لأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ووجود امام معصوم يتابع شؤوننا (نحن وإن كنّا ناوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسب الذي أراناه الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين، فإنا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يعزب عنّا شي ء من أخباركم، ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون. إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولو لا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء)(4) .

ويمكن أن نأخذ تصوراً عن هذا الدور المهم للأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من

ص: 11


1- وسائل الشيعة (آل البيت): 27/ 150/ح43
2- بحار الأنوار: 2/ 92
3- الكافي:1/ 54
4- الاحتجاج للشيخ الطبرسي: ج 2، ص 323

خلال التجربة والمعايشة للدور المبارك الذي تؤديه المرجعية الرشيدة في حفظ كيان الأمة وحمايتها وتحصينها من الانحراف والضلال والمؤامرات الخبيثة التي تحاك لها، وخذ العراق مثلاً فان الفتن التي تعرّض لها والمكائد الخبيثة والمشاريع الشيطانية التي أغرقته في بحور من الدماء والفساد والشبهات والصراعات الا أنه بقي صامداً محافظاً على مبادئه بدرجة كبيرة بينما تنهار الدول والحكومات بأقل من ذلك بكثير.ومن مجموع هذه الوظائف العظيمة للنجوم فانه لا يمكن الاستغناء عن وجودها لذا فان أئمة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لا يمكن التخلف والاعراض عنهم او اتباع غيرهم بدلاً عنهم، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لا يقاس بآل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من هذه الأمة أحد ولا يُسَّوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا)(1). لكن بعض المنحرفين عن أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وضعوا حديثاً لخلط الأمور وتضييع الحقيقة على الناس وافتروا على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) وهم يعلمون باليقين أن كثيراً من هؤلاء الأصحاب ارتكبوا الجرائم والموبقات الكبيرة وبدّلوا دين الله تعالى وحرّفوا أحكامه وقتلوا أولياء الله تعالى فكيف يُهتدى بهم.

نعم وجدت في بعض مصادرنا ان الحديث مروي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لكنهّ فسَّر الاصحاب بأهل بيته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فقد روى الشيخ الصدوق (رحمه الله) بسند معتبر عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:قال رسول

ص: 12


1- نهج البلاغة: خطب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ج 1 - ص 30.

الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):ما وجدتم في كتاب الله عز وجل فالعمل لكم به لا عذر لكم في تركه، وما لم يكن في كتاب الله عز وجل وكانت فيه سنة مني فلا عذر لكم في ترك سنتي، وما لم يكن فيه سنة مني فما قال أصحابي فقولوا به، فإنما مثل أصحابي فيكم كمثل النجوم بأيها اخذ اهتدي، وبأي أقاويل أصحابي أخذتم اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة. فقيل:يا رسول الله ومن أصحابك؟ قال:أهل بيتي(1).نسأل الله تعالى أن يهدينا بنورهم ويزينَّنا بولايتهم ويحصنَّنا بأمانهم في الدنيا والآخرة.

ص: 13


1- معاني الاخبار ص156-157.

القبس /81: سورة النحل:98

{فَإِذَا قَرَأتَ ٱلقُرءَانَ فَٱستَعِذ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيطَنِ ٱلرَّجِيمِ}

شرحنا في القبس(1) المعنون بالاية {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (فصلت:36) وجه الحاجة المستمرة إلى الاستعاذة بالله تعالى من الشيطان الرجيم وشرحنا معنى الاستعاذة وانها ليست مجرد تحريك لسان وإنما هي حالة معنوية يعيشها الانسان.

وكان الأمر بالاستعاذة عاماً لكن الملفت ان الله تعالى خصَّ مورداً واحداً بالذكر طلب فيه الاستعاذة وهو عند قراءة القرآن ولا سيما في الصلاة التي هي معراج المؤمن، قال تعالى {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} واختيار وصف الرجيم له لزيادة التنفير منه وللتذكير بتمرده وعصيانه على الخالق العظيم مما اوجب رجمه وطرده.

وقوله تعالى {فَإِذَا قَرَأْتَ} يشير الى حالة الابتداء بالقراءة وان كان بصيغة الماضي كما لو قلت اذا اردت الذهاب الى كذا فخذ معك كذا، ويمكن ان يراد به بعد الانتهاء من القراءة كما هو ظاهر صيغة الماضي، وكون الامر بالاستعاذة جواب الشرط فتحقيق معنى الاستعاذة مطلوب قبل وبعد واثناء تلاوة القرآن وكان

ص: 14


1- راجع: قبس/134, من نور القرآن: 4/ 267

العبارة (لما تقرأ القران استعذ بالله من الشيطان الرجيم) اما قبلها فلازالة المعوّقات عن التدبر في الآيات والاستفادة منها وخلق البيئة النقية لتلقي المعارف القرآنية وتوجيه كل المشاعر الى الله تعالى ، واما اثناءها فلمنع الشيطان من التشويش وخلط الأفكار والايحاء بمعاني مخالفة لمراد المنزل العظيم كالذين قال تعالى فيهم {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (التوبة:125).واما بعد القراءة فللمحافظة على ما حصل عليه من بركات القران الكريم علما وعملا.

في مصباح الشريعة عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(من قرأ القرآن ولم يخضع لله، ولم يرق قلبه، ولا يكتسي حزنا ووجلا في سره، فقد استهان بعظيم شأن الله تعالى، وخسر خسرانا مبينا، فقارئ القرآن يحتاج إلى ثلاثة أشياء:قلب خاشع، وبدن فارغ، وموضع خال، فإذا خشع لله قلبه فر منه الشيطان الرجيم)(1).

فشرط الاستفادة من القرآن الكريم وفهم معانيه تنقية نفس الانسان بالتقوى وتطهير القلب، في الحديث الشريف (لولا ان الشياطين يحومون حول قلوب بني ادم لنظروا الى ملكوت السماوات)(2).

ص: 15


1- بحار الأنوار- المجلسي: 82/ 43/ح30.
2- بحار الانوار: 56/ 163.

القبس /82: سورة الإسراء: 11

اشارة

{وَكَانَ ٱلإِنسَنُ عَجُولا}

موضوع القبس:في العجلة الندامة الا في فعل الخير

قد يتوصل الانسان إلى معرفة عميقة بأجزاء جسمه ووظائفها والامراض العارضة لها وكيفية علاجها، لكن لا أحد يستطيع أن يصف الانسان في هواجسه وميوله وغرائزه ومكنونات ضميره أفضل من خالقه العظيم، وقد كشف القرآن الكريم عن جملة من هذه الاوصاف، قال تعالى {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً} (المعارج:19) {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (الأحزاب:72) {إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (إبراهيم:34) {وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} (الكهف:54) {إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ} (الحج:66) {إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} (العاديات:6) {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف:103) {وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} (الأعراف:79) {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} {المؤمنون:70) وغيرها مما تستحق أن يفرد لها بحث مستقل إلى ان تصل ذروة الشكوى من الانسان والدعاء عليه في قوله تعالى {قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} (عبس:17) وكانت نتيجة ذلك {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (العصر:2).

والمقصود ليس الانسان بذاته وحقيقته وأصل خلقته لأنه صٌمِّم {فِي أَحْسَنِ

ص: 16

تَقْوِيمٍ} {التين:4) ليكون خليفة الله في أرضه وأسجد له ملائكته {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (الإسراء:70) وعنده القابلية لأن يكون أعلى درجة من الملائكة اذا أخلص العبودية لله تعالى، وفي الحديث عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ما خلق الله عز وجل خلقاً أكرم على الله عز وجل من المؤمن لأن الملائكة خدّام المؤمنين)(1). وعلّل ذلك الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عندما سأله عبدالله بن سنان:الملائكة أفضل أم بنو آدم؟ فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (قال أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):إن الله ركّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركّب في بني آدم كلتيهما، فمن غلب عقلُهُ شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شر من البهائم) (2) .وانما المقصود الانسان بواقعه الخارجي وسلوكه العملي الذي اختاره بنفسه لأنه لم يحافظ على فطرته ولم يلتزم بما خُطِّط له واتبع هواه وغرّته الدنيا وزين له الشيطان عمله وفي الحديث (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه ويمجسانه) (3) ، ولو ناله التوفيق الإلهي وحصلت له التربية الصالحة لما انحدر إلى تلك الصفات، ولذا استثنت الآيات الكريمة ولم تشمل كل انسان {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً ، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ، إِلَّا الْمُصَلِّينَ ، الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} (المعارج:19-23) {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ،

ص: 17


1- الكافي: 2/ 33 ح 2
2- بحار الأنوار: 60/ 299 ح 5
3- بحار الاَنوار ج 3 ص 22

إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (العصر:2-3).ومن هذا نعرف أنه لا يوجد تنافي بين هاتين النظرتين القرآنيتين ومن تلك الغرائز والميول:العجلة وعدم التأني في اتخاذ القرار والموقف فيتخبط ويوقع نفسه في الضرر {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} (الأنبياء:37) حتى إنه بسبب استعجاله يدعو ويطلب الشر لنفسه كطلبه الخير حين يندفع لتحقيق مطامعه من دون أن يفرِّق بين الوسائل المشروعة وغير المشروعة للوصول إلى أهدافه. {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً} (الإسراء:11) فكونه عجولاً بطبعه علة لدعائه بالشر كما يدعو بالخير والظاهر أن (كان) هنا شأنية أي ان من شأنه ذلك أو (كان) التامة بمعنى وُجِد وخلق وفي طبعه العجلة، وتكون (عجولا) حالاً وليس خبر كان بناءاً على كونها ناقصة.

والدعاء هنا بمعنى الطلب وهو أوسع من كونه باللسان أو بالسعي والعمل فدعاؤه بالخير والشر أي طلبه لهما وسعيه اليهما كمن يطلب الرزق تارة بلسانه وأخرى بسعيه وجهده، قال تعالى {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الرحمن:29) وليس كلهم يسألون باللسان فالإنسان لطبعه العجول يطلب الشر أو يسعى اليه بالعمل كطلبه الخير {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} (الحج:47) {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} (الرعد:6) {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} (النمل:46).

ص: 18

وقد أورد القرآن الكريم نماذج من هؤلاء كقوله عن أحدهم - قيل إنه النضر بن الحارث(1) - {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَ-ذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأنفال:32) وقد استجاب الله تعالى دعائه وتمكّن منه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقتله ولذا ورد التوجيه من الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اعرف طريق نجاتك وهلاكك كي لا تدعو الله بشيء عسى فيه هلاكك وانت تظن أن فيه نجاتك)(2) .

دوافع العجلة:

وإنما يعجل الانسان لاتباعه هواه فيستعجل تحصيل اللذة والمتعة وما يوافق هواه أو لسذاجته وحسن ظنه المفرط أو لجهله بحقائق الأمور وعواقبها فيتوهم الأمور بالعكس فيرى الخير شراً والشر خيراً وتنقلب الموازين في نظره فيصبح عنده المعروف منكراً والمنكر معروفاً، فيصير ذلك حجاباً عن الحقيقة والمعرفة ومانعاً من التكامل.

الاستعجال محمود ومذموم:

والاستعجال قد يكون محموداً أو مذموماً فالمحمود ما كان في فعل الخير إذ تستحب المبادرة إليه ، قال تعالى {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (آل عمران:133) وقال تعالى

ص: 19


1- بحار الأنوار- المجلسي: 37/ 162
2- نور الثقلين: 3/ 141 عن مصباح الشريعة

{وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} (آل عمران:114) {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ} (البقرة:148) وروي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (التؤدة في كل شيء خير الا في عمل الآخرة) (1) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (التؤدة ممدوحة في كل شيء الا في فرص الخير)(2) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (اذا عرض شيء من أمر الآخرة فابدأ به، واذا عرض شيء من أمر الدنيا فتأنَّه حتى تصيب رشدك فيه)(3)، وإنما طلب التعجيل إلى فعل الخير لأن التثاقل والتباطؤ فيه يعطي فرصة للشيطان وللنفس الامارة بالسوء لثني الشخص عن المضي فيه كما في الحديث الشريف عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من همَّ بشيء من الخير فليعجّله فان كل شيء فيه تأخير فإن للشيطان فيه نظرة)(3) وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (اذا همَّ أحدكم بخيرٍ أو صلةٍ فإن عن يمينه وشماله شيطانين، فليبادر لا يكفّاه عن ذلك)(4).واما الاستعجال المذموم ففي اقتحام الأمور من دون حساب عواقبها والسير وراء المطامع والشهوات بمجرد خطورها في ذهنه وتراءي مصلحة ما فيها من دون تروّي وملاحظة النتائج والاثار وحينئذٍ يصطدم بالنتيجة وتحلّ به الندامة، اما اذا درس الموضوع بشكل جيد وعرف وجه الصلاح فيه. فحينئذٍ ينفذّ ما انعقد عليه عزمه، قال تعالى {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ} (آل عمران:159).

ص: 20


1- كنز العمال: 5674
2- غرر الحكم: 1937 (3 الامالي للطوسي: 7 ح 8
3- أصول الكافي، ج 2 كتاب الايمان والكفر، باب: تعجيل فعل الخير.
4- أصول الكافي، ج 2 كتاب الايمان والكفر، باب: تعجيل فعل الخير.

فعلى الانسان ان يصبر ويتأنى في نيل مقاصده واغراضه ويتحقق من كونها مشروعة وان الوسائل التي يريد بها تحقيق غرضه مشروعة أيضاً ونقية وعفيفة، روي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله:(انما اهلك الناس العجلة ولو ان الناس تثبتوا لم يهلك أحد)(1) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (ان الاناة من الله والعجلة من الشيطان)(2) وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (مع التثبت تكون السلامة، ومع العجلة تكون الندامة)(3) . وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (التأني في الفعل يؤمن الخطل، التروي في القول يؤمن الزلل)(4) .وبذلك يتّضح ان الاناة والتثبت من جنود الرحمن والعقل وان العجلة والتسرع من جنود الشيطان والجهل.

روي أن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) دخل المسجد وقال لرجل (امسك علي بغلتي -- أي احفظها وما عليها من السرقة والضياع إلى ان ينهي الامام عبادته لكن الرجل المؤتمن طمعت نفسه -- فخلع لجامها وذهب به فخرج علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعد ما قضى صلاته وبيده درهمان ليدفعهما إليه مكافأة له، فوجد البغلة عطلى -- أي خالية من السرج فقد سرقه الرجل طمعاً بثمنه --، فدفع إلى غلامه الدرهمين ليشتري به لجاماً، فصادف الغلام اللجام المسروق في السوق قد باعه الرجل بدرهمين، فأخذه بالدرهمين وعاد إلى مولاه.

ص: 21


1- المحاسن: 1/ 340 ح 697
2- نفس المصدر السابق، ح 698، كنز العمال: 5674
3- الخصال: 100، ح 52
4- غرر الحكم: 1310

فقال علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):إن العبد ليحرم نفسه الرزق الحلال بترك الصبر ولا يزداد على ما قدر له) (1) . فعجلته لتحصيل المال أدّت به إلى هذه النتيجة السيئة ولنا كلمة مستقلة اعطينا فيها امثلة من الواقع على هذه النتيجة.ومن صور الاستعجال المذموم قيام البعض بالتشهير بالآخرين وذمهم وتسقيطهم ونشر غسيلهم بمجرد وصول خبر إليه بذلك من دون أن يتحقق من صدق الخبر أو يعطي الفرصة للآخر لكي يبيّن الحقيقة ويعطي العذر، في الحديث المروي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (يا عبد الله لا تعجل في عيب أحدٍ بذنبه، فلعله مغفور له، ولا تأمن على نفسك صغير معصيةٍ فلعلك معذب عليه) (2) .

ومن كتابه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى مالك الاشتر لما ولّاه مصر (لا تعجّلن إلى تصديق ساعٍ فان الساعي غاش وإن تشبّه بالناصحين) (3) .

وهذه العجلة المركوزة في طبع الانسان هي التي تعمي بصيرته وتسلب عقله فتدفعه إلى التشبت بالدنيا والتمسك بها لأنه يجد فيها لذة عاجلة ويعزف عن متطلبات الآخرة لأنها مؤجلّة {إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} (الإنسان:27).

وقال تعالى {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ

ص: 22


1- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 2 - الصفحة 1076، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 3 / 160.
2- نهج البلاغة: الخطبة 140
3- نهج البلاغة: الكتاب 53

جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً} (الإسراء:18).ومن اسوأ النماذج على هؤلاء عمر بن سعد فانه عندما كلّفه ابن زياد بقيادة الجيش الخارج الى حرب الامام الحسين وبات ليلته يفكّر ويتأمل في ما عرض عليه من ولاية الري وجرجان ان قتل الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وفيها نار جهنم وانشأ ابياتاً منها:

أأترك ملك الري والري منيتي***ام ارجع مأثوماً بقتل حسين(1)

وأختار في النهاية الدنيا العاجلة الفانية معللاً ذلك بقوله (وما عاقل باع الوجود بدين) لكنه لم يكن عاقلاً في اختياره بل كان أحمقاً ومتوهماً.

ص: 23


1- اللهوف في قتلى الطفوف- ابن طاووس: 193

القبس /83: سورة الإسراء:19

اشارة

{وَمَن أَرَادَ ٱلأخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعيَهَا}

الأمور بخواتيمها:

مما يوجب حذر المؤمن في هذه الحياة الدنيا ويجعله في توجّس ويدفعه إلى مزيد من الاعتصام بالله تعالى، هو أن لا يختم له بخير، وإن كان عمله بحسب الظاهر صالحاً الآن إلاّ أنه لا تعرف خاتمته والأمور بخواتيمها، روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (لا يزال المؤمن خائفاً من سوء العاقبة لا يتيقن الوصول إلى رضوان الله حتى يكون وقت نزع روحه وظهور ملك الموت له)(1).

وقد ينجح الإنسان في امتحانات عديدة لكنه يسقط في أحدها سقوطاً نهائياً والعياذ بالله، عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(أن العبد ليعمل عمل أهل الجنة فيما يرى الناس وإنه لمن أهل النار، وإنه ليعمل عمل أهل النار فيما يرى الناس وإنه لمن أهل الجنة وإنما الأعمال بالخواتيم)(2) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(الأمور بتمامها والأعمال بخواتيمها)(3).

ص: 24


1- بحار الأنوار: 71/ 366 ح13.
2- كنز العمال ح950.
3- ميزان الحكمة- الريشهري: 1/ 724

قصة أحمد بن هلال العبرتائي:

وهذه الحقيقة لها شواهد قرآنية تاريخية كثيرة، ولنذكر مثالاً (حوزوياً) وهو أحمد بن هلال العبرتائي من كبار العلماء والرواة فقد قال عنه الشيخ الطوسي (روى أكثر أصول أصحابنا) ناهز التسعين من العمر (180-267)، حجّ (54) حجة، عشرون منها ماشياً على قدميه، قال عنه الكشي (وقد كان رواة أصحابنا بالعراق لقوه، وكتبوا منه) وقال العلامة (قد) أنه سمع منه (جل أصحاب الحديث واعتمدوه فيها).

وكان من أصحاب الإمامين الهادي والعسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلاّ أنّه مرّ بامتحان بعد استشهاد الإمام العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ففشل فيه وغلبه هواه وحسده وحبّه للرئاسة والزعامة فورد التحذير أولاً من الإمام المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من الانخداع بظاهره فقد كتب الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى نوابه (قوّامه) بالعراق في ابتداء أمره (احذروا الصوفي المتصنّع) ثم جاء لعنه من الإمام المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فقد ورد في كتاب الغيبة في ذكر المذمومين الذين ادّعوا البابية (قال أبو علي بن همام:كان أحمد بن هلال من أصحاب أبي محمد(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فأجمعت الشيعة على وكالة محمد بن عثمان (رضي الله عنه) بنص الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حياته، ولما مضى الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، قالت الشيعة الجماعة له:ألا تقبل أمر أبي جعفر محمد بن عثمان، وترجع إليه، وقد نصّ عليه الإمام المفترض الطاعة؟ فقال لهم لم أسمعه ينصّ عليه بالوكالة، وليس أنكر أباه، يعني عثمان بن سعيد، فأمّا أن أقطع أنّ أبا جعفر وكيل صاحب الزمان فلا أجسر عليه، فقالوا:قد سمعهُ غيرك، فقال:أنتم وما سمعتم، ووقف على أبي جعفر، فلعنوه وتبرئوا منه، ثم ظهر التوقيع على يد أبي القاسم حسين بن روح، بلعنه، وبالبراءة

ص: 25

منه في جملة من لُعن).ولم يتحمل كثير من الأصحاب هذا الخبر في حق ابن هلال لما ذكرنا من منزلته عندهم وأنكروا ما ورد في مذمّته (فحملوا القاسم بن العلاء على أن يُراجع في أمره فخرج إليه توقيع طويل جاء فيه (ونحن نبرأ إلى الله تعالى من ابن هلال لا (رحمه الله) وممن لا يبرأ منه، فأعلم الإسحاقي وأهل بلده مما أعلمناك من حال هذا الفاجر، وجميع من كان سألك ويسألك عنه)(1).

أهمية حسن الخاتمة:

فهذا وأمثاله كثير ممن كان له ظاهر تمتد إليه الأعناق، لكن قدمه زلّت ولم يتب ولم يصلح خطأه وأصرّ عليه فكان من الملعونين لذا ورد في الحديث النبوي الشريف (لا عليكم أن تُعجبوا بأحدٍ حتى تنظروا بما يُختمُ له، فإنّ العاملَ يعمل زماناً من عمره أو بُرهة من دهره بعملٍ صالحٍ لو مات عليه دخل الجنة، ثمّ يتحوّل فيعمل عملاً سيئاً)(2) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(إنّ الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة، ثمّ يختم له بعمل أهل النار)(3).

ولأهميّة حسن الخاتمة فقد أشير إليها كثيراً في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، وتكرّر طلبها في الأدعية المباركة، وأجاب القرآن الكريم باختصار عن

ص: 26


1- هذه النصوص نقلها من مصادرها: السيد الخوئي (قدس سره) في معجم رجال الحديث: 2/ 367- 370.
2- منتخب ميزان الحكمة: 206 عن كنز العمّال: 545، 589.
3- السابق.

كيفية ضمان الفوز بحسن الخاتمة في قوله تعالى {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (القصص:83) وبتفصيل أكثر قال تعالى {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} (الإسراء:19).

متطلبات الفوز بالآخرة:

فالفوز بالآخرة يتطلب بحسب الآية الشريفة:

1-إرادة جديّة وقصد حقيقي لنيل رضوان الله تبارك وتعالى وليس مجرد لقلقة لسان كما وصفهم الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الناس عبيد الدُنيا، والدين لعقٌ على ألسنتهم يحيطونه ما درّت معائشهم، فإذا مُحصّوا بالبلاء قلّ الديانون)(1)، وأن تكون إرادته مبنية على قصد الوصول إلى الهدف الحقيقي وهو رضا الله تبارك وتعالى وليس طاعة لغيره أو لأي هدفٍ آخر سواه.

2-السعي الجاد الدؤوب بما يصلح الآخرة ويضمن الفوز فيها، فقوله تعالى (وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا) يتضمن عدة خصائص لهذا السعي منها كونه حثيثاً ودؤوباً فقد قيل في معنى السعي أنّه ((المشي السريع ويستعمل للجد في الأمر)، (وأكثر ما يُستعمل السعي في الأفعال المحمودة)) ولتأكيد ذلك فقد أضافت الآية السعي إلى الآخرة أي أن يكون السعي مناسباً للآخرة بكل ما يعني ذلك، لتختصر كل ما تطلبه الآخرة من نوع السعي ومقداره وخصوصياته، قال السيّد صاحب الميزان ((والمعنى وسعى وجدّ للآخرة السعي الذي يختص بها ويُستفاد منه أنّ

ص: 27


1- ميزان الحكمة- الريشهري: 2/ 907

سعيه لها يجب أن يكون سعياً يليق بها ويحقّ لها كأن يكون يبذل كمال الجهدِ في حسن العملِ وأخذه من عقلِ قطعي أو حجة شرعية))(1).3-أن يقترن ذلك بالإيمان بالله تعالى وبرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأنّه شرط القبول ونيل الجزاء لأنّ باب الله الذي لا يُؤتى إلاّ منه {وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} (البقرة:189) وأن يتعزز الإيمان بالمعرفة بالله تعالى وإخلاص النية له سبحانه، وهذا الإيمان والمعرفة لابد أن تكون لها حقيقة، فيعتقد أن هذا كله لطفٌ من الله تعالى وأنّه لا يستقل بشيء عن ربّه، وأن يكون خائفاً مشفقاً إذا نظر إلى العمل من زاويته الشخصية، فإذا قُبل عمله بفضل الله ورحمته وهذا ما أكدته الآية اللاحقة {كُلاًّ نُّمِدُّ هَ-ؤُلاء وَهَ-ؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً} (الإسراء:20) ونحو ذلك من المعاني.

ما يؤمنك من سوء العاقبة:

وقد بيّنت الروايات الشريفة بعض مظاهر هذه المعرفة وهذه الأعمال الصالحة:عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إذا أردت أن يؤمنك الله سوء العاقبة فاعلم أن ما تأتيه من خير فبفضل الله وتوفيقه، وما تأتيه من سوء فبإمهال الله وإنظاره إياك وحلمه وعفوه عنك).(2) ومن كلام الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لبعض الناس (إن أردت أن يُختم بخير عملك حتّى تُقبض وأنت في أفضل الأعمال فعظّم لله حقّه أن تبذل نعمائه في معاصيه، وأن تغتر بحلمه عنك، وأكرم كلّ من وجدته يذكر منّا أو

ص: 28


1- الميزان في تفسير القرآن: 13/ 65.
2- بحار الأنوار: 70/ 392 ح60.

ينتحل مودّتنا).(1) عن الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إنّ خواتيم أعمالكم قضاء حوائج اخوانكم والإحسان إليهم ما قدرتم وإلاّ لم يُقبل منكم عمل، حنّوا على اخوانكم وارحموهم تُلحقوا بنا)(2).فمثل هؤلاء يكون سعيهم مشكوراً، وقد أطلق لفظ الشكر ليكون لا حدود له لأنّ صفات الله تبارك وتعالى لا حدود لها، ومن أسمائه الشكور.

لا بد أن يقترن الدعاء بالسعي:

وشدّدت الآية على أن الجزاء لا يتخلف عن السعي بل يكون نتيجة حتمية له، بعكس من يطلبون الدُنيا الذين ذكرتهم الآية السابقة على هذه، قال تعالى {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً} (الإسراء:18) فلا يتحقق له ما يريد بل ما يريده الله تبارك وتعالى، وليس لكل أحدٍ بل لمن يشاء الله تعالى أن يعطيه.

وبهذا المعنى الذي شرحناه لسعي الآخرة لابد أن نفهم معنى انتظار الإمام صاحب الأمر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والدعاء بقيام دولته المباركة، فلابد أن يقترن بالسعي الخاص به والمناسب له، فتقيّد أحاديث ثواب الانتظار والمنتظرين بأن يُسعى له سعيه.

وهكذا كل قضية في حياتنا يُراد تحقيقها فلابد أن يسعى لها سعيها المناسب لها كمن يريد أن يصبح طبيباً أو مهندساً فلابد أن يبذل الجهد المطلوب كماً

ص: 29


1- عيون أخبار الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 2/ 4 ح8 .
2- بحار الأنوار، 75/ 379.

ونوعاً ويسير وفق الآليات التي توصله إلى هدفه، ولا ينال كل ذلك إلاّ بلطف الله تعالى وتوفيقه ومدده.

ص: 30

القبس /84: سورة الإسراء:23

اشارة

{وَبِٱلوَلِدَينِ إِحسَنًا ۚ}

موضوع القبس:بر الوالدين

الآيات الكريمة والروايات الشريفة الواردة في وجوب بر الوالدين والاحسان اليهما وحرمة عقوقهما كثيرة جدا قال تعالى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (الإسراء:23) {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}(لقمان:14-15) {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} (الأحقاف:15) {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (البقرة:83) .

اما الروايات فكثيرة جدا نذكر منها:

ما روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لما سُئل عن حق الوالدين على ولدهما قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) باختصار (هما جنتك ونارك) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (رضى الله في رضا الوالد وسخط الله في سخط الوالد) وعن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(برُّ الوالدين اكبر فريضة)(1).

هذا معنى واضح ومعروف ولا يحتاج الى بيان وتفصيل وكل الذي علينا هو

ص: 31


1- راجع هذه الروايات وكثير غيرها في ميزان الحكمة . 9/ 567.

التنفيذ والالتزام بكل حب ومودة ورحمة وصبر وسعة الصدر.

أبوا هذه الأمّة:

اما ما اريد ان اشير اليه فهو مصداق آخر للوالدين تنطبق عليهما هذه الآيات والروايات بل هي فيهما آكد وأشد، وتبينهُ الرواية التالية، روى الشيخ الصدوق بسنده عن انس ابن مالك قال:(كنت عند علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الشهر الذي أصيب فيه وهو شهر رمضان فدعا ابنه الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ثم قال:يا أبا محمد اعل المنبر فاحمد الله كثيرا، وأثن عليه، واذكر جدك رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بأحسن الذكر، وقل:لعن الله ولدا عق أبويه، لعن الله ولدا عق أبويه، لعن الله ولدا عق أبويه، لعن الله عبدا أبق من مواليه، لعن الله غنما ضلت عن الراعي(1) وانزل. فلما فرغ من خطبته ونزل اجتمع الناس إليه فقالوا:يا ابن أمير المؤمنين وابن بنت رسول الله نبئنا {الجواب} فقال:الجواب على أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فقال أمير المؤمنين:إني كنت مع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في صلاة صلاها فضرب بيده اليمنى إلى يدي اليمنى فاجتذبها فضمها إلى صدره ضما شديدا ثم قال لي:يا علي، قلت:لبيك يا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، قال:أنا وأنت أبوا هذه الأمة، فلعن الله من عقنا، قل:آمين، قلت:آمين. ثم قال:أنا وأنت موليا هذه الأمة فلعن الله من أبق عنا، قل:آمين، قلت:آمين، ثم قال:أنا وأنت راعيا هذه الأمة فلعن الله من ضل عنا، قل:آمين، قال أمير المؤمنين

ص: 32


1- في رواية اخرى ان الفقرة الثالثة (لعن الله من ظلم أجيره) وذكر (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في معناها (الا واني وانت اجيرا هذه الامة فمن ظلمنا أجرتنا فلعنة الله عليه)، أنظر: مستدرك سفينة البحار- الشيخ النمازي: 9/ 264

(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):وسمعت قائلين يقولان معي:" آمين " فقلت:يا رسول الله ومن القائلان معي " آمين "؟ قال:جبرئيل وميكائيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ))(1).وورد في تفسير فرات بن ابراهيم بسنده عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير قوله تعالى {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (لقمان:14) قال (رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعلي ابن ابي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)) .

وفي تفسير القمي في قوله تعالى {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} قال:(فالوالدان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وامير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ))، وورد عن جابر عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير قوله تعالى {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} (البلد:3) انه امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وما ولد من الائمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وورد في تفسير قوله تعالى {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} (الأحقاف:15) هما رسول الله وعلي بن ابي طالب (صلوات الله عليهما).

ويشرح في تفسير العسكري معنى ابوتهما (صلوات الله عليهما) قال (ولقد قال الله تعالى {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) افضل والديكم واحقهما بشكركم محمد وعلي، وقال علي ابن ابي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سمعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول انا وعلي بن ابي طالب ابوا هذه الامة، ولحقُّنا عليهم اعظم من حق والديهم فانا ننقذهم ان اطاعونا من النار الى دار القرار ونلحقهم من

ص: 33


1- معاني الأخبار - الشيخ الصدوق: 118/ح1.

العبودية بخيار الأحرار)(1).

في معنى الأب:

قال الراغب في المفردات (الاب):الوالد ويُسّمى كل من كان سببا في ايجاد شيء او صلاحه او ظهوره اباً ولذلك يسمى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ابا المؤمنين، قال الله تعالى{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}(الأحزاب:6) روي انه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال لعلي (انا وانت ابوا هذه الامة)(2).

حياتان ووجودان:

فالإنسان له حياتان ووجودان:الاولى:حياة ووجود بدني مادي في هذه الحياة الدنيا به يأكل ويشرب ويتحرك ويتزوج مما يشارك فيه الحيوانات وينتهي بالموت، واصله من الوالدين النسبيين الاب والام مما اوجب لهما الحقوق المعروفة للوالدين.

الثانية:حياة ووجود معنوي به يتكامل ويسمو ويرتقي وهو الموجب للفوز في الحياة الابدية وقوامه الايمان بالله تعالى وبما جاءت به رسُلُه، وهذه هي الحياة الحقيقية للانسان {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} (العنكبوت:64)، وقد وصف الله تعالى في آيات كثيرة من القران الكريم الايمان بالحياة والكفر بالموت {وَلَا

ص: 34


1- هذه الروايات في بحار الانوار : 36/ 6-9 في باب عنوان (ان الوالدين رسول الله وامير المؤمنين (صلوات الله عليهما) وتوجد روايات اخرى في باب بعنوان (تأويل الوالدين والولد والارحام وذوي القربى بهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)) في بحار الانوار :23/ 257.
2- المفردات للراغب، مادة (اب).

تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} (آل عمران:169) وضرب امثلة عديدة للمؤمن والكافر بالأرض الميتة فأحييناها بماء الايمان والمعارف الالهية.

الابوة المعنوية:

والنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وامير المؤمنين علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هما اصل هذه الحياة المعنوية ووجودنا فيها ولولاهما لكنّا امواتاً {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} (الأعراف:43) فهما ابوا هذه الامة في حياتها المعنوية ولانها الحياة الاهم والاسمى كان حقهما (صلوات الله عليهما) اكبر من الوالدين النسبيين.

ولعل مما يدل عليه من القران الكريم لرفع الاستغراب قوله تعالى {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} (الزخرف:22) فقد حُمِل على العلماء (اي علماءنا الذين ربونا بالعلم بدلالة قوله تعالى {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} (الأحزاب:67) وقيل في قوله تعالى {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} انه عنى الاب الذي ولده والمعلم الذي علمه)(1).

بل يمكن القول انهما ابوا هذه الامة حتى بالمعنى الاول، لانهما العلة الغائية للموجودات خلق الكون لأجلهم وبهم يرزقون وبهم تستمر الحياة

((ولولاهم لساخت الارض باهلها)) وبهم يسبب الله الاسباب.

ص: 35


1- المفردات للراغب، مادة (اب).

لنكن أبناء بارّين:

والى الان نكون قد عرفنا جانبا من الحديث الذي له اتجاهان لان الابوّة من المعاني المتضايفة كما يعبر اهل المنطق والاصول اي النسبية ذات الاتجاهين، فلا تتحقق الابوّة الا بالبنوّة، لذا علينا ان نلتفت الى هذا التشريف العظيم الذي منَّ الله تعالى به علينا اذ جعلنا ابناءاً لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعلي بن ابي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الذي يعرف قيمته مثل الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حين يقول (ولايتي لعلي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أحب إلي من ولادتي منه، لأن ولايتي لعلي بن أبي طالب فرض، وولادتي منه فضل)(1).

لنقرأ الآيات برؤية جديدة:

وحينئذٍ نقرأ الآيات الكريمة بهذه الرؤية الجديدة {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} وتقدم ان حقهما (صلوات الله عليهما) اعظم من حق الوالدين الذي عرفنا عظمته، عن الامام الحسن السبط (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (محمد وعلي ابوا هذه الامة فطوبى لمن كان بحقهما عارفا ولهما في كل احواله مطيعا يجعله الله من افضل سكان جنانه ويسعده بكراماته ورضوانه) وعن الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من عرف حق ابويه الافضلين محمد وعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واطاعهما حق الطاعة قيل له تبحبح في اي الجنان شئت)(2).

ص: 36


1- البحار: ج 39: ص 299.
2- بحار الانوار : 36/ 10 عن تفسير العسكري :330.

في خصائص البنوة:

وعلينا ان نكون ابناءا بارين مطيعين، نقل في المناقب عن القاضي ابي بكر احمد ابن كامل قوله (يعني ان حق علي على كل مسلم ان لا يعصيه ابدا)(1).

واذا لم تتحقق شروط البنوة فان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وامير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يتبرءان منه وينفيان انتسابه اليهما، وتصور العار الذي يلحق من يتبرأ منه ابواه وينفيان نسبته اليهما، عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(اما يكره احدكم ان ينفى عن ابيه وامه الذين ولداه قالوا بلى، قال فليجتهد ان لا ينفى عن ابيه وامه الذين هما ابواه افضل من ابوي نفسه)(2).

حُكي ان ذئباً نزى على انثى غزال فحملت منه وولدت مولودا اختلف فيه هل هو ذئب ام غزال ليُطبَّق الحكم الشرعي على كل منهما، وتقول الحكاية ان القاضي حكم بان يقدم امامه نوعان من الطعام احدهما من الرياحين والمسك والاخر من الجيف ولحوم الميتة، فان تناول الاول فهو غزال وان تناول الثاني فهو ذئب(3).

ومحل الشاهد ان بنوّة الانسان لأحد تعرف من خلال المنهج الذي يسير عليه ويرتضيه لنفسه فان كان صالحا كان ابنا لرسول الله وامير المؤمنين (صلوت الله عليهما) وان كان فاسدا منحرفا فهو ابن لمعاوية ويزيد ونظرائهما.

ص: 37


1- بحار الانوار 36/ 11 عن مناقب آل ابي طالب : 3/ 126.
2- بحار الانوار : 36/ 10 عن تفسير العسكري :330.
3- (غضوا ابصاركم ترون العجائب): 89 عن كتاب سلسلة اصول الدين للمرحوم دستغيب: 2/ 109.

في الحديث الشريف عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(فإن الرجل منكم اذا ورع في دينه وصدق الحديث وادّى الأمانة وحسُن خلقه مع الناس قيل هذا جعفري، فيسرُّني ذلك ويدخل عليَّ منه السرور، وقيل هذا أدب جعفر ، واذا كان على غير ذلك دخل عليَّ بلاؤه وعاره، وقيل هذا أدب جعفر)(1).فالإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ينسبك فعلاً اليه والى ابائه الطاهرين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وتحمل لقبه اذا تحليت بهذه الصفات.

وفي القرآن الكريم قول ابراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} (إبراهيم:36) فمن سار على نهجه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واتبعه كان منه وليس فقط ينتسب اليه وبهذا استحق سلمان الفارسي هذا اللقب في الحديث النبوي المشهور (سلمان منا اهل البيت)(2) وبالعكس فان الانتساب البدني لا قيمة له اذا لم يكن مقترناً بالطاعة والاتباع، كما حكى القرآن الكريم في ابن النبي نوح (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} (هود:46).

نسأل الله تعالى ان يجعلنا اهلاً للتشرف بالبنّوة لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وامير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأن نؤدي حقوق هذا الانتساب بفضله وكرمه.

ص: 38


1- وسائل الشيعة : كتاب الحج، ابواب احكام العشرة، باب 1 ح2.
2- رواه الحاكم في المستدرك (3/ 598) ، والطبراني (6/ 261).

القبس /85: سورة الإسراء:36

اشارة

{وَلَا تَقفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ ۚ}

موضوع القبس:لا تعتنق عقيدة او فكرة ولا تقل او تفعل فعلاً الا عن علم ويقين

قال الله تبارك وتعالى:{وَلَا تَقفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ ۚ إِنَّ ٱلسَّمعَ وَٱلبَصَرَ وَٱلفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنهُ مَسُٔولا} (الإسراء:36)

ولا تقف:أي لا تتبع، من القفو وهو الاتباع كقولك اقتفيت أثره، والفرق ان الاتباع يطلق على كل افراده سواء كان اختياريا او باكراه، اما الاقتفاء فيختص بالاتباع الاختياري، فالآية تؤسس قاعدة رصينة في التلقّي والأخذ من قنوات ومصادر المعلومات الخارجية والداخلية وهي الاذن والعين والتأملات الذهنية فلابد أن يكون ذلك مستنداً الى العلم الذي يشمل المعلومات المتيقنة المأخوذة عن حس ومشاهدة، أو عن مصادر معتبرة عند العقلاء التي لا يُعبأ باحتمال الخطأ فيها كإخبار الثقة او التواتر.

وهذه القاعدة القرآنية يجب تفعيلها في كل نواحي الحياة، فلا يرتب أثراً على ما يسمعه او يجده مكتوباً أو ينقدح في ذهنه الا اذا وجد دليلاً علمياً عليه سواء كان في الاعتقاد او السلوك او العلاقات مع الآخرين ولا ينشر شيئاً الا بعد ان يتأكد من مصداقيته وجواز نشره، في الحديث عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ان

ص: 39

من حقيقة الايمان ان لا يجوز منطقك علمك)(1) وفي حديث عن الامام موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ليس لك ان تتكلم بما شئت، لان الله عز وجل يقول:{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}(2), وفي الحديث النبوي (ايّما رجل اشاع على رجل مسلم بكلمة وهو منها برئ كان حقا على الله ان يذيبه يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاد ما قال)(3)، فمن لا يأخذ بهذه القاعدة يعرّض نفسه للمسؤولية، ويكون اول شاهد عليه حواسه {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}.مثلاً شخص يدّعي عنواناً معيناً كالسفاره عن الامام المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) او الوكالة والنيابة عنه لا يجوز تصديقه لانها دعوى غير مستندة الى العلم، او شخص يتبنى مشروعاً معيناً كإصلاح الأوضاع العامة وتغيير أحوال الناس نحو الاحسن لا يجوز تصديقه واتباعه حتى يتحقق من مصداقيته، او ما ينشر على مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من اتهامات لهذا وذاك بالفساد والصفقات المشبوهة لا يجوز تصديقه وترويجه الا بعد التحقق من صدقه او ما تتداوله الناس من أخبار عن هذا وذاك أنه فعل كذا وقال كذا لا يجوز تبنّيه وترتيب الأثر عليه لان مثل هذه المصادر لا يوثق بها وقد تصل الحالة الى الاقتتال والقتل لمجرد انه قيل له ان هذا الرجل او تلك المرأة فعلا كذا وكذا قبل أن يتبيّن حقيقة الأمر وقد يكون المخبر مبغضاً او حاسداً او له غرض شخصي فيعمل على القاء الفتنه بهذه الاخبار وقد يكون متوهماً او مشتبهاً كما وقع في الكثير من الحالات.

ص: 40


1- وسائل الشيعة: 18/ 16،17.
2- علل الشرائع- الشيخ الصدوق: 2/ 605/ح80
3- الدر المنثور : 4/ 182 اخرجه الحاكم وصحّحه عن ابي ذر عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

والشرع المقدس يرى الصدق في هذه الأمور قبيحاً فكيف بالكذب لان فيها تدميراً للعلاقات الاجتماعية وتخريباً للأُسر، في الحديث النبوي الشريف (ثلاث يقبح فيهن الصدق:النميمة وإخبارك الرجل عن أهله بما يكرهه وتكذيبك الرجل عن الخبر)(1) وفي حديث اخر عن الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من روى على أخيه المؤمن رواية يبتغي بها شينه وهدّم مروته اخرجه الله تعالى من ولايته الى ولاية الشيطان ثم لا يقبله الشيطان)(2) بغض النظر عن كونه صادقاً او كاذباً فيما روى ، وبالمقابل مدح الله تعالى قوماً فقال تعالى {فَبَشِّرْ عِبَادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (الزمر:17-18) فلا يكتفي احدهم بصدق الخبر حتى يّرتب عليه الأثر أو ينقله للغير، لان الصدق قد يكون ضاراً، بل يتثبت من حسن القول مضافاً الى صدقه.وهذه القاعدة القرآنية مما تدعو له الفطرة السليمة أيضاً فانها تتحرى دائما الوصول الى الواقع والحقيقة فلا تعطي قيمة للمظنون او المشكوك، ويحاول العقلاء أن يصلوا الى الحقيقة وتحصيل العلم بأنفسهم إن أمكن والا فيرجعون الى من له العلم بذلك كمراجعة المريض للطبيب، أو رجوع عامة الناس الى المجتهد العارف بتحصيل الاحكام الشرعية وهكذا، ولا يعذرون من يتبنى عقيدة او قولاً او فعلاً من دون ذلك، وقد لبّى الله تعالى حاجة هذه الفطرة لدى الانسان فاعطاه السمع والبصر والعقل لتكون له أدوات يصل بها الى الحقيقة، وسيسأل الانسان عن

ص: 41


1- ميزان الحكمة: 5/ 44.
2- الكافي 2/ 358.

كيفية توظيفه واستعماله هذه الأدوات فهل ان ما اصغى له بسمعه كان من مصدره الموثوق، وهل ان ما نسبه الى عينه حينما يقول رأيت كان قد رآه فعلاً وواضحاً لديها فعلاً؟ وهل ان ما فكّر فيه ورتبّه بذهنه كان مستنداً الى معلومات ومقدمات صحيحة؟ وهذه الحواس ستشهد عليه وتجيب بصدق {حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (فصلت:20) فعلى الانسان ان يحذر ويتجنب اتباع ما ليس له به علم والا فانه لا يكون معذورا.والمطلوب دائماً هو التثبت من المعلومة قبل البناء عليها، ومن صدق الدعوى قبل التسليم بها، ولو بنى المجتمع حياته على هذه القاعدة القرآنية لأغلق أبواب الكثير من المفاسد والاضرار والخرافات والانحرافات وبهذا المنهج نحافظ على العلاقات الاجتماعية وسمعة الأشخاص وكرامتهم ومنع حصول حالة الإحباط واليأس لدى العاملين بسبب ما يشيعه الحاسدون، وبذلك نستطيع تقويم عقائد وأفكار المجتمع من الانحراف والضلال.

فعلى مستوى الاعتقاد:لم يقدّم الملحدون دليلاً علمياً على نفي وجود الخالق تبارك وتعالى وغاية ما يدّعون انه لم يثبت عندهم وجوده سبحانه فكيف يريدون بجهلهم هذا نفي الأدلة القاطعة التي يقيمها المؤمنون بالله تعالى.

والذين ينكرون المعاد ليس عندهم دليل وانما هو مجرد استبعاد وقصور اذهانهم عن تصور الحالة بينما المؤمن عنده الحجج الدامغة على هذه الحقيقة، وكذلك الذين ينكرون الوحي والنبوة، قال تعالى {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} (يونس:36).

ص: 42

وهكذا اذن المطلوب التثبت وتحصيل العلم في كل شؤون الحياة فلا يجوز تصديق خبر بناءاً على الاشاعات أو الاقدام على فعل لمجرد ان الناس فعلته مما سمّوه بالسلوك الجمعي وجعلوا له مثلاً يستشهدون به وهو (حشر مع الناس عيد) كزيارة بعض القبور او القيام ببعض الاعمال التي لم يثبت أصلها، او اتباع شخص لمجرد ادعاءات ما لم يتحقق من توفر الشروط المطلوبة. فهذه كلها مخالفة لهذه القاعدة القرآنية، وقد روي في كتب العامة عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (بئس مطية الرجل:زعموا)(1) وقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (اياكم والظن فان الظن اكذب الكذب)(2) وفي حديث آخر (إن افرى الفرى ان يُريَ الرجل عينيه ما لم تريا)(3).

وفي حواراتنا لابد ان نستند في مواقفنا الى الحجة والبرهان لا الظنون والقياسات ولا في احكامنا على الآخرين بالظن والتهمة والاشتباه والاحتمال، لذا لا يبني القاضي على كلام المدعّي في قضية معنية وإنما يطالبه بالبينة ويسمح للمدعى عليه بالدفاع عن نفسه وهكذا.

وبذلك يكون الإسلام قد سبق الحضارات المعاصرة في تأسيس منهج التثبت العلمي الشامل لكل شيء، حتى العلوم التجريبية والطبيعية حيث لا مكان للافتراضات الوهمية والاحتمالات غير الممحصة والاحكام الساذجة، ويجعل ذلك مسؤولية شرعية وأمانة يُسئل عنها وهذه الرقابة الداخلية مما تميز المنهج

ص: 43


1- سنن ابي داوود: ص256.
2- وسائل الشيعة: 18/ 38.
3- صحيح البخاري: 3/ 1565/ح7043, ط. مؤسسة المختار.

الإلهي عن المادي، ويستشعرها المؤمن حتى لو خلى عن أي رقيب حتى على مستوى المشاعر والخلجات القلبية، فلا يقول كلمة بلسانه ولا ينقل حادثة عن أحد ، ولا يحكم بعقله حكماً ولا يعقد أمراً الا وقد استند فيه الى المعلومة الصحيحة. فلنتعاون جميعاً لنشر هذه الثقافة القرآنية والمنهج القرآني الكفيل بتحقيق السعادة والصلاح ولتجنب التداعيات الاجتماعية الخطيرة، والا فان الثقة ستنعدم بالجميع ويختلط الصالح والفاسد وتضيع الحقيقة ونفقد كل أمل بالصلاح والإصلاح.

ص: 44

القبس /86: سورة الإسراء:70

اشارة

{وَلَقَد كَرَّمنَا بَنِي ءَادَمَ}

موضوع القبس:الكرامة المطلقة للإنسان

الكرامة الحقيقية:

تأكيد بعد تأكيد:باللام و(قد) وصيغة التفعيل(1) لهذه الحقيقة الإلهية وهي الكرامة المطلقة للإنسان التي تعتبر من أهم الأصول التي تستند إليها القوانين والتشريعات، هذا التكريم الذي أعلنه الله تعالى لكل الخلائق في الحفل الذي أقيم عند بدء الخلقة الإنسانية للتعريف بخليفة الله تعالى في الأرض حيث أمر الله تعالى ملائكته بالسجود لآدم، قد حسد إبليسُ الإنسان على هذا التكريم الإلهي، قال تعالى حكاية عن إبليس:{قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَ-ذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء:62) أراد اللعين سلب تلك الكرامة منهم بصدهم عن سبيل الحق، فالكرامة الحقيقية هي الوعي بالحق وهو

ص: 45


1- ثم أردفها بقوله تعالى: {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}، قال السيد الطباطبائي: (وهذا أيضاً أحد مظاهر التكريم فمثل الإنسان في هذا التكريم الإلهي مثل من يدعى إلى الضيافة وهي تكريم ثم يرسل إليه مركوباً يركبه للحضور لها، وهو تكريم ثم يقدم له أنواع الأغذية والأطعمة الطيبة اللذيذة وهو تكريم) (الميزان في تفسير القرآن: 15/ 154).

الطريق الذي يسلك به الإنسان إلى الله تعالى.

الكرامة تتفاوت بحسب التقوى:

وتتفاوت درجات الكرامة عند الله تعالى بحسب درجة التقوى التي يتحلى بها الانسان قال تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات:13) وإن الإنسان يزداد كرامة عند الله تعالى حتى يفوق مقامه الملائكة، ففي الحديث عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(ما شيء أكرم على الله من ابن آدم)(1)، وفي الرواية عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(ما خلق الله عز وجل خلقاً أكرم على الله عز وجل من المؤمن، لأن الملائكة خدام المؤمنين)(2).

وتشرح رواية عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تعليل ذلك في ما نقله عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إن الله عز وجل ركّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركب في بني آدم كلتيهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شر من البهائم)(3).

من مظاهر التكريم الإلهي:

لقد تجلى هذا التكريم في كل أبعاد الإنسان، فجعل جسده {فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين:4) وفي الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (صورة

ص: 46


1- ميزان الحكمة: 1/ 333.
2- ميزان الحكمة: 1/ 333.
3- علل الشرائع- الشيخ الصدوق: 1/ 4

الآدميين وهي أكرم الصور على الله)(1).وزوده بالعقل وأدوات العلم والمعرفة ليبني الحياة ويعمّرها ويطوّرها وينمّيها بينما المخلوقات الأخرى في دورة حياة ثابتة وسلوك واحد من لدن خلقها إلى قيام يوم الساعة.

وجعل ما في الأرض في خدمة الإنسان {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ} (الجاثية:13) وعلّمه كيف يتمتع بالطيبات ويتفنن في صنعها والاستفادة منها.

ومن مظاهر تكريم الإنسان إعطاؤه حرية الاختيار والإرادة والقابلية على التكامل والسمو والارتقاء ثم بعث إليه الأنبياء والرسل وأنزل معهم الشرائع الإلهية ليدلّوه على طريق السعادة والفلاح وليستطيع التمييز بين الخير والشر والهدى والضلال، ولتحفظ كرامة الإنسان وحقوقه.

تكريم الإنسان معيار سلامة المناهج والأديان:

ان أوضح دليل على صحة وسلامة المنهج المتبع – أيً منهج حتى الاديان– هو سعيه لتحقيق كرامة الانسان وحفظ حقوقه بحيث يجد الانسان انسانيته فيه، اما مناهج التكفير والعنف والاستغلال والاستعباد والاستئثار بثروات الشعوب وقهرها فهي خارجة عن الدين وان تسمّت باسمه وادّعت الدفاع عنه، لان الاديان السماوية شُرّعت لحفظ انسانية الانسان وكرامته وسعادته.

روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(يقول الله تعالى:لم أخلقك لأربح

ص: 47


1- نور الثقلين: 3/ 387، ح 308 عن تفسير القمي.

عليك، إنما خلقتك لتربح علي، فاتخذني بدلاً من كل شيء، فإني ناصر لك من كل شيء)(1).

ما الذي أراده القرآن الكريم من حقيقة التكريم؟

إن بيان القرآن لهذه الحقيقة يستهدف:

1-تأسيس هذه القاعدة الأساسية التي تبنى عليها كل القوانين والأنظمة والتشريعات حتى الدين نفسه وهي كرامة الإنسان التي هي فوق كل شيء وأي قانون أو تشريع يتعارض مع هذا الأصل أو يتنافى مع حقوق الإنسان التي وهبها الله تعالى لبني آدم يجب أن يُلغى أو يُعدَّل.

2-إلفات نظر الإنسان إلى عظمة مكانته عند الله تعالى وما حباه الله من نعم ليحترم نفسه ويحافظ على طهارتها ونقائها ولا يبيعها بثمن بخس، في الحديث الشريف:من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهوته(2).

فالتفات الإنسان إلى هذه الحقيقة يعطيه الثقة بنفسه ويعينه على الثبات والاستقامة، وهذه من الوسائل المهمة في التربية الصالحة.

3-لا تخلو الآية من عتاب للإنسان على تمرده وعصيانه على ربه الذي أكرمه بأفضل ما يكون الإكرام وأغدق عليه من النعم حتى صار الإنسان يقيِّم ربَّه على أساس ما يعطيه من نعم مادية {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} (الفجر:15-16).

ص: 48


1- ميزان الحكمة: 1/ 334.
2- نهج البلاغة: ج4، ح449.

ليس للإنسان أن يتنازل عن كرامته:

وهذه الكرامة للإنسان هبة من الله تعالى وإن الإنسان قد يحافظ عليها ويعطيها حقها، وقد يستخف بها ويتنازل عنها قال تعالى:{وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} (الحج:18) لذا على الإنسان أن يحفظ كرامة نفسه وأن يحفظ كرامة الآخرين بنفس الدرجة، فليس له أن يتنازل عن كرامته أو أن يذل نفسه أو أن يتخلى عن حقوق الإنسانية، في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إن الله تبارك وتعالى فوَّض إلى المؤمن كل شيء إلا إذلال نفسه) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه) فقيل له:وكيف يذل نفسه؟ قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(يتعرض لما لا يطيق) وفي رواية أخرى (يدخل فيما يُعتذر منه)(1).

ويوصينا الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) دائماً بحفظ كرامتنا وعزتنا والترفع عن فعل ما ينافيهما وإن بدا محبباً إلى النفس وموافقاً للشهوات، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(أكرم نفسك عن كل دنية وإن ساقتك إلى رغبة، فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضاً، ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً)(2).

لكي تكون الحياة كريمة:

إن كرامة الإنسان تتوفر بتمتعه بحقوقه في الحياة من الحرية والأمن والاستقرار والرفاء وسائر مستلزمات الحياة الكريمة، لكنها تكتمل بأمرين:

1-الالتزام بالدين، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إن الله قد أكرمكم بدينه

ص: 49


1- ميزان الحكمة: 3/ 364.
2- تحف العقول: 77.

وخلقكم لعبادته، فانصبوا أنفسكم في أداء حقه)(1)، وروي عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(كل عز لا يؤيده دين مذلّة).2-طاعة الإمامة الحقة والقيادة المنصوبة من الله تعالى بالحجة الشرعية، فقد جاء في الآية التالية لآية التكريم هذه قوله تعالى:{يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَ-ئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} (الإسراء:71) وهذا شاهد على ارتباط كرامة الإنسان وانسانيته باتباع الإمامة الحقة(2).

وقد وصف الله تعالى عباده المكرمين بقوله:{بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (الأنبياء:26-27) فهذه هي صفاتهم:متنزهون عن اتباع الشهوات التي تذل الإنسان وتهينه، دائبون في طاعة الله تعالى فاستحقوا منه المقام الرفيع {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} (يس:26-27).

ص: 50


1- ميزان الحكمة: 1/ 334.
2- روى الكليني بسنده عن علي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن ابيه الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انه اجاب رجلا سأله فقال : (أما قولك: أخبرني عن الناس، فنحن الناس ولذلك قال الله تعالى ذكره في كتابه: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) فرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الذي أفاض بالناس. وأما قولك: أشباه الناس، فهم شيعتنا وهم موالينا وهم منا (وهم اشباهنا ل خ) ولذلك قال إبراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (فمن تبعني فإنه مني) ، وأما قولك: النسناس، فهم السواد الاعظم واشار بيده إلى جماعة الناس ثم قال:(إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) الكافي : ج8، ص244، ح339.

معنى الاعتداء على الآخرين:

إن اعتداء الإنسان على كرامة أخيه الإنسان وسلبه حقوقه تبدأ من حين تخلي الإنسان عن كرامته الشخصية واتباعه لشهواته ورضاه بعبودية نفسه الأمّارة بالسوء أو طاعة غيره من العبيد، عن الإمام الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(من هانت عليه نفسه فلا تأمن شرّه)(1) وعن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(أذلّ الناس من أهان الناس)(2).

دولة الإنسان ودولة القانون:

إن كرامة الناس كل الناس لا تتحقق إلا في دولة الإنسان وذلك عندما يسود القانون الكريم على يد القائد الكريم وحينما تقام الدولة الكريمة التي تحفظ للجميع حقوقهم وتقوم على أساس المبادئ الإنسانية العليا، فدولة الإنسان أسمى وأرقى من دولة القانون؛ عندما لا يكون القانون صالحا وانما يشرّعه الناس لرعاية مصالحهم الضيقة ووفق رؤيتهم المحدودة والقاصرة ، ولا يكون صالحا الا اذا حفظ كرامة الانسان، لذا كان من الدعاء الذي علّمه الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لشيعته:(اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة)(3)، أما الدولة التي لا تقوم على أسس الكرامة الإنسانية فإنها تؤول إلى تسلط الأشرار والفاسدين واستعباد الناس ومصادرة حرياتهم والاستئثار بأموالهم وحرمانهم من مظاهر الحياة الكريمة.

ص: 51


1- تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 483
2- معاني الأخبار- الشيخ الصدوق: 196
3- مفاتيح الجنان: 235

الزهراء (س) تضحي من أجل دولة الإنسان النبوية:

أيها المؤمنون الموالون:

لقد كان موقف السيدة الزهراء (س) نوعياً بكل معنى الكلمة وفي مرحلة استثنائية من حياة الأمة التي قُدّر لها أن تقود البشرية جميعاً، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران:110)، تلك المرحلة التي شكّلت فيصلاً بين خط الكرامة الإنسانية التي وهبها الله تعالى للبشر، وخط الذلة والهوان والفساد والانحراف الذي يزداد انحطاطاً كلما مرّ الزمن.

فوقفت السيدة الزهراء (س) موقفها العظيم في ذلك الجو الرهيب لتحفظ كرامة الإنسان والأمة التي جاء بها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من الله تعالى، لكن الفترة التي قضاها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في أمته لم تكن كافية لتطهير مجموع الأمة من رواسب الجاهلية وأغلالها وعصبياتها، وإن الأصنام المنصوبة في الكعبة وإن حُطّمت يوم الفتح، إلا أن الأصنام المصنوعة في النفس الأمارة بالسوء من التعصب والجهل والانانية كانت موجودة ومحرّكة لسلوكيات الكثيرين، فكان القيام الفاطمي معزّزاً بعناصر التأثير والصدمة(1) التي أحدثتها السيدة الزهراء (س) مكمِ-لاً لرسالة الإصلاح والتطهير التي أداها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من أجل تحرير الإنسان وتكريمه.

ومن أهم معالم الحياة الإنسانية الكريمة التي دافعت عنها الزهراء (س)

ص: 52


1- كهيئة خروجها من المسجد وانينها وبكائها وفصاحتها في الخطاب وحججها البالغة (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

استمرار دولة الإنسان الكريمة التي أسسها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وضَمِن ديمومتها بالقيادة الربانية التي اختارها الله تعالى المتمثلة بأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ومما قالت (سلام الله عليها) في وصف الحياة الإنسانية الكريمة في ظل هذه القيادة الإلهية وما تنعم به الأمة من بركات فيما لو انصاعوا للحق ووّلوا امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ولسار بهم سيراً سُجحاً –أي سهلاً- لا يكلم حشاشه ولا يكل سائره، ولا يمل راكبه، ولأوردهم منهلاً نميراً صافياً، روياً، تطفح ضفّتاه، ولا يترنق - أي يتكدر- جانباه ولأصدرهم بطاناً –أي شبعانين- ونصح لهم سراً وإعلاناً، ولم يكن يتحلى من الدنيا بطائل ولا يحظى منها بنائل غير ري الناهل وشبعة الكافل)(1) أي لا يبقي لنفسه شيئاً دون الأمة كالأب الرحيم الكافل للعائلة فانه يكتفي بالقوت ويعطي ما عنده لعائلته.وبالمقابل حذرتهم من تداعيات الابتعاد عن منهج الكرامة الإلهية ومما قالت (س):(وأبشروا بسيف صارم وسطوة معتدٍ غاشم، وبهرج شامل، واستبداد من الظالمين، يدع فيئكم زهيداً، وجمعكم حصيداً، فيا حسرة لكم! وأنى بكم وقد عميت عليكم! {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} (هود:28)) فهذه هي نتائج عدم إقامة الدولة الكريمة:فتن وصراعات وهدر للأموال وفوضى عارمة واستبداد الحكام وفقدان للأمن والاستقرار والنظام.

ص: 53


1- الاحتجاج: 1/ 139.

كلامهم صدق:

أيها الأحبة:

لاحظوا المصداقية الكاملة لكلام السيدة الزهراء (س) فيما نعيشه اليوم وفي كل يوم، وهكذا يجب أن نتدبر في كلماتها (س) ونستفيد منها في معالجة مشاكلنا ووضع البرامج الصحيحة لحياتنا، أما الاقتصار على ذكر مظلومية الزهراء (س) دون التعرض لبيان أهداف حركتها فإنه تقصير في حقها وفي فهم رسالتها المقدسة، فقد كانت (سلام الله عليها) مكمّلة لدور أبيها وبعلها (صلوات الله عليهما) في مشروع بناء دولة الإنسان التي تكون فيها القيمة العليا للإنسان وتُراعى حقوقه في كل القوانين والأنظمة والدساتير، ولا مجال فيها للاستبداد والاستئثار والتخلف والجهل، وتتحقق نصرتنا للسيدة الزهراء (س) بمقدار مساهمتنا في إنجاح مشروعها العظيم.

وإننا إذ نعيش هذه المرحلة الاستثنائية في حياة البشرية وهذه الانطلاقة المباركة للعقيدة التي آمنا بها بعد قرون طويلة من القهر والاضطهاد والحصار يكون المطلوب من السائرين على نهج الزهراء (س) القيام بالعمل النوعي الذي أرست دعائمه، وعلينا أن نصنع لأنفسنا هذا الدور كالأفذاذ في كل جيل، وليس ننتظر أن يصنعه غيرنا ثم يكلّفنا به، ولا يُنال ذلك الا بتوفيق الله الكريم.

ص: 54

القبس /87: سورة الإسراء:79

اشارة

{وَمِنَ ٱلَّيلِ فَتَهَجَّد بِهِ نَافِلَة لَّكَ عَسَى أَن يَبعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاما مَّحمُودا}

موضوع القبس:صلاة الليل وسيلة الإعداد لتحمل المسؤوليات الكبيرة ونيل المقامات الرفيعة

{وَمِنَ اللَّيْلِ} يمكن أن تكون (من) بيانية باعتبار أن النهار من شأنه النشاط والحركة فلا يحتاج العمل فيه إلى بيان، اما الليل فهو للنوم والسكون فالعمل فيه يحتاج إلى توجيه، ويمكن أن تكون تبعيضية أي بعض الليل، والتبعيض يمكن أن يستفاد من الباء، وقد حدّدت آيات المزمِّل هذا البعض، قال تعالى {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ، نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً}(المزمِّل:2-4).

{فَتَهَجَّدْ} الهجود هو النوم ومعنى تهجّد أي قاوم النوم وتكلَّف اليقظة كالتمريض الذي يعني معالجة المرض.

{نَافِلَةً لَّكَ} تكليفاً زائداً خاصاً بك يا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حيث ان قيام الليل واجب عليه خاصة {عَسَى} ترجّى وأمل بأن يبلغ به المقام المحمود مقام الرسالة العظمى والولاية الكبرى وإظهار دينه على الدين كله والشفاعة الواسعة المقبولة وتفضيله على الخلق أجمعين، ولا داعي للاقتصار على أحدها في تفسير المقام المحمود.

ص: 55

واستعمال صيغة الترجي وليس صيغة الجزم والقطع مع ان إرادة الله تعالى اذا تعلقت بأمر فإنما {أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يس:82) لعل ذلك لإحداث المزيد من الرغبة والعزم، كالذي ورد في تفسير قوله تعالى {فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه:44) لحث النبي موسى وأخيه هارون (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على بذل الوسع في دعوة فرعون إلى الايمان والتوحيد، والله تعالى يعلم أن فرعون لا يتذكر ولا يخشى.وقد بيّنت آيات سورة المزمِّل المتقدمة ان قيام الليل يهيئ لإداء الأدوار الكبيرة وتحمّل المسؤوليات العظيمة، وتتمتها {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ، إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} {المزمل:5-6) سنوحي اليك قولاً يحمل مسؤولية عظيمة وفيه معاني عميقة وثقيل في آثاره ونتائجه وثقيل في ما يسببه لمن يصدع به من مصاعب ومشاق {فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (الأعراف:2) فلكي تتحمل هذه الاثقال استعن بناشئة الليل أي العبادة التي تنشئها في الليل لأنها أصعب مراساً وأشد على النفس وأثبت لها وأصدق في الأداء وادعى لحضور القلب لانقطاع الشواغل، في الرواية عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (يعني بقوله: وَأَقْوَمُ قِيلاً:قيام الرجل عن فراشه يريد به الله عزوجل ولا يريد به غيره)(1) لذا فإنها تكون أحسن انتاجاً وتحقيقاً للغرض وهذه حقيقة ثابتة فان العظماء الذين بلغوا ما بلغوا من مقامات كانت علامتهم المميزة مواظبتهم على قيام الليل، فاذا كنتم من الساعين لنيل تلك المقامات --

ص: 56


1- وسائل الشيعة: 5 /269 أبواب بقية الصلوات المندوبة، باب 39 ح 5.

وحريٌّ بكل عاقل أن يكون كذلك -- فأعدوا أنفسكم بهذه الرياضة المعنوية لتساعدكم على نيل الخصال الكريمة.لذا تضمنت الوصايا التي قدمّها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهو يُعِّده لخلافته العظمى تركيزاً على صلاة الليل، عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (كان في وصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن قال:يا علي أوصيك في نفسك بخصال فاحفظها ثم قال:اللهم أعنه.... -- إلى ان قال -- وعليك بصلاة الليل، وعليك بصلاة الليل، وعليك بصلاة الليل)(1) .

ومن سننه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه كان يفرّق صلاة الليل على اجزائه ليكون في جميع وقته مستأنساً بلقاء ربه ففي التهذيب بسند صحيح عن معاوية بن وهب قال (سمعت أبا عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول:وذكر صلاة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:كان يؤتى بطهور فيخمر عند رأسه ويوضع سواكه تحت فراشه ثم ينام ما شاء الله، فإذا استيقظ جلس، ثم قلب بصره في السماء ثم تلا الآيات من آل عمران " إن في خلق السماوات والأرض "(2) الآيات، ثم يستن ويتطهر، ثم يقوم إلى المسجد فيركع أربع ركعات على قدر قراءة ركوعه وسجوده على قدر ركوعه، يركع حتى يقال:متى يرفع رأسه ويسجد حتى يقال:متى يرفع رأسه، ثم يعود إلى فراشه فينام ما شاء الله، ثم يستيقظ فيجلس فيتلو الآيات من آل عمران، ويقلب بصره في السماء ثم يستن ويتطهر ويقوم إلى المسجد ويصلي الأربع ركعات كما ركع قبل

ص: 57


1- رواها في وسائل الشيعة عن المشايخ الثقات في اصولهم في عدة مواضع منها في كتاب الصلاة، أبواب بقية الصلوات المندوبة، باب 39 ح 1.
2- الآية 190 من السورة وما بعدها.

ذلك، ثم يعود إلى فراشه فينام ما شاء الله ثم يستيقظ ويجلس ويتلو الآيات من آل عمران ويقلب بصره في السماء، ثم يستن ويتطهر ويقوم إلى المسجد فيوتر ويصلي الركعتين، ثم يخرج إلى الصلاة)(1) ورواه الكليني في الكافي بسند صحيح عن الحلبي عن ابي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وفيه (ثم قال:لقد كان لكم في رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أسوة حسنة، قلت:متى كان يقوم؟ قال:بعد ثلث الليل)(2) وفيه قال:في حديث آخر:(بعد نصف الليل)(3).وقد اختصر الحديث المروي عن الامام الحسن العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هذه الأهمية بقوله (الوصول إلى الله تعالى سفر لا يدرك الا بامتطاء الليل)(4) أي ان الاعمال الصالحة الموصلة إلى الله تعالى لابد ان تُتوِّج بصلاة الليل لتوصل إلى الهدف.

وهذا الحديث له دلالات عديدة منها أن الوصول إلى الله تعالى ممكن ولكنه يحتاج إلى حركة وسلوك وقطع مسافة بما يتطلب ذلك من جهد وجهاد، وأنّه يحتاج إلى مركب ليقطع به الطريق وهي صلاة الليل، وأن يترك كل شيء مما يتعلق به قلبه وراءه كالمسافر الذي يهجر وطنه وداره وأهله وولده وماله

ص: 58


1- وسائل الشيعة: 3/ 195 ح 1، التهذيب: 2/ 334 ح 1377
2- وهذا مما يُستدل به على أن وقت صلاة الليل يبدأ قبل منتصف الليل بعد مضي ثلثه، ومما يدلّ على ذلك آيات سورة المزمَّل الماضية فان فيها (نصفه، أو زد عليه) والزيادة على النصف تعني القيام قبل منتصف الليل.
3- وسائل الشيعة: 3/ 196 ح 2، الكافي: 3/ 445 ح 13
4- بحار الأنوار: 78/ 379، مسند الامام العسكري:379، الأنوار البهية للمحدث القمي:161.

ومنصبه وجاهه وعلاقاته وسائر تعلقاته.ويفيد الحديث أيضاً ان الصلوات المفروضة قد لا يكفي اتخاذها وسيلة لقطع هذا السفر ولابد من امتطاء صلاة الليل معها ليتحقق الوصول إلى الهدف بإذن الله تعالى وإن الصلاة بشكل عام هي أداة هذا العروج إلى الله تعالى ولعل هذه المعاني منشأ الكلمة المشهورة على ألسنة العلماء (الصلاة معراج المؤمن)(1) فهذه كلها معانٍ يمكن استفادتها بوضوح من الحديث الشريف.

ومن تشبيه صلاة الليل وعموم الطاعات بالسفر إلى الله تعالى نعرف انها تتعرض لنفس ما يتعرض له المسافر من مخاطر:كالتيه والمزالق والوحوش المفترسة وقطاع الطرق وفقدان الزاد، وهذه المخاطر بوجودها المناسب موجودة لمن يريد السفر إلى الله تبارك وتعالى، فقطاع الطرق هم المتلبسون بالدين الذين يضللون الناس بشبهاتهم، وفقدان الزاد بضياع العمر من دون تقديم عمل صالح (آه من قلة الزاد وطول الطريق وبعد السفر)(2) والوحوش المفترسة هم الذين

ص: 59


1- قال الشيخ محمد الريشهري في كتاب: الصلاة في الكتاب والسنة - الصفحة 15: لا يخفى أن عبارة " الصلاة معراج المؤمن " مع كثرة تداولها على الألسن بحيث صارت من أشهر الكلمات في وصف الصلاة، لم نجد لها مصدرا مسندا إلى (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أو الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، وهذا بعد أن استقصينا كلمات أصحاب الكتب في شتى العلوم ووجدناها في أكثر من ثلاثين موضعا من عباراتهم، علما أن كتب السنة كلها وكتب الشيعة جلها إلا ما دون في القرون الأخيرة - كروضة المتقين وبحار الأنوار للمجلسيين أعلى الله مقامهما والرواشح السماوية للمحقق الداماد قدس سره - خالية منها، فالظاهر أنها ليست برواية بل من عبارات علمائنا المتأخرين رضوان الله تعالى عليهم.
2- نهج البلاغة - خطب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ج 4 - الصفحة 17

يزينون الدنيا والشهوات ويوقعون الانسان في المعاصي ليطفئوا في قلبه نور الايمان، ويتحقق التيه بعدم أخذ العلم والمعروفة من أصله ومعدنه، قال أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فان العامل بغير علم كالسائر على غير طريق، فلا يزيده بعده عن الطريق الا بعداً من حاجته)(1) .هذا كله من ناحية الارتقاء في سلم الكمال، اما من ناحية الثواب فقد ورد في صلاة الليل فضل عظيم ففي الرواية عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير قوله تعالى {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة:17) قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ما من عمل حسن يعمله العبد وله ثواب في القرآن الا صلاة الليل، فان الله تعالى لم يبين ثوابها لعظيم خطرها عنده، فقال:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ، فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة:16 17)(2).

وفي حديث قدسي (ان العبد ليقوم في الليل فيميل به النعاس يميناً وشمالاً وقد وقع ذقنه على صدره فيأمر الله تعالى أبواب السماء فتفتح ثم يقول للملائكة:انظروا إلى عبدي ما يصيبه في التقرب إليَّ بما لم افترض عليه راجياً مني لثلاث خصال:ذنباً أغفره له، أو توبة أجدّدها له، أو رزقاً أزيده فيه، اشهدوا

ص: 60


1- بحار الأنوار: 1/ 209 ح 11 عن نهج البلاغة.
2- بحار الأنوار: 87/ 140

ملائكتي أني قد جمعتهن له)(1).وروى الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لجبرئيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):عظني:فقال:يا محمد عش ما شئت فانك ميت، وأحبب ما شئت فانك مفارقه، واعمل ما شئت فانك ملاقيه، واعلم أن شرف المؤمن صلاته بالليل، وعزّه كفّه عن اعراض الناس)(2).

وتوجد روايات كثيرة في الآثار الدينية والدنيوية المباركة التي تترتب على أداء صلاة الليل بفضل الله تعالى وكرمه.

ولأن صلاة الليل بهذه المنزلة العظيمة فانها لا تنال الا بتوفيق خاص ويحرم منها من ليس أهلاً لها، في الرواية (جاء رجل إلى أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):إني قد حرمت الصلاة بالليل فقال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنت رجل قيدّتك ذنوبك)(3).

وفي الحديث عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إني لأمقُتُ الرجل قد قرأ القرن ثم يستيقظ من الليل فلا يقوم، حتى اذا كان الصبح قام يبادر بالصلاة)(4).

هذا الحب لله تعالى وامتطاء الليل للوصول إليه سبحانه هو الذي أراده الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حينما طلب من ابن سعد تأجيل المعركة من عصر يوم التاسع إلى صبيحة يوم عاشوراء، فقد روي ان عمر بن سعد زحف بجيشه نحو معسكر الامام

ص: 61


1- وسائل الشيعة: 5/ 272
2- وسائل الشيعة: 5/ 269
3- وسائل الشيعة: 5/ 279
4- بحار الأنوار:83/ 127 ح 79

الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عصر يوم التاسع فأرسل أخاه العباس (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ليستعلم خبرهم فقصدهم في عشرين فارساً فيهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر فقال لهم العباس (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ما بدا لكم، وما تريدون؟ قالوا:جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو ننازلكم! قال:فلا تعجلوا حتى ارجع إلى أبي عبدالله فاعرض عليه ما ذكرتم) ثم أتى إلى الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بما عرض عليه عمر بن سعد قال (ارجع اليهم:فان استطعت أن تؤخرهم إلى غدوة وتدفعهم عند العشية، لعلنا نصلي لربنا الليلة، وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أني قد كنت أحب الصلاة له وتلاوة كتابه، وكثرة الدعاء والاستغفار) فبات الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تلك الليلة راكعاً ساجداً باكياً مستغفراً متضرعاً، وبات أصحابه ولهم دوي كدويّ النحل)(1). جزاهم الله تعالى عن الإسلام وأهله خير جزاء المحسنين.

ص: 62


1- تاريخ الطبري: 5/ 416، الكامل في التاريخ: 2/ 558، البداية والنهاية: 8/ 176 الارشاد: 2/ 89، مناقب ابن شهراشوب: 4/ 98 مقتل الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) للخوارزمي: 1/ 251 وغيرها.

القبس /88: سورة الكهف:13

اشارة

{إِنَّهُم فِتيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِم}

موضوع القبس:الفتّوة زينة الانسان

تعرف المعاجم اللغوية الفتوة بانها مرحلة عمرية للإنسان فالفتى هو الشاب الطري الحدث وتطلق على غير الانسان كالفتي من الابل، لكن المحققين في أصول المفردات يرون ان الشباب غير كافٍ وحده لإطلاق عنوان الفتوة مالم تجتمع فيه خصال الكمال لذا قيل (ليس الفتى بمعنى الشاب والحدث إنما هو بمعنى الكامل الجزل من الرجال)(1) مع شيء من الطراوة والجدة لذا فإن الشاب اعم من الفتى.

وتوسع المعنى -- وهو الأمر البالغ التّام -- من الأشياء الخارجية كالفتى من الانسان والحيوان إلى المعنوية، فاشتقت الفتوى إذ ان الإفتاء هو النظر التام البالغ الذي يبيّن المشكل من الأمور ويقوّي الحق فيها لذا فالنظر أعم من الفتوى، ولا تختص بالأحكام الشرعية، قال تعالى {قُضِ-يَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} (يوسف:41) وقال تعالى {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ} (يوسف:46) وقال تعالى {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} (النمل:32).

ص: 63


1- التهذيب: 14/ 327 بواسطة كتاب التحقيق في كلمات القرآن للمصطفوي:9/ 28

وعلى هذا فليس كل شاب فتى ما لم يكن تاماً بالغاً ومدبراً عاقلاً، وقد توسّع هذا المعنى في القرآن الكريم وروايات المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لكل من اتصف بهذه الخصال الكريمة وان لم يكن في عمر الشباب قال تعالى : {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} (الأنبياء:60) وقال تعالى {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} (الكهف:60)، ووصف النساء العفيفات - وإن كن مملوكات - بالفتيات للتبجيل والتوقير، قال تعالى {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} (النور:33) وقال تعالى {فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} (النساء:25).وبهذا اللحاظ أطلق القرآن الكريم على أصحاب الكهف وصف الفتية وهم لم يكونوا شباباً، ففي رواية الكافي عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انه قال (لرجل عنده:ما الفتى عندكم؟ فقال له:الشاب، فقال:لا، الفتى المؤمن، إن أصحاب الكهف كانوا شيوخاً فسماهم الله عز وجل فتية بإيمانهم)(1) .

ورويت بطريق آخر عن سليمان بن جعفر الهمداني عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال فيها (أما علمت أن أصحاب الكهف كانوا كهولاً فسمّاهم الله فتية بإيمانهم، يا سليمان من آمن بالله واتقى فهو الفتى)(2) .

وقد أظهر أصحاب الكهف من الفتوة ما أبهر العقول واستحق الثناء من الله تبارك وتعالى فقد آمنوا بالله تعالى ووحّدوه ونبذوا ما كان عليه قومهم من الشرك

ص: 64


1- الكافي: 8/ 395 ح 595
2- تفسير العياشي: 2/ 32 ح 11 ، تفسير البرهان: 6/ 118

والوثنية وعبادة الطاغوت وهو امبراطور الرومان ولم ترعبهم قوته وبطشه وقسوته ولم يخلدوا إلى الدنيا التي تزيّنت لهم وكانوا فيها مترفين ومن علية القوم، لكنهم آثروا ما عند الله تعالى ووقفوا بشجاعة في وجه الطاغوت وعرّفوه بحقيقته التافهة واعانهم الله تعالى بالتأييد والثبات وقوة القلب ورسوخ الايمان {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ، وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} (الكهف:13-4) وهؤلاء الفتية نعم الأسوة لنا، ولم يكونوا من الأنبياء ولا من المعصومين حتى يقال اننا لا نستطيع بلوغ درجتهم وتكرار نسختهم.وقد اعطى المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) قيمة كبيرة للفتوة، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ما تزيّن الانسان بزينةٍ أجمل من الفتوة)(1) وبيّنوا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عدة خصال كريمة يتضمنها معنى الفتوة كبذل المعروف للناس وكف الأذى عنهم واجتناب القبائح ونحو ذلك فعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (بعد المرء عن الدنيّة فتّوة)(2) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (الفتوة نائل -- أي عطاء -- مبذول، وأذى مكفوف)(3) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (نظام الفتوة -- أي تمامها وكمالها -- احتمال عثرات الاخوان وحسن تعهد الجيران)(4) .

ص: 65


1- غرر الحكم/9659
2- غرر الحكم: 4425
3- غرر الحكم: 2170
4- غرر الحكم: 9999

وقد تجلّت الفتوة بأكمل خصالها في رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، روى الشيخ الصدوق بسنده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن أبيه عن جده (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ان اعرابياً أتى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فخرج اليه في ثوب مزيًّن ، فقال:يا محمد لقد خرجت اليَّ كأنك فتى، فقال: (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نعم يا اعرابي أنا الفتى ابن الفتى أخو الفتى، فقال:يا محمد أما الفتى فنعم، وكيف ابن الفتى وأخو الفتى، فقال:اما سمعت الله عز وجل يقول {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} فانا ابن إبراهيم، واما أخو الفتى فان منادياً نادى في السماء يوم أحد:لا سيف الا ذوالفقار ولا فتى الا علي، فعلي أخي وأنا أخوه)(1) .وصحّح الأئمة أيضاً المعاني المنحرفة لهذه الصفة النبيلة حيث اطلقت على المكر والخداع و(البلطجة) في مصطلح اليوم، روي ان أصحاب الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تذاكروا عنده الفتّوة (فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):وما الفتوة؟ لعلكم تظنّون أنها بالفسوق والفجور! كلاّ، إنما الفتّوة طعام موضوع، ونأئل مبذول، وبشر مقبول، وعفافُ معروف، واذى مكفوف، واما تلك فشطارة وفسق)(2) أي دهاء وخبث.

ولعله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يشير إلى الظاهرة الاجتماعية التي انتشرت يومئذٍ بمن يسمّونهم (الشطّار والعيّارين) وكانوا يؤذون الناس ويستهزئون بهم ويسلبونهم أموالهم وممتلكاتهم بعنوان الشطارة وهكذا في كل زمان يوجد من يُلبس الأفعال والمظاهر السيئة عناوين جميلة لتسويقها داخل المجتمع.

ص: 66


1- معاني الاخبار:119
2- أمالي الصدوق:443، المجلس82، الحديث 3، أمالي الطوسي، معاني الأخبار: 119، بحار الأنوار:79/ 300 ح 9.

وحكى في مجمع البحرين أن هذا الكلام منه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (رد على ما كان يزعمه سفيان الثوري وغيره من فقهاء العامة من أن التوبة بعد التفتي والصبوة ابلغ وأحسن في باب التزّهد، من الزهادة والكف عن المعصية رأساً في بدء الأمر)(1) وهذه من شطحاتهم المنكرة.وقد التصقت الفتوة بالشباب لأن عندهم الأهلية للتحلي بمعانيها الكريمة فأنهم يتصفون بطراوة الفطرة وطهارة النفس وبالشجاعة والقوة والاقدام والتضحية والنخوة والحيوية والمسارعة إلى الخير، حيث يقوم شبابنا اليوم بخدمات إنسانية وفعاليات ميدانية وتعبوية تجسّد معنى الفتوّة .

فلإحياء هذه الصفة الكريمة وبيان معانيها السامية وترسيخها في الفرد والمجتمع وتنقيتها من سوء الاستعمال وتشجيع الفعاليات الميدانية والتعبوية التي يطلق عليها احياناً عنوان (الكشافة) ولبيان سيرة فتيان الإسلام ندعو الى تعيين يوم للفتوة، وقد اخترت له يوم الخامس عشر من شوال لأنه ذكرى معركة أحد وإعلان السماء أن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هو فتى الإسلام بلا منازع يوم نادى منادي السماء (لا فتى الا علي).

فأدعوكم إلى إقامة هذه الفعالية وضعوا برامج لاكتساب المجتمع خصوصاً الشباب هذه الخصلة الكريمة لنساهم في ارتقاء الأمة وازدهار البلد، وليقم العلماء والكتّاب والمفكّرون بالتعريف بتفاصيلها والله معكم وهو ناصركم إن شاء الله.

ص: 67


1- مجمع البحرين: المجلد الأول: 201 مادة فتا

القبس /89 : سورة الكهف:16

اشارة

{فَأوُۥاْ إِلَى ٱلكَهفِ}

موضوع القبس:اللجوء إلى الكهف المعنوي

قال الله تبارك وتعالى:{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً} (الكهف:16).

تقع الآية الشريفة في سياق قصة أصحاب الكهف التي حكاها القرآن الكريم في سورة باسم الكهف، وقد كان الإيواء إلى الكهف واتخاذه مأوى وسكناً بعيداً عن قومهم ليمارسوا شعائر الله تعالى هو القرار الذي ألهمه الله تعالى الفتية أصحاب الكهف الذين ربط الله تعالى على قلوبهم وزادهم هدى، فاتفقوا عليه بعد أن دعوا قومهم إلى الإيمان والتوحيد ونبذ الشركاء والآلهة التي يعبدونها من دون الله تعالى سواء كانت هذه الآلهة حجرية أو بشرية وهم أباطرة الرومان، لكن دعوتهم لم تؤثر في المجتمع الوثني يومئذٍ، وانكشف أمرهم للسلطة فلاحقتهم للقضاء عليهم وعلى دعوتهم، فرأوا أن القرار الذي يجب اتخاذه هو الفرار من قومهم واعتزالهم والابتعاد عنهم ونبذ ما يعبدون من دون الله تعالى واللجوء إلى كهف يقع في جبل خارج المدينة ليحافظوا على أنفسهم وعلى

ص: 68

عقيدتهم وأخلاقهم، وكلّفهم هذا الإيواء التنازل عن مواقعهم في السلطة والحياة المترفة التي كانوا عليها ومفارقة الأهل والأحبة والأوطان، وافترشوا التراب في كهف ناءٍ مظلم موحش مخيف، لكنهم كانوا يرون في ذلك الكهف الضَيّق الحياة الرحيبة الهنيئة لأن رحمة الله تظلله ويملأه رضوان الله تعالى، أما الحياة المترفة في ظل السلطة البعيدة عن الله تعالى فإنها نكدة ضيٌّقة وكأنهم يكررون بذلك ما قاله الصديق يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حين رفض الاستجابة لإغراءات امرأة العزيز مفضلاً حياة السجن الخشنة:{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ} (يوسف:33)، وهذا سمو روحي لا يدركه إلا من أحبّ الله تعالى من أعماقه وتعلق به مخلصاً.فهذا الإجراء قبل أن يكون مادياً – ان صح التعبير- لحفظ حياتهم وأنفسهم من القتل، فإنه إجراء معنوي لحفظ عقيدتهم وطهارة قلوبهم ونفوسهم من التلوث ببيئة الكفر والشرك والنفاق وما تحويه من فتن وضلالات وانحراف وفساد، قال تعالى:{وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} (الأنفال:25)، وقد كان خوفهم وقلقهم على دينهم أكثر من خوفهم على أرواحهم وقد حكى القرآن الكريم تصريحهم بذلك قال تعالى: {إِنَّهُمْ} أي قومهم الوثنيون {إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} (الكهف:20).

ولعل الفتية أصحاب الكهف كان نظرهم إلى الاعتزال المعنوي أكثر من المادي، وهذا واضح من النتيجة التي توخّوها فإنهم لم يقولوا نلجأ إلى الكهف لنأمن على أنفسنا ونحفظ حياتنا من القتل - وان كان هذا حقا مشروعاً لهم -

ص: 69

وإنما قالوا:{فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً} فقدموا الهدف المعنوي وهو تحصيل الرحمة الإلهية الخاصة التي كانوا يطلبونها من الله تعالى ويصفونها في دعائهم باللدنية، ويسألونه تعالى أن يمنَّ بها عليهم {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةًوَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} (الكهف:10)، ثم إيجاد حل ينفعهم ويرفق بهم ويجعل لهم فرجاً ومخرجاً من المأزق الشديد الذي هم فيه، ويخلصّهم من الأعداء المتربصين بهم.والمرفق هو ما يرتفق به أي ينتفع، ولا يخفى ما في لفظ {يَنْشُرْ} من الإشارة إلى أن الرحمة الإلهية بكل درجاتها موجودة (لا بخل في ساحته) إلا أنها مطويّة وتُستحق بشروط، فنشرت عليهم حين أووا إلى الكهف، فلم يعد الكهف ضيّقاً خشناً بل أصبح واسعاً رفيقاً ليّناً برحمة الله تعالى، وهذه قيمة عظيمة للإيمان يُحرَم منها الماديون والملحدون. وقد كان الفتية على ثقة مطلقة بأن الله تعالى سيعتني بأمرهم وسيلطف بهم بحيث ذكروا النتيجة مسلّمة {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته} ولم يقولوا عسى ولعل، وهذا ما حصل فعلاً وأبقى الله تعالى ذكرهم خالداً بخلود كتاب الله تعالى لهداية الناس، وهذه سُنّة إلهية أمر الله تعالى بها كما في سورة الكافرون وغيرها، حاصلها إنَّ شرط نزول الرحمة والنصر الإلهيين يتحقق بمباينة أهل المعاصي واجتنابهم، وقد أدركها أصحاب الكهف بلطف الله وعنايته.

ومن لطائف القرآن الكريم أنه لا يذكر الحوادث ويسرد القصص بشكل

ص: 70

يجعل آياته مختصة بالواقعة التي نزلت فيها، وإنما يصوغها بنحو مثمر مبارك ينتفع بها الخلق جميعاً إلى قيام يوم الساعة ولو توقفنا عند خصوصيات كل حادثة يحكيها القران الكريم، فأنها ستكون حكاية عن كيفية خاصة بأهل الكهف.فالآية الكريمة تعطينا درساً في الرجوع إلى الله تبارك وتعالى دائماً واللجوء الى كهفه الحصين في الأزمات والشدائد وعند اختلاط الأمور وانتشار الفتن ليشملهم برحمته الخاصة ويهيئ لهم من أمرهم رشداً، وتبيّن بأن الوسيلة إلى النجاة من بيئة النفاق والفساد والضلال والظلم والانحطاط هو باعتزالها معنوياً وتجنب التأثر بها، وليس من الضروري الانعزال(1) عنها والانزواء في البيت أو أي مكان آخر لوجود ضرورة لممارسة الحياة الطبيعية من حيث طلب الرزق وسدّ الاحتياجات المتنوعة والاهم من ذلك التفقه(2) في الدين وممارسة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الجاهل وارشاد الضال والدعوة الى الله تتبارك وتعالى ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) واهل بيته (صلوات الله عليهم اجمعين) وكلها تقتضي الاختلاط بالناس والتعامل معهم، فالمهم إذن هو الاعتزال المعنوي، وهكذا كان أصحاب الكهف فقد روى الشيخ الكليني (قده) في الكافي بسنده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(ما بلغت تقية أحد تقية أصحاب الكهف إن كانوا

ص: 71


1- راجع خطاب المرحلة (سلامة الدين في اعتزال الناس) في موسوعة خطاب المرحلة:8/ 289 ونظائرها من الخطابات.
2- كما روى الكليني بسند معتبر انّ رجلا قال للإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) : جعلت فداك رجل عرف هذا الأمر لزم بيته ولم يتعرّف إلى احد من اخوانه، قال : فقال: كيف يتفقّه هذا في دينه : الكافي ج 1 / ح9.

ليشهدون الأعياد ويشدون الزنانير(1) فأعطاهم الله أجرهم مرتين)(2).وقد دلّتنا الأحاديث الشريفة والأدعية المباركة على مصاديق الكهف المعنوي الذي نلجأ إليه والعروة الوثقى التي نتمسك بها عند اشتداد الفتن والأزمات وانتشار الفساد والضلال والانحراف والنفاق.

أولها:الإيمان بالله تعالى وتوحيده بإخلاص، ففي الآية الكريمة:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا} (البقرة:256)، وفي الحديث القدسي (لا إله إلا الله حصني فمن دخله أمِن من عذابي)(3)، ومن وصية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لولده الحسن (وألجئ نفسك في الأمور كلها إلى إلهك فإنك تلجئها إلى كهف حريز ومانع عزيز)(4)، وفي الدعاء الشريف:(يا كهفي حين تعييني المذاهب)(5) و(يا كهف من لا كهف له)(6).

وثانيها:كهف الإسلام والانقياد لأوامر الله ونواهيه والعمل الصالح، قال تعالى:{وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى

ص: 72


1- جمع زنار وهو ما يشده النصارى والمجوس على اوساطهم، شعاراً لهم يعرفون به.
2- الكافي 2: 173 /ح8، تفسير العياشي : 2/ 323 ح9.
3- عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق: 1/ 144، ح2، باب 37 : ما حدث به الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في مربعة نيسابور وهو يريد قصد المأمون.
4- نهج البلاغة: 3/ 39، بشرح محمد عبده.
5- الكافي للكليني: 3/ 325، ح 17، باب: الركوع وما يقال فيه من التسبيح والدعاء فيه وإذا رفع الرأس منه.
6- بحار الأنوار: 84/ 257، عن مصباح المتهجد والبلد الأمين وغيرهما.

اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (لقمان:22).وثالثها:القرآن الكريم وولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) كما في حديث الثقلين المشهور:(إني قد تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي ما إن تمسكتم بهما:كتاب الله وعترتي أهل بيتي)(1) وما رواه أبو الصلت عن أبي الحسن الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(يقول الله عز وجل ولاية علي بن أبي طالب حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي)(2)، وعن أبي جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في صفة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) قال:(وهم الرحمة الموصولة والكهف الحصين للمؤمنين)(3).

حكى السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في إحدى رسائله التي جمعتها وطبعتها في كتاب قناديل العارفين قال:((إنني يوماً فتحت القرآن الكريم لأجد فيه منزلتي أمام الله سبحانه أو قل -بالتعبير الدنيوي- (رأي) الله فيّ فخرجت هذه الآية من سورة الكهف:{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً}. إن كل هذه الآية مفهومة لي بحسب حالي يومئذٍ إلا قصة (الكهف) الذي يكون من المطلوب أن آوي إليه، أي كهف هذا؟ وذهبت إلى الحرم العلوي على ساكنها السلام عسى أن ينفتح لي هناك عن هذا المعنى، وبدأت بزيارة (أمين الله) حتى وصلت إلى قوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(اللهم فاجعل نفسي مطمئنة بقدرك، راضية بقضائك.. إلى قوله:يا كريم) وقد حصل لي في تلك اللحظة (حدس) قوي بأن الكهف الذي

ص: 73


1- الكافي: 2/ 415، ح 1، باب: أدنى ما يكون به العبد مؤمناً أو كافراً أو ضالاً.
2- عيون أخبار الرضا: 2/ 146، باب 38.
3- بحار الأنوار: 26/ 255 عن تفسير فرات بن إبراهيم.

يجب أن أدخله هو هذا، أي أن تصبح نفسي على هذه الأوصاف وتجانب ما سواها، وقد عرضت ذلك على (مولاي) - يقصد به استاذه (قدس سره) في السير والسلوك الى الله تعالى - فأقرّه وقال بصحته))(1).وهؤلاء هم من وصفهم الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في مناجاة العارفين بقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فهم الى اوكار الأفكار يأوون)(2) أي انهم يأوون الى كهف المعرفة بالله تعالى.

أيها الاحبّة يا أنصار السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء (س).

هذا اللجوء إلى الكهف المعنوي لتحصيل الرحمة الإلهية الخاصة وحل الأزمات والنجاة من الفتن والضلالات هو ما أرادته الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (س) من الأمة ودعتهم إليه حينما قالت لهم في خطبتها: (فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك، وطاعتنا نظاماً للملة، وإمامتنا أماناً من الفرقة)(3).

وقالت في اللجوء إلى ولاية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (وتالله لو مالوا عن المحجّة اللايحة، وزالوا عن قبول الحجة الواضحة، لردّهم إليها، وحملهم عليها ولسار بهم سيراً سُجُحاً لا يكلم حشاشه ولا يكل سائره ولا يمل راكبه، ولأوردهم منهلاً نميراً، صافياً، روياً، تطفح ضفتاه ولا يترنق جانباه ولأصدرهم بطاناً، ونصح لهم سراً وإعلاناً، ولم يكن يتحلى من الدنيا بطائل، ولا يحظى منها بنائل، غير ري

ص: 74


1- قناديل العارفين: 188، ط. مؤسسة الرافد.
2- الصحيفة السجادية : 275 مناجاة العارفين.
3- الاحتجاج للطبرسي: 1/ 128.

الناهل، وشبعة الكافل)(1).وكثرت وصايا أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في وصف أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بأنهم (الكهف الحصين) الذي يجب على الأمة اللجوء إليه:

1- ففي الصلوات الشعبانية للإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(اللهم صلّ على محمد وآل محمد الكهف الحصين وغياث المضطر المسكين وملجأ الهاربين وعصمة المعتصمين)(2).

2- وفي زيارة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (السلام عليك أيها الكهف الحصين)(3).

وأوصوا (سلام الله عليهم) من بعدهم بالإيواء إلى كهف العلماء العاملين المخلصين، روى في كتاب الاحتجاج عن الإمام الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(لولا مَن يبقى بعد غيبة قائمنا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من العلماء الداعين إليه، والدالّين عليه والذابّين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شِباك إبليس ومردته ومن فخاخ النواصب لما بقي أحد إلا ارتد عن دين الله ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة، كما يمسك صاحب السفينة سكّانها أولئك هم الأفضلون عند الله عز وجل)(4) وهم موجودون في كل جيل بحسب إخبار الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال

ص: 75


1- المصدر السابق: 139.
2- بحار الأنوار: 84/ 67.
3- بحار الأنوار: 97/ 324.
4- بحار الأنوار: 2/ 6، ح12 عن الاحتجاج: 18، وتفسير العسكري: 344، ح225.

المبطلين وتأويل الجاهلين)(1), وعن الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال في حديث (لأن المؤمنين الفقهاء حصون المسلمين كحصن سور المدينة لها)(2).والمجاهدون المدافعون عن مقدسات المسلمين وحرماتهم وأوطانهم هم حصون الإسلام، فقد خاطبت السيدة الزهراء (س) الأنصارَ بقولها:(معشر البقية وأعضاد الملة وحصون الإسلام)(3).

وورد في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في وصيته للأشتر حين ولاه حكم مصر:(فالجنود بإذن الله حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلا بهم)(4).

والمسجد كهف معنوي عظيم على من يأوي إليه ويتردد عليه، روى الامام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن جده رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) انه قال (من أدمن الاختلاف الى المساجد أصاب أحدى الثمان:أخاً مستفاداً في الله عزوجل أو علماً مستطرفاً أو كلمة تدلّه على هدى أو أخرى تصرفه عن الردى أو رحمة منتظرة أو ترك الذنب حياءاً أو خشيةً)(5).

والإخوة في الإيمان يلجأ إليهم المؤمن، ورد عن الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(اعلم يرحمك الله أن حق الإخوان واجب فرض لازم) إلى أن قال:(وهم

ص: 76


1- بصائر الدرجات: 1/ 30، ب 6، ح7.
2- الكافي: 1/ 38، كتاب فضل العلم، باب فقد العلماء، ح3، ورواه في قرب الإسناد.
3- بحار الأنوار: 29/ 243.
4- نهج البلاغة: 3/ 90.
5- الخصال للشيخ الصدوق: 207 أبواب الثمانية.

حصونكم التي تلجأون إليها في الشدائد في الدنيا والآخرة، لا تماطوهم (أي لا تفخروا عليهم ويحتمل أن يكون لا تمايطوهم أي لا تباعدوهم:هامش البحار) ولا تخالفوهم ولا تغتابوهم ولا تدعوا نصرتهم ولا معاونتهم، وابذلوا النفوس والأموال دونهم، والإقبال على الله عز وجل بالدعاء لهم، ومواساتهم ومساواتهم في كل ما يجوز فيه المساواة والمواساة ونصرتهم ظالمين ومظلومين بالدفع عنهم)(1).كما بيّن الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) مصاديق أخرى للكهف المعنوي لحثّ الأمة على التمسّك بها والإيواء إليها كالورع؛ ففي خطبة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ولا معقل أحرز من الورع)(2), والمعقل هو الحصن، فالورع أمنع الحصون وأحرزها من وساوس الشيطان وأهواء النفس.

وكذلك الأعمال الصالحة والأخلاق الحسنة حصون للإيمان تحفظه من سراق شياطين الإنس والجن، وكل ما تجمعه كلمة (التقوى) من أفعال وتروك.

ومنها الدعاء كما في قول الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(الدعاء كهف الإجابة كما أن السحاب كهف المطر)(3)، ومنها الموعظة عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(الموعظة كهف لمن وعاها)(4).

ومنها عقول وقلوب المؤمنين التي تحفظ علوم ومعارف أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)

ص: 77


1- بحار الأنوار: 71/ 226.
2- الكافي: 8/ 19 وهي من كلامه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الذي خطب الناس به في المدينة بعد سبعة أيام من وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله).
3- الكافي: 2/ 471.
4- الكافي: 8/ 23. من لا يحضره الفقيه: 4/ 39.

وتكتم أسرارها إلا عن أهلها والتلطف في نشر أمرهم قال الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في وصيته لشيعته:(اقرَأ موالينا السلام، وأعْلِمْهم أن يجعلوا حديثنا في حصون حصينة وصدور فقيهة وأحلام رزينة، والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ما الشاتم لنا عِرضاً والناصب لنا حرباً أشدّ مؤونة من المُذيع علينا حديثنا عند من لا يحتمله)(1).احبّتي:

ما احوجنا اليوم وفي كل يوم خصوصاً ونحن نعيش في أعتى ازمنة الظلم والضلال والاستبداد والقهر والحرمان ان نأوي الى كهف الله تعالى الحصين وولاية النبي وآله الاطهار (صلى الله عليهم اجمعين) والسير خلف العلماء العاملين المخلصين ونبذ الفرقة واتباع الاهواء والانانيات وعدم الانسياق بالسلوك الجمعي وراء الدعوات المنكرة والمجهولة وغير المستندة الى الأسس الرصينة التي وضعها لنا أئمة اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لكي ينشر الله تعالى علينا من لدنه رحمة ويهيئ لنا من امرنا رشدا ويهدينا الى حل الازمات وفك العقد وإصلاح ما فسد من الأمور انه نعم المولى ونعم النصير.

ص: 78


1- الاختصاص للشيخ المفيد: 258، ونقله في البحار: 1/ 89.

القبس /90: سورة الكهف:109

اشارة

{لَنَفِدَ ٱلبَحرُ قَبلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَتُ رَبِّي}

موضوع القبس:معاني القرآن لا تنتهي

قال تعالى {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} (الكهف:109) (المداد) هو الحبر الذي يُمَّد القلم بقابلية الاستمرار على الكتابة و (النفاد) هو الفناء والانتهاء، فمعنى الآية أن البحر لو تحوّل الى مداد وصنعت أشجار الأرض كلها أقلاماً لكتابة كلمات الرب فأن البحر سيفنى قبل ان تنتهي كلمات الرب حتى لو أمددنا هذا البحر ببحر آخر.

والظاهر ان (البحر) و(المثل) هنا أُريد به اسم الجنس وليس الوحدة فالمثال شامل لكل البحار والمحيطات بقرينة قوله تعالى {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (لقمان:27) والسبعة هنا رمز للكثرة وهذا مثال لسعة كلمات الله تعالى إذ ان محبرة صغيرة سعة 50 ميللتر تكفي لكتابة آلاف الكلمات، فكيف لو تحولّت كل البحار والمحيطات التي تغطي ثلاثة ارباع سطح الكرة الأرضية وبعمق يصل أحياناً عدة كيلومترات الى حبر، واشجار الأرض الى أقلام، إنه تصوير رهيب لسعة كلمات الله تبارك وتعالى، مع ان العدد ذكر هنا لتصوير الكثرة بحسب

ص: 79

فهم البشر وليس للتحديد.ولم تتعرض الآيتان لذكر الكاتب او المكتوب عليه لاطلاق الخيال في تصوره وانه حتى لو كان الكاتب الجن والانس أجمعين وكانت الواح الكتاب كل ما يمكن أن يكون كذلك.

وقد يقال ان الآية الثانية لا تصلح للقرينية، لأن الاولى ذكرت كلمات الرب والثانية كلمات الله، والربوبية صفة فعل يمكن ان تكون محدودة بمحدودية المربوب وإن كانت لا تحصى بينما صفات الله تعالى اوسع من صفة الربوبية لانها تشمل صفاته الذاتية والفعلية فهذا وجه زيادة الابحر، ونجيب بأن هذا التفريق لا يضرّ لان صفات الله عين ذاته، ولان عدم النفاد أمر حق بغضّ النظر عن القرينة.

وقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} تعليل لعدم نفاد الكلمات، فأنه كما لا يغلب في ذاته كذلك لا يغلب في كلماته وحكيم لا يفوّض التدبير الى غيره.

ومن لطائف هذه الآية ورود الشجرة بصيغة المفرد والاقلام بصيغة الجمع وفيه إشارة لكثرة الأقلام المتخذة من شجرة واحدة.

والتعبير بالبحر الدال على الجنس ليشمل كل البحار والمحيطات وانه ذكر إمداد البحار بسبعة أخرى لان الحبر يستهلك اثناء الكتابة ولم يذكر امداداً للأشجار في صنع الأقلام لأنها لا تستهلك بالكتابة.

وهنا قد يثار سؤال بأننا لو حسبنا رياضياً عدد الكلمات التي يمكن كتابتها بهذه الابحر والاقلام لوجدناها تفوق عدد احتمالات ما يمكن انتاجه من ترتيب الحروف المعروفة في اللغة حتى لو لم يوضع بإزائها معنى، فكيف نفهم الآية.

ونذكر في الجواب أكثر من وجه:

ص: 80

الأول:ان الكلمة هي كل ما دّل على معنى وبيّن مراداً سواء كانت مكتوبة أو موجوداً خارجياً أو حادثة واقعة أو حقيقة علمية فكلمات الله هي كل ما دل على الله تبارك وتعالى، ولذا فهي لا تنتهي، كما قيل:وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد(1)

فكلمات الله تعالى هي كل احكامه وقضاياه وسننه وآياته وليس فقط الكلمات المكتوبة، قال تعالى {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ} (يونس:64) وقال تعالى {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} (البقرة:124) وقال تعالى {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ} (الأنعام:115) وقال تعالى {وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا} (التوبة:40) وغيرها بالعشرات.

وإذا كان جانب من آياته لا تُعد ولا تحصى (وهي نعمه) قال تعالى {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} (إبراهيم:34) مع انها في نفسها قابلة للعد والاحصاء لأنها محدودة فمن الأولى أن لا تعدّ آيات الله وكلماته، لان نفس اتخاذ الأشجار أقلاماً والبحر مداداً وكتابة الكلمات هي كلمات جديدة وآيات حادثة، فهي سلسلة فوق حد الاحصاء والعد فضلاً عن النفاد كما في الرواية عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حديث (قلت:قوله عز وجل {لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي} قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):قد أخبرك ان كلام الله عز وجل ليس له آخر

ص: 81


1- بيت من الشعر منسوب الى أبي العتاهية, أنظر: البداية والنهاية- ابن كثير: 14/ 77, ط. هجر

ولا غاية لا ينقطع أبداً)(1) وإن كان ظاهر قوله تعالى {قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} انها قابلة للنفاد.وقد استعمل لفظ الكلمة بهذا المعنى في الموجودات العظيمة التي لها أوضح دلالة على الله تعالى كقوله عز وجل {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيس-َى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ} (النساء:171).

ووردت روايات عن الكافي ومعاني الاخبار وعلل الشرائع وغيرها في تفسير قوله تعالى {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} (البقرة:37) أنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين (صلوات الله عليهم))(2) فهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من أتم كلمات الله تعالى الدالة عليه تبارك وتعالى.

الثاني:ان هذه الكلمات بوجودها اللفظي يمكن ان تنتهي، لكن معانيها والعلوم والمعارف المودعة فيها – حيث اللفظ كالوعاء للمعنى – لا تنتهي فتكون الآية تعبيراً عن سعة علم الله تعالى - بتقدير المضاف - وتدل على ان معاني كلمات الله تعالى لا تنتهي، ولعل الحادثة في سبب نزول الآية تدل على هذا المعنى، فقد روى علي بن إبراهيم في تفسيره (أن اليهود سألوا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن الروح، فقال (الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) قالوا نحن خاصة قال بل الناس عامة قالوا فكيف يجتمع هذان يا محمد تزعم إنك لم تؤت من العلم إلا قليلا وقد أوتيت القرآن وأوتينا التوراة وقد قرأت (ومن يؤت

ص: 82


1- تفسير البرهان: 6/ 183 ح1.
2- تفسير البرهان: 1/ 153.

الحكمة) وهي التوراة (فقد أوتي خيرا كثيرا) فأنزل الله تعالى {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} يقول:علم الله أكثر من ذلك، وما أوتيتم كثير فيكم قليل عند الله)(1).وتماشياً مع هذا الجواب نقول ان الكلمات المكتوبة في القرآن محدودة ومعدودة لكن المعاني المودعة فيها لا تنفد، فقد أودع الله تعالى هذه المعاني اللامتناهية في كتابه الكريم، ففي أصول الكافي عن الامام الصادق عن ابائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حديث قال عن القرآن (ظاهره انيق وباطنه عميق، له نجوم وعلى نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه)(2).

تصوروا أن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في علمه الذي هو باب(3) مدينة علم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) علمه(4) ألف باب من العلم ينفتح له من كل باب ألف باب من العلم، وانه لو كُشِفَ له الغطاء ما ازداد يقينا(5) وغير ذلك

ص: 83


1- تفسير البرهان: 7/ 293 ح2 الآية 27 من سورة لقمان.
2- أصول الكافي: ج2 / كتاب فضل القرآن، باب 1 ح 2.
3- اللئالئ المصنوعة: ج 1، ص 329. ورواه الحاكم في المستدرك (ج 3، ص 126).
4- قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (علمني رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ألف باب من العلم وتشعب لي من كل باب ألف باب) تفسير الرازي 8 : 21، عند تفسير قوله {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} (آل عمران:33) ورواه ابن عساكر في تاريخه كما في ترجمة الإمام علي منه 2 : 485 / 1012 ، والجويني في فرائد السمطين 1 101/ 70 ، والمتقي في كنز العمال 13 : 114 / 36372 ، والحافظ المغربي في فتح الملك العلي: 488.
5- قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً) كشف الغمة: ج1 ص170 في وصف زهده (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الدنيا..

قيل له:(هل عندكم شيء من الوحي؟ قال:لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يعطي الله عبداً فهماً في كتابه)(1)وعن إبراهيم بن العباس قال:(ما رأيت الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سئل عن شيء قط إلا علمه ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان الأول الى وقته وعصره وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كل شيء فيجيب فيه، وكان كلامه كله وجوابه وتمثله انتزاعات من القرآن)(2).

أقول:فالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة لأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) غنية بالمعاني وعميقة الفهم، وهي متجدّدة ومفتوحة لا تنتهي، وكل جيل من العلماء يأتي يبين شيئاً يسيراً منها وما يخفى عليه أكثر بكثير، ويأتي الجيل الآخر ويغترف منها شيئاً وهكذا من دون أن تنتهي تلك المعاني.

وقد يستغرب البعض كيف يكون لكلام مؤلف من هذه الحروف الثمانية والعشرين في اللغة العربية التي نتداولها يمكن أن تكون لها هذه السعة من المعاني، وهذا الاستغراب منشأه القصور والتقصير في معرفة معاني القرآن الكريم وعدم الالتفات إلى من أودعها في هذه القوالب اللفظية وقدرته وعظمته وعلمه.

واضرب لكم مثالاً قد يعرفه طلبة الحوزة العلمية أكثر من غيرهم وهي ما يعرف بقاعدة الاستصحاب التي هي من أهم الأبحاث المعمّقة في علم الأصول وكتبت فيها مجلدات ولا زال البحث فيها مستمراً والتفريعات تتكثر، واصلها

ص: 84


1- تفسير الصافي: 1/ 39 .
2- بحار الانوار: 49/ 90 ح3 عن أمالي الصدوق:758 مجلس 94 ح 1023 وعيون اخبار الرضا: 2/ 108

حديث من ثلاث كلمات للمعصوم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لا تنقض اليقين بالشك) (1)، أي إذا كنت على يقين من حالة معينة ككونك على طهارة أو أن زيداً حيّ، فتبني على هذا اليقين بالطهارة وحياة زيد وترتّب آثاره حتى لو حصل لك شك فيها ولا تنقض حالة اليقين إلا بيقين مثله، هذه الكلمات أصبحت محوراً لإبحاث معمّقة تملأ مجلدات ولازال البحث فيها مفتوحاً، فإذا كانت ثلاث كلمات في علم ظاهري تفتح هذه الآفاق الواسعة للبحث، فماذا سينفتح من علوم ومعارف إلهية من كلمات القرآن الكريم وانى للبشر استيعابها وبلوغ كنهها؟لذلك تجد العلماء لا يتوقفون عن التدبر في آيات القرآن الكريم واكتشاف ما يهتدون إليه من معانيها وإيداعها في التفاسير، ومع ذلك لا زالت حقائقه كثيرة خافية على العلماء فضلاً عن غيرهم، وحكي عن السيد الطباطبائي (قده) صاحب تفسير الميزان قوله اننا نحتاج في كل سنتين إلى تفسير، وقد أنهى (قده) تفسيره في عشرين عاماً فهذا يعني أن محاولات التفسير لابد أن تكون متعدّدة ومتواصلة في الجيل الواحد فضلاً عن الأجيال المتتالية.

إننا نشهد في هذا العصر نهضة قرآنية محمودة ونسأل الله تعالى ان يوسّعها ويزيدها، لكنها غالباً تقتصر على التجويد وتحسين الصوت ومخارج الحروف والنغمات ونحوها، وهذا شيء جيدٌ في نفسه لأن حلية القرآن الصوت الحسن، ونشجّع عليه لانه يحّبب القرآن الى النفوس ويحصل انس به لكن الاقتصار عليه والوقوف عنده من دون الانطلاق إلى فهم معاني القرآن الكريم واكتشاف أسراره ومعرفة حدوده يكون خطوة ناقصة نحو الكمال المنشود، بل لابد أن يدفع الانس

ص: 85


1- وسائل الشيعة (آل البيت): 1/ 245/ح1

بالقرآن والتلذذ باستماعه الى حب التعرف على معارفه واسراره ومكنوناته ولتحقيق ذلك ينبغي نشر المؤسسات والمدارس والمراكز القرآنية لتقود هذه النهضة المباركة بأذن الله تعالى.روى السيد الحكيم (قدس سره) في كتابه حقائق الأصول حادثة تحكي جانباً مما يلطف به الله تعالى بعض عباده من سعة الفهم لمعاني القرآن الكريم، قال (قدس سره) تحت عنوان (فائدة) ألحقها ببحث استعمال اللفظ في أكثر من معنى (حدَّث بعض الاعاظم دام تأييده – أنه حضر يوماً منزل الآخوند (ملا فتح علي(1) (قدس سره) مع جماعة من الاعيان منهم السيد إسماعيل الصدر (قدس سره) والحاج الميرزا حسين نوري صاحب المستدرك (قدس سره) والسيد حسن الصدر (قدس سره) فتلا الآخوند (قدس سره) قوله تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ} (الحجرات:7) ثم شرع في تفسير قوله تعالى فيها:حبب اليكم الايمان من الآية وبعد بيان طويل فسرها بمعنى لما سمعوه منه استوضحوه واستغربوا من عدم انتقالهم اليه قبل بيانه لهم، فحضروا

ص: 86


1- الظاهر بملاحظة القرائن انه الشيخ المولى علي محمد النجف آبادي من اعاظم العلماء له ترجمة في كتاب (نقباء البشر: 16/ 1622)، لازم المجدد السيد الشيرازي في النجف وسامراء واختص لاحقاً بالمعقول والحكمة الإلهية وصفه الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء – وهو من تلاميذه – بانه (اعلى من حضرت عليه في الحكمة والعرفان العارف الإلهي الذي كان من اكابر أساتذة الحكمة والعرفان وكان درسه في الاسفار ولكنه يتفّجر بينابيع الحكمة) (عقود حياتي:59) توفي سنة 1332 وصلى عليه السيد أحمد الكربلائي أستاذ السيد علي القاضي (رحمه الله)

عنده في اليوم الثاني ففسرها بمعنى آخر غير الأول فاستوضحوه أيضا وتعجبوا من عدم انتقالهم اليه قبل بيانه، ثم حضروا عنده في اليوم الثالث فكان مثل ما كان في اليومين الأولين ولم يزالوا على هذه الحال كلما حضروا عنده يوما ذكر لهم معنى الى ما يقرب من ثلاثين يوماً فذكر لهم ما يقرب من ثلاثين معنى وكلما سمعوا منه معنى استوضحوه، وقد نقل الثقات لهذا المفسر كرامات قدس الله روحه)(1) .أقول:هذا غير مستغرب من أمثاله (قدس سره) فانه كان من العارفين وأهل الصفاء والطهارة وإن من ثمرات سلوك طريق تهذيب النفس وتطهير القلب فهم معاني متعددة لآيات القرآن الكريم والروايات الشريفة كما افاد استاذنا الشهيد السيد محمد الصدر (قدس سره) في احدى رسائله التي نشرتها في كتاب (قناديل العارفين).

ص: 87


1- حقائق الأصول: 1/ 95-96.

القبس /91: سورة مريم:16

اشارة

{وَٱذكُر فِي ٱلكِتَبِ مَريَمَ}

موضوع القبس:مريم الصدّيقة الطاهرة برؤية قرآنية

أمر متوجّه من الله تعالى إلى رسوله الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ان يذكر مريم ونبأها في القرآن الذي هو كلامه تبارك وتعالى، وهي المرأة الوحيدة التي ذُكرت باسمها صريحاً في القرآن تكريماً لها وتشريفاً ولتبقى هذه الآيات الكريمات وثيقة تثبت طهارتها وعفّتها وسمّو مقامها وبرائتها مما اتهمها به قومها من بني إسرائيل.

إنها مريم ابنة عمران من فضليات النساء عبر التاريخ ففي الحديث الشريف الذي رواه الشيخ الصدوق بسنده عن ابن عباس عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(أفضل نساء أهل الجنة أربع خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون)(1).

وهذا مع تفاضلهن فيما بيّنهن أيضاً، فقد روى في الدر المنثور عن فاطمة الزهراء (س) أنها قالت (قال لي رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنت سيدة نساء أهل الجنة لا مريم البتول)(2).

ص: 88


1- الخصال: 151، أبواب الأربعة ح 22، 23
2- الدر المنثور: 2/ 23

وقد ضربها الله تعالى هي وامرأة فرعون مثلاً سامياً للذين آمنوا جميعاً من الرجال والنساء على طول الأجيال البشرية ليتأسوا بها ويعتبروا بسيرتها قال تعالى:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ} (التحريم:11) ثم قال تعالى {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} (التحريم:12) فكان عندها الاستعداد لتلقي الفيض الإلهي وأن ينفخ الله تعالى فيها من روحه جزاء لعفّتها وإحصانها في أعلى مراتبه بقرينة فاء التفريع (فنفخنا)، وجعلها تعالى وعاءاً لحمل وانجاب واحد من أعظم الأنبياء والرسل ومن اولي العزم عيسى ابن مريم (صلوات الله وسلامه عليه).طهرها الله تعالى ونقاها من كل سوء واصطفاها على نساء العالمين أي انتخبها من نساء العالمين لتكون الأصفى والأنقى من كل نقص وشين قال تعالى {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ ، يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} (آل عمران:42-43) ويذّكر النبي الكريم عيسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بهذه النعمة عليه وعلى والدته {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} (المائدة:110).

هكذا هي مريم عظيمة المنزلة جليلة القدر سامية المكانة عند الله تعالى في جميع الآيات القرآنية التي وردت فيها وقد ذكرت باسمها الصريح في (34)

ص: 89

موضعاً منتشرة في 12 سورة من سور القرآن وبغير الصريح في غيرها، بينما ورد ذكرها في خمسة(1) مواضع من الانجيل بصور تحطّ من كرامتها وقدسيتها.واذا أردنا ان نستقرئ الآيات الكريمة لنكتشف العوامل التي صنعت هذه الشخصية الفذة في ضوء الكلمة المختصرة التي قالها الامام الجواد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (المؤمن يحتاج الى توفيق من الله، وواعظ من نفسه، وقبول ممن ينصحه)(2) فسنجد ما يلي:

1- الأسرة الكريمة والمنبت الطاهر قال تعالى {وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} (آل عمران:37) كما في قوله تعالى {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} (الأعراف:58) فالأصل الطيب يساعد على صناعة الانسان الطيب بإذن الله تعالى، وهذا ما شهد به الجميع بقولهم {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} (مريم:28) وكان ابوها عمران صالحاً معلماً لمعارف التوحيد في المعبد وفي رواية ابي بصير عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انه (كان نبياً مرسلاً إلى قومه)(3) لذا لما نُذرِت ابنته مريم للمعبد وكان قد توفي وهي حمل تنافس بعض انبياء بني إسرائيل الموجودين يومئذٍ وأحبار المعبد على كفالتها {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} (آل عمران:45).

ص: 90


1- الفرقان في تفسير القرآن: 18/ 205.
2- تحف العقول: 336.
3- بحار الأنوار: 14/ 202 ح 14

وكانت أمها صالحة ومن اسرة كريمة واختها زوجة نبي الله زكريا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وكانت عارفة مخلصة لله تعالى وهذا واضح من تسمية ابنتها مريم التي قيل أنها تعني العابدة وقيل انها ((لغة سريانية تعني الغالبة المرتفعة، ولعلَّها لأنها غلبت شهوتها وأحصنت فرجها رغم جمالها وكثرة الراغبين إليها، وارتفعت عما افتروا عليها وعن اقرانها من نساء العالمين))(1) وارتفعت عن كل رجس ودنس ونقص.وتظهر معرفتها بالله تعالى من خلال ادعيتها ونذرها {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (آل عمران:35) والتقبّل ليس كالقبول بل هو تمام القبول وأحسنه قال تعالى {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة:27).

وفي الرواية (إن الله تعالى أوحى إلى عمران:أني واهب لك ذكراً مباركاً يبرئ الأكمة والأبرص ويحي الموتى بإذني وجاعله رسولاً إلى بني إسرائيل فحدّث امرأته حنّة بذلك وهي أم مريم فلما حملت به كان حملها عند نفسها غلاماً ذكراً)(2) فنذرته لخدمة الدين والمسجد والتفرغ لعبادة الله تعالى ((ومالم يحرّر الانسان نفسه من القيود فإنه لن يكون قادراً على خدمة الدين، فالشيء الذي لم يتحرّر من قيود الملكية كلها لن يكون متصفاً بقيد (الوقف)))(3).

ص: 91


1- الفرقان في تفسير القرآن: 18/ 205.
2- رواية عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في نور الثقلين: 1/ 334 عن الكافي.
3- تفسير تسنيم للشيخ الجوادي الآملي:14/ 125 .

{فَلَمَّا وَضَعَتْهَا} ورأتها انثى خلاف ما كانت ترجو وكانت خدمة المعبد وظيفة مقتصرة على الذكور وممنوعة على الاناث {قَالَتْ} بحسرة وأسف {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى} فالأنثى لا يتسنى لها التحرر لخدمة المعبد واثير هنا إشكال بأن مقتضى الاستعمال اللغوي أن يقال (وليست الأنثى كالذكر) أي ان ما وضعت -- وهي انثى -- ليست كما كنت أرجو لخدمة المعبد بأن يكون المولود ذكراً فالتشبيه معكوس، ولهذا قال أكثر المفسرين ان هذا من كلام أم مريم ليمكن الاشكال عليه وساعدهم على ذلك ظهور السياق في كونه من مقولة قولها وأجابوا على الاشكال بعدة أجوبة ككون المراد أصل المقايسة وليس التفضيل وفي رواية حريز عن أحدهما (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وليس الذكر كالأنثى في الخدمة)(1).لكن صاحب الميزان والكشاف قالا انه من مقول قول الله تبارك وتعالى ولا ضير في نسبته اليه تعالى وحاصل جواب الميزان بأن الحكمة الإلهية شاءت أن يجري الأمر على هذا بأن تكون المولودة انثى وهي مريم ثم تلد مريم الذكر الموعود وهو عيسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بتلك الآيات الباهرات التي رافقت الحمل والولادة {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:91) وسيتبيّن لكم أنّ الذكر الذي كنتم ترجونه ليس كالأنثى التي قدرها الله تعالى ولو كان المولود لأم مريم ذكراً بالمباشرة وإن كان بمواصفات عيسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فان ولادته سوف لا تقترن بتلك المعجزات والحجج البيّنة، وعلى هذا يكون قوله تعالى {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى}

ص: 92


1- تفسير العياشي:1/ 170 - بحار الأنوار:5/ 319.

من مقول قول الله تعالى كالفقرة قبلها وليس حكاية لقول أم مريم(1) الذي هو أظهر من السياق وتؤيده الروايات(2)، لكن الوجه الأول أفضل لدفع الاشكال.ويمكن أن نقدّم معنى آخر بناء على كون الفقرة من مقول قول الله تعالى حاصلهُ إن ما كنت ترجين من الذكر بأن يكون محرراً خادماً للمعبد لا يصل الى مقام هذه الأنثى والمعجزات والآيات التي ستجري لها فتكون اللام هنا عهدية.

وبذلك يرتفع الاشكال اللغوي ولا نحتاج الى ما قيل من أجوبة كقول بعض المفسّرين بأن ذهول أم مريم والمفاجأة الحزينة التي واجهتها جعلتها لا تعي ما تقول.

ونستمر مع أم مريم وقولها {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (آل عمران:36) لتكون مخلصة لك ليس للشيطان مطمع في إضلالها أو اغوائها، لتكون اسماً مطابقاً للمسمى، وشملت بدعائها ذرية مريم لأنها علمت أن الولد المبارك الموعود منها بعد ان توفي زوجها ووفت بنذرها وغالبت كل عواطف الأمومة وبعثت ابنتها الوحيدة إلى المعبد خالصة لله تعالى متفرغة لعبادته وهي المفجوعة تواً بوفاة زوجها عمران(3).

{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} (آل عمران:37) واستجاب الله تعالى دعاء الأم فتقبّل الله تعالى مريم محرّرة خالصة له تعالى وهو

ص: 93


1- استفدنا الوجه من كلام السيد الطباطبائي (قده) في الميزان في تفسير القرآن: 3/ 199
2- تفسير القمي: 1/ 109.
3- الظاهر وفاة عمران خلال حمل زوجته لأنه من البعيد أن تستقل بالنذر مع وجود زوجها، ولعدم ورود أي ذكر له في احداث الولادة وما بعدها من الكفالة والنذر للمعبد.

معنى اصطفائها واعطاها وذريتها الكمال والنقاء والحصانة من وساوس الشيطان فتحققت لمريم صفتا الاصطفاء والطهارة اللتان بشرتها الملائكة بهما {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ} (آل عمران:42) وهكذا الأعمال الصالحة المخلصة تحظى بالجزاء الحسن.2- المربّي الناصح المخلص العارف وقد حظيت مريم برعاية مباشرة وباهتمام خاص من نبي الله زكريا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واحاطها الله تعالى بعناية عظيمة وربّاها تربية حسنة وأفاض عليها ألطافاً من عالم الغيب وأغدق أرزاقاً مادية ومعنوية وجعل قرعة كفالتها تحطّ عند زكريا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) {وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} (آل عمران:37) فهذا الرزق المطلق مادياً ومعنوياً كان من ثمرات العمل المخلص ومن مظاهر الانبات الحسن.

3- توفر البيئة المناسبة والمساعدة على الصلاح فقد قالت أم مريم {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} (آل عمران:35) و (المحرر للمسجد يدخله ثم لا يخرج منه أبدا)(1) فيتحرر من أي مسؤوليات عائلية أو اجتماعية تجاه والديه وغيره، ومما تتطلبه معاشرة الناس من مساوئ وأذى، وقد تفرغت مريم للعبادة في محرابها وهو المكان المخصوص للعبادة في المسجد أو البيت وسمي(2) بذلك لأنه موضع محاربة الشيطان والهوى ويكون الانسان فيه حريباً أي سليباً من اشغال الدنيا

ص: 94


1- في حديث عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) رواه في الكافي: 3/ 105 ح 4
2- مفردات غريب القرآن- الأصفهانى: 112

وتوزع الخاطر ويكون في صدر المسجد والبيت وانزوت في مكان لا يعبأ به ولا يلفت الأنظار بقرينة التعبير القرآني {فَانتَبَذَتْ} والنبذ هو القاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به، ولم تكتفِ بذلك بل ضربت دونهم حجاباً، واعتزلت الناس المنهمكين في الدنيا واتباع الشهوات والمخدوعين بوساوس الشيطان الماكرة وإن رفعوا شعارات الدين أحياناً وكانوا من سدنة المعبد {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ، فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} (مريم:16-17).4- الوازع الداخلي والإرادة الجدية لفعل الخير وسلوك طريق الصلاح والعزم الراسخ على الالتزام به مهما تعاظمت الضغوط النفسية والاجتماعية ومهما تزينت الاغراءات. وقد التزمت مريم الصدّيقة بدقة تعاليم الأنبياء في التوحيد والعمل الصالح والسلوك العفيف حتى أثنى عليها تعالى {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} (التحريم:12) وأشاد بصفات خاصة منها وهي العفاف ونقاء النفس وطهارة القلب والتعلق الخالص بالله تعالى {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} (المائدة:75).

فاستحقت التكريم الإلهي بالاصطفاء والتفضيل والتطهير من كل الارجاس الظاهرية والباطنية قال تعالى {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ ، يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} (آل عمران:42-43).

ص: 95

وكرمّها أيضاً بحمل الرسول العظيم عيسى {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (آل عمران:45) بمعجزة لم تتكرر عبر التاريخ البشري {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} (النساء:171) {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} (مريم:17) وكان رد فعلها المباشر وقد فاجأها بشر سوي جميل في عزلتها وهي العفيفة الطاهرة الالتجاء الى الله تعالى والاستعاذة به مع تمام حسن الظن به أنه لا يدعها لأنه (الرحمن) وتذكير المتمثل بتقوى الرحمن التي هي صفة لا يمكن لأحد أن يرفضها عن نفسه {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا} (مريم:18) ولولا كمال معرفتها ونفوذ بصيرتها ونقاء سريرتها وطهارة قلبها لما كانت أهلاً لتمثل روح الله تعالى لها {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا} (التحريم:12) فألقى الله تعالى في رحمها بواسطة الروح الأمين ما تخلّقت منه نطفة النبي الكريم عيسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ((وهذا يكشف عن كمال الاستعداد الذاتي ووجود السنخية التامة بينها وبين الروح اللاهوتي حتى تتمكن من مقابلته وقبوله وحمله والتسليم لديه والعمل بالوظائف الخاصة))(1) لتكون معجزة(2) إلهية للوالدة والمولود لم تتكرر نسختها

ص: 96


1- التحقيق في كلمات القرآن الكريم للمصطفوي:11/ 96.
2- لا تخلو الآية من إشارة الى إمكان قيام غير الحيامن بدور التلقيح للبيضة والمهم في تكوّن الجنين وجود بيضة الأنثى، وبعض المصادر الطبية ما يشير الى وجود تجارب في هذا المجال.

في جميع الأجيال {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:91) {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} {المؤمنون:50).فبشرها الله تعالى بالمولود المبارك {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} (مريم:19) {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (آل عمران:45) وكان وقع هذه البشارة عظيماً على نفسها لكن الأمر خطير إذ كيف تحمل المرأة من دون مقاربة الرجل ومريم لم يمسَّها رجل بالحلال ولا بالحرام {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} (مريم:20) فاستشعرت عظمة الابتلاء لأن قومها سوف يتهمونها في اعزّ شيء عندها:شرفها وعفافها وطهارتها مع صعوبة ظروف الحمل والولادة حيث كانت وحيدة في مكانٍ نائي كالصحراء ليس فيه ماء ولا طعام والمرأة تحتاج حين الولادة إلى رعاية خاصة وحضور القابلة وغير ذلك {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ، فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} (مريم:22-23) فهو جذع مقطوع يابس لا ثمرة فيه وتحت وطأة هذه الظروف القاهرة التي لا يطيقها إنسان {قَالَتْ

ص: 97

يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا}(1) (مريم:23) قالت ذلك مع كمال التسليم لأمر الله تعالى وهذا أحد شواهد ما كانت عليه من مقام التصديق بكلمات ربها نظير ما ورد في ابراهيم {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} (البقرة:124) وطمأنها الله تعالى وربط على قلبها {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا} (مريم:21).وأراها معجزة لتطمئن نفسها فنبعت عين ماء عند قدميها {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} (مريم:24) والسري هو جدول الماء لتشرب منه، وناداها أيضاً {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} (مريم:25) الجَذع تعني القطع فالجِذع هو المقطوع وفيه إشارة الى كونه يابساً لا ثمرة فيه فلما هزّته تساقط منه رطب طري طيب(2)، ضرب لها بهذا الجذع الذي أثمر بعد أن كان ميتاً مثلاً لحالتها فهي امرأة لا زوج لها ولا تفعل الفاحشة فمثلها يستحيل عليها الحمل لكن الله تعالى هزّها بنفخة الروح فحملت بالثمرة المباركة روح الله وكلمته عيسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فتحققت لها البشرى واكتملت بما يسَّر لها من الطعام والشراب {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا} (مريم:26) وكان حملها (بعيسى بالليل

ص: 98


1- الفرقان في تفسير القرآن: 18/ 206
2- تكررت مثل هذه المعجزة للأئمة الطاهرين كالإمام الحسن والامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (راجع روايات في تفسير نور الثقلين:3/ 331 ح 55)

ووضعته بالغداة وكان حملها تسع ساعات من النهار جعل الله لها الشهور ساعات) وفي روايات أخرى ذكرت غير هذه المدة.(ففقدوها في المحراب فخرجوا في طلبها)(1), ولما جاءتهم بالوليد المبارك حدث ما هو متوقع من لئام الناس {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} (النساء:156) {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} (مريم:27) واتهموها بممارسة الفاحشة وهنا تدخلت القدرة الربانية لتنطق الوليد المبارك بكلمات ادهشت الحسّاد والمعاندين وأخزتهم ونصرت العفيفة الطاهرة.

فنحن - المسلمين- نقدّس مريم ونعظمها لهذه المنزلة التي بيّنها الله تعالى في كتابه الكريم، ونرتبط - نحن اتباع أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)- بولدها روح الله وكلمته عيسى (صلوات الله وسلامه عليه) بأن لنا أملاً كبيراً فيه لأنه سيظهر مع المخلِّص العظيم الامام المهدي الموعود (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لينقذا البشرية من الضياع والضلال والشرور والآثام.

ص: 99


1- البرهان في تفسير القرآن: 6/ 194 ح 1 عن تفسير علي بن إبراهيم.

ملحق:مقارنة بين الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) والسيدة مريم إبنت عمران

لنا - اتباع أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)- علاقة وجدانية خاصة بالصدّيقة الطاهرة مريم بنت عمران لأنها شابهت السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء (س) في الكثير من الصفات مع حفظ التقدم للسيدة الزهراء (س) في تلك الصفات.

فقد اقتبست من أنوار سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (س) فكانت تتلألأ نوراً في محرابها وفي الرواية عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وكانت أجمل النساء، فكانت تصلي ويضيء المحراب لنورها)(1).

وكانت مريم محدّثة -- وهو من أسماء السيدة فاطمة الزهراء (س) -- تحدّثها الملائكة كما أخبر به الله تعالى {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ} (آل عمران:42) {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} (مريم:17) وروي عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال (انما سميت فاطمة (س) محدثة لان الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما تنادى مريم بنت عمران، فتقول يا فاطمة ان الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين يا فاطمة اقنتى لربك واسجدى واركعى مع الراكعين، فتحدثهم ويحدثونها، فقالت لهم ذات ليلة:أليست المفضلة على نساء العالمين مريم بنت

ص: 100


1- البرهان في تفسير القرآن: 2/ 33, عن تفسير العياشي:1/ 193.

عمران؟ فقالوا:ان مريم كانت سيدة نساء عالمها، وان الله عزوجل جعلك سيدة نساء عالمك وعالمها، وسيدة نساء الاولين والآخرين)(1).وفي صفة التطهير فقد قال تعالى في مريم (وطهّرك) وأنزل في أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) آية التطهير {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (الأحزاب:33).

وفي الاصطفاء والسيادة فقد جعل مريم سيدة نساء العالمين وكانت فاطمة (س) كذلك والفرق ما ذكرته الرواية عن المفضل بن عمر قال (قلت لأبي عبدالله -- الصادق -- (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أخبرني عن قول رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في فاطمة أنها سيدة نساء العالمين أهي سيدة نساء عالمها؟ قال:ذاك لمريم كانت سيدة نساء عالمها وفاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين)(2)، واذا تمسكت باطلاق قوله تعالى (على نساء العالمين) فلا تختص بزمانها كما في الميزان قلنا نعم لكنه اصطفاء خاص بآيات محددة كالتي رافقت حملها وولادتها بينما اصطفاء فاطمة الزهراء (س) مطلق وهو وجه الفرق بين الاصطفاء المتعدي ب (على) كما في مريم والاصطفاء المطلق و ((ان الاصطفاء المتعدي ب (على) يفيد معنى التقدم، وانه غير الاصطفاء المطلق الذي يفيد معنى التسليم، وعلى هذا فاصطفاؤها على نساء العالمين تقديم لها عليهن))، فتقديم مريم كان من بعض الجهات ((حيث لم

ص: 101


1- علل الشرائع:1/ 216 - تفسير نور الثقلين 1/ 337.
2- البرهان في تفسير القرآن: 2/ 216 ح 7 عن معاني الأخبار للصدوق: 107 ح 1

تشمل مما تختص بها من بين النساء الا على شأنها العجيب في ولادة المسيح (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن هذا هو وجه اصطفائها وتقديمها على النساء من العالمين))(1).وفي إنجاب المعصومين الأطهار (صلوات الله عليهم أجمعين) فقد اعاذهم الله تعالى من الشيطان الرجيم، ففي حديث لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حدث تزويجه بفاطمة (س) ودعاء النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لهما وقال (قم بسم الله وقل:على بركة الله، وما شاء الله، لا قوة الا بالله، توكّلت على الله -- ثم جاءني حين اقعدني عندها ثم قال:اللهم إنهما أحبّ خلقك إليَّ فأحبهما، وبارك في ذريتهما واجعل عليهما منك حافظاً، وإني اعيذهما وذريتهما بك من الشيطان الرجيم)(2).

وفي الرزق الذي يأتيها في المحراب من عند الله تعالى ففي رواية عن الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان في طعام وجده النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأصحابه في دار فاطمة ولم يكونوا يعرفوه من قبل إلى ان قال (وقام النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى دخل على فاطمة (س) وقال (وأنى لك هذا يا فاطمة؟) فردّت عليه ونحن نسمع قولهما فقالت (هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) فخرج النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مستعبراً وهو يقول (الحمد لله الذي لم يمتني حتى رأيت لأبنتي ما رأى زكريا لمريم كان اذا دخل عليها المحراب وجد عندها رزقا فيقول: {يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} (3).

ص: 102


1- الميزان في تفسير القرآن:3/ 218
2- أمالي الشيخ الطوسي: 40، تفسير نور الثقلين:1/ 333
3- البرهان في تفسير القرآن:2/ 216 ح 8 عن آمالي الشيخ الطوسي:2/ 227

ويعجبني نقل هذه الأبيات في المقارنة بين بعض حالات الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والصدّيقة مريم:إن قِيلَ حَوّا قُلتَ فاطمُ فَخرُها *** أوقيلَ مريمُ قلتُ فاطمُ أفضلُ

أفهلْ لمريم والدٌ كمحمدٍ *** أم هَلْ لمريمَ مثلُ فاطمَ أشبلُ

كلٌ لها عندَ الولادةِ حالةٌ *** فيها عقولُ بني البصائرِ تذهَلُ

هذي لنخلتِها التَجَتْ فَتَساقَطَتْ *** رُطَبَاً جَنياً فهي منه تأكُلُ

ولدت بعيسى وهي غيرُ مروعةٍ *** أنَّى وحارسُها السّري الأبسلُ

وإلى الجدارِ وصفحةِ البابِ التَجت *** بنتُ النَّ-بي فأسقَطَتْ ما تَحمِلُ

سَقَطت وأسقَطَتِ الجنينَ وحولَها *** من كلِّ ذي حسبٍ لئيمٍ جَ-حفلُ

هذا يعنفها وذاكَ يدُعُّها *** ويردها هذا وهذا يركُلُ

وأمامَها أسدُ الأسودِ يقودُهُ *** بالحبل قنفذ هل كهذا معضَلُ

ولسوفَ تأتي في القيامةِ فاطمٌ *** تشكوا إلى ربِّ السماءِ وتعولُ

ولتَ-رفَعَ-نَّ جنينَها وحنينَ-ها *** بشكايةٍ منها السماءُ تَتَزلزَلُ(1)

ص: 103


1- ديوان الشيخ محسن أبو الحب الكبير: 128.

القبس /92 : سورة مريم:48

اشارة

{وَأَعتَزِلُكُم وَمَا تَدعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ}

موضوع القبس:المعنى الصحيح للاعتزال

دين الاجتماع:

الإسلام دين الاجتماع والتواصل ومظاهر ذلك كثيرة كالحج وصلاة الجماعة والجمعة ومنها تشريع العيد ففي دعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في وداع شهر رمضان عن يوم الفطر (الذي جعلته... لأهل ملتك مجمعاً ومحتشدا)(1) وفي الرواية عن الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إنما جُعل يوم الفطر العيدَ ليكون للمسلمين مجتمعاً يجتمعون فيه ويبرزون لله عز وجل فيمجدونه على ما منَّ عليهم، فيكون يومَ عيدٍ ويوم اجتماع)(2)، وهو دين إعمار الحياة المثمرة وبناء الأمة الصالحة الوسط الشاهدة على الناس جميعاً.

مضافاً إلى أن وظائف كثيرة لا يمكن القيام بها إلا بالتواصل مع الناس كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتكافل الاجتماعي وتعليم أحكام الدين.

وورد النهي عن الترهّب وترك إعمار الحياة كقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(ليس في

ص: 104


1- الصحيفة السجادية (ابطحي): 299
2- من لا يحضره الفقيه: 1/ 522، ح 1485.

أمتي رهبانية)(1)، ويشرح (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) معناها لعثمان بن مضعون عندما أراد الترهب:(إن ترهّب أمتي الجلوس في المساجد انتظاراً للصلاة)(2) فيعطي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) للرهبانية معنى اجتماعياً واسعاً خلافاً للمعروف عنها .ويخاطب أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) العلاء بن زياد الحارثي لما اعتزل الحياة وترهب:(يا عُدَيَّ – تصغير عدو- نفسه:أترى أن الله أحلّ لك الدنيا وهو يكره أن تأخذ منها؟)(3).

الحث على العزلة:

في مقابل ذلك توجد روايات كثيرة حثّت على الانفراد والعزلة عن الناس وذكرت فضل العزلة والآثار المباركة فيها كقول رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(العزلة عبادة) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(في الانفراد لعبادة الله كنوز الأرباح) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ملازمة الخلوة دأب الصلحاء) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(الوصلة بالله في الانقطاع عن الناس)(4) وعن الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(يأتي على الناس زمان تكون العافية فيه عشرة أجزاء، تسعة منها في اعتزال الناس وواحدة في الصمت)(5).

ص: 105


1- بحار الأنوار: 70/ 115 عن الخصال للصدوق: 1/ 138.
2- بحار الأنوار- المجلسي: 80/ 381
3- نهج البلاغة:
4- راجع مصادرها في ميزان الحكمة: 6/ 17.
5- سفينة البحار: 6/ 233 عن كمال الدين.

إشكال وردّ:

وهنا قد يثار إشكال منشأه وجود التنافي بين التوجيه بالعزلة والمنحى الاجتماعي لدين الإسلام؟

ويجاب هذا الإشكال بأكثر من مستوى:

الأول:أن نضع هذه الأحاديث في موضعها الصحيح ولا نأخذها على إطلاقها، ونتعرف على المخاطبين بها وحالاتهم، ومن تلك الحالات التي خاطبتها هذه الأحاديث المحبِّبة للعزلة:-

1-وهي أوضحها:عندما يكون الاختلاط بالناس سبباً للوقوع في المعاصي فإن المجالس لا تخلو غالباً من المحرمات بل الكبائر، وعلى رأسها الغيبة التي جعلها الناس فاكهة المجالس، وهي من الموبقات التي توجب إحباط العمل وذهاب الدين، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(الغيبة أسرعُ في دين الرجل المسلم من الأَكْلَة في جوفه) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(إن الرجل ليؤتى كتابه منشوراً فيقول:يا ربِّ، فأين حسناتُ كذا وكذا عملتُها ليست في صحيفتي؟ فيقول:محيت باغتيابك الناس)(1) ووصفتها بعض الروايات بالنار التي يرسلها على مغروساته – وهي الأعمال الصالحة - فيحرقها.

وينبغي الالتفات إلى أن المجالس لا تختص باللقاءات المباشرة بل تشمل اليوم ما يحصل من حوارات ولقاءات عبر مواقع التواصل الاجتماعي وتؤدي أحياناً إلى أمور محرمة كأحاديث الحب والغرام مع الجنس الآخر من دون مسوِّغ شرعي، وبعضهم يستفتي عن جواز تبادل هذه الأحاديث بين امرأة متزوجة

ص: 106


1- ميزان الحكمة: 6/ 506.

ورجال أجانب من دون علم الزوج ويسأل هل هذا جائز؟ فتصوروا الانحدار والتسافل!.فهذه الموبقات وأمثالها من نتائج الاختلاط غير المنضبط، لذا كان في العزلة الحفاظ على الدين وعلى ما حصل عليه من الطاعات. عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(العزلة سلامة) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لا سلامة لمن أكثر مخالطة الناس) (سلامة الدين في اعتزال الناس) (من اعتزل سَلِم ورعُه) (مداومة الوحدة أسلم من خلطة الناس)(1)، ولذا قيل إن ((في العزلة صيانة الجوارح وفراغ القلب وسلامة العيش وكسر سلاح الشيطان والمجانبة من كل سوء وراحة الوقت، وما من نبي ولا وصي إلا واختار العزلة في زمانه إما في ابتدائه وإما في انتهائه))(2).

2-عندما يكون الاختلاط مع الناس والحضور في مجالسهم مسبباً لتشوش الفكر بالأحاديث الفارغة المضيِّعة للوقت وتسمى مجالس البطّالين، وقلنا أنها تشمل ما يعرَف اليوم بالحوار عبر الإنترنت والرسائل القصيرة ومكالمات الهواتف المحمولة، وأغلب لقاءات الناس ومجالسهم ومحادثاتهم من هذا القبيل، فكل ما يدور فيها هذر من الكلام وعبث ولهو باطل كأحاديث الألعاب الرياضية أو الشؤون العائلية الخاصة بالناس الآخرين.

فإذا تشوش الفكر بهذه الأحاديث فإنه لا يكون مؤهلاً للإقبال على الله تبارك وتعالى والأنس بذكره، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(من انفرد عن الناس

ص: 107


1- ميزان الحكمة: 6/ 18.
2- سفينة البحار: 6/ 233.

أنس بالله سبحانه)(1) (الانفراد راحة المتعبدين) وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(لو ذُقتَ حلاوة الوحدة لاستوحشت من نفسك) ومن حِكم لقمان:(إن طول الوحدة أفهم للفكرة، وطول الفكرة دليل على طريق الجنة).لذا كان اعتياد هذه المجالس سبباً للحرمان من القرب الإلهي كما في دعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في ليالي شهر رمضان:(أو لعلك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني أو لعلك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني، أو لعلك رأيتني آلف مجالس البطالين فبيني وبينهم خلّيتني) (2)، وفي وصية الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لهشام بن الحكم:(الصبر على الوحدة علامة قوة العقل، فمن عقل عن الله اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها، ورغب فيما عند الله، وكان الله أنيسه في الوحشة، وصاحبه في الوحدة، وغناه في العيلة، ومُعِزَّه من غير عشيرة) (3).3-عندما لا يكون الفرد قادراً على أداء حق الاختلاط مع الناس ومراقبة ما يجري فيها ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فمثل هذا يكون الأفضل له تجنب الاختلاط إلا بما هو ضروري حتى لا يكون من الساكتين على الباطل والراضين بالظلم، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إن قدرت أن لا تخرج من بيتك فافعل، فإن عليك في خروجك أن لا تغتاب ولا تكذب ولا تحسُد ولا ترائي ولا تتصنع ولا تداهن)(4) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(أقلُّ ما يجد العبد في الوحدة الراحة من مداراة

ص: 108


1- راجع مصادر هذه الأحاديث في ميزان الحكمة- الريشهري: 3/ 1964
2- مفاتيح الجنان: 245
3- بحار الأنوار- المجلسي: 75/ 301
4- بحار الأنوار- المجلسي: 75/ 225

الناس)(1).الثاني:أن نفهم من معنى العزلة غير المعنى المتعارف وهو الانكفاء على الذات وترك الاختلاط بالناس فلا يرد الإشكال أصلاً، وإنما يراد باعتزال الناس مباينتهم في السلوك والأفعال المخالفة للشريعة، فلا مانع من أن يعيش المؤمن وسط المجتمع بكل فئاته بشرط أن يكون متميزاً بعقيدته وأخلاقه وسلوكه وتقييمه للأمور عن أهل المعاصي ولا يتأثر بشيء من انحرافاتهم أو يداهن أو يجامل أو يتنازل عن شيء، وبثباته ومبدئيته سوف يكون موقفه قوياً مؤثراً في الآخرين وهادياً ومصلحاً لهم.

وهذه المباينة في العقيدة والسلوك مع أهل الباطل جعلها الله تعالى في القرآن الكريم علامة فارقة لسلوك الأنبياء (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مع مخالفيهم والمتمردين عليهم، قال تعالى:{بِسمِ اللهِ الرَحمَنِ الرَحِيمِ، قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} (الكافرون:1-3) وقال تعالى:{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً، فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاً جَعَلْنَا نَبِيّاً} (مريم:48-49).

لكي لا ينحرف الدين وتضيع معالمه:

إن الاختلاط وعدم التمايز في الرؤية والتوجهات والسلوك بين المؤمن وغيره خطير جداً لأنه يؤدي لتشويه صورة الدين وتمييعه وتضييع هويته وانحراف

ص: 109


1- بحار الأنوار- المجلسي: 75/ 254

أحكامه حتى يصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً والأخطر من ذلك أنه يعطي مشروعية للانحراف والفساد بعد أن اختلط الحق بالباطل ولم يبق مائزٌ بينهما.خذ مثلاً سلوك السياسيين فهل تجد فرقاً بين من يرفع شعاراً إسلامياً ويعتبر حزبه إسلامياً وبين الآخرين؟ فإذا لم تجد فرقاً من حيث الفساد والاستئثار بأموال الشعب والأنانية وعدم الاكتراث بحال الشعب وعدم الاهتمام بإعمار البلد وازدهاره، فماذا سيبقى في يدك من أدوات لإقناع المجتمع بمشروع الإسلام ونظامه في سياسة الأمة وإدارة شؤون البلاد؟.

وهكذا على صعيد السلوك الشخصي إذا كان (المتدين) يكذب ويخلف الوعد ويغشّ ويعتدي على حقوق الآخرين ويفتري عليهم ويكيد لهم فكيف سيحب الناس التدين والالتزام بالشريعة؟.

وللعلم فإن أهل الباطل يحاولون جاهدين لاستدراج أهل الحق حتى يكونوا مثلهم، كما لو وُجد موظف نزيه مثابر في عمله يخدم الناس بإخلاص فإنهم يقومون بكل وسائل الضغط والترغيب والترهيب ليتخلى عن مبدأيته ويصبح مثلهم، ليعطوا المبررات لأنفسهم ويتخلصوا من محاسبة الضمير وليصبغوا أفعالهم بالشرعية، فالعزلة والاعتزال الذي حثت عليه الآيات الكريمة والروايات الشريفة يعني إبقاء الخط الفاصل بين المنهجين والسلوكين والرؤيتين.

الثالث:أن يكون الاعتزال بمعنى الانقطاع عما سوى الله تعالى وعدم التمسك بأي سبب من المخلوقات، عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لا يكون العبد عابداً لله حق عبادته حتى ينقطع عن الخلق كلهم إليه فحينئذٍ يقول:هذا

ص: 110

خالص لي، فيقبله بكرمه)(1).فذِكرُ الله تعالى والتمسك بالنبي وآله الكرام (صلوات الله عليهم وسلامه) وولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) هو الكهف الذي نكون فيه دائماً ونأوي إليه باستمرار وان كنّا في أوساطهم ، قال تعالى:{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً} (الكهف:16).

مع السيد الشهيد الصدر الثاني:

روى لي السيد الشهيد الثاني (قدس سره) هذه القصة ويبدو أنها حصلت له بعد معاناة اعتقاله عام 1974 قال:((إنني يوماً فتحت القرآن الكريم لأجد فيه منزلتي أمام الله سبحانه أو قل – بالتعبير الدنيوي- (رأي) الله فيَّ، فخرجت هذه الآية من سورة الكهف:{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً}، إن كل هذه الآية مفهومة لي بحسب حالي يومئذٍ إلا قصة (الكهف) الذي يكون من المطلوب أن آوي إليه، أي كهفٍ هذا؟ وذهبت إلى الحرم العلوي (على ساكنها السلام) عسى أن ينفتح لي هناك عن هذا المعنى، وبدأت بزيارة (أمين الله) حتى وصلت إلى قوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(اللهم فاجعل نفسي مطمئنة بقدرك راضية بقضائك.. إلى قوله:يا كريم) وقد حصل لي في تلك اللحظة (حدس) قوي بأن الكهف الذي يجب أن أدخله هو هذا، أي أن تصبح نفسي على هذه الأوصاف وتجانب ما سواها، وقد

ص: 111


1- بحار الأنوار: 70/ 112 عن عدة الداعي: 233.

عرضت ذلك على (مولاي) فأقرّه وقال بصحته))(1).وفي ضوء ما تقدم يندفع الإشكال وأن المعاشرة مع الآخرين أفضل من العزلة إذا كانت مثمرة ونافعة ويؤدي فيها الفرد وظائفه ولا تستدرجه المجاملات إلى الوقوع في المعاصي؛ لأن الاختلاط مع الآخرين يوفر فرصاً عظيمة للطاعة كقضاء حوائج الناس وإدخال السرور عليهم وهدايتهم وإرشادهم و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحو ذلك.

الحل الوسط:

روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله:(المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على اذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على اذاهم) وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لرجل أراد الجبل ليتعبد فيه:(لصبرُ أحدكم ساعة على ما يكره في بعض مواطن الإسلام خير من عبادته أربعين سنة)(2)، وعليه أن يكون يقظاً ملتفتاً حتى لا يتسبب اختلاطه مع الناس بالوقوع في المعاصي أو تشويش فكره بفضول الكلام، وأن يلتزم بمبادئه والأفعال الموافقة للشريعة ويعتزل سلوكياً الآخرين ويحذر من مناهجهم ورؤيتهم.

أما من لا يملك الشجاعة والمعرفة والقدرة على أداء وظائفه مع الآخرين فالحل المناسب له تقليل اختلاطه بالناس والاقتصار على مقدار الضرورة وأن يحرص على مجالسة ومحادثة من يقرّبه إلى الله تعالى، روى الإمام الصادق

ص: 112


1- قناديل العارفين: 153.
2- نقلها عن مصادرها في ميزان الحكمة: 6/ 19.

(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(قالت الحواريون لعيسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):يا روح الله، مَن نجالس؟ قال:من يذكّركم الله رؤيته ويزيد في علمكم منطقه ويرغّبكم في الآخرة عمله)(1)وفيه إشارة إلى أن من لم تستفد منه هذه الأمور فلا تضيّع وقتك(2)وعمرك الثمين بمجالسته أو محادثته عبر الإنترنت وأجهزة الاتصال ومصاحبته، فكيف بمن تكون مجالسته سبباً لعكس هذه الصفات كما هو حال أغلب الناس مع الأسف؟ لذا ورد في بعض الأحاديث:(فرَّ من الناس فرارك من الأسد)(3).إن المؤمن له أنس بربّه لا يستوحش معه ولا يحتاج إلى غيره إلا بمقدار الضرورة، وينفر من مخالطة الناس أزيد من ذلك ومجاملتهم ومداهنتهم، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(ما من مؤمن إلا وقد جعل الله له من إيمانه أنساً يسكن إليه حتى لو كان على قلّة جبل لم يستوحش)(4) وروي عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(خالط الناس تخبرهم ومتى تخبرهم تَقْلِهم – من القلى أي البغض والاجتناب-).

فترجيح الاختلاط او العزلة وتحديد مقدارهما يدور مدار ما يقرب-ّك الى

ص: 113


1- سفينة البحار: 6/ 235.
2- عن الإمام الباقر، عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في وصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (يا علي من لم ينتفع بدينه ولا دنياه فلا خير لك في مجالسته..) مكارم الأخلاق، وصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).
3- في مصباح الشريعة: روي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال: (قال عيسى بن مريم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): اخزن لسانك لعمارة قلبك، وليسعك بيتك وفرّ من الرياء وفضول معاشك، وابك على خطيئتك، وفرّ من الناس فرارك من الأسد والأفعى، فإنهم كانوا دواء فصاروا اليوم داء، ثم الق الله متى شئت) نقلاً عن بحار الأنوار: 67/ 110.
4- الحديث وما بعده في بحار الأنوار: 70/ 111 عن عدة الداعي: 232.

الله تبارك وتعالى ويجنّبك معصيته ولا يحرمك من طاعته .وعلى أي حال فإن الاعتزال فترة محددة أمر مفيد، فقد كان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يعتزل الناس في غار حراء في مكة، أما في المدينة فقد كان يطوي فراشه ويشد مئزره للعبادة في العشرة الأواخر من شهر رمضان(1).

ولأجل تحقيق هذا النقاء وتصفية الباطن لله تعالى شُرّع الاعتكاف في المساجد، وقد وردت الأحاديث في فضله وآثاره المباركة.

ونثني هنا على المبادرة التي يقوم بها جمع كبير من الشباب وطلبة الجامعات منذ عدة سنوات بإقامة العشر الأواخر من شهر رمضان إلى جوار أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ويُنظَّم لهم برنامج عبادي وتثقيفي مفيد بفضل الله تبارك وتعالى.

ص: 114


1- مستدرك الوسائل- المحدث النوري: 7/ 470

القبس /93: سورة مريم:59

اشارة

{فَخَلَفَ مِن بَعدِهِم خَلفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَوةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَتِ ۖ}

موضوع القبس:إنحراف الامة بعد رحيل قائدها

قال الله تبارك وتعالى {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} (مريم:59) أي جاء من بعد {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} (مريم:58) أجيال غير صالحين لذا قرأت (خَلْفٌ) بالسكون اما الذريات الصالحة فتقرأ بالتحريك (خَلَفَ) كما عن المشهور.

وذكرت الآية صفتين لهم وعلامتين لانحرافهم عن خط اسلافهم الصالحين بينهما ارتباط وثيق وهما (إضاعة الصلاة) و (اتباع الشهوات) وقد ترجعان الى واحدة أي ان كلاً منهما تؤدي الى الأخرى، فقد يكون الأصل في الانحراف إضاعة الصلاة، اما الثانية وهي اتباع الشهوات فهي نتيجة للاولى لان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر فاذا اضاعوها فقدوا المناعة التي تحصّنهم فوقعوا فريسة تزيين الشيطان واغرائه وسقطوا في اتباع الشهوات عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(لا يزال الشيطان يرعبُ من بني آدم ما حافظ على الصلوات الخمس، فاذا ضيعّهن

ص: 115

تجرأ عليه واوقعه في العظائم)(1) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(الصلاة حصن من سطوات الشيطان) فذكر تضييع الصلاة دون غيرها من الواجبات لأنها عمود الدين وعنوان صحيفة المؤمن والعاصمة للإنسان من الانجرار نحو التسافل.لذا ورد في الحديث الشريف عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(ما بين المسلم وبين الكافر الا ان يترك الصلاة الفريضة متعمداً أو يتهاون بها فلا يصليها) لانه بترك الصلاة يبقى مكشوفاً للاعداء - وهم شياطين الجن والانس والشهوات واهواء النفس - لا يملك ما يحميه منهم فيبدأ سلوكه بالانحدار ولا يقف السقوط الى حد معين حتى يستقر في قعر جهنم، وهذا مجّرب وله أمثلة كثيرة في الواقع لا تخفى عليكم لأشخاص تركوا الصلاة اولاً ثم انحدروا وأوغلوا في الموبقات.

وعلى العكس من الانحدار فان الترقي في درجات الكمال يبدأ من هذه الصلاة وعن طريق هذه الصلاة بحسب مراتب أدائها، ففي الحديث النبوي الشريف قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(إن الصلاة قربان المؤمن)وفي تعبير اخر (الصلاة معراج المؤمن) وفي آخر (الصلاة قربان كل تقي) و(إضاعة الصلاة) لها مراتب عديدة، اوضحها تركها من اصلها وهي المرتبة التي جعلتها الاحاديث الشريفة المتقدمة قرينة لبعض مراتب الكفر.

وتليها حالة عدم الالتزام بتأديتها في اوقاتها المخصّصة لإدائها أي عدم الاكتراث بفواتها، وفي مجمع البيان عن أبي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير الآية قال:(اضاعوها بتأخيرها عن مواقيتها من غير ان تركوها اصلاً). وروي عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)

ص: 116


1- راجع مصادر الاحاديث المذكورة هنا في ميزان الحكمة:5/ 107 وما بعدها.

قوله في الصلاة:(واذا لم يصلِّها لوقتها ولم يحافظ عليها رجعت سوداء مظلمة تقول:ضيّعتني ضيّعك الله)وفي الكافي بسنده عن داود بن فرقد قال:(قلت لأبي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله تعالى:{إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} (النساء:103) قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(كتاباً ثابتاً وليس أن عجلت قليلاً أو أُخّرت قليلاً بالذي يضُّرك ما لم تضّيع تلك الاضاعة فان الله عز وجّل يقول لقوم {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} (مريم:59).

وتليها حالة اتيانه بالصلاة لكن ليس على وجهها الصحيح من حيث اجزائها وشرائطها واقوالها وافعالها فلا يتم له ركوع أو سجود أو طهور أو قراءة واشباه ذلك من الصلاة التي وصفها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)بأنها نقر كنقر الغراب(1) ، وقال البعض بأن الآية تنطبق على أهل هذه المرتبة اكثر من المرتبتين السابقتين لان معنى ضياع الشيء تلفه وخرابه أو افتقاده بسبب سوء تدبير الذي بيده ذلك الشيء فوضعه في غير موضعه، فالإضاعة لا تصدُق الا مع التفريط بالشيء بعد وجوده اما من لا يوجد عنده الشيء اصلاً فقد لا تصدق عليه الاضاعة، فهذا الخلْف المُضِّيع للصلاة ورث الصلاة من اسلافه الصالحين الا انه فرّط فيها وضّيعها ولم يعتنِ بها وغيَّر فيها واستهان بها فلم يحسنوا الخلافة فيها كما سيأتي ان شاء الله في رواية البخاري، ولا أرى مانعاً من دخول جميع المراتب المتقدمة في عنوان إضاعة الصلاة فأن من تركها اصلاً يصدق عليه التضييع لأنه اعطي هذه الصلاة لكنه لم يؤّدِها.

ص: 117


1- الكافي- الشيخ الكليني: 3/ 268/ح6

وتوجد مرتبة أخرى لإضاعة الصلاة تخفى الا عن أهل المعرفة وهي إضاعة حقيقتها وجوهرها وثمرتها وهي المعراجية الى الله تبارك وتعالى والنهي عن الفحشاء والمنكر فهو يؤدي الصلاة في اوقاتها ويدقق في الاتيان بأجزائها وشرائطها الا انه لا يتكامل بها ولا ترتقي احواله وعلاقاته بربه بها. عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(لا صلاة لمن لم يطع الصلاة، وطاعة الصلاة ان تنهى عن الفحشاء والمنكر) وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(اعلم ان الصلاة حجزة الله في الأرض، فمن أحَّب أن يعلم ما ادرك من نفع صلاته، فلينظر:فان كانت حجزته عن الفواحش والمنكر فانما ادرك من نفعها بقدر ما احتجز).وقد يؤدي الإنسان خلال عمره آلاف الصلوات(1) من دون ان تحصل له حالة الارتقاء والسمو في درجات المعرفة والكمال، روى الشيخ الصدوق بسنده عن حّماد بن عيسى - ويعلم اهل الاختصاص أن حّماد من ثقات الرواة عن الصادق والكاظم والرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) - قال:(قال لي أبوعبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوماً تُحسن أن تصلّي يا حّماد؟ قال:قلت:يا سيدي أنا أحفظ كتاب حريز في الصلاة، قال: فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لا عليك قم فصلِّ قال فقمت بين يديه متوجهاً الى القبلة فاستفتحت الصلاة وركعت وسجدت فقال:يا حّماد لا تحسن ان تصلّي؟! ما أقبح بالرجل أن تأتي عليه ستون سنة او سبعون سنة فما يقيم صلاة واحدة بحدودها تامة؟!)(2) ثم قام الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وصلى أمامه الصلاة القربانية الخاشعة فالتوبيخ لم يصدر لترك

ص: 118


1- الصلوات المفروضة في اليوم والليلة خمسة غير المستحبات ففي السنة 1800 وفي عشر سنوات ثمانية عشر الف صلاة
2- من لا يحضره الفقيه: ج1/ح915/باب وصف الصلاة

الصلاة أو عدم الالتزام بها وإنما لعدم الوصول الى حقيقتها، ولعدم تحقق الاستفادة التامة من ثمرتها.والصفة الثانية للخلَّف غير الصالح (اتباع الشهوات) وهو له صور عديدة بحسب عمر الانسان وعمله وموقعه الاجتماعي والسياسي والديني وغير ذلك من المؤثرات، فالشباب يغريهم اللهو واللعب والمتعة الجنسية وهوس المودة في الملبس والمظهر الخارجي وتقليد الأجانب ولربما الانخراط في جماعات العنف والقتل والابتزاز والاختطاف.

والسياسيون تسكرهم السلطة والنفوذ والاستيلاء على المال العام وكثرة المؤيدين وتسليط الاعلام. والنساء يستهويهنَّ التجمل وإظهار الزينة حتى لغير من أحلّ الله تعالى ونصب الفخوخ للرجال. والتجار في السوق يلهثون وراء الأموال باي طريقة حصلت ولو كانت عن طريق الغش والظلم والبخس والتطفيف وغير ذلك كثير من اشكال اتباع الشهوات.

وتذكر الآية الكريمة العاقبة الوخيمة لإضاعة الصلاة واتباع الشهوات {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} والغي مقابل الرشد الذي هو إصابة الحق قال الله تعالى{قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (البقرة:256) كالضلال في مقابل الهدى الذي يعني الوصول الى الغاية المقصودة ، فهؤلاء سوف يلاقون الغي، وقد اطلق لفظ الغي أي سواء في الحياة الدنيا وحين الموت وما بعده وفي الآخرة، ففي الدنيا يقعون في الجهل والضلال ويفقدون البصيرة والرشد والحكمة وفي الآخرة يلقون جزاء ذلك {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} {الفرقان:68) لأنهم اوقعوا انفسهم في الغي والضلال فيلاقون جزاءه {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (النمل:90).

ص: 119

لكن لا ينبغي لمن اغراه الشيطان وغلبته اهواؤه وشهواته أن ييأس من روح الله تعالى ورحمته والرجوع اليه لذا جاءت الآية التالية مباشرة لتزرع هذا الأمل {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئاً} (مريم:60).والآية تبين بوضوح ظاهرة اجتماعية وسلوكاً عاماً يحصل عند غياب كل القادة العظام من الأنبياء والرسل (صلوات الله عليهم أجمعين) أو قادة الثورات الإصلاحية وهو الانقلاب على التعاليم الإلهية ووصايا الأنبياء والرسل والرجوع الى حالة الانحطاط من خلال إضاعة حقيقة الصلاة واتباع الشهوات والانخداع بالدنيا.

فلم يكن ما حصل بعد رحيل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من انقلاب بدعاً من السلوك وانما هي نسخة متكررة من الأمم السابقة، تلك الحالة التي يبدي الله تعالى آسفه عليها {يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} (يس30) وكأن هذه الآية المكية وامثالها تنبه الامة الى هذا الخطر المترقب لئلا يقعوا فيه، وليس لهم عذر في ذلك لان النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حذرهم منه في مناسبات عديدة كقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):فيما رواه عنه الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير قوله تعالى {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ} {الانشقاق:19) قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (لتركبن سنة من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقُذَّة بالقُذَّة ولا تخطئون طريقهم قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قالوا:اليهود والنصارى تعني يا رسول الله؟ قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):فمن أعني؟ لتنقض عرى

ص: 120

الإسلام عروة عروة، فيكون أول ما تنقضون من دينكم الامامة واخره الصلاة)(1).روى البخاري في صحيحه عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(أنا فرطكم على الحوض ليُرفعنَّ إليَّ رجالٌ منكم حتى إذا أهويتُ لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول:أي ربِّ أصحابي، يقول:لا تدري ما أحدثوا بعدك) (2)

وفي نفس المصدر بسنده عن الزهري قال:(دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلت:ما يبكيك؟ فقال:لا أعرف شيئاً مما أدركتُ إلا هذه الصلاة وهذه الصلاة قد ضُيِّعت)

ويبدو ان هذه الظاهرة متكررة في جميع الأجيال وعند كل انعطافة تاريخية ومفترق طريق يحصل عند غياب أصحاب الرسالات والمشاريع الإلهية، او عند اقبال الدنيا وتوسع خيراتها كما حصل للمسلمين الأوائل عند نجاح الفتوحات الإسلامية وهزيمة الامبراطوريتين الفارسية والرومية، أو ما حصل لساسة العراق الجدد بعد عام 2003، فكم من القادة العظام يتعبون ويضحون وقد يستشهدون ثم ترثهم وتخلفهم جماعات تدعي الانتساب اليهم وترث الامتيازات عنهم لكنها تضيّع مشروعهم العظيم، قال تعالى في موضع آخر {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}

ص: 121


1- تفسير القمي:2/ 412.
2- صحيح البخاري: 9/ 46/ح 7049,_1/ 112/ح530, ط. دار طوق النجاة

(الأعراف:169) امام هذه الحقيقة التي يكشف عنها القرآن الكريم ويؤكد تكرارها عبر الأجيال لا يحقّ للمؤمنين الرساليين ان يكتفوا بتحريك السنتهم بقول انا لله وانا اليه راجعون أو لا حول و لا قوة الا بالله العلي العظيم ونحو ذلك بل لابد من العمل بما تقتضيه هذه الكلمات المباركة والتحرك لحث الناس على إقامة الصلاة ووعي حقيقتها والاستفادة من آثارها المباركة في الدنيا والآخرة وتعليمهم احكامها التفصيلية ومقدماتها وسننها وآدابها وغير ذلك وتحذّر الناس في جميع مستوياتهم وعلى اختلاف مواقعهم من الانخداع بالدنيا والاغترار بمظاهرها البرّاقة الخادعة واتباع الشهوات والتأثر باهل المعاصي.

ولكي تحقق الحركة أفضل النتائج ينبغي ان تقوم بهذه المسؤولية مؤسسة وجماعة تأخذ على عاتقها احداث هذه النهضة المباركة بأذن الله تعالى قال تعالى {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} (آل عمران104) وهذه دعوة صريحة لإقامة مثل هذه المؤسسات و الجماعات لكل باب من أبواب الخير ولكل مورد من موارد الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فلاقامة الصلاة مؤسسة ولايتاء الزكاة مؤسسة ولتشجيع الزواج وتكثير النسل مؤسسة ولاصلاح ذات البين ورفض الطلاق مؤسسة وللعفاف مؤسسة وللتشجيع على القراءة ونشر الكتاب مؤسسة وللشعائر الدينية مؤسسة وغير ذلك كثير {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} {النحل:128).

ص: 122

القبس /94: سورة مريم:34

اشارة

{فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا}

موضوع القبس: لا تهولنّكم قوة الباطل فإنها إلى فناء

يشعر المؤمنون والعاملون الرساليّون بالإحباط واليأس أحياناً عندما يرون الباطل يتسلط ويتفرعن، والفساد ينتشر، وتصبح للظالمين دولة تملك المال والاعلام والسلطة وكل أدوات الحرب الناعمة والخشنة، ولا تتورع عن استخدام أي وسيلة حتى القذرة منها لتحقيق أهدافها، وحينئذٍ ينكمش المؤمنون وينزوون ويتخلون عن واجبهم في الدعوة الى الله (تبارك وتعالى) وهداية الناس وإرشادهم وإصلاحهم.

فتأتي هذه الآية الكريمة وآيات كثيرة غيرها لتحليل هذه الظاهرة وعلاجها لتقول : إنّ هذا الشعور ناشئ من العجلة، فكأن المؤمنين يستعجلون النصر وتحقق النتائج التي يسعون من أجلها، ويريدون أن ينزل الله تعالى العقوبة على كل ظالم بمجرد صدور الظلم منه فلما تتأخر عليهم يشعرون بالإحباط والضيق، وهذا خلاف سنة الله تعالى الجارية في خلقه {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} (فاطر:45) فتنهى الآية الكريمة عن الانبهار بدولة الباطل والشعور بالإحباط لعدم نزول العذاب {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ} لعدم وجود

ص: 123

المسوغ للعجلة ، ففي دعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وإنما يعجل من يخاف الفوت وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف)(1) والمفروض أننا مؤمنون نعتقد جازمين بأنّ الله تعالى لا يفوته شيء وهو قوي ومقتدر قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} (إبراهيم:42) وقال تعالى: {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} (مريم:94-95) فإمهالهم وبال عليهم، قال الله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (آل عمران:178) وستقودهم شياطينهم إلى الهلاك فلماذا العجلة.ويتضمن الجزء الثاني من الآية تعليل عدم صحة الاستعجال بقوله تعالى {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} فإن الله تعالى بهذا الإمهال يريد أن يقيم الحجة البالغة عليهم ويدعهم يستوفون مدّتهم كاملة ، وهم في كل لحظة تمرّ عليهم في الدنيا ومع كل نفس يلتقطونه يزدادون إثماً واستحقاقاً للعقاب، والله تعالى يعدُّ عليهم هذه الأنفاس حتى تنتهي، إذ المعدود ينقصه العدّ وتتأكل به، ففي التعبير كناية عن انتهاء أعمارهم ورجوعهم الى الله تبارك وتعالى، وكأن الله تعالى يملك في خزائنه لكل منهم عدد أنفاسه المكونة لعمره ويطلقها لهم واحداً بعد واحد حتى تنتهي، روى الشيخ الكليني بسنده عن عبد الأعلى قال: (قلت لأبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): قول الله عز وجل: " إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا " قال: فما هو عندك؟ قلت: عدد

ص: 124


1- الدعاء الثامن والاربعون من الصحيفة السجادية في يوم الجمعة والأضحى .

الأيام، قال: إن الآباء والأمهات يحصون ذلك، قال: لا ولكنه عدد الأنفاس)(1) فتصوروا أنّ آثامهم بقدر أنفاسهم فضلاً عما لو لوثوها بجرائمهم ومعاصيهم، فإن عدَّ الأنفاس في الحقيقة هو عدَّ للأعمال المثبتة في صحيفة الحياة حتى تتم الصورة التي يؤول اليها في آخرته ((فكما أن مكث الجنين في الرحم مدة يتم بها خلقة جسمه كذلك مكث الانسان في الدنيا لأن يتم بها خلقة نفسه وأن يعدَّ الله ما قدّر له من العطية ويستقصيه))(2) لذا لا يصح استعجال الجزاء ثواباً وعقاباً لأن في استيفاء المدة اكتمالاً لحسنات المحسن فيثاب عليها، ولسيئات المسيء فيعاقب عليها. ولذا جاءت هذه الآية الكريمة متفرعة بقرينة الفاء على الآية التي قبلها {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} (مريم:83) أي تهزهم وتدفعهم بقوة وازعاج نحو الشر والفساد وتحرضهم على اتباع الباطل فتزيدهم ضلالاً إلى ضلالهم، وليس ذلك من باب الإكراه حتى تسقط المسؤولية عنهم، وإنما لأنهم هم من مكّنوا هذه الشياطين من أنفسهم وأطاعوهم وانقادوا لهم قال تعالى: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} (النحل:100)، روى علي بن ابراهيم في تفسير هاتين الآيتين قال: (لما طغوا فيها وفي فتنتها ، وفي طاعتهم ، مدّ لهم في طغيانهم وضلالهم ، وأرسل عليهم شياطين الإنس والجن {تؤزهم أزا} أي تنخسهم نخسا وتحضّهم على طاعتهم وعبادتهم فقال الله: "فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ

ص: 125


1- الكافي: ج3 / ص 259 / ح 33 .
2- الميزان في تفسير القرآن: 14/ 108

إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا " أي في طغيانهم وفتنهم وكفرهم)(1).والخطاب في الآية وإن كان موجهاً إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الا انه في الحقيقة لنا من باب (إياك أعني واسمعي يا جارة) والا فان هذه الحقيقة ماثلة امام القادة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) على نحو اليقين، وكشاهد على ذلك نذكر ما كتبه الامام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من سجنه إلى هارون العباسي وقال فيه: (إنه لن ينقضي عنّي يوم من البلاء إلّا انقضى عنك معه يوم من الرخاء حتّى نفضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون)(2).

هذا ما نفهمه من الآية الكريمة على المستوى الحركي ونتيجته النهي عن التبرّم وضيق الصدر والتقاعس والانزواء عندما يطول الزمن بالظلم وتتمكن دولة الباطل، وان على العاملين الرساليين الاستمرار في أداء واجباتهم ولا تكن نظرتهم ضيقة محدودة تقتصر على مساحة صغيرة من الزمن بل لينظروا الى الأفق البعيد.

ويمكن أن نفهم منها على الصعيد المعنوي والأخلاقي بأن الإنسان يجب أن يكون متيقظاً ملتفتاً عارفاً بقيمة وقته لأنه ليس مغفولاً عنه، فإن الله سبحانه يحصي عليه أعماله ويعدّ عليه أنفاسه التي وصفها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بقوله: (نفسُ المرء خطاه إلى أجله)(3) فكلّما أمدّه الله سبحانه وتعالى بنفس فكأنما قربّه إلى أجله حتى إذا استنفدها وانتهت مدته جاءه الأجل وعُرِض للحساب أمام الله تعالى،

ص: 126


1- تفسير القمي ج2 / ص55 ، البرهان ج6 / ص216 / ح 8 .
2- كشف الغمة ج 3 /ص 3.
3- نهج البلاغة / قصار الكلمات / رقم 74 .

وكما يعدّ الله تعالى للإنسان أنفاسه فإنه يحُصي عليه أعماله فلا يغتر الإنسان العاصي الغافل عن الله تعالى بإمهال الله تعالى له.روى علي بن إبراهيم في تفسير الآية قال: (نزلت في مانعي الخمس والزكاة والمعروف، يبعث الله عليهم سلطاناً أو شيطاناً، فينفق ما يجب عليه من الزكاة والخمس في غير طاعة الله(1) ويعذبه الله على ذلك)(2).

فاذا علم الانسان أن كل شيء محسوب حتى أنفاسه فانه سيكون متيقظاً حاضر الذهن مراقباً لنفسه فيما يقول ويفعل.

ولا تخلو الآية من إشارة الى قُصر عمر الانسان مهما طال لأنه عبارة عن عدد من الأنفاس مهما كثُرت فأنها تنقص بالعدّ، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (كُلُّ مَعْدُودٍ مُنْقَضٍ وكُلُّ مُتَوَقَّعٍ آتٍ)(3) لذا ورد في الحديث عن الإمام زين العابدين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (أكبر ما يكون الانسان يوم يولد، وأصغر ما يكون يوم يموت)(4).

فلابدّ أن يتدارك الانسان عمره ويراجع نفسه ويعيد ترتيب ملفاته كما يقال، وسيجد الله تعالى قريباً اليه رحيماً به ويساعده على تغيير كل حياته نحو الأفضل، روى الشيخ الصدوق بسنده عن الامام الصادق عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (من أحسن فيما بقي من عمره، لم يؤاخذ بما مضى من ذنبه، ومن

ص: 127


1- شرحنا هذه الفكرة في قبس الآية {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} راجع: من نور القرآن ج2 ص 91
2- تفسير القمي : ج2/ ص53 ، البرهان ج6/ ص216 / ح 9 .
3- نهج البلاغة- خطب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- ج 1- الصفحة 197
4- من لا يحضره الفقيه ج1/ ص194

أساء فيما بقي من عمره أخذ بالأول والآخر)(1)، وهي فرصة عظيمة يوفرّها الله تعالى لعباده رحمةً بهم.ويشير أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الى القيمة العظيمة لهذا الانقلاب والانعطاف في حياة الانسان في أي لحظة تحصل من حياته ويصفها بأنها (لا قيمة لها) أي لا يمكن تقييمها لعظمتها، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (بقيةُ عمر المرء لا قيمة لها: يُدرِكُ بها ما قد فات ويُحيي بها ما مات)(2) .

والغريب أن نجد بعض الناس يقضون هذه البقية الثمينة من أعمارهم بعد تقاعدهم عن العمل في المقاهي وعلى أرصفة الطرق باللهو والعبث والأحاديث الفارغة بل المحرمة فيخسرون هذه الفرصة الثمينة وفي الوقت الضائع بل القاتل.

ونحن اليوم في آخر جمعة من شعبان وهو من أعظم المناسبات لإجراء هذه المراجعة لاستقبال شهر رمضان بقلوب نقية ونفوس مقبلة على الطاعة، روى أبو الصلت الهروي قال: (دخلت على الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في آخر جمعة من شعبان، فقال لي: يا أبا الصلت، إن شعبان قد مضى أكثره، وهذه آخر جمعة فيه، فتدارك فيما بقي تقصيرك فيما مضى منه، وعليك بالإقبال على ما يعنيك، وأكثر من الدعاء والاستغفار، وتلاوة القرآن، وتب إلى الله من ذنوبك، ليقبل شهر الله إليك وأنت مخلص لله عز وجل، ولا تدعنَّ أمانة في عنقك إلا أديتها، ولا في قلبك حقداً على مؤمن إلا نزعته، ولا ذنباً أنت مرتكبه إلا أقلعت عنه واتق الله وتوكّل عليه في سرّ

ص: 128


1- أمالي الصدوق :111
2- بحار الانوار: 6/ 138 / ح46

أمرك وعلانيتك (ومن يتوكل على الله فهو حسبه ان الله بالغ أمره، قد جعل الله لكل شيء قدراً، وأكثر من أن تقول فيما بقي من هذا الشهر " اللهم ان لم تكن قد غفرت لنا في ما مضى من شعبان فاغفر لنا فيما بقي منه)(1)، ونحن ندعو بما علمنا الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

ص: 129


1- مفاتيح الجنان: 171 أعمال ما بقي من شعبان.

القبس /95: سورة طه:41

اشارة

{وَٱصطَنَعتُكَ لِنَفسِي}

موضوع القبس:الصناعة الإلهية للإنسان

أهمية الطفولة:

من المعلوم أن فترة الطفولة لدى الإنسان هي أطول من كل الكائنات الحية، وما ذلك إلا لينال التربية الكاملة والكافية التي تؤهله لممارسة دوره كخليفة لله تعالى في أرضه وليستطيع بناء كل قواه البدنية والعقلية والفكرية والنفسية حتى يتمكن من تلقي التشريف الإلهي ويبلغ سن التكليف الذي يتأخر عن السنة التاسعة عند الإناث وأكثر من ذلك عند الذكور.

ولاشك أنه كلما تتوفر للإنسان عوامل أقوى لتربيته وبنائه فإن فرصته لبلوغ الكمال والرقي أفضل وأوسع، وكلّما كان الدور المناط بالشخص والمسؤولية التي سيضطلع بها أهم وأوسع، كان نوع المربي المطلوب متصفاً بكمالات أرقى.

التربية الإلهية:

ولما كان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أكمل البشر وأفضلهم ومعداً لأداء أعظم الرسالات الإلهية، فلم يكن هناك من هو جدير بتربيته وتأديبه، لذا تكفل الله

ص: 130

تبارك وتعالى بذلك، قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(أدبني ربي فاحسن تأديبي)(1) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (أنا أديب الله وعلي أديبي)(2).وفي نهج البلاغة يصف أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هذه الصناعة بقوله (ولقد قرن الله به (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره)(3).

وأرّقَ تعبير وألطفه وأعظمه لهذه الفكرة هو ما ورد في القرآن الكريم في حق نبي الله تعالى وكليمه موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ، قال تعالى:{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (طه:39) وقال تعالى:{وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْس-ِي} (طه:41)،حينما يحظى الإنسان بلحظة من العناية الإلهية والألطاف الإلهية فإنها تغنيه وتكفيه، فكيف بمن يُصنع كله بعين الله تعالى ورعايته ولطفه، وليس هذا فقط بل يصطعنه لنفسه خالصاً مخلصاً ليحمل رسالته الكريمة إلى البشرية فليس له نظرٌ إلى ما سوى الله تبارك وتعالى، ولا يطمع فيه أحد من شياطين الجن والإنس، والصنع كما في المفردات (إجادة الفعل) أما الاصطناع فإنه (المبالغة في إصلاح الشيء)(4).

نتيجة الاصطفاء الإلهي:

وكانت النتيجة أن يكون موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مخلصاً لله تبارك وتعالى نبياً رسولاً

ص: 131


1- البحار: ج68 ص382.
2- ميزان الحكمة: 1/ 80.
3- نهج البلاغة، الخطبة، 192 المسماة بالقاصعة.
4- المفردات: ص286.

من أولي العزم {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً} (مريم:51)، هكذا تتدخل الألطاف الإلهية في صناعة الأفذاذ المؤهلين للأدوار العظيمة، والمستحقين للمقامات السامية، ومنهم أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، فقد أراد الله تعالى أن يكونوا معصومين مطهرين مخلصين له تبارك وتعالى، قال تعالى {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب:33) وإذا أراد الله شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، ولا رادّ لقضائه.هل تساءل أحد كيف يمكن أن توجد مثل خديجة بنت خويلد التي لُقِّبت بالسيدة الطاهرة في ذلك المجتمع الجاهلي المملوء بالجرائم والموبقات والمفاسد التي لم يسلَم منها إلا الأندرون كجد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأبويه وعمه وابن عمه؟ وهل يوجد تفسير لذلك إلا الصناعة الإلهية لتلك القدّيسة الطاهرة؟.

وهكذا يجد من يراجع سير العظماء ان يداً من وراء الغيب تتولى أمرهم وتصنعهم بحب وشفقة واتقان لتعدّهم للدور الكبير الذي يراد لهم.

كيف ننال الاصطفاء الإلهي؟

والذي يهمّنا من ناحية عملية هو هل يمكن أن نحظى بهذه الألطاف الإلهية ونكون ممن يصنعهم الله تعالى على عينه ويصطنعهم لنفسه بدرجة من الدرجات؟ ومن الواضح اننا نتحدث هنا عن التربية الإلهية الخاصة، لأن العامة شاملة للجميع، فهو تبارك وتعالى (ربّ العالمين) و{مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} (هود:56).

والجواب واضح بإمكان ذلك إذ أن الله تبارك وتعالى لا بخل في ساحته

ص: 132

–كما قيل- ولا يحتجب عن خلقه، إلا أن تحجبهم الذنوب دونه –كما في الدعاء-(1).والسؤال الأهم في كيفية تحصيل ذلك، ويمكن ان نستفيد معنيين من نفس الآيات الشريفة.

الأول:من نفس الآية الأولى {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (طه:39) فالطريق أن تحبّ الله تعالى ويحببك الله تعالى، وقد شرحنا علامات هذا الحب المتبادل وطريقة تحصيله في قبس مفصّل(2)، وورد في كلمات الحكماء (إن الله إذا أحبّ عبداً تفقّده كما يتفقّد الصديق صديقه)(3).

الثاني:من الآية الثانية {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى، وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} (طه:40-41) فعندما يكون الإنسان ذا همّة عالية وطموح كبير للعمل في إعلاء كلمة الله تعالى ونشر علوم أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) واصلاح النفس والمجتمع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الله يستخلصه لنفسه وسيصلح شأنه ويتولاه بنفسه ويعينه على هذه الرسالة ويؤهله لأدائها.

ما يوجب الصناعة الإلهية:

ويستفاد من الروايات الشريفة ما يوجب تلك الألطاف الإلهية.

(منها) صحيحة أبان بن تغلب عن أبي جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) –في حديث-

ص: 133


1- أنظر: مصباح المتهجد- الشيخ الطوسي: 162_815
2- أنظر: القبس/32 {يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُۥ} (سورة المائدة:54), من نور القرآن: 1/ 356
3- مفردات الراغب ص321.

(إن الله جلّ جلاله قال:ما يتقرب إلي عبدٌ من عبادي بشيء أحبُّ إليّ مما افترضت عليه، وإنه ليتقرب إليّ بالنافلة حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته)(1).(منها) ما في الحديث القدسي (أيما عبد اطلعتُ على قلبه فرايت الغالب عليه التمسك بذكري تولّيتُ سياسته وكنت جليسه ومحادثه وأنيسه)(2).

وفي البحار عن إرشاد الديلمي وغيره (فمن عمل برضائي ألزمه ثلاث خصال:أعرفه شكراً لا يخالطه الجهل، وذكراً لا يخالطه النسيان، ومحبة لا يؤثر على محبتي محبة المخلوقين.

فإذا أحبّني أحببته، وأفتح عين قلبه إلى جلالي، ولا أخفي عليه خاصّة خلقي، وأناجيه في ظلم الليل ونور النهار حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين ومجالسته معهم، وأسمعه كلامي وكلام ملائكتي، وأعرّفه السر الذي سترته عن خلقي، والبسه الحياء حتى يستحي منه الخلق كلهم، ويمشي على الأرض مغفوراً له، وأجعل قلبه واعياً وبصيراً، ولا أخفي عليه شيئاً من جنة ولا نار، وأعرّفه ما يمرُّ على الناس في القيامة من الهول والشدّة، وما أحاسب به الأغنياء والفقراء والجهّال والعلماء، وأنوّمه في قبره، وأنزل عليه منكراً ونكيراً حتى يسألاه، ولا يرى غم الموت وظلمه القبر واللحد وهول المطّلع، ثم أنصب له ميزانه وأنشر ديوانه، ثم أضع كتابه في يمينه فيقرؤه منشوراً ثم لا أجعل بيني وبينه ترجماناً، فهذه صفات

ص: 134


1- وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب اعداد الفرائض ونوافلها، باب17، ح6.
2- البحار: ج90 ص162، الكافي: ج2 ص352 ح8.

المحبين)(1).

الدعاء يوصل الى الصناعة الإلهية:

ولا شك أن الدعاء وطلب معالي الأمور يوشك أن يوصل إلى ذلك فليجتهد العبد في الطلب والدعاء، من دعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في طلب مكارم الأخلاق(2) (واصلحني بكرمك وداوني بصنعك) وورد في دعائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الذي أوله (يا من تحلّ به عقد المكاره)(3) (وأذقني حلاوة الصنع فيما سألتُ) ومن دعائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في طلب العفو (اجعلني... وخلّصته بتوفيقك من ورطات المجرمين، فأصبح طليق عفوك من أسار سخطك، وعتيق صنعك من وثاق عدلك)(4).

خصوصاً أنتم معاشر الشباب ما دمتم في مقتبل العمر وبداية الطريق لصناعة مستقبلكم المعنوي والمادي، فاسألوا الله تعالى أن يختاركم لأعظم الأدوار وأرقى المسؤوليات وأن يصنعكم بيده سبحانه لأدائها، وواظبوا على طلب ذلك بإخلاص ولسوف يعطيكم ربكم ذلك كما حكى سبحانه عن عباد الرحمن أن من دعائهم {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} {الفرقان:74).

ص: 135


1- البحار: ج74 ص29.
2- مفاتيح الجنان: ص105.
3- السابق: ص148.
4- الصحيفة السجادية، من دعائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في طلب العفو والرحمة: ص170.

القبس /96: سورة طه:114

اشارة

{وَقُل رَّبِّ زِدنِي عِلما}

أدب طلب العلم:

قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(أدبني ربي فاحسن تأديبي)(1) ومما أدّب الله تعالى به نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله تعالى {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه:114) وقد اخذ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بهذا الادب وسائر الآداب الربانية فكان يطلب الزيادة في العلم باستمرار ويدعو (اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علما والحمد لله على كل حال)(2) حتى روي عنه قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(اذا أتى عليَّ يوم لا أزداد فيه علماً يقربني الى الله فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم)(3).

التأسي بطلب العلم:

وإذا كان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في مقامه السامي يطلب الزيادة باستمرار فنحن اولى، مضافاً الى أننا مأمورون بالتأسي بالنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهذا الادب الشريف منه, فالازدياد مطلوب في كل زمان وفي كل مكان حيث يوجد علم نافع, ويبقى

ص: 136


1- الكافي : 1/ 266 ح4.
2- الدر المنثور : 4/ 309.
3- ميزان الحكمة :6/ 145 عن كنز العمال 28687.

الانسان طالب علم وإن حاز على أعلى الالقاب العلمية ولا معنى للتخرج وإنهاء الدراسة أو التعطيل إلا بالتحول من مجال الى مجال انفع منه، وإلاّ حُرمنا من البركة التي أشار إليها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حديثه المتقدّم؟.

في قوله تعالى:وَقُلْ رَبِّ

وأوّل ما يستوقفنا في هذا الأدب الإلهي استعمال لفظ الرب في الدعاء من دون الأسماء الحسنى الأخرى، ولفظ الربوبية الدال على التربية والاعتناء بإنشاء الشيء وصناعته ورعاية صلاحه حالاً بعد حال إلى أن يبلغ تمامه، لإلفات نظر الداعي إلى هذه العلاقة الحميمة والعناية الخاصة التي يوليها الله تعالى لعبده، ولاستدرار الرحمة والشفقة الإلهية الخاصة.

في معنى أن الآية لسانها الدعاء:

والدعاء الذي ورد في الآية الكريمة، وكلّ دعاء ليس مجرد كلمات تُحرَّك بها اللسان وانما يعبِّر عن أهداف وطموحات وغايات يريد الانسان ان يصل اليها ويحققها بلطف الله تعالى وتوفيقه فعليه ان يهيئ المقدمات ويتخّذ الاسباب الموصلة الى الغاية، فعندما يطلب الانسان الزيادة المستمرة في العلم عليه ان يسعى لتحصيل هذا العلم من مصادره من خلال المطالعة والاستماع الى كل معلومة نافعة ومن خلال التلقي ممن عنده هذا العلم والاستفادة منه كما هو شأن الجامعات والمعاهد والمدارس والحوزات العلمية وامثالها.

لا تغفلوا عن العلم الغيبي:

وهذه هي المصادر البشرية للزيادة من العلم أي العلم المكتسب من

ص: 137

الآخرين، ونغفل عن المصادر الغيبية أو الالهية للازدياد من العلم وهي مصادر أوسع وأنقى وأثبت وأعمق وأكثر تأثيراً والذي سنسمع وصف النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) له بأنه لا جهل معه, كمن يريد ان يسقي أرضه الزراعية فتارةً يفتح لها قناة تأتيه بالماء من النهر مع ما يَحمل في طريقها من الأوساخ والأوبئة، وأخرى يفجر من الارض ينبوعاً صافياً نقياً، فكذلك القنوات التي تغذّي العقل والقلب بماء العلم والمعرفة فإنها تارة تؤخذ من الآخرين، وتارة تتفجّر من باطن الانسان، وقد فُسِّر قوله تعالى {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} (عبس:24) بالعلم ممن يأخذه لأن العلم غذاء الروح، ففي الكافي عن زيد الشحّام عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قول الله عز وجل:{فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} {عبس:24) قلت:ما طعامه، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):علمه الذي يأخذه عمّن يأخذه)(1).

مصادر العلم الغيبي:

ومن هذه المصادر:

1-التقوى:قال تعالى {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} (البقرة:282) فالتعليم الالهي يتعقب التقوى وهو العلم اللدني الذي ورد في قوله تعالى {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} (الكهف:65) وعن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (لو خفتم الله حق خيفته لعُلّمتم العلم الذي لا جهل معه)(2) وهو العلم اللّدني.

ص: 138


1- الكافي: 1/ 39/ح8..
2- ميزان الحكمة : 6/ 203 عن كنز العمال 5881.

قال الشاعر:

شكوتُ الى وكيع سوء حفظي *** فأرشدني الى ترك المعاصي

وعلّله بأن العلم نورٌ *** ونور الله لا يؤتى لعاصي(1)

وكلما أزداد الانسان تقوى وابتعاداً عما يُسخط الله تعالى وعملاً بما يرضيه كان أكثر انفتاحاً على الاسباب الالهية وكانت مرآته أصفى وأنقى فتنعكس فيها حقائق العلوم حتى تبلغ الذروة عند المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (قال:ما من ليلة جمعة إلا ولأولياء الله فيها سرور قلت:كيف ذلك؟ جعلت فداك قال:إذا كان ليلة الجمعة وافى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) العرش ووافى الائمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ووافيت معهم فما أرجع إلا بعلم مستفاد ولولا ذلك لنفد ما عندي)(2) وسُئل الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إنا نسئلك احياناً فتسرع في الجواب وأحياناً تطرق ثم تجيبنا ؟ قال:نعم انه ينكت في أذاننا وقلوبنا فاذا نكت نطقنا وإذا امسك عنا أمسكنا)(3) وهذا المصدر هو الذي يفسر الظاهرة الغريبة التي بدأت مع الامام الجواد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وولده الإمام الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بقيامهما بأعباء الامامة وقيادة الأمة ومناظرة العلماء في مختلف الفنون وهما صبيان في الثامنة من العمر وعجز الاخرون عن تفسيرها

ص: 139


1- يُنسب هذا الشعر الى الشافعي. أنظر: تفسير الآلوسي: 6/ 90.- موسوعة الرقائق والأدب- ياسر الحمداني:1/ 480
2- اصول الكافي : ج1 كتاب الحجة، باب في أن الائمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) يزدادون في ليلة الجمعة، ح3.
3- الفرقان في تفسير القرآن :19/ 91 عن بصائر الدرجات.

لعدم إيمانهم بالعقائد الحقة.2-من خلال العمل به، فان العمل بما تعلم وتطبيقه ينتج علما جديدا عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (من تعلّم فعمل علّمه الله ما لم يعلم)(1) فهذه إذن زيادة في العلم حصل عليها من خلال العمل بما علم، وعن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ما زكا العلم بمثل العمل به)(2) وعن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من عمل بما يعلم علّمهُ الله ما لا يعلم)(3) وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (العمل مقرون الى العمل، فمن علم عمل، ومن عمل علم)(4).

وهكذا تستمر جدلية التأثير والترابط بين العلم والعمل، زيادة ونقصاً، فمن عمل بالعلم ازداد،ومن لم يعمل بعلمه يفقده، عن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(مَنْ عَلِمَ عَمِلَ وَالْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلاَّ ارْتَحَلَ)(5).

وهذه الحقيقة جارية في كل المجالات فمن اكتسب معلومة اخلاقية وعمل بها سيوفق الى درجة أعلى، ومن استفاد نظرية علمية اكاديمية ثم اجرى تجارب ومحاولات عليها فانه سيتوصل الى نتائج ومعلومات جديدة، حتى على مستوى الطالب الذي يطالع دروسه فانه عندما يلخصّ ويستذكر ويخطّط ويرسم او يحلّ المسائل الرياضية بيده يحصل على معلومات لا يحصل عليها من يكتفي بمطالعة

ص: 140


1- ميزان الحكمة: 6/ 202 عن كنز العمال ح 28661.
2- غرر الحكم: 9569.
3- اعلام الدين: 301.
4- منية المريد : 181.
5- نهج البلاغة: 366.

الكتاب .3- ومن خلال إنفاقه اي نشره وتعليمه من لا يعلمه بأيّ وسيلة للنشر التي اتّسعت اليوم وأصبح بإمكان الشخص أن يخاطب الآخرين في العالم كله، من وصية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لكميل بن زياد وهو يقارن بين المال والعلم قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وَالْمَالُ تُنقِصُهُ النَّفَقَةُ، وَالْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الْإِنْفَاقِ)(1) والتجارب اثبتت ايضا صحة هذا المسلك فأن من يتصدى للتدريس وتعليم الاخرين وينشر ما عنده من العلم فانه يشعر بزيادة في العلم لم يحصّلها من احد، عن الامام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (علّم الناس، وتعلّم علم غيرك، فتكون قد اتقنت علمك، وعَلِمْتَ ما لم تعلمْ)(2) هذا غير الثواب الكثير لمن علّم الناس شيئا ينتفعون به ولو كان حديثاً شريفاً أو مسألة شرعية أو عملاً صالحاً أو... وقد وردت في ذلك روايات كثيرة نكتفي بواحدة منها عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (يجيء الرجل يوم القيامة وله من الحسنات كالسحاب الركام أو كالجبال الرواسي، فيقول:يا ربِّ أنّى لي هذا ولم أعملها ؟ فيقول:هذا علمك الذي علّمته الناس، يُعمل به من بعدك)(3).

وقد جُمع هذان المصدران للمعرفة في الحديث الشريف عن الإمام

الصادق عن ابيه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(جاء رجل إلى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال:يا رسول الله ما العلم؟ قال:الانصات، قال:ثم مه؟ قال:الاستماع له،

ص: 141


1- نهج البلاغة: 147.
2- كشف الغمة : ح2/ 197.
3- بحار الانوار: 2/ 18 ح44.

قال:ثم مه؟ قال:الحفظ له، قال:ثم مه؟ قال:العمل به، قال:ثم مه؟ قال:ثم نشره)(1).فهذه هي مراحل تحصيل العلم وازدياده:الإنصات للمعلومة والإصغاء اليها ووعيها ثم حفظها واستيعابها ثم العمل على طبقها وتحويلها الى الواقع ثم نشرها وتعليمها للآخرين.

في معنى قوله تعالى:(زِدْنِي):

ويظهر من كلمة {زِدْنِي} وتعقب هذه الفقرة لقوله تعالى {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} (طه:114) إن الحصول على هذا العلم تدريجي فكلما وصل الى مرتبة وحفظها وعمل بها أُعطيت له مرتبة جديدة فاذا حفظها وعمل بها أستحق الاعلى وهكذا {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (يوسف:76), وهذه نتيجة صحيحة إذ ان العلم لا يهجم دفعة واحدة من غير توفر القدرة على تحمله، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من زاد علمه على عقله كان وبالاً عليه), وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (كل علم لا يؤيده عقل مظلّةٌ)(2).

في معنى قوله تعالى:(علماً):

هذا بالنسبة لزيادة العلم، اما كلمة (علم) فنلاحظ فيها انها مطلقة فالزيادة مطلوبة في كل علم ولا تختص بالعلوم الشرعية، نعم لابد من تقييدها بالعلم النافع في الدنيا او الاخرة اي فيه صلاح الناس كما ورد في الدعاء النبوي

ص: 142


1- الفرقان : 19 / 91 عن الخصال.
2- غرر الحكم : 8601 , 6869.

المتقدم وعن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (خير العلوم ما اصلحك)(1) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(خَيرُ الْعِلْمِ ما أَصْلَحْتَ بِه رَشادَكَ وَ شَرُّهُ ما أَفْسَدْتَ بِه مَعادَكَ) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(رب علم أدّى الى مضلّتك)(2).لذلك نجد في حياة الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انه كما كان يدرّس العلوم والمعارف الدينية فانه كان يدرّس العلوم الطبيعية فتخرج على يديه جابر بن حيان في الكيمياء وله كتاب في الفسلجة يشرح فيه تشريح جسم الانسان ووظائف الاعضاء باسم توحيد المفضّل وتوجد روايات في الحساب والفلك وغيرهما.

ولأن العمر قصير لا يتيسر معه الاحاطة بكل العلوم فضلاً عن العمل بها لذا لابد من الاقتصار على الافضل والاحسن والاكثر صلاحاً عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (العلم أكثر من ان يُحصى، فخذ من كل شيء أحسنه)(3) وفي حديث عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (خذوا من كل علم أحسنه، فان النحل يأكل من كل زهرة أزينه، فيتولد منه جوهران نفيسان:احدهما فيه شفاء للناس، والاخر يستضاء به)(4).

وأنفس العلوم وأشرفها وأهمّها المعارف الدينية من العقائد والأخلاق والأحكام لأنها اكثر التصاقا بعلاقة الانسان بربّه ودينه وما يضمن له السعادة في دنياه واخرته، من وصية الامام علي لولده الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ورأيت ... ان ابتدأك

ص: 143


1- غرر الحكم : 4963/ 5023.
2- غرر الحكم : 5352.
3- ميزان الحكمة : 6/ 199 عن كنز الفوائد 2/ 31.
4- غرر الحكم : 5082-نهج البلاغة.

بتعليم كتاب الله عز وجل وتأويله، وشرائع الاسلام واحكامه، وحلاله وحرامه، لا اجاوز ذلك بك الى غيره)(1).

الدعوة الى أن تكونوا من حملة العلم:

في الكافي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (عليكم بالتفقّه في الدين، ولا تكونوا اعراباً فإنه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة ولم يزكِّ له عملاً) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (لوددت أن أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقّهوا)(2).

فإذا نال قسطاً وافراً من العلم بالمقدار الذي يستطيع به إرشاد الناس وهدايتهم كان من أهل الحديث الشريف عن الامام الجواد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من تكفّل بأيتام آل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) المنقطعين عن امامهم المتحيرين في جهلهم الأُسراء في أيدي شياطينهم وفي أيدي النواصب من أعدائنا فأستنقذهم منهم وأخرجهم من حيرتهم وقهر الشياطين برد وساوسهم وقهر الناصبين بحجج ربهم ودليل أئمتهم ليُفضَّلون عند الله تعالى على العباد بأفضل المواقع بأكثر من فضل السماء على الأرض والعرش والكرسي والحجب على السماء،وفضلهم على هذا العابد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كوكب في السماء)(3).

هذا الخير الذي لا يضاهيه خير في هذه الدنيا طالما دعانا الله تعالى اليه في كتابه،

ص: 144


1- جواهر البحار: ج74/ كتاب الروضة / باب وصية أمير المؤمنين إلى الحسن بن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وإلى محمد بن الحنفية عن نهج البلاغة.
2- أصول الكافي/ ج1، كتاب فضل العلم، باب 1 ح7، 8.
3- بحار الانوار : 2/ 6 عن الاحتجاج وتفسير العسكري ع.

وحثّنا عليه الأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، وتبعاً لذلك فقد طالبنا كل ذوي العقول النيرة والهمة العالية والشعور بالمسؤولية أن يرتبوا أوضاعهم ويهيئوا المقدمات للالتحاق بالحوزات العلمية الدينية ويحظون بهذه المقامات العالية.وينبغي هنا الالتفات إلى حقيقة وهي أنه كلما أزداد اهتمام الله تعالى في كتابه والمعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بشيء فهذا يعني أن مدخليتهُ في التكامل والقرب من الله تعالى أقوى، والاهتمام بتحصيل العلوم والمعارف الدينية بلغت الذروة في كتاب الله تعالى وسنة نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأحاديث الائمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بحيث تجاوزت المئات في كل منهما، فلابد أن نفهم ونستوعب هذه الرسالة من الله تعالى ورسوله وأهل بيته الكرام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

ص: 145

القبس /97: سورة طه:124

اشارة

{وَنَحشُرُهُۥ يَومَ ٱلقِيَمَةِ أَعمَى}

موضوع القبس:الاعمى من لم يبصر طريق الهداية

عميت عين لا تراك:

من دعاء الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم عرفة وهو يناجي ربه بكل تذلّل وخضوع (عميت(1) عينٌ لا تراك عليها رقيباً وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيبا) وهاتان الفقرتان فضلاً عن بقية فقرات الدعاء تزوّدنا بقواعد في السلوك المعنوي إلى الله تبارك وتعالى، وتدلّنا على الجناحين اللذين نطير بهما في سماء الكمال ومعرفة الله تعالى وبلوغ رضوانه وهما المراقبة والحب، مراقبة الله تعالى في كل الأفعال والأقوال والمواقف، واحتواء القلب على محبة الله تعالى حتى يكون هذا الحب هو البوصلة الموجّهة لكل الحركات والسكنات، وبالحب والمراقبة تتحقق التقوى التي هي خير الزاد ليوم المعاد {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (البقرة:197).

فالشخص الذي يفعل ما يحلو له من دون إحساس وجداني بأن الله تعالى

ص: 146


1- العبارة تحتمل أن تكون إخباراً عن العين والصفقة بأنّهما تعمى وتخسر وقد تكون إنشاءاً بمعنى الطلب من الله تعالى أن يعمي العين ويخسر الصفقة وكلاهما وارد.

مطّلع عليه وأنه بمحضر رب العزة والجلال دائماً {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (غافر:19) {إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء} (آل عمران:5) {وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء} (إبراهيم:38) مثل هذا الشخص لا يبصر الحقيقة وهو أعمى البصيرة وإن كانت له عينان تبصران:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَ-ئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَ-ئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف:179) {وَنَحْشُ-رُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} (الإسراء:97).{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً ، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} (طه:124-126).

عقوبة الإعراض عن ذكر الله تعالى:

فمن يعرض عن ذكر الله تعالى ويهمل وظائف العبودية لربه تحصل له عقوبتان:

الأولى:المعيشة الضيقة النكدة المليئة بالقلق والخوف وعذاب الضمير ويزداد هذا الضيق قسوة عليه عند الموت وما بعده في القبر والبرزخ.

الثانية:يُحشر يوم القيامة أعمى لا يرى طريق السعادة والنجاة ورضوان الله

ص: 147

تعالى وإن كان يرى العذاب والألم والأهوال أي أنّ عماهُ ليس مطلقاً وإنّما عن خصوص ما ينجيه ويوصله إلى السعادة والفلاح أمّا العذاب والألم والمصير المشؤوم فإنّه يراه {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (ق:22) {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ} (الفرقان:22) {وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ} (يونس:54) (سبأ:33) {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ} (الشورى:44) {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ} (البقرة:166) لأنه كان هكذا في دار الدنيا، كان معرضاً عن الهداية والرشد ولا يرى طريق السعادة لكنّه كان يبصر الشهوات والهوى والدنيا فتجلّت حقيقته في الآخرة كما اختار هو في الدنيا {وَمَن كَانَ فِي هَ-ذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} (الإسراء:72) وبهذا نردّ على إشكال بعض متحذلقة الكلام بوجود تناقض في القرآن الكريم بين آيات الإبصار والرؤية وآيات العمى. ولأنّ هذا الشخص نسي ذكر ربه وأعرض عن آياته وأهملها فكان جزاؤه يوم القيامة أن يُنسى بمعنى يهمل ولا يلتفت إلى استغاثته وندائه واستصراخه كما يقول أحدنا لمن أهمله ولم يلتفت إليه إنك نسيتني، فقد جوزي إذن بنفس فعله {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} (الشورى:40) روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (ليس الأعمى من يعمى بصره، إنما الأعمى من تعمى بصيرته)(1) والثاني أشد من الأول روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (فقد البصر أهون من فقدان

ص: 148


1- كنز العمال: 1220.

البصيرة)(1).

هل أنت من أهل البصيرة؟

وتدلّنا الروايات على بعض علامات أهل البصيرة، كالمروي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أبصر الناس من أبصر عيوبه وأقلع عن ذنوبه)(2) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ألا إن أبصر الأبصار ما نفذ في الخير طرفُه)(3).

ومن موجبات النور في الدنيا والآخرة بحسب ما أفادت الروايات الشريفة:

1-تقوى الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الحديد:28).

2-الصلاة، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (الصلاة نور)(4).

3-تلاوة القرآن، عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (عليك بتلاوة القرآن، فإنه نور لك في الأرض، وذخرٌ لك في السماء) وعن الإمام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إن هذا القرآن فيه مصابيح النور).

4-صلاة الليل، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(ما تركتُ صلاة الليل منذ سمعت قول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):صلاة الليل نور).

ص: 149


1- غرر الحكم: 6536.
2- غرر الحكم: 3061.
3- نهج البلاغة: الخطبة 105.
4- مصادر الروايات المذكورة في هذه النقاط في ميزان الحكمة: 9/ 177 وما بعدها.

5-ترك فضول الكلام وهو مادة أكثر أحاديث الناس في مجالسهم، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(أكثر صمتك يتوفر فكرك، ويستنر قلبك ويسلم من يديك).

6-تجنب ظلم الآخرين، والآخرون المقصودون بالظلم يمكن أن يكونوا الوالدين أو الزوجة أو الأولاد أو الجيران لتضييع حقوقهم أو عموم الناس عند عدم مراعاة الحق والعدل والإنصاف معهم، روي أن رجلاً قال لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):أحبُّ أن أحشرَ يوم القيامة في النور، قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(لا تظلم أحداً تُحشر يوم القيامة في النور).

7-أن تشهد بالحق للآخرين وتنصفهم، على أي مستوى من المستويات كما لو أريد منك الشهادة لأحد بالصلاح وحسن السيرة لتزويجه أو بحق مالي له أو أي حق اعتباري آخر عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (من شهد شهادة حق ليحيي بها حق امرئٍ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه نورٌ مدَّ البصر يعرفه الخلائق باسمه ونسبه).

8-الدعاء، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفه:لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، اللهم اجعل في سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي قلبي نوراً، اللهم اشرح لي صدري ويسّر لي أمري وأعوذ بك من وسواس الصدور وتشتت الأمور).

ص: 150

موجبات العمى:

أما ما يوجب العمى يوم القيامة هو كل إعراض وصدود عن شرع الله وحكمه وعدم العمل بكتاب الله وسنة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في كل شؤون الحياة مما أصبح مألوفاً اليوم في الأسواق ومعاملاتنا التجارية وفي السنائن العشائرية وفي العلاقات الاجتماعية وفي السياسة والحكم وإدارة مؤسسات الدولة وغيرها كثير.

ولكل شريحة في المجتمع امتحانها وابتلاؤها بآيات الله التي يلزم العمل بها فلرجل الدين والطبيب والمدرّس والمهندس والكاسب والزوجة والابن والوالدين وغيرها من العناوين له الآيات والأحاديث التي تخاطبه وتنطبق عليه قوله تعالى {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا} (طه:126) حيث بلغه تكليفه والمطلوب منه، عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(ومن قرأ القرآن ولم يعمل به حشره الله يوم القيامة أعمى فيقول:{رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً}(1).

وقد علّمنا هذا الحديث وكلمة الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) السابقة المدى الواسع لمن يمكن أن تشملهم الآية وأنّه لا أحد –حتى الملتزمين بأداء العبادات الدينية- بمنأى عن حشرهم عمياً إذا لم يكونوا مراقبين لله تعالى متّقين عاملين بشكل تفصيلي بآيات الله تعالى.

وهذا يفسّر لنا لماذا يطلب الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) منّا أن نشعر بأنّنا مشمولون بكل آية فيها تخويف وإنذار وتهديد وأنّها ليست مقتصرة على الكافرين والمشركين والمنافقين، ففي وصف سيرة الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنّه كان ((يكثر بالليل في فراشه من تلاوة القرآن فإذا مرّ بآية فيها ذكر جنة أو نار بكى وسأل الله الجنة وتعوّذَ من

ص: 151


1- ثواب الأعمال: 337 ح1.

النار))(1) وروي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله في صفة الذين يتلون حقّ تلاوته (ويرجون وعده ويخشون عذابه)(2) ونعود الآن إلى ذكر بعض الروايات التي شخّصت بعض موارد هذا الإهمال للأوامر الإلهية الموجب للعمى ومنها:1-عدم التمسّك بولاية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ، عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قول الله عز وجل {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} (طه:124) قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):يعني ولاية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وعن قوله تعالى {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}(طه:124) قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(يعني أعمى البصر في القيامة أعمى القلب في الدنيا عن ولاية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وهو متحيّر يوم القيامة يقول {رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً ، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا} (طه:125-126) قال:الآيات الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) {فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} (طه:126) يعني تركتها، وكذلك اليوم تترك في النار كما تركت الأئمة فلم تطع أمرهم ولم تسمع قولهم)(3).

2-ترك الحج وهو مستطيع عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من مات وهو صحيح موسر ولم يحج فهو ممن قال الله عز وجل {وَنَحْشُ-رُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (طه:124)، قال أبو بصير:قلت:سبحان الله:أعمى قال:نعم إن الله عز وجل أعماه عن طريق الحق)(4).

ص: 152


1- عيون أخبار الرضا: 2/ 182 ح5.
2- تنبيه الخواطر: 2/ 236.
3- الكافي: 1/ 361 ح92.
4- الكافي: 4/ 269 ح6.

القبس /98: سورة الأنبياء:90

اشارة

{إِنَّهُم كَانُواْ يُسَرِعُونَ فِي ٱلخَيرَتِ}

موضوع القبس:المسارعة الى الخير

واجعل الحياة زيادة لي في كل خير:

الأدعية الشريفة مدرسة ننهل منها المعارف الحقيقية والدروس التي تنظم حياتنا وتصلح نفوسنا، وليست هي فقط نصوصاً مباركة نقرأها لطلب الثواب الجزيل المرصود لها وإن كان هذا بحد ذاته غرضاً نبيلاً يستحق التعب.

وقد استمعنا الآن بعد صلاة الظهرين دعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الخاص بهذا اليوم الثلاثاء، وكل فقرة منه هي مدرسة كقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (واجعل الحياة زيادة لي في كل خير) (1) ولكي يستجاب هذا الدعاء لابد من عمل الفرد وقبول واستجابة من الله تعالى، ولا يكفي مجرد تحريك اللسان بالكلمات، كمن يدعو بالرزق مثلاً من دون سعي لطلبه، أو يطلب الولد الصالح وهو لا يسعى لاختيار الزوجة الصالحة وهكذا، وإن كان الله تعالى يُنعم على العباد تفضّلاً وابتداءاً من غير استحقاق.

من استوى يوماه:

فيعلمنا الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الدعاء أن نجعل بتوفيق الله تعالى وكرمه ورحمته

ص: 153


1- مفاتيح الجنان: 52

حياتنا كلها خيراً وعطاءاً ونفعاً للنفس وللأهل وللآخرين، وفي زيادة مستمرة من التزود والخير من دون توقف الذي يعني هدر رأس المال الذي منحنا إياه وهو العمر وسائر النعم الإلهية من دون استثمار، فضلاً عن الرجوع إلى الوراء والخسارة باجتراح السيئات والعياذ بالله، ويبيّن الحديث الشريف هذه الحالات الثلاث (عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه خيرهما فهو مغبوط ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون، ومن لم ير الزيادة في نفسه فهو إلى النقصان. ومن كان إلى النقصان فالموت خير له من الحياة)(1). وهذا الطلب أدب قرآني أدّب الله تعالى به نبيه الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال تعالى {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طه:114) والعلم المراد هو العلم النافع الذي يقترن مع العمل الصالح وفعل الخير وإلاّ فإنه لا قيمة له.

معنى الخير:

والخير الذي يدعو بالزيادة منه هو كل عمل صالح فلا يقتصر على العبادات المعروفة كالصلاة والصوم وقراءة القرآن وزيارة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وإن كانت هذه من أصول الخير، بل له معنى واسع فالبرّ بالوالدين والإحسان إليهم من أعظم الخير، ومساعدة الآخرين كذلك، والجلوس مع العائلة والتلطّف معهم والتودّد إليهم ومتابعة شؤونهم من الخير، وكسب الرزق الحلال من الخير ففيه التوسعة على الأهل والتصدق في سبيل الله وإغناء النفس عما في أيدي الناس وإخراج الخمس من الفائض عن المؤونة في نهاية السنة وهذا كله من الخير، والزواج خير

ص: 154


1- معاني الاخبار: ص 342 باب معنى المغبون.

والإنجاب خير بل من أعظم الخير، ذهابك إلى المسجد والمشاركة في صلاة الجماعة والجمعة وحضورك في الشعائر والفعاليات خير، تفقّهك في الدين وتعلّمك مسائل الحلال والحرام لتصحيح سلوكك خير، اجتماعك هذا مع إخوانك وتبادلكم الأحاديث النافعة في دنياكم وآخرتكم خير يحبّه الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ويترحم على فاعله، روي أن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال للفضيل بن يسار (يا فضيل؛ أتجلسون وتتحدثون؟ قال:نعم جُعلت فداك، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):إني أحبّ تلك المجالس، فأحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم الله من أحيا أمرنا)(1).

كيف نحوّل الحياة كلها الى خير؟

وهكذا تستطيع أن تحوّل حياتك كلها إلى مصنع لإنتاج عمل الخير قال تعالى {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} (المؤمنون:61) وقال تعالى {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} (المائدة:48) حتى الأفعال الاعتيادية كتناول الطعام يكون خيراً لأن فيه حفظ الصحة والتقوّي على طاعة الله والقيام بأعمال الخير، والنوم المقتصد يكون خيراً لأن فيه راحة واستجماماً وتجديد النشاط للاستمرار في الاستزادة من الخير بل يكون النوم شكلاً من أشكال العبادة بحسب ما أفاد الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (من تطهّر ثم أوى إلى فراشه بات وفراشه كمسجده)(2)، قد يقول البعض إننا لا نستطيع أن نكون بهذه الفاعلية دائماً لأن غير المعصوم تعتريه الغفلة والنسيان والضعف فيحصل تراجع ولا يمكن أن يكون دائماً في حالة زيادة من الخير، وهذا التساؤل موجود، لكن الله تعالى عالج هذا

ص: 155


1- بحار الأنوار: 44/ 278، 282.
2- وسائل الشيعة: 1/ 265 باب9 ح1.

القصور الذاتي بأكثر من علاج:1-أن ينوي الإنسان فعل الخير ويعزم عليه كلما تيسّر له، فهذه النية بحد ذاتها خير، وان الله تعالى بكرمه يعطي لصاحب النية الصادقة والعزم الأكيد ما يعطي للعامل كما في الحديث النبوي الشريف (نية المؤمن خير من عمله)(1) وإيجاد هذه النية وهذه الإرادة ليس صعباً على الإنسان فيحصّل بها ما يفوته من الأعمال.

2-إن الله تعالى تكفّل للإنسان الذي يستيقظ من غفلته ويعود إلى العمل الصالح وفعل الخير عند تذكره والالتفات إليه، أن يمحو كل ذلك التقصير والقصور ويثبّت بدلاً عنه حصيلة هذا الالتفات، قال تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّ-يِّئَاتِ} (هود:114) وقال تعالى {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} (الفرقان:70) أي ليس فقط يمحو السيئات بل يبدلها إلى حسنات في صحيفة الأعمال، ومن معاني هذا التبديل أن يجعل حياته ما قبل التغيير بمثل حياته بعد التغيير، فلو كان تاركاً لصلاة الليل أو لا يلتزم بأداء الصلاة في أوقاتها ثم قام بذلك فإنه يجعل حياته السابقة على هذه الصورة الجديدة، كالمدرّس الشفيق الرحيم الذي يقول لطلابه سأعيد لكم الامتحان فإذا جئتم بدرجات أفضل فإنني سأعتبر درجاتكم السيئة في الامتحان السابق على طبق هذه الدرجات الجيدة الجديدة، ولا شك أن الله أشفق على عباده وارحم به وهو أرحم الراحمين، وهو تعالى الذي جعل هذه الرحمة في قلوب عباده فكيف لا يكتبها على نفسه؟ فما على الإنسان إلا أن ينتبه من غفلته ويعود إلى منهج الزيادة من الخير.

ص: 156


1- الكافي: 2/ 84.

القبس /99: سورة الأنبياء:94

اشارة

{فَلَا كُفرَانَ لِسَعيِهِ}

موضوع القبس:النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مكفور النعمة

قال الله تبارك وتعالى {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} (الأنبياء:94) وتفسير الآية باختصار ان كل عمل يقوم به الانسان فيه رضا لله تعالى ونفع للخلق فإن الله تعالى يكتب ذلك العمل ويثبته لصاحبه بما لا نُحيط من أشكال الكتابة وأنواع الشهود لشكره عليه لأن الكفران هنا بمعنى الجحود والانكار وعدم الشكر، وأصل الكفر في اللغة سُتر الشيء، وكفر النعمة وكفرانها سترها بترك شكرها، فكفران السعي تغطيته وإهماله وعدم المجازاة عليه، ويقابله شكر العمل لذا عبّر تعالى عن نفس هذه الحقيقة في آية اخرى بقوله تعالى {وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} (الإنسان:22)، وقد ورد الشكر – كفعل وسلوك – مقابل الكفر في آيات عديدة كقوله تعالى {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم:7) وقال تعالى {لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (النمل:40).

ومعنى شكر العمل إثابة صاحبه عليه بالجزاء المناسب {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ

ص: 157

مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} (الكهف:30)، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} (الزلزلة:7) لكن هذه الآية وغيرها كالآية 112 من سورة طه الآتية تفيد أن قبول الاعمال مشروط بالإيمان بالله تعالى وسائر العقائد الحقة.وقد أطلقت الآية {مِنَ الصَّالِحَاتِ} لكي لا يقللّ الانسان من شأن أي طاعة فكل عمل صالح مهما ظن الانسان أنه لا قيمة له فأن الله تعالى سوف لا يكفره أي لا يهمله قال تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (التوبة:120) فليس من الضروري القيام بأعمال كبيرة حتى يكون مرضياً عند الله تعالى.

وما دام العمل مسجلاً عند الله تعالى ويُشكر عليه فلا يهمه (أولاً) إن كان له تأثير في المجتمع أو لا يكون لأن هذا شيء بيد الله وقد يأتي تأثيره بعد زمن أو ينضّم الى عمل غيره فيصنع التأثير، ولا يهمه (ثانياً) إن أطلع عليه أحد وعرف انه الفاعل أو لم يطلع لأن المهم انه بعين الله تعالى ومكتوب عنده تبارك وتعالى.

فاستحضار هذه المعاني يدفع الانسان الى العمل ويرفع الهمّة ويزيد من النشاط ويطرد الكسل والشعور بالإحباط.

فهذا تفسير مختصر للآية ككل أما غرضي هنا فهو الوقوف عند هذه الفقرة {فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} إذ المفروض ان إثابة المحسن على إحسانه وعدم اهمال العمل الصالح بلا مكافأة قضية فطرية ومن الضروريات {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا

ص: 158

الْإِحْسَانُ} (الرحمن:60) فلا تحتاج القضية الى بيان فلماذا يذكره الله تعالى؟والذي يزيد السؤال إلحاحاً ذكر هذه الحقيقة مراراً في القرآن الكريم بنفس التعبير – أي عدم الكفران – كقوله تعالى {وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ} (آل عمران:115) أو بتعبير أخر كقوله تعالى {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْماً وَلَا هَضْماً} (طه:112) أو التعبير بما يقابله وهو الشكر كقوله تعالى {وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} {الإنسان:22) وقوله تعالى {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} (الإسراء:19) {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة:62).

يمكن القول أن الغرض هو لبيان وتقرير بعض تفاصيل عقيدة الايمان بالمعاد واليوم الآخر والحساب ومجازاة الاحسان والإساءة وهذا ظاهر من كثير من الآيات، والذي أُريد أن أضيفه أن الغرض هو لتطمين المحسنين وعاملي الصالحات مما يرونه من الحالة المؤسفة الغالبة لدى البشر وهي التنكر للمنعم وكفران النعمة على عكس ما هو المطلوب منهم الى حد احتاج عدم كفران الاحسان والعمل الصالح الى بيان وتبديد مخاوف حيث أصبح المعروف منكرا والمنكر معروفاً.

وأول مكفور النعمة هو الله تبارك وتعالى قال سبحانه {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف:17) وقال تعالى {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً} (الإسراء:89) وقال تعالى {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (سبأ:13) حتى اصبح

ص: 159

كفران النعمة صفة ملازمة لسلوك البشر إلا من عصم الله قال تعالى {فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ} (الشورى:48) والكفور هو المبالغ في كفران النعمة، وقد أكدّ الله تعالى هذه الحقيقة في آية أخرى باستعمال {إِنَّ} وإدخال اللام قال تعالى {إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ} (الزخرف:15) مما أوجب حالة التأسف والاستغراب قال تعالى {قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} (عبس:17) على خلاف الادب النبوي المبارك، روى السيد ابن طاووس في الاقبال كان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول - إذا أكل بعض اللقمة قبل تمامها - (اللهمَّ لك الحمد أطعمت وأسقيت وروَّيت، فلك الحمد غير مكفور ولا مودّع ولا مستغنىً عنك)(1).ولرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أسوة بربه في كونه مكفور النعمة ومجحودها وهو أعظم النعم الإلهية على المخلوقات وقد قرن الله تعالى إنعامه بإنعام نبّيه تعظيماً له وتكريماً قال تعالى {إِلاَّ أَنْ أغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ} (التوبة:74) وقال تعالى {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} (الأحزاب:37) ولأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أسوة برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وكذلك اتباعهم من المؤمنين، روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(كان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مكفرا لا يشكر معروفه، ولقد كان معروفه على القرشي والعربي والعجمي، ومن كان أعظم معروفا من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على هذا الخلق وكذلك نحن أهل البيت مكفرون لا يشكر معروفنا وكذلك خيار المؤمنين لا يشكر معروفهم)(2) وهي حقيقة مرة تكشف عن بعض صور

ص: 160


1- إقبال الأعمال للسيد ابن طاووس الحسني: 116 س 24، وروي في كتب العامة مثله.
2- بحار الانوار: 75 / 42 ح3 عن علل الشرائع: 560 باب 353 ح2.

الانحطاط في الاخلاق والسلوك البشري.ومظاهر كفر البشر نعمة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عديدة:-

(فمنهم) من لم يؤمن برسالته أصلاً وهم أكثرُ الناس قال تعالى {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف:103).

(ومنهم) من آمن ظاهراً بالرسالة إلا انه بعيد كل البعد عن مضمونها كالفاسقين والمنافقين ووصلت الجرأة بهم الى أن يقولوا له في وجهه الكريم وهو في اللحظات الأخيرة من حياته (ان الرجل ليهجر).

(ومنهم) من تنكر له في عترته ونصب لهم العداء حسداً وظلماً فأرتكبوا أعظم الكبائر حتى قتلوا أهل بيته وذريته وهم يشهدون ظاهراً لله تعالى بالتوحيد والى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالرسالة.

(ومنهم) ظاهره التدين والالتزام بالعبادات الفردية إلا انه يُقصي شريعة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن الحياة ويمنع من تطبيقها ويدعو الى تحكيم القوانين الوضعية بعنوان (الحكومة المدنية) وهل توجد مدنية وحضارة حقيقية بغير الإسلام والقرآن والسيرة النبوية المباركة.

(ومنهم) من يريد التخلي عن سنته الشريفة التي هي بيان كتاب الله تعالى تحت عنوان الحداثة والتجديد وإعادة قراءة النصوص الشرعية بما يناسب الثقافة المعاصرة وتمادى بعضهم فأسقط قدسية كلام المعصوم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ونحو ذلك.

وبالأمس القريب حينما نجح بعض الإخوة في إقرار قانون بمنع تجارة الخمور وبيعها لم نجد مدافعاً عنه من الإسلاميين ومرجعياتهم إلا النادر فيبخلون على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى بهذه النصرة الضئيلة، أليس هذا من كفر النعمة؟!

ص: 161

وهكذا تجد صدق ما وصف به أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من أنه مكفر لا يُشكر معروفه حتى من المنتسبين اليه، فعلينا ان ننتبه لأنفسنا ونكون من الشاكرين لنعمة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأهل بيته الطاهرين (صلى الله عليهم اجمعين) بشكرهم والثناء عليهم والصلاة عليهم ونشر ذكرهم المبارك والدعوة اليهم وإتباع أقوالهم وأفعالهم.ان خطورة هذا السلوك – كفران النعمة – لا يقتصر على العقوبة الوخيمة لصاحبه وقد أشرنا الى جانب من هذا الحديث في تفسير قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ}(1) (إبراهيم:28-29) حتى ورد في الحديث الشريف عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(أربعة أسرع شيء عقوبة رجل أحسنت اليه ويكافيك بالإحسان اليه إساءة)(2).

بل يكون له أثر اجتماعي وهو ما يعبر عنه بقطع سبيل المعروف، روي عن الامام الصادق قال:(لعن الله قاطعي سبيل المعروف، قيل:وما قاطعو سبيل المعروف؟ قال:الرجل يصنع إليه المعروف فيكفره فيمتنع صاحبه من أن يصنع ذلك إلى غيره)(3).

وإن كان المفروض بالإنسان أن لا يمنعه عدم شكر إحسانه على تقديم

ص: 162


1- راجع: القبس/73, {الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً} (إبراهيم:28), من نور القرآن: 2/ 331
2- بحار الانوار: 75/ 42 عن الخصال 1/ 230 باب الأربعة ح 71.
3- وسائل الشيعة ج 16, باب 8 من أبواب فعل المعروف حديث 1.

المزيد من عمل الخير طلباً لرضا الله تعالى وقد طمأنته الأحاديث الشريفة على حسن جزائه عند الله تعالى، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(أفضل الناس عند الله منزلة وأقربهم من الله وسيلة المحسن يكفّر احسانه)(1) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(يد الله فوق رؤوس المكفّرين ترفرف بالرحمة)(2) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لاَ يُزَهِّدَنَّكَ فِي الْمَعْرُوفِ مَنْ لاَ يَشْكُرُهُ لَكَ، فَقَدْ يَشْكُرُكَ عَلَيْهِ مَنْ لاَ يَسْتَمْتِعُ بِشَيْء مِنْهُ، وَقَدْ تُدْرِكُ مِنْ شُكْرِ الشَّاكِرِ أَكْثَرَ مِمَّا أَضَاعَ الْكَافِرُ،{وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}) (3).وقد فسّرت بعض الأحاديث معنى ان المؤمن مكفَّر النعمة، فقد روى الشيخ الصدوق في علل الشرائع عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(الْمُؤْمِنُ مُكَفَّرٌ، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْرُوفَهُ يَصْعَدُ إِلَى الله عز وجل فَلا يُنْشَرُ فِي النَّاسِ، وَالْكَافِرُ مَشْهور وذلك ان معروفه للناس ينتشر في الناس ولا يصعد الى السماء)(4) .

أقول: مُكَفَّر على وزن مُعظَّم وهو مجحود النعمة مع إحسانه، وذلك إما لأنه يصنعه لدى الفقراء والضعفاء المحتاجين وهؤلاء ليس لهم جاه اجتماعي وكلام مسموع حتى ينتشر ذكره بينما الكافر والمنافق يجعل معروفه في المشاهير والمتصدرين ووسائل الاعلام (والملأ) بحسب التعبير القرآني فيروجون لمن أحسن إليهم.

(أو) لأن المؤمن يصنع معروفه خفية من دون رياء أو شهرة فلا يُعرف،

ص: 163


1- بحار الانوار: 75/ 44 عن نوادر الراوندي:9.
2- علل الشرائع: 2/ 56 الباب 353 ح2.
3- نهج البلاغة: الحكمة 204.
4- بحار الانوار: 76/ 260 عن علل الشرائع: 2/ 560 باب 353 ح1.

والكافر يصنعه علانية لان غاية ما يطلب هو الرياء والسمعة بين الناس فتتحقق له.(أو) ان الله تعالى يريد حماية المؤمن من الرياء وحبط العمل فلا ينشره وتكفر نعمته ليزيد من ثوابه في الآخرة بينما المنافق والكافر لا خلاق لهما في الآخرة فيأخذون جزاءهم في الدنيا.

وذكر ابن الأثير معنى آخر لقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (المؤمن مكفَّر) قال:(أي مرزأ في نفسه وماله لتكفر خطاياه)(1) وهو معنى صحيح في نفسه ودلت عليه روايات اخرى إلا انه لا يناسب أحاديث المقام وربما أورده ابن الأثير لأنه لم ينظر في بقية الحديث.

ص: 164


1- النهاية: 4/ 189.

القبس /100: سورة الحج:5

اشارة

{وَتَرَى ٱلأَرضَ هَامِدَة فَإِذَا أَنزَلنَا عَلَيهَا ٱلمَاءَ ٱهتَزَّت وَرَبَت}

موضوع القبس:إنبعاث الحياة المعنوية

قال الله تبارك وتعالى:{وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (الحج:5)

صورة طبيعية محسوسة للإنسان تكرّر ذكرها في القرآن الكريم، وهي واحدة من الآيات الإلهية الدالة على قدرة الله تعالى ككثير من الآيات الأخرى التي لا تعدّ ولا تحصى، ولكن عامة الناس يغفلون عنها ولا تمثّل لهم شيئاً ملفتاً للنظر او ابداعاً يحفزهم على التأمل والتفكير بسبب طول الفتهم معها وتكرّرها عليهم في حياتهم، والشيء اذا أصبح مألوفاً فقد بريق اعجازه وابهاره لدى عامة الناس الا من اعطاه الله البصيرة والفهم.

وهذه واحدة من تلك الآيات حيث ترى الأرض قاحلة جرداء لا حياة على ظاهرها فينزل الله تعالى عليها الماء فتتحرك فيها الحياة وتنبت انواعاً من الأشجار والنباتات المختلفة في الاشكال والاثمار والفوائد، فمن الذي وهبها الحياة وهيأها لهذا العطاء غير الله تعالى.

ومثلها قوله تعالى {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْ-رِجُ

بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِ-رُونَ} (السجدة:27)

ص: 165

والجرز:الأرض التي لا نبات فيها من الأصل(1)، وغيرها من الآيات التي سنذكر بعضها وهي تركز على هذا المشهد لانه محسوس ومدرك بالوجدان ولا يصعب على المتلقي فهمه، وينتقل ذهنه بسهولة الى الغرض من التذكير بهذه الآية الإلهية لأخذ الدروس والعبر، كما تضرب الأمثال لتوضيح مقصود المتكلم، قال تعالى {وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (إبراهيم:25) وقال تعالى {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (العنكبوت:43) وقال تعالى {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر:21).وسيق هذا المشهد الطبيعي مثالاً لإيصال اكثر من معنى ظاهري وباطني.

الأول:معنى ظاهري مصرّح به في الآيات القرآنية وهو جواب الكفار والملحدين والمنكرين للمعاد الذين يرفضون الايمان ببعث الانسان من قبره وتعرضه للحساب على اعماله ويعتبرون ذلك مستحيلاً، وقد حكى القران الكريم جملة من تشكيكاتهم، قال تعالى {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (يس:78-79) وقال تعالى {وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً ، أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} (مريم:66-67)

ويصورون للعامة ان ما يذكره الأنبياء أوهام وخرافات فيحرضون الغوغاء ضدّهم قال تعالى حاكياً مقالتهم {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ، إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا

ص: 166


1- أنظر: تاج العروس- الزبيدي: 8/ 23

نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ، إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} (المؤمنون:35- 38) .بمثل هذا الصخب والتضليل واجهوا دعوات الأنبياء (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فيأتي الله تعالى بهذا المثال لتقريب الجواب والقاء الحجة عليهم ضمن عدة حجج لاثبات المعاد ولم تقتصر على هذه في حوار عقائدي طويل استغرق آيات كثيرة خصوصاً في القرآن المكي، قال تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (فصلت:39).

وقال تعالى {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} (فاطر:9)

وقال تعالى {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الروم:50)

وقال تعالى {فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الأعراف:57)

وفحوى هذه الحجة:انه اذا جاز احياء الأرض الميته بإخراج النبات منها بعد سقيها الماء، جاز احياء الأجساد الميتة بقدرة الله تعالى، لان حكم الامثال في ما يجوز وما لا يجوز واحد فكما الأرض الميتة توضع فيها النواة او البذرة التي فيها حقيقة النبات وشفرته الحياتية، وتسقى بماء انزله الله تعالى من السماء، كذلك الابدان الميتة المتأكلة يرسل اليها حقيقة الحياة المتمثلة بالروح ويسقيها بماء

ص: 167

الرحمة واللطف والعدالة ليعيد اليها الحياة.وفي كلتا الحالتين فان البدن مادة مضافة لأصل الحقيقة ومهما بليت وتلا شت فأنه يمكن تجميعها وإعادة تشكيلها، كما لو بردت قطعة من الحديد وتحولّت الى ذرات متناثرة فانه من السهل تجميعها من جديد بواسطة قطعة مغناطيس فلماذا يستكثرون ذلك على الخالق العظيم، لهذا كان الرد في بعض الآيات بسيطاً وواضحاً ومخجلاً للمنكر كقوله تعالى فيما نقلناه من سورة يس آنفا (وَنَس-ِيَ خَلْقَهُ) فهو لم يكن الا كروموسومات في حيمن وبيضة الوالدين واكتسب مادة من غيره ليصبح هذا المخلوق العظيم.

ويلاحظ أن نسبة الحياة الى الأرض مجازاً والا فانها تنسب الى النبات حقيقة كقولنا جرى الميزاب ونعني الماء النازل منه بعلاقة الحالّ والمحل.

على ان احياء الأموات وبعثهم من القبور اقوى ملاكاً واشد حاجة لإقامة العدل ومكافأة المحسن ومعاقبة المسيء وإنصاف المظلوم من الظالم وإعادة الحقوق الى أهلها، اما تزيين الأرض بأنواع النباتات فانه فضل وكرم وإحسان من الله تعالى.

الثاني:معنى خفي يلتفت اليه أهل المعرفة وهو ضرب المثال للنفس الامارة بالسوء التي غلبت عليها الذنوب، وللقلب الذي أماتته الشهوات وران عليه صدأ الغفلة والمعاصي {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين:14) فانها كالإرض الميتة القاحلة الجرداء ومن كلام لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ومن قلّ

ص: 168

ورعه مات قلبه)(1) وفي دعاء للإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وأمات قلبي عظيم جنايتي)(2) ، فاذا سقاها الله تعالى بنور المعرفة والبصيرة وامطر عليها ماء الرحمة واللطف انبعثت فيها حياة الايمان وانجذبت الى عالم المعنى واستيقظت من غفلتها {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} فتدفقت منها الآثار الصالحة على الجوارح وشملت بركاتها الآخرين.ورمزية الأرض للنفس والماء للمعرفة تشبيه معروف لدى أهل المعنى، ولذا حملنا في بعض خطاباتنا(3) مضمون الخبر الشريف عن عصر الظهور بأن (الأرض تخرج كنوزها وانها ليست من الذهب أو الفضة)(4) على هذا المعنى أي ان النفوس تطهر وتزكو حتى تبرز معادنها العلوية الأصيلة.

وهذه الرمزية لها شواهدها في القران الكريم كقوله تعالى {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} (عبس:24) حيث فسّرتها الروايات بالعلم والمعرفة ممن

ص: 169


1- نهج البلاغة: من قصار الكلمات، رقم 349.
2- مناجاة التائبين, مفاتيح الجنان: 166
3- خطاب المرحلة: 7/ 290 بعنوان (كونوا من الكنوز التي يكشف عنها الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).
4- بحار الانوار ج52/ح 83/ ص 344 (قال الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): إذا قام القائم حكم بالعدل وارتفع في أيامه الجور ، وأمنت به السبل ، وأخرجت الارض بركاتها ، ورد كل حق إلى أهله ، ولم يبق أهل دين حتى يظهروا الاسلام ، ويعترفوا بالايمان ، أما سمعت الله سبحانه يقول : {أَفَغَيرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبغُونَ وَلَهُۥ أَسلَمَ مَن فِي ٱلسَّمَوَتِ وَٱلأَرضِ طَوعا وَكَرها وَإِلَيهِ يُرجَعُون} (آل عمران:83) وحكم بين الناس بحكم داود ، وحكم محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فحينئذ تظهر الارض كنوزها وتبدي بركاتها ، ولا يجد الرجل منكم يومئذ موضعا لصدقته ولا لبره ، لشمول الغنى جميع المؤمنين).

يأخذها(1) وهكذا بقية الآيات.وهذا المعنى واضح الانطباق على المثل المذكور فعندما تقرأ قصة توبة بشر الحافي على يد الامام موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تستحضر هذه الصورة القرآنية بوضوح حيث تجد قلب بشر ونفسه كأرض قاحلة خالية من الحياة المعنوية لانها مهملة متروكة فعبثت بها العاديات فانغمس صاحبها في المعاصي والملاهي والفجور، ولكن الغارس الماهر عرف انها أرض صالحة للزراعة وانبعاث الحياة فيها، فلما وضع البذرة الطيبة فيها بقوله(لو كان سيدكِ عبداً لاستحيا من مولاه) وسقاها بألطافه المعنوية دبّت الحياة في تلك الأرض الهامدة وانقلب بشر اللاهي العابث العاكف على المعاصي المغتّر بالدنيا الميّت معنوياً الى بشر ((العارف الزاهد))(2) في هذه الدنيا الزائفة.

وعلى العكس من هذا فان قلب البعض يكون {كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} (البقرة:74) فلا ينبت فيها زرع، بحيث ان نفس الآيات المباركات تنزل على الأول فيّزداد ايماناً وتسليماً وتنزل على الثاني فيزداد عتّواً واستكباراً {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً} (الإسراء:82).

وضرب الله تعالى لهذين بنفس مثال الارض فوصف الاول {كَمَثَلِ جَنَّةٍ

ص: 170


1- راجع الروايات في تفسير البرهان: 10/ 107.
2- الكنى والالقاب للشيخ عباس القمي:2/ 166 ونقل عن روضات الجنان سبب توفيقه للتوبة وعن العلامة (قده) في منهاج الكرامة قصة توبته على يد الامام موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)

بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (البقرة:265) اما الثاني {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (البقرة:264) والصفوان:الحجر الاملس، والوابل:المطر عظيم القطر، والطل:المطر صغير القطر، والجنة:البستان، والربوة:المكان المرتفع يكون شجره انضر وثمره اكثر. هذه الانبعاثة للحياة المعنوية هي وظيفتنا في عصر الانتظار والترقب بأن نجعل أنفسنا ارضاً صالحة للحياة عندما تتلقى النبتة الطيبة وينزل الله تعالى عليها ماء الرحمة، فاذا تحققت فانها الفرج الحقيقي وانفتاح القلب والنفس على الامام المهدي الموعود صلوات الله وسلامه عليه، فكما ان الأرض لها ربيع تهتز فيه وتربو كذلك القلوب، من كلام لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وتعلموا القرآن فأنه أحسن الحديث، وتفقّهوا فيه فأنه ربيع القلوب)(1) ومن كلام له (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وانما ذلك -- أي الموت والحياة -- بمنزلة الحكمة التي هي حياة للقلب الميت وبصر للعين العمياء)(2).

وبين أيدينا شهر رمضان وهو من أعظم المناسبات لإحياء القلوب وإزالة ما ران عليها بسبب الغفلة والمعاصي وهو الربيع الذي تزدهر فيه الحياة لكل الاعمال الصالحة، وقد منَّ الله تعالى به على عباده ليتعرضوا فيه الى موجبات رحمته ونفحاته القدسية.

ص: 171


1- نهج البلاغة، خطبة 110
2- نهج البلاغة، خطبة 133

وللكلام تفصيل في أسباب موت القلوب وحياتها نسأل الله تعالى التوفيق لبيانها.

ص: 172

القبس /101: سورة الحج:11

اشارة

{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعبُدُ ٱللَّهَ عَلَى حَرف ۖ}

موضوع القبس:عدم الثبات على الحق

قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (الحج:11).

تصف الآية صنفاً من الناس موجودا في كل زمان ، ظاهره متديّن يتكلّم بالدين ويمارس المظاهر الدينية لقوله تعالى في وصف هذا الصنف انه {يَعْبُدُ اللَّهَ} لكن تدينه قلق غير مستند إلى قاعدة متينة وانما هو كالواقف على حافة الهاوية ويمكن ان يسقط فيها في أي لحظة لأنه ينظر الى الدين من زاوية واحدة ويتعامل معه بمقياس واحد هو مقياس مصالحه والفوائد التي يجنيها من هذا الدين،{أفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاه} {الجاثية:23) وإن لم ينتفع منه تركه وتخلى عنه الى غيره حيث يظن وجود المصلحة والمنفعة.

{فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ} فإن حصل على نفع دنيوي من مال أو جاه أو منصب أو أي امتيازات يسعى اليها الناس في الدنيا رضي بهذا الدين واستمر عليه وهو في الحقيقة اطمئنان ورضا بمصالحه، {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} أي تعرض لصعوبات

ص: 173

الابتلاء والامتحان {انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} بأن يرجع الى حرفه الذي يعبد الله تعالى عليه والوجه الذي كان ينظر من خلاله الى طاعة الله تعالى ويترك هذا الدين وينبذه ويرفضه، ولم يقل تعالى (وإن أصابه شر) لأن ما أصابه قد يكون خيراً إما في العاجل أو الآجل من الدنيا أو الآخرة، ولكنه لنظرته الضيقة الى الامور ولأنانيته وعدم امتلاكه البصيرة والرؤية الصحيحة للامور اعتبر ما حصل شراً فانقلب على وجهه، وكأنه هو الذي يعرِّض الدين للاختبار، فإن جلب له المنفعة كان صدقاً وحقاً والا فلا.مثلاً انضم الى جماعة المتدينين للحصول على منصب أو مال أو وجاهة اجتماعية فلمّا لم يحصل عليها رفض الدين ، ولعل حرمانه من هذه الامور خير له، لانه لا ينجح في امتحانها، لكن مدى تفكيره محدود فكانت نتيجته {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}، لأنه حُرِمَ من الدنيا التي كان يسعى للحصول عليها فتنة من الله تعالى له وبقلقه واضطرابه وانفعاله وعدم استقرار حاله، وخسر الآخرة بتركه لسبب السعادة والفلاح وهو الدين.

وهذا الوصف لحاله في الدنيا سيتجسد على أرض الواقع والحقيقة في الاخرة حيث تبلى السرائر وتنكشف البواطن على حقيقتها وأشارت الروايات الى ذلك حين وصفت الصراط(1) بأنه أدق من الشعرة وأحدّ من السيف وإن من الناس من يعبره الى الجنة كالبرق الخاطف وآخر ركضاً وآخر زحفاً بحسب استحقاقاتهم وآخر يتمايل عليه ولا يستقر ثم يهوي منه في نار جهنم لان الصراط

ص: 174


1- أنظر: ميزان الحكمة- الريشهري: 2/ 1610

ممدود عليها، فهذا الصنف الاخير هو من كان في الدنيا قلقاً في تدينه غير مستقر.وينقلب عن الدين إذا اصيب بابتلاء وهذا معنى سقوطه في جهنم.

روى في الدر المنثور عن أبي سعيد قال (أسلم رجل من اليهود فذهب ببصره وماله وولده فتشاءم بالاسلام فأتى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال:أقلني. فقال:إن الإسلام لا يقال، فقال:لم اصب في ديني هذا خيرا، ذهب بصري ومالي ومات ولدي، فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يا يهودي الاسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والذهب والفضة، ونزلت الآية)(1).

وقد وردت عدة روايات معتبرة في تفسير الآية في الكافي وغيره منها ما رواه زرارة عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(سألته عن قول الله عز وجل {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} قال:هم قوم وحدّوا الله وخلعوا عبادة من يُعْبَدْ من دون الله فخرجوا من الشرك، ولم يعرفوا أن محمداً (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) رسول الله فهم يعبدون الله على شكٍّ في محمدٍ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وما جاء به(2)، فأتوا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقالوا:ننظر فإن

ص: 175


1- الدر المنثور: 4/ 346.
2- وكان بعض هؤلاء من الصحابة المعدودين قريبين للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لكنهم كانوا يشككون في تصرفاته ويعترضون ويتمردون كما تنقل كتب الفريقين وفي آخر حياته قالوا (إن الرجل ليهجر) وهؤلاء كانوا مستعدين للانقلاب عن الدين والرجوع الى جاهليتهم كما أخبر عنهم الله تعالى {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (آل عمران : 144) فرأى امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ان الصبر على المظالم التي لحقت به أحجى وقد سجل ذلك كله في خطبه المأثورة. أنظر: صحيح البخاري: 6/ 9/ح4432, ط.

كثرت أموالنا وعوفينا في أنفسنا وأولادنا علمنا أنه صادق وأنه رسول الله، وإن كان غير ذلك نظرنا، قال الله عز وجل {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} يعني عافية في الدنيا {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} يعني بلاءً في نفسه وماله {انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} انقلب على شكّهِ الى الشرك {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ،يدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنفَعُهُ} قال:ينقلب مشركاً، يدعو غير الله ويعبد غيره، فمنهم من يعرف ويدخل الإيمان قلبه فيؤمن ويصدّق، ويزول عن منزلته من الشك الى الإيمان، ومنهم من يثبت على شكّه ومنهم من ينقلب الى الشرك)(1).فهؤلاء يقفون على الحافة - والحرف هو حد الشيء وحافته ومنتهاه دون أصله وحقيقته كما يقال حرف الجبل أي منتهاه وليس كل حد وجانب حرفاً حتى تكون له قابلية ربط الشيء بغيره كالحرف الهجائي فانه الحد الذي تنتهي اليه الكلمة ولا معنى له في نفسه لكنه يربط بين ما له معنى، ومنه التحريف أي الخروج عن المعنى الوسط المعتدل المعروف الى حافته المشتبهة – متزلزلين غير ثابتين لم يتمكن الدين من قلوبهم ونفوسهم، يسقطون في أول اختبار وامتحان فينقلبون على وجوههم.

وقد شخص الإمام الحسين (عليه السلام) هذه الظاهرة في حياة المجتمع

ص: 176


1- تفسير البرهان: 6/ 310 عن الكافي: 2/ 303 ح 1 ، 2.

فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(النّاسَ عَبِيدُ الدُّنْيا وَالدِّينُ لَعِقٌ عَلى ألسِنَتهم، يَحُوطُونَهُ ما دَرَّت مَعائِشُهُم، فَإذا مُحِّصُوا بِالبَلاءِ قَلَّ الدَّيّانُونَ). وهذه الظاهرة الاجتماعية في حياة الناس لا تختص بالكافرين أو المنافقين كما ربما يتصور، بل تشمل الذين يتظاهرون بالشكليات الدينية لكنهم في أخلاقهم وتعاملاتهم وسلوكهم وصفاتهم النفسية أبعد ما يكونون عن الدين، لقوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ} فهم يمارسون الطقوس الدينية لكنهم لا يعملون بحقيقتها، ولا أُريد أن استغرق ببيان النماذج لوضوحها لدى الناس خصوصاً من السياسيين الذين يتسترون بالعناوين الدينية، لكن همهم الاول والاخير دنياهم واهوائهم ومصالحهم وتراهم يُداهنون ويتنازلون عن المبادئ الدينية الثابتة إذا أضرت بمصالحهم، ومن أمثلة هؤلاء من يقلد مرجعاً دينياً والمفروض أنه قلده بحجة شرعية، فاذا اصطدم هذا التقليد مع مصلحة له أو وجد منفعة دنيوية أفضل عند غيره عدل اليه ولا يسال عن الحجة الشرعية في ذلك.

هذا سلوك غريب لأن المفروض أن تكون العقيدة هي الأصل وهي المسطرة الثابتة التي تقاس صحة الامور وبطلانها على أساسها فما وافقها - وإن اقترن بالمصاعب والبلاءات- فهو حق والا فهو باطل وإن جلب بعض المنافع الدنيوية، وليس العكس كما عليه هؤلاء من الاضطراب والتشتت، فهذا خلل كبير في الايمان الذي يدعيه هؤلاء وانحطاط في فهم الدين ولوازمه، لأن المؤمن الحقيقي لا يأخذ على إيمانه جزاءً دنيويا لأن دينه ليس سلعة قابلة للبيع والشراء وجلب المنافع، وإنما يبتغي بإيمانه والتزامه رضى الله تبارك وتعالى، ويعتبر التزامه بالدين توفيقاً من الله تعالى ولطفاً منه تبارك وتعالى ونعمة لا تجازى ويعجز عن

ص: 177

شكرها وبالدقة يرى الملتزم بالدين حقاً ان نفس استمراره وثباته على الدين وما يترشح عنه من اطمئنان وسعادة وسمو هو أفضل جزاء يعطيه الله تعالى له على التزامه بالدين.والأغرب من ذلك في سلوك هذا الصنف من الناس أنه حينما يتخلى عن

المبادئ الدينية والمنهج الالهي الذي لا يوجد أفضل منه فما هو البديل الذي يلتزم به {يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} (الحج:12-13) هذا هو الضلال المبين أن يتخذ من المخلوقات التي لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً سواء كانت أصناماً حجريةً أو بشريةً أو أهواء نفسية أو مصالح أو أعراف وتقاليد يتخذ منها المولى والعشير والقائد الذي يتبعه {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} الغارق في الضلال والبعيد عن العودة الى الطريق الصحيح.

ويروي التاريخ شواهد كثيرة لمثل هؤلاء كعبيد الله بن الحر الجعفي(1) الذي كان مواليا لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولما طلب الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) منه النصرة وهو في طريقه الى الكوفة امتنع وأهدى له سيفه وفرسه فرفضهما الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ثم ندم على خذلانه وصار قائداً في جيش المختار الثقفي ثم انشق عنه والتحق بمصعب بن الزبير وقاتل معه المختارَ حتى انتصروا ثم تمرد عليه بجمع من الجيش وغادر الكوفة.

ومثل شبث بن ربعي الذي كان في جيش أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في صفين

ص: 178


1- الإرشاد- الشيخ المفيد: 2/ 81

ثم سقط في فتنة الخوارج، وبعدها كان ممن كاتب الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) طالباً منه المجيء الى الكوفة لكنه انخدع بمناصب الولاة والتحق بجيش بن زياد لقتال الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وكان قائداً للمقاتلين المشاة (الرجّالة) يوم عاشوراء وقد ذكره الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) باسمه في احتجاجه على الجيش المعادي حين نادى:(يا شبث بن ربعي، ويا حجار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا لي أن أينعت الثمار واخضرّ الجناب، وإنما تقدم على جند لك مجندة)(1). ومما جرى من الحوارات يوم عاشوراء لما خطب الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واحتج عليهم بالكثير مما قاله رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ورواه أصحابه قاطعه الشمر قائلا عن نفسه:هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما تقول.

فقال له حبيب بن مظاهر:والله اني أراك تعبد الله على سبعين حرفاً وأنا أشهد أنك صادق ما تدري ما يقول قد طبع الله على قلبك(2).

ولما كانت الامور تعرف بأضدادها، فمن ضد هذا الوصف وهذه الصورة نتعرف على ما يجب أن تكون عليه قيمة الدين في حياة الانسان فهو مستقر في قلبه ووجدانه، سعيد به ثابت عليه، يلجأ اليه في كل اموره، ويجعله قائداً له في حياته يستهدي به ويزن به الامور، فيفرّق به بين حقها وباطلها، وهذا الثبات والاستقرار في العقيدة تجسّد في أصحاب الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأهل بيته بحيث يفرحون ويستبشرون حينما يُعْلِمَهُمْ الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالقتل.

ص: 179


1- الارشاد- المفيد: فصل: خروج مسلم ابن عقيل (رحمه الله) بالكوفة يوم الثلاثاء.
2- مقتل الحسين- السيد المقرم: 279.

القبس /102: سورة الحج:29

اشارة

{ثُمَّ ليَقضُواْ تَفَثَهُم}

موضوع القبس:الولاية ثمرة الحج

قال أهل اللغة(1):إن التَفَث هو الدرن والأوساخ وقضاء التفث هو إزالتها من البدن في إشارة إلى حال الحجاج بسبب حركتهم الطويلة في المشاعر المقدسة والقيود التي فرضها الإحرام فاذا انتهوا من أداء مناسكهم أحلوا من احرامهم وازالوا ما علق بأبدانهم وقصّوا أظفارهم وازالوا شعورهم ونحو ذلك، ولعلهم أخذوا هذا المعنى من الروايات مع أنها قد تكون بصدد بيان بعض التطبيقات أو أي نحو آخر.

وقيل:أنها ليست كلمة عربية وأن أصلها عبراني بمعنى الإمساك والقبض وحينئذ يكون المراد بالتفث القيود التي تفرض على المحرم وهي التي نسميها (تروك الاحرام) وقضاؤها هو إتمامها على وجهها وإكمالها إلى حين الخروج منها، قال تعالى:{فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ} (البقرة:200) أي أتممتموها, وكذا في قوله:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ}(الجمعة:10) وقوله:{وَقُضِيَ الأَمْرُ} (البقرة:210) {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ} (القصص:29) وغير ذلك.

ص: 180


1- مفردات غريب القرآن- الأصفهاني: 73,- لسان العرب- ابن منظور: 2/ 120

ويمكن قبول كلا الاتجاهين من التفسير بأن يقال:ان في الآية كناية لأنها ذكرت اللازم -- وهو إزالة الاظفار والشعر والادهان والتعطر -- وهي تريد الملزوم وهو اكمال المناسك المطلوبة للإحلال من الاحرام وإباحة هذه الأفعال لهم، بأن يتمّوا ما ابتدأوا به من مناسك الحج ويحلوا من إحرامهم الذي التزموا به واوجبوه على أنفسهم ابتداءاً من الاحرام قبل الخروج إلى عرفة وما يتضمنه من تروك كثيرة تلبية لقوله تعالى {الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (البقرة:197) فالتَفَث يراد به الفعل المصدري أي إتمام الالتزام بما يقتضيه الاحرام وإنهاؤه على النحو المطلوب أو اسم المصدر بمعنى التحلل من الاحرام وإزالة ما عَلُق بهم بسببه خلال مدة المناسك. وقد اشارت الروايات إلى كلا المعنيين ، ففي صحيحة البزنطي في قرب الاسناد والكافي قال (سألت الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن الآية قال:تقليم الأظفار وطرح الوسخ عنك والخروج من الاحرام)(1) ومثلها عدة روايات، وبين التعبير عن عقد الاحرام بترك الرفث وعن الاحلال منه بقضاء التفث انسجام جميل وبلاغة رائعة.

فاذا أدى الحاج مناسك منى يوم العاشر من ذي الحجة فرمى جمرة العقبة الكبرى وذبح وحلق فقد أحلّ من احرامه وابيحت له سائر تروك الاحرام الا الطيب والنساء ويحلّ الأول بأداء طواف الحج والثاني بطواف النساء لذا عطفت الآية على قضاء التفث {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} (الحج:29) أي ليؤدوا ما ألتزموا به من

ص: 181


1- الكافي : 4/ 503/ح12.

تروك الاحكام ومناسك الحج {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (الحج:29) وهما طوافا الحج والنساء.هذا هو المعنى الظاهري الذي خُوطِب به جميع الناس ، وهناك معنى باطني للخواص من أهل المعرفة، ففي صحيحة ذريح المحاربي عن أبي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في هذه الآية قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (التفث لقاء الامام)(1) وفي معاني الأخبار روى عبد الله بن سنان عن ذريح المحاربي قال (قلت لأبي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):إن الله أمرني في كتابه فأحب أن اعمله، قال:وما ذاك؟ قلت:قول الله تعالى {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} (الحج:29) قال:{لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} لقاء الامام و {لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} تلك المناسك) قال عبدالله بن سنان فأتيت أبا عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقلت جعلت فداك قول الله عزوجل {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):أخذ الشارب وقص الأظافر، وما أشبه ذلك، قال:قلت:جُعِلت فداك فان ذَريحاً المحاربي حدثني عنك، أنك قلت {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} تلك المناسك؟ فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):صدق ذريح، وصدقتَ إن للقرآن ظاهراً وباطناً، ومن يحتمل ما يحتمل ذريح)(2).

وهذا التفسير منطبق تماماً مع علل الحج والمنافع المطلوبة منه والتي اشارت اليه الآية السابقة {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (الحج:28) والمنافع المعنوية أولى من المادية وهي التي تتحقق بلقاء امام الأمة وقائد حركتها المباركة والاستفادة منه في تلك الأجواء الروحية النقية البعيدة عن عواصم السلطة والسياسة الماكرة

ص: 182


1- من لا يحضره الفقيه: 2/ 290/ح1432.
2- معاني الأخبار: 340/ح10.

الخبيثة لينقوا أنفسهم من الادران والأمراض المعنوية ويستعدون لحياة جديدة نقية من رواسب الماضي كما وعدت به الأحاديث الشريفة.وفي رواية عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يبيّن فيها فوائد الحج والحكمة من تشريعه وجعل منها هذا اللقاء بالإمام للتفقه في الدين ونقل تعاليمه إلى الناس في اقطار الأرض، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إنما أمروا بالحج لعلة الوفادة إلى الله عزوجل وطلب الزيادة والخروج من كل ما اقترف العبد تائباً مما مضى مستأنفاً لما يستقبل) إلى ان قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (مع ما فيه من التفقه ونقل اخبار الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) إلى كل صُقع وناحية كما قال الله عزوجل {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة:122))(1).

لذا يعبّر الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن ألمه من عدم التفات أكثر الناس إلى هذه الحقيقة فقد روى في الكافي بسنده عن أبي عبيدة الحذّاء قال (سمعت أبا جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ورأى الناس بمكة وما يعملون - قال فقال:فعال كفعال الجاهلية أما والله ما أمروا بهذا وما أمروا إلا أن يقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم فيمروا بنا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرتهم)(2).

فالحج لا يكتمل معناه ويتحقق الغرض منه الا عندما يقترن بإظهار ولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) واستحضار معانيها والقيام بتكاليفنا تجاه المعصومين كالدعاء

ص: 183


1- وسائل الشيعة: 11/ 12.
2- الكافي: 1/ 323/ح2.

لهم ونشر مناقبهم وفضائلهم واهداء الأعمال لهم والدعوة إلى اتباعهم وغير ذلك، روي عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انه قال (تمام الحج لقاء الامام)(1).وينبغي للحاج أن يستحضر ولايته للمعصومين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في جميع مناسك الحج فيتذكر بالإحرام التجرد عن كل ما يعيق طاعة الامام والتواصل معه والعمل بأوامره، وبالوقوف الامتثال بين يدي الامام وبالسعي الحركة نحو الامام وبالذبح التضحية في سبيل نصرة الامام وإنجاح مشروعه الإلهي وبالرمي رفض كل الطواغيت والسلطات التي تنصب نفسها أئمة وقادة للناس بغير حق، فالإمامة نظام ومحور الطاعات الأخرى.

روى في الكافي بعدة طرق عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (بني الإسلام على خمس:على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية ولم ينادِ بشيء كما نودي بالولاية فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه - يعني الولاية-)(2).

وفي صحيحة زرارة أضاف (قلت:وأي شيء من ذلك أفضل؟ فقال:الولاية أفضل لأنها مفتاحهن والوالي هو الدليل عليهن) وقال فيه (ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن الطاعة للإمام بعد معرفته) فالاسرار المعنوية للحج وسائر العبادات لا تدرك الا في ظل ولاية المعصوم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كما ان تحرير الانسان ونيل كرامته وحفظ استقامته لا تكون الا على يد الامام المعصوم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وبقيادته المباركة ومن بعده نوابّه بالحق.

ص: 184


1- وسائل الشيعة: 10/ 255/ أبواب المزار – باب2/ح12.
2- الكافي: 2/ 18- باب دعائم الإسلام/ح1-3-5.

إن قيمة الحج التي يكتسبها الانسان لا تتحقق كاملة بالحركة البدنية بين المشاعر المقدسة وإنما هي منوطة بمقدار معرفته للإمام وإتباعه له فقد تزيد وقد تنقص إلى حد الصفر، وعن مثل هؤلاء المفلسين يقول الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أترى هؤلاء الذين يلبّون، والله لأصواتهم أبغض إلى الله من أصوات الحمير)(1).ويعلل الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ذلك في صحيحة(2) الفضيل حينما نظر الى الناس يطوفون حول الكعبة قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (هكذا كانوا يطوفون في الجاهلية إنما أمروا أن يطوفوا بها ثم ينفروا ألينا فيعلمونا ولايتهم ومودتهم ويعرضوا علينا نصرتهم) ثم قرأ هذه الآية {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} (إبراهيم:37) وفي تفسير العياشي عند هذه الآية عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ينبغي للناس أن يحجوا هذا البيت ويعظموه لتعظيم الله إياه وأن يلقونا حيث كنّا نحن الادلاء على الله)(3).

وهذا الحج الشكلي الخالي من الغرض الحقيقي هو ما حصدوه من ابتعادهم عن الامام الحق، عن الفضيل عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية، ولا يعذر الناس حتى يعرفوا إمامهم)(4).

وان مكة تشرفت باحتضانها للمعصوم لذا أقسم بها مقيدة بوجوده {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ، وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} (البلد:1-2) ومن لطف الله تعالى بعباده حضور المعصوم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بنفسه في موسم الحج كل عام لتبقى الشعائر

ص: 185


1- وسائل الشيعة: 9 /57.
2- الكافي: 1/ 322/ح1.
3- تفسير العياشي: 2/ 333/ح39.
4- بحار الأنوار: ج23/ 89.

محتفظة بقيمتها المعنوية وليحظى الحجاج ببركات وجوده روي عن عبيد بن زرارة قال:سمعت أبا عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول:(يفقد الناس إمامهم فيشهدو الموسم فيراهم ولا يرونه)(1) وفي كتاب اكمال الدين بسنده عن السفير الثاني محمد بن عثمان العمري قال (سمعته يقول:والله إن صاحب هذا الأمر يحضر الموسم كل سنة فيرى الناس ويعرفهم، ويرونه ولا يعرفونه)(2).ولهذا يقف الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) امام الطاغية يزيد ويعلنها صريحة واضحة (أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا)(3).

أيّ انا صاحب هذه المشاهد المشرفة والوريث الحقيق لها والمولود الطبيعي للقائمين عليها من لدن إبراهيم الخليل إلى النبي الأكرم محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فأنا أولى بولاية أمور الأمة وسياسة شؤون العباد والبلاد.

ص: 186


1- كمال الدين وتمام النعمة- الشيخ الصدوق: 1/ 379/ح49
2- وسائل الشيعة: 11/ 135- أبواب وجوب الحج وشرائطه، باب46/ح8-9.
3- بحار الأنوار: 45/ 138.

القبس /103: سورة الحج:32

اشارة

{ذَلِكَ ۖ وَمَن يُعَظِّم شَعَئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى ٱلقُلُوبِ}

موضوع القبس:احياء الشعائر الدينية

نحاول فهم الآية ودلالتها وما نستفيده من دروس من خلال نقاط:

1- (شعائر) جمع (شعيرة) وقال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة(1):يُقال للواحدة (شَعارة) وهو أحسن من (شعيرة) وهي العلامة الدالة التي تُدرك ولكن بلطف ودقة، فشعائر الله كل ما دلّ على الله تعالى وكان علماً لطاعته والاشعار:الاعلام من طريق الحس، و(المشاعر) المعالم جمع (مشعر) وهي المواضع التي اشعرت بعلامات.

وتتضمن معنى الدقة واللطافة لذا سمي (الشَعَر) لدقته(2)، والشعور دقة الادراك، والشاعر لأنه يشعر بفطنته بما لا يفطن له غيره.

فهذه المناسك والشعائر والمشاعر رموز تعبّر عن التوجه الى الله تعالى وطاعته وتوصل الى التقوى التي هي الغاية من الشعائر فهذه الشعائر وسائر الاعمال لها قوالب شكلية وإنما تكتسب أهميتها من تحصيل حقائقها، لذا جعل تعظيم

ص: 187


1- معجم مقاييس اللغة- ابن فارس: 3/ 194
2- والشعار: هو الثوب الرقيق الذي يلي الجسد ويلامس الشعر ويقال في لغة العرب للقريب الملاصق للمودّة (أنت الشعار دون الدثار) أي اللباس الملاصق وليس الخارجي.

الشعائر من حركة القلوب وتكاملها وليست مقتصرة على حركات الجسد وأعضاء الجسم، فلينتبه الى هذه الحقيقة من يريد تعظيم الشعائر بصدق فالمنافقون والفاسقون قد يؤدون الشعائر الشكلية كما كانوا في زمان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يحضرون الصلاة في المسجد ويخرجون في الغزوات لكنها لا قيمة لها لأنها خالية من التقوى.وقد أمرنا الله تعالى باحترامها وتقديسها وحفظ حدودها، قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ} (المائدة:2) أي لا تنتقصوها ولا تنتهكوا حرمتها ولا تضيعوها، وما دام تعظيم الشعائر من تقوى القلوب، فأن من لم يعظم شعائر الله فانه من اهل القلوب القاسية التي لم تذق حلاوة التقوى.

2-وقد ورد تعظيم الشعائر مطلقاً في الآية ولم يُحدَّد بشكل معين فتشمل التعظيم بالمشاركة فيها والدعوة اليها والتعريف بحقيقتها أو المساهمة بالمال او التشجيع والدفاع عنها ضد من يشوهها ويخذَل الناس عن المشاركة فيها وينتقصها ونحو ذلك.

والتعظيم ليس له صيغة خاصة وانما هو لكل شعيرة بحسبها فقد يكون بالاهتمام بها واعطائها الأولوية في حياة الانسان، {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}

ص: 188

(التوبة:24)، وقد يكون بانتقاء افضل افرادها كما في قوله تعالى {لن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران:92).3-ولأن الشعيرة ما يدرك بدقة ولطافة فأن حقائق هذه الشعائر ومعانيها تخفى على غير الفطن الواعي الذي يهديه الله بلطفه فالحج الذي كله شعائر ومشاعر قال تعالى {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ} (الحج:36) وقال تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ} (البقرة:185) والآية محل البحث وردت في سياق مناسك الحج وقال تعالى {فإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} (البقرة:198).

تعرّض للتشكيك والاستهزاء والسخرية وكان بعض الزنادقة الملحدين يحضر موسم الحج(1) ويقول:الى متى تطوفون بهذه الأحجار لأنهم لم يدركوا المعاني الروحية فيها وحقائق هذه الأفعال التي تدعو الى التوحيد الخالص ونبذ الشركاء، وأنى لأحد أن يدركها إلا ان يكون من أصحاب القلوب التقية العارفة بحقائق هذه الأفعال، وهكذا الشعائر الحسينية تتعرض للتشكيك والانتقاص والازدراء لنفس السبب وغيره.

4-الضمير في قوله تعالى (فأنها) يمكن أن يعود الى الشعائر نفسها فأنها من التقوى، ويمكن أن يعود الى التعظيم وقد جمع ليكون مناسباً للشعائر

أي فأن هذه التعظيمات من تقوى القلوب.

5-ومن أهم الشعائر التي أمرنا بتعظيمها الاحكام الشرعية والقوانين الإلهية

ص: 189


1- أنظر: أصول الكافي- الشيخ الكليني: 1/ 74/ح2

في كل شؤون الحياة ومفاصل المجتمع فان الالتزام بهذه القوانين واقامتها بين الناس ودعوتهم اليها والدفاع عنها هو من تعظيم شعائر الله الذي هو من تقوى القلوب، وان من يقف في طريق إقرار هذه القوانين وأخذ الدين دوره في حياة الانسان والمجتمع تحت خديعة (الدولة المدنية) وامثالها هو ناقص الورع والتقوى.6-وتعظيم الشعائر الإلهية واجب على الجميع بالمقدار الذي يتحقق فيه المطلوب، الى درجة انه إذا تقاعس الجميع وجب على ولي الامر إجبارهم عليه ففي رواية صحيحة عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (لو أن الناس تركوا الحج لكان على الوالي ان يجبرهم على ذلك وعلى المقام عنده، ولو تركوا زيارة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لكان على الوالي ان يجبرهم على ذلك وعلى المقام عنده، فإن لم يكن لهم أموال انفق عليهم من بيت مال المسلمين)(1).

ومن زيارة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نتوسع الى زيارة الائمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وتعظيم مشاهدهم المشرّفة لانها سبب لتحصيل الألطاف

الإلهيّة مما لا يمكن تحصيله في أي موضع آخر.

وانقل لكم هذه الرواية التي تدل على مدى اهتمام الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بالشعائر والمشاعر الإلهية، وموضوع الرواية الحرم الحسيني المطهر ففي كتاب الكافي لثقة الإسلام الشيخ الكليني عن أبي هاشم الجعفري – وهو من أصحاب الائمة المخلصين ومن ذرية جعفر الطيار – قال:بعث أليَّ أبو الحسن الامام الهادي

ص: 190


1- وسائل الشيعة، كتاب الحج، أبواب وجوبه وشرائطه، باب 5ح2.

(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في مرضه فما زال يقول ابعثوا الى الحير- أي الحائر الحسيني – فقلت له:جعلت فداك أنا اذهب الى الحير فقال:أنظروا في ذاك – أي تدبروا الأمر جيداً واختاروا رجلاً مناسباً لأن المتوكل العباسي كان ينزل أشد العقوبات بزائري قبر الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- ، قال أبو هاشم فذكرت ذلك لعلي بن بلال فقال:ما كان يصنع في الحير وهو الحير – أي ان الامام الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هو الامام المعصوم الحجة من الله تعالى فما حاجته الى التوسل بقبر جده الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) - ، فقدمت العسكر- أي سامراء والامام فيها – فدخلت عليه فقال لي أجلس حين أردت القيام فلما رأيته أنس بي ذكرت له قول علي بن بلال فقال لي ألا قلت له – ان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان يطوف بالبيت ويقبّل الحجر، وحرمة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والمؤمن أعظم من حرمة البيت وأمرهُ الله عز وجل أن يقف بعرفة، وإنما هي مواطن يحب الله أن يذكر (وفي رواية: يتعبد) فيها فأنا أحبُ أن يُدعى لي حيث يحب الله أن يُدعى فيها)(1).ومن هذا الوجوب نستنتج انه علينا ان نراقب واقعنا بدقة فإذا وجدنا فريضة وشعيرة الهية معّطلة او تقاعس المجتمع في أدائها كصلاة الجمعة او الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، او إقامة القوانين الإلهية فعلينا المبادرة لإحيائها، وكذا اذا وجدنا احد المشاعر المقدسة مهجوراً فعلينا اعماره بالزيارة والدعاء والذكر كالتقصير الذي حصل في زيارة الامامين العسكريين بعد التفجير الاجرامي والفتنة الطائفية عام 2006 او الشعائر الفاطمية التي نهضتم لإحيائها منذ عام 2006-1427 وكذا الشعائر الزينبية التي وفقتم للمشاركة فيها.

ص: 191


1- بحار الانوار: 50/ 225 عن الكافي: 4/ 567-568 ح3.

7-ورد في الرواية أعلاه أن (حرمة المؤمن أعظم من حرمة البيت) فأذن من تعظيم الشعائر احترام المؤمنين وإكرامهم والتواضع لهم وقضاء حوائجهم خصوصاً إذا كانت له مزية اضافية ككونه احد الوالدين او من الارحام او الجيران او من وأهل العلم والفضل ونحو ذلك فلا تغفلوا عن هذا المعنى، ولا تخسروا هذه الفضيلة وتتنازعون بينكم من اجل المال او كلمة قيلت او أي سبب آخر للنزاع والتباغض والتباعد.

8-ان الشعائر أضيفت الى الله تعالى (شعائر الله)، فالشعائر والمشاعر لا تكون مقدسة وموصلة الى تقوى القلوب الا اذا كانت بحجة شرعية من الله تعالى وتقع ضمن الاطار الإلهي العام الذي رسمه المعصومون (سلام الله عليهم)، اما بعض الطقوس المبتدعة فقد تكون جائزة اذا لم تحرم بعنوان ثانوي كالأضرار بالبدن او تشويه سمعة المذهب، لكنها ليست مقدسة ولا راجحة لانها ليست من الله تعالى.

وكذا ظاهرة انتشار الكثير من القبور المنسوبة الى أولاد وبنات الائمة الطاهرين من دون وجود دليل يثبت صحة هذه النسبة فهي وهمية لا مستند لها وقد توضع اساطير وقصص خرافية او تحكى منامات لبعض العجائز كدليل على قدسية هذه القبور، وهي في الحقيقة ليست مشاعر مقدسة ولا يجوز زيارتها لأنها ليست من شعائر الله تعالى.

ص: 192

ملحق:إلى المشكّكين بجدوى الزيارات المليونية

يشكّك البعض بجدوى حضور الملايين في الزيارات، كعاشوراء والأربعينية ويناقش في صرف الأموال الطائلة لخدمة الزوار وتوفير احتياجاتهم، وينطلق بعض هؤلاء من التأثر بالأجندات الغربية التي لا تفقه الآثار المعنوية لهذه الحركة المباركة على الفرد والمجتمع.

فيجب أن نكون نحن على ثقة عالية بشريعتنا وشعائرنا التي باركها الشارع المقدّس، فنجيب على هؤلاء بمستويين من الجواب، يُسمى الأول في مصطلح الحوزة العلمية بالجواب النقضي، أي الرد على الإشكال بإشكال مثله من واقعهم وممارساتهم، ويُسمّى الثاني الجواب الحلّي بتقديم الدليل على جدوى هذه الشعائر وبيان الآثار المباركة التي تثمرها.

والجواب على المستوى الأول هو بما يصدر منهم هذه الأيام بمناسبة الاحتفالات برأس السنة، حيث تسود العالم الغربي وغيره احتفالات صاخبة ومهرجانات والعاب نارية وسفرات من غرب الأرض إلى شرقها وشراء هدايا (عمانوئيل) وأمثالها(1) من الممارسات التي تصرف فيها مليارات الدولارات بلا معنى عقلائي يمكن الاقتناع به إلا تسويلات الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء من

ص: 193


1- من تلك المراسيم في فرنسا احراق السيارات حيث أحرقت 1193 سيارة ليلة 1/ 1/ 2013 بحسب وزير الداخلية الفرنسي مانويل فالز وقال: إن العدد قريب من عدد السيارات التي أحرقت في سنوات سابقة حيث تحوّل إحراق السيارات ليلة رأس السنة إلى عادة لدى الفرنسيين منذ بضع سنوات وأحرقت ليلة 1/ 1/ 2010 (1147) سيارة ولم تُعلن إحصائيات 2011، 2012 حيث تحفظ وزراء اليمين في حينها عن إعلان الأرقام.

المتع واللذات الوقتية الكاذبة، وكان الأجدر بهم صرف هذه المليارات على جياع أفريقيا وتنمية اقتصاديات الدول الفقيرة وإنشاء المشاريع المفيدة في الدول التي يتباكون على فقرها وابتلائها بالأمراض الفتاكة والحروب والمشاكل الاجتماعية.هذا غير ما يصرف من مليارات أخرى على غيرها من الفعاليات غير العقلائية كالدورات الأولمبية وبطولات كأس العالم مما يثقل ميزانيات الدول بمبالغ طائلة، وبين أيدينا اليونان التي اشترطت عليها الولايات المتحدة أموراً عند تنظيمها الدورة الأولمبية عام 2004 ولم تستطع واردات السياحة سدّها فغرقت في ديون باهضة شارفت بسببها على الإفلاس.

فالأولى بهؤلاء المنتقدين أن يعترضوا على هذه الممارسات والفعاليات التي لا فائدة فيها إلا متعة ولذة –كما يزعمون- وهي وقتية بمقدار لحظتها ووهمية ويبقى الفرد يعاني بعدها من مشاكل نفسية واقتصادية أيضاً لأن أغلب أفرادهم يقترض ليقوم بتلك السفرات أو شراء الهدايا ونحوها. فهؤلاء المعترضون ينطبق عليهم المثل المعروف بأنه يرى القذّة في عين الغير ولا يرى الجمل في عينه.

أما على صعيد المستوى الثاني من الجواب فقد تضمّنت خطاباتنا السابقة ذكر العديد من تلك الآثار المباركة، نشير إليها باختصار، وتُراجَع التفاصيل في مواضعها.(1)

1-إن التوجّه سيراً على الأقدام من مسافات بعيدة مع ما يرافقه من العناء والمشقّة فيه تعبير عن عميق المودّة والولاء للإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) التزاماً بقوله تعالى {قُل

ص: 194


1- راجع خطاب المرحلة: 4/ 14، 227- 238 وفي مواضع أخرى من الكتاب.

لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (الشورى:23).2-إنّ فيه إظهاراً لعظمة الإمام المقصود بما عظّمه الله تعالى، كما سار الإمامان الحسن والحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ماشيين إلى مكة المكرمة تعظيماً لبيت الله الحرام.

3-إنّ فيها إدخالاً للسرور على قلب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأهل بيته المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ومواساة لهم على عظيم مصابهم، وفيه إحياء لأمرهم والتزام بما وجهوا إلهيا (أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا) (1).

4-الثواب العظيم الذي رصد لمن يقصد زيارة الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ماشياً وقد وردت في ذلك روايات عديدة منها عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من أتى قبر الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ماشياً كتب الله له بكل خطوة ألف حسنة ومحا عنه ألف سيئة ورفع له ألف درجة).(2)

5-إنها وسيلة هداية للآخرين، فقد اهتدى بشعائر الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى الحق كثيرون وعادوا إلى الصلاح والرشد في حين عجزت كل الوسائل عن إصلاحهم، وهذه من بركات الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فإنه (مصباح هدى وسفينة نجاة)(3).

6-إنها توحّد الأمة بكل طوائفها وقومياتها وتوجهاتها الاجتماعية والسياسية

ص: 195


1- عيون أخبار الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- الشيخ الصدوق: 2/ 275/ح69,- الكافي- الشيخ الكليني: 8/ 80/ح37
2- راجع الروايات في وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب المزار وما يناسبه، باب 41.
3- عيون أخبار الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- الشيخ الصدوق: 2/ 62/ح29

ومختلف انتماءاتها الجغرافية والعشائرية، وهذا واضح حيث يذوب الجميع في حب الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وبعضهم لبعض مما يستحيل تحقيقه في غير هذا الهدف قال تعالى {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَ-كِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} (الأنفال:63).7-إنّ المسيرات السلمية وسيلة حضارية تتبعها كل الأمم المتحضرة لإلفات النظر إلى قضاياها والمطالبة بحقوقها ودفع الآخرين للسؤال والفحص عن المشروع المحرِّك لها، وهذا ما تحقق إذ صار العالم كله يتساءل اليوم عن الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) والشيعة، والسؤال مفتاح الوصول إلى الحقيقة.

8-إنها تحبط محاولات الأعداء المتنوعين التي تستهدف الشعب العراقي الأبي وهذا البلد الكريم، لإفساده وإخضاعه وإرعابه وتدجينه وسلخه من هويته الإسلامية الأصيلة، فقد حاول الإرهابيون بكل وسائل القتل والتدمير والجريمة إخافته، وحاول الاحتلال تدجينه وتحويله إلى جزء من مشروع الشرق الأوسط الكبير بل رأس الحربة فيه، وحاولت تقنيات الإغراء والغواية والتضليل إفساده وإبعاده عن إسلامه الأصيل ففشل الجميع، ببركة هذه المسيرات المليونية.

9-إنها ممارسة تعبوية تحافظ على جاهزية الأمة وحضورها في الميدان على الدوام وبدونها يصاب الشعب بالخمول والكسل والاسترخاء فيكون مكشوفاً وهدفاً سهلاً لكل استهداف.

10-إنها تقوّي الإرادة والتحمل وتوطين النفس على الصعاب مما يعجز عن

ص: 196

تحقيقه أي ممارسة أخرى وتشكّل بذلك فقرة مهمة من عملية الاستعداد لنصرة الإمام الموعود (عجل الله تعالى فرجه) والمشاركة الفاعلة في التمهيد لدولته المباركة ونصرته.11-إن أجواء الزيارة والمشاعر الروحية فيها تعطي للنفس زاداً معنوياً وحصانة وغذاءاً روحياً يبقى تأثيره ولذته إلى أمد بحسب استحقاق كل شخص واستعداده، وكما يقال بحسب سعة إنائه ووعائه فإنه يغترف من هذه الألطاف الإلهية {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} (الرعد:17).

12-بهذه الحركة المليونية يبرز الشعب العراقي انتماءه للإسلام ولمذهب أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ويبرز هويته في عملية إحصاء سكّاني صادق ودقيق لا يقبل الخطأ والتزوير وليردّ بذلك على بعض الجهات التي تحاول القفز على الواقع وتدّعي خلافه.

وقد وردت الإشارة إلى جملة من هذه الآثار المباركة في دعاء الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لزوار أبي عبد الله الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الرواية المعتبرة عن معاوية بن وهب البجلي وفيها (اغفر لي ولإخواني ولزوّار قبر أبيَ الحسين بن علي صلوات الله عليهما الذين أنفقوا أموالهم واشخصوا أبدانهم رغبة في برِّنا ورجاءاً لما عندك في وصلتنا، وسروراً أدخلوه على نبيك محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وإجابة منهم لأمرنا، وغيظاً أدخلوه على عدوِّنا، أرادوا بذلك رضوانك، فكافئهم عنّا بالرضوان)(1) إلى آخر الدعاء.

ص: 197


1- مفاتيح الجنان: 484 فضل زيارة الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

القبس /104: سورة الحج:40

اشارة

{وَلَولَا دَفعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعضَهُم بِبَعض}

موضوع القبس:سنة التدافع

من السنن الإلهية:

قال تعالى:{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة:251).

وقال تعالى:{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج:40).

تكشف هاتان الآيتان عن سنة إلهية عظيمة وفريضة واجبة على المسلمين وهي سنة التدافع أي دفع الكفر بالإيمان، والشر بالخير، والفساد بالصلاح، والباطل بالحق، والمنكر بالمعروف، وتظهر عظمة هذه السنّة من اندراج فريضتين عظيمتين تحت عنوانها وهما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مضافاً الى الطاعات الاخرى كالدعوة الى الخير والنصيحة والارشاد والموعظة.

ص: 198

من وحي القرآن:

وهنا نلتفت إلى عدة أمور نستوحيها من الآيتين الكريمتين:

1-جعل هذه السنة الإلهية من منن الله تعالى وأفضاله على العالمين في الآية الاولى، رغم أن هذا التدافع يقتضي حصول تضحيات بالأرواح والأموال ومفارقة الأهل والأوطان وبذل الجهود الكبيرة لأنها حرب مستمرة ضارية، وتفسير ذلك بوجوه يأتي احدها ونذكر هنا وجهاً ذكرت الآية حاصله انه لولا هذا الدفع لامتلأت الأرض بالشر والفساد والظلم والكفر ولم تستقم فيها حياة إنسانية كريمة، ولأزيلت كل مظاهر الخير والصلاح التي أشير إليها في الآية الثانية بأسماء دور العبادة والذكر في الديانات التوحيدية.

2-مادام هذا التدافع سنة إلهية فهي ثابتة وحتمية {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب:62) {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} {فاطر:43) ولا يمكن التخلص من هذه المواجهة بالهروب من الواقع أو الانزواء أو غض الطرف ودفن الرأس في التراب، لأن النتيجة حينئذ ما ذكرته الآية الشريفة.

وإن هذه المواجهة مستمرة ولا تقتصر على زمان ومكان محدودين، لأنّها مرتبطة بوجود الناس على هذه الأرض وانقسامهم إلى فريق في الجنة وفريق في السعير.

3-يظهر من الآيتين أن الغرض من التدافع ومنه الجهاد بل العمل الإسلامي عموماً هو تثبيت كلمة التوحيد وحفظ شعائره ومشاعره، وإخراج الناس من عبادة العبيد وتحريرهم ليكونوا عباداً لله تبارك وتعالى ولم يُشرّع القتال والتدافع بأي نحو كان -ومنه التدافع والتنافس السياسي- طلبا لدنٌيا أو مال

ص: 199

أو توسيع سلطة ونفوذ أو أي مغانم أخرى غير رضا الله تبارك وتعالى وإعلاء كلمته خلافاً لأهداف غير الربانيين فإنها لتلك الأهداف الدنيوية وهذا يجيب عن الإشكالات عن تشريع الجهاد في شريعة الإسلام.ما قلناه آنفاً يدعونا إلى تصحيح مقاييس النصر والربح والنجاح في ثقافتنا:

ظنّوا بأن قتلَ الحسينَ يزيدُهم كذبوا فقد قتلَ الحسينُ يزيدا(1)

وان نرتب أولوياتنا بشكل صحيح ونعرف بماذا نضحي ومن اجل ماذا نضحي بعد معرفة الأهم والمهم، إذ يظهر من الآية أنّ الهدف الأسمى هو إعلاء ذكر الله تعالى وإقامة شريعته ويهون دون ذلك القتل والقتال والتدافع بكل أشكاله وبذل كل شيء، وليس العكس بأنّ يُجعل الدين وسيلة لكسب الدنيا.

4-وان الدفع يعني عدم إمكانية اجتماع الطرفين المتدافعين معاً كالمعروف والمنكر أو الحق والباطل بل إن كلاً منهما يسعى لإزالة الآخر واجتثاثه، فلا مجال للمداهنة ولا لأنصاف الحلول لتصادم الأحكام والتشريعات الإلهية مع القوانين الوضعية التي تخضع للأهواء والنزوات، لأنّهم لا يرضون إلاّ بمحو الدين وإلغاء هوية أهله التي عبّرت عنها الآيتان بالهدم، وقال تعالى عنهم {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} (البقرة:120)

5-إن الله تعالى قادر على إعزاز دينه ونصرهِ بقدرته اللامحدودة

ص: 200


1- ديوان الوائلي للشيخ أحمد الوائلي (رحمه الله): 111

فيقول للشيء كن فيكون ويقطع دابر الفساد والكفر والشر، إلا انه تعالى أبى الا ان تسير الأمور وفق أسبابها الطبيعية {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَ-رَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} (محمد:4)، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (المائدة:48)، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} (الأنفال:42)، فجعل تعالى دفع الأشرار بعمل الأخيار وحركتهم المباركة مع تأييد الله تعالى وإمداده {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} (الأنفال:62)، {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (الحج:38) {وَلَيَنْصُ-رَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُ-رُهُ} (الحج:40) ، فلابد إذن وفق هذه السنة الإلهية من عمل دؤوب متواصل.وحذّرت الآيتان من التقاعس عن العمل والمرابطة في مواجهة قوى الشر والانحراف والفساد لان النتيجة تسلّط الطواغيت والفسقة وخلوّ الساحة لهم وهو ينطبق على الحديث النبوي الشريف (لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر، أو ليستعملنّ عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم)(1) ويقوم هؤلاء الأشرار باستعباد الناس ومحو كل شعائر الدين ومشاعره وشعاراته، ورمزها ومجمعها الذي اشارت اليه الآية الشريفة المساجد فيعملون على هدمها وتخريبها.

6-إن هدم المساجد لا يقتصر على المعنى المادي أي إزالتها من وجه الأرض إذ قد يكون التخريب معنوياً - وهذا هو الأخطر- وذلك بحرمان الناس من بركاتها وتعطيل دورها الذي ذكرته الآية الشريفة بأنّه يُذكر فيها الله كثيراً وتُتلى فيها آياته ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، والمساجد

ص: 201


1- وسائل الشيعة: 16/ 118 ح11.

هي مراكز تجمع المسلمين وتعارفهم وتحشيد قواهم ونشر الوعي بينهم وتهذيب أخلاقهم وتعليمهم الدين. وهذا التخريب المعنوي هو ما يلجأ إليه الطواغيت والمنافقون المتستّرون بالدين فهم يعمّرون المساجد مادياً إلاّ أنّهم يفرغونها من محتواها وتأثيرها في حياة الأمة كالذي شهدناه ايام الرئيس المقبور صدام وامثاله.

وقد يكون تأثير مساجد المنافقين معادياً للدين القويم {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}(التوبة:107) وهذا شاهد على ما قلناه من كون التخريب المعنوي اخطر.

7-وبناءاً على ما قلناه من ان التخريب المعنوي هو الاخطر وانه قد يكون من المتسترين بالدين من نفس المسلمين فان سنة التدافع تجري داخل المجتمع المسلم ايضاً وليس فقط مع الاعداء الخارجيين وتكون حينئذٍ مع من يحرّف الدين ويداهن فيه ويعرقل مسيرته ويحارب المصلحين ويقف حجر عثرة في طريق الإصلاح مكتفياً بشكليات الدين ومظاهره الخارجية، كالذين واجههم أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعد وفاة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وكانوا من العناوين الكبيرة في المجتمع المسلم، خصوصاً بعد الالتفات إلى الوصف الذي أعطته الآية للمساجد، والذي لاينطبق على اولئك المتسترين بالدين .

8-لا بدّ ان يلاحظ في آليات التدافع مناسبتها لما يستعمله العدو، لأنّه إذا لم يكن مناسباً ومكافئاً للعدو فلا يعتبر دفعاً ولا تدافعاً، فإذا كان عمل

ص: 202

العدو وهدمه فكرياً فلابد من دحضه بفكر مثله وان كان إفساده أخلاقياً فلابد من مواجهته بحملة مثلها، وهكذا إن كان سياسياً أو إعلامياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو عسكرياً ونحو ذلك فانه يقابل بمثله.9-إن الله تبارك وتعالى لطيف بعباده ولا يتركهم سدى فريسةً بأيدي شياطين الانس والجن بل يقيّض من عباده من ينهض بهذا الحمل الثقيل لذا نسب تعالى الدفع إليه فهو الذي يدفع الناس بالناس، وهذا المعنى من قبيل ما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال:(يحمل هذا الدين في كل قرن عُدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين)(1) واذا تقاعس قوم عن اداء واجباتهم فان الله تعالى يوفّق غيرهم لهذه الطاعة قال تعالى {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (محمد:38).

10-الوعد الإلهي لعباده العاملين المخلصين بالنصر وتأكيد ذلك بعدة مؤكدات في الآية، كاللام ونون التوكيد في قوله تعالى {وَلَيَنْصُرَنَّ}، نعم قد يتأخر النصر لحكمة إلهية كحماية المؤمنين من العجب او لتعريضهم لمزيد من البلاء لإنضاجهم وتأهيلهم، أو لكي يستشعروا أهمية وقيمة النصر، وقد يحقق الله تعالى النصر للمؤمنين لكن على نحو لا يفهمه الناس لاختلال القيم والمقاييس عندهم، وعلى اي حال فان هذا النصر مشروط بإخلاصهم لله تعالى وصدقهم في

ص: 203


1- رجال الكشي: 2، وروى البرقي في المحاسن مثله وفيه (فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) (بحار الأنوار: 2/ 92 عن بصائر الدرجات 30/ 1 :، باب 6، ح 7.

ما عاهدوا الله عليه، فقد وضحت الآية التالية للآية الثانية التي فيها الوعد بالنصر من ينصرهم الله تعالى بقوله سبحانه {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}(الحج:41).11-ورد في الروايات معنى آخر للدفع يناسب قوله تعالى {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة:251) لأنّ فيه منّة من الله تعالى، ففي رواية عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قَالَ:(إن الله يدفع بمن يصلي من شيعتنا عمن لا يصلي من شيعتنا، ولو اجتمعوا على ترك الصلاة لهلكوا، وإن الله ليدفع بمن يصوم منهم عمن لا يصوم من شيعتنا، ولو اجتمعوا على ترك الصيام لهلكوا، وإن الله يدفع بمن يزكي من شيعتنا عمن لا يزكي، ولو اجتمعوا على ترك الزكاة لهلكوا، وإن الله يدفع بمن يحج من شيعتنا عمن لا يحج منهم، ولو اجتمعوا على ترك الحج لهلكوا وهو قول الله تعالى{وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ})(1).

12-إنّ الدفع وإن كان في المصطلح يعني مقاومة الشيء بعد وقوعه، إلا أن معناه هنا أوسع فيشمل ما يعرف بالرفع أي منع وقوع الفساد والظلم والانحراف أصلاً، بل أن العمل على النحو الثاني هو الذي يجب أن نفكر فيه ونضع خططنا له على طريقة الحكمة القائلة (الوقاية خير من العلاج) فتهيئة أسباب الصلاح والبيئة المساعدة لانتشاره وإقناع الناس به مقدَّم على انتظار وقوع المنكر

ص: 204


1- البرهان : 2/ 145 نقلا عن تفسير العيّاشي1. 446/ 135.

ثم التفكير في كيفية إزالته ومعالجته.وهذا مبدأ مهم سار عليه قادة الإسلام العظيم فمن قصار كلمات امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ازجر المسيء بثواب المحسن)(1) وروي عن الامام الحسن المجتبى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (السداد دفع المنكر بالمعروف)(2) فالأولى أن تكافئ المحسن وتشجّع العامل الصالح لتحفّز غيره على الإحسان وإتقان العمل ولا يبقى مجال ليفكّر بالعمل السيء وتعريض نفسه للعقوبة.

13-ولابد ان نلتفت الى ساحة اخرى للتدافع وهو الذي سماه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الجهاد الاكبر وهي ساحة النفس التي يتصارع فيها جنود الرحمن مع جنود الشيطان لتحسم المعركة بانتصار ارادة الخير او ارادة الشر، والاولى مؤيدة بالألطاف الالهية والبصيرة والعقل والمعرفة والعزم والحكمة، والثانية مزودة بالشهوات و الاهواء والميول النفسية.

روي في الكافي انه كان عند الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) جماعة من مواليه فجرى ذكر العقل و الجهل، فقال الامام:(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اعرفوا العقل وجنده والجهل وجنده تهتدوا) قال الراوي جعلت فداك لا نعرف الا ما عرفتنا، فذكر الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ان الله تعالى اعطى لكل منهما خمسة وسبعين جنداً وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الخير وهو وزير العقل وجعل ضدّه الشر وهو وزير الجهل، والايمان وضده الكفر)(3) الى اخر الحديث.

ص: 205


1- نهج البلاغة، ح4، قصار الكلمات رقم 177 عن روض الاخيار/ 41.
2- مستدرك الوسائل: 438:12: ح:14562حلية الاولياء لابي نعيم: حديث 1462.
3- اصول الكافي : كِتَابُ الْعَقْلِ وَالْجَهْلِ ج1/ح14.

الدعوة النبوية وسنّة التدافع الخارجي:

لقد جسد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في رسالته الإسلامية هذه السنّة –أي سنّة التدافع- بأوضح مصاديقها وبأشكال متنوّعة فكانت دعوته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من أول أمره تستند إلى عقيدتين متلازمتين هما إثبات الإلوهية لله تعالى ونفيها عمّا سواه، وكان شعار دعوته المباركة (قولوا لا إله إلا الله تُفلحوا)(1) فلم يقتصر على القضية الأولى -أي إثبات الإلوهية لله تعالى- ما لم تنضم إليها الثانية وهي رفض الوهية غيره لتكتمل عقيدة التوحيد، وإلاّ فإنّ المشركين كانوا يقولون بوجود الله تعالى وخالقيته ورازقيته {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (العنكبوت:61) {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (العنكبوت:63) وغيرها. فالمشركون لم يعترضوا على هذا المقدار وكان بين ظهرانيهم أحناف موحّدون وأتباع الديانات السماوية لكنّهم أعلنوا العداء بضراوة والحرب على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأنّه دفع عقيدتهم وألغاها.

وقد بدأ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) التدافع بالجهر برفض تلك العقيدة الباطلة وقداستها المزيّفة التي صنعها المنتفعون بها وتلاه الإجراء الآخر وهو مباينة أهلها {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} (الكافرون:1-3)، ثمّ بالاستدلال على بطلانها وردّ دعاؤهم والإجابة على إشكالاتهم.

ص: 206


1- بحار الأنوار- المجلسي: 18/ 202

وهكذا تدرّجت وتنوّعت آليات التدافع والمواجهة حتّى أُذن له (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالقتال بعد أن مكّنه الله تعالى من زمام الأمور في المدينة المنّورة {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (الحج:39) حتى فتح الله تعالى عليه الفتوح المبينة وعمّت رسالته المباركة شرقها وغربها.

التدافع الداخلي:

هذا على صعيد التدافع الخارجي أما على مستوى التدافع الداخلي فإجراءاته مع المنافقين معلومة وهدمه وإحراقه لمسجدهم الذي اتّخذوه ضراراً وتفريقاً بين المؤمنين في الرواية الموجودة في سبب نزول الآية المذكورة.

وسار على نهجه سبطه الشهيد الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فأقام بخروجه المبارك هذه السنة الإلهية إذ انه لم يتقاعس ولم يذعن ولم يستسلم لبطش بني أمية وطغيانهم، ونهض بمسؤوليته وقام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ليدفع المنكر والباطل، ولولا قيامه المبارك لنقض بنو أمية الإسلام عروة عروة ولتحقق المحذور الذي اشارت اليه آيتا التدافع حتى لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ومن القران إلا رسمه، وقد قطعوا شوطاً واسعاً في هذا المجال لولا ان الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قلب الأمور عليهم وأعاد للإسلام وجوده ومضمونه ونقاءه وحيويته:

إن كان دين محمدٍ لم يستقم *** إلا بقتليَ يا سيوفُ خذيني(1)

وقد حقق الله له (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وعده بالنصر فها هو ذكره المبارك يملأ الخافقين ويهدي الناس إلى الحق ويحفظ دين الإسلام عزيزاً كريماً والمسلمين مرفوعي

ص: 207


1- بيت من قصيدة للشاعرالكبير الشيخ محسن أبو الحب <ت1305ه->

الرأس، وأصبحت قضية الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من أعظم الحوادث التاريخية على الإطلاق وأعظمها انتشاراً، وها هي المسيرة المليونية في زيارة الأربعين شاهد على الكرامة والعزة والحرية والرفعة.ايها الاحبة:

إنّ من أفضل أشكال التأسي برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبالإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إحياء هذا القانون الإلهي العظيم في كل ساحاته سواء داخل كيان المجتمع المسلم أو خارجه وبالآليات المناسبة لكل مواجهة، ولا يسعنا القعود عن هذه الوظيفة المباركة وإلاّ ضاع الدين واضمحل كيان الإسلام كما نبّأت به الآية الشريفة، ومن تخلف عن هذه المواجهة لم يبلغ الفتح، كما قال الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في رسالته(1)، قال تعالى:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (محمد:38).

ص: 208


1- بحار الأنوار- المجلسي: 44/ 330

القبس /105: سورة المؤمنون:96

{ٱدفَع بِٱلَّتِي هِيَ أَحسَنُ ٱلسَّيِّئَةَ ۚ}

من أخلاق الإسلام التي حثّت عليها الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة العفو والصفح عمّن اساء اليك وظلمك وجرح مشاعرك وأن تقابل هذه السيئة بالحسنة، وقد بلغت الآيات بالعشرات والأحاديث بالمئات، ومنها قوله تعالى {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (فصلت:34-35) وقال تعالى {وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} (الرعد:22) وقال تعالى {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} {المؤمنون:96).

وتصرح الآية الأولى أن من ثمرات هذا الخلق الكريم راحة النفس وصفاء البال وانتشار المودة والمحبة بين الناس بحيث نستطيع تحويل العدو إلى صديق حميم بهذه الاخلاق.

وقد جعلته الآية الثانية علامة مميزة لأولي الالباب الذين لهم مقام محمود عند الله تعالى.

ولما ابتعد المجتمع الإسلامي عن هذه الاخلاق رجع امره الى التشتت والتنازع والفرقة والاختلاف إلى حد الاقتتال وازهاق الأرواح، فان هذه النزاعات

ص: 209

كان يمكن نزع فتيلها والقضاء عليها من أول الأمر بالعفو عن الإساءة ومقابلة السيئة بالحسنة.إن هذه الاخلاق الإسلامية هي أساس ما يعرف اليوم بعلم التنمية البشرية وعلم الانثروبولوجي وفن العلاقات الإنسانية.

وفي الحقيقة فأن عنوان مقابلة السيئة بالحسنة له مظاهر عديدة في العلاقات الاجتماعية، ويتحلل إلى اشكال عديدة من السلوك الإنساني، ففي كتاب الكافي بسند صحيح عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في خطبته الا أخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة، العفو عمن ظلمك وتصل من قطعك والإحسان إلى من اساء اليك وإعطاء من حرمك)(1).

فهذه الأنماط الأربعة من السلوك كلها داخلة تحت هذا العنوان، وفي الكافي أيضاً بسند صحيح عن أبي حمزة الثمالي عن علي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (سمعته يقول اذا كان يوم القيامة جمع الله تبارك وتعالى الأولين والآخرين في صعيد واحد ثم ينادي منادٍ أين أهل الفضل قال فيقوم عنق -- أي جماعة -- من الناس فتلقاهم الملائكة فيقولون وما كان فضلكم فيقولون كنّا نصل من قطعنا ونعطي من حرمنا ونعفو عمن ظلمنا قال:فيقال لهم:صدقتم ادخلوا الجنة)(2).

تصوروا أي منزلة رفيعة يحظى بها أهل هذا الخلق الكريم حيث ينادون من بين مليارات البشر من الأولين والآخرين ثم يكرمّون امام الملأ العام الواسع بما يسرّهم وفي ذلك اعلان عن أهمية هذا الخُلق.

ص: 210


1- أصول الكافي: 2/ 107 باب العفو ح 1
2- أصول الكافي: 2/ 107 باب العفو ح 2

قد تقول ان الآخر لا يفهم هذه الاخلاق ولا يتجاوب معها مما يدفعني إلى مقاطعته، لكن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يحمِّل المظلوم مسؤولية القطيعة كما يحمّلها الظالم في تأكيد عجيب على هذه الاخلاق، روي عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ما من مؤمنين اهتجرا فوق ثلاث -- أي ثلاثة أيام -- الا وبرئت منهما في الثالثة فيقل له:يا بن رسول الله، هذا حال الظالم فما بال المظلوم؟ فقالّ:ما بال المظلوم لا يصير إلى الظالم فيقول:انا الظالم حتى يصطلحا)(1).إن حمل النفس على هذه الاخلاق يتطلب شجاعة ومجاهدة للنفس عظيمة وهذا مما لا ريب فيه لذا سُمي (الجهاد الأكبر) ولكنه مع العزم والتوكل على الله تعالى والوعي بعواقب الأمور ييسّر الأمر، ومن الأمور التي تستحضرها لتقوّي عزيمتك ما رواه الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (قال عيسى بن مريم ليحيى بن زكريا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) اذا قيل فيك ما فيك فاعلم أنه ذنب ذكرته فاستغفر الله منه وإن قيل فيك ما ليس فيك فاعلم انه حسنة كتبت لك لم تتعب فيها)(2). لأن الأمر لا يخلو من أحدى الحالتين وفي كلتيهما يكون الخير لك.

وان كان المفروض بنا كمسلمين أن نسلِّم لما يريده الله تعالى فوراً بلا كلام وعدم الاحتياج إلى مزيد من الكلام لتحصيل القناعة بما يريده الله تعالى.

ويتأكد هذا الخُلق بين الاقرباء والارحام، عن عبدالله بن سنان قال (قلت لأبي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):إن لي ابن عم أصله فيقطعني، حتى هممت لقطيعته إياي أن

ص: 211


1- بحار الأنوار:75/ 188 ح 10.
2- أمالي الصدوق:414، المجلسي 77 ح 8 .

اقطعه قال:إنك اذا وصلته وقطعك وصلكما الله جميعاً وإن قطعته وقطعك قطعكما الله جميعاً)(1).وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقد جاءه رجل يشكو اقاربه فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اكظم غيضك وافعل، فقال:انهم يفعلون ويفعلون، فقال:أتريد أن تكون مثلهم فلا ينظر الله اليك)(2).

وتبيّن الرواية التالية النكال والعقوبة القاسية التي تحلّ بمن يقابل الحسنة بالسيئة من ذوي الارحام فقد روى الكشي(3) في رجاله بسنده عن علي بن جعفر بن محمد أن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) شاء ان يستأذن عمه ابا الحسن موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الخروج إلى العراق قال:فأذن له، فقام محمد بن إسماعيل فقال:يا عم أحب أن توصيني، فقال:اوصيك أن تتقي الله في دمي -- أي لا تنقل إلى هارون العباسي كلاماً عني يؤدي إلى قتلي -- فقال:لعن الله من يسعى في دمك، ثم قال:يا عم أوصني، فقال:اوصيك أن تتقي الله في دمي، قال:ثم ناوله أبو الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) صرة فيها مائة وخمسون دينارا، فقبضها محمد، ثم ناوله أخرى فيها مئة وخمسون ديناراً فقبضها، ثم أعطاه أخرى فيها مئة وخمسون ديناراً فقبضها، ثم أمر له بألف وخمسمائة درهم كانت عنده; فقلت له في ذلك:ولاستكثرته، فقال:هذا ليكون أوكد لحجتي عليه إذا قطعني ووصلته، ثم ذكر انه سعى بعمه الى الرشيد وانه يدعي الخلافة ويجيء له الخراج، فامر له بمئة

ص: 212


1- الوسائل: 15 / 247 عن أصول الكافي.
2- الوسائل 8/ 393 عن أصول الكافي/469 .
3- اختيار معرفة الرجال- الشيخ الطوسي: 2/ 540

الف درهم ومات في تلك الليلة.فاذا أردنا صفاء البال وراحة النفس والسعادة وبناء المجتمع المتماسك المتحد المتحابب في الدنيا وضمان الفوز بالدرجات الرفيعة في الاخرة فلنلتزم بهذه الاخلاق الكريمة.

ص: 213

القبس /106: سورة النور:22

اشارة

{وَليَعفُواْ وَليَصفَحُواْ ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغفِرَ ٱللَّهُ لَكُم ۚ}

موضوع القبس:درس من حياة الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)

في هذه الليلة الأخيرة من شهر رمضان المبارك نأخذ درساً من فعالية كان يقيمها الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في مثل هذه الليلة, وفيها تطبيق وتجسيد لآية في القران الكريم, والأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) كجدهم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان خلقهم القرآن، والآية قوله تعالى {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (النور:22).

لنتعلم تحصيل المغفرة:

فالآية تعلمنا اسلوباً لتحصيل المغفرة الالهية والعفو والصفح، وإن كان الله تعالى متصفاً في ذاته بأنه غفور رحيم ويبتدئ عباده بمغفرته ورحمته وإن لم يكن منهم استحقاق، لكنه تعالى يزيدهم من فضله فيعلمهم أنهم إن أحبوا أن يغفر الله لهم وكل إنسان يحب ذلك إذ ما من عاقل مستعد لملاقاة الله تعالى بعمله من دون فضل الله تعالى وكرمه فعليهم أن يتعاملوا بينهم بالعفو والصفح ويتجاوز بعضهم عن بعض ليحتجوا بذلك على الله تعالى احتجاج انس ومودة وشفقة واستعطاف.

وهذه المعاني عبر عنها الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعاء ابي حمزة (اللّهُمَّ إِنَّكَ

ص: 214

أَنْزَلْتَ فِي كِتابِكَ أَنْ نَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَنا وَقْدْ ظَلَمْنا أَنْفُسَنا فَاعْفُ عَنّا فَإِنَّكَ أَوْلى بِذلِكَ مِنّا وَأَمَرْتَنا أَنْ لانَرُدَّ سائِلاً عَنْ أَبْوابِنا وَقَدْ جِئْتُكَ سائِلاً فَلا تَرُدَّنِي إِلاّ بِقَضاء حاجَتِي)(1).

في العفو والصفح:

وقد جسّد الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هذه الآية في فعالية كان يجريها في آخر ليلة من كل شهر رمضان، فقد روى السيد أبن طاووس في كتاب الاقبال بإسناده الى الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مضمونها باختصار ان الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كان يشتري العبيد والاماء خلال السنة ويؤدبهم ويفقهّم وكان لا يضرب عبداً ولا امة وإذا أذنب احد منهم كتب ذنبه في صحيفة وتاريخها ولم يعاقبه. حتى إذا كانت آخر ليلة من شهر رمضان، دعاهم وجمعهم حوله، ثم أظهر الكتاب ثم قال:يا فلان فعلتَ كذا وكذا ولم أودبّك اتذكر ذلك؟ فيقول:بلى يا ابن رسول الله، حتى ياتي على آخرهم ويقرّرهم جميعاً.

ثم يقوم وسطهم ويقول لهم:أرفعوا أصواتكم وقولوا:يا علي بن الحسين إن ربَّك قد آحصى عليك كل ما عملت، كما آحصيت علينا ما عملنا، ولديه كتاب ينطق عليك بالحق، لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا احصاها، وتجد كل ما عملت لديه حاضراً كما وجدنا كل ما عملنا لديك حاضراً، فأعفُ وأصفح كما ترجو من المليك أن يعفو عنك، فأعفُ عنا تجده عفّوا، وبك رحيماً، ولك غفوراً، ولا يظلم ربك أحداً، كما لديك كتاب ينطّق بالحق علينا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة مما

ص: 215


1- مفاتيح الجنان :349 من دعاء ابي حمزة الثمالي.

اتيناها إلا أحصاها.وهوّ ينادي بذلك على نفسه ويلقنّهم، وهم ينادون معه وهو واقف بينهم يبكي وينوح ويدعو بمضمون ما نقلناه من دعاء ابي حمزة، ثم يقبل عليهم ويقول:قد عفوت عنكم فهل عفوتم عني ومما كان مني اليكم، فيقولون:قد عفونا عنك يا سيدنا وما اسأت.

فيقول لهم:قولوا اللهم أعفُ عن علي بن الحسين كما عفا عنا فأعتقهُ من النار كما أعتق رقابنا من الرق فيقولون ذلك، فيقول اللهم آمين رب العالمين اذهبوا فقد عفوتُ عنكم وأعتقت رقابكم رجاءه للعفو عني وعتق رقبتي فيعتقهم.

فإذا كان يوم الفطر منحهم جوائز تصونهم وتغنيهم عما في أيدي الناس، وما من سنة إلا وكان يعتق فيها في آخر ليلة من شهر رمضان ما بين العشرين نفساً الى أقل أو أكثر)(1).

دروس من العفو والصفح:

أقول في الرواية دروس عديدة:

(منها) تواضع ائمة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وسمو اخلاقهم وترّفعهم عن الانتقام والرد على الاساءة مضافاً الى اننا تعرفنا من خلالها على احدى الوسائل التي نشر الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) علوم اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ومناقبهم وأخلاقهم ومظلوميتهم لأن هؤلاء العبيد كانوا ينتشرون في الامصار وينقلون ما شاهدوه من سيرة الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) .

ص: 216


1- المراقبات للملكي التبريزي :199-200.

هذه كلها اشارات مختصرة، والمهم هنا تطبيق الآية الكريمة على هذا الفعل، فقد كان الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يستطيع أن يقوم بهذا العمل سراً بينه وبين ربه فيعفوا عمن أساء اليه ويطلب من الله تعالى العفو إلا ان الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كان يجري العمل علناً ليوصل هذا الدرس الى الآخرين ولُينقل عبر الاجيال مضافاً الى أن (العمل بالقلب كما انه عبادة له فإجراء ما فيه على الجوارح ايضاً عبادة للجوارح فعند الاتيان بالجوارح تتحقق العبادة بها ايضاً، وانها تؤثر في القلب تأثيراً خاصاً ورقة لا يؤثره مجرد الامر القلبي ويصير سبباً لعمل آخر مؤثر ايضاً فيمتد الفيض الدائم، لان للجوارح ايضاً حظاً من نور العمل فيؤثر عملها في القلب نوراً زائدا على نور عمله)(1).هذا الادب هو ما يريده الله تعالى ورسوله والائمة الاطهار (صلوات الله عليهم اجمعين) منّا، اذ لا شيء يستحق التباغض والتقاطع بين المؤمنين وخصوصا اذا كانوا ذوي رحم، وليس من المعقول اننا نرجو رضا الله تبارك وتعالى ومجاورة اولياءه في الجنان ونحن نقطع الرحم وآصرة الايمان لأجل كلمة سيئة قالها او تقصير صدر منه او تجاوز على بعض حقوقه، او تنازع بينهم على مال.

سياق الآية الكريمة:

والملفت للنظر ان الآية التي ورد فيها الامر بالعفو والصفح جاءت في سياق جريمة كبرى ارتكبها البعض في حق رسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) اذ اتهموا زوجته مارية

ص: 217


1- المراقبات للملكي التبريزي:202.

القبطية بالفاحشة وانها ولدت ابراهيم من خدين(1) لها لا من زوجها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهي الحادثة المعروفة بحديث الافك، فرغم عظم الجريمة وعظم من وقعت عليه وهو اكرم خلق الله وخاتم الأنبياء، ورئيس الدولة، وقد اشارة الآيات الى ذلك {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النور:19) وقال تعالى عنها {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (النور:23) ومع ذلك فقد جاء معها الامر بالعفو والصفح في الآية محل البحث، فكيف لا نعفو ولا نصفح نحن عن توافه الامور التي نتعرض لها في حياتنا.

ص: 218


1- أنظر: بحار الأنوار- المجلسي: 22/ 155/ح12

القبس /107: سورة النو ر:31

اشارة

{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}

دعوة موجّهة إلى جميع المؤمنين ليتوبوا إلى الله تعالى، وهي موجّهة إلى غيرهم من باب أولى، فالجميع مطالبون بالتوبة أي الرجوع إلى الله سبحانه لأن التوبة تعني الرجوع عن الذنب والعودة إلى الصراط الذي أمر الله تعالى به.

والاستجابة المطلوبة لهذه الدعوة لها مستويات متعددة بحسب مستويات الأشخاص أنفسهم وشكل الذنوب التي تصدر منهم فيتوب الله تعالى على العبد فيرجع على عبده بالتوفيق والجذب والدعوة للطريق الصحيح فان استجاب العبد وتاب بمستوى معين، تاب الله عليه ورجع عليه برحمة أخص ونقله الى مستوى أعلى وهكذا تكون العلاقة التكاملية درجة بدرجة وخطوة بخطوة حتى يتحقق الفلاح قال تعالى {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (التوبة:118).

وتذكر آية أخرى هذه العلاقة العاطفية بين الله تعالى وعباده وتبيّن ان هذا الحرص من الله تعالى على عودة العباد اليه ناشئ من المودّة والرحمة قال تعالى {وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} (هود:90).

ص: 219

وقد تكررت هذه الدعوة للمؤمنين في اكثر من آية من القرآن الكريم كقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (التحريم:8). وقد حثّ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) اتباعه على الاستجابة للدعوة مبادراً اليها بنفسه الشريفة تطبيقها على نفسه الشريفة، فقد روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (إنه ليغان على قلبي وإني لاستغفر الله في كل يوم سبعين مرة)(1) وروي في كل يوم مئة مرة(2) وفي الدر المنثور عن البخاري ومسلم والبيهقي عن ابي رافع قال (سمعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول:أيها الناس توبوا إلى الله جميعاً فإني أتوب إليه كل يوم مائة مرة)(3) .

ص: 220


1- جامع أحاديث الشيعة: 15/ 497 عن لب اللباب للراوندي: 1/ 397 ودرر اللئالي لابن ابي جمهور
2- شرحنا في خطاب سابق معنى استغفار رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والمعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) (راجع موسوعة خطاب المرحلة: ج7/ص233)
3- الدر المنثور:5/ 44

والتوبة ليست فقط من ذنوب حاصلة في أي مستوى كانت بل تحسن التوبة مما يمكن أن يحصل لولا لطف الله وعنايته وصرفه عن العبد {كَذَلِكَ لِنَصْ-رِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء} (يوسف:24).وهذا المعنى ليس غريباً فإن تقديم سبب التوبة والاستغفار على الذنب نفسه وارد في الروايات كجزاء لبعض الاعمال الصالحة(1) فكما ان الاعمال الصالحة تكفّر الذنوب اللاحقة كذلك التوبة والاستغفار من الذنوب اللاحقة والمحتملة .

وترقى درجات التوبة لتصل الى مستوى التوبة للحفاظ على درجة العصمة وتكاملها والبقاء في القمة وهو أحد وجوه استغفار المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) التي ذكرناها في خطاب سابق.

وتتحقق التوبة الصادقة عندما تكون صادرة عن الشعور بقبح الفعل لما فيه من الجرأة على الله تعالى الخالق المنعم ومقترنة بالعزم على عدم العود إلى مثلها وتدارك ما فات مما يمكن تداركه كقضاء الصلاة والصيام الفائتين وإرجاع حقوق الناس التي غصبها وهكذا، وقد وصفت التوبة الصادقة في الآية المتقدمة بالنصوح للدلالة على المبالغة في النصح لنفسه أي صدق التائب مع نفسه وهذه التوبة النصوح كفيلة بمحو السيئات والنجاة من العذاب ودخول الجنة برحمة الله تعالى.

ص: 221


1- ورد عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال من زار قبر الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ليلة في ثلاث ليالي غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر ليلة الفطر وليلة الاضحى وليلة النصف من شعبان) (وسائل الشيعة: 14/ 475، ابواب المزار، باب54 ح1.

والله تعالى يعلم أن العبد مهما صدق في توبته فأنه معرّض للوقوع مرة أخرى في الذنب بأحد مستوياته لذا دعاه إلى التوبة النصوح مرة أخرى.روى الشيخ الكليني في الكافي بسند صحيح عن ابي بصير قال:قلت لأبي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا}؟ قال:هو الذنب الذي لا يعود فيه أبداً) فقلت:وأيُّنا لم يعد، فقال:يا ابا محمد إن الله يحب من عباده المفَّتن التواب)(1).

ومثلها رواية محمد بن الفضيل في نفس الباب.

ومقام التوبة من المقامات المحمودة عند الله تعالى قال عزّ من قائل {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (البقرة:222) وأضاف الله تعالى وصف التوابين إلى ذوي الدرجات الرفيعة عنده تبارك وتعالى {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشّ-ِرِ الْمُؤْمِنِينَ} (التوبة:112) وللمعصومين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهم سادة الخلق ادعية طويلة في طلب التوبة.

فالمؤمنون جميعاً مدعوون للتوبة كغيرهم لأن عندهم ذنوباً أيضاً وإن كانت لا تشابه ذنوب الكفار والفسقة وفي هذا تحذير للمؤمنين وموعظة حتى لا يغتّر مؤمن بعمله أو يعجب به أو يجعل لنفسه منزلة أفضل من الآخرين وقد تتطلب إعادة العبد الى ربه شيئاً من الابتلاء والأذى رحمة بالعبد وشفقة عليه ليضطرّ إلى اليقظة والعودة إلى الله تعالى، قال سبحانه {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ

ص: 222


1- الكافي: 2/ 314، ح 4

الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (السجدة:21) وقد ورد في ادعية ليالي شهر رمضان (إِلهي لا تُؤَدِّبْني بِعُقُوبَتِكَ)(1) أي لا تجعلني بحال احتاج الى عقوبة وابتلاء لكي اعود الى الطريق الصحيح بل اعود بلطفك وعنايتك.وتوجد مضافاً إلى ذلك ذنوب لا يلتفت إليها عادةً أشرنا إليها في خطاب مفصَّل منشور تضمّن شاهداً على ذلك(2) من وحي دعاء للإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) اللهم اني اعتذر اليك من مظلوم ظلم، بحضرتي فلم انصره، ومن معروف اسدي اليَّ فلم اشكره، ومن مسيء اعتذر اليَّ فلم أعذره)(3).

هذا اذا نظرنا بلحاظ المسؤولية الشخصية، اما اذا نظرنا بلحاظ المسؤولية الاجتماعية فسنجد ذنوباً جديدة نتحملها بسبب عدم بذلنا الوسع في إصلاح المجتمع وتخليصه من المعاصي المنتشرة فيه جهلاً أو تهاوناً أو تمرداً أو لأي سبب آخر وهذا كله تقصير في اداء أعظم وظيفة في الاسلام وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(4).

ولعل هذا أحد وجوه ورود هذه الدعوة في نهاية الآيات الآمرة بالحجاب والناهية عن التبرج من سورة النور مع أنه ليس جميع نساء المؤمنين متبرجات لكنهم جميعاً مسؤولون عن وجود هذه المعصية في المجتمع إن لم يكونوا مبتلين

ص: 223


1- مفاتيح الجنان: 240
2- خطاب المرحلة: ج 7 / ص102
3- الصحيفة السجادية (ابطحي): 187
4- راجع كتابنا عن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في فقه الخلاف الجزء الثامن.

فعلاً بدرجة من درجات هذه المعاصي الاجتماعية فانتشار الخلاعة والمجون يصيبهم بالنظرة المحرمة والإثارة غير المشروعة ونحو ذلك والعياذ بالله.ونحن بين يدي شهر رمضان الذي هو من أعظم أسباب التوبة والاستغفار فإنه شهر المغفرة والعتق من النار ومما ورد في خطبة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) التي استقبل بها شهر رمضان في آخر جمعة من شعبان قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ أَنفُسَكُم مَرهُونَةٌ بِأَعمَالِكُم، فَفُكُّوهَا بِاستِغفَارِكُم، وَظُهُورَكُم ثَقِيلَةٌ مِن أَوزَارِكُم، فَخَفِّفُوا عَنهَا بِطُولِ سُجُودِكُم)(1).

ص: 224


1- مفاتيح الجنان /ص172.

ملحق:تحريك الدوافع نحو التوبة والرجوع الى الله تبارك وتعالى

ملحق:تحريك الدوافع نحو التوبة والرجوع الى الله تبارك وتعالى(1)

في مجتمعنا (المسلم) مشاهد عديدة تستوقفنا وتجعلنا نطيل التأمل فرجل مسلم اشتعل رأسه شيباً يسمع المؤذن ينادي (حي على الصلاة) وهو يجلس في المقهى ويلعب الدومينو ويخوض في أحاديث الباطل وكأن النداء ليس موجهاً إليه.

وآخر اذا جنّ عليه الليل عاد الى داره ثملاً قد سلبت الخمر عقله.

أو امرأة مسلمة تمشي بين الرجال سافرة قد كشفت عن شعرها وبعض اجزاء جسدها.

أو شابٌ مسلمٌ تارك للصلاة غارق في اللهو واللعب يتخذ من فنّان فاسق قدوة له يقلّده في أفعاله وأقواله ويحمل على ملابسه علامات الكفار وصور الفساق أو تراه مفطراً في نهار شهر رمضان.

أو ناس مؤمنون يخوضون في الغيبة وانتقاص الناس وتسقيطهم والافتراء عليهم والايقاع بهم.

وآخر يغض النظر عن معاملاته ويحاول ان يجد الف طريقه لتبرير الربح غير المشروع.

ص: 225


1- سلسلة محاضرات أخلاقية توعوية كتبت لالقاءها بمناسبة حلول شهر رمضان/ 1422 ولم يتسنَّ ذلك، لكن سماحة الشيخ القى مختصرها في خطبة صلاة الظهرين يوم عيد الأضحى المبارك /1422 الموافق 23/ 2/ 2002 في جامع الخاقاني في حي الغدير بالنجف الاشرف وكان ازلام النظام الصدامي البائد يراقبون حركة سماحة الشيخ ويحسبون عليه أنفاسه حتى منعوه من صلاة الجماعة والقاء الخطب.

أو طالب وطالبة جامعية وهما ينشأن علاقه (حب) خارج الصيغ الشرعية ويجلسان معاً بعيداً عن أعين النظار في اجتماع غير شريف يكون ثالثهما الشيطان. أو ثريّ ينفق المبالغ الضخمة لأمور تافهة لمجرد الجري على الاتيكيت الرائج بين اقرانه أو للرياء والمباهاة واذا طلبت منه اخراج حق الله سبحانه المتعلق بماله أو مساعدة شاب فقير يريد ان يحصّن نفسه بالزواج أو ارامل وايتام لا معيل لهم اعرض وناء بجانبه وربما نهر السائل واهانه.

وقد تجد عشيرتين تتقاتلان من اجل امور تافهة فتذهب الضحايا وتتلف الأموال.

أو دولتين مسلمتين تتصارعان فتزهق الأرواح ويهلك الحرث والنسل من اجل ما يسمونه بالمصالح أو غيرها من الدعاوي الوهمية وهم يعلمون ان الارض لم تنفد خيراتها بل هي تكفى لهم ولأضعافهم وانهم ليحرقون الحبوب واللحوم من اجل الحفاظ على سعر السوق.

أو تجمعات قد اغواها الشيطان فجمعها على الحرام في مسرح أو ملهى أو غيرها من مراتع الشيطان.

أو الآفاً وملايين من الناس قد اضاعت أموالها وأوقاتها وقد حبست انفاسها وفقدت وعيها من اجل كرة جلديه تافهة تدخل في هذا المرمى أو ذاك وتقوم الدنيا ولا تقعد اذا تغلب احدهما على الآخر ولا اعرف ماذا قدموا بذلك من خير للبشرية.

ص: 226

المعاصي القلبية:-

هذا على المستوى الظاهري واما على المستوى (المعنوي) فان المعاصي أيضاً لها مصاديق واسعة لان من كانت طاعته ظاهرية اي كان مستواه ظاهرياً ورضى ان يحاسب حساباً ظاهرياً فمعاصيه كذلك اي يؤاخذ على المعاصي بالمعنى الشرعي فقط روى الشيخ الكليني في الكافي عن زرارة عن الإمامين الباقر أو الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن الله تبارك وتعالى جعل لآدم في ذريته من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة ومن هم بحسنة وعملها كتبت له بها عشرا ومن هم بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه (سيئة) ومن هم بها وعملها كتبت عليه سيئة)(1) .

ومن كانت طاعاته قلبية باعتباره ممن التفت إلى تطهير القلب وتصفية الباطن فمعاصيه قلبية فيحاسب على الخواطر والنوازل القلبية ويستغفر لذنوب لا يحاسب عليها أهل الظاهر، مثلاً ورد في الحديث النبوي الشريف:(ثلاث لم يسلم منها أحد:الطيرة والحسد والظن، قيل وما نصنع، قال:اذا تطيرت فامض واذا حسدت فلا تبغ، واذا ظننت فلا تحقق)(2) .

فاذا مرّت هذه الخواطر على القلب والتزم بما ذكره (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فلا شيء عليه على المستوى الظاهري لكن المشتغل بتنقية القلب يعتبر نفسه في معصية قلبية

ص: 227


1- الكافي: ج2/ص428
2- تحف العقول: 50، الطبعة الثانية 1404 تعليق علي أكبر الغفاري وفي المتن ذكر الجزء الثاني من الحديث فقط، وفي كنز العمال: (ثلاثة لازمات لأمتي: سوء الظن والحسد والطيرة، فاذا ظننت فلا تحقق، واذا حسدت فاستغفر الله، واذا تطيرت فامض) (ج16 ص20 رقم الحديث 43788)

لمجرد وجود هذه الخواطر في قلبه اذ يفهم ان قلبه لم يطهر تماماً أو قل انه ليس من أصحاب (القلب السليم) بدليل عدم خلّوه من هذه الخواطر، هذا القلب الذي لا ينجو غداً الا أهله قال تعالى {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ، إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}(الشعراء:88-89) ويمدح خليله ابراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بانه من اهل هذا القلب، قال تعالى {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ، إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الصافات:83-84).وتصفيةُ القلب من هذه الاغلال قد لا يكون الا في يوم القيامة ويكون من نعم الله سبحانه على عباده الفائزين {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} (الأعراف:43) {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ ، وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ، لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (الحجر:45-48) ومن هذه الاغلال ان يمتعضّ قلبك عند مدّح أحد تحسده أو تفرح عندما ينتقص رغم عدم مشاركتك في الكلام.

وانما أصبح زواله اي الغل نعمة لأنه ينكد الحياة ويمنع من افراغ القلب لله سبحانه (لم يسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن)(1) والسعادة الحقيقية لا تتحقق الا في هذه المرتبة.

عندما أرى أو أسمع أو أقع - الا ان تتداركني رحمة ربي - في هذه المظاهر وغيرها من اشكال السلوك المنحرف في هذه البشرية التائهة الضالّة أتأمل طويلاً

ص: 228


1- بحار الأنوار: ج55، ص39

ويملأ التفكير أعماقي وأتساءل:الا يعلم هؤلاء ان هذه افعال محرمة لا يرضاها الله سبحانه؟ أو انها مبعدة عنه تبارك وتعالى وموجبة لتقليل الدرجات يوم القيامة؟ فان علموا ذلك فما الذي يجرئهم على معصية الله سبحانه؟ الا يعلم هؤلاء أن امامنا عقبة كؤودا هي الموت وما بعد الموت أعظم وأدهى! وعلى تعبير الامام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عندما وقف على جنازة تلحد في قبرها قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بزفره وكلّه تحقير لهذه الدنيا (ان شيئاً هذا آخره - وهي الدنيا - لحقيق ان يزهد في أوله، وان شيئاً هذا أوله - وهي الآخرة - لحقيق ان يخاف من آخره)(1) .وأتسّاءل اليس هؤلاء مسلمين ويؤمنون بالله - ولو نظرياً - ويؤمنون بالآخرة والمعاد والحساب؟ فلماذا لا ينعكس هذا الايمان على تصرفاتهم؟ فأين الخلل؟

ان كل هذا يكشف عن ان المشكلة ليست على مستوى النظرية اي اقامة الدليل على كل ذلك فان الكتب حافله بما يقنع من له ادنى مسكة عقل، ولم يقصّر علماءنا ومفكرونا في حشد كل ما يمكن ان يقرّب الايمان ويقنع به وانما المشكلة على مستوى التطبيق.

وعلمت عندئذٍ اننا لم نعد - كما كنّا في الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي - بحاجه الى اثبات وجود الله سبحانه فهذه حقيقة لم يبق من يشكك فيها أو قل ان أولياء الشيطان لم يعودوا يفتنون المؤمنين من هذه الجهة(2)

ص: 229


1- ميزان الحكمة، ج2، ص1171
2- لاحظ ان تاريخ البحث قبل سقوط صدام المقبور عام 2003 حيث لم تكن دعوات علنية للإلحاد وإنما حصلت بعد السقوط عندما دخلت المنظمات والمؤسسات الدولية المختلفة، وتيسّرت للناس وسائل التواصل الاجتماعي.

وما عادت مهمتنا اثبات هذه الحقيقة بل ان اعداء الله جاءوا بخطه جديدة تقتضي المحافظة على الشكل الظاهري والقالب الخارجي للدين ونخره من الداخل وتمييع العقيدة في النفوس وافراغها من محتواها وإماتة الوازع الديني بحيث لا يبقى له ادنى تأثير في سلوك المسلم؟؟ فنحن بحاجة إذن إلى زرع وإيقاظ الاحساس بوجوده تبارك وتعالى والتعامل معه على انه موجود فعلاً وليس ايماناً نظرياً فقط وتذكرت الحديث عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ما خلق الله عز وجل يقينا لاشك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت)(1) فانه يقين مئة بالمئة على مستوى النظرية لكنك لا تجد من يؤمن به عملياً بمعنى انه يستعد له الاستعداد الكامل وكأنه كتب على غيره.

فترى الانسان اذا عزم على سفر قد لا يطول شهراً يُعدُّ كل ما يحتاجه أو يحتمل انه يحتاج اليه ويهيئ جميع أموره حتى الحقير منها فلماذا لا يستعد بنفس الاستعداد لسفر الآخرة ويحضرّ زاد هذا السفر الذي بيّنه القرآن الكريم {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (البقرة:197) وقال الامام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وحصّل زادك قبل حلول أجلك) خصوصاً وإنا نعلم ان الحكم - وهو الله تبارك وتعالى - بصير لا تخفى عليه خافيه في السماوات والأرض وهو أقرب الينا من حبل الوريد وشهوده كُثر ومنهم هذه اعضائنا التي نعصيه بها {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (يس:65).

ص: 230


1- الفقيه: 1 / 194 / 596

أعود الى التساؤل اذن كيف نحمل الناس على الالتزام بالشريعة الإلهية وكيف ندفعهم الى التطبيق؟ ولا يُفهم من كلمه (نحمل) و(ندفع) القصر والإجبار والإكراه فهذا اسلوب مرفوض ولا ثمرة فيه وقد قال تعالى {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة:256) فهذا من خيانة التعبير فأننا نريد ان نتعرف على الاسلوب الذي يحبّب الايمان والاسلام الى الانسان ويزيّنه له بحيث ينجذب اليه، تلقائياً ويجده الطريق الوحيد الذي يكفل له سعادته في الدنيا والآخرة ويكرّه اليه الفسوق والعصيان بالضبط عكس ما يفعله الشيطان اللعين {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ، فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (الحجرات:7-8).فوجدت ان ذلك يمكن تحقيقه على ثلاثة مستويات تمثّل عوالم الانسان الثلاثة:

المستوى الاول:النفس

فقد يجد الانسان في الإسلام والإيمان تحقيق نزعاته النفسية وارضاء للقوى والشهوات الغريزية الكامنة فيه فيؤمن لأن الايمان يحقّق له المال أو الجاه أو اي شيء آخر ولا يُفهم من هذا أنه يشمل التوسل بالأمور المحرمة كما لو اردنا ردعه عن الزنا فنجوّز له اللمس او النظرة للأجنبية فان الغاية لا تبرر الوسيلة في نظر الإسلام مهما كانت الغاية سامية لكن مثلاً نريد أن نحث رئيس عشيرة على تطبيق شريعة الإسلام في السنينة العشائرية فلا حاجة إلى الغاء رئاسته ونظام عشيرته بل نبقيه في موقعه ونعطيه الصلاحيات التأديبية التي يحتاجها باعتبار ان الإسلام قد

ص: 231

وضع تعزيرات على التصرفات المحرمة وترك تحديدها بيد الحاكم الشرعي أو من ينيبه فيحصل رئيس العشيرة على السند الشرعي بتخويل الفقيه الجامع للشرائط.أو نريد ترغيب شاب في الحضور في المساجد واداء الصلاة جماعة في أوقاتها فنقول له:ان هذا يعطيك فرصة للتعرف على وجوه المجتمع فاذا عرفوك وثقوا بك فيمكن ان يوجدوا لك عملاً تجارياً معهم أو يتكفلون زواجك إن كان لا يستطيع ذلك .

وهذا الاتجاه وان كان بعيداً عن ذوق الإسلام في التكامل الا انه امضاه وارتضاه لأنه يعلم ان الخطوة الأولى وان لم تكن لله تبارك وتعالى لكن المهم ان يلتفت إلى الإسلام ويعيش في احضانه ويستنشق عبيره وشذاه فان ذلك كافٍ لان يتخلّى عن اهدافه الدنيوية تلك ويصلحها إلى اهداف ربّانية مخلصه وهكذا كانت هداية رجال اصبحوا من عظماء الإسلام فقد روي ان حمزه بن عبد المطلب سيد الشهداء أسلم حينما أدركته العصبية لعشيرته وهو يرى قريش تؤذي ابن أخيه وتصبّ جام غضبها عليه وليس له ناصر الا الله سبحانه فادركه العرق الهاشمي وانتصر لابن أخيه وأعلن إسلامه ارغاماً لقريش فكانت تلك فاتحه الخير له وللإسلام(1) .

ص: 232


1- روي عن الامام زين العابدين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال (لم يدخل الجنة حمية غير حمية حمزة بن عبدالمطلب وذلك حين أسلم غضباً للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حديث السِلّا الذي ألقي على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (بحار الأنوار:18/ 211، 73/ 285). والسلا هو ما يرافق جنين الحيوان حين ولادته كالجلد الرقيق الذي يحيط به وان ابا جهل وضع سلا جزور على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهو يصلي.

ويندرج في هذا المستوى تخصيص جزء من الزكاة للمؤلفة وهم الذين لم يستقر الايمان في قلوبهم فيأتلفهم بالمال ليحسن اسلامهم وهكذا فعل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حينما وزّع غنائم حنين على مشركي قريش بالأمس وطلقائه اليوم بعد فتح مكة ولم يعطِ الانصار شيئاً فظنّوا ان ذلك لموجدة في قلبه عليهم فجمعهم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقال:ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعباً، لسلكت شعب الأنصار. اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار. وأبناء أبناء الأنصار. قال:فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا:رضينا برسول الله قسماً وحظا. ثم انصرف رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتفرقوا)(1) .وورد هذا الاتجاه في طلب العلم فقد روى عنهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنهم قالوا (تعلموا العلم ولو لغير الله فإنه سيصير لله)(2) اذ بعد ان يمس العلم شغاف القلب ويتنور بالمعرفة فانه سيعود الى الله تبارك وتعالى والمهم هي البداية.

بل ان هذا الاتجاه مقبول ومشروع على مستوى الآخرة فترى القرآن الكريم يطمع المؤمنين بحور عين وولدان مخلدين ولحم طير مما يشتهون وانهار من عسل مصفى وخمر لذة للشاربين في جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها

ص: 233


1- صحيح البخاري: ج3 /ص69،70،71
2- شرح نهج البلاغة ج20 -- ابن أبي الحديد، ص267/ ح98

وفوق ذلك ما تشتهيه الأنفس وتلذ العيون بل ما لا عين رأت ولا اذن سمعت وهي عبادة التجار على تقسيم أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهي دون عبادة الأحرار(1).وقد نقل لي بعض المتقدمين(2) في درجات السلوك الصالح انه سأل استاذه اننا كيف نجاهد أنفسنا ونمنعها من لذاتها من اجل أنفسنا ولذاتها في الآخرة طبعاً فقال:هكذا أدبنا المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).

وتوجد أجوبه أخرى (منها) ان هذه زائله وتلك باقية - وفيه - انه لا يغير من الاشكال شيء (ومنها) ان جنة هؤلاء ليست من قبيل هذه النعم وانما لذات معنوية.

ومما ينبغي ملاحظته هنا انه لا ضير من ان يكون لحم الطير وحور العين حتى لأصحاب اللذات المعنوية والمقامات العالية كما انهم في هذه الدنيا في جنتهم الحقيقية ومع ذلك فهم يأكلون ويشربون وينكحون غاية الأمر ان أفعالهم هذه ليست مطلوبة في نفسها ولا للتلذذ بها وإنما لقضاء حاجة الجسم فتكون الاستفادة منها موظفة لخدمة الهدف وتكون جزءاً من التكامل لا عائقاً عنه وإنما الذي نجلّهم عنه ان يكون هدفهم هذه الجنة وسد الحاجات ودفع ألم الحاجة كما يقولون جزء من السعادة وأحد مقوماتها.

ص: 234


1- أنظر: بحار الأنوار- المجلسي: 41/ 14
2- هو السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في بعض رسائله الاخلاقية الى سماحة الشيخ ولم يذكر الاسم مراعاة للظروف آنذاك وقد نشرت الرسائل لاحقاً في كتاب قناديل العارفين.

المستوى الثاني:

العقلبأن نقيم الأدلة والبراهين والحجج المقنعة على صحة المعتقدات وطريقة الشرع ووجوب الالتزام بالشريعة الإلهية فاذا كان الإنسان منصفاً فلا يجد محيصاً عن الإيمان بنتائج تلك البراهين، اما المجادل والمكابر ومن اتبع هواه فلا ينفع معه دليل ولا برهان {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} (البقرة:145) اي هدفك وغايتك {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ ، لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ}(الحجر14-15) ولقد أُلّفت كتب كثيرة بهذا الاتجاه بحيث لم تترك عذراً {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (الأنعام:149) وفتح علم خاص لهذا المجال وهو علم الكلام أو العقائد.

وقد وردت أحاديث(1) كثيرة في فضل العلماء الذين يتصدون لنفي الشبهات عن العقائد الحق وحماية الناس من الضلال والانحراف وان أفضل المجاهدين والمرابطين في سبيل الله هم العلماء المرابطون على ثغور ابليس يردّون عن عباد الله اباطيله وضلالاته وان أشد من يتيم الأبوين يتيم انقطع عن أبيه المعنوي وهو إمامه الذي يتكفل برعايته وتربيته في حياته المعنوية فهو أولى بالرعاية والعطف والحنان وأعظم اجراً عند الله تبارك وتعالى.

ص: 235


1- راجعها في بحار الأنوار: 2/ 1-15

وان من مسؤوليات العالم المخلص ان يظهر علمه عند الفتن وانتشار الشبهات حتى يظهر الحق ويزهق الباطل ان الباطل كان زهوقا ليوهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة.

المستوى الثالث:القلب

واعني به تلك اللوحة الربانية البيضاء الناصعة التي ان صفت ونقت مما يكدّرها وتعب صاحبها على جلائها كانت مرآة صافية تعكس الحقائق عن اللوح المحفوظ من دون كسب وتحصيل فيجد صاحبها كله حاضراً عنده ومنقوشاً في باطنه، والقلب هو ساحة الصراع بين جند الشيطان وقوى النفس الامّارة بالسوء وشهواتها واهوائها ودواعي السوء فيها وبين جند العقل وأدلته وبراهينه ومعارفه {وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} (يوسف:24) فان تغلّب العقل كان منيراً بنور معرفة الله سبحانه وتعالى وبألطافه طافية وفي فيوضاته، ففي الحديث القدسي (لم يسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن)(1) .

وتجلّت فيه صفات الكمال وغُلَّت النفس الأمّارة بالسوء وكانت ميولها وشهواتها مهذبة ومؤدبة بأدب الله تبارك وتعالى لا تحيد عنه وزمامها بيد الشرع الحنيف.

وإن غلب جند الشيطان - والعياذ بالله - كان مظلماً ومأوى للشياطين ويُغلُّ العقل ويُسخّر لخدمة الشهوات كما تراه في أولياء الشيطان واتباعه الذين ما فتئت عقولهم تتفتق عن المزيد من الحيل الشيطانية لتحقيق شهواتهم ومطامعهم.

ص: 236


1- بحار الأنوار: ج55، ص39.

وعندما تأمّلت في تجارب المصلحين وسبرت اغوار التأريخ لأجد اي هذه المسؤوليات أعمق تأثيراً وأعظم انتاجاً، ودققت النظر أكثر في أعظم نقلة عاشتها البشرية وهي التي حصلت في صدر الإسلام على يد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حيث سمت البشرية من حضيض الجاهلية إلى قمة الإسلام الرفيعة وفي فترة قياسية هي قصيرة جداً في عمر الزمان.ولمعرفه عظمه هذه النقلة تستطيع ان تقارن بين حال الأمة قبل الإسلام وحالها بعده فكانوا قبل الإسلام يرتكبون جريمة وأد البنات - اي يدفنونهن في التراب وهن احياء خوف العار - ويغير بعضهم على بعض فيقتل ويسلب وينتهك الأعراض، والقوي يأكل الضعيف قد تفشّت فيهم الفواحش من الزنا وشرب الخمر وهم عاكفون على عبادة حجارة لا تضر ولا تنفع، فكيف أصبحوا بفضل الله ورحمته؟ اصبحوا متآخين متحابّين يؤثرون غيرهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة حتى لو كان لأحدهم رغيف من الخبز أعطى نصفه لأخيه واكتفى بالنصف الآخر، واذكر مثالاً واحداً كشاهد على عظمة تلك النقلة فقد روى العدوي انه سمع جريحاً في معركة القادسية يطلب الماء فجاءه ليسقيه فسمع آخر يطلب الماء فقال الجريح اسق أخي أولاً فلما اتاه سمع ثالثاً يطلب الماء فقال اسق أخي فلما أتاه وجده قد مات فرجع إلى الثاني فوجده قد مات وكذا الأول، مثل هذا المستوى الرفيع خلقه الإسلام في تلك الأمة، ولا أريد ان أدخل في تفاصيل هذه التجربة العظيمة فأنها تستحق أفراد كتاب(1) مستقل لها لبيان الدروس المستفادة من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في هذا المجال تطبيقاً للآية الشريفة {لَقَدْ كَانَ

ص: 237


1- أنجز هذا الكتاب لاحقاً وطبع بعنوان (الأسوة الحسنة) .

لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب:21) عسى الله ان يوفقنا لإنجازه، والذي اريد ان أقوله هنا ما قيل من ان اواخر هذه الأمة لا تصلح الا بما صلح به اوائلها، وقد صلحت اوائل هذه الأمة بهذا العلاج الشافي:القرآن الكريم(1) كما وصف نفسه انه هدى ورحمة وشفاء لما في الصدور وببركة المعالج وهو رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وجهوده الجبارة وصبره المضني ومهمتنا في إصلاح المجتمع اسهل بالتأكيد لأننا نتعامل مع ناس مسلمين أولاً مهما كان درجه ابتعادهم عن الله سبحانه ومتحضرين ومثقفين ثانياً ونأتي على خلفيه تربية طويلة قام بها الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من بعد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومن بعدهم العلماء الأبرار المخلصون عبر هذه القرون الطويلة وعندما نريد ان نستفيد من تجربة القرآن نجد أنه قد كرّس نفسه طيلة مدة النبوة في مكة (وهي ثلاث عشرة سنة أي الجزء الأكبر من زمان النبوة) لإحياء القلوب والعقول وتطهير النفوس ولم يبلّغ الاحكام الشرعية الا بعد ان وصلت الأمة إلى درجة من السمو الروحي والنضج العقلي والايمان الراسخ وحينئذٍ حمّلهم الاحكام فاستجابوا لها وامتثلوها بلا أدنى تردد فكان ذلك المجتمع المثالي الذي لم تشهد له البشرية مثيلاً فلا انحراف ولا جناية ولا مشكلة الا ما ندر جداً مما لا يكاد يذكر فنحن -- كحوزة شريفة -- محتاجون إلى هذا الاحياء اكثر من حاجتنا الى تبليغ الأحكام، وان إيصال الأحكام الفقهية -- مهما كان مهماً -- الا أنه وحده لا يكفي بل لابد معه

ص: 238


1- تناول سماحته هذه النقلة العظيمة في حياة الأمة في كتابه (شكوى القرآن) وفي (الأسوة الحسنة).

من احياء القلب والضمير والعقل والا فأن الأحكام الفقهية المثبتة في الرسائل العملية لا تكون فاعلة ومؤثرة ومحركة الا اذا امتزجت بما يحيي القلب ويوقظ العقل ويحرّك الضمير.وأنت اذا سبرت آيات القرآن الكريم فستجد انه حرّك المسارات الثلاثة المتقدمة واستفاد منها ووظّفها في عملية الهداية والإصلاح.

فعلى الصعيد الأول وهو المستوى النفسي تجده يربط بين الايمان وتوافر النعم {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ} (الأعراف:96) {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً} (الجن:16) {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ، يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا ، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} (نوح:10-12) ويربط بالمقابل بين العصيان ونزول النقم {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (الشورى:30) {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (يونس:98) {وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (الأعراف:96) هذا في الدنيا واما في الآخرة فمن الواضح الذي لا يحتاج إلى بيان لكثرته وتواتره ما أعدّ الله تعالى للمطيعين من النعم ما لا عين رأت, ولا اذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر)(1) وما اعدّ للكافرين من

ص: 239


1- بحار الأنوار- المجلسي: 8/ 92

الوان العذاب ومن يتصفح القرآن خصوصاً في قسمه المكي يطّلع على الصور المشرقة السعيدة لحياة المؤمنين والحياة النكدة المعذبة الشقيّة للكافرين.وعلى المستوى الثاني فقد ضمّ القرآن استدلالات وبراهين واحتجاجات كثيرة على مختلف العقائد والمعارف الإلهية كقوله تعالى في اثبات التوحيد {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء:22) وقوله {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} (لقمان:11) وأكّد على ضرورة الحوار {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} (آل عمران:64) وإقامة البرهان وعدم جواز التقليد من غير دليل {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة:111)، {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي} (هود:88)، {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (يونس:59) .

واما على المستوى الثالث وهو الأهم والأعمق تأثيراً والأشد رسوخاً لأن الإيمان اذا كان عن دليل عقلي محض فيمكن ان تزيله مغالطة عقلية لا يفهم الشخص وجه الشبهة فيها اما اذا كان عن طريق القلب واستقر فيه فلا يزيله شيء، من هنا قال ابراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (البقرة:260)، من هنا كان أفضل مدخل لصنع شخص مليء بالإيمان من رأسه إلى أخمص قدميه هو قلبه فترى القرآن تارة يثير في القلب مشاعر الحب لله سبحانه بما يبين من أوصاف الكمال فهو الرحيم بعباده أكثر من الأم الحنون بولدها وهو الساتر عليهم والحليم عنهم والرازق لهم وهو الهادي والمنعم والكريم والعليم والقوي والقادر وغيرها من الاسماء الحسنى واذا

ص: 240

احبّ الانسان شيئاً اندفع إلى طاعته وتلبية رغباته من دون ان ينتظر مكافئة او أجر فالأب يسعى بكل ما عنده لإدخال السرور على أولاده واسعادهم وكذا الأم وقد يضحيان بحياتهما من اجلهم لا لمطمع عندهم ولا للخوف منهم سوى الحب لهم. وتارة أخرى يثير مشاعر الرهبة والخوف بما يصف من مشاهد يوم القيامة ويحكي من أحوال ما بعد الموت.

محفزات للتشجيع على التوبة:-

فكيف نستفيد من هذه التجربة القرآنية، وكيف نستثمر هذه الاتجاهات الثلاثة لهداية الناس وجذبهم الى طاعه الله سبحانه وكيف ننزع من عقول الناس وقلوبهم بان الالتزام بالشريعة تقييد للحريات وانها تكليف وعبئ ثقيل نبدله الى سعادة وسرور بهذا التشريف الإلهي العظيم، نحاول هنا - بإذن الله تعالى- اثارة عدة محفّزات تندرج ضمن هذه الاتجاهات الثلاثة وهو ما اتبعه الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فإنما كانوا يعظون الناس ويهدونهم بطرق شتى فواحد من جهة النفس كذاك الناصبي الذي اغدق عليه الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) العطاء فتحوّل الى موالي وهو يقول (الله اعلم حيث يجعل رسالته)(1) وآخر من جهة الدليل والبرهان ككثير من اليهود والزنادقة(2) وآخر من جهة القلب بإثارة العلاقة الوجدانية مع الله تعالى والتذكير بالموت وحساب الآخرة كأسلوب الامام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مع بشر الحافي في القصة المعروفة(3).

ص: 241


1- أنظر: مقاتل الطالبيين- الأصفهاني: 332
2- أنظر: الاحتجاج- الطبرسي: 1/ 312
3- تقدمت ص163

ومن ذلك ما روي ان رجلاً قال للامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(يابن رسول الله دلني على الله ما هو فقد كثر عليَّ المجادلون وحيروني، فقال له:ياعبد الله هل ركبت سفينة قط، قال:نعم، قال فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك، ولا سباحة تغنيك؟ قال:نعم، قال:فهل تعلق قلبك هنالك أن شيئا من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك؟ قال:نعم، قال الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):فذلك الشيء هو الله القادر على الانجاء حيث لا منجي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث(1). وهو ما يسمى بالوجدان وهذا ناشئ من اختلاف المؤثرات على الناس فمن الضروري ان تتعدد الأساليب والمصلح الذكي المسدّد هو الذي يعرف أفضل باب يدخل منها وعندئذ سيجدون أكثر من مبرر للحرص على طاعة الله سبحانه والتعلّق بها والتضحية من اجلها والشعور بالسرور والسعادة لدى الالتزام بالشريعة.

الاول:

ان التكاليف الشرعية ليست طوقاً في عنق الإنسان ثقيلاً يريد ان يتحرر منه بل هو تشريف له، واضرب لك مثالاً معاشاً فلو ان الملك أراد أمراً معيناً كافتتاح مشروع فأناب إنساناً بدلاً عنه كم سيكون هذا الإنسان محظوظاً ان ينال شرف النيابة عن الملك ويتحدث باسمه فكذلك الانسان اختاره الله سبحان ليكون خليفته في هذه الأرض {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة:30) والله ملك الملوك وربهم وخالقهم فكم تكون عظمة النعمة ان يستخلف أحداً ويسخر له كل ما في الارض {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} (البقرة:29) وينقل عن

ص: 242


1- بحار الأنوار: ج 3 / ص 41.

شخص عارف انه احتفل يوم بلوغه سن التكليف الشرعي لأنه يوم تشريفه بأعظم النعم.الثاني:

ان الشريعة الإلهية إنما وضعها الله سبحانه لتنظيم حياة البشر وهدايتهم إلى ما فيه صلاحهم لأنه خالقهم وهو العارف بما يصلحه فان اي جهاز يعطل نرجع الى الشركة المصنّعة للجهاز تعرف عيبه وطريقة إصلاحه والله هو خالق الإنسان وصانعه فهو العارف بمناشئ انحرافه وطرق علاجها ومن القبيح والمستهجن ان نرجع إلى نفس الإنسان التائه الضال ليرسم لنا طريق الصلاح وقد جرّبت البشرية كل النظم الوضعية فزادتها سوءاً على سوء وظلماً على ظلم ومازالت تتجرع ويلات تلك النظم البشرية، والنتيجة ان الالتزام بالتعاليم الإلهية هو الطريق الوحيد الذي يضمن للبشرية سعادتها واستقرارها وطمأنينتها وانت ترى بعينك وتحس سعادة المؤمن واستقراره الروحي حتى وان مرّت به الوان المصائب وانواع المصاعب في مقابل الكافر الفاسق وصراعه النفسي وانحرافاته نتيجة الخواء الروحي الذي يعيشه فتجد حياته نكدة معذبة وهو في ذروة الرخاء المادي وربما آل به الأمر إلى الإنتحار مما لا تجده في المجتمعات المؤمنة {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} (طه:124). وهؤلاء الذين يريدون اسقاط الدين والغائه من الحياة باسم الحرية الذي هو مصطلح شفاف وتهفو له النفوس، اسألهم ماذا تعنون بالحرية هل الانفلات واللانظام وعدم الخضوع لأية ضوابط وكل واحد يفعل ما يشاء ويحلو له؟ سيقولون لا طبعاً لان هذا معناه الهمجية والفوضى ولا يقوم اي تجمع بشري الا على نظام وقانون ينظم حياة البشر ويقنّن العلاقات

ص: 243

بينهم ويحدد الحقوق والواجبات ويرصد المخالفات ويجعل لها العقوبات وبدونه لا تستقيم حياة البشر قلنا:عندئذٍ فأي قانون أفضل يضعه الله سبحانه خالق البشر والعارف بما يصلحهم والمطّلع على سرائرهم ذو القدرات اللامتناهية والكمالات غير المحدودة من العلم والقدرة والرحمة والحكمة والعدل والغنى وغيرها ام يضع القانون بشر قاصر يقول اليوم شيئاً ويتراجع عنه غداً ويلغي اليوم ما قرره بالأمس وهو بين هذا وذاك لا يعرف نفسه فضلاً عن ان يعرف غيره. الثالث:

ان من شأن كل عاقل ان يرد الجميل بالجميل ويجازي الاحسان بمثله {هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ} (الرحمن:66) {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (القصص:77)، ونعم الله تعالى علينا كثيرة سواء على صعيد ابداننا التي هي عبارة عن معامل ومصانع كثيرة تعمل بدقة واتقان وابسط مراجعة لكتاب (الطب محراب الإيمان) تنبئك عن هذا مما يوقف شعر رأسك أو على صعيد الحياة حولنا من كون متناسق وأرض طيبة معطاء ونعم لا تعد ولا تحصى {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} (النحل:18) وجزاء هذا الإحسان إحسان مثله ولما كان الله غنياً عن عباده ولا يمكن ان يصل إليه نفع من أحد فردُّ الإحسان بالنسبة إليه طاعته ومن اشكال شكر النعم ان تطيع المنعم بها اما عصيانه مع نعمه الوفيرة فهذا مما لا يرتضيه عاقل.

ص: 244

الرابع:ان كل واحدٍ منا يحب ان تزيد النعم عليه وهي بيد الله سبحانه المنعم الحقيقي وقد وعدنا سبحانه {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} (إبراهيم:7) وفي الحديث (بالشكر تدوم النعم) فعلى من يرجو إفاضة النعم وزيادتها وكل إنسان مجبول على حب الاستزادة من المال والبنين والجاه والصحة وغيرها من نعم الله سبحانه فعليه أن يطيع الله سبحانه ويشكره ليزيده الله سبحانه من النعم {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ} (الأعراف:96).

الخامس:

أنه اذا أخبرنا إنسان ثقة بأن حيواناً مفترساً في هذه الجهة فأننا سنهرب بالاتجاه المعاكس ونحذر منه ونتخذ الاجراءات الواقية من الوقوع في الخطر، فاذا أكد هذا الخبر ثقة آخر ازدادت استعداداتنا لذلك وكنّا أكثر حزماً، وقد أخبرنا مئة وعشرون الف نبي انه سيكون يوم القيامة ويثاب فيه المطيع على طاعته ويعاقب العاصي على معصيته بنارٍ وقودها الناس والحجارة افلا يوجب هذا الحذر والابتعاد عن كل ما يورطنا في هذه النار المتأججة وقد وضعها القرآن الكريم بمشاهد مرعبة وأخبرنا أن معصية الله سبحانه توقعنا فيها وان طاعته تورثنا جنة عرضها السماوات والأرض فيها ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر(1) {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم} (السجدة:17).

ص: 245


1- بحار الأنوار- المجلسي: 8/ 92

السادس:علينا ان نتذكر ان وراءنا عقبة كؤوداً وشدائد وأهوال أوّلها وأيسرها الموت الذي وُصف بأن نشراً بالمناشير وقرضاً بالمقاريض أهون من سكرة من سكرات الموت هذه الأهوال التي يستغيث منها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أكمل الخلق فيقول في نزعه الأخير (حبيبي جبرئيل عند الشدائد لا تخذلني)(1) ويقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) نفس رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في تلك الحال (وعليكم السلام يا رسل ربي)، وقال:{لِمِثْلِ هذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} (سورة الصافات:61)(2) ويبكي الامام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في لحظاته الأخيرة فيُسأل عن سبب بكائه فيقول:(أبكي لفراق الأحبة وهول المطّلع)(3) هكذا يعرف الموت من كشف له الواقع اما نحن ففي غفلة عنه حتى نراه {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ}(ق:19) ولكن ليس من شأن المؤمن الواعي ان لا يلتفت إلى الشر والخطر حتى يقع فيه وقد نبّهنا إليه الراسخون في العلم:محمد وآل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ووصفوه بأبلغ وصف (خصوصاً في نهج البلاغة) لا يقدر عليه حتى من عاشه ورآه ودخل فيه، هذا ما ينتظرنا فماذا أعددنا له؟! معصية الخالق تبارك وتعالى والاعراض عنه والتمرد على شريعته التي هو غني عنها وانما هي لخيرنا وسعادتنا.

ص: 246


1- بحار الأنوار: ج 22 / ص510
2- وفاة الإمام أمير المؤمنين.
3- أمالي الصدوق ص133 ، العيون ص168.

وعلى الانسان البعيد عن الله سبحانه ان يعي حقيقة ان الموت لا يعرف صغيراً ولا كبيراً .فكم من صحيح عاش من غير علة *** وكم من عليل عاش حيناً من الدهر

وكم من فتى يمسي ويصبح غافلاً *** وقد تُسجت اكفانه وهو لا يدري(1)

إن حالنا في هذه الدنيا يمكن تصويره بشخص مدلّى في حبل داخل بئر عميق وفي قعر البئر تنين عظيم فاتح فاه ينتظر سقوط هذا الشخص ليلتهمه وتوجد فأرتان تقرضان بالحبل من أعلاه ولا يدري هذا الشخص متى يتم قرض الحبل فيقع فريسة لهذا التنين وهو في هذا الجو المرعب بدلاً من ان يعدّ العدة لتدارك هذا الخطر والاستعداد لمواجهته {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (البقرة:197) أقبل على عسل مخلوط بالتراب على جدران البئر يلعق به ويزاحم الحشرات والديدان المتهالكة عليه، هذا هو حالنا فالتنين هو الموت والحبل هو العمر والفأرتان هما الليل والنهار اللذان يُبليان كل جديد والعسل هذه الملذات الدنيوية المليئة بالمنغصات وهي لذة ساعة لكنها تورث حسرة دائمة.

السابع:

اننا خلقنا لهدف واحد وهو إعمار الحياة بما يرضي الله سبحانه والتكامل في طريق الوصول وقد اعطينا رأس المال الذي نتجر به ونكسب ونجني منه ثمار هذا الطريق ونحن في معاملاتنا الدنيوية عندما نتجر برأس مال فأننا نستقصي التجارة

ص: 247


1- ديوان الامام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 78

التي تدر أكثر ارباحاً ولا نفرّط في شيء من رأس مالنا وتأخذنا الحسرة والندامة لو فرّطنا في فرصة كان يمكننا ان نحصل على ربح أكثر وهذه الصورة نفسها نعيشها نحن بوجودنا في الحياة الدنيا فرأس مالنا هو العمر والهدف من التجارة نيل رضا الله سبحانه وقد منَّ الله سبحانه علينا بنعم كثيرة فكلما استثمرناها في تحقيق الهدف كانت تجارتنا أكثر ربحاً وكلّما قصّرنا فسنعضُّ على أصابع الندم {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ -- والظالم كل من فعل معصية -- عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا ، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا ، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولا} (الفرقان:27-29) نندم على كل لحظة مرّت علينا لم نوظّفها فيما يرضي الله سبحانه فضلاً عن هدرها في معصيته -- والعياذ بالله -- ومن اسماء يوم القيامة أنه يوم التغابن راجع سورة التغابن وفيها قوله تعالى {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} (التغابن:9) وقد ورد ان الجميع يشعرون بالغبن حتى المؤمنون لأنهم ينظرون إلى المراتب الأعلى منهم وكانوا يستطيعون الحصول عليها لو استغلّوا وقتهم بالشكل الصحيح فيتأسفون على إضاعة الفرصة ومن هنا جاء في وصية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأبي ذر (ره) (يا أبا ذر اغتنم خمساً قبل خمس..) (1) وفي الأخبار ان عمر الانسان بكل لحظاته يعرض عليه على شكل خزائن تفتح له الواحدة تلو الأخرى فما كان منها مستثمراً في طاعة الله سبحانه وجد في تلك الخزينة روحاً وريحان وان كانت معصية والعياذ بها هبّت عليه منها نار محرقة وان لم تكن لا من هذه ولا هذه بأن قضاها في المباحات الخالية من نية

ص: 248


1- بحار الأنوار- المجلسي: 74/ 75

القربة كالنوم والطعام والنكاح فسيراها فارغة فيندم على ما أضاع من عمره ويجب ان نلتفت إلى ان هذه المباحات أيضاً يمكن أن تكون طاعات يتقرب بها إلى الله سبحانه فيما لو صبّت في الهدف فينام ليريح بدنه ويجدّد نشاطه لعمل جديد ويأكل ليتقوى على طاعة الله سبحانه وينكح النساء ليحصن نفسه وزوجته من الحرام وليزيد عدد النسمات التي توحّد الله تبارك وتعالى على هذه الأرض ويفرّغ همه لطاعة الله سبحانه وهكذا إلى ما شاء الله من النيّات الصالحة المقرّبة إلى الله سبحانه وبهذا المضمون ورد حديث رواه الصحابي الجليل ابو ذر الغفاري عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في وجوه الصدقات الى أن قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (وفي بُضع أحدكم صدقة) قالوا يا رسول الله:أياتي احدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟، قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(ارأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر فكذلك اذا وضعها في الحلال كان له أجر) (1).خبر على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال (لأبي ذر - ضمن وصية جامعة له -:ولك في جماعك زوجتك أجرٌ.. قال أبو ذر:كيف يكون لي أجرٌ في شهوتي؟.. فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):أرأيت لو كان لك ولد، فأدرك ورجوت خيره، فمات، أكنت تحتسبه؟ قلت:نعم، فقال:فأنت خلقته؟، قال:بل الله خلقه، قال:أفأنت هديته؟، قال:بل الله هداه، قال:فأنت ترزقه؟، قال:بل الله كان يرزقه، قال:كذلك فَضعَهُ في حلاله، وجنبه حرامه، فإن شاء الله احياه، وإن شاء أماته، ولك أجر) (2).

ص: 249


1- صحيح مسلم 330 كتاب الزكاة، باب 16، ح(1006):.
2- شعب الإيمان- البيهقي: 7/ 514

أفبعد هذا كله يلهو الانسان ويلعب أو يضيع وقته في الأمور التافهة فضلاً عن ان يجرّ على نفسه الويلات بما يجترح من السيئات {رِجَالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} (النور:37).الثامن:

انه لابد للإنسان من اله يعبد فأن لم يكن الله سبحانه هو اله المعبود فسيقع في عبادة الإلهة الأخرى وكفى بذلك ضلالاً وخسراناً مبيناً {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ، مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} (الصافات:22-23) فما هي هذه الإلهة التي يطيعها الإنسان البعيد عن الله سبحانه لأن معنى العبادة هو الطاعة والانصياع لذا ورد في تحف العقول عن الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من أصغى إلى ناطق فقد عبده)(1) فالذي يطيع نفسه الأمارة بالسوء ويلبي شهواتها فقد اطاعها وعبدها قال تعالى {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} {الجاثية:23) ومن الإلهة الأخرى {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (يس:60) {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة:31)، {مَا نَعْبُدُهُمْ - الأصنام - إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر:39)، {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا

ص: 250


1- تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 456

السَّبِيلا} (الأحزاب:33)، {إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ} (الأعراف:173) فأي عاقل يرضى بأن يخرج من حصن ولاية الله العظيم وطاعته إلى ولاية هذه التوافه التي لا تملك لنفسها فضلاً عن غيرها ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياءاً ولا نشورا وفي مقابلهم من أخلص الطاعة لله سبحانه {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ، وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ، قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ، قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي ، فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ، لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ، وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّ-رْ عِبَادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ، أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ ، لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} (الزمر:11-20) استمع الى الله سبحانه يحكي لك الحوار الذي سيدور بين العاصي لله سبحانه وآلهته التي اطاعها من دونه تبارك وتعالى والتي أهمها النفس الأمارة بالسوء التي وصفها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعاء الصباح (فَبِئْسَ الْمَطِيَّةُ الَّتي امْتَطَتْ نَفْسي مِنْ هَواها فَواهاً لَها لِما سَوَّلَتْ لَها

ص: 251

ظُنُونُها وَمُناها، وَتَبّاً لَها لِجُرْاَتِها عَلى سَيِّدِها وَمَوْلاها) (1) وفي دعاء آخر (وَتَجْعَلُنِي عِنْدَكَ أَهْوَنَ هالِك) (2){وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ، وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ ، مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ ، فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ، وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ، قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ ، تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ، إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ ، فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ، وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ، فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} {الشعراء:90-103) وهم كاذبون في هذه الدعوى قال تعالى {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} (الأنعام:28).

هذا الاعتزاز والسمو بعبادة الله سبحانه ونبذ ما سواه هو ما عبّر عنه أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إلهي كفى بي عزاً أن أكون لك عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي رباً، إلهي أنت لي كما أحب فوفقني لما تحب)(3) .

والمفارقة الصارخة التي تجعل هؤلاء العصاة يدسّون رؤوسهم في التراب ان تكاليف عبادة ما سوى الله سبحانه هي أضعاف تكاليف عبادة الله سبحانه بغض

ص: 252


1- مفاتيح الجنان: 94
2- مفاتيح الجنان: 167
3- بحار الأنوار: ج 91/ ص 94

النظر عن العاقبة(1) في الآخرة فالمرأة المحجبة لا تحتاج إلى أزيد من غطاء لرأسها وازار لجسمها بينما السافرة تحتاج ان تشتري انواع البدلات والثياب لأن (الاتيكيت) لا يرضى لها ان تثبت على لباس واحد وان تصفف شعرها على أحدث الموديلات وان تضع انواع المساحيق والعطور وأدوات التجميل وغيرها من المستلزمات لهذا العرف الشيطاني من حقائب وأحذية والآت الزينة والغرب الكافر حينما جرّ مجتمعنا الإسلامي إلى هذا الوضع المنحدر لم ينظر إلى هزيمة ديننا واخلاقنا ونظامنا الاجتماعي المتماسك بل استهدف أيضاً إلى الجانب الاقتصادي حيث أصبحت بلادنا سوقاً رائجة لتصريف منتجاته الشيطانية. هذا مثال على الصعيد الفردي ومثال آخر على الصعيد الاجتماعي مثل الأمة قد تحتاج إلى تقديم عدد معين من الضحايا والقرابين لنيل حريتها وكرامتها وشرفها لكن تخضع وتستكين للذل وتقاعس عن اداء الواجب فتدفع أضعاف ذلك العدد وهي على ما هي عليه من الهوان والضِعة فالإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عندما طلب من الأمة ان تقول كلمة الحق في وجه يزيد وتقف في وجه انحرافاته ولو كلّفها بعض التضحيات ولمّا أخلدت إلى الأرض وتعلّقت بالدنيا وتشبثت بها وبخلت على الله تعالى بالقرابين اذاقها الذل والهوان عن محمد بن عرفة قال سمعت أبا الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول:لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم)(2) ودفعوا في وقعة

ص: 253


1- لبيان تفصيل هذه الفكرة راجع موسوعة خطاب المرحلة: 10/ 73, والقبس/48, {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} (الأنفال : 36), من نور القران: 2/ 91
2- تهذيب الأحكام- الشيخ الطوسي: 6/ 176/ح1

واحدة هي واقعة الحرة:عشرة الاف انسان. وهذه سنة الله سبحانه جارية في الأمم جميعاً. فهؤلاء البعيدون عن الله سبحانه انما يلهثون وراء سراب {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (النور:39).

التاسع:

نقول له:ماذا يخسر الانسان لو اطاع الله سبحانه؟! لا يخسر شيئاً بل هو يعيش ويتمتع بالحياة كما يفعل البعيد عن الله سبحانه وفوق ذلك له المكاسب الدنيوية والأخروية التي يحققها له الايمان بالله سبحانه والسير على شريعته، قال تعالى {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (الأعراف:32) وفي آية أخرى {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} (النساء:104).

وقد اتبع هذا الاسلوب الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حين قال لابن ابي العوجاء:- وهو من زعماء الملحدين-:في موسم الحج وكان يسخر من الطواف حول الكعبة (إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء وهو على ما يقولون يعني أهل الطواف فقد سلموا وعطبتم، وإن يكن الأمر على ما تقولون وليس كما تقولون فقد استويتم وهم) (1). وهو اسلوب لا يستطيع ان يرفضه اي عاقل.

ص: 254


1- بحار الأنوار: ج 3 / 43 عن كتاب التوحيد للصدوق:125 باب 9 ح4.

العاشر:أنه لو خُيّرتَ بأنك هل تريد أن تدخل في تجارة تعطي فيها ديناراً فيردّ عليك بسبعمائة دينار والله يضاعف لمن يشاء فتصلي خمس صلوات في اليوم وتصوم شهراً في السنة وتحج مرة في العمر إن استطعت وتجتنب الخمر والخنزير والزنا والسرقة لمدة سبعين سنة مقابل ان يدخلك الله جنة عرضها السماوات والأرض تجد فيها كل ما تشتهي حاضراً عندك من دون عناء ولا منغصات خالداً فيها وان تلك الحياة الدنيا لا تشكّل الا جزءاً يسيراً يوم من الحياة الخالدة {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (الحج:22) فأي عاقل لا يرضى بهذه المعاوضة فيعطي التراب ويأخذ الذهب؟ كلّنا عُرض علينا هذا الأمر فوافقنا عليه وأخذ الله سبحانه منّا العهود والمواثيق على الالتزام بهذا العهد فلما خرجنا إلى الدنيا نسيناه {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ، أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} (الأعراف:172-173).

الحادي عشر:

ان حقيقة يجب أن نصدّق بها ونعيشها في وجداننا وهي ان الله تعالى معنا أينما كنّا من حيث الزمان أو المكان وفي مختلف أحوالنا {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (الحديد:4) وانه كما وصف تعالى {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} {ق:50) ويعلم كل شيئاً عنّا {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي

ص: 255

الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} (الأنعام:3)، {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء} (آل عمران:5). وامام هذه الحقيقة الدامغة لا يسعنا الا ان نلتزم بآداب العبودية بين يدي الخالق العظيم في جميع أحوالنا، ومن وصايا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأبي ذر (رضوان الله تعالى عليه) (أعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فأنه يراك)(1) .

الثاني عشر:

إن كل ما عندنا من مال وجاه وبنين وصحة واستقرار وسائر النعم الأخرى التي لا تعد ولا تحصى {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} {النحل:18) هي مما أفاضه الله تعالى على عبده {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} {النحل:53).

واي عاقل يرى أن من غير الانصاف أن تقابل هذه النعم بالمعاصي والتمرد بل بالشكر والعمل بطاعة الله تعالى، واذا أصرَّ العبد على المعاصي فليرجع هذه النعم إلى خالقه وليعص الله بأدوات من صنعه إن قدر على ذلك، لكنه سوف لا يملك شيئاً يعصي به الله تعالى لأن كل ما عنده من الله تعالى وهو لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً فكيف يعصيه إذن وبهذا المعنى ورد الحديث القدسي (من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي ولم يشكر على نعمائي فليعبد رباً سوائي، وليخرج من أرضي وسمائي)(2) .

ص: 256


1- بحار الأنوار: ج 74/ ص 74
2- شرح أصول الكافي: ج 1 / ص 219

القبس /108: سورة النو ر:33

اشارة

{وَليَستَعفِفِ ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا}

موضوع القبس:العفّة رأس كل خير

(العفّة) ملكة وصفة نفسية كسائر الملكات النفسية مثل الشجاعة والكرم والحلم والرحمة:تحصّن صاحبها من الإنقياد للشهوة وإتباع الهوى والوقوع في القبيح، من وصية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لمحمد ابن أبي بكر لما ولاه مصر (اعلم ان افضل العفّة الورع في دين الله والعمل بطاعته) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(العفاف يصون النفس وينزهَّها عن الدنايا)(1)، فالعفّة كالتقوى من هذه الناحية ويمكن ان يكون الفرق بينهما ان العفّة صفة ذات والتقوى صفة فعل والمتعفّف من تحلى بتلك الملكة عن طريق الترويض ومجاهدة النفس، والاستعفاف طلب العفّة.

واذا اطلق لفظ (العفّة) فان الذهن العرفي ينصرف الى حفظ النفس من السقوط في اتباع الشهوة الجنسية بغير ما أحلّ الله تعالى ومخالفة احكامه في هذا المجال سواء على مستوى المظهر الخارجي كسفور المرأة او ميوعتها او عدم غض النظر الى غير ما أحلّ الله تعالى او العلاقات الجنسية غير المشروعة او أي انحراف في توظيف الحاجة الجنسية وإثارتها ونحو ذلك فهذا كله ينافي العفاف،

ص: 257


1- الروايات المذكورة أوردها في ميزان الحكمة: 6/ 72 عن مصادرها

وقد جاء الامر الإلهي صريحاً بتنزيه النفس في هذا المجال قال تعالى {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} (النور:33) والخطاب موجّه الى كلا الجنسين فأمروا بالتعفف وحفظ النفس من الحرام بالتزويج إن كانوا قادرين عليه ومؤهلين له، وإن لم تكن عندهم القدرة على التزويج فليتعففوا بالصبر والانشغال بالطاعات والاعمال المفيدة المثمرة والابتعاد عن المثيرات الجنسية وبمساعدة التذكر والالتفات الى ان الإنسان في محضر الله تبارك وتعالى وتحت نظره وفي رقابة الملائكة {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق:18)، ومفتاح هذه الحصانة عملياً يتحقق بغض البصر {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ، وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} (النور:30-31).وهذا الامر الشرعي لغض البصر ليس مختصاً بشريعة الإسلام وإنما هو موجود في الشرائع السماوية الاخرى، ففي أنجيل (متى:5:27-29) (قد سمعتم انه قيل للقدماء لا تزن، واما أنا أقول لكم إن كل من ينظر الى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه، فان كانت عينك اليمنى تعثرك فأقلعها وألقها عنك، لانه خير لك أن يهلك احد أعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم)(1)

وقد بلغ التأديب الشرعي حداً دقيقاً في مجال العفاف لكلا الجنسين كقوله تعالى {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} (النور:31) ويكره

ص: 258


1- نقله عنه في تفسير الفرقان:20/ 238.

للرجل ان يقعد في مكان قامت عنه المرأة حتى تذهب حرارة بدنها عنه، عن أبي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):إذا جلست المرأة مجلساً فقامت عنه، فلا يجلس في مجلسها رجل حتى يبرد)(1).فالآية الكريمة تدعو الرجال والنساء الذين لم يتيّسر لهم تلبية شهواتهم الجنسية بالزواج الى التعفف وحفظ النفس من الوقوع في الحرام الى ان يغنيهم الله من فضله ويهيئ لهم أسباب الزواج السعيد المبارك، وروى في صحيح البخاري عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله:(يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فانه اغضّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطيع فعليه بالصوم فانه له وجاء)(2).

هذا على صعيد تفسير الآية الكريمة والمعنى المتبادر من العفاف، لكننا ذكرنا في اول الحديث ان العفّة جارية في كل انحاء السلوك ولا تقتصر على ما يتعلق بالشهوة الجنسية والعلاقة مع الجنس الاخر، وقد ورد لفظ العفاف بهذا المعنى في القرآن الكريم وبغيره أيضاً، فعلى صعيد التعفف من أي انحراف في توظيف الحاجة الجنسية قال الله تبارك وتعالى {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} (النور:33) وقال تعالى {وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (النور:60) بحفظ نفوسهن عمّا تشتهي من التبرجّ والظهور للأجنبي وإبداء الزينة.

وعلى صعيد عفّة اليد من التجاوز على أموال الاخرين بغير حق قال تعالى

ص: 259


1- الوسائل ، ج 20 كتاب النكاح ، أبواب مقدمات النكاح ، ب 145 ح 1 .
2- صحيح البخاري: 7/3/ح 5066, ط. دار طوق النجاة

{وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} (النساء:6) وعلى صعيد عفّة النفس واستغنائها عن الطلب من الناس قال تعالى {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} (البقرة:273) وفي عفّة اللسان ورد قوله تعالى {لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ} (النساء:148) وفي عفّة البطن ورد قوله تعالى {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} (عبس:24) وقوله تعالى {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (الأنعام:121) وجمعت آية أخرى كل معاني العفاف، قال تعالى {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}(الأعراف:82) أي يتعففون وينزهون أنفسهم عن فعل القبيح في كل شؤون حياتهم.وهكذا تنوعت الأحاديث الشريفة أيضاً فورد في عفّة البطن عن أكل الحرام بسبب حرمة نفس الطعام والشراب كالخمر ولحم الخنزير واللحوم غير المذبوحة بطريقة شرعية او الأطعمة المتنجسة او بسبب حرمة المكسب او حرمة المال، قول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(اذا أراد الله بعبد خيراً أعفّ بطنه وفرجه) (1) وعن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ما عُبد الله بشيء أفضل من عفّة بطنّ وفرج).

و ورد في عفّة المعاملة مع الناس قولاً وفعلاً قول رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (من طالب حقاً فليطلبه في عفاف) أي بوسائل مشروعة ولأغراض صحيحة.

ويبلغ العفاف اسمى مراتبه في عفّة القلب وطهارته من كل الرذائل الخُلقية كالحقد والحسد والانانية والعصبية والرياء والعجب وغيرها ويتسامى اكثر فلا يسكن فيه غير محبة الله تبارك وتعالى {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ، إِلَّا مَنْ

ص: 260


1- الحديث وما بعده تجدها في ميزان الحكمة للريشهري: 3/ 2006-2007-2008, وغيرها

أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء:88 - 89) وسلامة القلب تعني طهارته وتعفّفه عن التعلق بما سوى الله تعالى، لما سُئِل الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عمّا يسمونه بالعشق بين الجنسين قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(قلوبٌ خلت من ذكر الله فاذاقها الله حب غيره)(1)وعلى هذا يكون من الطبيعي ما ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(العفّة رأس كل خير) لان حصول ملكة العفّة في النفس تجعل الإنسان صالحاً مؤهلاً لاستقبال الالطاف والتوفيقات الإلهية كما ورد في القرآن الكريم في حق مريم (س) {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:91) والفاء هنا للتفريع فعفتها واحصانها كان سبباً لنيل هذه الكرامة، وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (اذا أراد الله بعبد خيراً أعفّ بطنه وفرجه)(2).

وتحصل ملكة العفاف بعلاجين:نظري وعملي:

اما النظري فمن خلال الالتفات الى أهمية العفّة في استقامة الانسان وعظيم بركاتها في الدنيا والآخرة، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (أفضل العبادة العفاف) وورد عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في فضل من له القدرة على ارتكاب ما ينافي العفاف سواء في العلاقة مع الجنس الاخر أو أكل الحرام أو الظلم أو النيل من الآخرين بلسانه ونحو ذلك لكنه يمنع نفسه عن ذلك تعففاً قال (ما المجاهد الشهيد في سبيل الله بأعظم اجراً ممن قدر فعفَّ، لكاد العفيف ان يكون ملكاً من الملائكة) وعنه

ص: 261


1- أمالي الصدوق: 765ح1029.
2- الحديث وما بعده تجدها في ميزان الحكمة للريشهري: 3/ 2006-2007-2008, وغيرها

(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من عفَّ خفَّ وزره وعظم عند الله قدره) وجعل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حديث آخر من ثمراتها قلة الاحزان.ومن العلاج النظري:ان يلتفت الإنسان الى قدر نفسه وعظيم ثمنها

وحينئذ لا يرضى لها بغير العفاف والترفع عن اتباع الاهواء والشهوات والخوض في الأمور الدنية، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ينبغي لمن عرف نفسه ان يلزم القناعة والعفَّة) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(من عقل عفَّ).

اما العلاج العملي:فنعني به ترويض النفس ومجاهدتها وتدريبها على القناعة بالقليل من الحلال اذا وجد، او الصبر اذا لم يحصل على القليل، ولذا يوصي أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من يريد التأسي به بقوله (الا وانكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد) وفي حديث مروي عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (أصل العفاف القناعة) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من قنعت نفسه اعانته على النزاهة والعفاف).

وهذا واضح من أصل اشتقاق الكلمة لغوياً فقد قيل انها من (العُفّة) وهي بقية اللبن في الضرع فكأن الضرع يعف بها عن الخروج ويحفظها فيه او ان هذه البقية من اللبن تعف عن ميل اللبن الى الخروج وتُسمى (العُفافة) ايضاً فيقال عففت فلاناً أي سقيته العُفافة وهو (الاقتصار على تناول الشيء القليل الجاري مجرى العُفافة، والعُفّة:أي البقية من الشيء)(1).

والحياء و العفّة توأمان، فالحياء ينتج العفّة، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (سبب العفّة الحياء)(2) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (على قدر الحياء تكون العفّة) وفي رسالة

ص: 262


1- مفردات القرآن للراغب الاصفهاني، مادة (عف)
2- هذه الاحاديث عن الحياء نقلها عن مصادرها في ميزان الحكمة : 2/ 509

الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الى شيعته التي امرهم بمدارستها والنظر فيها يومياً (عليكم بالحياء، والتنزه عما تنّزه عنه الصالحون قبلكم).اننا اليوم احوج ما يكون الى إشاعة ثقافة العفّة في جميع المجالات حيث تعاني المجتمعات من الانحراف الأخلاقي والاجتماعي والفكري والفساد المالي والإداري والكل يتحدث عن النزاهة والمبادئ العليا والاخلاق الكريمة وحقوق الانسان ولا نجدها على الواقع بينما يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(النزاهة آية العفّة).

وتحقيق العفاف مسؤولية اجتماعية تضامنية يشترك فيها الجميع، فالشاب الذي يريد ان يتعفف ويحصِّن نفسه بالزواج ولا يجد الى ذلك سبيلاً يتحمل مسؤولية تزويجه القادرون على ذلك، وعفّة اليد تتطلب مؤسسات فاعلة تثقف المجتمع بحرمة التجاوز على المال العام وتكافح الفساد، وعفّة البطن تدعو الى مراقبة السوق وأنواع الكسب الموجودة لمنع الكسب الحرام وهكذا بقية المجالات.

وفي يوم العفاف الذي اختير له ذكرى ميلاد سيدة العفاف العقيلة زينب الكبرى (س) نقف إجلالاً ونقدّم اسمى تحيات الاكبار والتعظيم للسيدات العفيفات على مر التاريخ وقدواتهن المباركات السيدة مريم ابنة عمران وآمنة بنت وهب أم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وخديجة بنت خويلد أم المؤمنين التي كانت تُسّمى (الطاهرة) في الجاهلية التي عم فيها الفساد، وفاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) التي كانت عابدة موّحدة في الجاهلية الوثنية وفاطمة الزهراء (س) سيدة نساء العالمين وزينب بنت أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عقيلة آل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) اللواتي يفتخر الامام المعصوم زين العابدين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالانتساب لهن ويقف

ص: 263

فى مجلس الطاغية يزيد ويقول (أنا ابن نقيات الجيوب، أنا ابن عديمات العيوب)(1)، ومن سار على نهجهن من النساء المؤمنات.ونستذكر في هذه المناسبة المؤمنات العفيفات اللواتي مضين الى ربهّن شهيدات صابرات صامدات في سجون الانظمة الطاغوتية الجائرة قديماً وحديثاً ولم يتنازلن عن شرف المبادئ السامية رغم التعذيب الوحشي فطوبى لهن وحسن مآب، واشكر الاخوة الذين وفِّقوا لإحياء ذكراهن واستعادة كلماتهن والتذكير بمواقفهن ضمن فعاليات هذا اليوم الشريف.

ص: 264


1- الاحتجاج- الطبرسي: 2/ 39, وبعض المصادر ترويها عن الإمام الحسن في مجلس معاوية كما في (مناقب آل أبي طالب- ابن شهر آشوب: 3/ 178

القبس /109: سورة النو ر:36

اشارة

{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرفَعَ وَيُذكَرَ فِيهَا ٱسمُهُۥ}

موضوع القبس:مقامات القرآن الكريم وصنوه أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ)

التلازم بين القرآن واهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ):

نشير اولاً باختصار إلى الاقتران والتلازم في المقامات بين القرآن الكريم وأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، هذا التلازم الّذي أفاده حديث الثقلين الذي أجمع الفريقان(1) على صحّته وصدوره عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، ففي مسند أحمد بن حنبل(2) بسنده عن زيد بن ثابت قال:قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (إنّي تارك فيكم خليفتين كتاب الله حبل مدود ما بين السماء والأرض- أو ما بين السماء إلى الأرض- وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض) ورووه عن جمع غفير من الصحابة.

لا يرتاب مسلم في معنى أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ):

وقد بيّن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالقول وبالفعل المقصود من أهل البيت في مواطنٍ كثيرة وهُم علي وفاطمة والحسن والحسين (صلوات الله عليهم أجمعين)، ففي مستدرك الصحيحين روى بسنده عن أمّ سلمة أنّها قالت:في بيتي نزلت هذه الآية

ص: 265


1- لمعرفة مصادره من كتب العامّة راجع (فضائل الخمسة من الصحاح الستّة: 2/ 52).
2- مسند أحمد: 5/ 181/ح21068

{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب:33) قالت:فأرسل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلى علي وفاطمة والحسن والحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال:(اللهمّ هؤلاء أهل بيتي) قالت أمّ سلمة:يا رسول الله ما أنا من أهل البيت؟ قال:إنّك إلى خير. وهؤلاء أهل بيتي اللهمّ أهل بيتي أحق).(1)ولا حاجة بعد هذا للدخول في مناقشات لغوية في معنى أهل البيت ومن هو المشمول بها بعد أن حدّد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بنفسه المراد بهذا العنوان.

الزهراء (س) عِدل القرآن الكريم:

فالسيّدة فاطمة الزهراء من أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) الذين هم –بموجب حديث الثقلين- صنو القرآن وعدل القرآن ولا يفترقان حتّى يردا الحوض يوم القيامة، ومن هذا الاقتران والملازمة نستنتج خصائص كثيرة ومقامات رفيعة لأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وللصدّيقة الطاهرة (س) ولأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لتضاف إلى الأدّلة على إمامته وتقدّمه على الخلق أجمعين بعد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) منها:

1-مقام العصمة، لأنّ القرآن {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت:42) وكذلك السيدة الزهراء (س) معصومة بغضّ النظر عن الأدلة الأخرى على عصمتها كآية التطهير وغيرها.

2-مقام العلم والإحاطة بكل شيء ممّا علمهم الله تبارك وتعالى فقد وصف الله تعالى كتابه الكريم بقوله {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ}

ص: 266


1- راجع مصادر الحديث في المصدر السابق: 1/ 269.

{النحل:89) وقال تعالى {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (الأنعام:38) فالسيدة الزهراء (س) لها هذا المقام من العلم والإحاطة بمعرفة كلّ شيء وهو فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده، قال تعالى {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء} (البقرة:255).3-والقرآن له مقام الإمامة والقيادة والحجة ولزوم الطاعة على الخلق أجمعين {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر:7) وقال تعالى {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم:3-4) وللقرآن مقام الإمامة، قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(عليكم بالقرآن فاتخذوه إماماً وقائداً) (1) فكذلك السيّدة الزهراء (س) لها مقام الإمامة والقيادة ولزوم الطاعة على الخلق أجمعين، لذا روي عن الإمام العسكري قوله (نحن حجج الله على خلقه وجدّتنا فاطمة حجّة الله علينا).(2)

4-والقرآن هو الحق والحقّ معه {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ} (الجاثية:29) {فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} (الذاريات:23) وهكذا السيّدة الزهراء (س) فإنّ الحقّ يدور معها حيث دارت.

ص: 267


1- كنز العمال- المتقي الهندي: 1/ 515
2- خطاب المرحلة: 7/ 52.

5-وللقرآن القيمومة(1) العليا المطلقة على الخلق قال تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا، قَيِّماً} (الكهف:1-2) كما أنّ القيّم على الأسرة أو المجتمع له الولاية عليهم يقودهم ويدلّهم على ما يصلحهم ويسعدهم، فكذلك الزهراء (س) لها القيمومة على الناس ومنهجها هو المنهج القيّم والمستعلي على المناهج كلّها، وقد علّلت الآية علّة القيمومة بأنّ لا عِوَجَ له.

6-والقرآن مبارك {وَهَ-ذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} (الأنعام:92) {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} (ص:29) فهو كثير البركة والخير والعطاء ومبارك في آثاره على النفس والمجتمع لأنّه مصدر الهداية والإرشاد والسعادة والحياة المطمئنة للبشرية ومصدر العلوم كلّها، وهكذا الزهراء (س) كثيرة البركة وعطائها لا ينفد، حتّى أنّ الله تعالى سمّاها الكوثر الذي يعني الخير الكثير.

7-والقرآن عصمة للأمة من التفرّق والتشتّت والضياع {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (آل عمران:103) والقرآن وأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) هم الحبل الممدود الذي يعصم الأمّة، وفي هذا قالت السيّدة الزهراء

ص: 268


1- شرحنا معاني هذه الصفات للقرآن في فصل (القرآن يصف نفسه) في ملحق القبس/109, {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (الفرقان:30) , من نور القرآن, ص303 من هذا الجزء

(س) (وجعل إمامتنا نظاماً للملّة وأماناً من الفرقة)(1).8-والقرآن عزيز يصعب مناله في كتابٍ مكنون لا يمسّه إلاّ المطهّرون، وعزيز لأنّه قاهرٌ غالب على من خاصمه، وهو عزيز يندر وجود مثله، وعزيز لأنّه يمتنع عن النيل بسوء، وعزيز لأنّه مطلوب وكلّ مفقودٍ مطلوب، وهكذا السيّدة الزهراء (س) عزيزة بكل هذه المعاني.

9-والقرآن موعظة وشفاء وهدى ورحمة للعالمين كما وصف نفسه وهكذا السيّدة الزهراء (س).

10-وللقرآن مقام الشفاعة كما وصفه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (فعليكم بالقرآن فإنّه شافعٌ مشفّع).(2)

وللزهراء (س) الشفاعة يوم القيامة حتّى ورد في الرواية أنها (س) تلتقط مواليها ومحبّيها يوم المحشر كما يلتقط الطير الحبّ الجيّد من الحبّ الرديء(3).

11-والقرآن مخاصم لمن هجره وأعرض عنه ولم يعمل به وحجّته غالبة ومصدّقة من دون بيّنة أو دليل كما وصفه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بأنّه (ما حل مصدّق) (4) أي مخاصِم مصدّق فيما يقول وهكذا السيّدة الزهراء (س) ستخاصم من ظلمها وأنكر حقّها وجحد ولايتها، وهي مصدّقة في دعواها.

ص: 269


1- الاحتجاج- الطبرسي: 1/ 134
2- ميزان الحكمة: 7/ 238 وكذا الأحاديث التالية في نفس المصدر.
3- بحار الأنوار- المجلسي: 8/ 52
4- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 598/ح2

12-والقرآن خالد محفوظ إلى يوم القيامة {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر:9) وهكذا الحجج من أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) باقون ببقاء القرآن وهذا دليل على وجود الإمام المنتظر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وذكر فاطمة وأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) باقٍ إلى يوم القيامة ونورهم باقٍ مهما حاول الحاسدون والمنافقون والمبغضون إطفاءه والقضاء عليه وإزالته {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (الصف:8).

13-وفي التمسّك بالقرآن النجاة من الفتن، عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(إنّها دار بلاء وابتلاء وانقطاع وفناء، فإذا التبست عليكم الأمور كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، من جعله أمامه قاده إلى الجنّة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار)، فالتمسك بهدى الزهراء (س) ينجي من الفتن ويقود إلى الهداية.

14-والقرآن يصف نفسه {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ، وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} (الطارق:13- 14) وهكذا كلمات فاطمة (س) كلّها فاصلة ليس فيها هزل لا محصّل من ورائه أو هزيلة خالية من المعاني، وكان يومها يوم الفرقان.

15-والقرآن أنيس، يقول الإمام زين العابدين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(لو مات من بين المشرق والمغرب لما استوحشتُ بعد أن يكون القرآن معي)(1) وهكذا ذكر السيّدة الزهراء وأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فإنّه أنيس للمحبّين والموالين وبلسم لنفوسهم المتعبة).

16-والقرآن لا يبلى ولا يُملُّ بكثرة التكرار، قال امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لا

ص: 270


1- الكافي: 2/ 602.

تُخلقهُ كثرةُ الرّد وولوجُ السمع)(1) وهكذا ذكر الزهراء (س) كلما يتكرّر يزدادُ اقبالاً وبهجة حتى لو استمر طيلة أيام السنة وعلى مدى السنين.17-ولمن حمل القرآن وتعلّمه وعلّمه أجر عظيم، روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله:(حملة القرآن هم المحفوفون برحمة الله، الملبوسون بنور الله عزّ وجل) فلمن أحيا ذكر الزهراء (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ونشر فضائلها ومناقبها ومظلوميتها مثل هذا الأجر العظيم.

18-وإنّ على حامل القرآن أن يتّصف بالخير، روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (إنّ أحقّ الناس بالتخشّع في السرّ والعلانية لحامل القرآن، وإنّ أحقّ الناس في السر والعلانية بالصلاة والصوم لحامل القرآن) فعلى الموالين للسيّدة الزهراء (س) ان يكونوا على مثل هذه الخصال الكريمة.

19-وللقرآن ارتباط وثيق بليلة القدر وكان نزوله فيها {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر:1) {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} (الدخان:3) وللسيّدة الزهراء (س) ارتباط وثيق بليلة القدر؛ ورد في الحديث عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فمن عرف فاطمة (س) حقّ معرفتها فقد أدرك ليلة القدر)(2)، وقد شرحنا في بعض أحاديثنا وجوهاً لهذا الحديث.

20-ومن آداب تلاوة القرآن أن يُقرأ بالحزن، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (اقرأوا القرآن بالحزن فإنّه نزل بالحزن)، وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (اقرأوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا)، ومن وصف أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) للمتّقين (أمّا الليل فصافون

ص: 271


1- الأحاديث تجدها في ميزان الحكمة: 7/ 238
2- راجع مصادره في الموسوعة الكبرى عن فاطمة الزهراء (س): 18/ 438.

أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن يرتّلونها ترتيلا يحزّنون به أنفسهم ويستثيرون به دواء دائهم) فكذلك السيّدة الزهراء (س) لا تُذكر إلاّ ويفيض القلب حزناً لذكراها، فضلاً عمّا لو ذُكرت مظلوميتها. روي أن رجلاً دخل على الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقد وُلدت له بنت فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ما سمّيتها؟ قال:فاطمة فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (آه آه آه ثم وضع يده على جبهته – إلى أن قال- أما إذا سمّيتها فاطمة –فلا تسبّها ولا تلعنها ولا تضربها).(1)

وهذه الخصائص التي ذكرناها للزهراء (س) ثابتة للأئمة الأطهار (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لكونهم من أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وإنّما خصصنا السيّدة الزهراء (س) بالذكر لأنّها صاحبة المناسبة.

إن ما قمنا به من بيان هذه المقامات لأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فيه دعوة لإتباع هؤلاء السادة الهداة تلبية لدعوة الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (قال الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):رحم الله عبدا أحيا أمرنا، فقيل له:وكيف يُحيي أمركم ؟.. قال:يتعلّم علومنا ويعلّمها الناس، فإنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا)(2).

ص: 272


1- وسائل الشيعة كتاب النكاح، أبواب أحكام الأولاد، باب 87.
2- جواهر البحار، الجزء الثاني، كتاب العلم، عن كتاب: معاني الأخبار.

القبس /110: سورة النور:55

اشارة

{وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُم وَعَمِلُواْ ٱلصَّلِحَتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي ٱلأَرضِ}

موضوع القبس:الوعد الإلهي بالاستخلاف والتمكين

قال الله تبارك وتعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور:55).

يتعرّض المؤمنون في حياتهم إلى ضغوط عديدة من قبل أعدائهم وخصومهم في الفكر والعقيدة، وهذه الضغوط قد تكون على نحو الاستهداف بالقتل والتشريد والسجن والإرهاب، وقد تكون على نحو صناعة المشاكل الاجتماعية والانحرافات الأخلاقية والشبهات العقائدية، وقد تكون على نحو التجويع والحصار الاقتصادي وحرمان الإنسان من حقه في حياة حرة كريمة، وغير ذلك.

ولا يتوقف الخصوم والأعداء عن هذه الممارسات التي تأخذ أشكالاً متعددة قوية عنيفة تارة وناعمة خفية تارة أخرى؛ حتى يهيمنوا على المؤمنين ويتسلّطوا عليهم ويجرّدوهم من عقيدتهم وأخلاقهم ويحبطوا مشروعهم الإصلاحي ويذوّبوا هويّتهم على طريقة العولمة التي يتحدثون اليوم عنها، قال

ص: 273

تعالى:{وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ} (البقرة:217) وقال تعالى:{وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (البقرة:120) وهم ينطلقون في ذلك من أنانيتهم واستكبارهم وحبهم للدنيا واتباعهم للشهوات وحسداً للمؤمنين على طهارتهم وسموّهم عن الرذائل والموبقات، قال تعالى:{وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} (البقرة:109).ويساعد على نجاح خطط هؤلاء الأعداء الخارجيين من داخل المجتمع المسلم حمقى ومنافقون وجهلة وطلاب الدنيا وعُبّاد الشهوات.

وفي ظل هذه الضغوط يعيش المؤمنون حالة من الضيق والقلق والخوف واليأس من نجاح مشروع الهداية والإصلاح فيأتي هذا الوعد الإلهي المذكور في الآية ليطمْئنهم ويعيد إليهم الثقة بالنفس ويزرع في قلوبهم التفاؤل والأمل حتى يثبتوا على إيمانهم ويستمروا في أداء رسالتهم، ولا شك أن هذا الوعد حق لا يمكن أن يتخلف {وَعْدَ اللّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً} (النساء:122) {لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} {الروم:6) {إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (آل عمران:9) (الرعد:21).

نعم قد تطول المدة حتى يتحقق هذا الوعد الإلهي ولو في بعض مراتبه؛ لأن بناء المجتمع الصالح يحتاج إلى جهود مضنية وعمل دؤب مع صبر ومصابرة ومرابطة وإلى زمن لتتحقق شروطه وظروفه ومقوماته، فعلى المؤمنين أن يستمروا

ص: 274

بعملهم والقيام بمسؤولياتهم وليس عليهم توقيت النتائج أو استعجال حصولها.والوعد الذي تشير إليه هذه الآية التي نزلت في المدينة ذكرته آيات سبق نزولها في مكة(1) كالذي تضمنه قوله تعالى:{وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} (القصص:5-6) وقد كان المسلمون يومئذٍ قلة معدمين تلاحقهم قريش فتعذبهم وتحاصرهم وتصادر أموالهم وتقتلهم {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الأنفال:26)، فوعد الله تعالى المؤمنين بالأمور التي ذكرتها الآية:

1-الاستخلاف في الأرض بأن تكون بأيدي المؤمنين الصالحين العاملين الإمكانيات المادية والمعنوية التي يستطيعون بها إعمار الأرض وتوفير الحياة الكريمة للبشرية جمعاء.

2-تمكين الدين الذي ارتضاه تعالى لهم وهو الإسلام والانقياد لله تعالى:{وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} (المائدة:3) ويتحقق تمكين الدين بثباته واستقراره في القلوب والنفوس وعندما تكون له القيمومة والسيادة على الأنظمة والقوانين والدساتير التي وضعها البشر بقصورهم وتقصيرهم.

ص: 275


1- كقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء: 105) وقوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ، وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (الصافات: 171-173).

3-الحرية في الإيمان بالعقائد الحقة وممارسة العبادة الخالصة لله تعالى ونبذ الشركاء جميعاً سواء كانوا أصناماً حجرية أو بشرية أو طواغيت أو أهواء أو عصبيات أو تقاليد، ويقترن ذلك بالأمن من الخوف وزوال الضغط والإرهاب عنهم وتأثير الشبهات والضلالات عليهم.

هذا في الدنيا أما في الآخرة فينبئك الله بتحقق وعده {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (الزمر:74).

لكن الوعد الإلهي بتحقيق هذه الأمور لا يتم بمجرد ادعاء الإيمان أو الاكتفاء بممارسة العبادات والشعائر الظاهرية من دون أن يتحول إلى حركة فاعلة دائبة تنطلق من منهج متكامل للحياة فيجعل المرجعية للدين الحق في كل شؤون الحياة وتفاصيلها وفي كل عوالم الإنسان وسلوكه حتى في مشاعره وعواطفه وميوله فيجعل الله تعالى نصب عينيه ويجعل هدفه الوحيد تحقيق مرضاة الله تعالى وتجنب معصيته وغضبه سبحانه، لذا ذكرت الآية {منكم} أي ليس كلكم وإنما بعضكم الذي توفّرت فيه هذه الصفات.

أما من ينتسب إلى الإسلام وربما الانتماء لأهل بيت النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وربما يقيم الصلوات ويشارك في إحياء الشعائر الدينية لكنه يظلم الناس ويتجاوز على حقوقهم ولا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر ولا يطبق أحكام الله تعالى في القضايا والوقائع فإنه ليس مشمولاً بهذا الوعد الإلهي لأن الخطاب موجّه إلى الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر {قَالَتِ الْأَعْرَابُ

ص: 276

آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (الحجرات:4).روي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه كان جالساً مع أصحابه فجاء خبر إلى أحدهم بأن امرأته قد ولدت فتغيّر وجه الرجل فسأله النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):عما أصابه، فقال:خرجتُ والمرأة في حالة مخاض وولادة وأخبرت الآن أنها ولدت أنثى، فسأله النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):كم سنة مضت عليك في الإسلام، قال:سبع عشرة سنة، فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):كل هذه المدة ولم يدخل الإيمان قلبك(1).

فهذا الرجل رغم أنه من السابقين إلى الإسلام والمهاجرين الذين تحملوا الأخطار والمشاق، إلا أن هذه المشاعر القلبية منه سلبته حقيقة الإيمان وإن كان مؤمناً بحسب الظاهر.

أيها الأحبة:

إن هذا الاستخلاف والتمكين ليس من الضروري أن يكون مقترناً بالوصول إلى السلطة والحكم(2)، وإن كانت السلطة والحكم من العناصر المساعدة على الوصول إلى الهدف الأسمى أي تكون وسيلة وليست غاية وهي من مصاديق القوة التي أمر الله تعالى بإعدادها {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}(الأنفال:60).

ص: 277


1- الحادثة مروية في المصادر مثل وسائل الشيعة: 15/ 101 ح2 لكن ذيلها لم نعثر عليه في حدود البحث الذي أجريناه.
2- بل قد تكون السلطة وبالاً على أصحابها عندما ينظرون اليها على انها غنيمة يحوزونها بجشع واستئثار.

فالملحوظ في تحقق الوعد الإلهي هو حصول النتائج التي ذكرتها الآية الكريمة، فبالرغم من أن السيدة الزهراء (س) والأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) كانوا في مظلومية دائمة ومستمرة وإقصاء كامل إلا أنهم كانوا القدر المتيقن من المقصودين بآية الوعد الإلهي، وقد أكد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هذه الحقيقة بصراحة ووضوح حينما جمع أهل بيته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قبيل وفاته وقال لهم:(أنتم المستضعفون بعدي)(1) وهي تعني فيما تعنيه أنتم المقصودون بالوعد الإلهي للمستضعفين بالاستخلاف والتمكين ووراثة الأرض ولو على يد حفيدهم المهدي الموعود (عجل الله فرجه الشريف) وقال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في بعض كلماته:(ونحن على موعود من الله تعالى حيث قال عز اسمه {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ}(2). لقد كانت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (س) على ثقة تامة بهذا الوعد الإلهي رغم أنها بحسب الظاهر كانت امرأة مستضعفة ومسلوبة الحقوق وزوجها مكبّل وقد فقدت الناصر والمعين وهي تواجه خصماً بيده السلطة مدججاً بالسلاح ومحفوفاً بالأعوان المتأهبين لفعل كل شيء بلا رادع لكنها تخاطبهم بكل شجاعة وثبات وثقة بالنفس واطمئنان بالنتائج بقولها (س):(وأبشروا بسيف صارم يدع

ص: 278


1- معاني الأخبار- الشيخ الصدوق: 79
2- نهج البلاغة، من كلمته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لعمر بن الخطاب لما استشاره في الخروج إلى العراق لقتال الفرس.

فيئكم زهيداً وجمعكم حصيداً، فيا حسرة لكم! وأنّى بكم وقد عميت عليكم! {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ}(1) (هود:28).إنها ليست لغة الأسير المستضعف بل لغة الواثق بالنصر والذي يرى هزيمة خصمه عين اليقين، فتحذّرهم من سوء العاقبة والمصير.

وقد ورثت ابنتها العقيلة زينب (س) هذه الثقة بالوعد الإلهي فقالت مخاطبة يزيد الطاغية المتفرعن المغرور بالنصر الذي توهّمه:(فكِد كيدك واسعَ سعيك وناصب جهدك، فوالله لا تمحونَّ ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحَضُ عنك عارها، وهل رأيك إلا فند، وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي {أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} (هود:18)(2).

أيها الإخوة والأخوات:

إننا نتلمّس اليوم بوضوح جملة من علامات تحقق هذا الوعد الإلهي بإظهار الدين الذي ارتضاه على كل الأنظمة الوضعية المصطنعة وتمكين المؤمنين الصالحين من أخذ دورهم في إعمار الأرض بما ينفع البشرية كلها ويعبّد لها طريق الهداية والصلاح، ومن تلك العلامات:

1- وصول صوت أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) إلى جميع الشعوب حتى تتعرف على المبادئ الإنسانية السامية التي يريدون إقامتها مما ولّد مقبولية واسعة لهذه المدرسة المباركة لدى الشعوب وإقبالاً متزايداً على الانتماء لها.

ص: 279


1- الاحتجاج للطبرسي: 1/ 140.
2- راجع مصادر الخطبة في كتاب الصحيح من مقتل سيد الشهداء وأصحابه: 1125.

2- تصاعد مستوى الشجاعة والتضحية في سبيل الله وحماية المقدسات وامتلاك المبادرة والإقدام والشعور بالمسؤولية لدى المستضعفين، وقد تجلّى كل ذلك في العمليات التي تخوضها قواتنا المسلّحة بكل صنوفها وأبطال الحشد الشعبي وقوافل الدعم اللوجستي خصوصاً في معارك الموصل الأخيرة حيث اعترف قادة جيش أقوى دولة في العصر الحديث بأن هذه المعركة تصعب على أي جيش في العالم مع ما رافقها من النبل وسمو الأخلاق والتضحية من أجل الإنسان أي إنسان بغضّ النظر عن دينه وطائفته وقوميته.

3- تنامي حالة الوعي واليقظة لدى الأمة وإدراك تحديات المرحلة ومتطلباتها وهذه الحالة وإن كانت في بداياتها إلا أنها تبشّر بخير بإذن الله تعالى.

4- ظهور علامات الضعف والضمور والتفكك عند الدول المستكبرة وازدياد مشاكلها التي تعجز عن حلّها فتحاول التخلص منها بتصديرها إلى الخارج.

أيها المؤمنون:

لكي نساهم في تحقق هذا الوعد الإلهي واكتماله بظهور منقذ البشرية بقية الله في أرضه وحجته على خلقه إمامنا المهدي الموعود (أرواحنا له الفداء) فعلينا أن نبذل قصارى جهودنا في إدامة وتعزيز هذه العلامات المذكورة، وقد ذكرت آية كريمة أخرى صفات وأعمال الذين يُمكَّنُ لهم في الأرض، قال تعالى:{الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج:41).

وعلينا أيضاً أن نتجنب كل ما يعرقل هذه الحركة المباركة نحو التكامل

ص: 280

من عصيان وتمزق وتشتت وصراعات وخوض في الباطل واتباع للشهوات والأهواء وأن نعي مؤامرات الأعداء ونحذر منها وهي كثيرة وخطيرة ومعقدة لكنها لا تخفى على القيادة الرشيدة وأهل البصائر، تبدأ من نشر مظاهر الفسق والفساد وتجريد المسلمين من عناصر هويتهم العقائدية والأخلاقية، وتنتهي بانقلاب القيم والأفكار حتى يستحي المسلم من إعلان هويته والدعوة إلى مشروعه ويتباهى بتبعيته وذوبانه في المشروع المعادي(1). وهذا مما حذّر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أمته منه في الحديث المشهور (كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟ فقيل له:ويكون هذا يا رسول الله؟ فقال:نعم، وشرٌّ من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ فقيل له:يا رسول الله، ويكون ذلك؟ قال:نعم، وشرٌ من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر

ص: 281


1- وننقل هنا نموذجاً مما يريدون فعله أنقله من قراءة وترجمة أحد الإخوة المغتربين لكتاب (محو العراق: خطة متكاملة لاقتلاع عراق وزرع آخر) ووصفه الكاتب بأنه تطبيق لكتاب سابق بعنوان (فهم الشر: دروس من البوسنة) من خلال مصطلح (إبادة الشر) جاء فيه (هدم كل قيم التضامن وعلاقات الجوار والأحياء السكنية وبناء نظام الحواجز المادية والنفسية والدينية وسيطرة الارتياب والخوف من الآخر، والأخطر انقلاب المقاييس حيث يصبح المتشاطر ذكياً، والنبيل العفيف غبياً لأنه لا يشارك في الوليمة العامة والنهب، ويصبح اللص سوياً والشريف منحرفاً وغيرها من التناقضات التي تقلب منظومة القيم الأخلاقية والسياسية السوية لصالح نقيضها من خلال خطة منسقة لأعمال مختلفة تهدف إلى تدمير الأسس الأساسية للمجتمع).

معروفاً)(1).إن هذه التحديات الهائلة تضاعف علينا المسؤولية، فليستمد المؤمنون من هذا الوعد الإلهي العزيمة والهمّة والقدرة غير المحدودة على مواصلة العمل الرسالي حتى تحقيقه بإذن الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد:7) {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً، وَنَرَاهُ قَرِيباً} {المعارج:6-7).

ص: 282


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 1، ح12.

القبس /111: سورة الفرقان:30

اشارة

{وَقَالَ ٱلرَّسُولُ يَرَبِّ إِنَّ قَومِي ٱتَّخَذُواْ هَذَا ٱلقُرءَانَ مَهجُورا}

الحذر من هجر القرآن

تقع الآية ضمن سلسلة من الآيات التي تعرض صوراً من حالات الندم والأسف التي تنتاب الظالمين يوم القيامة بحيث يعضّ أحدهم على كلتا يديه وليس على اصبع واحدة جزاء تفريطهم وتمردهم على ما أمرهم الله تعالى به نتيجة لاتباعهم اهواءهم وعصبيتهم وقرناء سوء غشوّهم {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا ، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا ، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولا} {الفرقان:27-29) ومما يزيدهم ندماً وحسرة ورعباً من مصيرهم ان الرسول الذي بعثه الله تعالى رحمة بهم ومنقذاً وهادياً لهم سيكون خصمهم والحجة عليهم وهو الذي يرفع الشكوى ضدّهم فتقول الآية التالية {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} لأن القرآن هو الأصل في السبيل الموصل الى الله تبارك وتعالى الذي يندمون على عدم اتخاذه، فالإعراض عنه إعراض عن الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأهل بيته الطاهرين، فلما هجروه وابتعدوا عنه وقعوا في هذا المصير المشؤوم.

ص: 283

و (قَوْمِي) هنا وإن انصرفت إلى قريش قوم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عند نزول الآية في مكة وتكون الآية حينئذٍ إخباراً عن دعاء وشكوى ناجى بها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ربَّه بعد ان رأى صدود واعراض قومه من قريش والله تعالى يعلم بهذا الواقع ويعلم ان رسوله لم يدّخر جهداً في ابلاغ الرسالة.الا انها عامة لجميع الناس كما هو شأن القرآن لأن الجميع مخاطبون بهذا القرآن ومأمورون باتباعه فتكون الآية إخباراً عن شكوى يرفعها الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في محكمة العدل الإلهي يوم القيامة والتعبير بالماضي بعناية تحقق الوقوع كما في الكثير من الآيات التي تحكي مشاهد القيامة في القرآن بصيغة الماضي، فتنضمّ شكواه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الى شكوى القرآن نفسه بحسب ما ورد في الرواية الشريفة عن جابر عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (يجئ يوم القيامة ثلاثة يشكون إلى الله عز وجل:المصحف، والمسجد، والعترة. يقول المصحف:يا رب حرقوني ومزقوني، ويقول المسجد:يا رب عطلوني وضيعوني، وتقول العترة:يا رب قتلونا وطردونا وشردونا فأجثوا للركبتين للخصومة، فيقول الله جل جلاله لي:أنا أولى بذلك)(1) .

وروى عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (أنا أول وافد على العزيز الجبار يوم القيامة وكتابه وأهل بيتي ثم أمتي ثم اسألهم ما فعلتم بكتاب الله وأهل بيتي)(2) .

وهجران الشيء تعني مفارقته بنحو من الانحاء، ولا شك ان هجر القرآن يصدق على مراتب عديدة تقابل مراتب القرب من القرآن، فأوطأ درك للهجران هم من صمّوا آذانهم عن سماعه خشية ان يدخل قلوبهم فأغلقوها دونه تعصباً وعناداً

ص: 284


1- الخصال للصدوق: 132 أبواب الثلاثة، الحديث 232
2- الكافي: 2/ 600

واستكبروا عن الايمان به {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} (الإسراء:46) {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} (نوح:7) وانكروا كونه وحياً الهياً {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} (الفرقان:4) وغاية ما قالوا أنه كلام منمق جميل صنعه محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهي الشبهة التي يرددها إلى اليوم بعض المعاندين أو إنه أملي اليه {يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (النحل:103) .ومن مراتب هجر القرآن ما عليه المنافقون الذين أسلموا للقرآن ظاهراً لكنهم خالفوه في واقعهم وحياتهم العملية فبنو أمية وبنو العباس مسلمون ظاهراً ويؤمنون بالقرآن وما فيه وفيه قول الله تعالى {قُل لّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (الشورى:23) الا إنهم أمعنوا في قتل أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وسجنهم واضطهادهم، ويقرأون آية تحريم الخمر ويشربونها علناً وسراً وأمثال ذلك.

ومن صور الهجران ما عليه أغلب المجتمعات الإسلامية اليوم حيث يستمدون أفكارهم وثقافتهم وأنظمتهم وقوانينهم وسلوكهم من مصادر غير ربانية ويعرضون عن تعاليم القرآن الكريم التي هي دستور حياتهم ومنهج سعادتهم وكمالهم ففقدوا رشدهم وضلّت مسيرتهم.

ومن مراتب هجران القرآن الاهتمام بمخارج حروفه وتلحين الصوت فيه ومعرفة قواعد قراءاته وأنواعها من دون التدبر بمعانيه والاستفادة من مضامينه ولطائفه

ص: 285

وهؤلاء قال فيهم الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (حفظوا حروفه وضيّعوا حدوده)(1) .ومنها اتخاذ الآيات القرآنية مسرحاً للصراعات العلمية البحتة والجدل والمراء في مختلف العلوم لإثبات آرائهم ومواقفهم والتعصب لها وتفوقهم على الخصوم مبتعدين عن الهدف الذي أنزل من أجله وهو هداية الناس وهذا الجدل يقسي القلب ويصدّ عن ذكر الله تعالى ومعرفته والاهتداء إليه.

ولا زالت الحوزات العلمية ومعاهد العلوم -- وهي المعين الذي ينهل الناس منه دينهم -- بعيدة عن الحياة في كنف القرآن الكريم، ولا يحظى هذا السبيل الأعظم الموصل إلى الله تعالى باهتمامهم، وينهي طالب العلم دراسته دون أن يحظى بدرس في القرآن الكريم، وربما يرى الكثيرون في التصدي لتفسير القرآن الكريم وشرح معانيه والاستفادة من لطائفه ودقائقه منقصة بعالم الفقه والأصول مما يشكّل ضغطاً نفسياً واجتماعياً عليه حتى يتركه.

فلابد ان نتدارك أمرنا ونبادر الى اتخاذ السبيل مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لئلا نكون ممن يشكوهم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومن الظالمين الذين يعضّون على أيديهم ويقول واحدهم {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا} والقرآن هو السبيل الأعظم والثقل الأكبر روى في مجمع البيان عن رسوله الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (أفضل العبادة قراءة القرآن) (2) وروي عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (حملة القرآن عرفاء أهل الجنة)(3) .

روى الشيخ الكليني بسنده عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (فإذا التبست عليكم الفتن

ص: 286


1- الكافي: 2/ 598
2- مجمع البيان- الطبرسي: 1/ 44
3- الكافي: 2/ 443 ح 11، الخصال: 28 ح 100، معاني الأخبار:323

كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع وماحل مصدق ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار وهو الدليل يدل على خير سبيل وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل)(1) وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (القرآن هدى من الضلالة وتبيان من العمى واستقالة من العثرة ونور من الظلمة وضياء من الاحداث وعصمة من الهلكة ورشد من الغواية وبيان من الفتن وبلاغ من الدنيا إلى الآخرة وفيه كمال دينكم وما عدل أحد عن القرآن إلا إلى النار)(2) .ومن خلال الرجوع إلى أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في فهم مراداته فأنهم الثقل الآخر وهما متلازمان لا يفترقان بنص الحديث المشهور المتواتر لدى الفريقين (إني تارك فيكم أمرين إن أخذتم بهما لن تضلوا:كتاب الله عز وجل وأهل بيتي عترتي، أيها الناس اسمعوا وقد بلغت، إنكم ستردون علي الحوض فأسألكم عما فعلتم في الثقلين والثقلان:كتاب الله جل ذكره وأهل بيتي، فلا تسبقوهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم)(3) فما تمسّك بأحدهما من لم يتمسك بالآخر، وقد اضيع القرآن عندما اقصي أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) عن مراتبهم التي وضعهم الله تعالى فيها ومما ورد في زيارة الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وأصبح كتاب الله بفقدك مهجورا)(4)، روى الشيخ الكليني في روضة الكافي خطبة لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) المعروفة بخطبة الوسيلة إلى ان قال (فأنا الذكر الذي عنه ضل والسبيل الذي عنه

ص: 287


1- الكافي: 2/ 598
2- الكافي: 2/ 600
3- الكافي: 1/ 294
4- مفاتيح الجنان: ص 552/ الزيارة المخصوصة ليوم عرفة.

مال والايمان الذي به كفر والقرآن الذي إياه هجر والدين الذي به كذب والصراط الذي عنه نكب)(1) .وكان كل علم أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من القرآن كما روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهو باب مدينة علم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وروى إبراهيم بن العباس قال (ما رأيت الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سئل عن شيء قط الا علمه، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان الأول إلى وقته وعصره، وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كل شيء فيجيب فيه وكان كلامه كلّه وجوابه وتمثّله انتزاعات من القرآن)(2) إن من الطبيعي ان يوجد أعداء للقرآن يهجرونه ويصدّون عنه ويحاربون حملته ويضعون العراقيل في طريق هدايته للبشر جميعاً ففي الآية التالية التي فيها تسلية لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتخفيف عن آلامه {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ} {الفرقان:31) لكن الله تعالى شاء ألاّ يهجر القرآن فأوجب قراءته في الصلوات الخمس المفروضة يومياً، روى الفضل بن شاذان في علله عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فان قال:فلم أمروا بالقراءة في الصلاة قيل:لئلا يكون القرآن مهجورا مضيعاً وليكون محفوظاً فلا يضمحل ولا يجهل)(3) فلا خوف على القرآن لأن الله تكفل بحفظه، والمهم ان نكون نحن في معسكر القرآن ومن حملته والدعاة إليه ومنفذي أحكامه.

ص: 288


1- روضة الكافي: 8/ 28.
2- عيون أخبار الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) : 2/ 180 ح 4.
3- عيون اخبار الرضا: ج1/ ص 113.

وقد ذكرتُ في سلسلة محاضرات (شكوى القرآن) وغيرها عدة آليات وخطوات عملية لتفعيل دور القرآن الكريم في حياة الفرد والأمة يمكن الرجوع اليها والاستفادة منها.فلابد ان نلتزم يومياً بتلاوة القرآن في أوقات الصلاة أو غيرها ففي صحيحة حريز عن ابي عبدالله الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (القرآن عهد الله إلى خلقه فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده، وان يقرأ منه في كل يوم خمسين آية)(1) والأولى ان يختم القرآن في الشهر مرة، فقد روي عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (لا يعجبني أن تقرأه في أقل من شهر)(2) وعلى الشباب أن يكونوا حريصين على ذلك، روى الشيخ الكليني بسنده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن اختلط القرآن بلحمه ودمه، وجعله الله مع السفرة الكرام البررة، وكان القرآن حجيزاً عنه يوم القيامة)(3) إلى آخر الحديث.

وعلى الصعيد الاجتماعي اذكر فعالية واحدة الآن وذلك بأن يلتزم أئمة المساجد بأن يقرأوا مع المصلين صفحتين من القرآن الكريم بعد الانتهاء من صلاة الجماعة يومياً ثم يشرح لهم باختصار موضوعاً ورد ذكره في الصفحتين كأهمية الصلاة أو بر الوالدين أو حرمة الغيبة أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو ولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وتوجد كتب مفيدة في هذا المجال كتفسير المعين فأنه يضع في حاشية كل صفحة من القرآن تفسيراً لمفرداتها ويشرح باختصار في أسفل

ص: 289


1- الكافي: 2/ 441 ، ح4
2- الكافي: 2/ 451 ح 1
3- الكافي: 2 441 ، ح4

الصفحة عنواناً ورد فيها وبذلك يحصل كل فرد على ثقافة قرآنية واسعة خلال مدة قصيرة بلطف الله تعالى وحسن توفيقه.

ص: 290

ملحق:شكوى القرآن

الافتتاح:

ملحق:شكوى القرآن(1)

اعتاد الناس افتتاح الندوات والمؤتمرات واللقاءات وبرامج الإذاعة والتلفزيون بتلاوة آيات من الذكر الحكيم تبركاً بها وتعظيماً لها وقد جرى على ذلك حتى غير المسلمين مما يدلُّ على هيبة هذا الكتاب الكريم حتى في قلوب أعدائه، فما أحرانا نحن طلبة الحوزة الشريفة أن نفتتح دروسنا بالقرآن الكريم وينبغي أن يكون افتتاحاً واعياً متفاعلاً مع روح القرآن ومضامينه ومعانيه وليس افتتاحا شكليا وكأنه مجرد نشيد وترنيمه أو عوذة وتميمة.

القرآن يشكو:

وقد اخترت أن أبدأ من الحديث الشريف المروي في الكافي والخصال عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(ثلاثة يشكون إلى الله عز وجل مسجد خراب لا يصلي فيه أهله وعالم بين جهّال ومصحف معلّق قد وقع عليه الغبار لا يُقرأ فيه)(2) وأوضح مصاديق العالم هم أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وخصوصاً الإمام الفعلي القائم

ص: 291


1- سلسلة محاضرات ألقاها سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الوارف) بمناسبة حلول العام الدراسي الجديد على طلبة الحوزة العلمية الشريفة في النجف الأشرف بدأت بتأريخ السبت 19/محرم /1422ه- الموافق 14/ 4/ 2001م. وصدرت في حينها بكتاب مستقل عنوانه (شكوى القرآن) لقي رواجاً كبيراً ولا يزال يعاد طبعه.
2- الكافي: كتاب فضل القرآن، باب قراءة القرآن في المصحف، ح3. الخصال: 1/ 142 أبواب الثلاثة.

بالأمر (أرواحنا له الفداء) فالثلاثة الذين يشكون هم القرآن والعترة والمسجد ويدل عليه ما ورد في حديث آخر عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(يجيء يوم القيامة ثلاثة يشكون:المصحف والمسجد والعترة يقول المصحف يا ربّ حرّفوني ومزقّوني، ويقول المسجد:يا رب عطلّوني وضيعّوني وتقول العترة يا رب قتلونا وطردونا وشردونا، فأجثو للركبتين في الخصومة فيقول الله عز وجل لي:أنا أولى بذلك منك)(1).

ونستفيد من هذا الحديث أكثر من أمر:

الأول:إن أسس بناء الأمة المسلمة ومقومات كيان المجتمع المسلم هي هذه الأركان الثلاثة، لذا تم التركيز عليها، والحديث على هذا يكون بمعنى

حديث الثقلين المشهور:(إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً وقد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض يوم القيامة)(2). والثقلان هما اثنان من هذه الثلاثة، أما الثالث وهو المسجد فهو المحل الذي يمارس الثقلان من خلاله دورهما في المجتمع ويرتبطان في أجوائه المقدسة بالأمة.

الثاني:الإشعار بأن الأمة ستعرض عن هذه الثلاثة وستخلفها وراء ظهورها لذلك أخبر (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن الشكوى كحقيقة واقعة وهو (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يحذر الأمة

ص: 292


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساجد، باب 5، حديث2.
2- روي في كتب العامة والخاصة، وللمزيد راجع كتاب (المراجعات) للسيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي.

من هذا التضييع ويبالغ في العقوبة عليه حتى كأنَّ الله تبارك وتعالى هو الخصم المطالب بحقها وهو الحكم العدل.وما دامت هذه الثلاثة هي أسس كيان المسلمين فتضييعها يعني زوال هذا الكيان وفناءَه لذا كان لزاماً علينا أن نفرد كل واحد منها ببحث خاص لبيان أثره في حياة الأمة وعظيم خسارتها بالإعراض عنه، وأساليب تفعيل دوره في حياة المسلمين.

وأرى من واجبي أن أنصب نفسي (مدعياً عاماً) كما يعبرون اليوم لأرفع هذه الشكاوى الثلاث وأبدأ برفع شكوى ثقل الله الأكبر:القرآن الكريم وهو الحبل الممدود من الله تبارك وتعالى إلى عباده، هذه الشكوى التي يرفعها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يوم القيامة:{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (الفرقان:30) وحذّر المسلمين من هذا الخطر حين عرض عليهم سبب انحراف الأمم السابقة وهو ترك ما أنزل الله إليهم، قال تعالى:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ}(المائدة:8). فمن تمسك به فقد سلك الطريق الموصل إلى الله ومن أعرض عنه هلك وهوى.

ومنشأ هذه الشكوى إعراض مجتمعنا المسلم حتى الملتزمين(1) منهم عن تلاوة القرآن والاهتمام به وتدبر آياته فضلاً عن إعطائه دور الريادة والإمامة في

ص: 293


1- استقرأت عدداً من العينات العشوائية وكانوا من الطلبة المتقدّمين للقبول في الحوزة الشريفة لاستبيان علاقتهم بالقرآن والمفروض أنهم يمثلون درجة من الوعي والإيمان الذي

الحياة ليكون هو النبراس والدليل الذي يهتدي به المهتدون في جميع تفاصيل الحياة، حتى عاد منسياً عندهم ولا يذكرونه إلا قليلا في شهر رمضان المبارك، ونحن نحث على زيادة الاهتمام بالقرآن في هذا الشهر المبارك للعلاقة الحميمة بينهما، حتى ورد في الحديث:(إن لكل شيء ربيعاً وربيع القرآن شهر رمضان)(1) لكن هذا لا يعني إهماله أو قلة التعرض له في غيره من الشهور.

البعد عن القرآن سبب انحطاط المسلمين:

إن اختيار الحديث عن هذه الشكوى لم يأت اعتباطاً وليس هو من الترف الفكري بل هو ناشئ عن بصيرة نافذة ونظر ثاقب في تحليل واقع المسلمين وما تردت إليه أوضاعهم حتى صاروا يهدون مقتلهم على طبق من ذهب إلى أعدائهم الذين هم إبليس والنفس الأمارة بالسوء وصنيعتها الغرب الكافر الذي جهد على أن يفصل بين المسلمين وعنوان عزهم وشرفهم وكرامتهم وهو القرآن وها هو غريب بينهم، لذا ثارت في قلبي شجون.

إن أسباب انحطاط الأمة وما آلت إليه من ضعف وانحلال هو إعراضها وعدم تمسكها بحبل الله تبارك وتعالى الذي أمرهم بالاعتصام به فقال عز من

ص: 294


1- معاني الأخبار: الشيخ الصدوق، ص228.

قائل:{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}(آل عمران:103)، وقد بين رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هذا الحبل فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(وإني مخلف فيكم الثقلين:الثقل الأكبر القرآن والثقل الأصغر عترتي أهل بيتي هما حبل الله ممدود بينكم وبين الله عز وجل ما إن تمسكتم به لم تضلوا، سبب منه بيد الله وسبب بأيديكم . . . الحديث)(1).

ما تمسك بالقرآن مَن أعرض عن العترة الطاهرة:

ولكن الأمة تركت كتاب الله وابتعدت عنه منذ أن أقصت العترة الطاهرة عن مكانها الذي اختارهم الله سبحانه له لعدم إمكان الفصل بينهما معرضين عن

قوله تعالى:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}(القصص:68).

ومن خطل القول وتسويلات الشيطان ونزغات النفس الأمارة بالسوء أن يقول قائل (حسبنا كتاب الله)(2) التي لا يزال يكررها وينفثها الشيطان على لسان من يريد أن يقوض بناء الإسلام من أسسه بما فيها القرآن الذي يدعي أنه حسبه لأنه يعلم أن القرآن إنما يكتسب فاعليته ويؤدي دوره بالقائم به الواعي لأحكامه ومفاهيمه وهم العترة.

وهذه الفتنة –الفصل بين القرآن والناطق به - قديمة وممن ابتلي بها أمير المؤمنين حينما أجبر على التحكيم وعلى أن يجعل القرآن حكماً، قال

ص: 295


1- بحار الأنوار: 92/ 102.
2- البداية والنهاية- ابن كثير: 5/ 247

(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(هذا القرآن إنما هو خط مستور بين الدفتين لا ينطق بلسان ولا بد له من ترجمان وإنما ينطق عنه الرجال)(1) فالكتاب والعترة صنوان لا يفترقان ولا يمكن التمسك بأحدهما دون الآخر فإن أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) هم باب الله الذي لا يؤتى إلا منه وقد أمرنا بإتيان البيوت من أبوابها.فما يزعمه غيرنا من اهتمامه بالقرآن أكثر منا باطل جزماً، نعم، اهتموا بمخارج حروفه وتحسين الصوت إلى حد الغناء بقراءته وضبط قواعد التجويد التي وضعوها هم وبعضها مخالف للحكم الشرعي، وهذه كلها اهتمامات قشرية والمهم هو استيعاب المحتوى والمضمون والعمل به فإن اللفظ هو قشر والمعنى هو اللب والمتكلم لا يلحظ اللفظ بنفسه بل يتخذه وعاءً للمعنى وآلة لإيصاله إلى المخاطب والمعنى هو المراد الحقيقي للمتكلم.

وقد وردت أحاديث كثيرة في ذم المتشدقين بألفاظ القرآن وحروفه المضيعين لمعاني القرآن وحدوده ففي الحديث المشهور (كم من قارئ للقرآن والقرآن يلعنه)(2) وهو خصمه لأنه غير عامل بما فيه وفي حديث عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قرّاء القرآن ثلاثة:رجل قرأ القرآن فاتخذه بضاعة واستدر به الملوك واستطال به على الناس فذاك من أهل النار، ورجل قرأ القرآن فحفظ حروفه وضيع حدوده فذاك من أهل النار، ورجل قرأ القرآن فوضع دواء القرآن على داء قلبه فأسهر به ليله وأظمأ به نهاره وقام به في مساجده وتجافى به عن فراشه فبأولئك يدفع الله العزيز الجبار البلاء، وبأولئك يديل الله من الأعداء-أي ينصرهم

ص: 296


1- نهج البلاغة: الخطبة 125.
2- مستدرك الوسائل: كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، باب7، حديث 7.

على الأعداء- وبأولئك ينزل الله الغيث من السماء فوالله هؤلاء قراء القرآن أعز من الكبريت الأحمر)(1). وفي حديث عن الإمام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(وإن أحق الناس بالقرآن من عمل به وإن لم يحفظه وأبعدهم منه من لم يعمل به وإن كان يقرأه)(2).

لكي يفرغوا مضمون القرآن:

فيبدو من هذا أن خطّة الفصل بين الكتاب والعترة وبالتالي تفريغ الكتاب من محتواه ومضمونه والتشجيع على الاهتمام بألفاظه فقط قديمة، وقد نبه إليها المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فأي اهتمام بالقرآن وهو يقرأ قوله تعالى:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} (القصص:68) ثم يعرضون عمن اختارهم الله تبارك وتعالى ويقدمون غيرهم وقد جعل الله تعالى هذا الأمر كله في كفة ورسالة الإسلام كلها في كفة أخرى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}(المائدة:67).

وأي اتباع للقرآن الذي يقول برفيع صوته {قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}(الشورى:23) وهم ينصبون العداء لأهل بيت النبوة ويتتبعونهم تحت كل حجر ومدر ولو كان لهم أدنى فهم لكتاب الله لضموا هذه الآية إلى قوله تعالى {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً}(الفرقان:57) ليحصلوا على حقيقة أن أهل البيت هم السبيل الذي أمر الله

ص: 297


1- الخصال: 142.
2- إرشاد القلوب: 79.

تعالى باتباعه بقوله {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(الأنعام:153) وبه فسر الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الآية فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(نحن السبيل فمن أبى هذه السبل فقد كفر)(1).

كلمة حق يراد بها باطل:

ولا أقول أن كلمة (حسبنا كتاب الله) والأبواق التابعة لها التي ترددها إلى الآن وتطلب الدليل من القرآن فقط على أي شيء يقال لهم هي كلمة حق يراد بها باطل بل هي كلمة باطل يراد بها باطل وهؤلاء إنما يريدون بذلك هدم أسس الإسلام لأن الاكتفاء بالقرآن –كما يزعمون - يعني استغناءهم حتى عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهو يعني الجهل بكل تفصيلات الشريعة، فإن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والأئمة المعصومين من آله هم القائمون على أمر الكتاب والمبينون لأحكامه.

وهذه العلوم كلها بين يديك هل تستطيع أن تكون طبيباً أو مهندساً من دون أخذه على يد المتخصصين العارفين بأسراره وفك رموزه؟ فكيف بالقرآن الذي هو:{تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ}(النحل:89) و {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}(الأنعام:38) وفيه صلاح البشرية جميعاً ولكل الأزمنة {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}(الصافات:154) وقد نبه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلى هذا الخطر بقوله:(لا

ص: 298


1- بحار الأنوار: 24/ 13، باب: أنهم ع السبيل والصراط وهم وشيعتهم.

ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول:لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)(1).

التخطيط لقتل الإسلام:

ولكن أعداء الله سبحانه وأتباع الشيطان علموا أن القرآن هو حصن هذه الأمة الحامي لها من الزيغ والانحراف، وأن أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) هم بيانه وترجمانه والعارفون بحقائقه وحبل الوصل بينه وبين الأمة فخططوا لإبعادهم عن الأمة فبقيت الأمة بلا راع والحصن بلا حام، وأصبحت فريسة سهلة بيد الأعداء والمتربصين بها السوء، وها أنت تراها تتزعزع لأبسط شبهة وتسقط في أول فتنة وتنهار بأول اختبار ((وهذه أعظم ثلمة انثلم بها علم القرآن وطريق التفكر والتفكير الذي يندب إليه، ومن الشاهد على هذا الإعراض قلة الأحاديث المنقولة عنهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فإنك إذا تأملت ما عليه علم الحديث في عهد الخلفاء من المكانة والكرامة وما كان عليه الناس من الولع والحرص الشديد على أخذه ثم أحصيت ما نقل في ذلك عن علي والحسن والحسين وخاصة ما نقل من ذلك في تفسير القرآن لرأيت عجباً:أما الصحابة فلم ينقلوا عن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) شيئا يذكر وأما التابعون فلا يبلغ ما نقلوه عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) -إن أُحصي - مائة رواية في تمام القرآن، وأما الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فلعل المنقول عنه لا يبلغ عشراً، وأما الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فلم ينقل عنه شيء يذكر، وقد أنهى بعضهم الروايات الواردة في التفسير إلى سبعة عشر

ص: 299


1- الميزان في تفسير القرآن: ج3 في البحث الروائي للآيات 28-32 من سورة آل عمران، نقله عن أحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجة وابن حبّان وغيرهم من رواة العامة.

ألف (ذكره السيوطي في الإتقان) حديث من طريق الجمهور وحده، وهذه النسبة موجودة في روايات الفقه أيضاً))(1).

الخسارة الجسيمة:

فماذا كانت خسارة القرآن بإبعاد أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) عن ممارسة دورهم الذي اختارهم الله تبارك وتعالى له:

1-غياب الكثير من العلوم الحقيقية التي لا يفهمها من الكتاب إلا هم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

2-تراجع القرآن عن ممارسة دوره في إصلاح النفس والمجتمع لأنه والعترة صنوان لا يفترقان ولا يستطيع أن يكون فاعلاً في حياة الأمة إلا بأيديهم.

3-وقوع القرآن فريسة بأيدي المتلاعبين وأصحاب الأهواء والأغراض الشخصية بل والأعداء أيضاً، فترى كلاً منهم يجد دليلاً على معتقده في كتاب الله حتى الخوارج كانوا يستدلون بالقرآن كما حصل بعد التحكيم بينهم وبين ابن عباس فنهاه علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن الاحتجاج بالقرآن لأنه (حمّال ذو وجوه)(2) وراحت معانيه الحقيقية ضحية التأويلات التي حذر القرآن من اتباعها:{فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ}، لكن الجواب واضح وأعطاه القرآن مقدماً:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ

ص: 300


1- الميزان في تفسير القرآن: ج5/ بحث تأريخي في ذيل الآيات 15-19 من سورة المائدة.
2- بحار الأنوار: 2/ 245.

إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (آل عمران:7)، وأوضح مصاديق الراسخين في العلم هم أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).4-تشتت الأمة وضياعها وتمزيقها لأن عصمتها ومحور تجمعها القرآن وأهل البيت بحسب تفسير رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لقوله تعالى:{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}(آل عمران:103)، فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):إنهم الكتاب والعترة، وقد عبرت الزهراء (س) عن هذه العصمة في خطبتها في مسجد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(وجعل إمامتنا نظاما للملة)(1) أي بها تنتظم أمورهم وتستقر، فكانت نتيجة ابتعادهم عن أهل البيت فناءهم بيد المتسلطين وعبدة الأهواء الذين استغلوا نفس هذا القرآن ليهلكوا الحرث والنسل وكان من (وعاظ السلاطين) والسائرين في ركابهم من يبرر لهم هذه الأفعال المنكرة، كقوله تعالى:{أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء:59)، فجعلوا أولئك الكفرة الفسقة أولياء لأمور المسلمين.

الوصية بحفظ القرآن

فلا تغرنكم دعوى هؤلاء بأنهم ملتزمون بالقرآن أكثر منا(2) واحفظوا القرآن لأنه أهل للحفظ والعمل به وكونوا كما أوصاكم أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قبيل

ص: 301


1- كشف الغمة: 2/ 110.
2- وقد أكدت على هذه النقطة لانخداع كثير من السذج بهذه الدعوى وراحوا يصدقونهم بعدم الإيمان بشيء إلا إذا وجد دليل عليه من القرآن وإسقاط الاستدلال بالسنة من الحساب.

استشهاده:(الله الله بالقرآن لا يسبقكم إلى العمل به غيركم)(1)، وفي وصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأمير المؤمنين في العمل بأربعين حديثاً قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(وأن تكثر من قراءة القرآن وتعمل بما فيه)(2).

القرآن طريق الوصول إلى المعرفة:

فمن أراد الله سبحانه وطلب الوصول إليه لأن أول الدين معرفته تبارك وتعالى فعليه بالقرآن (لقد تجلى الله لخلقه في كلامه، ولكن لا يبصرون)(3)، كما هو مروي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ومن أراد إصلاح نفسه وتهذيبها وتخليصها من أمراضها فعليه بالقرآن، ومن أراد إصلاح مجتمعه وإقامة أمره على السلام والسعادة والطمأنينة فعليه بالقرآن فإنه الدليل لكل هدى والمرشد لكل خير وصلاح.

ومن العجب أنك حين يعطل جهاز تذهب إلى الجهة المصنّعة له لكي تصلحه فإن صانع الشيء خبير به، وإذا مرضت –لا سمح الله - فتذهب إلى الطبيب المختص لكي يعالج المرض، ثم عندما تريد أن تصلح النفس الإنسانية ذات الأسرار الغامضة الخافية عن صاحبها فضلاً عن غيره، أو أن تضع نظاماً يكفل للبشرية سعادتها وإصلاحها تلتمس العلاج عند نفس البشر الناقصين العاجزين

ص: 302


1- بحار الأنوار: 42/ 256.
2- الخصال: أبواب الأربعين، حديث 19.
3- عوالي اللآلي: 4/ 116.

القاصرين. ولا تذهب إلى صانع هذا الإنسان وخالقه ومصوره والعارف بالنفس البشرية.وقد صدَّقت ذلك –أي فاعلية القرآن في إصلاح النفس والمجتمع- التجربة العظيمة لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فإن مقارنة بسيطة بين مجتمع ما قبل الإسلام وما بعده والنقلة الضخمة التي حصلت للأمة من أناس همج جهلة متشتتين قد تفشت بينهم الرذائل يتفاخرون بالمنكرات والقبائح إلى أمة متحضرة كريمة الأخلاق ذات نظام لم ولن تعرف البشرية البعيدة عن الله سبحانه مثله وبفترة قصيرة وكل ذلك ببركة هذا الكتاب الكريم وحامله العظيم.

حاجتنا إلى إعادة القرآن إلى الحياة:

فنحن إذن بحاجة إلى إعادة فاعلية القرآن في حياة المسلمين وإخراجه من عزلته بحيث اقتصر وجوده على المآتم التي تعقد للموتى والعوذ والأحراز .

وقد ورد في بعض الكلمات (إن آخر هذه الأمة لا ينصلح إلا بما صلح به أولها)، وقد صلح أولها بالقرآن فإذا أرادت الأمة أن تستعيد عافيتها وتعود إلى رشدها فعليها بالقرآن، عن المقداد (رضوان الله عليه) عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال في حديث:(فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع وماحل مصدق ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار وهو الدليل يدل على خير سبيل)(1)، وقال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في بعض خطبه:(واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش والهادي الذي لا يضل،

ص: 303


1- الكافي: 2/ 299.

والمحدث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان:زيادة في هدى ونقصان من عمى، واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة ولا لأحد قبل القرآن من غنى فاستشفعوه من أدوائكم واستعينوا به على لأواءكم فإن فيه شفاءً من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق والغي والضلال فاسألوا الله عز وجل به وتوجهوا إليه بحبه ولا تسألوا به خلقه إنه ما توجه العباد إلى الله بمثله، واعلموا أنه شافع مشفع وماحل ومصدق وأنه من شفع له القرآن يوم القيامة صدق عليه فإنه ينادي مناد يوم القيامة:(ألا إن كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله غير حرثة القرآن)، فكونوا من حرثته وأتباعه واستدلوه على ربكمواستنصحوه على أنفسكم واتهموا عليه آراءكم واستغشّوا فيه أهواءكم)(1).

اهتمام النبي وأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين) بالقرآن:

ولقد بلغ اهتمام أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بالقرآن أقصاه حتى قال الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(لو مات من بين المشرق والمغرب لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي)(2).

لقد أُمر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بتلاوة القرآن:{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} (المزمل:4) وأمره تبارك وتعالى بالاستعداد لتحمله بالالتزام بنافلة الليل فقال تعالى:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً، إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ

ص: 304


1- نهج البلاغة، شرح محمد عبده: 1 / 347 . الخطبة (177) وأولها: (انتفعوا ببيان الله واتعظوا بمواعظ الله).
2- الكافي: 2/ 602.

قِيلاً} {المزمل:5-6) ولم يكتف رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بتلاوته بل كان يطلب من عبد الله بن مسعود أن يقرأ القرآن عليه فيعتذر إليه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لعبد الله بن مسعود اقرأ عليَّ قال:اقرأ عليك وعليك اُنزل قال:إني أحب ان أسمعه من غيري قال:فقرأ عليه من أول سورة النساء إلى قوله:{كَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} (النساء:41) فبكى)(1) يريد بذلك أن يمتع جميع جوارحه بالقرآن عينه وأذنه وقلبه ولسانه وهو يعلم أن لكل جارحة طريقتها في اكتساب المعرفة فأراد - وهو أكمل الخلق - أن تتكامل لديه كل أسبابها، وقد قيل:أن من فقد حساً - أي أحد حواسه الخمس - فقد فَقَد علماً، فيريد أن يستفيد من معارف القرآن عن طريق جميع جوارحه، لذا ورد استحباب أن يقرأ القرآن بصوت مسموع. هذا غير ما ورد في فضل وثواب الإنصات إلى القرآن والنظر في المصحف وإن كان يحفظ ما يقرأ حتى لو كان في الصلاة، مما سيأتي إن شاء الله تعالى في مجموعة الأحاديث الشريفة.وكان (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يتفاعل مع القرآن، قرأ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سورة الرحمن على المسلمين وهم منصتون له فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):لقد قرأتها على الجن فكانوا أحسن استماعاً منكم، قالوا وكيف يا رسول الله؟ قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):كانوا كلما قرأت:{فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} يقولون هم:لا بشيء من آلائك ربنا نكذّب(2)، وإذا قرأ قوله تعالى:{أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى} يقول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):بلى سبحانك

ص: 305


1- صحيح مسلم: 2/ 196
2- بحار الأنوار- المجلسي: 60/ 117

اللهم، لأنه كان يسمع من الله تبارك وتعالى مباشرة من خلال السطور. وسيأتي أن الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كان يقرأ وكأنه يخاطب إنساناً(1)، قرأ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سورة الزمر على شاب نقي القلب طاهر السريرة فلما وصل إلى قوله تعالى:{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً}(الزمر:71) وقوله تعالى:{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً}(الزمر:73) شهق ذلك الشاب شهقة كانت فيها نفسه، وقرأ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سورة هل أتى على الإنسان حين من الدهر وقد أنزلت عليه وعنده رجل أسود فلما بلغ صفة الجنان زفر زفرة(2) فخرجت نفسه فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):أخرج نفس صاحبكم الشوق إلى الجنة، فهؤلاء ممن وصفتهم الآية الشريفة:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}(البقرة:121).

دواعي الاهتمام بالقرآن:

وقد ظهر مما سبق أكثر من محفز للاهتمام بالقرآن الكريم ألخصها مع نقاط جديدة غير ما سمعته إن شاء الله تعالى في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة:

1-إنه العلاج الناجح والكامل لأمراض البشر النفسية والاجتماعية والروحية بل والجسدية أيضاً، كما سيأتي في بعض الأحاديث الشريفة.

ص: 306


1- وسائل الشيعة (آل البيت): 6/ 208/ح3
2- الدر المنثور- السيوطي: 6/ 297

2-عدم استغناء طالب الكمال والسعادة الأبدية - وهو الهدف الأسمى وغاية الغايات - في الدنيا والآخرة عنه والاهتداء بهديه والأخذ بسبيله، ويزداد سمو الإنسان وتكامله كلما ازدادت استفادته من القرآن.

3-إن في الاهتمام به تأسياً برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبأهل بيته الكرام وقد أمرنا بذلك في قوله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}(الأحزاب:21).

4-إن القرآن هو رسالة الحبيب المطلق والإنسان لا يمل من إعادة قراءة رسالة حبيبه وملء النظر منها والتدبر في معانيها والله تبارك وتعالى هو المحبوب الحقيقي لاجتماع أسباب المحبة فيه، فإن الحب إما أن يكون لكمال المحبوب وحسنه وقد اجتمعت صفات الكمال والأسماء الحسنى فيه تبارك وتعالى، أو يكون لأجل صدور الفضل والإحسان منه، والله هو المنعم المتفضل المنان ابتداءً من غير استحقاق وحتى للعاصين من عباده {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا}(النحل:18)، وهكذا .وبهذا المعنى ورد في الحديث عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(القرآن عهد الله إلى خلقه فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده وان يقرأ منه كل يوم خمسين آية)(1).

5-الثواب العظيم والأجر الجزيل الذي لا حدود له الذي يعطي لقارئ القرآن والمتدبر في آياته مما سنقرأه إن شاء الله تعالى في الأحاديث الشريفة.

ص: 307


1- الكافي: 2/ 609.

6-إن القرآن لما كان كتاباً حياً خالداً لكل زمان ومكان فإن المواقف التي عالجها والمشاكل التي واجهها لا تختص بزمان دون زمان، فيستفاد من القرآن إذن الحلول الدائمية المستمرة للمواقف المتجددة، وسنعرض الكثير منها في طي البحث كفكرة المقارنة بين الجاهليتين الأولى والحديثة، وفي هذا المعنى ما ورد عن الحارث الأعور قال:(دخلت المسجد فإذا أناس يخوضون في أحاديث فدخلت على علي فقلت:ألا ترى أن أناساً يخوضون في الأحاديث في المسجد؟ فقال:قد فعلوها؟ قلت:نعم، قال:أما إني قد سمعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول:ستكون فتن، قلت:وما المخرج منها؟ قال:كتاب الله، كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم. هو الفصل ليس بالهزل، هو الذي من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، فهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم..)(1).

7-تعلّم المعارف والعلوم وأسرارها المودَعة فيه، بحيث أن مثل أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الذي يصف علمه عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن بأنه:ما علمي وعلم جميع أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في علم علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلا كقطرة في بحر، أقول مثل علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في علمه (قيل له:هل عندكم شيء من الوحي؟ قال:لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يعطي الله عبداً فهماً في كتابه)(2).

ص: 308


1- سنن الدارمي:2/ 435، كتاب فضائل القرآن، ومثله في كتب الخاصة.
2- ذكره في الميزان عن بعض المصادر:ج3، في تفسير الآيات 7-9 من آل عمران.

ففي هذا الكتاب من العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة والتشريعات الحكيمة ونكات البلاغة وحسن البيان ما يلبي كل حاجة، وفيه أسرار الخلق وعجائب المخلوقات داخل جسم الإنسان وفي الكون والطبيعة، وفيه ما لم تتوصل إليه عقول المكتشفين. ولا يعني هذا أن القرآن كتاب فيزياء أو كيمياء أو فلك أو طب حتى تنعكس عليه أخطاؤها ونقائصها، وإنما هو كتاب هداية وإصلاح يوظف كل الأدوات لتحقيق غرضه، وهذه العلوم كلها تصب في هذا الهدف ويأخذ منها مقدار ما يحقق غرضه.8-براءة الذمة من شكوى القرآن إذا هجر، كما في الحديث الشريف المتقدم (ثلاثة يشكون . . .) وشكوى القرآن لا ترد عند الله تبارك وتعالى، كما في الحديث الشريف في وصفه أنه:(ماحِلٌ مصدَّق) أي أنه خصم مصدَق ويعطى الحق له ويدعم هذه الدعوى شكوى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) المذكورة في القرآن:{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} (الفرقان:30).

9-الفوز بشفاعة القرآن، فقد وصفه الحديث بأنه:(شافع مشفّع) وفي صفه شفاعته يقول الحديث:(وكان القرآن حجيزاً عنه - أي حاجزاً وساتراً عن قارئ القرآن - يوم القيامة، يقول:يا رب إن كل عامل أصاب أجر عمله غير عاملي فبلّغ به أكرم عطائك، قال:فيكسوه الله العزيز الجبار حلتين من حلل الجنة ويوضع على رأسه تاج الكرامة ثم يقال له:هل أرضيناك فيه؟ فيقول القرآن:يا رب قد كنت أرغب له فيما هو أفضل من هذين قال:فيُعطى الأمن بيمينه والخلد بيساره ثم

ص: 309

يدخل الجنة فيقال له:اقرأ آية فاصعد درجة ثم يقال له هل بلغنا به وأرضيناك؟ فيقول:نعم)(1).وغير هذه الفوائد كثير، وأنت ترى أن بعضها لا يختص بالمسلمين، لذا تجد إقبال المفكرين والعلماء والقادة على الأخذ من هذا القرآن وإن لم يكونوا مسلمين.

وإلى هنا يكون ما ذكرت من المحفزات كافياً لأن يثير الإنسان ويحركه ويدفعه نحو احتضان هذا الكتاب الكريم المعطاء والاهتمام به حتى يخالط لحمه ودمه، وإني هنا ألُزم(2) كل من يرى لي حقاً عليه سواء كان أخلاقياً أو شرعياً أن يختم القرآن على الأقل في السنة مرتين. وهذا مقدار يسير جداً إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن شهر رمضان وحده يمكن أن يُقرأ فيه نصف هذا المقدار أو أكثر.

وأهم مما ذكرت من المحفزات ما ورد في الأحاديث الشريفة التي اخترت لك منها مجموعة تتجاوز الأربعين حديثاً جرياً على سنة السلف الصالح الذين ألفّوا الكثير من كتب (الأربعون حديثاً) في شتى حقول المعرفة عسى أن يكونوا وأكون معهم من أهل هذا الحديث الشريف، قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(من حفظ عني من أمتي أربعين حديثاً في أمر دينه يريد به وجه الله عز وجل والدار الآخرة بعثه الله يوم القيامة فقيها عالماً)(3).

ص: 310


1- الكافي: 2/ 604.
2- شكّل هذا الإلزام حافزاً قوياً لدى الكثيرين للعمل به، جزاهم الله خير جزاء المحسنين.
3- الخصال: 2/ 542 باب (الأربعون).

القرآن يصف نفسه:

ولكن الأهم من ذلك أن أتلو عليكم بعض الآيات التي وصف بها القرآن

الكريم نفسه لنتعرف عليه، فإنه أعرف بذلك وهو كلام خير القائلين. ومن هذه الآيات تعرف جلالة قدر هذا الكتاب وعظمة آثاره وبركاته:

1-{هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} (آل عمران:138).

2-{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} (النساء:105).

3-{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِينًا، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} (النساء:174-175).

4-{قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (المائدة:15-16).

5-{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} (المائدة:66).

6-{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} (المائدة:68).

7-{مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء} (الأنعام:38).

8-{وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ َ} (الأنعام:92).

ص: 311

9-{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأعراف:204).

10-{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (يونس:57).

11-{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} (الإسراء:9).

12-{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الزمر:23).

13-{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت:41 - 42).

14-{اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانٌَ} {الشورى:17).

15-{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} {الزخرف:4).

16-{وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} {الزخرف:36).

17-{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} {الزخرف:43-44).

18-{هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ} {الجاثية:20).

ص: 312

19-{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد:24).

20-{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} {ق:1).

21-{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (القمر:40).

22-{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ، لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} (الواقعة:77-79).

23-{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد:16).

24-{لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} {الحشر:21).

25-{وَرَتِّ-لِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} {المزمل:4-5).

26-{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} {البروج:21 - 22).

27-{إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ، وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} {الطارق:13 - 14).

28-{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا، قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} (الكهف:1 - 2).

29-{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} {النحل:89).

ص: 313

30-{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فإن لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُ-رُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (طه:124).

هذا بعض ما يتصف به القرآن من صفات وآثار حسنة فهو كتاب مبارك عزيز كريم مجيد وهو بيان وهدى وموعظة ورحمة وشفاء وذكر ونور نزل بالحق ليحكم بين الناس ويدخل المؤمنين في رحمة الله وفضله ويهديهم صراطاً مستقيماً وهو عليّ حكيم وبصائر للناس وقول ثقيل وفصل وما هو بالهزل، لذا فهو - أي حقائقه التي جُعِلت هذه الألفاظ وعاءاً لها وهي كالأمثلة لتقريب تلك الحقائق والمعاني العميقة إلى الأذهان - في كتاب مكنون ولوح محفوظ لا يمسه ولا يصل إلى فهم حقائقه الواقعية بشكل كامل إلا المطهرون من الذنوب والمعاصي والآثام وانجلت مرآة قلوبهم عن كل دنس فصارت تعكس بشكل كامل صفحة اللوح المحفوظ، أما غيرهم فليسوا جديرين بحمله إلا بمقدار ما أوتوا من الكمال{أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} (الرعد:124).

أمِرَ الناس بتدبرّه وترتيله والتمسك به والإنصات له ولو كان من غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً، فإن أقاموه وتمسكوا به أكلوا من فوق رؤوسهم ومن تحت أرجلهم وخشعت قلوبهم ولانت، وكانوا أهلاً للفيوضات الإلهية وإن أعرضوا عنه أصبحوا في عيشة ضنكى واعتورتهم الشياطين حتى تصبح قرناء لهم وقست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة فإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يهبط من خشية الله وهذه القلوب البعيدة عن القرآن وذكر الله

ص: 314

سبحانه صمّ جامدة لا تجري فيها ولا قطرة من أنهار المعرفة {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر:21).

شرح لبعض أوصاف القرآن:

ولكن هذا الشرح الإجمالي لصفات القرآن غير كافي، لذا أرى من الضروري تقديم شرح أكثر تفصيلاً لبعض هذه الصفات مما لها آثار اجتماعية أو أخلاقية تاركاً البعض الآخر إلى التفاسير المطولة في موارد الآيات التي ذكرتها، وإنما اذكر هذه الأوصاف ليس فقط للتعرف على القرآن بل للتعرف على أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لأنهم عدل الكتاب وهما صنوان لا يفترقان فإذا كان القرآن ينطق بالحق فإنهم مع الحق والحق معهم وهو لا يأتيه الباطل وهم معصومون وإذا كان الكتاب قيّماً ومهيمناً، فلهم (صلوات الله عليهم أجمعين) قيمومة وسلطنة على الناس وهم أئمتهم وقادتهم وأولى بهم من أنفسهم، وهكذا:

مبارك:

أي كثير البركة وهو كذلك من عدة جهات فهو مبارك في محل صدوره لأنه نازل من الله تبارك وتعالى المتفضل المنان مفيض النعم التي لا حصر لها ولا عد، ومبارك في محل نزوله وهو قلب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الرحيم الكريم الذي أُُرسل رحمة للعالمين، ومبارك في آثاره ففيه الهداية والخير والسعادة في الدنيا والآخرة وفيه نظام حياة البشرية وقوامها وحفظ كيانها وفيه السلام والطمأنينة، ومبارك في حجمه فهو كتاب واحد إلا أن جميع أرباب العلوم والمعرفة يغترفون منه وهو معين لا ينضب فتجد الأصولي والفقيه والنحوي والأديب والمفكر

ص: 315

والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والطبيب والمشرّع والحاكم يأخذون منه ويستدلون بآياته ومع ذلك يبقى خالداً معطاءً وهذا دليل نزوله من الله فإن هذا كله مما لا يمكن لكتب عديدة أن تضمه وتحويه، وهو مبارك بعدد الذين اهتدوا على يديه وتنورت قلوبهم وعقولهم ببركته.

عزيز:

أي يصعب مناله فإنه في كتاب مكنون وحقائقه العليا محفوظة في اللوح المحفوظ وما هذه الكلمات إلا أمثال لتقريب تلك المعاني إلى أذهان البشر المستأنسة بالماديات والتي لا تسمو لتنال تلك الحقائق، نعم، يمسها ويصل إليها ويعيها المطهرون الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً وهم آل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقد سمعتَ أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول:إننا لا نملك علماً أكثر من فهم لهذا الكتاب، وهو عزيز بمعنى يندر وجود مثله وهو كذلك لأنه كلام من ليس كمثله شيء، وهو عزيز أي ممتنع عن أن ينال بسوء، فيكون بمعنى الآية الشريفة:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر:9)، وهو عزيز بمعنى أنه قاهر وغالب ومتسلط لأنه كلمة الله وكلمة الله هي العليا فهو يعلو ولا يعلى عليه وموقعه دائماً التسلط والحاكمية على العباد والتصرف في شؤونهم، وهو عزيز بمعنى مطلوب كما قيل كل موجود مملول وكل مفقود مطلوب، وهذا الكتاب مطلوب لكل من أراد الوصول إلى الله تبارك وتعالى.

ص: 316

مجيد:

قال الراغب في المفردات:المجد:السعة في الكرم والجلال وأصله في قولهم (مَجدَتْ الإبل) إذا حصلت في مرعى كثير واسع فوصف القرآن بالمجيد لكثرة ما يتضمن من المكارم الدنيوية والأخروية وعلى هذا وصفه بالكريم بقوله تعالى:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} (الواقعة:77).

لسعة فيضه وكثرة جوده،وقد أشرنا في شرح صفة (مبارك) إلى هذه الآثار الواسعة.

قيَّماً:

من القيمومة، فهذا الكتاب قيّم على العباد ليسوقهم ويقودهم ويدلّهم على ما يصلحهم ويهيئ لهم كل أسباب السعادة في الدنيا والآخرة كما يفعل القيّم على الأسرة أو على المجتمع، ومنهج القرآن قيّم على جميع المناهج الأخرى سواء على مستوى العقائد أو التشريعات وهو مقدم عليها وقائد لها وهي تابعة وخاضعة ومحكومة له، فالقيمومة العليا في هذه الحياة للقرآن إن أرادت البشرية خيرها وسعادتها لا ما فعلته بالابتعاد عن منهج القرآن وتحكيم عقول البشر القاصرة الخاضعة غالبا لمنطق الأهواء والمصالح وقد مهدت الآية لهذه القيمومة بأن وصفته أنه لاعوج فيه ولا نقص ولا خلل ولا قصور، فقال تعالى:{وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} (الكهف:1). فمن شروط القيمومة على البشر من يريد تكميل غيره أن يكون كاملاً في نفسه فإن فاقد الشيء لا يعطيه كما قالوا، ومن ضرورة القيمومة على البشر أن يتصدى لها من لا نقص فيه ولا خلل ولا قصور ولم يتحقق ذلك إلا في هذا الكتاب الكريم وعدله الثقل الأصغر أهل بيت النبوة وكل ما سواهم لاحقّ

ص: 317

له في إمامة المجتمع والقيمومة عليه، وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة أوجبت تقديم الكتاب والعترة.{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فإن لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} (طه:124)، أي ضيّقة وهذه صفة كل من يعرض عن ذكر الله تبارك وتعالى ويكون مقطوع الصلة به سبحانه ويعيش بعيداً عن القرآن الكريم فإنه يكون في ضيق وتعاسة وألم لأنه انسلخ من رحمة الله الواسعة ووقع فريسة الأهواء والمطامع والشهوات التي لا تقف عند حد فهو في رعب خشية الموت فيخسر الدنيا التي هي همه وما له في الآخرة من نصيب، ويعيش الحرص على ما في يده خشية الفوت، ويعيش التعب لأنه يلهث وراء سراب، فما يحقق شيئا يظن أن فيه سعادته حتى يكتشف أنه متوهم فيسعى إلى غيره، فمثلاً يظن أن سعادته في المال حتى جمع المليارات فما تحققت سعادته، فيظن أنها في الدور الفارهة فيبني منها ما لا عين رأت فلا تحقق سعادته، فيظن أنها في النساء فيستمتع بما شاء منهن ثم يجد نفسه قد وصل إلى طريق مسدود فينطبق عليه قوله تعالى:{فَلَمَّآ رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي}، والقمر كناية عن المال فظن أنه ربه وكافل سعادته {فَلَمَّا أَفَلَ} وفشل في تحقيقها له {قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ}، {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً}، وهي كناية عن أمور دنيوية أخرى {قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ} وهذا الذي يحقق لي السعادة وطمأنينة القلب لأنه {هَذَآ أَكْبَرُ}.

وأهم وأعظم تأثيراً {فَلَمَّا أَفَلَ} وفشل هذا الرب الجديد في تحقيق السعادة {قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} وهؤلاء الأرباب الناقصين الذين لا يملكون لأنفسهم فضلاً عن غيرهم ضراً ولا نفعاً، وعندئذ إن كان مخلصاً في البحث عن

ص: 318

الحقيقة كتبت له الهداية وقال مقالة المؤمنين:{قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام:76-79)، وإن لم يكن كذلك كتبت عليه الشقاوة وكان جوابه:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إذا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ واللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (النور:39).وهكذا يبقى في شقاء ونكد وضيق بين مطرقة الموت الذي يمكن أن يختطفه في أية لحظة، وسندان الحرص والطمع {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} (البقرة:96)، وأنت ترى أن أكثر حالات الانتحار هي في الدول المرفهة اقتصادياً والتي تعيش التخمة ومنشأه هذا النكد والفتك الذي يعيشه بسبب الخواء الروحي.

{قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (المائدة:15-16)، فهو نور لأنه يشرق أولاً في قلب المؤمن فيطهّره من أدران المعاصي وكدورات الذنوب ويجلي صفحته ليكون مستعداً لتجليات الحق فيه وهو نور للأمة وللمجتمع يرشدها إلى النظام الذي يكفل سعادتها.

ومن لطيف التعبير القرآني أنه جعل لفظ النور مفرداً والظلمات جمعاً لأن طريق الحق واحد لا يتعدد وإن تعددت سبله ومصاديقه . قال تعالى:{اهدِنَا

ص: 319

الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ}(الفاتحة:6)، بينما الظلمات عديدة والآلهة التي تصد عن الله تبارك وتعالى كثيرة.ومن آثار القرآن وبركاته أنه يهدي من اتبع رضوان الله تعالى سبل السلام وأول سلام ينعم به هو سلام النفس وطمأنينة القلب وصفاء الذهن {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(الرعد:28)، ثم السلام داخل العائلة والأسرة التي تقوم على أساس الإسلام وتعاليم القرآن {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}{الروم:21)، ثم السلام بين أفراد المجتمع عندما تسودهم آداب الإسلام {فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً}(آل عمران:103)،{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}{الفتح:29)،{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}(الحشر:9).

قول ثقيل:

والثقل للمعنى الذي يحمله القول أو اللفظ هو ثقيل على النفس لأنه يمسك بزمام شهواتها فلا يطلق لها العنان وإنما يهذبها ويقومها ويقودها، وهو ثقيل على العقل لما يتضمنه من أسرار ودقائق يصعب تحملها على العقول الجبارة وثقيل على الروح لما فيه من تكاليف شاقة وتربية مكثفة وإليه أشار (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) شيبتني هود والواقعة لأن فيها فاستقم كما أمرت وهو (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يعرف ثقل هذا الأمر.

ص: 320

ومنشأ ثقله صدوره من الله العظيم، لذا تنقل كتب السير حالته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عند نزول الوحي عليه وقد وصف القرآن ثقله بقوله:{لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(الحشر:21).وهو ثقيل لما يصيب حامله والساعي إلى إقامته في المجتمع من محن وبلايا وصعوبات. قال تعالى:{المص، كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}(الأعراف:1-2) لذلك أمر (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بقيام الليل والتعلق بالله تبارك وتعالى وتعميق الصلة به استعداداً لتلقي هذا القول الثقيل والمسؤولية العظيمة وقد وعده تعالى بتحصيل هذه النتائج، قال تعالى:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُوداً}(الإسراء:79).

موعظة وشفاء وهدى ورحمة:

واًختصر هنا ما ذكره السيد الطباطبائي (قدس سره) في تفسير الآية(1):

قال الراغب في المفردات:الوعظ:زجر مقترن بتخويف. وقال الخليل. هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب وشفاء الصدور كناية عن ذهاب ما فيها من الصفات الروحية الخبيثة التي تجلب إلى الإنسان الشقاء وتنغص عيشته السعيدة

ص: 321


1- الميزان: ج10/في تفسير الآيات من 57-70 من سورة يونس، والمقصود في المتن الآية 57 وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} .

وتحرمه خير الدنيا والآخرة، وإنما عبر بالصدور لان الناس لما وجدوا القلب في الصدر وهم يرون الإنسان إنما يدرك ما يدرك بقلبه وبه يعقل الأمور ويحب ويبغض ويريد ويكره ويشتاق ويرجو ويتمنى عدّوا الصدر خزانة لما في القلب من أسراره والصفات الروحية التي في باطن الإنسان من فضائل ورذائل.أقول:وتدل الأحاديث على أن القرآن شفاء حتى من الأمراض البدنية بل في بعضها أن سورة الفاتحة لو قرأت سبعين مرة على ميت فقام حياً لم يكن ذلك عجباً.

والرحمة تأثر خاص في القلب على مشاهدة ضر أو نقص في الغير يبعث الراحم إلى جبر كسره وإتمام نقصه، وإذا نسبت إلى الله سبحانه كان بمعنى النتيجة دون أصل التأثر لتنزهه تعالى عن ذلك فينطبق على مطلق عطيته تعالى وإفاضته الوجود على خلقه.

أقول:هذا أحد الوجوه في شرح هذه الأسماء المباركة التي لا يمكن فهم نسبتها إلى الله تبارك وتعالى كما تنسب إلى المخلوقين.

وإذا أخذت هذه النعوت الأربعة التي عدّها الله سبحانه للقرآن في هذه الآية - أعني انه موعظة وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة -، وقيس بعضها إلى بعض ثم اعتبرت مع القرآن كانت الآية بياناً جامعاً لعامة أثره الطيب الجميل وعمله الزاكي الطاهر الذي يرسمه في نفوس المؤمنين منذ أول ما يقرع أسماعهم إلى آخر ما يتمكن من نفوسهم ويستقر في قلوبهم.

ص: 322

فإنه يدركهم أول ما يدركهم وقد غشيتهم الغفلة وأحاطت بهم لجة الحيرة فأظلمت باطنهم بظلمات الشك والريب وأمرضت قلوبهم بأدواء الرذائل وكل صفة أو حالة رديئة خبيثة فيعظهم(1) موعظة حسنة ينبههم بها من رقدة الغفلة،ويزجرهم عما بهم من سوء السريرة والأعمال السيئة ويبعثهم نحو الخير والسعادة.

ثم يأخذ في تطهير سرهم عن خبائث الصفات ولا يزال يزيل آفات العقول وأمراض القلوب واحداً بعد الآخر حتى يأتي على آخرها.

ثم يدلهم على المعارف الحقة والأخلاق الكريمة والأعمال الصالحة دلالة بلطف يرفعهم درجة بعد درجة وتقريبهم منزلة فمنزلة حتى يستقروا في مستقر المقربين، ويفوزوا فوز المخلصين.

ثم يلبسهم لباس الرحمة وينزلهم دار الكرامة ويقعدهم على أريكة السعادة حتى يلحقهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ويدخلهم في زمرة عباده المقربين في أعلى عليين.

فالقرآن واعظ شافٍ لما في الصدور هاد إلى مستقيم الصراط مفيض للرحمة بإذن الله سبحانه، وإنما يعظ بما فيه ويشفي الصدور ويهدي ويبسط

ص: 323


1- وأنت ترى ذلك في السور المكية التي نزلت أولاً كالمدثر والمزمل فإنها ذات إيقاعات سريعة تستعمل حروفاً قوية فيكون تأثيرها بما يشبه الصعقة الكهربائية التي تستعمل لإيقاظ الغافل كما أن مضامينها يتركز على التذكير بالآخرة والموت وأهوال القيامة وعاقبة المكذبين وبيان سنن الله تعالى في الأمم ونحوها من الصعقات.

الرحمة بنفسه لا بأمر آخر فإنه السبب الموصل بين الله وبين خلقه فهو موعظة وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين.

الحياة في كنف القرآن:

وقد جرّبتُ الحياة في كنف القرآن ومنَّ الله تعالى عليَّ أن عشت في رعايته منذ ريعان الشباب وكنت أختمه في السنة عشر مرات أو أكثر في بعض السنين حتى خالط لحمي ودمي وفكري ولساني وقلبي وكنت مع تلاوتي له اقرأ في البداية تفسيراً مختصراً وهو تفسير شبّر ثم بدأت أطالع بإمعان في التفاسير المفصّلة كالميزان ومجمع البيان وبعض التفاسير الحركية، فكان لها ولغيرها مما كنت أطالع الفضل في تكوين شخصيتي العلمية والفكرية في وقت مبكر من حياتي –بداية العشرينات من عمري- حتى أكملت بعضها ولخصت رؤوس أفكارها حتى أرجع إليهما باستمرار فتنقدح في ذهني تلك الأفكار وفي روحي وقلبي تلك اللحظات السعيدة.

ما الذي وجدته في رحاب القرآن؟

فماذا وجدت في رحاب القرآن؟ وماذا سيجد من يعيش في رعاية القرآن؟

سيرى عظمة الله سبحانه تتجلى في آياته وقوانينه وسننه وقدرته على كل شيء، فالأرض جمعياً قبضته والسموات مطويات بيمينه والعزة لله جميعاً والقوة والملك له وحده فهو الذي يرث الأرض ومن عليها وإليه مرجع العباد وهو أقرب إليهم من حبل الوريد ويحول بين المرء وقلبه ولا يملك شيء لشيء نفعا ولا ضراً إلا بإذنه، فعندئذ يتصاغر أمام حامل القرآن كل ما سوى الله تبارك وتعالى مهما

ص: 324

عظم ظاهرا أو حاول أولياؤه وأتباعه تعظيمه والنفخ في صورته فإذا قدرة الله تلقف ما يأفكون فلا إرم ذات العماد ولا فرعون ذو الأوتاد ولا صاحب الكنوز التي تنوء مفاتيحه بالعصبة أولي القوة، أما حامل القرآن فقوته متصلة بالله فلا يخشى ما سواه {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت:41)، و(من خاف الله أخاف الله منه كل شيء)(1).وعندئذ سترى أن هذه القوى الكبرى التي {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}(طه:66)، وقادرة على تحقيق كل ما تريد، وإذا بها تنهار وتذوب كما يذوب الملح في الماء بلا حرب ولا أي عدو ظاهر لكن الله ينبئك عن الذي يقف وراء فنائهم {فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ}(النحل:26-27).

وسيرى وعد الله وطمأنينته للمؤمنين بأن العاقبة لهم ولكن بعد أن:{مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}(البقرة:214)، وأن لا بد من الفتنة والابتلاء ليمحص الله الذين آمنوا {ألم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}

ص: 325


1- من لا يحضره الفقيه: 4/ 410.

(العنكبوت:1-3). وعندئذ يقر بال المؤمن مهما واجهته من صعوبة ومحنة لأنه من سنة الله في عباده فعليه أن يصدق في المواقف وسيجزي الله الصادقين ويهون الخطب عليه انه كله بعين الله سبحانك قال تعالى:{فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}(الطور:48)،{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (التوبة:120).وسيرى من علو الإيمان الذي يعمر قلبه والمعارف العليا التي يحملها إلى هذه البشرية التائهة التي تلهث وراء السراب تعيش لأغراض زائفة وتمني نفسها بأمانٍ باطلة يزينها لهم أولياء الشيطان من مال وجاه وشهوات يتنافسون عليها ويتقاتلون على شيء لا يبقى لهم بل يكون وبالاً عليهم. يصنعون لأنفسهم آلهة يصطلحون على عبادتها وطاعتها وتقديم الولاء لها فيقيمون لها الطقوس والاحتفالات والمهرجانات ويذبحون من أجلها القرابين ليس من الحيوانية فقط بل البشرية ويهدرون على أقدامها المليارات.

وسيرى أنه ليس وحده حتى يشعر بالضعف أو الذلة أو الخضوع والاستسلام ولا أن ما يعانيه ويشاهده ويعيشه بدعاً من الحوادث ولا أن تجربته فريدة {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُّبِينٌ}(الأحقاف:9)، فإذن قد سبقه على هذا الخط أنبياء عظام وأولياء كرام وحملة رسالات ومصلحون وعباد صالحون عانوا أكثر مما عانى وصبروا على اشد ما صبر عليه وواجهوا من مجتمعاتهم أعظم مما

ص: 326

يواجه والصورة نفس الصورة قال تعالى:{فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}(الحديد:26)،{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ}(المائدة:105).وسيرى تكريم الله لخلقه حين خاطبهم بنفسه ووجه إليهم كلامه مباشرة، الله العظيم خالق السموات والأرض ذو الأسماء الحسنى يرسل إليهم بنفسه رسالة ويعهد إليهم بعهده، أي تكريم أعظم من هذا وأي تفضيل فوق هذا {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}(الإسراء:70) فكيف يا ترى مشاعر الإنسان وهو يقرأ رسالة حبيبه بل الحبيب المطلق (إن القرآن عهد الله إلى خلقه فينبغي لكل مؤمن أن ينظر فيه)(1).

وسيرى أن كل شيء في هذا الكون بقدر وحساب دقيق، قال تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}(القمر:49)، {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} (الحجر:21)، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ}(الأنبياء:47)، وكل المخلوقات أفراداً ومجتمعات تجري وفق سنن ثابتة {سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}(النساء:26)، {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}(الأنعام:38) لا يستطيع أحد أن يخرج من هذا القانون الإلهي العظيم {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ

ص: 327


1- الكافي: 2/ 609، باب في قراءته (قراءة القرآن)، ح1.

اللَّهِ تَحْوِيلاً}{فاطر:43)، فكيف يعبد الإنسان غيره تبارك وتعالى وهو لا يستطيع أن يخرج من قبضة سننه وقوانينه، فلا مجال للعب ولا العبث واللهو {رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَِ}(آل عمران:191)، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:56)، {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ}(الأنبياء:17) ولا مجال للصدفة العمياء التي طالما تشدق بها الملحدون وضحكوا بها على عقول الناس ردحا من السنين وأضلوهم بها فتعساً للتابع والمتبوع، فمن وراء خلق الإنسان هدف فلا بد ان يحيا من اجله ويكرس كل طاقاته لتحقيقه وهو رضا الله تبارك وتعالى.وسيجد في القرآن الوعد الإلهي بالإمداد والقوة الغيبية في كل موقف وشدة ومأزق ومعركة مع النفس الأمارة بالسوء أو الشيطان، وأن الله معه وكفى به ناصراً ما دام هو مع الله قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ، نُزُلا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ، وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}(فصلت:30 - 33) وآيات كثيرة تخبر عن إنزال السكينة في قلوب المؤمنين والإمداد بالملائكة المسومين وغيرها.

وسيجد في كنف القرآن الطمأنينة قال تعالى:{أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(الرعد:28)، وهدوء البال وشفاء الصدور والهدى والبركة وكل خير مما وصف القرآن به نفسه.

ص: 328

فإذا وجد حامل القرآن كل ذلك اشتدت عزيمته وقوي قلبه وصلحت نفسه وازدادت همته وظهرت حكمته وسيكون عندئذ مصدراً للعطاء ومنبعاً للخير لنفسه وللمجتمع كما هو شأن المصلحين العظام وعلى رأسهم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) .

ضرورة العودة إلى القرآن:

أفبعد كل هذا نحتاج إلى ذكر المزيد من المحفزات للعودة إلى القرآن والحياة في كنفه وهل بقى من لا يعي فداحة الخسارة التي حلت بنا بسبب ابتعادنا عن القرآن. إذن فلنرجع جميعاً إلى القرآن تائبين نادمين ملتمسين إياه أن يعود إلى إمامتنا وهدايتنا إلى الله تبارك وتعالى وعلينا أن نفكر في سبيل إلى إخراج هذا الكتاب الكريم من عزلته التي فرضناها نحن عليه وتفعيل دوره في الحياة المجتمع.

وقد تقول:إن مثل هذا حاصل من خلال ما نشاهده من كثرة حلقات تعليم القرآن وحفظه وتجويده وبيان قواعده ورسمه .

وأقول:مع احترامي لهذا كله إلا أن هذا اهتمام بالقشور والمهم هو اللب فإن اللفظ وعاء لإيصال المعنى وقشر لحفظ المعنى الذي هو اللب وآلة لنقل المعنى إلى الذهن فهل يكفي الاهتمام بالقشر وترك اللب؟ فالمطلوب هو إعادة القرآن بروحه ومضامينه ومعانيه وأفكاره ومفاهيمه، ولا شك أن الخطوة الأولى منه هي الاهتمام بتلاوته ومعرفة معاني ألفاظه وتطبيق القواعد العربية على مخارج حروفه.

ص: 329

مسؤولية الحوزة في إعادة القرآن:

وأعتقد أن أول شريحة في المجتمع تقع عليها المسؤولية هي الحوزة الشريفة بطلبتها وفضلائها وخطبائها وعلمائها لأن صلاح المجتمع من صلاح الحوزة وفساده بفسادها والعياذ بالله، فقد جاء في الحديث الشريف عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل يا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومن هم؟ قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):الفقهاء والأمراء)(1).

وقد قلت في بعض كتبي(2) أنه من المؤسف حقاً غياب القرآن عن مناهج الدراسة الحوزوية، فقد نظمت بشكل لا يحتاج فيه الطالب إلى التعمق في القرآن الكريم من أول تحصيله إلى نهايته ولا يمر به إلا لماماً عند الاستدلال على قاعدة نحوية أو مبحث أصولي أو مسألة فقهية، فأصبح مسرحاً للتدقيقات العقلية ولم يتخذ غذاءً للقلب والروح ودواءً للنفس، وربما يبلغ الحوزوي مرتبة عالية في الفقه والأصول وهو لم يحيَ حياة القرآن ولم يخُض تجربة التفاعل مع القرآن واستيعابه كرسالة إصلاح، وقد تمر الأيام والأسابيع ولا تجد طالب العلم يمسك المصحف الشريف ليتلو آياته ويتدبر فيها لعدم وجود صلة روحية عميقة بينه وبين القرآن، ولو وجد فيه زاده وغذاءه الذي يغنيه عن غيره لما استطاع تركه، وهذه مصيبة عظيمة للحوزة والمجتمع، وربما لا يحسن بعضهم قراءته مضبوطةً بالشكل.

ص: 330


1- الخصال: أبواب الاثنين، حديث 12.
2- وصايا ونصائح إلى الخطباء وطلبة الحوزة الشريفة (وهذا منشور في المجلد الأول من موسوعة خطاب المرحلة).

ولما كانت رسالة الحوزة الشريفة التي تصدت لحملها هي إصلاح المجتمع وتقريبه إلى الله تبارك وتعالى فإن أول مهمة لهم هي فهم القرآن والسعي إلى تطبيقه فإن الأمة لا تكون بخير إلا إذا تمسكت بقرآنها واهتدت بهديه واستضاءت بنوره كما هو نص حديث الثقلين المشهور:(إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً)(1).

جاهلية اليوم:

إن البشرية تعيش اليوم جاهلية جديدة - وإن تسمى بعضهم بالإسلام - بحسب المفهوم الذي يعطيه القرآن للجاهلية، إذ أنه لا يعتبرها فترة زمنية انتهت بطلوع شمس الإسلام بل هي حالة اجتماعية تتردى إليها الأمة وينتكس إليها المجتمع كلما أعرض عن شريعة الله سبحانه {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة:50)، وقد نبه القرآن الكريم إلى حصولها حينما قال:{وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} (الأحزاب:33) وكأنه إشعار بوجود جاهلية ثانية وهي هذه التي تعيش البشرية اليوم شؤمها وتعاستها وشقاءها.

بل جمعت جاهلية اليوم مساوئ الجاهليات القديمة كلها فالقوي يأكل الضعيف، واللواط يسن بقانون رسمي يجيزه ويرتضي الزواج بين الذكرين، والزنا يفوح برائحته الكريهة وهمجيته الحيوانية وأمراضه الفتاكة كالأيدز ونحوه في كل أرجاء العالم، والبخس في الميزان منتشر بجميع أشكاله ليس على مستوى

ص: 331


1- تقدم ذكره.

الأفراد فقط بل على مستوى الدول فلا يوجد إنصاف في العلاقات بين المجتمعات البشرية وهو ما يسمى بالمصطلح (الكيل بمكيالين)، واتخاذ الأحبار والرهبان وسائر رؤوس الضلال من شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً أرباباً من دون الله يحرّمون ما أحل ويحلون ما حرم، والآلهة التي تعبد من دون الله سبحانه قد تعددت ولم تعد مقتصرة على الحجرية منها فقط، بل ما زالت الذهنيات الشيطانية تتفتق عن المزيد وشياطين الأنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ويصدون عن صراط الله المستقيم {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف:16-17)،{وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً}(الأعراف:86)، وما أكثر هؤلاء الذين يصدون عن سبيل الله من آمن ويبغونها عوجا عن الفطرة السليمة من فاسقات نصبن فخوخ الفتنة والإغراء، إلى بورصات اقتصادية يسيل لها اللعاب، إلى فنانين لا عمل لهم إلا تدمير الأخلاق والقيم الاجتماعية وغيرها.كل هذه من صفات وعلامات جاهلية اليوم وفي كل زمان ومكان، وهذا المفهوم من المفاهيم القرآنية التي يجب استيعابها وفهمها.

مقارنة بين الجاهلية الأولى والجاهلية اليوم:

ولمزيد من البيان نعقد مقارنة بين عقائد وممارسات الجاهلية الأولى والجاهلية التي نعيشها اليوم، وأريد بهذا البيان عدة أهداف:

ص: 332

1-تنقيح المفاهيم والمصطلحات القرآنية واستنباط معانيها التي يريدها القرآن وإزالة الغبار المتراكم عليها نتيجة الغفلة عن القرآن، وإعمال العقول فيه من دون الرجوع إليه.

2-استيعاب الحاجة إلى القرآن إذا فهمنا أن البشرية عادت إلى

جاهليتها الأولى فهي بحاجة إلى أن يعود القرآن ليمارس دوره من جديد في الأخذ بيدها نحو الإسلام الحقيقي.

3-تعزيز فكرة الإمام المهدي (أرواحنا له الفداء) وإقامة الدليل العلمي عليها إذ أن البشرية لما عادت إلى جاهليتها الأولى فإن القرآن وحده لا يكفي لممارسة دوره في إنقاذها بل لابد له من حامل يجسده على أرض الواقع كما رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وإن لم يكن نبياً لانقطاع النبوة به (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ولا تجتمع هذه الأوصاف إلاّ في الحجة بن الحسن (أرواحنا له الفداء)، وها هي إرهاصات ظهوره تتحقق ويقترب يومه الموعود(1). وتفصيل الكلام في بحث خاص(2) به (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) .

صفات ومميزات المجتمع الجاهلي بحسب المفهوم القرآني:

وأول صفة من صفات الجاهلية هي عبادة الناس لغير الله تبارك وتعالى والعبادة بمعنى الطاعة والولاء كما ورد عنهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير قوله

ص: 333


1- لذا ورد في الخبر أنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يأتي بإسلام جديد وقرآن جديد وهي لا تعني دلالتها المطابقية لأنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لا يخرج عن دائرة إسلام وقرآن جده (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وإنما يراد به أنه ينفض الغبار عن القرآن ويزيل عنه ركام السنين ويعيده إلى الحياة من جديد.
2- صدر الكتاب يومئذ بعنوان (شكوى الإمام ع) وجمع مع هذا الكتاب و(شكوى المسجد) في كتاب عنوانه (ثلاثة يشكون).

تعالى:{اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة:31) قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم ما أجابوهم، ولكن أحلوا لهم حراما، وحرموا عليهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون)(1) هذه العبادة كانت في ذلك المجتمع الجاهلي لغير الله تبارك وتعالى لذا جاء في أول سورة من سور القرآن المطالبة بعدم طاعة ما سوى الله {كَلا لا تُطِعْهُ} (العلق:19)، فكانت الطاعة لآلهة متعددة يومئذ:{مَا نَعْبُدُهُمْ - أي الأصنام - إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}(الزمر:3)، {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ} (آل عمران:64)، {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} (الأحزاب:67)، {فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} (هود:97)،{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً}(مريم:59)، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ

ص: 334


1- الكافي: 1/ 53، باب (التقليد) حديث 1. وهذا المصطلح القرآني المهم (العبادة) يحتاج إلى إشباع لعدم وضوحه في أذهان المجتمع فيظنون أن العبادة هي الصلاة أو السجود وليست هي الطاعة لذا لا يجدون قدحاً في دينهم أن يصلوا ويصوموا لله لكن معاملاتهم وسلوكياتهم في الحياة تكون بغير ما أنزل الله وهو معنى خطير يجب إزالة الشبهة عنه لذا ورد عن الإمام الجواد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله: (من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان هذا الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق ينطق عن لسان إبليس . . .) (تحف العقول: صفحة 336).

نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}(البقرة:170)، {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ، كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاهُ فإنه يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}(الحج:3-4)،{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ}{الفتح:26).

هذه بعض آلهة الجاهلية الأولى التي كانت تعبد من دون الله تبارك وتعالى وهي (الأصنام، العلماء غير المخلصين، الفراعنة، هوى النفس الأمّارة بالسوء وشهواتها، إبليس، العصبية، العادات والتقاليد الموروثة عن السلف) وأصلها اتباع الهوى {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}(القصص:50).

فهل اختلف حال الناس اليوم؟ ولا أريد بالناس هذه الأمم التي تسمي أنفسها متحضرة فإنها غارقة في مستنقع الجاهلية من قرنها إلى أخمص قدميها، ولكن هلم بنا إلى الخطب الأفضع إلى الذين يسمون أنفسهم مسلمين وهم يسيرون في ركاب أولئك الكفار وينغمسون في طاعة الشهوات والهوى وما يصدرون إليه من آلهة جديدة كالرياضة والفن وبعض النظريات والقوانين المنحرفة، وما زالت طاعة السادة والكبراء كرئيس العشيرة والوجهاء تمتثل من دون رعاية للشرع المقدس فيحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله تبارك وتعالى، وما زالت الأعراف والتقاليد وسنن الآباء والأجداد تطاع أكثر من شريعة الله سبحانه بحيث يرضى المجتمع بمعصية الله ولا يرضى بالخروج عن هذه

ص: 335

الأعراف والتقاليد، ولسان حالهم يقول:(النار ولا العار) خلافا للإسلام الذي مثله الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في كربلاء بقوله:

الموت أولى من ركوب العار *** والعار أولى من دخول النار(1)

وهذا واضح في السنينة العشائرية وغيرها، وهذه المرأة المسكينة تطيع المودة ودور الأزياء وما يقتضيه الأتيكت وما يصدره الغرب من ملابس وأدوات زينة وكماليات حتى لو كانت مخالفة للشريعة فهل. بقى من العبادة والطاعة والولاء شيء؟ هذا على مستوى الشرك الجلي، والقرآن يخبرنا أن هذه الآلهة كلها ستتبرأ من عبادها يوم القيامة ولا ينفع الندم حينئذ:{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ، إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ، وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}(البقرة:165-166).

ص: 336


1- بحار الأنوار- المجلسي: 44/ 192 وهذا المصطلح القرآني المهم (العبادة) يحتاج إلى إشباع لعدم وضوحه في أذهان المجتمع فيظنون أن العبادة هي الصلاة أو السجود وليست هي الطاعة لذا لا يجدون قدحاً في دينهم أن يصلوا ويصوموا لله لكن معاملاتهم وسلوكياتهم في الحياة تكون بغير ما أنزل الله وهو معنى خطير يجب إزالة الشبهة عنه لذا ورد عن الإمام الجواد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله: (من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان هذا الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق ينطق عن لسان إبليس . . .) (تحف العقول: صفحة 336).

ويصف هذه الآلهة التي يعبدها البشر بتقديم الولاء والطاعة لهم من دون الله تبارك وتعالى قال تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}(العنكبوت:41)، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَ-رَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}(النور:39).وهذا بحث جدير بالاهتمام لأنه يلفت نظر الناس إلى انحراف عقائدهم وأنهم بعيدون عن التوحيد الخالص وأن طاعتهم لله تبارك وتعالى اقل بكثير من طاعتهم لهذه الأصنام المتعددة. وليكن البحث بعنوان (أصنام الجاهلية الحديثة) التي يزيدها خطورة خفاؤها وعدم الالتفات إليها حتى للمؤمنين فضلاً عن غيرهم.

أما على مستوى الشرك الخفي فالمصيبة أعظم، وقلما تجد عملاً مخلصاً وإن ظن صاحبه ذلك، فلماذا يكتب اسمه على لوحة كبيرة عندما يشيد مسجداً لو كان عمله لله ولماذا يمنّ بعطائه ويتحدث به لو كان مخلصاً؟

والصفة الثانية من صفات الجاهلية هي أن الشريعة التي تنظم أمورهم وتنظر في خصوماتهم بعيدة عن شريعة الله سبحانه {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} (المائدة:50)، وعن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(الحكم حكمان حكم الله وحكم الجاهلية فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهلية)(1). فكل حكم بغير ما أنزل الله هو حكم جاهلية على تعبير القرآن، ونحن نرى أن أكثر أفراد مجتمعنا

ص: 337


1- الكافي: ج7 ص407.

منضوون تحت عشائر تحكمها سُنن عشائرية ما أنزل الله بها من سلطان وضعها ناس جهلة بعيدون عن الله تبارك وتعالى، وهذا كمثال ويمكن أن تضرب بطرفك في شرائح اجتماعية أخرى لترى مصداق ذلك، وها أنت ترى أن دول العالم المختلفة تتحكم فيها قوانين وتشريعات و(آيديولوجيات) من صنع البشر الناقص الذي لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا يرى أبعد من أرنبة أنفه، فتراه كل يوم يغير مادة ويضيف فقرة ويلغي أخرى ويكتشف خطأ غيرها فيرتق ما فتق، وهكذا وقد وصف الحديث الشريف كل مخالفة للشريعة وتقصير في تطبيقها جاهلية نحوقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من مات ولم يوص مات ميتة جاهلية)(1).

ففرعون الذي يقول:{مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى}(غافر:29)، ليس حالة خاصة فردية بل هي متكررة دائماً عند الكثيرين ممن ينصبون أنفسهم مشرعين من دون الله تبارك وتعالى.

ومن سمات الجاهلية انحراف عقائدها وإليها أُشير بقوله تعالى:{يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}(آل عمران:154)، فقد كانوا يعتقدون مثلاً أنه مهما ارتكب الإنسان من موبقات فإنه ينجو من العقاب إذا قرب إلى الآلهة قرباناً، ومجتمعنا بفعل ما رسخه خطباء المنبر الحسيني في أذهانهم يعتقدون أنه مهما فعل من منكرات وكبائر فإن دمعة واحدة على الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تكفيه لدخول الجنة، انطلاقاً من الحديث الشريف:(من بكى على الحسين ولو مقدار جناح بعوضة

ص: 338


1- الرسائل العشرة: الشيخ الطوسي، صفحة 317.

وجبت له الجنة)(1)، واستدلوا بقول الشاعر:

فإنَّ النار ليس تمس جسماً *** عليه غبار زوار الحسينِ(2)

ونحن لا ننكر كرامة الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على الله تبارك وتعالى فهو يستحق هذا التكريم وأزيد:لكن هذا على نحو المقتضي وجزء العلة لدخول الجنة ولا بد من تمامه من جزء العلة الأخرى من الشروط وعدم الموانع وأول الشروط طاعة الله تعالى في أوامره ونواهيه وهذا القرآن صريح:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى}(الأنبياء:28)، وفي حديث الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(لن تنال شفاعتنا مستخفاً بالصلاة)(3)، ومنافٍ للآية الشريفة:{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}(الزلزلة:7-8)، إلا أن يتدارك عمله بالتوبة الصادقة.

وهذا الانحراف في الاعتقاد له أثره الخطير في ابتعاد الناس عن الدين وقلة وعيهم بعد أن خدروا بهذه العقيدة البعيدة عن القرآن وركونهم إليها فتركوا العمل بالقرآن.

ومن معالم الجاهلية السفور والتبرج وإظهار المفاتن والتهتك وشيوع الفاحشة، قال تعالى:{وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى}(الأحزاب:33)، والمجتمع اليوم قد فاق تلك الأمم بفسقه وفجوره وتفننه في الغواية والإضلال

ص: 339


1- كامل الزيارات: صفحة 201.
2- الغدير- الشيخ الأميني: 6/ 13
3- بحار الأنوار: 76 / 136.

وإيقاع البشر في الفاحشة وتسخر كل إمكانياتها المتطورة لترويجها، وكما كانت الجاهلية تبتكر الأساليب وتضع قوانين لإشباع غريزتها الجنسية بطرق شيطانية، فمثلا سنّت قريش قراراً يقتضي حرمة طواف الطائف بالبيت بثيابه لأنه قد عصى الله بها وارتكب المآثم فيها فلا بد أن يطوف بملابس من آهل مكة أو جديدة أو يطوف عارياً.وأولياء الشيطان اليوم سنّوا أساليب لإشاعة الفاحشة غير ملاهي الفسق والفجور باسم الرياضة مثلاً التي لا تقل تهتكاً عما يجري في تلك الملاهي بل الملاهي أرحم لأنها في الخفاء ويستهجنها الجميع ويستحيي صاحبها أن يلصق به عارها، أما هذه فتمارس علناً ويفتخر بها صاحبها ويبارك عمله الجميع. أترى أي ألعوبة أصبح هؤلاء بيد الشيطان يتصرف بهم كيف يشاء. وهكذا العناوين والأسماء الأخرى كملكة الجمال أو باسم عرض الأزياء أو باسم الفن وكلها استهتار ومجون وفسق وفجور ولكن بغطاء مقبول لدى المجتمع لا ينجو منه إلا من عصم الله، والهدف واحد هو أن تعيش البشرية همجية الحيوان وفوضى الجنس ونار الشهوة المستعرة التي لا تبقي ولا تذر.

ومن سمات الجاهلية فساد التصورات وانحراف الرؤية للحياة فمثلاً كان بعض الجاهليين يرفضون تزويج بناتهم من غيرهم لأنهم يرون أنفسهم فوق الآخرين وهم ما يسمون ب-(الحُمُس)، وفي جاهلية اليوم توجد شرائح كثيرة كذلك ولعل أوضح مصاديقها بعض السادة المنتسبين لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فإنهم لا يزوجون نساءَهم إلا لسيد مثلهم وقد تعنس بناتهم ويفوتهنّ الزواج ويحرمنَ من ممارسة حق مشروع لهنّ في التنعم بتكوين أسرة وليعشنَ سعادة الأمومة. كل ذلك

ص: 340

بسبب هذا التصور الخاطئ الجاهلي فأين هذه التصورات من مبادئ القرآن:{خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء}(النساء:1)، ومن تعاليم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه)(1)، وإذا كان لهم شرف بانتسابهم لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فإن شرف رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بانتسابه للإسلام ولطاعة الله تعالى، وليس لأنه محمد بن عبد الله قال تعالى:{لَئِنْ أَشرَكتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الزمر:65)، {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ، لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}{الحاقة:44 - 47)، ويقول هو (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(ولو عصيت لهويتُ)(2) فما قيمة هؤلاء الذين يتاجرون باسمه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهم يخالفون شريعته؟ومن معالمها اختلاف القيم والموازين التي يتفاضل بها البشر من إلهية حقيقية إلى شيطانية وهمية، فالقرآن يصرح:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(الحجرات:13)،{قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}(يونس:58) بينما الجاهلية تتفاضل بالمال والجاه وكثرة الولد{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}(التكاثر:1-2)، {وَقَالُوا نَحْنُ أكثر أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}(سبأ:35)، وهذه الأمور من الوضوح بحيث لا أحتاج إلى ذكر أمثلة، والآيتان التاليتان توضحان هذه المقارنة الصارخة

ص: 341


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح: أبواب مقدمات النكاح وآدابه، باب 28، حديث1.
2- بحار الأنوار: 22 / 467.

بين المقاييس:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ، قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}(آل عمران:14 - 15). ويقول تعالى:{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} (سبأ:37).ومن الخصائص المشتركة للجاهليتين انتشار الرذائل الخلقية وأوضحها شرب الخمر والتطفيف في الميزان والغش والكذب واللواط قال تعالى:{وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ}(العنكبوت:29)،{وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ} (الأعراف:85)،{وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إذا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِ-رُونَ}(المطففين:1-3)، بل يستهزئون من الإنسان النظيف {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}(الأعراف:82)، بحيث أن جعفر بن أبي طالب سجل اسمه في التأريخ على أنه ممن حرَّم على نفسه الخمر والزنا في الجاهلية(1)، ومن رذائل أخلاقهم أن القوي يأكل الضعيف وانعدام الأخلاق والمثل الإنسانية فضلاً عن الإلهية والمهم هو المنافع الشخصية. وها هي حضارة اليوم تسحق شعوباً

ص: 342


1- أنظر: علل الشرائع- الشيخ الصدوق: 2/ 558

بكاملها وتهلك الحرث والنسل من أجل ما يسمونه (المصالح) التي هي فوق كل شيء عندهم، أما الهدف الحقيقي وهو رضا الله تبارك وتعالى والفوز في الآخرة فهذا تخلف ورجعية، قال تعالى:{وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران:154)، فهذه غايتهم وهذا هو هدفهم الذي يعيشون من اجله هل لنا من الأمر من شيء.ومن أهم خصائص الجاهلية بل هي السبب في تحققها ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذا الذي حذر منه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟ فقيل له:ويكون ذلك يا رسول الله؟ فقال:نعم، وشر من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ فقيل له يا رسول الله ويكون ذلك؟ فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):وشر من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً)(1).

وهذا ما وصلت إليه المجتمعات اليوم والتقصير أول ما يبدأ من علماء الدين أو الربانيين على تعبير القرآن وتخاذلهم وتقاعسهم عن أداء وظيفتهم، وأوضح مصداق للربانيين هم انتم يا طلبة وفضلاء الحوزة الشريفة. قال تعالى:{وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ، لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ

ص: 343


1- الكافي: 5/ 59، باب: الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} (المائدة:62 - 63)،{كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ، تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ}(المائدة:79-80).وهذه خصيصة أخرى من خصائص المجتمع البعيد عن الإسلام وهي موالاة ومداهنة الفاسقين والذين كفروا، وعن هذا التقصير يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(أما بعد فإنه إنما هلك من كان قبلكم حيثما عملوا من المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار عن ذلك، وأنهم لما تمادوا في المعاصي نزلت بهم العقوبات فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لن يقربا أجلاً ولن يقطعا رزقاً)(1).

وبدون القيام بهذه الفريضة لا تبقى للمؤمنين قيمة لا عند الله ولا عند

رسوله بل ولا حتى عند أعدائهم، لذلك كان هناك موحدون بين قريش وهم الأحناف الذين نبذوا عبادة الأصنام وتفرغوا لعبادة الله سبحانه، لكن لم تكن لهم قيمة عند المشركين ولم يأبهوا بوجودهم لأنهم تركوا هذه الفريضة العظيمة.

بينما جعل القيام بهذه الوظيفة من صفات المجتمع المسلم بحق:{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}(آل عمران:110)،{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُ-رُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا

ص: 344


1- نهج البلاغة: الخطبة (27).

عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج:40 - 41)،{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} (آل عمران:104)،{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(التوبة:71)، وغيرهم كثير ولسنا هنا بصدد الاستقصاء فإن هذا البحث مبني على الإشارات فقط ومجرد فتح الباب للتفكير في هذه القضايا وكل باب ينفتح منه ألف باب بلطف الله تبارك وتعالى وسعة رحمته.ومن معالم الجاهلية سيطرة الخرافات والأساطير، فمثلاً كانت العرب تتشاءم من صوت الغراب والبوم، والغرب اليوم يتشاءم بلا معنى من رقم (13) وانتشر يومئذ العرّافون والكهنة وراجت سوقهم، واليوم نرى إقبال الناس على قارئي الكف والرمل والأبراج والطريحة وأصحاب النور والمطوعات ونظائرها مما ينطلي على الجهلة والسذج.

ومن سمات الجاهلية الصد عن القرآن وعزل الناس عنه بشتى الطرق فقد كان النضر بن الحارث وهو ممن ذهب إلى بلاد فارس وتعلم من أخبار ملوكهم يتعقب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فإذا قام (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من مجلس جلس إليهم النضر وتحدث لهم بتلك القصص والأخبار ثم يقول:بالله أيّنا أحسن حديثاً قصصاً أنا أو محمد؟(1) وكانوا يصفون القرآن بأنه أساطير الأولين أو أحاديث اكتتبها فهي

ص: 345


1- أنظر: تفسير ابن كثير: 2/ 316

تملى عليه بكرة وأصيلاً أو حديث يفترى، أو يصفقون بصوت عال عند تلاوته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للقرآن ليحولوا دون سماعه، ويصف القرآن موقفهم هذا بقوله:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}(فصلت:26)، وقال تعالى:{وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ}(القمر:2)، وها هي جاهلية اليوم تصف القرآن نفس الأوصاف بأنه من كلام محمد وقد أنشأه وفق البيئة التي عاشها، وانه يمثل نبوغاً إنسانياً وليس وحياً إلهياً، وحاولوا التأليف في متناقضات القرآن ولكنهم لما عجزوا واكتسحهم القرآن وفرض وجوده عليهم عمدوا - بما أوتوا من خبث ومكر وخداع - إلى تفريغه من مضمونه وعزله عملياً عن واقع الحياة وحوّلوه إلى ما يشبه الأناشيد والأغاني التي يترنم بها المطربون ويعبر الجالسون عن طربهم بصيحات (الله الله يا شيخ) وحوّلوه إلى تعويذات يُعلقَّها على صدورهم أو في بيوتهم لا أزيد من ذلك. وهذا الأسلوب كما ترى أخطر من أسلوب النضر بن الحارث وأمثاله وأشد مكراً وأفتك أثراً.ومن التصرفات البارزة التي يتصف بها الجاهليون:هي الجمود على التقاليد الموروثة عن السلف والتزمت في الالتزام بها وعدم الخروج عنها وإن قام الدليل والحجة على خلافها، وهذا التصرف نتيجة التحجر وعدم السلامة في التفكير وتحكيم العاطفة باعتبار أن الشيء الذي تتوالى عليه أجيال من الآباء والأجداد يكتسب قداسة يصعب اختراقها. وقد كرر القرآن هذا المعنى كثيراً بحيث نستطيع أن نفهم منه أن هذه كانت من المحن التي اشترك فيها جميع

ص: 346

الأنبياء. قال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (البقرة:170)،{إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ، فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} (الصافات:69 - 70)، {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (الأعراف:70)، {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ، وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ، قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} (الزخرف:22-24)، فالآيتان الأخيرتان تدلان على أن هذه المحنة الكبيرة تواجه كل من يريد أن يحرر مجتمعه ويسعى لإصلاحه، لقوله تعالى:{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِك}(الزخرف:22-24)، وليست مختصة بالأنبياء وحدهم.وجاهلية اليوم لا تختلف عن الجاهلية الأولى في ذلك، والشواهد عليها كثيرة وقد عانت مجتمعاتنا كثيراً من هذه (النزعة الاستصحابية) على تعبير أحد المفكرين الحوزويين(1).

ص: 347


1- والمقصود به هو السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) ولم يكن سماحة الشيخ يصرّح به جهاراً حيث ألقيت هذه المحاضرات أيام البطش الصدامي ما قبل سنة 2003 حيث كان التصريح والتلميح تهمة كافية لإعدام صاحبها، إلا أن سماحة الشيخ كان يخلل أفكاره ببعض طروحاته ونظرياته (رحمه الله) ويتمثل له ويعيش أفكاره ويشير اليه بطريق خفي في الوقت الذي

ومن علامات الجاهلية عدم معرفة الإمام الحقيقي (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية)(1) ولا يراد بالمعرفة معرفة الاسم فقط بل معرفة المسؤولية الكاملة والتكليف التام تجاه الإمام والقيام بها حق القيام وهذا التقصير واضح منا تجاه صاحب العصر (أروحنا له الفداء) وقد وصف الدعاء المأثور هذه الجاهلية (اللهم عرفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيك اللهم عرفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك اللهم عرّفني حجّتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني)(2) والضلال عن الدين هو عين الجاهلية.وهذا ما يحتاج إلى بحث كامل عن لزوم وجود الإمام والحجة في كل زمان وتكليفنا في زمان الغيبة ومسؤوليتنا تجاه الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والإجابة عن الكثير من التساؤلات والمشاكل الفكرية التي تحاط بها قضية الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مما هو غائب عن ذهن المؤمنين به فضلاً عن غير المؤمنين به أصلاً، بينما هم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (باب الله الذي لا يؤتى إلا منه)(3) فكيف يهتدي إلى الله سبحانه من لا يعرف بابه

ص: 348


1- كمال الدين وتمام النعمة: 409.
2- الكافي: 1/ 337.
3- الكافي: 1/ 196.

فماذا بعد الله إلا الضلال المبين.ومن سماتها الخضوع للماديات وعدم الاعتراف بما وراء المادة وإنكار الغيب قال تعالى:{وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (الأنعام:29)، {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ}(الجاثية:24)، فيأتي القرآن ليؤسس لهم أهدافاً سامية يعيشون من أجلها {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:56)، {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} (هود:61)، {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (يونس:14)، فالإنسان ما خلق فقط لهذه الدنيا حتى يكرس همه لها بل جعل في الأرض خليفة ليستعمرها ويجعلها حرثاً لآخرته وخالقه يحصى عليه أعماله لينظر كيف يعمل، ويأتي التوبيخ الإلهي لمثل هذا الإنسان الغارق في الماديات {أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدىً، أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى، ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى، أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى}(القيامة:36-40)، بلى سبحانك اللهم أنت قادر على ذلك وعلى كل شيء، نعم، لكن هذا لا يمنع من أن يأخذ نصيبه من الدنيا من دون أن يجعله هدفا وغاية وإنما يوظفه لخدمة الهدف الحقيقي وهو رضا الله تبارك وتعالى:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ

ص: 349

الْمُفْسِدِينَ}(القصص:77)، فليس النقص والخلل في حيازة الدنيا لذا قيل:(الدنيا مزرعة الآخرة)(1) وفي حديث آخر:(الدنيا متجر أولياء الله)(2) ففيها يتاجرون مع الله تجارة لن تبور.ومن سمات الجاهلية التشتت والتفرق والتمزق، قال تعالى:{وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}(الروم:31-32)، وكل ذلك بسبب تضييعهم للمحور الواحد الذي يجب أن يجتمعوا حوله وهو توحيد الله تبارك وتعالى، وجعلت الكعبة المشرفة رمزاً له، لكن المجتمع البعيد عن الله يتمزق دولاً وبلداناً أولاً، حتى وصل عدد دول العالم اليوم أزيد من (180) دولة ويتمزق أجناساً ويتفرق قوميات حتى داخل البلد الواحد ويتمزق فكرياً فهذا شيوعي وهذا رأسمالي وهم أبناء بلد واحد وقومية واحدة ودين واحد ويتمزقون آيديولوجيا حتى داخل الدين الواحد بل داخل المذهب الواحد وكل طائفة تنقسم على نفسها فرقاً وهكذا:{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}(المؤمنون:53)، وقد نبه القرآن إلى أن هذا التفرق هو إحدى عقوبات الابتعاد عن المنهج الإلهي:قال تعالى:{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} (الأنعام:65)، وجاء الإسلام ليوحدهم بهذا القرآن قال تعالى:{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ

ص: 350


1- عوالي اللآلي: 1 / 267.
2- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 15/ 203.

تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(آل عمران:103)، {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فإن حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال:62-63).ومن سمات الجاهلية الواضحة الرعب من الموت ومن كل ما يوحي به أو يشير إليه وذلك لأنهم خسروا الآخرة وجعلوا غاية همهم إشباع شهواتهم وأطماعهم {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ، وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} (البقرة:94-96)، {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}(الجمعة:6-7)،{فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}(الأحزاب:19)، لكن القرآن يقرر لهم حقيقة دامغة لا مفر منها {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فإنه مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الجمعة:8)،{قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن

ص: 351

فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلاً} (الأحزاب:16)،{أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} (النساء:78)، {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} (215)، فالخوف من الموت لا يكون إلا بالاستعداد له بالإيمان والعمل الصالح وإعمار الآخرة بما يرضي الله تبارك وتعالى ويقرب منه.واشعر أنني إلى هنا قد قدّمت إشارة كافية وفتحت باب التفكير بمقدار كافٍ في هذا الاتجاه لأن أهم خطوة في معالجة أمراضنا الاجتماعية هي تشخيص الداء بدقة ومن ثم وصف العلاج المناسب.

واتضح لدينا الآن من خلال هذه النقاط العديدة تحقق عنوان الجاهلية في البشرية اليوم وعلمنا أن لطف الله بعباده دائم ولا يختص بقوم دون قوم، فجاهلية الأمس ليست أولى من جاهلية اليوم ولا خصوصية لها حتى ينزل إليها تبارك وتعالى قرآناً ويبعث إليهم رسولاً، ويترك جاهلية اليوم سدىً، فما أحوجها إلى مصلح وهو الحجة بن الحسن (أرواحنا له الفداء) وما أحوجنا إلى القرآن لينقذنا من حضيض الجاهلية إلى قمة الإسلام.

القرآن علاج لأمراضنا الاجتماعية:

فلنكرّس جهدنا في الاستفادة من قابلية القرآن وقدرته على علاج أمراض البشرية والارتقاء بها في سلم الكمال، فإن القرآن خالد وحي ومعطاء إلى يوم القيامة ومن خلوده قدرته على تشخيص الداء وتقديم الدواء لكل مجتمع وكل زمان ومكان وما علينا إلا أن نستثير كوامن القرآن ونلتمس منه دواء دائنا

ص: 352

وأمراضنا الاجتماعية والفردية. فإذا أصيبت الأمة بالتمزق والتشتت فدواءهم قوله تعالى:{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}(آل عمران:103)، بعد معرفة أن حبل الله هما القرآن وأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بحسب الحديث الشريف.

وإذا أصيبت الأمة بالجبن والخور فعلاجهم قوله تعالى:{أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} (النساء:78)،{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فإنه مُلاقِيكُمْ}(الجمعة:8).

وإذا مر المجتمع ببلايا ومصاعب ومحن فشفاؤهم في قوله تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}(البقرة:214).

وإذا شعروا بالإحباط واليأس فعلاجهم قوله تعالى:{وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (يوسف:87)، {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} (الحجر:56)، {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ}(غافر:51).

وإذا ألقينا مسؤولية الانحراف والظلم على غيرنا أو على الزمن فلنقرأ قوله تعالى:{وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ}(النساء:79) {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(الرعد:11)، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ

ص: 353

يَظْلِمُونَ}(آل عمران:117).وإذا انصاع الناس وراء الكثرة الكاثرة ولسان حالهم (حشر مع الناس عيد) بلا تعقل وروية وبصيرة، أجابهم القرآن:{وَمَا أكثر النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف:103)،{وَإِن تُطِعْ أكثر مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}(الأنعام:116) {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف:106).

ومن الأمراض الاجتماعية التي عالجها القرآن (الإشاعة)(1) وهو داء فتاك يفرق المجتمع ويزلزل كيانه ويبلبل، أفكاره فقال فيها وفي علاجها:{وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} (النساء:83)، وغيرها الكثير مما يعالج عللنا المزمنة.

دروس مستفادة من طريقة القرآن في إصلاح المجتمع:

وهنا ينبغي الإشارة إلى بعض الدروس المستفادة من طريقة القرآن في إصلاح المجتمع وهدايته:

1-الالتفات إلى جانب العلل أكثر من المعلولات عند معالجة حالة معينة وهو شيء مهم وضروري، فعندما يراجع المريض طبيبا ويشرح له الأعراض التي يعاني منها فإن أهم ما يقوم به الطبيب تشخيص العلة وتعيين العلاج

ص: 354


1- صدر لاحقاً كتيب عن هذا الموضوع ضمن سلسلة (نحو مجتمع نظيف).

لها، أما الاكتفاء بمعالجة الأعراض المرضية كوجع الرأس وألم البطن أو ارتفاع درجة الحرارة من دون أن يشخص العلة فهذا من خطل التفكير، فمثلا إن من يريد أن يعالج ظاهرة التبرّج، أو ميوعة الشباب وتقليدهم للغرب، أو امتناع الناس عن دفع الخمس أو أداء الصلاة، أو ارتكابهم للفواحش كشرب الخمر واللواط، أو قل:عموم ابتعاد الناس عن تطبيق شريعة الله وتعمدهم مخالفتها لا يكتفي بأن يقول لهم هذا واجب فافعلوه وهذا حرام فاتركوه لأنهم مسلمون ويعرفون ذلك، فلا بد من تشخيص العلة لضعف الوازع الديني عندهم الذي هو الدافع للتطبيق ومن ثم علاجه، وضعف الوازع الديني إنما منشأه ضعف الجانب الأخلاقي والعقائدي لدى المجتمع، لذا ركز القرآن في مكة - أي في أوائل نزوله - على هذين الجانبين. بما طرح من عقائد ودافع عنها بالأدلة المختلفة ورد الإشكالات الموجهة إليها، وغالبا ما كان يثير كوامن فطرتهم لأنه دليل وجداني مرتكز في باطن كل إنسان ولا يستطيع أحد إنكاره والتنصل منه، واهتم بعرض مشاهد يوم القيامة وسنن الله في الأمم السالفة وعرض الكثير من مواقف العظة والعبرة حتى أيقظ عقولهم وطهر قلوبهم وعندئذ كلفهم بالأحكام فاستجابوا لها طواعية، ونحن نعلم ان فترة التربية في مكة كانت أكثر منها في المدينة ومن هذا يعلم الاهتمام المتزايد بجانب العلل أكثر من المعلولات.2-ومن هنا ينفتح الكلام عن الدرس الثاني المستفاد من طريقة القرآن في إصلاح النفس والمجتمع وهي ضرورة بناء الجانب الأخلاقي والعقائدي لشخصية المسلم، وقد اعتمد القرآن في هذا البناء على عدة أساليب ذكرتها في دروس (فلنرجع إلى الله) وقلنا هناك:أنه سلك طريق العوالم الثلاثة التي

ص: 355

يعيشها الإنسان (العقل، القلب، الروح) فمثلاً يربط بين منع السماء بركاتها والأرض خيراتها وتسلط الأشرار وعدم استجابة الدعاء فيجعل علتها ابتعاد الناس عن شريعة الله وترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن أراد أن يتخلص من هذه النتائج السيئة فليؤدّ هذه الفريضة. ففي الحديث:(إذا تركتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نزعت عنكم البركات ونزلت عليكم البليّات وسلطت عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم)(1).وكان على رأس هذه الأساليب ما أشرنا إليه من عرض مشاهد وأهوال الموت وما بعده ويوم القيامة وحوار الكافرين والفاسقين في النار ومع شياطينهم والتذكير بسنن الله تبارك وتعالى في المعرضين عن طاعته. قال تعالى:{دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} (محمد:10)،{فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (آل عمران:11)، وتعداد نعمه على العباد التي لا تعد ولا تحصى مع إقرارهم بحقيقة فطرية:{هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} (الرحمن:60)، ثم بيان السعادة التي تعمر قلب الإنسان وحياته ومجتمعه لو طبق شريعة الله. قال تعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ}(الأعراف:96).

إن العقيدة والأخلاق هما اللذان يرسمان الهدف الذي يعيشه الإنسان وبالتالي فهما يُحدّدان معالم مسيرته، فمثلاً إذا أريد التبرع لمشروع خيري أو مساعدة محتاج فأيهما الذي يبادر إلى المشاركة:المؤمن الذي يبتغي رضا الله

ص: 356


1- تهذيب الأحكام: 6 / 176.

سبحانه ويرجو العوض منه أم البعيد عن الدين الذي غاية همّه الاستزادة من الدنيا والذين هم {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} (الممتحنة:13)، فالأول أسرع للمشاركة. فهذا مثال على اثر العقيدة والأخلاق في دفع الإنسان إلى التطبيق، فالمؤمن هدفه الله تبارك وتعالى، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، وإنما انحدرت الأمة وضلت لأنها أضاعت الهدف الذي تعيش من أجله فتفرقت بهم السبل. قال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام:153).فما علينا إلا ملء هذا الفراغ في عقول وقلوب المجتمع حتى تصح مسيرته وتنتظم حياته وفق ما أراد الله تبارك وتعالى، وان نأخذ بطريقة القرآن في إحياء القلوب وترقيقها وتهذيب النفوس وتغذيتها بالعقائد الحقة التي هي منشأ الأخلاق الفاضلة. قال تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد:16).

وهذا باب ينبغي للمفكرين والمربين الولوج فيه وهو أسلوب القرآن في الموعظة وإحياء القلوب وجميع الآيات الشريفة فيه التي لو تأملها العاقل لأعاد النظر في منهج حياته، كقوله تعالى في سورة الدخان:{كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ، وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ، كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ، فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا

ص: 357

مُنظَرِينَ} (الدخان:25-29).وإني أنصح بقراءة كتاب (القلب السليم)(1) الذي يتألف من جزئين أولهما في العقائد والآخر في الأخلاق وهما صادران من قلب مخلص طاهر.

3-التدريجية في الهداية والإصلاح والأخذ بأيدي الناس برفق ومثالهم الرئيسي على ذلك:التدريج في تحريم شرب الخمر - باعتباره عادة راسخة في المجتمع وقد أشربت في قلوبهم وعقولهم - فتدرج في المنع على مراحل، أوّلها:(يسأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِ-رِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (البقرة:219)، فقال بعضهم لا نشربها لأنها إثم وقد حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم، وقال بعضهم نشربها بمقدار المنافع فيها، ثم نزل قوله تعالى:{لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} (النساء:43)، فامتنع بعضهم وقالوا لا نتناول شيئا منافياً للصلاة، ثم نزلت آية المائدة التي أفادت المنع المؤكد الجازم:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِ-رُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} (المائدة:90).

ونفس نزول القرآن نجوماً أي مبعضاً على مدى (23) سنة إنما يهدف - فيما يهدف إليه - المعالجات الآنيّة آخذاً بنظر الاعتبار الزمان والمكان والظروف الموضوعية وتباين مستوى الناس واستعدادهم للتلقي والتطبيق.

ص: 358


1- للمرحوم الشهيد السيد عبد الحسين دستغيب ولم يكن سماحة الشيخ يستطيع التصريح بالاسماء لأنه يعرّضه لعقوبة النظام الصدامي، وكانت هذه الكتب تدخل الى العراق سراً ثم تستنسخ خفية وتوزّع كذلك.

ويمكن أن يكون التدرج بعدة أشكال فعندما يراد معالجة ظاهرة اجتماعية متأصلة - كالسنينة العشائرية مثلاً - فنبدأ أولاً بإثارة الإشكالات حول مدى صحتها وجدواها والتشكيك فيها ثم طرح البدائل والخيارات الأخرى المقابلة لها فإذا زرع في النفوس هذا التشكيك وبدأ الالتفات إلى البديل الأفضل فستنشأ القناعة بإبدالها، وعندئذ يمكن التصدي لنقضها، أما محاولة نقضها مباشرة ومن دون هذه التهيئة فإنه يعني الفشل الذريع، وما دامت راسخة ومتأصلة وقد جبل الإنسان على احترام ما هو مألوف وموروث عنده والتعبد به فسيكون هؤلاء المتعبدون كلهم ضد اية محاولة لتغيير هذه الظاهرة الاجتماعية.فعندما بُعث الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالنبوة لم يتعرض للأصنام مباشرة بل كان يعبد الله تعالى هو (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)(1) وخديجة (س) بمرأى ومسمع من قريش من دون أن تتعرض له بسوء، لكنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فتح الباب للعديد من التساؤلات:ماذا يفعل هؤلاء الثلاثة ولمن يعبدون ولماذا تركوا طريقة قومهم وما هذه الشجاعة والإيمان الراسخ في قلوبهم الذي يجعلهم يقفون بكل اطمئنان مقابل الجميع . . . هذه التساؤلات أدت إلى إسلام جماعة - راجع قصة عبد الله بن مسعود في كتب السيرة(2) - ولم تعارضه قريش لأنه لم يستفزها ولم يُثر حفيظتها فيما لو تعرض للأصنام مباشرة.

4-الاهتمام وإلفات نظر الأمة إلى المرتكزات الأساسية لكيان الأمة الذي لا يحفظ إلا بها خصوصاً تلك التي يعلم إعراض الأمة عنها وإهمالها

ص: 359


1- أنظر: بحار الأنوار- المجلسي: 38/ 256)
2- أنظر: أسد الغابة- ابن الأثير: 3/ 256

لأمرها من بعده (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فشدد عليها كثيراً، مثلا، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإمامة والولاية للمؤمنين ومشاققة الكافرين ومودة ذوي القربى والاعتصام بالقرآن والعترة والمواظبة على المساجد والجماعات والجمعات، وما أن غاب شخصه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى أهملت الأمة هذه الأسس الرصينة لحفظ كيانها فبدأ العد السريع للانحراف فأي عودة للصلاح والإصلاح لابد لتحقيقها من إعادة دور هذه الأمور في حياة الأمة إلى بحوث مستقلة بإذن الله تعالى.5-التسلية وتطييب الخاطر والتخفيف عن المصاعب والأتعاب التي تواجه الشخص الذي يسعى إلى إصلاح المجتمع وهدايته أو ما سميناه بحامل القرآن كرسالة إصلاح، قال تعالى:{المص، كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}(الأعراف:1-2)، و{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ} (هود:12)،{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ، إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} {النحل:127-128)،{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذىً كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فإن ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (آل عمران:186)، وأرقّ تعبير وألطفه قوله تعالى:{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (الطور:48)، عين الرعاية واللطف والرحمة والحراسة والتوجيه والبصيرة وغيرها.

وتجد سوراً كاملة نزلت لهذا الغرض كسورة يوسف التي تحس إنها نزلت

ص: 360

في الفترة العصبية التي عاشها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في مكة قبل الهجرة حيث فقد الناصر بموت أبي طالب وخديجة (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ويأس عمليا من إسلام قريش وحاول ان يجد مأوى آخر غير مكة كالطائف فلم يفلح فضاقت الدنيا بالمؤمنين، وفي ذلك الحين نزلت عليهم سورة يوسف تقص عليهم كيف تآمر الأخوة على أخيهم الصغير ورموه في الجب وهو يعني الموت بحسب الأسباب الطبيعة، لكن الله تعالى يرسل قافلة تستنقذه ويباع إلى بيت ملك مصر ثم يقع في محنة امرأة العزيز وباقي النساء فيسجن سنين لكن الله تعالى ينقذه من السجن ويعلمه تأويل الأحاديث، فنال ببركة ذلك موقع أمين خزائن مصر، ثم أصبح ملكا عليها بعد أن ملك قلوب الناس بأخلاقه وحسن تدبيره. وهنا يأتي أولئك الإخوة المتآمرون ذليلين بين يديه فيعفو عنهم بنفسه الكبيرة وقلبه الرحيم ويقول لهم:{لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (يوسف:92)، ويجمع الله شمله مع أبيه وأخيه. واستعار رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نفس الكلمة حين فعلت قريش نفس الفعل حتى نصره الله عليهم ومكنه من رقابهم في عقر دارهم مكة فأعاد عليهم كلمة أخيه الكريم يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(لا تثريب عليكم اليوم اذهبوا فانتم الطلقاء) بعد أن استنطقهم:ما تروني فاعلاً بكم، قالوا (أخ كريم وابن عم كريم)(1)، وهذا إقرار منهم بسمو ذاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) .6-الحث على طلب العلم والتعلم والتفقه بكل ما يقرب إلى الله سبحانه ويزيد من المعرفة به، وقيل أن في القرآن أكثر من خمسمائة آية تحث على العلم

ص: 361


1- تفسير نور الثقلين: 2 / 460.

والتفكر وتثني على العلماء وتذمّ الجهل والجهلاء وتصف عاقبتهم، حتى جعل القرآن صفة الفقه والعلم والمعرفة بالله تبارك وتعالى سببا لمضاعفة قوة المؤمنين على أعدائهم عشرة أضعاف بحسب التعليل المستفاد من ذيل الآية الشريفة، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} (الأنفال:65) بينما جعل الصبر الذي هو من الأسباب المهمة للنصر بمثابة زيادة القوة ضعفاً واحداً فقط:قال تعالى:{الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فإن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}(الأنفال:66).

من فقه المواجهة مع الكفار والطواغيت:

وهذا الفقه شامل لكل نواحي الحياة، فماذا ضخ القرآن من أفكار تندرج في ما يمكن تسميته فقه المواجهة مع الكفار؟ قال تعالى:{وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيماً} (النساء:104)، فلماذا الفرار من لقائهم ما دامت الأضرار تحل بالطرفين؟ والفرق أنكم ترجون ما عند الله في الآخرة فلا خسارة، بينما هم لا يرجون ما عند الله شيئاً إلا العذاب الأليم.

وقوله تعالى:{وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ

ص: 362

حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} (الحشر:2). وقوله تعالى:{مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (التوبة:120-121) فلماذا التقاعس والتقصير في تقديم ما تقتضيه طاعة الله تبارك وتعالى من جهد ومال ولماذا سوء الظن بالله تعالى هذا الذي يعتري الناس حين يطلب منهم دفع ما بذمتهم من حقوق شرعية كالخمس الزكاة ونحوهما؟

ومنها قوله تعالى:{ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ} (يونس:103).

ومنها هذه الآيات المباركة من سورة محمد، وإذا استطعت أن تنتقل بروحك وفكرك وقلبك إلى تلك الفترة الزمنية السعيدة من حياة البشرية وتتصور أنك ضمن الجماعة المؤمنة المحيطة برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) التي واكبته من الزمان الصعب أول الرسالة عندما كانوا قلة مستضعفين تسومهم قريش سوء العذاب حتى هذه الفترة التي دب فيها العجز واليأس لدى المشركين بعد وقعة الأحزاب حيث أصبح زمام المبادرة بيد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتوالت انتصاراتهم من فتح الحديبية

ص: 363

إلى فتح خيبر وفتح مكة والطائف ثم اليمن والجزيرة كلها، فتصور انك هناك وينزل عليك هذا الخطاب القرآني العظيم ومن لدن ربك ومدبر أمورك وخالق السموات والأرض يتحدث إليك مباشرة ليقول لك:{بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ، ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ، فإذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إذا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ، سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ، أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ(1)، إِنَّ اللَّهَ

ص: 364


1- وهذه الآية تمثل الإطار العام لهذه المقابلة المؤمنين لهم مولى يرعاهم ويتولى تربيتهم وسعادتهم وصلاحهم وهو الله تبارك وتعالى بينما الكفار لا مولى لهم وإنما مولاهم الشيطان الضعيف الذي يفر عند المواجهة ويخذلهم {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (سورة الأنفال: 48).

يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ، وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ، أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ} (محمد:1-14)،{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور:55).وهو أثناء ذلك يحذر من محاولات المنافقين الذين يخذلون المؤمنين عن مواجهة الأعداء ويسخرون من ضعف إمكانياتهم متغافلين عن سر قوة المؤمنين وهي اتصالهم بالله تبارك وتعالى، فاسمعه سبحانه يقول:{إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فإن اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(الأنفال:49).

وتندرج في هذا السياق - أعني فقه المواجهة مع الكفار - كل الوعود الإلهية بالنصر والغلبة ووراثة الأرض، وأن العاقبة لهم، وأن الله معهم، وتنزل الملائكة عليهم بالسكينة من ربهم، ورفع الخوف والحزن عنهم، وعقد صفقة الشراء معهم فيشتري منهم أنفسهم وأموالهم والثمن الجنة، وكذا مضاعفة القرض

ص: 365

لله تبارك وتعالى والإنفاق في سبيله. ولا يسع هذا المختصر كل التفاصيل.والحقيقة الكبرى التي يثبتها القرآن الكريم بهذا الصدد أن النصر والهزيمة أمام العدو الخارجي - الكفار - إنما هي فرع النصر والهزيمة مع العدو داخل النفس الأمارة بالسوء وهو الشيطان، فتراه عندما يعد المؤمنين بخلافة الأرض ووراثتها ومن عليها فإنه يجعل الخطوة الأولى في ذلك إصلاح الذات وتطبيق المنهج الإلهي على النفس أولا، قال تعالى:{وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ}(القصص:5-6)، فأولاً جعلهم أئمة وهو يعني تطهير ذواتهم وتنزيهها، ويؤكد أن لا قيمة للنصر على الكفار إذا لم يكن مقترناً بالنصر على الشيطان وإخلاص العمل لله سبحانه لأن العمل أن لم يكن ابتغاء مرضاة الله فهم والكفار على حد سواء وكلاهما أهل دنيا وما لهما في الآخرة من نصيب.

فمثلاً في خضم هزيمة المسلمين في معركة أحد والخسارة الأليمة التي حلت بهم يخاطبهم سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ}(آل عمران:155) فهزيمتهم وإدبارهم كان بسبب ما اكتسبوا من السيئات، وبالمقابل يقول تعالى:{إِن تَنصُ-رُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ}(محمد:7)، ونصر الله يكون بطاعته تبارك وتعالى وإلا فإنه غني عن العالمين، والآية المتقدمة {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ}، ومن هنا خاطب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سرية مجاهدين عادت من القتال:(مرحبا بكم، قضيتم الجهاد

ص: 366

الأصغر وبقي عليكم الجهاد الأكبر. قيل:وما هو يا رسول الله؟ قال:جهاد النفس)(1).

الكيان الصهيوني من الأعراض المرضية فعالجوا أصل المرض:

فعندما يهتم المسلمون اليوم بأمر الدولة الصهيونية اللقيطة ويسعونَ إلى إزالتها، عليهم أن يلتفتوا إلى أن هذه الدولة ما هي إلا أحد الأعراض المرضية التي تظهر على جسد الأمة الإسلامية نتيجة وجود مرض كامن فيها هو الأصل والعلة لهذه الأعراض، والمرض هو ابتعاد المسلمين عن المنهج الإِلهي في حياتهم فلا ينبغي لهم الاهتمام بالأعراض المرضية والغفلة عن علة هذه الأعراض، ويكون مثلهم كما يجري في ساحة مصارعة الثيران - على تشبيه احد المفكرين(2) - فالثور الهائج يركز كل همه وعدائه وغضبه وقوته على الخرقة الحمراء ويغفل عن المصارع الحامل لها، فراح هذا المصارع يغرز في عنقه الخناجر التي تصيب مقتله وهو غافل عنه حتى يموت ويفنى. فلا يكون حالنا كحال ذلك الثور؟! وأنت ترى أن الأمة تقترب من النصر على أعدائها كلما اقتربت من النصر على أنفسها وبمقدار ما تعود وترجع إلى الله تبارك وتعالى.

فائدة تكرار القصص في القرآن:

7-تكرار واستمرار جرعات العلاج وعدم الاكتفاء بعرض العلاج لمرة واحدة عند التصدي لتصحيح حالة منحرفة أو سد نقص أو علاج

ص: 367


1- الكافي: 5/ 12 ، باب: وجوه الجهاد.
2- وهو: الشيخ جودة سعيد.

خلل موجود في فكر الأمة أو عقيدتها أو سلوكها، فمثلاً تجد قصص بعض الأنبياء قد تكررت أكثر من عشر مرات وكل طرح له ذوقه وأثره ودوره في تحقيق الغرض ويترك انطباعا غير الذي يتركه الآخر وان كان الجميع بنفس المضمون.فعندما نريد أن تتناول قضية تبرّج المرأة أمام الرجل وخلاعتها ونصب نفسها شيطاناً يصد عن ذكر الله تعالى وطاعته لتجسيد قول إبليس عملياً:{لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف:16-17)، وهذه الفاسقات يستعملنَ شتى الأساليب لغواية الرجال وإيقاعهم في المعصية من السفور المتبرج في الشارع إلى الحركات المتميعة في الجامعات إلى إبداء مفاتن الجسد إلى الرياضة إلى المشاهد الخليعة في الفن.

فعندما نريد أن نتصدى لمواجهة هذا الداء الفتاك في المجتمع فيمكن معالجته في كتاب عن الظواهر الاجتماعية المنحرفة وكتاب عن قضايا المرأة وكتاب عن اثر الرياضة والفن في تدمير أخلاقيات المجتمع وكتاب عن مشاكل طلبة الجامعات وهمومهم وتطلعاتهم وكتاب بنفس المضامين عن الشباب وكتاب عن فقه العائلة ويتضمن الروابط الأسرية والاجتماعية وفق تعاليم الشريعة وهكذا لان هذه المشكلة الخطيرة تدخل في جميع هذه المحاور، وتناولها في كل المحاور يعطيها صورة ونمطا غير الذي يعطى عند عرضها في محور آخر، ولا اقل من ازدياد عدد الشرائح التي تخاطبها هذه الكتب وبالنتيجة تكون الصورة متكاملة

ص: 368

عندما تُتناول من جميع الاتجاهات(1).8-سلوك مختلف الطرق لهداية الإنسان ولما كان له عوالم ثلاثة هي النفس والعقل والقلب فتجده قد سخرها جميعا ووظفها لاستمالة البشر إلى طاعة الله تبارك وتعالى وقد شرحت ذلك بشيء من التفصيل في دروس (فلنرجع إلى القرآن).

وتجده كثيراً ما يستنطق الفطرة ويستثيرها وقد وصف علة إنزال القرآن في بعض الأحاديث أنه:(ليستثير كوامن فطرتهم) فإن الوجدان أوضح دليل وأصدقه لا يناقش فيه أحد، فاستمع إليه تعالى وهو يخاطب الفطرة في إثبات الصانع:{أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ، أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ}،{أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ، أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}،{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ}،{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ}(الواقعة:58-72)، أو يقول تعالى وهو في مقام عتاب الإنسان العاصي:{هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} (الرحمن:60)، وأنت ترفل في نعم الله تبارك وتعالى:{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} (إبراهيم:34).

ص: 369


1- تم إصدار كتيبات ونشرات تغطي كل هذه المحاور المذكورة بفضل الله تبارك وتعالى، وكانت تنتشر بسرعة وبكميات كبيرة مما أدّى الى رعب النظام وارتباكه وسعى بمكره وخدعه لمعرفة من يتولّى الطبع والنشر واعتقل بعضهم.

كيف السبيل إلى إعادة تفعيل دور القرآن؟

وأعود الآن إلى التساؤل الذي طرحناه وهو كيف السبيل إلى إعادة القرآن إلى الحياة والاستفادة منه، ويتحمل مسؤولية ذلك طرفان:المجتمع والحوزة الشريفة التي هي عنوان ورمز وعي الأمة وفكرها ومستواها الديني فقد قلنا إن أهم وظيفة تقوم بها الحوزة في المجتمع هي طرح مفاهيم القرآن ورؤاه وتصوراته وأخلاقه وعقائده - التي أشرنا إلى بعضها - إلى المجتمع بالفهم الصحيح النقي كما يريده القرآن وبالشكل المناسب ليكون دوره فاعلا في حياة الأمة ويكون ذلك بعدة قنوات كالمنبر الحسيني والمحاضرات والندوات وخطب الجمعة والجماعة والكتب والمجلات والنشرات ونحوها.

ولكن قبل ذلك يجب إعادة القرآن إلى مناهج الدراسة الحوزوية ويتم ذلك على مستويين:

الأول:الدراسات الأولية أي مستوى المقدمات والسطوح الابتدائية فيعطون المناهج التالية(1):

1-حفظ وتلاوة القرآن الكريم وضبطه بالشكل وفق قواعد اللغة العربية وإتقان قواعد تجويده ضمن الإطار الشرعي.

2-تفسير إجمالي للألفاظ ولو على نحو شرح المفردات كما في تفسير شبر ونحوه، ليأخذ الطالب أفكاراً عامة عن معاني القرآن.

3-دراسة علوم القرآن، وأفضل كتاب في ذلك (البيان) أو مقدمة كتاب

ص: 370


1- أدخل سماحة الشيخ هذه المفردات كلها في برامج الدراسة في جامعة الصدر الدينية التي يشرف عليها.

آلاء الرحمن المطبوعة في أول تفسير شبر.4-إقامة المسابقات في العلوم المختلفة عن القرآن وتخصيص جوائز للفائزين والمتفوقين.

الثاني:الدراسات العالية ويكون على شكل عدة خطوات:

1-فتح باب التخصص في الدراسات القرآنية، وأفضل وقت له هو بعد إكمال السطوح العالية حيث يعد الطالب المتخصص منهجاً خاصاً به ويمكن أن يسُتفاد من بعض الكتب الموجودة بعد أن يجرى اختبار معين لاكتشاف أهلية الطالب الذي يريد التخصص في هذا المجال ويفرغ لهذه الدراسة مع توفير المصادر ذات الصلة ليكون مدرساً أو مفسراً أو باحثاً قرآنياً.

2-دراسة تفسير القرآن بشكل معمق أما كل القرآن أو آيات ومقاطع منتقاة منه تخدم هدفا معينا، ويمكن ان يتخذ احد التفاسير متناً يتولى المدرس شرحه والتعليق عليه وإضافة ما يمكن إضافته من المعلومات النافعة المستفادة من التفاسير والمصادر الأخرى، وفي رأيي القاصر إن من المصادر المفضلة هما الميزان وفي ظلال القرآن لأن لكل منهما اتجاهاً خاصاً في التفسير غير الآخر يعلمه من نهل من معارفهما.

3-وضع مناهج للدروس في مفاهيم القرآن وتصوراته ونظرياته وأطروحاته وفلسفته في الكون والحياة بعد أن يكون الطالب قد أخذ تفسيراً اجمالياً لألفاظ القرآن في دراسته السابقة، وتحصل هذه الأمور بدراسة آيات القرآن دراسة موضوعية وليس بالطريقة التجزيئية المتعارفة وإن كانت هذه الطريقة هي الأساس لتلك، وقد قارنت بين المنهجين في كتابي المخطوط (مدخل

ص: 371

إلى تفسير القرآن) الذي يعد هذا البحث مقدمة له.ويركز على المواضيع العلمية أي التي لها واقع معاش سواء على صعيد

العقائد أو الأخلاق أو الفكر، فتتناول مثلاً:التقوى، الصبر، الفقه، التوحيد، الإمامة، الولاية، الشيطان، المعاد، المجتمع المسلم مقومات بنائه وعوامل انهياره، الرجاء والأمل، الموعظة والعبرة، سنن الله في الأمم والمجتمعات، وهكذا، وعندئذ ستتغير الكثير من أفكارنا لأن المعاني المتداولة الآن للألفاظ القرآنية لا تنطبق بالضبط على الفهم القرآني لها بحسب استقراء موردها في القرآن بسبب ما تراكم من غبار التأويلات والتفسير بالرأي وتحكيم الأهواء والتعصبات وحملات المغرضين وغيرها.

الفقه والفقيه في المصطلح القرآني:

وقد عرضنا قبل قليل مفهوم الجاهلية في المصطلح القرآني وصفات وخصائص المجتمع الجاهلي والبدائل الإلهية التي يقدمها القرآن وهكذا كنموذج لمفهوم اجتماعي.

وأقدم الآن الفهم القرآني للفظ حوزوي وهو (الفقه) كمثال آخر، فالفقه يتداول عندنا على انه العلم بالأحكام الشرعية رغم أنه في المصطلح القرآني بمعنى المعرفة بالله تبارك وتعالى ولا ملازمة بينهما كما هو واضح بل النسبة بينهما العموم من وجه.

ففي الآية الشريفة:{فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إذا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة:122) ونحن نعلم

ص: 372

ان الحذر والتقوى لا ينشآن من المعرفة بالأحكام الشرعية بل للحذر مناشئه الروحية والنفسية والعقلية وبعد حصول التقوى والمعرفة في القلب يندفع إلى تعلم الأحكام الشرعية وتطبيقها وتستطيع أن تجرب ذلك بنفسك فاقرأ كتب الفقه وتعمق فيها من أولها إلى آخرها هل تراها غذت قلبك بشيء أو زادت فيه الحذر والتقوى؟ وكم رأينا فقيها بالمعنى الاصطلاحي وهو مكب على الدنيا وبعيد كل البعد عن الله تبارك وتعالى. والقرآن يقص علينا خبر مثل هذا الفقيه:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الأعراف:175-176).

ومن الشواهد على أن معنى الفقه هو المعرفة بالله تعالى جعل محله القلب في الآيات الشريفة وهو محل المعرفة الحقيقية بالله تعالى، بينما الأحكام الشرعية محلها العقل، قال تعالى:{رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} (التوبة:87)، وقال تعالى:{لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} (الأعراف:179).

لذا جعلت الآية هذا الفقه أي المعرفة الراسخة بالله والمبدأ والمعاد سببا لمضاعفة القوة عشرة اضعاف. قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم

ص: 373

مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} (الأنفال:65).ويؤكد هذا المعنى ما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(ألا أخبركم بالفقيه حقاً؟ من لم يقنط الناس من رحمة الله ولم يؤمنهم من عذاب الله ولم يؤيسهم من روح الله، ولم يرخص في معاصي الله ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره، ألا لا خير في علم ليس فيه تفهم، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفقه)(1) هذا في كتاب الوسائل. وللحديث بقية في مصدر آخر(2) كالتالي:(فإنه إذا كان يوم القيامة نادى مناد:يا أيها الناس إن أقربكم من الله تعالى مجلساً أشدكم له خوفاً، وإن أحبكم إلى الله أحسنكم عملاً، وإن أعظمكم عند الله نصيباً أعظمكم فيما عنده رغبة، ثم يقول عز وجل:لا أجمع لكم اليوم خزي الدنيا وخزي الآخرة، فيأمر لهم بكراسي فيجلسون عليها، وأقبل عليهم الجبار بوجهه وهو راض عنهم وقد أحسن ثوابهم).

فترى أن صفات الفقيه كل ما يقرب إلى الله تبارك وتعالى، وفي حديث عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(كانت الفقهاء والحكماء إذا كاتب بعضهم بعضاً كتبوا ثلاثاً ليس معهن رابعة:من كانت الآخرة همته كفاه الله همه من الدنيا، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح فيما بينه وبين الله عز وجل أصلح الله فيما بينه وبين الناس)(3).

وفي حديث عن أبي الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من علامات الفقه الحلم والعلم

ص: 374


1- بحار الأنوار: 2/ 49، باب: صفات العلماء وأصنافهم، حديث 8.
2- مدينة البلاغة: صفحة 98، عن كتاب الجعفريات.
3- الخصال: صفحة 129 باب الثلاثة.

والصمت، إن الصمت باب من أبواب الحكمة وإن الصمت يكسب المحبة وإنه دليل على كل خير)(1).

ويمكن استفادة هذا المعنى بالجمع بين حديثين ففي الخصال عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي:الأمراء والفقهاء)(2) وفي الوسائل عن الأمالي. بدل العلماء القراء فإذا ضممنا إليه الحديث الآتي في صفة القراء نحصل على المعنى المذكور.

فبين الفقيه بالمصطلح القرآني والفقيه بالمعنى الحوزوي عموم من وجه إذ قد يكون فقيها بالمعنى القرآني وهو ليس كذلك بالمعنى الحوزوي إذ يوجد الكثير من أولياء الله العارفين ولهم الكرامات المشهودة مع أنهم لم يبلغوا درجة عالية في العلوم الحوزوية وقد يكون العكس فتجد شخصاً امتلأ ذهنه بالنظريات والأفكار الأصولية والعقلية والمسائل الفقهية بحيث تجده ملماً حتى بدقائق المسائل لكن قلبه غير معمور بذكر الله تعالى ولو سألته عن أبسط مسألة في تهذيب النفس والسلوك الصالح إلى الله تبارك وتعالى وتصفية الباطن وتطهير القلب لبقي متحيراً، فمثل هذا ليس فقيها بالمعنى القرآني، والكامل هو من جمع المعنيين كما هو شأن علمائنا المقدسين الذين بلغوا مقاماً عالياً في الفقه والأصول وشامخا في العرفان، وهم المقصودون في الحديث الشريف:(الفقهاء أمناء الرسل)(3)، وبمثل هذا المنظار القرآني يجب أن نفهم الأحاديث الشريفة لئلا

ص: 375


1- الاختصاص: 232.
2- مستدرك سفينة البحار- الشيخ النمازي: 6/ 383
3- بحار الأنوار: 2/ 36 حديث 38.

تضيع علينا معانيها السامية.

مسؤولية الحوزة عن تفعيل دور القرآن:

وإني هنا أذكر حديثاً واحداً فقط يبين مسؤولية الحوزة الشريفة عن توعية المجتمع وهدايته وإصلاحه فقد روي أن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (خطب فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر طوائف من المسلمين فأثنى عليهم، ثم قال:ما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتفطنون؟ والذي نفسي بيده ليعلمن جيرانهم أو ليتفقهن أو ليتفطنن أو لأعاجلهم بالعقوبة في دار الدنيا، ثم نزل ودخل بيته، فقال أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):من يعني بها الكلام؟ قالوا:ما نعلم يعني بهذا الكلام إلا الأشعريين فقهاء علماء ولهم جيران جفاة جهلة.

فاجتمع جماعة من الأشعريين فدخلوا على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقالوا:ذكرت طوائف من المسلمين بخير وذكرتنا بشر فما بالنا؟ فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لتعلمن جيرانكم ولتفقهنم ولتأمرنهم ولتنهنّهم أو لأعاجلنكم بالعقوبة في دار الدنيا، فقالوا:يا رسول الله فأمهلنا سنة ففي سنة ما نعلمهم ويتعلمون فأمهلهم سنة ثم قرأ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ، كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}(1).

هذه هي بعض المقترحات التي أقدمها بين يدي الحوزة الشريفة في هذا المجال والوظيفة المشتركة للجميع هي المواظبة على تلاوة القرآن

ص: 376


1- الميزان في تفسير القرآن: 6 / 84 في تفسير الآية، عن كتاب الدر المنثور.

والاستفادة منه آناء الليل وأطراف النهار وستعرف الكثير عن هذا من خلال الأحاديث الشريفة الآتية.وهذه الوظيفة للحوزة لا تخصهم وإنما خاطبناهم بها لوجوبها عليهم أكثر من غيرهم، وإلا فالمجتمع كله مسؤول عن اتباع هذه الخطوات بحسب ما يناسب كل فرد، فذوو المعرفة القليلة يبدأون بقراءة التفاسير المبسطة كتفسير شبر.

وإني أنصح كل مسلم - وهو ما جربته أنا - أن يبدأ حياته مع القرآن بأن يتلوه في مصحف وعلى هامش كل صفحة تفسيرها مختصراً كتفسير شبّر؛ ليتسنى له فهم مفردات الآيات خلال تلاوتها، ويستمر على هذا الحال عدة ختمات إلى أن يمتلك معرفة إجمالية بالقرآن، ثم يعود إلى نسخة المصحف يتلو فيها مع تطوير قابليته بقراءة كتب التفسير المتقدمة كالميزان وفي ظلال القرآن ويقرأ الكتب التي شرحت مفاهيم القرآن أو تناولت القرآن بحسب الموضوعات، حيث يتخذ احدها عنوانا للبحث ثم يستقرئ القرآن فتجتمع كل الآيات المتعلقة بذلك العنوان ثم يستنتج من المجموع تصور القرآن ونظريته - وأنا هنا استعير هذه المصطلحات الفكرية لأجل استئناس الأذهان بها مع بعض التحفظات - لهذا الموضوع الذي يفترض فيه أن يعالج مشكلة واقعية يعيشها المجتمع سواء كانت عقائدية أو أخلاقية أو فكرية أو غيرها.

وقد يكون من الأفضل متابعة ذلك مع بعض فضلاء الحوزة الشريفة ليوجهوهم ويجيبوا عن تساؤلاتهم ويرشدوهم لما ينفعهم فإن المجتمع والحوزة احدهما يكمل الآخر، فالحوزة توجه المجتمع والمجتمع يضغط على الحوزة لتكون بمستوى المسؤولية وبمستوى حاجة الأمة وطموحاتها ومواكبة للزمان

ص: 377

الذي تعيشه وعندئذ ستنفرز العناصر الكفوءة من الحوزة عن غيرها وستعرف الأمة من هو الأصلح لها.إن القرآن لا يفهم حق فهمه إلا عندما يحمله الإنسان كرسالة يصلح بها نفسه والذين من حوله ويواجه بها الخطأ والانحراف الذي يضرب بأطنابه على البشرية، عندئذ يعيش في مثل الأجواء التي نزل فيها وعندئذ تنفتح له أسراره، ولا تكفي قراءته لمجرد التبرك وإن كان في ذلك فضل لا ينكر.

ومن الضروري أن تتناول إحدى الدراسات القرآن بحسب تأريخ نزول آياته وإن كان الإلمام بذلك تفصيلاً أمراً متعسَّراً لعدم وجود دليل قطعي عليه إلا أنه يمكن اقتناص بعض موارده ويستفاد من هذا البحث فوائد كثيرة في مجال معرفة خطوات القرآن في إصلاح المجتمع باعتباره نزل تدريجياً بحسب الوقائع والحوادث.

إن هذا التنزيل المتدرج للقرآن بدلاً من النزول دفعة واحدة له وقعه المباشر وتأثيره الفعال في الحالات التي عالجها، قال تعالى:{وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} (الإسراء:106)، وما دام هو كتاب تربية وهداية وإحياء فلا بد أن يكون تدريجياً وبلطف فيصف العلاج المناسب في الوقت المناسب وبالجرعة المناسبة لا أقل ولا أكثر ولا قبل الموعد ولا بعده، وهكذا أخذ القرآن بيد هذه الأمة برفق لتجد نفسها بعد عقدين من الزمان في قمة السمو والكمال والرفعة والعزة والمنعة.

ص: 378

بعض الآداب والمستحبات المتعلقة بتلاوة القرآن:

وأود هنا أن أذكر بعض الآداب والسنن والمستحبات المتعلقة بقراءة القرآن والمستفادة من الروايات الشريفة:

1-يستحب ختم القرآن في الشهر مرة، وأن لا تزيد عن أربعة أشهر أي يختمه في السنة ثلاث مرات غير الزيادات التي ينبغي إضافتها في شهر رمضان المبارك.

2-أن تكون قراءته على نحو الختمة أي يبدأ من أول القرآن إلى آخره، وليس قراءة سور متفرقة اشتهر فضلها بين الناس مهما كانت أهميتها، ليمر على القرآن كله وينال كل بركاته وهو المعبر عنه في الحديث الشريف الآتي:(الحالِّ المرتحل)(1).

3-أن يصادف الختم يوم الجمعة وأن يقرأ عند ختم القرآن الدعاء المختص به وهو موجود في الصحيفة السجادية.

4-عندما يختم القرآن لا يقف عند نهايته بل يصله مباشرة بافتتاح ختمه جديدة ولو بأن يبدأ بسورة الفاتحة وأول خمس آيات من سورة البقرة.

5-أن يكون على طهارة وفي مصلاه مستقبلاًً القبلة.

6-ورد في تفسير قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ} (آل عمران:200)، إن من المرابطين من يثبت على مصلاه ينتظر حلول وقت الفريضة، فلتحصيل فضل المرابطين يستغل المؤمن هذه الحالة وهي فترة انتظار وقت الصلاة لتلاوة القرآن ويكون الأجر أعظم لو كان ذلك في المسجد

ص: 379


1- الكافي: 2 / 605.

منتظراً صلاة الجماعة.7-وورد استحباب النوم على طهارة وقراءة القرآن قبل أن يأوي المؤمن إلى فراشه وفي حديث إنه:(من أحدث ولم يتوضأ فقد جفاني ومن توضأ ولم يصل ركعتين فقد جفاني ومن صلى ركعتين ولم يدعني فقد جفاني ومن دعاني ولم أجبه فقد جفوته ولست بربٍ جاف)(1)، وإذا أضيف لها الاستحباب المؤكد لصلاة الليل، واستحباب التخلي قبل النوم، واستحباب السواك، خرجنا من ضم المجموع بوُردٍ مهم وهو أن المؤمن قبل أن يأوي إلى فراشه يتخلى وينظف أسنانه ثم يتوضأ ويصلي صلاة الليل، إما كلها أو بعضها، ويؤد البعض الآخر إلى ما قبل طلوع الفجر ثم يقرأ مقداراً من القرآن الكريم ويدعو الله سبحانه له وللمؤمنين فإنه سيجمع كل هذه المستحبات. أما الإنسان الذي يسهر الليل على البرامج والأفلام الفاسدة التي تتعب أعصابه وترهقه فيعيش في معاناة ونكد.

8-أن تكون تلاوته للقرآن خصوصاً للمبتدئين في تفسير شبر الذي يتضمن أكثر من فائدة ففيه نسخة من المصحف الشريف وفيه تفسير إجمالي لمعاني القرآن، وهو ما قلناه أنه ضمن مناهج الدراسات الأولية للقرآن، وفيه مقدمة في علوم القرآن وهو درس آخر، وفيه ملحق بفهرس الألفاظ القرآنية بحيث أن أي آية تريد معرفة موضعها تستخرج من هذا الدليل وموضع أي كلمة منها، وفيه القراءات المتعددة للكلمة الواحدة إن وجدت في هامشه، وفيه ترتيب نزول السور ففي عنوان كل سورة يقول أنها نزلت بعد كذا سورة،كل هذه الفوائد

ص: 380


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، باب 11، حديث2.

في هذا الكتاب الجليل.9-أن يبدأ بإهداء الختمة الأولى لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ثم الثانية لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهكذا لجميع المعصومين الأربعة عشر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فقد وردت فيه رواية شريفة وهم أكرم الخلق فسيردون الهدية بما يليق بكرمهم يوم القيامة.

10-رفع الصوت بالقرآن عند التلاوة، وان يكون حزينا وان يتدبر معانيه ولا يكن همّ أحدكم نهاية السورة، كما في الحديث.

11-استحباب القراءة في المصحف حتى لو كان حافظاً لما يقرأ، ويستحب أن يكون لكل فرد من أفراد العائلة نسخة من المصحف الشريف خاصة به يضع فيه علامة.

12-الإنصات إلى القرآن وتدبر ما يسمع في أية فرصة تسنح للاستماع.

أسأل الله تعالى أن يحيينا حياة القرآن وينيلنا شفاعته ويجعلنا ممن يهتدي بهداه ويستضيء بنور علمه إنه ولي النعم وهو اللطيف بعباده ومن لطفه بنا أن هدانا إلى دينه القويم وأتحفنا بكتابه الكريم ونبيه العظيم وأهل بيته الميامين الغرر. الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا نهتدي لولا أن هدانا الله.

ص: 381

الأربعون حديثاً في فضل القرآن وآثاره وآداب تلاوته:

وسأكتفي هنا بذكر نصوص الأحاديث مع جعل عنوان مناسب لمضمونها، وتصنف الأحاديث بحسب المضامين، أما شرحها وبيان ما فيها من نكات فيمكن أن يكون له محل آخر، وسوف لا أتحدد بالعدد أربعين لأن الأخبار التي حثت على حفظ أربعين حديثاً لا نفهم منها أنها بشرط لا عن الزيادة فالزيادة خير إذن.

1-ضرورة تعلّمه:

عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتى يتعلم القرآن أو أن يكون في تعليمه)(1).

وعن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(لا يعذب الله قلباً وعى القرآن)(2).

وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(خياركم من تعلم القرآن وعلمه)(3).

وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(حملة القرآن في الدنيا عرفاء أهل الجنة يوم القيامة)(4).

وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(القرآن غنىً لا غنى دونه ولا فقر بعده)(5).

وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(إذا قال المعلم للصبي:بسم الله الرحمن الرحيم فقال الصبي بسم الله الرحمن الرحيم كتب الله براءة للصبي وبراءة لأبويه وبراءة للمعلم)(6).

وعن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الكرام

ص: 382


1- و(2) و(3) و(4) و(5) و(6) وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن ولو في غير الصلاة، باب1، الأحاديث 4، 5، 6، 15، 11، 16 بحسب الترتيب.

البررة)(1).

2-تعلم القرآن أعظم نعمة:

عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال:(من قرأ القرآن فظن أن أحداً أعطي أفضل مما أعطي فقد حقّر ما عظّم الله، وعظّم ما حقّر الله)(2).

3-القرآن شافع مشفَّع وخصم مصدق:

عن الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال في حديث:(إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفّع وماحِلٌ مصدق، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان تحصيل - إلى أن قال- لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه، مصابيح الهدى ومنار الحكمة)(3).

4-صفة قارئي القرآن:

عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال:(ينبغي لمن قرأ القرآن إذا مرّ بآية من القرآن فيها مسألة أو تخويف أن يسأل عند ذلك خير ما يرجو ويسأله العافية من النار ومن العذاب)(4).

وعن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(إني لأعجب كيف لا أشيب إذا قرأت القرآن)(5)، ومن خطبة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في وصف المتقين قال:(أما الليل فصافون أقدامهم تالين لأجزاء الكتاب يرتلونه ترتيلاً، يحزّنون به أنفسهم ويستثيرون به

ص: 383


1- المصدر السابق، باب 5، حديث 1.
2- المصدر، باب2، حديث3.
3- المصدر، باب 3، الأحاديث 3، 2، 6 بحسب الترتيب.
4- المصدر، باب 3، الأحاديث 3، 2، 6 بحسب الترتيب.
5- المصدر، باب 3، الأحاديث 3، 2، 6 بحسب الترتيب.

تهيج أحزانهم، بكاء على ذنوبهم، ووجع كلوم جراحهم، وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وأبصارهم فاقشعرت منها جلودهم ووجلت قلوبهم فظنوا أن صهيل جهنم وزفيرها وشهيقها في أصول آذانهم، وإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً وتطلعت أنفسهم إليها شوقاً، وطنوا أنها نصب أعينهم)(1).

5-وجوب إكرام حملة القرآن وحرمة الاستخفاف بهم:

عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(إن آهل القرآن في أعلى درجة من الآدميين ما خلا النبيين والمرسلين فلا تستضعفوا أهل القرآن حقوقهم، فإن لهم من الله العزيز الجبار لمكاناً)(2).

6-ثواب من يصعب عليه تعلم القرآن وحفظه:

عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(من شُدّد عليه القرآن كان له أجران ومن يسر عليه كان مع الأولين)(3).

وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إن الذي يعالج القرآن ويحفظه بمشقة منه وقلة حفظ له أجران)(4).

7-وجوب قراءة البسملة قبل السورة:

عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إذا أمّ الرجل القوم جاء شيطان إلى الشيطان الذي هو

ص: 384


1- المصدر، نفس الباب، حديث 6.
2- المصدر، باب 4، حديث 1.
3- المصدر، باب 5، ح3.
4- المصدر، حديث2.

قرين الإمام فيقول:هل ذكر الله يعني هل قرأ بسم الله الرحمن الرحيم فإن قال نعم هرب وإن قال لا ركب عنق الإمام ودلى رجليه في صدره فلم يزل الشيطان أمام القوم حتى يفرغوا من صلاتهم)(1).

8-استحباب قراءة القرآن عند زيارة القبور:

في (من لا يحضره الفقيه) عن الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ما عبد مؤمن زار قبر مؤمن فقرأ عنده إنا أنزلناه في ليلة القدر سبع مرا ت إلا غفر الله له ولصاحب القبر)(2).

وفي رواية أخرى:(أمن من الفزع الأكبر) وفي معناه روايات عديدة.

وفي أخرى استحباب إضافة سورة الفاتحة والمعوذتين والتوحيد وآية الكرسي كل منها ثلاث مرات، وورد في ثوابها:(إن الله يبعث إليه ملكاً يعبد الله عند قبره ويكتب له وللميت ثواب ما يعمل ذلك الملك فإذا بعثه الله من قبره لم يمر على هول إلا صرفه الله عنه بذلك الملك الموكل حتى يدخله الله به الجنة)(3).

9-فضل تعلم القرآن في الشباب وآثاره:

عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن اختلط القرآن بلحمه ودمه، وجعله الله من السفرة الكرام البررة، وكان القرآن عنه حجيزاً يوم القيامة، يقول:يا رب إن كل عامل قد أصاب أجر عمله غير عاملي، فبلغ به أكرم عطائك، قال:فيكسوه الله العزيز الجبار حلتين من حلل الجنة ويوضع على رأسه

ص: 385


1- بحار الأنوار: 82/20.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب صلاة الجنائز، باب 57، حديث 5.
3- جامع أحاديث الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب زيارة القبور، باب 2 وفيه عشرة أحاديث.

تاج الكرامة، ثم يقال له:هل أرضيناك فيه؟ فيقول القرآن:يا رب قد كنت أرغب له فيما هو أفضل من هذا، قال:فيعطى الأمن بيمينه والخلد بيساره ثم يدخل الجنة فيقال له اقرأ آية فاصعد درجة، ثم يقال له:هل بلغنا به وأرضيناك؟ فيقول:نعم)(1).

10-ضرورة تعليم الأولاد القرآن:

عن الرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حديث إلى أن قال:(ويكسى أبواه - أي حامل القرآن - حلتين إن كانا مؤمنين ثم يقال لهما هذا لما علّمتماه القرآن)(2)({306)) وفي حديث عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إن الله ليهمّ بعذاب أهل الأرض جمعياً حتى لا يحاشي منهم أحد إذا عملوا بالمعاصي واجترحوا السيئات، فإذا نظر إلى الشيّب ناقلي أقدامهم إلى الصلوات والولدان يتعلمون القرآن رحمهم فأخّ-رَ ذلك عنهم)(3).

11-أقسام قرّاء القرآن وصفة القارئ الحق:

عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قرّاء القرآن ثلاثة:رجل قرأ القرآن فاتخذه بضاعة واستدر به الملوك واستطال به على الناس، ورجل قرأ القرآن فحفظ حروفه وضيع حدوده(4) وأقامه إقامة القدح، فلا كثّر الله هؤلاء من حملة القرآن، ورجل قرأ القرآن فوضع دواء القرآن على داء قلبه فأسهر به ليله واظمأ به نهاره وقام به في مساجده وتجافى به عنه فراشه، فبأولئك يدفع الله البلاء وبأولئك يديل الله من

ص: 386


1- الكافي: 2/ 604.
2- نهج السعادة: 7 / 223.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساجد، باب 3، حديث3.
4- وهم هؤلاء الذين يدققون في قواعد التجويد التي وضعوها وغفلوا عن معاني ما يقرأون.

الأعداء وبأولئك ينزّل الله الغيث من السماء، فوالله لهؤلاء في قراء القرآن اعز من الكبريت الأحمر)(1).وعن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(يا حامل القرآن تواضع به يرفعك الله، ولا تعزز به فيُذلك الله، يا حامل القرآن تزيّن به لله يزينك الله به، ولا تزين به للناس فيشينك الله به)(2).

12-فهم القرآن مرتبة قريبة من النبوة:

عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من حديث قال:(من ختم القرآن فإنما أدرجت النبوة بين جنبيه ولكنه لا يوحى إليه)(3).

13-الطريق الأكمل لقراءة القرآن أن تبدأ من أوله إلى آخره وليس بأن تقرأ سوراً متفرقة:

عن الزهري قال:(قلت لعلي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):أي الأعمال أفضل؟ قال:(الحالّ المرتحل) قلت وما الحالّ المرتحل، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):فتح القرآن وختمه، كلما جاء بأوله ارتحل في آخره)(4) وفي النهاية سئل:أي الأعمال أفضل فقال:الحال المرتحل، فقيل:وما ذلك، قال:الخاتم المفتح هو الذي يختم القرآن بتلاوته ثم يفتتح التلاوة من أوله؛ شبّهه بالمسافر يبلغ بالمنزل فيحل فيه ثم يفتتح السير أي يبدأه وكذلك قراءة أهل مكة إذا ختموا القرآن بالتلاوة ابتدأوا وقرأوا

ص: 387


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن ولو في غير الصلاة، باب 8، حديث 3،1.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن ولو في غير الصلاة، باب 8، حديث 3،1.
3- المصدر السابق، باب 11، حديث 18.
4- المصدر السابق، باب 11، حديث 2.

الفاتحة وخمس آيات من أول سورة البقرة إلى قوله:{هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ويقفون ويسمون فاعل ذلك الحال المرتحل أي أنه ختم القرآن وابتدأ بأوله ولم يفصل بينهما بزمان.وفي هذا المعنى حديث عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(قيل يا ابن رسول الله أي الرجال خير قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):الحال المرتحل، قيل يا ابن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):وما الحال المرتحل؟ قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):الفاتح الخاتم الذي يقرأ القرآن ويختمه فله عند الله دعوة مستجابة)(1).

14-الوصية بكثرة قراءة القرآن:

وفي وصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(وعليك بتلاوة القرآن على كل حال)(2).

15-ثواب قراءة القرآن:

عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حديث قال:(عليكم بتلاوة القرآن فإن درجات الجنة على عدد آيات القرآن، فإذا كان يوم القيامة يقال لقارئ القرآن:اقرأ وأرق فكلما قرأ آية يرقى درجة)(3).

وعن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(من قرأ عشر آيات في ليلة لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ خمسين آية كتب من الذاكرين، ومن قرأ مائة

ص: 388


1- المصدر، حديث 8.
2- المصدر، باب 11، حديث 1.
3- المصدر، حديث 10.

آية كتب من القانتين، ومن قرأ مائتي آية كُتب من الخاشعين، ومن قرأ ثلاثمائة آية كتب من الفائزين، ومن قرأ خمسمائة آية كتب من المجتهدين، ومن قرأ ألف آية كتب له قنطار والقنطار خمسة عشر ألف (خمسون ألف) مثقال من ذهب، المثقال أربعة وعشرون قيراطاً أصغرها مثل جبل أحد وأكبرها ما بين السماء والأرض)(1).

16-ضرورة المحافظة على ما تعلم من القرآن ولا يتركه بحيث يؤدي الى نسيانه:

عن يعقوب الأحمر قال:(قلت لأبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إن عليّ ديناً كثيراً وقد دخلني ما كاد القرآن يتفلت مني، فقال أبو عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):القرآن القرآن إن الآية من القرآن والسورة لتجيء يوم القيامة حتى تصعد ألف درجة - يعني في الجنة - فتقول:لو حفظتني لبلغت بك هاهنا)(2).

أقول:مرّ عليك أن الحفظ المعنوي بمعنى مراعاة حدوده ومعانيه والالتزام بأوامره ونواهيه.

17-استحباب التلاوة على وضوء:

عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(سألته أقرأ المصحف ثم يأخذني البول فأقوم فأبول وأستنجي وأغسل يدي وأعود إلى المصحف فأقرأ فيه؟ قال:لا حتى تتوضأ للصلاة)(3).

ص: 389


1- المصدر، باب 17، حديث 2.
2- المصدر، باب 12، حديث3.
3- المصدر، باب 13، حديث1.

وعنهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(لقارئ القرآن بكل حرف يقرأ في الصلاة قائماً مائة حسنة وقاعداً خمسون حسنة ومتطهراً في غير صلاة خمسة وعشرون حسنة وغير متطهر عشر حسنات، أما إني لا أقول: {المر ۚ} ، بل بالألف عشر وباللام عشر وبالميم عشر وبالراء عشر)(1).

18-استحباب الاستعاذة عند القراءة:

عن الحلبي عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(سألته عن التعوذ من الشيطان عند كل سورة يفتتحها، قال:نعم، فتعوذ بالله من الشيطان الرجيم)(2).

وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(والاستعاذة هي ما قد أمر الله به عباده عند قراءتهم القرآن بقوله:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} ومن تأدب بأدب الله أدّاه إلى الفلاح الدائم)(3).

19- القرآن عهد الله فكم ينبغي للمسلم أن يقرأ منه يومياً:

عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(القرآن عهد الله إلى خلقه فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده وأن يقرأ منه في كل يوم خمسين آية)(4).

أقول:وبحساب بسيط تستنتج أن اقل ما ينبغي للمؤمن أن يختم القرآن في السنة ثلاث مرات لأن عدد آيات القران أكثر من ستة آلاف فيختمه على هذا المعدل في (120) يوماً أي أربعة أشهر هذا بغض النظر عن مضاعفة الجهد في

ص: 390


1- المصدر، حديث 3.
2- المصدر، باب 14، حديث2.
3- المصدر، حديث 1.
4- المصدر، باب 15، حديث1.

شهر رمضان .

20-آيات القرآن خزائن فاستفد منها جميعاً:

عن علي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(آيات القرآن خزائن فكلما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما فيها)(1).

21-استحباب قراءة القرآن في البيوت:

عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:قال أمير المؤمنين:(البيت الذي يقرأ فيه القرآن ويذكر الله عز وجل فيه تكثر بركته وتحضره الملائكة وتهجره الشياطين، ويضيء لأهل السماء كما تضيء الكواكب لأهل الأرض، وإن البيت الذي لا يُقرأ فيه القرآن ولا يذكر الله عز وجل فيه تقل بركته وتهجره الملائكة وتحضره الشياطين)(2).

22-الكسب وطلب الرزق لا يمنع من المواظبة على قراءة القرآن:

عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(ما يمنع التاجر منكم المشغول في سوقه إذا رجع إلى منزله أن لا ينام حتى يقرأ سورة من القرآن فيكتب له مكان كل آية يقرأها عشر حسنات وتمحي عنه عشر سيئات)(3).

23-استحباب القراءة في المصحف حتى لو كان حافظاً لما يقرأ:

عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(من قرأ القرآن في المصحف متع ببصره

ص: 391


1- المصدر، حديث 2.
2- المصدر، باب 16، حديث 2.
3- المصدر، باب 11، حديث 6.

وخفف عن والديه وإن كانا كافرين)(1).وعن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(ليس شيء أشد على الشيطان من القراءة في المصحف نظراً)(2).

وفي حديث آخر:(النظر إلى المصحف من غير قراءة عبادة)(3).

أقول:وهذه اقل وظيفة يقوم بها من لا يحسن القراءة وإلا فعليه الاستماع.

وعن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قلت له:جعلت فداك إني أحفظ القرآن على ظهر قلبي فاقرأه على ظهر قلبي أفضل أو أنظر في المصحف، قال فقال لي:بل اقرأه وانظر في المصحف فهو أفضل، أما علمت أن النظر في المصحف عبادة)(4).

24-استحباب اقتناء نسخة من المصحف في البيت:

عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إنه ليعجبني أن يكون في البيت مصحف يطرد الله عز وجل به الشياطين)(5).

25-استحباب ترتيله وكراهة العجلة فيه:

عن عبد الله بن سليمان قال:سألت أبا عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن قول الله عز وجل:{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} قال:(قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):بيّنه تبياناً ولا تهذّه

ص: 392


1- المصدر، باب 19، حديث 1.
2- المصدر، حديث 2.
3- المصدر، حديث 6.
4- المصدر، باب 19، حديث 4.
5- المصدر، باب 20، حديث1.

هذّ الشعر ولا تنثره نثر الرمل ولكن اقرعوا به قلوبكم القاسية، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة)(1).وفي تفسير قوله تعالى:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ}(البقرة:121) روي عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال:(حق تلاوته هو الوقوف عند ذكر الجنة والنار، يسأل في الأولى ويستعيذ من الأخرى)(2).

وفي حديث عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إن القرآن لا يُقرأ هذرمة ولكن يرتل ترتيلاً وإذا مررت بآية فيها ذكر الجنة فقف عندها وسل الله الجنة وإذا

مررت بآية فيها ذكر النار فقف عندها وتعوذ بالله من النار)(3).

26-استحباب قراءته بالحزن كأنه يخاطب إنساناً وحرمة ما يفعل الصوفية من الغشية والصعقة:

عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إن القرآن نزل بالحزن فاقرأه بالحزن)(4).

وعن حفص قال:(ما رأيت أحداً أشد خوفاً على نفسه من موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولا أرجى للناس منه وكانت قراءته حزناً فإذا قرأ كأنما يخاطب إنساناً)(5).

وعن جابر عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قلت إن قوماً إذا ذكروا شيئاً من القرآن أو حدّثوا به صعق أحدهم حتى يرى أن أحدهم لو قطعت يداه أو رجلاه

ص: 393


1- المصدر، باب 21، حديث 1.
2- المصدر، باب 27، ح7.
3- المصدر، حديث 3.
4- المصدر، باب 22، ح1.
5- المصدر، حديث 3.

لم يشعر بذلك، فقال:سبحان الله ذلك من الشيطان، ما بهذا نعتوا إنما هو اللين والرقة والدمعة والوجل)(1).

27-استحباب رفع الصوت بالقرآن:

عن معاوية بن عمار قال:(قلت لأبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):الرجل لا يرى أنه صنع شيئاً في الدعاء وفي القراءة حتى يرفع صوته، فقال:لا بأس، إنَّ علي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن وكان يرفع صوته حتى يسمعه أهل الدار وإن أبا جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وكان إذا قام من الليل وقرأ رفع صوته فيمر به مار الطريق من الساقين وغيرهم فيقومون فيستمعون إلى قراءته)(2).

28-حرمة التغني بالقرآن:

عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):اقرأوا القرآن بألحان العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكبائر فإنه سيجيء من بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانية لا يجوز تراقيهم قلوبهم مقلوبة وقلوب من يعجبه شأنهم)(3).

29-وجوب الإنصات لقراءة القرآن أخلاقياً واستحبابه شرعياً إلا في الصلاة:

ص: 394


1- المصدر، باب 25، حديث1.
2- المصدر، باب 23، حديث 2.
3- باب 24، حديث 1.

عن عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قلت له الرجل يقرأ القرآن أيجب على من سمعه الإنصات له والاستماع؟ قال:نعم إذا قرأ عندك القرآن وجب عليك الإنصات والاستماع)(1).وفي حديث زرارة عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(وإذا قرأ القرآن في الفريضة خلف الإمام فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون)(2).

30-استحباب ختم القرآن في كل شهر مرة:

عن محمد بن عبد الله قال:قلت لأبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):اقرأ القرآن في ليلة؟

فقال:(لا يعجبني أن تقرأه في أقل من شهر)(3).

31-استحباب إهداء ثواب القراءة إلى المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لكي يضاعف الأجر:

عن علي بن المغيرة عن أبي الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(قلت فإذا كان في يوم الفطر جعلتُ لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ختمة(4) ولعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أخرى ولفاطمة (س) أخرى ثم الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) حتى انتهيت إليك فصيرت لك واحدة منذ صرت في الحال، فأي شيء لي بذلك؟ قال:لك بذلك أن تكون معهم يوم القيامة، قلت:الله أكبر فلي بذلك؟ قال:نعم ثلاث مرات)(5).

ص: 395


1- المصدر، باب 26، حديث 4.
2- المصدر، حديث 5.
3- المصدر، باب 27، حديث1.
4- مما قرأه في شهر رمضان.
5- المصدر، باب 28، حديث1.

32-استحباب البكاء أو التباكي عند سماع القرآن:

عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إن رسول الله أتى شباباً من الأنصار فقال:إني أريد أقرأ عليكم فمن بكى فله الجنة فقرأ آخر سورة الزمر {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً} إلى آخر السورة فبكى القوم جميعاً إلا شاباً فقال:يا رسول الله قد تباكيت فما قطرت عيني فقال:إني معيد عليكم فمن تباكى فله الجنة فأعاد عليهم فبكى القوم وتباكى الفتى فدخلوا الجنة جميعاً)(1).

33-العلم كله في القرآن:

روي عن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قيل له:(هل عندكم شيء من الوحي؟ قال:لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يعطي الله عبداً فهماً في كتابه)(2).

وعن إبراهيم بن العباس قال:(ما رأيت الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سئل عن شيء قط إلا علمه ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان الأول إلى وقته وعصره وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كل شيء فيجيب فيه، وكان كلامه كله وجوابه وتمثله انتزاعات من القرآن)(3).

وفي نهج البلاغة:(ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق ولكن أخبركم عنه:ألا إنه فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ودواء دائكم ونظم بينكم)(4).

ص: 396


1- المصدر، باب 29، حديث1.
2- تفسير الصافي: 1/ 39 وتقدم الطريق إلى مصادره من طريق العامة.
3- المصدر، باب 27، حديث 6.
4- الخطبة 158 من الجزء الأول.

34-القرآن شفاء من كل داء:

عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لو قرأت الحمد على ميت سبعين مرة ثم ردت فيه الروح ما كان ذلك عجباً)(1).

35-القرآن فيه جلاء القلوب:

عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(إن هذه القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد وإن جلاءها قراءة القرآن)(2).

36-الإكثار من قراءته في شهر رمضان:

عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لكل شيء ربيع وربيع القرآن شهر رمضان)(3).

وعن علي بن حمزة قال:(دخلت علي أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال له أبو بصير:جعلت فداك أقرأ القرآن في شهر رمضان في ليلة؟ فقال:لا، ففي ليلتين؟ فقال:لا، فقال:ففي ثلاث؟ فقال:ها وأشار بيده ثم قال:يا أبا محمد إن لرمضان حقاً وحرمة لا يشبهه شيء من الشهور)(4).

وفي خطبة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في آخر جمعة من شعبان قال:(ومن تلا فيه - أي شهر رمضان - آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور)(5).

ص: 397


1- الكافي: 2/ 624.
2- إرشاد القلوب: صفحة 78.
3- ثواب الأعمال : 129/ 1، باب ثواب قراءة القرآن.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن في غير الصلاة، باب 27، ح3.
5- عيون أخبار الرضا: صفحة 162.

37-تلاوة القرآن حق تلاوته:

في تفسير قوله تعالى:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ}(البقرة:121) قال الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(يرتلون آياته ويتفقهون به ويعملون بأحكامه ويرجون وعده، ويخافون وعيده ويعتبرون بقصصه، ويأتمرون بأوامره وينتهون بنواهيه، ما هو والله حفظ آياته ودرس حروفه وتلاوة سوره ودرس أعشاره وأخماسه. حفظوا حروفه وأضاعوا حدوده وإنما هو تدبر آياته والعمل بأحكامه قال تعالى:{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}(1).

38-القرآن لا يشبع منه العلماء:

عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال من حديث في وصف القرآن:(هو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا يشبع منه العلماء ولا تلتبس منه الألسن ولا يخلق من الرد ولا تنقضي عجائبه من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم)(2).

39-القرآن في نهج البلاغة:

(وتعلموا القرآن فإنه أحسن الحديث وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور وأحسنوا تلاوته فإنه أنفع القصص وإن العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله بل الحجة عليه أعظم

ص: 398


1- الميزان في تفسير القرآن: 1 / 260، عن إرشاد القلوب للديلمي.
2- سنن الدارمي:2/ 435، كتاب فضائل القرآن، ومثله في كتب الخاصة.

والحسرة له ألزم وهو عند الله ألوم)(1).

40-دعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عند ختم القرآن:

اللهم إنك أعنتني على ختم كتابك الذي أنزلته نوراً وجعلته مهيمناً على كل كتاب أنزلته وفضلته على كل حديث قصصته وفرقاناً فرقت بين حلالك وحرامك وقرآناً أعربت به عن شرايع أحكامك وكتاباً فصّلته لعبادك تفصيلاً ووحياً أنزلته على نبيك محمد صلواتك عليه وآله تنزيلاً وجعلته نوراً نهتدي من ظلم الضلالة والجهالة باتباعه وشفاء لمن أنصت بفهم التصديق إلى استماعه وميزان قسط لا يحيف عن الحق لسانه، ونور هدى لا يطفأ عن الشاهدين برهانه وعلم نجاة لا يضل من أمَّ قصد سنته، ولا تنال أيدي الهلكات من تعلق بعروة عصمته، اللهم فإذا أفدتنا المعونة على تلاوته، وسهلت حواسي ألسنتنا بحسن عبارته، فاجعلنا ممن يرعاه حق رعايته، ويدين لك باعتقاد التسليم لمحكم آياته، ويفزع إلى الإقرار بمتشابهه وموضحات بيّناته، اللهم إنك أنزلته على نبيك محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مجملاً، وألهمته علم عجائبه مكملاً وورثتنا علمه مفسراً وفضلتنا على من جهل علمه، وقويتنا عليه لترفعنا فوق من لم يطق حمله، اللهم فكما جعلت قلوبنا له حملة وعرفتنا برحمتك شرفه وفضله، فصل على محمد الخطيب به، وعلى آله الخزّان له، واجعلنا ممن يعترف بأنه من عندك، حتى لا يعارضنا الشك في تصديقه، ولا يختلجنا الزيغ عن قصد طريقه، اللهم صلّ على محمد وآله واجعلنا ممن يعتصم بحبله، ويأوي من المتشابهات إلى حرز معقله، ويسكن في ظل جناحه، ويهتدي بضوء صباحه، ويقتدي بتبلج أسفاره، ويستصبح بمصباحه ولا يلتمس الهدى في غيره، اللهم وكما نصبت به محمداً عَلَماً للدلالة عليك وأنهجت

ص: 399


1- نهج البلاغة: الجزء الأول، الخطبة 110.

بآله سُبل الرضا إليك، فصلّ على محمد وآله، واجعل القرآن وسيلة لنا إلى اشرف منازل الكرامة، وسُلّماً نعرج فيه إلى محل السلامة وسبباً نجزي به النجاة في عرصة القيامة، وذريعة نقدم بها على نعيم دار المقامة، اللهم صل على محمد وآله، واحطط بالقرآن عنا ثقل الأوزار، وهب لنا حسن شمائل الإبرار، واقف بنا آثار الذين قاموا لك به آناء الليل وأطراف النهار، حتى تطهرنا من كل دنس بتطهيره، وتقفوا بنا آثار الذين استضاؤوا بنوره، ولم يلْههم الأمل عن العمل فيقطعهم بخدع غروره، اللهم صل على محمد وآله، واجعل القرآن لنا في ظلم الليالي مؤنساً، ومن نزعات الشيطان وخطرات الوساوس حارساً، ولأقدامنا عن نقلها إلى المعاصي حابساً، ولألسنتنا عن الخوض في الباطل من غير ما آفة مخرساً، ولجوارحنا عن اقتراف الآثام زاجراً، ولما طوت الغفلة عنا من تصفح الاعتبار ناشراً، حتى توصل إلى قلوبنا فهم عجائبه، وزواجرَ أمثاله التي ضعفت الجبال الرواسي على صلابتها عن احتماله، اللهم صل على محمد وآله وأدم بالقرآن صلاح ظاهرنا، واحجب به خطرات الوساوس عن صحة ضمائرنا واغسل به درن قلوبنا، وعلائق أوزارنا، واجمع به منتشر أمورنا وارو به في موقف العرض عليك ظمأ هواجرنا، واكسنا به حلل الأمان يوم الفزع الأكبر في نشورنا، اللهم صل على محمد وآله، واجبر بالقرآن خلتنا من عدم الإملاق، وسق به ألينا رغد العيش خصب سعة الأرزاق وجنبنا به الضرائب المذمومة، ومداني الأخلاق، واعصمنا به من هوة الكفر ودواعي النفاق، حتى يكون لنا في القيامة إلى رضوانك وجنانك قائداً، ولنا في الدنيا عن سخطك وتعدي حدودك ذائداً، ولما عندك بتحليل حلاله وتحريم حرامه شاهداً، اللهم صل على محمد وآله، وهوّن بالقرآن عند الموت على أنفسنا كرب السياق وجهد الأنين، وترادف الحشارج، إذا بلغت النفوس التراقي{وَقِيلَ

ص: 400

مَنْ رَاقٍ}، وتجلّى ملك الموت لقبضها من حجب الغيوب ورماها عن قوس المنايا بأسهم وحشة الفراق، وداف لها من دعاف مرارة الموت كأساً مسمومة المذاق، ودنا منا إلى الآخرة رحيل وانطلاق، وصارت الأعمال قلائد في الأعناق، وكانت القبور هي المأوى إلى ميقات يوم التلاق، اللهم صل على محمد وآله، وبارك لنا في حلول دار البلى، وطول المقامة بين أطباق الثرى، واجعل القبور بعد فراق الدنيا خير منازلنا، وافسح لنا برحمتك في ضيق ملاحدنا، ولا تفضحنا في حاضر القيامة بموبقات آثامنا، وارحم بالقرآن في موقف العرض عليك ذلّ مقامنا، وثبت به عند اضطراب جسر جهنم يوم المجاز عليها زلل أقدامنا، ونجنا به من كل كرب يوم القيامة، وشدائد أهوال يوم الطامة وبيّض وجوهنا يوم تسود وجوه الظلمة في يوم الحسرة والندامة، واجعل لنا في صدور المؤمنين وداً، ولا تجعل الحياة علينا نكداً، اللهم صل على محمد عبدك ورسولك، كما بلغ رسالتك، وصدع بأمرك ونصح لعبادك اللهم اجعل نبينا صلواتك عليه وعلى آله يوم القيامة أقرب النبيين منك مجلساً، وأمكنهم منك شفاعة، وأجلّهم عندك قدراً، وأوجههم عندك جاهاً، اللهم صل على محمد وآل محمد، وشرّف بنيانه، وعظم برهانه، وثقل ميزانه، وتقبل شفاعته وقرب وسيلته، وبيض وجهه وأتم نوره وارفع درجته، وأحينا على سنته وتوفّنا على ملته، وخذ بنا منهاجه، واسلك بنا سبيله، واجعلنا من أهل طاعته، واحشرنا في زمرته، وأوردنا حوضه، واسقنا بكأسه، وصل اللهم على محمد وآله صلاة تبلغه بها أفضل ما يأمل من خيرك وفضلك وكرامتك إنك ذو رحمة واسعة وفضل كريم، اللهم اجزه بما بلّغ من رسالاتك وأدّى من آياتك، ونصح لعبادتك، وجاهد في سبيلك، أفضل ما جزيت أحداً من ملائكتك المقربين، وأنبيائك

ص: 401

المرسلين المصطفين، والسلام عليه وعلى آله الطاهرين ورحمة الله وبركاته(1).

ص: 402


1- الصحيفة السجادية: دعاؤه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عند ختم القرآن.

القبس /112: سورة الفرقان:44

اشارة

{إِن هُم إِلَّا كَٱلأَنعَمِ بَل هُم أَضَلُّ سَبِيلًا}

تطبيق:إباحة زواج المثليين نموذجا

عظمة تشريعات الإسلام:

نشر محرر شؤون الصحة لاحدى القنوات الفضائية(1) على صفحتها تقريراً جاء فيه ((مع التقدم في العمر يصبح الحيوان المنوي أكثر عرضة للأخطاء الوراثية بشكل يزيد من خطر الاصابة بالتوحّد والانفصام وغيرها من الأمراض)) ونقل ذلك عن كيفن سميث الاستاذ بجامعة ابرتاي في دندي في المملكة المتحدة وقال:((إن الزيادة الطفيفة في خطر الاصابة بالأمراض له تأثير كبير على مستوى الامة بكاملها وأنه يجب أن يثير الأمر قلقنا على نطاق المجتمع، فالتأثير حقيقي وواضح ويجب أخذ سن الابوّة بشكل أكثر جدية، وتأثيره على الجيل القادم من الأطفال)).

عندما اطلعتُ على هذا الخبر إنقدحت في ذهني عدة امور:

1-عظمة تشريعات الإسلام والأسرار الكامنة فيها إذ يكشف هذا الخبر عن جانب من الحكمة في الحث على الزواج المبكر لتحصيل إنجاب سليم قوي مضافاً الى المصالح الاخرى كتحصين النفس والاستقرار ورفع مستوى الوعي

ص: 403


1- قناة بي بي سي بتاريخ: 25/ 6/ 2015 – 8 رمضان/1436.

بالمسؤولية وتحصيل المُعين على الدنيا والاخرة ونحو ذلك، ورد عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):ما بُنِيَ في الإسلام بناء أحبُّ الى الله عز وجل من التزويج)(1) فالمساهمة في بناء الزوجية أحبّ الى الله تعالى من سائر مشاريع البناء الاخرى حتى المساجد، لأنه مشروع دائم العطاء والتوسّع جيلاً بعد جيل حتى يأتي عصر الظهور وإذا بك تقدَم الآلاف لنصرة الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ببركة ذلك الزواج. فلا يقصّر أحد في تشجيع مشاريع الزواج وتيسير امورها والإنفاق عليها من الحقوق الشرعية وغيرها.2-حماقة الغرب وضحالة تفكيره بالرغم مما يظهر من جبروت علمي وتكنولوجي، فماذا طرح من حل ليتجنب هذا الاحتمال في ضعف الانجاب وإصابته بالأمراض إذا تأخر الزواج بدل أن يستجيب لنداء الفطرة والدين ويدعو الى الزواج والإنجاب المبكرين، نقل التقرير عن عالم الأحياء المذكور ((إن الشباب في سن 18 يجب أن يجمّدوا حيواناتهم المنوية ويستخدموها لاحقاً، لتجنب مخاطر الإنجاب في الكبر)) وقال:((إن بنوك الحيوانات المنوية يجب أن تكون متوفرة))، والغريب أن ينشر هذا المقترح في دورية اسمها "الأخلاق الطبية".

وخير تعليق على هذا المقترح ما نقله التقرير عن ألن باسي استاذ أمراض الذكورة في جامعة شيفيلد بقوله ((هذه واحدة من أسخف الاقتراحات التي سمعتها منذ وقت طويل)) ووجه استخفافه:

ص: 404


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، ابواب مقدماته، باب 1 ح 4.

أ-((لأن الحيوانات المنوية لمعظم الرجال لا تتجمد بشكل جيد وهو أحد أسباب قلة المتبرعين بالحيوانات المنوية، لذا فمن يجمد حيواناته المنوية في سن ال- 18 ويعود ليستخدمها لاحقاً سيتطلب من زوجته الخضوع لعملية تلقيح صناعي أو أكثر)).

ب-الكلفة الاقتصادية حيث قدرت اجرة حفظ الحيوانات المنوية ب- 150 – 200 جنيه استرليني في العام.

ت-ما نقله عن الاستاذ آدم بالين رئيس الجمعية البريطانية للخصوبة من أن خصوبة الحيوانات المنوية أقل من الجديدة مما يعني الاعتماد على التلقيح الصناعي، أي أنه يجعل من الإنجاب عملية اصطناعية مما يعطي إحساساً كاذبا بالأمان إذ أن التكنولوجيا لا تضمن إنجاب طفل.

3-وتذكرت منقبة لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فيها سبْقٌ علميٌ له (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهو باب مدينة علم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والمنقبة ترتبط بهذا الاكتشاف العلمي فقد روى الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (أتى عمر بامرأة تزوجها شيخ، فلما أن واقعها مات على بطنها، فجاءت بولد فادّعى بنوه أنها فجرت، وتشاهدوا عليها، فأمر بها عمر أن تُرجم، فمر بها علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقالت:يا بن عم رسول الله إن لي حجة. قال:هاتي حجتك، فدفعت إليه كتابا فقرأه، فقال:هذه المرأة تعلمكم بيوم تزوجها، ويوم واقعها، وكيف كان جماعه لها، ردوا المرأة. فلما أن كان من الغد دعا بصبيان أتراب ودعا بالصبي معهم، فقال لهم:العبوا حتى إذا ألهاهم اللعب قال لهم:اجلسوا، حتى إذا تمكنوا صاح بهم، فقام الصبيان وقام الغلام فاتكأ على راحتيه، فدعا به علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وورّثه من أبيه وجلد إخوته المفترين حداً حداً. فقال

ص: 405

له عمر:كيف صنعت؟ قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):عرفت ضعف الشيخ في اتكاء الغلام على راحتيه)(1).

وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ:

هذا هو الإسلام في سمو تشريعاته وعظمةِ أئمتهِ وقادتهِ ويدرك أعداؤه ذلك ويدركون النعمة العظيمة التي يتنّعم بها المسلمون ويعلمون تفاهتهم وحماقتهم وجاهليتهم وان حاولوا تلميع صورتهم بالنفخ والتهريج للتقدم التقني فلذلك ما انفكوا عن الكيد للإسلام والمسلمين وشن الحروب عليهم ليسلبوهم هذه النعمة العظيمة قال تعالى:{وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ} (البقرة 217) تارة بالحروب العسكرية واخرى بالتشويه والتسقيط والاستهزاء والخداع واخرى بنشر الفساد والانحراف واخرى بصنع نماذج منفّرة مقزّزة تسمّى بالإسلام مثل داعش والقاعدة ليستحي المسلمون من التحدث بالإسلام كل ذلك للضغط على المسلمين حتى يتخلوا عن نعمة الإسلام العظيمة حسداً لكم، والحسد تمنّي زوال نعمة من مستحق لها، وربما من كان مع سعي في إزالتها وقال تعالى {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم} (البقرة 109) وقال تعالى {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ} (النساء 54) والفضل هو الإسلام والقرآن والنبي

ص: 406


1- الكافي : 7 / 424 / 7 ، تهذيب الأحكام : 6 / 306 / 850 كلاهما عن أبي الصباح الكناني ، من لا يحضره الفقيه : 3 / 24 / 3254 عن الأصبغ بن نباتة ، المناقب لابن شهر آشوب : 2 / 369 كلاهما من دون إسناد إلى المعصوم.

واله المعصومون(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وبركاتهم الكثيرة.

الانحطاط العظيم:

وربما سمعتم بآخر مظاهر انحطاطهم وهو إصدار المحكمة العليا في الولايات المتحدة حكماً يوم الجمعة 26/ 6/ 2015م يقضي بمنح الحق للمثليين جنسياً في كافة الولايات المتحدة، وهو الحكم الذي وصفه رئيسهم اوباما بأنه انتصارٌ لأمريكا وانتصارٌ للحب. وتدّعي امريكا انها القوة العظمى في العالم وان باستطاعتها الهيمنة عليه وقيادته ويوجد عدد كبير من المنبهرين بالقوة الامريكية المقتفين لآثارها، لذا احتفل الملايين في عدة دول بهذا الانتصار.

أرأيتهم كيف يتبجحون بما تستنكف حتى الحيوانات الهمجية عن فعله وممارسته ناهيك عن منافاته للفطرة الإنسانية والغريزة المودعة؛ فهبطوا الى ما دون البهيمية وعادوا الى الجاهلية الرعناء {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (النمل 55) فكانوا مصداقاً لقوله تعالى {إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} (الفرقان 44) متذرّعين بالحرية وهي حقٌ مقدّس منحه الله تعالى لعباده لكنها لا تعني الفوضى العارمة في اتباع الشهوات والخروج عن القوانين العقلائية. فشوّهوا بسلوكهم الشائن هذا العنوان الجميل، وهل من الحرية أن يُترك المصاب بمرض فتاك معدي يتحرك في المجتمع كيف يشاء ويلوّث الآخرين ويصيبهم بمرضه، أم يُحْجَرْ عليه ويُعالج حتى يشفى، علماً أن الأمراض الأخلاقية والاجتماعية أشد فتكاً من الأمراض الجسدية.

إن هذا القرار عارٌ على من أصدره ومن رضي به ومن أيده بسكوته عن

ص: 407

استنكاره، وإننا لنشعر بالحياء والخجل أمام خالقنا العظيم ونحن نرى جملة من المحسوبين علينا نحن البشر يتجرأون على حدوده بهذا الانتهاك الفظيع، ونسبّح ربنا وننزهه عما يفعل الظالمون.فتمسكوا بإسلامكم أيها الأحبة وحافظوا على التزامكم وارفعوا رؤوسكم شامخين واشكروا الله تعالى على ما هداكم اليه.

ص: 408

القبس /113: سورة الفرقان:70

{فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَئَِّاتِهِم حَسَنَت ۗ}

قال الله تبارك وتعالى:{إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} (الفرقان:70).

يحظى التائب بصدق الذي يصحّح إيمانه ويقلع عن الذنوب ويعود إلى الاستقامة ويقوم بالأعمال الصالحة بعدة امتيازات وحوافز تشجّع العصاة والمنحرفين على التوبة والرجوع الى الله تعالى والسير على الطريق الصحيح، وتزيد من محبة العبد لله تعالى وتعميق الأمل بكرمه وهو بحد ذاته مانع قوي عن الوقوع في المعاصي، منها:

1- المحبة الإلهية، قال تعالى:{إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (البقرة:222) وفي الحديث الشريف (من أحبّه الله لم يعذّبه)(1).

2- دعاء الملائكة وحملة العرش لهم ولذويهم، قال تعالى:{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ، رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ

ص: 409


1- الكافي:2/ 315/ح5.

آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (غافر:7-9).3- التبديل الذي ذكرته الآية محل البحث أي إلغاء السيئات وتسجيل الحسنات عوضاً عنها كنتيجة تفرعت - بدلالة الفاء- عن توبتهم وصلاحهم وصدق إيمانهم.

وظاهرة تبديل السيئات إلى حسنات موجودة بالاتجاه المعاكس أيضاً أي تبديل الحسنات إلى سيئات وهو المعروف بحبط الأعمال، قال تعالى:{وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} (الحجرات:2), وقال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} (محمد:9) وغيرها كثير.

وفي الحديث النبوي الشريف:(أتدرون من المفلس:إن المفلس من امتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فان فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)(1).

ص: 410


1- كنز العمال: 4/ 127 ح 10327

أن الظاهر من الآية - كما افاد بعض المفسرين- ان هؤلاء ((كما بدلوا سيئاتهم حسنات كذلك يبدّل الله سيئاتهم حسنات، فسيئة اشراكهم بحسنة التوحيد، وقتلهم النفس بحسنة قتال المشركين، وزناهم بحسنة حل النكاح))(1).وذكر تبعاً للسيد الطباطبائي (قدس سره) شاهداً على ذلك من نفس الآية, لأنها تقول:{يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}, ((لا بحسنات فسيئاتهم هي التي تتبدل بحسنات مكانها كما بيّنا، لا أن الله يكتب بدل سيئاتهم السابقة حسنات وهم لم يعملوها)).

ويمكن مناقشة هذا الوجه:بأنه يمكن به تصحيح الأفعال الوجودية كالأمثلة المذكورة اما العدمية كترك الصلاة أو الصوم فكيف تصبح أفعالاً حسنة لاحقاً.

وأن التبديل بهذا الشكل حصل منهم, فأنهم تركوا الشرك, وتابوا واعتنقوا التوحيد, وهم الذين تركوا قتل النفس المحترمة, وتوجهوا الى قتال المشركين, وهم الذين تركوا الزنا, وتوجهوا الى الاحصان والعفاف. وهكذا فاين التبديل من الله تعالى.

ويجيب (قدس سره) عن الاشكال بقوله ((ولماذا (يبدّل الله) وصاحب السيئة هو الذي بدَّل؟ لأن الله هو الذي يقبل توبته، وهو الذي يقرّ في قلبه التوحيد، وهو الذي يوفقه لحسنات على غرار التوحيد)).

أقول:هذا خلاف الظاهر, لذا فإن هذا التفسير يبقى محتاجاً الى إيضاح, فأنه يصعب قبوله لأول وهلة, لما قيل من ان الفعل لا ينقلب عمّا وقع عليه ونحو ذلك, فكيف يحصل هذا التبديل في الفعل؟

ص: 411


1- الفرقان في تفسير القرآن: 21/ 53

وقد قرّب السيد الطباطبائي (قدس سره) تفسيراً للآية يدفع هذا الاشكال بما ملخصه:(ان أفعال الانسان اذا لوحظت كحركات خاصة - اي بلحاظ ذات الفعل الخارجي الصادر من فاعله- فانها مشتركة بين السيئة والحسنة ولا تتميز فيها الحسنة عن السيئة, كحركة الجماع المشتركة بين الزنا والنكاح, وكأكل المال المشترك بين الغصب أو باذن صاحبه, وانما يتصف بكونه حسنة أو سيئة بلحاظ موافقته أمر الله تعالى ومخالفته, وهو الذي يُسجَّل على العبد ويحاسب عليه, أما ذات الأفعال فانها لا تتصف بالحسنة أو السيئة, وهي مجموعة حركات فانية ومنقضية, وآثارها هي التي تتصف بهاتين الصفتين، وهذه الآثار السيئة التي يتبعها العقاب - اعني السيئات- لازمة للإنسان حتى يُؤخذ بها يوم تبلى السرائر.وصدور هذه المخالفة لأمر الله تعالى نابعة من شقاوة وخبث في ذات الفاعل, فاذا تبدلت الى ذات سعيدة وطيبة وتطهرت بالتوبة، امكن ان تتبدل آثارها اللازمة التي كانت سيئات قبل ذلك, فتناسب الاثار للذات بمغفرة من الله ورحمة, وكان الله غفوراً رحيماً)(1).

وبتعبير آخر:ان الذي يتبدل ليس نفس الأفعال التي صدرت وانقضت, وإنما آثارها السيئة التي انطبعت في نفس الانسان وباطنه، فاذا تاب وآمن وعمل صالحاً يزيل الله تعالى تلك الآثار السيئة من باطنه ويطبعه بآثار طيبة خيّرة, فالتبديل يحصل في آثار الأفعال وليس في ذواتها.

ص: 412


1- الميزان في تفسير القرآن: 15/ 241.

ولكي أقرِّب الفكرة بمثال فقهي:فانه يشبه ما يحصل من تحوِّل الفعل المحرم إلى محلل بالإجازة اللاحقة، كمن أخذ مال غيره بغير رضاه, فأنه فعل محرّم, ولكن صاحب المال اذا أجاز الفعل لاحقاً صحّ وانتفت الحرمة, وهكذا.لكن هذا التفسير يواجه عدة إشكالات:

1- ان مما تسالم عليه المتشرعة ان نفس الأفعال توصف بالحسنة والسيئة، لأن اتصاف الفعل بهذه الصفة أو تلك لا يلحظ فيه ذات الفعل المجرد عن موافقته لأمر الله تعالى ونهيه, لذا فالزنا غير النكاح بهذا اللحاظ.

2- ان الآية صريحة بأن السيئة هي التي تتبدل إلى الحسنة وليس آثارها الباطنية من شقاوة وخبث الى سعادة وطيبة, وقد صرّح (قدس سره) بذلك أيضاً, إذ قال:أي ((أن كل سيئة منهم نفسها تتبدل حسنة))(1).

3- أنه يدلّ على أن هذه الذات الإنسانية بعد أن تحوّلت إلى ذات طيبة فأن الآثار التي ستصدر منها تكون طيبة بعد هذا التغيّر، والآية صريحة بأن الأفعال السابقة على تغيّره تتبدل.

لذا فإن هذا التفسير بقي مثيراً للاستفهام لكثيرين, إذ كيف يمكن أن يبدل الفعل الذي وقع حراماً كترك الصلاة والصوم والزنا وشرب الخمر وظلم الآخرين وغير ذلك الى حسنات، لذا ذكروا وجوهاً أخرى يستفاد بعضها من الروايات الشريفة، ومنها:

1- ان التبديل يحدثه الله تعالى في سلوك العبد التائب بتوفيق الله تعالى، فمن كان مشركاً وتاب يوفقه الله تعالى للتوحيد وإخلاص العمل لله تبارك وتعالى،

ص: 413


1- الميزان في تفسير القرآن: 15/ 241.

ومن زنا يوفقه الله تعالى للسلوك العفيف الطاهر ويحصّنه بالزواج، ومن كان ظالماً للناس يوفقه لخدمتهم وقضاء حوائجهم وإدخال السرور عليهم، وإن هذه السيئات السابقة ستكون مائلة في ضميره مما شعره بالندم والأسف فيدفعه إلى مزيد من عمل الحسنات لمحوها وتغطيتها وإزالة تأثيرها, وقد وردت أحاديث كثيرة في الحث على استذكار الذنوب, لاجل هذا الغرض.2- ان التبديل يحصل يوم القيامة بأن يضع الله تعالى للعبد التائب في كتابه بدل سيئاته حسنات ولا يكتفي بمحو السيئات ومغفرة الذنوب، وهذا ليس بعيداً عن كرم الله تعالى وفضله وسعة رحمته, وهو معنى قريب لما في آية أخرى قال تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّ-يِّئَاتِ} (هود:114), وفي رواية البرقي في المحاسن بسنده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(يؤتى بالمؤمن المذنب يوم القيامة حتى يوقف بين يدي الله عزوجل، فيكون هو الذي يلي حسابه، فيوقفه على سيئاته، شيئاً فشيئاً، فيقول:عملتَ كذا وكذا في يوم كذا في ساعة كذا، فيقول:أعرف يا ربِّ – قال:(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- حتى يوقفه على سيئاته كلها، كل ذلك يقول:أعرف، فيقول:سترتُها عليك في الدنيا، واغفرها لك اليوم، أبدلوها لعبدي حسنات – قال:(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- فترفع صحيفته للناس, (وفي رواية محمد بن مسلم عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال الله عزوجل:للكتبة بدّلوها حسنات وأظهروها للناس)، فيقولون:سبحان الله، أما كانت لهذا العبد ولا سيئة واحدة، فهو قول الله عزوجل:{فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}(1).

ص: 414


1- المحاسن: 170/ح136.

وروى مثلها الشيخ في الامالي, وكتاب الحسين بن سعيد في الزهد, عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), وفيها ان سبب تولي الله تعالى حساب المؤمن بنفسه لكي (لا يطلع على ذلك ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً), (ولا يطلع على حسابه أحداً من الناس)(1). وفي ذيل مثل هذه الرواية عن ابي ذر, عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(ورأيت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ضحك حتى بدت نواجذه ثم تلى:{فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ)(2).

3- إن هذا التبديل بلحاظ آثار الذنوب على نفس الانسان وباطنه وما يحصل بسببها من الخبث والظلمانية وسوء السريرة والميل الى الشهوات ونفور من الطاعات, فيبدل الله تعالى باطن التائب إلى نقاء وصفاء وميل إلى الطاعة وتُقزّز من المعصية ونحو ذلك.

4- ويمكن ان اُضيف وجهاً آخر مبنياً على الحديث (وإنما الأعمال بخواتيهما)(3), فالإنسان العاصي لو مات من دون توبة فانه ستكون عاقبته سيئة, فاذا تاب وندم والتزم بالأعمال الصالحة فانه سيسجَّل ضمن الصالحين الطائعين, ويجازى على أساس هذه الحالة الجديدة التي انتقل اليها, ليس فقط من حين التغيير وإنما في كل حياته.

ص: 415


1- الزهد: 91/ح245.- امالي الشيخ الطوسي: 1/ 70.
2- تفسير نور الثقلين: 4/ 33- البرهان: 7/ 120/ح13, عن صحيح مسلم.
3- بحار الأنوار: 9/ 330.

فاذا كان تاركاً للصلاة ثم تاب والتزم بها في اوقاتها وفي المسجد مثلاً, فانه يُكتب في كل حياته حتى ما قبل التغيير على هذه الحالة الجديدة، واذا كان زانياً ثم تاب وتزوج وحصَّن نفسه, كُتب في جميع حياته عفيفاً محصناً وممن عمل بهذه السنة الشريفة، وهكذا.فالتبديل يكون بلحاظ ما سُجِّل على العبد من صفة افعاله، فالفعل الذي كان موصوفاً بانه سيئة يُزال ويُكفّر, ويُكتب بدلاً عنه الفعل الحسن الجديد.

وهو لا يخرج عن ظاهر الآية من تبديل نفس السيئات حسنات، وان تذييل قوله تعالى {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} يدل على ذلك, لأنه جعل التبديل من آثار المغفرة.

ولتقريب الفكرة نورد مثالاً من حياتنا, وهو ما يحصل في الامتحانات المدرسيّة فقد يحصل الطلبة على نتائج مترديّة في امتحانٍ ما, فيقول:لهم الأستاذ, انه سيُعيد الامتحان, فمن جاء بدرجة ناجحة كتبها له, والغى السابقة, تشجيعاً لهم, فيحسب لهم الدرجة العالية وكأنها درجة الامتحانين, ولا يُخرج المُعدّل لهما.

وهذا ليس كثيراً على كرم رب العالمين, ولا الأساتذة في المدارس أوسع منه تعالى فضلاً ورحمة بالعباد.

وينبغي الإشارة الى ان الروايات ذكرت مُوجبات هذا التبديل:

ص: 416

ومنها:ما في روضة الواعظين عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(ما جلس قوم يذكرون الله (عزوجل) الا نادى بهم منادٍ من السماء قوموا فقد بدّل الله سيئاتكم حسنات, وغفر لكم جميعاً)(1).ومنها:ما روي عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قيل يا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):هلك فلان، يعمل من الذنوب كيت وكيت، فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):بل قد نجا ولا يختم الله تعالى عمله إلا بالحسنى، وسيمحو الله عنه السيئات، ويبدلها له حسنات, إنه كان مرة يمر في طريق عرض له مؤمن قد انكشف عورته وهو لا يشعر فسترها عليه ولم يخبره بها مخافة أن يخجل، ثم إن ذلك المؤمن عرفه في مهواه فقال له:أجزل الله لك الثواب، وأكرم لك المآب، ولا ناقشك الحساب فاستجاب الله له فيه، فهذا العبد لا يُختم له إلا بخير بدعاء ذلك المؤمن، فاتصل قول رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بهذا الرجل فتاب وأناب, وأقبل إلى طاعة الله عزوجل, فلم يأت عليه سبعة أيام, حتى اُغير على سرح المدينة فوجه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في أثرهم جماعة, ذلك الرجل أحدهم, فاستشهد فيهم)(2).

وقد دلّت على ان الايمان والعمل الصالح الموجبين لتبديل السيئات حسنات هما المتضمنان لولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) والالتزام بهديهم وسنتهم, ففي رواية الكافي بسنده عن الحلبي عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:إن ربي وعدني في شيعة علي خصلة، قيل:يا رسول الله وما هي؟ قال:المغفرة

ص: 417


1- روضة الواعظين- الفتال النيسابوري: 391.
2- بحار الأنوار- المجلسي: 5/ 155.

لمن آمن منهم، وإن الله لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة، ولهم تبدل السيئات حسنات)(1).وروى الشيخ ابن قولويه في كامل الزيارات, بسنده عن صفوان الجمال, عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), رواية في فضل زوار الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), إلى ان قال:(فاذا ارادت الحفظة أن تكتب على زائر الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سيئة، قالت الملائكة للحفظة:كُفيّ فتكف فاذا عمل حسنة، قالت لها:اكتبي، أولئك الذين يُبدل الله سيئاتهم حسنات)(2).

وروى الشيخ في اماليه, بسنده عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):حبُّنا أهل البيت يُكفرّ الذنوب, ويُضاعف الحسنات, وان الله ليحتمل عن محبينا أهل البيت ما عليهم من مظالم العباد، الا ما كان منهم فيها إصرار وظلم للمؤمنين:فيقول للسيئات كوني حسنات)(3).

وهذا الحديث يقيّد الأحاديث المطلقة, كالذي رواه الشيخ المفيد في الاختصاص بسنده, عن أصبغ بن نباتة، أن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:له في حديث (يا أصبغ، إن وليّنا لو لقي الله وعليه من الذنوب مثل زبد البحر ومثل عدد الرمل، لغفرها الله له إن شاء الله تعالى) (4).

ص: 418


1- الكافي: 1/ 368/ح15.
2- كامل الزيارات: 330/ح5.
3- الامالي: 1/ 166.
4- البرهان في تفسير القرآن: 7/ 119, عن الاختصاص: 65.

الصورة

ص: 419

الفهرس الإجمالي

الصورة

ص: 420

الصورة

ص: 421

الصورة

ص: 422

الصورة

ص: 423

الصورة

ص: 424

الصورة

ص: 425

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.