من نور القرآن المجلد 2

هوية الكتاب

اسم الكتاب: من نور القرآن

الكاتب: آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي

لسان: العربية

الناشر: دار الصادقين - النجف اشرف - العراق

الموضوع : التفسير

مشخصات : 5 ج

الطبعة : الرابعة

التاريخ : 1442ه- - 2021م

ص: 1

اشارة

من نور القرآن

ص: 2

ص: 3

من نور القرآن

تفسير موضوعي حركي يقتبس من القرآن الكريم ما يلقي ضوءاً على قضايا عقائدية أو أخلاقية

أو فكرية أو اجتماعية

سورة الانعام - سورة الحجر

ص: 4

القبس/37: سورة الأنعام:94

اشارة

{وَلَقَد جِئتُمُونَا فُرَدَى كَمَا خَلَقنَكُم أَوَّلَ مَرَّة}

موضوع القبس:محورية التوحيد

سورة الأنعام:من السور المكية وهي سورة جليلة غنية بالمعارف الالهية الموصلة الى الحقيقة التي خلقنا من أجلها {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:56) وفُسرّت العبادة بالمعرفة.

فتتحدث السورة عن محورية التوحيد وتذكر الادلة عليه وتحتج على المشركين وتبطل عقائدهم وتشرح حقائق المبدأ والمعاد. وقد وردت في فضلها أحاديث كثيرة(1)، منها ما رواه الشيخ الكليني (قدس سره) في الكافي بسنده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إن سورة الأنعام نزلت جملة، شيّعها سبعون الف ملَك حتى انزلت على محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فعظِّموها وبجِّلوها، فان اسم الله عز وجل فيها في سبعين موضعاً، ولو يعلم الناس ما في قراءتها ما تركوها).

وفي كتاب المصباح للكفعمي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(من قرأها من أولِّها الى قوله (تكسبون) – نهاية الآية الثالثة – وكّلَ الله به اربعين الف ملَك، يكتبون له مثل عبادتهم الى يوم القيامة) وغيرها من الأحاديث الكثيرة في آثار السورة المعنوية والمادية في سعة الرزق وشفاء الامراض والنجاة من النار.

ص: 5


1- راجع البرهان في تفسير القرآن :3/ 310.

(وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا):

{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا} تأكيد بعد تأكيد باللام (وقد) واستعمال الفعل الماضي لبيان حقيقة يفترض أنها مستقبلية إلا ان الحديث عنها بالماضي لتأكيد حصولها وكأنها أمر واقع مفروغ منه (جِئْتُمُونَا) أي عدتم الينا بعد أن أخذتم فرصتكم في العمل والحياة بحرية في الدنيا وكلنا عائدون الى الله تعالى {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} (العلق:8) {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّ-ا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} (البقرة:156)، والخطاب من الله تبارك وتعالى الى عباده مباشرة عند الموت حيث ينتقل الانسان من عالم التكليف الى عالم الجزاء او عند البعث يوم القيامة وقد يكون الخطاب من الملائكة الى الناس عند قبض أرواحهم مؤدين عن الله تعالى.

(فُرَادَى):

{فُرَادَى} أي وحداناً مجردين عن كل شيء مما كان لكم في الدنيا فلم تصحبوا معكم القوة البدنية ولا المال ولا الاولاد ولا الشهادات ولا العناوين ولا المناصب ولا الجند والاعوان والسلاح وكل أسباب القوة مما كنتم تتباهون وتتبجحون به في الدنيا فلم يبق منها شيء يصحبكم الى ما بعد الموت.

(كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ):

{كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} كما كنتم فرادى مجردين من كل شيء حينما خلقناكم في بطون امهاتكم مع فرق انكم حينما خُلقتم كان لكم أبوان يتولان رعايتكما أما في الاخرة فتواجهون مصيركم وحياتكم بمفردكم.

ص: 6

(وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ):

{وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ} خلفتم وراء ظهوركم ما خولناكم التصرف به في الدنيا مما ذكرنا آنفاً حيث كنتم تتوهمون أنكم تملكون شيئاً وفي الحقيقة فأنكم لا تملكون شيئاً وإنما الملك الحقيقي لله تبارك وتعالى وقد خولّكم وأوكل اليكم التصرف في بعض ما أعطاكم في الدنيا من اموال وغيرها وقد رسم منهجاً وصلاحيات للعمل وفق هذا التخويل فمنكم من التزم بحدود التخويل ومنكم من خالف وبدرجات متفاوتة للفريقين وبالموت انتهى هذا التخويل فعادت الأمانة الى اهلها ولم تأخذوا معكم إلا اعمالكم الصالحة او السيئة ولم يبق لكم إلا كيفية تصرفكم في ما خولكم الله تعالى. فإن كان صالحاً أنتفعتم به نفعاً حقيقياً، وإن كان التصرف سيئاً بقيت تبعاته وآثامه وانتقلت الأموال والعقارات وغيرها الى الورثة فينطبق عليهم ما ورد في الدعاء (إلهِي ذَهَبَتْ أَيامُ لَذَّاتِي وَبَقِيَتْ مَآثِمِي وَتَبِعاتِي)(1). اما المؤمنون المطيعون فينطبق عليهم (ذهب العناء وثبت الاجر بفضل الله تعالى).

ولاحظ هنا المقابلة بين هذه الآية وقوله تعالى {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ} (البقرة:110) فعبَّر عن الاعمال الصالحة وحسن التصرف بما خولّه الله تعالى بالتقديم لأنه يقدّمه امامه ويتزود به ليوم الحساب {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (البقرة:197) فهو يعّمر به آخرته التي يتحول اليها، فهؤلاء لا يأتون فرادى، قال تعالى {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ

ص: 7


1- ملحق الباقيات الصالحات في كتاب مفاتيح الجنان وهو دعاء شريف يدعى به في صلاة الوتر .

وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء:88-89) أما من أساء التصرف فيما خوّله الله فقد وصفه بأنه تركه وخلفّه وراء ظهره لأنه بعثره في دار الدنيا ولم يستفد منه في الآخرة وإنما سبب له العقاب والعذاب فهذه الآية خطاب للفاسقين والكفار والمنافقين.

(وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ):

{وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ} كانت لكم في الدنيا زعامات وقيادات وآلهة صنعتها أوهامكم واهواءكم وتعصباتكم وخدعوكم بها تطيعونها وتضحّون من أجلها من دون أن تفكروا في كونها مع الحق أو غير ذلك وهل في اتباعكم لها رضا الله سبحانه أم لا، لكنها اليوم ليست معكم {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء} وهي لا تستحق أن تطاع او تتّبع لأنها مزيفة صنعها الاعلام او المال او المكر والخداع أو سدنة المعابد المستفيدون منها فقد كنتم تظنون انها ستشفع لكم وتنصركم وتنجيكم ولكن خابت ظنونكم.

(لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ):

{لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} فانقطعت تلك العلائق والمودة والالفة والاواصر القوية بينكم وظهر عجزكم عن نصرة بعضكم البعض وانفرط العقد الاجتماعي الذي بينكم لأنه ليس مبنياً على أساس صحيح ورجعتم الينا وحداناً.

(وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ):

{وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ضاعت أحلامكم وأمانيكم وعقائدكم

ص: 8

الفاسدة وتبّين أن الاسباب التي كنتم تتوسلون بها وتعتمدون عليها وتظنون أنها تدبر أموركم وتقضي حوائجكم سراب وخيال سواء كانت آلهة وأصنام من الحجارة والخشب أو رموز بشرية من زعامات دينية أو سياسية أو اجتماعية أو فكرية أو أهواء اتخذتموها الهة تطيعونها وتعبدوها من دون الرجوع الى حكم الله تعالى وشريعته, وضيّعتم أنفسكم وصارت عاقبتكم الخسران وظهر أمامكم ان الحق هو ما أخبركم الله تعالى به.

استيقظوا من الغفلة:

هذه الصورة التي تعرضها الآية لمشهد من مشاهد الآخرة اريد منها إيقاظ الانسان من غفلته حتى يحسب الامور بدقة {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} (الحشر:18) قبل ان تصحو على هذه الحقيقة {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (ق:22) وكان عليك قبل الان في الحياة الدنيا ان يكون بصرك حديداً وتدرك هذه الحقائق لتتدارك نفسك وتصلح حالك، اما انكشاف الحقيقة بعد الموت فانه بعد فوات الاوان على النفس ولا ينفعها الندم والحسرة.

ففي الآية موعظة وإرشاد الى اختيار القيادة الحقة التي توصلك الى الله تعالى وتدعوك الى التمسك بمنهج النبي محمد وآله الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) والى صرف الجهود في إكتساب ما ينفع يوم القيامة ويحقّق الفوز والفلاح وعدم تضييع العمر في تحصيل الأمور التي لا قيمة لها في الآخرة {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} (الفرقان:23) .

ص: 9

ايها الشباب أنكم في بداية طريق المسؤولية وتحّمل التكاليف الإلهية فالتفتوا الى هذه الحقيقة وابنوا مستقبلكم على أسس صحيحة .

ص: 10

القبس/38: سورة الأنعام:141

اشارة

{وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَومَ حَصَادِهِ ۖ}

موضوع القبس:بركات دفع الزكاة

شكر المنعم:

نعم الله تعالى على الناس كثيرة لا تعدُ ولا تحصى ومنها انه تبارك وتعالى يخرج لهم من الأرض أنواع النباتات لتكون غذاءاً لهم ولأنعامهم مضافاً الى الفوائد الأخرى كتحسين البيئة وجمالية الطبيعة وغير ذلك.

إنّ هذه النعم تلزمنا شكر الخالق المنعم الذي شمل برحمته كلّ مخلوقاته حتى من لم يعرفه ومن لم يطلب منه بل حتى على من عصاه وناواه، وبالشكر تدوم النعم(1) كما ورد في الحديث الشريف، قال تعالى {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} (إبراهيم:7) فهذه وسيلة من يريد استزادة النعم والخيرات.

فضل الزكاة وأهميتها:

ومن تمام شكر النعمة أداء حقوقها، التي فرضها الله تعالى على ما انعم عليهم تطهيراً لنفوسهم وتنمية لأموالهم، ولفظ الزكاة يحمل هذين المعنيين (التطهير) و(النماء) والزكاة تحقق هذين الهدفين

وقد أشير الى وجوبها في قوله تعالى {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}

ص: 11


1- ميزان الحكمة- الريشهري: 4/ 3313

(الأنعام:141) وقوله تعالى {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (الذاريات:19) وذكر علة فرض الله تعالى الزكاة في قوله تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} (التوبة:103) وفي الرواية عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لما نزلت آية الزكاة خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا.. في شهر رمضان، فأمر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مناديه فنادى في الناس:إن الله تبارك وتعالى قد فرض عليكم الزكاة كما فرض عليكم الصلاة)(1) وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ولو أنّ الناس أدوا حقوقهم لكانوا عايشين بخير) وعن الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (حصّنوا أموالكم بالزكاة) وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إنّ الله عزّ وجل فرض للفقراء في أموال الأغنياء فريضة لا يحمدون إلاّ بأدائها وهي الزكاة)(2) وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إنّما وضعت الزكاة اختباراً للأغنياء ومعونة للفقراء ولو أنّ الناس أدّوا زكاة أموالهم ما بقي مسلم فقيراً محتاجا ولاستغنى بما فرض الله له، وإنّ الناس ما افتقروا ولا احتاجوا وجاعوا ولا عروا إلاّ بذنوب الأغنياء، وحقيقٌ على الله تبارك وتعالى أن يمنع رحمته ممّن منعه حقّ الله في ماله، وأقسم بالذي خلق الخلق وبسط الرزق أنّه ما ضاع مال في بر ولا بحر إلاّ بترك الزكاة)(3) وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إِنَّ الزَّكَاةَ جُعِلَتْ مَعَ الصَّلَاةِ قُرْبَاناً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فَمَنْ أَعْطَاهَا طَيِّبَ النَّفْسِ بِهَا فَإِنَّهَا تُجْعَلُ لَهُ كَفَّارَةً وَمِنَ النَّارِ حِجَازاً وَوِقَايَةً فَلَا يُتْبِعَنَّهَا أَحَدٌ نَفْسَهُ وَلَا يُكْثِرَنَّ عَلَيْهَا لَهَفَهُ فَإِنَّ مَنْ أَعْطَاهَا47

ص: 12


1- الروايات المذكورة من وسائل الشيعة، كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 1، 2، 3.
2- الكافي - الكليني :3 / 498
3- ميزان الحكمة - الريشهري :2 / 1147

غَيْرَ طَيِّبِ النَّفْسِ بِهَا يَرْجُو بِهَا مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا فَهُوَ جَاهِلٌ بِالسُّنَّةِ مَغْبُونُ الْأَجْرِ ضَالُّ الْعَمَلِ طَوِيلُ النَّدَمِ)(1).وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (إذا أراد الله بعبد خيراً بعث إليه ملكاً من خزّان الجنّة فيمسح صدره ويسخّي نفسه بالزكاة)(2).

ومن وصية لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(الله الله في الزكاة فإنّها تطفئ غضب ربّكم)(3).

وفي الحديث الشريف قال (شابٌ سخي مرهق في الذنوب أحبّ إلى الله عز وجل من شيخ عابد بخيل)(4) ويشرح حديث آخر معنى السخي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (من أدّى ما افترض الله عليه فهو أسخى الناس) (5) وفي حديث عن أبي جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إنّ الله تبارك وتعالى قرن الزكاة بالصلاة فقال {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} (البقرة:43) فمن أقام الصلاة ولم يُؤت الزكاة فكأنّه لم يقم الصلاة)(6).

وقد ذكر الفقهاء الأصول المالية التي تجب فيها الزكاة وشروط وجوبها ومقدارها فتجب على الغلات الأربع:الحنطة والشعير والتمر والزبيب، وعلى الانعام الثلاث:الابل والبقر والغنم، وعلى النقدين:الذهب والفضة المسكوكين كعملة63

ص: 13


1- نهج البلاغة: 199/الخطب/الزكاة
2- بحار الأنوار - المجلسي : 93 / 19
3- بحار الأنوار - المجلسي : 93 / 27
4- بحار الأنوار - المجلسي : 70 / 307
5- من لا يحضره الفقيه - الصدوق :2 / 62
6- شرح أصول الكافي - المازندراني :8 / 63

متداولة، ويوجد خلاف في وجوب الزكاة على غير هذه كالأموال التجارية والعملة الورقية ونحو ذلك، وكمثال على ذلك، قالوا:تجب الزكاة في الغلات الزراعية ضمن شروط معيّنة ذكرها الفقهاء (قدس الله أرواحهم) في الرسائل العملية، ومنها بلوغ النصاب وهو (847) كيلوغرام فإذا كان الحاصل أقل من ذلك فلا زكاة عليه، فإذا بلغت الغلّة مقدار النصاب وجبت فيه الزكاة ومقدارها (10%) من الحاصل إذا كانت المزروعات تسقى بشكل طبيعي من دون آلة سيحاً بالمطر أو بفيضان النهر ونحوها، وتكون الزكاة بنسبة 5% إذا كان السقي بالآلات.

الآثار المباركة للزكاة:

ومن الأحاديث الشريفة المتقدمة نستطيع تلمس عدة آثار مباركة لإخراج الزكاة:

1-إنّها من أعظم القربات إلى الله تعالى وانها مقرونة بالصلاة.

2-توجب المحبة الإلهية للعبد وشموله بالرحمة العظيمة.

3-إنّها تُطفئ غضب الرب، وتوجب كفّارة الذنوب وإنها حجاب ووقاية من النار.

4-إنّها اختبار يعطي فرصة للعبد لكي ينجح فيه فيستحق الجائزة، فبدون خوض الامتحان لا يرتقي الإنسان إلى مرحلة أعلى وأكمل، وإنّ امتحان إخراج شيء من المال صعبٌ على الإنسان لكنّه منتج ومثمر، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(ما بلى الله عز وجل العباد بشيء أشد من إخراج الدرهم(1).

ص: 14


1- الخصال- الشيخ الصدوق: 8/ح27.

5-انها سبب لزيادة النعم ودوامها.

6-تحصّن المال من التلف والخسارة، وإنّ من يبخل بالزكاة يخسر أكثر منها من المال بتلف أو سرقة أو خسارة فيخسر الدنيا والآخرة.

7-تقضي على الفقر وتنمي الاقتصاد وتزدهر بها أحوال الناس، لأنّ الناس إذا كانوا فقراء فإنّهم لا يمتلكون قدرة على الشراء فيصاب السوق بالكساد، فإذا توفّر لديهم المال تحرّك السوق وعاد بالنفع على نفس دافعي الزكاة وسائر الحقوق الشرعية وهذه الحقيقة يعرفها دافعوا الضرائب في الدول الصناعية والبنوك العالمية المموّلة.

وهذا الكلام يجري في إخراج سائر الحقوق الشرعية كالخمس وردّ المظالم لوضوح انطباق الأحاديث الشريفة عليها.

التحذير الشديد من عدم دفع الحقوق الشرعية:

وإذا لم تكفِ هذه الروايات والآثار المباركة على إخراج الزكاة لتحفيز الناس وتحريكهم نحو إخراجها فلنقرأ في مقابل ذلك ما ورد من تحذير شديد من مغبة التخلّف عن دفع الحقوق الشرعية ففي الحديث عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ما من عبدٍ منع من زكاة ماله شيئاً إلاّ جعل الله ذلك يوم القيامة ثعباناً من نار مطوّقاً في عنقه ينهش من لحمه حتّى يفرغ من الحساب، وهو قول الله عز وجل {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (آل عمران:180) يعني ما بخلوا به من الزكاة)(1).

ص: 15


1- الكافي- الشيخ الكليني: 3/ 504/ح10

وقد طرد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) جماعة من المسجد وحرمهم من الصلاة معه لأنّهم لم يؤدّوا حقوق أموالهم، عن أبي جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (بينما رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في المسجد إذ قال:قم يا فلان قم يا فلان، قم يا فلان، حتّى أخرج خمسة نفر، فقال:أخرجوا من مسجدنا لا تصلوا فيه وأنتم لا تزكّون)(1).وفي حديث عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من منع قيراطاً من الزكاة فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً)(2) وفي حديثٍ عنه قال (من منع قيراطاً من الزكاة فليس مؤمن ولا مسلم)(3) وهو قول الله عز وجل {... رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (المؤمنون:99-100).

لتساعدوا الناس:

أيها الأحبة أمام هذه الأحاديث الموجبة للزكاة والمبيّنة لآثارها المباركة، والعاقبة المظلمة لتاركها لا يسع الإنسان إلاّ المبادرة لإخراجها بالنسبة التي ذكرناها، وليس من الضرورة إيصالها إلى المرجعية الدينية فيجوز لصاحبها توزيعها على الفقراء المحتاجين أو المساهمة بها في المشاريع الخيرية والتي تخدم الصالح العام، كبناء مركز صحّي أو قنطرة لعبور الناس أو مدرسة أو محطّة تصفية المياه ونحوها مع الالتفات إلى أن الهاشمي الذي ينتسب إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لا

ص: 16


1- الكافي- الشيخ الكليني: 3/ 504/ح10
2- المحاسن- البرقي: 1/ 87/ح28/ح29
3- المحاسن- البرقي: 1/ 87/ح28/ح29

يجوز له أخذ الزكاة من غير الهاشمي، ويجوز العكس.فما يمنع أحدكم من مساعدة أقربائه ومعارفه المحتاجين من الزكاة فيدخل السرور عليهم ويقضي حوائجهم وبنفس الوقت يؤدي هذه الفريضة العظيمة التي بها نماء لأموالكم وتحصين لها ونيل لرضا الله تبارك وتعالى.

إنّ الذي دفعنا إلى توجيه هذا الحديث إرشادكم إلى هذه الطاعة العظيمة المقرّبة إلى الله تبارك وتعالى ولما رأيناه من غفلة الغالبية العظمى من الناس عن هذه الفريضة ومن واجبنا إرشادهم ونصحهم وهدايتهم والله الموفّق.

ص: 17

القبس/39: سورة الأعراف:16

{لَأَقعُدَنَّ لَهُم صِرَطَكَ ٱلمُستَقِيمَ}

هذا واحد من التهديدات التي أطلقها إبليس في جداله مع ربّ العزة والجلال كردّ فعل على طرده من الجنة ومن صفوف الطائعين المرضيين عند الله تبارك وتعالى بسبب استكباره وتمرده عن السجود لآدم الذي كان يمثل النوع الإنساني المستخلف في الأرض، فعزم على الانتقام من الإنسان حسدا له ولأنه كان موضوع الابتلاء والامتحان الذي فشل فيه حيث تصرّح الآية أن السبب الذي برّر به غوايته لبني آدم وسوقهم إلى الضلال أن الأمر بالسجود لهم كان سبب طرده من رحمة الله تعالى {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} والباء سببية.

وعلى اثر ذلك اطلق سلسلة من التهديدات والعمليات الانتقامية إلى يوم الوقت المعلوم، ومنها ما ذكرته الآية الشريفة، بأن يترصد لهم ويلاحقهم ويمكر بهم حتى يغويهم ويضلّهم كما غوى هو وضل بسوء اختياره، ويسلب منهم نعمة الاستقامة على صراط الله تعالى.

وزيادة في المكر والتلبيس فإنه يقعد لهم على الصراط المستقيم حتى لا يتوقعوا منه الشر والسوء، وقد عبّر بلفظ (القعود) المتضمن ثني بعض أجزاء الجسم للدلالة على قصد الاعوجاج المنافي للاستقامة، لذا أخبرنا الله تعالى بهذه الحقيقة وهذا التهديد الخطير لنكون حذرين يقظين لمكائد هذا العدو المبين،

ص: 18

وعلّمنا الله عز وجل أن ندعوا يومياً في صلاتنا {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ونطلب الهداية إلى الصراط المستقيم لنتذكر دائماً العدو الذي يريد خروجنا عنه، وأن نتوسل إلى الله تبارك وتعالى طالبين المعونة على مواجهته والانتصار عليه. وتدل الآية على أن الإنسان لو خُلّي وطبيعته التي فطر عليها فإنه خُلق ليسير على الصراط المستقيم الموصل إلى الله تبارك وتعالى {صراطك} ولكن الشيطان يقعد للناس على هذا الطريق ويتربص بهم ليحرفهم عن هذا الصراط المستقيم ويقطع عليهم طريق الطاعة ويوجههم إلى الطرق المنحرفة الأخرى، وهذا المعنى ورد في الحديث الشريف (كل إنسان يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه أو ينصّرانه)(1).

والصيغة المؤكدة المستعملة في التهديد تدل على الإصرار على الفعل والاستمرار فيه واستعمال الشيطان كل أدواته في التزيين والغواية والتضليل والتمويه والشبهات ونحو ذلك، والإطباق على الإنسان من جميع جهاته، وهو ما أشارت إليه الآية التالية:{ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف:17).

ولعل أقرب مشهد ومسرح لهذا القعود هو ما يحصل اثناء الصلاة، فان اللعين يستخدم كل وسائله لسلب هذه المعراجية فيشتت ذهن المصلي في جميع94

ص: 19


1- رواه في البحار ج3 ص 281 عن غوالي اللئالي، وحمل قوله تعالى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (الروم :30) على دين الله واورده السيد المرتضى في اول الجزء الرابع من اماليه مرسلاً عن ابي هريرة عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وسنن البهيقي وأبو يعلى في مسنده والطبراني في الكبير والسيوطي في الجامع الصغير :2/ 94

الاتجاهات وتتوالى عليه الخواطر والصوارف حتى ينتهي من صلاته وهو غير ملتفت لشيء منها.والتعبير هنا بالجهات الحسية الأربعة كناية عن الاتجاهات المعنوية التي يتحرك نحوها الانسان (عدا الأعلى والاسفل من الجهات الست)، لأن الصراط المستقيم الموصل إلى الله تعالى لا يمكن أن يكون حسّياً فكذا القعود عليه أمر معنوي فيمكن أن يكون معنى (من بين أيديهم) مستقبلهم وأيامهم القادمة والزمن الآتي فيخوّفهم من الفقر والحاجة إذا أرادوا الإنفاق ومن الموت والقتل إذا نووا الجهاد، أو يعظّم لهم المشقة والعناء إذا همّوا بالحج والعمرة والزيارة ويزين لهم الحياة الدنيا ويمنيّهم بما تحبّ نفوسهم ونحو ذلك، قال تعالى:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ} (آل عمران:175) وقال تعالى {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} (البقرة:286) وقال تعالى {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} (النساء:120).

أو أن المراد بما بين أيديهم الآخرة فينسيهم ذكر الموت وأهواله وما بعده ويشككهم في الآخرة والنشور ونحو ذلك {إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} (الإنسان:27).

ويكون معنى {من خلفهم} أي ما خلّفوه في زمانهم الماضي فينسيهم المعاصي ويسوّف الاستغفار والتوبة ويهوّن عليهم ما ارتكبوه من المظالم. أو يخوفه على ما يترك خلفه من أموال وأولاد وأهل وموقع اجتماعي ليقعده عن الإقدام على الطاعة ويبخلّه عن العطاء، أو يجعل من الماضي وسيرة الآباء والتقاليد

ص: 20

الموروثة صنماً يعبده ويتبعه فيصده عن الهداية والصلاح.ومعنى (عن أيمانهم) أي من جهة دينهم، لأن اليمين من اليُمن والخير والقوة والسعادة، فيدخل في دينهم ما ليس منه ويغلّفه بالقداسة ويجعله هو الدين وإلا فالسقوط في الجحيم، أو يغريهم باتباع قيادات دينية تضلّهم وتقودهم إلى السعير، أو يدخلهم في صراعات وربما حروب تزهق فيها الأرواح وتهتك فيها الأعراض وتخرَّب الديار باسم الدين ونصرة الدين، أو يزيِّن لهم قتل الآخرين معنوياً بالتسقيط والافتراء والتشويه والتضليل تحت عنوان نصرة الحق وأهله وهكذا.

أما (عن شمائلهم) فالشمال عكس اليمين فيراد به تزيين المعاصي وتهييج الشهوات لدفعهم إلى ارتكاب الفحشاء أو المنكر واتباع الأهواء.

وبهذا الشكل من التصرّف في عواطف الإنسان وميوله وأهوائه وآماله وإثارة نزواته الشهوية والغضبية للتأثير على تفكيره وقراره وإلقاء الأوهام الباطلة عليه ومن ثم توجيه إرادته نحو الأفعال القبيحة وليس له سلطة أكثر من هذا {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} (إبراهيم:22)، وهكذا يصوّر لنا القرآن الكريم إحاطة الشيطان بابن آدم وغلقه لمنافذ الوعي والبصيرة وإيقاعه في الغفلة وحرصه على غوايته ويخبر الإنسان بذلك ليكون حذراً على الدوام وملتفتاً وواعياً.

وبهذا التفسير أورد الطبرسي رواية في مجمع البيان عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (في معنى الآية (من بين أيديهم) أهوّن عليهم أمر الآخرة (ومن خلفهم) أأمرهم بجمع الأموال ومنعها عن الحقوق لتبقى لورثتهم (وعن أيمانهم) أفسد عليهم أمر

ص: 21

دينهم بتزيين الضلالة وتحسين الشبهة (وعن شمائلهم) بتحبيب اللذات إليهم وتغليب الشهوات على عقولهم)(1). وفي تفسير علي بن إبراهيم في معنى الآية (أما (بين أيديهم) فهو من قبل الآخرة، لأُخْبِرَنَّهم أنه لا جنة ولا نار ولا نشور، وأما (خلفهم) يقول:من قبل دنياهم آمرهم بجمع الأموال وآمرهم أن لا يصلوا في أموالهم رحماً، ولا يعطوا منه حقاً، وآمرهم أن يقللوا على ذرياتهم وأخوفهم عليهم الضيعة، وأما (عن أيمانهم) يقول:من قبل دينهم، فإن كانوا على ضلالة زينتها لهم، وإن كانوا على هدى جهدت عليهم حتى أخرجهم منه، وأما (عن شمائلهم) يقول:من قبل اللذات والشهوات، يقول الله (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ))(2).

ثم يذكر النتيجة التي يريد إيصال بني آدم إليها ويتوقعها {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} بل كافرين بها أو مقصرين في أداء حقوقها، وقال:(أكثرهم) ولم يقل:(جميعهم) لأنه يعلم أنه لا قدرة له على المخلصين الذين عرفوا نعمة الله تعالى وفرّغوا أنفسهم لشكرها فلا نصيب لغير الله تعالى عندهم {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (ص:82-83) {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَ-ذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَ-ى يَ-وْمِ الْقِيَامَ-ةِ لأَحْتَنِكَ-نَّ ذُرِّيَّتَ-هُ إَلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء:62).

وبالجمع بين الآيات الدالة على أن كمال نعمة الدين وتمامها بولاية أهل4.

ص: 22


1- تفسير البرهان:4/ 60 عن مجمع البيان:4/ 623.
2- تفسير القمي:1/ 224.

البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} (المائدة:3) وما ورد في تفسير قوله تعالى:{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى:11) وان الشكر انما يكون على نعمة، وأفادت الآية محل البحث ان الناجين من مكائد الشيطان هم الشاكرون وما دلّ على أن الشكر الحقيقي هو بالثبات على اتباع أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وعدم الانقلاب عليهم كالذي حصل بعد وفاة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حين وصف عدم الانقلاب بالشكر {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران:144) نستنتج أن أرقى مصاديق الاستقامة على الصراط المستقيم والثبات عليه هو التمسك بولاية اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) واتباعهم في الاقوال والافعال لان ذلك حقيقة الشكر وخلاصته وان المعصومين من أهل بيت النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هم الدالون على الصراط المستقيم والحافظون له والذابون عنه، وقد دلّت على هذا المعنى روايات عديدة في كتب الفريقين كالمروي عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(آل محمد الصراط الذي دلّ الله عليه) وقول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(أنت الطريق الواضح والصراط المستقيم) و (لا يجوز أحد الصراط إلا بولاء علي)(1).لذا كان أشد ما يحرص عليه اللعين هو التخلص من اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فكان يغري السلطات بقتلهم وايذائهم ومحاصرتهم وإبعاد الناس عن أهل البيت

ص: 23


1- راجع مصادر هذه الأحاديث في تفسير الفرقان:10/ 343.

(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) واتباع منهجهم والأخذ بتعاليمهم، ففي الكافي والمحاسن للبرقي بسند صحيح عن زرارة قال:(قلتُ لأبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):قوله تعالى:{لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} فقال أبو جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):يا زرارة، إنما صمد لك ولأصحابك فأما الآخرون فقد فرغ منهم)(1) واللعين يكون أشد الخلق فرحاً حينما يقصى قانون أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) عن الحياة وتهمل أحكامهم وتنبذ أخلاقهم وسيرتهم.ولإبليس أعوان من شياطين الجن يقومون بنفس دوره ويساعدونه على تنفيذ ما يريد {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} (الأعراف:27) {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} (الكهف:50).

ولكن اللعين لا يكتفي بالغواية عن طريق التزيين النفسي الباطني لأنه يعلم أن الحسّيات أكثر تأثيراً على الإنسان فيحوّل بعض الناس إلى شياطين من الأنس بأدائهم نفس وظيفته فيتربصون بالناس ليقطعوا عليهم طريق الهداية والصلاح بشتى الوسائل الماكرة والمخادعة فبعضهم عن طريق الجنس وإثارة الشهوات وما أكثر القنوات ومواقع التواصل والصحف والمجلات التي تعمل بهذا الاتجاه، وبعض آخر عن طريق إثارة العصبيات الجاهلية والخلافات لجرّ الناس الى القتال والعنف والموت العبثي، وبعض عن طريق الفكر والثقافة الإلحادية المنحرفة، وبعض عن طريق الظلم والتسلط والقهر..، والقائمة تطول، فهؤلاء كلهم قطّاع8.

ص: 24


1- الكافي:8/ 145، المحاسن:171/ 138.

طرق الخير والسعادة والفلاح، وكلهم أدوات بيد إبليس ينفّذ بهم مآربه، ومن خطبة لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(اتخذهم إبليس مطايا ضلال، وجنداً يصول بهم على الناس، وتراجمة ينطق على ألسنتهم، استراقاً لعقولكم، ودخولاً في عيونكم، ونفثاً في أسماعكم، فجعلكم مرمى نبله، وموطئ قدمه، ومأخذ يده)(1).وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(اتخذوا الشيطان لأمرهم ملاكاً، واتخذهم له أشراكاً، فباض وفرّخ في صدورهم، ودبّ ودرج في جحورهم، فنظر بأعينهم، ونطق بألسنتهم، فركب بهم الزلل، وزيّن لهم الخطل، فعل من شركه الشيطان في سلطانه، ونطق بالباطل على لسانه)(2).

ومن نماذج شياطين الانس ما ورد في قوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في معاوية في كتاب أرسله إلى زياد بن أبيه وقد بلغه أن معاوية قد كتب إليه يريد خديعته باستلحاقه (فاحذره فإنما هو الشيطان يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ليقتحم غفلته ويستلب غرته)(3).

ولعل أخفى قطّاع الطرق من يتحدثون باسم الدين ويتزيون بلباس أهل الدين ويحملون علوم الدين وهم يطلبون الدنيا الدنية بذلك وقد وصفتهم الاحاديث الشريفة صريحا بانهم قطّاع طرق الهداية والصلاح روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله:(أشرار علماء أمتنا المضلّون عنا، القاطعون للطرق إلينا)(4) وعن الإمام7.

ص: 25


1- نهج البلاغة، الخطبة 190.
2- نهج البلاغة:الخطبة 7.
3- نهج البلاغة، ج3، الرسالة 44، ص 69، قال الشريف الرضي:ومن كتاب له (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى زياد بن أبيه وقد بلغه أن معاوية كتب إليه يريد خديعته باستلحاقه.
4- الاحتجاج:2/ 513، 337.

الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(أوحى الله تعالى إلى داوود (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):قل لعبادي:لا يجعلوا بيني وبينهم عالماً مفتوناً بالدنيا، فيصدّهم عن ذكري وعن طريق محبتي ومناجاتي، أولئك قطاع الطريق من عبادي، إنّ أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة محبتي ومناجاتي من قلوبهم)(1).ومن امثلتهم ابن ابي دؤاد قاضي قضاة الدولة العباسية في زمن المعتصم أي مفتي الدولة الذي اغرى المعتصم بقتل الامام الجواد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حسداً وغيظا عندما اخذ المعتصم بقول الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في موضع قطع يد السارق وترك اقوال فقهاء العامة في حادثة معروفة(2) .

ومن ذلك قول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(قصم ظهري عالم متهتك وجاهل متنسّك، فالجاهل يغشّ الناس بتنسّكه، والعالم ينفّرهم بتهتكه) وفي تكملة حديث مثله (فاتقوا الفاسق من العلماء والجاهل من المتعبدين، أولئك فتنة كل مفتون)(3).8.

ص: 26


1- تحف العقول:397.
2- أنظر: تفسير العياشي: 1/ 319
3- ميزان الحكمة:6/ 188.

القبس/40: سورة الأعراف:43

اشارة

{ألحَمدُ لِلَّهِ ألذِي هَدَىنَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهتَدِيَ لَولَا أَن هَدَىنَا ٱللَّهُ ۖ}

وبابك مفتوح للسائلين:

نعم الله تعالى على الانسان كثيرة لا تعد ولا تحصى قلما يلتفت اليها سواء كانت مادية او معنوية، ومن تلك النعم المعنوية إمكانية الاتصال بالله تعالى متى شئت فلا يغلق بابه على عباده مطلقاً، فان شئت أن تصلي قمت وتوضأت ودخلت في الصلاة، وكذلك إن شئت ان تصوم او تدعو او تسجد او تقرأ القرآن او تزور الائمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وغير ذلك ولا تحتاج في ذلك الى أي واسطة، هذه النعمة يذكرّنا بها الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الدعاء المعروف بدعاء ابي حمزة في ليالي شهر رمضان (الْحَمْدُ للهِ الَّذي اُناديهِ كُلَّما شِئْتُ لِحاجَتي، وَاَخْلُو بِهِ حَيْثُ شِئْتُ، لِسِرِّي بِغَيْرِ شَفيع فَيَقْضى لي حاجَتي)(1).

وفي نفس الدعاء يقول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اَلْحَمْدُ للهِ الَّذي اَدْعوُهُ فَيُجيبُني وَاِنْ كُنْت بَطيئاً حينَ يَدْعوُني، وَاَلْحَمْدُ للهِ الَّذي اَسْأَلُهُ فَيُعْطيني وَاِنْ كُنْتُ بَخيلاً حينَ يَسْتَقْرِضُني .. اَلْحَمْدُ للهِ الَّذي لا اَدْعُو غَيْرَهُ وَلَوْ دَعَوْتُ غَيْرَهُ لَمْ يَسْتَجِبْ لي دُعائي)(2).

هذه واحدة من صفات ربنا ومولانا وهكذا نحن بالمقابل، فنعم الرب ربنا

ص: 27


1- مفاتيح الجنان :219.
2- نفس المصدر.

ونسأله تعالى ان لا نكون بئس العبيد نحن.وقد تكرر هذا المعنى في كلمات الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، روى الاصمعي انه كان يطوف بالبيت الحرام فرأى شاباً متعلقاً بأستار الكعبة في جوف الليل وهو يدعو وكان من دعائه (نَامَتِ الْعُيُونُ، وَ غَارَتِ النُّجُومُ، وَ أَنْتَ الْمَلِكُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، غَلَّقَتِ الْمُلُوكُ أَبْوَابَهَا، وَ أَقَامَتْ عَلَيْهَا حُرَّاسَهَا، وَ بَابُكَ مَفْتُوحٌ لِلسَّائِلِينَ)(1).

كيف نعرف عظمة نعمة مناجاة الله تعالى؟

وإذا كانت الأمور تعرف بأضدادها فلكي تعرف عظمة هذه النعمة تصور لو انكم كنتم جماعة واتيتم للصلاة في المسجد فقيل للآخرين أدخلوا وقيل لك أنت ممنوع من الدخول، وأنت لست أهلاً للصلاة والدعاء والمناجاة، كم تكون حسرتك وفضيحتك وحياؤك، هذه الحالة التي يعبر عنها الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعائه (مالِي كُلَّما قُلْتُ قَدْ صَلُحَتْ سَرِيرَتِي وَقَرُبَ مِنْ مَجالِسِ التَّوّابِينَ مَجْلِسِي عَرَضَتْ لِي بَلِيَّةٌ أَزالَتْ قَدْمِي وَحالَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ خِدْمَتِكَ، سَيِّدِي لَعَلَّكَ عَنْ بابِكَ طَرَدْتَنِي وَعَنْ خِدْمَتِكَ نَحَّيْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي مُسْتَخِفا بِحَقَّكَ فَأَقْصَيْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأيْتَنِي مُعْرِضا عَنْكَ فَقَلَيْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ وَجَدْتَنِي فِي مَقامِ الكاذِبِينَ فَرَفَضْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي غَيْرَ شاكِرٍ لِنَعْمائِكَ فَحَرَمْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ فَقَدْتَنِي مِنْ مَجالِسِ العُلَماءِ فَخَذَلْتَنِي او ....)(2).

وكان الائمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) يعلّمون امتهم الخشية من حصول هذه الحالة لهم، روى الشيخ الصدوق بسنده عن مالك ابن انس امام المذهب المالكي قوله في

ص: 28


1- بحار الانوار :96/ 197 ح 11.
2- الصحيفة السجادية (ابطحي) / 222

الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ((وكان من عظماء العبّاد واكابر الزهّاد الذي يخشون الله عز وجل، ولقد حججت معه سنة فلما استوت به راحلته عند الاحرام كان كلما همّ بالتلبية انقطع الصوت في حلقه وكاد ان يخرَّ من راحلته فقلت:قل يا ابن رسول الله ولابد لك من ان تقول فقال:يا ابن ابي عامر كيف اجسر ان اقول لبيك اللهم لبيك واخشى ان يقول عز وجل لي لا لبيك ولا سعديك)) (1).هذه النعمة العظيمة يحسدنا عليها أبليس لأنه يعرف عظمتها وتشتد حسرته كلما رأى الطائعين لله تعالى لذلك يبذل كل وسعه لغواية بني آدم وسلب هذه النعمة منهم، روي عن أبي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(أحبّ الأعمال إلى الله عزّ وجلّ الصلاة، وهي آخر وصايا الأنبياء، فما أحسن الرجل يغتسل أو يتوضّأ فيسبغ الوضوء ثم يتنحّى حيث لا يراه أنيس فيشرف الله عليه وهو راكع أو ساجد، إنّ العبد إذا سجد فأطال السجود نادى إبليس:يا ويله، أطاعوا وعصيت، وسجدوا وأبيت)(2).

نماذج من عدم التوفيق لطاعة الله تعالى:

وهكذا كثير من الخلق غير موفقين لطاعة الله تبارك وتعالى حتى اليسير منها ويجدون كأن قيوداً وأغلالاً تُكبّلهم عن الطاعة، كبعض سادة قريش الذين كان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يدعوهم الى النطق بالشهادتين ويقول لهم قولوا كلمة خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان فيقولون:(لو كلفّتنا بنقل الجبال عن موقعها فأنه أهون علينا من هذه الكلمات).

ص: 29


1- بحار الانوار :47/ 16 عن الخصال وعلل الشرائع وروضة الكافي.
2- وسائل الشيعة: 4/ 39.

وامثلة هؤلاء كثيرون كامرأة سافرة اثقل شيء عليها ان ترتدي الحجاب بينما الفاطميات الزينبيات يحرصن على تمام الحجاب والعفاف، او شخص لا يصلي يكون اثقل شيء عليه تذكيره بالصلاة او شخص متمّول يكره كل من يطلب منه اخراج حقوقه الشرعية بينما يبادر المؤمنون الموفقون الى دفع ما بذمتهم فورا ويزيدون.فأعرفوا هذه النعمة واشكروا الله تعالى الذي وفقكم لهذه الطاعات ولولا لطفه تبارك وتعالى لحرمنا منها كغيرنا، وهذا هو دعاء المؤمنين الفائزين يوم القيامة {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَ-ذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الأعراف:43).

ولاية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):

وخذ مثالاً اخر ما يعرض اليوم على الشاشات الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي وتقنيات المعلومات من الحجج البالغة والبراهين الواضحة على إمامة وولاية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأهل بيت النبي(صلى الله عليهم أجمعين) التي هي تمام نعمة الاسلام وكمال الدين ويتقين بصدقها كثيرون لكنه لا يتمكن من الايمان والاذعان ويحس بثقل الاقرار بالولاية على قلبه ويقول بعضهم لا أقولها حتى لو دخلت جهنم، بينما أنتم الموالون تكون هذه الشهادة عندكم أحلى من العسل وأمرأ من اللبن.

روى الكليني بسنده عن ابي بصير عن أبي عبد الله الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير هذه الآية قال:(إذا كان يوم القيامة دُعي بالنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبأمير المؤمنين

ص: 30

والأئمة من ولده فينصبون للناس، فإذا رأتهم شيعتهم (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا ان هدانا الله) يعني:هدانا الله في ولاية أمير المؤمنين والأئمة من ولده (عَلَيْهِ السَّلاَمُ))(1).وفي الاحتجاج للطبرسي في خطبة الغدير:(مَعاشِرَ النّاسِ .. سَلِّمُوا عَلى عَلِيٍّ بِإمْرَةِ الْمُؤْمِنينَ .. وَقُولُوا:الْحَمْدُ للهِ الَّذي هَدانا لِهذا وَما كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللهُ)(2).

ولم تكن هذه الهداية ممنوحة اعتباطاً لعبد وحرم منها اخر فأن ذلك كله ينافي عدالته ورحمته ولطفه، ولا هي بالاجبار والاكراه وإلا لبطل الثواب والعقاب ولما تقدم المحسن على المسئ وإنما هي بالاختيار والارادة لكن الله تعالى بلطفه يسّر أسباب الطاعة لعبده وآتاهُ الوسائل والأدوات التي تمكنه منها وزينها له وما على العبد إلا أن يختارها ويسعى اليها {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ، فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (الحجرات:7-8).1.

ص: 31


1- الكافي : 1/ 346 ح33.
2- الفرقان : 11/ 34 عن نور الثقلين :2/ 31.

القبس/41: سورة الأعراف:96

اشارة

{وَلَو أَنَّ أَهلَ ٱلقُرَى ءَامَنُواْ وَٱتَّقَواْ لَفَتَحنَا عَلَيهِم بَرَكَت}

موضوع القبس:الحل والعلاج في العودة إلى الله تبارك وتعالى

علة البلاء:

*موضوع القبس:الحل والعلاج في العودة إلى الله تبارك وتعالى(1)

من الحقائق التي بينها الله تبارك وتعالى من خلال القرآن الكريم لتثبيتها في قلوب وعقول المؤمنين أن ما يصيبهم من بلاء وعنت وضيق وشدة فإنما هي نتيجة أعمالهم السيئة {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير} (الشورى:30) {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}(النحل:34) {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}(النساء:79)، ويلفت أنظار المسلمين من أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهم في قمة المواجهة العسكرية مع مشركي قريش في معركة أحد أن هزيمتهم كانت بسبب عدم تهذيب أنفسهم فهذا هو السبب الحقيقي وليس الأسباب المادية {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} (آل عمران:155).

ص: 32


1- من النصائح والمواعظ التي كان يوجهها سماحة الشيخ (دام ظله) إلى الأمة من خلال أئمة الجمعة خلال فترة المواجهات المسلحة عام 2004.

الله تعالى يعلمنا طريق الحل:

وفي نفس الوقت يعلمنا الحل وسبيل النجاة من هذه المعاناة.

انه بالعودة إلى الله تبارك وتعالى والتضرع إليه والتوسل إليه تبارك وتعالى وتصفية القلوب مما فيها من غلٍّ وضغائن ورذائل كالحسد والعجب والكراهية والأنانية {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون ، أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ ، أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ ، أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ، أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} (الأعراف:96-100).

والمراد بالبأس هنا ليس الاستئصال كما كان يحصل للأمم السابقة على الإسلام، فإن مثل هذا العذاب قد رُفع عن هذه الأمة ببركة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، ولكن الأمة بقيت معرضة - بسوء تصرفها- لألوان أخرى من العذاب:نقص الثمرات، ووقوع الفتن والحروب بينهم فيذيق بعضهم بأس بعض، تداعي الأمم الأخرى عليهم لاستعبادهم، وهذه البلاءات كلها قد نزلت بالأمة والعياذ بالله. وقال تعالى {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}(الطلاق:2-3)، ويخاطب الأمم التي تتخبط في جهلها وغفلتها وبعدها عن الطريق الحقيقي {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} (سبأ:46) أي أن تلتفتوا إلى أنفسكم فتعودوا إلى الله تبارك وتعالى أفراداً وجماعات وتجأرون إلى الله بالدعاء والاستغاثة.

ص: 33

وهذا لا يعني أن هذا القيام لله تبارك وتعالى واللجوء إليه مختص بحال الاضطرار، إذ المطلوب أن يكون الإنسان في كل حالاته ذاكراً لله تعالى مستجيراً به طالباً منه التوفيق والتثبيت على الإيمان والزيادة من عمل الخير والتأييد، بل إنه سبحانه يعرض مستغرباً مثل هذا النموذج الذي لا يعرف الله إلا في أوقات الضيق والشدة كانقطاع السبل في البحر الهائج {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُون} (العنكبوت:65)، ولا يقصد الشرك الظاهري أي عبادة الأصنام ونحوها لأنه خلاف دعوتهم لله مخلصين، وإنما يريد الشرك الخفي أي الإعراض عن الله والالتجاء إلى الأسباب من دونه. ويضرب لنا مثلاً في قوم يونس فإنهم قد أحيطوا بعذاب، وظن نبيهم أنهم قد أُخذوا ولم تبق فرصة لنجاتهم، فغادر المدينة إلا أنهم عادوا إلى الله وخرجوا جميعاً مستغيثين بالله أن يرفع عنهم البلاء، فاستجاب الله تبارك وتعالى لهم ونجاهم {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (يونس:98).

وابتغوا إليه الوسيلة:

ولا يتم هذا الاتصال بالله تبارك وتعالى وينتج ثمراته إلا بولاية أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) والتوسل بهم إلى الله تبارك وتعالى وإدامة ذكرهم وإقامة شعائرهم والاستغاثة بالإمام القائم بالأمر (عج)، قال تعالى {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فإن

ص: 34

لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (طه:124) وقد ورد في الروايات(1) أن الذكر هي ولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فمن لم يتمسك بهم يكن في عيشة ضيقة تعيسة خالية من الإمدادات الروحية.وقد ورد عن الإمام الهادي في حق دعاء (يا من تُحَلُّ به عُقَدُ المكاره)(2) وهو من أدعية الصحيفة السجادية: (إن آل محمد (صلى الله عليهم أجمعين) يدعون بهذه الكلمات عند إشراف البلاء وظهور الأعداء وخوف الفقر وضيق الصدر وغيرها).

هكذا علمنا الله تبارك وتعالى وهكذا أدبنا أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فأين نحن من ذلك التأديب الذي يراد منه نفعنا وسعادتنا ؟

الانفعال والارتجالية:

أنا لا أنكر تقدم المستوى الإيماني لدى هذا الجيل بفضل الله تبارك وتعالى بشكل أذهل الأعداء وأصاب خططهم بالخيبة والخسران، إلا أنه مع الأسف في كثير من حالاته عبارة عن وهج عاطفي وحرارة متدفقة غير مقترن بوعي عميق وتربية راسخة للقلب والنفس، مما يجعل هذه الاندفاعة في مهب الريح - والعياذ بالله - إذا لم نتداركها بما يصلحها.

وإلا بماذا تفسر انتشار الافتراء والبهتان والتسقيط والتشويه بين المؤمنين بل أصبح شغل الكثير من أهل الغفلة هو ذم العلماء والمراجع والقدح فيهم وانتقادهم، ولا أدري من أين نال هؤلاء القيمومة على الآخرين ليعطوا لهم الحق

ص: 35


1- الكافي :1/ 361ح 92، تفسير البرهان:6/ 257
2- الصحيفة السجادية (أبطحي): 67/ دعاء:24

في تقييم أعمال المراجع والمفكرين ؟! ألم يسمعوا الحديث الشريف عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(المؤمن أعظم حرمة من الكعبة)(1)، فالاعتداء على سمعة المؤمن وكرامته وتشويه صورته اشد من الاعتداء على الكعبة، أو على العتبات الطاهرة للأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) - رغم أنها من الجرائم الشنيعة- فهل التفت المؤمنون إلى هذه الكبائر التي تورطوا فيها، وعميت بصائرهم عن رؤيتها حتى تنشر صحائف أعمالهم أمام الحكم العدل {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (قّ:22).

هل غضبنا لله تعالى أم لأنفسنا؟

وهل غضبوا لانتهاك حرمات المؤمنين أم على العكس إنهم خاضوا في هذه الكبائر وشربوا كأسها حتى الثمالة، حتى أن بعض أئمة الجمعات استغلوا هذا الموقع الإلهي الذي يعبر عنه الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اللهم إن هذا مقام أوليائك وخلفائك)(2) استغلوه للمهاترات الكلامية وتصفية الحسابات الشخصية ولانتقاد العلماء.

التربية الى نصف الطريق:

عن هذا النقص في تربية المشتغلين بالعمل الاجتماعي الإسلامي والأسف من عدم اكتمال التربية قال الشهيد السيد محمد باقر الصدر رائد الحركة الإسلامية

ص: 36


1- بحار الأنوار :ج 64 /ص71/ح35
2- الصحيفة السجادية (أبطحي): 351/ دعاء:150.

في العراق(1)، ((إننا استطعنا أن نربي الآخرين إلى نصف الطريق)) وعلق عليه الشهيد السيد محمد الصدر (قده): ((ولم يقل إلى نهايته لأنه لو كان الأمر كذلك لما حصل أي شيء من تلك النتائج. ولو كان أولئك المتدينون قد أصلحوا أنفسهم قبل إصلاح الآخرين، وما رسوا المقدمات المنتجة لصفاء النفس ونور القلب وعمق الإخلاص وقوة الإرادة وعفة الضمير لما عانوا ما عانوا، بل ولعلهم لم يحتاجوا في الحكمة الإلهية إلى كل هذا البلاء الذي وقع عليهم، وإنما كانوا مع شديد الأسف مصداقاً لقوله تعالى {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} (محمد:38) ولم يكونوا مصداقاً لقوله تعالى {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج:41)، وليس ذلك إلا لان الأفراد التامين من جميع الجهات والأوصاف الجامعين للشرائط عددهم قليل، وأقل من الحاجة بكثير)).

المعركة الكبرى:

أيها الإخوة والأخوات زادهم الله بصيرة:

إننا مطالبون بمحاربة الشياطين في أنفسنا الأمارة بالسوء قبل كل شيء، ومهما تعاظمت شياطين الجن والأنس فإنها دون هذا العدو الأكبر الذي وصفه

ص: 37


1- من بحث بعنوان (التربية الدينية) كتبه السيد الشهيد الصدر الثاني أيام إقامته الجبرية في الثمانينات وهو مخطوط محفوظ عندي، ونشر ضمن سلسلة (ما لم ينشر من تراث السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره)).

الحديث الشريف (أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك)(1)، بل إن كل شياطين الإنس هي ثمرة هذا الشيطان ولو أصلحنا ما في نفوسنا لم يبق شيء من تلك الشياطين، لذا سمى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) جهاد النفس بالجهاد الأكبر(2) ومعناه أن العدو في هذا الجهاد هو العدو الأكبر. وجهاد الأعداء الآخرين مهما تفرعنوا بالأصغر.

النصر الحقيقي:

إن نصرنا الحقيقي حينما نستطيع سحق أهوائنا وأنانياتنا ونزيل الغل والحقد والكراهية وحب الدنيا بكل أشكالها (وأخطرها حب الرئاسة والتسلط وتصفيق الجماهير) والحسد والرياء والعجب والتكبر والعنجهية والاستعلاء وغيرها من الرذائل، ونملأ قلوبنا بالحب والرحمة والشفقة والعفو والصفح والتآلف والمودة والصبر وكظم الغيظ وغيرها من الفضائل.

هذه هي وصايا أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وهذه تربيتهم، حتى حينما كان يظن شيعتهم أن الفرصة قد حانت وان الثمرة قد آن قطافها، كانوا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) دائماً يذهبون في الاتجاه الآخر غير الذي يفكر به الآخرون مهما قربوا من الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وهو اتجاه محاسبة النفس ومراقبتها وعرضها على الميزان الذي نصبه أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، وأقرأ كشواهد على ذلك(3) أقوال الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لمن عرضوا عليه النصرة وتسليم مفاتيح السلطة بعد القضاء على الأمويين، ونصائح الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) للذين خرجوا لاستقباله على طول الطريق من المدينة المنورة إلى مرو.

ص: 38


1- مستدرك سفينة البحار- النمازي: 10/ 114
2- وسائل الشيعة: 15/ 161/ح1
3- راجع كتاب دور الأئمة في الحياة الإسلامية

ابتعادنا عن أدب السلف الصالح:

إننا ضيعنا حتى الحد الأدنى من ذكر الله تعالى وهو الالتجاء إليه عند الاضطرار، فها هو البلاء يحيق بنا والأعداء يتربصون بنا ولا أجد المؤمنين يعقدون مجالس الدعاء والتوجه إلى الله تعالى والاستغاثة بالمعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) والتوسل إلى صاحب الأمر (عج) كي يتولانا برعايته مع عدم الإخلال بالواجبات الأخرى طبعاً، يروي لنا سلفنا انه إذا مر بهم بلاء اجتمعوا في المساجد والحسينيات للدعاء ولذكر مصائب أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وزيارتهم، وكان طلبة العلم في النجف يتوجهون مشياً على الأقدام إلى مسجد السهلة مستغيثين بالإمام المهدي (عج) أو كربلاء لزيارة الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أو أي مسجد جامع لأبناء المدينة فيرفع الله عنهم البلاء، كما فعل بقوم يونس، بل ما حصل لنفس النبي يونس (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فانه لما نادى {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنبياء:87) جاءه الغوث والخلاص {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} (الأنبياء:88) وقال تعالى {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (الصافات:143 - 144).

لذا يبين الإمام المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) امتعاضه من شيعته لأجل هذه الغفلة عن الله تعالى وعن أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في كثير من اللقاءات معه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ومنها قصة السيد الرشتي المذكورة في مفاتيح الجنان لما ضلَّ الطريق في ظروف صعبة قال له موبخاً لماذا تتركون زيارة عاشوراء والنافلة وزيارة الجامعة الكبيرة(1).

هذا هو الحل وهذا هو طريق النجاة أن نقوم لله تعالى مثنى وفرادى متآلفين

ص: 39


1- تفصيل الكلام في كتاب (شكوى الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)).

ومتحابين أنقياء القلوب أصفياء النفوس ونعمل بوصايا المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ونتأدب بأدبهم ونترك التعصب والتشنج والتطرف والأنانية وحب الدنيا.{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصلاح مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود:88).

والحمد لله رب العالمين

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 40

القبس/42: سورة الأعراف:156

اشارة

{وَٱكتُب لَنَا فِي هَذِهِ ٱلدُّنيَا حَسَنَة وَفِي ٱلأخِرَةِ إِنَّا هُدنَا إِلَيكَ ۚ}

موضوع القبس:التوسل بالأعمال الصالحة لاستجابة الدعاء

قصّة في تأثير العمل الصالح:

هذا من تمام كلام النبي الكريم موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الذي ورد في الاية السابقة .

والهود لغة:الرجوع برفق ومنه التهويدة وهو مشي الدبيب وصار الهود في التعارف التوبة، قال تعالى {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} أي تبنا، قال الراغب وهو الدعاء(1) وطلب من الله تعالى ان يكتب لهم أي يثبت لهم في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة، وهو الدعاء الذي ذكره الله تعالى في آية أخرى {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} (البقرة:201).

ويمكن ان نفهّم من الدعاء المذكور انه يجعل توبتهم ورجوعهم الى ربهم - باعتباره عملا صالحاً يحبّه الله تبارك وتعالى - سبباّ ووسيلة لنيل هذا الجزاء منه تبارك وتعالى، وهذا هو الدرس الذي نريد ان نقتبسه من هذا الجزء من الاية الكريمة، ان من وسائل استجابة الدعاء الى الله تبارك وتعالى بعمل صالح مخلص يحبه الله تعالى وفقه الله تعالى اليه {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ

ص: 41


1- مفردات غريب القرآن- الأصفهاني:546

حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (الطلاق:2 -3) .روت عدة مصادر من الشيعة والسنة عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) انه قال (بينما ثلاثة رهط يتماشون أخذهم المطر فآووا إلى غار في جبل، فبينما هم فيه انحطت صخرة فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض:انظروا أفضل أعمال عملتموها فسلوه بها - وفي مصدر آخر: تذكرون احسن اعمالكم فادعوا الله عز وجل بها وفي مصدر ثالث: انظروا اعمالا عملتموها صالحة لله - لعله يفرج عنكم .

قال أحدهم:اللهم إنه كان لي والدان كبيران وكانت لي امرأة وأولاد صغار فكنت أرعى عليهم، فإذا أرحت عليهم غنمي بدأت بوالدي فسقيتهما، فلم آت حتى نام أبواي فطيبت الاناء ثم حلبت، ثم قمت بحلابي عند رأس أبوي والصبية ينضاعون عند رجلي، أكره أن أبدأ بهم قبل أبوي، وأكره أن أوقظهما من نومهما، فلم أزل كذلك حتى أضاء الفجر اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فرجة نرى منها السماء، ففرج لهم فرجة فرأوا منها السماء.

وقال الآخر:اللهم إنه كانت لي بنت عم فأحببتها حبا كانت أعز الناس إلي، فسألتها نفسها، فقالت: لا حتى تأتيني بمائة دينار، فسعيت حتى جمعت مائة دينار فأتيتها بها، فلما كنت بين رجليها قالت:اتق الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فيها فرجة، ففرج الله لهم فيها فرجة.

وقال الثالث: اللهم إني كنت استأجرت أجيرا بفرق ذرة، فلما قضى عمله عرضت عليه فأبى أن يأخذها ورغب عنه، فلم أزل أعتمل به حتى جمعت منه بقرا ورعاتها، فجاءني وقال: اتق الله وأعطني حقي ولا تظلمني، فقلت له:اذهب إلى

ص: 42

تلك البقر ورعاتها فخذها فذهب واستاقها، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا مابقي منها ففرج الله عنهم فخرجوا يتماشون)(1).

الدروس والعبر:

أقول:يمكن استخلاص عدة دروس وعبر من هذه الحكاية:

1-إن هذه الحادثة وأمثالها تولّد الاطمئنان القلبي العملي بجملة من الاعتقادات التي نؤمن بها نظرياً لكننا عملياً لا نذعن بها ولا نتوجه اليها، والإيمان النظري لا يكفي ليكون محرّكاً عملياً حتى يطمئن القلب بها وذلك عندما تقع عملياً من باب {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}.

فهذه الواقعة ترسّخ عدة عقائد:

(منها) عقيدة ان الله على كل شيء قدير فكم واحد منا يقع في مثل المأزق وهو مطمئن الى ان الله تعالى قادر على أن يزيل هذه الصخرة بمجرد تعلق إرادته بذلك (كن فيكون) أما عامة الناس فانهم يعتقدون باستحالة ذلك لاحتياج الأمر الى أجهزة وآليات لرفع الصخرة وعمال من أين نأتي بهم وهكذا، لكن الحقيقة إن ارادة الله تعالى إذا تعلقت بإزالتها استجابة لدعاء هؤلاء فأنها تزول، ولا نستكثر ذلك على الخالق المقتدر فنحن البشر المخلوقون الضعفاء إذا تعلقت إرادتنا بأن نقفز يرتفع الجسد الذي قد يزيد وزنه عن 100 كغم مباشرة من دون أي مؤثر خارجي سوى الارادة، فلماذا لا يتحقق كل ما تتعلق به ارادة الله تعالى وبيده كل

ص: 43


1- بحار الانوار :14/ 421 عن آمالي الشيخ الطوسي :408، ورواها الطبراني في كتاب الدعاء الحديث 178 بسنده عن علي ابن ابي طالب(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واخرجه البخاري في باب (التوسل بالأعمال الصالحة عند الدعاء).

شيء وكل شيء خاضع له {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(يس:82).و(منها) عقيدة إن مع العسر يسرا وهذا ما حصل لهم بالصبر والدعاء والتوسل.

و(منها) إن {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} وقد جعل الله تعالى لهم مخرجاً بتقواهم.

و(منها) ان الله عند حسن ظن عبده إذا أحسن الظن، روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال (وَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لَا يَحْسُنُ ظَنُّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ بِاللَّهِ إِلَّا كَانَ اللَّهُ عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، لِأَنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ بِيَدِهِ الْخَيْرَاتُ يَسْتَحْيِي أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ الْمُؤْمِنُ قَدْ أَحْسَنَ بِهِ الظَّنَّ ثُمَّ يُخْلِفَ ظَنَّهُ وَ رَجَاءَهُ، فَأَحْسِنُوا بِاللَّهِ الظَّنَّ وَ ارْغَبُوا إِلَيْهِ)(1)، فالرواية تدعونا الى حسن الظن دائماً ورجاء الخير من الله تبارك وتعالى وسيحقق الله تعالى ذلك لعباده.

2-حسن أدب هؤلاء الثلاثة مع ربهم وصحة عبوديتهم ومعرفتهم بالله تبارك وتعالى، إذ أنهم مضافاً إلى ما حملوه من المعرفة بالله تبارك وتعالى التي ذكرناها في النقطة الأولى لم يقدّموا بين يدي ربهم أي عمل يمنّون به على الله تبارك وتعالى ولا طالبوا باستحقاق لهم عند ربهم ولم يزكّوا أنفسهم وأعمالهم {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} (النساء:49) وغاية ما قالوا (اللَّهُمَّ إنَّك إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ)، ومن معرفتهم التفاتهم4.

ص: 44


1- بحار الأنوار:70/ 366 ح14.

الى هذه الوسيلة للفرج والوصول الى المراد.3-إن من أسباب استجابة الدعاء التوسل إلى الله تبارك وتعالى والتقرب اليه بعمل صالح قد أحسنه وأخلص النية فيه من دون اتكال على العمل أو العجب به أو الجزم بصلاحه واستحقاقه للعطاء فإن هذه كلها محبطات للعمل ومن دون اقتراح على الله تبارك وتعالى ولكن من باب التقرب إلى الله تعالى بشيء يحبّه.

فالأول توسّل الى الله تعالى بالإحسان الى والديه والآية تقول {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (البقرة:195) خصوصاً مع الوصية المؤكدة بالوالدين {وبالوالدين إحساناً}.

والثاني توسل الى الله تعالى بعمل المتقين الورعين والآية تقول {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (التوبة:4).

والثالث طهر نفسه من مظالم العباد وحقوقهم عنده وتاب الى الله تعالى توبة صادقة، والله تعالى يقول {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (البقرة:222).

من أراد نفع الدنيا ليخلص عمله:

وهذا أحد تطبيقات قول الصديقة الزهراء (س) (من أصعد إلى الله خالص عبادته أهبط الله عز وجل له أفضل مصلحته)(1) فمن رغب أن يختار الله تعالى له أفضل الخيارات وأصلحها له وأكثرها نفعاً في الدنيا والآخرة فليبالغ في إخلاص عمله من الشوائب.

ص: 45


1- ميزان الحكمة :ج 2 /ص 882

وقد جرّبت ذلك في حياتي فإن بعض الذي أعرف لهم أعمالاً صالحة أحسنوا فيها للآخرين وقعوا في شدة أو بلاء أو حاجة فسألت الله تبارك وتعالى بما أعرف عنهم من تلك الأعمال ففرّج الله تعالى عنهم وقضى حوائجهم ببركة إحسانهم.إن اتخاذ هذه المقدمة كوسيلة لاستجابة الدعاء من الآداب القرآنية كقوله تعالى {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَ-ذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَ-ا إِلَيْكَ} (الأعراف:156) والله تعالى يحب التوابين فجعلوا الرجوع الى الله تعالى والتوبة اليه مقدمة للدعاء.

ومنها الآيتان 193-53 من سورة آل عمران {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَار} (آل عمران:193) {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (آل عمران:53).

وورد هذا المعنى في الأدعية المباركة مثل (اللهم إنّي أطعتك في أحب الأشياء اليك وهو التوحيد ولم أعصك في ابغض الاشياء اليك وهو الشرك فاغفر لي ما بينهما)(1) وهنا تصريح بالتوسل بأحب شيء الى الله تبارك وتعالى.

والخلاصة أن علينا أن نحسن في اعمالنا ونخلصها الى الله تبارك وتعالى لنحظى بحبّه وقبوله وتكون سبباً لاستجابة الدعاء إن شاء الله تعالى.61

ص: 46


1- المصباح- الكفعمي: 291,- مفاتيح الجنان: 161

القبس/43: سورة الأعراف:156

اشارة

{وَرَحمَتِي وَسِعَت كُلَّ شَيء ۚ}

موضوع القبس:موجبات الرحمة الإلهية

سعة الرحمة الإلهية:

ورد في الدعاء الشريف (اللهم إني أسألك موجبات رحمتك)(1) وطلب الرحمة أمر طبيعي لأنه لا نجاة ولا توفيق إلا برحمة الله تعالى، عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (لن يدخل الجنة أحد إلا برحمة الله، قالوا:ولا أنت؟ قال:ولا أنا إلا أن يتغمدني)(2).

فما هي موجبات الرحمة الإلهية؟ وهل تحتاج الرحمة الإلهية إلى موجبات وأسباب وقد وسعت كل شيء؟

في الحديث الشريف عن الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (لا يهلك مؤمن بين ثلاث خصال:شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وشفاعة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وسعة رحمة الله عز وجل)(3).

(وقيل له (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوماً أن الحسن البصري قال:ليس العجب ممن هلك كيف هلك، وإنما العجب ممن نجا كيف نجا، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):أنا أقول ليس العجب ممن

ص: 47


1- البحار:ج83 ص63.
2- كنز العمال- المتقي الهندي:4/ 254/ح10407
3- بحار الأنوار:78/ 159.

نجا كيف نجا، وإنما العجب ممن هلك كيف هلك مع سعة رحمة الله)(1).وتصديق هذا في كتاب الله تعالى فإن السؤال يوم القيامة لا يكون عن الناجين كيف نجوا، وإنما {عَنِ الْمُجْرِمِينَ ، مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} (المدثر:41-42).

وقد أشارت عدة آيات كريمة إلى سعة رحمة الله تبارك وتعالى، قال عز من قائل {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَ-اةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:156).

وقال تعالى {ربَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} (غافر:7).

مثال في الرحمة الإلهية:

ويقرّب لنا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سعة رحمة الله تعالى بقوله (إنّ لله تعالى مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخّر الله تعالى تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة)(2) فتصوروا سعة رحمة الله تعالى التي كتبها على نفسه وألزم تبارك وتعالى نفسه بها، قال تعالى {قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (الأنعام:12) وقال تعالى {وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن

ص: 48


1- المصدر:78/ 153.
2- كنز العمال:ج4 ص249، ح10382.

عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنعام:54) بل إن الله تعالى إنما خلق الخلق ليرحمهم بأن يجعلهم أمة واحدة متفقة على التوحيد، قال تعالى {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ، إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود 118-119).

الرحمة العامة والخاصة:

ولكن - اعلموا أيها الأحبة- أن لله تبارك وتعالى رحمة عامة لكل مخلوقاته وهي التي أشير إليها في موارد كثيرة كما في أدعية رجب (يا من يعطي من سأله، يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنناً منه ورحمة)(1)، وفي دعاء آخر (ورزقك مبسوط لمن عصاك، وحلمك معترض لمن ناواك، عادتك الإحسان إلى المسيئين وسبيلك الإبقاء على المعتدين)(2) فجميع خلقه حتى الذين يبارزونه بالمعصية والإنكار يرفلون بنعمه التي لا تعد ولا تحصى.

وهناك رحمة خاصة يمنُّ بها على عباده المؤمنين الذين عرفوه ودلّهم عليه بفضله وكرمه وهداهم إلى طاعته فراحوا يتحروّن رضاه، وهي التي أشير إليها في الحديث النبوي الشريف (اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرّضوا لنفحات الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (تعرّضوا لرحمة الله بما أمركم به من طاعته)(3) والتعرض لها يعني التعرض لأسبابها وموجباتها،

ص: 49


1- إقبال الأعمال:ج3 ص211.
2- السابق:ص210.
3- تنبيه الخواطر :ج2 ص120.

كما في الدعاء (اللهم إني أسألك موجبات رحمتك) (1).

تعرضوا لرحمة الله تعالى:

وقد ورد في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة ذكر الكثير من هذه الموجبات للرحمة الإلهية، فنحن لا يمكن أن نعرفها ونهتدي إليها إلا أن يهدينا الله تبارك وتعالى {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَ-ذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ} (الأعراف:43).

وبعض هذه الأسباب لا يكون الإنسان مسؤولاً عن توفيرها وإنما جعلها الله بكرمه وفضله وليس على العاقل الكيِّس إلا استثمارها والتعرض لها كالأضرحة المقدسة للمعصومين (سلام الله عليهم) وقد حبانا الله تعالى نحن العراقيين بالعديد من أبواب الرحمة هذه، ومنها عموم المساجد، ومنها صلاة الجمعة والجماعة وحلقات العلم والمذاكرة، وعموم التجمعات الإيمانية، والأزمنة الشريفة كليلة الجمعة ويومها، ومنها هذا الشهر الشريف:شهر رجب الذي لقب في الأحاديث الشريفة بالأصّب لأن الرحمة تُصبّ فيه صبّاً.

ما تستدر به الرحمة الإلهية:

ومن أسباب الرحمة الإلهية ما يوفرها الإنسان بفضل الله تبارك وتعالى، وقد وجدت من أهل تلك الموجبات الاتصاف بالرحمة بحيث تكون محركة لأفعاله ومنبعاً لمشاعره وتبنى عليها علاقاته مع الآخرين من خلال الرحمة بهم والشفقة عليهم والرفق بهم ومداراتهم والتفاعل مع قضاياهم وحوائجهم عن أمير

ص: 50


1- البحار:ج83 ص63.

المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(أبلغ ما تُستّدر به الرحمة أن تضمر لجميع الناس الرحمة)(1)، لأن الرحمة من صفات الله تبارك وتعالى، وقد وصف الله عباده الذين رضي عنهم بأنهم {رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} (الفتح:29) {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} (البلد:17) {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} (الحديد:27) وقال تعالى {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} (الأعراف:56).وفي الأحاديث الشريفة عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (من لا يرحم لا يُرحم)(2) (إنما يرحم الله من عباده الرحماء)(3) (من رحم ولو ذبيحة عصفور رحمه الله)(4) (الراحمون يرحمهم الرحمن يوم القيامة، أرحم من في الأرض يرحمك من في السماء)(5) (قال رجل للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):أحب أن يرحمني ربّي قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):ارحم نفسك وارحم خلق الله يرحمك الله)(6).

والرحمة بالآخرين تبدأ من رحمة نفسه بأن يجنبّها ما يضرّها في الدنيا ككثير من الحماقات والأفعال اللاعقلائية كالتدخين وصرف الأموال الطائلة في اللهو والعبث، وما يضرّها في الآخرة كارتكاب المعاصي والعياذ بالله وصرف العمر في التفاهات وعدم التفقه في أمور الدين والمعرفة الضرورية.8.

ص: 51


1- ميزان الحكمة:ج2 /ص1050.
2- الوسائل:ج4 /ص197.
3- البحار:ج79 /ص91.
4- كنز العمال:ج6 /ص263.
5- البحار:ج74 /ص167.
6- كنز العمال:ج16 /ص128.

ثم تتوسع الرحمة إلى من يليه في بيته كوالديه، قال تعالى {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} (الإسراء 23-24).ثم الرحمة بالزوجة والزوج بالنسبة للمرأة، قال تعالى ممتناً على عباده {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم:21) وورد في الحديث الشريف (اتقوا الله في الضعيفين اليتيم والمرأة)(1) ثم الرحمة بالأقرباء وقد اشتق لهم اسم من الرحمة فيقال لهم الأرحام والأوامر في صلة الرحم كثيرة والنواهي عن قطعه شديدة.

ثم الرحمة بالآخرين خصوصاً إذا كانوا من ذوي الحاجة والمرضى والفقراء والمبتلين ببلاء ما، وهكذا حتى يمتلئ قلبه رحمة وشفقة على كل الموجودات، ومنبع هذه الرحمات كلها تقوى الله تبارك وتعالى وحب الله تبارك وتعالى، فالتقوى تردعه عن ظلم الآخرين والإساءة إليهم والتقصير في أداء حقوقهم وحب الله يترشح منه حب الخير لجميع الخلق حتى أعدائه بأن يسأل الله تعالى لهم الصلاح والهدى لأن الجميع عيال الله تبارك وتعالى، وخلقه فيحبهم حباً لخالقهم وربّهم ومدبر شؤونهم (وقد ورد في الحديث: (الخلق عيال الله تعالى فأحب الخلق إلى الله من نفع عيال الله, أو أدخل على أهل بيت سروراً...)(2) وفي حديث73

ص: 52


1- البحار:ج76 /ص268.
2- بحار الأنوار- المجلسي: 71/ 316/ح73

آخر عن الإمام الكاظم عن مثل هذا الشخص أنه معنا في درجتنا.

كالوالد الرحيم:

وكلما ازدادت ساحة مسؤولية الفرد، ازداد مقدار الرحمة الواجب توفرها، سواء كانت المسؤولية دينية - كالمرجعية الدينية ومعتمديها- أو سياسية - ككبار مسؤولي الدولة- أو اجتماعية - كزعماء العشائر أو وجهاء المجتمع- أو إدارية - كمدير الدائرة أو المدرسة- أو تعليمية- كالمدرس مع طلبته- في كتاب الخصال بسنده عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن أبيه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إن الإمامة لا تصلح إلا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن المحارم، وحلم يملك به غضبه، وحسن الخلافة على من وُلّيَ حتى يكون له كالوالد الرحيم)(1) والحديث مطلق يشمل أي إمامة ورئاسة وزعامة مما ذكرنا.

من موجبات الرحمة:

وللرحمة الإلهية موجبات أخرى، وهي كثيرة نذكر منها شيئاً مختصراً لإلفات نظركم.

منها:طاعة الله ورسوله قال تعالى {وَأَطِيعُ-واْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (آل عمران:132) وقال تعالى {وَأَقِيمُوا الصَّ-لاةَ وَآتُ-وا الزَّكَ-اةَ وَأَطِيعُ-وا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (النور:56) وقال تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} (النساء:175).

ص: 53


1- الكافي:ج1 /ص407.

ومنها:الصبر على المصائب قال تعالى {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّ-ا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ، أُولَ-ئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَ-ئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة:156-157).ومنها:الاستغفار قال تعالى {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (النمل:46).

ومنها:الإصلاح بين الإخوة المتخاصمين، قال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(الحجرات:10).

ومنها:ما ورد في الأحاديث الكثيرة من قولهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) رحم الله امرءاً كذا وكذا، كقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(رحم الله امرءاً أحيا حقاً وأمات باطلاً، وأدحض الجور وأقام العدل)(1) وقوله (رحم الله امرءاً علم أن نفسه خطاه إلى أجله فبادر عمله وقصّر أمله)(2).

ومنها:ما عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)أنه قال (سبعة يُظلهم الله عز وجل في ظله يوم لا ظلّ إلا ظلُّه:إمام عادل، وشابٌ نشأ في عبادة الله عز وجل، ورجل قلبه متعلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان كانا في طاعة الله عز وجل فاجتمعا على ذلك وتفرّقا، ورجل ذكر الله عز وجل خالياً ففاضت عيناه من خشية الله عز وجل، ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال، فقال:إني أخاف الله عز وجل، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى52

ص: 54


1- الواسطي :ص261
2- ميزان الحكمة :ج 2 /ص 1052

لا تعلم شماله ما يتصدق بيمينه)(1).نسأل الله تعالى أن يتغمدنا برحمته في الدنيا والآخرة وأن يوفقنا لموجبات رحمته إنه لطيف بعباده.42

ص: 55


1- الخصال للصدوق:2/ 342

القبس/44: سورة الأعراف:157

{ويَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}

يبيّن هذا المقطع من الآية مظهراً من مظاهر الرحمة الالهية وصفة من صفات النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وغرضاً من إرساله بهذه الشريعة السمحاء {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج:78) و(الإصر) الشد الوثيق لذا توصف علاقة الأرحام بالآصرة واستُعْمِلَ المصطلح في الكيمياء فيُقال (الآصرة الأيونية والآصرة التساهمية) ويُطلق على العهد والميثاق بالإصْر لأنه يشدّ صاحبه الى الالتزام به قال تعالى:{أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} (آل عمران:81) ولما كان الشد الوثيق يشكّل عبئاً ثقيلاً ومشقةً على صاحبه اُطلِق الإصر على الحِملِ الشاق وما يحبس الشيء ويمنعه بالقوة، فالإصر هنا في الآية ما يثبّط الناس عن فعل الخيرات ويمنع من تحصيلهم الثواب.

و(الأغلال) بمعنى القيود كما هو واضح، والمقصود بها هنا الأغلال المعنوية والعملية التي يشق عليهم تحملها والالتزام بها, وتعيق سعيهم لنيل السعادة والفلاح.

فيكون معنى الآية ان الهدف من الشريعة الالهية التي جاء بها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هو رفع وإزالة هذه الآصار والأغلال عن الناس ليعيشوا السماحة واليسر في حياتهم وليكونوا أحراراً في دنياهم غير مُكبلّين بالقيود التي تعيق حركتهم نحو الكمال والسعادة والفلاح ببركة إرسال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الى هذه الامة المرحومة .

ص: 56

ويمكن ان نفهم عدة أشكال لهذه الأعباء والأغلال والمعوّقات التي بُعث النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالشريعة الاسلامية لرفعها ووضعها عن الأمة:1-أنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ألغى من حياتهم التشريعات الشاقة التي كتبت على الامم السابقة عقوبة لهم أو أنهم ابتدعوها من عندهم كاشتراط قتل النفس لصحة التوبة {فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} (البقرة:54) أو قطع الاعضاء التي تقع في الخطيئة أو قرض موضع النجاسة من البدن والثوب أو صوم الوصال ونحو ذلك، هذه التي جمعها قوله تعالى:{رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} (البقرة:286) او الرهبنة والانعزال {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} (الحديد:27).

2-أنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حررهم من كل القيود والأغلال العقائدية والفكرية والنفسية والاجتماعية التي تصيب بصيرته بالغشاوة وتضرب على عقله بالقيود فيعمى عن رؤية الحق وتُكبّل إرادة الناس وتعيق حركة الاصلاح لأننا بعد ان عرفنا معنى الإصر والأغلال وأنها ما يمنع الناس عن الترقي والكمال فإذا هي تشمل كل ما يعيق هذه الحركة سواء كانت قيوداً للفكر أو السلوك أو الاعتقاد أو التعامل مع الآخرين وغير ذلك، فمن الأغلال العقائدية:الشرك والكفر والإلحاد والوثنية، ومن الاغلال الفكرية:الجهل والغفلة والتخلف والخرافة، ومن الأغلال الاجتماعية:الطبقية والتمييز والاستكبار والاستضعاف والاستعباد والفقر والظلم والحرمان والموروثات والتقاليد البالية التي تكون حجر عثرة في طريق الاصلاح، ومن الأغلال النفسية الحقد والكراهية والغرور والأنانية والتعصب سواء كان لأشخاص أو عشائر أو فِرَقْ أو أحزاب أو قوميات أو طوائف أو حتى مرجعيات

ص: 57

دينية, لأنها هذه كلها وغيرها مما يصدّ عن الحق ويضع غشاوة على بصيرته ويفسد فطرته ويعيق حركة التكامل ويمنع الانسان من اختيار الطريق الصحيح بحرية وارادة وموضوعية، وكيف يستطيع من كُبِّل بواحد أو أكثر من هذه القيود أن يصل الى الحق ويتعرف عليه فضلاً عن التوفيق للعمل به لذا ورد في الدعاء (اللهم أرني الحق حقا حتى أتبعه)(1) .3-إن المراد بالآصار والأغلال:الصعوبات والبلاءات التي تُصيب الانسان، فوضعها عن المسلمين يُراد منه أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بيّن لهم الوسيلة التي تحميهم وتجنبُهم من هذه البلاءات والكوارث التي تصيب الناس عندما ينغمسون في المعاصي ويتمردون على السنن الإلهية {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (الشورى:30) فمن الرحمة الالهية التي جاء بها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للبشرية أنه علمهم كيف يخلصون أنفسهم ومجتمعاتهم من هذه البلاءات {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (يونس98).

وقد اعترف الغرب اليوم بعد عجزه عن إيقاف تمدد الأمراض الفتاكة كالإيدز وامثاله والصراعات التي تهلك الحرث والنسل بان العلاج الناجح الوحيد هو بالعودة الى الإيمان بالله والقيم الروحية والمبادئ الانسانية.

ومضافا الى ما تقدم من الوجوه ومستويات الفهم فأننا نستطيع ان نستخلص عدة دلالات من هذه الفقرة القرآنية:0.

ص: 58


1- إعانة الطالبين- البكري الدمياطي: 1/ 215، وفي بحار الأنوار- المجلسي: 83/ 120.

أولاً:ان الشريعة الالهية توفر الحرية الحقيقية للإنسان لأنها تحرره من كل القيود والاغلال التي تكبّله، فهي تخل-ّصه أولاً من عبودية نفسه الأمارة بالسوء التي تدعوه الى طاعة الشهوات والاهواء والانفعالات وهي لا عقل لها فتوقعه في المهالك وهذه نتيجة حتمية لا تحتاج الى دليل لأن الواقع المزري للبعيدين عن القانون الالهي شاهد على ذلك، وتخل-ّصه ثانياً من عبودية غيره من بني جنسه من البشر كالحكام المستبدين والطواغيت وسدنة المعابد وأدعياء العناوين المقدسة المتاجرين بالدين من أجل الدنيا وحيازة المغانم والمصالح لذواتهم على حساب الناس، وتحرّره من القلق والأوهام والضيق والاضطراب وكل الضغوط {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد:28).فالحرية بمعناها الانساني النبيل تحققها الشريعة الالهية الحقّة أما الابتعاد عنها فيؤدي الى الشقاء والهلاك والالم في الدنيا قبل الاخرة، وليست الحرية بمعنى الانفلات والتمرد على السنن الإلهية الحاكمة في الكون والانسان.

ثانياً:أن هذه الشريعة المباركة دليل على صدق النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في دعواه بأنه مُرسل من الله تبارك وتعالى لهداية البشر وإصلاحهم، لأنه حارب كل تلك الأغلال والآصار وسعى بكل جهده لتخليص الناس منها فدعا الناس الى توحيد الخالق العظيم ونبذ كل الالهة المصطنعة ووضع لهم قوانين العدالة والمساواة بين الناس جميعاً أمام القانون وحارب الطبقية والتمييز ونشر الأخلاق والفضيلة ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي والظلم، وحثَّ على العلم والمعرفة بشكل مذهل.

ولو كان مدعياً بغير حق ويبتغي بدعواه الوصول الى السلطة والنفوذ وحيازة الدنيا لأستعبدَ الناس واستأثرَ بخيراتهم ولأبقاهم على قيود الجهل والغفلة

ص: 59

والتخلف ليسيطر عليهم ويتمكن من مقدراتهم كما يفعل كل الطغاة والمستبدين.وهذا معيار ينفع في تمييز القيادات الحقة في كل المجالات واولها القيادات الدينية التي يفترض انها تمثل نيابة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، لأن القرآن الكريم ومنه هذه الآية عامُ شاملٌ لكل البشر وخالدٌ الى قيام يوم الساعة ولا يمكن تحجيم دوره بفترة نزوله.

ثالثاً:ان الآية فيها وعد وترغيب وتطمين للمؤمنين بأنهم إذا امنوا بالنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأتبعوا تعاليمه واستقاموا على دينه فان الله تعالى سيرفع عنهم الكثير من الصعوبات والمكاره والبلاءات, وسيضع عنهم هذه الأغلال والاصار, وسيرحمهم.

رابعاً:إن هذه الفقرة من الآية الكريمة تعرّفنا على جانب مشرق من سيرة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وثمرات شريعته المباركة إذ لولا كونه رحيماً شفيقاً ودوداً له أخلاق عظيمة لما استطاع تأدية هذا الدور المبارك في رحمة العباد، وبهذه المعرفة نزداد حباً لأن المعرفة تولد الحب، وهل يمكن أن يحب الانسان شيئاً يجهله ولا يعرف عنه شيئا، والحب يحرّك نحو اتباع المحبوب وهو رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

خامساً:إن الآية والمعرفة التي استخلصناها منها تحمّل-ُنا مسؤولية إعانة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في تحقيق أهدافه المذكورة وهي وضع الآصار والأغلال عن الامة وتحريرها من قيودها من خلال تفعيل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمساعدة الناس على إزالة هذه الآصار والأغلال, والشاهد على ذلك أن نفس هذه الآية تضمّنت دعوة مباشرة لاتباعه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ليعينوه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على رسالته الخالدة فيقع اجرهم على الله تبارك وتعالى وعلى رسوله الكريم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال تعالى في ذيل هذه الآية {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ

ص: 60

مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف:157) وهذه الآية وسائر آيات القرآن الكريم ليست خاصة بأصحابه الذين كانوا معه، بل تشمل كل المؤمنين به (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الى نهاية الدنيا، وهم جميعا مطالبون بهذه النصرة والمؤازرة والإعانة، وتختم الآية بقول حازم وهو أن هؤلاء الذين يجمعون هذه الأوصاف هم المفلحون لا غيرهم لأنها ظاهرة في الحصر. أعاننا الله تعالى وجميع المؤمنين على أن نكون بهذه الصفات بلطفه وكرمه.

ص: 61

القبس/45: سورة الأعراف:157

اشارة

{وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِي أُنزِلَ مَعَهُۥ}

موضوع القبس:القرآن نور

القرآن نور:

لقد وصف القرآن الكريم نفسه بأوصاف كثيرة(1) منها انه (نور) قال تعالى {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (المائدة:15), وقال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} (النساء 174), وقال تعالى {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف:157), {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الشورى:52).

وقد ورد في الاحاديث الشريفة مثل ذلك, عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (إن هذا القرآن حبل الله والنور المبين) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (عليك بتلاوة القرآن, فانه نور لك في الارض وذخر لك في السماء) وقال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في القرآن (واستشفوا بنوره فانه شفاء الصدور)(2) ومن دعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عند ختم

ص: 62


1- ملحق شكوى القرآن, من نور القرآن: 3/ 284
2- تجد هذه الروايات ومصادرها في ميزان الحكمة :9/ 177-184.

القرآن (وجعلته نوراً نهتدي من ظلم الضلالة والجهالة باتباعه)(1).

القرآن ينير طريق الهداية:

ويُعرَّف النور في معاجم اللغة بانه (ما كان ظاهراً بنفسه ومُظِهر للأشياء الأخرى)(2) فإن العين لا ترى ولا تكتشف ما حولها إلا إذا سقط عليها الضوء وانتقل الى العين, وهذا هو دور القرآن الكريم فإنه ينير طريق الهداية والايمان والصلاح والسعادة {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} (الأنعام:122), فمن اهتدى بنوره كان من المفلحين كما في سورة الاعراف المتقدمة, لأن فيه مصابيح النور, عن الامام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إن هذا القرآن فيه مصابيح النور)(3).

وهذا وصف طبيعي للقرآن لأنه يتضمن بيان كل ما يقرّب الى الله تعالى من الطاعات التي هي كالمصابيح التي توّلد النور, قال تعالى {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الإسراء:9) وأشرف تلك المصابيح واشدها ضياءاً رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال تعالى {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (الأحزاب:46).

نور الولاية:

وولاية امير المؤمنين وأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) واتباعهم نور, ورد في تفسير قوله تعالى {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} (الأعراف:157) في الكافي عن ابي عبد

ص: 63


1- الصحيفة السجادية:115.
2- لسان العرب- ابن منظور: 5/ 240
3- بحار الأنوار- المجلسي: 75/ 112

الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(النور في هذا الموضع امير المؤمنين والائمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)(1) ومثله في تفسير علي ابن ابراهيم والعياشي عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مثله.وفي موضع اخر عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (فالذين امنوا به) يعني بالامام (وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون، يعني الذين اجتنبوا الجبت والطاغوت أن يعبدوها، والجبت والطاغوت فلان وفلان وفلان، والعبادة طاعة الناس لهم)(2) قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إِنَّمَا مَثَلِي بَيْنَكُمْ كَمَثَلِ اَلسِّرَاجِ فِي اَلظُّلْمَةِ يَسْتَضِي ءُ بِهِ مَنْ وَلَجَهَا) (3).

نور التقوى:

والتقوى نور قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الحديد 28).

وبصورة عامة فان الدين والرسالة السماوية بما تضمنت من عقائد واحكام واخلاق هي مصدر النور، قال تعالى {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (الصف:8) وعن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (الدين نور)(4).

ص: 64


1- الكافي :1/ 150/ ح2.
2- الكافي :1/ 355/ ح83.
3- نهج البلاغة: 127/خطبة187,- ميزان الحكمة- الريشهري: 10/ 339
4- غرر الحكم :213.

أنوار العبادات والطاعات:

وقد ورد في روايات ذكر بعض تلك المصابيح كأداء الصلاة المفروضة خصوصاً في أوقات فضيلتها، عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(الصلاة نور)(1), ومناسك الحج نور قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (إذا رميت الجمار كان لك نوراً يوم القيامة)(2)، وكل عمل فيه اعزاز الدين ونصره نور، قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (من رمى بسهمٍ في سبيل الله فبلغ أخطاء أو أصاب كان سهمه ذلك, كعدل رقبة من ولد إسماعيل. ومن خرجت به شيبة في سبيل الله, كان له نوراً يوم القيامة)(3)، ومن اجتنب ظلم الآخرين بكل أشكال الظلم والتجاوز والتعدي أعطاه الله نوراً، قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (لا تظلم أحداً تُحشر يوم القيامة في النور)(4)، وصلاة الليل وسائر الطاعات والعبادات عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ما تركت صلاة الليل منذ سمعت قول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):صلاة الليل نور)(5)، ومما يوجب النور تجديد الطهور في غير أوقات الصلاة، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(الوضوء على الوضوء نورٌ على نور)(6)، واستنقاذ حقوق الاخرين نور عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (من شهد شهادة ليحيي بها حق امرئ مسلم اتى يوم القيامة ولوجهه نور مدًّ النضر يعرفه الخلق باسمه ونسبه)(7) ومما يوجب

ص: 65


1- مستدرك الوسائل- المحدث النوري: 3/ 92
2- ميزان الحكمة- الريشهري: 4/ 3390
3- عوالي اللئالي- الشيخ الأحسائي: 1/ 84/ح10
4- ميزان الحكمة- الريشهري: 2/ 1772
5- بحار الأنوار- العلامة المجلسي: 41/ 17
6- وسائل الشيعة:1/ 265 /ح8.
7- الأمالي- الشيخ الصدوق: 570/ح4

النور الشيب في طاعة الله تعالى، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(ما رأيت شيئاً أسرع إلى شيء من الشيب إلى المؤمن، وإنّه وقارٌ للمؤمن في الدنيا، ونورٌ ساطعٌ يوم القيامة)(1) وهكذا.

الحذر من وادي الذنوب وقطّاع الطريق المعنوي:

إن الانسان في هذه الدنيا لابد ان يكون له منهج يسير عليه وغاية يسعى لتحقيقها، وإنما يحصد النتائج بحسب نوع المنهج وراسمه والمخطط له، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضئ بنور علمه)(2) ولأن في القرآن مصابيح النور، ولا يستطيع الانسان أن يتقدم إلا بضياء ينير له الدرب وإلاّ كان كمن يسافر في الصحراء في ليلة مظلمة بلا دليل فيكون معرضاً لعدة أخطار:حيوانات مفترسة تمزّقه، أو لصوص وقطّاع طرق يقتلونه ويسلبونه، أو آبار وأودية يهوي فيها، أو يضل الطريق ويتيه وينفد ما عنده من ماء وطعام، وهذه هي الأخطار التي يواجهها من لا نور معه في حياته المعنوية فتفترسه الذئاب البشرية وقطّاع الطرق ليسرقوا دينه وإنسانيته فيهوي في وادي الذنوب السحيق ويحرم من الزاد ليوم المعاد وهو التقوى.

عليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع:

وقد دل الله تعالى على النور الذي يهدي به الانسان في حياته ويميز به الصواب في سائر اموره وما احوج الانسان الى مثله لينقذه من التخبط والضياع

ص: 66


1- أمالي الطوسي:699، ح1492.
2- نهج البلاغة: 70/ كتاب45

والمزالق، وذلك بالتقوى قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الحديد:28)، وما الذي يهدي الى التقوى ويحصلها انه القران الكريم قال تعالى {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة:2)، لذا أُمرنا باتخاذ القرآن إماماً وقائداً وهادياً، فمن اراد أن يكون له فرقان في الدنيا يميز به بين الحق والباطل وينير بصيرته ويأخذ بيده على الصراط المستقيم فليجعل القرآن إماماً له وقائداً يقتبس من نور مصابيحه قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (فاذا التبست الامور عليكم كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن, فإنه شافع مشفع, وماحل مصدَّق, ومن جعله أمامه قاده الى الجنة, ومن جعله خلفه قاده الى النار)(1) وإنما يجعله أمامه باتباعه والعمل بما فيه والاستضاءة بنوره, ويجعله خلفه باستدباره والاعراض عما فيه وعدم الاعتناء بأوامره ونواهيه.وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (علَيكُم بالقرآنِ، فاتَّخِذُوهُ إماماً وقائداً)(2) وقال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في صفة القرآن (ونوراً ليس معه ظلمة).

تجلي الأنوار الإلهية:

وقد يتجلى هذا النور الباطني المعنوي الذي يهدي البصائر من خلال نورٍ ظاهري تكتشفه الحواس وتهتدي به، سئل الامام زين العابدين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مابال المتهجدين بالليل من احسن الناس وجها؟ قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لانهم خلوا بالله فكساهم

ص: 67


1- راجع المصادر في ميزان الحكمة :7/ 237-240.
2- ميزان الحكمة - الريشهري:3 / 2518

الله من نوره)(1).وروى صاحب مفاتيح الجنان عن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حادثة مباغتة جيش المشركين لسرية المسلمين في الليل وهم نيام فلم يتبيّن المسلمون الامر حتى يعرفوا ما يفعلون وكاد العدو يستأصلهم واذا بأضواء تسطع من افواه اربعة منهم كانوا يحيون الليل بالعبادة وتلاوة القرآن تضيئُ معسكر المسلمين فتمدهم بالقوة والشجاعة وواجهوا المشركين وقتلوهم فلما رجعوا قصوا على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ما وقع. قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (ان هذه الانوار قد كانت لما عمله اخوانكم هؤلاء من اعمال في غرّة شعبان)(2).

تنوّروا بالقرآن ليكون معيناً لكم يوم فقركم:

هذا النور الذي تقتبسه في الدنيا ستكون أحوج شيء اليه في حياة ما بعد الدنيا إلى القيامة ففي القبر حيث الوحشة والظلمة سينير القرآن لأهله، من دعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ونوّر به قبل البعث سُدَفَ قبورنا، ونجّنا به من كلّ كرب يوم القيامة وشدائد أهوال الطامة)(3)، وما أحوجنا إلى النور في يوم القيامة ليضيء لك طريق النجاة ونتوقى مزالق الهلكة, قال تعالى في وصف أحوال يوم القيامة {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ

ص: 68


1- علل الشرائع :366 / ح1.
2- مفاتيح الجنان:296 اعمال اليوم الاول من شعبان.
3- الصحيفة السجادية الكاملة: 206

ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} (الحديد12-13), وورد عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في تفسير الآية قال (ثم يقول - يعني الرب تبارك وتعالى - ارفعوا رؤوسكم, فيرفعون رؤوسهم فيعطيهم نورهم على قدر أعمالهم, فمنهم من يُعطى نوره مثل الجبل العظيم يسعى بين يديه, ومنهم من يُعطى نوره اصغر من ذلك, ومنهم من يُعطى نوره مثل النخلة بيده, ومنهم من يُعطى أصغر من ذلك ,حتى يكون آخرهم رجلاً يُعطى نوره على إبهام قدميه يضيئ مرة ويُطفأ مرة)(1).فليهيئ الإنسان في هذه الدنيا أكثر ما يستطيع من مصابيح النور(2) ليوم القيامة بما يكتسبه من الطاعات ويجتنبه من المعاصي، إلهي هَبْ لي كَمالَ الْانْقِطاعِ إلَيكَ وَ أَنِرْ أَبْصارَ قُلُوبِنا بِضياءِ نَظَرِها إِلَيكَ حَتّى تَخْرِقَ أَبْصارُ الْقُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ إلى مَعْدِنِ الْعَظَمَةِ وَ تَصيرَ أرْواحُنا مُعَلَّقَةً بعِزِّ قُدْسكَ(3).).

ص: 69


1- الدر المنثور- السيوطي: 6/ 256
2- راجع قبس/95 {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (طه:124), من نور القرآن: 3/ 139
3- مفاتيح الجنان:296 من المناجاة الشعبانية لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

القبس/46: سورة الأعراف:164 165

اشارة

{وَإِذ قَالَت أُمَّة مِّنهُم لِمَ تَعِظُونَ قَومًا ٱللَّهُ مُهلِكُهُم أَو مُعَذِّبُهُم عَذَابا شَدِيدا ۖ قَالُواْ مَعذِرَةً إِلَى رَبِّكُم وَلَعَلَّهُم يَتَّقُونَ164 فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}

موضوع القبس/ وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر قرآنيا:5

تقريب الاستدلال ينطلق من الروايات الشريفة، ففي الخصال بسنده عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير الآية قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(كانوا ثلاثة أصناف:صنف ائتمروا وأمروا فنجوا، وصنف ائتمروا ولم يأمروا فمُسخوا ذرّاً، وصنف لم يأتمروا ولم يأمروا فهلكوا)(1).

أقول:تقريب دلالة الاية على وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر واضح لأن الآية صرّحت بنجاة الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر فقط ووصفت الصنفين الآخرين بالظالمين واستحقاقهم العقاب، ولو لم تكن هذه الوظيفة واجبة لما استحق الصنف الثاني القاعد عن أداء الفريضة الذين ائتمروا ولم يأمروا العذاب.

ويظهر من الآية أن هذا الصنف التارك لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هم الذين قالوا{لم تعظون قوماً} لأنهم بحسب الظاهر غير الواعظ

ص: 70


1- الخصال:100، ح54.

وغير المنهي فيتعين بهم، ويظهر أنهم محسوبون على المتدينين الملتزمين بالشريعة وربما يظهر من كلامهم أنهم كارهون لفعل المنكر، مبررين سكوتهم بأنه لم يكن عن معصية لوجوب هذه الفريضة وإنما ليأسهم من صلاح العصاة، وإن كان سكوتهم عن ردع المعتدين لا ينمّ عن وجود غضب لله تبارك وتعالى.قال السيد الطباطبائي (قدس سره):((وفي الآية دلالة على أن الناجين كانوا هم الناهين عن السوء فقط، وقد أخذ الله الباقين، وهم الذين يعدون في السبت والذين قالوا:(لم تعظون) إلخ وفيه دلالة على أن اللائمين كانوا مشاركين للعادين في ظلمهم وفسقهم حيث تركوا عظتهم ولم يهجروهم.

وفي الآية دلالة على سنة إلهية عامة، وهي أن عدم ردع الظالمين عن ظلمهم بمنع، وعظة إن لم يمكن المنع أو هجره إن لم تمكن العظة أو بطل تأثيرها، مشاركة معهم في ظلمهم، وأن الأخذ الإلهي الشديد كما يرصد الظالمين كذلك يرصد مشاركيهم في ظلمهم))(1).

أقول:ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى في سورة العصر:{إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْر ، إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} فلا يكفي لخروج الإنسان من حالة الخسر أن يكون صالحاً في نفسه بالإيمان والعمل الصالح، بل لا بد أن يكون إنساناً مصلحاً للمجتمع وفاعلاً في عملية التغيير بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر.

((وفي قولهم (إلى ربكم) حيث أضافوا الرب إلى اللائمين ولم يقولوا إلى ربّنا إشارة إلى أن التكليف بالعظة ليس مختصاً بنا بل أنتم أيضاً مثلنا يجب عليكم1.

ص: 71


1- الميزان في تفسير القرآن:8/ 301.

أن تعظوهم لأن ربكم لمكان ربوبيته يجب أن يُعتذر إليه، ويبذل الجهد في فراغ الذمة من تكاليفه والوظائف التي أحالها إلى عباده، وأنتم مربوبون له كما نحن مربوبون فعليكم من التكاليف ما هو علينا))(1).أقول:هذه التفاتة لطيفة، وهي لا تناسب وصفه للأمة اللائمة بأنهم ((كانوا أهل تقوى يجتنبون مخالفة الأمر إلا أنهم تركوا نهيهم عن المنكر فخالطوهم وعاشروهم ولو كان هؤلاء اللائمون من المتعدين الفاسقين لوعظهم أولئك الملومون، ولم يجتنبوهم بمثل قولهم (معذرة))).

أقول:يكفي قولهم:(ربكم) لوعظهم وتذكيرهم بحقوق الربوبية عليهم.

وهنا يثار إشكال على استعمال لفظ: (نَسُوا) له تقريبان:-

1-إن هؤلاء لم يكونوا ناسين بل كانوا ذاكرين وملتفتين إلى مغبة العمل.

2-إذا كانوا ناسين فإن الناسي معذور ويقبح عقابه، فلماذا أخذوا بعذاب بئيس.

ونكتفي في الجواب بما قاله السيد الطباطبائي (قدس سره): ((وقوله تعالى:(فلما نسوا ما ذكّروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء) المراد بنسيانهم ما ذكروا انقطاع تأثير الذكر في نفوسهم وإن كانوا ذاكرين لنفس التذكر حقيقة فإنما الأخذ الإلهي مسبب عن الاستهانة بأمره والإعراض عن ذكره، بل حقيقة النسيان بحسب الطبع مانع عن فعلية التكليف وحلول العقوبة.

فالإنسان يطوف عليه طائف من توفيق الله يذكره بتكاليف هامة إلهية ثم إن استقام وثبت، وإن ترك الاستقامة ولم يزجره زاجر باطني ولا ردعه رادع نفساني1.

ص: 72


1- النص وما بعده في الميزان في تفسير القرآن:8/ 300-301.

عدا حدود الله بالمعصية غير أنه في بادئ أمره يتألم تألماً باطنياً ويتحرج تحرجا قلبياً من ذلك ثم إذا عاد إليها ثانياً من غير توبة زادت صورة المعصية في نفسه تمكناً، وضعف أثر التذكير وهان أمره، وكلما عاد إليها وتكررت منه المخالفة زادت تلك قوة وهذه ضعفاً حتى يزول أثر التذكير من أصله، ساوى وجوده عدمه فلحق بالنسيان في عدم التأثير، وهو المراد بقوله:(فلما نسوا ما ذكروا) أي زال أثره كأنه منسي زائل، الصورة عن النفس)).أقول:تقدمت الإشارة إلى هذا المعنى في فصل (تاريخ الفريضة) في الجزء الأول من كتاب اسمى الفرائض(1)، حينما طبقنا تدرّج ترك هذه الفريضة الذي ورد في الحديث النبوي الشريف (كيف بكم) على صعيد داخل النفس.

في تفسير الإمام العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من حديث (وذلك أن طائفة منهم وعظوهم وزجروهم، ومن الله خوفوهم، ومن انتقامه وشديد بأسه حذّروهم، فأجابوهم عن وعظهم:{لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ} بذنوبهم هلاك الاصطلام {أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} فأجابوا القائلين لهم هذا:{مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ} إذ كُلِّفنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فنحن ننهى عن المنكر ليعلم ربُّنا مخالفتنا لهم وكراهتنا لفعلهم، قالوا:{وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ونعظهم أيضاً لعلهم تنجع فيهم المواعظ، فيتقوا هذه الموبقة، ويحذروا عقوبتها)(2).9.

ص: 73


1- فقه الخلاف: 8/ 11
2- تفسير البرهان للسيد هاشم البحراني:4/ 129.

وروى في الدر المنثور بسنده عن عكرمة قال:(جئت ابن عباس يوماً وهو يبكي، وإذا المصحف في حجره، فقلتُ:ما يبكيك يا ابن عباس؟ قال:هؤلاء الورقات، وإذا في سورة الأعراف) ثم ذكر هذه الآيات وفسّرها إلى أن قال:(فأرى الذين نهوا قد نجوا ولا أرى الآخرين ذكروا، ونحن نرى أشياء ننكرها ولا نقول فيها)(1).والآية تنفع في البحث عن الشرط الذي ذكروه للوجوب وهو التأثير في المقابل أي المأمور المنهي، كما أن في الآية رداً على القول بالوجوب الكفائي، لأن النهي قد تحقق بموعظة البعض فلماذا أُخذ البعض الآخر -وهم الساكتون - بعذاب بئيس؟ فالوجوب إذن لا يسقط بقيام البعض حتى ينتفي الموضوع.9.

ص: 74


1- الدر المنثور:3/ 589.

القبس/47 : سورة الأعراف:201

اشارة

{إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُم طَئِف مِّنَ ٱلشَّيطَنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}

موضوع القبس:مواعظ ودروس

يمكن فهم الآية من خلال استخلاص عدد من المواعظ والدروس التربوية منها:

1-إن الإنسان مهما ارتقت درجته في العبادة والطاعة معرض للزلل بغواية الشيطان التي تبتدئ بأفكار ووساوس وتسويلات يلقيها الشيطان في قلب الانسان وعقله سمّتها الآية بطائف من الشيطان ثم يتحول الى قناعات ورغبات فالآية وصفتهم ببلوغ درجة المتقين والشيطان لم يتركهم، ولا ينجو من مكائد الشيطان الا المعصومون (سلام الله عليهم)، وهذا ما توعد به ابليس منذ خُلق البشر {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (ص:82-83) فكلنا بجميع درجاتنا وعلى اختلاف أحوالنا وأعمارنا شباباً وشيباً رجالا ونساءاً معرضون لهذا الابتلاء وإلقاء الوساوس وطواف الشيطان على القلب والعقل، لكن قد تختلف هذه الوساوس والاثارات بين البشر فالشباب لهم بلاءهم ورغباتهم وإثاراتهم والحوزة لها اختبارها والأثرياء والفقراء لكل منهم امتحانهم والذي في الغرب والذي في البيئة المسلمة واساتذة الجامعات والسياسيون وهكذا كل فرد يحس بهذا الضغط والتزيين باتجاه ما يحاول الشيطان أن ينفذ من خلاله، فعلى

ص: 75

الجميع الحذر والمراقبة والوعي والتفقّه حتى يغلقوا على الشيطان منافذه.2-إن الدرع الحصينة التي يلتجئ اليها الإنسان للوقاية من كيد الشيطان وإغرائه هي التقوى لأن الآية ذكرت أن المتقين هم الذين لا يفلح الشيطان في استغفالهم وأنهم سرعان ما يتذكرون إذا حام الشيطان حول قلوبهم، وتعود اليهم بصيرتهم فوراً عند تذكرهم، وقد يكون المتقي متذكراً يقظاً دائماً فلا يكون للشيطان عليه سبيلاً، وقد قالوا في علمي الفقه والاصول أن تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية أي أن حصول التذكر وعودة البصيرة واليقظة والمراقبة متعلق ومرتبط بوجود ملكة التقوى، فحالة التذكر معلولة لوجود ملكة التقوى عند العبد فكلما كان اكثر تقوى كان اكثر تذكراً لان وجود مَلَكَة التقوى سبب للانتباه من الغفلة رزقاً خالصا من الله تبارك وتعالى وجزاءً لتقواه {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} (الطلاق:2) والرزق يشمل المعنويات بالتأكيد، فاذا تذكر الانسان واستبصر خنس الشيطان وخسئ، واذا غفل الانسان عاد الشيطان الى وسوسته وتزيينه فوُصِفَ ب- (الوسواس الخنّاس) فالشياطين كالفيروسات والجراثيم الملوثة للبيئة والموجودة حول كل إنسان لكنها لا تصيب الا من كانت مناعته ومقاومته التي هي التقوى ضعيفة ولو بدرجة من الدرجات.

3-إن طريقة عمل الشيطان بأن يطوف ويدور حول قلب الإنسان وعقله ويوسوس له ويحاول تزيين المعصية ليحرّك شهواته وغرائزه باتجاهها، ويحاول اغراءه بها، قال تعالى {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ} (الأنعام:112) عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(الشيطان موكّل به - أي

ص: 76

العبد- يزيّن له المعصية ليركبها ويمنّيه التوبة ليسوّفها)(1) هاتان العمليتان قبل فعل الانسان وبعده هما كل سلطة الشيطان على الناس، فالاعتقادات السائدة لدى الجهلة والعوام بتلبس الجن وأمثالها وبالشكل الذي يصورونه تافهة وباطلة، وأن الله تعالى كرّم الإنسان وفضّله على خلقه فلا يجعل لغيره سبيلاً عليه بهذا النحو وغيره، فالشيطان لا يملك هيمنة على الإنسان أكثر من ذلك والإنسان هو الذي يختار سلوكه وطريقته في الحياة بإرادته {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} (الإنسان:3) لذا يرد الشيطان على الإنسان يوم القيامة بما حكاه الله تعالى عنه {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم} (إبراهيم:22) وقال تعالى {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُ-لِّ شَ-يْءٍ حَفِيظٌ} (سبأ:21).ومن الواضح أن سلاح الشيطان هو استغفال الإنسان وغلق منافذ التفكير والوعي والحكمة ووضع الحُجُب دون بصيرته وقدرته على التمييز بين الحق وبين الباطل لذا كان العلاج وسلاح الرد عليه هو التذكر والانتباه والفطنة والحذر وإزالة الحُجُبِ والأغلال والمراقبة المستمرة {تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِ-رُونَ} (الأعراف:201) كالسارق فانه لا يستطيع سرقة الإنسان المنتبه المتحذّر وإنما يسرق الغافل الساهي والشيطان يريد سرقة دين الإنسان واستقامته.

وينبغي الالتفات الى أن فسح المجال للشيطان لكي يطوف ويحوم حول4.

ص: 77


1- نهج البلاغة:64.

القلب والاسترسال مع وسوسته والافكار التي يُلقيها وعدم قطع الطريق عليه نقص في كمال الإنسان وإن لم يفعل المعصية ففي الآية الكريمة {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (المجادلة:10) وفي الحديث (لولا أن الشياطين يحوّمون على قلب ابن ادم لنظروا إلى الملكوت)(1)، فعلى كل فرد أن لا يستصغر شأن بعض الأفكار غير الرحمانية التي تراوده كالتعلّق بالجنس الآخر أو الاعتداء على المال العام أو الكيد لشخص يحسده والانتقاص منه وتسقيطه ونحو ذلك، وعليه أن يقطعها ويستغفر منها {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات:12) والا كانت بداية للسقوط في الخطأ والخطيئة والعياذ بالله.4-لم تذكر الآية متعلق التذكّر أي ماذا يتَذَكَّرون والتذكر هو التفطن لأمور مغفول عنها سابقاً وتساعده في الوصول الى النتيجة فقالت {تَذَكَّرُوا} وأطلقت ولعله ليشمل كل ما يعينك على هذه المواجهة ولكن الآية التي سبقتها نبّهت الى ما يجب تذكره واستحضاره والتسلح به، قال تعالى {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأعراف:200) فالآية محل البحث تبّين وسيلة الوصول الى العلاج الذي ذكرته الآية السابقة عليها. وأكدّته اية لاحقة {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} (الأعراف:205).

ونستطيع أن نعرف تفصيل الامور التي يتذكرها ليكون مبصراً من سورة9.

ص: 78


1- بحار الانوار، المجلسي، ج70 ص59.

يوسف فقد تعرّض (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لموقف رهيب فماذا كان سلاحه في تلك المواجهة؟ وماذا كان برهان ربه الذي لولاه لهَمَّ بها؟ {قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (يوسف:23) إنها عناصر ثلاث. فيستحضر الله تعالى أولاً ويستعيذ به ويطلب منه العصمة والمعونة وهذا ما ذكرته الآية السابقة هنا.

ويتذكر ثانياً أن له رباً هو الله تبارك وتعالى يملك أمره ويتولى تربيته ويكفيه المؤونة ويرزقه من حيث لا يحتسب وهو الذي ينصره ويثبت قدمه عند المزالق ويفرج عنه وأنه قد أغدق عليه النعم الكثيرة فعليه أن يلتزم بمنهج ربه ولا يفارقه شكراً لنعمائه وليس مقابلة النعمة بالعصيان {هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} (الرحمن:60).

ويتذكر ثالثاً العاقبة السيئة لمن يتبع الشيطان ويظلم نفسه بفعل المعصية {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (يوسف:23).

عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في معنى ذكر الله على كل حال قال:(يذكر الله عند المعصية يهم بها فيحول ذكر الله بينه وبين تلك المعصية، وهو قول الله عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}(1).

ولنضرب مثالاً من واقعنا المعاش وهي الظاهرة التي غزت شبابنا والهوس الذي اصاب كثيرين منهم هذه الأيام لدفعهم باتجاه التغرّب أو التعرّب2.

ص: 79


1- معاني الاخبار:20/ 192.

بعد الهجرة سعياً وراء ما يسمونه بتحسين وضعهم المعاشي والحياة المادية المترفة، هذا القرار غير الحكيم يبتدئ من طائف شياطين الإنس والجن الذين يصوّرون للشاب هذه الرحلة وكأنها الى الفردوس المنتظر وييسِّرون له أمرها ويرسمون له الأحلام الوردية ويسوّدون صورة واقعه المعاش فهنا إنْ تذكّر أن في هذا الفعل ضياع دينه واسرته والتفريط بأهله واخوانه وبلده ابصر طريقه واتخذ القرار الصحيح بالبقاء ولو كلّفه بعض الصعوبات فإن تحملها في جنب الله سعادة، وإن مضى في غفلته سقط في هذا الفخ الذي نصبه من لا يؤتمنون على العاقبة الحسنة في الدنيا ولا في الاخرة، وقد ابتلع البحر الأبيض مئات الالاف من اللاجئين في هذه السنة والتي سبقتها، هذه الظاهرة مليئة بالغرائب، فإن الدولة التي يتجمع فيها الإرهابيون من شتى أنحاء العالم لينتقلوا منها الى سوريا والعراق، هي نفسها التي امتلأت بشبكات التهريب لتنقل الفارّين من جحيم الإرهاب الى اوربا.والدول الاوربية التي ترفض إعطاء الإقامة لمن قصدها باحترام عن الطريق الرسمي والسفر بسمة الدخول ترحب بهم كلاجئين عبر طرق الموت والمعاناة وابتزاز المهرّبين، إنها مفارقة حمقاء.

5-يمكن فهم هذه الآية تربوياً وعملياً باتجاهين متعاكسين (احدهما) أن من يكون متقياً يحظى بلطف من الله تعالى بالتذكر عندما يحوم الشيطان حول قلبه فتنفتح بصيرته ويرى الحق فينجو من مكائد ابليس (ثانيهما) أن من أراد أن يكون من المتقين فعليه أن يكون متذكراً يقضاً مراقباً لينجيه الله تعالى من اغواء الشيطان وبذلك تحصل عنده ملكة التقوى. وهذان الاتجاهان متلازمان وكل منهما يؤدي الى الاخر أي أن كل درجة من أحدهما تؤدي الى أعلى منها من الآخر والعكس

ص: 80

كذلك حتى يرتقي في درجات الكمال بإذن الله تعالى.6-إن الإنسان المتقي الصالح محبوب عند الله {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (التوبة:4) وإتباع الشيطان عمل مبغوض عند الله تعالى، فحينما يقع هؤلاء الذين اتقوا في طائف الشيطان فإن عملهم مبغوض لكنهم محبوبون في ذاتهم.

هذه النتيجة نخرج منها بدرس عملي وهو أنه يجب علينا أن نميّز بين حب وبغض الشخص وحب وبغض عمله فقد نرفض عمل شخص لأنه غير صالح ولا يسري ذلك الى الشخص ذاته بل يبقى محبوباً لأنه متقي صالح فاعل للخير، وهذا معنى الحديث (إن الله قد يحب العبد ويبغض عمله)(1) وهذا الأدب الرفيع لا يلتزم به الا من ندر، حيث أن السائد في المجتمع أنه يكره الشخص وينبذه ويسقطه ويسحق كرامته لأجل عمل شيء أو موقف خاطئ صدر منه.ي.

ص: 81


1- أنظرها في الملحق التالي.

ملحق:إن الله قد يحب العبد ويبغض عمله

ان المتقين محبوبون عند الله تبارك وتعالى {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (التوبة:4) كما ان التأثر بمس الشيطان فعل يبغضه الله تبارك وتعالى فالاية في القبس الانف تكشف انه يمكن ان يصدر من الفئة التي يحبها الله تبارك وتعالى فعل يبغضه الله تعالى وقد ورد هذا المعنى في ما روي عن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ان الله يحب العبد ويبغض عمله) وهو حديث له مداليل نفسية واجتماعية مهمة.

فقد روى لنا أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حديثاً عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يعطينا فيه قاعدة من قواعد السلوك الاجتماعي والتعامل مع الآخرين، ويعالج لنا مشكلة تمزّق المجتمع وتغذي البغضاء بين أبنائه.

فمن خطبة له (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (واعلم أنّ لكل ظاهرٍ باطناً على مثاله، فمن طاب ظاهره طاب باطنه، وما خبث ظاهره خبث باطنه، وقد قال الرسول الصادق (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ((إنّ الله يحبّ العبد ويبغض عمله، ويحبّ العمل ويبغض بدنه)).

واعلم أنّ لكل عملٍ نباتاً، وكل نبات لا غنى به عن الماء، والمياه مختلة، فما طاب سقيُه، طاب غرسُه وحلَت ثمرته، وما خبث سقيُه، خبث غرسُه وأمّرت ثمرته)(1).

وورد هذا الحديث في رواية أوردها الشيخ الطوسي (قدس سره) عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وفيها قوله (أما علمت أنّ الله يحبّ العبد ويبغض عمله، ويبغض العبد

ص: 82


1- نهج البلاغة، الخطبة (154) في فضائل أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، أوّلها (وناظر قلب اللبيب).

ويحب عمله)(1).أقول:يلاحظ فرق بين النصين في الفقرة الثانية وهو الشخص المبغوض، إذ وصفه نص نهج البلاغة بالبدن ونص الأمالي بالعبد، وبرأيي القاصر فإن نص الشريف الرضي في نهج البلاغة هو الأصح، والوجه في ذلك يظهر من خلال الالتفات إلى أمور:

إنّ رواية نهج البلاغة وصفت الشخص المبغوض بالبدن ولم تصفه بالعبد فهو كسائر الأبدان والأجساد المادية الخالية من الصفة الإنسانية الحقيقية وهي العبودية لله تعالى {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} (الفرقان:44) فهو لا يستحق أن يوصف بالعبودية التي هي أسمى صفة للإنسان، وبها كرّم الله تعالى نبيه المصطفى (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حين أمر بذكره في تشهّد وتسليم الصلاة بالعبودية ثمّ الرسالة (وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله) أمّا نصّ الأمالي فقد وصف الشخص المبغوض بالعبد وهو لا يستحقه.

إن نص نهج البلاغة استعمل لطيب الباطن والظاهر (مَنْ) وهي تستعمل للعاقل بينما استعمل (ما) للمبغوض وهي تُستعمل لغير العاقل فيناسبه لفظ البدن غير العاقل لا العبد الذي يحمل تمام العقل.

إن نص نهج البلاغة قدّم المحبوب بالذكر في كلا الفقرتين (حب العبد وحب العمل) وهو الأليق، بينما قدّم النص الثاني الشخص وإن كان مبغوضاً.

وعلى أي حال فإن معنى كلامه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) باختصار:

إن ما يصدر من الإنسان من تصرفات وأفعال ومواقف إنما يعكس حقيقةي.

ص: 83


1- أمالي الطوسي:616، الجزء الرابع عشر في أخبار إبراهيم الأحمري.

هذا الشخص وباطنه وذاته، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في كلمة أخرى (ما أضمر أحدٌ شيئاً إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه) (1) وكما قيل في المثل المعروف (وكل إناء بالذي فيه ينضح).وقد أعطى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في ذيل كلامه مثالاً لهذه المعادلة ووسيلة الوصول إلى الباطن الطيب، فإن العمل كالنبات فيه طيب حلو وفيه خبيث مر، فإذا كان الماء الذي يسقي الزرع والأرض طيباً كان الزرع طيباً حلواً، وإلاّ كان مراً خبيثاً، وهكذا النفوس إذا سُقيت من معينٍ نقي للمعرفة والعلم والأخلاق كانت صالحة طيبة، وإلاّ فستكون خبيثة.

وبالعودة إلى الحديث النبوي الشريف، فإنه تستفاد منه قاعدة لتمييز الإنسان الصالح من الفاسد، لأنّ الأول لا يترشح منه إلاّ فعل الخير بعكس الثاني، فيُقيّم الإنسان وتعرف حقيقته من خلال الحكم على أفعاله.

لكن - وكما قيل- فإنّ لكل قاعدة شواذاً، فإنّ الإنسان الصالح - عدا المعصوم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- قد يصدر منه فعل سيء يبغضه الله تعالى إما لغفلة، أو لضعف في المناعة والعصمة والإرادة، أو لغلبة الهوى والشهوة وتزيين الشيطان أو لسوء تقدير، أو لتأثّر بأقران سيئين، أو لضعف أمام تهديدات وإغراءات ونحوها من أسباب السقوط في المعاصي.

وإن الشخص الفاسد قد يقوم بفعل محبوب لله تعالى كمساعدة محتاج أو رعاية يتيم أو قضاء حاجة إنسان آخر ونحوها، لتأثره بجو إنساني وعاطفي عام، أو لبقية حياة في ضميره أو بتأثير إنسان صالح يحبّه وهكذا.6.

ص: 84


1- نهج البلاغة، قصار الكلمات، رقم 36.

وبهذا نحلُّ الإشكال الذي قيل على سياق الحديث، وحاصله:إنّ الحديث النبوي الشريف ينافي الفقرة السابقة عليه وهو ينقض المطابقة بين الظاهر والباطن التي ذكرها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):وملخص الجواب:إنّ هذا الإشكال مبني على كون الحديث النبوي شاهداً على ما أورده من القاعدة، فيُجاب الإشكال بأنّ الحديث ذكر للإشارة إلى الاستثناء من القاعدة، وليس استدلالاً على نفس القاعدة.وقيل في توجيهه شيء آخر ذكره العلاّمة السيّد حبيب الله الخوئي شارح نهج البلاغة، قال (قدس سره):((وإنما الإشكال في ارتباط هذا الكلام لسابقه و في استشهاد الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) به مع أنّه لا مناسبة بينهما ظاهرا، و ليس للاستشهاد به وجه ظاهر، بل منافاته لما مرّ أظهر من المناسبة كما هو غير خفيّ، إذ لازم محبّة اللَّه للعبد كون العبد طيّبا، و لازم بغضه لعمله كون العمل خبيثا فلم يكن الظّاهر موافقا للباطن، فينافي قوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):فما خبث ظاهره خبث باطنه.

وكذلك مقتضى بغض اللَّه سبحانه لبدن الكافر كونه خبيثا، و حبّه لعمله كون عمله طيّبا ففيه أيضا مخالفة الظّاهر للباطن، فينافي قوله:فما طاب ظاهره طاب باطنه.

والذي سنح لي في وجه الارتباط و حلّ الإشكال بعد التّروي و صرف الهمّة إلى حلّه أيّاما و الاستمداد من جدّي أمير المؤمنين عليه و آله سلام اللَّه ربّ العالمين هو أنّه لمّا ذكر أنّ ما هو طيّب الظّاهر طيّب الباطن و ما هو خبيث الظّاهر خبيث الباطن، عقّبه بهذا الحديث النّبوي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تنبيها و إيقاظا للسّامعين بأنّ العبد قد يكون نفسه محبوبا و عمله مبغوضا، و قد يكون بالعكس كما أفصح عنه

ص: 85

الرّسول الصّادق المصدّق.فاللاّزم له إذا كان محبوب الذّات للَّه سبحانه و مبغوض العمل أن يجدَّ في تحبيب عمله إليه تعالى حتّى يوافق نفسه عمله في المحبوبيّة، و إذا كان محبوب العمل مبغوض البدن أي الذّات أن يجدّ في تحبيب ذاته إليه كي يوافق عمله نفسه.

والغرض بذلك الحثّ على تطبيق الظّاهر للباطن في الأوّل و تطبيق الباطن للظّاهر في الثّاني في المحبوبيّة حتى يكونا طيّبين، و يفاز إلى النّعيم الدّائم و الفوز الأبدي، و لا يعكس حتّى يكونا خبيثين مبغوضين له تعالى، فيقع في العذاب الأليم و الخزي العظيم، و قد زلّت في هذا المقام أقدام الشّراح و المحشّين)(1).

أقول:هذا المعنى صحيح في نفسه، وإن كان يحتاج إلى مقدمات لاستظهاره من الحديث الشريف وحل الإشكال به.

ونذكر هنا وجوهاً أخرى بحسب فهمنا القاصر لسبب إيراد أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هذا الحديث في ذيل كلامه المذكور وهي كالنتائج والثمرات المستفادة من هذا الحديث الشريف، ومنها:

1-أراد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن يمنع من اعتماد الشخص على هذه القاعدة فيعتقد أنّه ما دام مؤمناً فإنه لا يصدر منه إلاّ الفعل الحسن فيأخذه العجب ويغفل عن مراقبة نفسه ولا يحسب لاحتمال ضعف النفس وغواية الشيطان، فنبهه الإمام إلى إمكان الوقوع في الفعل المبغوض مهما كانت درجة إيمانه - عدا المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)- فلا يركن إلى نفسه.8.

ص: 86


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة:9/ 248.

وكذا زرع الأمل في نفوس السيئين بأنّهم مهما كانت درجة انحطاطهم فإنّه يمكن أن يصدر منهم الفعل الحسن فلا يقنطوا ولا ييأسوا من رحمة الله تعالى ولطفه وعليهم أن يسعوا للقيام بالفعل الحسن وإن كانوا فاسقين، قال تعالى {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} (الزمر:53).2-إن هذا التطابق بين الظاهر والباطن لابد أن يتحقق ويكون تاماً لأنّه غير قابل للتفكيك لأن الظاهر صورة للباطن، كالمطابقة بين الصورة في المرآة وصاحبها، حيث لا يتصور عدم المطابقة بينهما، فإذا حصل شيء على خلاف هذه القاعدة، فإنه يُعالج بما يعيد فاعله إلى هذه القاعدة.

فالمؤمن إذا صدر منه فعل مبغوض إلى الله تعالى فتح له باب التوبة والاستغفار وطلب العفو حتى يمحو ذلك الخطأ ويعود إلى المسار الصحيح، وقد يحتاج الأمر إلى أن يُبتلى ويعاقب بمرض أو مصيبة أو همٍّ أو خسارة وغيرها مما ذُكر في كفارات الذنوب، قال تعالى:{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (الشورى:30).

والكافر الذي ليس له في الآخرة من خلاق، إذا صدر منه فعل يحبّه الله تعالى أعطى جزاءه في الدنيا مما يحبّه ويرغب فيه ويعمل من أجله لكي لا يبقى له استحقاق عند الله تعالى ويعود التطابق بين الظاهر والباطن.

لأنّ الحب والبغض بالنسبة إلى الله تعالى ليس بالمعنى المعروف عندنا نحن البشر لتنزهه سبحانه عن ذلك، وإنما يعني آثارهما من الثواب والعقاب وهذا معنى صحيح أكّدته روايات كثيرة.

3-إن ذكر الحديث النبوي الشريف للمنع من الحكم على شخص ما بأنّه

ص: 87

صالح أو غيره، ومحبوب عند الله تعالى أو مبغوض من فعل واحد أو فعلين بالاستناد إلى هذه القاعدة، بأن يقال:إنّه لو كان صالحاً لما صدر منه الفعل السيء، ولو كان مبغوضاً عند الله لما صدر منه الفعل المحبوب، فأتى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالحديث النبوي ليفيد أنّه قد يصدر منه الفعل السيئ وهو محبوب عند الله تعالى، وقد يقوم بالفعل المحبوب وهو مبغوض عند الله تعالى.نعم يمكن الحكم عليه إذا تحوّلت أفعاله إلى سيرة مستمرة وغالبة عليه، فإنها تكشف عن ملكة راسخة بهذا الاتجاه أو ذاك، وهذا ما ذكره الفقهاء في معنى العدالة من انها ملكة نفسية راسخة تُثمر استقامة على جادة الشريعة.

4-إنّ العبد مهما تظاهر على خلاف باطنه فإنه سيعود إليه وتنكشف حقيقته وتتحقق المطابقة بين الظاهر والباطن، فقد يصدر من الشخص السيئ فعل حسن بتصنع ورياء وخداع، ويصدر من الإنسان الصالح فعل سيء، لكن كل واحد منهما لابد أن يعود في النهاية والخاتمة إلى ما يطابق باطنه مهما طال الزمن، قال تعالى {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} (الإسراء:84).

والتاريخ حافل بأسماء أشخاص كانت حياتهم مملوءة بالمعاصي والابتعاد عن الله تعالى لكنّهم خُتم لهم بالخير لأنّ أصلهم ومعدنهم كان كذلك كالحر الرياحي مثلاً، ويوجد أمثلة كثيرة للعكس من ذلك كإبليس اللعين الذي كان مع الملائكة وعبد الله تعالى ستة آلاف سنة ثمّ خُتم له بالشقاء، وهذا لا ينافي الاختيار لأنّ كلاً منهما باختياره فعل ما يوجب له تلك الخاتمة.

5-إنّه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إنما ذكر الحديث لمعالجة مشكلة موجودة في المجتمع تحكم العلاقات بين الناس ومنشأها عدم التفكيك بين تقييم الشخص وتقييم فعله

ص: 88

أي تطبيق الملازمة المذكورة في كلام الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من دون الالتفات إلى الاستثناء، والمشكلة هي إن أحدنا إذا اختلف مع شخص آخر أو لم يرتضِ فعلاً من أفعاله فإنه يرفضه جملة وتفصيلا ويعاديه ويشنّع عليه.فالمشكلة التي نعاني منها وتمزّق وحدة المجتمع هي التوسع من رفض الفعل إلى رفض نفس الفاعل، وبدل الاعتراض على الفعل نفسه كحاله يتحوّل إلى رفض الشخص كلياً وتسقيطه وتفسيقه وإلغائه ولو كان إنساناً مؤمناً ملتزماً بالخط العام للشريعة، وفي هذا خروج عن القواعد الشرعية وتجاوز للحدود {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (الطلاق:1) {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة:229).

وبالمقابل فإذا أحسن له شخص بفعل ما فإنّه يتحوّل عنده إلى إنسان محبوب وإن كان معروفاً بابتعاده عن الشريعة، فالإمام يدعو إلى التفكيك بين ذات الشخص وفعله وعرض كل منهما على ميزان التقييم بمعزل عن الآخر، فإذا كانت ذاته وباطنه صالحة فلا يجوز لك تسقيطه في المجتمع لموقف استنكرته منه، أو أخطأ فيه فإنّ المؤمن قد يقع في الخطأ والخطيئة ثم يتوب ويصلح شأنه ويعود قال الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف:201) فلا يجوز انتهاك حرمة المؤمن لفعل سيء صدر منه.

هذه مشكلة مهمة نعاني منها يعالجها الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالالتفات إلى هذا الحديث الشريف، فلتكن عندنا رويّة وحكمة في تعاملنا مع الآخرين، ولا نتورط أمام الله تعالى في تسقيط الآخرين ورفضهم والتشهير بهم لموقف اختلفنا فيه معهم وهذا الدرس الذي أردت بيانه واستفادته من الحديث النبوي الشريف.

ص: 89

وقد شهدنا في شهري محرم وصفر الحاليين تسقيطاً وتشهيراً من البعض لأنهم لم يوافقونا على بعض المواقف التي اتخذناها ونعتقد أن فيها رضا الله تعالى وصلاح الأمة، وقد أصبحت هذه الحالة السيئة منتشرة بكل أسف والمفروض بمن يعمل وفق تعاليم المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أن يفكّك بين الفعل وذات فاعله حتى لو اعتقد أن ما صدر منه كان سيئاً. ولا تفوتني الإشارة إلى أنَّ المعروف والمتداول إن الظاهر انعكاس للباطن، وإن الباطن هو الأصل والظاهر مظهر له وكاشف عنه، لكن لا يبعد أن يستظهر العكس من الخطبة الشريفة لقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (واعلم أن لكل ظاهرٍ باطناً على مثاله) أي أن الباطن يتشكل وفق الأفعال التي تصدر من العبد، فإن الشخص صاحب الباطن السيء يستطيع أن يتكلّف القيام بأفعال صالحة وهذا يغيّر باطنه تدريجياً إلى الصلاح وإن كان ليس كذلك قبل ذلك، وبالعكس فقد يكون له باطن صالح لكن قام بأفعال سيئة من دون أن يتوب ويستغفر ويندم فيفسد باطنه.

وهذا معنى صحيح وموافق للروايات التي مضمونها: إذا أذنب العبد صارت في قلبه نكتة سوداء(1)، فإذا لم يتب وأذنب ثانياً صارت في قلبه نكتة ثانية وهكذا حتى يسوّد القلب ويموت فلا يرجى منه الخير والعياذ بالله تعالى.ح2

ص: 90


1- أنظر: أصول الكافي- الشيخ الكليني: 1/ 166/ح2

القبس/48 : سورة الأنفال:36

اشارة

{فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيهِم حَسرَة}

موضوع القبس:من لا يقدّم ما عليه في طاعة الله تعالى يعطي

أكثر منه في معصيته

وردت الآية في سورة الانفال ضمن سياق الحديث عن معركة بدر وملابساتها ونتائجها، وتشير الى حماقة وجهل وسوء عاقبة مشركي قريش الذين كفروا وتمردوا واستكبروا عن الايمان بالله تعالى وطاعته ورفضوا تكاليفها لكنهم أصروا على عبادة الاصنام وأنفقوا اموالاً ضخمةً لتجهيز المقاتلين(1) للقضاء على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأصحابه المؤمنين وانهاء دعوته المباركة.

فالأموال التي بخلوا بها ولم ينفقوها في طاعة الله تعالى لم ينتفعوا بها فقد انفقوها في الصد عن سبيل الله تعالى سواءاً بالحرب على المؤمنين او بمنع إقامة شريعة الله تعالى او بإبعاد الناس عن الدين ونحو ذلك من اشكال الصد عن سبيل الله تعالى فكانت عليهم حَسْرَةً في الدنيا لأنهم صرفوها في مضرتهم وجلب العار لهم او تركوها لذريتهم ولم تنفعهم إذ غُلبوا وهزموا ثم الحسرة الأكبر والعاقبة الأفظع في الاخرة حيث يساقون الى جهنم بكل إهانة وتعذيب.

وظاهر الاية ان كونهم كافرين يدفعهم الى هذا الفعل وكما قالوا ان تعليق

ص: 91


1- في تفسير البرهان:4/ 164:(وما بقي من عظماء قريش إلا اخرجوا مالاً وحملوا ووقروا).

الحكم على الوصف يشعر بالعلية، فان كفرهم هذا سبب وعلة تدعوهم الى هذا الظلم والفسق ويؤدي بهم الى جهنم التي هي حصاد افعالهم {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} والحشر لغةً (إخراج الجماعة عن مقرهم وإزعاجهم الى الحرب ونحوها ولا يقال الحشر إلا في الجماعة)(1) كما عن الراغب في المفردات.فتجمّعهم في الدنيا ضد الحق وأهله وخروجهم حاشرين لمحاربة الله ورسوله تجسّم بخروجهم حاشرين الى جهنم افعالهم يوم القيامة.

فالآية تكشف عن حقيقة مهمة في حياتنا لو التفتنا اليها بعمق ووعي لأثّرت في توجيه الناس نحو الصلاح وخلاصتها ان من يمتنع عن بذل ما يتطلبه الايمان وطاعة الله تعالى فأنه سيضطر الى ان يعطي أزيد من ذلك راغماً في معصية الله تعالى فتجتمع عليه الحسرة والعقوبة لكن هذه الحسرة لا قيمة لها ولا ثمرة فيها لأنها جاءت في غير وقت العمل والتدارك.

هذه الحقيقة القرآنية لا تختص بالكافرين، فقد يبخل المتدين الذي يصلي ويصوم لكنه لا يدفع الحقوق الشرعية فيبتلى بصرف ماله في أمور عبثية أو لهوية او كمالية او ربما محرمة فتكون الحسرة عليه مضاعفة لتقصيره في إداء الواجب عليه من جهة ولإنفاق المال في ما يوجب له حسرة وعقوبة بالنار من جهة أخرى عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:ما من رجل يمنع درهماً في حقه إلا أنفق اثنين في غير حقه، وما من رجل يمنع حقاً في ماله إلا طوّقه الله به حية من نار يوم19

ص: 92


1- مفردات غريب القرآن- الأصفهانى: 119

القيامة)(1)، وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من منع حقاً لله عز وجل أنفق في باطل مثليه)(2).او انه يتركه لورثته فيكون سبباً لحسرته على نحو اخر، روي عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير قوله عز وجل {كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ} (البقرة:167)، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(هو الرجل يدع ماله لا ينفقه في طاعة الله عز وجل بخلاً ثم يموت فيدعه لمن يعمل فيه بطاعة الله أو بمعصية الله، فإن عمل فيه بطاعة الله رآه في ميزان غيره فرآه حسرةً وقد كان المال له، وإن كان عمل به في معصية الله قوّاه بذلك المال حتى عمل به في معصية الله عز وجل)(3).

وقد وصف أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مثل هذا الرجل بقوله:(إن أعظم الحسرات يوم القيامة حسرة رجل جمع مالاً بمعصية الله فمات فورثه رجل دخل به الجنة)(4).

ويُفهم من بعض الروايات ان ما يتعرض له المال احياناً من سرقة او تلف انما هو بسبب عدم اخراج الزكاة والخمس ونحوهما من الحقوق الشرعية، وورد عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (قد يبتلي الله المؤمن بالبلية في بدنه او ماله او أهله، ثم تلى هذه الآية {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَ-ن كَثِيرٍ} (الشورى:30)(5).76

ص: 93


1- وسائل الشيعة:كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 6 ح1.
2- نفس الباب، ح2.
3- وسائل الشيعة:كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه، باب 5 ح5.
4- نهج البلاغة، باب الحكيم، رقم 429.
5- تفسير القمي: 2/ 276

كما لا تختص هذه الحقيقة بالأموال وانما تتعداها الى ما تتطلبه طاعة الله تعالى من أصغر شيء كالتكاسل عن أداء عمل عبادي معين او حضور في مجلس ذكر أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) او السعي لقضاء حاجة مؤمن فانه يبتلى بإمضاء ذلك الوقت والجهد في غير طاعة الله تعالى في أمور عبثية ومُضيعة للوقت او ما هو أسوء من ذلك فتجتمع عليه الحسرة في الدنيا لإضاعته فرصة الهداية واكتساب الجنان المتاحة لهم والندامة والعقوبة في الأخرة، وهكذا في كل أمر راجح شرعاً او عقلاً، خذ مثلاً بعض الأمهات يتثاقلن عن ارضاع اولادهن الصغار تكاسلاً او حفاظا على رشاقتها ونحو ذلك وتعطيه حليبا صناعيا فيبتلى الطفل بآثار سلبية كالمغص ونحو ذلك ما تتمنى معه الام لو ارضعت طفلها وارتاحت من هذا البلاء.وتمتد تطبيقات هذه الحقيقة الى كل المستويات فعلى صعيد الزعامات والقيادات المتبعة رأينا كثيراً من الناس يتبعون قيادات ما انزل الله بها من سلطان وربما تصل الى مستوى اتباع يزيد والمقبور صدام وأمثالهما من أجل فتات دنيا زائلة وتترك طاعة الله ورسوله والحجج المعتبرة والنتيجة خسران الدنيا والأخرة قال تعالى {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ، إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ، وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (البقرة:165-167) فالآية تقول:ليت هؤلاء الذين ظلموا انفسهم ولم يتبعوا الحق وظلموا الحق نفسه إذ خذلوه ولم ينصروه يرون عاقبتهم السيئة والمؤلمة حين يجتمع الاتباع مع القادة الظالمين يوم القيامة حيث يتبرأ هؤلاء القادة من اتباعهم

ص: 94

وتنقطع بينهم الاواصر والعلاقات ولا يجدون عندهم نفعاً ولا يدفعون عن انفسهم عذاب جهنم وكل عذاب فضلاً عن اتباعهم فيكتشف الاتباع عجز قادتهم وزعاماتهم وضلالهم وستصيبهم حسرةٌ بسبب اتباعهم وطاعتهم لقادة مزيفين وسيتأكدون من حقانية ما كان يقوله الله تعالى ورسوله {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً} ولم يكن لهم إلا تمني العودة الى دار الدنيا للعمل بما اكتشفوه من الحقيقة {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا} (البقرة:167) لكنه تمني باطل لا يتحقق لانهم أعطوا الفرصة الكافية في الدنيا وقد كانت هذه الحقيقة ماثلة امامهم بما اخبر به الله تعالى ورسله لكنهم حجبوا بصائرهم عن رؤيتها بغفلتهم وجهلهم واتباع شهواتهم وتضليل شياطين الانس والجن، ومع ذلك فهم غير صادقين في تمنيهم هذا {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} (الأنعام:28). هذا على صعيد الزعامات والقيادات الباطلة وأتباعهم من غير المؤمنين لكن هذه الحقيقة لها مستويات داخل المتدينين ايضاً، فقد يفضل الشخص الرجوع الى الجهة التي تحافظ على راحته ومصالحه وتداهنه او لأنها تعطيه ما يشتهيه ويوافق هواه ويدغدغ عواطفه، او لأنها لا تكلفه جهداً أو حركةً، ويترك القيادة الحقة التي تذكره بالله تعالى وتعمل على إعلاء كلمة الله تعالى وصلاح الأمة والارتقاء بها لأنها تتطلب جهاداً للنفس وحركة وعزيمة، ونتيجةُ اختياره هذا نسيان ربه شيئاً فشيئاً وميله الى الدنيا والانشغالات التافهة ونقصان وعيه ودينه حتى يتحول الى شكليات وطقوس فارغة من المحتوى فتكون حسرة عليهم لانهم لم يستثمروا فرصاً كانت ستكسبهم درجات عالية في الجنة.

وترتقي تطبيقات الآية حتى تصل الى مستوى بذل النفس فأن الأمة لما

ص: 95

تخاذلت عن نصرة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وتقاعست عن نصرة الامام الحسن(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أُبتليت بإمارة معاوية الذي جاء الى الكوفة بعد صلح الامام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فخطب في أهلها الذين قاتلوه في صفين وأُزهقت أرواح عشرات الألاف من الفريقين فقال في كلامه (والله اني ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا، ولا لتحجوا ولا لتزكوا، انكم لتفعلون ذلك، وانما قاتلتكم لأتأمر عليكم، وقد اعطاني الله ذلك وانتم له كارهون)(1).ولما لم تفي الأمة للإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بوعود النصرة وبخلت بالنفوس عليه وانقلبت لتقاتله فكتب عليها الذلة والخنوع وتسلط الأشرار من أمثال يزيد وابن زياد والحجاج وغيرهم من الطواغيت فقتلوا من خيرة ابناءها ما زاد على الثمن الذي كانوا سيدفعونه لو نصروا الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وازالوا حكم الطواغيت وتنعموا بعدالة حجة الله تعالى ودولته الكريمة، وقد حذرهم الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من هذه النتيجة وألقى الحجة عليهم في خطابه يوم عاشوراء وكان مما قاله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فأصبحتم إلباً لأعدائكم على اوليائكم بغير عدلٍ أفشوه فيكم ولا أملٍ أصبح لكم فيهم، أهؤلاء تعضدون وعنا تتخاذلون؟ ويلكم! أتطلبوني بدم أحد منكم قتلته، أو بمال استملكته، أو بقصاص من جراحات استهلكته)(2).

وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اما والله لا تلبثون بعدها الا كريثما يركب الفرس حتى يدور بكم دور الرحى ويقلق بكم قلق المحور)(3) اذن لما امتنعوا عن القيام بواجب5.

ص: 96


1- حياة الامام الحسن 2 / 254.
2- تاريخ الطبري:5 / 425، ينابيع المودّة للقندوزي:3 / 64.
3- الصحيح من مقتل سيد الشهداء واصحابه :656، 664، 665.

النصرة للإمام الحق لم يحصلوا على ما أرادوا من الدعة والراحة وسرعان ما دفعوا الثمن الذي حذرهم منه غالياً.وقال زهير بن القين في خطبته (فأنكم لا تدركون منهما - يزيد وابن زياد - الا بسوء عمر سلطانهما كله ليسملان اعينكم ويقطعان ايديكم وارجلكم، ويمثّلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل ويقّتلان اماثلكم وقراءكم أمثال حجر ابن عدي واصحابه وهاني ابن عروة واشباهه).

لاحظ كيف تحول بخلهم بالتضحية الواجبة في سبيل الله الى نصرة للأشرار وسقوط مريع في تلك الجريمة البشعة والعاقبة المرعبة.

وخذ مثالا نعيشه اليوم وهو التصدي البطولي للمجاهدين والمتطوعين لصد الهجمة الهمجية للدواعش والإرهابيين الذين أعلنوا بصراحة انهم قادمون لنقض العتبات المقدسة في النجف وكربلاء واحتلالها وغرّهم سقوط الموصل وتكريت في يومين بأيديهم، فنهض المؤمنون الغيارى في وجوههم واسترجعوا منهم ما اغتصبوه وطهرّوا الأرض من رجس وجودهم وكلّفنا ذلك شهداء كرام وجرحى اعزاء لكن الثمن سيكون اضعافه لو تقاعسنا ولم نقم بهذا الواجب.

والآية أيضا بصيغة المضارع الذي يعني استمرارية الحالة أي ان الذين كفروا وأعداء الإسلام من الطواغيت والقوى المستكبرة وذيولهم واتباعهم ومنفذي خططهم سيستمرون في انفاق أموالهم للصد عن سبيل الله بكل الأساليب التي اشرنا الها اختصارا، وشواهده كثيرة في زماننا لكن النتيجة تكون واحدة دائما وقطعية وهي الخسارة والحسرة ونشاهد هزيمتهم باستمرار بأذن الله تعالى .

كما ان هذه الحقيقة التي استفدناها من الآية جارية مدى الزمان فلا يقصّر احد في القيام باي عمل راجح شرعاً او عقلاً وليس فقط فعل الواجبات وترك

ص: 97

المعاصي، بل المستحبات أيضا وكل عمل انساني، لأنه ان قصّرَ خسر هذه الفرصة للكمال والسمو والفلاح وسوف لا يحصل على النتيجة التي أرادها بل يقع في عكس ما كان يريدهُ، هذه النتيجة اخبر عنها الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بقوله:(مَنْ حاوَلَ أَمْراً بِمَعْصِيَةِ اللهِ تَعالى كانَ أَفْوَتَ لِما يَرْجُو، وَأَسْرَعَ لمجيء ما يَحْذَرُ)(1).وبالعكس فأن من يجاهد نفسه ويتخلى عن مشتهياتها وما تمنيه به من السعادة والراحة الموهومة فان الله تعالى يعّوضه عن صبره ومجاهدته بما يُقرّ عينه حقيقةً وليس زيفاً كالذي ورد في النظر الى المحرمات، روي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهو يحدث عن ربه (النظرةُّ سهم مسموم من سهام أبليس، من تركها من مخافتي أبدلته ايماناً يجدُ حلاوته في قلبه)(2) فلاحظ التعبير بالابدال الذي يعني الحقيقة التي ذكرناها .

{إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق:37)، {وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ} (الحاقة:12).4.

ص: 98


1- الكافي 2 :373 ح 3 ، تحف العقول :177 ، بحار الأنوار 78 :120 ح 19 وفيهما اسرع لما يحذر و 73 :392 ح 3 ، معادن الحكمة 2 :45 ح 101 ، وسائل الشيعة 11 :421 ح 3 .
2- ميزان الحكمة:9/ 4.

القبس/49: سورة الأنفال:41

اشارة

{وَٱعلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمتُم مِّن شَيء فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُۥ}

موضوع القبس:إخراج الحقوق الشرعية:الوجوب والإشكالات

*موضوع القبس:إخراج الحقوق الشرعية:الوجوب والإشكالات (1)

الآية ظاهرة بل صريحة في وجوب إخراج الخمس من الغنائم، وقد ذكرت العناوين التي يصرف فيها الخمس وهي ستة، لله ولرسوله والذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وقد دلت روايات مفصّلة عن الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن الاسهم الثلاثة الأولى تكون لولي الأمر يصرفها في مصالح المسلمين وتقوية الإسلام ونشره، اما الثلاثة الأخرى فهي للمحتاجين من ذرية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ولذلك سمي النصف الأول (حق الامام) وسمي الثاني (حق السادة) عوضا لهم عن الزكاة التي لا تحل لهم من سائر الناس فأباح الشارع المقدس لهم من الخمس (ما يستغنون به في سنتهم، فإن فضل عنهم شيء فهو للوالي وأن عجز او

ص: 99


1- محاضرة ألقيت على حشد كبير من فضلاء وطلبة الحوزة العلمية غصَّ بهم مسجد الرأس الشريف المجاور لمرقد أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في مناسبة دينية بعد ذكرى ولادة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في 13/رجب/1423 ه- الموافق 20/ 9/ 2002 م، وكانت هذه المحاضرات والحشود الحاضرة ترعب النظام الصدامي المقبور (راجع تأريخ تلك الفترة في مقدمة المجلد الأول من موسوعة خطاب المرحلة وكتاب (جهاد واجتهاد).

نقص عن استغنائهم كان على الوالي أن ينفق من عنده بقدر ما يستغنون به، وإنما صار عليه ان يمونهم لان له ما فضل له ما فضل عنه)(1) والآية وأن وقعت في سياق ما حصل في معركة بدر من خلاف على الغنائم إلا أن من المعلوم أن الآيات القرآنية لا تُقّيد بمورد النزول والا أصبح كتابا للماضي وليس خالدا لكل الاجيال، لذا فالاية عامة شاملة.

و(الُغنم) في الأصل ((إصابة الغَنَم والظفر به ثم استعمل في كل مظفور به من جهة العدى وغيرهم)) كما في مفردات الراغب(2)، فيجب الخمس في كل غنيمة يظفر بها الانسان سواء في الحرب وغيرها ولا وجه لتخصيص الوجوب بغنائم الحرب، وقد وردت عشرات الروايات التي تذكر موارد وجوب الخمس وشروطه ونحو ذلك مما ذكر في الرسائل العملية للفقهاء ويكفي ان نذكر رواية واحدة معتبرة، في الكافي بسنده عن سماعة قال (سالت أبا الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن الخمس فقال:في كل ما افاد الناس من قليل او كثير)(3) وقد بحثنا مفصلا ادلة وجوب الخمس ومستحقيه في موسوعة فقه الخلاف(4)، وسيأتي شيء من ذلك ان شاء الله تعالى.

والنور الذي نريد اقتباسه من الاية هو شكوى الائمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من عزوف الناس عن دفع ما بذمتهم من حقوق شرعية الى مستحقيها، وما يصيبلى

ص: 100


1- الكافي:1/ 453، ح4
2- مفردات غريب القرآن- الأصفهاني:366
3- الكافي:1/ 457 ، ح11
4- فقه الخلاف: 3/ 9، ط. الأولى

الامة من عاقبة سيئة في الدنيا والاخرة اذا امتنعوا عن ذلك وكيف تقنع الناس بامتثال الواجب الشرعي.ومن تلك الشكاوى ما جاء في الرسالة الثانية التي وجّهها الإمام المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى الشيخ المفيد (رحمه الله)، والمؤرخة غرة شوّال سنة اثني عشر وأربعمائة(1)، أي قبل أكثر من ألف عام:(ونحن نعهد إليك أيها الولي المخلص المجاهد فينا الظالمين(2)، أيّدك الله بنصره الذي أيّدَ به السلف من أوليائك الصالحين إنه من اتقى ربَّه من إخوانك في الدين وأخرج مما عليه إلى مستحقيه كان آمناً من الفتنة المبطلة ومحنها المظلمة المضلّة، ومن بخل منهم بما أعاده الله من نعمته على من أمره بصلته فإنه يكون خاسراً بذلك لأولاه وآخرته، ولو أن أشياعنا وفّقهم الله لطاعته على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخّر عنهم اليُمن بلقائنا، ولتعجّلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلا ما يتصل بنا مما نكرهه ولا نؤثره منهم، والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل).

أسباب حرمان البشرية من لقاء الحجة :

فالإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يبينُ في هذا المقطع من الرسالة الشريفة أسباب حرمان

ص: 101


1- تجدها في كتاب الاحتجاج للطبرسي:2/ 324 . والذي يظهر من تأريخ التوقيع الثاني أنه وصل إلى الشيخ قبل وفاته بثمانية أشهر تقريباً حيث كانت وفاته في يوم الجمعة لثلاث خلون من شهر رمضان المبارك سنة 413ه- وعمره الشريف 75سنة أو 77 سنة وقبره اليوم في الرواق الكاظمي. وجاء في طرائف المقالات الجزء الثاني عن الشيخ يحيى ابن بطريق الحلي (إن الإمام الحجة (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كتب إلى الشيخ المفيد (رحمه الله) ثلاث كتب في كل سنة كتاباً).
2- لم يجاهد بسيف بل دفع الكثير من الشبهات عن مذهب أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).

البشرية وخصوصاً شيعته من طلعته المباركة وألطاف لقائه السنية، ويخصُ شيعته بالتأسف لأنهم مستحقون للفوز بلقائه بما يحملون من ولاء ونصرةٍ واعتقاد راسخ بهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، إلا إنه يمنعهم من ذلك بعض الموانع، أما غيرهم فهم غير مستحقين أصلاً للتشرف بلقائه، وقد جعل من أهم تلك الأسباب امتناعهم عن أداء الحقوق الشرعية التي فرضها الله تبارك وتعالى في أموالهم وإيصالها إلى مستحقيها. الأمور المترتبة على عدم دفع الحقوق :

وقد رتب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على ذلك أمرين :

1-تأخير ظهوره (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وبما يعني استمرار معاناة البشرية من الظلم والاضطهاد والتعسف والانحراف والضلال وكثرة مستحقي النار من البشر.

2-عدم الأمان من الفتن المضلة، لأن رايات ضلال عديدة تخرج قبل ظهور القائم (عج) وتخلط الأوراق على الناس، فيتيهون ولا يستطيعون التمييز بين راية الحق وراية الباطل، وقد عبّر أحد أصحاب الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) عن مخاوفه من مثل تلك الفتنة، وسأل عن كيفية النجاة والإصابة في التمييز بين هذه الدعوات المختلطة، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(والله إن أمرنا لأبين(1)من الشمس)(2)، ومن مقومات هذاار

ص: 102


1- أصول الكافي- الشيخ الكليني: 1/ 336/ح3
2- إلا إن هذه الأضاليل تمرر على الذين لم يعدوا أنفسهم الإعداد المطلوب لتحمل أمر الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إن أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان)، أما المؤمن المخلص لله تعالى فسيكون أمر الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) له أوضح من الشمس، وشواهد ذلك في واقعنا المعاصر كثيرة فكم ممن لهم مكانة علمية مرموقة تخفى عليهم أوضح الواضحات وتمرر عليهم الأباطيل، وكم من البسطاء ذوي القلوب النقية تعرف الحقيقة وتهتدي لها بيسر والمعيار

الوضوح - بحسب ما أفادته الرسالة الشريفة - أداء الحقوق الشرعية.

كيف يبخل الناس على الله بما رزقهم؟

كما تشير الرسالة ضمناً إلى أن كل ما بأيدي الناس من أموال إنما هو شيء رزقهم الله تعالى إياه، ولو شاء منعهم، فكيف يبخلون عليه تبارك وتعالى بطاعته وتنفيذ أمره في إنفاق البعض اليسير مما رزقهم(1) لقضاء حوائج المحتاجين الذين ابتلاهم الله بالمنع والفقر كما ابتلى هؤلاء بالعطاء والغنى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (هود:7).

لماذا نركز حديثنا على الخمس :

وتندرج تحت عنوان الحقوق الشرعية مصاديق عديدة كالزكاة والخمس والكفارات والنذور وردود المظالم، أما الإنفاق المستحب فمجالاته واسعة جداً، ونحن نركّز في حديثنا هذا عن الخمس لأمرين:

1-إنه من أهم الفرائض المالية، ويشكل اليوم عنصراً مهماً لحفظ التوازن الاقتصادي في المجتمع بعد أن قلّ دور الزكاة عمّا كانت عليه في صدر الإسلام بسبب تغيّر نمط الحياة الاقتصادية، فبعد أن كانت عُمدَة واردات الناس مستندة

ص: 103


1- قال تعالى {قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} (إبراهيم:31) و {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(البقرة:254) و{لَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ} (البقرة:3).

إلى الزراعة وتربية الحيوانات التي هي موارد وجوب الزكاة أصبحت اليوم مستندة إلى التجارة والصناعة والحرف مما يخرجها - بحسب المشهور- عن دائرة وجوب الزكاة، فيشملها الخمس، فيكون تشريعه إلى جنب تشريع الزكاة دليلاً على خلود هذه الرسالة وصلاحيتها لتنظيم حياة البشرية إلى النهاية حيث خطط الشارع المقدس لكل تغيرات الحياة.2-توالي هجمات التشكيك في وجوب الخمس وصدّ الناس عن أداء هذه الفريضة بأساليب مختلفة تأتي الإشارة إليها بإذن الله تعالى.

مانع الخمس يستحق النار :

والخمس فريضة واجبة كوجوب الصلاة والصوم والزكاة والحج في الموارد التي ذكرها الفقهاء (قده) استناداً إلى القرآن الكريم وسنة النبي العظيم (صلى الله تعالى عليه وعلى وآله الطاهرين) الذين هم عدلُ الكتاب(1)، فمن أخلَّ بشيء منها فقد ارتكب كبيرة يستحق عليها {ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ}(التحريم:6)، {يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}(الحج:2)، وقد عدّت بعض الروايات الشريفة بصراحة حبس الحقوق الشرعية من غير عسر من الكبائر، وقرنها الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)(2) إلى الزنا وشرب الخمر واللواط والفرار من الزحف وأكل مال اليتيم والربا، وكذا في حديث عن

ص: 104


1- ملحق شكوى القرآن, من نور القرآن: 3/ 284
2- وسائل الشيعة:كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ، باب 46 ح 33.

الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)(1).

ما هو الدليل على وجوب الخمس؟

وقد نصّ القرآن على وجوب الخمس بقوله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}(الأنفال:41)، ويراد بالغنيمة مطلق ما يستفيده الإنسان، ولا تختص بغنائم الحرب، قاله الراغب(2)، وأكدته موثقة سماعة، قال سألت أبا الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن الخمس، فقال:(في كل ما أفاد الناس من قليل أو كثير)(3)، وغيرها.

وقد أجمع علماء الفريقين على أن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان يعمل بها، فيخصّ قرباه من بني هاشم بالخمس حتى وفاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، ثم منعه القوم على مستحقيه من آل الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وجعلوهم كغيرهم (راجع الكشاف في تفسير هذه الآية ومسند أحمد وغيرها من الصحاح)(4).

وقد عبّر الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) عن لوعتهم لهذه المخالفة الصريحة للكتاب والسنة، فعن أبي جعفر الأحول قال:قال أبو عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ما تقول قريش في

ص: 105


1- نفس المصدر ح36 .
2- المفردات في غريب القرآن مادة (غنم) . حيث يقول:(والغنم بالضم فالسكون، إصابته والظفر به، ثم استعمل في كل مظفور به من جهة العدى وغيرهم ومن ذلك يظهر، أن المقصود بالغنيمة في اللغة، هو كل ما يكسبه الإنسان ويربحه من أي طريق كان. بمشقة أو غير مشقة، في حرب أو في سلم، من دون تقييد).
3- وسائل الشيعة:كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس ، باب 8 ح6 .
4- النص والاجتهاد للسيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي، ص 50 .

الخمس؟ قال:قلت:تزعم إنه لها؟ قال:ما أنصفونا والله، لو كان مباهلة لتباهُلنّ بنا، ولئن كان مبارزة لتبارُزن بنا، ثم يكون هم وعلي سواء)(1).

هل يُسقط الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) حقهم بسبب الظروف؟

نعم، قد يُسقط الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) حقّهم في فترةٍ ما بسبب الظروف التي يمرّون بها، كما في رواية يونس بن يعقوب قال:(كنت عند أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فدخل عليه رجل من القماطين فقال:جعلت فداك، تقع في أيدينا الأموال والأرباح وتجارات نعلم أن حقّك فيها ثابت، وإنا عن ذلك مقصرون؟ فقال أبو عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):ما أنصفناكم إن كلفناكم ذلك اليوم)(2)، فالسائل كان يعلم بثبوت حق الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في ماله، لكن الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أكّد له أنه قد أسقطه عنه اليوم لا مطلقاً.

لكن بعد ثلاثة أجيال يجد الإمام الجواد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فرصة مناسبة لبيان بعض تشريعات الخمس، فكتب إلى بعض أصحابه:(إن الذي أوجبتُ في سنتي هذه وهذه سنة عشرين ومائتين لمعنى من المعاني، أكره تفسير المعنى كله خوفاً من الانتشار، وسأفسّر لك بعضه إن شاء الله:إن مواليَّ أسأل الله صلاحهم أو بعضهم قصّروا فيما يجب عليهم، فعلمتُ ذلك، فأحببتُ أن أطهرهم وأزكّيهم بما فعلت من أمر الخمس في عامي هذا، قال الله تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ

ص: 106


1- كتاب الخمس ، أبواب قسمة الخمس ، باب 1 ح14 / 15 .
2- وسائل الشيعة:كتاب الخمس، أبواب الأنفال وما يختص بالإمام، باب4، ح6.

الرَّحِيمُ، وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ، وَسَتُرَدُّونَ إلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}(التوبة:103-105) إلى أن قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(فأما الغنائم والفوائد فهي واجبةٌ عليهم في كل عام، قال الله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ…}(1). ويأمر شيعته في نهاية الكتاب بإيصال الحقوق إلى وكلائه. وحرّموا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) التصرف قبل دفع الحقوق الشرعية، فعن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(لا يحلّ لأحد أن يشتري من الخمس شيئاً حتى يصل إلينا حقّنا)(2).وكتب رجل من تجار فارس من موالي الإمام أبي الحسن الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يسأله الإذن في الخمس، فكان مما قال في جوابه:إن (الخمس عوننا على ديننا وعلى عيالنا وعلى موالينا، فلا تزووه عنا ولا تحرموا أنفسكم دعانا ما قدرتم عليه، فإن إخراجه مفتاح رزقكم وتمحيص ذنوبكم وما تمهّدون لأنفسكم ليوم فاقتكم، والمسلم من يفي الله بما عهد إليه)(3)، وسألهُ جماعة أن يجعلهم في حلٍّ من الخمس، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ما أمحل هذا! تمحضونا المودة بألسنتكم وتزوون عنا حقاً جعله الله لنا وجعلنا له وهو الخمس، لا نجعل لا نجعل لا نجعل لأحد منكم في حل)(4)، وفي مكاتبة الإمام صاحب العصر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى سفيره محمد بن عثمان العمري (رحمه الله):(لعنة الله والملائكة والناس أجمعين على من استحلّ من مالنا .

ص: 107


1- وسائل الشيعة:كتاب الخمس ، أبواب ما يجب فيه الخمس ، باب 8 ، ح5 .
2- أبواب ما يجب فيه الخمس ، باب 1 ح4 .
3- وسائل الشيعة:كتاب الخمس، أبواب الأنفال وما يختص بالإمام، باب 3 ح2 .
4- نفس الباب، ح7 .

درهماً)(1).

الوعيد بحق مانع الزكاة يشمل الخمس أيضاً :

جميع ما ورد من التهديد والوعيد لتارك الزكاة ينطبق على تارك الخمس بوجهين:

1-إن كليهما فريضتان ماليتان، والغرض منهما واحد، بل إن أمر الخمس أخطر لتعلق حق أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وذرياتهم فيه بعد أن حُرّمت عليهم الزكاة، قال الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إن الله لا إله إلا هو لما حرّم علينا الصدقة أبدل لنا الخمس، فالصدقة علينا حرام، والخمس لنا فريضة)(2)، وإنما صار الاهتمام بالزكاة في صدر الإسلام لما قلناه من أنّ طبيعة الحياة الاقتصادية يومئذٍ كانت مورداً لوجوب الزكاة.

2-إن كثيراً من موارد ذكر الزكاة أريد بها معناها الأعم، أي مطلق الإنفاق الواجب في سبيل الله تعالى، أي عموم الحقوق الشرعية لا خصوص الزكاة المصطلحة(3)، كما قد يعبّر عن الزكاة الواجبة بالصدقة(4) في مثل قوله تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها...}(التوبة:60)،

ص: 108


1- نفس الباب ح7 .
2- وسائل الشيعة:كتاب الزكاة ، أبواب المستحقين للزكاة ، باب 29 ح7.
3- كما انه قد يعبر عن الصدقة بالزكاة كما عبر الله تعالى عن تصدق أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بخاتمه بقوله:{إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ} (المائدة:55) .
4- قال تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (التوبة:103) .

ومما جاء في مانع الزكاة الشاملة لمانع الخمس بالتقريب المتقدم ما ورد عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(ما من عبدٍ منع من زكاة ماله شيئاً إلا جعل الله ذلك يوم القيامة ثعباناً من نار مطوّقاً في عنقه ينهش من لحمه حتى يفرغ من الحساب، وهو قول الله عز وجل:{سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ} (آل عمران:180) (يعني ما بخلوا به من الزكاة)(1).ويتخذ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إجراءً في حق مانعي الزكاة بإخراجهم من المسجد، كما ورد عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:بينما رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في المسجد إذ قال:قم يا فلان، قم يا فلان، حتى أخرج خمسة نفر، فقال:(اخرجوا من مسجدنا لا تصلّوا فيه وأنتم لا تزكّون)(2)، وعن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من منع قيراطاً من الزكاة فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً)(3)، وفي وصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(يا علي، كفر بالله العظيم من هذه الأمة عشرة، وعدَّ منهم مانع الزكاة، ثم قال:يا علي، ثمانية لا يقبل الله منهم الصلاة، وعدَّ منهم مانع الزكاة، ثم قال:يا علي، من منع قيراطاً من زكاة ماله فليس بمؤمن ولا بمسلم ولا كرامة، يا علي، تارك الزكاة يسأل الله الرجعة إلى الدنيا، وذلك قوله عز وجل:{حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ(4)} (المؤمنون:99)(5). .

ص: 109


1- وسائل الشيعة:كتاب الزكاة ، أبواب ما تجب فيه الزكاة ، باب 3 ح3 .
2- نفس الباب ح7 .
3- وسائل الشيعة:كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة ، باب 4 ح5 .
4- وتفهم ذلك من خلال قوله تعالى {وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} (المنافقون:10) إذا تمعنت جيداً في هذه الآية الكريمة تدرك ما للصدقة من أهمية بالغة فأول شيء يأتي على ذهن العبد بعد الموت هو (الصدقة).
5- وسائل الشيعة:كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة ، باب 4 ح7 .

لعدم دفع الخمس آثارٌ وضعية :

وتكون المشكلة أعظم عندما نعلم إن لعدم دفع الخمس آثاراً وضعية وشرعية ذكرها الفقهاء (قدّس الله أرواحهم)، فإن اللقمة غير المُخمّسة تكون حراماً فتترك آثاراً سيئة في الذرية التي تتكون منها، والملبس غير المخمس لا يكون مباحاً فلا تصح الصلاة فيه، والماء إذا لم يكن مباحاً فالوضوء به باطل، وبذلك تتراكم هذه الذنوب والمشاكل على مانع الحقوق الشرعية.

علاج مشكلة عدم دفع الناس للخمس :

ولما كان العلم بالشيء والاقتناع به هي الركيزة الأساسية للاندفاع نحو العمل والتطبيق، وطالما قلنا(1):إن علاج أي مشكلة يجب أن يتوجه أصلاً إلى علل المشكلة وأسبابها ومناشئها، لا معلولاتها وآثارها الظاهرية ونتائجها، فإنه عمل غير حكيم(2).

ص: 110


1- ملحق شكوى القرآن, من نور القرآن: 3/ 282
2- بعض مناهج علم الأخلاق تركز على جانب المعلولات ولا تعالج العلة أو السبب لهذه الرذائل فمثلاً عندما يتكلم عن رذيلة من الرذائل فإنه يتناولها من جميع الجهات من حيث معنى الرذيلة وذمها في الأخبار وعلاجها إلا أنه لا يتطرق إلى بيان مناشئ هذه الرذيلة في النفس الإنسانية والنوازع التي تؤدي إلى ظهورها وكيفية إزالة هذه العلل والأسباب واجتناب المرض من أصله (فقد تجد أن سبب الغيبة مثلاً إما الحسد أو الأنانية أو الاستعلاء وكذلك تجد أن الغفلة وراء جميع المعاصي وهكذا) لذا ينبغي عدم الاكتفاء بمعالجة الأعراض الظاهرية للمرض كما أشير إليه بوضوح في كتاب (شكوى القرآن).

فالعلاج يكون على مستويين :

المستوى الأول:عام، بمعنى كيف نحفّز الناس على طاعة الله تبارك وتعالى عموماً وليس في الخمس فقط، ونثير فيهم الاستجابة لداعي الله تبارك وتعالى؟ {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ} (الأنفال:2)، {يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ، وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَْرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (الأحقاف:31-32)، وقد فصّلنا القول في ذلك في فصل (ما هي الدروس المستفادة من طريقة القرآن في إصلاح البشرية) من كتاب (شكوى القرآن)، وفي محاضرات (فلنرجع إلى الله)(1).

وقلنا هناك:إن من الفروق بين الشريعة الإلهية والقوانين الوضعية أن الشرائع الإلهية تربي الإنسان من الداخل أولاً وتبني ذاته، لذا يندفع إلى التطبيق بلا رقابة من الخارج ولا يحتاج إلى أي ضغط للطاعة والامتثال، بينما القوانين الوضعية تحتاج إلى فرض عقوبات وأجهزة مراقبة وردع، ومع ذلك يحاول الشخص بكل وسيلة التحايل والالتفاف عليها، خذ مثلاً الخمس، فإن المؤمن هو وحده يحاسب نفسه ويخرج ما عليه من حقوق ويأتي بكل سرور ليسلمها إلى الحوزة الشريفة أو يصرفها في مواردها، بينما يتهرب بكل الوسائل من الضرائب التي يفرضها عليه القانون، فهذا هو فرق أساسي بين الإسلام والحضارة المادية.

ص: 111


1- راجع: ملحق قبس/105{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا} (النور:31), من نور القرآن: 3/ 218

المحفزات التي تدفع المكلف نحو التطبيق :

وألخصُ لكم بعض هذه المحفزات التي يستثيرها الدين ليدفع المكلف نحو الاستجابة، مع تطبيقها على ما نحن فيه، وقد قسمتها هناك إلى ثلاث محاور نفسية وعقلية وقلبية باعتبارها مداخل الإنسان المتعددة ومنها:

1-إن نعم الله علينا كثيرة {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها} (النحل:18)، سواء في أبداننا أو حياتنا والطبيعة التي من حولنا عموماً، ومن شأن كل عاقل أن يرد الجميل بالجميل {هَلْ جَزاءُ الإِْحْسانِ إِلاَّ الإْحْسانُ} (الرحمن:60)، {وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (القصص:77)، ولما كان الله غنياً عن عباده فيكون رد الجميل إليه بطاعته واستعمال نعمه فيما يرضيه تبارك وتعالى، ومن غير الإنصاف والمروءة أن نعصيه بالنعم التي منّ بها علينا ونبخل عليه بحقه، عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(أن الله تعالى يبعث يوم القيامة ناساً من قبورهم مشدودة أيديهم إلى أعناقهم لا يستطيعون أن يتناولوا بها قيد أنملة، معهم ملائكة يعيّرونهم تعييراً شديداً يقولون:هؤلاء الذين منعوا خيراً من خير كثير، هؤلاء الذين أعطاهم الله فمنعوا حق الله في أموالهم)(1).

إن كل واحدٍ منا يحب أن تزيد النعم عليه وهي بيد الله سبحانه المنعم الحقيقي، وقد وعدنا سبحانه {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ}(إبراهيم:7)، وفي الحديث:(بالشكر تدوم النعم) (2)، ومن أشكال شكر النعمة أن تؤدي حق الله فيها ليزيدها الله تبارك وتعالى، وقال الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حديث:(واستنزلوا

ص: 112


1- وسائل الشيعة:كتاب الزكاة ، أبواب ما تجب فيه الزكاة ، باب 6، ح4 .
2- مستدرك الوسائل- الميرزا النوري: 12/ 370

الرزق بالصدقة)(1)، وعموماً فإن طاعة الله تبارك وتعالى سبب لإفاضة البركات:{وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالأْرْضِ} (الأعراف:96).2-إنه إذا أخبرنا إنسانٌ ثقة بأن حيواناً مفترساً في هذه الجهة فإننا نهرب بلا تردد في الاتجاه المعاكس ونحذر منه ونتخذ الإجراءات الواقية من الوقوع في الخطر، فإذا أكّد هذا الخبر ثقة آخر ازداد استعدادنا لذلك وكنّا أكثر حزماً، وقد أخبرنا مائة وأربعة وعشرون ألف نبي ومثلهم من الأوصياء والعلماء وكلهم ثقاة أنه سيكون هناك يوم قيامة، يثاب فيه المطيع على طاعته، ويعاقب العاصي على عصيانه بنارٍ وقودها الناس والحجارة، أفلا يوجب هذا البيان المؤكد الحذر والابتعاد عن كل ما يورّطنا في هذه النار المتأججة ولو احتمالاً؟ وقد وصفها الله تعالى بمشاهد مرعبة، وأخبرنا أنّ معصية الله سبحانه توقعنا فيها، وأن طاعته تورثنا جنةً عرضها السماوات والأرض فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (السجدة:17).

3-أن نسأل أنفسنا سؤالاً:ماذا يخسر الإنسان لو أطاع الله سبحانه واستقام على الشريعة؟ إنه لا يخسر شيئاً، بل على العكس فإنه يعيش ويتمتع بالحياة كما يفعل البعيد عن الله سبحانه، وفوق ذلك له المكاسب الدنيوية والأخروية التي يحققها له الإيمان بالله سبحانه والسير على شريعته، قال تعالى:{وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ} (النساء:104)، وقال تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ1.

ص: 113


1- وسائل الشيعة:كتاب الزكاة ، أبواب الصدقة ، باب 3 ح1.

لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآْياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأعراف:32)، وقد اتبع هذا الأسلوب الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حيث قال لأحدهم:(يا هذا إن كان ما تقول أنت - بأنه لا جنة ولا نار ولا حساب - حقاً فنحن وأنتم سواء، فإننا نأكل كما تأكلون وننكح كما تنكحون، وإن كان الأمر كما نقول - وهو كما نقول - هلكتم ونجونا)(1)، وهو أسلوب لا يستطيع أن يرفضه أي عاقل، وقد جرّب الكثير ممن بدأوا بإخراج الخمس من أموالهم أن ثروتهم ازدادت، حتى أن بعضاً من غير الملتزمين بطاعة الله يخمّسون من أجل زيادة الثروة، فأين الخسارة إذن؟!.4- أن نلتفت إلى أنّ الله تعالى مطّلع علينا ولا تخفى عليه خافية في السماوات والأرض، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد، وقد جعل على كل واحدٍ منا ملائكة يحصون الأعمال في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، وجعل الشهود على ذلك من أعضائنا التي نمارس بها حياتنا:{حَتَّى إِذا ما جاؤُوها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ، وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ، وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ ، وَذلِكُمْ5.

ص: 114


1- قال تعالى:{إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} (النساء:104)، أصول الكافي- الشيخ الكليني: 1/ 78 وقد تقدم القبس في المجلد الأول ص335.

ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ ، فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} (فصلت:20-24)، فإذا التفتنا إلى هذه الحقائق فسنكون دقيقين في تصرفاتنا وسنحسب ألف حساب قبل أن نورط أنفسنا في المعصية ومخالفة الشريعة، ومنها حبس الحقوق الشرعية وعدم إخراجها من المال.5-إن الإنسان الذي يمتنع عن إعطاء شيء من نفسه أو ماله لطاعة الله تعالى فإنه سيدفع أكثر منها في معصية الله وهو راغم، وستكون عليه حسرة يوم القيامة:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَ-رُونَ} (الأنفال:36).

وأنقل لكم الحديث التالي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهو حجة دامغة في وجه كل من يمتنع عن أداء الحقوق الشرعية، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قول الله عز وجل:{كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَس-َراتٍ عَلَيْهِمْ} (البقرة:167)، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (هو الرجل يدع ماله لا ينفقه في طاعة الله عز وجل بخلاً - وقد عرفت البخيل قبل قليل - ثم يموت فيدعه لمن يعمل فيه بطاعة الله أو بمعصية الله، فإن عمل فيه بطاعة الله رآه في ميزان غيره فرآه حسرةً وقد كان المال له، وإن كان عمل به في معصية الله قوّاه بذلك المال حتى عمل به في معصية الله عز وجل)(1).

وقد وصف أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مثل هذا الرجل بقوله:(إن أعظم .

ص: 115


1- وسائل الشيعة:كتاب الزكاة ، أبواب ما تجب فيه ، باب 5 ح5 .

الحسرات يوم القيامة حسرة رجل جمع مالاً بمعصية الله فمات فورثه رجل دخل به الجنة)(1)، وهذا الحديث كافٍ {إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق:37)، {وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ} (الحاقة:12)، عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (ما من رجل يمنع درهماً في حقه إلا أنفق اثنين في غير حقه، وما من رجل يمنع حقاً في ماله إلا طوّقه الله به حية من نار يوم القيامة)(2)، وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من منع حقاً لله عز وجل أنفق في باطل مثليه)(3).6-إن من يطيع الله سبحانه ويتجنب معصيته يعيش لذة الانتصار على أعدى أعدائه، وهي نفسه التي بين جنبيه الأمارة بالسوء، وكلّما كانت شهوة النفس واندفاعها للفعل قوياً كلما كان الترك أشد لذة، وكلما كانت رغبة النفس في الترك قوية كان الفعل أكثر لذة، مثلاً تعرض أمامك امرأة متبرجة قد أظهرت مفاتنها أو طالبة جامعية أو زميلة في دائرة تبرعت بإنشاء علاقة عاطفية غير مشروعة معك فتنتصر أنت على نفسك الطموحة إلى ذلك فتعيش لذة الانتصار بشكل لا يوصف، وهو ما أشار إليه الحديث:(النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن تركها لله تعالى أبدله الله نوراً وإيماناً يجد حلاوته في قلبه)(4)، والمال من أقوى ما تتعلق به النفس، قال تعالى:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} (آل عمران:14)، وقال4.

ص: 116


1- نهج البلاغة، باب الحكم، رقم 429 .
2- وسائل الشيعة:كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 6 ح1 .
3- نفس الباب ، ح2 .
4- ميزان الحكمة:9/ 4.

تعالى:{الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا} (الكهف:46)، وقال الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ما بلى الله عز وجل العباد بشيء أشد عليهم من إخراج الدرهم)(1)، لذا كانت لذة الانتصار على هذا العدو عظيمة تستحق أن يبذل المال بإزائها بلطف الله تعالى، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):إذا أراد الله بعبد خيراً بعث إليه ملكاً من خزّان الجنة فيمسح صدره ويسخى نفسه بالزكاة)(2).المستوى الثاني:خاص، وذلك بدراسة وتحليل الأسباب التي تؤدي بالناس إلى الامتناع عن دفع الحقوق الشرعية ومن ثمّ وضع العلاج لها.

أسباب عدم دفع الناس الخمس :

ومن تلك الأسباب ما يلي:

1-الجهل بوجوب الخمس، فبعضهم لا يعلم بوجوبه أصلاً، وبعضهم يظن وجوبه على خصوص الموسرين، وقد رسّخت هذا الجهل الأجيال المتعاقبة من المسلمين بإعراضهم عن امتثال هذه الوظيفة وترفّع العلماء عن المطالبة بها خشية سوء الظن بهم(3).

2-حملات التشكيك التي يمارسها أعداء الدين والمذهب ويروّج لها المرتزقة والجهلة السذّج بكل القنوات المتاحة، كالكتب والنشرات والصحفب.

ص: 117


1- وسائل الشيعة:كتاب الزكاة ، أبواب ما تجب فيه ، باب 2 ح14 .
2- المصدر السابق، نفس الباب ح16.
3- أضف إلى عدم وضوح لغة الرسائل العملية بحيث يصعب على المكلف فهم ما يجب عليه وما لا يجب.

والمجلات وغيرها، فتارة يقولون بعدم وجوبه أصلاً وإنه لم يذكر في القرآن وإنه خاص بغنائم الحرب(1)، أو إنه خاص بزمان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وهم قبل غيرهم يعلمون زيف هذه الدعاوى، لكنهم يبتغون بذلك تقويض إحدى الركائز المهمة للدين والمذهب.3-سوء تصرف بعض الوسطاء والوكلاء في نقل الحقوق الشرعية، مما يقلّل من الثقة بالدفع إليهم، إما لتوسّعهم في أمور المعيشة وترفهم، أو لعدم إيصالها إلى المرجعية المقصودة، أو لعدم نزاهتهم.

4-النفس الأمّارة بالسوء التي تشحّ بإنفاق المال ومطلق عمل الخير، فالكثير من الناس يؤدي الفرائض التي لا تكلفه مالاً، أما التي تحتاج إلى بذل المال فيتردد فيها.

5-الغفلة عن موارد صرف هذا الحق الشرعي، ولو عَلم أنها تصرف في قضاء حوائج المؤمنين وتزويج شبابهم لتحصينهم من الحرام ومعالجة مرضاهم وشؤون الحوزة العلمية الشريفة وحفظ كيانها ومدارسها الدينية التي أنجبت عبر التاريخ آلاف العلماء والمفكرين والكتّاب والخطباء الذين ساهموا في نشر الوعيم.

ص: 118


1- إن الذهاب إلى قصر وجوب إخراج الخمس، على خصوص غنائم دار الحرب، لا ينسجم مع خلود الإسلام وبقائه من ناحية عملية، واستمرار الدولة الإسلامية زمن قيامها، في تحمل الأعباء الضخمة، التي تترتب عليها تجاه الأمة وذلك من وجوه عدة أهمها: أ. إن الحروب قد أغلقت أكثر أبوابها وانحصرت، وانحسر ظلها، فانحسر بذلك ما قد يترتب عليها، في حال انتصار المسلمين من غنائم. ب. إن نتائج هذه الحروب، ليست مضمونة إلى جانب المسلمين في كثير من الأحيان. بل بالعكس فقد تكون نتائجها في غير صالحهم، فتكون الغنائم من نصيب أعداء الإسلام.

الديني وحفظ المذهب الشريف والإسلام العظيم طيلة ألف وأربعمائة عام وكأنَّ الدين نزل اليوم، ولو علم الإنسان ذلك لأدّى ما عليه من حقوق بكل سرور، إن كان غيوراً على دينه ومجتمعه ومخلصاً في التزامه.6-قلة الثقة بما عند الله، مما يجعله متمسكاً بما عنده من متاع زائل(1).

هذه بعض الأسباب مما خطر في ذهني القاصر.

علاج عدم دفع الناس الخمس :

وإذا عرفت السبب أمكن التفكير في علاجه من خلال نقاط:

1-تصدي الحوزة الشريفة لبيان الأدلة الكافية على وجوب هذه الفريضة العظيمة، وشمولها لكل ما يستفيده المرء من مكسب، فيجعل له يوماً في السنة يحاسب فيه نفسه، فيستثني مؤونته الشخصية من مسكن وملبس ومأكل وأثاث لائق بشأنه وواسطة نقل، ثم يخمّس الزائد إن وجد، وتوجد تفاصيله في الرسائل العملية للفقهاء(2).

2-الرد على الشبهات والشكوك التي يُلقيها المضلّون في أذهان البسطاء والسذج، وإلفات الناس إلى المقصود الأساسي لهؤلاء والذي يموّهون عليه بهذه الشبهات.

3-أن ينتصر المسلم على نفسه الأمَارة بالسوء، فإن اتباع الهوى والانسياق

ص: 119


1- قال تعالى:{أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} (البقر:61)و{قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَ مَصِيراً}(الفرقان:15)و{وَلَلآْخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأْولى}(الضحى:4).
2- التي ينبغي تبسيطها للمكلفين ليسهل فهمها ومعرفة التكليف الشرعي.

وراء النفس من المرديات، فإنها أعدى أعدائك بميلها لاتباع الشهوات وتمردها على الطاعة، فالمؤمن الشجاع من ملك زمام نفسه ليقودها إلى ما فيه النجاة ويستعين على قهر نفسه بما ذكرناه آنفاً من المحفزات.4-الالتفات إلى موارد صرف الخمس التي ذكرناها قبل قليل وتسليمه إلى الثقات الذين يضعون الحقوق في مواضعها، وإطلاع المكلف بنفسه أو مباشرته الصرف على المحتاجين بإذن الحوزة الشريفة، وسيرى نفسه مسروراً بمساهمته في هذه المصارف الجليلة التي وعد الله تعالى من ينفق ماله فيها الأجر الجزيل، والله يضاعف لمن يشاء.

5-أن يعلم المكلف أنّ كل ما عنده هو مما رزقه الله تبارك وتعالى، والله غني عن العالمين، وإنما يريد بفرض هذه الواجبات المالية ليبتلي المؤمنين منه بلاءً حسناً، فيثيب المحسن ويعاقب المسيء، وليطّهرهم ويزكيهم ويحررَّهم من أسر الشهوات والأهواء، حتى يخلصوا الانقياد والطاعة له تبارك وتعالى، قال عز من قائل:{خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (التوبة:103)، قال الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إني لآخذ من أحدكم الدرهم وإني لمن أكثر أهل المدينة مالاً، ما أريد بذلك إلا أن تطهروا)(1)، وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إنما وضعت الزكاة اختباراً للأغنياء ومعونة للفقراء، ولو أنَّ الناس أدّوا زكاة أموالهم ما بقي مسلم فقيراً محتاجاً، ولاستغنى بما فرض الله له)(2). .

ص: 120


1- وسائل الشيعة:كتاب الخمس ، أبواب ما يجب فيه الخمس باب 1 ، ح3 .
2- كتاب الزكاة ، أبواب ما تجب فيه ، باب 1 ح6 .

ومما يحسن الالتفات إليه أن من العوامل المهمة التي حفظت توازن مجتمعنا رغم الحصار(1) والضيق الذي يمر به منذ أكثر من عشر سنين هو ما يصرف على المحتاجين من مليارات الدنانير من الحقوق الشرعية.6-أن تتحلى الحوزة الشريفة والوكلاء والوسطاء بالورع والتقوى والثقة والأمانة وحسن مواساة الناس في الملبس والمأكل ومستوى المعيشة، خصوصاً في زمان العوز والفاقة كالذي نعيش فيه ويتأسوا بأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الذي رقَّع مدرعته حتى استحيى من راقعها، فقيل له في ذلك وهو رئيس دولة مترامية الأطراف، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(لكي لا يتبيَّغ بالفقير فقره)(2) أي تضغط عليه الحاجة ولا يجد من يواسيه فيتمرد ويخرج عن طاعة الله تبارك وتعالى.

أن يحسن العبد الظن بالله تبارك وتعالى، فقد وعده أن يخلف عليه، قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(من أيقن بالخلف سخت نفسه بالنفقة) (3)، وقال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من أيقن بالخَلَف جادَ بالعطيّة)(4)، وقال الله عز وجل:{وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ9.

ص: 121


1- فرض مجلس الأمن الدولي منذ غزو صدام المقبور للكويت عام 1990 قرارات ظالمة على العراق وشعبه ومنها الحصار الذي شمل حتى الغذاء والدواء، وتضرر الشعب العراقي بما لا يوصف ودفع ثمناً باهظاً واضطر لفعل كل شيء من أجل توفير لقمة العيش وإنهاء الاقتصاد، وارتفعت نسبة التضخم إلى أرقام فلكية حتى أصبح الدولار مساوياً ل- 3000 دينار عراقي بعد أن كان الدينار يُصرَّف بأكثر من ثلاثة دولارات، وبقيت رواتب موظفي الدولة عند 4-5 دولارات شهرياً، ولولا بقية من دين وأخلاق لأكل الناس بعضهم بعضاً.
2- نهج البلاغة ، باب الحكم رقم 138
3- الكافي- الشيخ الكليني: 4/ 43/ح3
4- وسائل الشيعة:كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه، باب 2، ح9.

شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (سبأ:39)، وقال الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من يضمن لي أربعة بأربعة أبيات في الجنة:انفق ولا تخف فقراً، وأنصف الناس من نفسك، وأفشِ السلام في العالم، واترك المراء وإن كنت محقاً)(1).

الآثار الإيجابية المترتبة على دفع الحقوق :

ويضاف إلى كل ذلك ما ذكر من آثار إيجابية في الدنيا والآخرة تترتب على الإنفاق ودفع الحقوق الشرعية ومن نتائج سلبية تترتب على الترك، وأي أجر ذكر للتصدق فهو شامل بالأولوية لدافع الخمس والزكاة، لأن التقرب إلى الله بالفرائض أكثر بما لا يقاس من التقرب بالنوافل والمستحبات، وفي الحديث:(لا قربة للنوافل إذا أضرت بالفرائض)(2)،كما إننا ذكرنا أن الصدقة بمعناها العام تشمل الزكاة والخمس وكل إنفاق في سبيل الله.

ومن هذه الآثار الإيجابية قوله تعالى{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة:261)، قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (داووا مرضاكم بالصدقة وحصّنوا أموالكم بالزكاة)(3)، وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ما تلف مال في بر ولا بحر إلا بمنع الزكاة)(4)، وقال الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إن الشحيح من منع

ص: 122


1- المصدر السابق، نفس الباب، ح8 .
2- نهج البلاغة تحت الرقم 39 من قسم الحكم.
3- المصدر السابق، باب 1 ح14 .
4- المصدر السابق، باب 3 ح9 من أبواب ما تجب فيه الزكاة .

حق الله وأنفق في غير حق الله)(1) وتمّمها بحديث آخر (حرام على الجنة أن يدخلها شحيح)(2) وعن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبدٍ أبداً)(3). وشكى شخص إلى الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إنه يرى أحلاماً مفزعة في المنام فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إنك لا تؤدي الزكاة قال بلى أؤديها قال إذن لا تضعها في محلها)(4)، وقال الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(استنزلوا الرزق بالصدقة)(5) وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(داووا مرضاكم بالصدقة وما على أحدكم أن يتصدق بقوت يومه، إن ملك الموت يدفع إليه الصك بقبض روح العبد فيتصدق فيقال له:رد عليه الصك)(6). وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(الصدقة باليد تقي ميتة السوء وتدفع سبعين نوعاً من أنواع البلاء)(7)، وعن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(إن الله ليربّي لأحدكم الصدقة كما يربّي أحدكم ولده حتى يلقاه يوم القيامة وهو مثل أُحد)(8)، وقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(صدقة السر تطفئ غضب الرب)(9) وعن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(البر وصدقة السر ينفيان الفقرح1

ص: 123


1- وسائل الشيعة:كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه ، باب 5 ح12 .
2- المصدر السابق، نفس الباب ح1 .
3- المصدر السابق، نفس الباب ح15 .
4- وسائل الشيعة:كتاب الزكاة، أبواب المستحقين للزكاة باب 4 ح1 ، 6 .
5- وسائل الشيعة:كتاب الزكاة ، أبواب الصدقة ، باب 3 ح1.
6- المصدر السابق، نفس الباب ، ح2 .
7- المصدر السابق، باب 5 ح1 .
8- وسائل الشيعة:كتاب الزكاة، أبواب الصدقة ، باب 7 ، ح8 .
9- المصدر السابق، أبواب الصدقة باب 13 ح1

ويزيدان في العمر ويدفعان سبعين ميتة سوء)(1).

كيف نفهم فلسفة هذه الأحاديث ؟

ويمكن فهم فلسفة هذه الأحاديث من ناحية اقتصادية واجتماعية ونفسية فحينما يقول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (استنزلوا الرزق بالصدقة) لأن انتشار الفقر يؤدي إلى ضعف القدرة الشرائية وتوقف عجلة الاقتصاد، فبدفع الحقوق الشرعية تتولد قدرة شرائية عند الناس فتتحرك عجلة الاقتصاد وتنمو الثروة.

وحينما يقول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(حصّنوا أموالكم بالزكاة) لأن الحاجة تدفع إلى السرقة وارتكاب الجرائم وابتزاز الأموال، فإذا قضينا على الفقر بدفع الحقوق الشرعية فسنسدّ بابا عظيماً للجريمة.

وحينما يقول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(داووا مرضاكم بالصدقة) لأن الأمراض والعقد النفسية والاضطراب وفقدان السعادة هي من أهم أسباب الأمراض، ومنشأها الرذائل النفسية كالطمع والحسد والاستئثار وحب الدنيا والحقد والجشع والكبر، فإذا طهّر نفسه منها فإنه سيعيش في صحة وسلامة وسيكسب الاطمئنان النفسي الذي هو علاج مهم للأمراض.

ويجوز للمكلف أن يستأذن بصرف حقوقه مباشرة إلى المحتاجين لما في ذلك من إيجابيات كثيرة لأنه أحرص على وضع حقوقه في موضعها، ولما ورد من الثواب في تسليم المال إلى الفقير يداً بيد وأن يقّبل المعطي يده بعد العطاء لما ورد من إنها تقع في يد الله تبارك وتعالى قبل أن تقع في يد الفقير وهو قوله تعالى

ص: 124


1- المصدر السابق، أبواب الصدقة ، باب 13 ح9 .

{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (التوبة:104)، وفيه روايات عديدة(1) ولاستحباب مواساة المؤمنين وقضاء حوائجهم وإدخال السرور عليهم وإغاثة ملهوفهم(2) عن محمد بن عجلان قال:كنت عند أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فدخل رجل فسلّم فسأله كيف من خلفت من إخوانك، قال:(فأحسن الثناء وزكى وأطرأ فقال له:كيف عيادة أغنيائهم على فقرائهم فقال:قليلة، قال:فكيف مشاهدة أغنيائهم لفقرائهم؟ قال:قليلة، قال فكيف صلة أغنيائهم لفقرائهم في ذات أيديهم؟ قال:إنك لتذكر أخلاقاً قلّما هي فيمن عندنا، قال:فقال:فكيف يزعم هؤلاء أنهم شيعة)(3) وعن سعيد بن الحسن قال:قال أبو جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):أيجيئ أحدكم إلى أخيه فيدخل يده في كيسه فيأخذ حاجته فلا يدفعه؟ فقلت:ما أعرف ذلك فينا، فقال أبو جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):فلا شيء إذن)(4).

دور الحوزة في توعية المجتمع :

وتقع على الحوزة الشريفة مسؤولية عظيمة بأن تكون أهدافهم سامية، وهو نيل رضا الله سبحانه والقربى منه والزلفى لديه والعمل بكل ما يقرب الناس إلى الطاعة ويبعدهم عن المعصية، وأن يكونوا قدوةً حسنة للناس بأخلاقهم وأعمالهم وإن لم يتحدثوا بألسنتهم تطبيقاً للحديث الشريف (كونوا لنا دعاة صامتين)(4) وفي

ص: 125


1- وسائل الشيعة:كتاب الزكاة، أبواب الصدقة ، باب 29 .
2- راجع محاضرة 13 رجب 1423 بعنوان (صفات المسلم في منظار أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)).
3- و (4) وسائل الشيعة:كتاب الزكاة، أبواب الصدقة ، باب 27 ، ح3 ، ح5.
4- مستدرك الوسائل- المحدث النوري: 8/ 310/ح3

حديث آخر (كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً)(1)، فهم ورثة الأنبياء وأولى من يتأسى برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الذي يتأوه ويتضرع إلى الله سبحانه من أي تقصير محتمل في أدائه للمسؤولية ويقول (أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها أو المرسلة شغلها تقمهما)(2). ويأمر أصحابه بمراقبة أفعاله ومحاسبته على تصرفاته وإن كان على رأس دولة واسعة ويقول لهم ما مضمونه (إن خرجت منكم بغير هذه القطيفة التي جئتكم بها من المدينة فأنا خائن) (3)،وهكذا مضى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) طاهراً نقياً فإذا أردنا الفوز بلقائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وصحبته فلا بد من التأسي به ولا تخدعنا العناوين البرّاقة والمواقع الاجتماعية الزاهية فإنها دنيا زائلة لا تسوى عند أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) شسع نعلٍ بالٍ، ولا نكون شيعته حقاً إلا إذا شاركنا الناس في معاناتهم وبذلنا الوسع في قضاء حوائجهم وتفهّم مشاكلهم خصوصاً في هذا الظرف العصيب.

ولنتذكر دائماً أن هذه المواقع التي نحن فيها أمانة في أعناقنا، فهل أديناها إلى أهلها وهو الإمام المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولا يعتبر أحدٌ أن هذه الأموال غنيمة فاز من).

ص: 126


1- الأمالي- الشيخ الصدوق: 484
2- بحار الانوار:341 /40 باب ح98/ زهده وتقواه وورعه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).
3- عن هارون بن عنترة عن أبيه قال: دخلت على علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)بالخورنق وعليه قطيفة وهو يرعد من البرد, فقلت: يا أمير المؤمنين إن الله قد جعل لك ولأهل بيتك في هذا المال نصيباً وأنت تفعل بنفسك هذا, فقال: أي والله لا أرزا من أموالكم شيئاً وهذه القطيفة التي أخرجتها من بيتي أو قال من المدينة), (تاريخ دمشق- ابن عساكر: 42/ 481, البداية والنهاية- ابن كثير: 8/ 4).

استكثر منها بل هي مسؤولية يجب الخروج من عهدتها {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ}(الصافات:24)، وحينئذٍ يكون في حلالها حساب وفي حرامها عقاب وفي الشبهات عتاب فأي هذه النتائج الثلاث تتحملها في ذلك اليوم العصيب يوم القيامة، وأي تقصير في أداء هذه الأمانة يكون خيانة لله والله لا يحب الخائنين قال تعالى {هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَْنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (المائدة:119)، وماذا يضرّنا لو كنّا صادقين في أقوالنا وأفعالنا وتخلينا عن كل ما لا يليق بنا حتى من المباحات التي ليس فيها حرمة شرعية إلا إن فيها منقصة أخلاقية.نسأل الله جلّت آلاؤه العصمة والتسديد في القول والعمل وأن يعيننا على طاعته ويجنبنا معصيته إنه ولي النعم.

ص: 127

القبس/50: سورة الأنفال:41

اشارة

{يَومَ ٱلفُرقَانِ}

موضوع القبس:يوم بدر كان فرقاناً بين الحق والباطل

وصف الله تبارك وتعالى يوم بدر بالفرقان في قوله تعالى:{وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} (الأنفال:41)، لأن النصر الذي منّ الله به تبارك وتعالى على عباده المؤمنين في معركة بدر كان فيصلاً فرّق بين الحق والباطل:الحق المتمثل بعقيدة الإسلام والانقياد لله تبارك وتعالى فيما يأمر وينهى وإقامة نظام الحياة على أساس شريعته المباركة، والباطل المتمثل بعبادة الأهواء وطاعة الطواغيت والانسياق وراء الشهوات واتخاذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله تبارك وتعالى. فأعزّ الله تبارك وتعالى الحق وجنده ونصرهم وأخزى الباطل وجنده وخذلهم.

ليس ذلك فحسب وإنما كان يوم بدر فرقاناً في تاريخ الإسلام والمسلمين فانتقلوا من مرحلة الخوف والاستضعاف والتشتت إلى مرحلة القوة والعزّة والمنعة والدولة وانطلق المسلمون بعدها ليبنوا حضارة البشرية كلها.

وكان فرقاناً ميّز أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بين من حمل الإيمان في قلبه واطمأنت به جوانحه وثبتت عليه جوارحه فصدقوا ما عاهدوا الله عليه، وبين من كان الإيمان عنده لقلقة لسان وطقوس سطحية يؤديها فإذا محّصوا بالبلاء قل

ص: 128

الديانون.وكان فرقاناً بين فهمين للعوامل الحقيقية للنصر فبعد أن كان الاعتقاد بان الفوز حليف الكثرة العددية والقوى المادية المتنوعة حتى قال قائلهم {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَ-ؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فإن اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال:49)، أصبح معيار النصر هو الإيمان والصبر والثبات على الحق فتهاوى جبروت قريش وعددها وعدتها بين إقدام المسلمين المعدمين إلا من النزر اليسير قال تعالى:{وَلَقَدْ نَصَ-رَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} (آل عمران:123).

هكذا كان يوم بدر يوم فرقان على جميع الصُعُد في معركة العقيدة، معركة تنزيل القران أي على مستوى الإيمان به والتصديق بما انزل الله تبارك وتعالى على نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وكان الرسول الأكرم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هو قائد هذه المعركة.

معركة التأويل:

ثم كانت حاجة لمعركة أخرى تلتها على مستوى السلوك والتطبيق لهذه التعاليم هي معركة التأويل أي الالتزام بحقيقة ما انُزِل على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعدم تحريفه عن حدوده والتصرف في الشريعة تبعاً للأهواء والمصالح والاستحسانات، وكان قائد هذه المعركة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إذ قال فيه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (وإنه المقاتل على التأويل إذا تركت سنتي ونُبِذت، وحُرِّف كتاب الله، وتكلم في الدين من ليس له ذلك، فيقاتلهم علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على إحياء دين الله عز وجل) (1)

ص: 129


1- الإرشاد للمفيد:1/ 124.

وروي عن أبي جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه ذكر الذين حاربهم علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال:(أما إنهم أعظم جرماً ممن حارب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، قيل له:وكيف ذلك يا ابن رسول الله؟ قال:أولئك كانوا جاهلية وهؤلاء قرأوا القرآن، وعرفوا أهل الفضل فأتوا ما أتوا بعد البصيرة) (1) ولما سأل علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فقال:يا رسول الله على ما أقاتل القوم؟ قال:على الإحداث في الدين)(2).فلم تكن هذه المعركة تنّفك عن تلك بل أن علياً لو لم يقاتل على التأويل لما بقي التنزيل ولحُرّف الدين وانتهى كل شيء كما كانت نتيجة الديانات السابقة لان كلمات التنزيل تبقى مجملة وعرضة للتلاعب والتحريف إذا لم توضع النقاط على الحروف فكان عليٌّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تلك النقطة التي تحركت على حروف كلمات التنزيل فأوضحت معانيها وثبتت حدودها وصانتها من عبث وتحريف أهل الأهواء والمصالح، لذا قال أمير المؤمنين في حرب صفين (والله ما وجدت من القتال بُداً أو الكفر بما أنزل على محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ))(3).

وكان في حرب التأويل يوم فرقان كيوم بدر ذلك هو يوم الزهراء (س) حيث وقفت (س) في مسجد أبيها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وأصحابه منصتون وهي تثبّت الحق وتعيده إلى نصابه بحجج بالغة وتدفع عنه التأويل والالتفاف على النصوص المباركة.8.

ص: 130


1- مناقب آل أبي طالب:3/ 19.
2- الأمالي- الشيخ الطوسي: 501/ح5
3- مناقب آل أبي طالب:3/ 18.

يوم الدفاع عن الإمامة:

كان يوم الزهراء فرقاناً أوضح معالم وصفات الإمام الحقّ وميّزته عن المتقمص لها ومن كلماتها سلام الله عليها (وما الذي نقموا من أبي الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)؟! نقموا والله نكير سيفه، وقله مبالاته لحتفه، وشدة وطأته، ونكال وقعته، وتنمّره (أي غضبه) في ذات الله، والله لو ما لوا عن المحجة اللائحة، وزالوا عن قبول الحجة الواضحة لردّهم إليها، وحملهم عليها، ولسار بهم سيراً سُجُحا (أي سهلاً) لا يكلم حشاشه، ولا يكِلُّ سائره، ولا يملّ راكبه، ولأوردهم منهلاً نميرا، صافياً، روياً، تطفح ضفتاه ولا يترنّق جانباه ولأصدرهم بطاناً، ونصح لهم سراً وإعلاناً، ولم يكن يتحلى من الدنيا بطائل، ولا يحظى منها بنائل، غير ريّ الناهل، وشبعة الكافل، ولبان لهم:الزاهد من الراغب والصادق من الكاذب {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَ-كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (الأعراف:96). {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ} (الزمر:51))(1).

الزهراء (س) الفرقان الحقيقي:

وكان يوم الزهراء (س) فرقاناً لتمييز المنقلبين على الرسالة من الثابتين عليها الشاكرين من أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ

ص: 131


1- البحار:ج43 ص159.

عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران:144). ومن ذلك اليوم تميّز في تاريخ الإسلام خطان الأول مستقيم {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ} (هود:112)، يمثل نقاوة الإسلام وأصالته، وخط انحرف عن جادة الصواب، وكلما طال الزمن ازداد الانحراف والابتعاد عن الخط الأصيل حتى صار خلفاء المسلمين كما يسمّونهم يشربون الخمر على منابرهم هذا ولا زال أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أحياء.

وكانت فاطمة فرقاناً يميّز الحق عن الباطل إذ قال فيها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (فاطمة يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها) (1)،فما رضيت عنه فاطمة فهو حق وما غضبت عليه فهو باطل لأنها معصومة وممن عرفت الله تبارك وتعالى فعرفت ما يرضيه وما يسخطه وما يصدر منها إلا ما يوافق رضا الله تبارك وتعالى.

وما أحوجنا اليوم إلى هذا الفرقان ليميّز لنا الحق من الباطل، والهدى من الضلال في كل عقيدة أو دعوة أو فكرة.

وما أحوجنا إلى هذا الفرقان ليفرّق لنا بين الصحيح والخطأ في آرائنا وتصوراتنا.

وما أحوجنا إلى هذا الفرقان ليميز لنا السلوك والتصرف الذي يرضي الله تبارك وتعالى من الذي يسخطه حيث اختلطت الأوراق وكثر المدّعون واشتبهت الأمور.03

ص: 132


1- الاحتجاج- الطبرسي: 2/ 103

اجعلوا الزهراء (س) نصب أعينكم:

فاجعلوا الزهراء (س) نصب أعينكم فيما يصدر منكم من فعل أو قول أو موقف أو فكرة تعتقدونها في عقولكم أو ضميمة تضمرونها في قلوبكم، واسألوا أنفسكم عن كل ذلك فحينما لا تلتزم المرأة بحجابها أو لا يؤدي الشاب الصلاة لربه أو لا يدفع التاجر خمس أمواله، أو يقصّر المسؤولون في خدمة شعبهم أو يقوم أحد بتصرف من دون الرجوع إلى المرجعية الرشيدة، فاجعلوا الزهراء (س) حكما عليكم في خلواتكم هل ترضى بذلك أم تسخط فإن رضاها رضا الله تبارك وتعالى وسخطها سخط الله تبارك وتعالى.

التقوى فرقان القلب:

وإذا سألتم كيف ندرك ذلك؟ وكيف ينبلج نور الفرقان هذا في قلوبنا حتى نستطيع به هذا التمييز، فإن الله تبارك وتعالى يجيبكم من قبل أن تسألوه تفضّلا منه وكرما، قال تبارك وتعالى:{يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (الأنفال:29)، إنها تقوى الله تبارك وتعالى التي تفجّر ينابيع المعرفة في القلب، لأن التقوى تزيل تأثير الهوى الذي يصدّ عن الحق ويحجب القلب عن رؤيته بما يجعل من الحجب فتعمى القلوب التي في الصدور، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إن أخوف ما أخاف على أمتي الهوى وطول الأمل، أما الهوى فانه يصدُّ عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة، وهذه الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وهذه الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فإن استطعتم أن تكونوا من أبناء الآخرة

ص: 133

ولا تكونوا من أبناء الدنيا فافعلوا، فإنكم اليوم في دار عمل ولا حساب وانتم غداً في دار حساب ولا عمل)(1).إن القلب ما لم يعمر بالتقوى وينفض عنه غبار الهوى وأغلال الشهوات لا يمكن أن يهتدي إلى الحق ولو أقمت له ألف دليل {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} (البقرة:145)، لأن الدليل مهما كان مفحماً ومسكتاً فانه لا يكون مؤثراً إذا لم تسكن إليه النفس ويطمئن به القلب.

إن من لا يمتلك هذا الفرقان يتخبط ويسير على غير هدى ويضلّ نفسه والآخرين ولا يميّز بين ما يضرُّه وما ينفعه ولا بين العدو وغيره كالثور المستعمل في حلبات مصارعة الثيران يجعل همّه في نطح قطعة القماش الحمراء غافلاً عن عدوّه المصارع الذي يطعنه بالخناجر حتى يصيب مقتله.8.

ص: 134


1- الكافي:ج8 ص58.

القبس/51 : سورة الأنفال:45

اشارة

{وَٱذكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرا لَّعَلَّكُم تُفلِحُونَ}

أهم قضايانا:أن نستحضر الله تعالى في وجداننا

من أهم الأهداف التي نسعى إليها والقضايا التي يجب أن نهتم بها ونكرس لها اوقاتنا هي كيف نجعل الله تعالى حاضراً في وجداننا وتنبض به قلوبنا ونصدِّق فعلاً أنه شاهد علينا ولا نغيب عن نظره سبحانه وهي الحالة التي أوصى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أبا ذر (رضوان الله تعالى عليه) بالوصول إليها (يا أبا ذر اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)(1).

أما أن نؤمن به تعالى نظرياً وفي عقولنا واذهاننا فهذا وحده لا يكفي، لذلك تجد نبي الله تعالى إبراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يطلب هذا الاطمئنان القلبي من الله تعالى رغم إيمانه العقلي التام {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ-ي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَ-كِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (البقرة:260).

والشاهد على عدم كفاية الايمان العقلي وحده انك تجد الكثيرين ممن يحملون هذا المستوى من الاعتقاد لكنه لا ينعكس على سلوكهم وتعاملاتهم واخلاقهم فهم يتبعون أهوائهم وعصبياتهم وتحزّباتهم ويطيعون سادتهم وكبراءهم بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.

ص: 135


1- مكارم الأخلاق- الطبرسي: 459

ينقل عن أحد مراجع الدين وهو من أهل المعرفة (قدس الله نفسه) أنه سأل الحاضرين لديه:هل حقاً توجد جنة ونار وحساب؟ فقالوا له:مثلك من يسأل هذا السؤال وقد تعلمنا العقائد الحقة منك؟ فبيّن وجه السؤال وحاصله أنني لا أرى لهذا الاعتقاد أثراً في حياة الناس حتى بدا كأنه وهم وليس حقيقة وهذا وجه قول الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ما خلق الله عز وجل يقيناً لا شك فيه اشبه بشك لا يقين فيه من الموت)(1) لأن الجميع متيقنون من ملاقاة الموت عاجلاً أو آجلاً لكن لا أحد يظهر على عمله الاستعداد لهذا الآتي الا القليل.ولذا تجد الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة تركز على الاكثار من ذكر الله تعالى والمواظبة عليه وعدم الغفلة عنه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} (الأحزاب:41) وليس المطلوب منه مجرد تحريك اللسان وانما استشعار كوننا بمحضر من الله تبارك وتعالى وانه شاهد علينا وناظر الينا في جميع احوالنا من السر والعلن وأنه وحده تعالى المؤثر في الخلق ولا تعمل الأسباب الاخرى الا بإذنه، وما يترتب على هذا الحضور من آثار المراقبة وإحسان العمل واجتناب المعاصي والذنوب والتوكل عليه وحده والطلب منه وتعلق الآمال به بفضل الله تعالى وكرمه.

إن ذكر الله تعالى يمكن أن يكون من خلال إثارة جوانب عديدة بحسب اسمائه الحسنى فيمكن ان تتناوله من جهة عظمة الله تعالى ببيان عظمة خلقه أو تناوله من جهة حكمة الله تعالى ببيان لطيف صنعه أو تناوله من جهة كرم الله14

ص: 136


1- من لا يحضره الفقيه:1/ 596 ، الخصال:14

تعالى ورحمته ببيان سعتهما أو تناوله من جهة حلمه ومغفرته وعفوه وهكذا، بلحاظ سائر الأسماء الحسنى، وهذا التنوع يكون بلحاظ استحقاق الشخص ومحط اهتمامه والباب الذي تدخل منه إلى قلبه، فقد يكون عالماً مادياً تريد هدايته أو شاباً مذنباً أو جاهلاً ساذجاً، أو مغتراً بالدنيا وغير ذلك من الحالات، فلكل واحد منهم ما يناسبه من الخطاب.ولعل الاجدى والأكثر تأثيراً في هذا المجال تحبيب الله تعالى إلى القلوب وقد ذكرت الروايات لمن يعمل على ذلك أجراً عظيماً فقد روي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (إني لأعرف ناساً ما هم انبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء بمنزلتهم يوم القيامة:الذين يحبّون الله ويحببّونه إلى خلقه، يأمرونهم بطاعة الله فاذا أطاعوا الله أحبهم الله) (1) .

وقد ذكرنا في قبس سابق (2) عدة أساليب لتحبيب الله تعالى إلى خلقه منها تذكيرهم بنعمه تبارك وتعالى، روي عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال (أوحى الله تعالى إلى موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أحبَّني وحببّني إلى خلقي، قال موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يا رب إنك لتعلم أنه ليس أحدٌ أحبَّ إليَّ منك فكيف لي بقلوب العباد؟ فأوحى الله إليه:فذّكرهم نعمتي وآلائي فأنهم لا يذكرون مني الا خيرا) (3).

لقد كان المرجع الشهيد السيد محمد الصدر (قدس الله نفسه الزكية) مهتماً بهذه القضية ايَّما اهتمام وعندما أقام صلاة الجمعة المباركة انتقد صريحاً الطريقة38

ص: 137


1- مجمع الزوائد للهيثمي:1 / 126
2- راجع: قبس/32 {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة:54), من نور القرآن: 1/ 356.
3- بحار الأنوار:13/ 351، 14/ 38

السائدة لدى الخطباء والمتحدثين من الابتداء بسطر واحد فقط يضم الحمدلله تعالى والصلاة على النبي وآله ثم الدخول في سائر المواضيع الدينية، وكان يعتقد بلزوم تخصيص حصة كافية لذلك فكان يبتدئ بمقطع من الادعية الشريفة التي تعمّق هذا الايمان في قلوبنا ووجداننا.ومن يتأمل في رسائله المنشورة في كتاب (قناديل العارفين) يجد هذا المعنى حاضراً والتأكيد على الذكر القلبي أكثر من اللساني، وذكر صوراً للذكر القلبي منها (التفكير في شأن الفرد أمام خالقه من القصور والجهل والذنب والتقصير وحسن الظن به تبارك وتعالى وكونه محل لطفه ونعمه سبحانه ونحو ذلك) (1) .

أيها الأحبة:إن احياء هذا التفاعل الوجداني والعملي مع الله تبارك وتعالى هو أهم قضية في حياتنا وهو مفتاح السعادة والخير وبه صلاح الأمة ونجاتها مضافاً إلى ما ورد في الرواية السابقة من المنزلة العظيمة فلا تقصروا فيه وهي مسؤولية الجميع خصوصاً الخطباء والمبلغَّين والكتّاب والمثقفين والمتحدثين، ولا ثمرة في أي عملية إصلاحية مالم تستند على هذا الأساس الوثيق. اعاننا الله تعالى على طاعته ووفقنا لما يحب ويرضى إنه ولي النعم.67

ص: 138


1- قناديل العارفين:167

القبس/52: سورة الأنفال:46

اشارة

{وَلَا تَنَزَعُواْ فَتَفشَلُواْ}

موضوع القبس:التنازع يؤدي الى الفشل

درس في الالفة والاخوّة من البعثة النبوية المباركة:

الآية تنهى المؤمنين عن التنازع والتخاصم فيما بينهم وتحذرهم، بأن عاقبة هذا التنازع هو الفشل والضعف والانهزام لأنهم سينشغلون بهذا الصراع الداخلي عن الاستعداد لمواجهة الأعداء وسينهك قواهم وسيفقدهم الثقة بأنفسهم ويحطّم شخصياتهم ويذهب بحرمتهم وكرامتهم لأن كلاً من الطرفين المتنازعين يريد أن يتغلب على الآخر بأي ثمن فيبذل طاقته في تسقيط الآخر والبحث عن عيوبه ونقائصه وإظهارها للأخرين لكي يثبت أحقيته وغلبته، فيسقط الجميع بهذا الانتقاص المتبادل ويفشلون.

في معنى ذهاب ريحهم:

ويؤدي الفشل الى ذهاب ريحهم أي عزّتهم وقوتهم وغلبتهم وتسير الامور على غير ما يريدون، وفي التعبير عن القوة بالريح رمزية وكناية دقيقة عن هذا المعنى لأن الريح هي التي ترفع الأشرعة وتعطي القدرة لاندفاع السفن في البحار فإذا توقفت الريح فإن السفن تعجز عن الحركة ولم يتحقق الوصول الى الهدف المطلوب، كذلك فإن الريح تجعل الأعلام والألوية ترفرف مرتفعة في

ص: 139

ساحة الحرب فتشعر بالقوة فإذا ذهبت الريح انتكست الأعلام وخارت القوى.

حقائق قرآنية تؤسس للنظام الحضاري:

هذه واحدة من الحقائق القرآنية التي تؤسس لنظرية سياسية واجتماعية لأنها تشخص سبب أنهيار الدول وتفكك المجتمعات والشواهد التاريخية كثيرة في كل العصور ولعل أوضحها هزيمة المسلمين في الاندلس وانحسار دولة الإسلام عن تلك الأرض الاوربية بعد سلطة دامت حوالي ثمانمائة عام حينما انقسم المسلمون تبعاً للامراء وملوك الطوائف وتنازعوا وأصبح بعضهم يتآمر على بعض ويستقوي بالأعداء على اخوته.

ولا يختص الفشل وذهاب الريح والقوة بالجانب المادي وما يتعلق بالدنيا، بل تذهب القوة المعنوية أي روح الايمان وطمأنة القلب أيضاً, فتخسر الامة ريحها ورُوحها ورَوْحها لان التنازع يوقع صاحبه في الكبائر من اجل تحقيق الغلبة فيتورط في الغيبة والكذب والبهتان والافتراء والتجسس على خصمه ليضعفه وهذه كلها من الكبائر الموبقة، ويبرّر لنفسه المداهنة والسكوت عن الباطل عند من يريد الاستقواء به على خصمه وينشغل تفكيره بالمجادلات والمنازعات عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة وهو من فعل الشيطان بهم وهكذا يذهب في منزلق خطير نحو الهاوية.

وهذه الامور مجرّبة ومعروفة في كل المنازعات مهما صغرت دائرتها او اتسعت كالخلاف بين الزوجين أو بين العائلة الواحدة على الميراث مثلا او النزاع بين عشيرتين أو حزبين سياسيين أو بين جماعتين أو بين مقلدي المرجعيات الدينية المتعددة، او بين طائفتين وغير ذلك، وهكذا يستهلك المجتمع الواحد قوته

ص: 140

وامكانياته في هذه النزاعات ويفسح المجال واسعا لخصمه ليستحوذ على حقوقه التي فرّط فيها .روى الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (من لاحى – اي خاصم ونازع – الرجال سقطت مروءته وذهبت كرامته، ثم قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم يزل جبرائيل ينهاني عن ملاحات الرجال كما ينهاني عن شرب الخمر وعبادة الاوثان)(1)، وروي عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله:(لا يستكمل عبد حقيقة الايمان حتى يدع المراء وان كان محقا)(2) و عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (من ترك المراء وهو محق بُني له بيت في اعلى الجنة، ومن ترك المراء وهو مبطل بُني له بيت في رَبَض الجنة)(3) - اي ما حولها خارج عنها – وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (اياك والمراء فانه يحبط عملك، واياك والجدال فانه يوبقك، واياك وكثرة الخصومات فانها تبعدك عن الله)(4) وعن الامام الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (المراء يفسد الصداقة القديمة ويحلل العقدة الوثيقة -كالعلقة الزوجية او القرابة-، وأقل ما فيه أن تكون فيه المغالبة، والمغالبة اُسً اسباب القطيعة)(5).

الحل الإسلامي لمشكلة النزاع:

وبالعودة الى الآية الكريمة فإنها تعطي الحل لحسم النزاع وانهائه وهما

ص: 141


1- امالي الطوسي :512 المجلس 18 الحديث 1119.
2- ميزان الحكمة :8/ 117.
3- نفس المصدر.
4- نفس المصدر.
5- ميزان الحكمة :8/ 117.

أمران كفيلان بازالة اسباب النزاع ومنعه من أصله، وبتركهما يحصل التنازع وهما:1-التحاكم الى علماء الشريعة في كل اختلاف والتسليم والاذعان لحكمها سواء كان لمصلحته أو على خلافها، ولذا ابتدأت الآية بالأمر بطاعة الله تعالى ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وطاعة القيادة الحقة التي جعلها الله تعالى حجة على عباده، قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} (النساء:59) فالالتزام بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والرجوع الى القيادة الحقة هما الضمان من وقوع التنازع او الانجرار اليه بسبب الاختلافات فالآية تشير الى سبيل تحقيق وحدة المسلمين ومنع تشرذمهم وهو ما عبرت عنه الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (س) بقولها (وطاعتنا نظاما للملة، وإمامتنا أمانا من الفرقة)(1).

وبتعبير آخر إن الخلاف بين الناس يمكن أن يحصل بسبب اختلاف الفهم أو النوايا او بسبب تدخل الاخرين والعوامل الخارجية ونحو ذلك، وهو بهذا المقدار يبقى ضمن الاطار الطبيعي مادام المختلفون عازمين على أن يعودوا الى حكم الشريعة وحاكمها والقيادة الشرعية الرسالية ليفصل بينهم وعليهم التسليم له وان يكون مبتغاهم دائما معرفة الحق واتباعه، فالتنازع المذموم انما يقع من نقطة الابتعاد عن حكم الشريعة وأوامر القيادة الرسالية الحقّة والتشكيك فيها والتمرد عليها، ومن نقطة اتباع الاهواء والانانيات والتعصب بحيث يجعل هواه وارادته هيي.

ص: 142


1- بحار الأنوار :ج 29 /223، نقلا عن الاحتجاج للطبرسي.

المتبعة والحاكمة في الاختلاف وحينئذ يقترن به الشيطان ويسوّل له ان الرضوخ للحق هو هزيمة واهانة واذلال بينما الصحيح هو ان الحق احق ان يتبع وطالبه هو الغالب دائما.2-الالتزام بالصبر لأن الاحتكام الى الشرع والعمل بالتوجيهات الشرعية على خلاف هوى النفس يحتاج الى مجاهدة ومصابرة فيامرنا الله تعالى بالصبر ويعدنا باحسن الجزاء وهو{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} معهم مطلقاً أي في كل الأحوال وفي الدنيا والاخرة، وكفى بهذه المعية حافزاً ودافعاً للصبر على القيام بما يريده الله تبارك وتعالى.

الفشل والانهزام:

والآية صريحة بان التنازع يؤدي الى الفشل، لكن المستفاد من غير موضع عكس ذلك أي أن الفشل هو سبب التنازع، قال تعالى فيما يتعلق بواقعة اُحُد {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} (آل عمران:152) وقال تعالى في معركة بدر {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْر} (الأنفال:43) فالعلاقة بين الفشل والتنازع جدلية تلازمية حيث يؤدي كل منهما الى الاخر بمرتبة من المراتب، وقد اتضحت صورة اداء التنازع الى الفشل.

اما ان الفشل يؤدّي الى التنازع فواضح ايضاً لسببين على الاقل:

1-ان التنازع لم يحصل الا عندما استسلم لهواه واطماعه وفشل في مجاهدة نفسه والالتزام بما يريده الله تبارك وتعالى كالذي حصل في معركة اُحُد حينما اتبعوا أهواءهم وعصوا وصايا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتركوا مواقعهم لكي

ص: 143

يشاركوا إخوانهم في جمع الغنائم {مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّون} فحصل الفشل ثم التنازع كما في آية سورة آل عمران المتقدمة.2-إن الفاشل لا يريد أن يعترف بفشله ولا يحمل نفسه المسؤولية حتى يعالج الاسباب وانما يلتجأ الى التنازع ليغطي فشله بالتخاصم والتنازع مع الآخرين واظهار انهم فاشلون، اي انه بدل ان يرتقي الى مستوى الناجحين يعمل الى انزال الناجحين الى مستواه الفاشل، وأتذكر هنا مثالاً طريفاً من الواقع فحينما كَّنا صبياناً وكان بعض أصدقائنا يلعبون كرة القدم فإذا فاز فريقهم عادوا فرحين مستبشرين، وإن خسروا رجعوا يتلاومون ويُحمّل بعضهم الآخر مسؤولية الخسارة ويبحث كل واحد عن خطا وتقصير الآخرين، فأدى الفشل هنا الى التنازع اما عند الفوز فلا نزاع بينهم.

نموذج معاصر للفشل من أثر التنازع:

وهكذا في كل المجالات واسوء مثال لهذه الحال السياسيون المتصدرون للمشهد فانهم بسبب فشلهم الذريع في اداء مسؤلياتهم امام الشعب وانشغالهم بمصالحهم الشخصية وسرقة قوت الشعب فانهم يغّطون على فشلهم بالمخاصمات والجدل العقيم وتبادل الاتهامات من دون ان يحلّوا اي مشكلة، ويؤدي بهم هذا التنازع الى فشل جديد وهكذا.

فالأزمة في العراق اليوم ليست ازمة مالية كما يعلنون لان مدخولات العراق الحالية تناهز 50 مليار دولار أو أكثر وهي كافية لمثل سكان العراق، ولا أن سببها وجود الاجندات الخارجية ولا غيرها وان كان لكل منها شيء من التأثير، وانما سبب خراب العراق وانهيار الدولة حتى اصبحت نهباً للعابثين والطامعين

ص: 144

والحاقدين هو فشل المتصدين وسوء ادارتهم وتنازعهم فيما بينهم على تحقيق مآربهم الشخصية والفئوية، فغطّوا فشلهم بالتنازع وادّى تنازعهم الى الفشل. ولدى التأمل فان قوله تعالى {فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} يكشف بالعلاقة العكسية ومن بعض الوجوه عن أن المجتمع والبلد الذي يعاني من التنازع وذهاب القوة والمنعة تحكمه قيادات فاشلة لا تستحق منح الثقة بها.

إن من أعظم النعم التي منّ الله تعالى بها على الامة بالبعثة النبوية الشريفة هو التاليف بين القلوب ونبذ الخلافات والنزاعات قال تعالى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران:103)، وقال تعالى {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِين وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال:62 -63).

فلنستذكر هذه النعمة العظيمة ولنحرص عليها كما أمرنا الله تبارك وتعالى، ولنتعاهد في هذا اليوم المبارك على عدم الوقوع في التنازع والتقاطع والتخاصم قدر الامكان بفضل الله تبارك وتعالى.

ص: 145

القبس/53: سورة الأنفال:60

اشارة

{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱستَطَعتُم مِّن قُوَّة}

موضوع القبس:إعداد القوة في السيرة النبوية المباركة

{وَأَعِدُّواْ} صيغة أمر وإلزام مثل {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} وغيرها، والإعداد للشيء تهيئة المقدمات واللوازم التي يتطلبها تحقيق ذلك الشيء، كإعداد السلّم للصعود والماء للغسل وإعداد لوازم السفر قبل الشروع فيه وهكذا.

{لَهُم} مجملة فلم يحدّد الذين يتم الاعداد والاستعداد لهم بغض النظر عن إعادة الضمير لسياق الآيات السابقة لإمكان النظر الى الآية مستقلاً، و بذلك ترك الأمر مفتوحاً لكل من بينت الآيات الكريمة والاحاديث الشريفة انه عدو تلزم مواجهته والاستعداد له سواء كان عدواً مادياً محسوساً كالمجرمين و الطواغيت والمفسدين وكالقوى الظالمة المعتدية أو غير محسوس لكنه يدرك بالوجدان والبصيرة كالشيطان والنفس الأمارة بالسوء.

والعدو الاول قد يكون معروفاً معلوماً معلناً بعداوته وقد يكون متخفياً كما في بقية الآية {وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ} مثل المنافقين المتظاهرين بلباس الدين، وقد لا يكون عدواً فعلياً الآن ولكنه سيكون كذلك لاحقاً لان الاختلاف في الافكار والايدولوجيات والطبائع وتعارض المصالح سنة جارية بين بني البشر فيؤدي ذلك الى الصراع والتنازع إلا ما رحم ربي، فالأمر في

ص: 146

الآية واسع و شامل إذ يجب أن يكون الاستعداد تاماً بلحاظ كل هذه الاحتمالات.{مَّا اسْتَطَعْتُم} أي بكل ما تستطيعون من الإعداد وكل ما تسمح به قدراتكم وقد يكون شيء الآن فوق طاقتكم لكنكم إذا عملتم بكل ما تستطيعون الآن فستصبح لكم القدرة حينئذٍ على إعداد ما لم تكن تستطيعونه اليوم، نظير ما ورد في تحصيل التقوى قال تعالى {اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (آل عمران:102) وهو أمر متعذر على الناس فجاء قوله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن:16) ليبين وسيلة الوصول الى تلك النتيجة فالآية الأولى استراتيجية تبين الهدف الذي يراد الوصول اليه والثانية تكتيكية في المصطلح تبين كيفية الوصول إلى ذلك الهدف عبر مراحل، فإذا عملت الآن بما تستطيع من التقوى رزقك الله تعالى درجة أعلى منها وصرت تستطيعها بعد إن لم تكن، فإذا عملت بها وهبك الله تعالى أعلى منها حتى تصل الى نتيجة (حق تقاته).

{مِّن قُوَّةٍ} من بيانية وأطلقت كلمة {قُوَّةٍ} لتشمل كل أشكال ومصاديق القوى فهي لا تختص بالقوة العسكرية بل تشمل القوة الاقتصادية والسياسية والبشرية والعلمية والإعلامية والاجتماعية والتنظيمية وتشمل أيضاً ما يسمى بالقوى الناعمة التي تناولناها في عدة احاديث، حتى ان بعض الروايات جعلت من مصاديق القوة صبغ اللحية بالسواد لإظهار الشباب و الفتوة امام الاعداء فيحصل لديهم الخوف و الرعب ففي الكافي ان الحسين بن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أختضب بالسواد فسألوه عن ذلك فقال (أمر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في غزاة غزاها أن يختضبوا بالسواد

ص: 147

ليقووا به على المشركين)(1).وعلى رأس هذه القوى، القوة المعنوية والروحية التي هي أصل القوى كالإيمان و الصبر و المجاهدة و التوكل و الدعاء و التوسل و {خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (البقرة197) و أنما كانت أصل القوى لأن بها مواجهة أصل الاعداء النفس الامارة بالسوء و الشيطان (اعدى اعدائك نفسك التي بين جنبيك)(2) {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} (الإسراء53) حتى سّمى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هذه المواجهة بالجهاد الأكبر(3) .

كما إن كل من هذه القوى لها مصاديق تتناسب مع كل زمان فالقوة العسكرية في زمان نزول الآية كان يراد بها السيف والقوس والرمح ونحو ذلك، لذلك وردت عدة روايات تطبق القوة في الآية على رمي السهام و ركوب الخيل، واليوم تشمل الطائرات المقاتلة والسفن الحربية والصواريخ العابرة وتأسيس الأكاديميات العسكرية التي تخرج القادة و مراكز تدريب الجنود وغير ذلك.

والخطاب واضح في الآية انه يطالب الامة بأن تقوم هي بإعداد القوة و ليس بأن تستوردها من الغير و تدّعي إنها تمتلك القوة، أما إذا لم يعدّوا هذه القوى و لم يجهزوا انفسهم بها ولم يتمتعوا بالاكتفاء الذاتي فأنهم سيبقون تابعين لمن).

ص: 148


1- الكافي:6/ 481 ح4.
2- المجلسي- محمد باقر- بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة- ج67 ص36.
3- عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بعث سرية فلما رجعوا قال:مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، فقيل:يا رسول الله ما الجهاد الأكبر؟ قال:جهاد النفس. الكافي :وجوب جهاد النفس، وقد وردت بسند اخر عن امير المؤمنين علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

يزودهم بها و تمهّد الطريق لاستعبادهم. و ستكون قراراتهم مرتهنة لأولئك الذين يستضعفونهم ويملون عليهم ارادتهم، فمن الغريب ماعليه الدول المعروفة بالاسلامية من اعتمادها في تحصيل قوتها وقدراتها العسكرية على الدول المعادية لهم.واختيار هذه التعابير المطلقة القابلة للانطباق على كل زمان مظهر من مظاهر الاعجاز القرآني و قدرته على مخاطبة كل الأجيال حيث ينسجم مع آليات عصر النزول ويفهمه أهله وبنفس الوقت ينسجم مع معطيات القرن الواحد والعشرين والمستقبل ليكون شاهداً على خلود القرآن وملائمته لكل زمان ومكان.

ومن الواضح ان هذا الأمر بالإعداد عام بجميع الاتجاهات ،فهو عام بلحاظ الافراد لانه موجه لجميع الناس لأن المشكلة التي يراد معالجتها بهذا الأعداد - و هي مواجهة عدو الله وعدوكم - يعاني منها كل الناس، و الثمرات المرجوّة منه تكون في مصلحتهم جميعاَ، و الأمر عام أيضاً بلحاظ الأزمان ومصاديق القوة فأهل كل زمان مطالبون بإعداد كل ما يستطيعون من أشكال القوة التي تناسب زمانهم و أوضاعهم مما أشرنا اليها لتحقيق العدالة في الأرض وإقامة دولة الانسان التي تحفظ فيها حقوق كل الناس بصفتهم الانسانية وليس حكومة الاهواء والشهوات والنزوات المليئة بالظلم والفساد الذي يعمّ كل الناس وهذه كلها اهداف انسانية يسعى كل الناس لتحصيلها، لذا كان الخطاب عاماً للجميع كما ان البدن إذا داهمه عدو استعد بتمامه لمواجهته كما في الحديث الشريف (مَثَلُ المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى

ص: 149

له سائر الأعضاء بالسهر والحمى)(1). والغرض من إعداد القوة ليس العدوان على الناس ونهب ثرواتهم واستعبادهم كما يفعل الغرب اليوم و سائر القوى الطاغوتية المتفرعنة عبر التاريخ ولا للظلم ولا الفساد ولا البغي و الاستعلاء في الأرض وإنما {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ} لإخافة أعداء الله والإنسانية الذين يعتدون على كرامة الانسان ومقدساته ويحرمونه من حقوقه ويمنعون الناس من اعتناق العقيدة الحقة بحرية، وهذه الاخافة لردعهم عن التفكير بالعدوان على الناس الآمنين وإنتهاك حرماتهم، فهو إعداد دفاعي وإحترازي:لأن كثيراً من الناس المتجبرين والطواغيت لا يردعهم عن ظلمهم وطغيانهم إلا إعداد القوة التي تخيفهم وترعبهم، وبنفس الوقت تشعر هذه القوة الاتباع بالأمن وحرية ممارسة إقامة النظام الإسلامي في حياتهم وشعائرهم الدينية، وتفتح الطريق واسعاً لمن يريد أن يتعرف على هذا الدين او يعتنقه من دون أن يمنعه أحد، وبنفس الوقت هو إعداد حركي فهذه القوة تُعدُّ لتحرير الإنسان لإنها ترفع العوائق عن حركة نشر الإسلام وإيصاله الى كل الناس، فهذه كلها من ثمرات قوة ومنعة وعزة المجتمع الإسلامي.

ومن هذا يظهر ما في التعبير {وَأَعِدُّواْ لَهُم} من لمسة وجدانية عاطفية رقيقة مليئة بالرحمة فهذا الاعداد {لَهُم} أي لمصلحة الأعداء وليس {عليهم} كما في الآية {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (آل عمران:133) تقول أعددت لك كذا فهذا فضل وإحسان تقدّمه للآخر، فهذا الاعداد للقوى هو لمصلحة الأعداء لأنه0.

ص: 150


1- بحار الأنوار:ج58، ص150.

يردعهم عن المضي في تنفيذ النوايا والمشاريع السيئة التي يريدونها فهو يحميهم من أنفسهم الأمارة بالسوء و من كيد الشيطان الرجيم الذي يريد ان يزيدهم ذنوباً الى ذنوبهم و يغرقهم في دركات الجحيم.

اعداد القوة في السيرة النبوية المباركة:

ولنأخذ تطبيقات لهذه الآية من سيرة النبي الأكرم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ولو باختصار بحسب ما يناسب الوقت.

فأول إعداد كان لشخصية القائد وصناعته على نحو يفي بمتطلبات أداء الرسالة العظيمة الخالدة وليكون مؤثراً في الاتباع والاعداء على حد سواء والشواهد كثيرة في حياته الشريفة، وهذا الاعداد تولاه الله تبارك وتعالى (ادبني ربي فاحسن تأديبي)(1) (إن الله أدب نبيه ثم فوض اليه أمر الخلق)(2) وهو (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أولى بخطاب {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} (طه:41) {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (طه:39)

والاعداد الثاني للمال اللازم للتحرك بالرسالة ورعاية الاتباع وكفالتهم مع عوائلهم بكافة احتياجاتهم ومواجهة مؤامرات الاعداد وحصارهم و مقاطعتهم وهذا ما قامت به أم المؤمنين خديجة (س) زوج النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فصرفت كل أموالها العظيمة في سبيل الله.

والاعداد الثالث للسند القوي الذي يحميه ويأوي اليه إذا تكالب الأعداء {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} (هود:80) وتكفل به عمه أبو طالب رضوان الله

ص: 151


1- بحار الأنوار:ج 16، ص 210.
2- الكافي:1/ 266، ح4.

تعالى عليه.و الإعداد الإلهي الآخر كان بإيجاد الذراع القوي الشجاع و الجندي المتفاني في طاعة ربه تعالى ونبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) و الذبّ عنه و إرعاب الأعداء و منعهم من الوصول اليه و هو أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، قال الشاعر :

فلولا أبو طالب و ابنه لما مثل الدين شخصاً فقاما.

فهذا كله كان قبل إعلان الرسالة، ثم ركزّ بعد إعلانها على إعداد الاتباع عقائدياً بحيث يذوبوا في عقيدة التوحيد والرسالة النبوية المباركة ويندكوا فيها واستمر هذا الاعداد طيلة عمر الدعوة الإسلامية في مكة التي استمرت ثلاث عشرة سنة وكان غذاء هذا الاعداد القران المكي أي السور والآيات القرآنية التي نزلت في مكة وسياقاتها شاهدة على ذلك.

ثم تحرك النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لإعداد الوطن و الحاضنة لهذه الدعوة الجديدة لان البقاء طويلاً في ضمن المجتمع المعادي يؤدي الى ذوبان العقيدة في النفوس وتشتت الاتباع واستضعافهم خصوصاً بعد رحيل القائد العظيم، و لما يأس من تحقيق ذلك في مكة توجّه إلى الطائف اولاً ولم تفلح المحاولة ثم قيض الله تعالى له اهل يثرب فآمنوا به وبايعوه على النصرة بالنفس و المال و الولد في العقبة الأولى و الثانية حتى هاجر (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) اليها واقام مجتمعه الايماني هناك وأصبحت المدينة المنورة وطن الدعوة الجديدة وعاصمتها وحضنها ومنطلق حركتها.

وتلاه اعداد المجتمع لحمل الرسالة وتأسيس امة قوية متحدة فآخى بين المهاجرين اولاً ثم اخى بين المهاجرين والانصار وقضى على أسباب النزاع التي كانت داخل مجتمع يثرب بين الاوس والخزرج {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}

ص: 152

(آل عمران:103).ومن ثم الاعداد السياسي للدولة الجديدة من خلال عقد المعاهدات والاتفاقات التي تكسب بعض الجهات الى جانبه او تحّيدهم على الأقل ولو لفترة لتجنب فتح عدة جبهات عليه في آن واحد، وهو في بداية تأسيس دولته المباركة.

ورافق ذلك الاعداد العسكري والتعبئة الميدانية (والمعروف ان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بلغه ان سلاحاً جديداً مؤثراً صنع في اليمن أيام معركة حنين، فأرسل النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) جماعة الى اليمن لشرائه فوراً)(1) .

وكان ذلك كله مقترناً بالتربية الروحية من خلال الآيات القرآنية التي كانت تنزل تباعاً بحسب الحكمة الالهية و استعداد الأمة ليكون أجدى و أقوى تأثيراً {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} (الفرقان:32).

ان بعض المبهورين بالغرب والذين يريدون الانفلات واتباع الشهوات يقرنون بين الدين والتخلف او يعدّون الالتزام بالدين سبباً للتأخر ويقولون ان اوربا ما تقدمت الا حين انسلخت عن الدين، وهذا نابع من الجهل فان المسلمين لم ينهزموا و لم يتخلفوا وتستعبدهم الأمم الأخرى الا حينما تركوا اسلامهم وتخلوا عن العمل بتعاليمه ومنها هذه الآية الشريفة ولو عملوا بهذه الآية الكريمة لسادوا العالم كما قدّر لهم وكما وعد الله تعالى بذلك وسيتحقق على يد الامام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه).4.

ص: 153


1- تفسير الأمثل :4/ 104.

ملحق:قوى الشباب غنيمة للفرد والأمة

نِعمُ الله تعالى على الإنسان كثيرة، ومنها نعمة الفتوة والشباب بما تعني من حيوية ونشاط، وصحة وعافية، وقوة إرادة وسعة طموح وعواطف جياشة وغرائز متدفقة وحماس واندفاع وصفاء ونقاء وأريحية وذهن وقّاد، وغيرها من القوى وهذه القوى مشمولة بأمر الله تعالى {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال:60) والقوة المطلوب إعدادها تكون ملائمة للعدو المقصود، فهذه القوى مما يُعدُّ لمواجهة النفس الأمّارة بالسوء (أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك) (1) والشيطان، قال تعالى {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (يوسف:5).

إن الصفات والخصائص التي ذكرناها للشباب توفّر فرصة واسعة للتكامل مع ما فيه من مضاعفة الأجر والثواب والمحبة الإلهية التي اختص بها الشباب، ففي الحديث الشريف عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (ما من شاب يدع لله الدنيا ولهوها واهرم شبابه في طاعة الله إلا أعطاه الله أجر اثنين وسبعين صدّيقاً)(2).

فهذه المرحلة من العمر من أعظم النعم على الإنسان واهم الفرص التي تتاح له لذا وردت الوصية باغتنامها، فمن وصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأبي ذر (يا أبا ذر:اغتنم خمساً قبل خمس:شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل

ص: 154


1- بحار الأنوار- المجلسي:67/ 36
2- الأمالي- الشيخ الطوسي: 535

سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)(1) ومن الملاحظ أن هذه الخمسة كلها متوفرة عند الشباب غالباً فهو قوي البدن صحيح معافى، وغني لأنه مكفول المعيشة في أسرته، وعنده فراغ من المسؤولية، لكن هذه الفرص تقل بمرور الزمان فتزداد مسؤوليته ومشاغله ومشاكله ومعوّقات التكامل وتضعف قواه.لكن أكثر الشباب لا يلتفتون إلى هذه الغنيمة ولا يستثمرونها، ويضيعون هذه النعم في أمور تافهة وربما محرّمة، ولا يعطون هذه الثروة العظيمة حقها وقدرِها، فتارة يعبّرون عن فتوتهم وشبابهم بالتمرد على المجتمع أو الانخراط في جماعات العنف أو الخروج عن النظام العام، أو يوظّفون طاقاتهم المتدفقة في فعاليات جنونية وهو ما أشار إليه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في بعض خطبه قال:(الشباب شعبة من الجنون)(2) أو يعتنقون بعض الدعوات الضالة فينساقون وراء أصحابها من دون روّية أو تدبّر في محتواها أو عواقبها.

وهذا كله له أسبابه فمنها ما يعود إلى أولياء الأمور وقادة الأمة والبلاد إذ لا يوجد لهم اهتمام بهذه الشريحة المهمة والواسعة ولا يضعون برامج لتوجيههم وإرشادهم والاستفادة منهم في العمل المثمر.

ومنها ما يعود إلى الشاب نفسه، حينما يستسلم لهواه وعواطفه وشهواته وغروره واعتداده بنفسه ونشوته بما فيه من صحة وفراغ وتوفر لمتطلبات5.

ص: 155


1- بحار الأنوار:77/ 77.
2- بحار الأنوار:77/ 135.

الحياة، قال الشاعر:

إن الفراغ والشباب والجدة***مفسدة للمرء أي مفسدة(1)

ومن كلمات أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أصناف السكر أربعة:سكر الشباب وسكر المال وسكر النوم وسكر الملك)(2) فللشباب نشوة وغرور وطيش يطغى على العقل ويسكر صاحبه فيرتكب الحماقات وينساق وراء الشهوات، والى أن يصحو من هذا السكر، فيكون قد فقد الكثير وتورط في أمور يصعب تلافيها، وقد يقسو قلبه فلا يكون قابلاً للإحياء بالموعظة والنصيحة، ولذا يجب على الشباب العودة وبسرعة إلى طريق الهداية ليقللّوا من الخسائر وليحظوا بالمحبة الإلهية ففي الحديث النبوي الشريف (إن الله يحب الشاب التائب)(3)، قال تعالى:{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} (الكهف:13).

لقد أحاط الأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) هذه الشريحة من الأمة بتوصيات كثيرة، لاجتذابهم واحتضانهم وخلق الأجواء والمشاريع المناسبة ليعبروا عن وجودهم وأهميتهم ويستفرغوا طاقاتهم، فأوصوا بمشاورتهم والاستئناس بآرائهم وإشراكهم في القرار بما يعرف اليوم ب-(برلمان الشباب) كفكرة بغض النظر عن تطبيقها، فمن وصية لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إذا احتجت إلى المشورة في أمر قد طرأ عليك09

ص: 156


1- الكنى والالقاب- عباس القمي : 1/ 122
2- غرر الحكم:237.
3- كنز العمال- المتقي الهندي: 4/ 209

فاستبدهِ ببداية الشبان فإنهم أحدُّ أذهاناً وأسرع حدساً، ثم ردّه بعد ذلك إلى رأي الكهول والشيوخ ليستعقبوه، ويحسنوا الاختيار له فإن تجربتهم أكثر)(1).يسأل الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أحد أصحابه الأجلاّء الذين لهم منزلة رفيعة وهو أبو جعفر الأحول الملقب ب-(مؤمن الطاق) وكان المخالفون يسمونه (شيطان الطاق) لقوة حججه وأدلتهُ ونشاطهُ في نشر تعاليم أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فسأله الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)(أتيت البصرة؟ قال:نعم، قال:كيف رأيت مسارعة الناس في هذا الأمر ودخولهم فيه، فقال:والله إنهم لقليل، وقد فعلوا وان ذلك لقليل، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):عليك بالأحداث فإنهم أسرع إلى الخير)(2).

إننا نتألم حينما نرى الكثير من شبابنا يسقطون وينحرفون ويلتقطون مظاهر الفساد والانحلال(3) من حثالات الغرب المنبوذين في بلادهم قبل بلادنا، أو ينخرطون في جماعات ضالة(4) فاسدة من دون الالتفات إلى أجندات أصحابها والأهداف التي يريدون تحقيقها، وقد تكلفهم حياتهم فيخسر نفسه وتخسره الأمة وهو في عنفوان العطاء و التألق.

أيها الأحبة:إن لكم دوراً مهماً في استنقاذ زملائكم وأقرانكم وتوجيههم).

ص: 157


1- غرر الحكم:219.
2- بحار الأنوار:23/ 236 عن كتاب قرب الإسناد.
3- إشارة إلى دخول بعض الشباب في جماعة (الإيمو).
4- إشارة إلى جماعات أدعياء المهدوية والبابية ونحوها من دعاوى الارتباط بالإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف).

وهدايتهم إلى السلوك العفيف النظيف، فأنتم تصلون إلى ساحات للعمل لا نصل إليها نحن، ومشتركاتكم مع الشباب من أقرانكم أكثر، ولغة التفاهم بينكم أوضح فاستثمروها في كسبهم ولا تضيّعوا هذه الفرصة الثمينة بلطف الله تبارك وتعالى.

ص: 158

القبس/54: سورة التوبة:18

اشارة

{إِنَّمَا يَعمُرُ مَسَجِدَ ٱللَّهِ مَن ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱليَومِ ٱلأخِرِ}

موضوع القبس: مسؤولية المؤمنين عن إعمار المساجد

قال الله تبارك وتعالى {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (التوبة:18).

المساجد هي محالّ عبادة الله تعالى، وأُخذ اسمها من السجود لأنه أوضح اشكال العبودية، وتسمى بيوت الله وهذه الإضافة والنسبة للتشريف، روي عن أبي بصير قال (سألت أبا عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن العلة في تعظيم المساجد فقال: إنما أمر بتعظيم المساجد لأنها بيوت الله في الأرض)(1) وقال الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)أيضاً (عليكم بإتيان المساجد، فإنها بيوت الله في الأرض، ومن أتاها متطهراً طهره الله من ذنوبه، وكتب من زواره فأكثروا فيها من الصلاة والدعاء، وصلوا من المساجد في بقاع مختلفة، فان كل بقعة تشهد للمصلي عليها يوم القيامة)(2).

و(إِنَّمَا) تفيد الحصر كما هو معروف فكأن عمارة المساجد مختصة بقوم تتوفر فيهم شروط خمسة: الايمان بالله تعالى وبالآخرة وإقامة الصلاة وايتاء الزكاة وأن

ص: 159


1- الحديثان في بحار الأنوار: 84 / 6
2- بحار الأنوار: 83/ 384

لا يخشى أحداً غير الله تعالى، فكأن الاعتقاد والايمان لا يكفي ما لم يقترن بالعمل الصالح والإخلاص لله تعالى والحرص على إقامة منهجه الإلهي، وأن لا يطيع ولا يعبد الا الله تعالى فكأن في الآية كناية عن ذلك لأن الداعي الى العبادة والطاعة هو الخوف من العقاب، حتى الرجاء وطلب الكرم والرحمة هو في الحقيقة خوف من انقطاعها وفواتها.والجملة يمكن أن تكون خبرية بمعنى أن من طبيعة المؤمن المتصف بهذه الخصال أن يعمر مساجد الله، وان المساجد لا يعمرها الا مثل هؤلاء، وهو معنى صحيح إذ كيف يتصور إعمار المساجد التي هي بيوت الله ممن لم يؤمن بالله تعالى ولا يدين له بالطاعة، كما في الحديث النبوي الشريف (عمّار بيوت الله هم أهل الله) وقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (من ألف المسجد ألفه الله)(1)، وتدلُّ بالملازمة على المعنى المقابل وهو أن من يوفَّق لإعمار المساجد فان هذا العمل يكشف عن أن عمّارها ممن تحققت فيهم هذه الصفات.

ويمكن أن تفيد الجملة الانشاء فتتضمن تكليفاً بأن لا تقبلوا من أي أحد إعمار المساجد والمساهمة فيها الا من كان بهذه الأوصاف إذ ليس لمن لا يتصف بهذه الصفات حق في ذلك {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ} (التوبة:17) فلا تجاملوا أصحاب الأموال غير المشروعة وتداهنوهم من أجل تشييد المسجد، فليس لأصحاب الأيادي غير النزيهة التشرف بمثل هذا العمل المبارك {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}16

ص: 160


1- الدر المنثور: 3/ 216

(الحج:26)، وقد كان بعض المسلمين يرغبون بأن يستمر المشركون في زيارة البيت الحرام بعد نزول الوحي بمنعهم {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (التوبة:28) لما في مجيئهم من مصالح اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية فوبّختهم هذه الآية والتي سبقتها {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} (التوبة:17) فلا خير يرجى من مساهمتهم في بناء المسجد أو تجمّعهم فيه وكذا كل الناس غير المؤمنين.والشواهد على ذلك من تاريخ الإسلام كثيرة اذ لما تدّخلت الحكومات غير الصالحة في شؤون المساجد وأشرفت عليها وعيّنت مرتزقتها، أو أصبح بناء المساجد وسيلة لتباهي أصحاب الثروات غير المشروعة وتفاخرهم أو لإضفاء شرعية لأعمالهم، فقد المسجد روحه وفشل في تحقيق أغراضه.

والإعمار هو إدامة الحياة والوجود، ومنه سمي عمر الانسان لأنه يعني عمران حياة البدن بوجود الروح فيه، وإعمار المساجد:

قد يكون مادياً بتشييدها وترميمها وإصلاح الخراب فيها وهو الظاهر بمقتضى المقابلة من قوله تعالى في الآية التالية {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (التوبة:19).

وقد يكون معنوياً بإدامة الحضور فيه للعبادة والطاعة وإقامة الشعائر الخالصة لله تعالى فيها، والآية الكريمة تعطي أهمية للثاني، بدليل نفيه في الآية السابقة عن المشركين وسائر غير المؤمنين {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ

ص: 161

شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ} (التوبة:17) فلا تصدق عليهم عمارة المسجد الذي هو بيت الله تعالى وهم يعبدون فيها الأصنام ويتخذونها أرباباً من دون الله تعالى فهي شهادة فعليه منهم بالكفر، ويستفاد من هذا القيد عدم المانع من دخول غير المسلم الى المسجد اذا كان لأجل الاهتداء وطلب الحقيقة لأنه ليس شاهداً على نفسه بالكفر، حيث كان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يستقبل في مسجده الشريف اتباع الديانات الأخرى لكي يستمعوا الوحي ويتعرفوا على الرسالة الإسلامية.وهذه العمارة المعنوية هي التي تُبرِزُ حقيقة المسجد وتؤدي رسالته الإلهية المفعمة بالخير والصلاح والرحمة والسعادة، والتي هدفها بناء الانسان الصالح والمجتمع الصالح، أما بناء الجدران والسقوف وزخرفتها فإنها لا قيمة لها إذا خلت من هذه الحقيقة حيث يتحول المسجد الى مكان للنزهة واللهو والعبث ويصير متحفاً يرتاده السوّاح كما حصل فعلاً.

ولذا اشترطت الآية في إعمار المساجد الشروط الخمسة لأنها المحركات نحو هذه الغايات النبيلة. وهذه العمارة المعنوية هي ما عبَّر عنها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهو يرتجز حينما كان يشارك رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والصحابة في بناء أول مسجد في الإسلام عندما هاجر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الى المدينة:

لا يستوي من يعمر المساجدا***يظلُّ فيها راكعاً وساجدا

ومن يُرى عن الغبار حائدا***يُعرِضُ عنه جاحداً معاندا

ص: 162

واستشهد بها عمار بن ياسر عند حفر الخندق معرّضاً ببعض الصحابة(1).

والخراب المعنوي هو ما يشكو منه المسجد يوم القيامة ومن عدم اهتمام الناس به، فقد روى جابر عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال (يجيء يوم القيامة ثلاثة يشكون: المصحف، والمسجد، والعترة، يقول المصحف: يا ربّ، حرّفوني وَمزّقوني، ويقول المسجد: يا رب، عطّلوني وضيّعوني، وتقول العترة: يا ربّ، قتلونا وطردونا وشردونا، فأجثو للركبتين في الخصومة فيقول الله عزّ وجلّ لي: أنا أولى بذلك منك)(2).

وروى الشيخ الكليني والصدوق عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انه قال (ثلاثة يشكون إلى الله عزّ وجلّ: مسجد خراب لا يصلي فيه أهله، وعالم بين جهّال، ومصحف معلّق قد وقع عليه الغبار لا يقرأ فيه) . (3) وهذه الروايات شاهدة بمقتضى المقابلة على ان المراد من الاعمار في الآية الشريفة هو المعنوي.

ثم تقول الآية {فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (التوبة:18) ويمكن ان نذكر عدة وجوه لاستعمال (عسى) التي تفيد الاحتمال ظاهراً بدل الجزم بكونهم من المهتدين، منها:

1- لأن احتمالات الاستقامة والانحراف تبقى مفتوحة وان قام بفعل المهتدين الآن، فعلى العامل المخلص أن يبقى دائماً في يقظة وحذر ولا يتكل على عمله 1

ص: 163


1- بحار الأنوار: 19/ 124، 20 /243، عن تفسير القمي: 2/ 97 ومناقب ابن شهراشوب: 1/ 236 والديوان المنسوب الى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) : 36
2- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ): ج5 / ص 202 / ح 2
3- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ): ج5 / ص 201 / ح 1

ولا يترك منفذاً للعجب أو الرياء الى قلبه فان النفس الامارة بالسوء متربصة بصاحبها ويمكن ان توقع به في أية لحظة فتزل قدمه عن الطريق المستقيم. 2- ان حصول الاهتداء في فعلٍ ما - وهو هنا إعمار المسجد - مرة أو مرات من الانسان لا يلزم منه أن يصبح من (المهتدين) الا بعد ان يتحول الاهتداء الى صفة ذاتية راسخة من خلال التكرار والاعتياد والتحول الى ملكة.

3- ويحتمل أن يكون وجهه التعريض بالمشركين وأمثالهم بأن من يرجى أن يكون من المهتدين هم أهل هذه الصفات من عمّار المساجد وليس أنتم، ولا ينفعكم مجرد بنيان المسجد وإعمار ما خرب منه ففي هذا حث لهم على أن يكونوا مؤمنين مخلصين ليصبحوا من المهتدين.

إن رسالة المسجد في الإسلام عظيمة كما كان في عهد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فهو مظهر عزة الإسلام وقوة المسلمين، وهو مجمع المؤمنين ومحل احتشاد الأخوة في العقيدة، وعمارته ونشاطه علامة يقظة المسلمين، وفيه يتعلم الناس أمور دينهم ويناقشون قضاياهم المصيرية، ومنه تصدر القرارات المهمة، وتنطلق حركة الوعي والإرشاد والإصلاح وقوافل الخير والمعروف والدفاع عن الإسلام، وبوجوده تغلق منافذ المنكر والفساد والشر، وبه تتحقق مصالح اجتماعية وأخلاقية واقتصادية وسياسية وفكرية جمّة لا يسع المجال لشرحها، فهو جماع الخير ومركز كل حركة إسلامية فاعلة.

ص: 164

ولا مجال في المسجد للعابثين والمنافقين، روى ورّام في كتابه قال (قال: يأتي في آخر الزمان قوم يأتون المساجد، فيقعدون حلقاً، ذكرهم الدنيا وحب الدنيا، لا تجالسوهم فليس لله فيهم حاجة)(1) .وروى الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (الجلوس في المسجد لانتظار الصلاة عبادة ما لم يُحدِث، قبل: يا رسول الله وما الحدث؟ قال: الاغتياب)(2).

لذا حث القادة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) على كلتا العمارتين المادية والمعنوية:

ففي العمارة المادية روى الشيخ الكليني بسند صحيح عن ابي عبيدة الحذاء قال (سمعت أبا عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول: من بنى مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنّة. قال أبو عبيدة: فمرّ بي أبو عبد الله في طريق مكّة وقد سوّيت بأحجار مسجداً، فقلت له: جعلت فداك، نرجو أن يكون هذا من ذاك؟ قال: نعم)(3).

وروى البرقي في المحاسن أن أبا الصباح سأل الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (ما تقول في هذه المساجد التي بنتها الحاج في طريق مكّة؟ فقال: بخّ بخّ، تيك أفضل المساجد، من بنى مسجداً كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنّة)(4).

وورد في العمارة المعنوية:

قول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله عزّ وجلّ، ورجل قلبه متعلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود 6

ص: 165


1- وسائل الشيعة / ط. آل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) : ج 5/ ص 214 / ح 4
2- بحار الأنوار: 83/ 384
3- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) : ج5 / ص 203 / باب 8 / ح 1
4- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ): ج5 / ص 203 / باب 8 / ح 6

إليه، ورجلان كانا في طاعة الله عزّ وجلّ فاجتمعا على ذلك وتفرّقا، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال فقال: إنّي أخاف الله، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما يتصدّق بيمينه) .(1)وروى الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن جده رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله: (من كان القرآن حديثه والمسجد بيته بنى الله له بيتاً في الجنة) (2) وروى الامام الباقر قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لجبرائيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): يا جبرائيل أي البقاع أحبّ الى الله عزوجل ؟ قال: المساجد، وأحبُّ أهلها إلى الله أوَّلهم دخولاً وآخرهم خروجاً منها)(3).

وقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (من مشى إلى مسجد من مساجد الله فله بكلّ خطوة خطاها حتى يرجع إلى منزله عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيّئات، ورفع له عشر درجات)(4).

وقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)في آثار التردد على المساجد (من اختلف إلى المسجد أصاب إحدى الثمان: أخاً مستفاداً في الله، أو علماً مستطرفاً، أو آية محكمة، أو يسمع كلمة تدلّه على هدى، أو رحمة منتظرة، أو كلمة تردّه عن ردى، أو يترك ذنباً خشية أو حياءً)(5).

وروى الديلمي في الارشاد عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)قوله: (الجلسة في الجامع خير لي من الجلسة في الجنّة، لأنّ الجنّة فيها رضى نفسي والجامع فيه رضى ربّي)(6) . 6

ص: 166


1- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) : ج5 / ص 199 / ح 4
2- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) : ج5 / ص 198/ ح 2
3- الكافي : 3 / 489 ، ح 14 باب النوادر
4- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) : ج5 / ص 201 / ح 3
5- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) : ج5 / ص 197 / ح 1
6- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) : ج5 / ص 199 / ح 6

وقول الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لا يرجع صاحب المسجد بأقلّ من إحدى ثلاث خصال : إما دعاء يدعو به يدخله الله به الجنّة ، وإمّا دعاء يدعو به فيصرف الله به عنه بلاء الدنيا، وإمّا أخ يستفيده في الله)(1).وقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (من مشى إلى المسجد لم يضع رجلاً على رطب ولا يابس إلاّ سبّحت له الأرض إلى الأرضين السابعة)(2).

وقال الشيخ الصدوق في ثواب الأعمال وفي علل الشرائع (روي أنّ في التوراة مكتوباً: إنّ بيوتي في الأرض المساجد، فطوبى لعبد تطهّر في بيته ثمّ زارني في بيتي، ألا إنّ على المزور كرامة الزائر، ألا بشّر المشائين في الظلمات إلى المساجد بالنور الساطع يوم القيامة)(3) .

وقد كان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يهددان بالعقوبة من يتخلف عن حضور الصلاة في المساجد لغير عذر فقد روي بسند صحيح عن عبدالله بن سنان عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (سمعته يقول: إن أُناساً كانوا على عهد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أبطأوا عن الصلاة في المسجد، فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): ليوشك قوم يدعون الصلاة في المسجد أن نأمر بحطب فيوضع على أبوابهم فتوقد عليهم نار فتحرق عليهم بيوتهم)(4).

أيها الأحبة: 2

ص: 167


1- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) : ج5 / ص 193 / ح 2
2- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) : ج5 / ص 200 / ح 1
3- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) : ج5 / ص 244 / باب 39 / ح 1
4- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) : ج5 / ص 194 / ح 2

هذا بعض ما ورد في عظمة المساجد وبركتها على الفرد والمجتمع، وقد لمسنا ذلك على أرض الواقع، فكلما كانت المساجد عامرة وفاعلة كان المجتمع في خير لذا فنحن مطالبون اليوم ب- (صحوة) و (يقظة) وقيام استجابة لقوله تعالى {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} (سبأ:46) فننفض عنا ركام هذه الغفلة والتقصير في حق المساجد بل في حق أنفسنا إذ لم نستثمر هذه الفرصة العظيمة للطاعة التي أتاحها الله تبارك وتعالى حتى لا نكون ممن يشكوهم المسجد كما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (ثلاثة يشكون إلى الله عز وجل: مسجد خراب لا يصلي فيه أهله، وعالم بين جهال، ومصحف معلق قد وقع عليه الغبار لا يقرأ فيه)(1).وعلينا ان نستفيد من زخم المسجد وقوته وآثاره المباركة في المواجهة الحضارية التي يخوضها الإسلام مع اعدائه داخل بلاد المسلمين وخارجها لمحق الإسلام.

إن الفرصة متاحة اليوم لنشر المساجد ومحالّ العبادة وإقامة الشعائر الدينية في كل مكان ولو بأبسط اشكالها، كغرفة كبيرة تتخذ حرماً للصلاة مع مغاسل للوضوء، من دون الحاجة الى أبنية ضخمة، نعجز عن تفير أموالها، والمهم تأسيسها على التقوى {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (التوبة:108).1.

ص: 168


1- وسائل الشيعة:كتاب الصلاة، أبواب حكام المساجد، باب 5، ح1.

أهمية الإعمار المعنوي:والأهم من الإعمار المادي هو الإعمار المعنوي الذي تشكو منه المساجد في الحديث المتقدم، وإعمارها يكون بإقامة الصلوات فيها والذكر والدعاء وبيان الأحكام الشرعية والأخلاق الفاضلة وتهذيب النفوس ومجالس الوعظ والإرشاد وذكر فضائل أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ومظلوميتهم والشعائر الدينية، وجعلها خالصة لله تعالى {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (الجن:18) وعدم تشويش المؤمنين بالدعوات الشخصية والفئوية وتجنيبها ما ينافي قدسيتها من المحرمات واللغو واللهو وأعمال الدنيا، وفي ذلك ورد عن أبي ذر (رضوان الله عليه) عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(يا أبا ذر الكلمة الطيبة صدقة وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة، يا أبا ذر من أجاب داعي الله وأحسن عمارة مساجد الله كان ثوابه من الله الجنة، فقلت: كيف يعمر مساجد الله؟ قال: لا ترفع الأصوات فيها ولا يُخاض فيها بالباطل ولا يشترى فيها ولا يباع واترك اللغو ما دمت فيها، فإن لم تفعل فلا تلومن يوم القيامة إلا نفسك)(1).

ومن وصايا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأبي ذر (رضوان الله عليه): (يا أبا ذر: كل جلوس في المسجد لغو إلا ثلاثة: قراءة مصلٍّ أو ذكر ذاكر الله تعالى أو سائل عن علم)(2).

من بركات إعمار المسجد:

إن من بركات إعمار المساجد وإحيائها دفع البلاء عن الأمة وما أحوجنا0.

ص: 169


1- المصدر، باب 27، ح3.
2- بحار الأنوار:83/ 370.

إليه ونحن نسأل الله تعالى ان يكشف عنا هذا الوباء، روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال:(إن الله تبارك وتعالى ليريد عذاب أهل الأرض جميعاً حتى لا يحاشي منهم أحداً إذا عملوا بالمعاصي واجترحوا السيئات، فإذا نظر إلى الشيّب ناقلي أقدامهم إلى الصلوات، والوُلدان يتعلمون القرآن رحمهم الله فأخّر ذلك عنهم)(1) ومن وصايا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأبي ذر:(يا أبا ذر: يقول الله تعالى: إن أحب العباد إليّ المتحابون بجلالي المتعلقة قلوبهم بالمساجد المستغفرون بالأسحار، أولئك إذا أردت بأهل الأرض عقوبة ذكرتهم فصرفت العقوبة عنهم)(2).فسارعوا أيها المؤمنون {إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (آل عمران:133).

إن أولى من يخاطب بوجوب التحرك لإعمار المساجد هم فضلاء الحوزة العلمية لأنهم بهم ينعقد نظام هذه الحركة المباركة وإمام المسجد هو القائد الديني والاجتماعي في منطقته، وقد عرضت في خطاب سابق (3) عدة خطوات لإعمار المساجد وتفعيل دورها في حياة الأمة نعيد التذكير بها مع إضافة خطوات أخرى منها:

1 - إشغال كل مسجد مهما كان بسيطاً ونائياً بإمام يقيم فيه الشعائر، وإذا خلت منطقة أو ناحية من مسجد فيمكن اتخاذ غرفة كبيرة في أحد البيوت مما يعرف بالمضيف أو الديوانية أو غرفة الاستقبال ويُتخذ لها باب خارجي يفتح5)

ص: 170


1- وسائل الشيعة:كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساجد، باب 3، ح3.
2- بحار الأنوار:83/ 370.
3- راجع كتاب (شكوى المسجد) و (خطاب المرحلة: 1/ 425-445)

للمصلين في أوقات الصلوات ولإقامة الشعائر الدينية وتجهيزها بمكبر صوت لرفع الآذان، ولا أعتقد أنّ هذا يكلّف شيئاً يذكر في قبال ما أعدّ الله لفاعله من الخيرات والبركات.2 - الحرص على إقامة صلاة الجماعة في المسجد فإنها مفتاح البركات ولا تختص بالفرائض اليومية بل تشمل الصلاة في العيدين وعند حصول الخسوف والكسوف، ولقد ثبت بالتجربة أنّ المسجد الذي تقام فيه صلاة الجماعة يكون أكثر فاعلية واجتذاباً للناس من المسجد الخالي منها، وهم على حق في ذلك من أكثر من جهة:

أ - الثواب العظيم الذي أعدّ للمصلي جماعة بحيث إذا بلغ عدد المصلين عشرة فلا يحصي ثواب الجماعة إلا الله تبارك وتعالى.

ب - إنّ وجود إمام الجماعة يلزم منه تحقيق فوائد كثيرة كإجابة الاستفتاءات وقضاء الحوائج الاقتصادية والاجتماعية وإلقاء المحاضرات في الوعظ والإرشاد وتبليغ الأحكام.

3 - اختيار إمام الجماعة المخلص لله تبارك وتعالى الحريص على المصالح الاجتماعية أكثر من مصلحة نفسه، وأن يكون ذا فضيلة علمية ليستطيع تلبية احتياجات المجتمع الفكرية والفقهية والثقافية.

4- ان ينظم حلقات دراسية يتعلم فيها الناس أمورهم الدينية من عقائد واخلاق ومسائل الحرام والحلال خصوصاً المسائل الابتلائية وان يحث الشباب الواعين المثقفين الفطنين على الالتحاق بالحوزة العلمية في النجف الاشرف لينهلوا من معينها ويعودوا الى مجتمعهم مبلغين دُعاة الى الله تبارك وتعالى وأقل ما يجزيه

ص: 171

من النشاط هو إلقاء محاضرة في الأسبوع مرة تطبيقاً لرواية الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن جده رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (أفٍّ لرجل لا يفرّغ نفسه في كلّ جمعة(1) - أي أسبوع – لأمر دينه فيتعاهدوه ويسأل عن دينه)(2)، ولما كانت فرصة القراءة والتفقه ليست متاحة لكلّ أحد لأسباب شتى فعلى إمام المسجد توفير هذه الفرصة للمجتمع، وبذلك فهو يعينهم على امتثال أمر الإمام، فإن دوره في المجتمع، يتمثل بتقريب الناس إلى طاعة الله تبارك وتعالى بتكثير فرصها وفتح المزيد من أبوابها، وتقليل فرص المعصية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.5 - إحياء الشعائر الدينية ومناسبات أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) جميعاً، وعدم الاكتفاء بشهر رمضان وشهر محرم، وأؤكد هنا على ضرورة إقامة المجالس في المساجد(3) لعدّة أمور، فهي أبعد عن الرياء والعجب ويكون الحضور فيها خالصاً لله لا مجاملة لأحد، وفيها إعطاء أهمية للمسجد في حياة الناس، ولاقترانها بصلاة الجماعة عادة، ولأنها اعظم أجراً لما ذكرنا من أنّ الجلوس في المسجد عبادة.

6 - إقامة المسابقات الدينية والثقافية خصوصاً في شهر رمضان وليالي وأيام الجمع، وتعيين الجوائز للفائزين، وهذا يحقق أكثر من ثمرة:ء.

ص: 172


1- كان سماحة الشيخ يلقي خطبة أسبوعية بعد صلاة الظهر يوم الجمعة في جامع حي الكرامة في النجف حيث كان يؤم الجماعة.
2- أصول الكافي: 1 / باب سؤال العالم وتذاكره ح 5
3- كان سماحة الشيخ يعقد مأتماً أسبوعياً بعد صلاتي المغرب والعشاء جماعة في جامع الكرامة مساء الأربعاء، وفي ذكرى شهادة المعصومين (عليهم السلام) والعشرة الأولى من محرم الحرام ويجلب لذلك عدداً من الخطباء.

أ - حثّ المؤمنين على قراءة الكتب والازدياد من العلم والمعرفة ليكونوا بمستوى المسابقات.

ب - حثّهم على الحضور في المساجد لما في جو المسابقات من متعة وفائدة وتسلية.

7 - وضع لوحة إعلانات يسجل فيها كلّ يوم شيء جديد، كحديث شريف له ثمرة اجتماعية أو أخلاقية أو عقائدية، أو تدوّن فيها بعض الأحكام الابتلائية، أو استفتاءات مستحدثة، أو خبر نافع عن الحوزة، أو عن إصدار جديد، أو إلفات النظر إلى حالة اجتماعية منحرفة، أو معاملة باطلة تجري في السوق وتصحيح ذلك وفق الضوابط الشرعية، وأي شيء آخر يشدّ الناس إليها ويجعلهم في تفاعل مستمر مع المسجد.

8 - إنشاء حلقات تعليم القرآن الكريم قراءةً وتفسيراً وعقد المحافل القرآنية لشد الناس الى ثقل الله الأكبر.

9 - تأسيس مكتبة ولو بسيطة في كلّ مسجد تضم مجموعة من الكتب الدينية والثقافية التي يحسُن بالمسلم الإطلاع عليها.

10- أن يبذل إمام المسجد وسعه في قضاء حوائج الناس فيزوِّج هذا الشاب المتعفف ويساعد ذلك المحتاج ويُوجِد فرصة عمل لهذا العاطل وهكذا، مع مشاركتهم في مناسباتهم الاجتماعية وأفراحهم وأحزانهم حتى يكون للجميع كالأب والأخ الشفيق الرحيم وبذلك ينجذب الناس إلى المسجد ويجدون فيه المنقذ والمأوى والكهف الحصين.

ص: 173

11- أن يتشكل في المسجد موكب لإحياء الشعائر والمناسبات الدينية ولجان ومجاميع لإدارة مختلف النشاطات المطلوبة بحسب رغبات العاملين ومؤهلاتهم، فمجموعة للأعمال الخيرية والإنسانية ومساعدة العوائل، وأخرى للعلاقات الاجتماعية ولجنة للعمل الثقافي تتولى إصدار النشرات الجدارية والورقية وتوزيعها، ولجنة لرعاية الشباب وأخرى لتنظيم السفرات الدينية أو الترفيهية وهكذا.

12- ولا تقتصر هذه الحركة الفاعلة على الرجال، فللنساء نصيبهن بل الحظ الأوفر لهن لأن المجتمع النسوي أحوج إلى الرعاية بسبب طول الإهمال والحرمان وشدة المعاناة وضغط العوائق الاجتماعية وبعض رواسب التعصب والجهل والأنانية، فتُخصَّص حسينيات أو دور للعمل النسوي وتتصدى له المبلغات الرساليات، وقد توفرت المئات منهن بفضل الله تبارك وتعالى، فالساحة مهيأة لأداء هذه الرسالة الإلهية.

إن في هذه الحركة المباركة استجابة لدعوة الله تعالى ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (الأنفال : 24).

وأنت ترى إنّ المسؤولية متبادلة بين الحوزة الدينية والمجتمع فإن بعضهم يكمل بعضاً، فالحوزة ترشد المجتمع وتوجهه إلى طريق الصلاح، والمجتمع يطبّق ويمتثل ويمارس دور الشاهد على الحوزة ليقيّمها هل أدّت دورها كما ينبغي.

وتتعاظم الفرصة والمسؤولية مع إطلالة شهر رمضان المبارك وإقبال الناس على الطاعة والحضور في المساجد، وفقنا الله تعالى وإياكم لما يحب ويرضى.

ص: 174

القبس/55 : سورة التوبة:32

اشارة

{يُرِيدُونَ أَن يُطفُِٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفوَهِهِم وَيَأبَى ٱللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُۥ وَلَو كَرِهَ ٱلكَفِرُونَ}

موضوع القبس:لتكن لنا مشاركة في تحقيق الهدف الإلهي العظيم

*موضوع القبس:لتكن لنا مشاركة في تحقيق الهدف الإلهي العظيم (1)

تشير الآية إلى المحاولات اليائسة والبائسة التي يقوم بها أعداء الإسلام من داخل المجتمع المسلم ومن خارجه ((كفارّ ومنافقين ومشركين)) للقضاء على الإسلام، ويسخر القرآن الكريم من تفاهتها ويصوّر محاولاتهم كمن يريد أن يطفئ نور الشمس الوهاج بنفخة هواء من فمه، فهل يستطيعون ذلك؟ والمثال يضرب لتقريب الفكرة وإلا فان نور الله تعالى الواصل إلينا من خلال القرآن والإسلام أعظم لأن {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (النور:35).

(ويأبى الله) تعالى أي يرفض ويمتنع بشكل حتمي عن قبول أي خيار آخر غير تحقيق غرضه وقد عزم على أن يتم نوره وينزل نصره النهائي على المؤمنين وتهيمن شريعته على كل القوانين والأنظمة التي صنعها الناس وهو ما نطقت به

ص: 175


1- من حديث سماحة المرجع الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من المبلّغين وفضلاء الحوزة العلمية قبل انطلاقهم للتبليغ بين الملايين من زوار الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في ذكرى اربعينيته يوم الاثنين 8/صفر/1441 الموافق 7/ 10/ 2019م.

الآية التالية {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (التوبة:33) وبشرت به آية أخرى أيضاً في قوله تعالى {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} (الفتح:28).ولا يخفى ما في الآية من كناية عن (ظلامية) أعداء الإسلام وجهلهم وتخلفهم وهمجيتهم حيث يسعون لإطفاء النور واغراق البشرية في الظلام، وهل يسعى عاقل لإطفاء النور الذي فيه حياة البشر وصلاحهم وسعادتهم، فمن يسعى للقضاء على الإسلام يكون هذا تقييمه.

إن الآية الكريمة لما تسخر من محاولات الأعداء وتصفها بالعبثية وعدم الجدوى فهذا لا يعني أن جهود وامكانيات الاعداء تافهة أو ضعيفة في نفسها أي من الناحية المادية {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} (إبراهيم:46) لأنهم يجندون كل ما عندهم من عدد وعدة قاهرة سواء على صعيد المال أو السلاح أو الاعلام أو التقنيات الحديثة أو أدوات الاغراء والافساد والاضلال والترغيب والترهيب.

وإنما هي كذلك عندما تُواجَه بالايمان وقوة العقيدة والقلوب الثابتة التي ربط الله تعالى عليها وبتفعيل سائر إمكانيات الأمة وطاقاتها البشرية والمادية، وحينئذ يتحقق النصر النهائي لدين الحق الذي وعدت به الآية التالية {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْ-رِكُونَ} (التوبة:33).

ص: 176

وتشير آية أخرى مشابهة إلى ان الأعداء لا يكتفون بالحرب الخشنة الظاهرة وإنما يستخدمون الحرب الناعمة أيضاً من خلال تحريف تعاليم الدين وتعطيل أحكامه وتمييعه، وتحويله إلى شكليات طقوسية كأي تقاليد شعبية خالية من المضمون ولا تحقق الغرض الذي يريده الله تبارك وتعالى، قال سبحانه {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (الصف:8-9) وإنما فسرناهما بهذا المعنى بقرينة الآية التي سبقتهما {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الصف:7) وبدلالة كلمة {أَفْوَاهِهِمْ} التي تعني ان محاولاتهم تكون بنشر الكلام الباطل مسموعاً أو مكتوباً. وفي ذلك رواية عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من حديث طويل في الاحتجاج على أحد الزناديق في آيات متشابهة إلى أن قال عن معنى هذه الآية (انهم أثبتوا في الكتاب ما لم يقله الله على الخليقة فأعمى الله قلوبهم حتى تركوا فيه ما دلَّ على ما أحدثوه فيه وحرفوا منه)(1) وفيها أيضاً (وجعل أهل الكتاب القّيمين به، والعالمين بظاهره وباطنه، من شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين باذن ربها، أي:يظهر مثل هذا العلم لمحتمليه - أي القادرين على0.

ص: 177


1- الاحتجاج:1/ 371 ، تفسير الصافي:3/ 400.

تحملّه- في الوقت بعد الوقت، وجعل أعداءها أهل الشجرة الملعونة الذين حاولوا إطفاء نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره)(1).فهذا التفسير ليس منافياً للأول بل يعبّر كل منها عن شكل من اشكال إطفاء النور أي الصراع والمواجهة.

ومن اشكالها استهداف قادة الإسلام العظيم - الذين هم مظاهر النور الإلهي - بالتسقيط والحصار والتطويق وعزلهم عن الأمة في السجون وملاحقة أتباعهم وتنتهي بقتلهم، روى الشيخ الصدوق في الاكمال عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقد ذكر شق فرعون بطون الحوامل في طلب موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (كذلك بنو امية وبنو عباس لما ان وقفوا على أن زوال ملك الأمراء والجبابرة منهم على يد القائم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ناصبونا العداوة ووضعوا سيوفهم في قتل أهل بيت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وإبادة نسله طمعاً منهم في الوصول إلى قتل القائم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فأبى الله أن يكشف أمره لواحد من الظلمة الا أن يتم نوره ولو كره المشركون)(2).

وروى الحميري في قرب الاسناد بسنده عن البزنطي عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إن الناس قد جهدوا على إطفاء نور الله، حين قبض الله تبارك وتعالى رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وأبى الله إلا أن يتم نوره. وقد جهد علي بن أبي حمزة - من زعماء الانشقاق على الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واختلاس أمواله - على إطفاء نور الله حين مضى أبو الحسن الأول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) - أي حين وفاة الامام الكاظم - فأبى الله إلا0.

ص: 178


1- الاحتجاج:1/ 376 ، تفسير الصافي:3/ 400.
2- إكمال الدين وإتمام النعمة:354 ، باب 33 ما روى عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ، ح 50.

ان يتم نوره، وقد هداكم الله لأمر جهله الناس، فاحمدوا الله على ما من عليكم به)(1).وتوجد التفاته لطيفة للفرق بين التعبير {يُطْفِؤُواْ} في سورة التوبة و {لِيُطْفِؤُوا} في سورة الصف، قال الراغب ((والفرق بين الموضعين أن في قوله {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ} يقصدون إطفاء نور الله، وفي قوله {لِيُطْفِؤُوا} يقصدون أمراً يتوصلون به إلى إطفاء نور الله)(2) فالتعبير الأول يشير إلى التفسير الأول لآية التوبة وهي المواجهة المباشرة والوصول إلى ما يريدون بلا واسطة، والتعبير الثاني يشير إلى اتخاذ الوسائل والأدوات والمقدمات للوصول الى الإطفاء وهو التفسير الثاني في آية الصف فالقرآن الكريم يؤكد حقيقة خيبتهم وفشلهم في مساعيهم سواء واجهوا مباشرة أو اتخذوا لذلك مقدمات وأسباباً.

ان الأعداء لا يكلّون ولا يملّون بل يستمرون في محاولاتهم ولذا استعملت صيغة المضارع في (يريدون) فاراداتهم لهذه النتيجة مستمرة، قال تعالى {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ} (البقرة:217) عملاً بأوامر شيطانهم الكبير إبليس الذي يردّد {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} (الأعراف:16) {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف:17).5.

ص: 179


1- نقله المجلسي في بحاره 49:262 / 5.
2- المفردات للراغب:مادة (طفأ) وقال في الهامش:راجع درة التنزيل للاسكافي:195.

مما يوجب علينا لزاماً ان نستمر بالعمل لإعلاء كلمة الله تعالى ولنشر تعاليم الدين وحث الناس على العمل بالشريعة وتعريفهم بسيرة اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لنحدث التوازن مع محاولات الأعداء بل نتفوق عليهم إن شاء الله تعالى.ولنعلم ان هذا الهدف الإلهي العظيم إنما يتحقق على ايدي العاملين الرساليين المخلصين {هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} (الأنفال:62).

فلنحرص أشد الحرص على أن تكون لنا بصمة في تحقيق الهدف الذي ذكرته الآية فان المسيرة ماضية نحو التمام ولا تتوقف على وجود أحد، ومن يتخلف فإنما يحرم نفسه من هذا الفوز العظيم، وساحة العمل واسعة تتسع للجميع، ولكلٍ دوره المناسب له، فوظيفتكم – كفضلاء وطلبة علوم الدينية – الدعوة الى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة والإرشاد وتهذيب النفوس وتعليم احكام الدين ونشر سيرة اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) والامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

إن دوام القضية الحسينية واتساعها وتحولّها إلى قضية إنسانية عالمية من أوضح تجليّات هذه الآية المباركة حيث جهد الكثير من الطواغيت عبر التاريخ الماضي والحاضر لإطفاء هذا النور الإلهي العظيم لكنهم فشلوا وذهبوا إلى مزابل التاريخ وبقيت رسالة الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تخاطب الأجيال جميعاً وتزداد قوةً وتأثيراً بفضل الله تبارك وتعالى، وهذا أوضح مثال على ان الله يتم نوره ولو كره الكافرون والمنافقون، فلا نتقاعس أولا ولا ننبهر بقوة الباطل ثانياً.

ص: 180

القبس/56: سورة التوبة:49

اشارة

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا}

موضوع القبس: فتنة توظيف العناوين الدينية لأهواء شخصية

معنى الآية باختصار:أن من المنافقين من يقول لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أئذن لي في ترك الجهاد والتخلف عن جيش المسلمين الذاهب مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لقتال الروم في تبوك ويبرّر ذلك بأن تكليفه بالجهاد يوقعه في المعصية ومخالفة الأمر الشرعي ويسبب له الفتنة عن الدين فيجيبه الله تعالى بأنه بسلوكه المخادع هذا قد وقع في الفتنة عن الدين وارتكب معصية كبيرة.

والآية الكريمة تكشف عن حالة منافقة يسقط فيها بعض افراد المجتمع المسلم الذين يتبعون أهواءهم ويكون همُّهم إرضاءَ أنانياتهم فإنهم حينما يريدون التنصل من مسؤولياتهم الاجتماعية وعدم أدائهم لواجباتهم تجاه دينهم وأمتهم أو يريدون تحقيق مكاسب شخصية فأنهم يسوّقون أعذاراً بعناوين دينية متظاهرين بالورع والخوف على الدين لإقناع الآخرين ومحاولة خداعهم {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (البقرة:9).

وكشاهد على ذلك نذكر الحادثة التي نزلت فيها الآية الكريمة بحسب ما ذكره أرباب الحديث والسير والتأريخ وذلك أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لما بلغه اجتماع الروم في بلاد الشام لغزو المدينة والقضاء على الإسلام قرّر الذهاب لهم

ص: 181

لمواجهتهم في عقر دارهم فاستنفر المسلمين وحثّهم على الجهاد فاستجاب له عدد كبير من أهل المدينة وقبائل العرب التي دخلت الإسلام رغم العسرة التي كان المسلمون فيها وقعد قوم من المنافقين وغيرهم (ولقي رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الجد بن قيس - وهو من وجوه بني سلمة من بطون الخزرج وكان من المنافقين - فقال له:يا أبا وهب الا تنفر معنا في هذه الغزاة لعلك ان تحتفد - أي تستخدم - من بنات الأصفر - وهم الروم - ؟ فقال:يا رسول الله إن قومي ليعلمون أنه ليس فيهم أحد أشد عجباً بالنساء مني، وأخاف إن خرجت معك أن لا أصبر إذا رأيت بنات الأصفر فلا تفتنِّي وائذن لي أن أقيم(1)، وقال لجماعة من قومه:لا تخرجوا في الحر، فقال ابنه:تردّ على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتقول ما تقول؟ ثم تقول لقومك لا تنفروا في الحر؟ والله لينزلنّ الله في هذا قرآناً يقرؤه الناس إلى يوم القيمة، فأنزل الله على رسوله في ذلك: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} ثم قال الجد بن قيس أيطمع محمد أن حرب الروم مثل حرب غيرهم؟ لا يرجع من هؤلاء أحد أبداً)(2) . فادعى هذا الشخص أنه يخاف على دينه لو أمره رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالجهاد من فتنة النساء الروميات أو من فتنة الانتصار ومكاسبه عموماً أو من ويلات الحرب فيضعف أمامها أو أنه يخشى ترك أهله وأمواله فيطلب من النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الإذن له بترك الجهاد حتى لا يقع في المخالفة، ولكنه بتخاذله ونفاقه وقع في الفتنة التي زعم أنه يريد تجنبها.يم

ص: 182


1- وفي رواية ابن إسحاق ((فاعرض عنه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقال:قد أذنت لك)
2- تفسير نور الثقلين:2/ 632 ح 169 عن تفسير علي بن ابراهيم

وتضمنت آية أخرى ما ظاهره العتاب لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على إعطائه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الإذن بالتخلف عن الجهاد، لكنها قدّمت أولاً الدعاء له بالعفو قال تعالى {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} (التوبة:43) ولو جعلهم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على المحك ولم يأذن لهم، حتى يفتضحوا وينكشف عزمهم على المخالفة وتقاعسهم عن أداء الواجب حتى لو أمرهم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالخروج ولكيلا يجعلوا الإذن غطاء لشرعنة ارتكابهم هذه المعصية الكبيرة، قال تعالى{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} (التوبة:46)، وروى علي بن إبراهيم في تفسيره عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسيرها (تعرف أهل العذر والذين جلسوا بغير عذر) (1). فأريد من هذا الخطاب الموجّه إلى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تنبيه الأمة إلى أن هذه الأعذار لا تنطلي على الله تعالى ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لكن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لكرم أخلاقه ستر عليه ورأى عدم الفائدة في خروجه بل إن وجوده وأمثاله ضارٌّ بجيش المجاهدين{لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} (التوبة:47)، فترك الله تعالى نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ليتصرف وفق ما تقتضيه أخلاقه الكريمة ثم أنزل ما يفضح أولئك المنافقين فتحقق بالنص الإلهي ما لم يتحقق لو لم يسبقه التصرف النبوي.9.

ص: 183


1- تفسير القمي: 269.

ولخطورة هذه الفتنة فقد أخرّ الله تبارك وتعالى التنبيه عليها لما بعد ظروف المعركة، ولولا حكمة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لاستطاع هذا المنافق أن ينشر فتنته في المجتمع لأنه غلّفها بإطار ديني تنخدع به فئة من الناس {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}، نعم هناك معذورون عن الجهاد ذكرتهم الآيات الكريمة وليس هؤلاء المتخاذلون منهم.وفي مقابل هؤلاء المتخاذلين كان المؤمنون الصادقون سبّاقين لطاعة الله تعالى ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من دون تردد ومناقشة {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} (التوبة:44).

هذه الحالة المنحرفة للهروب من المسؤولية وتبرير مخالفة أوامر الله تعالى وتسخير الواجهات الدينية لتحصيل المصالح الشخصية موجودة على كل المستويات، وأخطرها على الإطلاق ما حصل بعد رحيل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حيث برّر الانقلابيون مخالفتهم لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في وصيته بأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بأنهم خافوا الفتنة إن أمرّوا علياً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولم يتصدوا هم للسلطة وخلافة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقالوا تارة ((ان قريشاً كرهت ان تجتمع فيكم - أي بني هاشم - النبوة والخلافة، فتجحفون على الناس))(1) وقالوا ((فاختارت قريش لأنفسها فأصابتمر

ص: 184


1- المراجعات للسيد شرف الدين:350 وقد نقله عن شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد:3/ 107 والكامل لابن الاثير:3/ 24 في أحوال عمر

ووفقت))(1)، وكأنّ الآية الكريمة تفضح نوايا الانقلابيين وما عزموا عليه قبل وقوع الحدث بسنتين تقريباً وقد كشف الله تبارك وتعالى محاولاتهم العديدة في إخفاء الحق لكن الله تبارك وتعالى أظهره وأتمه في يوم الغدير، قال تعالى {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ}(التوبة:48) فجاء الحق وظهر أمر الله في يوم الغدير وهم كارهون معاندون {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} (التوبة:45).أيها الأحبّة الكرام

لقد ذكّرتهم السيدة فاطمة الزهراء (س) بهذه الآية الكريمة فقالت (س):(فلما اختار الله لنبيّه دار أنبيائه ومأوى أصفيائه ظهر فيكم حسكة النفاق) الى أن قالت (س) (زعمتم خوف الفتنة {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ} فهيهات منكم وكيف بكم وأنى تؤفكون وكتاب الله بين أظهركم؟ أموره ظاهرة وأحكامه زاهرة وأعلامه باهرة وزواجره لائحة وأوامره واضحة وقد خلفتموه وراء ظهوركم، أرَغبة عنه تريدون أم بغيره تحكمون {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ})(2) .

ثم بيّنت (س) لهم خطورة الفتنة التي أحدثوها فقالت (ويحهم أنى زحزحوها عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة والدلالة ومهبط الروح الأمين31

ص: 185


1- تاريخ الطبري:3/ 289
2- الاحتجاج للطبرسي :1/ 131

والطبين(1) بأمور الدنيا والدين {أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ}(2) فتبيّن السيدة الزهراء (س) لهم أنهم بفعلهم هذا سقطوا في قعر الفتنة وإن ادعَّوا أنهم يريدون وقاية الأمة منها ففضحت زيف دعاواهم ونواياهم الحقيقية وعظم جنايتهم على حاضر الأمة ومستقبلها حيث جّر هذا الانقلاب الويلات والكوارث على الأمة من تحريف الدين وسفك الدماء وهدر الأموال وتسلط الأشرار وتشريد الصالحين وضياع القيم والمبادئ الإنسانية وغير ذلك(3).وقد اعترف قادة الانقلاب بأن ما جرى في السقيفة كان فتنة تمزّق الأمة وتؤدي الى انحرافها عن طريق الصلاح والكمال لكنهم ادّعوا أنها مرّت بسلام قال عمر في كلمته المشهورة التي تناقلها المؤرخون وكتاب السير(4) (ان بيعة أبي بكر كانت فلته وقى الله شرها فمن دعاكم إلى مثلها فاقتلوه)(5) وقال ابن الأثير في معنى الحديث ((أراد بالفلتة الفجأة، ومثل هذه البيعة جديرة بأن تكون مهيّجة48

ص: 186


1- الطبين:الفطن الحاذق العالم بالاشياء
2- الاحتجاج للطبرسي:1/ 138
3- راجع تفصيل ذلك في موسوعة (خطاب المرحلة:1/ 217) خطاب بعنوان (ماذا خسرت الأمة حينما ولّت أمرها من لا يستحق) وفي تفسير (من نور القرآن:1/ 208) في ذيل قوله تعالى {أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (آل عمران:144).
4- مثل تاريخ اليعقوبي وشرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد والامامة والسياسة لابن قتيبة والصواعق المحرقة لابن حجر والملل والنحل للشهرستاني.
5- بحار الأنوار:30/ 448

للشر والفتنة فعصم الله من ذلك ووقى، والفلتة:كل شيء فُعل من غير رويَّة وإنما بُودِر بها خوف انتشار الأمر))(1). وقد زرعوا هذه الفكرة في اذهان الناس لتضييع الحقيقة مما دعا الأئمة الى بيانها، روى الشيخ الكليني في روضة الكافي بسنده عن ابي المقدام قال قلت لأبي جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):ان العامة يزعمون ان بيعة ابي بكر حيث اجتمع الناس كانت رضا لله عز ذكره، وما كان الله ليفتن أمة محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من بعده، فقال أبو جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أوما يقرأون كتاب الله، أوليس الله يقول:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران:144)(2).

وأي فتنة أعظم من تصدي غير المؤهلين لقيادة الأمة والتسلط على رقاب الناس في ذلك الزمان وفي كل زمان سواء بالخداع والمكر أو بالتضليل الإعلامي أو بالانقلابات العسكرية أو عبر الانتخابات المزورة أو باستخدام المال السياسي المسروق من قوت الشعب فينتشر الفساد والانحلال وتسرق ثروات الشعب وتهدر كرامته وتسفك الدماء المحرّمة وتشيع الفوضى ويختل النظام والأمن وتضيع العدالة الاجتماعية ويؤول أمر البلاد الى الخراب.

إن هذه الفئة المتخاذلة والمتقاعسة عن أداء واجباتها هي نفسها التي كانت تواجه أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عندما كان يستنهضهم لجهاد الباغين بالأعذار الواهية من الحر والبرد ففضحهم أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وكشف عن حقيقة نفاقهم بقوله5.

ص: 187


1- النهاية في غريب الحديث والأثر:3/ 467 مادة (فلت)
2- نور الثقلين:1/ 164 ح 1015.

{فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ الْحَرِّ قُلْتُمْ هَذِه حَمَارَّةُ الْقَيْظِ أَمْهِلْنَا يُسَبَّخْ عَنَّا الْحَرُّ وإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ قُلْتُمْ هَذِه صَبَارَّةُ الْقُرِّ أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا الْبَرْدُ كُلُّ هَذَا فِرَاراً مِنَ الْحَرِّ والْقُرِّ فَإِذَا كُنْتُمْ مِنَ الْحَرِّ والْقُرِّ تَفِرُّونَ فَأَنْتُمْ واللَّه مِنَ السَّيْفِ أَفَرُّ}(1) .إن فتنة هذه التبريرات تكون أخطر حينما تُغلّف بدعوة دينية كما في دعوى هؤلاء المنافقين الذين ذكرتهم الآية فأنهم يريدون التفريق بين الرسول والرسالة فيعصون الرسول ويزعمون أن ذلك من حرصهم على الالتزام بالرسالة كادعائهم الخوف من الفتنة عن الدين أو دعوى أصحاب السقيفة خوفهم على الناس من الارتداد ومن تمزق المجتمع، وكأنهم أعلم من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فيما ينبغي فعله وكأنهم يتهمونه في عدم إرادة صلاح الأمة، أو أنهم أعلم من الله تعالى بمصالح العباد وأحرص منه سبحانه على الدين وأحكامه قال الله تعالى مستنكراً ذلك منهم{قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الحجرات:16) ويذكرهم الله تعالى بأن نواياهم الحقيقية لا تخفى على الله تعالى وانه سبحانه يميز بين الحقائق والادعاءات {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} (البقرة:220) .

وختمت السيدة الزهراء (س) تحذيرها بالعاقبة التي ذكرتها الآية الكريمة {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ} فهم محاطون بالنار من جميع الجهات ولا يستطيعون التخلص منها، والتعبير باسم الفاعل (لمحيطة) الذي يدل على فعلية70

ص: 188


1- نهج البلاغة:نهج البلاغة:1/ 70

الاتصاف يعني انهم الآن واقعون حقيقةً في نار جهنم التي أججّوها بمعاصيهم(1) الا انهم لغفلتهم لا يشعرون بها ككثير من الحقائق التي هم غافلون عنها {لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (ق:22). ويمكن أن يكون معناها إن الكافرين صائرون حقيقة إلى هذه النتيجة فالتعبير باسم الفاعل يفيد الوقوع الأكيد لهذه النتيجة الآن أو في المستقبل.

أو إن إحاطتها بهم بلحاظ الأسباب والمقدمات أي انهم الآن محاطون بأسباب الوقوع في جهنم وهي الذنوب {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:81)، وقد أحاطت بهم ذنوبهم على مستوى النيات والأفعال.

إن هذه الحالة التي تحذّر منها الآية الكريمة لا تختص بواجب الجهاد بل سائر المسؤوليات الشرعية حيث تجد الذين في إيمانهم نقص وفي قلوبهم شك يقدمون أعذاراً واهية لا تخفى على من يستمع إليها وربما سوّقوها بعناوين دينية .

ص: 189


1- وفي الحديث إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان قاعداً مع أصحابه فسمعوا هدّة عظيمة فارتاعوا فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أتعرفون ما هذه الهدّة، قالوا:الله ورسوله أعلم، قال:حجر ألقي من أعلى جهنم منذ سبعين سنة وصل الآن الى قعرها وسقوطه فيها هذه الهدة فما فرغ من كلامه الا والصراخ في دار منافق من المنافقين قد مات وكان عمره سبعين سنة فكبّر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعلم الحاضرون أن الحجر هو ذلك المنافق الذي كان يهوي في جهنم مدة عمره فلما مات استقر في قعرها (حكاه السيد عبدالله الجزائري في كتاب (التحفة السنية:17) عن كتاب اليقين للفيض الكاشاني:2/ 1002، أقول:أصل الحديث رواه مسلم في صحيحه ص 1007 رقم 2844 .

وقد يكون صاحبها ممن له اطلاع على الفقه فيغلفها بمصطلحات دينية لتمريرها لكن أعذارهم ونواياهم الحقيقة لا تخفى على الله تعالى ولا على الواعي الفطن، أعاذنا الله تعالى وإياكم من الفتنة.

ص: 190

القبس/57: سورة التوبة:98

اشارة

{وَمِنَ ٱلأَعرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغرَما}

موضوع القبس:العطاء في سبيل الله تعالى غنيمة وليس خسارة

تبيّن الآية الكريمة صفة من صفات المنافقين من أعراب وغيرهم وهي انهم يعدّون ما ينفقون من أموال ليحافظوا على وجودهم في المجتمع الإسلامي مغرماً أي تلفاً وخسارةً وتضييعاً للأموال لأنهم لم يعطوها عن إيمان وعقيدة ونية مخلصة لله تعالى حتى يبتغوا بها الأجر والعوض، وإنما انفقوها رياءاً أو سمعة أو ليتظاهروا بأنهم ملتزمون بالدين وهم يستبطنون التمرد على الله تعالى وعدم الاعتراف بشريعته فلا يستفيدون مما انفقوا شيئا فينتابهم الأسى لما فقدوا من أموال بلا فائدة من وجهة نظرهم.

ولو كانوا صادقين في ايمانهم لاعتبروا ما ينفقون في سبيل الله تعالى ونصرة نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ونشر دينه والمساهمة في المشاريع الخيرية ومساعدة المحتاجين (مغنماً) لأنه سيعود عليهم بالخير الكثير في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلأنه سينمي المال ويزيده وإنما سميت الزكاة بهذا لأنها سبب لنمو المال وزيادته وكذا الصدقة فإنها تستنزل الرزق وتدفع البلاء.

وأما في الآخرة فان الله تعالى يضاعف الأجر لمن أنفق في سبيله أضعافاً مضاعفة حتى قال تعالى {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ

ص: 191

أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ} (البقرة:261) فالإنسان الواعي ذو البصيرة يجد ما ينفق في سبيل الله غنيمة ورزقاً لا يمكن تفويته فيسعى اليه ويحرص عليه، سواء تعلق الانفاق بالمال أو الجهد أو الوقت أو التفكير والاهتمام أو الكلمة الطيبة وغيرها ويرتقي ليكون الانفاق بالنفس والولد.فيرى المنافقون - وربما بعض ضعاف الايمان - ان من يصرف المال لبناء مسجد أو تزويج شاب مؤمن أو إقامة مشروع خيري، قد أضاع ماله الذي جمعه بجهود مضنية، ويرى ان من يقتل في سبيل الله وحماية المقدسات مغررّاً به قد خسر دنياه وهكذا.

ولأن المنافقين يعتبرون كل هذا الانفاق مغرماً وخسارة وعملاً عبثياً لا فائدة منه فهم يثبّطون العاملين ويثنونهم عن عزمهم على فعل الخير والمعروف ويطلبون منهم ان يوفروا مالهم ووقتهم وجهدهم لشؤونهم الشخصية وعدم تضيعها في المشاريع العامة المثمرة، فعلى المؤمنين الواعين الذين يعرفون جيداً ان هذا العمل والانفاق مغنم وخير وبركة ان لا يتأثروا بأراجيف المنافقين.

واذا استوعب الانسان هذه الحقيقة فانه سيتجاوز الكثير من المصائب والمصاعب وسيندفع نحو عمل الخير، خذ مثلاً ما جاء فيمن فقد جنيناً سقط من بطن أمه قبل اكتمال نموه عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حيث نقل قول جده رسول

ص: 192

الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (إن السقط يجيء محبنطئاً على باب الجنة فيقال له:أدخل الجنة، فيقول:لا، حتى يدخل أبواي الجنة قبلي)(1).لاحظوا كيف تحول المغرم إلى مغنم والألم إلى أمل بفضل الله تعالى وان من مرّت به مثل هذه المصيبة قد انفتحت امامه فرصة عظيمة لطاعة الله تعالى والفوز برضوانه ذلك بأن هذا الجنين الذي مات سيكون شفيعه يوم القيامة ولا يدخل الجنة الا ويدخل أبويه معه، فأي غنيمة أعظم من هذه؟ فتهون عليه المصيبة ويرضى بقضاء الله تعالى.

وهكذا من يجمع الأموال بعرق جبينه ثم يضعها في مشروع خيري فأنه لا يرى نفسه قد خسر شيئاً وانه أضاع ماله بل قدمّه ثمناً لغنيمة عظيمة.

أقول:هذا لاطمأن أحبّتي من المواكب والجمعيات الخيرية وسائر المؤسسات الدينية والإنسانية والاجتماعية المباركة الذين يواصلون الليل والنهار في خدمة الناس وعمل المعروف وإقامة شعائر الدين ان لا يثبطهم كلام الكسالى والمرائين وفاقدي البصيرة ومسلوبي التوفيق.

وقد حكى لنا التاريخ مواقف لعظماء عرفوا قيمة هذه الغنيمة مثل عبدالله بن عمرو الأنصاري والد جابر بن عبدالله الأنصاري فأنه بعد ان فاضت روحه الطاهرة شهيداً في معركة أحد مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تلقته الملائكة وسأله الله تبارك وتعالى عن ماذا يريد وماذا يطلب؟

فقال:أريد ان ارجع الى الدنيا لأقاتل وأُقتل شهيداً مرة أخرى لما رأى من الكرامة التي تمنح للشهيد(2).ر.

ص: 193


1- وسائل الشيعة:20 / 14 أبواب مقدمات النكاح ، باب 1 ح 2
2- روى طَلْحَة بن خِرَاش الأَنصاري قال:سمعت جابر بن عبد اللّه قال:نظر إِلي رسول الله ص)) فقال:"ما لي أَراك منكسرًا مُهْتَمًّا"؟ قلت:يا رسول الله، قتل أَبي وترك دينًا وعيالًا. فقال:"أَلا أَخبرك؟ ما كلم الله أَحدًا قَطّ إِلا من وراءِ حجاب، وإِنه كلم أَباك كِفَاحًا، فقال:يا عبدي، سلني أُعطك. قال:أَسأَلك أَن تردني إِلى الدنيا فأُقتل فيك ثانية! قال:إِنه قد سبق مني أَنهم لا يردون إِليها ولا يرجعون. قال:يا رب، أَبلغ مَنْ ورائي"، فأَنزل الله تعالى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ}... (آل عمران/ 169) أخرجه الترمذي في التفسير تفسير سورة آل عمران:8 / 360 - 361 وصححه الحاكم في المستدرك:3 / 203 وزاد السيوطي نسبته للطبراني وابن خزيمة وابن مردويه والبيهقي في الدلائل " الدر المنثور:2 / 371" وأخرجه الواحدي بسنده في أسباب النزول ص (162). وقال الألباني في تخريج السنة:إسناده حسن رجاله صدوقون على ضعف في موسى بن إبراهيم بن كثير.

وهكذا كان أصحاب الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقفون بين يديه ويسلّمون عليه ويتمنى أحدهم أن يقتل ثم يحيى ثم يقتل سبعين مرة دفاعاً عن الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولا يرى في ذلك مغرماً وتلفاً بل مغنماً وربحاً كقول زهير بن القين ((والله لوددتُ لو أني قُتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى اقتل كذا الف قتلة، وان الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك))(1) ومثله قال سعيد بن عبدالله الحنفي.ومثله ما ورد في خطاب العقيلة زينب (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) للطاغية ابن زياد لما قال لها متشفياً (كَيْفَ رَأَيْتِ صُنْعَ اللَّهِ بِأَخِيكِ وَ أَهْلِ بَيْتِكِ؟8.

ص: 194


1- تاريخ الطبري:5/ 418 ، الكامل في التاريخ 2/ 559 ، الارشاد:2/ 91 وغيرها من المصادر التي ذكرها ريشهري في كتاب الصحيح من مقتل سيد الشهداء:628.

فَقَالَتْ:مَا رَأَيْتُ إِلَّا جَمِيلًا، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ فَبَرَزُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، وَسَيَجْمَعُ اللَّهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ فَتُحَاجُّ وَتُخَاصَمُ، فَانْظُرْ لِمَنِ الْفَلْجُ يَوْمَئِذٍ)(1).وهذه الحقيقة القرآنية ثابتة بالاتجاه الآخر إذ قد يعدُّ أهل الدنيا والمغترّون بها والغافلون عن الآخرة أن بعض ما يعتبرونه مغنماً هو مغرم ووبال عليهم لأنهم لم يتورعوا في تحصيله ولا وضعوه في موضعه ولا أدوا فيه حقوق الله تعالى.

وعبّرت العقيلة زينب (س) بوضوح عن هذه الحقيقة في خطابها الذي هزّ عرش يزيد الطاغية بقولها (ولئن اتّخَذْتَنا مَغْنَماً، لَتجِدَنّا وشيكاً مَغْرماً، حين لا تجدُ إلاّ ما قدَّمْتَ وما ربُّكَ بظَلاّمٍ للعبيد)(2). 5

ص: 195


1- راجع المصادر في الصحيح من مقتل سيد الشهداء:1052 ح1523
2- الاحتجاج:2/ 123 ، بحار الأنوار:45 / 2157 ح 5

القبس/58: سورة التوبة:108

اشارة

{فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}

موضوع القبس: الفوائد النفسية والاجتماعية في التردد على المساجد

{فِيهِ} أي في المسجد إشارة الى ما تقدم من الآية الكريمة {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ}.

فالمسجد الذي يُشيَّد على أساس التقوى والاخلاص هو الذي يستحق ان تقوم فيه للصلاة والذكر وسائر الطاعات، لا المسجد الذي يؤسس رياءاً وسمعة أو نفاقاً أو ضراراً وتفريقاً بين المسلمين أو نحو ذلك، لأن مسجد التقوى يضم أناساً يحبون أن يتطهروا بحضورهم في المساجد أي يتنزهوا عن الرذائل والنقائص والعيوب، فتراهم يتسابقون لنيل الكمالات الروحية وتهذيب نفوسهم وتنقية قلوبهم، وقد وصفت آية أخرى جانباً من تطهرهم في قوله تعالى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ، رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (النور:36-37).

وهذا التطهر المعنوي شامل في أول درجاته للتطهر المادي من الخبث لذا وردت بعض الروايات التي تفسِّر التطهّر بغسل موضع الغائط بالماء، ثم التطهر المعنوي

ص: 196

من الحدث بالوضوء، ويظهر من الآية أن وجود هؤلاء المتطهرين في المسجد المؤسَّس على التقوى بيان لصفة من صفات هذا المسجد، أو إنه علة وكأنَّه هو السبب الذي جعله أحق ان تقوم فيه للصلاة. وهؤلاء المهتمون بالتطهير يحبّهم الله تعالى، وهي الحقيقة التي أكدها قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (البقرة:222) فلا يريدون من حضورهم في المساجد رياءاً ولا سمعة ولا لخداع الناس أو التسلط عليهم والتعالي باسم الفضيلة.

وهذا العنوان الجميل {الْمُتَطَهِّرِينَ} يلخص كل ما يتصف به هؤلاء من معاني النقاء والسمو والعفاف والنبل والخير والمعروف، والواقع يشهد على ذلك فان المسلمين هم الأمة الوحيدة التي تعتني بالطهارة المفصَّلة من الخبائث، ونظافة البدن والثوب من اعيان النجاسات، وكثرت فيها أحكام الشريعة حتى كان كتاب الطهارة من أضخم الكتب الفقهية، وقد عرفهم به اعداؤهم أيضاً حينما أرادوا أن يلخصّوا توصيف سلوكهم العفيف وتحليهم بالفضائل واجتنابهم الفحشاء والمنكر والبغي والظلم والخبائث قالوا عنهم {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} (النمل:56) ولكن ماذا كان ردّهم العاجز {أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} (الأعراف:82) وقد تكرر الحدث في القرن الماضي عندما انفصل المسلمون عن الهندوس في الهند وأسسوا دولة جديدة اسمها باكستان وهي تعني دولة الانقياء والمتطهرين.

ص: 197

والتطهير سبب لتلقي الكمالات والمعارف الإلهية، قال تعالى {فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ، لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (الواقعة:78-79) أي أن حقائق القرآن الكريم ومعارفه التي فيها تبيان كل شيء في كتاب مكنون في لوح محفوظ لا يصل اليه ولا يطّلع عليه الا المطهَّرون، ومن هم المطهَّرون؟ انهم النبي وأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين)، لأنهم بلغوا الغاية في الطهارة والعصمة قال تعالى {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (الأحزاب:33) أما غيرهم فينالون من حقائق الكمال والمعرفة بقدر درجاتهم من الطهارة المعنوية، قال تعالى {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} (الرعد:17).وتطهير القلب من الاغلال، والنفس من الادران هو غرض التشريعات الإلهية قال تعالى {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (الأحزاب:53) وقال تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (التوبة:103) وقال تعالى {وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} (المائدة:6) وقال تعالى {ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة:232) وقال تعالى {فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ} (المجادلة:12).

هذا بيان مختصر لمعنى الآية، وما نريد أن نقتبسه من نورها أنها تبيّن عنوانين رئيسيين للثمرات الحاصلة من التردد على المساجد والتجمعات الإيمانية وهما:

1- نيل الكمالات الروحية بتطهير القلب وتهذيب النفس وتنزيههما عن الرذائل الخلقية والنقائص والعيوب.

ص: 198

2- اعلان الانتماء الى الجماعة الصالحة المؤمنة وهم المتطهرون.

ويتضمن كل من العنوانين عدة ثمرات جمعها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بقوله (من اختلف إلى المسجد أصاب إحدى الثمان: أخاً مستفاداً في الله، أو علماً مستطرفاً، أو آية محكمة، أو يسمع كلمة تدلّه على هدى، أو رحمة منتظرة، أو كلمة تردّه عن ردى، أو يترك ذنباً خشية أو حياءً)(1)، أي يحصل على احداهن على الأقل والا فان المتوقع تحصيلها جميعاً بفضل الله تعالى، ونقل الشيخ الصدوق أيضاً حديثاً آخر بلفظ مقارب عن الحسن بن علي (عليهما السلام) عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

ويمكن توضيح هذه الثمرات ضمن نقاط:

1- نيل الثواب والقرب من الله تعالى والسمو الروحي: باعتبار أنّ هذا العمل فيه طاعة لله تبارك وتعالى وذكر له {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(الرعد:28)، فيوفّر فرصة للعبد المؤمن في التقرب إلى الله سبحانه والرقي في مدارج الكمال، وتفيد الأحاديث الشريفة ان مجرد الحضور في المسجد يحقِّق هذه الثمرة، فاذا صلّى فيه تضاعف، فاذا كانت الصلاة في جماعة تضاعف أكثر، وقد ذكرنا جملة من هذه الأحاديث في قبس {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} (التوبة:18) ومنها قول رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (من مشى الى مسجد من مساجد الله فله بكل خطوة خطاها حتى يرجع الى منزله عشر حسنات ومحى عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات)(2)، وعن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (من أقام في 3

ص: 199


1- كتاب الخصال للشيخ الصدوق: ج2 / ص409
2- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) : ج5 / ص 201 / ح 3

مسجد بعد صلاته انتظاراً للصلاة فهو ضيف الله، وحقّ على الله أن يُكرم ضيفه)(1).وكلٌ منّا يحس بوجدانه حالة السكينة والطمأنينة وسمو الروح وهو يدخل هذه المشاهد المشرفة، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (الجلسة في الجامع خير لي من الجلسة في الجنّة، لأنّ الجنّة فيها رضى نفسي، والجامع فيه رضى ربي)(2).

2- الجهة التربوية: فإن المسجد أحد المراكز التي يتلقى الإنسان فيه تربيته كالبيت والمدرسة، بل إنّ ما يناله الفرد من التربية في المسجد أهم وأكمل باعتباره متمحضاً في الخير، ولا يتصور فيه الانحراف والزيغ كالذي يمكن في البيت أو المدرسة، وإنّ الكثير من المؤمنين لم يحصل على تربيتهم فيهما لخلوهما من الصلاح، وإنمّا نالوا تربيتهم في المسجد، ومهما تراجع دور البيت والمدرسة في تنشئة الجيل نشأة صالحة فإن المسجد باقٍ يؤدي وظيفته، كما أنّ هناك بعض الجرعات الإيمانية الواعية تعجز عن إعطائها الأسر الاعتيادية لأبنائها فيضطلع بها المسجد الذي ما زال يركّز في نفوس مرتاديه حب الله وعدم الانخداع بأمور الدنيا ونبذ العادات السيئة كالكلام الفاحش والتنابز بالألقاب والمزاح المهين، والتغلب على الأمراض النفسية كالبخل والحرص والغرور والغضب والتكبر والعجب والرياء وحب النفس، والتحلي بالأخلاق الفاضلة كالإيثار والصبر والحلم والشجاعة والكرم والعطف واللين والتسامح والتواضع وحب الخير للآخرين، وبهذا تكتمل شخصية الفرد المؤمن وينعكس ذلك 6

ص: 200


1- بحار الأنوار: 85/ 351
2- 3- وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) : ج5 / ص 199 / ح 6

واضحاً منه على علاقاته الاجتماعية وعلى أسرته، بل نراه يرجع إلى أسرته التي لم تعطه ما أعطاه المسجد فيفيض عليها مما رزقه الله من فيوضاته في المسجد، والشواهد على ذلك كثيرة في مجتمعنا(1).3- الجهة العلمية والثقافية: فإن المسجد سيفتح لمرتاديه فرصاً عديدة للاستزادة من العلم النافع والثقافة المفيدة من خلال الدروس والمحاضرات الفقهية والأخلاقية والعلمية التي تعقد في المسجد، أو الاستفادة من إصدارات ونشرات العلماء والمفكرين التي تصل إلى المسجد، أو إجابة الأسئلة المختلفة التي تصل إلى أمام المسجد، أو استعارة الكتب الموجود فيه، أو من خلال اللقاءات والحوارات التي تدور مع المثقفين والواعين من مرتادي المسجد.

4- الجانب الانتمائي والارتباطي: فإن الإنسان بطبعه يميل إلى الانتماء للجماعة ولا يجد لنفسه قيمة الا عندما يكون جزءاً من جماعة. ولا يستطيع أن يعيش وحده، فلا يحس بوجوده الكامل إلا من خلال انتمائه للجماعة، فترى أحدهم يفتخر بانتمائه الى القومية أو البلد أو العشيرة لأنه يحسّ بأن انتماءه هو هويته، وآخر ينتمي إلى جماعة الرياضيين وتؤسَّس روابط لمشجعّي أندية الكرة، وآخر ينتمي إلى رواد الفن واللهو، وآخرون إلى الاتجاهات السياسية والفكرية وغيرها، وأيّ انتماء أفضل من ذلك الذي يحقّقه له وجوده في المسجد فيشعر بأنهّ عضو في الجماعة المؤمنة الصالحة هذا الكيان المقدس الذي رأسه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأركانه أمير المؤمنين والأئمة الطاهرون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)ي.

ص: 201


1- فكثير من الشباب هم الذين أثرّوا في آبائهم وأمهاتهم وذويهم بسبب المسجد فأصبحت العملية معكوسة فالمسجد هو الذي يربي.

من ولده، وأفراده المتبعون لسيرتهم من الراضين المرضيين الفائزين، والجميع تحت ظل ورعاية وولاية الله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ}(محمد:11)، وكفى بذلك خسراناً للذين لهم أولياء من دون الله تبارك وتعالى.5- الاحساس بقوة وعزة الإسلام ووحدة صف المسلمين، وتوحي بهذا صلاة الجماعة والجمعة والعيدين والشعائر الاجتماعية الأخرى التي هي من أبرز مظاهر قوة الإسلام والمسلمين، وتدل على اهتمام الإسلام وتشريعاته بنظام الكيان الموحد والروح الجماعية.

6- تقوية الأواصر الأخوية الإيمانية بين الأفراد من خلال تعرّف بعضهم على بعض، وإليه أشار في حديث الثمانية: (أخاً مستفاداً في الله) والتواصل والتزاور بينهم، والتكافل الاجتماعي بين المسلمين من خلال المساعدة في قضاء حوائجهم، وحل مشاكلهم، والتفكير في المشاريع الخيرية ذات المصلحة العامة كبناء وترميم المدارس والجمعيات التعاونية ومؤسسات الرعاية الاجتماعية خصوصاً الأرامل والأيتام، وقد يكون المسجد وسيلة للتعارف المؤدي الى التزويج أو الى إيجاد فرص عمل باعتبار أن الأمان الحضور فيه شاهد على تحقق صفة الأمانة والوثاقة.

7- حصول الاستقرار والسكون في نفس الإنسان المؤمن عند لقائه بإخوانه في المسجد، ويدلّ عليه قول الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إنّ المؤمن ليسكن إلى المؤمن كما يسكن الظمآن إلى الماء البارد)(1).47

ص: 202


1- الكافي ج 2 : 247

8- تحقق الفرصة الواسعة لممارسة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي هي أسمي الفرائض وأشرفها كما وصفها الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) اذ المتوقع أن يضمّ المسجد من يعينه على ذلك ويشخّص له التصرف السليم، وإليها أشار حديث الثمانية: (أو كلمة تردُّه عن ردى أو يسمع كلمة تدلّه على هدى)(1).

9- يعتبر المسجد المشخّص الأول لما موجود في المجتمع من سلبيات لأنه ملتقى كلّ الطبقات، وإليه ترد جميع أنواع السلبيات والمشاكل، وبذلك فالتوجيهات بخصوص هذه المشاكل تصدر منه، والمجتمع يكون ميدان تطبيق ما يأمر به المسجد.

10- اطلاع المسلمين على القضايا والأحداث الآنية التي تهمهم ومواكبتها خاصة تلك التي تهدد كيان الإسلام ووحدته، لذا فالمسجد يربّي المجتمع على الاهتمام بأمور المسلمين، وقد ورد في الحديث: (من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم)(2).

11- يمثل المسجد مظهراً لوحدة المسلمين وتذويب خلافاتهم، ويوجّه دعوة للتقريب بينهم، لأن القلوب تتوحد فيه على ذكر إله واحد، وتتوجه نحو قبلة واحدة، وتتلو كتاباً واحداً في صفوف متراصة لا يفرّق بينهم اختلاف توجهاتّهم ما دامت كلها تستقي من منابع الرسالة، وخير موضع تتجسد فيه هذه الحقيقة المسجد الحرام في مكة المكرمة حيث يدرك المسلمون إنهّم وإن تفرقت أقطارهم واختلفت أنسابهم وألسنتهم وألوانهم، تجمعهم جامعة الدين6

ص: 203


1- أمالي الصدوق: 318 / 16.
2- بحار الأنوار: ج 75/ ص66

والعقيدة، وأنهّ إذا جدَّ الجد وجب أن يضحي كلّ فريق منهم بمصالحه الخاصة في سبيل المصلحة المشتركة.12- يمثل المسجد جهة إعلامية مرعبة لأعداء الإسلام، وذلك لأنهّ المبرز لنقاط القوة في الدين الإسلامي، والتي تميزه عن باقي الأديان والاعتقادات والأيديولوجيات، وهو بذلك ليساهم بشكل فعال في تحسين سمعة الدين الإسلامي، وترغيب أفراد باقي الأديان للدخول فيه، وقد اعتنق كثيرون الإسلام لمّا شاهدوا مساجد المسلمين وشعائرهم ومشاعرهم(1).

13- المسجد وسيلة مهمة لتقليل الفوارق الطبقية الاجتماعية والاقتصادية بين أفراد المجتمع، ولعل أوضح مصداق من المساجد في تطبيق هذه الفائدة هو المسجد الحرام وذلك أثناء شعائر الحج حيث اللباس الواحد والحركة الواحدة.

والخلاصة ان الإسلام بقوته وعزته وأحكامه وتشريعاته ووحدة أبنائه وقدرته على إصلاح الناس وإسعادهم يتجسد في المسجد الفاعل المبني على التقوى، وإن المسجد ليس فقط محل عبادة بل هو مقر قيادة ومدرسة للتربية والوعي ومنطلق لأعمال الخير والمعروف وحصن من الضلال والانحراف والفساد وعلينا ان نلتفت ان محور تحصيل هذه الثمرات وتحقيقها هو إمام المسجد مما يرفع سقف طموحنا بأن لا نكون من رّواد المساجد فقط بل أئمة فيها لنحصل على مجموع الفوائد التي يحصل عليها جماعة المسجد بفضل الله تعالى وكرمه، وهذام.

ص: 204


1- تقرأ قصصاً كثيرة عن الذين اعتنقوا الإسلام كما في كتاب (لماذا اخترنا الإسلام؟) للسيد محمد رضا الرضوي، وهناك الكثيرون ممن دخل الإسلام تأثراً بمشاعر المسلمين داخل مساجدهم.

نداء للحوزة العلمية أن تأخذ دورها في تفعيل هذه التجمعات المباركة، وللشباب المثقف الواعي الرسالي أن يلتحق بالحوزة العلمية ليؤهل نفسه لنيل هذا الشرف العظيم وهو من استجابة الدعاء للدولة الكريمة في زمان الغيبة (وتجعلنا فيها من الدعاة الى طاعتك والقادة الى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة). هذه الثمرات وغيرها(1) تجعل الحياة في المساجد ألذّ وأحبّ حالة يعيشها الانسان ويصوَّرها لنا الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بما رواه حفيده الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن علي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) استقبله مولى له في ليلة باردة وعليه جبة خزّ ومطرف خزّ وعمامة خزّ - وهي ألبسة غالية جداً - وهو متغلف بالغالية - وهو أرقى أنواع العطر - ، فقال له: جُعِلتُ فداك في مثل هذه الساعة على هذه الهيئة إلى أين؟ قال: إلى مسجد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أخطب الحور العين إلى الله عزّ وجلّ)(2).17

ص: 205


1- راجع المزيد من التفاصيل في كتاب (شكوى المسجد) ضمن كتاب (ثلاثة يشكون)
2- الكافى ج 6 ص 517

القبس/59: سورة التوبة:109

اشارة

{أَفَمَن أَسَّسَ بُنيَنَهُۥ عَلَى تَقوَى مِنَ ٱللَّهِ وَرِضوَنٍ}

موضوع القبس:تأسيس بناء الإنسان على التقوى

بنيان التقوى ورضوان الله تعالى:

تُبيّن الآية قاعدة اخرى من قواعد السلوك المعنوي والبناء الصالح للإنسان والمجتمع، وقد عُرضت بشكل استفهام لطلب المقارنة والتمييز بين بنيانين، لكنه ليس استفهاماً حقيقياً لاستحالته في حق الله تعالى ولوضوح الجواب، بل هو استفهام استنكاري لتوبيخ الجهلة وأهل الغفلة والمتعصبين والمنافقين الذين لا يميزون بينهما، وهو استفهام تقريري لترسيخ الاسس المتينة للبنيان الصحيح.

وجاءت الآية بعد المقارنة السابقة عليها {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِ-داً ضِ-رَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ، لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (التوبة 107-108).

ولا شك أن المسجد الحق الذي تقوم فيه هو الثاني لأن حقيقة المسجدية متوفرة فيه وأهداف المسجد متحققة منه ولأن فيه رجالاً يسعون للتطهّر والكمال وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ بعكس الأول الذي ظاهره المسجدية وشعاره ديني الا أن

ص: 206

كل أهدافه هي حرب على الدين وأهله.وهنا يأتي الاستفهام الاستنكاري والتقريري الذي بدأنا به فأن البنيان المثمر الراسخ الرصين هو ما اُسس على ركيزتين:التقوى ورضوان الله تعالى، فالأساس الاول التقوى المأخوذة من الاتقاء والاجتناب والاحتماء تعني تجنب كل شيء سيء وخبيث سواء على مستوى النيّات أو الأعمال فلا رياء ولا سمعة ولا حب الجاه والدنيا ولا مصادر غير مشروعة للمال وأساليب ماكرة في العمل، والأساس الثاني هو الرضوان الذي يعني اشتراك كل العناصر الإيجابية من نظافة الأيدي وسلامة النيات والصدق في العمل وابتغاء الخير والإحسان.

ويقابله بنيانٌ فاشلٌ في مهب الريح وبالٌ على أصحابه يشبهه القران الكريم بمن بنى على (شفا) أي حافة (جرف) وهي حافة النهر أو البئر التي جرف الماء ما تحتها فهو (هارٍ) أي متصدع مشرف على السقوط والانهيار في أي لحظة لأنها حافة منخورة متآكلة فيسقط في هذا الوادي المرعب العميق.

ولا يختلف اثنان في أّن البنيان الأول هو الثابت الجيد الذي يطلبه العقلاء فعليهم أن يتوجهوا الى مثله، ويتجنبوا الثاني.

مسجد ضرار:

والآيات وإن نزلت في حالة قائمة في زمن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهما مسجد ضرار(1) الذي بناه جمع من المنافقين في قضية معروفة للأهداف المذكورة في الآية:107 المتقدمة وقد أمر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بإحراقه، وفي مقابله مسجد قبا أو مسجد

ص: 207


1- حكى بعض المطّلعين ان موقع مسجد ضرار الى اليوم لا يتقبل الاعمار والبناء ويقول من هناك انه كلما عُمِّرَ احترق وتهدّم والله العالم.

النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الذي أُسس على التقوى الا أنها - كما هو شأن سائر الآيات القرآنية- عامة شاملة لكل بنيان لذا قلنا انها تؤسس لقاعدة عامة من قواعد السلوك، روى في مصباح الشريعة عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تأويل الآية قوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وكل عبادة مؤسسة على غير التقوى فهي هباء منثور)(1).

ركائز النجاح القرآني:

وفي ضوء هذا المعنى الواسع للآية الكريمة تكون النتيجة أن كل حالة أو مؤسسة أو مشروع فردي أو جماعي يراد له أن يكون صالحاً ومثمراً ومتيناً ويدوم عمله لا بد أن يشتمل على ركنين:

1-أن يكون الغرض الذي اسس من أجله والهدف الذي يصبو الى تحقيقه نبيلاً سامياً والنية التي تدفعه اليه حسنة مستندة الى تقوى الله تبارك وتعالى وطلب رضوانه {أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ}.

2-أن يكون القائمون على هذا البنيان والمدبرون لأمره والعاملون فيه مؤمنين مخلصين يحبون الخير والتطهر والكمال ويسعون اليه (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ).

وإلا فان البناء ينهار ولا يحقق شيئاً بل يكون وبالاً على أصحابه في الدنيا والاخرة وإن رفع شعارات وأسماء دينية لخداع الناس وسوقهم لتحقيق المصالح الشخصية فلا يصح أن يكون الانسان مغفلاً وينخدع بالعناوين الفارغة من المحتوى الصحيح.

ص: 208


1- نور الثقلين:2/ 268.

المنهج الإصلاحي في القرآن الكريم:

وينبغي ملاحظة نقطة مهمة في المسيرة الإصلاحية للشريعة المقدسة وهي أنها تقدّم البديل الصالح حينما تهدم الحالة الفاسدة (لاَ تَقُمْ فِيهِ – اي مسجد ضرار- والبديل أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ - وهو المسجد المؤسس على التقوى) وهو منهج رباني اعتمدته الشريعة منذ أول كلمة نطق بها الرسول الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (لا اله الا الله) فهي في الوقت الذي تبطل الآلهة المزيفة المصطنعة تُقيم عبادة التوحيد لله تبارك وتعالى، فلنتعلم اننا حينما نريد هدم حالة معينة فاسدة اجتماعية او ثقافية او عقائدية علينا ان نؤسس ونبني البديل الصالح، فحينما نريد معالجة الفساد الاخلاقي والانحراف الجنسي علينا ان نيسّر امور الزواج ونساعد عليه وهكذا.

بناء مستقبل الشباب:

أيها الأحبة من الشباب وطلبة الجامعات(1) الذين وفدتم الى النجف الأشرف لتعزية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) باستشهاد زوجه بضعة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

استحضروا هذا المعنى وأنتم تتلون هذه الآية الشريفة واجعلوها نبراساً وبوصلةً لحياتكم لأنكم بصدد وضع حجر الأساس لعدد من مشاريع البناء:

المشروع الاول:بناء النفس والذات والمستقبل المعنوي والعلاقة مع الله تعالى التي هي أساس الحياة الآخرة الباقية لأن الفتى الذي يبلغ سن الرشد ويلتحق بالبالغين هو في بداية حياة جديدة يُشرّف فيها بالتكاليف الالهية وتنفتح امامه

ص: 209


1- الكلمة التي وجهّ-ها سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) الى آلاف الطلبة الجامعيين من مختلف الجامعات العراقية ضمن فعاليات اقيمت لهم على قاعة النجف الكبرى بمناسبة ذكرى استشهاد الصديقة الطاهرة الزهراء (س) مساء يوم الاثنين 2/جمادى الاخرة/1436 المصادف 23/ 3/ 2015.

فرص التكامل والقرب الالهي عليه ان يلتفت الى بناء حياته على تقوى من الله ورضوان، ويكون كما أراد الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعائه (وَاجْعَلْ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، والوفاة رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ) (1) ،لذلك أعطت الأحاديث الشريفة قيمة كبيرة لمن ينشأ من أول أمره ويؤسس بنيان نفسه على طاعة الله تعالى، عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (سبعة في ظلّ عرش الله عز وجل يوم لا ظل الا ظله:إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل...)(2) وفي حديث آخر عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (فضل الشاب العابد الذي تعبّد في صباه على الشيخ الذي تعبّد بعدما كبرت سنُّه كفضل المرسلين على سائر الناس)(3) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (إن أحب الخلائق الى الله عز وجل شاب حدث السن في صورة حسنة جعل شبابه وجماله لله وفي طاعته، ذلك الذي يباهي به الرحمن ملائكته، يقول:هذا عبدي حقا)(4).المشروع الثاني:إن الطالب الجامعي الذي يُنهي دراسته ويتوجه الى العمل والكسب عليه أن يفهم أنه يبني مستقبله ويحدد بوصلة حياته القادمة فلا بد أن يحدد اختياره لنوع الوظيفة والعمل ويضع برنامج عمله وفق هذه الاسس المتينة للبناء.

المشروع الثالث:إنكم مقبلون على الزواج إن شاء الله تعالى بعد المشروع الثاني والزواج وُصفَ في بعض الأحاديث الشريفة أنه بنيان، عن أبي جعفر

ص: 210


1- مفاتيج الجنان: 52/ دُعاء يوم الثلاثاء.
2- الخصال:343 ح8.
3- كنز العمال:43059.
4- كنز العمال:43103.

(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(مَا بُنِيَ بِنَاءٌ فِي الإسْلامِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عزّ وجلّ مِنَ التَّزْوِيجِ)(1) فالذي يريد أن يبني حياة زوجية سعيدة صالحة مثمرة عليه أن يبنيها من أول خطوة عندما يبحث عن الزوجة أن يجعل أساس اختياره التقوى ورضوان الله تعالى في صفات الزوجة ومعدنها وفي نيته من مشروع الزواج، وليس البحث عن الامور الدنيوية الزائلة، وهو ما نطقت به الأحاديث الشريفة، كقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (عليك بذات الدين)(2)، والمرأة يوجه لها نفس الخطاب قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه)(3).المشروع الرابع:ما بعد الزواج وهو إنجاب ذرية طيبة صالحة تكون عاقبتهم الى خير عليه وذلك بأن يؤسس بنيانهم ويلتفت الى تربيتهم من أول أيامهم على الخير وطاعة الله تعالى والأخلاق الفاضلة وتجنب الرذائل فإن بناءه سيكون رصيناً ثابتاً مستقيماً حتى ورد عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (من تعلم في شبابه كان بمنزلة الرسم في الحجر)(4) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (العلم من الصغر كالنقش على الحجر)(5) أما إذا لم يكن أساسه كذلك وحصل اعوجاج فيحتاج الى مشقة كبيرة لإصلاحه وقد يتعذر ذلك كما هو واضح.

فليلتفت أحبتنا الشباب وأولياء امور الفتيان والصغار الى هذا المعنى.

وهكذا تتوسع الحالة الى الذي يتصدى لقيادة دينية أو سياسية في مساحة3.

ص: 211


1- وسائل الشيعة:كتاب النكاح، ابواب مقدماته وآدابه، باب 1 ح 4.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 5/ 332
3- بحار الأنوار:ج103 ص372 ح3.
4- بحار الانوار:1/ 222 ح 6.
5- بحار الانوار:1/ 224 ح 13.

صغيرة أو مساحة واسعة ويريد أن يبني مجتمعاً صالحاً فانه لا بد أن يكون أساس بنيانه تقوى الله تعالى وطلب رضوانه، روي في الحديث الشريف (صنفان من امتي ان صلحا صلحت وان فسدا فسدت:العلماء والامراء)(1).

فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ:

وهنا علاقة تكاملية متبادلة بين البنيان والباني فكما أن حال الباني المعنوي المستند الى التقوى ورضوان الله تعالى مؤثر في صلاح البنيان واستقامته وديمومته، كذلك فإن البنيان الصالح المبارك –كالمشاهد المقدسة- مؤثر في صفاء نفوس رواده وسمو حالتهم المعنوية (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ)، كما أن البناء المستند الى الرياء والنفاق وخبث الباطن يؤثر في نفوس وقلوب مرتاديه، فلا بد للإنسان أن يلتفت الى الركن الثاني فيختار صحبة الصالحين ولا يكتفي بالركن الأول، وحينئذٍ يحظى بمحبة الله تبارك وتعالى {وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}.

إحباط المشاريع الهدّامة:

وعلى أي حال فهذه قضية خطيرة أثارها القرآن الكريم لا نستطيع بهذه العجالة بيان كل تفاصيلها، بحيث أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يأمر بعض أصحابه أن يحرقوا مسجد الضرار لإحباط هذا المشروع المنافق الخطير الذي يمزّق وحدة المجتمع المسلم مع أنه في ظاهره مشروع ديني، وهذا الكلام له بيان أخر.

ص: 212


1- الخصال:ص 36-37 ح 12.

دور الأسرة المسلمة في البناء الاجتماعي الصالح:

لكن ما اريد أن اقوله أننا في كل تفاصيل حياتنا في عملية بناء ابتداء من بناء أنفسنا الى اسرتنا الى مؤسساتنا الى مجتمعنا الى البشرية كلها فلا بد من الالتفات الى الاسس الرصينة التي تقوِّم هذا البناء وتحسّنه ليؤدي أهدافه بشكل تام.

وكما هو واضح فإن في كل الحالات المتقدمة وأنواع البنيان المذكور فان المرأة هي المدير التنفيذي -كما يُقال- لتلك المشاريع وهي المهندس المباشر لتنفيذ مراحل البناء واستقامته وانما سُمّيت اماً لأنها الاصل في هذا الوجود، ولذا ورد عن السيدة الزهراء (س) قولها:(الزم رجلها - أي الام- فان الجنة تحت اقدامها)(1).

أما الرجل فهو المهندس المصمم لتلك المراحل والمخطّط لها والمقوِّم لمسيرتها.

وقد كانت السيدة الزهراء (س) أكمل مثال للنجاح في بناء كل هذه المشاريع، فعلى صعيد الذات هي من الخمسة أهل الكساء أكمل الخلق وقد خُلِقَ الوجود لأجلهم:فاطمة وأبوها وبعلُها وبنوها (صلوات الله عليهم أجمعين) وهي محور هؤلاء الخمسة.

وعلى صعيد الاسرة فاسرتها أسعد وأطيب وأطهر اسرة هي وأمير المؤمنين وفي ظل رعاية أبيها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

وعلى صعيد الذرية فهي أصل الذرية الطيّبة الطاهرة المعصومة ومنها ذرية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وعلى صعيد العطاء المثمر المبارك سمّاها الله تعالى (الكوثر)

ص: 213


1- موسوعة المصطفى والعترة للشاكري:4/ 365.

وجعلها هبة الله تبارك وتعالى لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (الكوثر1) والكوثر تعني الخير الكثير.هذه الحقيقة القرآنية تكشف عن أهمية نشر فروع الحوزة العلمية في المحافظات المختلفة للرجال والنساء وتكتسب شرفها وأهميتها من وظيفتها في بناء الانسان والمجتمع على أساس التقوى ورضوان الله تعالى من خلال نشر المعارف القرآنية والأحكام الشرعية والأخلاق الفاضلة فابنوا مشروعكم على هذه الاسس الرصينة من أول يوم الى آخره وارفدوه دائماً بالنخبة الصالحة الطيبة من الشباب ليكون لكم صدقة جارية بكل كلمة تدل على هدى أو تردّ عن ضلالة.

وأدعوكم الى التنويع في آليات عملكم وعدم التوقف عند طريقة معينة على طول المدة لان من طبيعة الانسان والحياة التغيير والتجديد.

ص: 214

القبس/60: سورة التوبة:119

اشارة

{يَأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّدِقِينَ}

لكي نفهم الآية الكريمة، ونعرض انفسنا عليها ونتحقق من نسبة التزام الامة بها، مع ما يتضمن ذلك من دروس جليلة نلفت النظر الى عدة امور:

1-اول ما يلاحظ في الآية استعمال اداة النداء {يَا أَيُّهَا} وجعل المنادى هم المتصفون بصفة الايمان مع ان الجميع مخاطبون(1) بهذا الامر، وذلك لعدة نكات:

(منها) تشريف المؤمنين بتوجيه الخطاب اليهم دون غيرهم من المأمورين.

(ومنها) لألفات عناية المؤمنين واثارة انتباههم الى ما يكمل به ايمانهم.

(ومنها) اشعارهم بمسؤوليتهم الخاصة كمؤمنين عن هذا الذي دعوا اليه أي انكم بصفتكم مؤمنين يجب ان تكونوا كذلك، ولو كانت الجملة بلا اداة نداء ومنادى واقتصر على بيان الامر المطلوب {اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} لما حصلت هذه العناية ولا الالتفات الى المسؤولية او كانت بدرجة اقل، كما انك

ص: 215


1- جميع الناس مخاطبون حتى غير المسلمين لانهم مكلّفون بالفروع –أي الأحكام الشرعية الواجبة والمحرمة- كتكليفهم بالأصول –أي الاعتقاد بالتوحيد والنبوة والمعاد، وورد التصريح بالعموم لمثل هذا الخطاب في ايات مماثلة كقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}(البقرة:183).

حين تخاطب الشباب بتوجيه ما تبتدئ كلامك ب- (يا أيها الشباب) لالفات نظرهم الى ان هذا الخطاب موجه لهم بما هم شباب، او تقول ايها العراقيون عند طرح قضية وطنية تهمهم، او يا طلبة الحوزة العلمية.والخلاصة ان الآية تفيد انكم اذا كنتم تريدون ان تكونوا مؤمنين حقا فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين ولها دلالة بالاتجاه المعاكس أي انكم اذا اتقيتم الله ووجدتم انفسكم في صف الصادقين فأنكم مؤمنون حقا، وإلا ينطبق عليكم قوله تعالى {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (الحجرات14)، فالآية هنا تنفي بعض مراتب الايمان الصادقة حقيقة، وهناك آيات اخرى تثبته بلحاظ المراتب الأدنى كقوله تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف106).

وبتعبير اخر:ان حقيقة الايمان التي تكون سبب فوز الانسان وسعادته لها ثلاثة ابعاد او انها لا تكتمل الا باجتماع ثلاثة عناصر:

أ-الايمان بالله وبأنبيائه ورسالاته واليوم الاخر والاوصياء وسائر العقائد الحقّة، وهذا بُعدٌ اعتقادي قلبي.

ب-تقوى الله والالتزام بما يريده الله تعالى وتجنب ما يسخطه تعالى وهذا بُعد عملي سلوكي.

ت-ان تكون مع الصادقين بالمعنى الذي سنذكره ان شاء الله تعالى وهذا بعد اجتماعي في العلاقة مع القيادة.

2-ان الامر بالكون مع الصادقين مطلق ولم يحدد بناحية او مورد معين، هذا له دلالات عديدة على مستوى الالزام والاثبات وعلى مستوى المنع والنفي.

ص: 216

اما على مستوى الاثبات فان الآمر بالكون مع الصادقين يعني الاعتقاد بهم والاخذ عنهم واتباعهم والتسليم لهم والسير على نهجهم ويعني ايضا حمل رسالتهم والتحرك بها في كل اتجاه ونصرتهم ومعونتهم في الشدة والرخاء والعافية والبلاء، ويعني ايضا الرجوع اليهم في كل تفاصيل الحياة من غير فرق بين العقيدة والشريعة او السلوك، ولا بين احكام العبادات والمعاملات وسواء كانت في الاحوال الشخصية او السياسية او الاقتصاد والاجتماع وغيره.واما على مستوى النفي فان الكون مع الصادقين يعني عدم الانسياق وراء الشهوات والاهواء وعدم اتباع أي داعٍ لم يأمر به الصادقون، ويعني رفض الشعور بالإحباط واليأس التوجه نحو العزلة والانزواء والانسحاب من العمل الرسالي المثمر كردّ فعل لحصول بعض الحالات، ويعني الكون مع الصادقين رفض الوقوف على الحياد والكون بمسافة واحدة من الجميع، وهذا كله يحتاج الى جهد وجهاد كبيرين وثبات على الصراط وصبر ومصابرة ومرابطة ولذا سبقه الامر بالتقوى لانها تعين على ذلك كله.

3-حينما يوصف الخبر بالصدق فهذا يعني مطابقته للواقع، كما لو اخبرت عن زيد انه قائم وهو قائم فعلا فان الخبر صادق، اما وصف الانسان بانه صادق فهذا يعني مطابقة ظاهره لباطنه واقواله لأفعاله وموافقتها جميعاً للحق، لاحظ قوله تعالى {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} (المنافقون:1) فكلمتهم حق وصدق لكنهم لم يكونوا صادقين لان باطنهم لم يكن كظاهرهم وفعلهم ليس كقولهم، لذا ثبت الله تعالى صدق الكلمة ووصفهم بالكاذبين، ولو وصفوا بالكاذبين من دون تثبيت

ص: 217

هذه الحقيقة لكان وصفهم بالكذب يشمل ما شهدوا به وهو خلاف الواقع.والمؤمنون ليسوا كلهم صادقين في ايمانهم، ولهم درجات متفاوته في ذلك لذا مدح الله تعالى قوما من المؤمنين لانهم صدقوا وثبتوا على الصدق قال تعالى:{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} (الأحزاب23).

والمستفاد من القران الكريم ان انطباق عنوان الصادقين له درجات متفاوتة بحسب درجة كمال عناصره من الايمان بالله ورسله وكتبه والجهاد في سبيل الله بالأموال والانفس والصبر في المواطن وفعل المعروف وتجنب المنكر ونحو ذلك كقوله تعالى {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحشر8).

وقال تعالى {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَ-كِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَ-ئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَ-ئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة:177).

ووصف مرتبة اعلى من الصادقين بقوله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات:15).

ص: 218

هذا ولكن العنوان اذا اطلق فانه ينطبق على المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لانهم من ينطبق عليهم التعريف اعلاه بقول مطلق أي على الدوام من دون استثناء او اختراق، وتشهد نفس الآية على أن المراد بالصادقين المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بدلالة اكثر من قرينة:أ-لأنها أمرت بالكون معهم مطلقاً ولا يتعلق مثل هذا الأمر إلا بالمعصوم، لأن غير المعصوم معرض للخطأ فكيف يأمرنا الله تعالى بالكون معه مطلقاً.

ب-ان الآية امرت اولا بالتقوى ثم بالكون مع الصادقين، فلو كان المراد بالصادقين ما هو اوسع من المعصومين لكان الامر بالكون من الصادقين وليس معهم، او قل ان امر المتقين بان يكونوا مع الصادقين يكشف عن سمو مرتبة الصادقين على المتقين، ولا يصّح ذلك الا في المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).

وقد أذعن جملة من أعلام السنة لهذه الحقيقة لكن بعضهم أوّلها بما لا وجه(1) له لذا وردت روايات كثيرة من طرق الفريقين تبين ان المراد بالصادقين هم امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأولاده المعصومون(عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، ففي الكافي وبصائر الدرجات للصفار بسندهما عن بريد بن معاوية العجلي قال:(سألت ابا عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن قول الله عز وجل {اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} قال:ايانا عنى)(2).ح1

ص: 219


1- قال الفخر الراي في تفسيره ان المعصوم هو جميع الامة لا انه فرد واحد فتكون الاية دليلا على حجية اجماع المؤمنين وعدم خطا مجموع الامة (التفسير الكبير:16/ 220) وردَّه واضح لان المقصود من الصادقين لو كان مجموع الامة فان الامة مكونة من الناس المخاطبين بالكون مع الصادقين وستكون النتيجة وحدة التابع والمتبوع. مضافا الى ما ذكرناه في هذه النقطة من سمو مرتبة الصادقين.
2- أصول الكافي- الكليني: 1/ 208/ح1,- بصائر الدرجات- الصفار: 51/ح1

وفي الكافي ايضاً بسنده عن ابن ابي نصر عن ابي الحسن الرضا(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (سألته عن قول الله عز وجل – قال: (الصادقون هم الأئمة الصديقون بطاعته)(1) وفي كتاب سليم بن قيس – في حديث المناشدة- قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فأنشدتكم الله جل أسمه، أتعلمون ان الله انزل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} فقال سلمان:يا رسول الله:أعامة هي أم خاصة؟ فقال:أما المؤمنون فعامة لان جماعة المؤمنين أُمروا بذلك، واما الصادقون فخاصة في علي والاوصياء من بعده الى يوم القيامة)؟ قالوا اللهم نعم)(2).وروى في المناقب عن بعض التفاسير(3) العامة بسنده عن ابن عمر قال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ} قال:أمر الله تعالى الصحابة أن يخافوا الله، ثم قال {وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} يعني مع محمد وأهل بيته).

وعن مصدر آخر لهم في قوله تعالى قال:هو علي بن ابي طالب خاصة وعن مصدر آخر قال (محمد وآله)(4).

4-ان الآية مطلقة من حيث الزمان فهي تأمر المؤمنين في جميع الأزمنة الى نهاية الدنيا أن يكونوا مع الصادقين الذين هم المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وهذا يعني لزوم وجود المعصوم في كل زمان، وهذا دليل على صحة عقيدة الشيعة الامامية5.

ص: 220


1- أصول الكافي- الكليني: 1/ 208/ح2
2- كتاب سليم بن قيس الهلالي: 298
3- وتوجد مصادر اخرى من كتب العامة في كون المراد من الصادقين خصوص اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ذكرها في تفسير الفرقان:13/ 221.
4- راجع مصادرها في تفسير البرهان :4/ 345.

في الأئمة الاثني عشر وبقاء قائمهم الى آخر الزمان، وبدون هذه العقيدة سيبقى الزمان بلا صادق فكيف يمتثل المؤمنون لواجب الكون مع الصادقين.وقد اعترف بهذه الحقيقة بعض أعلام السنة كالفخر الرازي قال في تفسيره (انه تعالى أمر المؤمنين بالكون مع الصادقين ومتى وجب الكون مع الصادقين فلابد من وجود الصادقين في كل وقت) (1).

5-إن ورود الامر بالكون مع الصادقين عقيب الامر بالتقوى التي هي خير الزاد ليوم المعاد {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (البقرة:197) ولا ينجو الانسان الا بالتقوى {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس10-11) {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعات41-42) فالتعاقب بين هذين الامرين لأجل هداية المؤمنين والمتقين الى أن طريق التقوى شائك وصعب وكثير المنزلقات والابتلاءات والمصاعب ولا يمكن سلوكه بنجاح الا بالكون مع الصادقين واتباعهم والتمسك بهم.

كما انه يلفت نظر المتقين الى ان المتوقع منكم كمتقين ان تكونوا مع الصادقين فلا تقوى من دون الكون معهم، كما ان الكون معهم بالمعنى الدقيق الذي ذكرناه يكشف عن انك من المتقين.

أغلب الأمة لم تكن من الصادقين:

وبعد ان اتضحت هذه الأمور يمكننا القول بأسف ان المخاطبين بالآية لم يعملوا بها ولم يكونوا مع الصادقين بل اصطّف قسم مع اعدائهم وتقاعس قسم

ص: 221


1- التفسير الكبير: 16/ 220.

اخر وتركوهم وحدهم منذ رحيل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، ونقرأ هذه الحقيقة في دعاء الندبة (لَمْ يُمْتَثَلْ اَمْرُ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فِي الْهادينَ بَعْدَ الْهادينَ، وَالاُْمَّةُ مُصِرَّةٌ عَلى مَقْتِهِ مُجْتَمِعَةٌ عَلى قَطيعَةِ رَحِمِهِ وَاِقْصاءِ وُلْدِهِ اِلّا الْقَليلَ مِمَّنْ وَفى لِرِعايَةِ الْحَقِّ فيهِمْ، فَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ، وَسُبِيَ مَنْ سُبِيَ وَاُقْصِيَ مَنْ اُقْصِيَ)(1).لذا تكررت شكوى المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من قلة العدد وخذلان الناصر فمن كلمة السيدة الزهراء (س) مع أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما رجعت من المسجد مهضومة مظلومة:(حتى حبسني قيلة نصرها والمهاجرة وصلها، وغضّت الجماعة دوني طرفها فلا دافع ولا مانع، خرجت كاظمة وعدت راغمة، شكواي الى ربي وعدواي الى ربي، اللهم انك أشدّ منهم قوة وحولا، وأشد بأساً وتنكيلا)(2).

وهكذا كلمات أمير المؤمنين المملوءة بالألم والاسى كقوله في الخطبة الشقشقية (وَطَفِقْتُ أَرْتَئِى بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَد جَذّاءَ – أي مقطوعة لعدم وجود الناصر- أَوْ أَصْبِرَ عَلى طَخْيَة عَمْياءَ - وهي الظلمة- فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلى هاتا أَحْجى، فَصَبْرَتُ وَ فِي الْعَيْنِ قَذىً وَ فِي الْحَلْقِ شَجًا -وهو ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه-)(3).

وقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) متظلما (فنظرت فاذا ليس لي معين الا اهل بيتي، فظننت - أي بخلت- بهم عن الموت، واغضيت على القذى وشربت على الشجا، وصبرت على3.

ص: 222


1- مفاتيح الجنان :608.
2- الاحتجاج :1/ 137.
3- نهج البلاغة:48 الخطبة 3.

اخذ الكظم وعلى امرَّ من العلقم وآلم للقلب من وخز الشفار)(1).ومثلها كلمات الامامين الحسن والحسين والأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) التي تعبّر عن الوحدة وخلان الناصر، وفي ذلك روى عنبسة قال سمعت ابا عبد اللّه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول:اشكو الى اللّه وحدتي وتقلقلي من اهل المدينة حتى تقدموا وأراكم وأُسرُّ بكم، فليت(2) هذا الطاغية اذن لي فاتخذت قصراً فسكنته واسكنتكم معي، واضمن له ان لا يجيء من ناحيتنا مكروه ابداً)(3).

فتصوروا الى أي درجة وحدة الامام ووحشته وغربته بين اهل المدينة بحيث ان الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كان ينتظر قدوم وفد من مواليه من الكوفة او خراسان او أي مدينة اخرى ليؤنسوا وحشته ويرفعوا غربته ووحدته.

وفي ختام الحديث يمكن تلخيص عدة دروس من الآية :

1-لا يكتمل الايمان الا بالتقوى واتباع المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).

2-لا حياد ولا وقوف على مسافة واحدة من الجميع بل يجب ان نكون مع الصادقين عقيدة وسلوكا ونصرة، ويلزم من هذا معرفة الصادقين اولا.

3-ان في الآية دلالة على وجود الامام صاحب العصر والزمان وعصمته.7.

ص: 223


1- نهج البلاغة:68 الخطبة 26، ص 336 الخطبة 217.
2- هذا موقف سياسي مهم على القادة الاسلاميين ان يستفيدوا منه لرسم علاقتهم مع السلطات الطاغوتية ، وقد فصلناه في كتاب (فقه المشاركة في السلطة).
3- بحار الانوار :47/ 185 ح31 عن رجال الكشي :361 رقم 677.

ملحق:كن في الصف الذي فيه علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)

للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أحاديث كثيرة في فضل أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ومنزلته وخصاله الكريمة، وفي وجوب اتباعه والأخذ منه(1)، ومن تلك التوجيهات النبوية الشريفة:أنّه إذا افترقت الأمة واختلفت وتعدّدت فيها الاصطفافات والتخندقات والتيارات والاتجاهات فكونوا في الصف الذي فيه علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بلا نقاش ولا تأمّل، ولا تبحثوا عن الدليل والحجة فإنّ نفس وجود علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) دليل على كونك في الموضع الصحيح الذي فيه رضا الله تعالى ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(عليٌ مع الحق والحق مع علي، يدور معه حيث دار)(2)، وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(اذا اختلفتم في شيء فكونوا مع علي بن أبي طالب)(3).

وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مخاطباً عمار بن ياسر (يا عمار تقتلك الفئة الباغية، وانت إذ ذاك مع الحق والحق معك، يا عمار بن ياسر:إن رأيتَ علياً قد سلك وادياً وسلك الناس وادياً غيره فاسلك مع علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فإنّه لن يدليك في ردى ولن يخرج من هدى)(4).

وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(يابن عباس:سوف يأخذ الناس يميناً وشمالاً، فإذا كان كذلك فاتبع علياً وحزبه فإنّه مع الحق والحقّ معه، ولا يفترقان حتى يردا عليّ

ص: 224


1- راجع موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في عشر مجلدات بإشراف الشيخ الريشهري.
2- الفصول المختارة:135، 97.
3- المناقب لابن شهراشوب:2/ 30.
4- تاريخ بغداد:13/ 187 الرقم 7165.

الحوض)(1).فالنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يحذر الأمة من اتباع الوسائل غير الدقيقة لمعرفة الحق كالانخداع بالعناوين الكبيرة والرموز التي صنعت لها هالة اجتماعية كما حصل في معركة الجمل حين انخدع كثيرون بفلانٍ وفلانٍ وفلانة بحجة قربهم من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وجاء تعليق أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لإيقاظ هؤلاء الغافلين حيث قال له أحدهم:(أتراني أظن أصحاب الجمل كانوا على ضلالة) فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(يا حارث انك نظرت تحتك ولم تنظر فوقك فحرت، إنّك لم تعرف الحق فتعرف من أتاه، ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه)(2).

كان أبان بن تغلب من اجلاّء أصحاب الأئمة السجاد والباقر والصادق (صلوات الله عليهم أجمعين) وكان الأئمة يعطونه مكانة خاصة، كان الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول له:(يا أبان اجلس في مسجد المدينة وافت الناس، فإنّي أحبّ أن يُرى في شيعتي مثلك)(3)، روى بعضهم قال:(كنّا في مجلس أبان بن تغلب فجاءه شاب فقال:يا أبا سعيد كم شهدَ مع علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من أصحاب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:فقال له أبان:كأنك تريد أن تعرف فضل علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بمن تبعه من أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:فقال الرجل:هو ذاك، فقال:والله ما عرفنا فضلهم إلاّ باتباعهم علياً)(4) فنبهه إلى هذا المقياس المقلوب في معرفة الحق ولم يكن3.

ص: 225


1- كفاية الأثر:18.
2- نهج البلاغة:قصار الكلمات رقم:262.
3- رجال النجاشي:10.
4- معجم رجال الحديث:1/ 133.

مراد السائل لينطلي على مثل أبان فإنّ الحق حق ولا يضره قلة أتباعه، أو كثرة خصومه وعناوينهم الاجتماعية.وقسم آخر من الناس يجعل بعض الاعتبارات مقياساً لكون الحق معه كجريان الأمور على ما يريد {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِ-رَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} (الحج:11) أو يجعل الانتصار في المعركة دليلاً على كونه محقّاً فإذا خسر الجولة شكّك وتردّد وتمرّد وكان بعض من يُقاتل مع أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في صفين على هذا النحو، فكان عمار بن ياسر يقاتل وهو يقول:(قاتلت تحت هذه الراية مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأهل بيته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ثلاثاً، وهذه الرابعة، والله لو ضربونا حتى يبلغ بنا السعفات من هجر - في جنوب الجزيرة العربية- لعلمنا أنّا مع الحق وأنهم على الباطل)(1).

فهذا نموذج للراسخين في إيمانهم والواثقين بقيادتهم الذين لا تزلزلهم الأراجيف والارهاصات وقد أثنى عليهم أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعد استشهادهم في صفين فيقف على المنبر ويقبض على شيبته الكريمة وهو يبكي ويقول (أين اخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق؟ أين عمار أين ابن التيهان وأين ذو الشهادتين، وأين نظراؤهم من اخوانهم الذين تعاقدوا على المنية وابرد برؤوسهم إلى الفجرة، أوِّه على اخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه وتدبروا الفرض فأقاموه، أحيوا السنة وأماتوا البدعة دعوا للجهاد فأجابوا ووثقوا بالقائد فاتبعوه)(2).2.

ص: 226


1- الخصال:باب الخمسة، في بعث النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بخمسة أسياف، ح18.
2- نهج البلاغة:خطبة 182.

وهذا المقياس الصحيح للحق – وهو الكون في صف علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- جاري في كل زمان إذا تعددت الانشقاقات والاصطفافات والمواقف والجهات فإنه إذا كان مخلصاً وطالباً للحقيقة فإنّ الله تعالى سيبصره بالصف الذي يكون فيه علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من كان مقصده الحق أدركه ولو كان كثير اللبس)(1).قال أبان وهو يعرّف اتباع الحق في كل جيل الذين يقفون في الصف الذي فيه علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (يا أبا البلاد:تدري ما الشيعة؟ الشيعة الذين اذا اختلف الناس عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أخذوا بقول علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وإذا اختلف الناس عن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أخذوا بقول جعفر بن محمد)(2).

وفي هذا جواب على من يريد أن يخلط الأوراق ويلبس على الناس ويقول لا فرق بين السنة والشيعة فكلاهما ينتهي سند أحاديثه إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، والجواب أنّ الفرق في أن تعرف عمّن تأخذ اذا اختلف الناس، فإذا اختلف الناس بعد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أخذوا بقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وإذا اختلف الناس بعد الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أخذوا بقول السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واذا اختلفوا بعد الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أخذوا بقول الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وبذلك تُعزل الفرق الكثيرة التي انشقت في كل مفترقات الزمان ومراحل التأريخ.

فلنطبق هذا الشعار (كن في الصف الذي فيه علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)) في كل حياتنا ونجعله البوصلة التي تحدد مساراتنا، وسوف يهدينا الله تعالى إلى12

ص: 227


1- غرر الحكم/9024.
2- رجال النجاشي - النجاشي - ص 12

الموقف الصحيح، مثلاً عندما أقام السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) صلاة الجمعة وافترق الناس، منهم من التحق به وشهد هذه الشعيرة المباركة واستضاء بنورها، ومنهم من عارضها وخذل عنها ووصفها بما يشينها كالفتنة والبدعة وحينئذ يسأل المتردد نفسه:أترى لو كان عليٌ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) موجوداً فأين يكون صفّه لأكون فيه؟ وستجد الجواب حاضراً بلا تردد أنه لا يمكن أن يكون في صف ّ المعادين لإقامة هذه الفريضة المباركة التي وردت مئات الروايات في فضلها ووجوب اقامتها والحضور فيها وبركاتها على الدين والأمة.وأنقل لكم هذه الحادثة، فعندما أقام السيد الشهيد الصدر (قدس سره) صلاة الجمعة وعيّن المساجد التي تُقام فيها، كان أحدها من المساجد المهمة التي فيها حضور لافت كمّاً وكيفاً وفي منطقة حسّاسة من محافظة مهمة، يروي إمام المسجد الراتب وهو من أسرة دينية معروفة ويتبع المرجعية الأخرى، أنّ سلطات الأمن علمت بالقرار فأبلغته رفضها لإقامة الجمعة في هذا المكان، فوسّطني لإقناع السيد الشهيد (قدس سره) بتغيير المكان ولم ينجح، وفي صباح يوم الجمعة طلب منه مدير الأمن الحضور في المسجد لإعطاء شرعية لتصرفاتهم وحضر المدير وضباطه وجلاوزته، وكان الشباب الرساليون والمؤمنون المضحون يتقاطرون على المسجد وبأيديهم المصاحف وسجادات الصلاة ليفرشوها ويتلون القرآن انتظاراً لوقت الصلاة، ويزداد العدد كل ما مضى الوقت ومدير الأمن يتصل بالقيادة ويبلغها بالحاجة الى مزيد من قوات الأمن لأن الموقف سيخرج عن السيطرة وهكذا مر الوقت على هذا الإمام وهو يحدث نفسه:يا لسوء عاقبتي بعد العمر الطويل في إمامة الصلاة والخطابة والعمل الديني أقف في صف الذئاب المفترسة

ص: 228

من أزلام صدام في مواجهة هذه الجموع المؤمنة الصالحة، وقد رحم الله تعالى تأنيب ضميره بهذا المقدار وانفضّ الجمعان بلا مواجهة ونُقلت الصلاة إلى موضع آخر، ومحل الشاهد أنه ليس صعباً أن تعرف الصف الذي فيه علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لتكون فيه.والشاهد الآخر عندما قُدّم القانون الجعفري إلى الحكومة لمناقشته وعرضه على البرلمان، حصل اصطفافان، فريق يسعى لإقامة شريعة الله تعالى في الأرض ويحمي الناس من الوقوع في المحرمات ويدلهم على الهدى والصلاح، وفريق رفع شعار اجهاض القانون الجعفري ضمّ دعاة الانحلال الأخلاقي والمعادين للدين مدعومين من قبل قوى الكفر العالمي وهذا ليس غريباً والمواجهة معهم طبيعية، لكن الغريب أن يكون بعض من يسمّى بمراجع دين ومعمّمين ينتمون إلى الحوزة العلمية هم أوّل من أوقد نار الاعتراض وأجّجها وشجع اولئك على رفع أصواتهم بالاعتراض، فعلى هؤلاء أن يراجعوا أنفسهم ويمتحنوها بأنّ علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في أيّ صف؟ أليس في صف قانون ولده جعفر الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الذين هو قانونه وهل رسالة علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) غير رسالة الله تعالى ورسالة النبي الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى:13) {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ} (الحج:41).

وهكذا تستمر المواقف التي تختلف فيها الأمة، فعندما وجّهت النساء المؤمنات العفيفات بأن لا يخرجن لزيارة الأربعين من المدن البعيدة كالبصرة والناصرية والعمارة إلى كربلاء مشياً ويقطعن الصحارى والقفار ويقضين أياماً بلا

ص: 229

ترتيب للأوضاع التي تؤمن مسيرتهن ويحصل ما يحصل مما لا يرضى به الله ورسوله وأيّدها الواعون الغيورون والتزمت بها غالب النساء لأن التوجيه عبّر عمّا كان يتلجلج في صدور المؤمنين إلاّ أنهم يتخوفون من اعلانه لاتهامهم بمعادات الشعائر الحسينية، وهنا رفع المتاجرون بالدين عقيرتهم ضد هذا التوجيه ومارسوا أنواع التسقيط والتشويه والافتراء وخلط الأمور لإثارة الجهلة والبسطاء من عوام الناس وتحريضهم على لعن من يريد الاصلاح لثنيهم عن عزيمتهم مستخدمين هذا الارهاب الفكري والاجتماعي.وهنا يأتي دور البوصلة لتوجه المسار الصحيح، فإنّ علياً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لو كان موجوداً فإنه لا يرسل ابنته العقيلة زينب لتسير وحدها في الصحراء لا يعرف عند من تبيت وماذا يجري لها بل إنّ هؤلاء المعترضين أنفسهم يروون أنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كان إذا أرادت العقيلة زينب زيارة جدها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمها الزهراء (س) خرج أبوها أمامها وأخواها الحسنان حولها (وبيته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ملاصق للمسجد ولا يقطعون مسافة)(1) وأطفأ قناديل المسجد وأخرج من فيه لئلاّ يرى أحدٌ شخصها، فلماذا يقف هؤلاء في غير صف أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

إن من لم يكن في صف علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فريقان:

أولهما:الواقف على الحياد بمسافة واحدة من الحق والباطل، متظاهراً بالاحتياط والتقدّس والحذر من الوقوع في الفتنة {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} (التوبة:49) كالذين لم يبايعوا أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)

ص: 230


1- زينب الكبري- الشيخ جعفر النقدي: 22

لأغراض شتى مثل سعد بن أبي وقاص وأسامة بن زيد وعبد الله بن عمر وسعيد بن مالك وحسّان بن ثابت وهؤلاء قال فيهم أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إن سعيداً وعبد الله بن عمر لم ينصرا الحق ولم يخذلا الباطل)(1).فقد سولت لهم أنفسهم وغرّهم الشيطان بأنهم يحسنون صنعا، حينما يقفون محايدين بين الحق والباطل لكنهم ارتكبوا كبيرتين وتركوا فريضتين عظيمتين:نصرة الحق ومواجهة الباطل، فنصروا الباطل مرتين.

ثانيهما:الصف الذي يقف في مواجهة علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهؤلاء طبع الله على قلوبهم ومنهم من يفخر بذلك ومنهم عبد الله بن الزبير الذي يقول:من مثلي وقد وقفت في الصف بأزاء علي بن أبي طالب)(2) هذا وهو يعلم منزلة أمير المؤمنين وقد سمع من أبيه الزبير وخالته عائشة ما لا يحصى في ذلك لكن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول:(ما زال الزبير منّا أهل البيت حتى أدرك فرخه ونهاه عن رأيه)(3). نسأل الله تعالى أن يجعلنا دائماً في الصف الذي فيه أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ويدلنا عليه بلطفه وحسن توفيقه كما وعدنا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من كان مقصده الحق أدركه ولو كان كثير اللبس).ل.

ص: 231


1- نهج البلاغة: قصار الكلمات رقم 262.
2- بحار الأنوار:41/ 143 عن شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، قال:انتبه معاوية يوماً فرأى عبد الله بن الزبير جالساً تحت رجليه على سريره فقال له عبد الله يداعبه:يا أمير المؤمنين لو شئت أن أفتك بك لفعلت. فقال:لقد شجعت بعدنا يا أبا بكر، قال:وما الذي تنكره من شجاعتي وقد وقفت في الصف أزاء علي بن أبي طالب. قال:لا جرم أنه قتلك وأباك بيسرى يديه وبقيت اليمنى فارغة يطلب من يقتله بها.
3- الخصال، أبواب الثلاثة، ح199 في بيان ثلاث خصال في السفرجل.

القبس/61: سورة التوبة:122

اشارة

{وَمَا كَانَ ٱلمُؤمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّة ۚ فَلَولَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرقَة مِّنهُم طَائِفَة لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ}

موضوع القبس:وجوب التحاق النخب بالحوزات العلمية

الآية تدعو نخباً من الأمة لكي ينفروا لطلب العلم والتفقه في الدين ثم التحرك بهذا العلم والفقه إلى سائر الناس ليرشدوهم ويعلموهم ويأخذوا بأيديهم إلى ما فيه صلاحهم، ففي الآية تكليفان الأول لعموم الأمة، والثاني للنخبة الذين التحقوا بمعاهد العلم والحوزات الدينية ليؤدوا الرسالة التي تحملوها، والتقصير متحقق بكلا الاتجاهين، وسنتحدث هنا عن التكليف الأول وهو حث الأمة على التفقه في الدين، لأن الثاني نوجهه إلى الحوزة العلمية.

وإنما قلت للنخب من الأمة لأنه ليس الكل مؤهلين لهذه الوظيفة الإلهية وهذا التشريف المبارك، كالآية الأخرى في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى:{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} (آل عمران:104) ثم شرحت الرواية صفات هذه الجماعة المكلفة بهذه الوظيفة(1).

ص: 232


1- راجع وسائل الشيعة:كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب2.

إن هذا الحث الإلهي {فَلَوْلاَ نَفَرَ} مصداق لقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال:24) والتفقه في الدين هو الذي يحيي العقول ويطهر القلوب ويهذب النفوس ويسمو بالروح، فلا يسع الأمة إلا الاستجابة لهذه الدعوة.

عدد النافرين الى الحوزات:

وتحدد الآية النسبة المعقولة لعدد النافرين إلى الحوزات العلمية للتفقه في الدين بطائفة من كل فرقة والطائفة في اللغة أقلها ثلاثة، ومعدل الفرقة ثلاثة آلاف، فالنسبة المعقولة هي واحد من كل ألف، وأن لا يقتصر الانضمام إلى الحوزة العلمية على فئة أو شريحة أو مدينة أو أسرة بل المطلوب أن تنفر طائفة من كل فرقة من المسلمين سواء أكانت الفرقة عشيرة أو أهل مدينة أو ريف أو حي سكني ونحوها.

وما زالت الأمة بعيدة كل البعد عن تحقيق الاستجابة لهذه الدعوة على صعيد شعبنا في العراق فكيف إذا لاحظنا مسؤوليتها عن حركة الإسلام في العالم كله لأن النجف الأشرف والعراق عاصمة الإسلام ومنطلق الدعوة العالمية لدولة الحق والعدل.

ألسنا جميعاً ندعوا بما علمنا به الإمام المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في زمان الغيبة أن ندعوا:(اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة) وفيه (وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك)(1) فكيف نكون من طالبي هذه الدولة الكريمة

ص: 233


1- انظر مفاتيح الجنان، دعاء الافتتاح من أعمال شهر رمضان المبارك.

والممهدين لها والدعاة إلى طاعة الله تعالى والقادة إلى سبيله من دون التفقه في الدين وتحصيل العلوم الدينية الشريفة؟وتتحدث الآية عن تكليف موجه للنخب من الأمة ليتفقهوا في الدين وهو غير تكليف عموم الأمة بمعرفة أساسيات دينها، حيث تحفل كتب الحديث بالروايات التي تلزم الناس بالتفقه في الدين، والحد الأدنى منه الذي لا يعذر فيه أحد هو التفقه في العقائد والأحكام الابتلائية كأحكام الطهارة والصلاة والصوم والخمس ونحوها، والأحكام المختصة بالعمل الذي يعمل فيه كالتاجر في تجارته، والمعلم في مدرسته والطبيب في مستشفاه والسياسي عند ممارسة عمله المليء بالمزالق والمرديات وهكذا.

حث أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) على التفقه:

في الكافي بسنده عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(عليكم بالتفقه في دين الله ولا تكونوا أعراباً فإن من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة، ولم يزكِّ له عملاً)(1).

وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لوددت أن أصحابي ضُربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا)(2).

وروي أنه (قال له رجل:جُعلتُ فداك رجل عرف هذا الأمر –إمامتهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- لزم بيته ولم يتعرف إلى أحدٍ من إخوانه، قال:فقال:كيف يتفقه هذا في

ص: 234


1- الكافي:ج1 ص31.
2- الكافي:ج1 ص31.

دينه؟)(1).وسُئل الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (هل يسع الناس ترك المسألة عما يحتاجون إليه؟ فقال:لا)(2).

وروى الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن جده رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):أُفٍّ لرجل لا يُفرِّغ نفسه في كل جمعة لأمر دينه فيتعاهده ويسأل عن دينه)(3).وعن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(تذاكر العلم دراسةٌ والدراسة صلاةٌ حسنةٌ).

وورد في لزوم تفقه التاجر في أعمال السوق قول الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من أراد التجارة فليتفقه في دينه ليعلم بذلك ما يحل له مما يحرم عليه، ومن لم يتفقه في دينه ثم اتجر تورط في الشبهات)(4) وبحسب مناسبة الحكم والموضوع يُعلم أن الوجوب متوجه لكل شخص لكي يتفقه في عمله.

مستويات التفقه:

فهذا هو النحو من التفقه الذي يشمل بوجوبه كل الناس وله مستويان، عام:أي في المسائل الابتلائية التي يشترك فيها كل الناس كالطهارة والصلاة والصوم والخمس، وخاص:أي بخصوص مسؤولياته كعمله أو إدارة أسرته

ص: 235


1- المصدر السابق.
2- انظر الكافي:ج1، كتاب فضل العلم، باب 1.
3- هذا الحديث والذي يليه في أصول الكافي، ج1، كتاب فضل العلم، باب سؤال العام وتذاكره، ح5، 9.
4- وسائل الشيعة:كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، باب 1، ح4.

كالعلاقة مع الوالدين أو الزوجة أو الأبناء وتربيتهم وهكذا.ومن نعم الله تعالى على أهل هذا الزمان وجود منافذ كثيرة لهذه المعرفة كالمحاضرات الدينية في المساجد وخطب الجمعة والمجالس الحسينية والكتب والنشرات وما تعرضه الفضائيات الدينية من برامج نافعة.

أما النحو الآخر من التفقه وهو الالتحاق بالحوزات العلمية لتحصيل علوم أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في العقائد والأخلاق وأحكام الشريعة ثم إيصالها إلى عموم الناس لهدايتهم فهو تكليف نخب من الأمة.

وقد ذكرنا أن العدد الذي يريده الله تبارك وتعالى لم يتحقق بعد ولا زالت الحاجة على أشدها لالتحاق النخب المخلصة الواعية المثقفة العارفة بأمور زمانها بالحوزة العلمية، حتى لو قلنا أنه وجوب كفائي كما قيل فإنه لا يسقط حتى يتحقق الواجب وإلا يأثم الجميع وقد اتضح أن العدد لم يتحقق، فهل نفر من المحافظة التي سكانها مليونان ألفان لطلب العلم؟ إذن لا زالت المسافة بعيدة لنخرج من عهدة هذا التكليف.

ولقد اتخذنا هنا عدة خطوات لتوسيع هذه الفرصة أمام الجميع فنشرنا فروع جامعة الصدر الدينية في لمحافظات حتى تجاوزت عشرين فرعاً، فمن لم يتيسر له الإقامة في النجف للدراسة نقلنا حوزة النجف إليه ووفرنا المتطلبات التي تُيَسِّر الدرس والتحصيل، مع تشجيع المؤهلين لمواصلة الدراسة في النجف الأشرف، كما تتوفر الأقراص المدمجة التي تضم دروس أساتذة متخصصين لجميع مراحل الدراسة ولكل مفرداتها، وهذا أسلوب آخر ميسّر لتحصيل العلوم الدينية والارتقاء فيها.

ص: 236

اللطف خاص:

وينبغي الالتفات إلى أن سلوك هذا الطريق لا يتيسر لكل أحد إلا بلطف خاص من الله تعالى، وليس كل أحد يوفق إليه ويوفق فيه، فألحّوا في الدعاء والطلب من الله تعالى وأصلحوا أنفسكم وأخلصوا نياتكم كي يختاركم الله تعالى لحمل هذه الأمانة الإلهية العظيمة، لما ورد من الفضل العظيم والدرجة الرفيعة لحملة العلم، وأنقل لكم رواية واحدة تغنيكم عن الباقي وهي كافية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

ففي رواية صحيحة عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً به، وإنه يستغفر لطالب العلم مَنْ في السماء ومن في الأرض حتى الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورّثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر)(1).

منزلة بكير بن أعين:

وأنقل لكم رواية في منزلة أحد حملة علوم أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ورواة أحاديثهم لتكونوا كلكم مثله وفي منزلته ولا يكلفكم ذلك شيئاً كما كلفهم في ذلك الزمان، ففي رواية صحيحة أن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما بلغه وفاة بكير بن أعين قال:(أما والله لقد أنزله الله بين رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما) وعن عبيد بن زرارة بن أعين قال:(كنت عند أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فذكر بكير بن

ص: 237


1- أصول الكافي:ج1، كتاب فضل العلم، باب ثواب العالم والمتعلم.

أعين فقال:رحم الله بكيراً، وقد فعل، فنظرت إليه وكنت يومئذٍ حديث السن، فقال:إني أقول إن شاء الله)(1).

التفقه في كل الدين:

إن مسؤوليتنا لا تقف عند حدود تلقّي العلوم المتعارفة في الحوزة العلمية والتي تختص بالأحكام الشرعية وما يرتبط بها، مع أن المطلوب في الآية الشريفة هو التفقه في الدين كل الدين(2) كالعقائد وتفسير القرآن والمعرفة بالله تعالى وتهذيب النفس بالأخلاق الفاضلة وسيرة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وكل ما يتصل بالدين من علوم ومعارف وما نحتاجه في حركة الإسلام العالمية ونشره وإقناع البشرية به والدفاع عنه ورد الشبهات ومواجهة الفتن والحوار مع الأديان والحضارات والأيديولوجيات الأخرى، وهذا باب واسع ينكشف منه بوضوح الجهل والتقصير اللذان يكتنفان الأمة بكل طبقاتها.

إن أيسر شيء اليوم وأبخس الأشياء ثمناً هو الكتاب ووسائل التثقيف والتعلم والاطلاع متيسرة وبتقنيات عالية، فلا عذر لأي أحد في عدم التفقه في الدين، في حين كان أحدهم في الأزمنة السابقة يدفع حياته ثمناً للحصول على كتاب ديني وكانوا يتبعون مختلف أساليب التمويه والتستر للوصول إلى المعلومة.

ص: 238


1- الروايتان أوردهما الكشي في رجاله ونقلهما السيد الخوئي (قدس سره) في معجم رجال الحديث:3/ 353.
2- شرحنا معنى مفردة (الفقه) بحسب المصطلح القرآني في تفسير الآية الكريمة. راجع: قبس/109 {إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (الفرقان:30), من نور القرآن: 3/ 276

أهمية العلم والعلماء في الإسلام:

إن للمسلمين أن يفخروا بأن دينهم سبق المجتمع البشري بقرون في الاهتمام بالعلم والعلماء وتفضيلهم ولزوم طلب العلم وإلزام العلماء بتعليم الأمة وإرشادها مما يعرف اليوم بالتعليم الإلزامي ومكافحة الأمية.

إن وظائف المرجعية والحوزة العلمية المرتبطة بالمرجعية ليست علمية فقط بل هي مسؤولة عن قيادة الأمة والدفاع عن كيانها وهويتها وتحقيق مصالحها وحل مشاكلها ورفع الحيف والظلم عنها مضافاً إلى الدور العالمي في إعلاء كلمة الله تبارك وتعالى ونشر الإسلام وتعاليم أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وهذا يتطلب قاعدة واسعة من العاملين الرساليين المخلصين، ولذا قلنا بعدم الاستغناء بوسائل تحصيل العلوم الدينية عن الالتحاق بالحوزات العلمية.

وهذا كله يكشف عن فظاعة التقصير في تطبيق هذه الآية الشريفة ويدعونا إلى يقظة وحركة نحو رفد الحوزات العلمية بالكفاءات المخلصة الواعية ونشر الكتاب الديني وتحبيب مطالعته إلى الناس والله الموفق.

فهذه الاية وكل آية لم تعمل بها الامة تشكو الى الله تعالى ويشكو النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من أمته يوم القيامة لهجرهم كتاب الله تعالى، قال تعالى:{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} (الفرقان:30)، وورد مثله في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ثلاثة يشكون إلى الله عز وجل:مسجد خراب لا يصلي فيه أهله، وعالم بين جهال، ومصحف معلّق قد وقع عليه غبارٌ لا يُقرأ فيه)(1)، والهجران الذي يشكو منه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ليس فقط من ترك قراءته

ص: 239


1- الخصال:1/ 142 باب الثلاثة، ح163.

وتلاوته، بل الأخطر من ذلك هو هجران العمل به، قال الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهو يذكر أنواع قرّاء القرآن:(ورجل قرأ القرآن فحفظ حروفه وضيّع حدوده وأقامه إقامة القدح(1)، فلا كثّر الله هؤلاء من حملة القرآن)(2).وليس فقط القرآن ككل يشكو بل تشكو كل آية من آياته التي لم يُعمل بمضمونها، فتشكو آية {قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (الشورى:23) من الذين تتبعوا عترة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تحت كل حجر ومدر قتلاً وسجناً وتعذيباً وتشريداً أو أقصوهم عن مقامهم الذي يستحقونه.

وتشكو آية {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (المائدة:67) من الذين انقلبوا على الأعقاب ولم يعملوا بوصية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في الأئمة من بعده.

وتشكو آية {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}2.

ص: 240


1- القِدْح هو السهم، وكان العرب يستقسمون بالأزلام باستعمال القِداح، وقال الطريحي في المجمع (كأنه الذي يستقسم ويلعب به –يعني القرآن في الحديث أعلاه- كما يستقسم بالقداح، والله العالم) ولعل استعمال الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) للتشبيه من باب أن السهم يوضع بالمقلوب في جفير السهام. وربما يكون اللفظ (القَدَح) وهو الإناء الكبير قال الطريحي:(وفي حديث النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ))) (لا تجعلوني كقَدَح الراكب) يعني لا تؤخروني في الذكر، لأن الراكب يعلق قدحه في آخر رحله عند فراغه من رحاله ويجعله خلفه) مجمع البحرين:3/ 462، وجميع المعاني المحتملة مقبولة في وصف شأن الناس مع القرآن.
2- الوسائل:ج6 ص182.

(البقرة:179) من الذين عطلوا هذا الحكم ولم يوقّعوا على إعدام الإرهابيين القتلة رغم ثبوت الجرائم الفظيعة عليهم بحجة معاهدات حقوق الإنسان ونحوها. وهكذا بقية الآيات الشريفة.

ص: 241

القبس/62: سورة يونس:58

اشارة

{قُل بِفَضلِ ٱللَّهِ وَبِرَحمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَليَفرَحُواْ}

موضوع القبس:موجبات الفرح الحقيقي

حالة الفرح لدى الإنسان:

يحصل الإنسان في هذه الدنيا على الكثير من النعم التي يفرح بها، ويحقق الكثير من الانجازات والأعمال المفرحة كالتاجر يربح بصفقته ربحاً غير متوقع، أو المعدلات العالية التي حققتموها في الامتحانات العامة للسادس العلمي خصوصاً إذا كانت الدرجات أكثر مما كان يظن وفق تقييمه لأجوبته.

وهذا الفرح حالة وجدانية طبيعية لا يمكن الغاؤها والاعتراض عليها، وإنما يحتاج إلى وضعه في مساره الصحيح المثمر، وفي ضوء هذا نفهم ما ورد في قوله تعالى {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} (القصص:76) والمشكلة ليست في نفس الفرح والحل في قوله تعالى بعد ذلك {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص:77) فالفرح بالمال والموقع الوظيفي والجاه والنفوذ لا يكون لذات هذه الأمور لأنها زائلة ولذتها وقتية وهي لوحدها غير قادرة على تحقيق السعادة للإنسان، والشاهد على ذلك كثرة الانتحار وشيوع الأمراض النفسية والعصبية والتفكك الأسري والعنصرية والتمايز الطبقي وأمثالها من الأمراض الاجتماعية التي تؤدي إلى نشوء مافيات العنف والقتل في الدول

ص: 242

الأكثر ترفاً ورفاهية، وقد كثر ما تنقله وسائل الاعلام عن مثل هذه الحوادث في الولايات المتحدة بحيث تعجز قوات الامن عن قمع الاضطرابات وإيقاف المواجهات وتضطر السلطات الى اعلان حالة الطوارئ.

ما يوجب الفرح الحقيقي:

فالآية تدلنا على ما يوجب الفرح الحقيقي بهذه النعم من خلال توظيفها واستثمارها في الوصول إلى الهدف الحقيقي وهو نيل رضا الله تعالى من خلال الالتزام بطاعته تبارك وتعالى فإنها توفِّر السعادة الحقيقية للإنسان {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (يونس:58)، من كلام لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(فإن المرء ليفرح بالشيء الذي لم يكن ليفوته، ويحزن على الشيء الذي لم يكن ليصيبه، فلا يكن أفضلُ ما نلتَ في نفسك من دنياك بلوغ لذةٍ أو شفاءَ غيظ، ولكن اطفاء باطل أو إحياء حق، وليكن سرورك بما قدّمت، وأسفك على ما خلّفت، وهمّك فيما بعد الموت)(1).

الفرح للنعم المعنوية:

والذي ينبغي أن يوجب الفرح أكثر هو التوفيق للنعم المعنوية والاهتداء إليها كنعمة القرآن الكريم الذي وصفت آثاره الآية السابقة عليها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (يونس:58) فهذه النعم الإلهية (الموعظة، شفاء الصدور، الهدى، الرحمة) هي التي تستحق ان يفرح بها الإنسان فرحاً يحركه للحصول عليها

ص: 243


1- نهج البلاغة، الكتاب:66.

والاستزادة منها، وهي آثار مترتبة يوفرها القرآن الكريم للإنسان فأول أثر للقرآن هو أن يطرق باب النفوس الغافلة المتعلّقة بالدنيا وزخارفها اللاهثة وراء الماديات، والقلوب المملوءة بالرذائل فيعظها ويوقظها من الغفلة والجهل فيحركهم نحو الطريق الصحيح.فإذا لزموا هذا الطريق أخذ القرآن في تهذيب نفوسهم وتطهير قلوبهم بمدة قد تطول وقد تقتصر بحسب استعداد الشخص وهمته وقوة عزيمته حتى يطهره منها ويشفيه من عللها وهذه هي المرتبة الثانية.

وحينئذٍ تكون قلوبهم صافية ونفوسهم صالحة متهيئة لتلقي الأخلاق الفاضلة والمعارف الحقة والأعمال الصالحة التي يرتقون بها في درجات الكمال، وهذا هو الهدى في المرتبة الثالثة.

وبذلك يستحقون منازل الرحمة ودار الكرامة عند ربهم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

لذا ورد في الدر المنثور(1) في تفسير الآية عن ابن عباس (قل بفضل الله) القرآن (وبرحمته) حين جعلهم من أهل القرآن، وفي حديث مروي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يبيّن فيه آثار القرآن التي تستحق أن يفرح الإنسان بها ويعمل لتحصيلها، قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (إن اردتم عيش السعداء وموت الشهداء والنجاة يوم الحسرة والظل يوم الحرور والهدى يوم الضلالة، فادرسوا القرآن فإنه كلام الرحمن وحرز من الشيطان ورجحان في الميزان)(2) ويصف الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنسه وفرحه

ص: 244


1- الدر المنثور- السيوطي: 3/ 308
2- بحار الأنوار:89/ 19.

بالقرآن بقوله (لو مات من بين المشرق والمغرب لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي)(1) فهذه هي النعم الحقيقية التي تستحق الفرح بها.

نعمة الإسلام واتباع النبي وأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ):

والنعمة الأخرى التي يستحق الفرح بها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الذي هدانا الله تعالى به للإسلام وعلّمنا القرآن وأرسله إلينا رحمة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107)، ونعمة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الذي ثبت به الإسلام وحافظ على إصالته ونقاوته وحفظ مسيرة المسلمين من الانحراف والتزييف.

لذلك كثرت الروايات في كتب المسلمين(2) عامة أن المراد بفضل الله في الآية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبرحمته علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، ومن بعد أمير المؤمنين الأئمة الطاهرون (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ومن بعدهم العلماء العاملون المخلصون المتفانون في اعلاء كلمة الله تعالى وهداية الناس وخدمتهم، فإذا كان النظر إلى وجه العالم عبادة، وزيارته كمن زار رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ونحو ذلك مما دلت عليه الروايات الشريفة(3) ألا يكون مثل هؤلاء العلماء نعمة تستحق الفرح بوجودهم وأخذهم لموقعهم الذي يستحقونه؟ فالتفوا حولهم واستفيدوا منهم وخذوا بتوجيهاتهم.

فضله تعالى غير رحمته:

وظاهر الآية أن فضل الله له معنى غير رحمته لارتباط كل منهما بباء السببية،

ص: 245


1- أصول الكافي:كتاب فضل القرآن، ح 13.
2- أنظر: البرهان في تفسير القرآن: 5/ 376
3- من لا يحضره الفقيه- الصدوق: 2/ 206,- مستدرك الوسائل- المحدث النوري: 9/ 152

وقد ذكر المفسرون وجوهاً لإعطاء معنيين مختلفين للفضل والرحمة منها:1-((أن يكون المراد بالفضل ما يبسطه الله من عطائه على عامة خلقه، وبالرحمة خصوص ما يفيضه على المؤمنين فإن رحمة السعادة الدينية إذا انضمت إلى النعمة العامة من حياة ورزق وسائر البركات العامة كان المجموع منهما أحق بالفرح والسرور وأحرى بالانبساط والابتهاج))(1) ويؤيده تقييد الرحمة بالمؤمنين في هذه الآية وغيرها.

2-إن المراد(2) بالفضل الإلهي النعم الظاهرية أو قل المادية وقد ورد بهذا المعنى في عدة آيات كقوله تعالى {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} (النحل:14) وقوله تعالى {وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة:10)، والرحمة إشارة إلى النعم الباطنية أو المعنوية.

3-إن الفضل الإلهي بداية النعمة ويساعد عليه المعنى اللغوي للفضل وهو بذل النعمة وهبتها، والمراد بالرحمة دوام النعمة، وهذا يناسب ما ذكرناه من تفسير فضل الله برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ورحمته بعلي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لأن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان السبب في هدايتنا إلى نعمة الإسلام والإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سبب بقائه واستمراره وكما قيل أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) علة محدثة وموجدة، وأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) علة مبقية.

أن يكون الفضل إشارة إلى نعم الجنة، والرحمة إشارة إلى العفو عن الذنب وغفرانه.9.

ص: 246


1- الميزان في تفسير القرآن:10/ 77.
2- حكى هذا الوجه وما بعده في تفسير الأمثل:5/ 499.

القبس/63: سورة يونس:61

اشارة

{وَمَا يَعزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثقَالِ ذَرَّة}

موضوع القبس:لنستشعر الرقابة الإلهية

موضوع القبس:لنستشعر الرقابة الإلهية (1)

غالباً ما يدفع الشعور بالمراقبة من قبل الغير بالإنسان إلى سلوك معين مختلف عن سلوكه لو لم يكن يشعر بكونه مراقباً، وهذا أمر واضح وله عدة أمثلة وتطبيقات في الواقع، فالإنسان يفعل في السر أموراً يخشى ويخجل من فعلها في العلن، ولو علم حينها أنه مراقب لما فعلها بكل تأكيد، فسائق السيارة مثلاً حين يواجه إشارة المرور في طريقه ولا يجد أثراً لشرطي المرور فإنه يتجاوز الإشارة الحمراء دون تردد، لكنه لو كان يعلم بأن هناك كاميرات خفية تقوم برصده وأن هناك من يراقبه لما أقدم على تجاوز حدوده في الشارع، وهكذا كثير من أفعال الإنسان التي يقوم بها في السر وهو في غفلة عمن يراقبه فيها.

وأوضح مصاديق ذلك وأشدها غفلة وخسارة هي عدم الشعور بكون الله

ص: 247


1- يوم الاثنين 2/ذو الحجة الموافق 8/ 11/ 2010 زار وفد من إحدى حملات الحجاج في الكرادة الشرقية في بغداد مقر بعثة سماحة الشيخ (دام ظله) في مدينة مكة المكرمة، وألقى مرشد الحملة كلمة بهذه المناسبة وطلب من سماحة الشيخ كلمة إرشادية فاستجاب (دام ظله) لطلبهم وألقى هذه الكلمة فيهم، وتجد كلمات أخرى لسماحة الشيخ تحدث بها في رحلة الحج المباركة موزعة في هذا الكتاب بحسب موضع القبس من السورة القرانية.

تعالى رقيباً عليه، فتجد الإنسان قد يؤمن نظرياً بأن الله تبارك وتعالى يراه {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ} (يونس:61) لكن من حيث التطبيق لا تجد هذا الاعتقاد منعكساً على أفعاله، وهو علامة على أن إيمانه لم يكن واقعياً، وإلا لو كان كذلك لظهر أثر واقعية الإيمان في فعله.وقد أشارت بعض نصوص الأدعية الشريفة إلى هذه المفارقة، فمن ذلك قول الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم عرفة:(يا من سترني من الآباء والأمهات أن يزجروني، ومن العشائر والإخوان أن يعيروني، ومن السلاطين أن يعاقبوني، ولو اطلعوا يا مولاي على ما اطلعت عليه مني إذن ما أنظروني، ولرفضوني وقطعوني)(1)، وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فيه (عميت عين لا تراك عليها رقيبا، وخسرت صفقة عبد لم يجعل لها من حبّك نصيبا)

ومنه قول الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعاء أبي حمزة:(فلو اطلع اليوم على ذنبي أحد غيري ما فعلته، ولو خفت تعجيل العقوبة لاجتنبته، لا لأنك أهون الناظرين إلي وأخف المطلعين عليّ، بل لأنك يا رب خير الساترين وأحكم الحاكمين، وأكرم الأكرمين، ستار العيوب، غفار الذنوب، علام الغيوب، تستر الذنب بكرمك، وتؤخر العقوبة بحلمك، فلك الحمد على حلمك بعد علمك، وعلى عفوك بعد قدرتك)(2).24

ص: 248


1- مفاتيح الجنان:ص311
2- السابق:ص224

من مصاديق الغفلة:

ومن مصاديق ذلك أيضاً الغفلة عن الموت مع الاعتقاد به يقيناً، حتى قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ما رأيت يقيناً أشبه بشك من الموت)(1)، فنحن نؤمن بأن الموت حق، وأنه لا بد أن يختطفنا في أية لحظة من لحظات العمر، ولكن كم واحد منا يؤمن بذلك عملياً، بمعنى أنه استعد له وتهيأ وأدى ما عليه واجتنب كل ما حرم الله عز وجل، والحال أنك تجد العكس من ذلك، فالكثير منا يعمل وكأنه سيظل خالداً في هذه الدنيا.

الغفلة عن إمام الزمان (عج):

ومن مصاديق الغفلة والتصرف بخلاف وجود المراقبة ما ذكرته الرواية الشريفة:(والله إن صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كل سنة يرى الناس ويعرفهم ويرونه ولا يعرفونه)(2) وهي رواية موجودة وصحيحة، إذن نحن بمرأى من الإمام (عج)، فمن يستشعر الخجل والحياء من فعل أمر أمام الناس علناً في حين يفعله في السر، مثل هذا الإنسان كيف به إذا اعتقد أن إمامه يراه دائماً، بالتأكيد إن ذلك سيدفعه إلى أن يكون أكثر مراقبة لنفسه في تعاملاته وتصرفاته، وبطبيعة الحال إن مثل هذه الأحاديث حين يمر بها الإنسان ويستشعر كل هذه الكاميرات التي تراقبه فإنه لن يتعامل مع الآخرين وكأنه في مغالبة على الدنيا، وسعي إلى الحصول على الغنائم والمكاسب الدنيوية، بل يستشعر مسؤوليته أكثر، ويحاسب نفسه أكثر، لأننا لن نُترَك سدىً وليس الأمر منتهياً، صحيح أن حلم الله تبارك وتعالى طويل لكنه

ص: 249


1- بحار الأنوار:75/ 246.
2- الغيبة:9/ 18.

يؤجلهم إلى يوم {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (الكهف:49).نسأل الله تبارك وتعالى أن يعيننا على طاعته وأن ينقذنا من الغفلة وأن نكون ذاكرين لله تبارك وتعالى ولإمامنا (عج) الشريف، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

ص: 250

القبس/64: سورة هود:7

اشارة

{لِيَبلُوَكُم أَيُّكُم أَحسَنُ عَمَلا ۗ}

موضوع القبس:تمام حسن العمل بإتقانه والمداومة عليه

العمل وحده لا يكفي:

*موضوع القبس:تمام حسن العمل بإتقانه والمداومة عليه (1)

أن الأعمال التي يتقرّب بها إلى الله تعالى لها مدى واسع يستوعب الخلق كلهم، وهنا نقول أن القيام بالعمل الصالح وحده لا يكفي بل يوجد ما يتمّمه ويعطيه قيمته وهو أهم من العمل نفسه لأنه بدونه يبقى عملاً فارغاً وشكلياً لا قيمة له، كما ورد في بعض الروايات إن من الصلاة لما يقبل نصفها وثلثها وربعها وخمسها إلى العشر، وإن منها لما يلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها(2)، وإنه (كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والظمأ، وكم من قارئ للقرآن والقرآن يلعنه)(3) وما ورد في الحج أن أحد أصحاب الأئمة أعجب بكثرة الحجيج وارتفاع أصواتهم بالتلبية والتكبير والحمد لله تعالى فقال له الإمام

ص: 251


1- الخطبة الثانية لصلاة الجمعة التي أقامها سماحة الشيخ المرجع في مكة المكرمة في يوم الجمعة 27/ذو القعدة/1431 ه- الموافق 5/ 11/ 2010 م.
2- البحار:84 / 260 / 59.
3- نهج البلاغة:4/ من حكمه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الحكمة رقم (145) وفيه (وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر والعناء، حبذا نوم الأكياس وإفطارهم).

(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):ما أكثر الضجيج وأقل الحجيج.(1)فالعمل وحده لا يكفي لنيل رضا الله تبارك وتعالى والفوز عنده، بل قد يكون وبالاً على صاحبه كما ورد في دعاء الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في يوم عرفة (إلهي كم طاعة بنيتها، وحالة شيدتها هدم اعتمادي عليها عدلك بل أقالني منها فضلك)(2) فقد كنت أتصور أن ميزاني ثقيل بالأعمال الصالحة التي قدّمتها وعوّلت عليها لكنها لما عُرضت على الموازين القسط ليوم القيامة وإذا بها لا قيمة لها، بل صرت أهرب وأتبرأ منها وأطلب الإقالة والعفو عنها.

لنضرب لكم مثالاً:

وقد تستغرب ذلك لكنني أقرّبُ القضية بمثال:فلو أن ملكاً دعا شخصاً حقيراً للقائه وضيافته فلبى الدعوة وكان الملك مقبلاً عليه وهيأ له كل أسباب التكريم والجوائز الثمينة لكن المدعو كان مُعرضاً عنه ولا يلتفت إليه ومتشاغلاً بأمور أخرى، ألا تعد هذه إساءة في الأدب مع الملك ويعاقب عليها؟ فالصلاة دعوة للقاء الله تبارك وتعالى ومناجاة معه فإذا كان المصلي مشغولاً عن ربه وشارد الذهن عن صلاته فهو كهذا الشخص مع حقارة قدره أمام ملك الملوك فماذا سيكون جزاؤه؟ فهذا هو حال صلاتنا التي هي أهم العبادات وعمود الدين فكيف نرجوا الثواب عليها؟ إلا بلطف الله تعالى وكرمه وفضله وصفحه.

ص: 252


1- بحار الأنوار :ج 46 / ص 261
2- بحارالانوار:ج95 ص225.

اقتران العمل بتحسينه:

فلا بد أن يقترن العمل بأمرين لينتج الغرض المطلوب وهما:

الأول:تحسين العمل، قال تعالى {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (الملك:2) فليس المهم كثرة العمل وإنما حسنه، وقد حثّت آياتٌ كثيرة على حُسن العمل وإن القبول بحسب الإحسان في العمل. قال تعالى {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (الأعراف:56) {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} (الكهف:30).

كيف يمكن تحسن العمل؟

وإحسان العمل يتحقق بجملة أمور:

منها:إخلاص النية لله تبارك وتعالى والإتيان بالعمل لنيل رضاه وليس لأي هدف آخر، فهذا الحج قد يأتي به شخص للمباهاة أو للرياء وليقال له (حاج فلان) أو للسياحة والاطلاع على تلك المشاهد المقدسة وغيرها من النوايا غير المخلصة، فهذا لا يكون عملاً مقرباً إلى الله تعالى وإن كان الحاج لا يحرم الأجر مطلقاً مهما كانت نيته لكن قد يكون أجره في الدنيا كما ورد في بعض الروايات.

ومنها:إتقان الأحكام الشرعية للعمل وحفظ حدوده، فللحج أحكام وتفاصيل لابد من معرفتها وأداء العمل بشروطه لأن الإخلال بها إخلال بالعمل نفسه وقد يقع باطلاً، لذا لابد من اختيار المرشدين العارفين الورعين والآخذ منهم ومتابعتهم وسؤالهم عن دقائق الأمور، فالعمل التام لا بد أن يقترن بالعلم والإخلاص، ورد في الحديث الشريف (الناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون،

ص: 253

والمخلصون على خطرٍ عظيم)(1).ومنها:الالتفات إلى أسرار العمل ومعانيه وحقائقه، فإن وراء هذه الأعمال الجوارحية حقائق هي المطلوبة من العمل وليس هذه الحركات الشكلية، كالأمثال التي تُضرب وتراد منها الحقيقة التي صورت على شكل هذا المثل، وكالرؤيا الصادقة في المنام التي لها حقيقة تؤول إليها الرؤيا وترجع إليها لذا سميت تأويل الأحلام فمثلاً ملك مصر رأى في المنام سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وآخر يابسات وكانت حقيقة هذه الرؤيا ما فسرها به يوسف الصديق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

فيحسن التعرف إلى الأسرار المعنوية لمناسك الحج والأغراض المقصودة من حركاته وأفعاله وهي على مستويات وتحتاج إلى بحث مفصّل كالذي ورد في رواية الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مع الشبلي(2).

المداومة على العمل:

الثاني:المداومة على العمل وحفظه ومواصلته، ولا نعني بهذا الأمر تكرار الحج لأن هذا غير متيسّر إلا نادراً فللمداومة أنحاء عديدة ربما نتعرض لشرحها في خطبة مستقلة بإذن الله تعالى(3).

لكننا نريد الإشارة هنا إلى أن الإنسان قد يوفّق في مثل هذه المواسم الروحية الخالصة إلى أعمال إضافية لم يكن معتاداً عليها فيؤديها بسبب ارتفاع

ص: 254


1- جامع السعادات:1/ 220.
2- راجعها في رسالة مناسك الحج لسماحة الشيخ، صفحة 244 الطبعة الثالثة.
3- تجد الخطبة في كتاب خطاب المرحلة ج5 ص406، بعنوان:كيفية إدامة حالة الطاعة كالحج.

الهمة للطاعة والأجواء المشجّعة ومصاحبة المؤمنين الصالحين والتعلم منهم كصلاة الليل أو تلاوة القرآن (الذي يستحب ختمه في رحلة الحج) أو صلاة جعفر الطيار التي كان السلف الصالح يهتم بها ويواظب عليها، أو الصلاة في أوقاتها ومنها صلاة الصبح وصلاة الجماعة والاستماع إلى التوجيهات الدينية وغيرها، فالمطلوب منه أن يستمر على هذا التقدم ويحافظ على هذا الانتصار الذي حققه على النفس الأمّارة بالسوء فيواظب على هذه الأعمال التي وُفّق إليها وذاق حلاوة أدائها.وهكذا ينبغي للمؤمن أن يحافظ على كل المكاسب التي يحققها في جهاده مع نفسه مما يُوفّق له في الأزمنة الشريفة -كشهر رمضان- أو الأمكنة الشريفة أو المواسم المباركة كالحج.

لاحظوا ما ورد في من حفظ سورة من القرآن الكريم أو آية ثم نسيها وهي عدة روايات معتبرة منها صحيحة أبي بصير قال:قال أبو عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من نسي سورة من القرآن الكريم مثلت له في صورة حسنة ودرجة رفيعة في الجنة فإذا رآها قال:ما أنتِ فما أحسنك ليتك لي؟ فتقول:أما تعرفني أنا سورة كذا وكذا ولو لم تنسني رفعتك إلى هذا)(1).

ومن المداومة على العمل إدامة آثاره كالانتهاء عن الفحشاء والمنكر بالنسبة للصلاة قال تعالى {إنَّ الصَلاةَ تَنهَى عَنِ الفَحشَاءِ وَالمُنكَرِ} (العنكبوت:45) فيجعل المؤمن صلاته نصب عينيه ويتذكرها دائماً لتردعه عن الهم بأي معصية أو منكر، فهذه مداومة على الصلاة، وقد وعد الله تعالى بأن).

ص: 255


1- أصول الكافي:كتاب فضل القرآن، باب (من حفظ القرآن ثم نسيه).

(الحاج لا يزال عليه نورالحج ما لم يلمّ بذنب)(1).4.

ص: 256


1- وسائل الشيعة:كتاب الحج، أبواب وجوب الحج وشرائطه، باب 38، ح14.

القبس/65: سورة هود:61

اشارة

{هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلأَرضِ وَٱستَعمَرَكُم فِيهَا}

موضوع القبس:الإسلام وإعمار الحياة

في معنى الاستعمار:

هذه الفقرة من الآية تبيّن واحدة من قواعد الرؤية القرآنية لدور الانسان في الحياة وعلاقته بما حوله، فتكون أساسا ومنطلقا لسلوكه وبرنامجه في الحياة.

(استعمر) على صيغة استفعل والمعروف في معناها انها طلب الفعل كقولك (استخرج) أي طلب الإخراج، ويمكن ان يكون لها عدّة معانٍ اخرى، فتأتي بمعنى الفعل الثلاثي المجرد نحو (استقرَّ) أي قرّ، وغير ذلك. فيكون معنى الآية أن الله تعالى خلقكم من الأرض واستعمركم فيها أي طلب منكم اعمارها وفوّض اليكم أمر إصلاحها والانتفاع بها، أو أنه تعالى عمّركم فيها أي جعل لكم أعماراً مديدة فيها لأن إعمار الأرض يحتاج الى عمر مديد، ولو كانت الأعمار قصاراً لما استطعنا إنجاز شيء، ويمكن أن يكون (استعمركم) بمعنى أنه تعالى اعطاكم قدرات وجعلكم بوضع تقدرون فيه على الإعمار.

والعمارة نقيض الخراب، وهي تعني جعل الشيء واستعماله على النحو الذي ينتفع به ويحقق الغرض منه، وهي لكل شيء بما يناسبه من ذلك، ((فالعمارة تحويل الأرض الى حال تصلح بها أن يُنتفع من فوائدها المترقّبة منها كعمارة الدّار

ص: 257

للسُكنى والمسجد للعبادة والزرع للحرث والحديقة لاجتناء فاكهتها والتنزه فيها، والإستعمار هو طلب العمارة بان يطلب من الإنسان أن يجعل الأرض عامرة تصلح لأن ينتفع بما يطلب من فوائدها)(1).

إعمار الأرض:

ولان الغرض من وجودنا على هذه الارض إعمارها فان وظيفة كل فرد هو اعمار واصلاح ما يقع في دائرة مسؤوليته، فربّ الاسرة يعمر اسرته ومدير المدرسة يعمر طلابه، والقائد يعمر اتباعه ومريديه وهكذا القائد السياسي، لذا جعل امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من الوظائف المهمة للحاكم عمارة الأرض، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في عهده الذي كتبه لمالك الأشتر لم-ّا ولاّه مصر:(وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك الاّ بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارةٍ أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقمْ أمرُه الاّ قليلاً)، وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ولا يثقُلن عليك شيءٌ خفّفت به المؤونة عنهم فإنه

ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك)(2).

ملاحظات وتفسيرات:

ويمكن ملاحظة عدة امور في الآية:

1-إن الله تعالى يذكِّر عباده بنعمه العظيمة عليهم وذلك لأنه خلقهم من نفس هذه الأرض مباشرة -كخلقه لآدم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- أو انه خلق الانسان من نفس

ص: 258


1- الميزان:12/ 298.
2- نهج البلاغة:الخطبة 291.

عناصر الأرض ومكوناتها وغذائها ومع ذلك فانه أعطاهم هذا التكريم العظيم وفضّلهم على مخلوقاته ومكّنهم من هذه الأرض ليعمروها واستخلفهم عليها كجنس بشري أو كأفراد باعتبار أنهم يخلفون من سبقهم في التملّك والاستيلاء والاعمار.2-وفي الآية بيان لحقيقة اعتقادية وزجرٌ وتوبيخٌ وردع للذين تركوا عبادة الله تعالى وأطاعوا أهواءهم وزيّن لهم الشياطين عبادة آلهة وهمية من دون الله تعالى، فيلفت نظرهم الى أن فعلهم مثيرٌ للسخرية حين مكّنهم الله تعالى من الأرض واستعمرهم فيها والآية تفيد الحصر ب-(هو)أي أنه تعالى وحده الذي أنشاءكم وهيأكم لأن تنتفعوا بهذه الأرض بما ينفعكم في حياتكم وتحتاجون اليه ولا تحتاجون الى غيره تعالى، لكن المؤسف أن هؤلاء البشر يتسافلون ويجعلون مما صنعت ايديهم آلهة يعبدونها، ويعتبرونها اربابا تدّبر شؤونهم من الرزق والحياة والضر والنفع باعتبار انهم لا يناقشون حقيقة ان الله تعالى هو الخالق {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (لقمان:25) لكنهم يعتقدون انه سبحانه فوّض تدبير شؤون الكون الى اولئك الارباب الوهميين، فالآية تدعوهم الى ان يثوبوا لرشدهم لان تلك الارباب لو كانت مدبرة لشؤونكم لكان لها دور في تهيئة مستلزمات الحياة في الارض والسماء والهواء والشمس وكل شيء، وانتم تعترفون بانها لا يد لها في ذلك كله لذا جاء بعد هذه الفقرة من الآية مباشرة الأمر بالاستغفار والتوبة من هذه الاوهام والخيالات الفاسدة.

3-إن الله تعالى فوّض أمر إعمار الأرض الى الانسان وهيّأ له الوسائل والظروف التي تعينه على ذلك وطلب أن يفكّر ويبحث ويسعى وينتج، وبدون

ص: 259

ذلك لا يحصل إعمار ولا يستفيد من منابع الرفاه والسعادة الموجودة في هذه الأرض ويكون من الخاسرين، فلا اتكالية ولا تقاعس ولا كسل وإنما لابد من العمل والله تعالى يبارك فيه ويؤتي ثماره بلطفه.4-بما أن الإنسان مأمور بان يتخلّق بأخلاق الله تعالى(1) كما في الحديث الشريف وفي الآية الكريمة {وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ} (النحل:60) ونحن مأمورون بأن نُقيم الدين والسنن الإلهية وهذا يوجب علينا أن نعطي الفرصة الكاملة لكل فرد أو مؤسسة أو مجتمع ونهيئ الأسباب والإمكانيات لكي يعمّروا الأرض بالحياة وينتفعوا من الخيرات المتاحة لهم على كلِّ الأصعدة سواء على الصعيد العلمي او الإقتصادي او السياسي أو الديني أو الإجتماعي وغير ذلك، بالتصويت لهم اذا توقفت المسالة على الانتخاب، او بوضع الرجل المناسب في المكان المناسب بالتعيين او بتقديم الدعم المادي والمعنوي لأي مشروع مثمرٍ او فكرة مفيدة او مؤسسة نافعة ونحو ذلك.

5-إن الإستعمار مصطلح قرآني مثمر وإيجابي ويُغني الحياة بالخير، لكن الدول المستكبرة اختطفته وحوّلته الى معنى معاكس يتضمن القتل والتدمير والخراب والاستحواذ على ثروات الشعوب وتجويعهم والاستيلاء على زمام الامور في بلدانهم، ككثير من المصطلحات التي شوهوها كالحرية التي تعني الانعتاق من اغلال الاهواء والشهوات والتعصّب والعبودية الخالصة لله تعالى فأصبحت تعني عندهم الانفلات من كل الضوابط الاخلاقية أو السياسة التي تعني رعاية مصالح البلاد والعباد وصلاح امورهم ونصف أئمتنا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بها كما ورد في29

ص: 260


1- ورد عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تخلَّقوا بأخلاق الله. بحار الأنوار:ج 61، ب 42، ص 129

الزيارة (يا ساسة العباد) وهكذا، لكنهم وظّفوها لمآربهم الخبيثة المعادية للإنسانية.ولابد من الإلتفات الى الجوانب المعنوية للإعمار لأن الله تعالى أنشأ لنا هذه الأبدان لتكون وسيلة لتكامل النفس والعقل وسمو الرّوح، فالبدن هو أرض النفس الذي أنشأه الله تعالى لإعمارها بطاعة الله تعالى وعلى هذا فان إعمار الأرض لابد أن يكون مقترنا بنية التقرب الى الله تعالى لأن الإعمار الحقيقي هو ملئ القلب بحب الله تعالى وذكره وتحلية النفس بالفضائل وتهذيبها من الرذائل والأغلال والآصار، فالأمر بالإعمار إنما يُراد منه تهيئة أسباب الطاعة والتمكين منها. أذ كلّما كانت الأسباب المساعدة على الطاعة متوفرة كان إقبال النفس عليها أكثر فعوالم الإنسان مترابطة، كما قيل في المثل المشهور:(العقل السليم في الجسم السليم). وكما ان الارض مستودع لكثير من الخيرات وعلى الانسان ان يستصلحها ويستعمرها ليستخرجها، فكذلك طاقات الانسان لا حدود لها لو احسن تفجيرها، وتشهد وقائع كثيرة بذلك كقلع امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لباب خيبر التي عجز اربعون شخصا عن حملها(1)،وخذ مثالا قريبا من مسيرة الموالين لأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) حين يقطعون مسافة اكثر من 500 كيلومترا مشيا في ظروف جوية قاسية وتهديدات ارهابية جديّة من دون اصطحاب طعام او فراش، فحبّهم للحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وولاؤهم للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) واله فجّر طاقات يجدونها مستحيلة التحقق في غير هذا الحافز، وكسير بعض الاخوة 2000 كيلومترا من الامامين الكاظمين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الى مشهد الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في ارض مجهولة لهم وظروف جوية صعبة ويمرّون بمناطق فيها وحوش مفترسة. 79

ص: 261


1- بحار الأنوار- المجلسي: 41/ 279

6-إن الله تعالى خلقنا من الأرض، فالأرض سابقة بوجودها علينا، وقد سخّرها الله تبارك وتعالى لنفعنا {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأرض جَمِيعاً} (البقرة:29) فنِعمُ الله تعالى سابقةٌ على وجودنا وهو جلّت آلآؤه المبتدئ بالفضل وبالنعم، والدرس الذي نستفيده هو أن نبادر نحن بالعطاء للأخرين قبل أن نتوقع منهم تقديم شيء من الخير.

7-ما دام معنى اعمار الارض يتحقق بجعلها على نحو مثمر ينتفع به، كما تقدم في التعريف فإذن هو يشمل كل نواحي الحياة لكلٍ بحسبه، فهناك الإعمار السياسي والإقتصادي والإجتماعي والزراعي والعلمي وغير ذلك، لأنها كلها تساهم في تحقيق هذا المعنى فكأن الإعمار مرادفٌ للإصلاح أو هو نتيجته.

الإصلاح الحسيني في كل اتجاهات الحياة:

لذلك فإن شريعة الاسلام وهي خاتمة الشرائع الالهية واكملها لم تكتف بالإعمار والاصلاح الديني وانما عمّت بقوانينها واحكامها كل شؤون الحياة وقضايا الناس، وقد عبَّر الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وارث الانبياء وحامل رسالاتهم كلها عن هذا المشروع الإعماري الشامل وأشار في كلماته الشريفة الى كل هذه المجالات.

ففي مجال الاعمار والاصلاح الديني قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)(وإنِّي لم أخرج أشِراً ولا بَطِراً، ولا مُفسِداً ولا ظَالِماً، وإنَّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمَّة جَدِّي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) . أريدُ أنْ آمُرَ بالمعروفِ وأنْهَى عنِ المنكر، وأسيرُ بِسيرَةِ جَدِّي، وأبي علي بن أبي

ص: 262

طَالِب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ))(1).وفي مجال الاعمار القانوني قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه، فإنّ السنة قد اُميتت والبدعة قد اُحييت، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد). (2) أي ان هؤلاء الطغاة عطّلوا العمل بالدستور والقانون فالامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يدعوهم الى العودة الى العمل بالدستور - وهو القرآن- والقوانين المبيّنة له - وهي السنة الشريفة-.

وفي مجال الاعمار السياسي وبيان صفات المستحقين للإمامة والقيادة وولاية امور الأمة قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فلعمري ما الإمام الا العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحق والحابس نفسه على ذات لله)(3).

كل الخراب نتيجة لتولي قادة الزور على مقدرات الشعوب:

واعتبر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سبب الخراب والفساد الاقتصادي والاجتماعي والاخلاقي والديني وضياع الحقوق والعدالة يرجع الى ولاية القادة غير الشرعيين لأمور الناس قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعد ان حمّله كل افراد الامة مسؤولية التغيير:(مَن رأى سُلطاناً جائِراً مُستحلاً لحرم الله، أو تاركاً لعهد الله، ومُخالِفاً لسنّةِ رسولِ الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فََعَمِلَ في عبادِ الله بالإثمِ والعدوانِ، ثم لم يُغيّرْ عليهِ بقولٍ ولا فعلٍ، كان حَقّاً على الله أن يُدخِله مَدخلَه) قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تحليله (وقد عَلمتُم أنَّ هؤلاء لَزِموا طاعةَ الشيطانِ وتَولَوا عن طاعةِ الرحمنِ، وأظهرُوا الفسادَ وعطلّوا الحدودَ واستأثَروا بالفيء،

ص: 263


1- موسوعة كلمات الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ص 354.
2- موسوعة كلمات الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ص 383.
3- موسوعة كلمات الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ص 379.

وأحَلّوا حرامَ اللَّهِ وحَرَّموا حلالَهُ، وأنا أحقُّ من غيري بهذا الأمر لقرابتي من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ))(1).وفي رواية اخرى (وأنا أولى من قام بنصرة دين الله وإعزاز شرعه والجهاد في سبيله، لتكون كلمة الله هي العليا)(2).

وهذا بعينه هو مشروع الامام المهدي المنتظر(عج) وقد ادخره الله تعالى لإقامة الحق والعدل وارساء قواعد الدولة الكريمة العامرة بالخيرات والبركات والعزة والكرامة، كما ورد في دعاء الافتتاح لليالي شهر رمضان المبارك (اَللّ-هُمَّ إِنّا نَرْغَبُ اِلَيْكَ في دَوْلَة كَريمَة)(3)، ولا تكون الدولة كريمة الا اذا سادها الاعمار والاصلاح في جميع المجالات.

ما الذي استفدناه من النهضة الحسينية؟

اقول:ونحن ننهي الموسم الحسيني لشهري محرم وصفر لا بدَّ ان نقف ونراجع ونحلل مقدار استفادتنا من اقامة الشعائر الحسينية، كما امرنا الائمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في كل طاعة، كالصلاة حينما جعل الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مقياسا لقبولها والانتفاع بها وهو مقدار نهيها عن الفحشاء والمنكر.

فدرجة استفادتنا من النهضة الحسينية المباركة يحددها مقدار نجاحنا في انجاز الرسالة الحسينية المباركة وتحقيق الاعمار في نواحي الحياة الانسانيةالكريمة.

ص: 264


1- موسوعة كلمات الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ص 457.
2- موسوعة كلمات الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ص 408.
3- مفاتيح الجنان:232

وهي نفس الدرجة التي نستحقها في اختبار التمهيد للظهور المبارك للإمام المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لان الرسالة واحدة والغرض واحد، فلنراجع انفسنا ونقّيم افعالنا بدقة ولا نكون من الغافلين المخدوعين ببعض الشكليات والعناوين المزوّقة والطقوس المتخلّفة لنقنع انفسنا باننا قد احيينا شعائر الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهي لا تزيد الا بعدا عن الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واهدافه المباركة لأنها تساهم في تجهيل الناس وتسطيح عقولهم وهو مخالف لما اراده الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كما ورد في زيارته المخصوصة انه (بذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة)(1) والله المستعان.13

ص: 265


1- تهذيب الأحكام- الشيخ الطوسي: 6/ 113

القبس/66: سورة هود:88

اشارة

{إِن أُرِيدُ إِلَّا ٱلإِصلَحَ}

موضوع القبس:الإصلاح رسالة الأنبياء

الإصلاح رسالة الأنبياء جميعاً:

الآية الكريمة تلخص رسالات الأنبياء، على لسان نبي الله شُعيب(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قوله تعالى {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود:88)، هذه هي رسالة الأنبياء جميعاً (الإصلاح) وان تنوعت آليات عملهم واختلفت شرائعهم من حيث الاجمال والتفصيل، لكن ما أجمله النبي السابق فصّله النبي اللاحق، وما فصّله النبي اللاحق يرجع في أصوله إلى ما أجمله السابق (صلوات الله عليهم أجمعين).

واختتمت هذه الرسالات برسالة الإسلام التي بلّغها النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وواصلها من بعده أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (المائدة:67) يقول أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ((اللهم انك تعلم أنه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنردّ المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن

ص: 266

المظلومون من عبادك وتقام المعطّلة من حدودك))(1).والحسين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وارث الأنبياء جميعاً بحسب ما نطقت به الزيارة المشهورة المروية عن الأئمة(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والمعروفة بزيارة (وارث)(2) وعنده اجتمعت رسالات الأنبياء جميعاً {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} (الأحزاب:39).

خرجت لطلب الإصلاح:

فهدف الأنبياء والأئمة (صلوات اللهم عليهم) هو (الإصلاح) ولما كان الإمام الحسين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قد ورثهم جميعاً فمن الطبيعي أن تكون رسالته(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ومشروعه هو (الإصلاح) وقد عبّر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن ذلك صريحاً في خطاباته التي عرّف من خلالها بأهداف خروجه المبارك، وسجّله في وصيته التي دوّنها وختمها وأودعها عند أخيه محمد بن الحنفية، ومما جاء فيها (إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب(عَلَيْهِ السَّلاَمُ))(3).

ومن خطبته على الحر الرياحي وأصحابه لمّا وصل (البيضة) قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ((ألا وأنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من

ص: 267


1- نهج البلاغة الخطبة 131.
2- مفاتيح الجنان:502
3- بحار الأنوار:44/ 329.

غيّر))(1).ويظهر من كلمة أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وولده الإمام الحسين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) التواصل والتطابق في الهدف، وإنّ الاصلاح الذي سعى إليه المعصومون(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وتحمّلوا مسؤوليتهم وبذلوا وسعهم لتحقيقه هو مشروع متكامل لا يختص بالأمور الدينية (أي الوعظ والإرشاد وتعليم أحكام الدين وإن كان هذا هو الأساس) بل يشمل نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية، فيقضي على الفساد المالي والإداري ومنع الاستئثار بالأموال العامة وحرمان الشعب من حقوقهم، وإقامة النظام العادل الذي ينصف الناس جميعاً وينتزع حق المظلوم من ظالمه، ويطبّق الحدود والقوانين.

تمام الصلاح بإصلاح القيادة الدينية والسياسية:

وإنّما يتم الصلاح ويكمل ويبلغ غايته عندما تصلح قيادتاه الدينية والسياسية، وتفسد الأمة إذا فسدت مؤسسته الحاكمة ولم تقم القيادة الدينية بواجباتها ومسؤولياتها، روي عن الإمام الباقر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنّه قال:قال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):((صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل:يا رسول الله ومن هما؟ قال:الفقهاء والأمراء))(2).

ومن دون مباشرة هذا المدى الواسع من الإصلاح تبقى حركته محدودة ومحجّمة وربما تذوب تدريجياً، تصوروا لو أن دعوة النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلى الإسلام بقيت في حدود مكة وتحت قبضة وبطش طواغيت قريش فإن المؤمنين بها

ص: 268


1- تاريخ الطبري:4/ 605، الكامل في التأريخ:3/ 280.
2- الخصال:36 باب الاثنين.

سوف لا يزيدون عن العشرات الذي آمنوا فقتل بعضهم وهُجِّر البعض الآخر إلى الحبشة وحوصر النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومن معه في شعب أبي طالب(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لكنّ النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان يسعى لتوسيع دعوته وعرض نفسه على قبائل العرب حتى بايعه نفر من الأوس والخزرج في بيعة العقبة الأولى(1) وأخذ منهم المواثيق على الطاعة والنصرة في بيعة العقبة الثانية وأرسل معهم الشهيد مصعب بن عمير لتعليمهم الدين ثم هاجر(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأسس دولته المباركة لينشر الإسلام العظيم إلى كل الدنيا.

لا مكان للإنزواء في النهضة الحسينية:

أما ما دأبت عليه مرجعيات كثيرة على مدى قرون ومقلّدوهم من الإنزواء والانكماش والسلبية والعزوف عن العمل بالآليات الممكنة لإيجاد بيئة مشجّعة على الدين والصلاح فإنه تقصير غير مبرَّر وله عواقب وخيمة فلابد من استثمار كل فرصة لإيجاد هذه البيئة بل صنع الفرصة لها وليس انتظارها لاستثمارها.

لذا لم يجد الإمام الحسين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لنفسه عذراً في القعود عن تصحيح وضع السلطة الحاكمة ومعالجة انحرافاتها بكل ما أتاه الله، فجاد بنفسه الشريفة وبأهل بيته وأصحابه، وعَرَّض حُرَمَ رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للسبي بيد الأعداء من بلدٍ إلى بلد، وكان يمكنه الاكتفاء بموقعه الديني وامتيازاته التي يحظى بها في المجتمع ويكتفي بالحد الأدنى من العمل، لكنّه(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهو سبط رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وريحانته ووارثه، أصرَّ على اللحاق بركب جده المصطفى(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في خطبته على الحرّ وجيشه(2) ((أيّها الناس، إنّ رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):قال:من رأى سلطاناً

ص: 269


1- أنظر: السيرة النبوية - ابن هشام: 2/ 311,- بحار الأنوار- المجلسي: 19/ 23, تاريخ الطبري: 2/ 96
2- بحار الأنوار- المجلسي: 44/ 381

جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعلٍ ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله)).وهذا بابٌ ينفتح منه ألفُ باب للحديث عن علاقة العلماء بالسلطة ودورهم في العملية السياسية وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وموقع الأمة من كل ذلك وغيره مما لا يسع الحديث لبيان تفاصيله الآن(1).

صلاح النفس قبل الإصلاح، وكيفية اصلاح النفس:

ولابد لمن يتصدى لهذه المسؤولية أن يبدأ بإصلاح نفسه ويجعل من نفسه فرداً صالحاً قال تعالى {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد:11)، وقد دلّنا أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على آليات الإصلاح في ميدان النفس وعناصر النجاح في هذه العملية فهي تحتاج أولاً وقبل كل شيء إلى توفيق من الله تعالى، قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (التوفيق قائد الصلاح).(2)

ثمّ إلى تقوى من العبد، قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(التقوى مفتاح الصلاح).

وإلى مداومة على ذكر الله تعالى، قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):((أصل صلاح القلب اشتغاله بذكر الله))، وقال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):((مداومة الذكر قوت الأرواح ومفتاح الصلاح)).

وتحتاج إلى مجاهدة للنفس لضمان الاستمرار على العناصر المتقدمة

ص: 270


1- حُرر هذا البحث في كتاب (فقه المشاركة في السلطة) والمجلد الثاني من كتاب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
2- الحديث وما بعده في غرر الحكم وصفحاتها على الترتيب 25، 41، 160، 661، 469، ثمّ 162، 79، 449، 471، 170، 310، 365.

والمحافظة عليها، قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ((في مجاهدة النفس كمال الصلاح)).

خطوات عملية للصلاح:

وهناك خطوات عملية تساعد على إصلاح الباطن، منها:

1-مصاحبة المؤمنين الأخيار الصلحاء، قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):((أكثرُ الصلاح والصواب في صحبة أولي النهى والألباب)).

2-مداراة الناس والرفق بهم واللطف معهم، قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):((الرفق لقاح الصلاح وعنوان النجاح، وقال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عوّد نفسك السماح وتجنّب الإلحاح يلزمك الصلاح)).

3-تجنب معاشرة أهل الدنيا والغفلة عن الله تبارك وتعالى، قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ((في اعتزال أبناء الدنيا جِماع الصلاح)).

4-عدم الاكثار من المباحات ككثرة الطعام والشراب والنوم ونحوها قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):((إذا ملئ لبطن من المباح عمي القلب عن الصلاح)).

5-تجنّب الصفات المذمومة كالكذب وإيذاء الناس، قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):((أبعد الناس عن الصلاح الكذوب وذو الوجه الوقّاح)).

6-محاسبة النفس وتدارك ما فاته من تقصير وخلل وردّ المظالم إلى أهلها وقضاء ما فات، قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):((حسن الاستدراك عنوان الصلاح)).

السعي الحثيث لتحقيق الأهداف الحسينية:

هذه هي رسالة الإمام الحسين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وارث الأنبياء، فمن أحبَّ نصرته في كل زمان ومكان واللحاق بأصحابه فليمضي على ما مضى عليه(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وليدخل

ص: 271

السرور على قلبه الشريف بالسعي الحثيث لتحقيق الهدف من رسالته، على هذا النحو من الوعي وهذه المعرفة.لكن مع الالتفات إلى ما نبهنا عليه مراراً من الدعوة إلى هذا المستوى من فهم النهضة الحسينية، لا يعني إلغاء الأنماط الأخرى من التعاطي معها كالشعائر التي يؤديها عامة الناس ما دامت منضبطة بالحدود الشرعية.

لأن لكل فئة مستواها من التربية والسير في طريق الكمال، ولا يحق لأحد أن يسقط الآخر.

ص: 272

القبس/67: سورة هود:108

اشارة

{وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي ٱلجَنَّةِ خَلِدِينَ فِيهَا}

موضوع القبس:حقيقة السعادة

أهمية السعادة:

السعادة:حلم كل الناس والهدف الذي تسعى إليه البشرية، ولذلك كان كل اهتمام الأنبياء والرسل والفلاسفة والمفكرين والعلماء هو الوصول إلى ما تتحقق به السعادة.

وقد اختلفوا في معناها وعناصر تحققها انطلاقا من المعتقدات والنضريات التي يؤمنون بها فمن لا يرى شيئا وراء المادة اعتقد ان السعادة تتحقق بتلبية الغرائز وحاجات الجسد والاندفاع وراء الشهوات وحياة المتعة واللهو واللعب، وعلى عكسه تماماً يوجد من يقول ان السعادة بحرمان الجسد من كل غرائزه بل وإيلامه للانطلاق الى الروح .

لكن الإسلام بوسطيته واعتداله يرى هؤلاء قد وقعوا في الافراط والتفريط لذا فان السعادة التي يتحدثون عنها ناقصة او وهمية ويقدّم نظريته وفهمه للسعادة.

علامة السعادة:

إنها الحياة السعيدة في رحاب الله تبارك وتعالى التي تشغله عن كل شيء {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد:28) فاطمئنان القلب الذي هو علامة السعادة

ص: 273

يتحقق بأن تجعل الله تعالى محور حركاتك وسكناتك وهدفك الذي تسعى إليه، ولا تنال تلك السعادة إلا بالتقوى، لذا يعلمنا الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أن نطلبها في الدعاء كما طلبوها لأنفسهم، من دعاء الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم عرفة:(اللهم اجعلني أخشاك كأني أراك، وأسعدني بتقواك)(1).فالسعادة الحقيقية هي الفوز بالجنة وهي ثمرة التقوى والعمل بما يرضي الله تبارك وتعالى ويقرب منه، قال تعالى:{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (هود:108).

متى تحصل الشقاوة؟

وتحيط الشقاوة بالإنسان - والعياذ بالله- حينما يعصي الله تبارك وتعالى ويبتعد عنه قال تعالى:{وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ، حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} (الزخرف:36-38). فتصوروا أي حياة شقية تكون للشخص الذي يلازمه فيها شيطان يكون قريناً له يخلّي الله بينه وبينه ليرديه في الضلالات والمهالك وفي حياة تعيسة ضيقة يصفها قوله تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فإن لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (طه:124) ولذا تكون النتيجة يوم القيامة قوله تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ، خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ

ص: 274


1- مفاتيح الجنان:332

وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} (هود:106-107).

السعادة والشقاوة تنبعان من النفس:

أيها الأحبة..

إن السعادة والشقاوة تنبعان من داخل الإنسان، وهي من حالات عالمه المعنوي ووصف لباطنه، فالسعيد من كان كذلك في باطنه، والشقي من كان كذلك في داخله، فلا تتحقق إلا بأمور من جنسها أي معنوية، وليس بأمور مادية كالمال والجنس وترف الدنيا، فكم من شخص لا تتوفر له أسباب السعادة المادية الدنيوية بفقر أصابه أو مرض ابتلي به أو مصيبة نزلت به لكنك تراه سعيداً متفائلاً مبتسماً، وآخر يعيش في ترف وتتوفر له كل أسباب المتعة والعيش الرغيد لكنه عبوس كئيب وقد ينتهي به الأمر إلى الانتحار، وهذه النشرات والإحصائيات تطلعنا باستمرار على أن أكثر حالات الانتحار موجودة في أكثر الدول رفاهية.

الفوز الحقيقي:

انظروا إلى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يسقط مضرجاً بدمائه في محراب مسجد الكوفة وهو يقول:(فُزتُ وربّ الكعبة)(1)، والإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول وهو يرى جمع الأعداء كالسيل وقد يبلغوا عشرات الآلاف وهو وأصحابه لا يتجاوزون المائة يقول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(ليرغب المؤمن في لقاء الله، وإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً)(2).

والإمام موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يشكر الله تعالى وهو في قعر السجون

ص: 275


1- مناقب آل أبي طالب- ابن شهرآشوب: 3/ 95
2- بحار الأنوار:44/ 192.

وظلمات المطامير ويقول (اللّهم إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنّي كُنْتُ أَسْاَلكَ أَنْ تُفَرِّغَني لعبادتِكَ، اللهُمَّ وقَدْ فَعَلْتَ فلك الحمدُ)(1).روى صالح بن سعيد قال:(دخلت على أبي الحسن الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم وروده سامراء فقلت له:جُعلتُ فداك في كل الأمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك حتى أنزلوك هذا المكان الأشنع خان الصعاليك.

فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):ها هنا أنت يا ابن سعيد، ثم أومأ بيده فإذا أنا بروضات أنيقات وأنهار جاريات وجنات فيها خيرات عطرات وولدان كأنهن اللؤلؤ المكنون، فحار بصري وكثر عجبي، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لي:حيثُ كنّا فهذا لنا، يا ابن سعيد لسنا في خان الصعاليك)(2).

الدنيا للعبور والسعادة من المساعدة:

ولا يعني كلامنا هذا تقليلاً من أهمية توفير متطلبات الحياة الهنيئة السعيدة، فإن لها دوراً في تحقيق تلك السعادة إذا أُخذ منها بالمقدار المناسب للحاجة ووُظّفت لتحقيق الهدف، فإنها خير معين لها بفضل الله تبارك وتعالى.

وإنما اشتق اسم السعادة أصلاً من المساعدة وهي المعاونة على ما تتحقق به السعادة الحقيقية التي سميت سعادة لما فيها من معاونة الألطاف الإلهية للإنسان حتى وُفق إلى الخير والجنة ورضا الله تبارك وتعالى، ولذا نجد في الروايات الشريفة المأثورة عن المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) إرشادات إلى ما تتحقق به السعادة الأخروية وما يستعان به على تحقيقها من أمور الدنيا.

ص: 276


1- الإرشاد- الشيخ المفيد: 2/ 240
2- بحار الأنوار:50/ 202 رواها الشيخ المفيد والكليني (رضوان الله عليهما).

مخاطبة عوالم الإنسان:

وهذا الانسجام مع الفطرة والتوازن في مخاطبة كل عوالم الإنسان، وتلبيته كل احتياجاته الروحية والنفسية والعقلية والجسدية هي من مختصات شريعة الله تبارك وتعالى الخالق العظيم والبصير بما يصلح حال الإنسان ويسعده، بينما تاهت النظريات البشرية في تفسير السعادة وبيان ما تتحقق به لأن تحقيق السعادة حلم كل البشر ولم تنته بهم تلك النظريات إلا إلى الشقاء والقلق والخوف والكآبة والصراعات والشرور والآثام، بين أصحاب النظريات المادية الذين حددوا السعادة بالمتعة وتلبية الغرائز واحتياجات الجسد إلى حد الإفراط -كما في الغرب- من دون التفات إلى حاجة الروح إلى الكمال، ونزوع النفس إلى التحلي بالأخلاق الفاضلة، وبين أصحاب النظريات الفلسفية والروحية الذين جعلوا السعادة في تحقق الكمالات النفسية ولو على حساب التفريط في احتياجات الجسد، بل يجعل بعض أهل الرياضات الروحية تعذيب الجسد وإيلامه سبباً لنيل تلك الكمالات وتحقيق السعادة.

السعادة بالتوازن بين الإفراط والتفريط:

ويتغافلون بذلك عن حقيقة أن من تمام السعادة تحقيق التوازن في متطلبات كل جوانب الإنسان. وهذا ما وجدناه في شريعة الإسلام دين الفطرة {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (الروم:30) ففي الوقت الذي تؤكد فيه على الجوانب المعنوية والكمالات الروحية حين تجعل التقوى وتهذيب النفس أساس السعادة والفلاح {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}

ص: 277

(الشمس:9-10) وقال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(وإن السعداء بالدنيا غداً هم الهاربون منها اليوم)(1). فإنها تدعو إلى الأخذ بأسباب الحياة التي توفر الطمأنينة والراحة والسكون للنفس فنرى الحث الأكيد على العمل والكسب بالتجارة أو الزراعة أو غيرهما وتجعل العمل لطلب الرزق الحلال من أفضل القربات إلى الله تعالى ففي الحديث النبوي الشريف (طلب الحلال فريضة على كل مسلم ومسلمة)(2) وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(من أكل من كد يده كان يوم القيامة في عداد الأنبياء ويأخذ ثواب الأنبياء)(3) وفي الحديث (الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله)(4) وفي حديث آخر (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم الفسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم الساعة حتى يغرسها فليغرسها)(5) وفي حديث نبوي شريف (ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً، فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة، إلا كانت له به صدقة)(6).

وتجعل تلبية الحاجة الجنسية من طرقها المحللة - أي الزواج - من آيات الله تبارك وتعالى وسننه التي يُتقرب إليه تبارك وتعالى بإقامتها، وإن الإعراض عنه خروج عن هذه السنة قال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ60

ص: 278


1- نهج البلاغة، خطبة رقم (223) قالها عند تلاوته {يَا أَيُّهَا الإنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ}.
2- بحار الأنوار:103/ 9، ح35.
3- بحار الأنوار- المجلسي: 100/ 10
4- الكافي- الشيخ الكليني: 5/ 88/ح1
5- كنز العمال- المتقي الهندي: 3/ 892
6- مستدرك الوسائل- الحدث النوري: 13/ 460

أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم:21) وقال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني)(1) ويقول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(شرار أمتي العزاب)(2).ونرى رفض الرهبنة والانعزال وحرمان النفس والجسد من بعض ما تشتهيه بالمعروف وبما أحل الله تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأعراف:31-32).

هذا التوازن والنهي عن الإفراط والتفريط معاً لتحقيق السعادة يظهر جلياً مما ورد في نهج البلاغة أن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) دخل على العلاء بن زياد الحارثي وهو من أصحابه يعوده، فلما رأى سعة داره قال:(ما كنتَ تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا؟ أما أنت إليها في الآخرة كنت أحوج! وبلى، إن شئتَ بلغت بها الآخرة:تقري فيها الضيف، وتصل فيها الرحم، وتطلع منها الحقوق مطالعها، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة.

فقال له العلاء:يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن زياد، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):وما له؟ قال:لبس العباءة وتخلى عن الدنيا، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):عليَّ به، فلما جاء قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):يا عُدَيَّ نفسه، لقد استهام بك الخبيث أما رحمت أهلك وولدك؟21

ص: 279


1- جامع أحاديث الشيعة- السيد البروجردي: 20/ 7
2- بحار الأنوار- المجلسي: 100/ 221

أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على الله من ذلك. قال:يا أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):ويحك إني لست كأنت، إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس لكيلا يتبيغ بالفقير فقره)(1).

كيف نحقق السعادة؟

ونذكر هنا مجموعة من الروايات الشريفة التي أرشدتنا إلى ما تتحقق به السعادة في الآخرة وما يعين عليها من أمور الدنيا:

1-عن جعفر بن محمد عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال:(حقيقة السعادة أن يختم الرجل عمله بالسعادة وحقيقة الشقاء أن يختم المرء عمله بالشقاء)(2)، فإن الإنسان لا تكتمل سعادته إلا عندما يختم عمله بخير فإننا نرى كثيرين يعملون عمل السعداء لكنهم في منعطف من حياتهم ينقلبون ويغويهم الشيطان ويلتحقون بالأشقياء وقد يحصل العكس أحياناً كما في قضية الحر الرياحي حتى قال فيه الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(أنت حرّ في الدنيا وسعيد في الآخرة)(3) فلا تتحقق السعادة إلا بالمداومة على الخير والثبات عليه.

2-قال الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من سعادة المرء خفة لحيته)(4) أي قلة أتباعه ورعيته سواء كان على صعيد العائلة أو السلطة أو الزعامة الدينية أو

ص: 280


1- نهج البلاغة، خطبة رقم (209).
2- بحار الأنوار:5/ 154 عن الخصال:5 ب1 ح14.
3- ينابيع المودة- القندوزي: 3/ 76
4- بحار الأنوار:73/ 113.

الاجتماعية، لأن التابع يتمسك بلحية المتبوع - كما يقال في العرف- وقد يتحمل المتبوع مسؤولية تكثير أتباعه بتكبير لحيته الظاهرية فيتبعه من يراعي تلك المقاييس.وفي (معاني الأخبار) للشيخ الصدوق (رضوان الله عليه) قراءة أخرى للحديث (خفة عارضيه)(1) أي خفة لحييه وعارضيه بذكر الله تعالى وعدم غفلته عن ربّه.

3-عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(ثلاثة من السعادة:الزوجة المؤاتية، والولد البار، والرجل يرزق معيشة يغدو على إصلاحها ويروح على عياله)(2).

وعن الإمام موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه عن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(من سعادة المرء المسلم الزوجة الصالحة والمسكن الواسع والمركب الهنيء والولد الصالح)(3).

فالزوجة الصالحة المطيعة المتوددة، والمسكن اللائق بشأن الإنسان، والأولاد البارّون الصالحون، ووسيلة التنقل المناسبة التي تغنيه عن الطلب من الناس وغيرها من الحاجات الأساسية في الحياة يؤدي توفّرها إلى الحياة السعيدة المعينة على طاعة الله تعالى ونيل السعادة الحقيقية.

على أن لا تتحول هذه الأمور إلى هدف وشاغل عن الله تعالى بل يجعلها الإنسان وسائل مساعدة ومعينة على الوصول إليه تبارك وتعالى قال عز من4.

ص: 281


1- معاني الأخبار- الشيخ الصدوق: 183
2- بحار الأنوار:103/ 6 عن أمالي الشيخ الطوسي.
3- بحار الأنوار:104/ 98، ح64.

قائل:{رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ} (النور:37) فالمشكلة ليست في وجود تجارة أو مال وإنما في تحولها إلى مانع عن الوصول إليه تبارك وتعالى، وقال:{إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} (التغابن:14).وفي كتاب غرر الحكم عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(السعيد من استهان بالمفقود) (1)، لأن الحزن على ما فات موجب للشقاء والنكد والسعيد من صبر وتسلّى عنه واحتسبه عند الله تعالى.

وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(في لزوم الحق تكون السعادة) لأن معرفة الحق واتباعه هو أساس السعادة الحقيقية الموجبة للفوز.

وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (من حاسب نفسه سعد) لأنه بالمحاسبة يستطيع تصحيح الأخطاء وتلافي النقص ورد المظالم إلى أهلها ويقرّر حياة أفضل وكل ذلك يوجب السعادة.

وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (خلوّ الصدر من الغل والحسد من سعادة العبد) فإن أشقى الناس من امتلأ قلبه حقداً وحسداً وغلاً وخيانة وحياته تكون معذبة ويعيش مهموماً.

وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(السخاء إحدى السعادتين).

وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(سعادة المرء - في- القناعة والرضا) فإذا قنع استقر ورضي ولم يحزن على فوات شيء أو يقلق حرصاً على تحصيل شيء.دي

ص: 282


1- الحديث وما بعده في غرر الحكم للآمدي

وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(سعادة الرجل في إحراز دينه والعمل لآخرته) لأن العمل بما يرضي الله تعالى والسير على هدى أوليائه يحقق السعادة الأبدية. وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إذا اقترن العزم بالحزم كملت السعادة)(1).

وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(أمَارة السعادة إخلاص العمل) لأن عمله إن لم يكن بنية مخلصة لم يكن مقبولاً ولم يحقق السعادة المطلوبة، فعلامة سعادته كون عمله مخلصاً لله تبارك وتعالى.

في كتاب مكارم الأخلاق (من سعادة المرء دابة يركبها في حوائجه ويقضي عليها حوائج إخوانه)(2)، لأنه بها يستغني عن الحاجة للآخرين ويتمكن من قضاء حوائج الناس التي هي من أعظم القربات.

4-عن الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(من سعادة المرء المسلم أن يكون متجره في بلاده ويكون خلطاؤه صالحين ويكون له وُلدٌ يستعين بهم)(3). فمن كان متجره في بلاده كفاه الله مؤونة الغربة والبعد عن الأهل والوطن ومخاطر الأسفار، ومن كان شركاؤه وأقرانه في العمل صالحين تجنب المشاكل والخصومات والخوض في الباطل، ومن كان له ولد يعينه خفّت أعباء الحياة عليه وسعد برؤيتهم.

5- (من سعادة المرء أن يطول عمره، ويرزقه الله الإنابة إلى دار الخلود)(4).

(ليس كل من يحب أن يصنع المعروف إلى الناس يصنعه، وليس كل من6.

ص: 283


1- الحديث والذي يليه تجده في ميزان الحكمة- الريشهري: 2/ 1306-1305
2- مكارم الأخلاق:138.
3- بحار الأنوار:103/ 7 ح 27 عن الخصال:1/ 159 باب الثلاثة.
4- بحار الأنوار:6/ 46.

يرغب فيه يقدر عليه ولا كل من يقدر عليه يؤذن له فيه، فإذا اجتمعت الرغبة والقدرة والإذن فهناك تمت السعادة للطالب والمطلوب إليه)(1) فهكذا تجتمع الأسباب لتحقق السعادة:الإرادة من الإنسان وتيسير الأسباب والوسائل الطبيعية لإنجاز العمل وتوفيق الله سبحانه.6-(ولو أن أشياعنا - وفقهم الله لطاعته - على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم، لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا، ولتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلا ما يتصل بنا مما نكرهه)(2) فالإلفة بين المؤمنين وتواددهم وتراحمهم سبب قوي لسعادتهم ونزول الرحمة عليهم.

كيف نحذر من الشقاوة؟

ونذكر بعض الروايات الواردة في الشقاوة لتعرف الأمور بأضدادها:

قال رجل للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):اعدلْ، فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):(لقد شقيتَ (شقيتُ) إن لم أعدل)(3).

وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(أشقى الناس الملوك)(4) بعكس ما يتصور أغلب الناس فيحسدونهم على ما هم عليه فإذا انكشف لهم الواقع تبرأوا منه كما في قصة قارون التي حكاها الله تبارك وتعالى:{وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ

ص: 284


1- مكارم الأخلاق- الطبرسي: 136
2- الاحتجاج:ج2، رسالة الناحية المقدسة إلى الشيخ المفيد.
3- رواه البخاري:3138.
4- بحار الأنوار:75/ 340.

يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (القصص:82).وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(أربع خصال من الشقاء:جمود العين وقساوة القلب وبعد الأمل وحب البقاء)(1).

سئل أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):أي الخلق أشقى؟ قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(من باع دينه بدنيا غيره)(2).

عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(إن الشقي من حُرم ما أوتي من العقل والتجربة)(3).

ومن كلماته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في غرر الحكم(4):(من علامات الشقاء غش الصديق) (من الشقاء فساد النية) (من الشقاء أن يصون المرء دنياه بدينه).

حاصل إشكال ورد:

وننبه هنا إلى شبهة يثيرها الغارقون في المعاصي العاجزون عن التغلب على أهوائهم فيصوّرون لأنفسهم أنه مكتوب عليهم الشقاء ولا يمكن تغييره، وقد دعمت هذا الاتجاه الفكري جهات سياسية منذ عصر صدر الإسلام لتمنع الأمة من الحركة نحو الإصلاح وتغيير الواقع الفاسد وإزالة الظلم، وينقل القرآن الكريم عنهم قولهم:{قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} (المؤمنون:106)

ص: 285


1- بحار الأنوار:73/ 164.
2- بحار الأنوار:75/ 301.
3- شرح نهج البلاغة:18/ 74.
4- غرر الحكم- الآمدي: 674-822-677

لكن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فسر الآية بقوله:(بأعمالهم شقوا)(1). فالإنسان باختياره عمل ما يوجب شقاءه، وقد جرى القضاء الإلهي - أي مجموعة القوانين والسنن الإلهية- بأن من يعصي ويعرض عن الله تعالى يشقى، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعاء كميل:(إلهي ومولاي أجريتَ عليَّ حكماً اتبعتُ فيه هوى نفسي ولم أحترس فيه من تزيين عدوي فغرّني بما أهوى وأسعده على ذلك القضاء)(2) فالعبد باختياره اتبع الشيطان وساعد على غوايته السنة الإلهية بإيكاله إلى نفسه وسلب التوفيق منه.

وفي احتجاج الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على الزنادقة لما سألوه:(فما السعادة وما الشقاوة؟ قال:السعادة سبب خير تمسّك به السعيد فيجره إلى النجاة، والشقاوة سبب خذلان تمسك به الشقي فجرّه إلى الهلكة، وكلٌّ بعلم الله تعالى)(3) فالله تبارك وتعالى قضى تلك الأسباب، والإنسان بإرادته تمسك بهذا أو ذاك منها، وروى البخاري عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله:(أما أهل السعادة فييسّرون لعمل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل الشقاوة)(4) ولذا فُسرت السعادة بما يناسب أصلها المأخوذ منه وهي المساعدة فقيل أن السعادة والسعد:(معاونة الأمور الإلهية للإنسان على نيل الخير ويضادّه الشقاوة وأعظم السعادات الجنة)(5).).

ص: 286


1- بحار الأنوار:5/ 157.
2- مفاتيح الجنان: 117
3- بحار الأنوار:10/ 184.
4- صحيح البخاري: 2/ 99
5- المفردات للراغب:مادة (سعد).

تلخيص السعادة الحقيقية:أيها الأحبة..

نستطيع تلخيص أسباب السعادة الحقيقية بالإيمان بالله تعالى وتقواه والالتزام بطاعته وطاعة رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأهل بيته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بإخلاص ونشاط وعزيمة لا تلين، وتطهير القلب من أمراض الحسد والحقد والبغضاء والبخل والحرص والخوف والقلق وتنقية العقل، من الشبهات والشكوك والظنون والتهم والأوهام والوساوس (فإن الشكوك والظنون لواقح الفتن ومكدرة لصفو المنائح والمنن)(1) وتهذيب النفس من الأهواء المنحرفة وضبط الغرائز على وفق ما يصلح حال الإنسان في دنياه وآخرته وتجنب الإفراط والتفريط.

والزواج بالمرأة الصالحة الودودة الجميلة وطلب الأولاد وتربيتهم ليكونوا صالحين، والسعي لطلب الرزق الحلال الذي يسدّ احتياجاته ويغنيه عما في أيدي الناس ويوفّر له فرص الطاعة والقرب من الله تبارك وتعالى.

وقد وجدت في الأحاديث الشريفة أن أكثر ما يوجب السعادة بعد التقوى محبة الآخرين ومواددتهم وبذل الوسع في إسعادهم وقضاء حوائجهم وإدخال السرور عليهم ابتداءً من الوالدين والزوجة والأولاد إلى الجيران والأرحام ثم عامة الناس.

وإن أكثر ما يوجب الشقاء بعد الإعراض عن الله تعالى هو الحزن والقلق، الحزن على ما فات من عزيز أو مال أو شهوة أو شيء حريص عليه، والقلق مما يأتي كالتاجر يخاف أن يخسر والمرأة تقلق أن يفوتها قطار الزواج أو يتزوج

ص: 287


1- الصحيفة السجادية (ابطحي): 411

عليها زوجها امرأة ثانية. فينكد عيشهم باحتمالات لم تقع، والحل في تجنب هذه الحالات، وإيكال الأمر إلى الله تبارك وتعالى والأخذ بالأسباب المتيسرة قال تعالى في علاج هذه الحالة:{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (الحديد:22).ولم تحصل هذه الحالات إلا بسبب الحرص والفخر والاختيال بما في اليد.

ص: 288

القبس/68: سورة يوسف:24

اشارة

{كَذَلِكَ لِنَصرِفَ عَنهُ ٱلسُّوءَ وَٱلفَحشَاءَ ۚ}

موضوع القبس:درس من عفاف النبي يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)

قصة النبي الكريم يوسف الصدّيق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) معروفة لديكم بما تناوله القرآن الكريم ومنها قوله تعالى {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (يوسف:24) تعقيباً على إنقاذه من مكائد زوجة عزيز مصر، والفحشاء يُراد بها جريمة الزنا، أما (السوء فقيل أن المراد به الهم بالمعصية والعزم عليها قبل فعلها)(1).

وجاء هذا الصرف استجابة لدعائه الذي ذُكِرَ في موضوع آخر {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ، فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (يوسف:33-34).

(لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء):

والتعبير الاعتيادي عن هذه الحالة أن يقال {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} لأن ظروف المعصية والجريمة كانت موجودة وليست مصروفة ولكن الله تعالى صرفه عن هذه المعصية وعصمه من الوقوع فيها، وهذه العصمة من التسديدات

ص: 289


1- التبيان- الشيخ الطوسي: 6/ 123

الالهية والنعم العظيمة. لكن القرآن الكريم وصف حالاً أسمى من هذه فقال تعالى {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} أي صرفنا عنه أجواء المعصية ومقدماتها وموجباتها فكأنه لم يتعرض لظروف معصية أصلاً حتى يجتنبها، لأنه يعيش في عالم آخر وفي أجواء اخرى غير عالم المعصية هذا الذي يرى في الظاهر وإنما وصفناها بأنها حالة أسمى لأنها ليست فيها تعرض للمعصية أصلاً ولا فيها تكلّف اجتنابها وصرفه عنها حيث لا يجد الانسان فيها شيئاً سيئاً حتى يجتنبه.

في تفسير ما همّ به يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هو الميل الغريزي، وردّه:

وهذا الالغاء التام للتأثر بالحدث كأنه ليس ممكناً وغير قابل للتصور خصوصاً في مثل الحالة التي تعرض لها النبي يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لك} (يوسف:23) ولذا لم يجد بعض المفسرين ممن يعتقد بعصمة النبي يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ضيراً من تفسير الهم بقوله تعالى {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} (يوسف:24) بالميل النفسي الغريزي الطبيعي(1) لمن يتعرض لمثل هذه المواقف أي أن غريزته

ص: 290


1- حكى هذا الرأي عن كثيرين كالسيد المرتضى في (تنزيه الانبياء/78) قال "وأما همّه فما طبع عليه الرجال من شهوة النساء" وتبعه على ذلك الشيخ الطوسي (قدس سره) فإنه ذكر للهم عدّة معاني منها العزم ومنها الإخطار ومنها الشهوة وميل الطباع" ثم قال "وإذا احتمل الهم هذه الوجوه نفينا عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) العزم على القبيح وأجزنا باقي الوجوه لأن كل واحد منها يليق بحاله (التبيان 6/ 121)" وقال مثله ابن إدريس في (منتخب التبيان:2/ 22-23) وقال الطبرسي في (مجمع البيان:ج5-6/ 354):"ثالثها أن معنى قوله (همّ بها) اشتهاها ومال طبعه الى ما دعته اليه" ثم قال "وقد يجوز أن تسمى الشهوة هماً على سبيل

اشتهت وانجذبت باعتبار أن الأنبياء بشر(1) لهم غرائزهم وشهواتهم وميولهم فتنجذب نفسياً طبيعياً ولا إرادياً الى مثيرات الغريزة كانجذاب الجائع الى الطعام تلقائياً، ولكنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حبس نفسه وامتنع ولم يرتقِ ميله النفسي الى مستوى العزم والتوجه الى الفعل فضلاً عن القيام بالفعل نفسه لما رآه من برهان ربه كما في).

ص: 291


1- قال تعالى {قل إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إلي} (الكهف110) {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} (إبراهيم:11).

الآية الشريفة، وتفسير الهّم بهذا المقدار لاينافي العصمة.لكن هذا التفسير غير صحيح، لوجوه:

1-لأن الهم لا يطلق على مجرد الميل النفسي الطبيعي بل على قصد الفعل والعزم عليه وقد يشترط فيه ظهور هذا العزم من خلال الإتيان بشيء مما يكشف عنه كمن يهمّ بالضرب فيتوجه الى الطرف الآخر ويتأهب للفعل وهذه كلها لا يمكن نسبتها الى النبي الكريم يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كما اقروا في كلماتهم السابقة قال في الميزان (الهم هو القصد الى الفعل مع مقارنته لبعض الأعمال الكاشفة عن ذلك من حركة الى الفعل المراد أو شروع في بعض مقدماته كمن يريد ضرب رجل فيقوم اليه وأما مجرد ميل الطبع ومنازعة القوة الشهوانية فليس يسمى هماً البتة والهم بمعناه اللغوي مذموم لا ينبغي صدوره من نبي كريم، والطبع وإن كان غير مذموم لخروجه عن تحت التكليف لكنه لا يسمى هماً)(1)، فلا بد ان تكون المعاني التي ذكروها للهم هنا من باب التجوّز كما اعترف الطبرسي في مجمع البيان لتنزيه النبي يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عما لا يليق بساحة عصمته.

وبتعبير آخر ان تفسير الهم بالميل الطبيعي وهو معنى مغاير لما فسرّوا به همها خلاف الظاهر ولا يصار اليه الا بدليل.

2-إن الهم -بأي معنى من المعاني - لم يصدر من النبي يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أصلاً حتى نجتهد في تفسيره بما يناسب عصمة الانبياء، لانه رأى برهان ربّه فلم يهمّ لكن جواب لولا تقدم عليها فيوجد تقديم وتأخير في الآية، نظير قوله تعالى {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} (القصص:10) .36

ص: 292


1- تفسير الميزان- الطباطبائي: 11/ 136

وقد أشكل علماء النحو على هذا الوجه لأنهم يمنعون من تقدم جزاء لولا عليها قياساً على إن الشرطية لانها من ادوات الشرط، وهذا الالتزام المتزمت بقواعد النحو التي استنبطوها اوقعهم في هذا التقصير مضافا الى تشبث البعض في الروايات المكذوبة من اسرائيليات وغيرها، لكن القران الكريم حاكم على قواعد اللغة العربية لانه مصدرها ومرشدها وليس العكس، خصوصا وانه قد وردت رواية عن الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تفسّر الآية بهذا المعنى رواها الشيخ الصدوق في العيون وفيها (فقال له المأمون:يا بن رسول الله اليس من قولك:ان الانبياء معصومون، قال:بلى، قال:فاخبرني عن قول الله تعالى {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} فقال الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):لقد همّت به ولولا ان رأى برهان ربه لهمَّ بها لكنه كان معصوماً، والمعصوم لا يهمّ بذنب ولا يأتيه)(1).أقول:والشاهد على ان الهم الثاني لم يحصل(2) وانه جواب لولا:

أ-الاتيان بالهمين منفصلين ليكون الثاني وحده جواب لولا، ولو حصل الهم من يوسف لما احتاج الى التفصيل بينهما، ونكتة تقديم الجزاء هي ما قلناه من تصوير الحالة بان مقتضي الهم تام ومكتمل لولا لطف الله تعالى مع ما في التعبير من حلاوة البيان لمجاورة الهمّين.

ب-ان (هّم بها) اذا لم تكن جواب لولا بقيت بلا جواب، واذا قيل ان الجواب مقدّر يكشف عنه ما تقدّم قلنا ان التقدير خلاف الاصل وان تقدير).

ص: 293


1- عيون اخبار الرضا:باب مجلس آخر للرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عند المأمون في عصمة الانبياء.
2- وقد اعترفت زوجة العزيز بأن الهم حصل منها وحدّها {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ} (يوسف:32).

الجواب هكذا يؤدي الى تناقض لان(هّم بها) السابقة تثبت الهم وتقديرها في جواب لولا ينفيه. لذا فمحاولة السيد الطباطبائي (قدس سره) وغيره المحافظة على معنى نفي الهم عن الصديق يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مع المحافظة على هذه القاعدة النحوية بأن يُقال أن جواب لولا متأخر عنها لكنه محذوف لدلالة قوله السابق (وهمَ بها) عليها فتكون الفقرة السابقة (وهمّ بها) ((ليس جزاء لها بل هو مقسم(1) به بالعطف على مدخول لام القسم في الجملة السابقة اعني قوله {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} وهو في معنى الجزاء استغنى به عن ذكر الجزاء فهو كقولنا ((والله لأضربنه إن يضربني، والمعنى:والله إن يضربني أضربه))، فلولا ما رآه من البرهان لكان الواقع هو الهم والاقتراب دون الارتكاب والاقتراف))(2). محل نظر، مضافا الى ان فيه إقراراً بحصول الهم من يوسف بأي معنى كان والمفروض نفيه. 3-وينسجم ما ذكرناه من فهم الآية على انها تقديم وتأخير مع ما قدمناه من تفسير الآية فإنه حتى الميل النفسي بالمقدار الطبيعي الغريزي لم يحصل لا لنقص بايولوجي أو سايكولوجي أو فسيولوجي في جسمه وإنما لأمرين على الأقل:

أ-لأنه كان والهاً بربه مستغرقاً بحبه ولم يكن يرى غيره تبارك وتعالى لا المرأة أمامه ولا غيرها فذوبان النبي يوسف في عشق ربه وفناءه فيه لا يقارن بانجذاب النسوة الى جمال يوسف حتى ذهلن عن السكين وقطع ايديهن، فيوسف اولى بالذهول عن المرأة وغيرها بحيث أنساه ولهه ((الاسباب كلها حتى أنساهه.

ص: 294


1- باعتبار أن اللام للقسم فالمعنى أقسم لقد همت به لقضاء وطرها.
2- الميزان في تفسير القران:11/ 131 وقد نقل في 11/ 138 هذا المعنى عن الزمخشري في كشافه.

نفسه فلم يقل:إني أعوذ منك بالله أو ما يؤدي معناه، إنما قال (مَعَاذَ اللّهِ) وكم من الفرق بين قوله هذا وبين قول مريم للروح لما تمثل لها بشراً سوياً {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً} (مريم:18)(1).وقد ((استغرق في حب ربه واخلص وصفى ذلك نفسه فلم يترك لشيء في قلبه محلاً غير حبيبه فهو في خلوة مع ربه وحضرة منه يشاهد فيها جماله وجلاله وقد طارت الاسباب الكونية على مالها من ظاهر التأثير من نظره))(2).

ب-إن الغرائز والشهوات يستثيرها تزيين الشيطان - وهذه هي وظيفته- وعندما تُسلَبْ قدرة الشيطان على التزيين فإن هذه الشهوات تفقد سبباً رئيسياً لإثارتها مع وجودها في النفس الانسانية، وقد اعترف الشيطان بأنه لا سبيل له على المخلصين وليست له القدرة على إغوائهم فقد حكى الله تبارك وتعالى قوله {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (ص:82-83) وقد قال الله تعالى في الآية محل البحث عن النبي يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (يوسف:24) فهو من مأمن من تزيين ابليس وشياطينه، ولا تتحرك غريزته وشهوته نحو الحرام لعدم وجود التزيين.

مضافا الى وجود الصوارف عنها – وهو برهان ربه - كما ان الجائع لا يشتهي الطعام عند وجود صوارف كالخوف والقلق والانشغال بمن يحب ونحو ذلك، فالغرائز فيها مقتضي التحرك نحو ما يلبي شهوتها الا أن ذلك مشروط5.

ص: 295


1- الميزان في تفسير القران. 11/ 126.
2- الميزان في تفسير القران:11/ 125.

بوجود المقتضي وهو التزيين وبعدم وجود الصارف وكلا الشرطين مفقودان هنا.

في كيفية الحصانة من ضغط الشهوات والمغريات:

أما كيفية حصول هذه الحصانة من ضغط الشهوات والمغريات وتحرره من أسرها والسقوط في هاويتها وعدم تأثره بمثيراتها أصلاً فبالالتفات الى امور صرّح بها الصديق يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) {قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (يوسف23)، وقد كانت مكتملة عنده لأنه نبي معصوم ولذا ورد في الحديث الشريف (إن برهان ربه كانت النبوّة)(1).

أ-والاستعاذة به واللجوء الى حصنه المنيع فالإنسان بمفرده عاجز عن تجاوز الامتحانات السهلة فضلاً عن الصعبة لكنه يستمد التسديد والمعونة والعصمة من الله تالى (لا حول ولا قوة الا بالله). وفي دعاء الصباح لامير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وَاِنْ خَذَلَني نَصْرُكَ عِنْدَ مُحارَبَةِ النَّفْسِ وَالشَّيْطانِ فَقَدْ وَكَلَني خِذْلانُكَ اِلى حَيْثُ النَّصَبُ وَالْحِرْمانُ) (2).

ب-يقينه أنه مربوب أي مملوك مدبر من قبل الله سبحانه لا يملك لنفسه شيئا الا ما يريده ربه منه (فلم يقل:لا أفعل ما تأمرونني به ولم يقل:لا أرتكب كذا، ولم يقل:أعوذ بالله منك وما شابه ذلك حذرا من دعوى الحول والقوة واشفاقا من وسمة الشرك والجهالة)(3).

ص: 296


1- بحار الانوار:12/ 335.
2- مفاتيح الجنان: 112
3- الميزان:11/ 127.

ت-الالتفات الى نعم الله العظيمة التي لا تُعد ولا تُحصى ورعايته وتربيته الرحيمة المستمرة {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} (يوسف:23) منذ أن ولد وعاش في كنف أبيه النبي يعقوب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وجعله من ذرية إبراهيم وإسحاق ونجاته من كيد إخوته الباغين الحاسدين ومن الجب ونقله الى مصر وتمكينه في بيت عزيز مصر وآتاه الله العلم والحكمة وغيرها مما لا يُعد ولا يُحصى ((فكان (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مملوء الحس مستغرق النفس في مشاهدة الطاف ربه الخفية يرى نفسه تحت ولاية الله محبوراً بصنائعه الجميلة لا يرد الا على خير، ولا يواجه الا جميلا))(1).ث-استحضار سوء عاقبة مرتكب المعصية في الدنيا والآخرة {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}، وفي هذا الفعل ظلم لربه وظلم لنفسه وظلم لعزيز مصر الذي اكرمه.

في معنى برهان ربّه:

فهذه الامور التي كانت حاضرة في وجدان النبي يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وجلية في قلبه الطاهر هي برهان ربه الذي أشرق في نفسه بكل وضوح وجلاء - والبرهان من َبرِه يَبرَه إذا ابيضّ دون مخالطة أي كدورة فأطلق على كل دليل محكم قوي يدل بوضوح على المطلوب- فلم تتطلع نفسه الى المعصية ولم تمل اليها فضلاً عن الوقوع بها {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} فلولا أنه كان واجداً لبرهان ربه لصدر منه الهمّ بالمعصية والميل اليها باعتبار الظروف القاهرة في تلك الحال، فهنا تقدم جواب لولا على شرطها لنكتة مجاورة التعبير بالهم او للإشارة الى ان ظروف الوقوع في المعصية قد اكتملت بقوة، وتقديرها لولا انه

ص: 297


1- الميزان:11/ 123.

رأى برهان ربه لهم بها، ولكنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كان يعتقد أنه في محضر ربه في أعلى درجات اليقين فلم يهمّ أصلاً، وقد تقدمت الرواية عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في هذا المعنى. فمع هذا الحضور الجليّ اليقيني الذي عبّر عن مثله امير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بقوله (ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت الله قبله وبعده ومعه وفيه)(1) كيف يتصور هم يوسف بأي معنى للهم حتى النزوع الغريزي الطبيعي لأنه يحتاج الى ظروف طبيعية ليتوجه ولعدم وجود موانع وصوارف.

هل يصل غير المعصوم الى الحصانة اليوسفية؟

والسؤال هل يتمكن غير المعصوم من الوصول الى هذه الدرجة من الحصانة والعناية الالهية التي احاطت النبي يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، والجواب:نعم بالتأكيد من خلال الالتفات الى الامور المتقدمة، قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِ-رُونَ} (الأعراف:201) فالان عرفنا ما معنى (تذكروا) اي التفتوا الى هذه الامور التي ذكرها الله تعالى ليوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهذا هو مضمون البرهان الذي راه من ربه، قال تعالى مبيناً انفتاح الفرصة للجميع {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (النحل:99). فالمؤمن المخلص يتذكر ربَّه المنعم عليه دائماً ويعيش في حضرته المتعالية ويعلم العاقبة السيئة لمن يبتعد عنه تبارك وتعالى، وحينئذٍ يدركه هذا البرهان ويعينه عند التعرّض للامتحانات وانما يتحصل ذلك البرهان بالازدياد بالطاعات التي تنفعه في

ص: 298


1- تفسير مواهب الواهب 2:36. وكذا في كتاب علم اليقين:1/ 49.

لحظات الامتحان الصعبة، كمن يدّخر المال ليوم فقره وفاقته، قال تعالى {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} (الأنفال:29).والتجربة شاهدة على ذلك حيث يحكي البعض عن تعرضه لمثل هذه الاغراءات والمكائد لكنه لا يجد في نفسه أي حركة في اتجاهها أو أي (همّ) لفعلها لا لنقص في قواه البدنية والشهوية وإنما لأن الشيطان كان مغلولاً عنه فلم يزيّن له المعصية، والنفس وحدها من دون تزيين لا تتوجه نحو الفعل.

ولكي اوضح مدخلية التزيين اشير الى حالة معروفة لدى الكثيرين، مثلاً رجل عنده زوجة ولا يشعر بإثارة نحوها وقد يكون في بداية زواجه منها، لكنه يقع في هوى امرأة أجنبية اخرى وهو يعترف بأن زوجته قد تكون أجمل والطف وأرق مشاعر ومتحببة ومتوددة اليه ونحو ذلك، فلماذا هذا التناقض في الميول؟ والجواب انه تزيين الشيطان للثانية دون الاولى لأنه يريد أن يوقع الانسان في المعصية ويخرّب بيت الزوجية المبارك الذي ما بُني بناء في الاسلام مثله.

ولا بد أن نشير الى أن هذا الالتفات الاعتقادي القلبي وحده لا يكفي ما لم يقترن بالعمل قال تعالى مبينا علة استحقاق يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لهذه المراتب السامية {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (يوسف:22) وقال تعالى على نحو القاعدة العامة، ولا تختص بالمعصومين {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (النحل:128).

ص: 299

القبس/69: سورة يوسف:108

اشارة

{قُل هَذِهِ سَبِيلِي أَدعُواْ إِلَى ٱللَّهِ ۚ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي ۖ}

موضوع القبس:البصيرة بوصلة السلوك الإنساني

تبّين الآية واحدة من وظائف الأنبياء والرسل والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) ومن تبعهم وحمل رسالتهم من العلماء العاملين الرساليين، وهي الدعوة الى الله تبارك وتعالى قولاً وفعلاً وعرض المشروع الإلهي على الناس واقناعهم به وهدايتهم.

وتبّين الآية ايضاً واحدة من مميزات هؤلاء القادة وخصائصهم التي تميزّهم عن غيرهم من الزعامات وتُعرِّف الأمة كيف يفرزون قياداتهم الحقة عن طلاب الدنيا ولو بأسم الدين.

وهذه الخصوصية هي الصراحة والشفافية مع الأمة (هَ-ذِهِ سَبِيلِي) وامتلاك الرؤية الثاقبة والنظر الدقيق ووضوح الأهداف وآليات العمل لديه المعبّر عنها في الآية ب- (البصيرة) وهي البوصلة التي ترسم المسار الصحيح للإنسان في كل حركاته وسكناته، وهذه البصيرة من الله تعالى والى الله تعالى، وما دام على بصيرة من ربّه فلا تخبّط في مسيرته ولا تناقض في أهدافه ولا تحرّكه الشهوات والانفعالات ولا تؤثر عليه هتافات الناس ولا تزويق المتزلفين ولا تخدعه المكائد والحيل وهذا لا يُدرك إلا بلطف الله تعالى.

ص: 300

والبصر والبصيرة أصلهما واحد وهي النظر والرؤية المدركة المنتجة للعلم والمعرفة وليست كل رؤية ونظر قال تعالى {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} (الأعراف :198) فهم كالحيوانات لها عيون تنظر بها لكنها لا تفيدها علماً ولا معرفة، عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (ليس الاعمى من يعمى بصره، إنما الاعمى من تعمى بصيرته)(1).وكم من حالة او موقف ينظر اليه كثيرون لكن القليل ممن ينظر اليه بفكر واعتبار وتأمل {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} (الأعراف:179) وإن كانت مفتوحة وينظرون بها الى الأشياء، وإنما يستفيد مما حوله في الحياة من كان له بصرٌ وبصيرة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ} (آل عمران:13) وليس لكل من لديه عين ينظر بها، وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (بالاستبصار يحصُلُ الاعتبار)(2).

والفرق بين البصر والبصيرة ان الأول بالعين والثانية بالقلب والعقل فقوله تعالى (عَلَى بَصِيرَةٍ) أي على حجة بينةٍ واضحةٍ من ربي {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَ-ذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:203).

واضافة (وَمَنِ اتَّبَعَنِي) اليه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تشريف لهم بالحاق دعوتهم بدعوته المباركة، وأعلى مراتب البصيرة التامة ما عند المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لذا فأنهم القدر1.

ص: 301


1- كنز العمال:1220.
2- غرر الحكم/4351.

المتيقن من قوله تعالى {وَمَنِ اتَّبَعَنِي} وفي أصول الكافي بسنده عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير هذه الآية قال:(ذاك رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والاوصياء (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من بعدهما)(1).فهؤلاء القمم من أهل البصائر هم من يجب اتباعهم والأخذ عنهم {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (يونس:35).

ثم تتفاوت مراتب البصيرة عند اتباعهم (صلوات الله عليهم أجمعين) في حمل الرسالة المباركة والدعوة الى الله تعالى بحسب درجة تقواهم وقربهم من الله تعالى وبحسب نقاوة فطرتهم وسلامة عقولهم وتفكيرهم وطهارة نفوسهم وقلوبهم {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} (القيامة:14)، فهذه باختصار المقتضيات الذاتية أي من نفس الانسان لتحصيل البصيرة وتهيئة الانسان نفسه لها وهي (التقوى، طاعة الله تعالى، نقاء الفطرة، سلامة العقل والفكر، طهارة النفس والقلب).

وخير وسيلة لتحصيل البصيرة التدبر في القرآن الكريم ومعرفة آياته، وقد وصف الله تعالى كتابه الكريم بهذا، قال تعالى {قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} (الأنعام:104) وقال تعالى {هَ-ذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:203) وقال تعالى {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ} (الجاثية:20) وقال تعالى {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}8.

ص: 302


1- البرهان في تفسير القرآن:5/ 178.

(القصص:43)،وروي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (بالهدى يكثُرُ الاستبصار)(1).ومن أهم وسائل تنوير البصيرة مراقبة النفس وإصلاح عيوبها وأخطائها، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (أبصر الناس من أبصر عيوبه وأقلع عن ذنوبه)(2)، وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ألا وإنّ أبصر الأبصار ما نفذ في الخير في طرفُه، ألا إنّ أسمع الأسماع ما وعى التّذكير و قَبِلَه)(3).

ومن موجبات البصيرة الاستفادة من المواعظ والعبر وتذكّر أيام الله تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (القصص:43).

لذا لا نستغرب ممن فقد هذه الأدوات لتحصيل البصيرة وتنويرها أن يضلَّ بنفس القرآن الكريم الذي هو زادُ المستبصرين، ويستعمل القرآن نفسه لإضلال الناس وصرفهم عن اهل البصيرة، روي في الدر المنثور في تفسير قوله تعالى {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ} (الأعراف:202) بسنده عن عمر بن الخطاب قال:كنا عند رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مجتمعين وأنا أعرف الحزن في وجهه فقال:إنا لله وإنا إليه راجعون! قلت:يا رسول الله! إنا لله وإنا إليه راجعون، ماذا قال ربنا؟ قال:أتاني جبريل آنفاً فقال:إنا لله وإنا إليه راجعون، قلت:أجل، إنا لله وإنا5.

ص: 303


1- غرر الحكم:4816.
2- غرر الحكم:3061.
3- نهج البلاغة:الخطبة/105.

إليه راجعون، فمم ذاك يا جبريل؟ قال:إن أمتك مفتنة بعدك بقليل من الدهر غير كثير، فقلت:فتنة كفر أو فتنة ضلالة؟ قال:كل ذلك سيكون، قلت:ومن أين يأتيهم ذلك وأنا تارك فيهم كتاب الله؟ قال:بكتاب الله يضلون، وأول ذلك من قبل قرائهم وأمرائهم، يمنع الأمراء الناس حقوقهم فلا يعطونها فيقتتلون ويتبع القراء أهواء الأمراء فيمدون في الغي ثم لا يقصرون، قلت:يا جبريل؟ فبم سلم من سلم منهم؟ قال:بالكف والصبر، إن أعطوا الذي لهم أخذوه وإن منعوه تركوه)(1).لقد عانى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من فقدان البصيرة لدى أكثر الناس {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف:103) وابتلي أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بحرب أناس يحوطون بالجمل ويتبركون بخروجه ويشمونه ويقولون ما أطيب ريح روث جمل أمّنا أم المؤمنين، وابتلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بقتال اناس في صفين لا يفرقّون بين الناقة والجمل ويصدّقون كل شيء يقال لهم وان علياً لا يصلي، ومثل هؤلاء الاقوام من فاقدي البصيرة موجودون في كل زمان ومكان يُبتلى بهم القادة المصلحون ويكونون عقبة كؤود في طريقهم.

ولذا كان الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) يشكون من ندرة أهل البصيرة في اتباعهم، ففي الحديث المعروف لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مع كميل (يَا كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ إِنَّ هَذِهِ اَلْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا) الى أن قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إن ههنا3.

ص: 304


1- الدر المنثور للسيوطي:3/ 633.

لعلماً جماً - وأشار إلى صدره - لم أصب له خزنة(1) بلى أصيب لقنا غير مأمون، مستعملا آلة الدين في طلب الدنيا، يستظهر بحجج الله على أوليائه وبنعم الله على معاصيه أو منقادا لحملة الحق لا بصيرة له في أحنائه، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، اللهم لا ذا ولا ذاك، أو منهوما باللذة سلس القياد للشهوة، أو مغرما بالجمع والادخار ليسا من رعاة الدين ولا من ذوي البصائر واليقين)(2).إن أوضح ما يمّيز الاتباع الحقيقيين للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وآله الكرام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنهم على بصيرة من امرهم ومنهم أبو الفضل العباس بن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فمما خاطبه به الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في زيارة وارث المعروفة قوله (وأنك مضيت على بصيرة من امرك مقتدياً بالصالحين ومتبعاً للنبيين)(3) وهكذا كان أصحاب ابي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) المستشهدين بين يديه يشهد بذلك العدو قبل الصديق، فقد روى أصحاب التواريخ والمقاتل انه لما كثرت المبارزة بين أصحاب الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وجيش يزيد وكان النصر لأصحاب ابي عبد الله، صاح عمرو بن الحجاج الزبيدي (يا حمقى أتدرون من تقاتلون؟ فرسان المصر وأهل البصائر وقوماً مستميتين لا يبرزَّن لهم منكم أحدٌ، والله لو لم ترموهم إلا بالحجارة1.

ص: 305


1- من هنا يصنّف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنواع الناس الى أربعة أصناف غير جديرين بحمل علمه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).
2- نهج البلاغة (من كلامه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لكميل بن زياد).
3- مفاتيح الجنان: 511.

لقتلتموهم)(1).وهكذا إذا كنّا صادقين في موالاتنا للإمام الحسين (عليه اللام) ونصرتنا له (ونصرتي لكم معدّة)(2) (يا ليتنا كنا معكم)(3) وصادقين في انتظار امامنا المهدي الموعود (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والمشاركة في بناء دولته المباركة فعلينا أن نستزيد من البصيرة في علاقتنا مع ربنا، وهذا ما ورد في أدعية الغيبة وتعجيل الظهور، وفي احدها (وارزقنا مرافقة اوليائك ووليك الهادي المهدي الى الهدى وتحت لوائه وفي زمرته شهداء صادقين على بصيرة من دينك إنك على كل شيء قدير)(4).

فقدان البصيرة سمة المجتمع غير الإيماني:

يستفاد من القرآن الكريم أن من سمات المجتمع البعيد عن التربية الإيمانية هو فقدان البصيرة والقدرة على تمييز الحق من الباطل، وانقلاب موازين النظر عنده في الأمور كلها.

ولنأخذ مثالاً على ذلك حيث نجد المجتمع الجاهلي البعيد عن النظرة الإلهية يعيش لدنياه ويراها غاية أمله فيصارع من أجل الاستزادة منها {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} (الجاثية:24).

لكن المجتمع الرباني يعتقد بوجود الآخرة ويعمل لها لأنها الحياة الباقية،

ص: 306


1- مقتل الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) للخوارزمي:2/ 15.
2- مفاتيح الجنان: 544-501
3- مفاتيح الجنان: 544-501
4- البحار :98/ 302 عن اقبال الاعمال والبلد الأمين والتهذيب.

ويرى الحياة الدنيا مزرعة، قال تعالى {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت:64).والمورد الآخر اغترارهم بما عندهم من قوة وإمكانيات ماديّة هائلة فيظنون أنهم الرب الأعلى المدبّر لأمور الناس {وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} (الشعراء:44).

أما المنطق الرباني فيؤكد حقيقة {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (المنافقون:8) و {إَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً} (البقرة:165) ويصف أولئك المغرورين بأنّهم {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت:41).

التحذير من فقدان البصيرة:

وقد حذّر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أمته من الرجوع إلى هذه الحالة بعد أن أنقذهم الله تعالى بالإسلام، ووقوعهم مرة ثانية في فتنة فقدان البصيرة وإنقلاب موازين النظر في الأمور واعتبرها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الحالة الأشد خطورة من وقوع المنكر والفساد نفسه، ففي الحديث عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):كيف بكم إذا فسدت نساءكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟ فقيل له:ويكون ذلك يا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)؟ فقال:نعم وشرُّ من ذلك كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ فقيل له يا رسول الله ويكون ذلك؟ قال:نعم وشرُّ

ص: 307

من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً).(1)

تصحيح المفاهيم المقلوبة:

وقد وقعت الأمة في هذه الفتنة بعد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبلغت ذروتها في عهد يزيد بن معاوية، ولهذا كان من الأدوار المهمّة التي أدّتها ربيبة القرآن والنبوّة والإمامة العقيلة زينب (س) هي إعادة الأمة إلى وعيها وبصريتها، وتصحيح موازين النظر عندها، ولنأخذ مثالاً على ذلك جانباً من خطابها، فقد كان يزيد وابن زياد وأزلامهم يعتقدون أنّهم هم المنتصرون فأخذتهم سكرة الغلبة ونشوتها كما وصفتهم العقيلة زينب (فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة والأمور متّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا)(2).

وتصبح مشكلة المفاهيم المقلوبة أخطر حينما تُستغل لخداع الناس وتُجعل دليلاً على شرعية حكم أولئك الطواغيت وسلطتهم، وهذا ما نبّهت إليه العقيلة زينب (صلوات الله عليها) (أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نُساق كما تُساق الإماء أنّ بنا على الله هوناً وبك عليه كرامة!! وأنّ ذلك لعظيم خطرك عنده، فمهلاً مهلاً، أنسيت قول الله عز وجل {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (آل عمران:178))(3).

ص: 308


1- وسائل الشيعة، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب1 ح12.
2- الاحتجاج:ج2 ص123، والبحار:ج45 ص157.
3- الاحتجاج:ج2 ص123، والبحار:ج45 ص157.

السيدة زينب (س) تبين من هو المنتصر الحقيقي:

فهي (سلام الله عليها) لم تكتفِ بالإدلاء بحقيقة أنّ هذا ملكنا وسلطاننا خاصة ونحن أحقّ بالأمر من هذا الظالم المدّعي، ولكن فضحت هذه الأساليب لخداع الناس وأيقظتهم بأنّ هؤلاء المتسلّطين ليسوا هم أصحاب الحق، ولا يزال إلى اليوم من يموّه على الناس ويكتسب شرعيته من كثرة الأتباع وشهرة العنوان وإغداق الأموال لفرض الأمر الواقع وإقناعهم بأنّ سلطته شرعية وإبعاد الحق عن أهله.

فتواجه العقيلة زينب الطاغية يزيد بالحقيقة الدامغة وبيان المنتصر الحقيقي (فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحونَّ ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترخص عنك عارها. وهل رأيُك إلاّ فند، وجمعك إلاّ بدد، يوم ينادي المنادي:ألا لعنة الله على الظالمين فالحمد لله الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة)(1).

ووقفت نفس الموقف في الكوفة أمام الطاغية عبيد الله بن زياد حينما قال شامتاً:(الحمدُ لله الذي فضحكم وقتلكم وأبطل أحدوثتكم).

فتصدت له بشجاعة وبلاغة أخذتهما من أبيها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قائلة:(الحمدُ لله الذي أكرمنا بنبيّه، وطهّرنا من الرجس تطهيرا، إنما يُفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا يا بن مرجانة).

وحاول أن يغطي فشله وهزيمته بمزيد من الشماتة قائلاً:(كيف رأيتِ صنع الله بأخيكِ) فأجابت (سلام الله عليها):(ما رأيتُ إلاّ جميلاً، هؤلاء قومٌ كتب الله

ص: 309


1- انظر:الاحتجاج:ج2 ص123، والبحار:ج45 ص157.

عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاجَّ وتخاصم، فانظر لمن الفلح يومئذٍ، ثكلتك أمّك يا بن مرجانة) (1).هكذا أعادت العقيلة زينب الأمور إلى نصابها وبيّنت من هو المنتصر الحقيقي وهزمت هؤلاء الطواغيت وجيوشهم الجرّارة التي غلبت بالسيف لكنّها هُزِمت بالبيان والحجة الدامغة فقلبت أفراحهم أحزاناً.

علينا أن نستفيد من الدرس الزينبي:

وعلينا نحن أن نستفيد من هذا الدرس الزينبي ونُصحِّح جملة من المفاهيم والرؤى والنظريات التي أُريد بها خداع الناس وتسييرهم بالاتجاه الذي يريده أصحاب تلك الأجندات الهدّامة، ولنأخذ على ذلك مثالاً من عالم المرأة ممّا حاولوا به خداعها ودفعوها إلى ما يريدون من الانحلال والفساد ومزاحمة الرجال وترك وظيفتها الأساسية في بناء الأسرة الصالحة وتنشئة الجيل الصالح وهو شعار (المساواة).

أبواق المساواة بين الرجل والمرأة:

فهل المساواة مطلب عقلائي؟ وتعبير آخر هل إن المساواة حق دائماً؟ والجواب هو النفي، نعم إذا كان المطلوب مساواة الرجل والمرأة بالاستحقاق والجزاء فهذا حق وقد كفله الشارع المقدّس {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} (آل عمران:195) {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات:13) سواء كان ذكراً أو أنثى.

ص: 310


1- المصدر السابق.

فلسفة التمايز بين الرجل والمرأة:

أما إذا أرادوا بالمساواة مماثلة المرأة للرجل في الوظائف والأعمال التي يؤديانها فهذا مطلبٌ غير عقلائي، بل فيه ظلمٌ للمرأة، لأن طبيعة خلقها وفسيولوجيتها وسايكولوجيتها تنسجم مع وظائف غير ما كُلّف به الرجل، فالمساواة هنا من الظلم وليس من العدالة، ومثله كمثل الطبيب الذي يعطي نوعاً واحداً من الدواء إلى مرضى متنوعين، وكالمدرّس الذي يعطي درجة واحدة لكل طلبته في الامتحان مع تفاوت إجاباتهم، وهذا هو الظلم بعينه والمطلوب تحقيق العدالة وهي قد تقتضي المساواة وقد لا تقتضي المساواة بحسب الموارد وهذا ما كفلته الشريعة المقدسة، فلو أعطينا للولد ميراثاً بقدر البنت لكان ظلماً، لأن الرجل هو الذي يصرف على المرأة ويكفل لها كل احتياجاتها فهي تشاركه في حصته، ولا يشاركها في حصتها فكيف يتساويان في الاستحقاق.

فهذه المراعاة لتكوين كل من الرجل والمرأة وطبيعة وظائفهما مما تقتضيه الفطرة، وجرت عليه سيرة العقلاء، ويشهد به الواقع وخذ نماذج عشوائية من تركيبة مجتمعات الغرب المدعيّة للتحضّر وانظر هذه المراعاة، كتشكيلة الحكومة أو عدد الطيارين أو عدد قادة الوحدات العسكرية وقيادات الجيش وانظر نسبة النساء إلى الرجال ستجدها ضئيلة فأين المساواة التي يريدون تسويقها إلينا؟

مصطلح سن اليأس:

وبهذه المناسبة نشير إلى مصطلح متداول يخصّ المرأة وهو ((سنّ اليأس)) الذي يراد به عمر الخمسين للمرأة وتُسمى المرأة باليائس، وهو قد يكون له منشأ صحيح حيث يحصل فيه اليأس من الإنجاب لانقطاع الدورة الشهرية، إلاّ أنّ هذا

ص: 311

العنوان اُخذ على إطلاقه وكأنّه سن اليأس من الحياة، مما ولّد شعوراً عندها بالإحباط وفقدان الأمل وأنّها أصبحت لا قيمة لها وانتهى دورها في الحياة وأحيلت على التقاعد كما يُقال، فتعتريها أعراض نفسية وعصبية قد تفاقم المشكلة عليها، وهذه الأعراض ليس لها أصلٌ فسيولوجي أو عضوي كما يشهد به الأطباء، أي أن بلوغ المرأة هذا العمر لا يصاحبه أي تغيير في جسمها يقتضي هذه الأعراض، وإنما هي نتائج صنعتها المرأة بنفسها بسبب ذلك الشعور الذي غذاهُ المصطلح البائس.فالأليق أن يُسمى هذا العمر للمرأة (سن الكمال والنضج وتمام الرشد) لاكتمال تجربة المرأة في الحياة بعد أن تكون قد ربّت جيلاً كاملاً وتعلّمت الكثير، وهو سن التفرغ لنفسها ولآخرتها ولزوجها بعد أن انتهت من وظائف الحمل والإنجاب والتربية، وشبّ أبناؤها وبناتها فهم يعينونها على قضاء حوائجها فهذا العمر فرصة مثمرة لكي يجتمع الزوجان من جديد على حياة زوجية يتفرغان لبعضهما ويلتفتان لآخرتهما وينشغلان لما يقرّبهما إلى الله تعالى من الطاعات والقربات مما لم تكن مشاغلهما السابقة تسمح لهما بها، كالسفر لأداء الحج والعمرة وزيارة المعصومين (صلوات الله عليهم) والصلاة المستحبة والصوم وقضاء ما فات ومطالعة الكتب، والمساهمة في الأعمال الخيرية والتبليغ الديني والوعظ والإرشاد وغيرها من فرص الكمال.

ص: 312

القبس/70: سورة الرعد:11

اشارة

{لَهُۥ مُعَقِّبَت مِّن بَينِ يَدَيهِ وَمِن خَلفِهِ يَحفَظُونَهُۥ مِن أَمرِ ٱللَّهِ ۗ} (1)

موضوع القبس:الملائكة الحارسة

معنى التعقيب:

التعقيب هو ان يأتي شيء بعد شيء ويتلوه كتعقيب الصلاة بالدعاء والذكر بعدها مباشرة، وأُستعير للولد وولد الولد فسُمّوا اعقاباً لانهم يتلون ابائهم ويخلفونهم، قال تعالى {لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} (الرعد:41) اي لا يوجد من يملك حق المراجعة والنظر في حكم الله تعالى وفعله ومعارضته والغائه، وهي جملة خبرية تنبئي عن هذه الحقيقة، وبنفس الوقت تفيد انشاء النهي عن الخوض في البحث عن علة التشريعات والجدوى منها وحكمتها اذا لم يرد بها بيان شرعي كالنهي عن الخوض في القدر والذات الالهية.

والاعتقاب:ان يتعاقب شيء بعد آخر كإعتقاب الليل والنهار، فالمعقبات(2)

ص: 313


1- كلمة القاها سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) يوم الجمعة 15/ذح/1435 الموافق 10/ 10/ 2014 تزامناً مع احتفال المسيحيين الكاثوليك بعيد الملائكة الحارسة.
2- هذا ما اردنا بيانه من وجوه تفسير الآية، ويمكن أن يكون معناها ان هذه الملائكة تتعقب الانسان وتحفظ عليه كل شيء حتى لحظات العيون وخطرات الظنون، فيكون الضمير في (له) يرجع للإنسان ويكون قوله تعالى (مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) متعلقاً بالمعقبات وليس ب-(يحفظونه) بل تكون كلمة (يحفظونه) كالبيان التوضيحي وإلا فان كلمة معقبات كافية للدلالة على هذا المعنى، وهذا المعنى لعله انسب

في الآية ملائكة تتعاقب على العبد حافظة له، وهي جمع مفرده معقبّة، ومعناها الجماعة التي تتعاقب او انها صيغة مبالغة من معقِّ-ب كالعلاّمة او البحّاثة او الرحّالة.

الرحمة الغيبية:

فالآية تبين لنا حقيقة غائبة عنا ولا نستطيع ان ندركها بأبصارنا وحواسنا لأنها من عالم الغيب، وتُعدُّ من نعم الله تعالى على عباده التي لم يُلتفت اليها، وهي ان له تعالى عند كل احد ملائكة تتعاقب عليه في جميع اوقاته لتحفظه بأمر الله تعالى من امر الله الذي قضى بجريان السنن والقوانين التي تحكم عالم الموجودات أن تؤثر فيه، كما ان الله تعالى يغلّب رحمته بأمره تبارك وتعالى على عدله الذي هو من امره تعالى (يامن سبقت رحمته غضبه)(1).

ومن هذا القبيل ما روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انه كان جالساً الى جدار آيل للسقوط ثم قام عنه لئلا يسقط عليه فقيل له:يا امير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):أتفِرٌّ من

ص: 314


1- مفاتيح الجنان: 134.

قضاء الله ؟ قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أفر من قضاء الله إلى قدره عز وجل)(1).

في جريان القضاء والقدر:

اي ان الله تعالى قضى ووضع قوانين كلية تسيِّر هذا الكون كاقتضاء السقوط من شاهق الى الارض تكسّر العظام والموت، او اقتضاء الغرق في الماء انقطاع النفس والموت، الا ان يتخذ التدابير المانعة من ذلك، او يمتنع اصلاً من المضي في هذه الافعال، فالقوانين المؤثرة هي قضاء الله تعالى، اما قدره فهو تحقيق اسباب جريان هذه القوانين والانسان هو الذي يختار هذا الطريق او ذاك وعندئذٍ يقّدر الله تعالى له ما يشاء بحسب المقدمات التي يختارها بنفسه.

يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ:

وفي رواية عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يفسّر فيها قوله تعالى يحفظونه من امر الله قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (بأمر الله، من ان يقع في رَكيّ- وهي البئر – او يقع عليه حائط او يصيبه شيء حتى اذا جاء القدر خلّوا بينه وبينه، يدفعونه الى المقادير، وهما مَلَكان يحفظانه باليل، وملكان بالنهار يتعاقبانه) ومثله(2) حديث عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وفي نهج البلاغة عن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ان مع كل انسان ملكين يحفظانه فاذا جاء القدر خلّيا بينه وبينه).

هذه الحقيقة يستطيع ان يدركها الفطن الواعي ببصيرته ووجدانه عندما يلتفت الى احتمالات الخطر والضرر المحيطة به من لدن تكوّنه حملاً في بطن امه وبعد ولادته ونموّه طفلا صغيراً وفي كل مراحل حياته، فلو فكر في حصول خلل

ص: 315


1- توحيد الصدوق ص369.
2- راجعها في تفسير البرهان :5/ 194.

ما في تركيب جسمه ووظائف اعضائه او عندما يركب الطائرة او السيارة او يمارس عملاً معيناً ثم يتصور ما يمكن ان يحصل له فانه يصاب بالذهول والرعب وانهيار الاعصاب لكن الله تعالى سخّر الملائكة المتعاقبة لتدفع عنه كل تلك الاحتمالات ويستمر في حياته ويعمّر طويلاً، بل قد يتعرض فعلا لحوادث خطيرة ثم يخرج منها سالما معافى.

الحفظ المعنوي:

وينبغي الالتفات ايضاً الى الحفظ المعنوي – اذا صحّ التعبير – وذلك من خلال تأثير الملائكة الحافظة في الدعوة الى فعل الطاعة وتزيينها وترغيب الانسان فيها، وتجنيب المعصية وتكرهيهها للإنسان وهو ما يسمى بالتوفيق واللطف الذي يجريه الله تعالى على ايدي ملائكته، وقد يكون الامر اكثر من ذلك بان تهيئ له موضوع الطاعة كأن تجعله يلتقي بشخص محتاج ليساعده او تأتي به الى مكان ليستمع موعظة مفيدة تنفعه او يذهب باتجاه معيّن ثم يحس بداخله ما يدعوه الى تغيير مساره فيجد نفسه انه قد ازداد حسنة او اجتنب سيئة، وبالمقابل تجنبّه موارد المعصية وتحول بينه وبينها او تُوجِد موانع لارتكابها، حتى لو ارتكبها فان تلك الملائكة تمنع حصول تداعيات وآثار سلبية لها عليه.

في الحديث عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(للمؤمن اثنان وسبعون سترا فاذا اذنب ذنباً انهتك عنه ستر، فان تاب ردّه الله اليه وسبعة معه، وان ابى الا قُدما قُدما في المعاصي تهتك استاره، فان تاب ردّها الله اليه ومع كل ستر منها سبعة، فان ابى الا قدما قدما في المعاصي تهتك استاره، ويبقى بلا ستر واوحى الله تعالى الى

ص: 316

ملائكته ان استروا عبدي بأجنحتكم)(1).فهذه الملائكة موّكله من قبل الله تعالى بحفظ الانسان من جريان القوانين الطبيعية التي اودعها الله تعالى في الكون على خلاف مصلحته وخيرِه رحمة وفضلا من الله تعالى فالإنسان أعجز من ان يواجه وحده كل تقلبات الكون وأحداثه وحوادثه والعوامل المؤثرة فيه وهي كلها من أمر الله تعالى.

درسان مستفادان من الآية:

ونستطيع الان ان نستخلص من الآية درسين مهمين في حياة الانسان:

1-تطمينه من قبل الله تبارك وتعالى بأن مع كل انسان من يحفظه ويرعاه ويدفع عنه كل ما لا يلائم صلاحه، فلا داعي الى القلق والمخاوف والهواجس المرعبة مما يحصل في المستقبل القريب او البعيد، هذا القلق الذي تعاني منه الشعوب في الغرب رغم توفر اسباب الترف والحياة المنعّمة وتؤدي ببعضهم الى الانتحار ليتخلص بزعمه من هذا الرعب والخوف ولو التفت الى هذه الحقيقة القرآنية لاطمأن بوجود رب شفيق رحيم ودود يرعاه ويخصص ملائكة لحفظه ورعايته.

2-في الآية تكريم عظيم للإنسان من خالقه بأن يجعله اداة تنفيذ عملية الاصلاح وتحقيق السعادة التي يريدها الله تعالى لخلقه، وتدعوه الى أن يتحمل بنفسه مسؤولية التغيير ولا يترك الأمر للعوامل الخارجية لكي تتصرف في البشر وتنتهي الى نتائج خارجة عن اختياره، لان الله تعالى كلّف الملائكة بأن تمنع من

ص: 317


1- بحار الانوار :73/ 63.

هذه التأثيرات.

دوام حفظ الملائكة بالأعمال الصالحة:

فللإنسان باعتباره عاقلا مختاراً دور في هذه العملية فيستطيع ادامة عمل هذه الملائكة الحفظة بان يلح في الدعاء مثلا او يتصدق فيدفع البلاء او ينشئ المؤسسات النافعة أو ينشر العلوم المثمرة والأخلاق الفاضلة أو يقوم بأعمال صالحة فيكّفر عن سيئاته التي تجلب له السوء، وقد يعرقل عمل هذه الملائكة الحفظة ويجعلها ترفع يدها عنه كما لو قطع رحمه فتسبب في تقصير عمره، او ارتكب من الذنوب ما ينزل النقم او تسلب النعم او تحبس الدعاء ونحو ذلك، او ترك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فتسبّب في تسلط الاشرار، بحسب ما افادته الآيات الشريفة.

لذلك جاء في تكملة الآية {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد:11) فالمعقبات الحفظة ليس عملهم مطلقاً غير مشروط ولا محدود بل هو مطلق لكل الناس الى مقدار معين ثم يكون مشروطاً باختيار الانسان حتى لا يتساوى المحسن والمسيء، وحتى تظهر آثار من أحسن عملاً، وعاقبة من اساء عملاً على كيانهما ووجودهما، في مجمع البيان عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير الآية قال (انهم ملائكة يحفظونه من المهالك حتى ينتهوا به الى المقادير فّيخلون بينه وبين

ص: 318

المقادير)(1)وفي هذه الحقائق ردّ على من قال بحتمية التاريخ أو الجبر ونحو ذلك من النظريات السالبة لدور الانسان في التغيير.

عيد الملائكة الحارسة لدى الكاثوليك:

مما يجدر ذكره ان المسيحيين الكاثوليك يحتفلون يوم 2:10 بعيد الملائكة الحارسة ونقلت المواقع الالكترونية عن بابا الفاتيكان فرانسيس قوله في قداسه اليومي في الكنيسة الصغيرة الملحقة بمقر اقامته في الفاتيكان (ان هناك ملائكة حارسة، وإن العقيدة الخاصة بالملائكة ليست من صنع الخيال بل هي واقع، وبحسب تقليد الكنيسة فنحن جميعاً لدينا ملاك معنا يحمينا ويساعدنا على فهم الاشياء) وأضاف (ان لا أحد يقطع رحلة الحياة بمفرده ويجب الا يعتقد أحد أنه وحيد) وتساءل موضحاً هذه الحقيقة (كم من المرات سمعنا:عليَّ أن افعل هذا وعليَّ ألا أفعل ذاك فانه ليس صائباً وكن حذراً، نسمع ذلك في احيان كثيرة, إنه صوت ملاكنا الذي يرافقنا).

وأشار الى مدخلية اختيار الانسان في هذه الحقيقة بقوله (ان إحتمالات اتخاذ قرارات خاطئة تكون اقل بين الاشخاص الذين يستمعون الى نصائحها) لذلك أقترحَ على المشككين أن يسألوا أنفسهم (كيف هي علاقتي مع ملاكي الحارس؟ هل استمع اليه؟ هل اقول له صباح الخير ؟ هل أطلب منه ان يحرسني اثناء نومي) واسئلته هذه طبعاً تنطلق من المستوى الذي يراه للعلاقة مع ربّ-ه أو مع الملائكة.

ص: 319


1- مجمع البيان- الطبرسي: 6/ 19

واعتقد انه بذلك يرّد بشكل غير مباشر على الذين يبلغ بهم الجزع في الحوادث المؤلمة الى حد إنكار وجود هذه الملائكة الحافظة او انكار وجود الله عز وجل أصلاً، ومثال الاول سلفه البابا بنديكتوس السادس عشر الذي أصر عام 2012 على نفي وجود ملائكة تنشد خلال ميلاد السيد المسيح - بحسب تعبيره -.ومثال الثاني كبير اساقفة كانتربري جاستن ويلبي الذي يتزعم 80 مليون شخص ينتمون الى المذهب الانجليكي المسيحي في العالم فقد كشف في لقاء(1) مع الصحافية لوسي تيغ للبي بي سي (انه يشك احياناً بوجود الله ويتساءل لماذا لم يتدخل العلي القدير لمنع الظلم) وروى ما خطر بباله حين كان يركض ذات صباح مع كلبه مؤخراً وقال (قبل ايام كنت ابتهل اثناء الركض وانتهى بي المآل الى مخاطبة الرب:أنظر ! إن هذا كله أمر حسن ولكن ألم يحن الوقت لأن تفعل شيئاً إذا كنت موجوداً؟) لكنه استدرك واعترف بعجزه وقال:(نحن لا نستطيع أن نفسر كل المسائل في العالم، لا نستطيع أن نفسر ما يتعلق بالمعاناة، لا نستطيع أن نفسر كثيراً من الاشياء) وحين سئل عما يفعله في مواجهة تحديات الحياة أدعى (انه يدعو المسيح ان يساعده وهو يلتقطني)، وأظن ان شكوكه هذه ناشئة من القلق والرعب الذي يسوّد الغرب بعد أن قويت شوكة الارهاب وانخرط فيه الالاف من مواطنيهم ممّا يشكل تهديداً خطيراً لبلدانهم.

الحل القرآني:

أقول:لقد حل القرآن الكريم كل هذه الاشكالات وأجاب عن التساؤلات

ص: 320


1- نشر اللقاء على المواقع الإلكترونية في شهر 9/ 2014.

لان الملائكة الحافظة موجودة وتؤدي عملها للجميع إلا ان الانسان بسوء اختياره يوقف مساعدتها له في مرحلة معينة بمعاصيه وذنوبه فيجّر على نفسه البلاء، رغم كثرة ما يغفر الله تعالى من الذنوب. قال تعالى {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (الشورى:30)، إلا ان سُنة الامتحان لابد أن تمضي فيكافأ المُحسن على احسانه والمسيء على أساءته وإلا ستكون المساواة بينهما عين الظلم، ولنأخذ امثلة من واقعهم، مثلاً تجري منافسات على كأس العالم فتفوز دول وتخسر اخرى فيحزن جمهورها ويبكي وقد ينتحر بعض المتعصبين، فهل يصح ان نقول ان من الظلم السكوت عن هذه الالام وعلينا ان نعطي كأس البطولة لجميع الدول حتى لا يتألم احد.

ونفس الشيء يحصل لطلبة الجامعات والمدارس ولا يوجد عاقل يطالب بمساواة الجميع واعطائهم كلهم درجات النجاح لكي لا يتألم احد، وهذا ما خفي على اسقف كانتربري والتفت اليه بابا الفاتيكان وطلب من الناس اتباع نصائح الملائكة الحارسة.

ص: 321

القبس/71: سورة الرعد:11

اشارة

{إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِم ۗ}

موضوع القبس:التغيير يبدأ من داخل الانسان والمجتمع

يؤصِّل هذا المقطع من الآية الكريمة لقاعدة أساسية في التغيير على صعيد الفرد والمجتمع، بأنه يبدأ من داخل النفس ومن داخل المجتمع ولا يكفي فيه وجود العوامل الخارجية، والتغيير مطلق سواء كان ايجابياً نحو الأفضل أو تغييراً سلبياً نحو الأسوأ، فلا يصلح حال الأمة ويتحسن الا اذا حافظت على سلامة مسيرتها ونواياها وعالجت نقائصها ونقاط ضعفها وتردّيها ولا تنتظر التغيير من الخارج فانه حتى لو حصل فانه لا يحقق النتائج المرجّوة اذا لم يقترن بالتغيير الداخلي(1).

وهكذا على صعيد الفرد فانه ما لم يمتلك الإرادة والعزيمة والمقدمات الصالحة فان ألف واعظ ومرشد ومصلح لا ينفعه في شيء.

هذا في اتجاه التكامل والرقي، وكذا في اتجاه الانحطاط والتسافل فانه لا يحلّ به الشقاء وتزول عنه النعم التي كان يرفل بها من الصحة والأمان والغنى والسعادة وغير ذلك الا بعد ان يضعف هو من الداخل وتتغير أهدافه ونواياه

ص: 322


1- نشر اللقاء على المواقع الإلكترونية في شهر 9/ 2014.

وافكاره، قال تعالى {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَ-كِن كَذَّبُواْ} (الأعراف:96).وهناك آية أخرى أشارت إلى جانب التغيير نحو الشقاء والتعاسة وزوال النعم فقط، قال تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال:53) هذا مع ملاحظة ان الله تعالى {يَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (المائدة:15) ولا يؤاخذ الناس بكل ما كسبوا كما هو واضح من ختام الآية المباركة.

في الحديث القدسي الذي يروى عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (يقول الله وعزتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي ما من أهل قرية ولا أهل بيت ولا رجل ببادية كانوا على ما كرهته من معصيتي ثم تحوّلوا إلى ما أحببت من طاعتي الا تحولّت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبّون من رحمتي، وما من أهل بيت ولا قرية ولا رجل ببادية كانوا على ما احببت من طاعتي ثم تحولّوا منها إلى ما كرهت من معصيتي الا تحولت لهم عمّا يحبون من رحمتي إلى ما يكرهون من غضبي) (1).

ان الآية تقرّر أيضا مبدءاً إنسانياً مهماً وهو احترام إرادة الانسان وحريته في تقرير مصيره وجعله محور التغيير مهما كانت العوامل الخارجية مؤثرة فاذا اساء الاختيار - كما لو لم يمنح صوته لمن يستحق في الانتخابات - فلا يلوم الا نفسه لان النتيجة المؤلمة التي وصل اليها كانت مقدماتها بيده وله القدرة على تغيير48

ص: 323


1- الدر المنثور:4/ 48

النتائج والتأثير فيها، ولم يقع شيء اعتباطاً أو مصادفة ونحو ذلك فلا يحاول الفرد أو الأمة ان تبرّر تعاستها وشقاءها بعوامل خارجية وسوء الحظ وتغفل عن دورها فيه.وحينما ندعوا الله تبارك وتعالى (اللهم غيّر سوء حالنا بحسن حالك) (1) فلابد ان نلتفت إلى هذه الحقيقة فان الالطاف الإلهية الخاصة لها أسباب أُمِر الناس بالسعي لتحصيلها (إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا له) (2).

وقد ورد في بعض الاحاديث الشريفة ان ثلاثة لا يستجاب دعائهم لان الله سبحانه وتعالى جعل المخرج بأيديهم فلم يستفيدوا منه، فقد ورد عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الثلاثة الذين يرد دعائهم عليهم قال (رجل رزقه الله عز وجل مالاً فأنفقه في وجوهه ثم قال:يا رب ارزقني فيقول الله عز وجل اولم ارزقك، ورجل دعى على امرأته وهو ظالم لها فيقال له:ألم اجعل امرها بيدك، ورجل جلس في بيته وترك الطلب ثم يقول:يا رب ارزقني فيقول الله عز وجل ألم أجعل لك السبيل إلى الطلب للرزق) (3) وقلت في حديث سابق (4) ان الحديث يمكن ان يشمل حالات اخرى كثيرة كمطالبة الشعب بتخليصهم من السياسة الجائرة لبعض الحكام وهم من مكنوّهم من رقابهم في الانتخابات وكانت عندهم فرصة تغيرهمين

ص: 324


1- من الادعية اليومية في شهر رمضان المبارك
2- كنز العمال:21324 ، 21325.
3- الخصال للصدوق:123، باب الثلاثة، ح208.
4- خطاب المرحلة:ج5 ص 391 ، رقم الخطاب 198 ، بعنوان الشعب غير معذور إذا لم يختر الكفوئين المخلصين

لو احسنوا الاختيار.وان اقوى عاملين مؤثرين في إحداث عملية التغيير في الفرد والمجتمع هما القيادات الدينية والسياسية كما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل:يا رسول الله، ومن هما؟ قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):الفقهاء والأمراء)(1).

وقد شرحنا في مناسبة سابقة كيفية هذا التأثير وتقّدم تأثير القيادة الدينية على السياسية (2)، والواقع والتجربة يثبتان ذلك، وعلينا نحن الحوزة العلمية بكافة تشكيلاتها - علماء وفضلاء وخطباء وأئمة جماعة وجمعات - ان نشكر الله تعالى على التوفيق للكون بهذا الموقع الذي بيده فرص واسعة للدعوة إلى الله تعالى وإصلاح الناس، علينا ان نعي مسؤولياتنا وخطورة دورنا ونسعى للقيام به على أحسنه بإذن الله تعالى.ة)

ص: 325


1- الخصال:32، باب الاثنين:ح 12
2- راجع مقدمة كتاب (المعالم المستقبلية للحوزة العلمية)

ملحق:كيفية تغيير الواقع الفاسد

لا بدّ من السعي:

من الأدعية المستحبة في كل يوم من شهر رمضان الدعاء الذي اوله (اللهم أدخل على أهل القبور السرور) ويتضمن عدة فقرات جليلة، أحببت التوقف عند أحدها وهي (اللهم أصلح كل فاسد من أمور المسلمين)(1)، ومن الواضح أن إصلاح الفساد لا يتحقق بمجرد ترديد هذه الكلمات وان كان في نفس قراءة الادعية ثواب وان الدعاء مخّ العبادة كما في بعض الاحاديث، لكن بعض المطالب تحتاج الى سعي كمن يريد الرزق الحلال لا يكفيه أن يردد:(اللهم ارزقني) بل عليه أن يسعى في مناكبها ويبتغي من فضل الله تعالى، ومن يريد الذرية الصالحة عليه أن يتخذ زوجة صالحة، وهكذا، الا اذا شاء الله شيئا بدون ذلك كولادة عيسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من غير أب.

كيف نصلح أحوال المسلمين؟

فإصلاح الفساد في أحوال المسلمين وهكذا فقرات الأدعية لا بد لكل منها من سعي يناسبها {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} (الإسراء:19)، فكيف نصلح أحوال المسلمين الفاسدة التي لا تسرّ الصديق ويشفق لها العدو، ولم تبق حرمة إلا انتهكت، وماذا علينا أن نفعل لتحقيق هذا الغرض؟.

يجيب عن ذلك رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حديث رواه عنه الشيخ الصدوق في الخصال يحدد فيه سبب فساد أحوال المسلمين وصلاحهم، قال فيه:(صنفان من

ص: 326


1- مفاتيح الجنان: 229.

أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل:يا رسول الله، ومن هما؟ قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):الفقهاء والأمراء)(1).

عندما نعالج الفساد من رأسه:

فالصلاح والفساد في أمور المسلمين يرجع إلى طريقة أداء هذين الصنفين وصفاتهم الذاتية، فنفس الجهة التي يأتي منها الفساد يأتي منها الصلاح، لذا قيل:(لا ينتشر الهدى إلا من حيث انتشر الضلال) أي علينا أن نشخّص الجهة المسؤولة عن الفساد فتبدأ عملية الصلاح من هذه الجهة، فمثلاً التكفير وما تتبعه من القتل الوحشي والتدمير الشامل بدأ من فتاوى علماء التكفير فإذا أرادوا محاربة الجماعات الإرهابية التكفيرية حقيقة فعليهم أن يبدأوا بهؤلاء المشرّعين لفتاوى التكفير فيصلحون عقولهم ويطهرون قلوبهم من اغلال التعصب والحقد والانانية ويعيدوا تقييم تأريخهم والاشخاص الذين يقدسونهم ممن أسسوا لهذه الثقافة، وستتغير الأمور عندما يلتفتون الى القيادة الصالحة الحقّة التي ربّت الامة على رفض التكفير، روي عن الامام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انه سئل عن الذين خرجوا على إمامته الحقّة وقاتلوه:(أمشركون هم ؟ قال:من الشرك فرّوا، فقالوا:أفمنافقون ؟ قال:إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً قيل:فما هم يا أمير ألمؤمنين ؟ قال:إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم ببغيهم علينا)(2) مشيراً الى الآية الكريمة {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} (الحجرات:9).

ص: 327


1- الخصال للشيخ الصدوق:باب الاثنين، ح12.
2- البداية والنهاية :7/ 300.

كما أن هذه الكلمة (لا ينتشر الهدى الا من حيث انتشر الضلال) يمكن فهمها على أساس الأدوات أي أن نفس الأداة التي سببت الفساد كالتلفزيون أو القوانين الظالمة المخالفة للشريعة أو مناهج التعليم علينا أن نصلحها لتساهم في صلاح الامة.

لا بدّ في الإصلاح من علاج البيئة المنتجة للفساد:

ويمكن ان نفهم هذه الكلمة على اساس الحالات والاوضاع التي انتجت الفساد فنعالجها كالفقر أو الجهل أو التخلف أو العصبية، أو الاستبداد السياسي أو الانهيار الاقتصادي أو عدم الامن والاستقرار فاذا اريد نشر الهدى والصلاح فلا بد من اصلاح هذه الاوضاع والبيئة المنتجة، قال تعالى{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ، الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} (قريش:3-4).

ومحل الشاهد أن صلاح الأمة يكون بصلاح هذين الصنفين كما أن فسادها بفسادهما.

معنى فساد العلماء:

أما الصنف الأول فقد بيّنَتْ الروايات أن فساد العلماء لا يتمظهر بشرب الخمر وممارسة الزنا ونحو ذلك فانهم لا يفعلون ذلك حفاظاً على مكانتهم الاجتماعية وإنما بحبهم الدنيا والتملق لأهلها والصراع على الجاه والزعامة ومجاملة اهل الباطل وكتمان الحق والبغي والحسد والتكبر والتعالي وتغليب انانياتهم والتخلي عن مسؤولياتهم في اقامة الدين والامر بالمعروف والنهي عن المنكر {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ

ص: 328

لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} (المائدة:63) وعدم الانفتاح على الناس والاستماع الى همومهم وقضاء حوائجهم ومساعدتهم وانصافهم فيما لهم وما عليهم، روى الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله من حديث (اعرفوا.. اولي الامر بالأمر بالمعروف والعدل الاحسان)(1) فاذا تخلى العلماء عن مسؤولياتهم اصبحت الامة خاوية روحياً وميته معنوياً وفاقدة البصيرة والرشد يتلاعب بها الاشرار، وتوجد شواهد كثيرة من التاريخ لفساد تسبّب فيه العلماء، فالإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قتل بفتوى وعاظ السلاطين الذين أفتوا بجواز محاربة الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لانه خرج على ولي الامر(2)، والامام الجواد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قتل بتحريض من قاضي قضاة الدولة العباسية ابن ابي داوود(3) للمعتصم بعد اخذه برأي الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قطع يد السارق.

معنى فساد الأمراء:

أما الصنف الثاني، فمما لا يحتاج إلى بيان دور الزعامات السياسية في فساد البلاد من خلال الاستئثار بالمال العام واعتبار ما يقع تحت يده غنيمة، وهدره

ص: 329


1- اصول الكافي:كتاب التوحيد:51 باب انه لا يُعرف الا به، توحيد الصدوق:286.
2- وقد غلط القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في هذا فقال في كتابه الذي سماه بالعواصم والقواصم ما معناه. إن الحسين قتل بشرع جده وهو غلط حملته عليه الغفلة عن اشتراط الإمام العادل ومن أعدل من الحسين في زمانه في إمامته وعدالته في قتال أهل الآراء أنظر: تاريخ ابن خلدون: 1/ 217.
3- قاضي بغداد محمد بن احمد بن ابي داوود أبو الوليد الايادي القاضي(تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: 1 /313.

في امور عبثية ومشاريع وهمية وتغليب المصالح الشخصية على المصالح العامة وسوء التخطيط والإدارة بالاعتماد على ناس غير مؤهلين وانشغال البلاد والعباد بصراعاتهم السياسية، وإن كل الكوارث التي حلت بالبلاد هي نتيجة هذه الصراعات على المغانم والامتيازات حتى وإن ألبست بعناوين دينية أحياناً.وهؤلاء الحكام لم يصلوا إلى مواقعهم إلا بدعم وتأييد جمع من الناس سواء من خلال الإدلاء بأصواتهم لهم في الانتخابات أو بنصرتهم وتمكينهم من السلطة في الانقلابات العسكرية وإدامة حكمهم وسلطتهم، او بأي نحو وصلوا به الى السلطة ولو تخلّى الناس عنهم والتفوا حول الصالحين الأكفاء لما وصل حال المسلمين إلى هذه الدرجة التعيسة، روي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(لولا أن بني أمية وجدوا لهم من يكتب ويجبي لهم الفيء ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم لما سلبونا حقنا، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلا ما وقع في أيديهم)(1).

الذنوب التي تسبب تسلط الأشرار:

فهذه هي المسؤولية المباشرة المنظورة التي يتحملها الناس إزاء هذا السبب من الصلاح والفساد، لكن الروايات دلّت على ان بعض الذنوب والتقصيرات هي العلل الحقيقية لتسلّط الأشرار والفاسدين والظالمين، فنبّهنا المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لها حتى نمنع أصل تسلّطهم وتسلّمهم الحكم، ولا نصل إلى مرحلة تمكنهم من الحكم والسلطة ثم نفكّر في كيفية إصلاح الحال، أي أن الإصلاح يكون على

ص: 330


1- وسائل الشيعة:كتاب التجارة/ ابواب ما يتكسب به/ باب 47، ح1.

طريقة (الوقاية خير من العلاج)، وازالة الاسباب من أصلها ومن تلك الذنوب والتقصيرات المسبّبة لتسلط الاشرار والفاسدين:-1-ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد روي في الكافي والتهذيب عن الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهنَّ عن المنكر، أو ليستعملن عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم)(1).

وروى الشيخ المفيد في المقنعة والطوسي في التهذيب(2) عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر والتقوى، فإذا لم يفعلوا ذلك انتزعت منهم البركات وسلط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء).

2-عدم الاستفادة من توجيهات العلماء العاملين:روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال:(سيأتي زمان على الناس يفرّون من العلماء كما يفرّ الغنم من الذئب، فإذا كان ذلك ابتلاهم الله بثلاثة أشياء:الأول يرفع البركة من أموالهم والثاني سلّ-ط الله عليهم سلطاناً جائراً والثالث يخرجون من الدنيا بلا إيمان)(3).

3-إفراغ الدين من مضمونه الحقيقي والاكتفاء بالشكليات الظاهرية منه، وتخلّي علماء الدين والربانيين عن مسؤولياتهم الحقيقية وهذا شكل من اشكال فساد العلماء الذي يؤدي الى فساد الأمة، في حديث عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(سيأتي على أمتي زمان لا يعرفون العلماء إلا بثوب حسن ولا يعرفون القرآن إلا بصوت2.

ص: 331


1- وسائل الشيعة:أبواب الأمر والنهي، باب 1، ح4، 18.
2- المقنعة- الشيخ المفيد: 808,- تهذيب الأحكام- الشيخ الطوسي: 6/ 181
3- بحار الأنوار:22/ 454 عن جامع الأخبار:125-126، ف 22.

حسن، ولا يعبدون الله إلا في شهر رمضان، فإذا كان كذلك سلّط الله عليهم سلطاناً لا علم له ولا حكم له ولا رحم له)(1).إذن فتردي أخلاق الامة وضعف همتها وانحدار مستوى الوعي لديها سبب لتصدي هذين الصنفين الفاسدين، وفسادهما يؤدي الى مزيد من الفساد في احوال الامة .

لذا اشتهرت الكلمة المعروفة (كما تكونون يولى عليكم)(2)، فصلاح احوال المسلمين يبدأ من اصلاح انفسهم وتمسكهم بدينهم وزيادة وعيهم في اختيار قياداتهم الدينية والسياسية وحينئذٍ تنصلح امورهم وتتغيرا احوالهم نحو الافضل بأذن الله تعالى.2.

ص: 332


1- بحار الأنوار:22/ 454 عن جامع الأخبار:125-126، ف 88.
2- كنز العمال- المتقي الهندي: 6/ 89/ح14972.

القبس/72: سورة الرعد:21

اشارة

{وَيَخَافُونَ سُوءَ ٱلحِسَابِ}

موضوع القبس:لا يدّقق بعضكم في محاسبة البعض الاخر

لا يمكن أن يتصور أمثالنا - ونحن حبيسو الدنيا المادية- حقيقة سوء الحساب وحالاته وأوصافه إلا بمقدار ما تتحمله أفهامنا من كلام الله تعالى والمعصومين (سلام الله عليهم)، وقد أعد سوء الحساب حقيقة للذين أعرضوا عن ربهم ولم يلتزموا بالمنهج الربّاني، قال تعالى:{لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَ-ئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} (الرعد:18) ويعرف بعض الوان هذا الحساب من آيةٍ مماثلة، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (المائدة:36)، وقد روى الطبرسي في مجمع البيان في معنى سوء الحساب عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(هو أن لا يقبل منهم حسنة ولا يغفر لهم سيئة)(1) لأن هؤلاء حبطت أعمالهم.

ص: 333


1- مجمع البيان:6/ 442، تفسير البرهان:5/ 205.

ما المراد من سوء الحساب الذي يخافه المؤمنون؟

لكن هذا المعنى لسوء الحساب قد لا يتلاءم مع سياق الآية التي نحن بصددها لأنها تصف قوماً على مستوى عالٍ من الإيمان، قال تعالى:{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ، الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ، وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} (الرعد:19-21).

فما المراد بسوء الحساب الذي يخافه هؤلاء وهم بهذه الدرجة من الإيمان، يشرح لنا الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وجهاً للمراد، فقد روي بسند معتبر عن حماد بن عثمان في تفسير قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} (الرعد:21) قال:(دخل رجل على أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فشكا إليه رجلاً من أصحابه، فلم يلبث أن جاء المشكو، فقال له أبو عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):ما لفلان يشكوك؟ فقال له:يشكوني أني استقضيت(1) منه حقي، قال:فجلس أبو عبد الله مغضباً، ثم قال:كأنك إذا استقضيت حقك لم تسئ؟! أرأيت ما حكى الله عز وجل في كتابه:{يَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} أترى أنهم خافوا الله أن يجور عليهم أو يظلمهم؟ لا والله ما خافوا إلا الاستقضاء، فسمّاه الله عز وجل:{سُوءَ الحِسَابِ} فمن استقصى فقد أساء)(2).

ص: 334


1- أي طلبت منه أن يقضي حقي، وفي معاني الأخبار وتفسير القمي (استقصيت) أي بلغ بالمسألة النهاية في طلبها، وهو الأقرب لمضمون الرواية.
2- الكافي:5/ 100، ح1، تفسير القمي:1/ 363، ومعاني الأخبار:246، وتفسير البرهان:5/ 201، وفي المعاني:(ولكنهم خافوا الاستقصاء والمداقّة) أي الحساب بدقة.

التدقيق في التعامل:

أقول:يظهر من الرواية أن سوء الحساب الذي يخافونه هو التدقيق في التعامل بمقتضى العدالة والمقابلة بالمثل فيحتسب الحسنات والسيئات كما هي، ففي تفسير العياشي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في سوء الحساب قال:(أن تحسب عليهم السيئات وتحسب لهم الحسنات وهو الاستقصاء)(1)، ولذا ورد في الأدعية أن الله تعالى إذا عاملنا بعدله هلكنا (ومن عدلك مهربي)(2) (ولا تعاملني بعدلك بل بفضلك)(3)، وفي الدعاء عند الصعود على الصفا والمروة عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(اللّهم لا تفعل بي ما أنا أهله، فإنك إن تفعل بي ما أنا أهله تعذبني ولن تظلمني، أصبحت أتقي عدلك، ولا أخاف جورك فيا من هو عدلٌ لا يجور ارحمني)(4).

الدرس العملي:

والدرس العملي الذي نستفيده هنا أننا كما نسال الله تعالى أن لا يدقّق معنا في الحساب وأن يعاملنا بفضله وكرمه ونخاف من المداقّة في الحساب، علينا أن نتأدب بهذا الأدب الإلهي في تعاملاتنا فإن سوء الحساب يعني المطالبة باستيفاء الحق كاملاً غير منقوص من دون مراعاة لما يحسن فعله بلحاظ حالة الطرف

ص: 335


1- تفسير العياشي: 2/ 210
2- مفاتيح الجنان: 336, ضمن دعاء عرفة
3- موسوعة العقائد الإسلامية- الريشهري: 5/ 112
4- وسائل الشيعة:13/ 478 باب 4:استحباب الصعود على الصفا حتى يرى البيت، ح 3.

الآخر وظروفه وإمكانياته،، لذا سُمّيَ أخذ الحق في بعض(1) الحالات عدواناً عندما يكون الأليق هو التسامح والعفو والتكرّم، والعدوان هو التجاوز والقيام بما ينافي الفعل الذي يناسب صدوره منه على ذلك الحال قال تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (البقرة:194)، فكأن المرجو والفعل اللائق بناءاً على هذا التفسير هو تعامله بالعفو والصفح كما أمر تعالى، فكان ما يخالفه عدواناً أي تجاوزا للمتوقع منه وإن كان محقاً. وهو أحد وجوه تفسير قوله تعالى:{وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (الشورى:40) فسمّى الرد على السيئة بمثلها سيئة، مع أن مقتضى العدالة المقابلة بالمثل.

وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى

وقد حثّنا الله تبارك وتعالى على أن نتعامل بيننا -كإخوة مؤمنين- بهذا الأسلوب، قال تعالى:{وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (البقرة:237)، أي لا تنسوا معاملة الاخرين بالتفضل والتسامح في كل المعاملات والعلاقات ففي الحديث الشريف عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(رحم الله عبداً سَمِحاً إذا باع، سَمِحاً إذا اشترى، سَمِحاً أذا قضى، سَمِحاً أذا اقتضى)(2) ولما كان الجزاء يوم القيامة منسجماً مع سلوك الإنسان وعمله

ص: 336


1- وليس مطلقاً لان العقوبة والرد بالمثل والحزم مطلوب احيانا للردع والاستقامة والاصلاح.
2- بحار الانوار:103/ 95 ح 17 ، كنز العمال:9453، ميزان الحكمة:1 / 493.

في الدنيا، فإن كان متسامحاً في تعامله مع الناس حوسب باليسر والكرم، وإلا شدد عليه مقاصة له لأنه التزم بهذه الطريقة من التعامل في الدنيا، قال تعالى:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ، وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} (الانشقاق:7-9) وفي مقابلهم أصحاب الشمال {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً} (الطلاق:8).

من اللطائف أن الله تعالى لم يسم نفسه بالعادل:

والملفت أن الله تعالى لم يصف نفسه في القران الكريم بأنه عادل ولم يرد هذا الاسم في الأسماء الحسنى على كثرتها لأن كرمه ورحمته وفضله سبقت عدله، فهو تعالى لا يؤاخذ بالمثل ولا يعاملنا بهذا المعنى من العدل، نعم وصف تعالى نفسه بما يلزم من العدل وهو إنصاف المخلوقين وعدم بخسهم اشيائهم وعدم الجور في الحكم عليهم وهو حسنٌ دائماً {وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت:46) فالعدل المقصود هو عدم الجور والظلم وأن من حقه تعالى الجزاء بالمثل إنْ أراد.

ولذا أردف الله تعالى الإحسان بالعدل حينما لخّص جوهر الرسالات السماوية وما يريده الله تبارك وتعالى, قال سبحانه:{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} (النحل:90) لأن العدل قد يكون منافياً لمقتضى الإنصاف والإحسان فيكون غير محبوب بل قد يكون ظلما في بعض المراتب ولو أخلاقيا، وقد بحثتُ ذلك مفصلاً في مسالة توريث أولاد الاولاد مع وجود الاولاد(1).

ص: 337


1- راجع المجلد الحادي عشر من موسوعة فقه الخلاف.

إن قلتَ قلتُ:

إن قلت:كيف يكون العدل ظلماً وهل هذا الا من اجتماع الضدين.

قلت:ليس هذا من اجتماع الضدين لأن ما يقابل العدل لغةً ليس هو الظلم بل الجور وهو الحيف في الحكم، فيمكن اجتماع العدل مع الظلم بمرتبة من المراتب ولو أخلاقياً، أي أن الحكم يكون عادلاً، الا أنه لا يكون منصفاً أو إنه خالٍ من الإحسان بلحاظ طرف آخر، كما في الروايات الواردة في تفسير قوله تعالى:{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ، فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} (الأنبياء:78-79).

فقد حكم داوود بالغنم ضماناً لصاحب الزرع(1) لأن صاحبها لم يحبسها ليلاً وهذا ما جرت به شرائع الأنبياء السابقين أما سليمان (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقد حكم بالضمان لكن بنحو آخر وهو أن يدفع الضامن غنمه إلى صاحب الزرع ليستفيد من لبنها وصوفها ويغرم هو صلاح الأرض حتى تعود إلى ما كانت عليه فيعيد كلٌ منهما إلى الآخر ماله، وهنا حافظ سليمان (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على مقتضى العدل لكن من دون إضرار بالضامن خصوصاً وأنه ليس معتدياً وإنما كان مقصّراً.

لكي نستوعب الدرس في حياتنا:

ولو استوعبنا هذا الدرس الأخلاقي وطبقناه في حياتنا لاستطعنا تجنب الكثير من المشاكل في المجتمع التي منشأها التدقيق في محاسبة الآخرين على

ص: 338


1- بحار الأنوار- المجلسي: 14/ 131

كل صغيرة وكبيرة ومطالبة كل طرف باستقصاء حقه من الآخر من دون مراعاة لحاله وظروفه، وأمثلة ذلك من الواقع كثيرة، كما يحصل بين الورثة حينما يطالب البعض مثلاً بحصته من الدار التي يسكنها الورثة الآخرون وهو يعلم أنهم لا يتمكنون من إعطائه وأن بيع الدار فيه مشقّة عليهم ولكنه يصرّ على طلبه.أو الزوج يحاسب زوجته على كل تقصير أو غفلة والزوجة تراقب زوجها وتسأله عن كل تصرفاته ويحاول كل منهما أن يفرض إرادته ورأيه على الآخر فيتخاصمان وتذهب المودّة بينهما وقد يخرب بيتهما بسبب إصرار كل منهما على انتزاع ما يتصور أنها حقوقه دون مراعاة لظروف الآخر.

أو دائن يلحّ على المدين بالتسديد وهو في حرج وصعوبة وقد يضطر لبيع داره أو حاجاته الشخصية فهذا من سوء الحساب ومخالف لسيرة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وأصحابهم البررة كمحمد بن أبي عمير وهو من أجلاء أصحاب الإمام الكاظم والرضا والجواد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقد ألّف عشرات الكتب وكان عالماً عاملاً مخلصاً، وعرض عليه هارون العباسي منصب القضاء فرفضه فأمر الطاغية بحبسه وتعذيبه فقضى سبعة عشر عاماً في السجن لاقى فيها صنوف التعذيب والوحشية، وكان قبل أن يسجن تاجراً ثرياً وخرج من السجن في عوز شديد وقد أنهكته الأمراض، وكان أحد زبائنه مديناً له بعشرة آلاف درهم فرأى من الوفاء أن يرد إليه دينه ولكنه لا يملك هذا المقدار فباع داره وجاء بالمبلغ إلى ابن أبي عمير، فسأله ابن أبي عمير عن كيفية تدبيره هذا المبلغ الكبير هل وهبه له أحد أو ورثه من قريب له؟ فأجاب الرجل بالنفي وأنه باع داره ليقضي بثمنها دينه فرفض ابن أبي عمير قبضها وقال:((حدثني ذريح المحاربي عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه

ص: 339

قال:(لا يُخرَج الرجل من مسقط رأسه بالدين)(1)، ارفعها فلا حاجة لي فيها، والله إني محتاج في وقتي هذا إلى درهم، وما يدخل ملكي منها درهم))(2).

سوء الحساب له مراتب:

ومما تقدم يظهر أن سوء الحساب له مراتب فبعضه حقيقي في أدنى مراتبه كالذي أُعد للمعرضين عن الله تعالى، وبعضه نسبي بلحاظ درجات الكمال، فإن البعض يرى أن مجرد إيقافهم للحساب، أو لمجرد معاتبتهم على شيء أنه من سوء الحساب.

روى في مجمع البيان حديثاً فيه (من نوقش في الحساب عُذِّب)(3) بغضّ النظر عن أي عقوبة فبمجرد مناقشة الشخص وتعريضه للحساب والمساءلة تعذيب وفي مصباح الشريعة قال الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(لو لم يكن للحساب مهولة إلا حياء العرض على الله وفضيحة هتك الستر على المخفيات لحقَّ للمرء أن لا يهبط من رؤوس الجبال ولا يأوي إلى عمران ولا يأكل ولا يشرب ولا ينام إلا عن اضطرار متصل بالتلف) (4).

ولذا فإن أهل المعرفة لا يركنون إلى طاعة ويرون أن حسابهم سيئ لو عاملهم الله تعالى بعدله وحاسبهم كما هم أهله وليس بما هو أهله من الفضل

ص: 340


1- أي لا يجوز إجبار المدين على بيع دار سكنه من اجل تسديد الدين.
2- بحار الأنوار:49/ 273، تأريخ الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، عن علل الشرائع:باب 313، ح2.
3- مجمع البيان- الشيخ الطبرسي: 6/ 31
4- بحار الأنوار- المجلسي: 6/ 265

والكرم والرحمة (فاني لم آتك ثقةً بعملٍ صالحٍ عملته)(1)، ويعدّون طاعتهم سيئات يطلبون الإقالة منها بلحاظ ما يليق برب العزة والجلال، تأمّل في ما ورد في دعاء الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم عرفة (إلهي كم من طاعة بنيتها وحالة شيّدتها هدم اعتمادي عليها عدلك بل أقالني منها فضلك)(2). فهذه المراتب كلها يخافونها ويعدون هذا الحساب سيئاً بالنسبة لهم وهم يطمحون إلى أن يكونوا من الذين لا يرون حساباً أصلاً ويدخلهم الله تعالى في رضوانه بغير حساب، كعدة اصناف ورد في حقهم ذلك (منهم) الصابرون، قال تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر:10).

(ومنهم) الذين يحبون الله تبارك وتعالى ويحبِّبونه الى خلقه ويرضون بقضائه روي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال:(اني لأعرف ناساً ما هم أنبياء ولا شهداء يغبطهم الانبياء والشهداء بمنزلتهم يوم القيامة:الذين يُحبّون الله ويحببونه الى خلقه يأمرونهم بطاعة الله فإذا أطاعوا الله أحبهم الله)(3) وروي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال:(إذا كان يوم القيامة أنبت الله لطائفة من أمتي أجنحة فيطيرون من قبورهم إلى الجنان يسرحون فيها ويتنعمون كيف شاؤوا فتقول لهم الملائكة:هل رأيتم حساباً؟ فيقولون:ما رأينا حساباً، فيقولون:هل جزتم على الصراط؟ فيقولون:ما رأينا صراطاً، فيقولون لهم:هل رأيتم جهنم؟ فيقولون:ما رأينا شيئاً، فتقول الملائكة:من أمة من أنتم؟ فيقولون:من أمة محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فيقولون:نشدناكم الله حدثونا ما كانت5.

ص: 341


1- مصابيح الجنان:619 من ادعية ليلة الجمعة وليلة عرفة وأوله (اللهم من تهيأ وتعبأ......).
2- مفاتيح الجنان:315.
3- مجمع الزوائد للهيثمي :1 /126 وللتفصيل اكثر راجع خطاب المرحلة :6/ 151 - 165.

أعمالكم في الدنيا فيقولون:خصلتان كانتا فينا فبلّغنا الله هذه المنزلة بفضله ورحمته، فيقولون:وما هما؟ فيقولون:كنا إذا خلونا نستحي أن نعصيه ونرضى باليسير مما قسم لنا، فتقول الملائكة:يحق لكم هذا)(1).(ومنهم) الشهداء فأن الله تعالى يُسقط كل حق له وفي الحديث عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(كل ذنب يكفّره القتل في سبيل الله عز وجل إلا الدَيْن لا كفارة له إلا أداؤه، أو يقضي صاحبه أو يعفو الذي له الحق)(2)، فأن الدَين من حقوق الناس ولابد من ادائه اليهم او استرضائهم، قد روي أن الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لم يأذن بالقتال معه لمن كان عليه دين إلا ان يوصي بقضائه(3).05

ص: 342


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر، المعروف بمجموعة ورّام:1/ 230.
2- الكافي:5/ 94، ح6.
3- موسوعة كلمات الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 505

القبس/73: سورة إبراهيم:5

{وَذَكِّرهُم بِأَيَّىمِ ٱللَّهِ ۚ}

يبّين هذا المقطع من الآية احدى وظائف الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) والقادة الدينيين ومن سار على نهجهم وهو تذكير الناس بأيام الله تعالى.

الايام كلها لله كما ان كل شيء في الوجود لله تعالى {لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} (البقرة:255) {وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (النحل:52) {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} (الأعراف:54) لكن الله تعالى يعلم ان الانسان يغفل وينهمك في تفاصيل حياته فينشغل عن مراجعة علاقته بربه فيحتاج الى محطات زمانية او مكانية أو فعلية تجدّد هذه العلاقة وتعطيها زخماً وحيوية جديدة فجعل اياماً وأمكنة ومشاعر وشعائر لتحقيق المزيد من القرب لربه والالتفات الى قضيته الكبرى، والله تعالى لم يغب عن عباده وعن خلقه لكنهم هم الذين يغفلون عنه (متى غبتَ حتى تحتاج الى دليل يدلُ عليك)(1).

وهذه سيرة تعلّمها العالم المتحضر فجعل أياماً لقضاياه المهمة فيوم للأم ويوم للمرآة وآخر للعامل والبيئة ونحو ذلك لتجديد الاهتمام بهذه القضايا وإجراء مراجعة لطبيعة العلاقة معها وإلا فأن الاهتمام بهذه القضايا مطلوب على الدوام.

ص: 343


1- بحار الأنوار- المجلسي: 64/ 142,- مفاتيح الجنان: 336, ضمن دعاء عرفة

والسؤال ما هي الخصوصية في هذه الايام حتى أصبحت أيام الله؟ والجواب:لأنَّ هذه الايام شهدت بعض تجليات الله تعالى لخلقه بصفاته الحسنى.ففي يوم ميلاد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبعثته تجلت رحمة الله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107) {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} (يونس:58) وفي يوم الغدير تجلت حكمة الله تعالى وشفقته على عباده.

وفي يوم عاشوراء تجلت عظمة الله تعالى حينما تستعظم ما قدمه الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لله تعالى، وتجلّى حلم الله تعالى إذ لم ينزل نقمته وبأسه على الأشرار، ويتجلى ما يمنّ به على عبادّه المصطفين من التوحيد الخالص والفناء في محبة الله تعالى.

وفي يوم فتح مكة وعندما يظهر الحجة القائم (عج) يتجلى نصر الله وفتحه على عباده المؤمنين، ويتحقق وعد الله تعالى {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور:55).

وفي اي يوم يتحقق فيه إنجاز للبشرية يسعدها ويرّفه حياتها ويخلّصها من معاناتها من الفقر او المرض او الخوف وغيرها تتجلى قدرة الله تعالى إذ زوّد البشرية بهذا العقل المبدع وما يتفق عنه من علوم حتى ألف مجموعة من

ص: 344

علماءالغرب كتاب (الله يتجلى في عصر العلم)(1).وحينما أغرق فرعون وجنوده وأهلكت عاد وثمود وصدام تجلت عدالة الله تعالى وإنتقامه، وإذا مات إنسان تجلّت صفة (القّهار) كما في الدعاء (فَيا مَنْ تَوَحَّدَ بِالْعِزِّ وَالْبَقاءِ، وَقَهَرَ عِبادَهُ بِالْمَوْتِ وَالْفَناءِ)(2) وتجلّت صفة (الباقي) لله تعالى (فان أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون)(3) بحسب المروي عن الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فالاحتفال بهذه الأيام واستذكار ما جرى فيها إنما هو امتثال لهذه الآية الشريفة وتجديد لذكر الله تعالى.

وقد تعدّدت الروايات في تفسير هذه الآية بمعاني متعددة إشارة الى هذه المناشيء المتعددة لتسمية الأيام بأيام الله تعالى فقد روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (أيام الله نعماؤه وبلاؤه وهي مَثُلاتُه(4)سبحانه)(5) وروي عن ابي جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (أيام الله عز وجل ثلاثة:يوم يقوم القائم، ويوم الكرّة – أي الرجعة – ويوم القيامة)(6) وعن ابي عبد الله الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ذكرّهم بنعم الله سبحانه في08

ص: 345


1- كتاب: <لله يتجلى في عصر العلم> لمجموعة من كبار العلماء الأمريكيين في تخصصات علمية مختلفة في علوم الكون والحياة من كيمياء وفيزياء وتشريح وأحياء، تذكر كلها أنواعا من الأدلة العلمية على وجود الله.
2- مفاتيح الجنان: 95, آخر دعاء الصباح
3- الإرشاد- الشيخ المفيد: 2/ 94
4- من قوله تعالى {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ} (الرعد :6) أي النقمات التي تجعل من تنزل به مثالاً يرتدع به الآخرون.
5- الأمالي- الشيخ الطوسي: 491.
6- الخصال- الشيخ الصدوق: 108

سائر أيامه)(1).اقول:بقية الآية ونهايتها تشعر بهذا المعنى قال تعالى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (إبراهيم:5)، فالصبر على البلاء والشكر على النعماء.

وقد يضيف الله تعالى بعض الأيام الى نفسه ليزيد فيها من عطائه الخاص على عباده فيدعوهم الى ذكره ودعائه ليذكرهم برحمته وكرمه وعفوه ومغفرته {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} (البقرة:152) كيوم عرفة وشهر رمضان ومنها هذه الايام التي أطلّت علينا مع حلول شهر رجب المرجو لكل خير كما في الدعاء المستحب فيه يومياً (يا من أرجوه لكل خير وآمن سخطه عند كل شهر)(2)، فقد شرّف الله تعالى هذه الايام وبارك فيها من الطافه ودعاهم الى التعرض لنفحاته (إن لله في دهركم نفحات الا فتعرضوا لها)(3)، أي تعرضوا لأسبابها من الأزمنة والامكنة والاحوال المختلفة لأن نفس النفحات من الغيب الإلهي ولا يعلمها العباد فكيف يتعرضون لها؟

فكل أيام هذه الأشهر الثلاثة (رجب وشعبان ورمضان) شريفة ومباركة وسنّ لها الأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أعمالاً مستحبة كثيرة، وتتلألأ خلالها أيام اشد نوراً وعطاءاً ومنها اليوم الاول من رجب وليلته، في الحديث الشريف عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن ابائه عن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (كان يعجبه أن يفرغ نفسه أربع ليالٍ في السنة، وهي أول ليلة من رجب وليلة النصف من شعبان وليلة الفطر وليلة88

ص: 346


1- تفسير البرهان :5/ 233.
2- مفاتيح الجنان: 186
3- أنظر ملحق القبس/14, {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} (آل عمران:133) من نور القرآن: 1/ 188

النحر)(1).وفي الختام نقول ان الآية الكريمة تدعو جميع المؤمنين الرساليين أن يتأسوا بالأنبياء العظام والأئمة الكرام (صلوات الله عليهم أجمعين) فيذكرّون الناس بأيام الله تعالى، تلك الايام التي تربطهم بالله تعالى وتزيد معرفتهم به وتوثق علاقتهم بربهم.ب.

ص: 347


1- مفاتيح الجنان:176 أعمال الليلة الاولى من رجب.

القبس/74: سورة إبراهيم:28

اشارة

{ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعمَتَ ٱللَّهِ كُفرا}

يرجون وعده ويخشون عذابه:

من آداب تلاوة القرآن الكريم أن نقف عند كل آية عذاب وتحذير وتخويف وتهديد لنتوقع استحقاقنا لها، وأن نقف عند كل آية وعد وترغيب وتكريم ونعيم لنرجو أن نكون مشمولين بها، ولا نتصور أننا في مأمن ومنأى من آيات التخويف والتهديد، ورد في وصف سيرة الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إنه كان (يكثر بالليل في فراشه من تلاوة القرآن فإذا مرّ بآية فيها ذكر جنة أو نار بكى وسأل الله الجنة وتعوّذ من النار)(1) وروي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في صفة الذين يتلونه حق تلاوته قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ويرجون وعده ويخشون عذابه)(2) ولنأخذ ذلك مثلاً قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} (إبراهيم:28).

كم من مُنعَم عليه وهو لا يعلم

يتصور أكثر الناس أن النعمة هي المال والحياة المرفّهة، وهذا لا شك

ص: 348


1- عيون أخبار الرضا:2/ 182 ح5.
2- تنبيه الخواطر:2/ 236.

مصداق مهم للنعمة لكن مصاديقها أوسع من ذلك بكثير مما لا يلتفت إليه أغلب الناس، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (الصحة والفراغ نعمتان مكفورتان) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (نِعمتان مكفورتان:الأمن والعافية) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (نعمتان مفتون فيهما كثير من الناس:الفراغ والصحة).(1)وكل نعمة من هذه النعم تتحلل إلى ما لا يعد ولا يحصى من النعم، قال تعالى {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} (النحل:18) وقد شرحنا في بعض خطبنا السابقة أمثلة على ذلك، ولكن الإنسان يغفل عنها غالباً، عن الإمام الصادق(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (كم من مُنعَم عليه وهو لا يعلم) ولا يحسّ بقيمتها إلا إذا فقدها لا سامح الله، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(من كان في النعمة جهل قدر البليّة) وعن الإمام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (تجهل النعم ما أقامت، فإذا ولّت عُرفت)، وإن كان في غنى عن الوصول إلى هذه المرحلة، إذ يكفي تذكرها والالتفات إليها أو تخيّل أضدادها لمعرفة قيمتها، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إنما يُعرف قدر النعم بمقاساة ضدّها).

نعمة الإيمان بالله ورسوله وولاية أهل البيت ع:

ولابد أن نلتفت إلى أن الأهم من النعم المادية المذكورة النعم المعنوية، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إن من النعم سعة المال، وأفضل من سعة المال صحة البدن، وأفضل من صحة البدن تقوى القلب) وعن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (لا نعمة كالعافية، ولا عافية كمساعدة التوفيق).

ص: 349


1- تجد مصادر هذه الروايات في:ميزان الحكمة:9/ 72.

ومن النعم المعنوية اجتماع الكلمة على الإيمان بالله تعالى وبرسوله وولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) كما ورد في تفسير قوله تعالى {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} (آل عمران:103) قالت الصدّيقة الزهراء (س) في خطبتها(1)(فأنقذكم الله بأبي محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)) وروى العياشي في تفسيره قال:كان أبو عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إذا ذكر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال:(بأبي وأمّي ونفسي وقومي وعترتي عجبٌ للعرب كيف لا تحملنا على رؤوسها والله يقول في كتابه (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) فبرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والله أنقذوا)(2) ما ورد عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في تفسير قوله تعالى {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} (لقمان:20) (أما ما ظهر فالإسلام وما سوّى الله من خلقك، وما أفاض عليك من الرزق، وأما ما بطن فستر مساوئ عملك ولم يفضحك به)(3)، وعن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (النعمة الظاهرة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وما جاء به النبي من معرفة الله عز وجل وتوحيده، وأما النعمة الباطنة ولايتنا أهل البيت وعقدُ مودتنا) وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ما أنعم الله على عبد أجلّ من أن لا يكون في قلبه مع الله عز وجل غيره) (4) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إن من النعمة تعذّر المعاصي) (5)، وعن الإمام49

ص: 350


1- الإحتجاج- الطبرسي: 1/ 100
2- تفسير العياشي:1/ 218 ح126.
3- ميزان الحكمة- الريشهري: 4/ 3309.
4- بحار الأنوار- المجلسي: 67/ 198
5- عيون الحكم والمواعظ- الليثي: 149

الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (النعمة الظاهرة الإمام الظاهر، والباطنة الإمام الغائب) (1).

كيفية الحفاظ على النعمة:

وبعد الاطلاع على سعة النعمة وتنوعها وأهميتها ينفتح السؤال عن كيفية الحفاظ عليها وإدامتها لأنها معرضة للزوال - والعياذ بالله - فلابد من الحذر، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (أحسنوا مجاورة النعم، لا تملّوها ولا تنفرّوها، فإنها قلما نفرت من قوم فعادت إليهم) (2) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (أحسنوا صحبة النعم قبل فراقها، فإنها تزول وتشهد على صاحبها بما عمل فيها)(3).

شكر النعمة:

والذي يوجب بقاء النعمة ودوامها ويمنع من نفورها شكر النعمة، والذي يوجب نفور النعمة وزوالها كفر النعمة، وهما معنيان متضادان يعرف معنى كل منهما بعكس معنى الآخر عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أحسن الناس حالا في النعم من استدام حاضرها بالشكر وارتجع فائتها بالصبر) (4) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر) (5) وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لا تدوم النعم إلاّ بثلاث:معرفة بما يلزم لله سبحانه فيها، وأداء شكرها، والتعب

ص: 351


1- كمال الدين وتمام النعمة- الشيخ الصدوق: 1/ 396
2- مستدرك الوسائل- المحدث النوري: 12/ 369
3- علل الشرائع- الشيخ الصدوق: 2/ 464
4- ميزان الحكمة- الريشهري: 4/ 3313
5- وسائل الشيعة (آل البيت): 16/ 328

فيها) (1) وعن الإمام الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (القوا النعم بحسن مجاورتها والتمسوا الزيادة فيها بالشكر عليها)(2).

أشكال الشكر والكفر بالنعم:

إن كفر النعمة وما يقابله من شكرها له معانٍ وأشكال عديدة:

1-عدم استعمالها في طاعة الله تعالى كما مرّ في الأحاديث الشريفة التي وصفت الفراغ والصحة والأمن بأنّها نعم مكفورة لأنّها لم تُستثمر في طاعة الله تعالى، والأسوأ أن تستخدم في معاصيه، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):(أقل ما يلزمكم لله ألاّ تستعينوا بنعمه على معاصيه)(3) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (استتموا نِعم الله عليكم بالصبر على طاعته، والمجانبة لمعصيته)(4).

وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إن أردت أن يُختم بخير عملك حتى تُقبض وأنت في أفضل الأعمال فعظّم لله حقّه أن لا تبذل نعماءه في معاصيه)(5).

2-عدم أداء حقوق النعمة كمن لا يؤدي ما بذمته من الحقوق الشرعية أو يهمل أداء فريضة الحج وهو مستطيع أو لا يصوم شهر رمضان وهو قادر وهكذا، وفي ذلك قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اضرب بطرفك حيث شئت من الناس، فهل تبصر إلاّ فقيراً يكابد فقراً، أو غنيّاً بدّل نعمة الله كفراً، أو بخيلاً اتّخذ البخل بحقّ

ص: 352


1- تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 318
2- بحار الأنوار- المجلسي: 75/ 370
3- نهج البلاغة: 4/ 78
4- مستدرك الوسائل- المحدث النوري: 12/ 369
5- بحار الأنوار- المجلسي: 70/ 351

الله وفرا)(1) ومحل الشاهد تطبيق الإمام الآية بالنص على من لم يؤدي حقوق الله تعالى في أمواله، وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(يا أيّها الناس:إنّ لله في كلّ نعمة حقّاً، فمن أدّاهُ زاده، ومن قصّر عنه خاطر بزوال النعمة وتعجّل العقوبة، فليراكم الله من النعمة وجلين كما يراكم من الذنوب فرقين)(2) ويشرحها الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بقوله:(إنّ صاحب النعمة على خطر، إنه يجب عليه حقوق الله فيها، واللهِ إنّه لتكون عليَّ النعم من الله عزّ وجل فما أزال منها على وجل- وحرّك يده - حتّى أخرج من الحقوق التي تجب لله عليّ فيها)(3).فكلّ نعمة تستوجب حقّاً، الوالدان نعمة ولهم حقوق، والمرجعية المخلصة العاملة نعمة ولها حقوق، والجاه والموقع نعمة وعلى صاحبه حقوق، عن الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(استعمال العدل والإحسان مؤذن بدوام النعم)(4)، وهكذا.

ومن كفر النعمة التقصير باستعمال ما أنعم الله تعالى عليه في خدمة الناس وقضاء حوائجهم وإدخال السرور عليهم، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (إن لله عباداً اختصهم بالنعم يُقرّها فيهم ما بذلوها للناس فإذا منعوها حوّلها منهم إلى غيرهم)(5) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من كثرت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس إليه، فمن قام لله فيها بما يجب فيها عرّضها للدوام والبقاء، ومن لم يقم فيها بما يجب72

ص: 353


1- نهج البلاغة:الخطبة 129 في ذكر المكاييل والموازين.
2- بحار الأنوار- المجلسي: 75/ 43
3- بحار الأنوار- المجلسي: 49/ 105
4- عيون أخبار الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- الصدوق: 1/ 26
5- عوالي اللئالي- الأحسائي: 1/ 372

عرّضها للزوال والفناء)(1).فالذي يمكّنه الله تعالى في الأرض ويضع تحت تصرفه موارد الدولة والشعب وهو يسخّرها لمصالحه الشخصية والحزبية فهو ممن بدّل نعمة الله كفراً، والذي يستعمل الوسائل العلمية الحديثة التي أنعم الله تعالى بها على عباده في غير مرضاة الله فهو ممن بدّل نعمة الله كفرا وهكذا.

3-عدم التحديث بها ونشرها قال تعالى {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى:11) روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (إنّ الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده)(2) وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إذا أنعم الله على عبده بنعمة فظهرت عليه سُمّي حبيب الله محدثاً بنعمة الله، وإذا أنعم الله على عبدٍ بنعمة فلم تظهر عليه سُمي بغيض الله مكذّباً بنعمة الله) فاعتباره مكذّباً بنعمة الله مبغوضاً عند الله تعالى لأنّه لم يحدّث بنعمة الله ولم يظهرها، وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(إنّي لأكره للرجل أن يكون عليه نعمة من الله فلا يظهرها).

كمال النعمة وتمامها:

وإنّ أعظم النعم على الإطلاق الإسلام كما دلّت عليه الروايات الشريفة عن الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قوله تعالى {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى:11) قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أمره أن يحدّث بما أنعم الله به عليه في دينه)، وتمام هذه النعمة التي كمُل بها الإسلام نعمة ولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بدلالة النصوص القرآنية ومنها

ص: 354


1- ميزان الحكمة – الريشهري:4/ 3313
2- الحديث وما بعده تجدها في ميزان الحكمة- الريشهري: 4/ 3313-3316-3317-3318

الآية الشريفة التي نزلت في واقعة الغدير وتنصيب أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إماماً وهادياً للأمة وخليفة لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فنزل قوله تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} (المائدة:3) وما ورد في تفسير قوله تعالى {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} (التكاثر:8) من حديث الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مع أبي حنيفة قال:(نحنُ - أهل البيت- النعيم الذي أنعم الله بنا على العباد وبنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين وبنا ألّف الله بين قلوبهم وجعلهم اخواناً بعد أن كانوا أعداءاً وبنا هداهم الله إلى الإسلام وهي النعمة التي لا تنقطع، والله سائلهم عن حقّ النعيم الذي أنعم الله به عليهم وهو النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعترته)(1) فأهل البيت ليسوا نعمة فقط بل نعمة باقية ثابتة مقيمة فتكون كثيرة مباركة لذا وصفهم بالنعيم.ومن مجموع هذه المقدمات نصل إلى نتيجة:أن أوضح مصاديق تبديل نعمة الله كفراً هم الذين لم يؤمنوا بالإسلام وأشركوا بالله تعالى وأنكروا نبوة الرسول محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

الإعراض عن ولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ):

وممن تنطبق عليهم الآية كلّ من أعرض عن ولاية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولم يلتزم بوصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فضلاً عمّن ظلم أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ونصب لهم العداوة والبغضاء فهو ممن بدّل نعمة الله كفراً.

وهذه النتيجة مذكورة نصّاً في القرآن الكريم بلفظ الانقلاب الذي هو معنى

ص: 355


1- راجع الروايات في تفسير البرهان:10/ 230.

آخر لتبديل النعمة كفراً قال تعالى {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران:144) فالألفاظ المستعملة نفسها وهي الانقلاب المرادف للتبديل والشكر المقابل للكفر.ووردت في ذلك روايات عديدة ففي الكافي بسنده عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:(ما بال أقوام غيّروا سنّة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعدلوا عن وصيّه لا يتخوّفون أن ينزل بهم العذاب) ثمّ تلا هذه الآية {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ، جهنّم يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} (إبراهيم:28-29) ثمّ قال (نحن النعمة التي أنعم الله بها على عباده، وبنا يفوز من فاز)(1).

وعلينا أن نتذكر أن من كفر النعمة عدم إظهارها والتحديث بها وعدم القيام بحقوقها كما دلّت عليه الروايات المتقدّمة، فمن قصّر في إظهار نعمة ولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ولم يتحرّك لإقناع الناس بها بأيّ وسيلة خصوصاً مع توسّع وسائل تبادل المعلومات ونقلها، أو لم يحفظ حرمة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في سلوكه وصفاته فهو ممّن لم يشكر هذه النعمة وربّما انطبقت عليه الآية بمعنى من المعاني.

فليتفقّه كلّ شيعة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في دينهم وليطلعوا على سيرة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ومناقبهم وفضائلهم ومحاسن كلامهم ليوصلوها إلى البشرية جمعاء إذا أردنا أن نكون من الشاكرين على هذه النعمة، وحتى نكون صادقين مع الله1.

ص: 356


1- الكافي:1/ 169 ح1.

تعالى ومع أنفسنا حينما نتبادل التهاني والتبريكات في مثل هذه الأيام ونحمد الله تعالى على التشرّف بولاية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ومباهلة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ونزول سورة هل أتى والتصدّق بالخاتم وغيرها من المناقب الكثيرة.وعلينا أن نُحيي أمر أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) خصوصاً الشعائر الفاطمية والحسينية شكراً لله تعالى على نعمة مودّتهم وولايتهم وقد كثرت الروايات عنهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنّهم هم النعمة التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم وبهم يفوز من فاز، وقد مرّ في الأحاديث الشريفة أن شكر النعمة يتحقق بإظهارها والتحدّث بها.

ص: 357

القبس/75: سورة إبراهيم:36

اشارة

{فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُۥ مِنِّي ۖ}

موضوع القبس:شرف الانتماء ومسؤوليته

الآية الكريمة تبيّن على لسان النبي إبراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) المقياس الحقيقي للانتساب إلى النبي أو الامام أو القائد ورئيس الجماعة بشكل عام وانه يتحقق بالطاعة والاتباع في الأقوال والأفعال وليس بادعاء الانتساب أو اللحمة النسبية، لذلك يردّ الله تبارك وتعالى في آية أخرى على اليهود والنصارى الذين ادعوا انهم السائرون على دين إبراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والحافظون له، وثبت حقيقة الانتساب، قال تعالى {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَ-ذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران:68) بعد أن نفى في الآية السابقة دعواهم {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (آل عمران:67).

والآية الكريمة تفيد حقيقتين:

فهي من جهة:تمنح الملتزمين بنهج النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وآله الكرام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وساماً تكريمياً من أعلى الدرجات بأن تجعلهم منهم (صلوات الله عليهم أجمعين) وتدلّ على الطريق الذي يوصلك الى أن تكون من أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وكفى بذلك شرفاً وكرامة، وقد صرح المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لبعض أصحابهم بنيل هذا الوسام

ص: 358

مثل سلمان الفارسي (رضوان الله تعالى عليه) حيث قال الإمام أبو جعفر الباقر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): لا تقولوا سلمان الفارسي، ولكنْ قولوا سلمان المحمّدي، ذلك رجلٌ منّا أهل البيت)(1) و قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (وإنما صار سلمان من العلماء لأنه امرؤ منا أهل البيت فلذلك نسبه إلينا)(2).وروى ربعي بن عبدالله، قال (حدثني غاسل الفضيل بن يسار، قال:اني لأغسل الفضيل بن يسار وأن يده لتسبقني إلى عورته، فخبرت بذلك أبا عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال لي:رحم الله الفضيل بن يسار، وهو منا أهل البيت)(3).

وروى عمر بن يزيد قال (قال لي أبو عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):يا بن يزيد أنت والله منا أهل البيت، قلت له:جعلت فداك من آل محمد؟ قال:أي والله من أنفسهم، قلت:من أنفسهم؟ قال:أي والله من أنفسهم يا عمر، أما تقرأ كتاب الله عزوجل {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَ-ذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ})(4) .

وروى يونس بن يعقوب قال (كنت بالمدينة فاستقبل جعفر بن محمد عليهما السلام في بعض أزقتها، قال، فقال:اذهب يا يونس فان بالباب رجلاً منا أهل البيت. قال:فجئت إلى الباب فإذا عيسى بن عبدالله القمي جالس، قال:فقلت له من أنت؟ فقال له:أنا رجل من أهل قم، قال:فلم يكن بأسرع من أن أقبل أبو عبدالله23

ص: 359


1- اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي 12
2- بحار الأنوار:2/ 462 ح 25 باب 26
3- اختيار معرفة الرجال:ج2 ص473
4- رجال الكشي:2/ 623

(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، قال:فدخل على الحمار الدار، ثم التفت إلينا فقال:أدخلا. ثم قال:يا يونس بن يعقوب أحسبك أنكرت قولي لك أن عيسى بن عبدالله منا أهل البيت! قال قلت: أي والله جعلت فداك لأن عيسى بن عبدالله رجل من أهل قم، فقال يا يونس عيسى بن عبدالله هو منا حي وهو منا ميت)(1) .وروى يونس مثل هذا القول عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في عيسى بن عبدالله القمي.

وروى الشيخ المفيد في كتاب الاختصاص عن أبي حمزة قال (دخل سعد بن عبد الملك وكان أبو جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يسميه سعد الخير وهو من ولد عبد العزيز بن مروان على أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فبينا ينشج كما تنشج النساء قال:فقال له أبو جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):ما يبكيك يا سعد؟ قال وكيف لا أبكي وأنا من الشجرة الملعونة في القرآن، فقال له:لست منهم أنت أموي منا أهل البيت أما سمعت قول الله عز وجل يحكي عن إبراهيم:(فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي)(2).

وترقى هذه المنزلة إلى ما ورد في بكير بن أعين أخي زرارة من (أن أبا عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما بلغه وفاة بكير بن أعين قال:اما والله لقد انزله الله بين رسوله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما)(3).

ومن جهة أخرى:تبيّن شرط هذا الانتماء، وإن هذه الأوسمة ليست تشريفاً مجرداً من دون استحقاق وتحمّل للمسؤولية التي يوجبها الانتماء والانتساب إلى71

ص: 360


1- رجال الكشي:2/ 624
2- الاختصاص- الشيخ المفيد: 85
3- رجال الكشي:1/ 456 رقم الترجمة71

الجهة أية جهة، فلإسلامك حق عليك ولولايتك لأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) حقوق ولارتباطك بمرجعية معينة استحقاقات وكذا لانتسابك لبلد معين كالعراق أو لمدينة معينة كالنجف الأشرف أو لأسرة معينة وهكذا تكون لكل جهة تنتسب إليها مسؤولية الانتماء.روى في مجمع البيان عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (إن أولى الناس بالأنبياء اعملهم بما جاؤوا به) ثم تلا آية آل عمران المتقدمة وقال:(إن ولي محمد من اطاع الله وإن بعدت لحمته وإن عدو محمد من عصى الله وإن قربت قرابته)(1).

وروى في الدر المنثور عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (يا معشر قريش أن أولى الناس بالنبي المتقون فكونوا أنتم بسبيل ذلك فانظروا لا يلقاني الناس يحملون الاعمال وتلقوني بالدنيا تحملونها فاصدُّ عنكم بوجهي) ثم تلا الآية(2) .

وروي عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (من اتقى منكم وأصلح فهو منا أهل البيت، قيل له:منكم يا بن رسول الله؟ قال:نعم، منا، أما سمعت قول الله عزوجل:{وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} وقول إبراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي}(3).

اذن فالفرصة مفتوحة أمام الجميع ليكونوا من أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وليس فقط من أصحابهم أو مريديهم وذلك ما نطقت به الآية الشريفة فإنها ظاهرة في كلا62

ص: 361


1- نور الثقلين:1/ 353 عن المجمع
2- الدر المنثور:2/ 43
3- دعائم الإسلام:ج1 ص 62

المعنيين:امتياز المتبع والمطيع للأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) بأن يكون منهم وبنفس الوقت تتضمن معنى اشتراط الاتباع والطاعة.إن الارتباط النسبي بالنبي والأئمة المعصومين وكذا الانتماء إلى قومية معينة أو جنس أو لغة أو لون خارج عن اختيار الانسان فلا يمكن ان يكون سبباً للتفاضل بين الناس ومثل هذه الدعوات لتفوق بعض البشر على بعض عصبية جاهلية، وإنما المقياس الحقيقي للانتماء هو الطاعة والاتباع، ولذا يؤدّب الله تعالى نساء النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن لا يتخذن هذا العنوان سبباً للتفاخر وإن تميزهنّ الحقيقي بالعمل الصالح {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً} (سورة الأحزاب:مقاطع من الآيات:29-32).

وكان الرد من الله تعالى حازماً في ابن النبي نوح لما عصى أباه، قال تعالى {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} (هود:46).

وقد بيَّن المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في احاديث مفصَّلة صفات المنتسب لهذه الجماعة المباركة وحرصوا على بيان مسؤوليات الانتماء لهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وجمع الأصحاب هذه الروايات في كتبهم ومنها (صفات الشيعة) للشيخ الصدوق ومن تلك الروايات ما ورد عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدى الأمانة وحسن خلقه مع الناس، قيل هذا جعفري،

ص: 362

فيسرّني ذلك ويدخل عليّ منه السرور، وقيل هذا أدب جعفر، وإذا كان على غير ذلك دخل علي بلاؤه وعاره، وقيل هذا أدب جعفر)(1) .وروى زيد الشحام عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (يا زيد خالقوا الناس بأخلاقهم صلّوا في مساجدهم وعودوا مرضاهم واشهدوا جنائزهم - هذا مع العامة من غير الموالين ونحن نرى اليوم من يقاطع المسجد اذا كان إمام الجماعة يقلّد مرجعاً آخر -، وان استطعتم ان تكونوا الأئمة والمؤذنين فافعلوا، فانكم اذا فعلتم ذلك قالوا:هؤلاء الجعفرية، رحم الله جعفراً، ما كان أحسن ما يؤدب أصحابه، واذا تركتم ذلك قالوا:هؤلاء الجعفرية، فعل الله بجعفر، ما كان اسوأ ما يؤدب أصحابه)(2) .

وكانوا يحثون اصحابهم والمنتمين اليهم أن يكونوا بمستوى المسؤولية ولا يرى الناس منهم الا خيرا ليكونوا صورة مشرقة عن أئمتهم ومنها وصيتهم العامة (معاشر الشيعة، كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للناس حسناً، احفظوا ألسنتكم وكفّوها عن الفضول وقبيح القول)(3) .

وفي رواية معتبرة عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (مالكم تسؤون رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ؟ فقال له رجل كيف نسوؤه؟ فقال:أما تعلمون أن أعمالكم تعرض عليه، فإذا رأى معصية ساءه ذلك، فلا تسوؤا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وسَرّوه)(4) . 3

ص: 363


1- الكافي:ج2 / ص 636
2- وسائل الشيعة:8/ 430 كتاب الصلاة ، أبواب الصلاة الجماعة ، باب 75 ح1
3- امالي الصدوق:484
4- الكافي :1/ 171 ح 3

فالانتماء والهوية ليست امراً بيدك فقط حتى تفعل ما تشاء من دون مراعاة لاستحقاقاتها بل لها طرف آخر يطالب بتحمّل مسؤولية هذه الهوية وهذا الانتماء لأن أي شيء حسن أو سيء والعياذ بالله يرجع على من تنتسب إليه.ويُحسن أن نشير باختصار إلى موقف لمن يشعر بمسؤولية الانتماء، فقد حكي ان شخصاً عثر على مال نفيس في السوق فاحتفظ به وراح يسأل عن صاحبه ليعيده إليه فقيل له ان صاحبه يهودي وليس عليك أن ترجعه له وانت احوج إليه، فقال:هل تريدون ان يشعر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالخجل يوم القيامة بسببي؟ قيل وكيف ذاك؟ قال لأن نبي صاحب المال وهو موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سيقول لنبينا محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ان رجلاً من امتك أخذ مال رجل من امتي بدون رضاه؟

ص: 364

القبس/76: سورة إبراهيم:42

اشارة

{وَلَا تَحسَبَنَّ ٱللَّهَ غَفِلًا عَمَّا يَعمَلُ ٱلظَّلِمُونَ ۚ}

موضوع القبس:عاقبة الظلم

الظلم هو تجاوز الحد والحق وعدم وضع الشيئ في موضعه وقد يقع الظلم بين الانسان وربّه بالمعصية فانها تجاوز على حقوق الربوبية وحدود العبودية واشدّه الكفر والشرك {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان:13)، والثاني بين الانسان واخية الانسان عندما يتجاوز حدوده ويعتدي على حقوق الاخرين المادية والمعنوية {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} (الشورى:42)، والثالث بينه وبين نفسه {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} (فاطر:32) والأخير موجود في الاولين فانه اول ما يظلم يظلم نفسه حينما يتجاوز الحدود مع ربّه او يعتدي على حقوق الناس ويجّر بذلك على نفسه العاقبة السيئة {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (البقرة:57).

فالآية محل البحث تحذّر من كل اشكال الظلم خصوصاً ظلم الناس لانه (الذنب الذي لا يغفر)(1)، كما في بعض الاحاديث الشريفة الا انه يغفره من وقع عليه الظلم اما الآخران فيمكن ان يُغفرا بالتوبة الصادقة، وتؤكد للناس حقيقة ان

ص: 365


1- الكافي، ج 2، ص 443.

الله تعالى لا يغفل عن هذه المظالم ويسجلّها صغيرة كانت او كبيرة ويحاسب عليها {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} (الفجر:14) فليتقي الانسان ربّه وليراقب نفسه ويدّقق في اعماله. روى الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال لما حضر علي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الوفاة ضمّني إلى صدره ثم قال (يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة وبما ذكر أن أباه أوصاه به قال:يا بنيّ إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلاّ الله)(1) وقد روي الحديث عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فعن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (يقول الله عز وجل:اشتد غضبي على من ظلم من لا يجد ناصراً غيري)(2)، أي ظلم من لا يمتلك القوّة والنفوذ لاسترداد حقّه إمّا لضعفه كالمرأة واليتيم والمستضعف أو لغيبته وعدم علمه أو لترفعه عن ردّ الإساءة بمثلها.

وتكتسب هذه الوصية أهمية كبيرة من جهة كونها الوصية الأخيرة في الحياة وعادة ما تتضمن مثل هذه الوصية أهم ما يريد أن يقوله الموصي، ومن جهة تواتر الوصية بها من معصوم الى معصوم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) , وهم أبعد ما يكونون عن الظلم مطلقاً ,وهو ما دلت عليه الآية الشريفة {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (البقرة:124) فبلوغهم مقام الإمامة يعني انهم منزهون عن الظلم، وإنما أريد من التأكيد على هذه الوصية ترسيخها في ذهن الأمة حتى تصبح لهم شعاراً في حياتهم.ر.

ص: 366


1- الكافي:2/ 331 ح5.
2- ميزان الحكمة:5/ 304 عن عدة مصادر.

تجنب الظلم الأخلاقي: من أخلاق أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) :

وكانوا (صلوات الله عليهم أجمعين) ينزهون أنفسهم عن الظلم بكل أشكاله ومستوياته حتى إذا لم يصل الى مستوى المخالفة الشرعية لكنه لا يليق بأخلاقهم العظيمة , روى الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن أبيه السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (إني حججتُ على ناقتي هذه عشرين حجة لم أقرعها بسوط)(1).

هذا هو ديدن الأئمة في الترفع عن الظلم مهما كان ضئيلاً وفي أي مستوى من مستوياته، يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (والله لأَن أبيتَ على حسكَ السعدان مسهّداً، أو أُجرَّ في الأغلال مصفّدا أحبُّ إليَّ من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيء من الحطام، وكيف أظلمُ أحداً لنفس يُسرِعُ إلى البلى قُفوُلُها، ويطول في الثرى حُلولُها)(2) وذكر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حادثته مع أخيه عقيل عندما أحمى له حديدة، ثم قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (والله لو أعطيتُ الأقاليمَ السبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي الله في نملةٍ أسلبها جُلبَ شعيرة ما فعلته)(3).

وكان الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يترفع عن الانتقام ومقابلة من ظلمه بالمثل لأنه يرى المقابلة بالمثل ومعاقبة المسيء سيئة وان الأليق بخصاله الكريمة العفو والصفح والإحسان إلى المسيء، تأدباً بقوله تعالى {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} (المؤمنون:96) وقوله تعالى {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت:34) وقوله تعالى

ص: 367


1- المحاسن للبرقي:2/ 635.
2- - (3) نهج البلاغة:الخطبة 221. بيان:الحسك:الشوك، والسعدان نبت ترعاه الإبل له شوك، والمسهَّد:السهران، والمصفّد:المقيَّد، والقفول:الرجوع، وجِلب الشعيرة:غطاؤها.

{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النور:22) فالذي يرجو عفو الله تعالى وإحسانه وفضله وكرمه لابد أن يتعامل مع الناس على هذا الأساس.روي:إن مولى لعلي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)يتولى عمارة ضيعة له، فجاء ليطلعها فأصاب فيها فسادا وتضييعا كثيرا غاضه من ذلك ما رآه وغمه، فقرع المولى بسوط كان في يده، وندم على ذلك، فلما انصرف إلى منزله أرسل في طلب المولى، فأتاه فوجده كاشفاً عن ظهره والسوط بين يديه، فظن أنه يريد عقوبته , فاشتد خوفه.

فأخذ علي بن الحسين السوط ومد يده إليه وقال:يا هذا قد كان مني إليك ما لم يتقدم مني مثله، وكانت هفوة وزلة فدونك السوط واقتص مني.

فقال:يا مولاي، و الله لقد ظننت أنك تريد عقوبتي، و أنا مستحق للعقوبة، فكيف أقتص منك؟!

قال:(ويحك اقتص).

فقال:معاذ الله، أنت في حل و سعة، فكرر ذلك عليه مرارا، والمولى كل ذلك يتعاظم قوله ويجلله، فلما لم يره يقتص، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) له:أما إذا أبيت فالضيعة صدقة عليك، وأعطاه إياها)(1).

وفي رواية الطبقات الكبرى لابن سعد، ان عبد الله بن علي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (لما عزل الوليد بن عبد الملك هشام بن إسماعيل عن ولاية المدينة9.

ص: 368


1- بحار الأنوار:ج46 ص99.

وأوقفه الوليد إلى الناس ليقتصوا منه، وكان يسيء إلى أبي، جمعنا أبي علي بن الحسين وقال:إن هذا الرجل قد عزل وقد أوقفه الوليد للناس فلا يتعرض له أحد بسوء، فقلت يا أبت، والله إن أثره عندنا لسيء وما كنا نطلب إلا مثل هذا اليوم. قال:يا بني نكله إلى الله، فوالله ما تعرض أحد بسوء من آل الحسين حتى تصرم أمره)(1).وروي في ذلك عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (أوحى الله إلى نبي من أنبيائه .. إذا ظُلمتَ بمظلمةٍ فارض بانتصاري لك فإن انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك)(2).

وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (لا يكبرّن عليك ظلم من ظلمك فانه يسعى في مضرّته ونفعك وليس جزاء من سرَّك أن تسوءَه)(3) .

التغاضي هو بلحاظ المظالم الشخصية لا الحقوق العامة:

ولابد أن نلتفت إلى أن هذا التغاضي وعدم الرد فيما يتعلق بالمظالم الشخصية، أما إذا كان الظلم يتعلق بالحقوق العامة خصوصاً إذا انتهكت محارم الله تعالى فالنهي عنه واجب والسكوت قبيح، روى في كنز العمال عن عائشة قالت: (ما رأيت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) منتصراً من ظلامة ظلمها قطّ إلا أن يُنتهك من محارم الله شيء، فإذا انتُهك من محارم الله شيء كان أشدَّهم في ذلك)(4).

ص: 369


1- موسوعة المصطفى العترة 7/ 64 عن عدة مصادر ذكرها.
2- بحار الأنوار:75/ 321 ح50.
3- تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 82
4- ميزان الحكمة:5/ 308 عن كنز العمال:18716.

في ذم الظلم:

والأحاديث الواردة في ذم الظلم والتحذير منه كثيرة فعن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (إياكم والظلم، فإن الظلم عند الله هو الظلمات يوم القيامة) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال(لا تظلم أحداً، تُحشر يوم القيامة في النور)(1)، وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الظلم في الدنيا بوار وفي الآخرة دمار)، وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إياك والظلم فإنه أكبر المعاصي)، وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ألا وإنّ الظلمَ ثلاثةٌ:فَظلمٌ لا يُغفرُ، وظُلمٌ لا يُتركُ، وظُلمٌ مغفورٌ لا يُطلَبُ، فأمّا الظُّلمُ الذي لا يُغفرُ فالشِّركُ بالله... وأمّا الظُلمُ الذي يُغفرُ فَظلمُ العبدِ نفسهُ عندَ بعضِ الهّناتِ، وأمّا الظُلمُ الذي لا يُتركُ فظلمُ العِبادِ بَعضِهِم بعضاً)(2).

عاقبة الظلم:

وروي عن النبي في بيان عاقبة الظالم قال:(إنّه ليأتي العبدُ يومَ القيامةِ وقد سرّته حسناتُهُ، فيجيء الرجلُ فيقول:يا ربّ ظلمني هذا، فيؤخذ من حسناتِهِ فيجعل في حسناتِ الذي سأله، فما يزال كذلك حتّى ما يبقى له حسنةٌ، فإذا جاء من يسأله نظر إلى سيئاته فجعلت مع سيئات الرجل، فلا يزال يستوفى منه حتى يدخل النار)(3). وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من ظلم قُصِم عمره) ,وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (بالظلم تزول النعم).

ص: 370


1- هذه المجموعة من الروايات وغيرها في ميزان الحكمة:7/ 299 وما بعدها.
2- ميزان الحكمة ج7 ص303.
3- ميزان الحكمة ج7 ص299.

مديات الظلم:

ويتضح من الروايات التي ذكرنا جملة منها إن مديات الظلم واسعة لا ينجو منها أحد الاّ من عصم الله تبارك وتعالى ,لان الظلم هو عدم الوفاء بتمام الحق ,وأول حق لا نستطيع الوفاء به ونقصّر فيه حق الله تعالى في طاعته وعبادته مخلصين له الدين {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان:13).

ومن الظلم ظلم النفس باتّباع هواها وعدم مسك زمامها فتوقعه في المعاصي وتتمرد على الطاعات وهو مفتاح الظلم للآخرين ,عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من ظلم نفسه كان لغيره أظلم) فيقع في ظلم الأهل وعموم الناس سواء في تعامله معهم أو خلال تقصيره في المسؤوليات المناطة به كالطبيب الذي لا يلتزم بشرف مهنته في المستشفى ليراجعوه في العيادة الخاصة، أو المدرِّس الذي يقصّر في المدرسة حتى يلتحقوا بدروسه الخصوصية والموظف الذي لا يعمل بمهنية ونزاهة، والأم التي تقصّر في تربية أولادها وحفظ بيتها وشرف زوجها، أو السياسي في الحكومة والبرلمان الذي لا يبذل كل جهده في خدمة الشعب الذي ائتمنه على هذه المواقع والأمثلة تطول , فهذا كله ظلم.

حتى إن الظلم يمكن أن يقع في أمور بسيطة لا نتصورها كالتحكيم بين كتابتين أو رسمين أيهما أجمل إذا لم يكن منصفاً في حكمه كما ورد في الرواية عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ألقى صبيان الكتّاب ألواحهم بين يديه ليُخيِّر بينهم، فقال:أما إنها حكومة والجور فيها كالجور في الحكم)(1).

ص: 371


1- وسائل الشيعة، كتاب الحدود والتعزيرات، أبواب بقية الحدود، باب8 ح2.

سبيل التخلص من الظلم:

ولا سبيل إلى التخلّص منها جميعاً إلاّ بالطلب من الله تعالى أن يرضي الخصماء عنه ويتولى ذلك بنفسه لأنه ولي الخلق جميعاً، ورد عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعاء يوم الاثنين (وَأَسْأَلُكَ فى مَظالِمِ عِبادِكَ عِنْدي، فَاَيَّما عَبْد مِنْ عَبيدِكَ اَوْ اَمَة مِنْ اِمائِكَ كانَتْ لَهُ قِبَلي مَظْلِمَةٌ ظَلَمْتُها اِيّاهُ، في نَفْسِهِ اَوْ في عِرْضِهِ اَوْ في مالِهِ، اَوْ في اَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، اَوْ غيبَةٌ اغْتَبْتُهُ بِها، اَوْ تَحامُلٌ عَلَيْهِ بِمَيْلٍ اَوْ هَوىً، اَوْ اَنَفَة اَوْ حَمِيَّة اَوْ رِياء اَوْ عَصَبِيَّة. غائِباً كانَ اَوْ شاهِداً، وَحَيّاً كانَ اَوْ مَيِّتاً، فَقَصُرَتْ يَدى وَضاقَ وُسْعى عَنْ رَدِّها اِلَيْهِ وَاْلتَحَلُّلِ مِنْهُ، فَأَسْأَلُكَ يا مَنْ يَمْلِكُ الْحاجاتِ، وَهِىَ مُسْتَجيبَةٌ لِمَشِيَّتِهِ وَمُسْرِعَةٌ اِلى اِرادَتِهِ اَنْ تُصَلِيَّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَاَنْ تُرْضِيَهُ عَنّي بِما شِئْتْ، وَتَهَبَ لي مِنْ عِنْدِكَ رَحْمَةً، اِنَّهُ لا تَنْقُصُكَ الْمَغْفِرَةُ وَلا تَضُرُّكَ الْمَوْهِبَةُ، يا اَرْحَمَ الرّاحِمينَ).(1)

ومن دعا ء له (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)(اللهم اني اعتذر اليك من مظلومٍ ظلم بحضرتي فلم أنصره)(2) .

ومن دعائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)(اللهم فكما كرهت إلي أن أظلم، فقني من أن أظلم)(3).

ص: 372


1- الصحيفة السجادية: دعاء يوم الاثنين.
2- الصحيفة السجادية: الدعاء38 .
3- الصحيفة السجادية: دعاؤه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إذا اعتدي عليه أو رأى من الظالمين ما لا يحب) ص 95.

القبس/77: سورة الحجر:93

اشارة

{فَوَرَبِّكَ لَنَسَٔلَنَّهُم أَجمَعِينَ 92 عَمَّا كَانُواْ يَعمَلُونَ}

موضوع القبس:تنمية الشعور بالمسؤولية

يقسم الله تبارك وتعالى لرسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ويختار للقسم أسماً ذا مغزى من اسمائه وهو (الرب) الذي تولى تربيته ورعايته والعناية به على اتم وجه وهي العناية التي لمسها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في كل حياته واستشعر رفقها وحنانها وحبّها، فالقسم بهذا الاسم يكون أدعى للاذعان والتسليم بهذه الحقيقة.

وهو سبحانه لا يحتاج الى قسم لتصديق كلامه {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً} (النساء:122) وإنما يقسم تعالى لتأكيد القضية، وجلب المزيد من الاهتمام بها وإيقاظ المخاطبين من غفلتهم عن جدية هذا الأمر وواقعيته، وزاد في التأكيد باستعمال اللام ونون التوكيد.

{لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ} فكل البشر سيقفون للسؤال والحساب أمام الله تعالى بلا استثناء {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} (الصافات:24) وهو تبارك وتعالى لا يسأل للاستفهام وطلب التعرف لأنه تعالى {قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} (الطلاق:12) {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (يونس:61) {وَسِعَ كُلَّ

ص: 373

شَيْءٍ عِلْماً} (طه:98) وإنما السؤال للإقرار والتبكيت وإلزام المسؤول نفسه وكشفه (عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ).وهذا بذاته فيه الكثير مما يسمى ب-(وخز الضمير) والشعور بالخجل لظهور ما كان يخفيه الانسان من القبائح والتقصيرات {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} (الطارق:9) وكان عليه أن يلتفت حينما كان في الحياة الدنيا الى هذه الحقيقة ويعمل على أساسها بحذر وانتباه لا أن يضيّع نفسه بسبب الغفلة وإتباع الاهواء والشهوات {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ} (فصلت:22).

وفي قوله تعالى {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} عموم لكل ما عمل الإنسان، فالسؤال سيكون شاملاً لكل تفاصيل الحياة التي ستكون حاضرة وماثلة {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الجاثية:29) {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً} (الكهف:49) {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً} (آل عمران:30) وسيكون الجزاء – مثوبة وعقوبة – بحسب العمل {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} (الزلزلة:7-8).

والسؤال والاستفهام ما دام إقرارياً تبكيتياً فأنه قد لا يكون بتوجيه الكلام الى المسؤول كما هو المتعارف بل باستنطاق جوارحه واعضائه الشاهدة على أفعاله والحاضرة فيها {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النور:24).

وهذا الفهم يقدّم وجهاً لحل الاشكال بين الآية التي نحن فيها وقوله تعالى

ص: 374

{فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ} (الرحمن:39) وهنا السؤال متحقق لكن بالاستنطاق المذكور ولا يحتاج الى أن يسأل الانس والجان لفظياً عن أعمالهم لأنها ستكون حاضرة مع شهودها {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (يس:65) {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} (الرحمن:41).أمام هذه الحقائق {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} (فاطر:5) يكون حرياً بنا أن نستشعر هذه المسؤولية وان تكون حية في وجداننا وحاضرة في أذهاننا عند كل قول أو فعل وفي أي حال من أحوال النفس، فهذا الشعور بالمسؤولية هو أول ثمرة واستجابة لهذه الآية الكريمة تلبية لنداء الرب الكريم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال:24)، والآية تؤسس لحقل مهم من حقول علم التنمية البشرية الذي يحظى باهتمام واسع اليوم وهو الشعور بالمسؤولية.

وفي الخطوة التالية علينا أن نعي هذه المسؤولية ونتعرف على تفاصيلها ومجالاتها، لأن المعرفة أساس كل شيء، وإنما اخرج الانسان الى هذه الدنيا ليحَّصل هذه المعرفة ففي تفسير قوله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:56) نقل عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن الامام الحسين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (خرج الحسين بن علي ع على أصحابه فقال:أيها الناس ان الله جل ذكره ما خلق العباد إلا ليعرفوه فإذا عرفوه عبدوه فإذا عبدوه استغنوا

ص: 375

بعبادته عن عبادة من سواه)(1) ولذا اكتسب العقل أعلى قيمة بين العبادات في الحديث (مَا عُبِدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنَ الْعَقْلِ)(2).والمسؤوليات الملقاة على عاتقنا في هذه الدنيا واسعة ومتشعبة وباتجاهات عديدة، سئل الامام علي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (كيف أصبحت يا ابن رسول الله ؟ قال أصبحت مطلوباً بثمان خصال:الله تعالى يطلبني بالفرائض، والنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالسنة، والعيال بالقوت، والنفس بالشهوة، والشيطان بالمعصية، والحافظان بصدق العمل، وملك الموت بالروح، والقبر بالجسد، فأنا بين هذه الخصال مطلوب)(3) فالحديث يحمل معاني الاشفاق والقلق والعطف على من يعيش هذه التجاذبات وعليه ان يؤدي هذه الاستحقاقات التي لا يعرف صعوبة النجاح فيها والخروج من عهدتها بالشكل الكامل الا مثل الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فما حال الناس الغافلين والمقصرين؟!

وهذه الاستحقاقات الثمانية تمثل الحد المشترك بين الناس والمسؤولية الشخصية لكل أحد، وتوجد بإزائها المسؤوليات العامة التي تضاف الى الانسان بحسب الموقع الذي يشغله والعنوان الذي يكتسبه فهي تختلف من شخص لآخر، فمثلاً حضراتكم أساتذة في(4) الجامعات يتربى على أيديكم في كل سنة المئاتوث

ص: 376


1- علل الشرائع للشيخ الصدوق :باب 9 علة خلق الخلق .
2- وسائل الشيعة ج15 ص187 ح 20239.
3- بحار الأنوار:37/ 15.
4- تحدّث سماحة المرجع الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) بهذا القبس في ملتقى أساتذة الجامعات العراقية مساء يوم الخميس 16 شوال1437 الموافق 21-7-2016 وقد استضاف مركز عين للبحوث

من الطلبة الشباب فعليكم مسؤولية علمية في تزويدهم بكل ما ينفعهم من العلوم والمعارف ليكونوا متقنين للعلم الذي تخصصّوا فيه وهذه المسؤولية تلزمكم بتقييمهم بدقة وعدم بخس حق أحد او تفضيل أحد على آخر بغير حق، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ألقى صبيان الكتاب ألواحهم بين يديه ليخير بينهم، فقال: أما أنها حكومة والجور فيها كالجور في الحكم، أبلغوا معلمكم إن ضربكم فوق ثلاث ضربات في الأدب أقتص منه (1).وعليكم مسؤولية أخلاقية وفكرية وثقافية في توعية هذا الجيل وهم خام في مقتبل العمر وفي مرحلة تكوين شخصيتهم ورسم ملامح رؤيتهم للحياة، وليس عندهم في عائلتهم او بيئتهم التي جاؤوا منها ما يساعدهم على ذلك، وانتم لكم من الهيبة والرمزية والتأثير على الطلبة اكثر من أي شخص مؤثر اخر، فعليكم ترشيدهم وتوجيههم وتصحيح سلوكياتهم وعقائدهم وتحصينهم من التيارات الوافدة تحت عناوين مختلفة وهي جميعاً تهدف الى تجريد الشباب من هويتهم الاصيلة، فلابد من اعطائهم الجرعات المضادة لهذه الأوبئة والامراض الفتاكة.

فالمسؤولية اذن شاقة ومعقدة وقد تقولون إن هذا صعب أن يفي الإنسان بكل هذه الالتزامات مع الاستحقاقات الثمانية التي وردت في حديث الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأنا أشاطركم هذا الشعور، لكن هذه الصعوبة تذوب بالإخلاص لله تبارك وتعالى وبالتسامي عن الأنانية الشخصية والفئوية وبالهمة العالية والتفانيح2

ص: 377


1- وسائل الشيعة (آل البيت): 28/ 372/ح2

في العمل، واعلموا أن الألطاف الإلهية والنفحات المعنوية تختصر لكم الطريق وتطوي المسافة وتقرب البعيد وتذلل العسير قال تعالى {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً}. {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} (الطلاق:2-4-5).وهكذا فقد تكفل الله تعالى بتيسير سبل طاعته والمعونة عليها كما في الآيات والروايات الكثيرة ومنها قوله تعالى {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} (الحجرات:7) قال تعالى {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (الذاريات:22) وقال تعالى {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} (الإسراء:31).

وتوجد رواية تهديكم إلى الكثير من الحلول لمشاكلكم وتفتح لكم آفاق المخرج من التعقيدات التي تواجهكم، خصوصاً في الساحة العراقية التي غاصت في وحلها أرجل الكبار والصغار، فقد روي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله:(ما من عبد أحبنا وزاد في حبنا وأخلص في معرفتنا وسئل مسألة إلا ونفثنا في روعه جوابا لتلك المسألة)(1).

فلا يكفي إذن ان يتبوأ الانسان موقعاً مهماً بل عليه أن يفي باستحقاقه ويؤدي التزاماته أمام الله تعالى، استمع الى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يتحدث عن هذه المسؤولية حينما رجعت اليه الأمة بعد إعراض (أ أقنع من نفسي بأن يقال أميرج2

ص: 378


1- شرح الخطبة التطنجية لكاظم الحسيني الرشتي ج2

المؤمنين و لا أشاركهم في مكاره الدّهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش)(1).وإذا عجز الإنسان عن القيام بالمسؤوليات الملقاة على عاتقه في موقع معين – خصوصاً على مستوى الزعامة الدينية والسياسية - فليتجنب الموقع وليترك الفرصة لغيره، فإن حركة البشرية نحو التكامل لا تتوقف لموت أحد أو انسحابه من العمل ولا حاجة إلى أن يتمادى في جهله وظلمه لنفسه فيتقمص موقعاً ليس من أهله ويكفيه ما قال فيه خالقه:{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (الأحزاب:72).

وقد يشعر الإنسان بالرضا عن نفسه أحياناً وبكونه ناجحاً في عمله ومؤدياً لواجباته عكس ما ينظر إليه الآخرون فلا يفهم سبب اعتراض الآخرين أو توبيخهم، وما ذلك - في بعض وجوهه - إلا لفقدانه القدرة على قياس درجة النجاح وضياع المعايير الصحيحة للتقييم عنده لأنه غافل عن ما يجب عليه الوفاء به من استحقاقات، ولو التفت إليها لعرف حجم تقصيره ولكنه ينظر إلى جهةٍ واحدة ويرى نفسه ناجحاً فيها ويعمم النتيجة.

أيها الإخوة والأخوات:

إن الله تعالى خلقكم في زمان يغبطكم عليه أهل الأجيال الأخرى كما نغبط نحن جيل الصحابة الذين عاشوا مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبنوا بقيادته الحكيمة

ص: 379


1- نهج البلاغة ص 146، من كتاب له (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري.

صرح الإسلام العظيم، فكان لهم بكل من اهتدى بنور الإسلام صدقة جارية توجب لهم المزيد من الأجر.ونغبط أصحاب الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لأنهم صنعوا مستقبل الأمة إلى نهاية التاريخ وأرجعوا مسيرة الأمة إلى اتجاهها الصحيح وصانوها من الانحراف والتزييف فلهم على كل مسلم فضل ومنّة بموقف وقفوه عدة ساعات من النهار.

فعلينا أن نلتفت الى ان الله تعالى خلقنا في هذا المفصل التاريخي العظيم الذي قُدِّر له أن يرسم المستقبل ليس للعراق فقط بل للمنطقة وللعالم، ولا تؤثر عليه المعاناة والمصائب والفجائع التي يدبرها لنا اعداؤنا، فعلينا أن نحسن الأداء {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (الملك:2) وأن نؤدي وظائفنا المطلوبة على أكمل وجه في هذا اليوم الذي له ما وراءه كما كانت تقول العرب وأن نشكر الله تعالى على هذه الفرصة الثمينة ونحسن استثمارها.

ومن قبل نشكر الله تعالى انه خلقنا في زمان الإسلام والهدى، هذه النعمة التي سجّلها الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعاءه يوم عرفة (لم تخرجني لرأفتك بي ولطفك لي وإحسانك إليّ في دولة أئمة الكفر الذين نقضوا عهدك وكذّبوا رسلك لكنك أخرجتني للذي سبق لي من الهدى الذي له يسرتني وفيه أنشأتني)(1).

تصوّروا لو أن الله تعالى خلق أحدنا في زمان الجاهلية فما هي فرصة الهداية في ذلك المجتمع الذي كان يعكف على عبادة الأصنام والزنا وشرب الخمر وقتل النفس المحترمة، بحيث أن جعفر بن أبي طالب يشار إليه بامتياز عن المجتمع المكي بانه ممن حرّم على نفسه الخمر في الجاهلية لندرة هذه الحالة، ويوصف29

ص: 380


1- مفاتيح الجنان: 329

الإمام علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بأنه (كرم الله وجهه) لأنه لم يسجد لصنمٍ في الجاهلية(1) ومن هذه الأمثلة النادرة تعلموا حال الآخرين(2).أقول:ما فرصة هداية الإنسان في مثل ذلك المجتمع وكم واحدٍ يمكن أن يكون مثل سلمان الفارسي الذي(3) ولد بأرض الفرس فلما بلغ عرف ضلال قومه فراح يجوب البلدان بحثاً عن الحقيقة في بلاد الفرس والروم وارض العرب حتى اهتدى إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

فهذه النعمة التي نرفل بها تضاف إلى نعمة عظيمة أن الله تبارك وتعالى اختارنا بلطفه وعطائه الابتدائي من بين الأجيال لنكون من هذا الجيل الذي كلّفه برسم معالم المستقبل، كما اختار من قبل أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأصحاب الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت:46)، {قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} (الأنعام:104).55

ص: 381


1- الأمالي- الشيخ الطوسي: 379
2- أنظر: علل الشرائع- الشيخ الصدوق: 2/ 558
3- بحار الأنوار- المجلسي: 22/ 355

القبس/78: سورة الحجر:93

اشارة

{فَٱصدَع بِمَا تُؤمَرُ}

موضوع القبس:إعلان الهوية

التماهي في الذوبان:

من مظاهر تقصيرنا الذي تحوّل إلى مشكلة تعيق تقدّم العمل الإسلامي الرسالي هو عدم إبراز هويتنا اما ضعفاً أو مجاملة أو مداهنة أو خوفاً على بعض المصالح والامتيازات أو لأي سبب آخر، ونقصد بهويتنا كل الانتماءات التي تشكل عناصر هذه الهوية، فنحن مسلمون ننتمي للإسلام، ونحن من الموالين لأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، ونحن نتبع المرجعية الفلانية ونقلدها.

فعلى صعيد الهوية الإسلامية نجد أن بعض المسلمين - في بعض المجتمعات المتمدنة كما يزعمون- قد يترك الصلاة بين زملائه في العمل أو في الجامعة حتى لا يعرف انه مسلم، أو المرأة تضعف عن لبس الحجاب العفيف لأنها لا تستطيع أن تواجه تعليقات الآخرين، أو يجلس شخص على مائدة الشراب أو يسمع الغناء حتى لا يقال عنه انه (معقّد) أو (متخلّف)، أو يجاري الآخرين في لبسه ومظهره الخارجي واندماجه معهم في سلوكهم المنحرف حتى يقال عنه أنه متمدن متحضر مثلهم.

وعلى صعيد الهوية الشيعية نجد من يترك المشاركة في إحياء الشعائر

ص: 382

الحسينية المهذبة المسنونة شرعاً، أو يعرض عن قضية فاطمة الزهراء (س) وما جرى بعد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، أو يخفي شهادته لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالولاية، أو السجود على التربة ونحوها.والذي يقلّد المرجعية المعيّنة لا يصرّح بذلك ويحاول التمويه والابتعاد عن انتسابه إليها ونحوها من الأمثلة على التخلي عن الهوية وما تقتضيه انتماءاته لتلك الهوية من التزامات.

الضعف في إبراز الهوية:

إن هذا الضعف عن ابراز الهوية لا يضرّ فقط في دينه وآخرته ويسقطه من عين الآخرين لاتهامه بالنفاق، بل انه يضرّ بكل المشروع الذي ينتمي إليه لأنه يؤدي إلى تمييع الهوية وتضييعها، ولأنه إذا لم يعلن انتماءه ويبيّن نقاط القوة فيه ودواعي تبنّيه له، فكيف سيدعو الآخرين إليه ويقنعهم به؟، وكيف سيتقدم المشروع الرسالي؟ ولو أن السلف الصالح لم يقم بواجبه تجاه هويته ويبيّنوها بوضوح ويدافعوا عنها بالحجج الدامغة لما وصلت إلينا بهذه القوة والثبات والمناعة مضمّخة بدماء الشهداء ومداد العلماء.

التعايش مع الآخر لا يعني التنازل عن المبادئ:

فإنّ الوحدة والتقارب والتعايش مع الطوائف الإسلامية أو مع الديانات الأخرى، أو مع الشرائح المتنوّعة لا تستلزم التنازل عن المبادئ والمعتقدات التي ثبتت صحتها، فليعمل كلٌ بما ثبت عنده صحته بالحجة والبرهان، وإذا كان غير متثبّت من معتقداته وانتماءاته فيجب عليه إعادة النظر فيها ومراجعتها وطلب

ص: 383

الدليل عليها، وليس اخفاؤها والمجاملة فيها.

الآية الكريمة تصر على تحمل مسؤولية الانتماء:

لقد كان من أوائل الأوامر التي وجّهها الله تبارك وتعالى إلى رسوله الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في بداية الدعوة الإسلامية قوله تعالى {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ، إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} (الحجر:94-95) والصدع هو إحداث الشق في الاجسام الصلبة كالحديد والشق واستعير لفصل الأمور وقطعها فصدع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بدعوته في مواجهة طواغيت قريش وسدنة الأصنام التي بلغ تعدادها (360) صنماً حوّلوها إلى كيانات لمصالحهم وامتيازاتهم الواسعة، ولم يكن مع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلاّ أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وخديجة بنت خويلد، وأصرّ على تحمل المسؤولية حتى فتح الله تعالى على يديه، ولا نطيل بالشواهد من سيرة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وفاطمة الزهراء (س) والأئمة الطاهرين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

وعلى هذا النهج سار الصلحاء من اتباع أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، فيقف أبو ذر الغفاري (رضوان الله تعالى عليه) في عقر ديار معاوية ويقول:سمعت حبيبي رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) باذنيّ هاتين وإلاّ صُمَّتا يقول، ثم يذكر فضائل علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وانظر إلى موقف الصحابة الاثني عشر الذين احاطوا بمنبر الأول حينما تقمص الخلافة بعد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وادلوا بشهاداتهم وحججهم وقد ذكرها الطبرسي في كتاب الاحتجاج(1).

ص: 384


1- الإحتجاج- الطبرسي: 1/ 70

لنتحدث عمّا يجب فعله لا ما فعلوه بنا:

روينا لكم في حديث سابق اننا في موسم الحج عام 1424 وجّهنا إلى أن نرفع أصواتنا بشكل جماعي اثناء الطواف حول الكعبة بدعاء الفرج (اللهم كن لوليك الحجة ابن الحسن.......)(1) ليلتفت المسلمون القادمون من حوالي (180) دولة في العالم إلى إمامهم الحق ويسألوا عنه ويتعرفوا عليه ويهتدوا إلى نوره، وكنّا على ثقة بأنه سيتجاوب معنا الموالون، وهذا ما حصل وكان له وقع واثر ولم يستطع المناوؤن منعه واستمرت هذه السُنّة إلى اليوم ونسأل الله تعالى أن تبقى وتستمر وتتسع حتى يأذن الله لوليه بالظهور المبارك.

إننا كثيراً ما نتحدث عن مؤامرات الأعداء واستهدافنا وانهم يفعلون كذا وكذا، ولا نتحدث إلا القليل عمّا يجب أن نفعله نحن في مواجهتهم والقيام بمسؤولياتنا، ومنها هذا التكليف بالاصحار والاعلان عن عناصر الهوية.

ويجب الالتفات إلى أن يكون ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة كما أمر الله تبارك وتعالى، وأوصى نبيّه الكليم وأخاه هارون وهما يتوجهان إلى فرعون لدعوته إلى التوحيد {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه:43-44).

ص: 385


1- مفاتيح الجنان: 290

القبس/79: سورة الحجر:97

اشارة

{وَلَقَد نَعلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدرُكَ بِمَا يَقُولُونَ}

موضوع القبس:القرآن الكريم يخفف آلام العاملين الرساليين

من السنن الجارية في الأمم عبر التاريخ تعرّض المصلحين والعاملين الرساليين وعلى رأسهم الأنبياء والرسل والأئمة المعصومون (صلوات الله عليهم أجمعين) إلى الإيذاء المادي والمعنوي من قبل المتسلطين والطواغيت وأصحاب النفوذ (الذين يسميهم القران بالملأ) وأتباعهم من الجهلة والمنتفعين والغوغاء {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ} (فصلت:43) {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كثيراً} (آل عمران:186)، مما يسبب لهم الماً وحزناً لتضيق به صدورهم ويبدي الله تبارك وتعالى على لسان أوليائه الحسرة والألم والتفجّع لهذا الموقف السلبي {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} (يس:30)، فيخبر الله تعالى نبيه في هذه الاية بانه تعالى يعلم ما يحّل به ويجري عليه {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (الطور:48) ورعايتنا مستمرة ودائمة ويعلمه الاجراء الذي يتخذه لتحصيل الطمأنينة وتخفيف هذه الألام، قال تعالى {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ 98 وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر:98-99)

ص: 386

ويحكي القران الكريم فصولاً عديدة من هذه المواجهة تضمنت أقسى ألوان البطش والقسوة والانحطاط من قبل المعسكر الآخر وأسمى ألوان الصبر والمصابرة والجهاد والرحمة والشفقة من أولياء الله وعباده الصالحين، ورغم أن الإيذاء المادي المشتمل على القتل والتشريد والتعذيب الجسدي والسجن والتجويع وغيرها كان قاسيا إلا أن ما يؤلم الصالحين أكثر هو الإيذاء المعنوي بالإعراض عن الاستماع إلى الحق وإتباعه وخلط الأوراق على الناس بالافتراء والكذب وقتل الشخصية بالتسقيط والتشويه لان الثاني هو الذي يحول دون نجاح مشروعهم الرسالي ويضع الحواجز بينهم _أي المصلحين_ وبين الناس فيؤلمهم ابتعاد الناس وعدم اهتدائهم إلى الحق وتنعّمهم بالرحمة التي جاؤوهم بها من ربهم {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107)، أما الأول فإنه يؤدي إلى التعاطف معهم والالتفات إليهم واعتناق مبادئهم ولو بعد حين للشعور بمظلوميته. ومما يزيد في شدة وطأة الإيذاء المعنوي أن أتباع نفس الرسل والمصلحين يساهمون فيه عن علم وعمد أو عن جهل وغرور وأنانية بسوء تصرفهم وبعصيانهم وعدم الالتزام بتعاليم قادتهم وبضعفهم وتشتتهم والخلافات بينهم ونحوها، بينما لا يتوقع صدور النوع الأول من الأتباع والموالين.

وكان الإيذاء المعنوي أشد على قلب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الذي وصفه الله تبارك وتعالى {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة:128)، لذا كان ربّه الكريم الرحيم يسلّي قلبه ويخفف عن آلامه ويطيّب خاطره {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} (النحل:127)، {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا

ص: 387

يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر:97-99).بل إن سوراً كاملة نزلت لهذا الغرض كسورتي القصص ويوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فالأولى تصف حالة الاستضعاف التي كان عليها قوم موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حيث كان فرعون يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم وفي ذلك البلاء العظيم ولد موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فكان من لطف الله به وتدبيره له أن يأخذه فرعون الطاغية نفسه ويرعاه حتى أصبح رجلاً رافضاً لما عليه فرعون وقومه ثم غادر مصر خوفاً من القتل حتى ورد ماء مدين وتزوج هناك ثم عاد نبياً رسولاً كليماً لله تبارك وتعالى بمعجزة عظيمة يدعو فرعون إلى عبادة الله تبارك وتعالى واستطاع أن يهدي بمعاجزه سحرة فرعون وآمن به من آمن حتى عبّأ له فرعون من الجيوش ما لا قبل لموسى والمؤمنين بهم ففلق الله تبارك وتعالى لموسى البحر وأنجاه ومن معه وأغرق فرعون وجنوده لينتصر موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ويقيم الحق والعدل وقد عبّر الله تبارك وتعالى عن هذا التدبير بتعبير رقيق {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (طه:39)، أي لتُصنع هذه القيادة الفذة برعاية وتدبير مباشرين من الله تبارك وتعالى، وفي نهايتها تصل السورة إلى الهدف وهو تطييب قلب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والتخفيف عن آلامه التي اشتدت في السنين الأخيرة من وجوده المبارك في مكة حيث حوصر ثلاث سنين في الشعب حتى فقد ناصريه خديجة وأبا طالب ثم أُمِر بالهجرة ومغادرة مكة التي تعلق بها قلبه فوعده الله تبارك وتعالى بأنه عائدٌ إليها {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} (القصص:85)، وما مرت إلا ثمان سنوات - وهي ليست كثيرة في عمر الزمن- حتى تحقق الوعد الإلهي

ص: 388

بفتح مكة.وتتحدث سورة يوسف عن ذلك الغلام الصغير الذي حسده أخوته فالقوه في الجب ليهلك ولم يكن هناك أمل بنجاته لكن التدبير الإلهي أتاه بقافلة لتستقي فخرج مع الدلو وباعوه في مصر إلى عزيزها الذي رباه واعتنى به ثم قرّبه لما وجد عنده علماً وحكمة وتدبيراً وأمانة وصار بيد النبي الكريم مقاليد أمور الولاية بعد وفاة عزيزها وجاء نفس أخوته الذين كادوا له معترفين بجريمتهم طالبين العفو والصفح فتعامل معهم بسمو الأخلاق.

هكذا يلطف الله تعالى بعباده وهكذا يصنع أولياءه ويدبّر شؤونهم، وهكذا يخيب كيد الباغين والحاسدين والمنافقين والكافرين {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ} (فاطر:43).

إن ما يمرّ بنا اليوم من بلاء وما مرّ بنا أيام صدام وغيره من الطواغيت لا يستحق أن يذكر في جنب ما أصاب أولياء الله الصالحين في الأمم السالفة حيث ورد في الروايات أنهم نشروا بالمناشير وقرضوا بالمقاريض وحفرت لهم أخاديد النار والقوا فيها فقضوا حرقاً (سورة البروج) والمتوقع من المتهالكين على السلطة وحب الدنيا أن يفعلوا ما هو أسوا لولا لطف الله تبارك وتعالى، فخير ما يسليكم ويطمئن قلوبكم وينوّر بصائركم ويثبت أقدامكم هو القران الكريم فاتخذوه قائداً وهادياً. وقد عشت مثل هذه التجربة مع القرآن ولا زلت أعيش لذة الأيام التي قضيتها في كنفه في ثمانينات القرن الماضي حينما كنت حبيساً في الدار لا ادري في أي لحظة يقبض عليَّ الطغاة ويعدمونني الحياة.

وإن مما يخفّف الآلام والمصاعب ويدفعنا إلى بذل المزيد من الجهود هو

ص: 389

أن نلتفت إلى النعمة التي منحنا الله تبارك وتعالى إياها في هذا الزمن حيث تتوفر أعظم فرصة لبناء المستقبل الزاهر لامتنا وننفض غبار السبات الذي أصابها منذ أكثر من ألف عام، ونمهّد لدولة الحق والعدل ببناء أنفسنا ومجتمعنا ومؤسساتنا على أسس الإخلاص والتقوى والعمل الصالح بعيداً عن المتصارعين على الدنيا الفانية الزائلة. لقد كان أصحاب الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يتسابقون إلى الموت فرحين مسرورين لان الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كشف لهم عن بصائرهم فرأوا منازلهم في الجنة أي رأوا نتائج تضحياتهم والمستقبل العظيم لما يقومون به فصغُر في أعينهم ما يلاقون من ألم الجراح وهذا التفسير منسجم مع ما نعتقده من تجسّم الأعمال.وإذا كانت تلك التضحيات لإبقاء الحياة وجذوة الضمير والايمان في جسد الأمة فإن تضحيات اليوم ستؤدي إلى بعثها من جديد وحركتها نحو بناء دولة الحق والعدل.

ص: 390

الصورة

ص: 391

الفهرس الإجمالي

الصورة

ص: 392

الصورة

ص: 393

الصورة

ص: 394

الصورة

ص: 395

الصورة

ص: 396

الصورة

ص: 397

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.