من نور القرآن المجلد 1

هویة الکتاب

اسم الكتاب: من نور القرآن

الكاتب: آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي

لسان: العربية

الناشر: دار الصادقين - النجف اشرف - العراق

الموضوع : التفسير

مشخصات : 5 ج

الطبعة : الرابعة

التاريخ : 1442ه- - 2021م

ص: 1

اشارة

ص: 1

من نور القرآن

ص: 2

ص: 3

من نور القرآن

تفسير موضوعي حركي يقتبس من القرآن الكريم

ما يلقي ضوءاً على قضايا عقائدية أو أخلاقية

أو فكرية أو اجتماعية

سورة الفاتحة – سورة المائدة

ص: 4

بِسمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحمَنِ ٱلرَّحِيمِ

مقدمة وتعريف

اشارة

الحمد لله الذي خلق الإنسان علّمه البيان وصلّى الله على سيد خلقه المبعوث رحمة للعالمين محمد وآله الطيبين الطاهرين.

نور القرآن

وصف القرآن الكريم نفسه بأنه (نور) في آيات عديدة كقوله تعالى {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} (المائدة:15) وقوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا) (النساء:174) وقال تعالى (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا) (التغابن:8) وقال تعالى (مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا) (الشورى:52) وغيرها من الآيات.

وهكذا وُصِف في الأحاديث الشريفة كقول رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (القرآن هو النور المبين والذكر الحكيم والصراط المستقيم)(1).

ومن كلام لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في صفة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (حتى أكرمه الله عزوجل بالروح الأمين والنور المبين والكتاب المستبين)(2) وقال الامام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إن هذا القرآن فيه مصابيح النور وشفاء الصدور، فليجلُ جالٍ

ص: 5


1- كنز العمال: 1/ 517 ح 2309
2- التوحيد: 72 ح 26 ، عيون أخبار الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 1/ 124 ح 15

بصره، فان التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور)(1).ومن دعاء الامام زين العابدين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عند ختم القرآن (وجعلته نوراً نهتدي من ظلم الضلالة والجهالة باتباعه... ونور هدى لا يُطفأ عن الشاهدين برهانه، وعلم نجاة لا يضِلُّ من أمَّ قصد سُنّته، ولا تنال أيدي الهلكات من تعلق بعروة عصمته)(2).

والنور هو الظاهر في نفسه المظهر لغيره بما يلقي على الأشياء من الضوء فيجعلها قابلة للإبصار، فالقرآن نور لأنه المصباح الذي يستضيئ به طالبو الكمال والسائرون على طريق الهداية والصلاح والسعادة في الدنيا والآخرة وهذه هي وظيفة القرآن والغرض من نزوله {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}(المائدة:15-16).

وقد تسأل بأن القرآن اذا كان بيِّناً في نفسه مبيِّناً لغيره فما الحاجة الى التفسير الذي يعني كشف معنى اللفظ واظهاره وبيان مراد المتكلم ومدلولات كلامه. ويُجاب بأن القرآن كما وصف بيِّن ظاهر لذا يستفيد منه كل من يقرأه بحسب مؤهلاته {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} (الرعد:17) وان الحاجة الى التفسير بلحاظ قصورنا عن ادراك معانيه لما ران على قلوبنا وعقولنا من رين الجهل والشك2.

ص: 6


1- نزهة الناظر: 73 ح 18، كشف الغمة: 2/ 199 بواسطة معرفة القرآن على ضوء الكتاب والسنة للريشهري: 1/ 52
2- الصحيفة السجادية: 157 الدعاء 42.

والسطحية في التفكير والنظر فالتفسير يزيل هذه الحجب ويقرّبنا الى القرآن الذي هو قريب منا الا اننا بعيدون عنه، مضافاً الى وجود تفاصيل لم تذكرها الآيات الكريمة فوظيفة الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بيانها {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} (الجمعة:2). وإنّ للقرآن بطوناً من التفسير والحقائق المكنونة في طياته لا يتيسّر معرفتها الا لأهلها وهم يبيّنون لغيرهم.

والقرآن من أعظم أسباب تحصيل النور فهو ثقل الله الأكبر استمد نوره من مرسله ومنزله وهو {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (النور:35) لا يضِل من تمسك به، والقرآن يجلي البصيرة ويكشف عنها فيتمكن الإنسان من النظر بها، ويفجّر في القلب والعقل نور الفرقان الذي يميّز للإنسان الحق من الباطل ويأخذ بيده على الصراط المستقيم.

فمن لم يتمسك بالقرآن ولم يأخذ بعروته الوثقى يسير كالأعمى على غير بصيرة {وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} (الإسراء:72) وسيتميز الفريقان يوم القيامة {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْ-رَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (الحديد:12) اما المعرضون عن القرآن فيتوسلون اليهم لعلهم يشفقون على حالهم ويمدّونهم ببعض النور الذي اكتسبوه، وينقذونهم من حالهم وهم يتخبّطون في الظلمات ويحيط بهم العذاب {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} ويأتيهم الجواب {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} (الحديد:13) لأن هذا

ص: 7

النور في الآخرة هو حصيلة التعلق بالقرآن والعمل به في الدنيا وكان عليكم اكتساب النور فيها لينير لكم في الآخرة. وهكذا فالقرآن نور في الحياة الدنيا وفي الآخرة وما بينهما في البرزخ والقبر حيث الوحدة والوحشة والضيق وروي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (عليك بتلاوة القرآن فأنه نور لك في الأرض، وذخرٌ لك في السماء)(1) ومن دعاء الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اللهم وما أجريت على ألسنتنا من نور البيان، وايضاح البرهان، فاجعله نوراً لنا في قبورنا ومبعثنا، ومحيانا ومماتنا، وعزّاً لنا لا ذلاً علينا، وامناً لنا من محذور الدنيا والآخرة)(2).

فهذا التفسير محاولة للاقتباس من نور القرآن ما نُحيي به قلوبنا ونطهر به نفوسنا وتستقيم به حياتنا وتنتظم به أمورنا ويفتح عقولنا على ما لم نكن نعلم مما به صلاحنا وفلاحنا {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْش-ِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} (الأنعام:122) {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف:157) وقال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (تعلموا القرآن فأنه أحسن الحديث، وتفقهوا فيه فأنه ربيع القلوب، واستشفوا بنوره فأنه شفاء الصدور)(3).

وقد ذكرنا تفاصيل أوفى عن سببية القرآن لتحصيل النور، والعمى والضلالة10

ص: 8


1- ميزان الحكمة: 9/ 182
2- بحار الأنوار: 94/ 126 ح 19
3- نهج البلاغة: خطبة 110

بهجرانه والحاجة إلى نور القرآن في الدنيا والآخرة في تفسير عدة اقباس موجودة في مواضعها كقوله تعالى {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(الأعراف : 157) وقوله تعالى {وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} (الإسراء:72) وقوله تعالى {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم} (الحديد:12) وغيرها.

من ينظر بنور القرآن: -

فإنه سيرى عظمة الله سبحانه تتجلى في آياته وقوانينه وسننه وقدرته على كل شيء، فالأرض جمعياً قبضته والسموات مطويات بيمينه والعزة لله جميعاً والقوة والملك له وحده فهو الذي يرث الأرض ومن عليها وإليه مرجع العباد وهو أقرب إليهم من حبل الوريد ويحول بين المرء وقلبه ولا يملك شيء لشيء نفعا ولا ضراً إلا بإذنه، فعندئذ يتصاغر أمام حامل القرآن كل ما سوى الله تبارك وتعالى مهما عظم ظاهرا أو حاول أولياؤه وأتباعه تعظيمه والنفخ في صورته فإذا قدرة الله تلقف ما يأفكون فلا إرم ذات العماد ولا فرعون ذو الأوتاد ولا صاحب الكنوز التي تنوء مفاتيحه بالعصبة أولي القوة، أما حامل القرآن فقوته متصلة بالله فلا يخشى ما سواه {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}(العنكبوت:41)، و(من خاف الله أخاف الله منه كل شيء)(1).

ص: 9


1- من لا يحضره الفقيه: 4/ 410.

وعندئذ سترى أن هذه القوى الكبرى التي {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}(طه:66)، وقادرة على تحقيق كل ما تريد، وإذا بها تنهار وتذوب كما يذوب الملح في الماء بلا حرب ولا أي عدو ظاهر لكن الله ينبئك عن الذي يقف وراء فنائهم {فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ}(النحل:26-27).وسيرى وعد الله وطمأنينته للمؤمنين بأن العاقبة لهم ولكن بعد أن: {مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْ-رُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}(البقرة:214)، وأن لا بد من الفتنة والابتلاء ليمحص الله الذين آمنوا {ألم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (العنكبوت:1-3). وعندئذ يقر بال المؤمن مهما واجهته من صعوبة ومحنة لأنه من سنة الله في عباده فعليه أن يصدق في المواقف وسيجزي الله الصادقين ويهون الخطب عليه انه كله بعين الله سبحانه قال تعالى: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}(الطور: 48)، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (التوبة: 120).

ص: 10

وسيرى من علو الإيمان الذي يعمر قلبه والمعارف العليا التي يحملها إلى هذه البشرية التائهة التي تلهث وراء السراب تعيش لأغراض زائفة وتمني نفسها بأمانٍ باطلة يزينها لهم أولياء الشيطان من مال وجاه وشهوات يتنافسون عليها ويتقاتلون على شيء لا يبقى لهم بل يكون وبالاً عليهم. يصنعون لأنفسهم آلهة يصطلحون على عبادتها وطاعتها وتقديم الولاء لها فيقيمون لها الطقوس والاحتفالات والمهرجانات ويذبحون من أجلها القرابين ليس من الحيوانية فقط بل البشرية ويهدرون على أقدامها المليارات.وسيرى أنه ليس وحده حتى يشعر بالضعف أو الذلة أو الخضوع والاستسلام ولا أن ما يعانيه ويشاهده ويعيشه بدعاً من الحوادث ولا أن تجربته فريدة {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} (الأحقاف: 9)، فإذن قد سبقه على هذا الخط أنبياء عظام وأولياء كرام وحملة رسالات ومصلحون وعباد صالحون عانوا أكثر مما عانى وصبروا على اشد ما صبر عليه وواجهوا من مجتمعاتهم أعظم مما يواجه والصورة نفس الصورة قال تعالى{فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 26)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُ-رُّكُم مَّن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ} (المائدة: 105).

وسيرى تكريم الله لخلقه حين خاطبهم بنفسه ووجه إليهم كلامه مباشرة، الله العظيم خالق السموات والأرض ذو الأسماء الحسنى يرسل إليهم بنفسه رسالة ويعهد إليهم بعهده، أي تكريم أعظم من هذا وأي تفضيل فوق هذا {وَلَقَدْ

ص: 11

كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}(الإسراء: 70) فكيف يا ترى مشاعر الإنسان وهو يقرأ رسالة حبيبه بل الحبيب المطلق (إن القرآن عهد الله إلى خلقه فينبغي لكل مؤمن أن ينظر فيه)(1).وسيرى أن كل شيء في هذا الكون بقدر وحساب دقيق، قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}(القمر: 49)، {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ}(الحجر:21)، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ}(الأنبياء: 47)، وكل المخلوقات أفراداً ومجتمعات تجري وفق سنن ثابتة {سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}(النساء: 26)،{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَ-رُونَ}(الأنعام: 38) لا يستطيع أحد أن يخرج من هذا القانون الإلهي العظيم {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}(فاطر: 43)، فكيف يعبد الإنسان غيره تبارك وتعالى وهو لا يستطيع أن يخرج من قبضة سننه وقوانينه، فلا مجال للعب ولا العبث واللهو {رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ}(آل عمران: 191)، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ}(الذاريات: 56)،{لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ}(الأنبياء: 17) ولا مجال للصدفة العمياء التي طالما تشدق بها الملحدون وضحكوا بها على عقول الناس ردحا من السنين وأضلوهم بها فتعساً للتابع1.

ص: 12


1- الكافي: 2/ 609، باب في قراءته (قراءة القرآن)، ح1.

والمتبوع، فمن وراء خلق الإنسان هدف فلا بد ان يحيا من اجله ويكرس كل طاقاته لتحقيقه وهو رضا الله تبارك وتعالى.وسيجد في القرآن الوعد الإلهي بالإمداد والقوة الغيبية في كل موقف وشدة ومأزق ومعركة مع النفس الأمارة بالسوء أو الشيطان، وأن الله معه وكفى به ناصراً ما دام هو مع الله قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ، نُزُلا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ، وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت: 30 - 33) وآيات كثيرة تخبر عن إنزال السكينة في قلوب المؤمنين والإمداد بالملائكة المسومين وغيرها.

وسيجد في كنف القرآن الطمأنينة قال تعالى: {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد: 28)، وهدوء البال وشفاء الصدور والهدى والبركة وكل خير مما وصف القرآن به نفسه.

فإذا وجد حامل القرآن كل ذلك اشتدت عزيمته وقوي قلبه وصلحت نفسه وازدادت همته وظهرت حكمته وسيكون عندئذ مصدراً للعطاء ومنبعاً للخير لنفسه وللمجتمع كما هو شأن المصلحين العظام وعلى رأسهم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

مميزات هذا التفسير

إنه تفسير موضوعي, أي انه ينظر الى الآيات القرآنية من خلال

ص: 13

الموضوعات التي تتناولها والقضايا التي تعالجها، لذا فهو ينتخب من الآيات الكريمة بحسب الموضوع الذي تتناوله الآية والقضية التي تعالجها، وتؤخذ معها الآيات التي تشترك معها في الموضوع لتشكّل منظومة منسجمة مع بعضها, وتنتج رؤية متكاملة عن ذلك الموضوع، أو القضية التي تلقي الآية الكريمة ضوءاً عليها فالتفسير الموضوعي يختلف من هذه الجهة مع التفاسير التجزيئية المتعارفة التي تسير مع الآيات القرآنية بحسب ترتيب تدوينها في المصحف الشريف فتفسرها وتشرح المراد منها.وهو تفسير حركي لان الغرض منه هو تفعيل دور القرآن الكريم في الحياة, واخراجه من عزلته واعطائه حقّه في قيادة البشرية وإعادة الحيوية والحركية اليه, وإلهامه الحلول والمعالجات لكل مشاكلها، فإننا لا نقف عند تفسير ألفاظ الآية وشرح عباراتها ومفرداتها، وانما يتقدم نحو استلهام الدروس المستفادة منها.

أي انه يستفيد من القبس القرآني في معالجة قضية معينة عقائدية او أخلاقية او فكرية او اجتماعية او تاريخية، او غير ذلك ويطبق تفسير الآية على تلك القضية ليكون القرآن قائداً لنا في كل شوؤن حياتنا.

ولذا كان المعيار في اختيار الآيات هو أن تؤدي الى هذا الغرض, وتشترك فيه, وإن كانت ذات طبيعة عقائدية أو أخلاقية أو فكرية أو اجتماعية أو سياسية, وغير ذلك، فتبدأ عملية التفسير من تشخيص الداء والمشكلة التي يُراد معالجتها بالقرآن أو الجرعة العقائدية أو الأخلاقية أو الفكرية التي يراد اعطاؤها، أو النقص الذي يراد اكماله في ثقافة الأمة, او القضية التي نريد بيانها ونحو ذلك، ثم نهرع

ص: 14

الى القرآن الكريم, ونلجأ اليه, فنستنطقه, ونستثير علومه ومعارفه, لنلتمس منه الحل والعلاج {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} (الحديد:13). وقد تكون العملية بالعكس بأن ينقدح من الآية الكريمة نور يضيء طريقاً لصلاح الأمة وسعادتها, فنقتبس من ذلك النور ما يزيل بعض الظلمات التي تتخبط فيها البشرية؛ فنشرح الآية أولاً, ثم نطبقها على المطلوب, أو نُبيّن الدروس المُستفادة منها، وقد نكرّس الحديث لتطبيقات الآية, لوضوح معنى الآية في نفسها.

وبذلك نقّرب الامة للقرآن ونفتح اذهانهم عليه ونقّدم لهم صيغة تناسب ثقافتهم وطريقة تفكيرهم والأدوات المعرفية المتيسرة لهم وهي وظيفة العلماء في كل جيل وليس صحيحاً ان نبقى منغلقين على أساليب لا تستفيد منها الأجيال المعاصرة.

وبناءً على منهج التفسير الموضوعي يكون المصدر الرئيسي لتفسير الآيات الكريمة وفهم مدلولاتها هو القرآن نفسه, من خلال ضم الآيات التي تشترك في وحدة القضية الى بعضها, فتكتمل صورة المعنى بالبيان القرآني، فقد وصفه الله تعالى بقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (النحل:89), فيكون أول ما يبيّن نفسه، وسيكون المصدر الاخر لتفسير الآيات الكريمة وفهم المراد منها والاحاديث الشريفة، لأن وظيفة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) هي بيان المُراد من القرآن الكريم, ونشر علومه ومعارفه {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل:44). وسنجد حينئذٍ تناسقاً رائعا بين الآيات الكريمة والاحاديث الشريفة

ص: 15

تصديقاً لحديث الثقلين المشهور بأنهما (لن يفترقا حتى يردا الحوض)(1).وستجد الروايات الشريفة منسجمة مع الآيات الكريمة في منظومة واحدة لتؤدي الغرض المطلوب منها لذا لم نعمل على عزل الروايات في بحث روائي ملحق بالتفسير الآية كما في تفسير الميزان مثلاً.

ولأن (القبس)- لغة- هو المتناول من الشعلة والنار, بعود ونحوه -وليس كل النار- فإننا نعترف أن ما في هذا التفسير هو ما استطاعت عقولنا فهمه, وادراكه, بلطف الله تعالى, من نور القرآن اللامتناهي {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} (لقمان:27).

واتبعنا في هذا التفسير منهج القرآن, في جعل التوحيد وما يتفرع عنه من العقائد محور الحياة كلها، فحينما يتعرض لأحكام شرعيّة أو يتناول أحداث معركة أو يعالج مشكلة اقتصادية أو اجتماعية فإنه يربطها بالعقيدة ويرجع الأمور كلها الى الله تعالى، والذي لا يفقه هذا المنهج القرآني يراها غريبة عن السياق.

وعلى هذا المنهج سرنا في الأحاديث والخطب, فامتزجت فيها العقيدة والأخلاق بالسياسة والاقتصاد والادارة والاجتماع والفكر والثقافة.

ولطول مُخالطتي مع القرآن الكريم بفضل الله تعالى وكرمه فقد استفدت من طريقته في إصلاح الفرد والمجتمع, وقد لخصّتُها في بحث (شكوى52

ص: 16


1- بحار الأنوار : ج 23 /ص 152

القرآن)(1)، ولذا اتصفت هذه المحاضرات القرآنية بشيء من تلك المُميّزات.وكان للتفكير الاجتهادي, وطول الممارسة في الاستنباط الفقهي, المُعتمد أصلاً على النظر والتفكر في نصوص الكتاب والسنة, أثر بالغ في استكشاف مكنونات الآيات الكريمة, بالمقدار الذي تسعه أوعية عقولنا وقلوبنا المحدودة {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} (الرعد:17)، وربما فهمنا من الآية عدّة وجوه ومستويات غير ملتفت إليها {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (الجمعة:4).

ووفرت هذ القابلية إمكانية فهم عدة وجوه ومستويات للآية الكريمة كلها صالحة لتفسيرها تصديقا للحديث الشريف (إن للقرآن ظهرا وبطنا ولبطنه بطنا إلى سبعة أبطن)(2) وبهذا المعنى فسّرنا قوله تعالى {لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} (الكهف:109) أي معاني القرآن والا فأن الفاظه تنتهي حتماً لانها محدودة.

كما ان تجربة القيادة والمرجعية الدينية أعطت زخماً من التوجيهات الاجتماعية ومشاريع الوعي والإصلاح في التفسير ويظهر في بعض الاقتباسات نفس تربية القادة والمصلحين على المستوى العالمي وليس على صعيد بلد محدد بالاستفادة من سيرة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) واستعداداً لتأسيس دولة العدل الالهي والكرامة الإنسانية في جميع الأرض لاحظ مثلا قبس {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ1.

ص: 17


1- راجع: من نور القرآن, الجزء الثالث, ملحق قبس109.
2- التفسير الصافي : 1 / ص 31.

حَسَنَةٌ} في الجزء الرابع القبس119,ص76.ولان بعض هذه الاقباس عبارة عن خطب واحاديث اقتضتها بعض المناسبات فستجد المناسبة حاضرة في تطبيقات القبس ونحن سنبقي منها ما يكون مصداقاً للآية الكريمة ونحذف ما يتعلق بالمناسبة ذاتها، ونحيل القارئ الكريم الى موسوعة (خطاب المرحلة) ليجد فيه تلك التفاصيل وشرح الاحداث التي اشير اليها في القبس.

ولما كان التفسير موضوعياً فان جملة من الآيات ذات الموضوع الواحد تبحث تحت عنوان أحدها لذا يستطيع الباحث ان يجد آية او اكثر مبّينه تحت عنوان غيرها مما تتحد معها في الموضوع

ولأجل رفد خطباء المنبر الحسيني بالمعارف القرآنية الواعية باعتبارهم أوسع نافذة للتواصل مع الامة فقد حاولنا في كثير من الاقباس أن نربطها بقضية الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ونجعل تطبيقاتها من الفصول الرسالية لنهضة الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقد صدر كتاب بعنوان (المعارف القرآنية والمنبر الحسيني) ضمَّ أربعين قبساً يخدم هذا الغرض.

محمد اليعقوبي _ النجف الأشرف

شهر رمضان المبارك/1437ه-- حزيران/2016م

ص: 18

القبس /1 : سورة الفاتحة:1

اشارة

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (سورة الفاتحة:1)

أعظم آية في كتاب الله تعالى بحسب ما يأتي عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وتفتتح بها اعظم سور القرآن وافضلهن وقد جمعت فيها كل علوم ومعارف القرآن الكريم كما في الرواية الآتية عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وتمثل كل آية منها قاعدة كلية ومبدءاً اساسياً من المبادئ التي يستند اليها الإسلام، وروي في ذلك عن ابن عباس قوله (إن لكل شيء اساساً، واساس القرآن الفاتحة واساس الفاتحة (بسم الله الرحمن الرحيم)(1)

وقد روي في فضلها احاديث كثيرة منها ما رواه ابن عباس عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال (اذا قال المعلم للصبي: قل{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كتب الله براءة للصبي وبراءة لأبويه وبراءة للمعلم) وعن ابن مسعود قال (من أراد أن يُنجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فإنها تسعة عشر حرفاً، ليجعل الله كل حرف منها جنة من واحد منهم)(2).

ولا يبعد أن تكون البسملة وسورة الفاتحة التي تبتدئ بها أول الآيات القرآنية نزولاً كما انها الأولى تدويناً في المصحف الشريف ولنا على ذلك عدة شواهد:

ص: 19


1- مجمع البيان: 1/ 17 وحكيت عن ابن كثير في تفسيره: 1/ 9
2- مجمع البيان: 1/ 19 ، البرهان:1/ 82 ح 28 عن جامع الأخبار.

1- الإشارة إليها في أول سورة العلق التي يقول المشهور انها اول الآيات نزولاً وفيها أمر بأن يبدأ قراءته باسم الله تعالى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} (العلق:1) فالبسملة المشار إليها أسبق نزولاً وأنها كانت معروفة لدى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قبل آية العلق.

2- ان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان يتعبد ويصلي قبل البعثة ويقرأ القرآن من حين نزوله عليه بل ان نفس سورة العلق فيها إشارة الى صلاته {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} (العلق:9-10) ومن البعيد أنه كان يفعل ذلك من دون ان يفتتح عمله بالبسملة، وورد في الحديث المشهور (لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب)(1).

3- عدة روايات تدل على ذلك، كالذي رواه في مجمع البيان عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (سألت النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن ثواب القرآن، فأخبرني بثواب سورة سورة على نحو ما نزلت من السماء، فأوّل ما نزل عليه بمكة فاتحة الكتاب، ثم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}(2).

وفي تفسير القمي في قوله تعالى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} (العلق:1) قال (قال: اقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وفي أسباب النزول للواحدي النيسابوري عن ابن عباس أنه قال (أول ما نزل به جبرئيل على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: يا محمد استعذ ثم قل:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.05

ص: 20


1- عوالي اللئالي: 1/ 196، وسائل الشيعة: 6/ 37 ، صحيح البخاري: 1/ 192
2- معرفة القرآن في ضوء الكتاب والسنة للريشهري: 1/ 105

وما أخرجه الدارقطني عن ابن عمر (أن الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (كان جبرئيل اذا جاء بالوحي أول ما يلقي عليَّ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ})(1).وروى الشيخ الكليني بسنده عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (أول كل كتاب نزل من السماء {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ})(2) وروى البرقي في المحاسن بسنده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ما نزل كتاب من السماء الا أوّله (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)(3)، ومال الى هذا القول جملة من المفسرين، بل نسب الزمخشري إلى أكثرهم القول بأن سورة الفاتحة أول السور نزولاً(3).

وفي مقابلها روايات(4) كثيرة دلت على ان سورة العلق أول السور نزولاً، ويمكن الجمع بأن البسملة أو سورة الحمد اوحيت الى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أولاً على نحو الحديث القدسي كجزء من تأديب الله تعالى لنبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بأن يفتتح كل أعماله بالبسملة ويبني حياته عليها ولا مانع من ان يكون ذلك قبل البعثة أصلاً، ففي دلائل النبوة للبيهقي (إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال لخديجة: إنيّ اذا خلوت وحدي سمعت نداءاً.. يا محمد قل {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 1 الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 2} حتى بلغ {وَلاَ الضَّالِّينَ}(5) والظاهر أن هذا قبل البعثة أبان عزلته في غار حراء.15

ص: 21


1- الدر المنثور: 1/ 7
2- و(3) وسائل الشيعة: 6/ 59 أبواب القراءة / باب 11 ح8 و12.
3- الكشاف:4/ 775
4- معرفة القرآن في ضوء الكتاب والسنة للريشهري: 1/ 102
5- معرفة القرآن في ضوء الكتاب والسنة للريشهري عن دلائل النبوة: 2/ 158، تفسير القرطبي:1/ 115

ثم نزلت سورة الحمد ثانياً بعد ذلك لتكون جزأً من القرآن النازل وليقرأها المسلمون في صلاتهم التي تأخر تشريعها عن بدء البعثة النبوية، ونزول سورة الفاتحة مرتين أحد معاني وصف سورة الحمد بالسبع المثاني. قال تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالقرآن الْعَظِيمَ} (الحجر:87)، وتدل هذه الآية على عظمة السورة بحيث افردها الله تعالى بالذكر في مقابل القرآن العظيم كله وفي هذا المعنى روى الامام الحسن العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (سمعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول (ان الله تعالى قال لي: يا محمد {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالقرآن الْعَظِيمَ} (الحجر:87) فافرد الامتنان عليَّ بفاتحة الكتاب وجعلها بإزاء القرآن العظيم وان فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز العرش) وفيها (الا فمن قرأها معتقداً لموالاة محمد وآله الطيبين منقاداً لأمرهما، مؤمناً بظاهرهما وباطنهما، أعطاه الله تعالى بكل حرف منها حسنة، كل واحدة منها أفضل له من الدنيا وما فيها من أصناف أموالها وخيراتها، ومن استمع إلى قارئ يقرأها كان له قدر ما للقارئ، فليستكثر أحدكم من هذا الخير المعرض لكم، فأنه غنيمة لا يذهبنّ أوانه، فيبقى في قلوبكم الحسرة)(1).

وروى الشيخ الكليني بسند صحيح عن محمد بن مسلم قال (سألت أبا عبدالله -- أي الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) -- عن السبع المثاني والقرآن العظيم أهي الفاتحة؟ قال: نعم، قلت: بسم الله الرحمن الرحيم من السبع؟ قال: نعم، وهي أفضلهن)(2). 2

ص: 22


1- عيون أخبار الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 1/ 360 ح 60، أمالي الصدوق: 148 ح 2 ، بحار الأنوار:92/ 227
2- وسائل الشيعة: 6/ 57 أبواب القراءة ، باب: 11 ح 2

ومن أسمائها (أم الكتاب) والأم لغة هي الأصل والجامع(1) فكأن السورة أصل القرآن وجامعةٌ لمقاصده ومحتوية على معارفه الإلهية.ولسورة الفاتحة آثار وبركات عظيمة بحسب ما ورد في الروايات(2) ومنها ما في تفسير العياشي (قال: قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لجابر بن عبدالله: يا جابر الا اعلمك أفضل سورة أنزلها الله في كتابه! قال: فقال جابر: بلى بأبي أنت وأمي يا رسول الله علمّنيها، فعلمه (الحمد لله) أم الكتاب، قال: ثم قال له: يا جابر: الا أخبرك عنها؟ قال: بلى بأبي أنت وأمي، فأخبرني، قال: هي شفاء من كل داء الا السأم -يعني الموت-)(3) وروي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (في فاتحة الكتاب شفاء من كل داء)(4) أي انها سبب لذلك والنتائج بيد الله تعالى كالأدوية.

وروي عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (كان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) اذا كسل أو اصابته عين أو صداع بسط يده فقرأ فاتحة الكتاب والمعوذتين ثم يمسح يده على وجهه، فيذهب ما كان يجده)(5) وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من نالته علة فليقرأ في جيبه الحمد لله سبع مرات فان ذهبت والا فليقرأ سبعين مرة وأنا ضامن له العافية)(6) وقريب منه ما في كتاب طب الأئمة(7) (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الا أنه أضاف اليه الاذان والإقامة.52

ص: 23


1- لسان العرب: 13/ 472
2- تجد جملة منها في تفسيري البرهان ونور الثقلين
3- عن تفسير العياشي: 1/ 20 ح 9 ، بحار الأنوار: 92/ 237 ح 33 ، مسند ابن حنبل: 6/ 187 ح 17608
4- سنن الدارمي: 2/ 902 ح 3247، شعب الايمان: 2/ 450 ح 2370 ، كنز العمال: 1/ 557 ح 2500
5- مكارم الاخلاق: 2/ 203 ح 2523
6- الامالي للطوسي: 284 ح 553 بحار النوار: 92/ 231 ح 13 الدعوات: 189 ح 525
7- طب الائمة: ابن سابور الزيات:52

ويصل عظيم تأثيرها إلى مستوى ما جاء في الرواية الصحيحة في الكافي عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (لو قرئت الحمد على ميت سبعين مرة فرُدَّت فيه الروح ما كان ذلك بعجب)(1).والبسملة عندنا نحن الامامية جزء من كل السور القرآنية الا سورة التوبة لعلة ذكرتها الروايات(2) فلا يصح افتتاح أي سورة الا بها وجزئيتها من كل سورة تعني ان للبسملة في كل سورة معنى غير ما في السورة الأخرى وان اشتركت لفظاً، وهي آية من سورة الفاتحة وبها بلغ عدد آياتها سبعاً.

وقد تكرّر الأمر بأن يبتدئ بالبسملة كقوله تعالى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق:1) وقوله تعالى {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا} (المزمل:8) وقوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (الأعلى:15).

فمن الغريب تعدد أقوال العامة في البسملة فنفى بعضهم ان تكون آية من أية سورة وقال غيرهم بأقوال أخرى حتى انهم اسقطوها من سورة الفاتحة وتركوا الجهر بقرائتها في الصلاة.ى.

ص: 24


1- الكافي: 2/ 623 ح 16 / الدعوات: 88 ح 522 ، مكارم الاخلاق: 2/ 183 ح 2482
2- روى ابن عباس قال: (سألت علي بن ابي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لِمَ لم تكتب في براءة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟ قال: لأنها أمان، وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها أمان) المستدرك:2/ 330) ويرى قسم ان عدم البسملة لأنها استمرار لسورة الأنفال وإن كانت سورة مستقلة، وهنا التفاتة لاهل المعرفة بأن سورة التوبة التي نزلت في البراءة من المشركين وان لم تبدأ بالبسملة الا ان الله تعالى لرحمته بعباده لم يشأ حرمانهم من لطفه العام فبدأها بالباء التي جمعت فيها علوم البسملة التي جمعت فيها علوم الفاتحة التي اودع فيها علوم القرآن كما في الحديث الذي سنشرحه في الملحق ان شاء الله تعالى.

رغم انهم رووا في صحاحهم عن جمع من الصحابة ما يدل على انها آية من سورة الحمد وان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان يقرأها ويجهر بها وروى الثعلبي في تفسيره(1) عن أبي هريرة ان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) زجر رجلاً قرأ الفاتحة بدون البسملة.وعندنا استحباب الجهر(2) بالبسملة في جميع الصلوات وأنه من علامات المؤمن(3) وأخرج الطبراني والدار قطني والبيهقي في شعب الايمان عن عدد من الصحابة ان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان يجهر بالبسملة في صلواته)).(4)

وآية البسملة فيها تأديب بأن نفتتح كل كلامنا وأفعالنا باسم الله تعالى لأنه عزوجل {هُوَ الأَوَّلُ} (الحديد:3) ليكون العمل مباركاً ولا يكون كذلك ولا تكون التسمية صادقة الا اذا توفر عنصران بأنٍ يكون الأمر حقاً ويكون مخلصاً لله تعالى فالتسمية تدعوا الى هذين الأمرين، وكان أول أمر نزل على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هو ان يبدأ رسالته وتبليغه عن الله تعالى بالبسملة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق:1).

وهو أدب سار عليه الأنبياء الكرام (صلوات الله عليهم أجمعين) ومثاله قول النبي نوح (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) {وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} (هود:41) وبدأ 7

ص: 25


1- تفسير الثعلبي: 1/ 104
2- دلت عليه عدة روايات في وسائل الشيعة: 6/ 57 أبواب القراءة، باب 11
3- روى الشيخ الطوسي في (مصباح المجتهد:787) عن الامام الحسن العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (علامات المؤمن خمس: صلاة الاحدى والخمسين وزيارة الأربعين والتختم في اليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)
4- المستدرك للحاكم: 1/ 736، الدر المنثور للسيوطي:1/ 7

النبي سليمان رسالته بها {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (النمل:30). وقد جرت سيرة العقلاء على افتتاح كلامهم ومشاريعهم باسم عظيم في نظرهم أو اقترانه بمبدأ يخلّد الفعل والحدث، وقد نبّه القرآن الكريم إلى هذا الشأن قال تعالى {فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} (البقرة:200) والله تعالى هو مانح الخلود ومجمع صفات الكمال فأولى أن ترتبط كل الأمور به تبارك وتعالى.

واسم الله عظيم البركة قال تعالى {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} (الرحمن:78)، ومن الدلائل على عظمة البسملة ما رواه الشيخ الطوسي بسنده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والشيخ الصدوق بسنده عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وفي عدة روايات عنهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قالوا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أقرب الى اسم الله الأعظم من ناظر العين الى بياضها)(1) وفي ثواب الأعمال بسنده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اسم الله الأعظم مقطع في أم الكتاب)(2).

ورد في تفسير العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه عن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حدثني عن الله عزوجل أنه قال: كل أمر ذي بال لا يذكر بسم الله فيه فهو أبتر)(3) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إن العبد اذا أراد أن يقرأ أو يعمل عملاً17

ص: 26


1- التهذيب: 2/ 289 ح 1159 ، ثواب الأعمال: 104
2- ثواب الأعمال:104، البرهان:1/ 80
3- وسائل الشيعة: 7/ 170 ، كتاب الصلاة ، أبواب الذكر، باب 17

فيقول {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فأنه يبارك فيه)(1) وروى البرقي في المحاسن بسنده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اذا توضأ أحدكم ولم يسمِّ كان للشيطان في وضوئه شرك، وإن أكل أو شرب أو لبس وكل شيء صنعه ينبغي له أن يسمي عليه، فإن لم يفعل كان للشيطان فيه شرك)(2) وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (لا تدع {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وإن كان بعده شعر)(3) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ولربما ترك بعض شيعتنا في افتتاح أمره {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فيمتحنه الله عزوجل بمكروه لينبهه على شكر الله تبارك وتعالى عليه ويمحق عنه وصمة تقصيره عند تركه بسم الله)(4) ولما كانت الصلاة عمود الدين والقرآن ثقل الله الأكبر فهما أولى بهذا الافتتاح فكيف اسقطوا البسملة منها؟.

((ان البسملة تنتج عدة أثار معنوية:

منها : انها توجب تكامل النتيجة وصفائها وخلوصها

ومنها: انها تنفي عنها النقص والمحدودية والظلمانيه. فمثلاً عند الاكل تنفي بالبسملة اضرار الطعام المادية والروحية، وكذلك عند الابتداء بالسور8.

ص: 27


1- بحار الأنوار:89/ 242، تفسير الامام العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 25
2- وسائل الشيعة: 6/ 57 أبواب القراءة: الباب 11، 12،21
3- و(4) نور الثقلين:1/ 6-8.

بل الابتداء بكل عملٍ فإن كل عمل ينبغي ان يتكامل ويندفع سوءه ببسم الله الرحمن الرحيم.والمفروض ان الانسان ينبغي ان يكون على ذكر دائم لله تعالى، والله تعالى اعلم اننا نعجز عن ذلكن وهو استحباب الذكر في اول العمل وآخره، اما الذكر في اوله فالبسملة، واما الذكر في آخره فبالحمد وورد (اللهم صل على محمد وال محمد واختم لي بخير، فاذا كان بادئة العمل بالذكر ومنتهية به، فيكون بينها الفرد بمنزلة الذاكر)) (1)

تفسير الآية:

(بِسْمِ) أي بإسم وحذفت الألف للوصل وهي ليست أصلية ومتعلق الباء محذوف يقدّر من سياق الكلام فعندما يسمى على أي فعل يكون تقديره ذلك الفعل وتقديره هنا (ابتدى) وورد هذا المعنى في الرواية عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال الله عزوجل: قسّمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، اذا قال العبد: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله جل جلاله: بدأ عبدي باسمي وحقَّ علي أن أتمم له أموره وابارك له في أحواله)(2) إلى آخر الحديث.

ص: 28


1- منة المنان: 1/ 69 ط.البصائر
2- عيون أخبار الرضا: 2/ 269، نور الثقلين: 1/ 9 ح 9.

ويمكن ان تكون الباء للاستعانة بحسب قصد الفاعل، ويكون التقدير (استعين)، ويدل عليه ما رواه الشيخ الصدوق في كتاب التوحيد بسنده عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (فقولوا عند افتتاح كل أمر صغير وعظيم: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أي استعين على هذا الأمر بالله الذي لا تحق العبادة لغيره)(1)والاسم ما يعرف به ذات الشيء ويدل على المسمى وأصله سِمْوُ بدلالة قولهم في الجمع أسماء مثل قِنوْ اقناء وحِنوْ احناء وتصغيره سُمَيّ واصله من السمو وهو الذي به رفع ذكر المسمى فيعرف به(2) من السمو والرفعة لأن المسمى يعلو بالاسم ويرتفع ويخرج من الخفاء إلى الظهور فيحضر في ذهن السامع.

وقيل أنه من الوسم والسمة أي العلامة، قال في مجمع البيان: والأول أصح، وقال السيد الخوئي (قدس سره) ((وهو خطأ لأن جمع اسم أسماء، وتصغيره سمي، وعند النسبة اليه يقال: سموي واسمي، وعند التعدية يقال: سميت واسميت، ولو كان مأخوذاً من السمة لقيل في جمعه أوسام، وفي تصغيره وسيم، وفي النسبة إليه وسمي، وعند التعدية وسمّت وأوسمت))(3).

أقول: لوحظ في الجمع والتصغير والنسبة نفس لفظ (اسم) مستقلاً من دون لحاظ اشتقاقه كالذي يقال في اللقب فلا تكون شاهداً على أحد المعنيين، فالأول أقرب لكن الثاني ممكن وليس خطأ كما قال السيد الخوئي (قدس سره) ووردت فيه49

ص: 29


1- وسائل الشيعة: 5/ 328 أحكام المساكن، باب 19
2- المفردات للراغب: 428 مادة (سمو) ، مجمع البيان: 1/ 19
3- البيان في تفسير القرآن: 449

رواية عن الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (معنى قول القائل بسم الله أي أسِمُ نفسي بسمة من سمات الله عزوجل وهي العبادة، قال: فقلت له: ما السمة، قال العلامة))(1).((ويصح رجوع أحد المعنيين إلى الآخر في جامع قريب: وهو البروز والظهور، لأن الرفعة نحو علامة، والعلامة نحو رفعة لذيها، وهما يستلزمان البروز والظهور))(2).

(الله) لفظ الجلالة اسم علم للذات المقدسة فيستجمع كل الأسماء الحسنى التي هي صفات.

(الرَّحْمَنِ) من صيغ المبالغة لكن ليس من جهة الموصوف وهو الله تعالى إذ {لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} (النحل: 60) وإنما من جهة اللفظ، في نفسه أو بلحاظ عطائه تبارك وتعالى كقوله تعالى {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} (البقرة:212) وهي صفة مشتقة من الرحمة وهي ضد الغلظة والقسوة والشدّة، قال تعالى {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} (الفتح:29).

وقد عُرِّفت برقة القلب والشفقة والعطف والتأثر ونحو ذلك وهي بالدقة من لوازمها عند البشر ومقدماتها التي تؤدي إلى انبعاثها وهي بهذا المعنى لا يوصف بها الله سبحانه، وإنما تعرف رحمته بآثارها على خلقه بالأنعام والتفضل وسد10

ص: 30


1- نور الثقلين:1/ 12، ح 41 عن كتاب عيون أخبار الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)
2- مواهب الرحمن:1/ 10

الاحتياج، قال الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وإن رحمة الله ثوابه لخلقه) (فهو رحيم لا رحمة رقّة)(1) وفي نهج البلاغة (رحيم لا يوصف بالرقّة))).(2)وهي صفة فعل أي تتحقق بظهور آثارها ولم ترد متعلقة بشيء وهذا يدل على إطلاق الرحمة وإنها غير مختصة بشيء بل تسع كل شيء، قال تعالى {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) (يس:52) وقال تعالى {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ} (الملك:3).

(الرَّحِيمِ) صفة مشبهة تدل على الثبات والدوام وملازمتها للذات كالغريزة والسجية، وايرادها بعد وصف الرحمن للإشارة إلى أنّ صفة الرحمة راسخة في الذات لأن وصف الرحمن لا يدل عليها - بحسب اهل اللغة- وان دل على سعة الرحمة، فجمع الوصفين للدلالة على اجتماع الصفتين.

ولعل الابتداء بهذين الوصفين المشتقين من الرحمة دون اسمائه الحسنى لأنها أصل كل خير ولطف وعناية بالمخلوقين، وان أفعال الله تعالى وعلاقته بعباده مبنية على أساس الرحمة، حتى في عذابه وابتلائه فأنه رحمة بالعباد ليؤهلهم إلى درجات أفضل (يا من سبقت رحمته غضبه)(3) والرحمة علة انزال الكتب وبعث الرسل، قال تعالى {هَذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:203) وقال تعالى {وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}86

ص: 31


1- نور الثقلين: 1/ 14
2- نهج البلاغة:2/ 100
3- مفاتيح الجنان، دعاء الجوشن الكبير، الفقرة:20 ، بحار الأنور: 91/ 239، 386

(يونس:57) وقال تعالى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل:89) وقال تعالى {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (الإسراء:82) وقال تعالى {وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (النمل:77) وقال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107).والرحمن اسم خاص بالله تعالى، والرحيم عام فقد وصف النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) به {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة:128) ووصف به المؤمنون {رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} (الفتح:29).

ووردت روايات في الفرق بينهما ووجه الاتيان بهما بأن الرحمن اريد به سعة رحمته الفعلية لكل المخلوقات وكل البشر محسنهم ومسيئهم، وان الرحيم للدلالة على رحمته الخاصة بالمؤمنين او في الآخرة وروى في مجمع البيان عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (ان عيسى بن مريم قال: الرحمن رحمن الدنيا، والرحيم رحيم الآخرة)(1)، وفي رواية عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (والله إله كل شيء، الرحمن بجميع خلقه، والرحيم بالمؤمنين خاصة)(2) ووجه عموم الرحمن بجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم هو إنشاؤه إياهم وإخراج الجميع من العدم الى الوجود وخلقهم احياء قادرين، ورزقه إياهم، ووجه خصوص الرحيم بالمؤمنين هو ما فعله بهم في الدنيا من التوفيق وفي الآخرة من الجنة والاكرام وغفران الذنوب والآثام، وإلى هذا المعنى يؤول ما روي عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انه قال14

ص: 32


1- مجمع البيان: 1/ 54
2- توحيد الصدوق: 1/ 230، معاني الأخبار:1/ 3 ، الكافي:1/ 114

(الرحمن اسم خاص بصفة عامة، والرحيم اسم عام بصفة خاصة)(1)، فالرحمن اسم خاص بالله تعالى لكنه يسع الجميع في عطائه وبركاته، والرحيم اسم عام يطلق على الله تعالى وغيره، الا انه خاص يتعلق بالمؤمنين، وقيل في معناه ان الرحمة الرحمانية هي التي تمنح لجميع المخلوقات على حد سواء كإفاضة الوجود، اما الرحمة الرحيمية فهي التي تمنح للموجودات خصوصياتها، ((وتلك الخصوصيات غير المتناهية المجعولة منه تبارك وتعالى مورد الرحمة الرحيمية، فكما ان في الانسان نوعاً خاصاً منه وهو المؤمن مورد رحمته الرحيمية، وكذلك يكون في المَلَك والفَلَك والجماد والنبات ايضاً.وقد ذكرا في مفتتح القرآن العظيم للإعلام بأن القرآن من ابرز مظاهر رحمتيه تعالى، اما الرحمانية فلفرض وحيه وانزاله، واما الرحيمية فلانه تبارك وتعالى تجلى لعباده، فاظهر فيه المعارف الربوبية، وخلاصة الكتب السماوية، وزبدة حقائق التكوين والتشريع وربط به قلوب اوليائه))(2) لكن ما ورد في الدعاء إنه تعالى (رحمن الدنيا والآخرة ورحيمها)(3) قد ينافي بعض الفروق المتقدمة، كما ان قوله تعالى {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة: 128) لا تدل على الاختصاص بهم لان الجملة ليس لها مفهوم ينفي الرحمة عن غير المؤمنين.55

ص: 33


1- نور الثقلين: 1/ 15 ح 54
2- مواهب الرحمن: 1/ 20
3- نُقل عن الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعاء عرفة أصول الكافي: 2/ 557 ح 6، وسائل الشيعة: 8/ 41 ح / 10057 وفي الصحيفة السجادية: (171) دعاؤه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في استكشاف الهموم، نور الثقلين: 1/ 15 ح 55 ، مستدرك الحاكم: 1/ 155

ان البسملة خلاصة سورة الفاتحة التي هي أم القرآن وأصله ومجمع معارفه وعلومه التي هي المبدأ والمعاد ومسيرة التكامل إلى الله تعالى، فالبسملة عنوان الدين كله والرمز الذي يحفظ المنهج الإلهي لذا أكّد المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) على ترديدها واستحضار معانيها في كل آنات الانسان وأفعاله فاذا أكل سمى واذا شرب سمّى واذا خرج سمى واذا رجع سمى واذا ذهب لقضاء حاجة سمى وهكذا في كل شيء لأنها علامة العبودية والطاعة لله تبارك وتعالى والإخلاص له وتعين المؤمن وتثبّته وتزيد من عزيمته على فعل الخير. وقد ادرك شياطين الجن وفسقة الإنس عظمة هذه الآية فكانت ثقيلة عليهم، ففي الرواية المعتبرة عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إن ابليس رنَّ رنيناً -- أي بكى بصياح -- لما بعث الله نبيه على حين فترة من الرسل وحين نزلت أم الكتاب)(1) وروى علي بن إبراهيم بسنده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (قال أبو عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أحق ما جهر به وهي الآية التي قال الله عزوجل {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القرآن وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} (الإسراء:46))(2).

ويظهر من الروايات أن الأمويين هم الذين أسّسوا لإزالة البسملة فقدّ ((أخرج الشافعي في الأم والدارقطني والحاكم وصححه والبيهقي عن معاوية أنه قدم المدينة فصلى بهم ولم يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فناداه المهاجرون29

ص: 34


1- تفسير القمي: 1/ 29
2- تفسير القمي: 1/ 29

والأنصار حين سلّم يا معاوية أسرقت صلاتك؟ أين {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فلما صلى بعد ذلك قرأها لأم القرآن وللسورة التي بعدها. وأخرج البيهقي عن الزهري: ان أول من أسرَّ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} عمرو بن سعيد بن العاص بالمدينة))(1).وقد عبَّر الأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) عن غضبهم لهذا الانحراف وأسفهم لتضييع الأمة هذه الكرامة في روايات عديدة كقول الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (سرقوا أكرم آية في كتاب الله:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}(2) وروي عن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما بلغه ان اناساً ينزعون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أنه قال (هي آية من كتاب الله أنساهم إياها الشيطان)(3) وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (مالهم قاتلهم الله عمدوا الى أعظم آية في كتاب الله فزعموا أنها بدعة اذا اظهروها وهي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ).

هذا هو محور الاختلاف بين المنهجين واساس الصراع بين الفريقين فنحن نريد أن نثبّت اسم الله تعالى في كل الوجود ويكون كل شي لله تبارك وتعالى {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (الأنفال: 39) وهم يريدون محوه وان يأخذ الناس حريتهم في اتباع الشهوات وما تزيّنه الشياطين والفسقة لهم {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا} (النساء:27).12

ص: 35


1- الفرقان في تفسير القرآن:1/ 80
2- تفسير العياشي:1/ 19 ح 4
3- تفسير العياشي:1/ 21 ح 12

ملحق: أمير المؤمنين: (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) نقطة الباء في البسملة ومعركة التأويل

وروى الشعراني : عن الإمام علي (عليه السلام) أنّه كان يقول : لو شئت لأوقرت لكم ثمانين بعيراً من معنى (الباء)(1)

وروى القندوزي الحنفي في (ينابيع المودّة) ما لفظه : وفي الدرّ المنظم: إعلم أنّ جميع أسرار الكتب السماوية في القرآن ، وجميع ما في القرآن في الفاتحة ، وجميع ما في الفاتحة في البسملة ، وجميع ما في البسملة في باء البسملة ، وجميع ما في باء البسملة في النقطة التي تحت الباء ، قال الإمام علي كرّم اللّه وجهه : أنا النقطة التي تحت الباء.)(2)

أقول : (في) تدل على الظرفية والاحتواء فالحديث يدّل على ان في الفاتحة جميع مافي القرآن وزيادة، وان البسملة فيها جميع مافي الفاتحة وزيادة وهكذا، ولا شك ان مثل هذه الاحاديث لا تدركه عقولنا القاصرة

واعتبر بعض المفسرين هذا الكلام غير معقول ونوعا من الغلو(3)

ونقدٍّم الان وجها لفهم الحديث بعيداً عن التأويلات الفلسفية والعرفانية ننطلق اليه مما ورد في أن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقاتل على التأويل كما قاتل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على التنزيل كما في الحديث الآتي، أي أن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قاتل

ص: 36


1- تفسير البصائر 1 : 24.
2- ينابيع المودة: 1/ 68
3- حكي عن تفسير المنار: 1/ 35

العرب حتى يذعنوا للرسالة ويؤمنوا بأصل التوحيد والنبوة وعلى صدق ما جاء به رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى دخلوا الإسلام طوعاً أو كرهاً.أما بعد وفاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقد بدأت معركة التأويل، وهي معركة ضد من أرادوا أن يحرّفوا الكلم من بعد مواضعه ويتكلموا في كتاب الله بغير سلطان أتاهم ويغيّروا السنن ويظهروا البدع، ويحرموا ما أحلّ الله ويحلّوا ما حرّم الله، ويبعدوا من قرّب الله ويقرّبوا من بعّد الله، ويولّوا أمور الأمة من يتّخذ مال الله دولاً وعباده خولاً ويحكم بغير ما أنزل الله تعالى وهم مع كل ذلك يدّعون الإسلام وينتسبون إليه.

وهذه المعركة كان يشير إليها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حياته ويعلن أن قائدها سيكون علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وهو حديث رواه العامة والخاصة عن طريق جمع غفير من الصحابة، ففي مستدرك الصحيحين، روى الحاكم بطريقين عن أبي سعيد قال (كنّا مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فانقطعت نعله، فتخلّف علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يخصفها فمشى قليلاً ثم قال: إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، فاستشرف لها القوم وفيهم أبو بكر وعمر، قال: أبو بكر: أنا هو؟ قال: لا، قال عمر: أنا هو؟ قال: لا، ولكن خاصف النعل يعني علياً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فأتيناه فبشرناه فلم يرفع به رأسه كأنه قد كان سمعه من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال الحاكم: هذا حديث صحح على شرط الشيخين)(1).1.

ص: 37


1- مستدرك الصحيحين: 3/ 122، كتاب معرفة الصحابة، مناقب علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وراجع لمعرفة مصادر الحديث في صحاح العامة وكتبهم: فضائل الخمسة من الصحاح الستة: 2/ 425- 431.

وقد نظمها الصحابي الجليل عمار بن ياسر (رضوان الله تعالى عليه) في شعره الذي كان يرتجز به في معركة صفين التي استشهد فيها، فكان من رجزه:

نحن ضربناكم على تنزيله *** فاليوم نضربكم على تأويله(1)

هذا الاستحقاق لأمير المؤمنين أعطى تفسيراً لقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انه نقطة الباء التي جمعت فيها علوم القرآن ومعارفه وحاصل التفسير أن الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة تكون قابلة للتأويل والتحريف والتلاعب والتزوير وافراغها من معانيها كما عبَّر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن القرآن بأنه (حمّال ذو وجوه) (2) الا أن يقوم العالم بالقرآن والعارف بأسراره ومعانيه بإيضاح الحقائق، ووضع النقاط على الحروف كما يقال لأن الحروف تتشابه في الهيئات كالباء والتاء والثاء والياء والنون، وإنما يميز بينها وضع النقطة على الحرف، فكما أن وضع النقطة هو الذي .. يعطي للحرف معناه، كذلك أمير المؤمنين هو الذي يبيّن حقائق التنزيل ويضع الأمور في نصابها ويرجع كل شيء إلى حقيقته وهو معنى التأويل.

ولولا ذلك الدور الذي قام به أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لكانت تفاصيل العقائد والأحكام مجملة ومبهمة مما يفسح المجال واسعاً لأن يقوم كل أحد بتأويلها حسب مشتهياته وأهوائه، وهذا حال من لم يرجع إلى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ليعرف تأويل المتشابهات {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء56

ص: 38


1- الوافي بالوفيات للصفدي: 22/ 233
2- بحار الانوار: 2/ 245 ح56

الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (آل عمران:7).إن معركة التأويل هي المعركة الأصعب التي تزلّ فيها الأقدام وتضلّ فيها العقول لأن الخصوم يلبسون نفس الثوب أي ثوب الدين ويدّعون لأنفسهم نفس الهالة من العناوين والألقاب المقدّسة، وكلٌ يدّعي وصلاً بصاحب الرسالة والمشروع، ويضفي على حركته المشروعية ويستدل على أحقيته من نفس المصادر، فهناك تختلط الأوراق وتعصف الفتن وتكثر الشبهات.

وهذا الذي حصل بعد وفاة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مباشرة حينما انقلبوا على الأعقاب وكان أثمن قربان يقدَّم في تلك المعركة هي فاطمة الزهراء (علیها السلام)، وعندما تولّى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الخلافة فنكث البيعة قوم لهم عناوين كبيرة وقريبو الصلة برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، ثم قسط آخرون ومرق فريق ثالث ووقف على الحياد فريق رابع، لكن الصفوة الذين وعوا رسالة الإسلام واتبعوا تعاليم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حقيقة كانوا ثابتين على الحق ولهم رؤية واضحة كعمار بن ياسر الذي كان يقاتل في صفين ويقول (والله لو هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق وأنّهم على الباطل)(1).

هذه المعركة التي مزقت بأحزانها وآلامها قلب أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وملأته قيحاً وجعلته يتمنى الموت ويجده حرياً وجديراً به.(2)67

ص: 39


1- الاستيعاب لابن عبد البر: 2/ 423 ترجمة عمار بن ياسر.
2- الكافي: 5/ 4 ح6، نهج البلاغة:1/ 67

إن معركة التأويل ليست مختصة بزمان أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، بل هي مفتوحة في كل زمان ومكان، روي عن أبي عبد الله الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين كما ينفي الكير(1) خبث الحديد)(2). وليس هذا فحسب بل انها تتعقد أكثر وتضيق حلقة البلاء وتشتد، فبعد أن كانت بين أئمة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) واتباعهم من جهة وبين الحكام المنحرفين والسائرين في ركابهم واتباعهم من العامة من جهة أخرى، تطوّرت لتكون داخل مدرسة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بين من واصلوا إتّباعَ الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) الاثني عشر واحداً بعد واحد وهم الإمامية وبين من انشق عنهم ليؤسس فرقاً عديدة، ثم ضاق البلاء واشتدّ الامتحان أكثر في الدائرة الأخيرة بين مستحق نيابة المعصوم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وبين من يتقمصها ويدعيها بغير حق، وفي كل دائرة كان يفشل جمع كبير ويسقط في الامتحان وهذا مصداق حديث الإمام الباقر (هيهات هيهات، لا يكون فرجنا حتى تغربلوا ثم تغربلوا ثم تغربلوا، يقولها ثلاثاً حتى يذهب الله تعالى الكدر ويبقى الصفو)(3).6.

ص: 40


1- وهو الزقّ الذي ينفخ فيه الحداد.
2- سفينة البحار 1/ 204.
3- كتاب الغيبة للشيخ الطوسي (قده): 206.

وحديث الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لإبراهيم بن هلال (أما والله يا أبا إسحاق، ما يكون ذلك – أي الفرج بظهور الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) –حتّى تُميّزوا وتُمحَّصوا، وحتى لا يبقى منكم إلاّ الأقل)(1).وظاهر الرواية أن الخطاب موجّه فيها إلى الشيعة.

ولأهمية هذه المعركة وخطورة آثارها وتداعياتها على الدين وعلى المجتمع فقد ورد التحذير الشديد من التقصير فيها، في كتاب المحاسن للبرقي بسنده عن أبي عبد الله الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (قال: قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إن العالم الكاتم علمه يبعث أنتن أهل القيامة ريحاً تلعنه كل دابة حتى دواب الأرض الصغار)(2).

وفيه روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (إذا ظهرت البدعة في أمتي فليظهر العالم علمه فإن لم يفعل فعليه لعنة الله)(3).

وفي التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إذا كتم العالم العلم أهله، وزهد الجاهل في تعلم ما لابد منه، وبخل الغني بمعروفه، وباع الفقير دينه بدنيا غيره جلّ البلاء وعظم العقاب)(4) وهذا الحديث يلخّص لنا باختصار أسباب ما نحن فيه من البلاء والمحنة.64

ص: 41


1- كتاب الغيبة للنعماني: 208، باب12، ح14.
2- المحاسن: 231 باب 17 ح 176، 177.
3- الكافي: 1 / 54 / 2.
4- سفينة البحار الشيخ علي النمازي: 9/ 64

إن سلاح هذه المعركة هي المعرفة بالله تبارك وتعالى وطاعة رسوله الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وإتّباع المراجع العالمين المخلصين والتفقه في الدين والبصيرة في الأمور، والحكمة في التصرف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان الحقائق وتجلية المواقف، وتصحيح المفاهيم الخاطئة، وإصلاح المناهج والسلوكيات المنحرفة.فهي إذن ليست وظيفة مراجع الدين والعلماء والحوزة العلمية فقط، وإنما يقع على كل فرد في المجتمع جزء من المسؤولية بحسب موقعه ومؤهلاته وما يتوفر لديه من أدوات المواجهة التي ذكرناها كما يظهر من رواية تفسير العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) المتقدّمة، فبعضهم بعلمه وآخر بماله وثالث بنفوذه ووجاهته، والجميع مطالبون بمشاركتهم في كل عمل وحركة لله تعالى فيها رضا وللأمة فيها صلاح، والله ولي التوفيق.

ص: 42

القبس /2: سورة البقرة:143

اشارة

{وَكَذَلِكَ جَعَلنَكُم أُمَّة وَسَطا}

موضوع القبس: الوسطية و الاعتدال في الإسلام

من المفاهيم التي اُختطفت وحُرِّفت عن معناها الحقيقي (الوسطية) والاعتدال حيث أصبحت تعني - وفق الثقافة المستوردة - التخلي عن التعاليم الدينية التي تراها القوى المستكبرة متشددة لأنها تضّر بمصالحها وتكشف خططها الخبيثة الماكرة وتوقظ الشعوب، حتى فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعتبرونها تشدّداً ومخالفة للحريات الشخصيّة بحسب زعمهم ونحو ذلك من الاصنام التي صنعوها وفرضوا على الناس عبادتها وتقديسها وقنّنوا لها القوانين وألبسوها ثياباً جذابة كالديموقراطية والحريات العامة وحقوق الانسان والدولة المدنية, ونحو ذلك, ليخدعوا بها الناس ويفرّغوا محتواهم العقائدي حتى يحوّلوهم إلى عبيد خانعين لهم منقادين لسياساتهم، مستفيدين من تطرف بعض الحركات والمجاميع المدعّية للإسلام والتي وصُفت بالإرهاب فحمّلوا هذه المفاهيم الأخلاقية والاجتماعية اوزار الصراعات السياسيّة.

وقد انخدع بهذا جملة من الإسلاميّين ورجال الدين, فاقتنعوا بأن الدولة المدنية لابد أن تكون بعيدة عن الدين، وعلى القيادة الدينية أن لا تتدخل في السياسة ولا تُمارس وظيفتها في ارشاد الأمة وتوجيهها نحو الصلاح.

ص: 43

والوسطيّة مفهوم قرآني, وليس من ابتداعاتهم حتّى نأخذ مفهومه وحدوده منهم.قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا} (البقرة:143) وقال تعالى في نفس المعنى {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} (الحج:78), فاستحقاقها لمقام الشهادة على الناس تفرع على اجتبائها لتكون الأمة الوسط أي خير الأمم وأفضلها، حيث قال اهل اللغة: الوسط من كل شيء (افضله واعدله)(1), وفي مجمع البيان (الوسط: العدل، وقيل الخير)(2).

ومنه يظهر الوجه في جعلهم شهداء على الناس لأنهم الأفضل من بين الأمم كما ان الأنبياء اصبحوا شهداء لأنهم الأفضل، فتتفرع الشهادة عن الأفضلية, كما تفرعت عن الاجتباء في آية سورة الحج المتقدمة.

والوسطية يمكن ان يكون لها أكثر من منشأ:

1- الوسطية بمعنى الأفضلية والخيرية ويتفرع عليها الوسطية في المرتبة بين النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعامة الناس فالأمة الوسط لها مقام الشهادة على الناس كافة ويكون الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عليهم شهيدا.6.

ص: 44


1- كتاب العين - الخليل الفراهيدي:7/ 279.
2- تفسير مجمع البيان - الشيخ الطبرسي: 1/ 416.

2- الوسطية بمعنى التوسّط في الاعتقاد والسلوك بين الافراط والتفريط, فليسوا هم غارقين في الماديات وملذات الجسد كاليهود والمشركين, ولا في الرهبانية التي تقفز على الواقع ولا تعترف بحاجات الجسد كالنصارى.

والجماعة التي تلتزم بالمعنى الثاني هي التي تستحق المرتبة المذكورة في المعنى الأول فلا منافاة بين المعنيين(1).

وعلى هذا فالأمة الوسط لا تشمل كل من ادعى الإسلام ظاهراً وإنما فئة خاصة من الأمة، وإنما اُضيف الوصف إلى كل الأمة لأنها ضمت هذه الفئة وأنها فيهم, كتفضيل بني إسرائيل على العالمين, بمعنى أن هذه الفضيلة فيهم ولا يلزم منه اتصاف كل واحد منهم بها.

روى العياشي في تفسيره عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (البقرة:143), فإن ظننت أن الله عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحدين، أفترى أن من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب الله شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الأمم الماضية، كلا لم يعن الله مثل هذا من خلقه، يعني الأمة التي وجبت لها دعوة إبراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) {كُنتُمْ خَيْرَ5.

ص: 45


1- ذكر هذا الاشكال السيد الطباطبائي (قدس سره) قال: (إن كون الأمة وسطاً إنما يصحّح كونها مرجعاً يرجع إليه الطرفان، وميزاناً يوزن به الجانبان لا كونها شاهدة تشهد على الطرفين فلا تناسب بين الوسطية بذاك المعنى والشهادة وهو ظاهر، إذ لا يترتب شهادة الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على الأمة على جعل الأمة وسطاً، كما يترتب الغاية على المغيى والغرض على ذيه) الميزان- السيد الطبطبائي:1/ 315.

أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران:110) وهم الأمة الوسطى وخير أمة أخرجت للناس)(1).ويقف على رأس هذه الأمة الشاهدة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ففي عدة مصادر ومنها الكافي بسنده عن بريد العجلي قال: (سألت أبا عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن قول الله عزوجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} (البقرة:143), فقال: نحن الأُمة الوسطى ونحن شهداء الله على خلقه وحججه في أرضه)(2).

وفي حديث آخر: (الينا يرجع الغالي وبنا يرجع المقصِّر)(3).

لأن الشهادة على شيءٍ تتطلب حضوراً عنده ومعاينة له فالشهادة على اعمال الناس لا تحصل الا للمعصومين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

ويمكن أن يتسع مفهوم الأُمة الوسط, لتشمل الدعاة إلى الله تبارك وتعالى, والعاملين الرساليين, الذين يجسدون تعاليم الإسلام في حياتهم.

اذا فهمنا الشهادة على الناس بمعنى الحجة وممارسة الرقابة والشهادة على إمكانية ان يكون الانسان مستقيماً ومتوازناً في حياته، وهم يؤدّون هذا الدور.

فيقال يوم القيامة لمن عصى وقصّر في فعل الطاعة واجتناب المعصية معتذراً4.

ص: 46


1- تفسير العياشي: 1/ 63 ح114.
2- الكافي- الكليني:2/ 146.
3- تفسير نور الثقلين- الشيخ الحويزي:1/ 134.

بصعوبة ذلك على الانسان المملوء بالشهوات والغرائز، فيقال له ألم يكن فلان صالحاً وهو انسان مثلك فيكونون شهداء على الناس بهذا المعنى.فالوسطية تعني فيما تعني التسليم لله تعالى والانقياد له والاستقامة على الدين والاعتدال في المسيرة والعدل في الحكم والإحسان الى الناس ونبذ كل انحراف وزيغ وضلال {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل:90).

وبهذا نفهم ورود الآية في سياق الحديث عن تحويل قبلة المسلمين في المدينة من بيت المقدس إلى مكة المكرمة، ففي الآية التي سبقتها {سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (البقرة:142), فكأن الأمر بالصلاة إلى بيت المقدس أولاً كان يستهدف سحق انانية العرب وعصبيتهم الجاهلية, وتحقيق معنى الطاعة والعبادة الخالصة لله تعالى وتحقيق معنى الأمة الوسط، فيما يصف الأُمم السابقة {وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} (البقرة:145).

ان الأمة الوسط هي الأمة المتوازنة، فهم أهل الرأي الوسط الذي يجمع حسنات الآراء الأُخرى ويتجنب سلبياتها، وهم أمة وسط لأنهم عادلون منصفون يعطون لكل ذي حق حقه، سواء على مستوى التعامل مع أنفسهم أو الآخرين أو في حقوق الله تعالى أو حقوق الناس، ففي الدر المنثور بسنده عن جمع من

ص: 47

الصحابة عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن {وسطاً} تعني (عدلاً)(1).وهم أهل الاعتدال والتوازن في قوانينهم فلا يحيفون على الفرد لحساب المجتمع - كالنظام الاشتراكي- ولا العكس كالرأسمالي, وهم متوازنون في علاقتهم فلا يذوبون في الآخرين ولا ينغلقون على أنفسهم وهكذا.

وشاء الله تعالى أن يجعلها وسطاً في حسابات التاريخ والجغرافية أيضاً.

فعلى الأول: هي وسط بين عصور الجاهلية والتخلف وعصور الرشد والنضج على كل الأصعدة العلمية والفكرية والأخلاقية والاجتماعية.

وعلى الثاني: تحل هذه الأمة وسط الأرض ومنها تمرّ خيرات الأرض وعطاء أهلها المادي والمعنوي من الشرق إلى الغرب, ومن الشمال إلى الجنوب وبالعكس.

ومن هنا يتبيّن ان لا وسطية الا في الإسلام الأصيل, وليس في الثقافات المستوردة من المستكبرين, فلا وسطية وهم يتبعون شهواتهم واهواءهم وما تمليه عليهم شياطينهم, قال تعالى: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً} (النساء:27), والميل خلاف الوسطية, فهم أبعد ما يكونون عنها.

ولكنهم يُريدون أن يبتزونا بهذا التحريف للمصطلحات لنتخلى عن هذه الجوهرة العظيمة _ أعني الإسلام_ ، بل الآية تؤكِّد ان المسلمين هُم الأُمة الوسط - أي النموذج الأمثل والأفضل- التي يجب ان ترجع إليها الأمم الأخرى وتتبعها,3.

ص: 48


1- الدر المنثور- جلال الدين السيوطي: 1/ 144- تفسير القرطبي- القرطبي: 2/ 153.

وليس العكس. فليثقوا بأنفسهم وبما عندهم، على ان لا يتكئوا على امجاد الماضي والتفاخر بمآثر الصالحين من دون عمل صالح يستحقون به هذا المقام.

دلالة الآية على وجود الامام المهدي (عج) وحياته:

ومن الآيات القرآنية التي يُستدل بها على وجود الامام المهدي الموعود (عج) واستمرار حياته قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (البقرة:143), وتوضيح الاستدلال يكون من خلال عدّة نقاط:

1- ان الآية الكريمة جعلت للأمة الوسط مقام الشهادة على الناس, أي يشهدون على أعمالهم عند الله تعالى.

2- ان الناس جميعاً من الأولين والآخرين مشمولون بهذه الشهادة, ولا يستثنى أحد من الشهادة على اعماله, لعدم الفرق بين واحد وآخر وشمول الجميع بقانون الثواب والعقاب.

فلابد أن يكون واحد من الأمة الوسط موجوداً في كل زمان وفي كل جيل, ليؤدي الشهادة على الناس، ولا يخلو زمان من شاهد على الاعمال, لأنه يعني وجود أمة من الناس لا يُشهد على أعمالهم.

3- الشهادة تتطلب حضوراً ومعاينة, ليشهد عن حس ووجدان وليس عن سماع أو إخبار من الآخرين أو تخمين أو ظن, وهو معنى الشهادة، ولا تتيّسر

ص: 49

القدرة على معاينة كل اعمال الناس والاطلاع عليها الا للمعصومين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), وهو مفاد قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} (التوبة:105), فالأمة الوسط التي تشهد على اعمال الناس يوم القيامة هم الأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).وقد دلّت الروايات على ذلك, كالحديث الذي رواه الشيخ الكليني في الكافي بسنده عن بريد العجلي قال: (سألت أبا عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن قول الله عزوجل {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} (البقرة:143), فقال: نحن الأُمة الوسطى ونحن شهداء الله على خلقه وحججه في أرضه)(1).

فنتيجة هذه المقدمات وجود المعصوم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في كل زمان, ليشهد على أعمال الناس, وليس هو في زماننا الا الامام المهدي (عج) لعدم وجود غيره.2.

ص: 50


1- الكافي- الكليني:1/ 146/ح2.

القبس /3: سورة البقرة:152

{فَٱذكُرُونِي أَذكُركُم}

تشريف وتكريم من الخالق العظيم لعباده, بأن يقرن ذكره بذكرهم ويبادلهم الذكر, فيذكرهم اذا ذكروه, ومن دعاء للإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إلهِي أَنْتَ قُلْتَ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً 41 وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الأحزاب:42), وَقُلْتَ, وَقَوْلُكَ الْحَقُّ: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} (البقرة:152), فَأَمَرْتَنا بِذِكْرِكَ، وَوَعَدْتَنا عَلَيْهِ أَنْ تَذْكُرَنا تَشْرِيفاً لَنا وَتَفْخِيمَاً وَإعْظامَاً، وَها نَحْنُ ذاكِرُوكَ كَما أَمَرْتَنا، فَأَنْجِزْ لَنا مَا وَعَدْتَنا يا ذاكِرَ الذَّاكِرِينَ، وَيا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ)(1).

بينما لا يطمع الانسان في ان يذكره إنسان ضعيف عاجز مثله, وهو يعشقه ويصفّق له ويلهج باسمه ويلهث وراءه ويدافع عنه, وربما يُضحي من اجله, والآخر لا يعرفه, ولا يقيم له وزناً, فشتّان بين المعبودين!

والمُراد بذكر الله تعالى عبده اذا ذكره, منحه العطاء الخاص, وترتيب الأثر المناسب, والا فان الله تعالى لا يغفل عن عباده, ولا يهملهم, وهم يتقلبون بنعمه دوماً {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} (الحديد:4).

ص: 51


1- بحار الانوار- المجلسي: 94/ 151/ ح21.

وهذا العطاء الخاص له اشكال عديدة, ويتناسب مع نوع الذكر, لأن ذكره لله تعالى يجعله مؤهلاً لنزول البركات والمنن والعطايا، ففي حديث نبوي شريف في تفسير الآية: (اذكروني يا معاشر العباد بطاعتي, اذكركم بمغفرتي)(1), والطاعة تشمل الواجب والمستحب، والمغفرة تشمل محو الذنوب المقترفة, أو عصمة العبد ووقايته من الوقوع في غيرها.أو يذكره الله تعالى بالرحمة اذا ذكر ربّه بالطاعة, قال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (آل عمران:132).

وفي حديث آخر عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (اذكروني بالطاعة والعبادة, اذكركم بالنعم والإحسان والراحة والرضوان)(2).

أو يذكر ربّه بالشكر, فيذكره بزيادة النعم {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} (إبراهيم:7).

او اذكروني بالدعاء لأذكركم بالإجابة {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر:60).

او اذكروني في الدنيا, لأذكركم في الآخرة.

او اذكروني في عالمكم الصغير, لأذكركم في العالم الكبير, ونحو ذلك مما ورد في الاحاديث الشريفة.3.

ص: 52


1- الدر المنثور- السيوطي: 1/ 148.
2- عدة الداعي- ابن فهد الحلي:238- بحار الأنوار - المجلسي: 90/ 163.

ففي الحديث النبوي الشريف قال الله تعالى: (انا عند ظن عبدي بي, وانا معه اذا ذكرني، فان ذكرني في نفسه, ذكرته في نفسي, وان ذكرني في ملأ, ذكرته في ملأ خير منهم, وإن تقرّب اليّ شبراً, تقربتُ إليه ذراعاً)(1).وفي الحديث الآخر عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (قال الله عز وجل ذكره: لا يذكرني أحد في نفسه, الا ذكرته في ملأ من ملائكتي, ولا يذكرني في ملأ, الا ذكرته في الرفيق الأعلى)(2).

ولذا يحظى ذكر الله تعالى بأهمية كبيرة, ومن الأسباب القوية لبلوغ الكمالات، وفي الحديث الشريف: (أحب الاعمال الى الله أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله)(3), أي يكون الانسان في ذكر مستمر, حتى اذا فاجأه الموت, كان لسانه رطباً بذكر الله تعالى.

وفي حديث آخر عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (ليس يتحسّر أهل الجنة الا على ساعة مرّت بهم لم يذكروا الله تعالى فيها)(4), وروي عنهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إن في الجنة قيعاناً(5)، فاذا4.

ص: 53


1- مستدرك الوسائل- الميرزا النوري: 5/ 298. واخرجه السيوطي في الدر المنثور عن أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي في شعب الايمان. الدر المنثور - جلال الدين السيوطي: 1/ 149.
2- الدر المنثور- جلال الدين السيوطي: 1/ 149- كنز العمال- المتقي الهندي: 1/ 432.
3- تفسير مجمع البيان- الطبرسي: 8/ 30- الجامع الصغير- جلال الدين السيوطي: 1/ 36.
4- كنز العمال- المتقي الهندي: 1/ 422.
5- القاع والقاعة والقيع: أرض واسعة سهلة مطمئنة مستوية حرة لا حزونة فيها ولا ارتفاع ولا انهباط، تنفرج عنها الجبال والآكام، ولا حصى فيها ولا حجارة ولا تنبت الشجر، وما حواليها أرفع منها وهو مصب المياه. لسان العرب - ابن منظور: 8/ 304.

أخذ الذاكر في الذكر أخذت الملائكة في غرس الأشجار فربما وقف بعض الملائكة فيقال له: لم وقفت؟ فيقول: إن صاحبي قد فتر، يعني عن الذكر)(1).وروى في عدة الداعي, ان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) خرج على أصحابه فقال: (ارتعوا في رياض الجنة، قالوا: يا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وما رياض الجنة، قال: مجالس الذكر اغدوا وروحوا واذكروا، ومن كان يحبُّ ان يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده، فان الله تعالى يُنزّل العبد حيث انزل العبد الله من نفسه، واعلموا أن خير أعمالكم وأزكاها وارفعها في درجاتكم وخير ما طلعت عليه الشمس ذكر الله سبحانه, فإنه أخبر عن نفسه فقال: انا جليس من ذكرني)(2).

وفيه ايضاً عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (قال سبحانه: اذا علمت أن الغالب على عبدي الاشتغال بي نقلت شهوته في مسألتي ومناجاتي، فاذا كان عبدي كذلك وأراد أن يسهو حلت بينه وبين ان يسهو، اولئك اوليائي حقا، أولئك الابطال حقاً، أولئك الذين اذا اردت أن أهلك اهل الأرض عقوبةً ذويتها عنهم من أجل أولئك الابطال)(3).

والأصل في الذكر حضور المعنى في القلب وتأثيره في الجوارح, وليس مجرد تحريك اللسان به, وإن كان هذا لا يخلو من ثمرة طيبة، لكن المطلوب حصول تلك المراتب, روى في كتاب المعاني عن ابي عبد الله الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (الا أحدثك بأشد ما فرض الله تعالى على خلقه؟ قلت: بلى، قال: انصاف2.

ص: 54


1- بحار الانوار- المجلسي: 93/ 63/ح42.
2- عدة الداعي- ابن فهد الحلي: 238- بحار الأنوار- المجلسي: 90/ 163.
3- بحار الأنوار- العلامة المجلسي: 90/ 162.

الناس من نفسك ومواساتك لأخيك, وذكر الله في كل موطن، اما اني لا أقول, سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله اكبر، وإن كان هذا من ذاك، ولكن ذكر الله في كل موطن, اذا هجمت(1) على طاعته او معصيته)(2).فتتخذ الموقف الذي يُرضي الله تعالى في كل تلك المواطن, وفي الحديث النبوي الشريف: (من اطاع الله فقد ذكر الله, وإن قلّت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن، ومن عصى الله فقد نسي الله, وان كثرت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن)(3).

وهذا يبين لنا بوضوح المقياس الذي يُعرف به الذكر والذاكر وعدم الاكتفاء بالحركات الخارجية.

وعلى هذا فالذكر له مصاديق واسعة تشمل كل الطاعات، ومنها طلب العلم والحضور في مجالس الوعظ والإرشاد وحلقات العلم.

هذا الرصيد الضخم الذي يكتسبه الانسان بالذكر, يمكن ان يُفرّط به ويُضيّعه, بسبب ارتكابه بعض الحماقات, غفلة او انسياقاً وراء اهواء النفس, ففي الحديث الشريف: (من قال سبحان الله غرس الله له بها شجره في الجنة, ومن قال الحمد لله غرس الله له بها شجره في الجنة, ومن قال لا اله الا الله غرس الله له بها شجره في الجنة, ومن قال الله اكبر غرس الله له بها شجره في الجنة. فقال: رجل9.

ص: 55


1- في بعض النسخ (هممت) والمناسب للطاعة كلمة (هممت) والمناسب للمعصية (هجمت). راجع هامش: الكافي - الشيخ الكليني: 2/ 145- بحار الأنوار- العلامة المجلسي: 72/ 35.
2- معاني الأخبار- الشيخ الصدوق: 1/ 193.
3- الدر المنثور- جلال الدين السيوطي: 1/ 149.

من قريش يا رسول الله إن شجرنا في الجنة لكثير. قال(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): نعم ولكن إياكم أن ترسلوا عليها نيراناً فتحرقوها, وذلك إن الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (محمد:33))(1).وهذه النيران يمكن أن تكون الغِيبة أو الحسد أو الظلم أو انتقاص وإهانة الآخرين, أو التقصير في القيام بعمل إنساني, كان قادراً عليه.

وعلى الانسان ان يتجنّب كُل ما يُلهيه عن ذكر الله تعالى ويشغله عنه من أمور الدنيا واتباع الشهوات والاهواء, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (المنافقون:9).

وهو ما يبتغيه شياطين الانس والجن {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِر وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (المائدة:91), فيقع الانسان في الغفلة الموجبة للبعد عن الله تعالى والوقوع في المعاصي، روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله: (ليس في المعاصي أشدُّ من اتباع الشهوة فلا تُطيعوها فتشغلكم عن الله)(2), وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (كل ما الهى عن ذكر الله فهو من ابليس)(3).7.

ص: 56


1- بحار الأنوار- المجلسي: 93/ 168/ح3.
2- غرر الحكم:7520- مستدرك الوسائل- الميرزا النوري: 11/ 347.
3- ميزان الحكمة: 3/ 356, عن تنبيه الخواطر: 2/ 170- وفي لفظ أخر: (كلما ألهى عن ذكر الله فهو من الميسر). أمالي الطوسي:1/ 346- بحار الأنوار- المجلسي: 70/ 157.

وينبغي الالتفات إلى ان هذه الملازمة بين ذكر الله تعالى وذكر العبد قد تكون سلاحاً ذا حديّن, فتكون العقوبة على من يعصي الله تعالى وهو ملتفت وذاكر مضاعفة، ففي الدر المنثور عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (فمن ذكرني وهو مطيع فحقَّ عليّ أن اذكره بمغفرتي، ومن ذكرني وهو لي عاصٍ فحقَّ عليّ ان أذكره بمقت)(1).وفي نفس المصدر: (عن ابن عباس قال: أوحى الله إلى داود قُل للظلمة لا يذكروني, فإن حقاً عليَّ أذكر من ذكرني، وأن ذكري إيّاهم أن ألعنهم)(2).9.

ص: 57


1- الدر المنثور- جلال الدين السيوطي: 1/ 360.
2- الدر المنثور- جلال الدين السيوطي: 1/ 149.

القبس /4: سورة البقرة:177

اشارة

{لَّيسَ ٱلبِرَّ(1) أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُم قِبَلَ ٱلمَشرِقِ وَٱلمَغرِبِ وَلَكِنَّ ٱلبِرَّ}

موضوع القبس: افهم حقائق الأمور جيّداً (البر والعلم والعبادة أمثلة)

من ثمرات التدبر في القرآن الكريم تصحيح نظرتك للأمور وفهمك للحقائق، وهذه الآية تقوم بهذا الدور وتبيّن مفردة مُهمّة في الحياة أعني {الْبِرَّ} الذي يُعرّف بأنه: (الاتساع والزيادة في فعل الخير)(2), ولذا سميت الصحراء بالبرية لاتساعها.

وفي الحقيقة فأن الآية شرحت معنى الايمان المتكامل نظريّاً وعمليّاً, وإن عبّرت عنه بالبر، وفي كتاب الدر المنثور بسنده عن أبي ذر الغفاري (رضي الله عنه) أنه سأل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن الايمان فتلا عليه الآية فأعاد السؤال فتلاها

ص: 58


1- مثبّتة بالفتح في المصحف المتداول وهي قراءة حمزة وحفص عن عاصم وحكي في وجهها انه خبر ليس مقدم على إسمها، قال في مجمع البحرين: (وهو ضعيف بجعل الاسم جملة). وقرأها الأكثر بالضمّ على القاعدة مثل نافع وابن كثير وابي عمر و ابن عامر والكسائي وغيرهم وهو المروي عن ابن مسعود وابي. راجع معجم القراءات القرآنية: 1/ 137.
2- مجمع البحرين- الشيخ الطريحي: 1/ 184- تاج العروس- الزبيدي: 6/ 69.

ثانية وهكذا ثالثة(1).وقد ورد في الروايات أن الآية نزلت للتعريض بفعل أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين كانوا يسخرون من المسلمين عندما أمر الله تعالى نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بتحويل القبلة عند الصلاة من بيت المقدس إلى الكعبة المشّرفة, وأصبح للمسلمين هوية خاصة بعد أن كان أولئك يفتخرون عليهم وانهم تابعون لهم لأنهم يصلّون إلى قبلتهم وكان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يتوق الى ان تكون الصلاة الى الكعبة بعد الهجرة الى المدينة {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (البقرة:144), فأفقدهم تغيير القبلة هذا الادعاء, فأخذوا يشككون في صحة فعل المسلمين سابقاً أو لاحقاً.

وكانت هذه حلقة من سلسلة طويلة من المواجهة مع أعداء الإسلام، وقد نزلت عدة آيات للرد عليهم، منها قوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ المشرق والمغرب} (البقرة:142), ومنها الآية التي نحن بصددها.

فالآية تقول: أن البر ليس أمراً شكلياً وحركة جسدية تتمظهر بالتوجه إلى هذه الجهة أو تلك فقط وفقط حتى يُركّز عليها الخصوم ويعتبرونها المقياس لمعرفة الحق, بينما القلوب خاوية من الايمان الحقيقي، والنفوس مجرّدة من الورع والتقوى، ولكن البر له حقيقة وراء هذه الشكليات تتكون من منظومة9.

ص: 59


1- الدر المنثور- جلال الدين السيوطي: 1/ 169.

متكاملة من الاعتقادات والأخلاق والأفعال {وَلَ-كِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّ-رَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَ-ئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَ-ئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة:177).هكذا يجب ان نُقيّم عباداتنا وسائر أعمالنا على أساس حقائقها واغراضها وليس اشكالها وحركاتها البدنية التي لا تستحق شيئاً يُذكر, اذا خلت من المضمون، حتى لا يتملك العجب أحداً من العاملين أو الشعور بأنه قدَّم شيئاً يستحق عليه جزاءاً عظيماً.

ولنأخذ أمثلة من الواقع, كشخص يحيي الليل بالعبادة وهو لا يعلم بأن الحارس الليلي يجوب الشوارع على قدميه في ظل الظروف الجوية القاسية متحملاً المخاطر والتهديدات والمسؤولية الكبيرة ويتقاضى أجره عن الليلة عشرة الاف دينار أو أكثر بقليل أي عشر دولارات فكم يستحق التعب الجسدي لإحياء الليل بالعبادة، أو نقيس الامر على الاستئجار للعبادات, فأن أجرة صلاة يوم كامل دولاراً واحداً, او اكثر بقليل, وصوم اليوم الواحد عشرة الاف دينار, أي ثمانية دولارات, ونحن نريد بهذه الاعمال أن يدخلنا الله تعالى جنة عرضها السماوات والأرض.

فلابد أن نعرف حقيقة ما يُريده الله تعالى من هذه الاعمال وهي التقوى والورع, وان تحب الله تعالى وتؤثر رضا الله تعالى على ما سواه, وأن تحب خلق

ص: 60

الله تعالى وتحسن اليهم بما يتيسر وتتجنب ظلمهم مطلقاً، قال الله تعالى {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} (الحج:37), فالقيمة الحقيقية ليست للأشكال والمظاهر وانما هي مع الروح والمضمون.والملفت في الآية التي نحن بصددها أنها انتقلت من وصف {البِّر} - المصدر- إلى وصف {البَّر} - بالفتح - أو البارَّ وهو المتصف بهذه الصفات, لأن النظرية لا تُفهم الا من خلال تجسيدها عمليّاً وابرازها في سلوك الأسوة الحسنة، ولتشير إلى أن من اجتمعت فيه هذه العناصر يْكون البر صفة راسخة فيه حتى يصبح مجسداً للبِّر على ارض الواقع كما نقول: (علي عدل) أي ان العدل ملكة راسخة فيه حتى أصبح مثالاً ومصداقاً للعدل.

والصفات المذكورة واضحة ومحورها العبودية لله تبارك وتعالى وعدم التعلق بشيء سواه، وقد ذكر إنفاق المال مرتين {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} أي على حب المال وعلى حب الله تعالى، {وَآتَى الزَّكَاةَ} وكأنه للإشارة إلى قيامه بالانفاقين الواجب والمستحب، والخطاب وإن نزل للتعريض بأهل الكتاب الا أنه شامل للجميع كما هو ديدن القرآن الكريم.

فهذه هي صفات الأمة المؤمنة حقيقة التي هي خير أمة أخرجت للناس ولها مقام الشهادة على الأمم الأخرى {لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (البقرة:143), وليس بمجرد إدعاء الانتساب.

وفي الحديث الشريف عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (أما علامة الباِّر فعشرة: يحب

ص: 61

في الله، ويبغض في الله, ويصاحب في الله، ويفارق في الله، ويغضب في الله، ويرضى في الله، ويعمل لله، ويطلب إليه, ويخشع لله، خائفاً مخوفاً طاهراً مخلصاً مستحياً مراقباً، ويُحسِنُ في الله)(1).ومحل الشاهد هنا أن من الوظائف التي اداها القرآن الكريم وضع المعايير الصحيحة وتصحيح فهم الأمور وسار على ذلك النبي والائمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، روي عن أبي الحسن موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (دخل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) المسجد فإذا جماعة قد أطافوا برجل فقال: ما هذا؟ فقيل: علّامة فقال: وما العلّامة؟ فقالوا له: أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها، وأيام الجاهلية، والأشعار العربية، قال: فقال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): ذاك علم لا يضر من جهله، ولا ينفع من علمه، ثم قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): إنما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة قائمة، وما خلاهن فهو فضل)(2).

إذن فالعلم الذي يستحق أن يُسمى علماً هو ما كان فيه نفع للناس في دنياهم أو آخرتهم وتقوم به حياتهم بحيث لو تركه الناس يصيبهم ضرر بفواته، أما ما ليس كذلك كأنساب العرب ووقائعهم في الجاهلية فلا يستحق تضييع الوقت الثمين في تعلمه.

فلابد أن نراعي ذلك فيما نطالعه ونتعلمه عبر وسائل التثقيف المتنوعة التي لم تقتصر على الكتب والصحف والمجلات، بل تعدّتها إلى شبكة النت ومواقع2.

ص: 62


1- تحف العقول- ابن شعبة الحراني:21.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 1/ 32.

التواصل الاجتماعي.ومن ذلك ما رواه معلى بن خنيس قال: (سأل أبو عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن رجل وأنا عنده فقيل: أصابته الحاجة، قال: فما يصنع اليوم؟ قيل: في البيت يعبد ربه، قال: فمن أين قوته؟ قيل: من عند بعض اخوانه، فقال أبو عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): والله للذي يقوته أشد عبادة منه)(1).

فالرواية تصحح لنا فهمنا لعنوان مهم آخر وهي (العبادة) التي نظن أنها بكثرة الصلاة والصيام وكلما ازداد منها كان أعبد الناس واذا بمفهومها أوسع من ذلك.

فكل عمل يساهم في إعمار الحياة وإسعاد الناس وإصلاحهم وتوفير الحياة الكريمة لهم هو من أسمى اشكال العبادة.3.

ص: 63


1- وسائل الشيعة (آل البيت)- الحر العاملي: 12/ 14/ح3.

القبس /5: سورة البقرة:191

{وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}

تقرّر الآية الكريمة واحدة من الحقائق القرآنية الاستراتيجية –كما يقال- التي ترتّب أولويات الحياة الانسانية وتنظم العلاقة مع الآخرين، وورد هذا المعنى بتعبير اخر في آية لاحقة، قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} (البقرة: 217)

الفتن(1) في اللغة ادخال الذهب او الفضة في النار لتخليصه من الشوائب وتمييز الجيد من الرديء ومنه نقلت الى معنى تعريض الانسان الى الاختبار والابتلاء والتمحيص بالإغراءات او بالمكاره والآلام ليتميز المحسن من المسيء، قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّ-رِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (الأنبياء:35) وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} (التغابن:15) باعتبار انها ادوات واسباب للاختبار والتمحيص، وقال تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} (العنكبوت:1-2) اي لا يُختبرون حتى يتميز الخبيث من الطيب، روي عن الامام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسيرها قوله: (يُفتنون كما يُفتن الذهب، ثم يخلَصون كما يُخلص الذهب) (2).

ص: 64


1- تاج العروس للزبيدي: 18/ 425
2- الكافي: 1/ 302 / ح4

هذا هو معنى الفتنة اذا نُسبت الى فعل الله تعالى فتكون من السنن الالهية الجارية في عباده، وقد وردت الفتنة بمعنى مذموم في آيات اخرى، ولدى الاستقراء تبين ان هذا المعنى يرد اذا نُسبت الفتنة الى العباد فيُراد بها التعريض لضغوط الاغراء او الاكراه طلبا لتحقيق النتيجة الشريرة والخبيثة من الابتلاء كما في الآيتين محل البحث وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ} (البروج:10) وقوله تعالى: {وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ} (المائدة:49) وقوله تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} (الاسراء:73) وذلك بتدبير الحيل والمكائد لك وممارسة الضغوط والاغراءات عليك لصرفك عما انت عليه من الحق.وعلى هذا يكون معنى الآية ان الفتنة بمعنى الاضلال والابعاد عن الدين وايقاع الفرد في الفساد والانحراف هو اشد وأكبر من ازهاق روحه، او قل ان القتل المعنوي للإنسان بسلب دينه الذي هو سبب نعيمه في الحياة الخالدة الدائمة، هو اشد خطرا وأكبر جرما من سلب حياته المادية وفنائه الجسدي، ولإقامة الشهادة على هذه الحقيقة كان القتل من أجل دفع الفتنة والضلال وحماية الدين والمجتمع منها أقدس مراتب القتل وافضلها.

ويترتب على هذا أنَّ من يفتن الناس عن دينهم باي شكل مما سنُشير اليه يجب دفعه بشتّى الوسائل كالذي يهدد حياة الناس بل الاول احرى وان لم يشهر سلاحا، ولعل هذا هو المسوِّغ الوحيد للقتال في الاسلام بحسب ما يفيده القرآن الكريم، وبقية الاسباب والمسوِّغات ترجع اليه، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى

ص: 65

الظَّالِمِينَ}(البقرة:193) وفي اية اخرى: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه}(الأنفال:39) وهذه نتيجة مهمة تُزيل الكثير من الشبهات حول انتشار الاسلام بالسيف ونحو ذلك، لكنها تحتاج الى تفصيل من البحث(1) في مناسبة اخرى ان شاء الله.وقد جاء هذا المقطع من الآية جوابا للمشركين الذين استغربوا من قتال المسلمين في الشهر الحرام او في الارض الحرام بانكم - أيها المشركون - ارتكبتم فيها ما هو اعظم من القتل والقتال بأفعالكم الوحشية المحمومة لإخراج الناس من دينهم واعادتهم الى الجاهلية، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}(البقرة:217).

وفي بعض الروايات ان الفتنة بمنزلة الكفر، ففي الحديث عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (وانما سُمّي الكفر فتنة لان الكفر يؤدي الى الهلاك كما تؤدي الفتنة الى الهلاك)(2)

ولا فرق في تحقق هذه الفتنة بين ان تكون بالتهديد والايذاء المباشر، او بإقامة البيئة الفاسدة الضاغطة التي من شأنها ان تضلّ الناس عن دينهم وتبعدهم عن الصراط الالهي القويم بتوفير اسباب الفساد المؤثرة والاغراء وادوات التلويث الفكري والعقائدي في مناهج التعليم والثقافة والمعرفة او سنّ القوانين التي تشرعن للرذيلة والظلم وتعيق نشر الفضيلة والصلاح.47

ص: 66


1- راجع كتاب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) من موسوعة فقه الخلاف: الجزء الثاني.
2- تفسير التبيان: 2 / 147

وبناءً على هذه الحقيقة القرآنية فان الذين ينشرون الفساد والرذيلة في المجتمع ويشككون الناس في عقائدهم الحقة ويدعونهم الى الالحاد والانحلال الخلقي ونبذ الدين تحت مسميات عديدة منها قديمة كالدين افيون الشعوب والمضي على ما كان عليه الاباء {أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ}(ص:6) او حديثة تحت عناوين متعددة معروفة لا يقلّون خطرا واجراما عن الجماعات الارهابية الذين ينشرون القتل والخراب في كل مكان، بل ان الجماعة الاولى اكثر اجراما من الثانية لان القتل المعنوي بحسب هذه الحقيقة القرآنية اعظم في الواقع من القتل المادي.وفي مقابل ذلك فان من يحيي وظيفة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ويقيم الدين في المجتمع امتثالا لقوله تعالى {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} (الشورى:13) وينصح الناس ويرشدهم ويقوّي عقائدهم، ويدفع عنهم الشبهات والاباطيل التي يبثها اعداء الله ليخرجوا الناس من الظلمات الى النور، ويهدونهم الى الحياة الباقية هم أعظم اجرا ومنزلة عند الله من المجاهدين المقاتلين الذين يضحّون بدمائهم من اجل حماية ارواح الناس وحفظ حياتهم المادية.

وفي ضوء هذه الحقيقة نفهم الحديث الشريف عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (اذا كان يوم القيامة جمع الله عز وجل الناس في صعيد واحد ووضعت الموازين، فيوزن دماء الشهداء مع مداد العلماء، فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء)(1) وليس المراد مطلق المداد والحبر على الورق ما لم يكن علماً ينتفع67

ص: 67


1- ميزان الحكمة / ج3 / ص 2067

الناس به ولا يكتفي صاحبه بحمله بل يعمل به وينشره بين الناس ويدعوهم اليه حتى يهتدوا به.وتوجد كلمة قيّمة للإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مستفادة من هذه الآية تحث على العمل الاجتماعي وتعطيه اعلى قيمة، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لرجل: (ايهما احبُّ اليك، رجلٌ يروم قتل مسكين قد ضعُف تنقذه من يده، او ناصبٌ يريد اضلال مسكين من ضعفاء شيعتنا تفتح عليه ما يمتنع به ويفحمه ويكسره بحجج الله تعالى) قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (بل انقاذ هذا المسكين المؤمن من يد هذا الناصب، ان الله تعالى يقول {مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعا} (المائدة:32) اي ومن احياها وارشدها من كفرٍ الى ايمان فكأنما احيا الناس جميعا من قِبلَ ان يقتلهم بسيوف الحديد)(1).

فهذا جواب والقاء المعلومة بصيغة السؤال (ايهما احبُّ اليك) اي ليكن هذا الامر احبُّ اليك من الآخر وانما عرضها (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بصيغة السؤال ليشترك المتلقي معه في صنع المعلومة والتفكير فيها والاستعداد اكثر لتقبّلها، والقاها بهذا التعبير الوجداني (أحبّ) لان القناعة العقلية بكون الفتنة عن الدين اشد من القتل حاصلة من الآيتين الكريمتين فالقناعة بهذه الحقيقة كاملة وانما انتقل الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الى مرحلة العمل بان يكون تعلقك بإنقاذ المجتمع من الجهل والشبهات والفتن وتعليمهم العقائد واحكام الدين والاخلاق الفاضلة اكثر من اهتمامك باي شيء اخر مهما كان مهماً كإنقاذ انسان مستضعف من القتل.31

ص: 68


1- بحار الانوار: 2 / 9 ح17 عن تفسير العسكري: 348 / ح 231

اما لماذا كانت الفتنة عن الدين اشد واكبر من القتل، فيمكن الاجابة عنه بوجوه:-1- ان الدين وعبادة الله تبارك وتعالى اقدس شيء في هذا الوجود وهو غاية خلق الانسان والهدف من وجوده، لذا يرخّص كل شيء من اجل الاحتفاظ بهذا الحق المقدس، فقد ضحى اكرم الخلق من الانبياء والمرسلين والائمة (صلوات الله عليهم اجمعين) ومن تبعهم من الصالحين بأرواحهم وأعزّ ما عندهم في سبيل اقامة الدين، واثمن تضحية ما نعيش ذكراها هذه الايام وهي تضحية الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

اذن فالعدوان على الدين ومنع الانسان من ممارسة حقه فيه هو اشد من اي اعتداء اخر سواء على الجسد بالقتل او غيره.

2- ان جهاد النفس الامارة بالسوء ومعركة السيطرة على غرائزها وشهواتها وانفعالاتها اشد وأكبر من جهاد العدو بالقتل والقتال حتى سمي الاول الجهاد الاكبر والثاني الجهاد الاصغر، فالخسارة في الجهاد الاول وهو الاكبر اشد وأخطر من الخسارة في الجهاد الثاني بالقتل.

3- ان الفتنة بلاء وامتحان دائم ومستمر ولا يمكن تجنبه فتحقيق الانتصار فيه عسير وشديد، اما القتل فهي حالة قليلة الحدوث ويمكن تجنب اسبابه فالأول اشد وأكبر من الثاني.

4- ان القتل ينهي حياة الانسان المادية في هذه الدنيا وهي زائلة وفانية ولو لم يقتل فانه يموت، بينما الفتنة تكون سببا لشقائه في الحياة الاخرة الدائمة، وانما

ص: 69

تكتسب الحياة الدنيا قيمتها بمقدار تحقيقها لنتائج طيبة في الاخرة، فإعدام الحياة الدائمة اشدُّ واكبر من اعدام الحياة الفانية.5- ان القاتل يزهق روحا واحدة، بينما المفتون عن دينه والمتجرد من خوف الله تعالى والمبادئ الانسانية والملوث عقائديا كالخوارج والتكفيريين يفتكون بالآلاف من البشر من دون ان يرفّ لاحدهم جفن كما عبَّر بعض الطواغيت المعاصرين.

6- ان القاتل ما كان ليقتل لولا انه تخلى عن مبادئه الدينية قبل ذلك فالسبب الاصلي للقتل هي الفتنة عن الدين والانسلاخ عنه، ولو التزم بما يأمره به دينه لتورّع عن القتل (اللهم اصلح لي ديني فانه عصمة امري)(1).

7- ان خطر الفتنة خفي لا يلتفت اليه المفتون غالبا لذا فانه لا يتخذ الاجراءات الاحترازية منه، بل قد يتجاوب معها لأنها توافق شهواته واهواءه، بينما خطر القتل بيّن واضح يخاف منه ويحترز منه.

8- ان الفتنة تعم بضررها مساحة واسعة ولا تقتصر على صاحبها فقط، قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (الانفال:25) بينما القتل يقع على المقصود خاصة.

9- ان فتنة الانسان لأخيه الانسان شرٌ كلها فهي مذمومة اما القتل فيمكن ان يكون سببا لحياة الامة ونجاتها وصلاحها كاستشهاد الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).ء.

ص: 70


1- الصحيفة السجادية، من دعاء الامام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في يوم الثلاثاء.

ومن مجموع هذه الوجوه يتبين معنى كون الفتنة اشد من القتل، وان دفعها لا يقِلّ وجوباً عن دفعه، لذلك نبهنا دائما ومعنا حكماء القوم الى ان القضاء على الارهاب يتطلب اولا تجفيف منابعه الفكرية التكفيرية، والا ما الفائدة من قتل افراد منهم مهما كثر عددهم مادامت البيئة والحاضنة التي تُفرِّخهم موجودة.فالإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهو يمارس دوره في امامة الامة وهدايتها يرشدنا الى اهمية العمل الديني الاجتماعي والتحرك برسالة الاسلام في اوساط الامة ونشر تعاليم اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وصيانة عقيدة المجتمع واخلاقه من الشبهات والانحرافات.

وان هذا العمل هو من اهم الواجبات الدينية واعظم المسؤوليات الملقاة على عاتقنا خصوصا نحن الحوزة العلمية والمثقفين والكتاب والمفكرين والاعلاميين؛ لان انحراف العقيدة وتلوّث الغذاء الفكري الذي يتلقاه المجتمع خصوصا الشباب هو الذي يحوّله الى سرطان خبيث يسري في جسد الامة ويرى ان اقرب القربات الى الله تعالى قتل الابرياء وسبي وتهجير النساء والاطفال وتدمير المقدسات وتخريب الحياة كاللوثة التي اصابت عقول الخوارج فاستحلوا الحرمات وبقروا بطون الحوامل وقتلوا الاجنّة.

ويعلمنا الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ان تكون أدواتنا الحوار البنّاء المفعم بالحجج والادلة والدعوة الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ولا مكان للعنف والتكفير والغاء الاخر، ويدعونا الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الى اعتماد مبدأ (الوقاية خير من العلاج) وذلك بقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (ما يمتنع به) اي لا ننتظر وقوع الشبهة لنرفعها بل ان نسلّح

ص: 71

ابناءنا بالفكر والعلم ليكونوا محصنين من اختراق الشبهات لهم ولو وقعت لسبب او لآخر فيجب العمل على رفعها قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (تفتح عليه ما يمتنع به، ويفحمه ويكسره بحجج الله تعالى).وان تكون هذه الادلة رصينة وقوية وبنفس الوقت مفهومة وواضحة لتنفتح بها النفس وينشرح لها الذهن قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (تفتح عليه) فإنها ادعى للطمأنينة والاقناع كدليل القرآن على التوحيد {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}(الأنبياء:22) وقول امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (واعلم يا بني انه لو كان لربك شريك لأتتك رسله)(1) او ادلة كتاب (المراجعات) على الامامة او بحث (كيف خطط رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للإمامة من بعده).

ان فرص القيام بهذا الوظيفة الالهية العظيمة اليوم ونيل الدرجات الرفيعة عند الله تعالى اوسع واكثر تأثيرا من اي زمان مضى للتقدم الهائل في تكنولوجيا الاتصالات والتواصل، واصبح من في اقصى الشرق يسمع ويرى من في اقصى الغرب مباشرة، والكلمة تصل الى انحاء المعمورة والى كل الناس في آن واحد، وما علينا الا ان نشمِّر عن ساعد الجد ونوصل الليل بالنهار بالعمل على بناء انفسنا اولاً اخلاقيا وعقائديا وفكريا ثم ننطلق بهذه الرسالة الى المجتمع، لنتصف بقوله تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً}(الأحزاب:39).ع)

ص: 72


1- نهج البلاغة: 31/ من وصيته لابنه الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)

ونلفت نظر الخطباء الاعزاء الذين يظهرون على شاشات التلفزيون او المثقفين الذين ينشرون على مواقع التواصل الاجتماعي الى ان يكون خطابهم عاما شاملا مؤثرا في كل التنوعات الانسانية وليس مقتصرا على الفئة او الشريحة التي ينتمي اليها او الموجودة أمامه، فاستحضر انك تخاطب الموجودين في المغرب او الجزائر ومصر او في اليمن والخليج او الهند وباكستان وروسيا واوربا وامريكا وغيرها من بقاع العالم.

ص: 73

القبس /6: سورة البقرة: 197

اشارة

{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}

موضوع القبس: الذنوب أصولها وكيفية الاحتراز منها وكفاراتها

موعظة:

قال الله تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (البقرة:197).

وقال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (عِبَادَ اللهِ، اللهَ اللهَ فِي أَعَزِّ الأَنْفُسِ عَلَيْكُم، وَأَحَبِّهَا إِلَيْكُمْ؛ فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَوْضَحَ لَكُمْ سَبِيلَ الْحَقِّ وَأَنَارَ طُرُقَهُ، فَشِقْوَةٌ لاَزِمَةٌ، أَوْ سَعَادَةٌ دَائِمَةٌ! فَتَزَوَّدُوا فِي أَيَّامِ الْفَنَاءِ(1) لِأَيَّامِ الْبَقَاءِ. قَدْ دُلِلْتُمْ عَلَى الزَّادِ، وَأُمِرْتُمْ بَالظَّعْنِ(2)، وَحُثِثْتُمْ عَلَى الْمَسِيرِ، فَإِنَّمَا أَنْتُمْ كَرَكْبٍ وُقُوفٍ، لاَ يَدْرُونَ مَتَى يُؤْمَرُونَ بَالسَّيْرِ، أَلاَ فَمَا يَصْنَعُ بِالدُّنْيَا مَنْ خُلِقَ لِلْآخِرَةِ! وَمَا يَصْنَعُ بِالْمَالِ مَنْ عَمَّا قَلِيلٍ يُسْلَبُهُ، وَتَبْقَى عَلَيْهِ تَبِعَتُهُ(3) وَحِسَابُهُ! عِبَادَ اللهِ، إِنَّهُ لَيْسَ لِمَا وَعَدَ اللهُ مِنَ الْخَيْرِ مَتْرَكٌ، وَلاَ فِيَما نَهَى عَنْهُ

ص: 74


1- أيام الفناء: يريد أيام الدنيا.
2- المراد «بالظّعن» المأمور به ها هنا السير إلى السعادة بالأعمال الصالحة.
3- تَبَعَتُهُ: ما يتعلق به من حق الغير فيه.

مِنَ الشَّرِّ مَرْغَبٌ. عِبَادَ اللهِ، احْذَرُوا يَوْماً تُفْحَصُ فِيهِ الْأَعْمَالُ، وَيَكْثُرُ فِيهِ الزِّلْزَالُ، وَتَشِيبُ فِيهِ الْأَطْفَالُ)(1).ومن خطبة له (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (أُوصِيكُمْ, عِبَادَ اللَّهِ, بِتَقْوَى اللَّهِ الَّتِي هِيَ الزَّادُ وبِهَا الْمَعَاذُ: زَادٌ مُبْلِغٌ ومَعَاذٌ مُنْجِحٌ,.... فَبَادِرُوا الْعَمَلَ, وخَافُوا بَغْتَةَ الأجَلِ, فَإِنَّهُ لا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الْعُمُرِ مَا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الرِّزْقِ, مَا فَاتَ الْيَوْمَ مِنَ الرِّزْقِ رُجِيَ غَداً زِيَادَتُهُ, ومَا فَاتَ أَمْسِ مِنَ الْعُمُرِ لَمْ يُرْجَ الْيَوْمَ رَجْعَتُهُ, الرَّجَاءُ مَعَ الْجَائِي, والْيَأْسُ مَعَ الْمَاضِي ف-{اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران:102))(2).

الغرض من التشريعات تحصيل التقوى:

وتصرّح الآيات القرآنية كقوله تعالى في آية الصوم {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة : 183) بأن الهدف من التشريعات هو تربية الإنسان لتحصيل ملكة التقوى وهي حالة تحصل في قلب الإنسان تحرّكه نحو كل ما يرضي الله تبارك وتعالى سواء كان واجباً أو مستحباً وتمنعه عن اقتحام كل ما يوجب سخط الله تبارك وتعالى أو تقلل من مرتبة القرب إليه سبحانه سواء كان محرماً أو مكروهاً أو مباحاً، ويكون الإنسان هو الرقيب على نفسه في كل تلك الحركات والسكنات حتى في خلواته حينما لا يطّلع عليه أحد فإنه يُرَوِّضُ نفسه بالتقوى، قال تعالى في التمييز بين الفريقين {فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى ،

ص: 75


1- نهج البلاغة- خطب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 2/ 51/خ157.
2- نهج البلاغة- خطب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 1/ 223/ خ114.

وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى، فَأَمَّا مَن طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فإن الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فإن الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعات: 34-41).فالمتقي هو من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى مطلق الهوى سواء كان محرّما أو مكروهاً أو مباحاً لا يليق بمقام ربّه. ولذا كانت التقوى خير الزاد ليوم المعاد {وَتَزَوَّدُواْ فإن خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (البقرة: 197) {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر:9) {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (النور:52).

وتكرر الحث على التقوى في آيات كثيرة في القرآن الكريم وربما تكررت في الآية الواحدة كالتي مرّت آنفاً، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (الحشر :18) {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فإن اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (آل عمران:76).

وإضافة إلى تلك الآثار الأخروية للتقوى فإن القرآن الكريم يلفت نظرنا إلى آثار مباركة عظيمة للتقوى في الدنيا والآخرة:

(منها) تكفير السيئات؛ قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (المائدة:65) {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} (الطلاق:5).

(ومنها) البركات المادية والمعنوية؛ قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَ-كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم

ص: 76

بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (الأعراف :96).(ومنها) إيجاد الفرج والمخرج والرزق بدون احتساب؛ قال تعالى: {مَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} (الطلاق:2-4).

(ومنها) إلهام العلم؛ قال تعالى: {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة:282).

(ومنها) قذف البصيرة ونور الفرقان في القلب؛ قال تعالى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (الأنفال:29).

وغيرها كثير مما لا يسعه المقام وتستحق إفرادها بكتاب مستقل.

معنى التقوى:

سُئل الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن معنى التقوى, وتفسيرها، فاختصر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الجواب بقوله: (لا يفقدك الله حيث امرك، ولا يراك حيث نهاك)(1).

فللتقوى ركنان:

الأول: ترك ما يكره الله تبارك وتعالى, ويسخطه، وهو أوسع من المحرمات, فيشمل المكروهات المؤثرة في تكامل الإنسان, وتقربه من الله تعالى.

الثاني: فعل ما يحبه الله تعالى, ويرضاه, وهو أعم من الواجبات, فيشمل

ص: 77


1- وسائل الشيعة (آل البيت)- الحر العاملي: 15/ 239.

المستحبات, الموجبة لرضا الله تبارك وتعالى, ومحبته.فمن أراد الكمال سار بهذين الطريقين معاً، ولا يغني أحدهما عن الآخر، فمن قام ببعض الطاعات لكنه لم يجتنب المعاصي, والعياذ بالله، فإنه يهدم ما بناه بتلك الطاعات, وسوف لا يقوم له بناء أبداً، روي عن المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) قولهم: (جدّوا واجتهدوا، وإن لم تعملوا فلا تعصوا، فإن من يبني ولا يهدم يرتفع بناؤه وإن كان يسيراً، وإن من يبني ويهدم يوشِك أن لا يرتفع بناؤه)(1).

ونفس المعنى يجري في الأمراض البدنية، فإن من اُبتلي بمرض مُعيّن –كالسكري أجاركم الله تعالى منه- فإن الطبيب يأمره بأخذ بعض العلاجات, وينهاه عن ارتكاب بعض الأفعال, أو تناول أطعمة تضره, بكميتها, أو نوعها، فإذا أراد الحفاظ على صحته فلا بد أن يأخذ بهما معاً.

ولو حاولنا ترجيح أحد الركنين على الآخر, أو قل بيان أيهما أهم, وأكثر تأثيراً في تحصيل التكامل.

فإن الجواب يكون لصالح الاجتناب عما يسخطه الله تبارك تعالى ويكرهه، وقد دلّت عليه بعض الأحاديث الشريفة كقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (اجتناب السيئات أولى من اكتساب الحسنات)(2)، ومنها ما ورد في خطبة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في آخر جمعة من شعبان, لاستقبال شهر رمضان، وسأله علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن أفضل7.

ص: 78


1- بحار الأنوار- العلامة المجلسي: 67/ 286/ح8.
2- ميزان الحكمة- الريشهري: 2/ 987.

الأعمال في هذا الشهر قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (الورع عن محارم الله عز وجل)(1).

معرفة الذنوب:

فمعرفة الذنوب - بمداها الواسع, ومراتبها الكثيرة بحسب مستويات الأشخاص- وتحصيل القدرة على اجتنابها – صغيرها وكبيرها- مما يهتم به الساعون إلى الكمال، لذا فقد شُغل حيز كبير من القرآن الكريم ببيان الذنوب, وآثارها في الدنيا, وعاقبتها في الآخرة, والتحذير منها, وبيان ما يكفّرها ويزيل آثارها، وقصص الأمم التي عكفت على المعاصي ولم تجتنبها, وما حلّ بها من العذاب بسبب ذلك، والحياة السعيدة لمن اجتنبها، ولو حاولنا جمعها لوجدنا أن القرآن الكريم كله يعالج هذه القضية, بشكل مباشر, أو غير مباشر.

لماذا يذنب العبد؟

لا يمكن التقليل من قوة ضغط الذنوب, والخطايا على الإنسان, حتى يندفع إلى ارتكابها, مع كثرة ما يعرف عن آثارها الوخيمة في الدنيا, وعاقبتها الفظيعة في الآخرة، يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (أَلاَ وَإِنَّ الْخَطَايَا خَيْلٌ شُمُسٌ(2), حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُها، وَخُلِعَتْ لُجُمُهَا(3), فَتَقَحَّمَتْ(4) بِهِمْ في النَّار)(5) فالخطايا كالخيول

ص: 79


1- الأمالي- الشيخ الصدوق: 155.
2- الشُمُسُ: جمع شَمُوس وهي من «شَمَسَ» كنصر أي منع ظهره أن يُرْكَبَ.
3- لُجُمُها: جمع لِجام، وهو عنان الدّابة الذي تُلجم به.
4- تقحمت بهم في النار: أردتهم فيها.
5- نهج البلاغة- خطب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 1/ 48.

العنيدة المتمردة على صاحبها ولا لجام لها ليمسك بها فتقتحم بصاحبها إلى المخاطر.وهنا يأتي السؤال: من أين جاءت هذه القوة للخطايا؟

أو قل: إذا كانت الذنوب بهذه الخطورة وهذا التأثير المدمر في حياة الإنسان فلماذا يرتكبها، وهذا بحث نفسي, واجتماعي, وقد يحتاج إلى إجراء استبيان، ولكن يمكن استفادة بعض مناشئ الذنوب مما ورد في الروايات الشريفة، ينفع الالتفات إليها في اجتنابها وتوقيها، عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (توقّي الصرعة خير من سؤال الرجعة)(1):

1-الجهل بمقام الربوبيّة, ووظائف العبودية: فإن من يعرف الله تعالى يتجنب المعاصي بمقدار تلك المعرفة, ويؤتيه الله تعالى فرقاناً, يميز به بين الحق والباطل, {إنْ تَتقوا اللهَ يَجعَل لَكُم فُرقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ} (الأنفال:29)، حتى إذا اكتملت عنده المعرفة, كالمعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ), أصبح عبداً خالصاً لله تعالى, ينفر بطبعه من المعصية, ويتقزز منها، فمن رأى الغيبة على حقيقتها, ووجدها أكلاً للحم أخيه ميتاً, هل يقدم عليها؟

ومن رأى الدنيا جيفة قد اجتمعت عليها الكلاب, هل يتنافس عليها؟ وهكذا.

2-الجهل بأمور الدين: فما دام الإنسان لم يتفقه في دينه, ولم يتعرف على7.

ص: 80


1- بحار الأنوار- المجلسي: 75/ 187.

ما يقربه إلى الله تعالى, ويجنبه سخطه, فإنه يتورط في المعاصي, من حيث يعلم أو لا يعلم، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (جهل المرء بعيوبه من أكبر ذنوبه)(1)؛ وكتطبيق لهذا المبدأ فقد ورد في التجارة قول الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (من أراد التجارة فليتفقه في دينه, ليعلم بذلك ما يحلُّ له مما يحرم عليه، ومن لم يتفقه في دينه ثم اتجر, تورط في الشبهات)(2). والتحذير لا يختص بالتجارة, وإنما يعم كل شؤون الحياة؛ لأنها كلها مقنَّنة بأحكام في الشريعة، فالجهل بها يوقع في المعصية, كجهل ربِّ الأسرة, بأن كثيراً مما يفعله في البيت هو ظلم لزوجته, وأسرته، والظلم ذنب لا يُغفر حتى يرضى المظلوم.

3-وجود الدوافع وأصول الذنوب في النفس الإنسانية: المعبَّر عنها بالغرائز والشهوات, والتي خُلقت أصلاً لتؤدي أدواراً إيجابية في حياة الإنسان, ولتكمّل قواه الأخرى, كالعقلية, والجسدية, والقلبية، لكنها إذا خرجت عن حدّها إلى جانب الإفراط, أو التفريط, كانت سبباً للوقوع في المعاصي.

أشار إلى هذه القوى هشام بن الحكم, في ما نقل عنه, ابن أبي عمير في الاستدلال على عصمة الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن جميع الذنوب لها أربعة أوجه لا خامس لها: الحرص والحسد والغضب والشهوة، فهذه منتفية عنه) - أي4.

ص: 81


1- الإرشاد- الشيخ المفيد: 1/ 299.
2- المقنعة- الشيخ المفيد: 591.- وسائل الشيعة (آل البيت)- الحر العاملي: 17/ 382/ح4.

المعصوم- ثم بيّن ذلك فراجعه(1).4-ويعاضدها الشيطان: بالتزيين, والإغواء, والتطمين, والتهوين من الأمر, حتى يقارف الذنب, والمعصية, قال تعالى حاكياً عن إبليس: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ 39 إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (الحجر:40).

وفي دعاء للإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (فَلَوْلا أَنَّ الشَّيْطَانَ يَخْتَدِعُهُمْ عَنْ طَاعَتِكَ مَا عَصَاكَ عَاص، وَلَوْلا أَنَّهُ صَوَّرَ لَهُمُ البَاطِلَ فِي مِثَالِ الْحَقِّ مَا ضَلَّ عَنْ طَرِيْقِكَ ضَالٌّ)(2), وقد ورد التحذير من إغراء الشيطان, وإغوائه كثيراً في القرآن الكريم, والروايات الشريفة مما لا يخفى على أحد.

هذا التزيين الشيطاني, وهذه الموافقة لأهواء النفس, وشهواتها جعل للخطايا تأثيراً ساحراً يُسكر صاحبه حتى يتورط فيها، قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (احذروا سكر الخطيئة، فإن للخطيئة سكراً كسكر الشراب، بل هي أشدُّ سكراً منه، يقول الله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} (البقرة:18))(3).

5-الاغترار بالستر الإلهي على العاصين: وعدم فضح الإنسان بذنبه (فَلَوِ اطَّلَعَ اليَوْمَ عَلى ذَنْبِي غَيْرُكَ مافَعَلْتُهُ وَلَوْ خِفْتُ تَعْجِيلَ العُقُوبَةِ لاجْتَنَبْتُهُ لا لاَنَّكَ

ص: 82


1- بحار الأنوار- المجلسي: 25/ 192. عن كتب الشيخ الصدوق (قدس سره), معاني الأخبار, والعلل, والأمالي, والعيون.
2- الصحيفة السجادية الكاملة- الإمام زين العابدين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 184/الدعاء37.
3- بحار الأنوار- المجلسي: 74/ 102.- مكارم الأخلاق- الشيخ الطبرسي: 453.

أَهْوَنُ النَّاظِرِينَ إليّ وَأَخَفُّ المُطَّلِعِينَ بَلْ لاَنَّكَ يا رَبِّ خَيْرُ السَّاتِرِينَ وَأَحْكَمُ الحاكِمِينَ وَأَكْرَمُ الاَكْرَمِينَ، سَتَّارُ العُيُوبِ غَفَّارُ الذُّنُوبِ عَلامُ الغُيُوبِ تَسْتُرُ الذَّنْبَ بِكَرَمِكَ وَتُؤَخِّرُ العُقُوبَةَ بِحِلْمِكَ... وَالحَمْدُ للهِ الَّذِي يَحْلُمُ عَنِّي حَتَّى كَأَنِّي لاذَنْبَ لِي)(1).وذلك كله لسعة رحمة الله, وطول أناته على ذنوب عباده, رحمة بالعباد, وإعطاءهم مزيداً من الفرص للندم, والرجوع, والإقلاع عن الذنب، وحبّاً من الله لعباده, وشفقة عليهم، فيتمادى الإنسان ويغتر، ظاناً أن الفرصة مفتوحة على الدوام، ولا يعلم أنه قد يوصله تماديه واغتراره إلى حد هتك الستر, وانغلاق الباب, وسدّ الفرصة، قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَ-ئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً 17 وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَ-رَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَ-ئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} (النساء:18).

6-استصغار الذنب والاستخفاف به: لما ارتكز في الذهن من أن الذنوب الموعود بها النار هي الكبائر, أما غيرها فيمكن ارتكابها، وهذا التفكير بحد ذاته من الكبائر؛ لما فيه من الجرأة على الله تعالى, وعدم الاعتبار بعظمته, وعلو شأنه, وهو موجب لسخط الله, وسلب اللطف عن العبد, فتؤدي به هذه9.

ص: 83


1- من دعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), المعروف بدعاء أبي حمزة الثمالي. مصباح المتهجد- الشيخ الطوسي: 584.- مفاتيح الجنان- عباس القمي: 239.

الصغائر إلى الوقوع في الكبائر والعياذ بالله.لذا كثر التحذير من استصغار أي ذنب، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لا تستصغروا قليل الآثام, فإن الصغير يُحصى ويرجع إلى الكبير)(1)، وروي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال: (إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نزل بأرض قرعاء, فقال لأصحابه: ائتوا بحطب، فقالوا: يا رسول الله نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب، قال: فليأت كل إنسان بما قدر عليه، فجاؤوا به حتى رموا بين يديه بعضه على بعض، فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): هكذا تجتمع الذنوب، ثم قال: إياكم والمحقرات من الذنوب، فإن لكل شيء طالباً، ألا وإن طالبها يكتب ما قدموا وآثارهم وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين)(2)، وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (أعظم الذنوب عند الله سبحانه ذنب صغر عند صاحبه)(3), وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إن الله أخفى سخطه في معصيته، فلا تستصغروا شيئاً من معصيته، فربما وافق سخطه وأنت لا تعلم)(4).

7-الغفلة: فإن كثيراً من الذنوب - وبعضها من الكبائر- تُرتكب لا للجهل بها وإنما للغفلة, كالغيبة, التي يُعلم أنها من الكبائر, ووصفها الله عز وجل بأشنع الأوصاف, وهي إدام أهل النار، ومع ذلك فقد أصبحت الغيبة فاكهة المجالس, والمادة الرئيسية للأحاديث، فينبغي للمؤمن أن يتجنب الغفلة؛ بترك المقدمات الموجبة لها، وإذا عُرضت عليه فليخرج منها فور التفاته؛ بذكر الله تعالى، قال عز3.

ص: 84


1- الخصال- الشيخ الصدوق: 616/ح10.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 288/ح3.
3- جامع أحاديث الشيعة- السيد البروجردي: 13/ 334.
4- معاني الأخبار- الشيخ الصدوق: 113.

وجل: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف:201), وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (الغفلة ضلالة)(1), وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إياك والغفلة والاغترار بالمهلة، فإن الغفلة تفسد الأعمال)(2), ومن وصايا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأبي ذر: (همَّ بالحسنة وإن لم تعملها, لكيلا تُكتب من الغافلين)(3).8-سوء الخلق: عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (لكل ذنب توبة إلا سوء الخلق، فإن صاحبه كلما خرج من ذنب دخل في ذنب)(4).

9-الاختلاط الكثير مع الناس: ومجالسة البطّالين، والخوض في فضول الكلام، فهذه الأمور كلها مظنة الوقوع في الذنوب, والمحرمات؛ لذا ورد التحذير من حضور هذه المجالس, والمشاركة في اللغو الباطل, {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} (المدثر:45)، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (وَمُجَالَسَةَ أَهْلِ الْهَوَى مَنْسَاةٌ(5), لِلْإِيمَانِ وَمَحْضَرَةٌ لِلشَّيْطَانِ)(6)، وفي الحديث عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (إن أكثر الناس ذنوباً يوم القيامة أكثرهم كلاماً فيما لا يعينه)(7).1.

ص: 85


1- ميزان الحكمة- الريشهري: 3/ 2282.
2- عيون الحكم والمواعظ- علي بن محمد الليثي (من أعلام القرن السادس): 99.
3- الأمالي- الشيخ الطوسي: 536.- مكارم الأخلاق- الشيخ الطبرسي: 469.
4- مكارم الأخلاق- الشيخ الطبرسي: 434.- وسائل الشيعة (آل البيت)- العاملي: 16/ 28.
5- منسأة بفتح الميم والهمزة: أي تأخير وتأجيل.
6- نهج البلاغة- خطب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 1/ 150/الخطبة86.
7- كنز العمال- المتقي الهندي: 3/ 641.

وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إياك والهذر، فمن كثر كلامه كثرت آثامه)(1), وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (الْكَلاَمُ فِي وَثَاقِكَ(2), مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ، فَإذَا تَكَلَّمْتَ بِهِ صِرْتَ فِي وَثَاقِهِ، فَاخْزُنْ(3), لِسَانَكَ كَمَا تَخْزُنُ ذَهَبَكَ وَوَرِقَكَ(4), فَرُبَّ كَلِمَةٍ سَلَبَتْ نِعْمَةً وَجَلَبَتْ نِقْمَةً)(5).10-سوء فهم بعض ما ورد في الروايات الشريفة من الثواب على بعض الأفعال: كدخول الجنة بالبكاء على الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وإقامة شعائره وشفاعة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، فقد أعطى الله تعالى هذه الكرامات لأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ), رحمة بالعباد لكي تسدّ الخلل, والتقصير, والقصور مع حسن النية, والعزم على فعل الخير, والطاعة, وبذل الوسع في ذلك، وليس بأن تكون سبباً للتمادي, والجرأة, والعناد, واللجاجة، قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَ-ى} (الأنبياء:28) وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَ-اةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:156)، وكما عبّر الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن إعطاء هذه الدرجات أنه (بشرطها وشروطها)(6), في حديث سلسلة الذهب المعروف.5.

ص: 86


1- عيون الحكم والمواعظ- علي بن محمد الليثي (من أعلام القرن السادس): 97.
2- الوَثَاق - كَسَحَاب-: ما يُشَدّ به وويُرْبَط، أي: أنت مالك لكلامك قبل أن يصدر عنك، فإذا تكلّمْت به صرْتَ مملوكاً له.
3- خَزَنَ - كنَصر-: حَفِظ ومنع الغيرَ من الوصول إلى مخزونه.
4- الوَرِق - بفتح فكسر-: الفِضّة.
5- نهج البلاغة- خطب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 4/ 91/الحكمة378.
6- التوحيد- الشيخ الصدوق: 25.

وقد حذّر الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في وصيته عند وفاته, وقد جمع أقرباءه ومتعلقيه: (إن شفاعتنا لا تنال مستخفاً بالصلاة)(1), وقال الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لا تتهاون بصلاتك، فإن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال عند موته: ليس مني من استخف بصلاته)(2).

تلخيص بأسباب الذنوب:

وقد لخّص الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ذكر هذه الأسباب لمقارفة الذنوب بما ورد عنه, في الدعاء المعروف بدعاء أبي حمزة - الذي يُدعى به في أسحار شهر رمضان-، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إِلهِي، لَمْ أَعْصِكَ حِيْنَ عَصَيْتُكَ وَأَنا بِرُبُوبِيَّتِكَ جاحِدٌ، وَلا بِأَمْرِكَ مُسْتَخِفٌ، وَلا لِعُقُوبَتِكَ مُتَعَرِّضٌ، وَلا لِوَعِيدِكَ مُتَهاوِنٌ، لكِنْ خَطِيئَةٌ عَرَضَتْ، وَسَوَّلَتْ لِي نَفْسِي، وَغَلَبَنِي هَوَايَ، وَأَعانَنِي عَلَيْها شِقْوَتِي، وَغَرَّنِي سِتْرُكَ المُرْخَى عَلَيَّ... مالِي كُلَّما قُلْتُ قَدْ صَلُحَتْ سَرِيرَتِي وَقَرُبَ مِنْ مَجالِسِ التَّوّابِينَ مَجْلِسِي، عَرَضَتْ لِي بَلِيَّةٌ أَزالَتْ قَدْمِي وَحالَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ خِدْمَتِكَ؟

سَيِّدِي لَعَلَّكَ عَنْ بابِكَ طَرَدْتَنِي، وَعَنْ خِدْمَتِكَ نَحَّيْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي مُسْتَخِفا بِحَقَّكَ فَأَقْصَيْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأيْتَنِي مُعْرِضا عَنْكَ فَقَلَيْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ وَجَدْتَنِي فِي مَقامِ الكاذِبِينَ فَرَفَضْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي غَيْرَ شاكِرٍ لِنَعْمائِكَ فَحَرَمْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ فَقَدْتَنِي مِنْ مَجالِسِ العُلَماءِ فَخَذَلْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي فِي الغافِلِينَ فَمِنْ رَحْمَتِكَ آيَسْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي آلِفُ مَجالِسَ البَطَّالِينَ فَبَيْنِي وَبَيْنَهُمْ خَلَّيْتَنِي، أَوْ

ص: 87


1- من لا يحضره الفقيه- الشيخ الصدوق: 1/ 206.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 3/ 269/ح7.

لَعَلَّكَ لَمْ تُحِبَّ أَنْ تَسْمَعَ دُعائِي فَباعَدْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ بِجُرْمِي وَجَرِيرَتِي كافَيْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ بِقِلَّةِ حَيائِي مِنْكَ جازَيْتَنِي)(1).

كيف نحصّل القدرة على اجتناب الذنوب؟

إن اجتناب الذنوب يحتاج أولاً: إلى معرفة تفصيلية بها؛ لأن بعضها وإن كان معلوماً كالكبائر, إلا أن الكثير منها غير معلوم, وبعضها لا يلتفت إليها أحد, كعدم قضاء حوائج المؤمنين, والاهتمام بها، ففي رواية عن الإمام الصادق وولده الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (من أتاه أخوه في حاجة يقدر على قضائها فلم يقضها له سُلّط عليه شجاعاً(2) ينهش إبهامه في قبره إلى يوم القيامة مغفوراً له أو معذباً)(3).

وهكذا غيرها – سيأتي في ملحق القبس(4) {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} (المجادلة :6) ان شاء الله تعالى- وذكرنا أمثلة عليها من دعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الاستغفار من كل نعمة لم يشكرها, أو ظُلم أحدٌ عنده فلم ينصره, وهكذا، ناهيك بالمحرمات المعروفة، وهذا يتطلب تفقهاً, واطلاعاً مستمراً على كتب السلف الصالح, والاستماع دائماً إلى المحاضرات الإرشادية, والوعظيّة.

ومما يُقلل فرصة ارتكاب الذنب زيادة المعرفة بالله تعالى, وتقوية العلاقة به تبارك وتعالى، كتذكر أنه محسن إلينا بما لا يُعد ولا يُحصى من النعم،

ص: 88


1- مصباح المتهجد- الشيخ الطوسي: 584.- مفاتيح الجنان- عباس القمي: 239.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 194.
3- الشجاع كغراب وكتاب: الحيّة.
4- في الجزء الخامس من التفسير ص46.

و{هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} (الرحمن:60) و{أَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (القصص:77), وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لو لم يتوعد الله على معصيته لكان يجب ألا يُعصى شكراً لنعمته)(1)، وعن الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حديث قال: (ولو لم يخوِّف الله الناس بجنة ولا نار لكان الواجب عليهم أن يطيعوه ولا يعصوه لتفضله عليهم وإحسانه إليهم وما بدأهم به من إنعامه الذي ما استحقوه)(2).أو الالتفات إلى أن الذنوب تمنع بعض عطاء الله تبارك وتعالى, ونحن محتاجون إليه، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لو لم يرغّب الله سبحانه في طاعته لوجب أن يطاع رجاء رحمته)(3).

أو تذّكر أنك بمحضر الله تبارك وتعالى, وتحت نظره, ولا تخفى عليه خافية في السماوات والأرض, {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (غافر:19) ، فمعصيته والحال هذه جرأة على جبار السماوات والأرض, وتحدٍ لعظمته، من وصايا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأبي ذر: (يا أبا ذر لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت)(4), ومن كلماته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (لا تنظروا إلى صغر الذنب ولكن انظروا إلى من اجترأتم)(5).8.

ص: 89


1- بحار الأنوار- المجلسي: 70/ 364.
2- الخصال- الشيخ الصدوق: 614.
3- ميزان الحكمة- الريشهري: 2/ 987.
4- الأمالي- الشيخ الطوسي:528.
5- بحار الأنوار- المجلسي: 74/ 168.

أو أن يلتفت إلى أن هذا الذنب قد يوجب هتك الستر؛ الذي ضربه الله تعالى عليه, فتفضحه الذنوب، أو أن ينال به سخط الله تعالى, وغضبه بحيث لا تنفعه توبة, ولا تدركه الألطاف الإلهية، فقد أخفى الله غضبه في معصيته، فلا يُعلم أي معصية توجب ذلك, فعلى العبد أن يتوقاها جميعاً، من دعاء الإمام أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (وَإِنْ خَذَلَنِي نَصْرُكَ عِنْدَ مُحارَبَةِ النَّفْسِ وَالشَّيْطانِ، فَقَدْ وَكَلَنِي خِذْلانُكَ إِلى حَيْثُ النَّصَبِ وَالْحِرْمانِ)(1). في الحديث عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (للمؤمن اثنان وسبعون ستراً فإذا أذنب ذنباً انهتك عنه ستر، فإن تاب رده الله إليه, وسبعةً معه, فإن أبى إلا قدما في المعاصي، تهتك عنه أستاره، فإن تاب ردها الله ومع كل ستر منها سبعة أستار، فإن أبى إلا قدما قدما في المعاصي، تهتكت أستاره وبقي بلا ستر، وأوحى الله عزوجل إلى الملائكة: أن استروا عبدي بأجنحتكم)(2).

وفي الكافي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (من هم بسيئة فلا يعملها فإنه ربما عمل العبد السيئة فيراه الرب تبارك وتعالى فيقول: وعزتي وجلالي لا أغفر لك بعد ذلك أبداً)(3).

ومما يُساعد على تجنب المعاصي أن يعلم بأن في ارتكاب الذنب إيذاءً, وإساءة لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), ولأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), ولفاطمة (علیها السلام) والأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).2.

ص: 90


1- مقطع من دعاء الصباح. مفاتيح الجنان- عباس القمي: 94.
2- مستدرك الوسائل- الميرزا النوري: 11/ 325.- بحار الأنوار- المجلسي: 73/ 63.
3- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 272.

ونحن نحبهم ولا نريد إيذاءهم, وهم مطّلعون على أعمال العباد، كما نطقت به الآية الكريمة: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} (التوبة:105)، روى سماعة، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: سمعته يقول: (مالكم تسوؤن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)؟! فقال رجل: كيف نسوؤه؟ فقال: أما تعلمون أن أعمالكم تعرض عليه، فإذا رأى فيها معصية ساءه ذلك، فلا تسوؤا رسول الله وسروه)(1).ومن المعرفة الموجبة لتجنب المعاصي الالتفات إلى الهدف من وجودنا في هذه الدنيا, وما ينبغي أن نصرف أعمارنا فيه, مما يُوصل إلى الغاية، وحينئذٍ سوف لا يكون للإنسان مجال للعب, والعبث, واللهو, فضلاً عن ارتكاب المعاصي، عن الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إن العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب؟ وترك الدنيا من الفضل، وترك الذنوب من الفرض)(2).

آثار الذنوب في الدنيا والآخرة:

ومما يُحفّز على ترك الذنوب معرفة آثارها في الدنيا, والآخرة، ونتعرض هنا لبعض آثارها في الدنيا، أما في الآخرة ابتداءً من الموت وما بعده من أهوال البرزخ, والحساب ويوم القيامة, فإن في القرآن الكريم ما يكفي لبيان تلك العظائم, {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}

ص: 91


1- الكافي- الشيخ الكليني: 1/ 219.
2- تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 387.- بحار الأنوار- المجلسي: 78/ 301/ح1.

(الحج:2), {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} (المزمل:17), {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَ-ئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:81), {قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (الأنعام:15), {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (النمل:90), وأهون ما يُذكر من تلكم الآثار الحجب عن النعيم مدة قد تطول كثيراً، في الكافي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): إن العبد ليُحبس على ذنب من ذنوبه مائة عام وإنه لينظر إلى أزواجه في الجنة يتنعمن)(1).إن معرفة هذه الآثار الوخيمة للذنوب توجب على كل عاقل اجتنابها، عن الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (عجبت لأقوام يحتمون الطعام مخافة الأذى كيف لا يحتمون الذنوب مخافة النار)(2), وعن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (عجبت لمن يحتمي من الطعام مخافة الداء كيف لا يحتمي من الذنوب مخافة النار)(3).

وقد حصلنا من الروايات على جملة من تلك الآثار:

1-قصر العمر وتعجيل الفناء: بحيث يظهر من أقوال المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) شيء عجيب, وهو: أن أكثر الناس لا يبلغون أعمارهم المقدرة بسبب الذنوب, مما يسمى بالأجل المخروم، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (موت الإنسان بالذنوب

ص: 92


1- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 272/ح19.
2- تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 204.
3- من لا يحضره الفقيه- الشيخ الصدوق: 3/ 359.

أكثر من موته بالأجل، وحياته بالبر أكثر من حياته بالعمر)(1)، وقال الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (من يموت بالذنوب أكثر ممن يموت بالآجال، ومن يعيش بالإحسان أكثر ممن يعيش بالأعمار)(2)، وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (تجنبوا البوائق يُمَدُّ لكم في الأعمار)(3).ومن الذنوب التي اشتهر أنها تعجل الفناء قطيعة الرحم، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (ثلاثة من الذنوب تعجل عقوبتها ولا تؤخَّر إلى الآخرة، عقوق الوالدين، والبغي على الناس، وكفر الإحسان)(4).

2-إن الذنوب سبب للمصائب والآلام والنكبات التي يتعرض لها الفرد والمجتمع(5): في الكافي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (أما إنه ليس من عرق يُضرب ولا نكبة ولا صداع ولا مرض إلا بذنب، وذلك قول الله عز وجل في كتابه: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (الشورى:30), ثم قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (وما يعفو الله أكثر مما يؤاخذ به)(6)، وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال: (إن أحدكم ليكثر به الخوف من السلطان وما ذلك إلا9.

ص: 93


1- مكارم الأخلاق- الشيخ الطبرسي: 362.- كشف الغمة- الإربلي: 3/ 142.
2- الأمالي- الشيخ الطوسي: 305.
3- عيون أخبار الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- الشيخ الصدوق: 1/ 40.
4- الأمالي- الشيخ المفيد: 237.- الأمالي- الشيخ الطوسي: 14.
5- للمزيد من الاطلاع: راجع قائمة بالذنوب التي تغيّر النعم, والتي تنزل النقم. والتي تهتك العصم, والتي تعجل الفناء, والتي ترد الدعاء. بحار الأنوار: 73/ 375-376, عن معاني الأخبار للصدوق: 270-271.
6- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 269.

بالذنوب فتوقوها ما استطعتم ولا تمادوا فيها)(1). وقد تُستحدث لهم بلاءات لم يكن يعرفونها من قبل، في الكافي عن الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (كلما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعملون, أحدث الله لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون)(2).

3-إنها توجب اسوداد القلب وانغلاقه فلا يستجيب للهداية: عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (كان أبي يقول: ما من شيء أفسد من خطيئة، إن القلب ليواقع الخطيئة فلا تزال به حتى تغلب عليه فيصير أعلاه أسفله)(3), أي يصبح كالإناء المقلوب, فلا يحتفظ بشيء من الحق, والهدى, ولا تؤثر فيه الموعظة، وفيه عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء فإن تاب انمحت وإن زاد زادت حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبداً)(4), وشاهده من كتاب الله قوله تعالى: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين:14).

4-نقص الرزق: عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن العبد ليذنب الذنب فيُزوى - أي يُقبض ويُصرف- عنه الرزق)(5), وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): إذا غضب الله عز وجل على أمة ولم يُنزل بها العذاب0.

ص: 94


1- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 275.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 272.
3- الأمالي- الشيخ الصدوق: 481.- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 268.
4- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 271.
5- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 270.

غلت أسعارها وقصرت أعمارها ولم تربح تجّارها ولم تُزك ثمارها ولم تغزر أنهارها وحبس عنها أمطارها وسُلِّط عليها شرارها)(1).5-الحرمان من الطاعات: خصوصاً المهمة منها, كصلاة الليل, أو النوم عن صلاة الصبح، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن الرجل يذنب الذنب فيُحرم من صلاة الليل, وإن العمل السيئ أسرع في صاحبه من السكين في اللحم)(2).

6-زوال النعم: قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد:11), في الكافي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن الله قضى قضاءً حتماً ألا ينعم على العبد بنعمة فيسلبها, حتى يحدث العبد ذنباً يستحق بذلك النقمة)(3), وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إن الله عز وجل بعث نبياً من أنبيائه إلى قومه وأوحى إليه, أن قل لقومك: إنه ليس من أهل قرية, ولا ناس, كانوا على طاعتي, فأصابهم فيها سراء, فتحولوا عما أحب إلى ما أكره, إلا تحولت لهم عما يحبون إلى ما يكرهون، وليس من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على معصيتي فأصابهم فيها ضراء, فتحولوا عما أكره إلى ما أحب إلا تحولت لهم عما يكرهون إلى ما يحبون)(4).

وضرب القرآن الكريم مثلاً في سبأ {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ4.

ص: 95


1- الخصال- الشيخ الصدوق: 360.- الكافي- الشيخ الكليني: 5/ 317.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 272.
3- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 273.
4- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 274.

عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ 15 فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ 16 ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ 17 وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ 18 فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ 19 وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ 20 وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ}(1) (سبأ:21).وقد ورد في الأحاديث الشريفة أن من الذنوب التي تغيِّر النعم وتعجَّل عقوبتها البغي على الناس.

7-عدم استجابة الدعاء والإبطاء في تحقيق ما يطلبه الداعي، قال الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إن العبد ليسأل الحاجة من حوائج الدنيا فيكون من شأن الله قضاؤها إلى أجل قريب, أو وقت بطيء, فيذنب العبد عند ذلك ذنباً, فيقول الله للملَكب.

ص: 96


1- بيان الشاهد: أنه كان لأهل سبأ بساتين, ورياض غنّاء؛ عن يمين بلادهم وشمالها, وطلب منهم ربّهم أن يشكروا نعمه, فأعرضوا, فأرسل عليهم سيلاً من المطر الشديد, والجرذ الذي نقب السد جزاءً لتمردهم، وجعل لهم على طول المسافة بينهم وبين الشام قرىً ليستريحوا, ويتزودوا لسفرهم, فكانوا يقيلون في قرية, ويبيتون في أخرى, حتى يصلوا آمنين من المخاوف, والمضار, فقال العصاة: باعد بين أسفارنا - أي أزل القرى واجعل المسافات شاسعة في الصحراء- ليصعب على غير التجار, والمتمولين, والمترفين, السفر والتجارة, ويحرموا الفقراء, ويتباهون عليهم باتخاذ المراكب.

الموكَّل بحاجته: لا تنجز له حاجته, واحرمه إياها, فإنه تعرَّض لسخطي واستوجب الحرمان مني)(1).8-نكد الحياة وشقاؤها وتعاستها: قال تعالى: {وَمَن أَعرَضَ عَنْ ذِكرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحشُ-رُهُ يَومَ القِيَامَةِ أعمَى} (طه:124), وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ 36 وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ 37 حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ 38 وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} (الزخرف:39), فمن يتعامى عن الحق, واتباعه, يخلّي الله تعالى بينه وبين شيطانه, يغويه ويصده سبيل الله, ويكون ملازماً له فيشقيه, ويتعبه, {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} (فصلت:25).

9-تشوّش الفكر, وانشغال الذهن, وسوء الحفظ, والحرمان من العلم النافع المقرِّب إلى الله تعالى: بسبب الصراع الذي يعيشه, ووخز الضمير, وخوف الفضيحة, والعقاب، والذلة الباطنية التي يحسّ بها، ولحرمانه من لطف الله تعالى، روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله: (اتقوا الذنوب فإنها ممحقة للخيرات، إن العبد ليذنب الذنب؛ فينسى به العلم الذي كان قد علمه)(2)، وهو ما عبّر عنه قول:4.

ص: 97


1- الاختصاص- الشيخ المفيد: 31.
2- بحار الأنوار- المجلسي: 73/ 377/ح14.

شكوتُ إلى وكيعٍ سوء حفظي***فأرشدني إلى ترك المعاصي

وأخبرني بأن العلم نورٌ***ونور الله لا يؤتى لعاصي(1)

10-ويعم أثر الذنوب حتى يتضرر به الآخرون: وربما المجتمع كله، قال تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} (الأنفال:25)، وروي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله: (الذنب شؤم على غير فاعله، إن عيَّره ابتلي، وإن اغتابه أثم، وإن رضي به شاركه)(2).8.

ص: 98


1- يُنسب هذا الشعر الى الإمام الشافعي. أنظر: تفسير الآلوسي- الآلوسي: 6/ 90.- موسوعة الرقائق والأدب - ياسر الحمداني:1/ 480.
2- الجامع الصغير- جلال الدين السيوطي: 1/ 668.

والخلاصة:

أنه إذا أراد الإنسان أن يوفقه الله للمزيد من طاعته فليترك الذنوب.

وإذا أراد أن يحيى حياة مطمئنة سعيدة صافي البال فليترك الذنوب.

وإذا أراد طول العمر بخير وعافية وسعة رزق فليترك الذنوب.

وإذا أراد أن تدوم عليه نعم الله وتقل عليه المصائب فليترك الذنوب.

وإذا أراد سلامة القلب واللحاق بالصالحين فليترك الذنوب.

ولذا كان يوم العيد الحقيقي, هو كل يوم لم تجترح فيه ما يكرهه الله تبارك وتعالى، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في بعض الأعياد: (إنما هو عيدٌ لمن قبِل الله صيامه وشكر قيامه، وكل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد)(1).

العواصم من الذنوب:

على رأس العواصم من الذنوب - وهو الأصل فيها- اللطف الإلهي, الذي به عصم الله تعالى أنبياءه, ورسله, والصالحين من عباده, قال تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْ-رِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (يوسف:24)، وقال تعالى: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} (الإسراء:74).

عن أبي حمزة عن أبي جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى داوود النبي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), أن ائت عبدي دانيال فقل له: إنك عصيتني فغفرت لك, وعصيتني فغفرت لك،

ص: 99


1- بحار الأنوار- المجلسي: 88/ 136.

وعصيتني فغفرت لك، فإن أنت عصيتني الرابعة لم أغفر لك، قال: فأتاه داوود (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال له: يا دانيال، إني رسول الله إليك, وهو يقول لك: إنك عصيتني فغفرت لك وعصيتني فغفرت لك، وعصيتني فغفرت لك، فإن أنت عصيتني الرابعة لم أغفر لك. فقال له دانيال: قد بلغت يا نبي الله. قال: فلما كان في السَحَر قام دانيال وناجى ربه, فقال: يا رب إن داوود نبيك أخبرني عنك: إني عصيتك فغفرت لي، وعصيتك فغفرت لي، وأخبرني عنك أني إن عصيتك الرابعة لم تغفر لي، فوعزتك لأعصينك ثم لأعصينك، ثم لأعصينك، إن لم تعصمني)(1). أي: يا رب إنك إن وكلتني إلى نفسي فإني لا أستطيع أن أعصمها من الذنوب, إلا أن تعصمني أنت برحمتك.

ومن العواصم الدعاء, والذكر, واليقظة كلما اعترته، قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (النحل:99)، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (أكثر الدعاء تسلم من سَورة الشيطان)(2)، وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (تحرّز من إبليس بالخوف الصادق)(3).

ومنها: تجنب الحضور, والتواجد في الأجواء المساعدة على المعصية, لقطع منافذ الشيطان, والنفس الأمارة بالسوء, بحيث يصبح ارتكاب المعصية متعذراً، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (ثلاث من حفظهن كان معصوماً من5.

ص: 100


1- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 435.
2- بحار الأنوار- المجلسي: 78/ 9/ح64.
3- تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 285.

الشيطان الرجيم ومن كل بليةٍ: من لم يخلُ بامرأة ليس يملك منها شيئاً، ولم يدخل على سلطان، ولم يُعِن صاحب بدعة ببدعته)(1)؛ والإكثار من الوجود في المساجد ومجالس الصالحين فإنها تمنع من الوقوع في الذنب، قال علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (من العصمة تعذر المعاصي)(2)، وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (من اختلف إلى المساجد أصاب إحدى الثمان:... أو يترك ذنباً خشيةً أو حياءً)(3).ومنها: المراقبة, والمحاسبة الدقيقة والمستمرة للنفس، والأحاديث الآمرة بذلك كثيرة، روى الشيخ الطوسي (قدس سره) في كتاب الغيبة بسنده إلى أبي هاشم الجعفري قال: (سمعت أبا محمد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول: من الذنوب التي لا تغفر قول الرجل: ليتني لا أؤاخذ إلا بهذا، فقلت في نفسي: إن هذا لهو الدقيق ينبغي للرجل أن يتفقد من أمره, ومن نفسه كل شيء، فأقبل عليَّ أبو محمد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال: يا أبا هاشم صدقت, فالزم ما حدثت به نفسك, فإن الإشراك في الناس أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء, ومن دبيب الذر على المسح الأسود)(4).

ومنها: استعظام الذنب واستفضاع عاقبته، روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله: (إن الله تبارك وتعالى إذا أراد بعبدٍ خيراً جعل ذنوبه بين عينيه ممثلة, والإثم عليه ثقيلاً وبيلاً، وإذا أراد بعبدٍ شراً أنساه ذنوبه)(5), وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (إن المؤمن ليرى0.

ص: 101


1- بحار الأنوار- المجلسي: 71/ 197.
2- بحار الأنوار- المجلسي: 70/ 364.
3- ثواب الأعمال- الشيخ الصدوق: 27.- النهاية- الشيخ الطوسي: 108.
4- الغيبة- الشيخ الطوسي: 1/ 231.- مناقب آل أبي طالب- ابن شهر آشوب: 3/ 538.
5- مكارم الأخلاق- الشيخ الطبرسي: 460.

ذنبه كأنه تحت صخرة يخاف أن تقع عليه، والكافر يرى ذنبه كأنه ذباب مرَّ على أنفه)(1).ومنها: عدم الإعجاب بالنفس، وما يصدر منها من طاعات؛ لأن ذلك يوجب إيكال العبد إلى نفسه فيذنب, حتى يكون له واعظاً, ومؤدباً من نفسه، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن الله علم أن الذنب خير للمؤمن من العجب؛ ولولا ذلك ما ابتلي مؤمن بذنب أبداً)(2).

مُكفّرات الذنوب:

إن الله تعالى يعلم ضعف العبد عن مسك زمام نفسه الأمّارة بالسوء, ومقاومة غواية الشيطان, وتزيين الشهوات, ويعلم بجهل الإنسان بعواقب أفعاله، وهو أشفق على عباده وأرحم بهم من أنفسهم، وأكرم من أن يقابلهم على سيئاتهم بمثلها، قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} (فاطر:45)، قال الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (وما يعفو الله أكثر مما يؤاخذ به)(3)، في تفسير قوله تعالى: {وَمَا أصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَت أيدِكُم وَيَعفُو عَن كَثِيرٍ} (الشورى:30).

فضاعف سبحانه وتعالى لهم الحسنات, وتمهل في تسجيل السيئات، في

ص: 102


1- الأمالي- الشيخ الطوسي: 527.
2- علل الشرائع- الشيخ الصدوق: 2/ 579.- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 313.
3- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 269.

الخصال عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إذا همّ العبد بحسنة كُتبت له حسنة، فإذا عملها كُتبت له عشر حسنات، وإذا همّ بسيئةٍ لم تُكتب عليه, فإذا عملها أُجّل تسع ساعات, فإن ندم عليها, واستغفر, وتاب, لم تُكتب عليه, وإن لم يندم, ولم يتب, كتبت عليه سيئة واحدة)(1)، وفي رواية أخرى: قال الله تبارك وتعالى: (جعلت لهم التوبة - أو قال<<بسطت لهم التوبة>>- حتى تبلغ النفس هذه, قال يا رب حسبي)(2), أي قال آدم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حسبي تلك الفضائل لذريتي مما كان للشيطان من التأثير عليهم. ثم لم يكتف سبحانه بكرمه, ورحمته, بذلك بل جعل لهم مكفرات لذنوبهم, حتى يخفف عنهم أوزارهم التي احتملوها على ظهورهم بسوء أفعالهم.

ويلاحظ على تلك المكفرات: أن بعضها اختيارية, وبعضها غير اختيارية.

فالاختيارية: أفعال ينبغي للإنسان أن يقوم بها ليكفّر بها عن سيئاته, وإن لم يفعل, ابتلي بغير الاختيارية: وهي أشق عليه، لذا ورد في بداية دعاء أبي حمزة الثمالي عن الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إِلهي لا تُؤَدِّبْني بِعُقُوبَتِكَ).

أما غير الاختيارية: - كالأمراض- فهي أمور تعرض للإنسان بسبب منه, أو من غيره, فيعتبرها الله تعالى بكرمه كفارة لذنوب من تعرض لها.

فعلى الإنسان أن يسعى بجد في طلب المغفرة والتكفير عن ذنوبه بالأسباب الاختيارية، وأن لا يجزع إذا حصل له ما يكفّر الذنوب، فإن بقاء ذنب واحد عليه9.

ص: 103


1- الخصال- الشيخ الصدوق: 418.
2- بحار الأنوار- المجلسي: 68/ 249.

إلى يوم القيامة كافٍ لفضيحته وإيلامه.لذا ورد في أدعية شهر رمضان الاستعاذة من انقضائه أو انقضاء الليلة التي هو فيها وقد بقي عليه ذنب أو تبعة يؤاخذه بها: (إِلْهِي وَأَعُوذُ بِوَجْهِكَ الكَرِيمِ, وَبِجَلالِكَ العَظِيمِ, أَنْ يَنْقَضِيَ أَيّامُ شَهْرِ رَمَضانَ, وَليالِيهِ, وَلَكَ قِبَلِي تَبِعَةٌ, أوْ ذَنْبٌ تُؤأَخِذُنِي بِهِ، أوْ خَطِيئَةٌ تُرِيدُ أَنْ تَقْتَصَّها مِنِّي لَمْ تَغْفِرْها لِي، سَيِّدِي سَيِّدِي سَيِّدِي)(1).

ومن وصايا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لابن مسعود: (يا ابن مسعود: لا تحقرن ذنباً ولا تصغّرنّه، واجتنب الكبائر، فإن العبد إذا نظر يوم القيامة إلى ذنوبه دمعت عيناه قيحاً, ودماً، يقول الله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} (آل عمران:30)، يا ابن مسعود: إذا قيل لك: اتق الله فلا تغضب، فإنه يقول: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} (البقرة:206))(2).

أما مُكفّرات الذنوب فهي:

1-التوبة والاستغفار بصدق: والتي تتضمن بحسب بيان أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لمعنى الاستغفار الندم على ما صدر منه, وعقد العزم بصدق على عدم العود, ورد المظالم إلى أهلها, وتدارك ما فاته من التقصير(3)، وحينئذٍ يكفّر الله

ص: 104


1- مفاتيح - الشيخ عباس: 304, من أدعية العشر الأواخر في شهر رمضان.
2- مكارم الأخلاق- الشيخ الطبرسي: 452.
3- أنظر: نهج البلاغة- خطب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 4/ 97.- مكارم الأخلاق- الطبرسي: 314.

سيئاته, وينسي الملائكة الحافظين ما كتبوا, وكل الشهود بما فيهم جوارحه, ويمحو عنه آثار تلك الذنوب والخطايا، ويكتب له بدل ذلك كله حسنات، قال تعالى: {إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} (الفرقان:70).2-القيام بالأعمال الصالحة والطاعات: قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّ-يِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (هود:114), {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} (الطلاق:5).

قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (إذا عملت سيئة فاعمل حسنة تمحها)(1)، وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (أُوصِيكُمْ بِتَقْوى اللَّه... وَ اِرْحَضُوا بِهَا ذُنُوبَكُمْ وَدَاوُوا بِهَا اَلْأَسْقَامَ)(2).

وورد هذا الأثر في أعمال كثيرة, كزيارة الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), وإحياء ليلة القدر, وصوم بعض الأيام المعينة, وبعض الصلوات المستحبة، وهي مذكورة في كتب السنن, والمستحبات، نذكر منها ما روي عن الإمام موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (ثلاث ليالي من زار فيها الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر: ليلة النصف من شعبان, والليلة الثالثة والعشرون من رمضان, وليلة العيد)(3), وورد في1.

ص: 105


1- الأمالي- الشيخ الطوسي: 186.
2- نهج البلاغة- خطب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 2/ 15.
3- بحار الأنوار- المجلسي: 98/ 101.

صوم ثلاث أيام الخميس والجمعة والسبت من الأشهر الحرم وهي (محرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة) أنها كفارة ذنوب تسعمائة عام(1), وهكذا.3-الصلاة في أوقاتها: عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (لو كان على باب أحدكم نهر فاغتسل منه كل يوم خمس مرات هل كان يبقى على جسده من الدرن شيء؟ إنما الصلاة مثل النهر الذي ينقي، كلما صلى صلاة كان كفارة لذنوبه إلا ذنب أخرجه من الإيمان مقيم عليه)(2).

وننبه دائماً إلى أن مثل هذه الأمور تلحظ مع شروطها كقول رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (لو صلّيتم حتى تكونوا كالأوتار، وصمتم حتى تكونوا كالحنايا لم يقبل الله منكم إلا بورع)(3)، وكقول الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (من صلّى ركعتين يعلم ما يقول فيهما، انصرف وليس بينه وبين الله ذنب)(4).

4-الابتلاءات, والمصائب, والمصاعب, في الدنيا: قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (إن المؤمن إذا قارف الذنوب ابتلي بها بالفقر، فإن كان في ذلك كفارة لذنوبه وإلا ابتلي بالمرض، فإن كان في ذلك كفارة لذنوبه وإلا ابتلي بالخوف من السلطان يطلبه، فإن كان في ذلك كفارة لذنوبه وإلا ضيق عليه عند خروج نفسه، حتى يلقى الله حين يلقاه وما له من ذنب يدعيه عليه, فيأمر به إلى الجنة)(5).7.

ص: 106


1- أنظر: إقبال الأعمال- السيد ابن طاووس: 2/ 21.- الدر المنثور- السيوطي: 3/ 235.
2- بحار الأنوار- المجلسي: 79/ 236.
3- بحار الأنوار- المجلسي: 81/ 258.
4- ثواب الأعمال- الشيخ الصدوق: 44.- الكافي- الشيخ الكليني: 3/ 266.
5- بحار الأنوار- المجلسي: 64/ 237.

وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إذا أراد الله بعبد خيراً عجّل عقوبته في الدنيا، وإذا أراد بعبد سوءاً أمسك عليه ذنوبه حتى يوافي بها يوم القيامة)(1). 5-رعاية حرمة شهر رمضان: من دعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في وداع شهر رمضان (أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ مَا كَانَ أَمْحَاكَ لِلذُّنُوبِ، وَأَسْتَرَكَ لأَِنْوَاعِ الْعُيُوبِ... أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ كَمَا وَفَدْتَ عَلَيْنَا بِالْبَرَكَاتِ، وَغَسَلْتَ عَنَّا دَنَسَ الْخَطِيئاتِ) (2).

حتى روي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال: (سمّي شوال شوالاً لأنّ فيه شالت - أي ارتفعت وذهبت- ذنوب المؤمنين, فلم يبق فيه ذنب إلا غفره الله تعالى ببركة صيام شهر رمضان, فإن أجر كل أجير يعطى عند ختمه للعمل)(3).

6-الأمراض: قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (السقم يمحو الذنوب)(4)، وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (ساعات الأمراض يذهبن ساعات الخطايا)(5)، وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (حمى ليلة كفارة سنة)(6).

7-الأحزان والهموم: قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (إن العبد إذا كثرت ذنوبه ولم يجد ما يكفرها به، ابتلاه الله عز وجل بالحزن في الدنيا ليكفرها به...)(7)، وقال0.

ص: 107


1- الخصال- الشيخ الصدوق: 20.- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 445.
2- الصحيفة السجادية (ابطحي)- الإمام زين العابدين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 292.
3- إقبال الأعمال- السيد ابن طاووس: 2/ 14.
4- بحار الأنوار- المجلسي: 64/ 244.
5- الدر المنثور- جلال الدين السيوطي: 2/ 229.
6- مكارم الأخلاق- الشيخ الطبرسي: 358.
7- الأمالي- الشيخ الصدوق: 370.

(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (ساعات الهموم ساعات الكفارات، ولا يزال الهم بالمؤمن حتى يدعه وما له من ذنب)(1).8-إتيان المساجد: عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (عليكم بإتيان المساجد، فإنها بيوت الله في الأرض، ومن أتاها متطهراً طهره الله من ذنوبه, وكُتب من زوّاره، فأكثروا فيها من الصلاة والدعاء)(2).

9-العفو والصفح عن أخطاء الآخرين وتقصيراتهم: لأن هذه من أخلاق الله تبارك وتعالى وهو يجازي من اتصف بها بأكثر منها، قال تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النور:22)، روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله: (من عفا عند المقدرة عفا الله عنه يوم العسرة)(3)، ولكن مع الالتفات إلى معنى العفو ومنه ما قاله أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (ما عفا عن الذنب من قرَّع به)(4). وفي دعاء الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (اللّهُمَّ إِنَّكَ أَنْزَلْتَ فِي كِتابِكَ أَنْ نَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَنا وَقْدْ ظَلَمْنا أَنْفُسَنا، فَاعْفُ عَنّا فَإِنَّكَ أَوْلى بِذلِكَ مِنّا)(5).

10-اتباع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والاستنان بسنته الشريفة في الأفعال والأقوال: قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ4.

ص: 108


1- بحار الأنوار- المجلسي: 64/ 244.
2- الأمالي- الشيخ الصدوق: 440.
3- كنز العمال- المتقي الهندي: 3/ 373.
4- عيون الحكم والمواعظ- علي بن محمد الليثي: 477.
5- من دعاء أبي حمزة الثمالي. الصحيفة السجادية (ابطحي)- الإمام زين العابدين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 234.

لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران:31).11-إغاثة الملهوف: قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (من كفارات الذنوب العظام: إغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب)(1).

12-كفارات خاصة: إن بعض الذنوب والتقصيرات لها كفارات خاصة، فقد روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله: (إن من الذنوب ذنوباً لا يكفّرها صلاة ولا صوم، قيل يا رسول الله، فما يكفرها؟ قال: الهموم في طلب المعيشة)(2).

وما ورد في القول المشهور عن الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لعلي بن يقطين: (كفارة عمل السلطان الإحسان إلى الإخوان)(3).

وما في قول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (من الذنوب ذنوب لا تغفر إلا بعرفات)(4).

ومن الكفّارات الخاصة ما ورد عند القيام من أي مجلس, أو انفضاض أي لقاء, أو اجتماع كان مشوباً بالغفلة عن الله تعالى, فيقول: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ 180 وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ 181 وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الصافات:182).

13-حسن الخُلُق: قال الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إن حسن الخلق يذيب الخطيئة كما تذيب الشمس الجليد، وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل0.

ص: 109


1- بحار الأنوار- المجلسي: 72/ 21.
2- بحار الأنوار- المجلسي: 70/ 157.
3- تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 410.
4- بحار الأنوار- العلامة المجلسي: 96/ 50.

العسل)(1).14-كثرة السجود: قال الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (جاء رجل إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال: يا رسول الله كثرت ذنوبي وضعف عملي، فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): أكثر من السجود, فإنه يحط الذنوب كما تحط الريح ورق الشجر)(2).

15-الحج والعمرة: قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحجة المتقبلة ثوابها الجنة، ومن الذنوب ذنوب لا تغفر إلا بعرفات)(3)، وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَوَسَّلَ بِهِ اَلْمُتَوَسِّلُونَ إِلَى اَللَّهِ سُبْحَانَهُ... حَجُّ اَلْبَيْتِ وَاِعْتِمَارُهُ, فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ اَلْفَقْرَ, وَيَرْحَضَانِ اَلذَّنْبَ)(4).

16-افتتاح صحيفة العمل واختتامها بالخير: قال الإمام زين العابدين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إن الملك الموكل على العبد يكتب في صحيفة أعماله فأملوا بأولها وآخرها خيراً يغفر لكم ما بين ذلك)(5).

17-الصلاة على محمد وآله: قال الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (من لم يقدر على ما يكفر به ذنوبه فليكثر من الصلاة على محمد وآله فإنها تهدم الذنوب هدماً)(6).

18-سكرات الموت: قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (الموت كفارة لذنوب1.

ص: 110


1- بحار الأنوار- العلامة المجلسي: 68/ 395.
2- الأمالي- الشيخ الصدوق: 589.
3- بحار الأنوار- المجلسي: 96/ 50.
4- نهج البلاغة- خطب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 1/ 215.
5- الأمالي- الشيخ المفيد: 2.
6- الأمالي- الشيخ الصدوق: 131.

المؤمنين)(1).19-الصدقة: قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (الصدقة تطفئ غضب الرب)(2)، وقال الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إن صدقة الليل تطفئ غضب الرب، وتمحو الذنب العظيم)(3).9.

ص: 111


1- الأمالي- الشيخ المفيد: 283.
2- بحار الأنوار- المجلسي: 93/ 180.
3- الكافي- الشيخ الكليني: 4/ 9.

القبس /7: سورة البقرة:256

اشارة

{لَا إِكرَاهَ فِي ٱلدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشدُ مِنَ ٱلغَيِّ ۚ}

موضوع القبس: الرد على شبهة انتشار الإسلام بالسيف

{لَا} النافية للجنس والجملة يمكن ان تكون خبرية فيخبر الله تعالى ان ارادته لن تتعلق باكراه الناس على اعتقاد الحق قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس:99), وتنفي الآية وجود أي حكم اكراهي في الدين يُجبر عليه الانسان من غير رضاه، فاذا تعرّض الإنسان لحكم اكراهي فليعلم انه ليس من الدين، كحديث (لا ضرر ولا ضرار)(1), الذي ينفي وجود حكم ضرري في الشريعة.

ويمكن ان تكون العبارة انشائية فتدعوا الآية الى عدم اعتماد أسلوب الاكراه لجلب الاخرين الى الدين وتنهى عنه:

أولاً: لأنه قد تَبيّن الرشد والطريق الموصل الى الهداية والإيمان وأصبح متميّزاً عن الغي وطريق الضلال ويبقى الامر متروكا لاختيار الإنسان وارادته في سلوك اي منهما وليتحمل مسؤولية قراره ثواباً وعقاباً.

ثانياً: لان العقيدة امر عقلي وقلبي فلا يمكن فرضه بالقوة على الإنسان وانما

ص: 112


1- الكافي- الشيخ الكليني: 5/ 280.

يأتي عن قناعة به، والذي يتعرض للإكراه ويظهر ما يُريده المُكرِه فانه يرجع عنه مباشرة بعد زوال الاكراه، وانما يتصور الاكراه في الأفعال والاعمال الخارجية وقد يلجا اليه العقلاء لإقرار النظام الاجتماعي ولحماية الانسان من الضرر ونحو ذلك مما سياتي. والحقيقة ان المعنى الثاني مستند الى الأول لان حاصلهما: النهي عن اجبار شخص على الاعتقاد بالحق، لعدم إمكانية تحقيق هذه النتيجة بالإكراه, وانما بالإقناع ونستفيد من الآية عدة أمور:

1-ان الإسلام يحترم كرامة الانسان وحريته وحقه في اعتناق العقيدة التي يقتنع بها ويعتمد أسلوب الحجة والبرهان والبيان لتحصيل القناعة التامة لدى الاخر فحرية الاعتقاد أوضح علامة على انسانية الانسان فمن يسلب هذه الحرية انما يجرد الانسان من انسانيته.

ولأجل احترام هذه الحرية ومبدا الاختيار نفى ونهى عن الاكراه في الدين، والاختيار سنة إلهيّة جارية في خلقه ويتحمل الانسان مسؤولية اختياره {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال:42).

2-وقد كفل الإسلام مضافاً إلى ذلك حرية ممارسة الشعائر الدينية، وفي بعض الروايات (أن نصارى نجران لما وفدوا على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وكان سيدهم الاهتم والعاقب والسيد، وحضرت صلواتهم فأقبلوا يضربون بالناقوس وصلوا، فقال أصحاب رسول الله: يا رسول الله هذا في مسجدك؟ فقال: دعوهم،

ص: 113

فلما فرغوا دنوا من رسول الله فقالوا: إلى ما تدعوا؟ فقال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وأن عيسى عبد مخلوق يأكل ويشرب ويحدث قالوا: فمن أبوه؟) وكأنهم أرادوا أن يحرجوه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بهذا السؤال ليثبتوا أنه ابن الله (فنزل الوحي على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فقال: قل لهم: ما يقولون في آدم؟ أكان عبداً مخلوقاً يأكل ويشرب ويحدث وينكح؟ فسألهم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقالوا: نعم، فقال: فمن أبوه؟ فبقوا ساكتين، فأنزل الله: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم)(1). وكان أصحاب الديانات والملل المختلفة يعيشون في ظل دولة الإسلام ويمارسون شعائرهم بكل حرية، ومن ارقى مظاهر الإنسانية تعاطف امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مع بعض غير المسلمين الذين تعرضوا للسلب في احدى غارات معاوية على غرب العراق بحيث يشرف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على الموت ألماً وأسفاً قال: (وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى المَرْأَةِ المُسْلِمَةِ، وَالْأُخْرَى المُعَاهَدَةِ(2)، فيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا(3) وَقُلْبَهَا(4) وَقَلاَئِدَهَا، وَرِعَاثَهَا(5)، ما تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاَّ بِالْإِسْتِرْجَاعِ وَالْإِسْتِرْحَامِ(6)، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ(7)، مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ(8)، وَلاَ أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ،ح.

ص: 114


1- بحار الأنوار- المجلسي: 21/ 340.
2- المعاهَدَة: الذميّة.
3- الحِجْل - بالكسر وبالفتح وبكسرين -: الخلخال.
4- القُلُب - بضمتين -: جمع قُلْب - بالضم فسكون -: السوار المُصْمَت.
5- الرعاث - جمع رَعثة - وهو: ضرب من الخرز.
6- الاسترجاع: ترديد الصوت بالبكاء مع القول: إنّا لله وإنا اليه راجعون، والاسترحام: أن تناشده الرحمة.
7- وافرين: تامين على كثرتهم لم ينقص عددهم، ويروى (موفورين).
8- الكَلْم - بالفتح -: الجرح.

فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِن بَعْدِ هَذا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً)(1).3-ان الاكراه المنفي ليس فقط على مستوى استعمال القوة العنيفة بل ترفَّع الإسلام أيضاً عن كل الأساليب غير الشفافة والاكراه بالقوى الناعمة كممارسة الخداع والتضليل والتمويه والتجهيل والادعاءات الباطلة، واستخدام الوسائل والظواهر الخادعة والخارقة للعادة ظاهراً التي تقود المسحور بها الى التسليم، فهذه كلها أساليب مرفوضة لأنها تصادر العقل والادراك والوعي والتدبر.

فان قلتَ: أن هذا ليس إكراهاً لغة وعرقاً.

قلنا: يمكن أن يكون المعنى القرآني أوسع منهما أو نقول ان مناط الاكراه موجود فيها وهو مصادرة الوعي والبصيرة والتدبر.

4-تفريعاً على هذه النقطة, فان الآية الكريمة تدعو الناس الى ترك التقليد في العقائد واتباع طريق الحجة والبرهان، لان التقليد من غير تدبر وادراك ووعي هو شكل من اشكال الاكراه والمورد لا يقبله.

5-ان الآية خير رد على من يتهم الإسلام بالتوسع بالقوة العسكرية واجبار الاخرين على اعتناقه، فان من يترفع عما ذكرناه في النقطة الثالثة يكون من باب أولى رافضاً لأساليب القهر والتهديد بالقوة، وانما جاز القتال في بعض الموارد للدفاع عن النفس او لحماية المجتمع من الفتنة والضلال او لإزالة قبضة الطواغيت الذين يمنعون الناس من الاستماع الى الحق واتباعه ويصادرون حريتهم في5.

ص: 115


1- نهج البلاغة: 67, الخطبة 27- الكافي- الشيخ الكليني: 5/ 5.

الاعتقاد والممارسة ونحو ذلك من الدوافع التي ذكرناها في اكثر من موضع.6-مما تقدم يظهر ان موضوع هذه الآية مختلف عن موضوع آيات القتال لذا فما قيل من ان هذه الآية منسوخة بتلك الآيات غير صحيح, وإنَّ علة الحكم بعدم الاكراه في الدين وهو تبيّن الرشد من الغي موجودة ومستمرة ولا تتأثر بآية القتال.

7-إن هذا المبدأ دليل على عظمة الإسلام, وثقته بنفسه, وقدرته على اقناع البشرية, ولذا فهو لا يحتاج الى القوة, وهكذا كل أصحاب المشاريع الناجحة الرصينة, وانما يتوسل بالقوة الفاشلون من اصحاب الأيدولوجيات البشرية، غير القادرين على اقناع الناس بمشروعهم أو أنهم لا يمتلكون مشروعاً حضارياً أصلاً.

والمفارقة الغريبة ان الله تعالى خالق البشر ومدبرهم وولي أمورهم ينهى عن الاكراه في العقيدة لكن الطواغيت والمستكبرين وهم مخلوقون عاجزون فاشلون يعطون لأنفسهم الحق في اجبار الناس على متابعتهم وتنفيذ ما يُريدون.

8-والآية لا تنافي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, لان الغرض من هذه الفريضة هو إلزام المعتقد للحق بالعمل بما أعتقده صحيحاً وليس اجبار غير المعتقد للحق على اعتقاده، مضافا الى ان هذه الفريضة انما شُرّعت لحفظ النظام الاجتماعي العام من المفسدين والمنحرفين والمضلين, ولضمان تطبيق القوانين التي يدين بها الناس ومن واجب العقلاء فعل ذلك، وإلزام الناس بالنظام العام وعدم التجاوز على حقوق الآخرين.

9-يفهم البعض من الآية فهماً مغلوطاً فيتصور ان الآية تدل على ان

ص: 116

الإسلام لا يتدخل في عقيدة الانسان وسواءٌ عنده ان يؤمن او لا يؤمن، ويجيز لكل انسان ان يعتقد ما يشاء حتى عبادة الاصنام من دون أي يلحق به أي مسؤولية، وان الإسلام يقف على مسافة واحدة من الجميع. وهذا الفهم يناقض أساس الإسلام المبني على التوحيد ونبذ الشرك والكفر قال تعالى {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (آل عمران:19), وقال {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران:102), وهذ الفهم يشبه من يضع القوانين لحفظ مصالح العباد والبلاد ثم يقول لهم انتم احرار في الالتزام وعدم الالتزام بها.

فالصحيح ان الله تعالى لا يأذن بعقيدة غير التوحيد وان معنى الآية إعطاء الانسان حرية اختيار العقيدة على أن يتحمل مسؤولية قراره بعد اتضاح الحق والطريق الموصل اليه.

ص: 117

القبس /8: سورة البقرة:269

اشارة

{وَمَن يُؤتَ ٱلحِكمَةَ فَقَد أُوتِيَ خَيرا كَثِيرا ۗ}

موضوع القبس: بيان معنى الحكمة وحقيقتها

نحاول فهم معنى الآية الشريفة والاستفادة منها عمليّاً في حياتنا من خلال توضيح عدّة نقاط:

معنى الحكمة:

1-معنى الحكمة وحقيقتها:

الحكمة أخذت من (الحَكَمة) وهو لجام الدابة الذي يمنعها من التقّحم والاضطراب ويضبط حركتها(1).

فكذلك الحكمة لجام للنفس الامارة بالسوء والشهوات والنزوات والانفعالات وترشّد افعال الانسان بما يوافق العقل والفطرة.

وأصل الكلمة (حَكَم) بمعنى (مَنَع) ولكن ليس مطلق المنع وإنما ما كان لإصلاح وسمي الحكم حكماً لان الحاكم العادل يمنع الظلم وسمي العلم حكمة لأنه يمنع المتصف به من الجهل، لذا فهي تعني الاتقان والإحكام وإحسان العمل

ص: 118


1- لسان العرب ابن منظور: 12 / 144

وسميت الآيات محكمات لأنهن متقنات لا تقبل الاختراق.

الحكمة في القرآن واللغة:

فالحكمة - بحسب ظاهر القرآن الكريم واللغة لا ما شيّده الفلاسفة واضافوا فيه من عندياتهم - ما يضبط تفكير الانسان وإرادته وتوجهاته وسلوكه في الاتجاه الصحيح وتكون له بوصلة حياته، فتبدأ بالعلم النافع والمعرفة الحقة وتنتهي بالعمل بمقتضاهما والأخذ بهداهما ثم اتمامها بالثبات على ذلك.

وقد قيل في تعريف الحكمة اقوال عديدة تندرج ضمن هذا الاطار فقيل بأنها (إصابة الحق بالعلم والعقل), وانها (تحقيق العلم وإتقان العمل), أو (ما يمنع من الجهل والاصابة في القول), (وقال ابن دريد كل ما يؤدي الى مكرمة او يمنع من قبيح، وقد يطلق على العلوم الفائضة من جنابه تعالى على العبد بعد العمل بما يعلم)(1).

كل ما يوصل الى الأهداف السامية من الخلقة:

وكذلك فسرَّت الروايات الشريفة الحكمة الواردة في الآيات القرآنية بتفاسير عديدة, هي عبارة عن مصاديق وآليات لهذا الإطار العام, أي كل ماله دخل في الوصول الى الهدف، ففي الكافي والمحاسن للبرقي وتفسير العياشي, عن أبي عبد

ص: 119


1- أنظر: بحار الانوار- المجلسي: 1/ 215- لسان العرب- ابن منظور: 12/ 140.

الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في (قول الله عز وجل: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (البقرة:269), فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): طاعة الله ومعرفة الإمام)(1).وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (سمعته يقول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): معرفة الامام واجتناب الكبائر التي أوجب الله عليها النار)(2).

وفسرّها الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالمعرفة(3), وعن سليمان بن خالد قال: (سألت أبا عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن قول الله: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): ان الحكمة المعرفة والتفقه في الدين، فمن فقه منكم فهو حكيم، وما من أحد يموت من المؤمنين أحب إلى إبليس من فقيه)(4).

وفي الحديث النبوي الشريف (القرآن منار الحكمة)(5).

شرف الحكمة:

2-شرف الحكمة وفضلها:

وقد اكتسبت الحكمة أهمية كبرى في حياة الساعين الى الكمال والراغبين في رضوان الله عز وجل، لما ورد فيها من الفضل والشرف حيث وصفتها الآية

ص: 120


1- المحاسن- البرقي: 1/ 148.- الكافي- الشيخ الكليني: 1/ 185.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 284.
3- بحار الأنوار- المجلسي: 1/ 215.
4- تفسير العياشي- العياشي: 1/ 151.
5- تفسير نور الثقلين- الشيخ الحويزي: 1/ 287.

الكريمة بانها خير كثير، وجعل تحصيلها الغرض من بعث النبيين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} (آل عمران:81), وعن نبينا (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), قال تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة:164).وفي الحديث النبوي الشريف: (كلمة الحكمة يسمعها المؤمن خير من عبادة سنة)(1), وفي مواعظ عيسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إن الحكمة نور كل قلب)(2), وعن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (كاد الحكيم أن يكون نبياً)(3)، وفي كتاب منية المريد للشهيد الاول (قدس سره) أنه مكتوب في التوراة قول الله تبارك وتعالى (عظّم الحكمة فأني لا أجعل الحكمة في قلب أحد إلا وأردت أن أغفر له فتعلمها ثم أعمل بها ثم ابذلها كي تنال بذلك كرامتي في الدنيا والآخرة)(4).

لانها كما وصفها الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الحكمة ضياء المعرفة وميزان التقوى وثمرة الصدق، وما انعم الله على عبد من عباده نعمة انعم واعظم وأرفع اجزل وابهى من الحكمة للقلب، قال الله عز وجل: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} (البقرة:269)، أي لا يعلم ما أودعت وهُيأت في الحكمة إلا من استخلصته لنفسي وخصصته بها، والحكمة هي النجاة وصفة الحكمة الثبات عند اوائل الامور والوقوف عند7.

ص: 121


1- بحار الأنوار- المجلسي: 74/ 172.- ميزان الحكمة- الريشهري: 2/ 431.
2- تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 512.- ميزان الحكمة- الريشهري: 2/ 431.
3- كنز العمال- المتقي الهندي: 16 /117.- ميزان الحكمة- الريشهري: 2/ 431.
4- بحار الأنوار- المجلسي: 1/ 220/ح57.

عواقبها، وهو هادي خلق الله الى الله تعالى، قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لأن يهدي الله على يديك عبداً من عباد الله خير لك مما طلعت عليه الشمس من مشارقها الى مغاربها))(1).ولأهمية طلب الحكمة الموصلة الى الله تعالى التي فسرتها بعض الروايات بالتفقه بالدين لم يجد الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) عذراً لتارك طلبها، روى البرقي في المحاسن عن الامامين الصادقين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لو اتيت بشاب من شباب الشيعة لا يتفقه لأدّبته)(2), قال وكان أبو جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول: (تفقّهوا وإلا فأنتم اعراب)(3).

ضالة المؤمن:

3-الحكمة ضالة المؤمن:

ولذا اصبح طلب الحكمة والبحث عنها من صفات المؤمنين بغض النظر عن مصدرها انطلاقاً من كلمة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لا تنظر الى من قال وأنظر الى ما قال)(4)، وعنه أيضاً انه قال: (الحكمة ضالة المؤمن فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق)(5), وفي كلمة أخرى (فأطلبوها ولو عند المشرك تكونوا أحق بها وأهلها)(6).

ص: 122


1- مصباح الشريعة- المنسوب للإمام الصادق(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):198- بحار الأنوار- المجلسي:1/ 215.
2- المحاسن- البرقي: 1/ 228.- بحار الأنوار- المجلسي: 1/ 214.
3- المحاسن- البرقي: 1/ 228.- بحار الأنوار- المجلسي: 1/ 214.
4- كنز العمال- المتقي الهندي: 16/ 269- غرر الحكم: ح10189.
5- نهج البلاغة: 4/ 18/ خطب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).
6- الأمالي- الشيخ الطوسي: 625.- بحار الأنوار- المجلسي: 2/ 97.

وهذا الطلب للحكمة من اي مصدر كان له ما يبررّه، من مواعظ عيسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (لو وجدتم سراجاً يتوقد بالقطران في ليلة مظلمة لأستضأتم به ولم يمنعكم منه ريح نتِنه، كذلك ينبغي لكم ان تأخذوا الحكمة ممن وجدتموها معه ولا يمنعكم منه سوء رغبته فيها)(1). ووصف الحكمة بانها ضالة المؤمن يحمل عدّة معانٍ منها:

أ-ان صاحب الضالّة - وهو الحيوان الشارد التائه- كما لا يستقر له قرار حتى يجد ضالته، كذلك المؤمن عليه ان لا يتوقف عن السعي لطلب الحكمة، حتى يقتنصها من اي مصدر كان.

ب- إن الضالة ملك لصاحبها فيأخذها من دون منازع، وعلى كل من يجدها أن يعيدها الى صاحبها, وكذلك الحكمة فأن المؤمن أحق بها فلابد من إيصالها اليه، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (كلمة الحكمة ضالّة المؤمن فحيث وجدها فهو احق بها)(2).

ت- كما ان الضالة تبقى قلقة مضطربة عند من يلتقطها حتى تعود الى صاحبها وراعيها لأنسها به وبرعايته ورفيقاتها في الحضيرة، كذلك الحكمة لا تستقر عند غير صاحبها فيخرجها ليلتقطها المؤمن الذي هو صاحبها وبهذا المعنى وردت كلمات عديدة، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (خذ الحكمة أنّى كانت، فان الحكمة تكون في صدر المنافق فتلّجلجُ في صدره حتى تخرج فتسكن الى2.

ص: 123


1- بحار الأنوار- المجلسي: 75/ 307.- تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 392.
2- كنز العمال- المتقي الهندي: 16/ 112.

صواحبها في صدر المؤمن)(1).

تحروا الحكمة:

المطلوب تحري الحكمة والموعظة واقتناصها من كل شيء حولك وتحويلها الى سلوك عملي (قيل للقمان:ممن تعلمت الحكمة؟ قال: من العميان: لأنهم لا يضعون أقدامهم في محل حتى يختبروه. وقيل للقمان ممن تعلمت الأدب؟ فقال: ممن لا ادب لهم فأجتنبت كل ما استهجنته منهم)(2).

وهذا وجه لفهم سبب ورود الفعل في الآية مبنيّاً للمجهول {وَمَن يُؤْتَ} {أُوتِيَ} رغم ان الواهب معروف وهو الله تعالى لكن في ذلك اشارة الى ان الحكمة امر مرغوب ومطلوب بغّض النظر عن مصدرها.

تقسيمات الحكمة:

4-تقسيمات الحكمة:

وفي ضوء ما تقدم ومن استقراء الآيات الكريمة والروايات الشريفة نتوصل الى ان الحكمة على ثلاثة اقسام(3)، وهي في الحقيقة ثلاث مراتب ومراحل ودرجات تفضي الواحدة الى الاخرى بفضل الله تبارك وتعالى.

ص: 124


1- نهج البلاغة: 4/ 18/ خطب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).
2- حکم لقمان- الريشهري: 8.
3- ذكر العلماء تقسيمات اخرى، وانما ذكرنا ما يرتبط بفكرة البحث.

الأولى: الحكمة العلمية:

وهي العلوم والمعارف التي اتى بها الانبياء والمرسلون والائمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لتكميل نفوس الناس وتشمل علوم العقائد والاخلاق والشريعة والمواعظ والامثال والسنن الالهية والآيات الكونية ونحو ذلك، وقد تضمّنها القرآن الكريم لذا وصف بالحكيم ووصفته آياته بقول الله تعالى {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} (الإسراء:39), وجعل ايصال هذه الحكمة وتعليمها هدف بعثه النبيين، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (آل عمران:164), ومثلها (الجمعة:2) و(البقرة:129-151).

الثانية: الحكمة العملية:

وهي الممارسة العملية المؤدية الى التكامل من خلال الالتزام وتطبيق تلك الحكمة العلمية، وسياتي في روايات كثيرة اطلاق الحكمة على جملة من هذه الممارسات.

الثالثة: الحكمة الحقيقيّة:

وهي حالة الانكشاف والنورانية التي يهبها الله تعالى لمن نجح في المرحلتين السابقتين وهو العلم والفقه الحقيقي المقصود في الآيات والروايات كقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (فاطر:28).

ونتيجته حصول المعرفة بحقائق الاشياء هبة من الله تعالى، ففي الآية محل

ص: 125

البحث {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ}, وقال في حق لقمان الحكيم {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} (لقمان:12).

كيفية الحصول على الحكمة:

5- مقدمات الحصول على الحكمة:

الآية صريحة بأن الحكمة فضل من الله يؤتيه من يشاء، وفي الحديث عن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لا حكمة الا بعصمة)(1)، اي من الله تعالى، ومع هذا فان لتحصيل الحكمة مقدّمات ومقومات فينبغي تحقيقها، وموانع تجب ازالتها.

اي ان لتحصيلها ركنين اشارت اليها الروايات الشريفة:

أ-ايجاد المقدمات مثل ما ورد عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (رأس الحكمة مخافة الله)(2).

وعن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (حفظ الدين ثمرة المعرفة ورأس الحكمة), وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (رأس الحكمة تجنب الخداع), وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (رأس الحكمة لزوم الحق وطاعة المحق)(3).

ب- ازالة الموانع مثل ما ورد عن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (اغلب الشهوة تكمل لك الحكمة)(4), وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (من زهد في الدنيا اثبت

ص: 126


1- العلم والحكمة في الكتاب والسنة- الريشهري: 94.
2- من لا يحضره الفقيه- الشيخ الصدوق: 4/ 376.
3- أنظر: ميزان الحكمة- الريشهري: 1/ 673.
4- ميزان الحكمة- الريشهري: 1/ 674.

الله الحكمة في قلبه وانطق بها لسانه)(1).وفي الحديث القدسي في المعراج: (يا احمد ان العبد اذا أجاع بطنه وحفظ لسانه(2) علمته الحكمة، وان كان كافرا تكون حكمته حجة عليه ووبالاً، وان كان مؤمناً تكون حكمته له نوراً وبرهاناً وشفاءاً ورحمةً، فيعلم مالم يكن يعلم ويبصر مالم يكن يبصر، فأوّل ما ابصّره عيوب نفسه حتى يشتغل عن عيوب غيره، وابصّره دقائق العلم حتى لا يدخل عليه الشيطان)(3).

وعن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (التخمة تفسد الحكمة، البطنة تحجب الفطنة) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لا تجتمع الشهوة والحكمة)(4).

وفي كلام منسوب لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من اخلص لله اربعين صباحا يأكل الحلال صائما نهاره وقائما ليله اجرى الله سبحانه ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه)(5).

وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الغضب ممحقة لقلب الحكيم، ومن لم يملك4.

ص: 127


1- بحار الأنوار- المجلسي: 2/ 33.
2- ليس فقط عن المحرمات بل عن فضول الكلام ايضا، روي في عدة مصادر: ان لقمان كان عبداً لداوود (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهو يسرد الدرع فجعل يُفتله هكذا بيده، فجعل لقمان (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يتعجب ويريد ان يساله، وتمنعه حكمته ان يساله، فلما فرغ منها صبّها على نفسه وقال: نعم درع الحرب هذه، فقال لقمان: الصمت من الحكمة وقليل فاعله، كنت اردت ان اسالك فسكت حتى كفيتني) الدر المنثور- السيوطي: 6/ 513, ومصادر اخرى, ذكرها في الهامش مفردات الراغب:450.
3- بحار الأنوار- المجلسي: 74/ 29.
4- أنظر: ميزان الحكمة - الريشهري: 1/ 674.
5- حكم لقمان- الريشهري: 26, عن مسند زيد بن علي: 384.

غضبه لم يملك عقله)(1).وعن الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إن الزرع ينبُتُ في السَّهل ولا ينبُتُ في الصَّفا، فكذلك الحكمة تعمرُ في قلب المتواضع، ولا تعمرُ في قلب المتكبّر الجبّار, لأن الله جعل التواضع آلة العقل)(2).

وعن عيسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إنه ليس على كل حال يصلح العسلُ في الزِّقاق(3)، وكذلك القلوب ليس على كل حال تعمر الحكمة فيها، إن الزِّقَّ ما لم ينخرِق أو يَقحَل- اي ييبس - أويَتْفَلْ - اي تكون فيه رائحة نتنة - فسوف يكون للعسل وعاء، وكذلك القلوب ما لم تخرِقها الشهوات ويدّنسها الطمع ويقسِها النعيم فسوف تكون أوعية للحكمة)(4).

وعن الإمام الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (الحكمة لا تنجعً في الطباع الفاسدة)(5).

وعن الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (غير منتفع بالحكمة عقل معلول بالغضب والشهوة), وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (غير منتفع بالعِظات قلب متعلِّق بالشهوات)(6).

آثار الحكمة:

6- من اثار الحكمة على السلوك:

وقد نبّهت الروايات الى عدد من السلوكيات التي تُعتبر من آثار وجود مرتبة

ص: 128


1- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 305.
2- تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 396.
3- الزِّق وعاء من الجلد كالقربة يُتخذ لحفظ ونقل المائعات كالعسل والدبس ونحو ذلك.
4- تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 504.
5- أعلام الدين في صفات المؤمنين- الديلمي: 311.- بحار الأنوار- المجلسي: 75/ 370.
6- أنظر: ميزان الحكمة- الريشهري: 1/ 675.

من مراتب الحكمة لدى الانسان، اي ان الحكمة لابد ان تظهر لها آثار على صاحبها، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لابد له من معاشرته، حتى يجعل الله له من ذلك مخرجاً)(1).وعن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (ليس الحكيم من لم يدارِ من لا يجدُ بداً من مداراته)(2), وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (ليس بعاقل من انزعج من قول الزور فيه، ولا بحكيم من رضّي بثناء الجاهل عليه)(3), وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الحكماء اشرف الناس انفساً، واكثرهم صبرا، واسرعهم عفوا واوسعهم اخلاقاً)(4).

لقمان الحكيم:

7- لقمان ينال الحكمة:

قال تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} (لقمان:12), فهو ممن وصل مرتبة الحكمة الحقيقية، روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله: (حقا اقول: لم يكن لقمان نبياً, ولكن كان عبداً كثير التفكر, حسن اليقين، احبَّ الله فاحبَّهُ, ومنّ عليه بالحكمة)(5).

ومن كلماته الحكمية التي رواها الائمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وهو يوصي ابنه: (يا بني ان الدنيا بحر عميق قد هلك فيه عالم كثير، فاجعل سفينتك فيها الايمان،

ص: 129


1- كنز العمال- المتقي الهندي: 9/ 27.
2- تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 218.
3- تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 208.
4- ميزان الحكمة- الريشهري: 1/ 670.
5- بحار الأنوار- المجلسي: 13/ 424.

واجعل شراعها التوكل، واجعل زادك فيها تقوى الله، فان نجوت فبرحمة الله ، وان هلكت فبذنوبك.يا بني: خفِ الله خوفا لو اتيت القيامة ببرّ الثقلين خفت ان يعذبَّك، وارجُ الله رجاءاً لو وافيتَ القيامة بأثم الثقلين رجوت ان يغفرك لك.

واعلم: انَّك ستسأل غداً اذا وقفت بين يدي الله عز وجل عن اربعة: شبابك فيما ابليته، وعمرك فيما افنيته، ومالك فيما اكتسبته وفيما انفقته، فتأهب لذلك واعدَّ له جوابا، ولا تأس على ما فاتك من الدنيا فان قليل الدنيا لا يدوم بقاؤه، وكثيرها لا يؤمن بلاؤه، فخذ حذركّ وجدَّ في امرك)(1).

ومثل هذه الكلمات لا يكفي ان نقراها او نسمعها ونمَّر عليها بل لابد من الاحتفاظ بها ومراجعتها باستمرار وتكفلت كتب بجمع هذه الحكم كموسوعة (ميزان الحكمة)(2).2.

ص: 130


1- تفسير القمي: 2/ 164.- الكافي- الكليني: 2/ 135.
2- ميزان الحكمة- الشيخ محمد الريشهري: 1/ 622.

التأسي بلقمان الحكيم:

8- هل يمكن ان تكون مثل لقمان الحكيم:

والجواب: نعم، لان ايتاء الحكمة فضل من الله تعالى مفتوح ومعروض لكل من يستحقه, ولذا حثّت الآية الكريمة على ان نكون من اهلها، وذلك اذا سرت على المنهاج المؤدي لتحصيلها كالذي وصفه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) آنفاً عن لقمان الحكيم, علماً وعملاً.

وقد ورد في عدّة روايات توصيف عدد من اصحاب اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) انهم مثل لقمان الحكيم, فقد روي عن الامام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في وصف سلمان الفارسي, قوله: (من لكم بمثل لقمان الحكيم، وذلك امرؤ منّا اهل البيت، ادرك العلم الاول وادرك العلم الاخر، وقرأ الكتاب الاول وقراء الكتاب الاخير بحر لاينزف)(1).

بل عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (سلمان خير من لقمان)(2), وورد مثل ذلك في ابي حمزة الثمالي ويونس بن عبد الرحمن فقد روى الفضل بن شاذان قال: سمعت الثقة يقول: سمعت الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول: (ابو حمزة الثمالي في زمانه كلقمان في زمانه، وذلك انه خدم اربعة منا: علي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وبرهة من عصر موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، ويونس بن عبد الرحمن كذلك هو سلمان زمانه)(3).

هذه هي الحكمة التي فيها خير كثير، فاطلبوها طول عمركم ودوّنوا ما ترزقون منها في دفتر خاص لتستفيدوا منها دائما وتراجعوها وتتعظوا بها وتتخذوها

ص: 131


1- بحار الانوار: 10/ 123/ح2.- تاريخ مدينة دمشق- ابن عساكر: 21/ 422.
2- بحار الانوار: 22/ 331/ح42.
3- رجال الكشي: 302, ترجمة يونس بن عبد الرحمن.

برنامجاً لحياتكم.

التحلي بالحكمة لا بالعبادة فقط:

9- الحكمة اساس لتقييم الاشخاص:

صحيح ان التدين اساس تقييم الاشخاص فيُعطى قيمة اكبر كلما كان التزامه باحكام الشريعة ادّق واكثر, إلا ان الدين لا يقتصر على العبادات المعروفة، فاذا اردنا التعامل مع شخص كمصاحبته ومصادقته او تزويجه ومصاهرته، فانه لا يكفي ان يكون ملتزماً بالواجبات الدينية المعروفة كالصلاة والصوم وتجنب الكبائر كشرب الخمر والزنا, وان كان في هذا خير كثير، وانما نبحث ايضاً عن حكمته وتعقلّه, لان الحكمة عُبر عنها في الكثير من الاحاديث بالعقل.

وذلك يعني ان نختبر حسن تصرفه ومعاشرته وتعامله, وانه يضع الامور في مواضعها, ويتحلى بالحكمة والاخلاق الفاضلة، وقد وردت في ذلك احاديث شريفة، منها ما اشتهر عن اهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) روايتهم لحديث جدهم المصطفى (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (اذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجّوه الا تفعلوا تكن فتنة في الارض وفساد كبير)(1). فلم يكتفِ الحديث بان يكون دينه مرضيّاً بل ان تكون له حكمة في تصرفاته.

ص: 132


1- الكافي- الشيخ الكليني: 5/ 347.

القبس /9: سورة آل عمران:19

{إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسلَمُ ۗ}

الدين كاصطلاح: هو منظومة العقائد والقواعد والأفكار التي يلتزم بها الانسان ويتعبّد بها, وما يتفرع عنها من سلوك، وكل انسان في هذه الدنيا لابد أن يكون له دين حتى أكثر الشعوب تخلفاً وهمجية.

وقد يكون هذا الدين الهيّاً وقد يكون ماديّاً من صنع البشر وابتداعهم، حتى الذين يسمون باللادينيّين فان لهم ما يعتقدون به من حريات منفلتة وإباحية وزواج مثليّين وقمع للقيم الدينيّة السامية.

والآية الكريمة تكشف عن هذه الحالة الطبيعية لدى الانسان وتأخذ هذه الحقيقة بنظر الاعتبار فلا تتحدث عن ضرورة ان يكون للإنسان دين، وانما تنتقل إلى السؤال الثاني مباشرة, وهو معرفة الدين الذي يجب ان يعتقده الانسان وتوجيه بوصلته إليه, وتنظيم حياته على أساسه، لان الله تعالى بفضله وإحسانه وشفقته لا يترك الانسان تائهاً أو يقضي عمره بالتجربة والخطأ ليصل إلى الصواب وإنما قرَّر له الحقيقة التي تقوده إلى السعادة والفلاح {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ}, ولسانها الحصر أي تنفي سلامة وصحة أي دين آخر وإن اتعب الناس أنفسهم في صياغته واحكامه.

ص: 133

والإسلام يعني الانقياد والتسليم لله تبارك وتعالى وهو عنوان عام, الا انه اختص بالدين الإسلامي الذي جاء به النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وختم به الديانات والنبوات, لانه اكملها وادقها في تحقيق معنى الإسلام الذي يغطي كل شؤون الحياة الفردية والاجتماعية ولم يستوعبها دين غير دين الاسلام {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} (المائدة:3), وهو يتضمن الايمان بصدق كل الأنبياء السابقين وصحة ما أتوا به {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة:136), الا أن التعبد والتدين لابد أن يكون وفق هذه الشريعة الخاتمة.وهذه الحقيقة يُذعن بها العقل وتؤمن بها الفطرة من دون الحاجة إلى دليل ولا يشكك فيها الا مكابر {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} (النمل:14), لان الله تعالى خالق هذا الانسان والعارف بخلجات نفسه ومكنونات ضميره وكل ما يصلح شأنه فمن الطبيعي التوجه إليه لمعرفة ما ينظم حياته ويكفل له سعادته وصلاحه.

وتضيف آية في نفس السورة سبباً آخر يدعو الانسان إلى اعتناق الإسلام دون أي دين او نظام غيره، قال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (آل عمران:83), فالكون كله منقاد لمشيئة الله تعالى وارادته ويسير وفق النظام الدقيق الذي وضعه الله تعالى له، والانسان ما هو الا ذرة ضئيلة في هذا الكون وخاضع لنظامه فهو يولد بشكله وتركيبته من دون ارادته, ويكبر ويهرم ويموت وتعمل أجهزة جسمه بلا إرادة

ص: 134

منه. فهذا الإسلام والانقياد التكويني لابد ان يقترن معه انقياد تشريعي لتنسجم حركته مع الكون كله {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ} (النساء:125), والا تعرض لكوارث وصعوبات.

وقد التفت العلم الحديث قريباً إلى هذه الحقيقة، فأذعن بأن الانسان اذا خرج عن السنن الكونيّة الطبيعيّة, فانه يُسبب لنفسه الدمار والهلاك, وكذا على صعيد المجتمعات والدول.

فالسؤال هنا: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ}, فيه استنكار واستهجان وتوبيخ لخروجه من هذا النظام الكوني المتناسق.

ويأتي الجواب: بعد آيتين ليسجل العاقبة الأليمة لهذا الخروج {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:85), فمن طلب ديناً غير الإسلام فهو خاسر, لانه أضاع هذه الثروة العظيمة التي منَّ الله تبارك وتعالى عليّه بها, واستبدل بها اوهاماً وضلالات, وافنى عمره الثمين في متع زائلة واتبع هواه وانانيته.

وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (فَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دَيْناً تَتَحَقَّقْ شِقْوَتُهُ وَتَنْفَصِمْ عُرْوَتُهُ وَتَعْظُمْ كَبْوَتُهُ(1), وَيَكُنْ مَآبُهُ(2), إِلَى الْحُزْنِ الطَّوِيلِع.

ص: 135


1- الكَبْوَة: السقطة.
2- الإِنابة: الرجوع.

وَالْعَذَابِ الْوَبِيلِ وَأَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكُّلَ الْإِنَابَةِ(1), إِلَيْهِ وَأَسْتَرْشِدُهُ السَّبِيلَ الْمُؤَدِّيَةَ إِلَى جَنَّتِهِ الْقَاصِدَةَ إِلَى مَحَلِّ رَغْبَتِهِ)(2), وقوله: (ايها الناس: دينكم دينكم تمسكوا به لا يزيننكم ولا يردنكم احد عنه فأن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره لان السيئة فيه تغفر والحسنة في غيره لا تقبل)(3).فلنلتفت إلى هذه الحقيقة مادمنا في هذه الدنيا وفرصة العمل مفتوحة امامنا ونتمسك بديننا ونجعله أهم شيء عندنا, والا فان هذه الحقيقة ستنكشف للغافلين يوم القيامة حيث لا ينفعهم الندم {وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:85), وحينئذٍ يعلم العلمانيون والملحدون واللادينيون من الفائز بالسعادة؟

ولابد ان نلتفت إلى ان الإسلام ليس مجرد نطق بالشهادتين ولا يكفي فيه أداء العبادات الشخصية الواجبة, فان الانقياد والطاعة لا تتحقق بذلك لوحده, وإنما بالتطبيق الشامل للشريعة والالتزام بالدين في شؤون الحياة كافة، فهذا هو الإسلام وليس المظاهر والشكليات أو النسخ المحرَّفة او النماذج المنعزلة في الزوايا والكهوف.

لان من اهم علامات الصدق في الدين التحرك به ونشره وادخال الناس فيه، وعن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله: (لا دين لمن لا يدين الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)(4)، ويذمّ أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) المتقاعسين الذين جعلوا دينهم تبعاً9.

ص: 136


1- أسْبَغَ: أي أحاط بجميع وجوه الترغيب.
2- نهج البلاغة: 161, ومن خطبة له (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في صفة النبي وأهل بيته وأتباع دينه وفيها يعظ بالتقوى.
3- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 464.
4- بحار الانوار: 100/ 86/ ح59.

لدنياهم قال: (وَصَارَ دِينُ أَحَدِكُمْ لُعْقَةً عَلَى لِسَانِهِ صَنِيعَ مَنْ قَدْ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ وَأَحْرَزَ رِضَى سَيِّدِهِ)(1). أي ان قلة اهتمامكم بدينكم يوحي وكأنكم أنجزتم ما عليكم تجاه خالقكم واحرزتم رضا الله تبارك وتعالى فلم تعودوا محتاجين إلى عمل والأمر ليس كذلك أكيداً، وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن جعلت دينك تبعاً لدنياك أهلكت دينك ودنياك وكنت في الآخرة من الخاسرين، إن جعلت دنياك تبعاً لدينك أحرزت دينك ودنياك وكنت في الآخرة من الفائزين)(2).

وقد اعطى القرآن الكريم القيمة العظمى للدين وقدّمه على كل شيء قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} (البقرة:191), {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} (البقرة:217), فإزهاق النفس والتضحية بها يهون في سبيل التمسك بالدين وعدم الفتنة عنه، وروي عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير قوله تعالى: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} (غافر:45) قوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (يعني مؤمن آل فرعون، والله لقد قطعوه إربا إربا, ولكن وقاه الله أن يفتنوه في دينه)(3).

وفي هذا وردت روايات المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (وإذا نزلت نازله فاجعلوا أنفسكم دون دينكم، واعلموا أن الهالك من هلك دينه8.

ص: 137


1- نهج البلاغة: الخطبة/113.
2- عيون الحكم والمواعظ- علي بن محمد الليثي: 161.- غرر الحكم: 3750،3751
3- تفسير القمي- القمي: 2/ 258.

والحريب من حُرِب دينه)(1).وقد ادرك من وفّقهم الله تعالى لمرضاته هذه الحقيقة فتمسكوا بدينهم وثبتوا عليه رغم الاغراءات التي عرضت عليهم، والعقوبات الصارمة التي هُددِّوا بها.

ويحكي القرآن الكريم قصص جملة منهم للتأسي بهم كاصحاب الأخدود الذين حفر لهم خندق واضرمت فيه النار وأُلقوا فيها ولم يعطوا للظالم ما يريد من تركهم لدينهم {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (البروج:8), وكسحرة فرعون الذين هدّدهم بقطع الايدي والارجل ثم القتل فأجابوه {فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا 72 إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا} (طه:73), وكامرأة فرعون التي لم ترضخ تحت تعذيب فرعون الوحشي وكان نظرها إلى الله تبارك وتعالى {رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} (التحريم:11), وكأصحاب الكهف الذين لم تغرهم مكانتهم كاُمراء في الممالك الرومانية ولا أخافهم بطش القياصرة الرومان {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} (الكهف:14).

وبالمقابل فان الخاسرين الذين أغراهم الشيطان وغرّتهم الدنيا كثر أيضاً, كقاضي قضاة الدولة العباسية(2) - وهو أعلى مرجعية دينية في الدولة- الذي سعى3.

ص: 138


1- الكافي: 2/ 216/ح2.
2- قاضي بغداد محمد بن أحمد بن أبي داود، أبو الوليد الإيادي القاضي. تاريخ بغداد- الخطيب البغدادي: 1/ 313.

لدى المعتصم العباسي بقتل الامام الجواد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حسداً, لانه اخذ بحكم الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قطع يد السارق وهو يعلم ان في ذلك النار(1). وكحميد بن قحطبة الوالي والقائد العباسي في الرواية التالية التي تكشف عن جانب من وحشية بني العباس وحقدّهم على أهل بيت النبوة, وإصرار الطواغيت وشياطين الانس والجن على سلب الدين وعدم اكتفائهم بما دون ذلك.

ففي كتاب اخبار الرضا للشيخ الصدوق بسنده (عن عبيد الله البزاز النيسابوري - وكان مُسناً- قال: كان بيني وبين حميد بن قحطبة الطائي الطوسي معاملة، فرحلت إليه في بعض الأيام، فبلغه خبر قدومي فاستحضرني للوقت وعلي ثياب السفر لم أغيرها، وذلك في شهر رمضان وقت صلاة الظهر؛ فلما دخلت إليه رأيته في بيت يجري فيه الماء فسلمت عليه وجلست فاتي بطست وإبريق فغسل يديه، ثم أمرني فغسلت يدي وأُحضرت المائدة, وذهب عني أنّي صائم, وأنّي في شهر رمضان، ثم ذكرت فأمسكت يدي، فقال لي حميد: مالك لا تأكل؟ فقلت: أيّها الأمير هذا شهر رمضان، ولست بمريض ولا بي علة توجب الافطار، ولعل الأمير له عذر في ذلك أو علة توجب الافطار، فقال: ما بي علة توجب الافطار وإني لصحيح البدن، ثم دمعت عيناه وبكى؛ فقلت له بعد ما فرغ من طعامه: ما يبكيك أيها الأمير؟ فقال: أنفذ إليّ هارون(2) الرشيد وقت كونه بطوس في بعض الليل أن3.

ص: 139


1- راجع: تفسير العياشي- العياشي: 1:319.
2- لعله اشتباه, والصحيح أنه أبو جعفر المنصور, لأن وفاة أبو جعفر المنصوركانت سنة (152ه-), وحميد بن قحطبة مات سنة (159ه-), وهارون الرشيد تولى الخلافة سنة (170ه-). انظر: البداية والنهاية- ابن كثير: 10/ 130.- تاريخ الطبري- الطبري: 6/ 421.- الأعلام - خير الدين الزركلي: 2/ 283.

أجب، فلما دخلت عليه رأيت بين يديّه شمعة تتقد وسيفاً أخضر مسلولاً وبين يديّه خادم واقف فلما قمتُ بين يديّه رفع رأسه إلي فقال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت: بالنفس والمال، فأطرق ثم أذن لي في الانصراف؛ فلم ألبث في منزلي حتى عاد الرسول إلي وقال: أجب أمير المؤمنين، فقلت في نفسي: إنا لله أخاف أن يكون قد عزم على قتلي وإنه لما رآني استحيا مني فعدت إلى بين يديّه فرفع رأسه إلي فقال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت: بالنفس والمال والأهل والولد، فتبسم ضاحكا - لان الأمير علم ان ابن قحطبة فهم الرسالة وان المطلوب منه عرض سخي اكبر من هذا-، ثم أذن لي في الانصراف؛ فلما دخلت منزلي لم ألبث أن عاد الرسول إلي فقال: أجب أمير المؤمنين فحضرت بين يديّه وهو على حاله، فرفع رأسه إلي فقال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين فقلت: بالنفس والمال والأهل والولد والدين فضحك، ثم قال لي: خذ هذا السيف وامتثل ما يأمرك به هذا الخادم؛ قال: فتناول الخادم السيف وناولنيه وجاء بي إلى بيت بابه مغلق ففتحه فإذا فيه بئر في وسطه، وثلاثة بيوت أبوابها مغلقة ففتح باب بيت منها فإذا فيه عشرون نفساً عليهم الشعور والذوائب شيوخ وكهول وشبان مقيدون، فقال لي: إن أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء، وكانوا كلهم علوية من ولد علي وفاطمة (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فجعل يخرج إلي واحداً بعد واحد, فأضرب عنقه, حتى أتيتُ على آخرهم، ثم رمى بأجسادهم ورؤوسهم في تلك البئر؛ ثم فتح باب بيت آخر فإذا

ص: 140

فيه أيضاً عشرون نفساً من العلوية من ولد علي وفاطمة (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مقيدون فقال لي: إن أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء، فجعل يخرج إلي واحداً بعد واحد فأضرب عنقه, ويرمي به في تلك البئر، حتى أتيت على آخرهم, ثم فتح باب البيت الثالث, فإذا فيه مثلهم عشرون نفساً من ولد علي وفاطمة (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مقيدون عليهم الشعور والذوائب فقال لي: إن أمير المؤمنين يأمرك أن تقتل هؤلاء أيضاً فجعل يخرج إلي واحداً بعد واحد فأضرب عنقه فيرمي به في تلك البئر، حتى أتيت على تسعة عشر نفساً منهم، وبقي شيخ منهم عليه شعر فقال لي: تبا لك يا مشوم أي عذر لك يوم القيامة إذا قدمتَ على جدنا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وقد قتلتَ من أولاده ستين نفساً، قد ولدهم علي وفاطمة (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فارتعشتْ يدي وارتعدتْ فرائصي فنظر إلي الخادم مغضباً وزبرني، فأتيتُ على ذلك الشيخ أيضاً فقتلته, ورمى به في تلك البئر، فإذا كان فعليّ هذا وقد قتلتُ ستين نفساً من ولد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فما ينفعني صومي وصلاتي وأنا لا أشك أني مخلد في النار)(1).وتضمنت واقعة كربلاء مشاهد للفريقين:

فمن الأول: الحر الرياحي الذي كان يرتعد وهو يرى جيش ابن زياد عازماً على قتل الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأهل بيته, ولما سأله صاحبه عن السبب قال: (إني أخيِّر نفسي بين الجنة والنار ولا أختار على الجنة شيئاً)(2).

ومن الثاني: عمر بن سعد بن ابي وقاص وهو قرشي وذو رحم بالحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ويعرفه حق المعرفة, ولكن أنانيته وطمعه وولعه بولاية الري وجرجان دفعه إلى الاقدام على هذه الجريمة الشنيعة, فخسر الدنيا والآخرة, وكان يردد ليلة اتخاذ القرار:2.

ص: 141


1- عيون أخبار الرضا(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- الصدوق:1/ 108.- بحار الأنوار- المجلسي: 48 /178.
2- اللهوف في قتلى الطفوف- السيد ابن طاووس: 62.

أأترك ملك الري والري منيتي***ام أرجع مأثوماً بقتل حسين

حسين ابن عمي والحوادث جمة***لعمرك ملك الري قرة عينِ(1)3.

ص: 142


1- اللهوف في قتلى الطفوف- السيد ابن طاووس: 193.

القبس /10: سورة آل عمران:38

اشارة

{رَبِّ هَب لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّة طَيِّبَةً}

موضوع القبس: الحث على تكثير النسل

استحباب تكثير النسل:

قال الله تبارك وتعالى {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} (آل عمران: 38).

{هُنَالِكَ} مرتبطة بالآيات التي سبقتها عن الصديّقة مريم ونشأتها وتفّرغها لعبادة ربها {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (آل عمران: 37).

وعند ذلك هاجت في قلب النبي الكريم زكريا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) رغبة جامحة لتحصيل ولد صالح كريم ولم يكن ذلك ممكناً بالاسباب الطبيعية لانه كان قد بلغ من الكبر عتيا ووهن عظمه وضعفت قوته وأمراته عاقر فتوجه بالطلب الى الله تعالى لانقطاع الأسباب المرجوة الا منه تبارك وتعالى.

وتوجّه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بنداء {رَبِّ} أي اطلب منك بصفتك ربي الذي توليّت تربيتي والعناية به وإكرامي حتى انعمت عليَّ بمقام النبّوة فسأله ان يهبه ذرية طيبة.

ص: 143

{مِنْ لَدُنْكَ} أي بالرحمة اللدنية الخاصة الخارقة للعادة لانعدام الوسائل الطبيعية وكان واثقاً بقدرة الله تعالى مطمئناً الى رحمته فاستجاب له ربّه {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} (آل عمران:39).روى الشيخ الصدوق عن الريان بن شبيب قال: (دخلت على الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في أول يوم من المحرم فقال: يا ابن شبيب أصائم أنت؟ قلت:لا، فقال: ان هذا اليوم هو اليوم الذي دعا فيه زكريا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ربه عز وجل فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} فاستجاب الله له وأمر الملائكة فنادت زكريا {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّ-رُكَ بِيَحْيَى} فمن صام هذا اليوم ثم دعا الله عز وجل استجاب الله له كما استجاب الله لزكريا)(1)

ومما تفيده الآية الكريمة الحث على طلب الذرية الصالحة الطيبة والسعي لتحصيلها وعدم فقدان الامل بالله تبارك وتعالى، وهو امر فطري ينبع عن غريزة قوية للانجاب لان الولد امتداد لوجود الانسان وبقاء لذكره وحفظ لانجازاته التي حققها في حياته {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} (مريم: 5-6) مع مافيه من الانس والسعادة والبهجة، قال تعالى {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (الكهف: 46) فاذا انضمت هذه الدوافع الفطرية والغريزية الى68

ص: 144


1- عيون أخبار الرضا(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):ج2/ 268

حث الشريعة المقدسة على الزواج وتحصيل الولد وتكثير النسل وجعلته من المستحبات الاكيدة التي تدخل السرور على قلب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)،كانت مبررات كافية للدعوة الى تكثير النسل. وتوجد أحاديث كثيرة للحثّ عليه، كرواية الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): تزوّجوا فإنّي مكاثرٌ بكم الأمم غداً في القيامة حتّى أن السقط ليجئ محبنطئا(1), على باب الجنة فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: لا حتى يدخل أبواي الجنة قبلي)(2).

وروي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنّه قال: (ميراث الله من عبده المؤمن الولد الصالح يستغفر له)(3).

وروي عن بكر بن صالح قال: (كتبت إلى أبي الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): أني اجتنبت طلب الولد منذ خمس سنين وذلك أن أهلي كرهت ذلك وقالت: إنّه يشتد عليّ تربيتهم لقلّة الشئ فما ترى؟ فكتب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إليّ: اطلب "الولد" فإن الله عز وجل يرزقهم)(4).

وفي حديث عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن أولاد المسلمين موسومون3.

ص: 145


1- قال أبو عبيدة: المحبنطي - بغير همز - المتغضب المستبطئ للشئ، والمحبنطئ - بالهمز - العظيم البطن المنتفخ. قال: ومنه قيل لعظيم البطن: "حبنطأ" ويقال: السقط والسقط. وقال أبو عبيدة: يقال: سقط وسقط وسقط. معاني الأخبار- الشيخ الصدوق: 291.
2- من لا يحضره الفقيه - الشيخ الصدوق: 3/ 383.
3- من لا يحضره الفقيه- الشيخ الصدوق: 3/ 481.
4- الكافي- الشيخ الكليني: 6/ 3.

عند الله شافع ومشفع، فإذا بلغوا اثنتي عشرة سنة كانت لهم الحسنات، فإذا بلغوا الحلم كتبت عليهم السيئات)(1).وفي حديث عن الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (اما علمت أن الولدان تحت العرش يستغفرون لآبائهم، يحضنهم ابراهيم وتربّيهم سارة في جبل من مسك وعنبر وزعفران)(2).

الوجه في تفسير كثرة الزوجات عند المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ):

ولعل هذا أحد الوجوه التي تُفسّر اقدام المعصومين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على تكثير الزوجات حتّى بلغت عند النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تسعاً(3), وعند أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ثمان(4)، وإنّما سُمّيت الزهراء (علیها السلام) بالكوثر لأنّ الله تعالى أكثر ذريّة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) منها، واستشهدت وهي في الثامنة عشرة من عمرها(5), ولها الحسن والحسين والعقيلة زينب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأسقطت المحسن.

فالإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) جرى على سنّة أجداده الطاهرين وهو أولى الناس بهم.

ويضاف إلى هذا الوجه العام وجه خاص وهو وجود عدة شواهد تشير إلى

ص: 146


1- الكافي- الشيخ الكليني: 6/ 3.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 5/ 334.- الطبقات الكبرى- ابن سعد: 3/ 19.
3- وقيل اكثر من ذلك. راجع: زوجات النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سعيد أيوب.- أزواج النبي وبناته- الشيخ نجاح الطائي.
4- وقيل اكثر من ذلك. راجع: الطبقات الكبرى- ابن سعد: 3/ 19.- موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الكتاب والسنة والتاريخ- الريشهري: 1/ 108.
5- تاج المواليد (المجموعة) الشيخ الطبرسي: 22.

خطة استراتيجية وضعها الأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وساروا عليها تستهدف تكثير نسل آل أبي طالب بعد واقعة كربلاء, ردّاً على سياسة الاستئصال والاجتثاث التي اتّبعها معهم أعداءهم تحت شعار (لا تبقوا لأهل هذا البيت من باقية) بحيث خلت بيوت بأكملها من الرجال كدور عقيل بن أبي طالب والعباس بن أمير المؤمنين وأخوته الذين استشهدوا جميعاً في كربلاء.سُئل الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن سبب حنوّه الزائد على آل عقيل فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إنّي اذكر يومهم مع أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فأرقّ لهم)(1), ولما قدّم له المختار أموالاً كثيرة بنى بها دور عقيل التي هدّمها الأمويّون(2).

منهجية الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تكثير النسل:

فكان للإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) خمسة عشر ولداً بين ذكر وأنثى(3), وتولّى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تربية الولد الوحيد الذي تركه عمّه العباس بن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), وهو عبيدالله, وزوّجه بنته خديجة وجمع له معها ثلاث حرائر من بنات الأشراف يقصد بذلك تنمية نسل عمّه العبّاس(4).

وكان الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقبل هدايا هارون العباسي ويقول: (والله لولا إني

ص: 147


1- كامل الزيارات- ابن قولويه: 107.
2- سيرة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)- الشيخ القرشي: 15/ 201.
3- الإرشاد- الشيخ المفيد: 2/ 155.
4- بطل العلقمي- للشيخ المظفّر: 3/ 369.

أرى من أزوّجه بها من عزّاب بني أبي طالب لئلاّ ينقطع نسله ما قبلتُها أبداً)(1).هذه شواهد على السياسة الممنهجة أو الإستراتجية التي خطط لها الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ليحبط مشروع الأعداء في إنهاء هذا البيت الطاهر وأثمرت خطوات الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن هذا العدد الهائل من السادة الأشراف, وفيهم الكثير من مراجع الدين والعلماء والقادة والمفكّرين والصلحاء وأعلام الأمّة.

مبررات تكثير النسل لشيعة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ):

إنّ شيعة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) مدعوّون لبذل الوسع في تكثير النسل لعدّة مبررات منها:

1-الأخذ بسنة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وتلبية رغبتهم التي نقلتها الأحاديث الشريفة المتقدمة.

2-إنّ فيها استجابة لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال:24).

وفي الذريّة حياة مستمرة للإنسان حتّى يوم القيامة قال الشيخ الصدوق في الفقيه: (روي أنّ من مات بلا خلف فكأنّ لم يكن بين الناس، ومن مات وله خلف فكأنّه لم يمت)(2).

3-الذرية مصدر لكثير من الطاعات للوالدين حتى بعد موتهم كحديث

ص: 148


1- وسائل الشيعة (آل البيت)- الحر العاملي: 17/ 216/ح11.
2- من لا يحضره الفقيه- الشيخ الصدوق: 3/ 481.

السقط الذي تقدم في الروايات الشريفة، وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في المرض يصيب الصبي، قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إنّه كفّارة لوالديه)(1)، ويلخص النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بعض هذه الطاعات بقوله (إنّ ولد أحدكم إذا مات أُجر فيه، وإن بقي بعده استغفر له بعد موته)(2), والحديث النبوي المشهور (إذا مات المرء انقطع عمله إلاّ من ثلاث)(3), أحدها ولد صالح يدعو ويستغفر له.وفي الحديث عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن الله ليرحم الرجل لشدة حبّه لولده)(4), وروى الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): مرّ عيسى بن مريم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بقبر يعذّب صاحبه، ثمّ مرّ به من قابل فإذا هو لا يُعذّب، فقال: يا ربّ مررت بهذا القبر عام أوّل وهو يعذّب، ومررت به العام فإذا هو ليس يُعذّب، فأوحى الله إليه أنه أدرك له ولد صالح فأصلح طريقاً، وآوى يتيماً فلهذا غفرت له بما عمل ابنه)(5).

4-إن اتباع أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) هم الجماعة الخيّرة الطيّبة التي اختارها الله تعالى لتحتضن ولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وتحافظ على الإسلام الأصيل فتكثيرهم اعزاز للدين والولاية وتثبيت لقيم الخير والإنسانية في هذه الأرض فالخير منهم مأمول والشر منهم مأمون، فهم كالشجرة الطيبة المثمرة التي تكون هي أولى5.

ص: 149


1- من لا يحضره الفقيه- الشيخ الصدوق: 3/ 482.
2- من لا يحضره الفقيه- الشيخ الصدوق: 3/ 483.
3- بحار الأنوار- المجلسي: 2/ 23- صحيح ابن حبان- ابن حبان: 7/ 286.
4- ثواب الأعمال- الشيخ الصدوق: 201.
5- وسائل الشيعة (آل البيت)- الحر العاملي: 21/ 359/ح5.

بالتكثير.5-إن في تكثير الشيعة نصرة للإمام الموعود (عج) وتقوية لأركانه وتمهيداً لظهوره المبارك، تطبيقاً لقوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال:60), وأعظم قوة نعدّها لنصرة الإمام (عج) هي هذا النسل المبارك, لأنّ الموارد البشرية هي أعظم الموارد التي تحرص الدول على تحصيلها فاستكثروا منه ما استطعتم.

6-إنّ الشيعة في المنطقة مستهدفون بحرب إبادة واجتثاث كما تشهد به الوقائع الجارية خصوصاً عندنا في العراق وقد فقدنا خلال العقود الأربعة الماضية أكثر من مليون ونصف المليون من الرجال الذين تزهو بهم الحياة في حروب عبثية وإعدامات ومقابر جماعية في عهد النظام المقبور ثمّ في المفخّ-خات والتفجيرات وأنواع آلات القتل والتدمير.

بأي عدد من الذرية يتحقق تكثير النسل؟

وفي ضوء المعطيات المتقدمة لا يسع اتباع أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) السائرين على نهجهم من الرجال والنساء إلاّ أن يبذلوا وسعهم في تحقيق هذه الغاية الشريفة والرغبة الأكيدة للمعصومين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، ومهما قيل من مبرّرات للإكتفاء بواحد أو اثنين من الأبناء فإنّها لا تصمد أمام هذه المعطيات، إلاّ أن يكون السبب خارجاً عن الإختيار, كما لو جرى القضاء الإلهي بذلك، قال تعالى: {وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً} (الشورى:50), أو حصلت موانع صحيّة قاهرة ونحوها.

ص: 150

والسؤال الآن: هو بأي عدد من الذرية يتحقّق معنى تكثير النسل؟ والجواب: إنّه يتحقق بأربعة على الأقل، لأنّ الزوجين إذا أنجبا اثنين -ذكوراً او اناثاً- فإنّهما لم يزيدا شيئاً فإن اثنين ولدا اثنين. ثمّ هما يحتاجان إلى واحد آخر لتعويض حالات النقص في المجتمع لأنّ كثيراً يموتون في عمر الطفولة أو الصبى أو الشباب قبل الزواج بالموت الطبيعي أو الحوادث كالتفجيرات وحوادث السير أو في الحروب ونحوها، أو يتزوّجون ولكن لا ينجبون أو ينجبون دون العدد، فيحصل نقص في المعدّل يسدّه انجاب الثالث، ويتحقق التكثير بالرابع، وكلما زاد على ذلك كان أفضل وأقرّ لعين رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

الغرب وتقليل النسل:

لقد حاولت حكومات الغرب إقناع الشعوب بتحديد النسل وتقليله لكنهم أصيبوا بكارثة حيث بدأ عدد السكّان ينخفض وارتفع عدد المسنين في المجتمع، والجدل الآن دائر عندهم عن كيفية معالجة هذه المشكلة.

واتّبعوا سياسة (التعقيم) في بلاد المسلمين قبل عقدين أو أكثر وفق آليات معيّنة كشفت عنها بعض الوثائق السريّة المسرّبة وحدّدوا مدداً معيّنة حتى يثمر مشروعهم الشيطاني.

وسارت على هذا المنهج بعض الدول الإسلامية - كالجمهورية الإسلامية

ص: 151

في إيران- حيث تبنّت الحكومة(1), في نهاية الثمانينات سياسة تقليل الإنجاب لمنع الانفجار السكّاني - كما قيل- الذي أعتبر السبب في ارتفاع نسبة البطالة وانخفاض مستويات التعليم ونوعية المعيشة - بحسب التقرير- حيث أن معدل النمو تجاوز الذروة بما يقدر ب- (3,2 %) بعد انتصار الثورة الإسلامية وتشجيع الإمام الخميني الراحل (قدس سره) على كثرة الإنجاب لبناء جيش ال-(20) مليون مسلم.لكن بعد عشرين عاماً أظهرت الإحصاءات أن معدل عدد الأطفال المولودين لكل امرأة يصل إلى (1,6) أي أقل من(2,1) الذي يُعتبر الحد الأدنى المطلوب في الدول الصناعية لتجنب الانخفاض في عدد السكان، لذا تحرّكت القيادات الإيرانية منذ العام الماضي للتشجيع على الإنجاب من جديد.

المباركة في تكثير النسل:

ونحن نعتقد أنّ تكثير النسل ليس السبب في تلك المشاكل التي أشار اليها التقرير, لأنّه عملية مباركة مثمرة تعود بالازدهار على الفرد والمجتمع، وأنّ أقوى الموارد التي تمتلكها الدول هي الموارد البشرية، خذ الصين مثلاً فإنّ سكّانها تجاوز المليار ومئتي مليون، واقتصادها في نمو مضطرد أقلق الدول الصناعية الكبرى.

والغريب أن الزوجين يبذلان كل ما عندهما من أجل تحصيل الولد، وقد يسافران إلى دول بعيدة لتحقيق ذلك، لكن من يرزقهما الله تعالى الولد يتوقفان عن إنجاب المزيد مراعاة لأوضاع معيّنة، كالوضع الاقتصادي والمعيشي، وقد

ص: 152


1- المعلومات من تقرير نُشر على المواقع الالكترونية بتاريخ: 22/ 4/ 2013م.

تقدم في الرواية عن الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عدم الإصغاء لمثل هذه المبرّرات، وقال تعالى: {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} (النور:32). والوارد في الروايات عكس ذلك, فإن الرجل يُرزق إذا تزوج وأنجب، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الرزق مع النساء والعيال)(1)، فتكثير الإنجاب أحد أسباب الرزق للفرد والازدهار للدولة، وتقليل الإنجاب لأجل تخفيف الأعباء الاقتصادية وغيرها تفكير خاطئ لدى الدولة والفرد على حد سواء.

منع الانجاب كقتل الإنسان:

إن المنع من الإنجاب سواء كان بالطرق الطبيعية أو بالعلاجات بلا مسوِّغ معقول ومقبول يتطابق بالنتيجة مع قتل الإنسان الموجود, فكلاهما يحرم الأمة من هذا الوجود الذي جعله الله تعالى خليفته في أرضه قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} (الإسراء:31), (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) (الأنعام:151).

إهمال تربية الأطفال قتل معنوي بحقهم:

ولا نغفل أيضاً عن قتل معنوي آخر من خلال إهمال تربية الأطفال تربية صالحة فيصبحوا أفراداً سيئين منحرفين وربما يتحولون إلى مجرمين ويجلبون الشر للمجتمع، ومن أمثلة القتل المعنوي أيضاً, الهجرة إلى الغرب وعموم بلاد الكفر وتعريض الأبناء لتلك الضغوط والمغريات والشهوات فيبتعدون عن الدين

ص: 153


1- الكافي- الشيخ الكليني: 5/ 330.

ويلتحقون بالمجتمعات الضالة فهذا كله قتل معنوي للإنسان على خلاف ما أراده الله تعالى ورسوله.

تعليمات الأئمة(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لتكثير النسل:

ولأجل تحقيق الإنجاب لمن ليس عنده ذرية ولتكثير النسل فقد علَّم الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) شيعتهم أعمالاً لعلّها تكون سبباً لرزقهم بالأولاد منها:

1-رفع الصوت بالآذان في المنزل، روى هشام بن ابراهيم صاحب الإمام الرضا(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أنه شكى إلى أبي الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سقمه, وأنه لا يولد له, فأمره أن يرفع صوته بالآذان في منزله، فقال: ففعلت، فأذهب الله عني سقمي وكثر ولدي)(1).

2-الاستغفار، ففي الكافي شكا الابرش الكليني إلى أبي جعفر- الباقر- (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه لا يولد له وقال له علمني شيئاً، فقال له: استغفر الله في كل يوم (أو) في كل ليلة مائة مرة, فإن الله عز وجل يقول: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً 10 يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً 11 وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} (نوح:12)(2), وفي رواية أخرى (فإن نسيته فاقضه).

3-الدعاء، سواء بالنصوص المذكورة في القرآن الكريم أو كتب الأدعية لطلب الولد كقوله تعالى: {رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} (آل عمران:38),

ص: 154


1- الكافي- الشيخ الكليني: 3/ 308.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 6/ 8.

وقوله تعالى: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} (الفرقان:74), وقوله تعالى: {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} (الأنبياء:89), أو تدعو بأي شيء يعبّر عمّا في قلبك.4-التوسّل بالمعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وتوجد حكايات موثوقة كثيرة لمؤمنين توسّلوا إلى الله تعالى بالزهراء (علیها السلام) أو بالحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أو بالإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فتحقّق مرادهم فيما طلبوا.

هذا درس نستفيده من حياة الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أحببنا بيانه, لأن فيه إدخالاً للسرور على النبي وآله الأطهار (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، ولأنه يدلّنا على تكليف مهم موجّهٍ إلينا فاعتبروا يا أولي الأبصار.

ص: 155

القبس /11: سورة آل عمران:103

اشارة

{وَٱعتَصِمُواْ بِحَبلِ ٱللَّهِ جَمِيعا}

موضوع القبس: أساس وحدة المسلمين

يتحدث المسلمون بجميع طوائفهم عن ضرورة الوحدة ونبذ الخلاف, ويعقدون المؤتمرات والندوات والحوارات تحت هذا العنوان, وتصرف الأموال الضخمة في هذا السبيل دون أن يتحقق تقدّم يذكر, وربما ازدادوا بعداً عن بعضهم، فأين الخلل ولماذا هذا العجز عن الوصول إلى الحل؟

يدلّنا القرآن الكريم على ما تتحقق به الوحدة بين المسلمين فانه يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران:103).

وقد وردت الروايات في تفسير الآية بأن حبل الله هو القرآن الكريم وولاية علي بن أبي طالب والأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من ذريته(1)، وتشهد نفس الآية على هذا التفسير، لأنها ذكرت أن العرب كانوا أعداء متباغضين فوحدّهم الله

ص: 156


1- أنظر: التفسير الأصفى- الفيض الكاشاني: 1/ 165- تفسير مجمع البيان- الشيخ الطبرسي: 2/ 356- بحار الأنوار- المجلسي: 36/ 19- تفسير الرازي- الرازي: 8/ 173.

تبارك وتعالى وجمع كلمتهم بنعمة الإسلام. وقد أشارت آية أخرى إلى أن تمام هذه النعمة ونظام عقدها ولاية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة:3).

وقد روى المفسرون من الطائفتين أنها نزلت بعد تنصيب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأخيه وابن عمه علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) خليفة وولياً وهادياً للأمة بعده يوم الغدير بعد حجة الوداع(1).

وإلى هذا أشارت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء(علیها السلام) في خطبتها في مسجد أبيها(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (فجعل إمامتنا نظاماً للملة، وطاعتنا أماناً من الفرقة)(2).

وولاية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ليست قضية عاطفية تجاه شخصيته العظيمة, ولا عقيدة نظرية نؤمن بها, وإنما هي باب ينفتح منه ألف باب من الاعتقادات والأحكام والآداب, تكون برنامجاً كاملاً في المعتقد والسلوك على صعيد الفرد والأمة.

والأمة لم تقع فيما وقعت فيه من التخبّط والصراع والفتن المضلّة التي تسببت في إزهاق أرواح الأجيال بعد الأجيال من الأبرياء وخراب البلاد وانهيار الحضارة وعدم الاهتداء إلى الحق إلا بسبب عدم تمسكها بحبل الله المتين وصراطه4.

ص: 157


1- أنظر: تفسير العياشي- العياشي: 1/ 293- بحار الأنوار- المجلسي: 37/ 134- مناقب علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- ابن مردويه الأصفهاني: 232.
2- الاحتجاج - الشيخ الطبرسي: 1/ 134.

المستقيم وعروته الوثقى التي لا انفصام لها. وهذا ما دعا عبد الله بن العباس وغيره من الصحابة العارفين يتأوه إلى نهاية عمره مما حصل في رزية يوم الخميس التي سبقت وفاة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بأيام(1)، ويقول عن مسألة (العول) أي النقص في فرائض الميراث التي قال بها من لم يأخذ العلم من نميره الصافي وفندّها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والأئمة من بعده (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وفيها يقول عبد الله بن العباس بعد أن اثبت بطلان القول بالعول في رواية طويلة, قال فيها: (وأيمُ الله لو قدَّم من قدَّم الله وآُخّر من آخّر الله ما عالت فريضة)(2), وهو يقصد بحسب الظاهر التقديم والتأخير في استحقاق الميراث, لكنه كان يُريد معنى أعمق من ذلك بأن الأمة لو قدّمت لولاية أمرها من قدّمه الله تبارك وتعالى واختاره لخلافة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لما نقصت فريضة أو عُطّلت سُنّة.

إن استحقاق أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) للخلافة بعد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان سابقاً على يوم الغدير، أما الاحتفال الذي أقامه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في غدير خم في طريق عودته إلى المدينة بعد حجة الوداع ودعا المسلمين إلى مبايعة علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالولاية والإمامة بعده (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تلبية لأمر الجليل تبارك وتعالى حيث انزل الآية الكريمة {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة:67).0.

ص: 158


1- أنظر: بحار الأنوار- المجلسي: 30/ 531 - المراجعات- السيد شرف الدين: 352.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 7/ 80.

أقول: أما هذا الاحتفال فكان كاشفاً عن هذا الاستحقاق وإعلاناً رسمياً للتنصيب، وقد كان الكثير من الصحابة الأجلاء (رضوان الله تعالى عليهم) يعلمون أحقية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وبولايته وعُرفوا بتشيعهم له في وقتٍ مبكر من حياة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).فالنقاش إذن في دلالة قول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يوم الغدير (من كنت مولاه فهذا علي مولاه)(1), أو المناقشة في نزول الآية في قضية الغدير لا يقدّم ولا يؤخر, وهي شبهة مقابل البديهة - كما يقول العلماء- لأن حق أمير المؤمنين في خلافة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم يكتسبه من ذلك اليوم, بل استحقه بما يحمل من صفات تؤهله لهذا المقام الشريف, وقد أعلن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هذا الاستحقاق في مناسبات عديدة سبقت قضية الغدير بسنين وكان بعضها -كحديث الدار- في وقت مبكر من البعثة في مكة المكرمة وفي حياة أبيه أبي طالب (رضي الله عنه) حتى تهكم بعض مشركي قريش من أبي طالب وقال له أن محمداً يدعوك إلى طاعة ولدك الصغير عليّ. (2)

أيها الأحبة من كل طوائف المسلمين.

إنني أريد بهذا الكلام أن أقول: أن الوحدة بين المسلمين تتحقق بالعودة إلى كتاب الله تبارك وتعالى, وسنّته الشريفة الصحيحة بعد تنقيحها من التلاعب والتزوير والدس الذي قام به المنافقون، وحينئذ سيلتقي جميع المسلمين عند0.

ص: 159


1- الكافي- الشيخ الكليني: 1/ 420.
2- علل الشرائع- الشيخ الصدوق: 1/ 170.

الحقائق التي يعلمها الله تبارك وتعالى.والوصول إلى الحقيقة وكشفها للناس وظيفة العلماء الأجلاء، ولا نصل إلى الحقيقة إلا بتحرير العقول من التقليد والتعصب والتحجّر, وذلك بفتح باب الاجتهاد ودعوة العلماء الذين حصّلوا العلوم التي تؤهل لممارسة عملية استنباط الحكم الشرعي من مصادره الأصلية إلى عدم الوقوف على المذاهب المعروفة وتطبيق فتاوى أئمة المذاهب على الحالات التي تعرض عليهم, وإنما يرتقون بمداركهم إلى استنباط الحكم الشرعي من الكتاب والسنة، وسيجد علماء المسلمين جميعاً أنفسهم عند تلك القمة السامقة متفقين متوحدين ينهلون من معين واحد ولا يختلفون إلا بالمقدار الطبيعي الذي يحصل بين علماء أي حقل من حقول العلم والمعرفة.

وقد وجدتُ خلال بحثي الفقهي الاستدلالي أن كثيراً من الروايات التي يستند إليها الفقهاء السنة والشيعة في استنباط الحكم الشرعي متطابقة الألفاظ فضلاً عن المعاني، ويعود الفضل في ذلك إلى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والأئمة من بنيه الطاهرين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حيث بثوا عدداً ممن حملوا جملة من أحكامهم ومعارفهم, ولا يجد المسلمون من غير أتباع أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) حزازة في الأخذ عنهم, كعبد الله بن العباس, ونقل هؤلاء إلى عموم المسلمين علوم الشريعة من معدنها الصافي، وهذا نابع من رحمتهم وحبّهم للناس جميعاً حتى وإن أعرضت الأمة عن إعطائهم المكانة التي يستحقونها.

أرجو أن يساهم السادة الحضور, وكل من يسمع هذا النداء المخلص لتفعيل

ص: 160

هذه الدعوة المباركة في أروقة حواضر العلم صانها الله تبارك وتعالى في بلاد المسلمين.وأسأل الله تعالى أن يأخذ بأيديكم لما فيه الصلاح والإصلاح وأن يثبت لكم قدم صدق عند مليك مقتدر، إنه ولي النعم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته...

ص: 161

القبس /12: سورة آل عمران:104

اشارة

{وَلتَكُن مِّنكُم أُمَّةٞ يَدعُونَ إِلَى ٱلخَيرِ وَيَأمُرُونَ بِٱلمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ ٱلمُنكَرِ ۚ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ٱلمُفلِحُونَ}

موضوع القبس: وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر(1)قرآنياً/1

* موضوع القبس: وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر(1) قرآنياً/1

دلّت الآية الشريفة على الوجوب, الذي تفيده هيأة: {وَلْتَكُن}، وأكّده بجعل امتثال هذه الوظيفة سبيل الفلاح؛ إذ أن ذيل الآية ظاهر في الحصر.

مضافاً إلى وقوعها في سياق الأمر بالوحدة والاعتصام بحبل الله تعالى وعدم التفرّق، فقبلها قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} (آل عمران:103), وبعدها: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَ-ئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:105), فكأنَّ وضع الآية في السياق لإلفات نظر الأمة إلى ما تتحقق به وحدتهم وعزّتهم وقوة بنيانهم, من خلال الالتزام بأداء هذه الفريضة العظيمة.

إن قلتَ: إن استفادة الوجوب من الآية منافٍ لعموم الخير الشامل للواجب والمستحب فكيف تكون الدعوة إليه واجبة، فكذا الأمر بالمعروف والنهي عن

ص: 162


1- القبس يقع ضمن بحث استدلالي في وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من القرآن الكريم وقد تناول سماحته عدة آيات تدل على ذلك وقد فرقّناها بحسب ترتيب السور

المنكر؟قلتُ: هذه شبهة مقابل البديهة لإجماع المسلمين على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل إجماع العقلاء كافة فلا وجه للتشكيك فيه، ومع ذلك نقول في الجواب:

1-إن متعلق الوجوب هو أصل الوظيفة لا مصاديقها، أما المصاديق فلها حكمها، فالمطلوب في الآية أن تكون الأمة متصفة بهاتين الصفتين، أما التطبيق فيكون لكل مورد بحسبه من الوجوب أو الاستحباب, كما لو افترضنا وجوب قيام الأب بأمر ولده غير البالغ بالصلاة وهو فعل مستحب.

2-ولو تنزّلنا ونظرنا إلى المصاديق فإنه يمكن الجواب بتقريبين:

أ-تقييد (الخير) بما هو واجب, كالدعوة إلى الإسلام كما في جملة من التفاسير، وكذا يقيَّد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما هو واجب.

ب- أن يؤخذ (الخير) ووظيفة الأمر والنهي على عمومها وفيها الواجب والمستحب، وحينئذٍ يُقال أن هذا المقدار من اتصاف المصاديق بالوجوب كافٍ لوصف العنوان بالوجوب.

إن قلتَ: تقييد الوظيفتين بالواجب ليس أولى من حمل الطلب على الاستحباب.

قلتُ: يرد عليه ما قلناه من كفاية الوجوب في الجملة للقول بالوجوب، مضافاً إلى إجماع المسلمين على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ص: 163

والوجوب شامل للأمة كلها؛ لأن الظاهر كون (من) في {مِّنكُم} بيانيّة، فهي لبيان كون الطلب موجهاً لهذه الأمة أن تكون أمة تدعو إلى الخير وتأمر وتنهى لتكون هي الأمة المُفّلحة دون غيرها من الأمم، ومعنى شمول وجوبها للأمة, أن الأمة بما هي أمة مخاطبة بالوجوب على نحو المجموع وليس على نحو الاستغراق لكل فرد فرد.وتشهد له الآية التالية: {كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ لِلنَاسِ تَأمُرُونَ بِالمعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران:110), والمورد يكون نظير قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} (الحج:30), إذ ليس عندنا أوثان رجس وأوثان غير رجس، فالأوثان كلها رجس، لكن المراد منشأ اجتناب الأوثان لكونها رجساً، أو المراد بيان نوع الرجس المأمور باجتنابه هنا وأن موضوعه الأوثان، ونحو ذلك.

ويؤيد هذا - أي كون (من) بيانية والخطاب موجه إلى الأمة جميعاً- أمران:

1-الآيات العدّيدة التي وصفت عموم المؤمنين والمؤمنات بهذه الصفة, وليس بعضهم، وقد تقدم ذكر جملة منها في الصنف الثاني من الآيات.

2-ما رواه العياشي في تفسيره بسند غير تام عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في ذيل هذه الآية قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لأنه من لم يكن يدعو إلى الخيرات ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من المسلمين فليس من الأمة التي وصفها الله، لأنكم تزعمون أن جميع المسلمين من أمة محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقد بدت هذه الآية وقد وصفت أمة محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالدعاء إلى الخير و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن لم يوجد فيه الصفة التي وصفت بها فكيف يكون من الأمة وهو على خلاف ما

ص: 164

شرطه الله على الأمة ووصفها به)(1).((وقد نسب الشيخ الطوسي (قدس سره) إلى الزجاج أن المراد من (من) هنا هو تخصيص المخاطبين من بين سائر الأجناس، ورتب عليه الأمر والنهي فرض عين لا كفاية))(2).

ومعنى الآية: اجعلوا منكم - أي من أمتكم- يا أمة الإسلام أمة تتصف بأنها تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، كما تقول للشخص اجعل من ولدك ابناً صالحاً متفوقاً، أي اجعل ولدك هكذا، أو تخاطب الحوزة العلمية وتقول: اجعلوا منكم حوزة رسالية عاملة مخلصة.

وهذا ما نفهمه من كونها بيانيّة، أما صاحب الميزان فقد حكى هذا القول عن البعض، وقال: (الظاهر أن المراد بكون (من) بيانية كونها نشوئية ابتدائية)(3).

أقول: كقوله تعالى: {هُوَ الذِي خَلَقَكُم مِنْ تُرَابٍ} (غافر:67), أي أن نشوءكم من التراب، كقوله تعالى: {مِنهَا خَلَقنَاكُم وَفِيهَا نُعِيدُكُم} (طه:55).

وقال الأكثر بأنها تبعيضية, وبنى على ذلك كون الوجوب كفائيّاً، وذكروا لذلك وجوهاً يمكن تحصيلها من كلام السيد الطباطبائي قال (قدس سره) (والذي ينبغي أن يُقال: أن البحث في كون (من) تبعيضية أو بيانية لا يرجع إلى ثمرة محصلة،ي.

ص: 165


1- تفسير العياشي- العياشي: 1/ 195/ح217.
2- حكاه في فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن التبيان: 2/ 541 وفقه القرآن للراوندي: 1/ 356.
3- الميزان في تفسير القرآن: 4/ 427، الأعلمي.

فإن الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمور لو وجبت لكانت بحسب طبعها واجبات كفائية، إذ لا معنى للدعوة والأمر والنهي المذكورات بعد حصول الغرض، فلو فرضت الأمة بأجمعهم داعية إلى الخير آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر كان معناه أن فيهم من يقوم بهذه الوظائف، فالأمر قائم بالبعض على أي حال، والخطاب إن كان للبعض فهو ذاك، وإن كان للكل كان أيضاً باعتبار البعض، وبعبارة أخرى المسؤول بها الكل والمثاب بها البعض، ولذلك عقبه بقوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ}, فالظاهر أن (من) تبعيضية، وهو الظاهر من مثل هذا التركيب في لسان المحاورين ولا يصار إليه إلى غيره إلا بدليل)(1).أقول: بنى (قدس سره) استظهاره كون (من) تبعيضية على عدة وجوه:

1-إن طبيعة مثل هذه الوظائف أن تكون كفائية (فالأمر قائم بالبعض) حتى لو كان الخطاب للكل.

2-إن ظاهر هذه التراكيب ذلك ولا يصار إلى غيره إلا بدليل.

3-تعقيبه بقوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ}.

ويرد على الأول: بالتفريق بين مقام الخطاب ومقام الامتثال، وبحثنا في الأول, وهل أن الخطاب شامل للجميع أم لا؟ أما تحقق المطلوب بامتثال البعض فهذا من الثاني, وليس هو محل البحث، فالمطلوب من الأمة أن تكون كلها متصفة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان الغرض يتحقق بامتثال البعض، وحينئذٍي.

ص: 166


1- الميزان في تفسير القرآن: 4/ 427، الأعلمي.

يكون سقوط الفرض عند أداء البعض لانتفاء موضوعه، ولا يعني هذا عدم ثبوت الوجوب قبل هذا على البعض الآخر, فلا يستفاد منه الوجوب الكفائي.وفرض الوجوب على الجميع مع الاكتفاء بقيام البعض واضح المصلحة في هذه الفريضة المهمة، ليرى كل فرد أنه مسؤول عن امتثالها، بينما لو كان الوجوب موجهاً إلى البعض، فإنه سيكون سبباً للتقاعس عن أدائها, باعتبار أن الوجوب غير متعين به, فيؤدّي إلى تعطيل الفريضة, كما يشهد به الواقع والتجارب؛ وكما ضُيِّعت صلاة الجمعة المباركة بسبب القول بوجوبها التخييري وهكذا.

ويظهر من قوله (قدس سره): (المسؤول بها الكل) الاعتراف بذلك، وسنبحث مفصلاً في هذا الموضوع إن شاء الله تعالى.

وأما الثاني: فإنها دعوى, ولو سلّمناها, فإن في المقام قرائن متصلة ومنفصلة -كقوله تعالى: {كُنتُم خَيرَ أمَّةٍ}- على خلاف الظاهر المُدّعى.

أما الوجه الثالث: فتقريبه أنه يرى أن الحصر في قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ} إضافي، وبناءً على هذه القرينة فقد قرَّب بعض الأعلام (قدس سره) كون (من) تبعيضية بأن قوله تعالى: {هُمُ المُفلِحُونَ} (معناه أن أولئك كاملو الفلاح لوضوح أن الآتي بالواجب الكفائي أفضل من غيره، فقوله: {هُمُ} من قبيل {هُمُ العَدُوُّ} فليس معناه أن غيرهم ليس مفلحاً، بل معناه أكملية فلاح الآمر الناهي من فلاح غيره، كما أن معنى {هُمُ العَدُوُّ} أشدّيّة عداوة هؤلاء من عداوة غيرهم)(1).7.

ص: 167


1- الفقه- السيد محمد الشيرازي: 48/ 157.

أقول: يرد عليه:1-اعتبار الحصر إضافياً دعوى على خلاف الظاهر، والقياس ممنوع، فالحصر مطلق، وإن غير الآمر الناهي لا يكون مفلحاً بهذا العنوان، وإن كان على خير بدرجة من الدرجات.

2-لو تنزّلنا فإن هذا التفاضل والإضافة بلحاظ الامتثال، ونحن لا ننكره؛ لأن من المتفق عليه عدم حصول الامتثال من قبل الكل؛ لأن الموضوع ينتفي بامتثال البعض، فلا يبقى للوظيفة موضوع، لكن كلامنا ليس بلحاظ مقام الامتثال، وإنما في مقام التكليف وإلقاء العهدة وما ذكره المستشكل لا يتعرض له.

ويمكن الاستدلال على كون (من) تبعيضية برواية مسعدة بن صدقة(1) عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)(2).

نعم يمكن قبول التبعيضية في مقام الامتثال لأنه ليس من المتوقع كون المطلوب أن يكون كل فرد فرد داعياً إلى الخير آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر؛0.

ص: 168


1- قال: سمعته يقول: وسُئل عن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر أواجب هو على الأمة جميعاً؟ (فقال: لا، فقيل له: ولم؟ قال: إنما هو على القوي المُطاع العالم بالمعروف من المنكر، لا على الضعيف الذي لا يهتدي سبيلاً إلى أي من أي يقول من الحق إلى الباطل، والدليل على ذلك كتاب الله عز وجل قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} {آل عمران: 104}, فهذا خاص غير عام، وكما قال الله عز وجل: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} {الأعراف: 159} ولم يقل: على أمة موسى ولا على كل قومه، وهم يومئذ أمم مختلفة، والأمة واحد فصاعداً، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} {النحل:120} يقول: مطيعاً لله عز وجل، وليس على من يعلم ذلك في هذه الهدنة من حرج إذا كان لا قوة له ولا عدد ولا طاعة...). وسائل الشيعة (آل البيت)- الحر العاملي: 16/ 126/ح1.
2- راجع تفصيل مناقشتها في كتاب فقه الخلاف:8/ 200.

لوجود العصاة والجهلة بالحكم والموضوع والقاصرين والمقصّرين والعاجزين عن الامتثال ونحو ذلك، وهذا لا يضر بما استظهرناه من كون عهدة الوجوب ملقاة على الأمة كلها، لصدق اتصاف الأمة بهذا الوصف إذا تحقق الغرض بالبعض، كما تُوصف الأمم الغربية بأنها متقدمة تكنولوجياً, مع العلم بأن بعض أفرادها كذلك؛ لأن هذا البعض كافٍ في صدق العنوان وليس المطلوب أزيد, لوجود من هم في مهن لا ترتبط بهذا العنوان كالأعمال الخدمية.ويمكن الاستدلال بالآية على رد القول بالوجوب الكفائي من وجهين:

1-التعبير بالأمة وهي (كل جماعة يجمعهم أمرٌ ما, إما دينٌ واحد أو زمان واحد أو مكان واحد)(1), فهي جماعة كبيرة، وعلى القول بالوجوب الكفائي فإن الأمر يتأدى بواحدٍ أو قريب منه، لذا يعرّفون هذا الواجب بأنه إذا قام به شخص سقط عن الآخرين، فهذا نقض بالآية عليهم.

2-ولو تنزلنا وقلنا بالوجوب الكفائي على فئة معينة من المسلمين التي سمّيت بالأمة في الآية فإنه أخصّ من المدّعى الذي هو الوجوب الكفائي مطلقاً؛ لأن الظاهر من عمل مثل هذه الجماعة الخاصة القيام بالوظيفة بلحاظ المستوى الاجتماعي لأداء الفريضة, أي المعروف والمنكر, الذي يتحول إلى ظاهرة اجتماعية؛ لأن مثلهما يحتاج إلى جماعة متخصصة ولها مؤهلاتها وأدواتها، فتُكلَّف أمة أو جماعة بهذه الوظيفة على مستوى المجتمع كشرطة الخميس التي أسسها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، كالأمر الكفائي الصريح بنفر البعض للتفقه في8.

ص: 169


1- غريب القرآن- الأصفهاني:23_ مجمع البحرين- الشيخ الطريحي: 1/ 108.

الدين.أما أداء الفريضة على المستوى الفردي فلا دليل على كونه كفائياً؛ لأنه ولو بأدنى مراتبه ممكن للجميع، فهو واجب عيني على الجميع، وقد بحثناه مفصلاً في كتاب مستقل(1).9.

ص: 170


1- للوقوف على تفصيل الكلام حول وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر راجع: فقه الخلاف: ج8,ج9.

القبس /13: سورة آل عمران:110

اشارة

{كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِٱلمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ ٱلمُنكَرِ}

موضوع القبس: وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر قرآنياً/2

دلّت الآية على وجوب الوظيفة على الأمة حيث جعلتها أهم صفة تتميز بها، ولإبراز أهميتها فقد قُدّمت على الإيمان بالله تعالى.

و(كان) هنا تامة تفيد الوجود ولزوم الاتصاف وأن من شأنها ذلك فيكون المعنى وجدتم وفيكم شأنية أن تكونوا خير أمة، واستعمل الماضي لتأكيد الحصول والوقوع, وأنه مستمر إلى المستقبل، كلزوم الأسماء الحسنى للذات المقدسة في مثل قوله تعالى: {وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} (النساء:158).

ويمكن أن تكون بمعنى أنتم خير أمة أُخرجت للناس نظير قوله تعالى: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} (مريم:29), أي من هو في المهد.

وليست كان الناقصة التي تقبل انتفاء الصفة وانفكاكها عن الموصوف، ولو اعتبرناها ناقصة فمعناها سبْق ذلك في علم الله تعالى والتعبير عنه بالماضي لتأكيد تحققه.

أما استعمال لفظ (كان) بالماضي فلا يخلو من تكريم لهذه الأمة؛ لأنه أُخذ بنظر الاعتبار مقارنتها بكل الأمم السابقة, وأن ذلك ثابت وواقع لا محالة,

ص: 171

كوقوع أحداث الزمن الماضي.ثم أفادت الآية شرط هذه الخيرية بأنكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، فخيريتها على جميع الأمم مستمرة ما دامت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فالآية ظاهرة في الممارسة الفعلية لهذه الوظيفة والتحرك بها، وليس في شأنية الاتصاف أي أن خيريتها ليست من جهة أنها مأمورة بهذه الوظيفة، وأن من شأنها القيام بها، وأن هذه الوظيفة مشرّعة ومجعولة لها.

وهذا وجه أفضليتها على سائر الأمم؛ لأن هذه الوظيفة مجعولة في جميع الديانات السابقة كما تشير إليه جملة من الآيات الكريمة {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} (المائدة:63), {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} (المائدة:79) وغيرها، وكذا الأحاديث الشريفة كمخاطبة قوم شعيب وغيرها.

ولو لم تكن تلك الأمم مأمورة بها لما كان هناك وجه لأفضلية أمة الإسلام عليها، فخيّريّتُهم على سائر الأمم أنهم يواصلون التحرك بهذه الوظيفة الإلهية على مر الأجيال، وإن كان بمستويات متفاوتة من القوة والضعف، وبحسب كثرة العاملين وقلّتهم.

والوجوب هنا موجه إلى الأمة بما هي أمة على نحو ما قلّناه في الآية السابقة، ولا يضر باتصافها بهذا الوصف إذا تحقق الغرض بقيام البعض؛ لنفس البيان هناك.

نعم الخيّريّة على مستوى الأفراد تحصل بأداء هذه الوظيفة، ولو على نحو الشأنيّة, بمعنى أنه إذا كان صادقاً وجاداً في الامتثال، لكن الموضوع انتفى بقيام البعض، فلا يبعد شموله بالخيّريّة بلطف الله تعالى، وهو معنى موجود في

ص: 172

الأحاديث الشريفة بخصوص عدد من الموارد.والتعبير ب-{أُخْرِجَتْ}, فيه إشارة لطيفة لقيام اليدّ الإلهيّة بصنع هذه الأمة بهذه الأوصاف وإظهارها وتقديمها للبشرية لتكون خير أمة، والواقع يشهد أن ما تنعم به الأمم المتحضرة اليوم من رقي وازدهار وأخلاق إنسانية هو من بركات هذه الأمة المرحومة ووجودها, حتى في الأزمنة التي عاشت اندحاراً، فعلى الأمة أن تلتفت إلى قيمتها هذه لتقوم بمسؤولياتها وتتفهم دورها الريادي والقيادي من الأمم الأخرى.

حل التنافي بين الآيتين:

وفي ضوء ما استظهرناه من كون (من) بيانية يتضح التطابق بين هذه الآية وسابقتها، إلا أن الأكثر لما بنوا على كون (من) تبعيضية في الآية السابقة فقد أوردوا إشكاليّة عدم التوافق بينهما.

ونحن لا نرى الإشكال وارداً حتّى على هذا الاحتمال؛ لأن آية {وَلْتَكُنْ} ليس لها مفهوم ينفي خطاب آية {كُنْتُمْ}، ولا مانع من كون التكليف موجّهاً للأمة جميعاً، وتفهمه جماعة معيّنة على أنها مخاطبة أكثر من غيّرها لخصوصيّة فيها, كالحوزة العلميّة أو الوجهاء المتنفذين أو السلطات التنفيذية ونحوها، فيكون خطاب {وَلْتَكُنْ}, تذكيراً وتأكيداً للوجوب العام, وإشعاراً لهذه الجماعة بالوجوب الخاص عليها.

هذا على الفرض المشهوري من وجود إشكال في اجتماع وجوبين على موضوع واحد، وإلا فإننا لا نرى مانعاً من توجه خطاب بالوجوب لعموم الأمة،

ص: 173

وخطاب لجماعة خاصة بالوجوب؛ لتذكيرها بالمسؤولية الخاصة، وموارده في الفقه كثيرة.وعلى تقدير التنافي بين آية {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ}, وآية {كُنْتُمْ}، فقد بُذلت عدّة محاولات لرفع هذا الإشكال، وما قيل أو يمكن أن يقال منها:-

1-إن الآية {كُنْتُمْ}، بلحاظ توجه التكليف إلى مجموع الأمة، أما آية {وَلْتَكُنْ}, فهي بلحاظ الامتثال لما قُلناه: من أن من غير المتوقع تمكن الكل من الامتثال للأسباب التي ذكرناها؛ فتقوم به الأمة القادرة من دون أن يؤثر على توجه الخطاب بالوجوب إلى الجميع، وهكذا كل الواجبات كالصوم والحج والزكاة فإن الخطاب بها موجه إلى الجميع، لكن القادر على الامتثال جماعة من المسلمين فيصحّ توجيه التنفيذ وامتثال الواجب إلى الجماعة المعينة خاصة(1)، كأن يأمر خصوص المستطيعين للحج بتهيئة جواز السفر ولوازم الرحلة ونحو ذلك، ومن أمثلته قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (البقرة:183), مع أن غير المؤمنين مكتوب عليهم الصيام أيضاً, وإنّما خُوطب خصوص الذين آمنوا تشريفاً لهم, أو لأنهم الجماعة التي يُتوقع منها الامتثال.

2-إن آية {وَلْتَكُنْ}, ليست بصدد بيان أصل التشريع حتى تتنافى مع آية {كُنْتُمْ}، بل هي تُشير إلى تأكّد هذه الوظيفة على فئة خاصة, تكون مسؤوليتها عن أداء هذه الوظيفة ألزم من غيرها؛ لاجتماع الشروط فيها, ولتوفر).

ص: 174


1- هذا الوجه والذي يليه لخّصناه من كتاب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للشيخ حسين النوري الهمداني: 15-18).

أدوات التأثير لديها, كالمرجعية الدينية والحوزة العلمية. أو جماعة مُعيّنة تُخصَّص لأداء هذه الفريضة كشرطة الخميس، ولا مفهوم لها حتى تنافي الأُخرى نظير قوله تعالى: {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} (المائدة:63)، وعن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه فمن لم يفعل فعليه لعنة الله)(1), ومن المعلوم أن إظهار العلم يكون غالباً بصورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

3-ما قدّمناه في البحث من أن آية {وَلْتَكُنْ}, ناظرة إلى المعروف والمنكر الاجتماعيّين, أي التي تشكّل ظواهر عامّة, لأنه لا يتيسر لأي أحد ممارسة الأمر والنهي المؤثرين فيهما, إلا بانضمام الجهود الى بعضها، أما آية {كُنْتُمْ}، فهي بلحاظ الأعم من ذلك الشامل للفرديين وممارسته واجب عيّني على الجميع(2).

4-ما حُكي عن المراغي ومحمد عبده وغيرهما, من (أن الآية الأولى – أي آية {وَلْتَكُنْ}- خطاب موجّه للمؤمنين كافة، بأن ينتخبوا منهم أمة تقوم بهذه الفريضة، وذلك بأن يكون لكل فرد منهم إرادة وعمل في إيجادها ومراقبتها ونقدها وتصويب حركتها، وبهذه الطريقة تُساهم الأمة كلها في الأمر والنهي، ومعه يتم التوفيق بين هذه الآية وسائر آيات الأمر والنهي الظاهرة في نسبتها4.

ص: 175


1- الكافي- الشيخ الكليني: 1/ 54/ح2.
2- ذُكر هذا الوجه أيضاً في تفسير الأمثل- الشيرازي: 2/ 384.

لمجموع الأمة)(1).وفيه:

أ-إنه ينطلق من ظرف خاص وناظر إلى آلية محددة لأداء الفريضة, من خلال سلطة سياسيّة ونحوها, فهو يُعالج جزءاً من المشكلة.

ب- لازمه سقوط الوظيفة عن عموم الأمة بعد انتخاب هذه الجماعة وهو معنى غريب عن الخطاب الشرعي والفهم المتشرّعي، إذ المسؤولية مستمرة, لذا يأثم الجميع إذا لم يتحقق الامتثال.

5-ما نُقل عن الثعالبي وحاصله: (أن الآية الأولى هنا ناظرة إلى وظيفة الأمر والنهي العالميّة، أي قيام المسلمين بالوظيفة في حق عموم غير المسلمين، فيما سائر الآيات ناظرة إلى قيام المسلمين بالوظيفة - عامتهم وجماعة منهم- داخل المجتمع الإسلامي)(2).

أقول: يمكن أن نستشهد له بتقريبين:

أ-تضمن الآية الأولى للدعوة إلى الخير وهو الإسلام, وهي ثمرة الجهاد الذي يكون خارج المجتمع الإسلامي لدعوة الأمم الأخرى إلى الإسلام، وقد ورد معها ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتكون الفئة المُستهدفة بالخطابه.

ص: 176


1- فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 48، عن تفسير المراغي: 2/ 22، وتفسير المنار:4/ 36، ودراسات في ولاية الفقيه للشيخ المنتظري (قدس سره): 2/ 227.
2- فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 54، عن تفسير الثعالبي: 2/ 88، وقد وصف الناقل هذا الوجه بأنه لا دليل عليه.

هي نفسها, لوحدة السياق مثلاً, ونحوه.ب- ما تقدم في الوجه الثالث من أن آية {وَلْتَكُنْ}, ناظرة إلى المستوى الاجتماعي للفريضة، وما يوجد عند الأمم غير المسلمة أوضح مصاديق هذا المستوى، فتكون الآية ناظرة إليه.

6-إن آية {كُنْتُمْ}، تمثّل الحكم الطبيعي الأصلي الموجَّه للأمة، ولما علم الله تعالى أن الأمة لا تمتثل كُلها للأمر، تنزّل الخطاب ليُلزم جماعة على الأقل بذلك, فهو حكم ثانوي تنزليّ على فرض عدم تحقق الامتثال العام على نحو الترتّب، أو التخفيف كقوله تعالى: {الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} (الأنفال:66) فقُلِّلت النسبة من واحد إلى عشرة إلى واحد إلى اثنين.

7-إن آية {كُنْتُمْ}، هو المطلوب النهائي الذي يُراد أن تصل إليه الأمة, بأن تكون كلها آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، والوسيلة لتحقيقه هي آية {وَلْتَكُنْ}, بأن تؤدي كل جماعة ما عليها, فإذا امتثلت هذه الجماعة وتلك الجماعة فإن الأمة كلها ستكون ممتثلة في النهاية، نظير ما أجبنا به على إشكال التنافي بين آية {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن:16), وآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (آل عمران:102).

8-إن آية {وَلْتَكُنْ}, هي لاستثارة الهمة والتحفيز على السبق لامتثال هذه الفريضة، والخطاب موجه للجميع, فلا تنافي الآية الأخرى، نظير قوله تعالى على لسان عيسى بن مريم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): {مَنْ أَنصَارِي إلى اللَّهِ} (الصف:14),

ص: 177

فالخطاب موجه إلى الجميع، وكما يقول قائد الجيش: من يبايعني على الموت ويتقدم معي، وهكذا.9-أن تكون آية {وَلْتَكُنْ}, كناية عن تحقق الغرض بفعل البعض, وهم الأمة والجماعة, فتكون إشارة, لكون الواجب كفائيّاً، بمعنى كفاية قيام البعض بالامتثال, وسقوطه بذلك عن الآخرين، قال المحقق الأردبيلي (قدس سره) (إلا أن في الإيجاب على البعض إشعاراً بأن المقصود يحصل بفعل البعض، وأن العلم بأن الغير سيفعل الواجب الكفائي قبل فوت وقته كافٍ) وأضاف (قدس سره) بما لا يخلو من النظر، قال (قدس سره): ((بل الظن المذكور أيضاً فيجوز التأخير))(1).4.

ص: 178


1- مجمع الفائدة والبرهان- الأردبيلي: 7/ 534.

القبس /14: سورة آل عمران:133

اشارة

{وَسَارِعُواْ إِلَى مَغفِرَة مِّن رَّبِّكُم}

سارعوا تعني المبالغة والاشتداد في السرعة, أي ليس فقط أسرعوا وبادروا, وإنما تسابقوا في هذا الإسراع وهذه المبادرة، لذا ورد التعبير في آيات أخرى مشابهة لفظ {سَارِعُواْ} كقوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (الحديد:21), ولا يخفى ما في استعمال هذا التعبير من تحفيز على العمل لأن المنافسة والتسابق يفجّر الطاقات.

وهذه المسارعة والمسابقة لابد ان تستمر ما دمتم في الحياة الدنيا؛ لان الدنيا مزرعة الآخرة, وبها تكتسب الجنان او النيران والعياذ بالله, وكل لحظة من لحظاتها تمثل فرصة لاكتساب المزيد من الطاعة.

فالتواني والكسل وترك المسارعة يعني إضاعة هذه الفرصة, وفي الحديث الشريف: (إضاعة الفرصة غصّة)(1), لأنها تورث الحسرة والندامة والشعور بالغبن يوم التغابن، وإن عدم المبادرة الى الاستغفار يؤدي الى تراكم الذنوب وكثرة الرين على القلب, حتى يسوّد ويفقد قابلية العودة الى الطهارة والعياذ بالله، في

ص: 179


1- نهج البلاغة: الحكمة 118.

الحديث: (ان المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه منه، وان ازداد زادت، فذلك (الران) الذي ذكره الله تعالى في كتابه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(المطففين:14))(1).وان التأخير وعدم المبالاة بالاستغفار قد يوجب رفع الستر والغطاء عن المذنب فتفضحه ذنوبه برائحتها النتنة, التي لا تخفى على الاخرين لولا ستر الله تعالى، لكن العبد اذا تحوَّل الى قاذورة من الذنوب ورفع الله تعالى عنه الحجاب الساتر للعيوب والذنوب فانه يصبح مثيرا للتقزز والاشمئزاز, والحيوان قبل الإنسان يكتشف ذلك, وأصبح اليوم من الأدلة المهمة لاكتشاف الجرائم والمجرمين هو حاسة الشم لدى الحيوانات كالكلاب مثلاً, وفي الحديث الشريف عن امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (تعطرّوا بالاستغفار لا تفضحكم روائح الذنوب)(2).

ولما كانت المغفرة من فعل الله تعالى {مِّن رَّبِّكُمْ}, ومن أسمائه الحسنى (الغفار) و(الغفور) و(غافر الذنب), فما معنى المسارعة اليها؟

انها المسارعة الى أسبابها وموجباتها كالذي قلناه(3) في شرح الحديث الشريف (ان لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرّضوا لها لعله أن يصيبكم نفحة منها فلا تشقُوُنَّ بعدهاأبداً)(4) وسنتعرض الى جملة من هذه الأسباب ان شاء الله تعالى.1.

ص: 180


1- تفسير نور الثقلين- الشيخ الحويزي: 5/ 531.
2- بحار الانوار- المجلسي: 93/ 278/ح7.
3- انظره في الملحق الآتي بعنوان: (تعرضوا لنفحات ربكم).
4- بحار الانوار: ج 68، ص 221.

والمغفرة لها حالات لابد ان تُطلب جميعاً, فلا يقتصر في طلب المغفرة لما مضى من ذنوبه التي الّم بها, بل يستغفر مما يأتي, بأن يعصمه الله تعالى منها, او ليكتبه ممن يُغفر له مقدّماً فيما لو اوقعته غفلته في ذنب في الأيام الآتية, لذا تضمنت الادعية طلب المغفرة لما تقدّم من الذنوب وما تأخّر وهو الاتي.وكذلك للمغفرة مراتب فلا يختص طلب المغفرة بالذنوب والمعاصي بالمعنى المعروف والتي فيها مخالفة للأحكام الشرعية, بل تُطلب ايضاً لما هو أدق من ذلك, كترك المستحبات او فعل المكروهات او ترك الأولى - كما لو خُيِّر بين طاعتين فلم يختر الأهم منهما- او من عروض خاطر المعصية، وقد لا يكون لهذا او لا لذاك وانما لطلب الرفعة في الدرجات, او الاستغفار من القصور الذاتي الذي تقتضيه الطبيعة البشرية في أداء وظائف العبودية لله تعالى او الاستغفار من الانشغال بما يتطلبه الوجود في هذه الدنيا وإداء المسؤوليات الاجتماعية التي كلفه الله تعالى, كالذي يصدر من المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وفي الحديث النبوي الشريف انه (ليغان(1) على قلبي، وإنّي لأستغفر الله في كلّ يوم سبعين مرّة)(2).

وفي الكافي عن زيد الشحام عن ابي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (كان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يتوب الى الله عز وجل في كل يوم سبعين مرة فقلت: أكان يقول استغفر الله واتوب اليه؟ قال: لا ولكن كان يقول: اتوب الى الله)(3).4.

ص: 181


1- الغين: لغة في الغيم، وغان على قلبي: غطاء. أنظر: الصحاح- الجوهري: 6 /2175- مجمع البحرين- الشيخ الطريحي: 3/ 348.
2- بحار الأنوار- المجلسي: 25/ 204.
3- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 438/ح4.

وقد تضمّن القرآن الكريم آيات كثيرة تحث على الاستغفار, وتذكر آثاره وبركاته, من استجلاب نعم, ودفع نقم, في الدنيا والآخرة, كقوله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} (هود:3), وقوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ} (هود:52), وفي الحديث الشريف عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (من كثرت همومه فعليه بالاستغفار)(1), وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (أدفعوا أبواب البلاء بالاستغفار)(2).فالاستغفار سبب لزيادة الرزق وتحصيل الذرية والتنعمّ في الحياة الدنيا والاخرة.

ولذا تجد القرآن الكريم يقرن في هذه الآية وغيرها - كآية سورة الحديد المتقدمة - بين المغفرة والجنة، فالاستغفار يؤدي الى الجنة ويزيل العوائق عن الفوز بها؛ لأن الجنة دار طهارة وسعادة ونقاء, فلا يمكن للإنسان ان يدخلها ويتنعم فيها وهو حامل للقذارات المعنوية وادران الذنوب والمعاصي, إلا بعد ان يتطهر منها بالعفو والمغفرة {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} (الأعراف:43).

والملفت للنظر وقوع هذه الآية وآيات تربوية أُخرى في سياق الحديث عن معركة أحد وملابساتها وتحقق النصر أولاً, ثم الهزيمة المُهينة ثانياً, {مِّن بَعْدِ مَا8.

ص: 182


1- الكافي- الشيخ الكليني: 8/ 93/ح65.
2- وسائل الشيعة (آل البيت)- الحر العاملي: 9/ 28.

أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ} (آل عمران:152), للتنبيه - كما هو ديّدن القرآن دائماً- على محوريّة العقيدة, والارتباط بالله تعالى في كل شؤون الحياة, وان الميدان الاوسع والاهم للعمل هو ميدان النفس، والخير يتحقق بقهر أهوائها والغلبة على شهواتها. فميدان النفس ساحة الجهاد الأكبر, وما سواها في الخارج هو الجهاد الأصغر، وان كل شيء يكتسب قيمته بمقدار ارتباطه بالله تعالى, سواءاً اكان نصراً عسكريّاً او انجازاً سياسيّاً او تقدماً اقتصاديّاً او رفاهاً اجتماعيّاً، فالهدف دائماً إعلاء كلمة الله تعالى, طلباً لرضا الله تعالى.

وينبغي الالتفات الى ان الاستغفار المنتج لهذه الاثار المباركة ليس مجرد تحريك اللسان به, وإنما له حقيقة بيّنها امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في نهج البلاغة: (وَقَالَ: (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لِقَائِلٍ قَالَ بِحَضْرَتِهِ أَسْتَغْفِرُ اَللَّهَ. ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ أَتَدْرِي مَا اَلاِسْتِغْفَارُ, إِنَّ اَلاِسْتِغْفَارَ دَرَجَةُ اَلْعِلِّيِّينَ, وَهُوَ اِسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعَانٍ: أَوَّلُهَا اَلنَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى. وَاَلثَّانِي اَلْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ اَلْعَوْدِ إِلَيْهِ أَبَداً. وَاَلثَّالِثُ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى اَلْمَخْلُوقِينَ حُقُوقَهُمْ حَتَّى تَلْقَى اَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْكَ تَبِعَةٌ. وَاَلرَّابِعُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى كُلِّ فَرِيضَةٍ عَلَيْكَ ضَيَّعْتَهَا فَتُؤَدِّيَ حَقَّهَا. وَاَلْخَامِسُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى اَللَّحْمِ اَلَّذِي نَبَتَ عَلَى اَلسُّحْتِ فَتُذِيبَهُ بِالأَحْزَانِ حَتَّى تُلْصِقَ اَلْجِلْدَ بِالْعَظْمِ وَيَنْشَأَ بَيْنَهُمَا لَحْمٌ جَدِيدٌ. وَاَلسَّادِسُ أَنْ تُذِيقَ اَلْجِسْمَ أَلَمَ اَلطَّاعَةِ, كَمَا أَذَقْتَهُ حَلاَوَةَ اَلْمَعْصِيَةِ, فَعِنْدَ ذَلِكَ تَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اَللَّهَ)(1).5.

ص: 183


1- نهج البلاغة: 425.

اما الاسباب الموجبة للمغفرة فهي كثيرة منها:

1-الدعاء وطلب المغفرة، وقد ورد طلب المغفرة في ما لا يحصى من الادعية, وكرّست بعض الادعية للاستغفار وطلب التوبة؛ كما في الصحيفة السجادية، في الحديث عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (خير الدعاء الاستغفار)(1), وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (خير العبادة الاستغفار)(2), وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (الاستغفار في الصحيفة يتلالأ نوراً)(3), وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (من احبَّ أن تسرًّه صحيفتهُ فليكثر فيها من الاستغفار)(4).

2-الاستزادة من الطاعات والحسنات عموماً, قال الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (هود:114), خصوصاً الصلاة المفروضة في اوقاتها، في الحديث الشريف: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمساً ما تقول ذلك يُبقي من درنه. قالوا: لا يُبقي من درنه شيئاً قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله به الخطايا)(5).

3-ومن الطاعات المخصوصة ايضاً (الصدقة) ففي الحديث عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (صدقة السر تطفي غضب الرب تبارك وتعالى)(6), وعن أمير المؤمنين

ص: 184


1- بحار الأنوار- المجلسي: 9/ 284.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 517.
3- تاريخ مدينة دمشق- ابن عساكر: 22/ 177.
4- المعجم الأوسط- الطبراني: 1/ 256.
5- صحيح البخاري- البخاري: 1/ 134.
6- الكافي- الشيخ الكليني: 4/ 8.

(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الصدقة جُنة عظيمة وحجاب للمؤمن من النار)(1).4-ومنها ايضاً صلاة الليل وقد ورد فيها عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (ان العبد إذا تخلّى لسيده في جوف الليل المظلم وناجاه اثبت الله النور في قلبه... ثم يقول جلَّ جلاله لملائكته: يا ملائكتي: انظروا الى عبدي، فقد تخلّى بيّ في جوف اللّيل المظلم والبطالون لاهون، والغافلون نيام، اشهدوا أني قد غفرت له)(2).

5-الصوم خصوصاً شهر رمضان؛ فأنه شهر المغفرة والعتق من النار والفوز بالجنة, وافضل ميادين هذا السباق والمسارعة، وفي خطبة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في أخر جمعة من شعبان؛ التي رواها الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن أبائه(عَلَيْهِ السَّلاَمُ), عن أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ), عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (فأن الشقي من حُرِم غفران الله في هذا الشهر العظيم), وفيها (يا أيها الناس ان انفسكم مرهونة باعمالكم ففكّوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخففوا عنها بطول سجودكم)(3).

في الحديث عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (شهر رمضان, شهر فرض الله عليكم صيامه, فمن صامه, إيماناً واحتساباً, خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)(4), وفي رواية عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن لله تعالى ملائكة موكلين بالصائمين يستغفرون لهم في كل يوم من شهر رمضان إلى آخره، وينادون الصائمين كل ليلة عند إفطارهم: أبشروا عباد الله؛ فقد جعتم قليلاً وستشبعون كثيراً, بوركتم وبورك فيكم؛ حتى إذا2.

ص: 185


1- الخصال- الشيخ الصدوق: 635.
2- الأمالي- الشيخ الصدوق: 354/ح432.
3- الأمالي- الشيخ الصدوق: 154.- عيون أخبار الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- الشيخ الصدوق: 2/ 266.
4- تهذيب الأحكام- الشيخ الطوسي: 4/ 152.

كان آخر ليلة من شهر رمضان نادى: أبشروا عباد الله غفر لكم ذنوبكم وقبل توبتكم؛ فانظروا كيف تكونون فيما تستأنفون)(1).وفي الكافي عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (من لم يُغفر له في شهر رمضان لم يغفر له الى قابل الى أن يشهد عرفة)(2).

أما الصوم المستحب فقد ورد فيه عن الإمام الصادق عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): من صام يوماً تطوعاً أبتغاء ثواب الله وجبت له المغفرة)(3), وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (قال ابي: إن الرجل ليصوم يوماً تطوعاً يريد ما عند الله فيدخله الله به الجنة)(4).

6-الحج وخصوص الوقوف بعرفة، روى الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن ابيه الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (ما وقف بهذا الموقف أحد إلا غفر الله له) ثم قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (ألا انهم في مغفرتهم على ثلاث منازل)(5) الى آخر الحديث.

7-زيارة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ), وأولهم النبي الاكرم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وقد ورد في زيارته الشريفة: (اللَّهُمَّ إِنَّكَ قُلْتَ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (النساء:64), وَإِنِّي أَتَيْتُ مُسْتَغْفِراً تَآئِباً مِنْ ذُنُوبِي، إِنِّي أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكَ لِيَغْفِرَ لِي1.

ص: 186


1- الأمالي- الشيخ الصدوق: 108.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 4/ 66.
3- الأمالي- الشيخ الصدوق: 645.
4- الكافي- الشيخ الكليني: 4/ 63.
5- الكافي- الشيخ الكليني: 4/ 521.

ذُنُوبِي)(1).وهكذا سائر المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ), وخصوصاً زيارة الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، عن الإمام الصادق وولده موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (من زار قبر أبي عبد الله عارفاً بحقه, غفر له الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر)(2).

أقول: قد اختصرنا الكلام بما يناسب المقام(3), والا فالأسباب التي جعلها الله تعالى لعباده كرماً منه وفضلاً كثيرة, غير ما يعفو عنه ابتداءاً, بلا سبب؛ سوى ان من صفاته الكريمة الفضل والمن، قال الله تعالى: {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (الشورى:30).ج.

ص: 187


1- كامل الزيارات- ابن قولويه: 50.
2- كامل الزيارات- ابن قولويه: 264.- الأمالي- الشيخ الصدوق: 206/ح9.
3- اخترت ذكر شهر رمضان والحج وزيارة الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لتصلح المحاضرة مادة لتعميق معارف القرآن في المجالس الرمضانية والحسينية ولمرشدي قوافل الحجاج.

ملحق: تعرضوا لنفحات ربكم

النفحات الخاصة:

ورد حديث عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرّضوا لها, لعله أن يصيبكم نفحة منها, فلا تشقُّوُنَّ بعدها أبداً)(1), وفي حديث مماثل (اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرضوا لنفحات الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده, وسلوا الله أن يستر عوراتكم وأن يؤمن روعاتكم)(2).

والحديث يشير إلى نوع خاص من الألطاف الإلهية, وليست الألطاف العامة الشاملة لكل الناس، والدليل عليه وجهان:

1-التعبير بالنفحات، والنفحة: هي القطعة من الشيء أو هي الدفعة منه(3), وليس كله ولا معظمه، كما في قوله تعالى: {وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} (الأنبياء:46), وهذا القول منهم إذا كان رجوعاً وتوبة في وقت قبولها, فهو موقف حسن, وإلا فإن الأغلب يكون موقفهم التمادي والاستكبار، قال تعالى: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (هود:8).

ص: 188


1- المعجم الكبير- الطبراني: 19/ 234.- كنز العمال- المتقي الهندي: 7/ 769.
2- تاريخ مدينة دمشق- ابن عساكر: 24/ 123.- كنز العمال- المتقي الهندي: 7/ 769.
3- مجمع البحرين- الشيخ الطريحي: 4/ 341.

2-الأثر العظيم المترتب على التعرض لها, والتوفيق للشمول بها, بحيث أن من تناله تلك النفحات لا يحتاج إلى ابتلاء, ويحسم آمره في الصالحين والسعداء, بحيث لا يشقى بعدها أبداً.

ولتوضيحه بمثال نقول: أنه يصبح كالطالب؛ الذي يحرز درجات عالية في السعي السنوي؛ فيُعفى من الامتحانات النهائية, ولا يحتاج إلى اختبارات أخرى كأقرانه.

على أي حال؛ فالمراد من النفحات: ألطاف إلهيّة خاصة, بدلالة التعبير عنها بالنفحات؛ إذ أن الألطاف الإلهية العامة متواصلة على طول الدهر, ولولاها لما خُلق الإنسان والكون, ولا استمر وجودهما.

لنتعرض لكل سُبل الطاعة:

وفي ضوء هذا فقد حث رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على التعرض لتلك النفحات، ويكون ذلك بالتعرض لأسبابها, واقتناص فرصها, وهي غير معروفة بالتحديد؛ لأن الله تبارك وتعالى أخفى رضاه في طاعته, كما أخفى سخطه في معصيته.

لذا فحريٌّ بطالب الكمال والسعادة, أن يتعرض لكل ما يتيسر له من سبل الطاعة, وفرص الخير, عسى أن تكون إحداها سببا لنيل تلك الألطاف الخاصة، ولذا جاء في الحديث عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (تعرضوا لرحمة الله بما أمركم به من طاعته)(1).

ص: 189


1- تنبيه الخواطر ونزهة الناظر (مجموعة ورام): ص439.

وفي الكافي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إذا همّ أحدكم بخير فلا يؤخره, فإن العبد ربما صلى الصلاة أو صام اليوم فيقال له: اعمل ما شئت بعدها, فقد غفر الله لك)(1). وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إذا هممت بشيء من الخير فلا تؤخّره, فإن الله عز وجل ربما اطلع على العبد وهو على شيء من الطاعة فيقول: وعزّتي وجلالي لا أعذبك بعدها أبداً، وإذا هممت بسيئة فلا تعملها، فإنه ربما اطلع على العبد وهو على شيء من المعصية فيقول: وعزّتي وجلالي لا أغفر لك بعدها أبداً)(2), كالطالب الذي يفشل خلال السنة الدراسية فيُحرم من فرصة المشاركة في الامتحانات العامة؛ فكأن تقصيره ذلك أوجب نهايته مبكراً, ولم يسمح له باستمرار فرصة الامتحان, والسعي لنيل النجاح.

وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إذا أردت شيئاً من الخير فلا تؤخره، فإن العبد يصوم اليوم الحار يُريد ما عند الله فيُعتقهُ الله به من النار، ولا تستقلّ ما يُتَقرّبُ به إلى الله عز وجل ولو شقَّ تمرة)(3).

المسارعة الى الخير:

وهذه المسارعة إلى فعل الخير لها ما يبررها من أكثر من جهة:

1-إن الفرص تمرُّ مرَّ السحاب, وقد لا تتكرر؛ بل هي فعلاً لا تتكرر؛ لأن

ص: 190


1- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 142.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 143.
3- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 142.

الفرصة الثانية هي غير الأولى, وإضاعة الفرصة غصة, وإن عُمر الإنسان, هو رأس ماله في المتاجرة مع الله تبارك وتعالى, وكل ثانية من عمره, يمكن أن ترفعه درجة عند الله تبارك وتعالى.2-إن التأخير يُعطي فرصة للشيطان, والنفس الأمارة بالسوء للوسوسة والتثبيط وإضعاف الهمّة، عن أبي جعفر الباقر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (من همَّ بشيء من الخير فليعجّله، فإن كل شيء فيه تأخير فإن للشيطان فيه نظرة)(1).

3-إن القلوب لها أحوال متغيرة, فتارة تكون في إقبال على الطاعة, وأخرى في إدبار, فإذا لم يستغل الحال الأول - أي حال إقبال القلب- فقد يقع في الثاني - أي حال إدبار القلب - فلا يجد في نفسه إقبالاً على الطاعة، سأل حمران بن أعين الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (أخبرك - أطال الله بقاءك لنا وأمتعنا بك- أنّا نأتيك, فما نخرج من عندك حتى ترقَّ قلوبنا وتسلوَ أنفسنا عن الدنيا, ويهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال، ثم نخرُجُ من عندك, فإذا صرنا مع الناس والتجار أحببنا الدنيا؟ فقال أبو جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): إنما هي القلوب مرة تصعُبُ ومرةً تسهُل)(2).

4-إن الطاعة مهما تبدوا شاقة فإنما هي جهد اللحظة التي أنت فيها، ومهما تبدو المعصية لذيذة فإنما هي لذة اللحظة التي هو فيها, وهذا ييّسر المضي على الطاعة, واجتناب المعصية, ففي موثقة سماعة عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (سمعته3.

ص: 191


1- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 143.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 423.

يقول: اصبروا على طاعة الله، وتصبّروا عن معصية الله, فإنما الدنيا ساعة, فما مضى فليس تجد له سروراً ولا حزناً, وما لم يأت فليس تعرفه, فاصبر على تلك الساعة التي أنت فيها، فكأنك قد اغتبطت)(1).

أشكال النفحات:

وسببية التعرض للنفحات للحصول عليها وشمولها أمر طبيعي، كما أن البائع الذي يتعرض للناس ببضاعته, فينوّعها ويتفنن في عرضها, ويحاكي أذواق الناس بها, يكون الإقبال عليه أكثر من التاجر الساكن الجامد الخامل، مع أن الله تبارك وتعالى قد تكفّل للجميع بالرزق، ولكن ألطافاً خاصة تعطى للمتعرض لها دون غيره.

ومع أن الطاعات كلها شكل من أشكال التعرض للنفحات الإلهية, إلا أن لبعض الموارد مزيد عناية ومظنّة لتلك النفحات، وبعض هذه الموارد: (مكانية) كالمساجد والعتبات المقدسة وفي حلقات العلم ومجالس الموعظة والإرشاد.

وبعضها (زمانية) كليلة الجمعة ويومها, والأشهر الشريفة: رجب, وشعبان, ورمضان.

وبعضها (حالية) كاجتماع المؤمنين, والدعاء للغير, وحال التوجّه والاضطرار وانكسار القلب, خصوصا إذا امتزج الحزن بالبكاء, وعند مجالسة العلماء, وبعد الصلوات المفروضة, وفي حال السجود.

ص: 192


1- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 459.

لطف الله تعالى للجميع:

ولا شك أن لطف الله تبارك وتعالى وكرمه متاح لكل أحد, كما في أدعية شهر رجب (يامَنْ يُعْطِي مَنْ سَأَلَهُ، يامَنْ يُعْطِي مَنْ لَمْ يَسأَلْهُ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ تَحَنُّناً مِنْهُ وَرَحْمَةً) و(بابُكَ مَفْتُوحٌ لِلرّاغِبينَ، وَخَيْرُكَ مَبْذُولٌ لِلطّالِبينَ، وَفَضْلُكَ مُباحٌ لِلسّائِلينَ، وَنَيْلُكَ مُتاحٌ لِلآمِلينَ، وَرِزْقُكَ مَبْسُوطٌ لِمَنْ عَصاكَ، وَحِلْمُكَ مُعْتَرِضٌ لِمَنْ ناواكَ)(1) لكن بعض النفحات تتطلب تعرضاً لها وصعوداً إليها.

أتذكر أنني عندما كنت أحضر بحث الأصول للسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في مباحث المشتق وكان يفسر آية {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (البقرة:124), فقال (قدس سره): (إن الآية عبّرت {لاَ يَنَالُ}, ولعل في ذلك إشارة إلى هذه المراتب وغيرها من مراتب الكمال إنما تنال بالتكامل والتصاعد في عالم الملكوت الأعلى, فكلما تكامل الفرد إلى درجة معينة, استحق فيضاً مناسباً لتلك الدرجة, ومنها الإمامة, فهم يصعدون إليها لا هي تنزل إليهم)(2).

فقلت له: - بعد الدرس- على هذا لا بد من أن يكون ذيل الآية (الظالمون) ليكون فاعلاً وساعياً لنيل العهد, وعهدي مفعول به, وليس العكس, كما في الآية، فأيّد الاعتراض لكنه - لإيمانه بصحة فكرته- عرض حلاً وسطاً, يجمع بين الفكرة والإشكال, وهو أن الألطاف تنزل من الله تعالى إلى مرتبة معينة ويصعد إليها الفرد

ص: 193


1- مفاتيح الجنان- عباس القمي: 229.
2- المشتق عند الأصوليين: 343.

إلى تلك المرتبة. انتهىوإذا تهيّب الفرد أو تردّد ولم يقتنص الفرصة ويبادر إليها فإنه سيحرم بركتها, ففي الحديث عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (قرنت الهيبة بالخيبة، والحياء بالحرمان، والفرصة تمر مر السحاب فانتهزوا فرص الخير)(1).

طلبات جامعة:

وليكن تعرّضك وطلبك مناسباً لكرم الله تعالى، وتوجد في بعض الأدعية طلبات جامعة لخصال الخير كله كما في أدعية رجب (أَعْطِنِي بِمَسْأَلَتي إِيّاكَ, جَميعَ خَيْرِ الدُّنْيا وَجَميعَ خَيْرِ الآخرة، وَاصْرِفْ عَنّي بِمَسْأَلَتي إِيّاكَ, جَميعَ شَرِّ الدُّنْيا وَشَرِّ الآخرة، فَاِنَّهُ غَيْرُ مَنْقُوص ما أعطيت، وَزِدْني مِنْ فَضْلِكَ يا كَريمُ)(2) وفي دعاء آخر (اَللّ-هُمَّ اِنّي اَسْاَلُكَ َاَنْ تُدْخِلَني في كُلِّ خَيْر اَدْخَلْتَ فيهِ مُحَمَّداً وَآلَ مُحَمَّد(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وَاَنْ تُخْرِجَني مِنْ كُلِّ سُوء اَخْرَجْتَ مِنْهُ مُحَمَّداً وَآلَ مُحَمَّد صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ)(3).

وعن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان نزل على رجل بالطائف قبل الاسلام فأكرمه, فلما أن بعث الله محمداً (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلى الناس قيل للرجل: أتدري من الذي أرسله الله عز وجل إلى الناس؟ قال: لا، قالوا له: هو محمد بن عبد الله يتيم أبي طالب, وهو الذي كان نزل بك بالطائف يوم كذا وكذا

ص: 194


1- نهج البلاغة - خطب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 4/ 6.
2- مفاتيح الجنان- عباس القمي: 170.
3- مفاتيح الجنان- عباس القمي: 285.

فأكرمته، قال: فقدم الرجل على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فسلم عليه وأسلم، ثم قال له: أتعرفني يا رسول الله؟ قال: ومن أنت؟ قال: أنا رب المنزل الذي نزلت به بالطائف في الجاهلية, يوم كذا وكذا فأكرمتك, فقال له رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): مرحباً بك سل حاجتك، فقال: أسألك مأتي شاة برعاتها، فأمر له رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بما سأل، ثم قال لأصحابه: ما كان على هذا الرجل أن يسألني سؤال عجوز بني إسرائيل لموسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بما سأل، فقالوا: وما سألت عجوز بني إسرائيل موسى؟ فقال: إن الله عز ذكره أوحى إلى موسى أن أحمل عظام يوسف من مصر قبل أن تخرج منها إلى الأرض المقدسة بالشام, فسأل موسى عن قبر يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فجاءه شيخ فقال: إن كان أحد يعرف قبره ففلانة، فأرسل موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إليها فلما جاءته قال:تعلمين موضع قبر يوسف (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)؟ قالت: نعم، قال: فدليني عليه ولك ما سألتِ: قالت: لا أدلك عليه إلا بحكمي، قال: فلك الجنة، قالت: لا إلا بحكمي عليك، فأوحى الله عز وجل إلى موسى لا يكبر عليك أن تجعل لها حكمها فقال: لها موسى فلك حكمك، قالت: فإن حكمي أن أكون معك في درجتك التي تكون فيها يوم القيامة في الجنة فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): ما كان على هذا لو سألني ما سألت عجوز بني إسرائيل)(1).وأنتم أيها الإخوة والأخوات بزيارتكم لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والمساجد المعظمة في الكوفة والسهلة, والانطلاق منها سيراً على الأقدام إلى كربلاء, لزيارة الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في النصف من رجب, التي تسمى (الغفيلة) لغفلة الناس عن ثوابها.5.

ص: 195


1- الكافي- الشيخ الكليني: 8/ 155.

وقطعكم هذه المسافة التي قطعتها عقيلة الهاشميين زينب بنت علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لإحياء ذكرى وفاتها، تكونون قد تعرضتم لكثير من نفحات الله تبارك وتعالى, وأتيتم بأسبابها في هذا الشهر الشريف. فأرجوا أن يشملكم الله تبارك وتعالى بألطافه ونفحاته الخاصة.

ويشرِك معكم كل من أحبَّ عملكم, وأيّده, وقدّم الخدمة لكم, فإن (من أحب قوما حشر معهم، ومن أحب عمل القوم أشرك في عملهم)(1).1.

ص: 196


1- بحار الأنوار- المجلسي: 65/ 131.

القبس /15: سورة آل عمران:144

اشارة

{أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}

موضوع القبس: إنقلاب الأتباع عند غياب القائد

قال الله تبارك وتعالى {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُ-رَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران:144).

تثير الآية الكريمة قضية مهمة وتؤشر مرضاً خطيراً يصيب اتباع الديانات والمشاريع الإلهية وهو ذوبانهم في شخصية القائد ذاته وليس في الرسالة التي حملها اليهم مما يؤدي إلى انهيارهم وانحرافهم وتشتتهم عند غيابه عنهم بموت أو قتل والآية الكريمة تؤسس لحقيقة يجب أن يعيها المؤمنون اتباع الرسالات الإلهية العظيمة في كل الأجيال وهي أن يكون ارتباطهم بالرسالة نفسها لأنها تمثل المبادئ التي أرادها المرسل تبارك وتعالى، والارتباط بالرسول وحامل الرسالة مهما عظمت مكانته لابد أن يكون على هذا الأساس وليس على أساس الشخصنة التي تؤدي الى الصنمية وعبادة الذات والذوبان فيها بمعزل عن المبدأ بحيث اذا مات أو قتل فكأنه ينتهي كل شيء.

ص: 197

وهذا من أخطر الأمراض التي تُصيب اتباع الرسالات والمشاريع الإلهية لأنه يؤدي إلى اندثار الرسالة وانحرافها وتفرق الاتباع عند موت القائد(1)، والصحيح أن يعتقدوا أن الرسالة باقية خالدة اما الرسول أو القائد عموماً فأنه معرَّض للموت أو القتل {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} (الزمر:30) وان الله تعالى يقيِّض لهذا الدين من يستمر بتبليغه وحفظه من التحريف والدّس وإقامته في حياة الأمة، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (يا أيها الناس: ان الله تبارك اسمه وعزّ جنده لم يقبض نبياً قط حتى يكون له في أمته من يهدي بهداه ويقصد سيرته ويدلّ على معالم سبيل الحق الذي فرض الله عباده، ثم قرأ {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ..})(2) .فالمؤمنون الصادقون هم الذين ذابوا في المبدأ -- وهو الدين -- واستوعبوه وجعلوه منهج حياتهم فلا تؤثر عليهم غيبة الرسول والقادة عموماً بل هم لا يرون انه قد غاب عنهم لأنه حاضر بينهم بالمبادئ التي أسسها لهم والمنهج الذي وضعه لهم فهم ينظرون إلى الرسالة {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} (إبراهيم: 24-25).

وهذه الآية دليل على صدقه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وان القرآن كتاب منزل من الله تعالى، لأن دعوته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لو كانت لمنفعة شخصية له لعمل على تكريس ذاته كما يفعل الطواغيت ((اذا متُّ ضمآناً فلا نزل القَطر)) بينما كان (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يعمل على تذويب ذاته في المبدأ والشواهد على ذلك من سيرته الشريفة كثيرة كقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لمن00

ص: 198


1- راجع قبس/92 {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} (مريم:59) من نور القرآن: 3/ 115
2- تفسير العياشي: 1/ 200

ارتعدت فرائصه لما نظر إليه وهو يكلّمه (هوِّن عليك.. فأني لست بملك.. إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد)(1) ، وقد حكى الله تعالى هذا الموقف عن جميع أنبيائه، قال تعالى {مَا كَانَ لِبَشَ-رٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} (آل عمران:79).والآية تحكي فصلاً من احداث معركة أُحد فأنه لما نودي في جيش المسلمين من بعض المشركين أو المتآمرين والمنافقين وذيول قريش بأن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قد قتل انهزموا ((فجعل الرجل يقول لمن لقيه: إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قد قتل، النجاء النجاء - أي انجوا بأنفسكم -))(2) ودخل اليأس على أكثر المسلمين والقوا سلاحهم وأيقنوا بأن كل شيء قد انتهى بحيث ((قال أهل المرض والارتياب والنفاق حين فرَّ الناس عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قد قتل محمد فالحقوا بدينكم الأول))(3) أي الشرك والجاهلية، وأخرج ابن جرير أيضاً ان بعضهم قال ((ليت لنا رسولاً إلى عبدالله بن ابي -- زعيم المنافقين في المدينة -- فيأخذ لنا أماناً من ابي سفيان، يا قوم ان محمداً قد قتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلونكم))(4) ومن كلامهم يظهر انهم من المهاجرين.55

ص: 199


1- سنن: ابن ماجة: 4/ 16 كتاب الاطعمة، باب القديد ح 3312 والطبراني في الأوسط: 2/ 64 رقم 1260 والحاكم في المستدرك: 3/ 50 رقم 4366 وصحّحوه
2- البرهان: 2/ 280 ح 1 عن تفسير القمي: 1/ 119
3- تفسير الطبري: 7/ 258
4- تفسير الطبري: 7/ 255

فالآية توبّخهم وتقول بأن محمداً (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ليس الا رسول مبلغ عن الله تعالى ما فيه هدايتكم وصلاحكم ولا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً {إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} (آل عمران:154) وقد مضى من قبله رسل كُثُر على ذات المنهج والدعوة إلى الله تعالى، وكلهم مضوا إلى ربّهم بعد أن ادّوا ما عليهم من دون أن تموت المبادئ التي حملوها إلى أممهم فلماذا -- والاستفهام هنا استنكاري -- هذا الانقلاب منكم والنكوص والرجوع عما أنتم عليه من الحق الى جاهليتكم الأولى والتخلي عن مواصلة اعتناق الرسالة والمضي على ما مضى عليه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بمجرد أن صيح بكم بموته أو قتله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهذا يعني ان رواسب الجاهلية ما زالت فيكم {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (الحجرات:14)، وأن ارتباطكم بالنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) شخصي لاجل الدنيا وليس مبدأياً، وتعلّل آية أخرى هزيمتهم من المعركة بأنها انعكاس لهزيمتهم الروحية {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} (آل عمران:155).وتضيف الآية: واعلموا إن انقلابكم هذا لن يضرّ الله تعالى ولن يؤثر على استمرار الرسالة وخلودها لأن الله تعالى يأتي بمن يواصل حملها وحمايتها والانطلاق بها كما يشهد لذلك ما حصل في كل حالات الانقلاب التي وقعت فيها الأمة وإنما يخسر المنقلبون على اعقابهم لأن الدين جاء لإسعادهم في الدنيا والآخرة فاذا تخلّوا عنه فان حياتهم ستكون نكدة وشقية {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} (إبراهيم: 8).

ص: 200

وقد ثبت في المعركة قلة من الافذاذ احاطوا برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقونه بأنفسهم يتقدمهم أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واستشهد أكثرهم رُوي عن ابن عباس (أن علياً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كان يقول في حياة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إن الله عزوجل يقول {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} والله لا ننقلب على أعقابنا بعد اذ هدانا الله، ولئن مات أو قتل لأقاتلنّ على ما قاتل عليه حتى أموت، والله إني لاخوه وابن عمه ووارثه فمن أحق به مني)(1) .وقد اعتبر الله تعالى ثباتهم على الرسالة والمبدأ شكراً فقال تعالى {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} لأن الشكر على النعمة هو استعمالها فيما يريده المنعم واستحضار ما يقتضيه حق الربوبية وان ثباتهم وتمسكهم شكر عملي على نعمة الايمان.

روى(2) ابان بن عثمان عن ابي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أنه أصاب علياً يوم أُحُد ستون جراحة وروى الشيخ المفيد في الاختصاص أنها ثمانون تدخل الفتائل من موضعّ وتخرج من موضع بحيث خاف المداوي من معالجته لأنه كلما عالج جزءاً انفتق جزء آخر من بدنه فدخل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والمسلمون يعودونه وهو قرحة واحدة فجعل النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يمسحه بيده ويقول: ان رجلاً لقي هذا في الله فقد أبلى وأعذر وكان القرح الذي يمسحه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يلتئم فقال علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): الحمد لله اذ لم أفرّ ولم أوليّ الدبر فشكر الله تعالى له ذلك في موضعين من القرآن وهو03

ص: 201


1- البرهان: 2/ 280 ح 4 عن آمالي الشيخ: 2/ 116، الرياض النضرة: 3/ 206 فوائد السمطين: 1/ 224
2- بحار الأنوار: 41 / 3 ، المناقب لابن شهرآشوب: 2/ 119، تفسير البرهان: 2/ 282 ح 2، نور الثقلين: 1/ 203

قوله تعالى {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران:144) ، {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} (آل عمران:145) .أقول: تصرّح الرواية بأن المقصود بالشاكرين هو أمير المؤمنين، ويمكن الاستدلال عليه بأن الثبات في المعركة كان شكراً حقيقة وقد ثبت مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) جمع مبارك من أصحابه، ولو أريد ذكر موقفهم لكان الأنسب في التعبير أن يكون (وسيجزّي الله الذين شكروا) في إشارة إلى فعل محدد وحالة معينة وبمقتضى المقابلة مع الفعل (انقَلَبْتُمْ).

أما وصف الشاكرين فلا ينطبق الا على أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لأنه يدل على ثبات الصفة عند الموصوف واستمرارها وهذا الوصف الثابت يلازم وصف المخلصين، لأنه اذا علمنا بأنه ما من شيء الا وهو نعمة من الله تعالى فقد ((بان ان الشكر المطلق هو ان لا يذكر العبد شيئاً -- وهو نعمة - الا وذكر الله معه ولا يمس شيئاً - وهو نعمة - الا ويطيع الله فيه - لأن الطاعة حقيقة الشكر فهو دائم الشكر والذكر- ، فقد تبيّن ان الشكر لا يتم الا مع الإخلاص لله سبحانه علماً وعملاً، فالشاكرون هم المخلصون لله، الذين لا مطمع للشيطان فيهم، ويظهر هذه الحقيقة مما حكاه الله تعالى عن ابليس، قال تعالى {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (ص:82-83) فلم يستثن من اغوائه أحداً الا المخلصين، وقال تعالى {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف:16-17) فقد بدّل المخلصين بالشاكرين، وليس

ص: 202

الا لأن الشاكرين هم المخلصون الذين لا مطمع للشيطان فيهم، لأن الشاكر متعلق بالله تعالى ولا مطمع له في سواه تبارك وتعالى وبذلك فقد سدَّ على الشيطان منافذ اغوائه وإضلاله فكان من المخلصين، واتحدّ الشاكر والمخلص في المصداق وان اختلفا في المفهوم. اما المنقلبون فهم الذين قال عنهم إبليس {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف: 17) ((وإن المقابلة بين الشاكر والمنقلب تشير إلى أن الثبات محصول الشكر وأن تثبيت كل فرد لموقعه الايماني يُعدُّ سبباً لارتقائه في درجات الشكر، ومن هنا يمكننا معرفة خطورة الشكر، وهذا الاهتمام هو الذي أدى الى التصريح بلفظ الجلالة في الآية بينما كان يمكن الاكتفاء باستعمال الضمير))(1) وكذا لم تذكر ماهية الجزاء للاشعار بعظمته وأنه يفوق التصور.روى ابن هشام في السيرة (انتهى أنس بن النضر- عم انس بن مالك وبه سمي - إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد القوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قتل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، قال: فماذا تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل)(2) .

والظاهر ان الانقلاب في الآية هو الرجوع عن الدين الى الكفر وليس مجرد الفرار من المعركة كما في آيات آخر كقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} (آل عمران:149) وقوله تعالى {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ30

ص: 203


1- تفسير تسنيم للجوادي الآملي: 15/ 654
2- السيرة النبوية لابن هشام: 3/ 30

عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} (الأنعام : 71) وقوله تعالى {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} (البقرة : 143)، وقد وصفت آية أخرى هذه الحالة بأنها كانت بسبب عدم استقرار الايمان في قلوبهم عودة إلى الجاهلية تعرضوا لها بسبب وفاة أو قتل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال تعالى {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} (آل عمران:154). هذا هو حال الكثير من الصحابة الذين كانوا مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يوم أحد، قال ابن هشام في بيان ما نزل من القرآن في معركة أحد بعد أن ذكر هذه الآية (({أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ) رجعتم عن دينكم كفاراً كما كنتم، وتركتم جهاد عدوكم ، وكتاب الله، وما خلف نبيّه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من دينه معكم وعندكم، وقد تبيّن لكم فيما جاءكم به أعني أنه ميت ومفارقكم {وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ} أي يرجع عن دينه {فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} أي ليس ينقص ذلك عز الله تعالى ولا ملكه ولا سلطانه ولا قدرته، {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} أي من اطاعه وعمل بأمره))(1) .

والآية وان نزلت في حادثة وقعت الا انها تتحدث عن حالة انقلابية مستقبلية أيضاً شارك فيها جمع ممن انقلب على عقبيه يوم أحُد ولم تستطع السنوات التالية من مصاحبة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من القضاء على ادران الجاهلية في قلوبهم، فكان ما وقع يوم أحُد تدريباً وإعداداً للمسلمين لكي يتحملوا تلك الصدمة الحقيقية ويتخذوا الموقف الحازم الذي أمرهم الله تعالى به، فيحذرهم من الانقلاب على51

ص: 204


1- السيرة النبوية لابن هشام: 3/ 51

الاعقاب عند موت أو قتل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والا فان المسلمين فرّوا من المعارك في مرات عديدة وان آياتٍ أخر ذكرت الفرار من دون هذه التعابير كقوله تعالى في هزيمتهم يوم حنين {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} (التوبة:25) .بل يخبرهم أَن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) اذا مات أو قتل فعلاً في الزمان الآتي فأنكم ستنقلبون على اعقابكم وترجعون عن طاعة ما أمر به ربكم، والفرق ان ما وقع يوم أحُد من بعضهم كان ارتداداً عن الدين كما صرحوا في كلماتهم اما انقلابهم عند موت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فعلاً فهو في الدين وليس عن الدين والكفر به كفر بالنعمة التي أنعم الله تعالى بها بإكمال الدين بالولاية لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، واستعمال صيغة الماضي {انقَلَبْتُمْ} لافادة التحقق القطعي كما في الحكاية عن أحداث يوم القيامة بصيغة الماضي، وقد حذرهم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من هذا الانقلاب في يوم الغدير حين أمر المسلمين ببيعته ولياً لأمورهم بعده، فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (معاشر الناس أنذركم اني رسول الله إليكم قد خلت من قبلي الرسل، {أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} ، الا وان علياً هو الموصوف بالصبر والشكر، ثم من بعده ولدي من صلبه)(1) .50

ص: 205


1- نور الثقلين: 1/ 253 ح 386 عن الاحتجاح: 1/ 150

وقال في الحديث المشهور لدى الفريقين (ستفترق أمتي بعدي ثلاث وسبعين فرقة)(1) .وقد وقع هذا الانقلاب باتفاقهم على اقصاء من نصبه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إماماً وخليفة من بعده، وأشار أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى هذا الرجوع على الاعقاب بقوله في خطبة الوسيلة (حتى إذا دعا الله عز وجل نبيه ورفعه اليه، لم يك ذلك بعده إلا كلمحة من خفقة، أو وميض من برقة، الى أن رجعوا على الأعقاب ، وانتكصوا على الأدبار، وطلبوا بالأوتار، وأظهروا الكتائب، وردموا الباب، وفلوا الديار، وغيروا آثار رسول الله، ورغبوا عن أحكامه، وبعدوا من أنواره، واستبدلوا بمستخلفه بديلا، اتخذوه وكانوا ظالمين، وزعموا أن من اختاروا من آل أبي قحافة أولى بمقام رسول الله ممن اختار رسول الله لمقامه، وأن مهاجر آل أبي قحافة خيرٌ من المهاجري الأنصاري الرباني ناموس هاشم بن عبد مناف)(2).

وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حديث طويل (وليس كل من أقرَّ أيضاً من أهل القبلة بالشهادتين كان مؤمناً، ان المنافقين كانوا يشهدون ان لا اله الا الله وان محمداً رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ويدفعون أهل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بما عهد به من دين الله وعزائمه وبراهين نبوته إلى وصيه، ويضمرون من الكراهية لذلك والنقض لما أبرمه منه عند امكان الأمر لهم فيه بما قد بيّنه الله لنبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بقوله {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ})(3) .03

ص: 206


1- بحار الأنوار: ج 28 / ص 4 عن الخصال: 585، كنز العمال للمتقي الهندي: 1/ 210، الدر المنثور:2/ 290، دلائل النبوة للبهيقي:6/ 288
2- نور الثقلين: 1/ 252 ح 384 عن روضة الكافي: 8/ 29، ضمن حديث 4
3- نور الثقلين:1/ 253 ح 388 عن الاحتجاج: 1/ 103

وطبّقت السيدة الصديقة فاطمة الزهراء (علیها السلام) الآية الكريمة على فعلهم فقالت في خطبتها لما سلبوها فدكاً وانتهكوا حرمة دارها (أتقولون مات محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فخطب جليل استوسع وهنه واستنهر فتقه وانفتق رتقه وأظلمت الأرض لغيبته وكسفت الشمس والقمر وانتثرت النجوم لمصيبته وأكدت الآمال وخشعت الجبال وأضيع الحريم وأزيلت الحرمة عند مماته فتلك والله النازلة الكبرى والمصيبة العظمى لا مثلها نازلة ولا بائقة عاجلة أعلن بها كتاب الله جل ثناؤه في أفنيتكم وفي ممساكم ومصبحكم يهتف في أفنيتكم هتافا وصراخا وتلاوة وإلحانا ولقبله ما حل بأنبياء الله ورسله حكم فصل وقضاء حتم : {وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ})(1).وقوله تعالى {فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) مطلق ينفي كل اشكال ومراتب الاضرار والتأثير، فهذا وعد من الله تعالى بأن كل اشكال الانقلابات لا تضرّ الله شيئاً لذا نرى ولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بقيت ثابتة وظل عَلمُهم خفاقاً رغم كل الظلم والاضطهاد والقتل والتعذيب الذي انزله الطغاة بهم وبشيعتهم {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف:128) {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الأنعام : 45).03

ص: 207


1- نور الثقلين: 1/ 253 ح 387 عن الاحتجاج : 1/ 103

ملحق: ماذا خسرت الأمة حينما ولّت أمرها من لا يستحق(1)

*ملحق: ماذا خسرت الأمة حينما ولّت أمرها من لا يستحق(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

الحمد لله الذي هدانا لهذا, وما كنّا لنهتدي؛ لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق؛ والحمد لله الذي جعلنا من الموفين بعهده, وميثاقه الذي واثقنا به, من ولاية ولاة أمره والقوّام بقسطه، ولم يجعلنا من الجاحدين المكذبين بيوم الدين، وصلى الله على رسوله والأئمة الميامين من آله وسلم تسليماً كثيراً.

رزية الخميس:

كانت وفاة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يوم الاثنين, الثامن والعشرين من صفر على ما هو المشهور(2)، فتكون رزية يوم الخميس كما سماه عبد الله بن عباس(3), يوم الرابع والعشرين من صفر - أي في مثل يوم أمس-، وكانت رزية حقاً؛ إذ انقطع في ذلك اليوم آخر أمل لتمسك الأمة بوصية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في الإمام والخليفة من بعده، وأعلنوا معارضتهم الصريحة والواضحة لهذا التعيين، لذلك قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)

ص: 208


1- محاضرة ألقاها سماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على حشد من فضلاء وطلبة الحوزة العلمية, يوم: 25/ صفر/1423ه-- المصادف: 8/آيار/2002م, في مسجد الرأس الشريف, مجاور الصحن الحيدري المطهر, بمناسبة ذكرى وفاة رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).
2- بحار الأنوار- المجلسي: 22/ 534.- تأريخ الطبري- الطبري: 2/ 197.- سيرة بن هشام- ابن هشام: 4/ اليوم الذي قبض الله تعالى فيه نبيه الأكرم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).
3- أنظر: بحار الأنوار- المجلسي: 30/ 531 - المراجعات- السيد شرف الدين: 352._ وتأريخ الطبري أيضاً المجلد الثاني السنة الحادية عشر.

لأهل بيته: (أنتم المستضعفون بعدي)(1)، وأوصى أمته بهم خيراً، ولو كان يعلم أن الأمر يؤول إليهم لما احتاج إلى الوصية بهم، وفي حديث للإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يُعبر فيه عن ألمه العميق من تضييع الأمة لبيعة يوم الغدير ولحق أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فيقول: (أحدكم يشهد له شاهدان بحق, فيأخذ بحقه، وإن جدي أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) شهد له يوم الغدير بحقه ستون ألفا, ولم يقدر على الأخذ بحقه)(2).

النزاع بين الخط الإلهي والخط البشري:

ولا أُريد أن أناقش أسباب هذا التضييع, وإهمال الأمة؛ لهذا الحق, الذي أخذه الله على كل المؤمنين، - فلهذه المناقشة محل آخر-، لكنني أعتقد أن أحد هذه الأسباب, والذي لا زال في ذهن الناس مما يقلّل من وعي خطورة هذا التضييع هو القصور في فهم النزاع، فقد فهموه على أنه نزاع بين شخصين، هما علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ومن نازعه الأمر.

فهم لا ينكرون فضل علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وسابقته, وجهاده, وعلمه, وقربه من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وشجاعته, وفناءه في الله؛ لكنهم يرون أن المُقابل أيضاً من السابقين إلى الإسلام, وثاني اثنين, إذ هما في الغار, وصهر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وبدريّ, وأحديّ.

بل حاولوا تلفيق بعض المناقب ليساووه بأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), أو يقتربوا منه

ص: 209


1- معاني الأخبار- الشيخ الصدوق: 79- الإرشاد- الشيخ المفيد: 1/ 184.
2- نهج الإيمان- بن جبر (من أعلام القرن السابع)- تحقيق السيد أحمد الحسيني: 577.

(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وإزاء هذه المقارنة, لم يجدوا المسألة مهمة بهذه الدرجة, ولا تستحق أن ينشق المسلمون إلى طائفتين عظيمتين، ولا جدوى في البحث فيها, فقد أكل عليها الدهر وشرب.ولو فهموها بصورتها الصحيحة, لغيروا عقيدتهم، ولما وجدوا أي تردد في قبول المذهب الحق؛ لأن الخلاف ليس بين شخصين - وإن كان بحد ذاته دليلاً كافياً لسمو علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على غيره كسموّ الثريا على الثرى- وإنما بين مبدأين وخطين كان علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) رمز الأول, ومنافسه رمز الثاني.

الخط الأول: مبدأ وخط رسمه الله تبارك وتعالى خالق السموات والأرض العالم بخفيات الأمور, وبواطن النفوس, وبما كان وسيكون، واختاره للأمة, لتصل إلى كمالها المنشود، وبلّغه رسوله الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في يوم الغدير.

يقف في أول الخط, علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، ومن بعده الحسنان(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سبطا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، ومن بعدهما الأئمة الطاهرون(عَلَيْهِ السَّلاَمُ), الذين أطبقت الأمة على نزاهتهم, وعلمهم, وتمثيلهم الكامل للشريعة الإلهية، ومن بعدهم العلماء العارفون, الأتقياء الصالحون, حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

الخط الثاني: خطٌّ يصنعه البشر, بأهوائهم, وأساليبهم الشيطانية, من قهر وإذلال, أو إغراء بالمال, أو ظلم وتعسف, أو تضليل وتمويه وادعاءات باطلة، وكان الآخر رأس هذا الخط, فقد اختارته قريش -كما يقول الخليفة الثاني- وليس الله الذي اختاره.

ويتتابع على هذا الخط, معاوية ابن أبي سفيان, الذي يقول: (إني والله ما

ص: 210

قاتلتكم لتصلوا, ولا لتصوموا, ولا لتحجوا, ولا لتزكوا, إنكم لتفعلون ذلك. وإنما قاتلتكم, لأتأمر عليكم, وقد أعطاني الله ذلك, وأنتم كارهون)(1). ومن بعده يزيد بن معاوية, شارب الخمر على منابر المسلمين, والذي أحرق الكعبة بالمنجنيق, وقتل ريحانة رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)(2).

ومن بعده الآخرون, الذين سفكوا الدماء وهتكوا الأعراض ونشروا الفساد وضلّوا وأضلّوا {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} (الأعراف:38).

مع الوعي في الطرح:

عندما تعرض المقارنة بهذا الشكل، ولو استوعبها الصحابة والأجيال جميعاً, بهذا الشكل, لما ترددوا في الإيمان بصحة الخط الأول, والتمسك به، على أنهم غير معذورين من أول الأمر، لأن القرآن صريح {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} (الأحزاب:36)، وقال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتعالى عَمَّا يُشْ-رِكُونَ} (القصص:68)، بل إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نفسه لم يكن له هذا الحق, حينما عرض عليه بنو عامر

ص: 211


1- مقاتل الطالبيين- أبو الفرج الأصفهاني: 45.
2- أن يزيد بن معاوية أول من سن الملاهي في الإسلام من الخلفاء, وآوى المغنين, وأظهر الفتك, وشرب الخمر. الأغاني- أبو فرج الأصفهاني: 17/ 301.- وللمزيد أنظر: تأريخ الطبري المجلد الثالث- سيرة الأئمة- هاشم معروف الحسني: 2. منتهى الآمال- عباس القمي: 1/الباب الخامس.- معالم المدرستين- مرتضى العسكري: 5/يزيد في أفعاله وأقواله.

أن يسلموا مقابل أن يجعل لهم الأمر من بعده، فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء)(1), وفي رواية أخرى(ان الله تعالى اختارني وأهل بيتي عن جميع الخلق, فانتجبنا, فجعلني الرسول, وجعل علي بن أبي طالب الوصي، ثم قال: ما كان لهم الخيرة, يعني ما جعلت للعباد ان يختاروا, ولكني اختار من أشاء, فأنا وأهل بيتي صفوة الله وخيرته من خلقه)(2).ومحل الشاهد, أني اعتقد, أن طرح الموضوع بهذا الشكل يكون أجدى وأوضح.

ماذا خسرت الأمة؟

ولكي نزيده وضوحاً نطرح سؤالاً، وهو: ماذا خسرت الأمة, بتضييعها وصية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في الخليفة من بعده؟؛ وماذا ترتب على هذا الإهمال من نتائج سلبية؟

وحينما أتناول هذا البحث, فإني لا أريد فقط أن أناقشها كقضية تأريخية، وإن كانت من الأهمية بمكان؛ لابتناء أصل من أصول الدين, وهو أصل الإمامة عليها.

ولكن الذي أريده, هو الاستفادة من هذا الدرس, واستخلاص العبرة؛ لأن الإمامة بالحمل الأولي, وإن كانت مختصة بالأسماء المعينة, إلا أنها بالحمل

ص: 212


1- السيرة النبوية- ابن هشام: 1/ 425, من طبعة مصطفى البابي. وفي طبعة المدني: 2/ 289.- تاريخ الطبري- الطبري: 2/ 35.- سير أعلام النبلاء- الذهبي: 1/ 35.
2- مناقب آل أبي طالب- ابن شهر آشوب: 1/ 220.

الشايع - أعني النيابة العامة عن الإمام, وولاية أمر المسلمين, المتمثلة بالمرجعية الشريفة الجامعة لشروط القيادة- مستمرة إلى أن يرث الأرض ومن عليها الإمام المنتظر(عج). فإذن يبقى باب هذه النتائج السلبية التي سنتعرض لها, بإذن الله تعالى, مفتوحاً لها كلها, أو بعضها, كلما ولت الأمة أمرها إلى من لا يستحق، فيكون من الضروري الالتفات إليها, فنعود إلى أصل السؤال:

وهو ماذا خسرت الأمة عندما ولّت أمرها غير صاحب الحق الشرعي؟

وماذا ترتّب على ذلك من نتائج سلبية؟

النتائج الوخيمة لتولي غير المؤهلين لإمامة الأمة

النتيجة الأولى: تصدي غير المؤهلين للإمامة:

فمن المعلوم أن أية رسالة, وأية آيديولوجية - بتعبير اليوم - لا بدَّ أن يكون حاملها مستوعباً لها بشكل كامل, فهماً وتطبيقاً، بحيث تكون هذه العقيدة, هي الموجهة له في كل سلوكه, وتصرفاته, وأفكاره, وعلاقاته, ولم يكن القوم كذلك، وإنما هم أناس عاديون, كبقية أفراد المجتمع، ويوجد كثير غيرهم ممن استوعب الرسالة وجسَّدها في حياته خيراً منهم.

وقد كانوا يعترضون على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حياته ويتمردون على أوامره(1), حتى آخر حياته؛ بتخلفهم عن جيش أسامة(2)، وعدم تلبية أمره (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)

ص: 213


1- أنظر: بحار الأنوار- المجلسي: 30/ 531 - المراجعات- السيد شرف الدين: 352.
2- السيرة النبوية لابن هشام: ج4/ أمر الرسول بإيفاد بعث أسامة.

حينما طلب قرطاساً في رزية يوم الخميس(1).وكانت الجاهلية تعيش في نفوسهم، حيث قضوا أكثر أعمارهم فيها، وقد كشف عن عدم أهليتهم, جهلهم, وتخبّطهم في الأمور، ويصف أمير المؤمنين إمرتهم المنحرفة في الخطبة الشقشقية: (فَيَا عَجَبا بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا(2), فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لآِخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا(3)! فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كُلاَمُهَا(4), وَيَخْشُنُ مَسُّهَا. وَيَكْثُرُ الْعِثَارُ(5), فِيهَا. وَالاعْتِذَارُ مِنْهَا. فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ(6), إِنْ أَشْنَقَ(7), لَهَا خَرَمَ. وَإِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ(8), فَمُنِيَ النَّاسُ لَعَمْرُ اللَّهِ بِخَبْطٍ(9), وَشِماسٍ(10), وَتَلَوُّنٍ وَاعْتِرَاضٍ(11))(12).

حتى قال الثاني: (كل الناس أفقه من عمر, حتى ربات الحجال)(13), بعد أن2.

ص: 214


1- أنظر: الطبقات الكبرى- ابن سعد: 2/ 242. بحار الأنوار- المجلسي: 30/ 531 - المراجعات- السيد شرف الدين: 352._ وتأريخ الطبري أيضاً ج12/ السنة الحادية عشر.
2- يَسْتَقِيلها: يطلب إعفاءه منها.
3- تشطرا ضرعيها: اقتسماه فأخذ كلّ منهما شطراً، والضرع للناقة كالثدي للمرأة.
4- كَلْمُها: جرحها، كأنه يقول: خشونتها تجرح جرحاً غليظاً.
5- العِثار: السقوط والكَبْوَةُ.
6- الصّعْبة من الابل: ما ليستْ بِذَلُول.
7- أشْنَقَ البعير وشنقه: كفه بزمامه حتى ألصق ذِفْرَاه (العظم الناتىء خلف الاذن) بقادمة الرحل.
8- تَقَحّمَ: رمى بنفسه في القحمة أي الهلكة.
9- خَبْط: سير على غير هدى.
10- الشِّماس - بالكسر -: إباء ظَهْرِ الفرسِ عن الركوب.
11- الاعتراض: السير على غير خط مستقيم، كأنه يسير عَرْضاً في حال سيره طولاً.
12- شرح نهج البلاغة- ابن أبي الحديد: 1/ 151.
13- شرح نهج البلاغة- ابن أبي الحديد: 1/ 182.

نهى عن زيادة المهر عن حد معين، فأجابته امرأة: أما سمعت قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} (النساء:20).وقد أشكلت عليهم الكثير من المسائل, حتى الاعتيادية منها(1), التي كانت تتكرر في حياة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كالصلاة على الجنائز، ولما سئل الثاني عن سبب قلة استفادتهم من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (ألهانا الصَّفْقُ بالأسواق)(2)، وكانوا يشككون حتى بنبوة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعصمته، فيقول له أحدهم وجهاً لوجه: (أنت الذي تزعم أنك رسول الله)(3)، أو يقولون عنه: (إن الرجل ليهجر)(4).

الإعداد النبوي للخليفة الحق:

في مقابل ذلك كان هناك شخص, يعدّه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), إعداداً خاصاً, لكي يتسلم هذا الموقع، ذاك هو علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فاستمع إليه يتحدث عن هذه التربية الخاصة: (وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بِالْقَرَابَةِ الْقَريبَةِ، وَالْمَنْزِلَةِ الْخَصيصَةِ، وَضَعَني في حِجْرِهِ وَأَنَا وَلَدٌ، يَضُمُّني إِلى صَدْرِهِ، وَيَكْنُفُني في فِرَاشِهِ، وَيُمِسُّني جَسَدَهُ، وَيُشِمُّني عَرْفَهُ, وَكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْ ءَ ثُمَّ يُلْقِمُنيه، وَمَا وَجَدَ لي كَذْبَةً في قَوْلٍ، وَلاَ خَطْلَةً في فِعْلٍ).. إلى أن قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):

ص: 215


1- أنساب الأشراف- البلاذري: 1/ 100.- الفتح الرباني- الإمام الشوكاني: 8/ 800.
2- كنز العمال- المتقي الهندي: 2/ 569.- إتحاف المهرة- ابن حجر العسقلاني: 12/ 322.
3- الأمالي- الشيخ الصدوق: 254.- مسند أبي يعلى- أبو يعلى الموصلي: 12/ 229.
4- الطبقات الكبرى- ابن سعد: 2/ 242.- صحيح البخاري- البخاري: 1/ 34/ح114.

(وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لي في كُلِّ يَوْمٍ عَلَماً مِنْ أَخْلاَقِهِ، وَيَأْمُرُني بِالاِقْتِدَاءِ بِهِ, وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ في كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ، فَأَرَاهُ وَلاَ يَرَاهُ غَيْري, وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإِسْلاَمِ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وَخَديجَةَ, وَأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسالَةِ، وَأَشُمُّ ريحَ النُّبُوَّةِ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّهَ الشَّيْطَانِ, حينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: هذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرى مَا أَرى، إِلاَّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ، وَلكِنَّكَ وَزيرٌ، وَإِنَّكَ لَعَلى خَيْرٍ)(1). وفي نهاية خطبة مماثلة أخرى يسأل(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مستنكراً: (فَمَنْ ذَا أَحَقُّ بِهِ مِنّي, حَيّاً وَمَيِّتاً؟)(2).

آثار خطيرة:

هكذا كان يتم تهيئة الإمامة البديلة، أما هؤلاء, فلم يتلقوا شيئاً من ذلك، لذا فقد أفرز تصدي هؤلاء غير المؤهلين عدة آثار خطيرة:

1-تشوّه صورة الإسلام نفسه؛ لأن كثيراً من الأمم والشعوب دخلت الإسلام بعد رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فهي لم تأخذه من مصدره، وإنما نقل لها عبر كلام وسلوك أصحابه، ولما كان هؤلاء غير مؤهلين لتمثيل الإسلام بصورته النقية الكاملة, ولم يعرف المسلمون الجدد غير هذه الصورة المعروضة أمامهم فَتَبنّوها على أنها الإسلام الحقيقي، وتزايد هذا البعد عن الإسلام بمرور الزمن، حتى

ص: 216


1- نهج البلاغة- الشيخ محمد عبده: 2/ 157.
2- نهج البلاغة- الشيخ محمد عبده: 2/ 171.

صرتَ ترى أقواماً لا تفقه من الإسلام شيئاً غير الاسم وبعض الشكليّات.2-تجرّي أعداء الإسلام خصوصاً اليهود عليه، وما كانوا يستطيعون أن يظهروا شيئاً منه في عهد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، لعدم وجود ثغرة يمكن أن يدخلوا منها، أما وقد تصدّى لهذا الموقع العظيم ناس غير مؤهلين لهذا الموقع، ويمكن التغلب عليهم وإحراجهم، فمن السهولة إذن هزّ ثقة المسلمين بدينهم, بتكرر الفشل من قادتهم.

وبالنتيجة تخليهم عن هذا الدين، فلم يكن من الغريب حصول هذه الهجمة العنيفة من الامتحانات العسيرة والمتنوعة, التي أحرج بها اليهود الخليفة الاول, والثاني, وتزعزعت ثقة المسلمين, وشعروا بالإحباط، وكادوا يرتدون لولا وجود أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالمرصاد، الذي كان يجيبهم على كل أسئلتهم ويردّ كيدهم إلى نحورهم(1).

3-انفتاح باب الطمع بهذا المنصب الشريف, لكلّ محبي الرئاسات, والجاه, واتباع الهوى، بعد أن أصبح نيله ليس بالاستحقاق, وفق معايير الرسالة، وإنما هو لمن غلب وقهر, ولو بالسيف، حتى أصبح مستساغاً أن يولي معاوية ابنه يزيد, المعروف بالفسق, والفجور, على رقاب المسلمين.

النتيجة الثانية: فتح باب الاجتهاد مقابل النص:

أي الحكم والتشريع بالآراء الشخصية, خلافاً للنص الإلهي الحكيم، وهو

ص: 217


1- أنساب الأشراف- البلاذري: 1/ 100.- الفتح الرباني- الإمام الشوكاني: 8/ 800.- الغدير- الاميني: 7/ 177.

يعني أن الإنسان يُنصّب نفسه مشرعاً, وإلهاً, يُطاع في مقابل ألوهيّة الله تبارك وتعالى, الذي هو وحده له حق التشريع والحاكمية، وهو ما رفضه الله تبارك وتعالى, رفضاً قاطعاً، وجعل كل حكم وتشريع ليس مستنداً إلى الشريعة المقدسة, جاهلية، فقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (المائدة:44)، وفي آية أخرى {الظَّالِمُونَ} (المائدة:45)، وفي ثالثة {الْفَاسِقُونَ} (المائدة:47).وكان من شروط الإيمان الكامل: التسليم, والإذعان, لحكم الله تعالى {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء:65)، لكن القوم فتحوا باب الاجتهاد واسعاً، ولم يكترثوا كثيراً للنص الشرعي لعدة أسباب:

1-جهلهم, وعدم اطلاعهم الكامل على أحكام الشريعة، فراحوا يستنبطون من أنفسهم, ما يسدّ نقصهم.

2-لأجل المحافظة على الأغراض, والمصالح التي أرادوها, فلا بد من تعطيل النصوص, التي تتعارض مع المنهج الذي اختطوه، وتبرير الأفعال المخالفة بصراحة لحكم الله تبارك وتعالى.

3-تغييب الممثل الحقيقي واللسان الناطق بالشريعة.

وقد عطل هذا الاجتهاد الكثير من التشريعات, التي كانت مصدر خير للأمة، ومنها الزواج المؤقت, الذي قال عنه أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لولا نهي فلان عن

ص: 218

المتعة, ما زنى إلا شقي)(1). وبالمقابل برّر هذا الاجتهاد أشنع المنكرات، فمثل مالك بن نويرة(2) الذي شهد له رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالجنة يُقتل، ويدخل خالد بزوجته في نفس الليلة، ويأتي جواب الخلافة ببرود: (تأوّل خالد فأخطأ)(3).

ويخرجون لقتال إمام زمانهم بكل المقاييس التي عندهم في معارك طاحنة في الجمل, وصفين(4)، وكله اجتهاد يؤجرون عليه وإن أخطأوا فلهم أجر واحد.

وقد تأصل هذا الاجتهاد فيما بعد, وتعمق، ووضعوا له أصولاً وقوانين، وأصبحت مذاهب في مقابل مذهب الحق.

النتيجة الثالثة: عرقلة تربية الأمة وتكاملها:

فقد شاءت الإرادة الإلهية, أن تنقذ البشرية بهذه الرسالة المباركة من حضيض الجاهلية النكدة, إلى سمو التوحيد, وطهارة الإيمان, وسعادة الدارين،

ص: 219


1- الكافي- الشيخ الكليني:5/ 448.
2- مالك بن نويرة, الحنفي, اليربوعي, من أرادف الملوك, ومن شجعان عصره, وفصحائهم, وكان من أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), ومن خُلّص أصحاب أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، انتظر بقومه بعد وفاة الرسولص إلى أن يتبين موقف أمير المؤمنينع فأرسل أبو بكر إليهم خالد بن الوليد فغدر بهم وقت الصلاة وأمر بقتل مالك حين رأى جمال امرأته. الكنى والألقاب- الشيخ عباس القمي: 1/ 42.
3- الطبقات الكبرى, متمم الصحابة, الطبقة الرابعة- ابن سعد:535.- أسد الغابة- ابن الأثير: 2/ 95.- البداية والنهاية- ابن كثير: 6/ 354.
4- الفصول المهمة في معرفة الأئمة- ابن الصباغ: 1/ 348.- تاريخ الطبري- الطبري: 3/ 543.- الكامل في التاريخ- ابن الأثير: 3/ 276.

وقد قُدر لهذه المسيرة أن تتكامل, لتنشأ أمة, متكاملة, على يد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), والأئمة المعصومين من آله، لكن إبعاد الأئمة(عَلَيْهِ السَّلاَمُ), عن موقع قيادة المجتمع, أدى إلى عرقلة هذه المسيرة, وبطئها, من عدة جهات:1-إن من العناصر المهمة في التربية, هو القدوة, والأسوة الحسنة, على تعبير القرآن؛ لأنه يُمثل التطبيق للأفكار التربوية، فإذا غاب القدوة, أو كان القدوة منحرفاً, فلا ينفع الكلام مهما كثر، ويبقى مجرد حبر على ورق.

والقوم لم يكونوا يمثلون قدوة حسنة، ولم يستطيعوا عكس صورة نقية للسلوك الإسلامي، بل إنه على مرور الأيام كان النموذج المعروض مناقضاً تماماً لتعاليم الإسلام، فكيف نتوقع منه أن يربي الأمة ويقودها نحو التكامل؟

ففي حين يقرأ المسلم في أخلاق الإسلام (وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى)(1), يجد في التعامل تفضيل العرب على غيرهم, الذين يسمونهم الموالي، ويعتبرونهم مواطنين من الدرجة الثانية، وبينما يقرأ في القرآن {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (الشورى:23), يجد الخلافة تُلاحق أهل بيت النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), تحت كل حجر ومدر, قتلاً, وتشريداً, وسجناً، وبينما يقرأ حرمة شرب الخمر في القرآن, يجد حاكم المسلمين يشربه على منابر المسلمين, ويتقيأه في محرابهم(2).

2-فرص الانحراف الكثيرة التي توفرت للناس في ظل الخلافة2.

ص: 220


1- مسند احمد- احمد بن حنبل: 5/ 411.- تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 34.
2- صحيح مسلم - مسلم النيسابوري: 3/ 331/ح38.- الفتوح- ابن أعثم الكوفي: 5/ 12.

المنحرفة، والنفس بطبيعتها ميالة للشهوات, مع غياب الرادع الذي يحصّن الأمة من الانحراف, وهم الذين عناهم الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (آل عمران:104). وقد بدأت هذه النفوس الأمارة بالسوء تظهر في أيام الخلافة الأولى, في وقت مبكر، وبدأت الدنيا تنمو في قلوبهم، وأصبحت هذه الامتيازات, والمصالح, واقعاً ثابتاً, لا يرضون بتغييره، بحيث أن عبد الرحمن بن عوف, الذي جُعل حكماً في أمر تعيين الخليفة, من بين الستة أهل الشورى, يشترط على عليٍّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن يبايعه بشرط, أن يعمل بكتاب الله وسنة نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وسيرة الشيخين(1).

فما هي: سيرة الشيخين التي يضمّها عبد الرحمن إلى كتاب الله, وسنة رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)؟

إنها: هذه الامتيازات الطبقيّة, وهذه الدنيا المحضة, التي وفرتها لهم الخلافة الأولى، بحيث أن عبد الرحمن(2), هذا وأمثاله, كزيد بن ثابت(3) وغيرهم, تركوا من الذهب ما يُكسّر بالفؤوس - حسب ما ينقل التأريخ- ولم يكن أمير4.

ص: 221


1- بحار الأنوار- المجلسي: 31/ 399.
2- في الطبقات الكبرى: (إنّ عبد الرحمن بن عوف تُوفّي، وكان فيما ترك ذهبٌ؛ قُطّع بالفؤوس حتى مَجِلَت - أي ثخُن جلدُها وظهر فيها ما يشبه البَثَر من العمل بالأشياء الصلبة الخشنة- أيدي الرجال منه. وترك أربع نسوة، فأُخرجت امرأة من ثُمنها بثمانين ألفاً). الطبقات الكبرى- ابن سعد: 3/ 136.- أُسد الغابة- ابن الأثير: 3/ 480.- البداية والنهاية- ابن كثير: 7/ 164.
3- قال المسعودي: (خلف من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس, غير ما خلف من الأموال, والضياع, بقيمة مائة ألف دينار). مروج الذهب:1/ 434.- الغدير- الأميني: 8/ 284.

المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ), ليوافق على هذا الشرط, فيكون منه إمضاءً, واعترافاً, بهذه السيرة؛ لأن هذه السيرة, إن كانت موافقة للكتاب والسنة, فلا داعي لذكرها، وإن كانت مخالفة, فارمِ بها عرض الجدار، فما الوجه لضمِّها إلى أصلَي التشريع.3-الصورة المشوهة للشريعة, التي كانت معروضة للأمة, من خلال العلماء, والرواة, المتزلفين للخلفاء, والطامعين بما في أيديهم، فكيف نتوقع من شخص لم يشاهد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), ولم يطّلع على مواقف علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مباشرة, أن يوالي علياً, ويتبعه، وهو يسمع صحابيّاً يروي, أن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: إن الآية الشريفة: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ 204 وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} (البقرة:205) نزلت في عليّ بن أبي طالب(1).

فلا نتوقع من أغلب المسلمين في الأرض, إلا أن يحملوا هذه الصورة المشوهة للإسلام، لأنهم لم يسمعوا غيرها، ولم يشاهدوا غيرها، فكان طبيعياً أن يعتقدوا جازمين, أن هذا هو الإسلام.

ومن هنا اقتضت الحكمة الإلهية, أن تُغيّب الإمام الثاني عشر(عج) هذه3.

ص: 222


1- (أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مئة ألف درهم حتى يضع حديثا في أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ 204 وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} {البقرة:205}, إنها نزلت في عليّ بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), وأن الآية الثانية, نزلت في ابن ملجم، وهي قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} {البقرة:207}، فلم يقبل، فبذل له مئتيّ ألف درهم فلم يقبل، فبذل له ثلاثمئة ألف فلم يقبل، فبذل له أربعمئة ألف فقبل، وروى ذلك). شرح نهج البلاغة- ابن أبي الحديد: 4/ 73.

المدة الطويلة, إلى أن يأذن الله تعالى له بالظهور، كل ذلك لتستمر تربية الأمة مدة أطول، ولتمر بتجارب, وابتلاءات, وتمحيصات أكثر، حتى تصل إلى مستوى النضج, والكمال المطلوب, الذي يؤهلها لمواصلة مسيرة الكمال مع الإمام المهدي(عج)، بينما لو قُدّر لهذه الأمة أن تتربى في أحضان الأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ), لوصلت إلى درجة الكمال قبل هذا التأريخ بكثير.

النتيجة الرابعة: تمزق الأمة وتشتتها:

وتفرقها شيعاً, وأحزاباً, {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم:23)، وهذه نتيجة طبيعية, للابتعاد عن الإمامة الحقيقيّة؛ لأن سر تشريع الإمامة, هو تحصين الأمة, من التمزق, والانحراف، كما قالت الزهراء (علیها السلام) في خطبتها الشهيرة بعد وفاة أبيها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (وَجَعَلَ إمَامَتَنَا نِظَاماً للمِلَّةِ)(1), أي تنتظم بها أمورهم وتستقر، وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} (آل عمران:103) {ولا تَنَازَعوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال:46)، وحبل الله الممّدود من السماء إلى الأرض, هما الثقلان, كتاب الله, وعترة رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) - كما بينتُ في شكوى القرآن(2)- مضافاً إلى أن هذا الموقع, بعد أن خرج عن مستقره, وأُبعد عنه أهله, أصبح مطمعاً لكل حالم به.

وشهوة التسلط أقوى الشهوات، وفيها استجابة للأنانية, واستكبار النفس، فمن

ص: 223


1- بحار الأنوار- المجلسي: 6/ 315.
2- أنظر: محلق القبس/109 {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القرآن مَهْجُورًا} {الفرقان:30} من نور القرآن:3/ 284.

الطبيعي أيضاً, أن تكثر الصراعات حول هذا المنصب، وتداس في خضم هذا الصراع كل القيم والأخلاق.وتكفي وقفة تأمل, واستطلاع بسيط للتأريخ, لنقرأ بكل أسف, وألم يفتت القلوب, المآسي التي جرَّها التنازع على السلطان، والخسائر الفادحة في الأنفس, والأعراض, والأموال, التي هدرت في هذا الصراع، فمن الذي يتحمل هذه المسؤولية؟

ومن الذي فتح هذا الباب على المسلمين؟

وماذا يجني من يُحدث هذا الفتق في أمة الإسلام؟

وخير معبر عن هذه الآلام, وهذه الخسائر, أحد الأدعية الواردة في لعن, أعداء آل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والبراءة منهم, إلى أن يقول: (اللهُمَّ اِلْعَنْهُمْ بِعَدَدِ كُلِّ مُنْكَرٍ أَتَوْه, وَحَقٍّ أَخْفَوْه, وَمَنْبَرٍ عَلَوْهُ, ومُنافِقٍ وَلَّوْه, وَمُؤْمُنٍ أَرْجوه, وَوَلِيٍّ آذَوْه, وَطَريدٍ آوَوْه, وصادِقٍ طَرَدوه, وكافِرٍ نَصَروه, وَإِمامٍ قَهَروه, وفَرْضٍ غَيَّروه, وَأَثَرٍ أَنْكْروه, وَشَرٍّ آثَروه, وَدَمٍّ أَراقوه, وَخَبَرٍ بَدَّلوه, وَحُكْمٍ قَلَّبوه, وُكُفْرٍ أَبْدَعوه, وَكَذَبٍ دَلَّسوه, وَإِرْثٍ غَصَبوه, وَفَيْءٍ اقْتَطَعوه, وَسُحْتٍ أَكَلوه, وَخُمْسٍ اسْتَحَلُّوه, وَباطِلٍ أَسَّسوه, وَجوْرٍ بَسَطوه, وظُلْمٍ نَشَروه, وَوَعْدٍ أَخْلَفوه, وَعَهْدٍ نَقَضوه, وَحَلالٍ حَرَّموه, وَحَرامٍ حَلَّلُوه, وَنِفاقٍ أَسَرُّوه, وَغَدْرٍ أَضْمَروه, وَبَطْنٍ فَتَقوه, وَضِلْعٍ كَسَروه, وَصَكٍّ مَزَّقُوه, وَشَمْلٍ بَدَّدُوه, وَذَليلٍ أَعَزوه, وَعَزيزٍ أَذَلُّوه, وَحَقٍّ مَنَعوه, وإِمامٍ خالَفوه، اللهُمَّ الْعَنْهُما, بِكُلِّ آيَةٍ حَرَّفوها, وَفَريضَةٍ تَرَكوها, وَسُنَّةٍ غَيَّروها, وَأَحْكامٍ

ص: 224

عَطَّلوها, وَأَرْحامٍ قَطَعوها, وَشَهاداتٍ كَتَموها, وَوَصِيَّةٍ ضَيَّعوها)(1).ولو شئنا لذكرنا أمثلة, وشواهد, على كل فقرة، لكنها مما لا تخفى على المطلع على التأريخ، فأي قلب لا يذوب أسىً, على ما سببه ذلك التضييع للحق الصريح؟!.

النتيجة الخامسة: عزل الدين عن إدارة الحياة بكل أبعادها وتفاصيلها:

واقتصاره على الطقوس التعبدية, والشؤون الفردية فقط، فإن القوم وإن استطاعوا بالترغيب والترهيب أن يسلبوا السلطة الدنيوية من الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، إلا إنهم لا يستطيعون بأي حال من الأحوال أن يسلبوا مكانته من القلوب, وهيبته في النفوس، ورجوع الناس إليه في شؤونهم الدينية.

هذا الانفصال الذي عبر عنه هارون الرشيد - كما يسمونه- لولده المأمون حينما استغرب من تكريمه للإمام الكاظم(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بما لا نظير له، فقال: (هذا إمام الناس، وحجة الله على خلقه، وخليفته على عباده فقلت: يا أمير المؤمنين أو ليست هذه الصفات كلها لك وفيك؟! فقال: أنا إمام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حق، والله يا بني إنه لأحق بمقام رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مني، ومن الخلق جميعاً، ووالله لو نازعتني هذا الامر, لاخذت الذي فيه عيّناك، فان الملك عقيم)(2).

ص: 225


1- بحار الأنوار- المجلسي: 82/ 260.- المصباح- الكفعمي: 552.
2- بحار الأنوار- العلامة المجلسي: 48/ 131.

والإمام وإن سكت عن المطالبة بحقه في السلطة الدنيوية, من أجل حفظ الإسلام, وكيان المسلمين، إلا أنه لا يمكنه بأي حال من الأحوال التنازل لهم عن الإمامة الدينية, أو الاعتراف بهم, وإمضاؤهم كممثلين لهذه السلطة، فإن في ذلك خيانة لله ولرسوله وللإسلام، على أن هذا الحق لا يتصور التنازل عنه، فإنه ليس امتيازاً أو موقعاً حتى يتخلى عنه، بل هو علم لدنّي بالمعارف الإلهية, وما يرتبط بصلاح العباد، وقدرة وقابلية على تلبية احتياجات الأمة. فكل من كان قادراً على ذلك ووجدت الأمة حاجتها, وآمالها, وطموحاتها عنده, أصبح إماماً، وهكذا كان علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), فما سمعنا انه احتاج إلى أحد في شيء، بل على العكس كانوا يرجعون إليه, في مسائلهم ومشاكلهم وقراراتهم، حتى اشتهر قول الثاني: (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن)(1)، ولذا استدل بعضهم على إمامة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) باحتياج الناس إليه واستغنائه عن الناس(2).

وهذا الفصل بين السلطتيّن ترسخ وتعمق, وانعكس على الدين نفسه، فأصبح مرتكزاً في الأذهان, أن إدارة شؤون الحياة ليس من شؤون الإمامة الدينية، وأن دورها يقتصر على العبادات وبعض الأحكام الشخصية، والتقوا بذلك مع نظرة7.

ص: 226


1- انساب الأشراف- البلاذري: 100.- مناقب آل أبي طالب- ابن شهر آشوب: 1/ 311.- الفتح الرباني- الإمام الشوكاني: 8/ 800.
2- نسب الاستدلال إلى الخليل الفراهيدي (رحمه الله). أنظر: الأعلام من الصحابة والتابعين- حسين الشاكري: 8/ 6. وقريب من ذلك ما رويَّ عن الحارث بن المغيرة قال: (قلت لأبي عبد الله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): بأي شيء يُعرف الإمام؟ قال بالسكينة والوقار،... وتعرفه بالحلال والحرام، وبحاجة الناس إليه، ولا يحتاج إلى أحد) كتاب الغيبة- النعماني: 1/ 247.

الجاهلية, ومع مقولة: (ما لقيصر لقيصر، وما لله لله)(1)، وهذا هو الشرك بعينه، فإن الملك كله لله وحده, والحكم كله لله وحده، وما من واقعة إلا ولله فيها حكم(2). أترى أن الشريعة التي لم تغفل عن تنظيم أبسط التصرفات الحياتية، كالتخلي, والنوم, والاكل, والجماع, ووضعت لها أحكاماً, وآداباً، فهل تغفل عن وضع أنظمة, وقوانين, تنظم حياة المجتمع من جميع الجهات؟ وهذه حقيقة دامغة لا تقبل الشك، إلا أنهم لا يذعنون لها لعدة أمور:

1-إن الشريعة لا تنسجم مع أهوائهم, وأنانيتهم, وحبهم للاستئثار بالفيء, وسائر الامتيازات, وتتعامل مع الجميع على حد سواء.

2-إن تحكيم الشريعة فيه إظهار لجهلهم, وقصورهم, وتقصيرهم، وهو ما تأباه نفوسهم الأمارة بالسوء.

3-إن ذلك أيضاً, يعني احتياجهم للإمامة الدينيّة، وبالتالي يعني تفوق أولئك عليهم, واستحقاقهم لهذا الموقع بدلاً عنهم.

النتيجة السادسة: حدوث الانفصال بين الأمة والخلافة:

لأن الأمر لم يعد في نظر المتصدين, أمر إصلاح, وهداية, وتكميل النفوس, ونيل رضا الله تبارك وتعالى, حتى تتعلق بهم الأمة, وتهفو إليهم القلوب، بل زعامة, وملك, ومصالح, واستئثار, واستعلاء، وقد عبر عنه القوم من أول يوم, وهم

ص: 227


1- نص (إنجيل برنابا)- سيف الله أحمد فاضل: 76.
2- أنظر: جامع أحاديث الشيعة- السيد البروجردي: 1/ 134.

بعد في السقيفة فكان لسانهم: إنما السلطان سلطان قريش فلا ينازعنا فيه أحد(1)، وكانت المسألة أوضح بالنسبة للأقوام الأخرى, التي دخلت الإسلام، وقد أشعروهم بأن الخلافة ملك للعرب، فإذا كانت ملكاً عضوضاً, وهم المستفيدون منها, فما الذي يشد سائر قطاعات الأمة إليهم؟ وما الذي يحثهم على الدفاع عنهم؟ وما هي العلقة التي تربطهم بهم؟

بل على العكس, سادت روح الكراهية, والحقد, والانتقام, كما حصل لأبي لؤلؤة الفارسي, غلام المغيرة بن شعبة, الذي سأم من كثرة التعيير لقومه الفرس, والاستهزاء بهم، فثار لعنصريته ولعصبيته الجاهلية(2).

بالمقابل كان هناك علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):

كان علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وبنوه(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قد ملكوا القلوب، فاستجاب الله تعالى بهم دعوة جدهم إبراهيم {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} (إبراهيم:37), والذي لم تستطع الخلافة بكل جبروتها, أن تنتزعه منهم، وقضية هشام بن عبد الملك, واضحة في أذهانكم, عندما عجز عن الوصول إلى الحجر؛ لازدحام الناس، فتنحى إلى زاوية في البيت الحرام، وما أن قدم الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حتى انفرج عنه الناس سماطين، فمشى بكل وقار وهيبة, حتى وصل إلى الحجر

ص: 228


1- أنظر: الكامل في التاريخ- ابن الأثير: 2/ 329.- خلاصة عبقات الأنوار- حامد النقوي: 3/ 300.
2- أنظر: البداية والنهاية- ابن كثير: 7/ 127.- تاريخ الطبري- الطبري: 3/ 221.

الأسود، وهشام ينظر(1).وكان أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) رغم تواضعه بين أصحابه, حتى كأنه أحدهم, إلا أن له هيبة, عظيمة, في نفوسهم, كما وصفه ضرار بن ضمرة لمعاوية(2).

وذاب أصحابهم في حبهم, قربة إلى الله تعالى, ووفاء لجدهم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وعرفاناً لحقهم عليهم، وتحملوا في سبيل ذلك ما تقشعر منه الأبدان، فهذا ميثم بن يحيى التمار تُقطع يداه, ورجلاه, ويُصلب على جذع نخلة، فيَطلب من الناس الاجتماع, حتى يحدثهم بفضائل أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فلم يمهله5.

ص: 229


1- (أن هشام بن عبد الملك حج في بعض السنين فطاف حول البيت وحاول أن يلمس الحجر الأسود فلم يجد لذلك سبيلاً من كثرة الزحام.. وفي ما هو ينظر إلى الناس إذ أقبل الإمام زين العابدين وكان من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم أرَجاً.. فانفرج له الناس عنه ووقفوا له إجلالاً وتعظيماً حتى إذا استلم الحجر وقبله والناس وُقّفٌ ينظرون إليه وكأنما على رؤوسهم الطير فلما مضى عنه عادوا إلى طوافهم، هذا وهشام بن عبد الملك ومن معه من أهل الشام يرون كل ذلك ونفس هشام يعبث فيها الحقد والحسد.، وفي هذه الحادثة قال: الفرزدق أبياته المشهورة والتي مطلعها: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته هذا ابن خيرِ عادِ اللهِ كلهمُ والبيتُ يعرفهُ والحِ-لُّ والحرمً هذا التقي النقي الطاهر العلمُ أنظر: اختيار معرفة الرجال– الطوسي:121.- الإختصاص- الشيخ المفيد:191. والإرشاد: 2/ 150.- المناقب- ابن شهرآشوب: 4/ 169.- الأغاني- أبو الفرج الأصفهاني: 15/ 217.
2- نقل الرواة عن ضرار بن ضمرة, أنه دخل على معاوية يوماً, (فقال له: يا ضرار صف لي علياً، فقال له: اعفني يا معاوية، فقال له: لا أعفيك، فقال له ضرار: أما إذا كان ولا بد من ذلك، فقد كان والله بعيد المدى شديد القوى… إلى أن قال: ونحن والله مع قربه منا ودنوه إلينا لا نكلمه هيبة له ولا نبتدئه لعظمه في نفوسنا...). بحار الأنوار- المجلسي: 33/ 275.

الفسقة, حتى قطعوا لسانه(1). وهذا حجر بن عدي, يُؤخذ مقيّداً إلى الشام, ويحفر له القبر, ويفرش له النطع, ويُؤمر بسب أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), وإلا فالقتل, ومعه ابنه، فيختار ولاية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، ويُقدّم ابنه, ليحتسبه عند الله تبارك وتعالى, ولئلا يعظم على الابن قتل أبيه فيتراجع، ثم قُدّم فقُتل صابراً محتسباً(2).

وهذا عمار بن ياسر(3), يقاتل في صفين على كبر سنه, ويقول: (والله لول:

ص: 230


1- إن عبيد الله بن زياد قال لميثم التمار بعد أن قبض عليه: تبرأ من علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فقال له: فإن أنا لم افعل؟ قال: إذن والله لأقتلك، قال: لقد أخبرني مولاي أنك ستقتلني مع تسعة أخر على باب عمرو بن حريث، قال ابن زياد: لنخالفنه كي يظهر كذبه، قال ميثم: كيف تخالفه، فوالله ما أخبر إلا عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), عن جبرئيل, عن الله تعالى، فكيف تخالف هؤلاء؟ ولقد عرفتُ الموضع الذي أصلب فيه وأين هو من الكوفة وأنا أول خلق الله أُلجم في الإسلام، فلما رُفع على الخشبة, اجتمع الناس حوله على باب عمرو بن حريث، قال عمرو: قد كان والله يقول: إني مجاورك، فأمر جاريته بكنس تحت خشبته ورشه وتجميره، فجعل ميثم يحدث بفضائل أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ), ومثالب بني أمية وما سيصيبهم من القتل والانقراض، فقيل لابن زياد قد فضحكم هذا العبد، فقال: ألجموه، فألجموه كي لا يتكلم, فجاءه في اليوم الثالث, لعين بيده حربتين, وهو يقول: أما والله لقد كنت ما علمتك إلا قوّاماً صوّاماً، ثم طعنه في خاصرته فأجافه- أي حصل جوف في خاصرته من الطعنة- ثم انبعث منخراه دماً في آخر النهار فخضب لحيته بالدماء واستشهد قبل قدوم الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى العراق بعشرة أيام. بحار الأنوار- المجلسي: 42/ 124.
2- حجر بن عدي الكندي الكوفي من أصحاب أمير المؤمنين ومن الإبدال كان أميراً على بني كنده من قبل أمير المؤمنينع في معركة صفين وكان أمير الجيش يوم النهروان، وقد استشهد حجر وجمع من أصحابه بسعاية زياد بن أبيه وبحكم معاوية بن أبي سفيان سنة إحدى وخمسين للهجرة.
3- عمار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس بن الحصين بن الوذيم ابن ثعلبة بن عوف بن حارثة بن عامر الأكبر، يرجع نسبه الى يعرب بن قحطان، ويكنى أبا اليقظان: تقدم إسلامه ورسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بمكة، وهو معدود في السابقين الأولين من المهاجرين، وممن عُذب في الله بمكة. أسلم هو وأبوه وأمه سمية، وهي أول شهيدة في الإسلام، طعنها أبو جهل بحربة في قبلها فقتلها، ومر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهم يعذبون. فقال:

هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل)(1). وأصحاب الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) - وما أدراك ما أصحاب الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)-، الذين لم يُر لهم نظير في الولاء, والصدق, والإخلاص, والتضحية، يُقدم أحدهم على الموت, وهو مبتسم، فيقال له: ما عهدناك هازلاً قبل اليوم, قال: (والله لقد علم قومي اني ما أحببت الباطل شابا ولا كهلا ولكن والله اني لمستبشر بما نحن لاقون والله ان بيننا وبين الحور العين الا ان يميل هؤلاء علينا بأسيافهم، ولوددت انهم قد مالوا علينا بأسيافهم)(2).

النتيجة السابعة: تأخر ركب الحضارة الإنسانية:

بحيث احتجنا إلى أربعة عشر قرناً, لكي نصنع الطائرة, والكومبيوتر, ونغزو الفضاء، وكان يمكن لهذه الأمور, وغيرها مما لم يصل إليه العقل الإنساني إلى الآن, أن تتحقق قبل مدة طويلة؛ لأن اليد الإلهية واضحة التأثير في قيادة ركب الحضارة البشرية, بفضل ما بثه الأنبياء والأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من علوم، أو من خلال الإلهام والإيحاء، ولولا الرعاية الإلهية لما استطاع الإنسان أن يهتدي إلى أبسط

ص: 231


1- الاختصاص- الشيخ المفيد: 14.
2- وهو برير بن خضير الهمداني: كان زاهداً عابداً سيد القراء ومن أشراف الكوفة. أنظر: مقتل الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- أبو مخنف: 115.- أعيان الشيعة- السيد محسن الأمين: 3 /561.

الأمور، حتى دفن موتاه في التراب لا يعرفه، حتى بعث الله له غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه(1).وإن القرآن الكريم ليضم أسرار ومفاتيح العلوم كلها, فيه {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} (النحل:89)، فيشير إلى غزو الفضاء بالوسائل العلمية, {يَا مَعْشَ-رَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إلا بِسُلْطَانٍ} (الرحمن:33)، وهو سلطان العلم, والتكنولوجيا، كل هذه الأسرار, ومفاتيح العلوم, كانت عند أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)(2) علّمه إياه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (فحدثني بألف حديث يفتح كل حديث ألف حديث، حتى عرقت وعرق رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ))(3).

ولم يكن يحتاج إلى تطبيق معادلات, وقوانين احتمالية, أو يخوض تجارب طويلة حتى يصل الى الحقيقة، بل كانت الحقائق العلمية كلها حاضرة في ذهنه، يراها بالبصيرة, والوجدان رأي العين.9.

ص: 232


1- إشارة إلى قصة ابني آدم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), هابيل وقابيل، وذلك عندما قتل قابيل هابيل, قال تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ 30 فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} {المائدة:31}.
2- وإن شئت الاطلاع على ما كان يمكن أن يقدمه, علي وبنوه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ليقدموا ركب الحضارة الإنسانية, وليوفروا لها السعادة, والحياة الطيبة, فراجع عدة كتب ألفت في هذا المجال، أنظر: مثلاً بحوث في الملل والنحل- جعفر السبحاني: 6/ 525/ الفصل الثاني عشر (دور الشيعة في بناء الحضارة الإسلامية وازدهار العلوم).
3- الخصال- الشيخ الصدوق: 642.- بحار الأنوار- المجلسي: 26/ 29.

فحفر الكثير من الآبار, والعيون, وأوقفها للمسلمين في وقت كان الآخرون يعجزون عن التعرف على مواقع وجود الماء، فأين علم الجيولوجيا من هذه المعرفة الدقيقة, بطبقات الأرض, وما تحتها, من كنوز ومعادن. وكان يقول: (لو شئت لجعلت لكم من الماء نورا ونارا)(1), يقصد توليد الطاقة الكهربائية من شلالات الماء، وغيرها الكثير, في مختلف حقول العلم, والمعرفة.

ثم جاء أولاده (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من بعده, ليبثوا ما تسمح به الحال, من علوم الكيمياء, والرياضيات, والفلك, والفيزياء, والنبات, والحيوان, وغيرها.

فإن قلتَ: إذن ما الذي حبسهم عن إعطاء هذه العلوم التي يحملونها إلى البشرية، وهي مسألة لا تتعلق بتسلمهم موقع القيادة والإمامة وعدمها؟.

قلتُ: إن التقدم المادي مرتبط تماماً بالتكامل الروحي, من خلال البناء الصحيح للعقيدة، ولا بد أن يتقدّما معاً.

وإن الأول بدون الثاني يصبح وبالاً على البشرية ويقودها نحو الدمار، كالذي نشاهده اليوم ممن يسمون أنفسهم بالقوى العظمى, والدول الكبرى، ولما كانت البشرية قد تخلفت, وتدنت في الجانب الثاني, وهو العقائدي والأخلاقي, فلا يمكن إعطاؤها من الجانب الأول, إلا بالمقدار الذي لا يكون خطراً عليها، هكذا اقتضت الإرادة الإلهية أن يلهم الإنسان بعض الأفكار, التي طورت حضارة البشر, ودلته على اكتشافات, وحقائق علمية مهمة في أوقاتها المناسبة، وبالشكل الذي2.

ص: 233


1- موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- الريشهري: 10/ 302.

يحفظ توازن المجتمع الإنساني {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر:49)، ولو كانت مستحقة للمزيد بالتزامها بخط الخلافة الإلهية, لما بخل عليها الله تبارك وتعالى بالعطاء، فلا يغتر الإنسان ويظن أنه هو الذي يحقق ذلك، بل هو من إلهام الله تبارك وتعالى وإيحائه، وللعلماء والمكتشفين كلمات تدل على ذلك، ولو خليّ إلى نفسه لما عرف كيف يتخلص من موتاه بالدفن حتى علمه الغراب –كما ذكرنا-.

لماذا نحتفل بعيد الغدير؟

هذه بعض النتائج التي أفرزها عدم التزام الأمة بحديث الغدير، وإذا كانت الأمور تُعرف بأضدادها كما قالوا، فيمكن أن نعرف سمو المعاني والآثار التي نالها الملتزمون بولاية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فحق لهم أن يحتفلوا بهذا العيد الأغرّ, - أعظم عيد في الإسلام-، عن عبد الرحمن بن سالم، عن أبيه قال: سألت أبا عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), هل للمسلمين عيد, غير يوم الجمعة, والأضحى, والفطر؟ قال: نعم أعظمها حرمة, قلت، وأي عيد هو, جعلت فداك؟ قال: اليوم الذي نصب فيه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقال: <<من كنت مولاه فعلي مولاه>>)(1).

وفي حديث أبي نصر عن الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (يا بن أبي نصر, أينما كنت فاحضر يوم الغدير عند أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فان الله تبارك وتعالى يغفر لكل مؤمن ومؤمنة, ومسلم ومسلمة, ذنوب ستين سنة، ويعتق من النار ضعف ما أعتق في شهر رمضان, وليلة القدر, وليلة الفطر، والدرهم فيه بألف درهم لاخوانك

ص: 234


1- الكافي- الشيخ الكليني: 4/ 149.

العارفين، فأفضل على إخوانك في هذا اليوم, وسرَّ فيه كل مؤمن ومؤمنة، ثم قال:... والله لو عرف الناس فضل هذا اليوم بحقيقته لصافحتهم الملائكة في كل يوم عشر مرات)(1).

لنأخذ الدرس في فهم أشكال المرجعية الدينية:

ونحن كما تعودنا في مثل هذه الكلمات, لا نستهدف فقط تثبيت العقيدة وترسيخها والدفاع عنها، وإن كان هذا في نفسه نفيساً، إلا أنه مما لا يقل عنه أهمية أخذ الدروس, والعبر منه، وهنا تكمن روح العلم والمعرفة، فالعلم بلا عمل وبلا استفادة منه في الحياة, لا قيمة له.

ونحن إذا توسعنا في فهم هذا الموضوع, فسنطبق هذه التجربة على كل رسالة إصلاحيّة, تعمل على هداية الناس, وتكميل نفوسهم كالمرجعية الشريفة, وهي لها شكلان:

الأول: المرجعية الفردية, التي يُقتصر عملها على استنباط الحكم الشرعي, من دون العمل على تطبيقه, ودفع المجتمع إلى امتثاله، والأمر راجع إلى المكلف, إن شاء طبق أو لا، ولا تتدخل إلا في حدود الشؤون الفردية, وما يبرئ ذمم المكلفين, كأفراد، وهو عمل ليس بالهين، وقد قاموا بجهود مضنية, حفظت لنا فقه آل محمد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، لكن هذا الشكل خارج عن موضوعنا، لانحسار دورها عن الإمامة الاجتماعية أصلاً.

ص: 235


1- تهذيب الأحكام- الشيخ الطوسي: 6/ 25.

الثاني: المرجعية الاجتماعية, التي لا تكتفي بمستوى النظرية، - أي مجرد التقنين والتشريع-، وإنما تعمل على تهيئة كل الفرص, واتخاذ مختلف الأساليب؛ لإقناع الناس بتطبيق الشريعة في كل تفاصيل حياتهم، وإذا لم تنفع وسيلة جربت أخرى. وقد شبهت الأولى بالأمّ التي تهيئ الطعام لولدها المريض وتترك الباقي عليه، إن شاء أكل وإن شاء لم يأكل، وقد لا يَعرف مصلحته فيموت جوعاً.

والثانية تشبه الأمّ التي لا تكتفي بإعداد الطعام، بل تُطيّبه وتعمل كل المرغبات, والمحفزات, لولدها كي يأكل, ويحفظ حياته, ويستعيد عافيته، ولا شك أن الثانية أرحم, وأرأف, وأكرم, وأصبر, من الأولى، أو قُل إنها أكثر اتصافاً بالأسماء الحسنى, التي ورد الحث على التخلّق بها.

المرجعية الحركية هي الأجدر:

وهذه المرجعية الثانية, هي الأكثر التصاقاً بالناس, وأعمق تأثيراً فيهم, والأكثر تعلقاً بهم، وهي الأجدر بتمثيل دور المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، فلا غرو أن تكون عرضة لطمع المتنافسين، فإذا تصدى لها غير المؤهل لها, وصنع (سقيفة) ثانية, لإبعاد مستحقيها، ترتبت كل أو بعض الآثار التي ذكرناها، ولا بدَّ أن نستفيد من تلك التجربة, لنكون واعين, وحذرين من تكرارها.

وقد ذكرنا في محاضرتين(1), بمناسبة عيد الغدير عام (1421ه-), الأشكال

ص: 236


1- يأتي في ملحق القبس/34 {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (المائدة:67), ص395, وقد طبع كمقدمة لكتاب أصل الشيعة وأصولها للشيخ كاشف الغطاء, أيضاً.

الثلاثة, التي خطط بها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للخليفة من بعده، وكيفية تأسي المرجعية به (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في هذا المجال، ومسؤولية الأمة في صيانة هذا الموقع الشريف, والتمسك بأهله. فيكون هذا البحث مكملاً له، ومما ذكرنا هناك, أن لهذا الموقع شروطاً, صنفتُها إلى ثابتة ومتحركة، والأولى, هي التي دأبت على ذكرها الرسائل العملية، أما المتحركة فتتغير تبعاً للظروف الموضوعية, التي تعيشها المرجعية.

ص: 237

القبس /16: سورة آل عمران:147

اشارة

{وَثَبِّت أَقدَامَنَا}

موضوع القبس: معنى الثبات

إن مفردة الثبات, والتثبيت من القضايا التي اهتم القرآن الكريم بمعالجتها؛ لأن الإنسان يتعرض في هذه الدنيا إلى ابتلاءات كثيرة, ومزالق خطيرة, لا ينجيه منها إلا طلب التثبيت من الله تعالى, والعمل على تحصيل ذلك.

لذا كان مطلب المؤمنين في ساحات المواجهة مع الشيطان, والنفس الأمّارة بالسوء, والأعداء من الناس, هو {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة:250), {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ، وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (آل عمران: 146-147).

وكانت صفة الثبات عند مزالّ الأقدام هي من الصفات البارزة في رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), التي وصفه بها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعاء الصباح: (وَالثَّابِتِ الْقَدَمِ

ص: 238

عَلى زَحالِيفِها(1) فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ(2))(3)، وجسّد هذا الثبات في حياته الشريفة؛ حيث لم يجامل, ولم يداهن, ولم يضعف, ولم يقصّر، والشواهد على ذلك كثيرة.وتأسى به أهل بيته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), والصالحون من أتباعه، وكان ديدنهم الثبات, والمداومة, والصبر, والمصابرة حتى آخر نفس, ولا معنى ل-<<التقاعد>> في حياتهم، وبهذا أمرت الأحاديث الشريفة, بحيث جاء عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها)(4).

حاجتنا الى الثبات والاستقامة:

ونحن في هذا الزمان بأمسّ الحاجة إلى التثبيت, لكثرة الشبهات, وانتشار الضلال, والفساد, واجتماع الأعداء, وتفرّق الإخوان.

ولا يتحقق الفوز وحسن الخاتمة إلا بالثبات على الاستقامة، عن الإمام زين العابدين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (من ثبت على ولايتنا في غيبة قائمنا أعطاه الله أجر ألف شهيد، مثل شهداء بدر وأحد)(5), وعن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (والذي بعثني

ص: 239


1- الزحاليف: جمع زحلوفة وهو المكان شديد الزلق لانحداره وملسه. أنظر: لسان العرب- ابن منظور: 9/ 131.
2- الزمن الأول: بحسب الظاهر, هو زمن الخلق, والإشهاد, وأخذ العهد قال تعالى: {وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُرِهِم ذُرِّيَّتَهُم وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِم أَلَستُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أنْ تُقُولُوا يَومَ القِيَامَةِ إنّا كُنَّا عَن هذا غَافِلِينَ} {الأعراف:172}.
3- بحار الأنوار- المجلسي: 84/ 342.- مفاتيح الجنان- عباس القمي: 93.
4- الجامع الصغير- جلال الدين السيوطي: 1/ 409.
5- كمال الدين وتمام النعمة- الشيخ الصدوق: 1/ 3.

بالحق بشيراً، إن الثابتين على القول به في زمان غيبته لأعز من الكبريت الأحمر)(1). ولا يُنال ذلك إلا بالألطاف الإلهية الخاصة, والعمل الجاد لتحصيلها، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن الله عز وجل إن شاء ثبّتك فلا يجعل لإبليس عليك طريقاً)(2)، وفي الرواية عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (ستصيبكم شبهة فتبقون بلا علم يرى ولا إمام هدى، لا ينجو منها إلا من دعا بدعاء الغريق قلت: وكيف دعاء الغريق؟ قال: تقول: يا الله يا رحمن يا رحيم، يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)(3)، ومن أدعية القرآن الكريم {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} (آل عمران:8) وفي مجمع البيان: (قال: لما نزلت آية {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ} (الإسراء:74), قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): <<اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عينٍ أبداً>>)(4).

فلا يجوز لنا أن نغترّ بمقدار الإيمان الذي نحن عليه, والالتزامات الظاهرية التي نؤديها, ما لم تقترن بالثبات على الإيمان, والاستقامة في موارد الامتحان, والابتلاء عندما تتعرض الأقدام للانزلاق؛ بسبب اتباع الهوى, والركون إلى الدنيا, والتفرّق عن الهادين إلى الحق.8.

ص: 240


1- كمال الدين وتمام النعمة- الشيخ الصدوق: 1/ 316.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 425.
3- إعلام الورى بأعلام الهدى- الشيخ الطبرسي: 2/ 238.
4- تفسير مجمع البيان- الشيخ الطبرسي: 6/ 278.

طريق الاستقامة:

وقد دلّتنا الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) على ما يثبّ-ت الإيمان في قلوبنا, ويدفعنا إلى العمل الصالح؛ وهو اتباع أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), والسير على نهجه, والتمسك بولايته، عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (ما ثَبَّتَ الله حبَّ علي في قلب مؤمن فزلَّت به قدم إلا ثبَّتَ الله قدماً يوم القيامة على الصراط)(1).

وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (أثبَتُكم على الصراط أشدُّكم حباً لأهل بيتي)(2)، وورد عن الإمامين الباقر والصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} (النساء:66), عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (ولو أن أهل الخلاف فعلوا ما يوعظون به في علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ))(3).

ولقد أمرنا الله تعالى بالثبات, والصمود على الدوام, ودعانا إلى تحصيل أسباب الثبات, والاستقامة على الإيمان؛ بطاعة الله تبارك وتعالى, وطاعة رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), والصبر, وترك التنازع, والخلاف المؤدي إلى الانهيار, والفشل, والإحباط, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ 45 وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال:46), {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} (النساء:66).

ص: 241


1- كنز العمال- المتقي الهندي: 11/ 621.- بحار الأنوار- المجلسي: 27/ 158/ح6.
2- ينابيع المودة- القندوزي: 2/ 70.
3- تفسير نور الثقلين- الشيخ الحويزي: 1/ 513.

كيف نحصّل الاستقامة؟

ومن الوسائل الوثيقة لتحصيل الثبات هي التقوى، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (وَإِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى(1), لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ الْخَوْفِ الْأَكْبَرِ, وَتَثْبُتَ عَلَى جَوَانِبِ الْمَزْلَقِ(2))(3).

والورع عن محارم الله تعالى، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقد سُئل عما يثبت الإيمان في العبد، قال: (الذي يثبته فيه الورع، والذي يخرجه منه الطمع)(4).

ولا يثبت الإيمان, ويؤتي ثماره؛ إلا بالعمل الصالح، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (الايمان لا يكون إلا بعمل, والعمل منه, ولا يثبت الايمان إلا بعمل)(5), وعن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (مرّ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) برجل يغرس غرساً في حائط له، فوقف له, وقال: ألا أدُلّك على غرس أثبت أصلاً, وأسرع إيناعاً, وأطيب ثمراً, وأبقى؟ قال: بلى فدُلَّني يا رسول الله، فقال: إذا أصبحت, وأمسيت, فقل: سبحان الله والحمدلله ولا إله إلا الله والله أكبر، فإن لك إن قلته بكل تسبيحة عشر شجرات في الجنة من أنواع الفاكهة, وهن من الباقيات الصالحات)(6).

ص: 242


1- أروضها: أذللها. والتقوى: امتثال أوامر اللَّه تعالى واجتناب ما نهى عنه.
2- المزلق: المراد به الصراط، و من زلّت قدمه فيه هوى الى النار، نعوذ باللَّه منها.
3- نهج البلاغة- خطب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 3/ 71, من كتاب له (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري, وهو عامله على البصرة, وقد بلغه أنه دُعيَّ إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها.
4- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 320.
5- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 38.
6- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 506.

وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (من زهد في الدنيا، ولم يجزع من ذلها، ولم ينافس من عزها، هداه الله بغير هداية من مخلوق، وعلمه بغير تعليم، وأثبت الحكمة في صدره وأجراها على لسانه)(1), وفي الحديث (من زار الحسين في بقيعه ثبته الله على الصراط يوم تزل فيه الأقدام)(2).

التثبيت لطف ينطلق من النفس:

إن التثبيت على الإيمان والاستقامة لطفٌ يؤتيه الله من يشاء من عباده, {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} (الإسراء:74) {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْ-رَى لِلْمُسْلِمِينَ} {النحل:102}, {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} (الأنفال:11), {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} (الفرقان:32).

ولكنه مع ذلك ينطلق من داخل النفس المطمئنة؛ بالإيمان, والمحبة لله تبارك وتعالى, الذين ذكرهم في كتابه الكريم ووصفهم, بأنهم يقومون بأفعال الخير انطلاقاً من رغبتهم النفسية في التثبيت, والمداومة على الطاعة: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فإن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (البقرة:265).

ص: 243


1- بحار الأنوار- المجلسي: 75/ 63.
2- بحار الأنوار- المجلسي: 97/ 141.

فإذا صدق العبد مع ربّه, وسعى بالدعاء, والعمل للثبات على الإيمان والهدى, ثبّته الله تعالى, وآمنه, وأسعده, في الدنيا والآخرة, {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ} (إبراهيم:27)، وورد في تفسيرها عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إن الشيطان ليأتي الرجل من أوليائنا عند موته, عن يمينه, وعن شماله, ليضلّه عما هو عليه, فيأبى الله عز وجل له ذلك)(1).

دور الاستقامة:

وهذا الخير للأمة هو ما أرادته الصديقة فاطمة الزهراء (علیها السلام) في خطبتيها, فدعتهم إلى أن يأووا إلى الركن الشديد الثابت, - أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- وحذَرت من مخالفته: (وَيْحَهُمْ! أَنَّى زَعْزَعُوهَا عَنْ رَوَاسِي الرِّسَالَةِ، وَقَوَاعِدِ النُّبُوَّةِ وَالدَّلالَةِ، وَمَهْبِطِ الرُّوحِ الأَمِينِ، وَالطَّبِينِ(2) بِأُمُورِ الدُّنْيَا وَالدِّين، أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)(3), {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَ-كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (الأعراف:96), وقد حذّرتهم من عاقبة انقلابهم, وأنهم بذلك يؤسسون لواقع فاسد, وفتنة عظيمة, تحرق بشررها كل الأجيال اللاحقة: (أَمَا لَعَمْري لَقَدْ لَقِحَتْ

ص: 244


1- من لا يحضره الفقيه- الشيخ الصدوق: 1/ 134.
2- الطبين: الفطن الحاذق العالم بكل شيء.
3- الاحتجاج- الشيخ الطبرسي: 1/ 147.

فَنَظِرَةٌ رَيْثَمَا تُنْتَجُ(1), ثُمَّ احْتَلَبُوا طِلَاعَ الْقَعْبِ(2) دَماً عَبِيطاً, وَزُعَافاً مُمْقِراً، هُنَالِكَ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ, وَيَعْرِفُ التَّالُونَ غِبَّ مَا أَسَّسَ الْأَوَّلُونَ)(3).وأنتم: أيّها الفاطميون الموالون بإحيائكم للشعائر الفاطمية خصوصاً والدينية عموماً, ونصرتكم لله تعالى ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وإظهار المودة لأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ), تتمسكون بحبل وثيق من التثبيت الإلهي عند المزالق في الدنيا، وعلى الصراط في الآخرة، قال تعالى: {إِن تَنصُروا اللَّهَ يَنصُ-رْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد:7).

وأي نصرة لله تعالى أعظم من نصرة أوليائه, وإظهار حقّهم، وإنصافهم من ظالميهم، فنصرة الزهراء (علیها السلام), وإنصافها, من أعظم موارد الحديث الشريف عن رسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (من مشى مع مظلوم حتى يثبت له حقه، ثبّت الله تعالى قدميه يوم تزل الأقدام)(4).

وقد منّ الله تعالى عليكم, بسبب فاعل آخر للتثبيت, وهو انتظار فرج إمامنا المهدي المنتظر (عج), والأمل بإقامة الدولة الكريمة على يديّه، روى علي بن يقطين عن الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (قال لي أبو الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): الشيعة تُربّى بالأماني منذ مائتي سنة) وشرحها علي بن يقطين بقوله: (فلو قيل لنا: إن هذا الأمر3.

ص: 245


1- تنتج: أي تلد, والنتاج: هو الوضع, أو الولادة للبهائم. لسان العرب: مادة (نتج).
2- القُعْب: القدح الضخم، وقيل: قدح من خشب مقعّر، وقيل: هو قدح إلى الصغر. لسان العرب: مادة (قعب)، واللوحة التشبيهية التي رسمتها الزهراء (علیها السلام), بليغة للغاية, صورّت فيها الفتنة, وكأنها دابة ستولد بعد حين من لقاح الفتنة, ثم يكون جميع ما يجنونه, ويحتلبونه منها الدم العبيط.
3- الاحتجاج- الشيخ الطبرسي: 1/ 148.
4- كنز العمال- المتقي الهندي: 3/ 83.

لا يكون إلى مائتي سنة أو ثلاث مائة سنة لقست القلوب ولرجع عامة الناس عن الإسلام، ولكن قالوا: ما أسرعه, وما أقربه تألّفاً لقلوب الناس, وتقريباً للفرج))(1).ولكم أيها الثابتون على الحق في زمان الغيبة, وردت البشرى من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في كتب الشيعة والسنة قال: (سيأتي قومٌ من بعدكم، الرجل الواحد منهم له أجر خمسين منكم، قالوا: يا رسول الله نحن كنّا معك ببدر وأُحُد وحنين ونزل فينا القرآن! فقال: إنكم لو تُحمَّلون ما حُمِّلوا لم تصبروا صبرهم)(2).ا.

ص: 246


1- الكافي- الشيخ الكليني: 1/ 368.- الغيبة- الطوسي: 207.
2- الغيبة- الطوسي: 275.- الخرائج والجرائح- قطب الدين الراوندي: 3/ 1149.- بحار الأنوار- المجلسي/ 52/ 130.- وعن الطبراني الكبير: 10/ 225 وسنن أبي داود: 4/ 123 وابن ماجة: 2/ 1330 والترمذي: 5/ 257 وغيرها.

القبس /17: سورة آل عمران:153

اشارة

{فَأَثَبَكُم غَمَّا بِغَمّ}

موضوع القبس: كيف يكون الغم ثواباً

قال الله تبارك وتعالى: {فَأَثَابَكُمْ غَمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ 153 ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً} (آل عمران:154).

تقع الآية في اجواء ما جرى في معركة اُحد, وما تلاها من أحداث, حيث انتصر المسلمون في بداية المعركة, ثم وقعت بهم الهزيمة حينما عصوا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فيما أمرهم به, من الثبات في مواقعهم, وإرجاف بعض المنافقين, بأن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قد قتل, فالتّف عليهم خالد بن الوليد, ورجاله, واوقعوا بهم خسائر فادحة.

الغم في اللغة: يعني الستر, والتغطية(1), كما في الأحاديث الشريفة عن الهلال, (فإن غُمّ عليكم فأكملوا العدة)(2)- أي ستر عليكم ولم تروه-.

ص: 247


1- أنظر: لسان العرب- ابن منظور: 12/ 443.
2- صحيح البخاري – البخاري: 2/ 229.- الناصريات- الشريف المرتضى: 292.

ويطلق الغم: على الكرب, والحزن, والهم(1)؛ لأنه يستولي على القلب, ويُغطي على انشراحه وانبساطه.ومن هنا ينشأ السؤال, عن التعبير بقوله تعالى {فَأَثَابَكُمْ غَمَّاً}؛ لأن المرتكز في اذهاننا ان الثواب هو الجزاء الحسن, فكيف اثابهم الله تعالى بالغم؛ الذي هو الكرب والحزن، ولو تُرِك التعبير لنا لقلنا (أصابكم)، ويمكن عرض عدة وجوه للجواب؛ مع بيان المُراد من الغم الأول, والثاني:

1-ان (الثوب) لغة: يعني العود, والرجوع, كما في قولنا ثاب إلى رشده أي رجع إلى عقله وحكمته وسُمّي المنزل مثابة لأن الشخص يرجع اليه بعد أن يخرج منه الى العمل أو قضاء الحوائج أو أي شيء آخر، قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ} (البقرة:125)؛ أي محل لتحصيل الأجر يعود على الناس(2).

فالثواب لغة: هو مطلق الرجوع بالجزاء على العمل الذي يرجع على صاحبه خيراً أو شراً.

فما ارتكز في اذهاننا من كون الثواب مختص بالجزاء الحسن غير صحيح؛ لأن الثواب هو مطلق الجزاء على الفعل بما يناسبه, حسناً كان أو سيئاً, فالعقاب ثواب أيضاً, ولكن للفعل السيء، قال تعالى: {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المطففين:36), وقال تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ} (المائدة:60).3.

ص: 248


1- أنظر: الفروق اللغوية- أبو هلال العسكري: 185.- تفسير الآلوسي- الآلوسي: 4/ 92.
2- أنظر: كتاب العين- الخليل الفراهيدي: 8/ 246.- لسان العرب- ابن منظور: 1/ 243.

فالآية - محل البحث- من هذا القبيل, وانهم يستحقون العقوبة بالغم, وغيره, لما اقترفوه من معصية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فيما أمر إليه من الثبات, وعدم ترك مواقعهم.وهذا الجواب يزيل السؤال, والاشكال من اصله، ونُريد الآن ان نتجاوزه, ونمضي مع فهم العرف, ونقول: ان استعمال الثواب في الجزاء الحسن أكثر, وهو المعروف في الاستعمال، حتى في هذه الآية, بدليل نتيجة الغم {لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ} وبدليل تفريعها عما قبلها {وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ} (آل عمران:152).

وحينئذٍ يُمكن فهم الآية على هذا المعنى من خلال عدة اشكال, نذكرها بنفس التسلسل:

2-إن الله أصابهم بهذا الغم كفارة لما أدخلوا على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من الغم بهزيمتهم وانفضاضهم عنه, وهو يناديهم ارجعوا إليَّ, أنا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وقد وُصفِت الحالة في الجزء السابق من الآية {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمَّاً بِغَمٍّ} (آل عمران:153).

فيكون الغم الأول: ما اصابهم هُم, والغم الثاني: ما انزلوه برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), فدفع الله تعالى عنهم العذاب العظيم المقدر لهم على فعلهم؛ الذي توّعد به الفارين من المواجهة قال تعالى: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}

ص: 249

(الأنفال:16), بأن اكتفى بما أصابهم من الغم, حيث ورد في الآية السابقة عليها {وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران:152)، فهذا الغم ثواب حسن؛ لأن الله تعالى دفع به عنهم عقوبة عظيمة.3-ان أصحاب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) اغتموا لما فقدوه من الظفر بالمشركين, وفوات الغنائم, بعد ان أحرزوا النصر على الأعداء, ولكنهم بعصيانهم لأوامر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تحوّل النصر إلى هزيمة, وهذا الغم لأجل الدنيا؛ وهو مذموم, فبدّل الله تعالى غمهم هذا بغمّ لاجل الآخرة, وتفويتهم طاعة الله ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وعصيانهم لأوامره.

فالغم الأول في الآية أخروي, والثاني دنيوي, فكان هذا الغم ثواباً؛ لأنه يُصلح شأنهم, ويصحّح مشاعرهم, وسلوكهم, ويجعل غمهم للآخرة وليس للدنيا, فهو ثواب, وجزاء حسن فعلاً.

ولعل هذا المعنى مناسب لتتمة النص {لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ}, وقد كان هذان الفريقان موجودين في جيش النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، قال تعالى: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} (آل عمران:152).

فهذا الغم, ابتلاء, وتمحيص من الله تعالى؛ ليميّز الفريقين، لذا جاء في بقية الآية في بيان حال الفئة التي نجحت في الامتحان, وكان الغم ثواباً لها {ثُمَّ أَنزَلَ

ص: 250

عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} (آل عمران:154).روي الترمذي والنسائي والحاكم بالإسناد عن ابي طلحة قال: (رفعت رأسي يوم اُحد وجعلت انظر وما منهم يومئذٍ أحد الا يميل تحت جحفته -وفي لفظ آخر عنه قال:- غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أُحد فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه)(1), فكان هذا النعاس نعمة لذيذة هنيئة على المؤمنين الذين رجعوا الى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), بعد أن علموا بأنه حي, فكانت سبباً لطمأنينتهم, وإزالة ما كان بهم من الخوف, والرعب من عودة المشركين اليهم لاستئصالهم, اما المنافقون فكانوا في قلق, وتوجس, ولم يستطيعوا النوم, فقاموا من حيث لا يشعرون بحراسة المؤمنين النائمين.

4-ان الغم الثاني: هو ما أصاب المسلمين في المعركة, بسبب ما لحقهم من القتل, والجرح، والغم الأول: هو ما أصاب المشركين بعد رجوعهم من أُحد, حيث تذكر الروايات, أنهم تلاموا على عدم إجهازهم على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وأصحابه, وتأديب أهل المدينة, فقرّروا الرجوع, فنزل الوحي من الله تعالى على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يأمره بالخروج لملاقاة المشركين بمن كان معه في اُحد فقط، فخرج المسلمون مع ما بهم من الجراح, والخوف, والاعياء, والانهيار النفسي, ووصلوا موضعاً يسمى حمراء الأسد, انتظاراً للمشركين, لكن الله تعالى القى3.

ص: 251


1- سنن الترمذي- الترمذي: 5/ 79.- السنن الكبرى- النسائي: 10/ 105.- فتح القدير- الشوكاني: 1/ 392.- تفسير ابن كثير-: 2/ 145.- تفسير الدر المنثور- السيوطي: 2/ 353.

الرعب في قلوب المشركين, فقرّروا الرجوع إلى مكة, فشكر الله تعالى هذا الموقف من المسلمين, وأثابهم غماً, ورعباً ادخله على المشركين مقابل ما دخلهم من الغم, والرعب في معركة أُحد.5- ان الغم الأول: هو ما اصابهم من الحزن, والكرب, والغم الثاني: ما اصابهم في المعركة من القتل, والجرح, وفقدان الأحبّة, فأراد الله تعالى أن يُسلّيهم عن الثاني, بالأول, شفقة عليهم, ورحمة بهم, ولما حصلت التسلية, أزال عنهم الغم, وابدلهم آمنةً نعاساً.

6-أراد الله تعالى أن يبين لهم ان الحياة متصرفة باهلها, ومتقلبة من حال الى حال, فلا يطمئنوا الى عافية, ورخاء, ولا يضجروا من شدة, وبلاء, فلا يوجد في الدنيا ثبات, واستقرار, قال تعالى: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران:140), فالنصر الذي حققه المسلمون في بدر ليس من الضروري أن يتكرر في كل المعارك، فيمكن ان يتحول الى هزيمة اذا لم يتمسكوا بأسباب الانتصار، قال تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ} (آل عمران:140), {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ} (النساء:104), فليستفد المؤمنون من التجارب, وليأخذوا العبر منها.

وعلى هذا, فالغم الأول: ما أصابهم يوم أحد، والغم الثاني: ما أصاب المشركين في بدر، وقد لُخِّصت التجربة, والعبرة من هذه الواقعة بتكملة الآية {لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ}, وفي آية أخرى {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} (الحديد:23).

ص: 252

7-إن الغم الأول: هو ما دخلهم من الحزن, والندم على هزيمتهم في المعركة, وتفويت النصر الذي انزله الله تعالى عليهم في بدايتها, بسبب عصيانهم لأوامر القيادة النبوية المباركة، والغم الثاني: هو ما أصابهم قبل ذلك؛ من الهلع, والرعب بسبب ما اشيع من مقتل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), فلما انكشف خلاف ذلك, ابدلهم الله تعالى غماً, وكرباً, وندماً, بدل حزنهم الأول على مقتل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فكان غمهم بما حل بهم, كالفرح بعد ان انكشف لهم ان غمّهم السابق بمقتل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان وهماً.

8- ما ورد في كلام اهل المعرفة, ومنهم سيدنا الأستاذ الشهيد(1) الصدر الثاني (قدس سره) من ان الله تعالى يحدث في قلب السائر في طريق الكمال كُربة عند وقوعه في المعصية, ولو كانت قلبية, - أي على المستوى الأخلاقي, وليس الشرعي- لتنبيهه, والفات نظره, واعادته الى الصواب, نظير ما يُعرف بوخز الضمير, أو تأنيب الضمير, قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف:201), فهذا الغم الذي أصابهم هو نعمة من الله تعالى لتكميل نفوسهم, وتطهير قلوبهم, ويكون معنى (غم بغم), أي غماً بعد غم.م.

ص: 253


1- قناديل العارفين: 290، طبعة مؤسسة الرافد: 2013م.

القبس /18: سورة آل عمران:159

اشارة

{فَبِمَا رَحمَة مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُم}

موضوع القبس: الرحمة بالمؤمنين

من ابرز الصفات الكريمة التي سجّلها القرآن الكريم للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): الرحمة بالمؤمنين, والشفقة عليهم, والرأفة بهم, كقوله تعالى {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة:128), وكان الغرض من بعثته الشريفة الرحمة بالعباد, قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107), وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ 156 الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} (الأعراف:157).

ومنها, الآية التي نحن بصددها, وهي قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران:159), وتستخلص منها عدة دروس:

دروس من الرحمة النبوية:

1-أهمية صفة الرحمة في القائد والمسؤول الذي يريد التأسي

ص: 254

بالقيادة النبوية المباركة؛ لأنها سر نجاح القادة, والمسؤولين في حركتهم نحو نفع الأمة, ورعايتها, وهي أساس كل احسان ومعروف تقدّمه للآخرين, وإن أساس التفاف الناس حول القائد هي الاخلاق, اما الفظ الغليظ فقد يضيّع حقه؛ لافتقاده هذه الصفة, لذا كانت من الوصايا المهمة التي وجهّها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الى مالك الاشتر لما ولاه مصر, قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، والْمَحَبَّةَ لَهُمْ، واللُّطْفَ بِهِمْ)(1), أي ان قلبك حتى لو كان غير ممتلئ بالرحمة التي هي ضرورية لنجاح عملك, فعليك أن تتكلفها, وتدرّب قلبك عليها, وتستثيرها في باطنك حتى تصبح ملكة راسخة, فان الصفات, والملكات الحسنة يمكن تحصيلها بالتهذيب, والتدريب.وهذه الصفة يحتاج الى استشعارها كل أحد؛ لأننا كلنا مسؤولون وإن كان بدرجات متفاوتة, ففي الحديث الشريف (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)(2), فرّب الاسرة مسؤول عن اسرته, ومدير الدائرة كذلك عن دائرته, ومثله المعلم عن طلبته, والوزير عن وزارته, والضابط عن جنوده, والمرأة عن بيتها واطفالها, وهكذا.

ولما سُئِل أحدهم من هو أحبُّ أبنائك اليك؟ لم يجب بأنه فلان, أو فلان,3.

ص: 255


1- نهج البلاغة- خطب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 3/ 84.
2- بحار الأنوار- المجلسي: 72/ 38.- صحيح البخاري- البخاري: 3/ 125.- صحيح ابن حبان- ابن حبان: 10/ 343.

وانما قال: الصغير حتى يكبر, والمريض حتى يشفى, والغائب حتى يعود(1), والجامع المشترك لهؤلاء هو حاجتهم الى الرحمة والشفقة أكثر من غيرهم.2-ان هذه الصفة, وسائر خصال الخير, والكمال, لا يمكن تحصيلها بالسعي, والعمل, وحده, بل لابد من توفيق إلهي, ولطف بالعبد, فوصفت الآية الرحمة أنها {مِنَ اللَّهِ}, عن الإمام الجواد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (المؤمن يحتاج الى توفيق من الله وواعظ من نفسّه وقبول ممن ينصحه)(2).

3-ان القائد هو محور وحدة الأمة؛ إذا كان رحيماً, ليناً, شفيقاً, وهو سبب تفرقها, وتشتتها, وانقضاضها؛ إذا كان فظاً, غليظ القلب, قاسياً لا يهتم بشؤون الرعية, ولا يتواضع لهم, ولا يتفقدهم.

ولأن أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ورثوا أخلاق النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وصفاته الكريمة, فقد كانوا محور اجتماع الأمة, ووحدتها, وهذا ما عبّرت عنه الصديقة الزهراء (علیها السلام) بقولها: (وَطاعَتَنا نِظاماً لِلْمِلَّةِ، وَإمامَتَنا أماناً مِنَ الْفُرْقَةِ)(3), فاذا وجدت امة متوحدة فاعلة, فاعلم ان رحمة الله شملتها, والعكس بالعكس, وقد نقل معروف بن فيروز الكرخي قوله: (إذا أراد الله بعبد خيرا فتح له باب العمل, وأغلق عنه باب الجدل,4.

ص: 256


1- أنظر: جامع المسانيد والسنن- ابن كثير: 6/ 743.- الإصابة في تمييز الصحابة- ابن حجر العسقلاني: 5/253.
2- تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 457. وورد مثله عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ). أنظر: المحاسن- أحمد البرقي: 2/ 604.- وسائل الشيعة (آل البيت)- الحر العاملي: 12/ 25.
3- الاحتجاج- الشيخ الطبرسي: 1/ 134.

وإذا أراد الله بعبد شرا فتح له باب الجدل, وأغلق عنه باب العمل)(1).4-الاجراء التربوي والاصلاحي الذي مارسه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مع أصحابه, فان الآية جاءت في السياق القرآني الذي تحدّث عن ملابسات معركة أُحد(2), والهزيمة التي حلّت بالمسلمين بعد الانتصار الذي تحقق اول المعركة؛ نتيجة عصيان بعضهم لأوامر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), فأنهزم الجيش إلا أفراد قلائل ثبتوا حول رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وفي مقدمتهم أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

وتسببت الهزيمة في استشهاد سبعين من اجلاء الصحابة, بينهم عم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حمزة بن عبد المطلب, والمتوقع من القادة في مثل هذه المواقف انزال العقوبات الصارمة بحق المنهزمين, مضافاً الى العقاب الإلهي؛ لارتكابهم جريمة (الفرار من الزحف).

لكن الله تعالى وجّه نبيه الى اجراء عكس المتوقع, وهو قوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} (آل عمران:159), وليس هذا فحسب, بل اعادة الثقة بأنفسهم, وإشعارهم بدورهم الفاعل في حياة الأمة, والمشاركة في قراراتها المصيرية {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (آل عمران:159), وفي هذا درس مهم لأولياء الأمور على جميع الأصعدة, بان يعتمدوا أسلوب العفو, والصفح, وزرع الثقة في نفس المخطئ, وقلع شعوره بالنقص, والدونّية, لينقلب تماماً على خطأه, ويعود3.

ص: 257


1- اقتضاء العلم العمل- الخطيب البغدادي: 79.- حلية الأولياء- الأصبهاني: 8/ 361.
2- أنظر: تاريخ الطبري- الطبري: 2/ 187.- الكامل في التاريخ- ابن الأثير: 2/ 148.- شرح نهج البلاغة- ابن أبي الحديد: 14/ 213.

الى الوضع الصالح السوي.ولو تعاملنا بيننا بهذه الخصال النبوية الكريمة لشملتنا الرحمة, والالطاف الالهية, وحُلَّ الكثير من مشاكلنا بلطف الله تعالى.

ص: 258

القبس /19: سورة آل عمران:172

اشارة

{ٱلَّذِينَ ٱستَجَابُواْ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ مِن بَعدِ مَا أَصَابَهُمُ ٱلقَرحُ ۚ لِلَّذِينَ أَحسَنُواْ مِنهُم وَٱتَّقَواْ أَجرٌ عَظِيمٌ}

موضوع القبس: الاستمرار بالعمل الرسالي رغم الجراح

نزلت هذه الآيات من سورة آل عمران في واقعة حصلت في زمن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), - تُسمى حمراء الأسد-, بعد معركة أُحُد(1) بيوم, أو أكثر, وهي غزوة لا يعرف تفاصيلها إلاّ من ندر، وفيها درس ينطبق على الوفد الزائر, وعلى واقعنا المعاصر, وهو من دروس واقعة أُحُد وتداعياتها.

وقد تضمنت سورة آل عمران في القرآن الكريم دروساً, ومواقف, وعبر, من معركة (أُحُد) التي تآمر فيها بعض المسلمين المتواطئين مع قريش على أن يُشيعوا أن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قد قُتل؛ ليربكوا جيش المسلمين, ويفرقوهم، وعصى بعض المسلمين أوامر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وركنوا إلى الدنيا, فتحوّل النصر الذي تحقق على يد أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في بداية المعركة إلى هزيمة للمسلمين, باستشهاد سبعين رجلاً على رأسهم حمزة بن عبد المطلب (رضي الله عنه) عم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعاد

ص: 259


1- وقعت معركة أُحُد يوم: 15/شوال, من السنة الثالثة من الهجرة. أنظر: الطبقات الكبرى- ابن سعد: 2/ 48.-تفسير الطبري- الطبري: 6/ 242.

المشركون مُتجهين إلى مكة، لكنّهم تلاوموا في الطريق بأنّهم لم يقضوا على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), ولا سيطروا على المدينة؛ لاستئصال الدين الجديد, فقرروا العودة باتجاه المدينة.فنزل الوحي على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأخبره بعزم قريش, وأن تكليفه الخروج بمن معه لمواجهتهم, وإراءتهم أن ما حلّ بهم يوم أُحُد لم يُضعف عزيمتهم, ولم يُقلّل من قوّتهم, واشترط أن لا يخرج معه إلاّ من شهد أُحداً، وكانوا مثخنين بالجراح مفجوعين بأحبتهم ومهزومين معنوياً، فاستجابوا لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وخرجوا معه لملاقاة قريش - المزهوة بالانتصار- التي تفوقهم عدّةً وعدداً, وأعطى أبو سفيان أموالاً لبعض القوافل المتجهة إلى يثرب ليخوِّف المسلمين, ويرعبهم, وأنّ قريش قد جمعت لكم الجموع, لكنّهم أصرّوا على المضي مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وقالوا: {حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران:173).

روى زيد بن ثابت عن أبي السائب (ان رجلاً من أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من بني عبد الأشهل, قال: شهدتُ أُحُداً مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنا وأخ لي, فرجعنا جريحين, فلما أذن مؤذن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالخروج في طلب العدو قلت لأخي, - أو قال لي-: تفوتنا غزوة مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)؟ ووالله ما لنا من دابة نركبها, وما منّا الا جريح فخرجنا مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وكنت أيسر جراحاً منه, فكان إذا غُلِب حملتُه عقبة, ومشى عقبة, حتى إذا انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون, فخرج رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), حتى انتهى إلى حمراء الأسد - وهي من المدينة على ثمانية

ص: 260

أميال- فأقام بها ثلاثاً؛ الاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة)(1)؛ لأن أبا سفيان لما علم بخروج النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وأصحابه الموتورين في أُحُد, خشي أن يقابلهم, وهم قادمون للانتقام من قريش.مضافاً إلى شخصٍ - ممن أسلم حديثاً- لم يعرف أبو سفيان بإسلامه, توجّه إلى أبي سفيان وحذّره من ملاقاة المسلمين؛ لأنهم خرجوا عن بكرة أبيهم لينتقموا من قريش.

وتسمى هذه الغزوة (حمراء الأسد) باسم الموضع الذي مكث فيه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) منتظراً قدوم قريش.

الدروس المستفادة من هذه الواقعة:

وإنما ذكرتُ مُلخص الواقعة؛ لأن القليل ممن يعرفها، ولا شك أن معرفتها توفّر بيئة لفهم الآيات المتعلقة بها ليستطيع تدبّرها, وأخذ الدرس منها، قال تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ}, وهم من شاركوا في أُحُد وأصيبوا, لكنهم استجابوا لدعوة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وخرجوا معه {مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ}, وهو القتل, والجرح, والآلام في معركة اُحُد, {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}, فالقبول لا يكون إلا من الذين اتقوا, والذين هم محسنون, {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ - وهم المنافقون, وبعض المهاجرين؛ الذين يحتفظون بولائهم لقريش, مضافاً الى من بعثهم أبو سفيان لإرعاب أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)- إِنَّ

ص: 261


1- سيرة ابن هشام- ابن هشام: 2/ 101.- أسد الغابة- ابن الأثير: 5/ 349.- البداية والنهاية- ابن كثير: 5/455.

النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ - وهم قريش- فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران:173), وكان هذا دليل نجاحهم في الاختبار, وصحة إيمانهم {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} (آل عمران:174), وهو الأجر العظيم الذي ذُكر آنفاً, وانتصارهم على الخوف الذي زرعه فيهم الشيطان, وأولياؤه، وفي تحوِّل هزيمتهم إلى نصر, - حيث راحوا يُلاحقون قريشاً- وفي تحوّل نصر قريش إلى هزيمة, - حيث جبنوا عن لقاء النبي وأصحابه- وآثروا الرجوع إلى ديارهم {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ- إذ دفع الله تعالى عنهم قريش ولم يحصل قتال- وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (آل عمران:174).

لكي لا نشعر بالإحباط:

إنّنا في العراق نصاب يومياً بالجروح, والقروح, حتى إنه لم يبق مكان آمن من التفجيرات, والاستهدافات, فما أحوجنا إلى استلهام هذا الدرس, والاستفادة منه؛ بأن لا نشعر بالإحباط, واليأس مما يحلُّ بنا، بل نُلمّلم جراحنا, ونتقدم في العمل حتى نحصل على ما ذكرته الآية الشريفة, {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} (آل عمران:174).

فإن هذا هو ما نبحث عنه ونريده, وهو هدفنا، ولا نُريد شيئاً مما يُريده أهل الدنيا, حتى إذا فاتنا ينتهي كل شيء.

وإذا تخلينا عن أهدافا, وهويتنا, بسبب هذه الأعمال الوحشية, فقد أعطينا للعدو مراده.

ص: 262

فالرد الصحيح هو بالمضي في العمل الرسالي - الذي يرضي الله (عزَّوجلَّ)- ورفع الهمّة, والعزيمة في التواصي بالحق, والتواصي بالصبر.

بقيّة السيف أبقى عدداً:

وممن تجري فيهم الآية مصّلو جامع الرحمن في منطقة سبع البور شمال بغداد, حيث استهدفهم تفجير انتحاري مجرم(1), أثناء إقامة صلاة العشاءين, فَاستُشهد خمسة عشرَ مُصلِّياً, بينهم إمام المسجد, وأخواه وجرح خمسةٌ وعشرونَ مُصلِّياً, وقد استقبلت عدداً مِمَّن أُصيبوا في الحادث, وقد أشاروا في حديثهم إلى أنّ عدد المُصلّين ازداد بعد هذا الحادث المروِّع، كما ازداد عدد السيارات التي تتوجه أسبوعيّاً من المنطقة؛ لزيارة الإمامين العسكريين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ), ورفع الغربة عن روضتهما المطهرة في سامراء.

والمثال الآخر لهذه المواقف الربانية؛ ما حصل في حسينية حبيب بن مظاهر - القريبة من جامعة الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حي القاهرة ببغداد- وكان يرتادها جمع من طلبة الجامعة؛ لأداء صلاة الظهرين, ويطالعون دروسهم استعداداً للامتحانات، فامتدت يد الحقد, والحسد, والتكفير إلى هذه الفئة الصالحة, وفجّر انتحاري نفسه وسط الجمع ثم تلاه آخر(2)، وكانت حصيلة التفجيرين, واحد وثلاثون شهيداً, وسبعة وخمسون جريحاً، والذي حصل بعد الحادث زيادة

ص: 263


1- وقع الحادث يوم السبت: 12/شعبان/1434ه-- المصادف: 22/ 6/ 2013م. وقد أصدر سماحة المرجع (دام ظله) بياناً في ذلك، أنظره في خطاب المرحلة: 8/ 307.
2- وقع الحادث يوم الثلاثاء: 8/شعبان/1434ه-- المصادف: 18/ 6/ 2013م.

المصلين في الحسينية من الطلبة الجامعيين, وأبناء المنطقة, وتصدي أحد الفضلاء لإمامة الجماعة فيها.إن هاتين الجماعتين خير مثال لقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (بقية السيف أبقى عدداً وأكثر ولدا)(1), لأنها استجابت لله (سبحانه و تعالی), ولرسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), بعد أن أصابهم القرح, وقد وعد الله تعالى بأنهم يعودون بنعمة من الله (سبحانه و تعالی), وفضل, أسوة بأصحاب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الذين خرجوا معه إلى (حمراء الأسد).

وقائع القرآن دروس للتربية والهداية:

إن الوقائع التي يحكيها القرآن الكريم ليست حوادث تاريخية, وقصصاً تذكر للتسلية, والاطلاع, بل هي دروس حيّة, ورسالة هداية, وإصلاح, وثبات على صراط الحق لجميع الأجيال حتى يوم القيامة، ومنها هذه الآيات من سورة آل عمران, التي لم تكن مفهومة بهذا الشكل, قبل أن نتعرف على بيئتها, وظروفها، وعرفنا الآن إنها دعوة للثبات, والاستمرار في الاستجابة لله ولرسوله في بناء النفس, وإصلاح المجتمع, ورفع المعنويات غير متأثرين بالمصائب, والآلام.

ص: 264


1- نهج البلاغة- خطب الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 4/ 19.

القبس /20: سورة آل عمران:191

اشارة

{ٱلَّذِينَ يَذكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَما وَقُعُودا وَعَلَى جُنُوبِهِم}

موضوع القبس: ذكر الله تعالى عند الطاعة والمعصية

كانت صلاة الليل واجبة على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) دون الأمة جميعاً, وهذه واحدة من خصوصياته وقد ورد في صحيحة معاوية بن وهب(1) عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في كيفية صلاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في الليل بأنه كان يفرّقها على أجزاء الليل؛ ليديم حالة الأنس بربّه, فيقوم في بعض الليل من نومه, ثم يصلي اربع ركعات ثم ينام ويستيقظ من جديد, ويصلي اربعاً أخرى, ثم ينام ويستيقظ؛ ليصلي الشفع, والوتر ونافلة الصبح, ثم يخرج لصلاة الفريضة, وقد ذكرنا تفصيل ذلك(2) في تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (الإسراء:79).

ومحل الشاهد انه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), كان كلما يستيقظ من نومه, كان يُقلّب بصره في السماء, ويتلو الآيات المباركات في آخر سورة آل عمران, {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ

ص: 265


1- تهذيب الأحكام- الشيخ الطوسي:2/ 334/ح233.
2- من نور القرآن: 3/ 55/ القبس86.

وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران:191-190), فأول صفة من صفات اولي الألباب لمن أراد أن يكون منهم, هو ذكر الله تعالى على كل حال؛ لأن الانسان لا يخلو حاله من كونه قائماً, أو قاعداً, أو على جنبه.إن ذكر الله تعالى على كل حال, واستحضار الرقابة الإلهية, والشعور بالمسؤولية امامه سبحانه, حالة مطلوبة, سواء كان الانسان في ظرف معصية, أو طاعة.

اما في ظرف المعصية: فالأمر واضح؛ لكي يخشى الله تعالى, ويستحي من نظره إليه فيجتنبها، فإن الغفلة عن الله تعالى سبب للوقوع في المعاصي, والتذكر صمام الأمان منها، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف:201).

مثلاً يكون في مجلس, فيتورط الحاضرون بغيبة مؤمن, فيتذكر نهي الله تعالى عن الغيبة, فيمتنع عن المشاركة معهم, وينهاهم عن ذلك, وقد يكون العلاج بمغادرة المجلس، أو شاب يتعرض لإغواء من الجنس الآخر, فيتذكر ان الله تعالى مطِّلع عليه, وإن الشاهد هو الحكم, فيكف عن الانسياق وراء شهوته, وهكذا.

وكان المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) دقيقين في مراقبتهم لأنفسهم, وإستحضار الرقابة الإلهية، روى إبراهيم بن علي، عن أبيه قال: (حججت مع علي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فالتاثت - أي تباطأت- عليه الناقة في سيرها، فأشار إليها بالقضيب ثم قال: <<آه!

ص: 266

لولا القصاص>> ورد يده عنها)(1), وفي رواية (لو لا خوف القصاص لفعلتُ). واما في ظرف الطاعة, فان الانسان التّواق إلى الكمال اذا عرضت عليه فرصة الطاعة فأنه يذكر الله تعالى, وحثه على المسارعة إلى الخير, فيلبي دعوة الله تعالى, ويبادر إليها، قال تعالى: {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ} (البقرة:148), وقال تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (آل عمران:133), وفي الرواية عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من همَّ بشيء من الخير فليعجّله, فان كل شيء فيه تأخير فان للشيطان فيه نظرة)(2), وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (كان أبي يقول: اذا هممت بخير فبادر, فانك لا تدري ما يحدث)(3).

والتجربة شاهدة على ذلك, فقد يتعرض الانسان لموقف إنساني, كمساعدة محتاج, أو معالجة مريض, ويعزم على المساهمة بمبلغ مُعيّن -يفي بالحاجة- فاذا تأخر في إخراجه, فان الشيطان يوسوس له, بان هذا المبلغ كبير, وعليه ان يوفره لعياله, وانه لا يدع غيره يساهم في المساعدة, ونحو ذلك, حتى يثنيه عن عزمه, او يقلل مما قرّر سابقاً دفعه.

والأمر الآخر الذي عليه ان يتذكره عند الاقدام على الطاعة, هو اخلاص النية في العمل: فلا يُقدم عليه الا بعد أن يُنقي نيته من الرياء, وحب السمعة, ويختبر3.

ص: 267


1- الإرشاد- الشيخ المفيد: 2/ 144.- مناقب آل أبي طالب- ابن شهر آشوب: 3/ 294.
2- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 143/ح9.
3- الكافي- الشيخ الكليني: 2/ 142/ح3.

نفسه, بانه لو لم يعلم احد بما فعل فهل سيتوقف عن العمل, أم يتساوى عنده علم الناس وعدم علمهم؛ لأن الله تعالى مُطلِّع على الحقائق وهذا كافٍ.وعليه أن يُطهر نفسه من العجب بنفسه, والتباهي بما فعل؛ لأنه يفسد العمل، وكذا عليه أن لا يحبط عمله بالمّن على من اسدى إليه المعروف وقال تعالى: {لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى} (البقرة:264).

وعليه أن يتثبت من فعله, بأنه برٌّ في موقعه, لكيلا يضيع معروفه, أو يؤدي إلى عكس النتيجة، روي عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله: (مع التثبت تكون السلامة)(1), وتجد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فرح كثيراً بدعاء سفانة بنت حاتم الطائي له (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), عندما عفى عنها, ثم أطلق جميع اسرى قبيلتها طيء حين قالت: (أصاب الله ببرك مواقعه)(2).0.

ص: 268


1- الخصال- الشيخ الصدوق:100.
2- أنظر: المستطرف- شهاب الدين الأبشيهي: 179.- شجرة طوبى- الشيخ محمد مهدي الحائري: 2/ 400.

القبس /21: سورة آل عمران:191

اشارة

{رَبَّنَا مَا خَلَقتَ هَذَا بَطِلا سُبحَنَكَ}

موضوع القبس: رفض العبثية في الحياة

درس بليغ من النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):

موضوع القبس: رفض العبثية في الحياة(1)

درس بليغ من النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):

نحن في جوار رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وفي ضيافته، ونحب أن نقف عند محطة من حياته الشريفة (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), ففي الرواية إنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان إذا استيقظ من نومه(2) في جوف الليل قلّب طرفه في السماء متأملاً, ويقرأ الآيات الكريمة العشر في أواخر سورة آل عمران, وهو يبكي {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ،رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ، رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا

ص: 269


1- كلمة ألقاها سماحة الشيخ (دام ظله) في المدينة المنورة, في موسم الحج: 1431ه- , وكان ذلك يوم الثلاثاء: 24/ذو القعدة ه-- الموافق: 2/ 11/ 2010م.
2- سنن أبي داود- ابن الأشعث السجستاني: 1/ 22/ح58.- الجامع الصحيح للسنن والمسانيد- صهيب عبد الجبار: 18/ 228.

بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ، رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (سورة آل عمران : 190-194)

خُلقنا للمعرفة:

{رَبَّنَا مَا خَلَقتَ هَذا بَاطِلاً سُبحَانَكَ} أيها الأحبة:

نحن لم نُخلق في هذه الدنيا عبثاً, وبلا غرض، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ، لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} (الأنبياء: 16 -17), فلا بد أن نلتفت إلى هذا الغرض الذي خلقنا من أجله, ليكون ماثلاً امامنا دوماً, ولنكرّس حياتنا من أجله، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:56).

وورد في تفسير الآية, عن أبي عبد الله الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (خرج الحسين بن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على أصحابه فقال: أيها الناس إن الله جل ذكره ما خلق العباد إلا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه)(1), ومما ورد في دعاء الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم عرفة (إِلهِي عَلِمْتُ بِاخْتِلافِ الاثارِ, وَتَنَقُّلاتِ الأطْوارِ, أَنَّ مُرادَكَ مِنِّي أَنْ تَتَعَرَّفَ إِلَيَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى لا أَجْهَلَكَ فِي شَيْءٍ)(2).

ص: 270


1- علل الشرائع- الشيخ الصدوق: 1/ 9/ح1.
2- بحار الأنوار- المجلسي: 95/ 225.- مفاتيح الجنان- عباس القمي: 340.

فالغرض من وجودنا هو التعرف إلى الله تبارك وتعالى, وعبادته بحقيقة العبادة، بأن يكون الله تبارك وتعالى كقطب الرحى الذي ندور حوله, وإلى هذا المعنى يُشير الطواف بالكعبة، وأن يكون تبارك وتعالى محور حياتنا في كل حركاتنا, وكل سكناتنا, ومشاعرنا, وعواطفنا, ومواقفنا التي نتخذها في حياتنا.

المعرفة غير التصومع:

وهذا لا يعني أن نترهب, ونعتزل الدنيا في الصوامع والكهوف، بل بالعكس, فإن هذا الهدف يدفعك إلى أن تخوض الحياة بكل تفاصيلها, وتمارسها بشكل طبيعي؛ لتؤدي رسالتك, ولكن عليك أن توظف كل ممارساتك لهذا الهدف، لقد كان الأنبياء والأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ), عباداً مخلصين لله تبارك وتعالى, ومعصومين عن الالتفات إلى غيره, ومع ذلك فقد كانوا يمارسون حياتهم الطبيعية كأي إنسان، فلا منافاة.

فالعمل, والكسب يمكن أن يجعله الإنسان لاكتناز الأموال, وزيادة أرصدته في البنوك للمباهاة, والتفاخر, ولايخرج حقوقه الشرعية, فيكون وبالاً عليه، ويمكن أن يجعله للتعفف مما في أيدي الناس, وللإنفاق في وجوه البر والإحسان, ومساعدة المحتاجين, والحج, والزيارة, وتزويج المؤمنين, ودعم المؤسسات الخيرية, فينال رضا الله تبارك وتعالى, ويحقق الهدف.

والأكل مثلاً يمكن أن يجعله لحفظ البدن الذي هو واجب, وللتقوي على العبادة, ونحوها من الأهداف الصحيحة.

والزواج الذي فيه إشباع للشهوة, والغريزة يمكن وضعه في هذا السياق, بأن يجعل غرضه إقامة سنة الله تبارك وتعالى, وصيانة النفس, والزوجة من الحرام,

ص: 271

وإدخال السرور على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ), وأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ), وتكثير نسمات الموحّدين, وبناء أسرة صالحة, وإدخال السرور على امرأة مؤمنة, ونحوها من النيات المباركة. وهذا إنما يتحقق حينما يكون الإنسان دائم الذكر لربه, مستحضراً وجوده المقدس, والإنسان غير المعصوم لا يكون كذلك على الدوام, ولكن ليجعله هدفه الذي يسعى لتحقيقه، ولو أدركته غفلة, أو انساق وراء شهوة, فليعد فور تذكره إلى ربّه, قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (الأعراف:201).

أوثق العُرى:

نحن أتباع أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ), متمسكون بأوثق العُرى الموصلة لمعرفة الله تبارك وتعالى الدالة على عبادته, وأعظم الوسائل لنيل رضاه، والضامن الأكيد لسلامة المسير إلى الله تبارك وتعالى, والصائنة من الانحراف عن الصراط المستقيم، ففي تتمة رواية علل الشرائع المتقدمة (فقال له رجل: يا ابن رسول الله بأبي أنت وأمي فما معرفة الله؟ قال: معرفة أهل كل زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته)(1).

لأن من لا يعرف إمام زمانه, ولا يأخذ عنه فإنه لا يعرف الله حق معرفته، ومن يعتقد أن ربه يتركه بلا إمام يهديه فقد ضل سواء السبيل، وقد ورد في الدعاء, كما في رواية الكافي, عن أحمد بن هلال, عن زرارة بن أعين قال: (قال أبو عبد

ص: 272


1- علل الشرائع- الشيخ الصدوق: 1/ 9/ح1.

الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): ادع الله بهذا الدعاء: <<اللهمَّ عرَّفني نفسَك، فإنَّك إن لم تُعرِّفْني نفسَك لم أعرف نبيَّك، اللهمَّ عرِّفْني رسولَك، فإنَّك إنْ لم تُعرِّفْني رسولَك لم أعرفْ حجَّتَك، اللهمَّ عرِّفْني حجَّتَك، فإنَّك إنْ لم تُعرِّفْني حجَّتَك ضللتُ عن ديني>> قال أحمد بن الهلال: سمعت هذا الحديث منذ ست وخمسين سنة)(1).

وابتغواْ إلَيه الْوسيلة:

قد أمر الله تبارك وتعالى باتخاذ هذه الوسيلة لنيل رضاه, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} (المائدة:35), وهي ولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ), ومودّتهم, كما دلت عليه الروايات, ويمكن استفادة هذا المعنى من القرآن الكريم بالجمع بين الآيتين الكريمتين {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} (الفرقان:57) وقوله تعالى: {قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (الشورى:23), فالسبيل هي مودة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ), وقد أمرت آية سورة المائدة باتخاذه وسيلة.

كل مخلوق مُيسر لما خلق له:

ومن لطف الله تعالى بعباده, وحكمته في تدبير شؤونهم, وتغطية كل مساحات الحياة أنه نوّع الطاعات, والقربات الموصلة إليه, وأعطى لعباده إمكانيات, ومؤهلات مختلفة، فبعض أُعطي العلم النافع فهو يتقرب إلى الله بإرشاد

ص: 273


1- الكافي- الشيخ الكليني: 1/ 342.- مصباح المتهجد- الشيخ الطوسي: 411.- كتاب الغيبة- النعماني: 1/ 168.

الناس, وتعليمهم معالم دينهم, وهدايتهم، وآخر أُعطي المال ليتقرب إلى الله بإنفاقه في وجوه البر, والإحسان، وآخر أُعطي أخلاقاً كريمة يعاشر بها الناس, فيحبّه الله تبارك وتعالى.فهذا التنوع في القناعات, والاختلاف في أداء الأعمال الموصلة إلى الله تعالى رحمة بالعباد, كما في الحديث النبوي الشريف: (اختلاف أمتي رحمة)(1).

وهنا شقشقة أُريد أن أبوح بها؛ لأن مجتمعنا مبتلٍ بها في جميع البلدان, وليست خاصة ببلد - فقد بلغني أنها موجودة هنا في المملكة, وإيران, والبحرين, ولبنان, كما هي موجودة عندنا في العراق- وهي عدم التعاطي مع هذا التنوع بايجابية، بل بحساسية مفرطة, وسوء ظن تصل إلى حد التقاطع, وتبادل الاتهامات, والتسقيط, وربما التكفير في بعض الحالات والعياذ بالله، وهذه حالة مرفوضة, ولا مبرر لها من سيرة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ), وتعاليمهم وتُوقع أصحابها في الكبائر, مع ما فيها من حرمان للأمة من طاقات فاعلة, وحركات مؤثرة.

لقد شبّه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أمته بالسفينة التي تتحرك بحركة واحدة نحو ساحل الأمان, ولو شاء أحد أن ينفرد برأيه, ويخرج من حركة الأمة, ويقلع خشبته من السفينة؛ فإن الأمة تغرق, فلا بد من حركة تكاملية لعناصر المجتمع, يتمم بعضهم دور بعض, ويُشكّل كل واحد المساحة التي يستطيع التحرك فيها، وليست حركة تقاطعية عِدائية.

أجارنا الله تعالى وإياكم من مضلات الفتن...7.

ص: 274


1- معاني الأخبار- الشيخ الصدوق: 157.

القبس /22: سورة النساء:17

اشارة

{إِنَّمَا ٱلتَّوبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعمَلُونَ ٱلسُّوءَ بِجَهَلَة ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيب}

موضوع القبس: بادر الى التوبة فأنها تصعب بالتأخير

التورط بأموال الناس نموذجاً

قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَ-ئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ، وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَ-ئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} (النساء: 17 -18).

فالآية تبين ان قبول التوبة - اي قبول الله تعالى لعبده بعد ان يعود العبد الى ربه بالندم والاستغفار لان التوبة تعني الرجوع فالحركة متبادلة بين العبد وربهِّ {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ} (التوبة:118), قال تعالى {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} (المائدة:39)- حق فرضه الله تبارك وتعالى على نفسه للذين وقعوا في المعاصي, والذنوب, رحمةً بهم, وشفقةً عليهم, ولعلمه تعالى بضعفهم, وقصورهم, اذا تابوا وندموا من قريب, ولم يسوّفوا التوبة, ويؤجلوها, تمادياً في المعصية.

ص: 275

ولم يحدَّد سبحانه الوقت القريب لأنه ممتد ما دامت التوبة لها أثر إيجابي في حياة الانسان لكنها كلما كانت سريعة كانت أجدى في زوال اثر المعصية والعودة الى الاستقامة.روى الشيخ الصدوق في الفقيه بسنده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال في آخر خطبة خطبها (من تاب قبل موته بسنة تاب الله عليه، ثم قال: ان السنة لكثيرة، من تاب قبل موته بشهر تاب الله عليه، ثم قال: ان الشهر لكثير، ومن تاب قبل موته بجمعة تاب الله عليه، ثم قال: ان الجمعة لكثيرة، ومن تاب قبل موته بيوم تاب الله عليه، ثم قال: ان يوم لكثير، ومن تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه، ثم قال: ان الساعة لكثيرة، ومن تاب وقد بلغت نفسه هذه – وأهوى بيده الى حلقه – تاب الله عليه)(1)

ومثل الآية محل البحث آيات عديدة كقوله تعالى {وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنعام:54) ومثلها (النحل:119).

وهذا لا يعني غلق الباب على غيرهم فرحمة الله تسع الجميع، ففي أصول الكافي بسند صحيح عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (اذا بلغت النفس ها هنا - وأشار الى حلقه - لم يكن للعالم توبة، ثم قراء {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ}(2) لكن3.

ص: 276


1- الفقيه: 1/ 133 ح 351
2- الكافي: 1/ 37 ح3.

هذه الآية تذكر شرطي التوبة التي اوجب الله تعالى على نفسه قبولها وهما التوبة من قريب وان يكون صدور الذنب بجهالة. اما الذين لا يبادرون الى التوبة ويؤجلونها ثم يتوبون قبل ان يدركهم الموت فهؤلاء موكولون لأمر الله تعالى، قال سبحانه {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة:106) فهؤلاء صنف بين من تقبل توبتهم حتماً ومن لا تقبل وهو من لا يتوب حتى ينزل به الموت.والجهالة هنا - كما في الموارد القرآنية الأخرى - ليست مقابل العلم لان الجاهل بحرمة شيء قد يكون معذوراً ولأنها قد تطلق على العالم أيضاً وقد وصفت حال الأمم قبل الإسلام بالجاهلية مع ان فيهم من بلغ من العلوم والحضارة المادية مرتبة متّقدمة، وانما تعني الحماقة والسفاهة والنزق وعدم الحكمة في التصرف وعدم وضع الأمور في موضعها الصحيح والانسياق وراء الشهوات والنزوات بلا تعقل، روى العياشي في تفسير هذه الآية عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (يعني كل ذنبٍ عمله العبد وان كان به عالماً فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربه، وقد قال فيه تبارك وتعالى يحكي قول يوسف لاخوته {قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ} (يوسف:89). فنسبهم الى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية الله)(1) قال تعالى {أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (البقرة:67) وكأنه اعتبر عدم انتفاعه بعلمه كعدم العلم وقد قال الراغب في معاني الجهل (فعل الشيء بخلاف ما حقّه ان يفعل، سواء اعتقد فيه2.

ص: 277


1- تفسير العياشي: 1/ 228 ح 62.

اعتقادا صحيحا او فاسدا).وكأنه أريد بهذا القيد (بجهالة) إخراج مرتكب الذنوب عناداً وتمرداً واستكباراً على رب العزة والجلال وإنكاراً لقدرته تعالى.

وينبغي الالتفات الى ان هذا الوعد الإلهي الكريم لا يصح ان يكون سبباً لاغترار(1) الانسان واستخفافه بمقام ربه تعالى، وانما عليه ان يستعصم بالله تعالى ويطلب منه العون على تجنب الذنب اصلاً، روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (ترك الذنب اهون من طلب التوبة)(2) ولكن لو حصل الذنب فالمطلوب المبادرة الى التوبة وإصلاح الحال لكي يكون مشمولا بالآية الكريمة ولان الاستمرار على الخطأ والخطيئة يصعّب العودة ويعقّد الوضع وتكون النتيجة عدم التوفيق للتوبة. من وصايا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأبن مسعود (لا تقدِّم الذنب ولا تؤخر التوبة، لكن قدِّم التوبة وأخرّ الذنب)(3)، ومن كلام لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لاتكن ممن يرجو الآخرة بغير العمل، ويُرجئ التوبة بطول الامل... إن عرضت له شهوة أسلف المعصية - أي عجّلها - وسوّف التوبة)(4) وله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أيضاً (إن قارفت سيئة فتعّجل محوها بالتوبة)(5)

وأذكر لكم رواية تبيّن صعوبة التوبة بالتأخير وهي تتعلق بأحد الذنوب1.

ص: 278


1- راجع قبس/ 171, (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ), من نور القرآن: 5/ 201
2- بحار الانوار: 73/ 346 / ح 96.
3- مكارم الاخلاق ص 29، بحار الانوار: 77/ 104 ح 1.
4- بحار الانوار: 6/ 37 ح 60.
5- بحار الانوار: 77 / 208 ح 1.

الكبيرة التي كثر الابتلاء بها وهو الدخول في اعمال الظالمين والفاسدين وسرّاق المال العام طمعاً بالاستفادة من دنياهم، سواء كان هؤلاء الظلمة قادة سياسيين او رؤساء عشائر او تجار ورجال اعمال او زعماء جماعات القتل والخطف والابتزاز وقبض الرشاوي ونحو ذلك، وقد وردت الروايات الكثيرة الدالة على الحرمة المغلّظة للدخول في أعمالهم، منها عن ابي بصير قال (سألت ابا جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن أعمالهم - أي الولاة الظلمة - فقال لي: يا أبا محمد، لا ولا مدة قلم، ان أحدهم (أحدكم) لا يصيب من دنياهم شيئاً الا اصابوا من دينه مثله)(1).فالحذر الحذر من الدخول في شيء من ذلك ومن تورّط فعليه بالإسراع في الخروج منها والا فان الرجوع الى الحق سيكون صعباً، روى الشيخ الكليني بسنده عن حميد قال: (قلت لأبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): اني ولّيت عملاً - أي من اعمال الظالمين وولاياتهم - فهل لي من ذلك مخرج؟ فقال: ما أكثر من طلب المخرج من ذلك فعسر عليه، قلت: فما ترى؟ قال: ارى ان تتقي الله عز وجل ولا تعد)(2).

ولكي نعرف كيف يصعب الحل ويصبح ثقيلاً جداً على النفس الاستجابة اليه، نقرأ الرواية التالية من الكافي بسنده عن علي بن ابي حمزة قال (كان لي صديق من كتاب بني أمية فقال لي: استأذن لي على أبي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فاستأذنت له، فأذن له، فلما ان دخل سلم وجلس، ثم قال: جعلت فداك أني كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من دنياهم مالاً كثيرا، وأغمضت في مطالبه - أي لم أدقّق في كون مصدره حلالاً أو حراماً - فقال أبو عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): لو لا ان بني أمية وجدوا5.

ص: 279


1- الوسائل:17/ 179 أبواب ما يكتسب به باب 42 ح 5.
2- الوسائل: 17/ 189 الباب 45 عسر التوبة ح 5.

لهم من يكتب ويجبي لهم الفيء ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم لما سلبونا حقنا، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئا الا ما وقع في أيديهم) وهكذا كل الطغاة والظالمين والفاسدين لولا انهم وجدوا من يمكّنهم ويسلطّهم بالقوة او بالانتخابات لما وجدوا مجالاً لممارسة الظلم والفساد لانهم لا يملكون القدرات الذاتية التي تمكنّهم من فعل شيء كشرذمة بني امية وسائر الطواغيت والظلمة (قال: فقال الفتى: جعلت فداك فهل لي مخرج منه؟ قال: ان قلت لك تفعل؟ قال: أفعل، قال له فأخرج من جميع ما كسبت في ديوانهم فمن عرفت منهم) أي من أصحاب الحقوق المالية (رددت عليه ماله، ومن لم تعرف تصدقت به، وانا أضمن لك على الله عز وجل الجنة، فاطرق الفتى طويلاً) لان المطلوب منه صعب عسير وقد تعوّد على وضع اجتماعي ومالي لا يستطيع الخروج منه الا ذو حظ عظيم وهذا معنى قولنا ان التوبة تصعب بالتأخير (ثم قال له: لقد فعلت جعلت فداك. قال أبن ابي حمزة: فرجع الفتى معنا الى الكوفة فما ترك شيئاً على وجه الأرض الا خرج منه حتى ثيابه التي كانت على بدنه قال: فقسمت له قسمة واشترينا له ثياباً وبعثنا اليه بنفقة، قال: فما اتى عليه الا أشهر قلائل حتى مرض) وربما كان مرضه لثقل الهم والشعور بالمسؤولية امام الله تعالى وضريبة الغفلة التي كان فيها قبل أن يستيقظ (فكنا نعوده، قال: فدخلت يوماً وهو في السوْق(1) قال: ففتح عينيه ثم قال لي: يا علي وفى لي والله صاحبك، قال: ثم مات فتولينا أمره، فخرجت حتى دخلت على أبي عبدالله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فلما نظر الي قال لي: يا علي وفينا واللهن.

ص: 280


1- أي حالة الاحتضار ونزع الروح فكأنها تُساق لتخرج من البدن.

لصاحبك، قال: فقلت صدقت جعلت فداك هكذا والله قال لي عند موته)(1).أقول: وهكذا في سائر الامور علينا المبادرة الى اصلاح الخطأ ومعالجة الخلل قبل ان يتسع ويتعذر إصلاحه، مثلاً يحصل خلاف وسوء تفاهم بين شخصين كالزوجين أو الاخوين أو بين جماعتين، فعليهم ان (يعبروا النهر ما دام ضيقاً) كما في المثل العامي اما اذا استمروا في الخلاف وتدخلت عناصر أخرى بالقيل والقال فان المشكلة تستعصي على الحل.

ومما يزّيد صعوبة التوبة ايضاً فيما لو تسبّب بتوريط الاخرين في الظلم والمعصية والضلالة كدعاة الفسق والفجور والالحاد والعزوف عن الدين وتشويه صورة الصالحين وتسقيطهم او دعوة الناس الى اتباعه بغير استحقاق ونحو ذلك لان من شروط التوبة حينئذ ان يصحّح ويعالج كل ما تسبب به ويلاحقه أينما كان. وهذا قد يستحيل تحقيقه وليس له الا لطف الله تعالى وكان عليه ان يتورع من اول الامر ولا يتورط بأمثال هذه المعاصي فيصبح ضالاً ومضلاً.1.

ص: 281


1- وسائل الشيعة: 17 / 199 ، أبواب ما يكتسب به، باب 47 ح 1.

القبس /23: سورة النساء:58

اشارة

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}

موضوع القبس: مصاديق أداء الأمانة

نبدأ حديثنا برواية في بركة أداء الأمانة والمنزلة العظيمة لمن يؤدي الأمانة، فقد روى الكليني (رضوان الله عليه) بسنده عن أبي كهمس (الهيثم بن عبد الله الشيباني) قال: (قلت لأبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): عبد الله بن أبي يعفور يقرؤك السلام، قال: وعليك وعليه السلام، إذا أتيت عبد الله فاقرأه السلام وقل له: إن جعفر بن محمد يقول لك: انظر ما بلغ به علي عند رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فالزمه، فإن علياً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إنما بلغ ما بلغ عند رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بصدق الحديث وأداء الأمانة)(1).

وحينئذٍ قد يقال بأن هاتين الخصلتين مما يتيسر الاتصاف بهما مع أن منزلة علي مما لا يبلغها أحد من بعده كما قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (ألا وأنكم لا تقدرون على ذلك) (2) لذا فإن الأمر يحتاج إلى شيء من الإيضاح والتفصيل، وسنتحدث هنا عن أداء الأمانة، حيث ينصرف الذهن إلى قضية وضع أموال الناس وممتلكاتهم عند بعضهم واستردادهم عند مطالبة أصحابها، فأداء الأمانة يعني رد الحقوق وإيصالها إلى أهلها.

ص: 282


1- وسائل الشيعة: كتاب الوديعة، باب 1، ح1.
2- نهج البلاغة: 676 من كتاب الى عثمان بن حنيف.

وبهذا المعنى يتساوى كثيرون مع علي بن أبي طالب، لكن الأمانة لها معنى أوسع من هذا بكثير وأداء الأمانة يقتضي مسؤوليات كبرى.

أمانة العهد والميثاق:

وأول أمانة وأعظمها هي تلك التي عرضها الله تبارك وتعالى على جميع المخلوقات فاعتذرت عن تحملها وحملها الإنسان قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (الأحزاب:72) وهي أمانة العهد والميثاق الذي أخذه الله تبارك وتعالى على عباده ليمنحهم بمقتضاه خلافة الله تعالى في الأرض بأن يكون الإنسان مخلوقاً عاقلاً رشيداً ويُسخَّر له الكون كله على أن يكون موحداً لله تبارك وتعالى ومن ثم تعريضه للجزاء والحساب ليثاب على إحسانه بجنة عرضها السماوات والأرض ويحاسب على سيئاته، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (الأعراف:172).

ويعيد الإنسان التأكيد على هذا الميثاق عندما يصافح الحجر الأسود فيقول: (اللهم أمانتي أديتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة).

تخلقوا بأخلاق الله:

تلك الخلافة التي تعني أن يكون الإنسان مظهراً للصفات الإلهية والأسماء الحسنى فيجعل الله تعالى المثل الأعلى الذي يبذل وسعه للاتصاف بصفاته {وَلِلَّهِ

ص: 283

الْمَثَلُ الأَعْلَى} (النحل: 60) وورد في الاثر (تخلقوا بأخلاق الله)(1) وهي لا تقتصر على الأسماء الحسنى كالرحيم والكريم والغفار والعليم، بل تشمل كل الصفات الإلهية التي نطق بها القرآن الكريم والأدعية الشريفة والروايات المأثورة كقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعاء الافتتاح: (فلم أرَ مولىَ كريماً أصبرَ على عبدٍ لئيمٍ منك عليّ يا ربِّ إنك تدعوني فأولّي عنك، وتتحبب إليّ فأتبغّضُّ إليك، وتتودد إلي فلا أقبل منك، كأن لي التطول عليك، فلم يمنعك ذلك من الرحمة لي والإحسان إلي، والتفضل علي بجودك وكرمك)، فهذه صفة لله تبارك وتعالى علينا أن نسعى للتخلق بها وهكذا غيرها.وبأداء هذه الأمانة أوصى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من خطبة له: (ثُمَّ أَدَاءَ الْأَمَانَةِ فَقَدْ خَابَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا إِنَّهَا عُرِضَتْ عَلَى السَّمَاوَاتِ الْمَبْنِيَّةِ وَالْأَرَضِينَ الْمَدْحُوَّةِ وَالْجِبَالِ ذَاتِ الطُّولِ الْمَنْصُوبَةِ فَلَا أَطْوَلَ وَلَا أَعْرَضَ وَلَا أَعْلَى وَلَا أَعْظَمَ مِنْهَا وَلَوِ امْتَنَعَ شَيْ ءٌ بِطُولٍ أَوْ عَرْضٍ أَوْ قُوَّةٍ أَوْ عِزٍّ لَامْتَنَعْنَ وَلَكِنْ أَشْفَقْنَ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَعَقَلْنَ مَا جَهِلَ مَنْ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُنَّ وَهُوَ الْإِنْسَانُ {إنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً})(2).

وقد تمثلت في رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كل الصفات الحسنى المتاحة للمخلوقات فقد ورد في الحديث أن أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) حازوا اثنين وسبعين حرفاً من الاسم الأعظم ذي الثلاثة والسبعين حرفاً وبقي حرف واحد اختص تبارك وتعالى به لنفسه وكانوا مظهراً لكل الصفات الإلهية المتاحة لهم كمخلوقين، فأدى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هذه الأمانة خير أداء.).

ص: 284


1- بحار الانوار: 58/ 129
2- نهج البلاغة من الخطبة (199).

ويعني أداء هذه الأمانة الإيمان والالتزام بكل العقائد الحقة التي أشهد الله تبارك وتعالى عباده عليها {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (الأعراف:172) والأحكام الشرعية التي حدها لعباده والشهادة لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالرسالة والنبوة ولأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالولاية ولأهل بيته بالمودة والإتباع، ولذا ورد في الكافي تفسير الآية أن (الأمانة هي ولاية أمير المؤمنين)(1).

نفسك التي بين جنبيك:

ومن مصاديق الأمانة نفسك التي بين جنبيك، يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (عِبَادَ اللهِ، اللهَ اللهَ فِي أَعَزِّ الأَنْفُسِ عَلَيْكُم، وَأَحَبِّهَا إِلَيْكُمْ؛ فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَوْضَحَ لَكُمْ سَبِيلَ الْحَقِّ وَأَنَارَ طُرُقَهُ، فَشِقْوَةٌ لاَزِمَةٌ، أَوْ سَعَادَةٌ دَائِمَةٌ! فَتَزَوَّدُوا فِي أَيَّامِ الْفَنَاءِ لِأَيَّامِ الْبَقَاءِ. قَدْ دُلِلْتُمْ عَلَى الزَّادِ، وَأُمِرْتُمْ بَالظَّعْنِ، وَحُثِثْتُمْ عَلَى الْمَسِيرِ)(2) فهي أعز أمانة استودعك الله إياها أو ائتمنك عليها لتهذبها وتحميها من إتباع الهوى ونزغات الشيطان وأن لا تسلس القياد لها فتوردك موارد الهلكة فإن إعطاءها ما تريد –وهي الأمارة بالسوء- يقود إلى الهلاك. في دعاء الصباح لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (فبئس المطية التي امتطت نفسي من هواها، فواهاً لها لما سولت لها ظنونها ومناها).

وهي قد تبدو مفارقة أن تكون رعاية النفس والإحسان إليها بمنعها مما

ص: 285


1- شرح أصول الكافي :ج 7 / 52
2- نهج البلاغة الخطبة (157).

تشتهيه وكبح جماحها، وعدم إطلاق العنان لها في اللهو واللعب كالذين قضوا ساعات شهر رمضان المباركة –التي جعلها الله تبارك وتعالى ميداناً لأوليائه يتسابقون فيها إلى رضوانه- يقضونها بمتابعة المسلسلات الماجنة ولعبة المحيبس وأمثالها، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في المناجاة الشعبانية: (إلهي قد جُرتُ على نفسي في النظر لها، فلها الويل إن لم تغفر لها) ويقول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبُت على جوانب المزلق)(1)، وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (وأيمُ الله - يميناً أستثني فيها بمشيئة الله- لأرُوضَنَّ نفسي رياضةً تَهِشُّ معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً)(2) وفي ذلك يوصي الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) شيعته خصوصاً الذين يسوّفون التوبة والندم والاستغفار والذين يتلفون أنفسهم فيما يسمونه (جهاداً) أو (ثورة) أو (مقاومة) ونحوها دون الرجوع إلى البصير بأمور الشريعة وما يصلح الأمة، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له وانظروا لأنفسكم، فوالله إن الرجل لَيكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلاً هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها، والله لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرب بها، ثم كانت الأخرى باقية يعمل على ما قد استبان لها، ولكن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة، فأنتم أحقّ أن تختاروا لأنفسكم، إن أتاكم آتٍ منّا فانظروا على أي شيء تخرجون) (فنحن نشهدكم أنا لسنا نرضى به وهو يعصينا اليوم وليس معه أحد،ع.

ص: 286


1- نهج البلاغة، قسم الرسائل، العدد: 45.
2- المصدر السابق، نفس الموضع.

وهو إذا كانت الرايات والألوية أجدر أن لا يسمع منا)(1).

الجسد من مصاديق الأمانة:

ومن مصاديق الأمانة: جسدك الذي ائتمنك الله تبارك وتعالى وصنعه لك بأحسن تقويم لتتخذه وسيلة للكمال والوصول إلى الغاية وأمرك بالاعتناء به وحفظه وتوظيفه لهذا الهدف السامي وهو طاعة الله تبارك وتعالى وعبادته فهو وسيلة وليس غاية، ومما ورد في مناجاة الخائفين للإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إلهي هل تسوّدُ وجوهاً خرَّتْ ساجدة لعظمتك، أو تُخرسُ ألسنةً نطقت بالثناء على مجدك وجلالتك، أو تطبع على قلوبٍ انطوت على محبتك، أو تُصِمُّ أسماعاً تلذذت بسماع ذكرك في إرادتك، أو تغلّ أكفاً رفعتها الآمال إليكَ رجاء رأفتك، أو تعاقب أبداناً عملت بطاعتك حتى نحلت في مجاهدتك، أو تعذب أرجلاً سعت في عبادتك).

فمن الخيانة توظيف الجسد في الحرام كاللواتي يتاجرن به أو الذين يستخدمون بعض جوارحهم في الحرام ومن الخيانة إيلام الجسد وإيذاؤه ولو بمثل التدخين الضار فضلاً عن المحرمات كشرب الخمر والزنا أو إيذاؤه تحت عناوين مبتدعة كبعض ما يأمر به أدعياء السلوك إلى الله تعالى والمعرفة ولو كان في ما يفعلونه خيراً لما توقف الأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) عن بيانه وهم كجدهم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) {بِالمُؤمِنِينَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة:128)، فلا يحبسون عنهم ما ينفعهم، ومن الإيذاء ما يفعله البعض باسم شعائر الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والتفجّع لمصابه وهي براءٌ

ص: 287


1- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 13، ح1.

منه {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (يونس: 59).ومن الخيانة إغراق الجسد في الراحة والترف والاعتناء بمتع الجسد وكمالياته بعيداً عن الهدف، لأنه وسيلة وليس غاية، فلا يعقل إمضاء الوقت المقرر للسفر بالاعتناء بواسطة النقل وترتيبها وتجميلها حتى ينتهي الوقت المقرر لبلوغ الغاية. وهكذا عمر الإنسان المخصص للسفر إلى الملكوت فلا يقضيه في إمتاع الجسد وراحته، حكي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (اريحوا اجسادكم بالتعب ولا تتعبوها بالراحة)، وكان (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لا يعطي لجسده إلا ما يقويه على طاعة الله تبارك وتعالى لذلك كان جسده قوياً متيناً قادراً على الانسجام مع ما يقتضيه مقام أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من الفناء في طاعة الله تبارك وتعالى والجهاد في سبيله حتى قال بعض المتخصصين عندما اطلع على نظام حياة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وغذائه: ((لولا ضربة ابن ملجم لكان من الممكن أن يعيش علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى آخر الدهر)) ويجيب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على من يستشكل عليه ويرى أن قوة الجسد في الترف والتنعم، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (وكأني بقائلكم يقول: إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشجعان، ألا وإن الشجرة البرّيّة أصلب عوداً والروائع الخضرة أرق جلوداً والنباتات البدوية أقوى وقوداً وأبطأ خموداً)(1)، ويقول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (فما خُلقتُ ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها، أو المرسلة شغلها تقمُّمها تكترش من أعلافها وتلهو عما يُراد بها، أو أترك سدى، أو أهملَ عابثاً، أو أجُرُّ حبل الضلالة أو أعتسف طريق المتاهة)(2).ع.

ص: 288


1- نهج البلاغة قسم الرسائل، العدد: 45.
2- نهج البلاغة، قسم الرسائل، نفس الموضع.

أداء الأمانة:

وإذا انتقلنا إلى أداء الأمانة للآخرين؛ فمن مصاديقها الزوجة فإنها أمانة عند زوجها كما ورد في الدعاء المأثور عند إدخال الزوجة على زوجها: (اللهم على كتابك تزوجتها، وفي أمانتك أخذتها، وبكلماتك استحللت فرجها) إلخ، ولم تأتِ إلى بيت الزوج إلا بعقد وصفه الله تبارك وتعالى بأنه ميثاق غليظ قال تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} (النساء:2) وهو وصف ميثاقه تبارك وتعالى مع الأنبياء والرسل {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} (الأحزاب:7) وواجبه تجاه هذه الأمانة إكرامها ومعاشرتها بالمعروف ففي الحديث: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهله)(1) (ما أكرمهن إلا كريم وما أهانهن إلا لئيم) فمن ظلم زوجته وقصّر في إكرامها فقد خان الأمانة.

وعيالك أمانة عندك تنفق عليهم وتهذبهم وتحسن تربيتهم وتوجيههم إلى الأخلاق الفاضلة وفعل الخير.

والزوج أمانة عند زوجته تحفظه في ماله ونفسها وتطيعه إذا أمرها.

والعلم أمانة تعمل به وتبذله لمن يستحقه فإن بذل العلم لأهله صدقة وفي قصص بني إسرائيل أن جليساً لموسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وعى علماً كثيراً عذّبه الله تبارك وتعالى بمسخه قرداً في عنقه سلسلة فسأل موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ربه عنه فأوحى إليه: (إني كنت حمّلته علماً فضيّعه وركن إلى غيره).

ص: 289


1- وسائل الشيعة - الحر العاملي/ج20 /ص 171

أمانة الموقع السياسي والاجتماعي:

والموقع السياسي والإداري والاجتماعي والعشائري هو أمانة يُسأل الإنسان عن أدائها والقيام بحقوقها وليس غنيمة يستأكل بها، وإن الله تبارك وتعالى مسائله عن حسن سيرته مع من ولاه عليهم، وهذا المعنى ركّز عليه أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لرسوخ معنى الغنيمة و (تقاسم الكعكة) - بمصطلح الحكام والسلطات- ففي كتابه إلى عامله على آذربيجان أشعث بن قيس يقول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (وإن عملك ليس لك بطعمةٍ ولكنه في عنقك أمانة، وأنت مسترعىً لمن فوقك. ليس لك أن تفتات في رعية، ولا تخاطرَ إلا بوثيقة، وفي يديك مالٌ من مال الله عز وجل، وأنت من خزانه حتى تسلمه إليّ، ولعلي ألا أكون شرّ ولاتك لك، والسلام)(1).

ويعلّم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مالك الأشتر أوصاف الذين يختارهم للولاية والإدارة والحكم: (ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً، ولا تولّهم محاباةً وأثَرة، فإنهم جِماعٌ من شعب الجور والخيانة، وتوخَّ منهم أهل التجربة والحياء)(2).

وكان يحاسب عماله أشدَّ المحاسبة إذا علم منهم تقصيراً أو خيانة، ولم ينقل التأريخ خيانة بعض عمال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلا من خلال كشفه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لهم، في حين أن الحكام الآخرين كانوا فاسدين لكنهم لم يحاسبهم من هو فوقهم، فقد كتب إلى زياد بن أبيه وهو خليفةُ عاملِه على البصرة وتوابعها كالأهواز وفارس وكرمان عبد الله بن عباس: (وإني أقسم بالله قسماً صادقاً، لئن بلغني أنك خُنتَ من فيء المسلمين شيئاً صغيراً أو كبيراً لأشدَّنَّ عليك شدةً تدعك

ص: 290


1- المصدر، العدد: 5.
2- المصدر، العدد 53.

قليل الوفر ثقيل الظهر ضئيل الأمر، والسلام)(1).وكتب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى المنذر بن الجارود العبدي، وقد خان في بعض ما ولاه من أعماله: (أما بعد، فإن صلاح أبيك غرني منك، وظننت أنك تتبع هديه وتسلك سبيله، فإذا أنت –فيما رُقِّيَ إليّ عنك - لا تَدَعُ لهواك انقياداً ولا تُبقي لآخرتك عتاداً، تعمر دنياك بخراب آخرتك، وتصل عشيرتك بقطيعة دينك، ولئن كان ما بلغني عنك حقاً، لَجَمَلُ أهلك وشسع نعلك خير منك، ومن كان بصفتك فليس بأهل أن يُسَدَّ به ثغر أو يُنفَذَ به أمر، أو يُعلى له قدر أو يُشركَ في أمانة، أو يؤمن على جباية، فأقبل إليَّ حين يصل إليك كتابي هذا، والسلام)(2).

معيار المؤمن:

أيها الأحبة: هذا بعض ما يمكن أن نفهمه من معنى الأمانة التي أُمرنا بأدائها، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء:58) والتي ورد في فضلها وأهميتها الكثير كقول الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لا تغترّوا بكثرة صلاتهم ولا بصيامهم فإن الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم حتى لو تركه استوحش، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة)(3).

الخيانة قبال الأمانة:

وبإزاء هذا المعنى الواسع للأمانة وأدائها يكون معنى الخيانة واسعاً فهي تشمل كل تفريط أو تقصير في أداء حق واجب على الإنسان، وهو ظاهر قوله

ص: 291


1- المصدر، العدد 20.
2- المصدر، العدد 71.
3- وسائل الشيعة: كتاب الوديعة، باب 1، ح2.

تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الأنفال:27) فعن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير الآية: (فخيانة الله والرسول معصيتهما، وأما خيانة الأمانة فكل إنسان مأمون على ما افترض الله عز وجل)(1).وقد وردت في الروايات أمثلة لخيانة الأمانة تتجاوز المعنى المتعارف كقول الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (أيما رجل من أصحابنا استعان به رجل من إخوانه في حاجة فلم يبالغ بكل جهده فقد خان الله ورسوله والمؤمنين)(2) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (الخائن من شغل نفسه بغير نفسه وكان يومه شراً من أمسه)(3).

وأعظم الخيانة خيانة الأمة في أي موقع ديني أو اجتماعي أو سياسي أو مالي أو إداري.

ومما كتب أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى بعض عماله بعد أن بيّن له ما يجب فعله قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (وإلا تفعل فإنك من أكثر الناس خصوماً يوم القيامة، وبؤسىً لمن خصمه عند الله: الفقراء والمساكين والسائلون والمدفوعون والغارمون وابن السبيل.

ومن استهان بالأمانة، ورتع في الخيانة ولم ينزه نفسه ودينه عنها؛ فقد أحل بنفسه الذل والخزي في الدنيا وهو في الآخرة أذلّ وأخزى، وإن أعظم الخيانة3.

ص: 292


1- تفسير نور الثقلين:2/ 144.
2- بحار الأنوار: 72/ 177.
3- غرر الحكم للآمدي، الحديث 2013.

خيانة الأمة، وأفظع الغش غش الأئمة، والسلام)(1).6.

ص: 293


1- نهج البلاغة، قسم الرسائل، العدد: 26.

القبس /24: سورة النساء:65

اشارة

{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِم حَرَجا مِّمَّا قَضَيتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسلِيما}

موضوع القبس: الإيمان لا يتحقق إلا بتحكيم شريعة الله تعالى

الفرق بين الحقيقة والدعوى:

إن الحقيقة تحتاج إلى دليل يبرزها ويؤكدها ويثبت وجودها، ومن دونه تكون الأشياء مجرد دعاوى، ويؤكد هذا الأمر الإمامُ الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في وصيته لهشام بن الحكم، قال (سلام الله عليه): (يا هشام لكل شيء دليل ودليل العاقل التفكر ودليل التفكر الصمت)(1) فلا بد أن لا نسلّم بالأمور والدعاوى حتى نتحقق من الدليل، ولا نسترخي للأوصاف التي ندّعيها لأنفسنا ونثبتها في هويتنا كالإسلام والتشيع وولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من دون أن نراقب أنفسنا ونتفقدها باستمرار ونمتحنها لنتلمس الدليل على صدق هذه الدعاوى.

هذه المقدمة تلقي الضوء على واقع مؤسف نعيشه نحن المسلمين وهو أننا ندعي عناوين كثيرة من دون تقديم الدليل على وجود حقائقها بل قد نقوم بالعكس من ذلك، فتخالف أقوالنا أفعالنا، لذا يعلمنا الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في

ص: 294


1- تحف العقول: 246.

الدعاء المروي عنه الاعتراف بهذا التقصير أمام الله تبارك وتعالى: (ومن كانت حقائقه دعاوى فكيف لا تكون دعاواه دعاوى)(1).

حقيقة الإيمان بالله تعالى:

وأهم تلك العناوين التي يجب أن نتأكد من وجود حقيقتها هو الإيمان بالله تبارك وتعالى لأنه أصل الدين وأساس الفوز والسعادة في الدنيا والآخرة، وتأكيداً لهذه الأهمية فقد كان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) يلفتون نظر الناس إلى تفقد هذه الحقيقة فيسألون من يقولون: (نحن مؤمنون) ويقولون لهم: (فما حقيقة إيمانكم) أو يبدؤونهم بالبيان كقول الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لا يبلغ أحدكم حقيقة الإيمان حتى يكون فيه ثلاث خصال.. إلى آخر الحديث)(2).

أهم مظهر للتوحيد هو إقامة الأحكام الإلهية:

وقد بينت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة ما تكتمل به حقيقة الإيمان، قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} (النساء: 65)، فيقسم الله تبارك وتعالى على هذه الحقيقة {فَلا وَرَبِّكَ} ويحصر الإيمان بها {لا يُؤمِنُونَ حَتى يُحَكّمُوكَ} ويعطينا قاعدة مهمة من قواعد العقيدة في الإسلام، وهي أن أهم مظهر للتوحيد والإيمان بالله هو إقامة حكم الله تبارك وتعالى في الأرض، وتطبيق

ص: 295


1- مفاتيح الجنان، 315.
2- ميزان الحكمة: 1/ 286.

شريعته في شؤون الحياة والرجوع إليه في الحكم والالتزام بمنهجه في الحياة، وإن هاتين القضيتين متلازمتان، وإن جوهر الصراع بين الإيمان والكفر هو في من له حق الحاكمية والتشريع ورسم المنهج الذي تسير عليه البشرية، هل هو الله تعالى خالق الكون والعالم بما يصلحه ويسعده، أم الإنسان بقصوره وفقره وعجزه ومصالحه المتصارعة وأهوائه المتقلبة {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} (المؤمنون:71)؟.

الإيمان يكتمل بثلاثة عناصر:

لذا فإن الآية الكريمة تؤكد على أن الإيمان الحقيقي يكتمل بثلاثة عناصر:

1-الرجوع إلى شريعة الله تعالى التي بلّغها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ومن بعدهم العلماء العاملون المخلصون {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} أي يرجعون إليك في كل أمورهم ويأخذون الحكم منك ولا يحكمون غيرك وغير من نصبتهم من الحجج، وإن كل قانون يضعه البشر لم يؤخذ من الشريعة فإنه باطل وينافي أصل الإيمان بالله تعالى ولا يجوز لأحد أن يشرّع ويقنن خارج النصوص الشرعية.

2-أن يسلّموا بتلك الأحكام ويذعنوا إليها ويؤمنوا بها سواء أدركوا المصلحة فيها وعرفوا أسرار تشريعها أو لم يدركوا ذاك، وأن لا يشعروا بالحرج والضيق إذا عاب أحد عليهم هذه الأحكام أو انتقصها أو زعم أنها تخالف حقوق الإنسان وتنافي الحرية والعدالة والمساواة، أو أنها رجعية وتخلف ولا تواكب الزمان الحاضر، ونحو ذلك من التهم والاستفزازات.

ص: 296

3-أن يلتزموا بتلك الأحكام ويطبقوها في حياتهم من دون تبعيض وانتقائية للأحكام التي توافق رغباتهم وأهوائهم ومصالحهم، ويعرضون عنها إذا كانت لا تحقق مصالحهم الضيقة وتصطدم مع أهوائهم وشهواتهم، وإنَّ صدق الإيمان يظهر عندما يكون الحكم على خلاف الهوى والمصلحة ومع ذلك يسلِّم له ويطبقه ولا يجد في نفسه حرجاً منه.

روى الشيخ الكليني في الكافي بسند صحيح عن عبد الله بن يحيى الكاهلي قال: قال أبو عبد الله الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لو أن قوماً عبدوا الله وحده لا شريك له، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجوا، وصاموا شهر رمضان، ثم قالوا لشيء صنعه الله أو صنعه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): ألا صنع خلاف الذي صنع؟ أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين، ثم تلا هذه الآية: {فلا وربك لا يؤمنون..} ثم قال أبو عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): عليكم بالتسليم)(1).

ولقد أكد القرآن الكريم هذه الحقيقة في آيات كثيرة، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب: 36) وقال تعالى: {وَأَنَّ هَ-ذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} (الأنعام: 153)، وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ}(آل عمران:19)، وقال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:85) وغيرها.2.

ص: 297


1- الكافي: 1/ 321، ح2.

اهتمام الشريعة بتنظيم الأحوال الشخصية:

والروايات الشريفة حافلة أيضاً بهذه المعاني، وقد حظيت أحكام ما يعرف اليوم بالأحوال الشخصية باهتمام كبير من الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ولم يعذروا من يطبق القوانين الوضعية ولا يرجع إلى الأحكام الشرعية لأنها تنظم أموراً أساسية في حياة الأفراد كالزواج والطلاق والمواريث وأي خلل فيها يعني وقوع الناس في المحرمات في ذرياتهم وأموالهم، ولا مجال فيها للاعتذار بالتقية ونحوها لأنها قضايا شخصية لا تتعارض مع السلطات، وتحركوا بالوسائل المتاحة لهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ليقنعوا الأمة بها(1).

الانطلاقة من فروع الدين الى إقامة أصول الدين:

إن السيدة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) حينما قامت بأمر الله تعالى في وجه الانحراف والظلم وطالبت بحقها في فدك وحاججتهم بآيات المواريث إنما أرادت أن تنطلق من هذا الحكم المتعلق بالأحوال الشخصية إلى مطلب أوسع وأعظم وهو إقامة شريعة الله تعالى في الأرض وعلى رأسها اتباع الإمام الحق والقيادة الصالحة المصلحة، والقوم قد فهموها هكذا؛ لذا أرادوا قطع الطريق من

ص: 298


1- ويصل الاهتمام إلى درجة أن الإمام يسعى لإقامتها ولو بالقوة، في رواية صحيحة في الكافي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لا يستقيم الناس على الفرائض –أي المواريث- والطلاق إلا بالسيف) ومثلها عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ). وفي رواية أخرى عن أحدهم قال: (سألت أبا عبد الله الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن النساء هل يرثن من الرباع –أي الأراضي-؟ فقال: لا، ولكن يرثن قيمة البناء، قال: قلت: فإن الناس لا يرضون بذا؟ فقال: إذا وُلِّينا فلم يرضَ الناس بذلك ضربناهم بالسوط فإن لم يستقيموا ضربناهم بالسيف)(الروايات في الكافي: ج7، كتاب المواريث، باب 44).

أوله على مشروع السيدة الزهراء (يقول ابن أبي الحديد المعتزلي في أمر فدك: وسألت علي بن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد - وهو من علماء العامة- فقلت له: أكانت فاطمة (علیها السلام) صادقة؟ قال نعم. قلت: فلِمَ لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة؟ فتبسّم ثم قال: لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها لجاءت إليه غداً وادعت لزوجها الخلافة، وزحزحته عن مقامه، ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشيء؛ لأنه يكون قد أسجل على نفسه أنها صادقة في ما تدعي كائناً ما كان من غير حاجة إلى بينة ولا شهود. قال ابن أبي الحديد: وهذا كلام صحيح)(1).

الخشية من انطلاقة القانون الجعفري:

وهذا ما يقوم به الأعداء على طول التأريخ منذ أن صدع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالدعوة الإسلامية المباركة فيعملون على إجهاض كل حركة لإيقاظ الناس وتفعيل دور الدين في حياة الأمة ويسعون لإبقاء الأغلال التي تكبّل الأمة ويحيطون الحركة بالتشويه والتسقيط والشبهات كما حصل في مواجهة القانون الجعفري لتبقى الغشاوة على عيون الناس وإلحاق الهزيمة بالإسلام، وهذا يفسّر اجتماع كل القوى في الداخل والخارج لمعارضة القانون وهو ما يزال مسودّة لم يعرض للنقاش أصلاً؛ لأنهم يخشون من آثاره المباركة اللاحقة على الأمة.

ص: 299


1- شرح نهج البلاغة: 16/ 284.

لا حكم غير الإسلام إلا الجاهلية:

لقد كانت الصديقة الطاهرة (علیها السلام) حازمة وصريحة في وعظهم وتحذيرهم بأنهم يعودون إلى جاهليتهم الأولى إذا خالفوا حكم الله تعالى، قالت (علیها السلام) في خطبتها: (وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا، أفحكم الجاهلية تبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون؟ أفلا تعلمون؟ بلى قد تجلى لكم كالشمس الضاحية أني ابنته)(1).

فتذكرهم (علیها السلام) بقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة:50) ويفسّرها الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بقوله: (الحكم حكمان حكم الله وحكم الجاهلية وقد قال الله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} واشهدوا على زيد بن ثابت لقد حكم في الفرائض –أي المواريث- بحكم الجاهلية)(2)، والكلام شامل لغير زيد ممن خالفوا حكم الله تعالى.

الأحكام الإلهية لا تقبل المساومة:

أيها الأحبة: إن تطبيق الأحكام الشرعية وتنظيم شؤون الحياة على أساسها قضية حدية فاصلة لا تقبل المساومة والمداهنة والتبعيض أو التأجيل بحجة أن الوقت غير مناسب أو أي عذر آخر، فلا تسويف لأمر الله تعالى فإما أن يُطبَّق حكم الله تعالى وإما أن يكون الحكم حكم أهل الجاهلية، روي عن الإمام

ص: 300


1- الاحتجاج: 1/ 131.
2- الكافي: 7/ 407.

الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله: (الحكم حكمان: حكم الله وحكم الجاهلية فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهلية)(1).

الإسلام يقود الحياة: شعار المرجعية الرسالية:

إن فهم هذا الصراع والنهوض بمسؤولية الدفاع عن الإسلام وإقناع البشرية به وبقدرته على قيادة الحياة –كما عبّر السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) حينما عنون أحد كتبه بذلك- هو سر انقسام المرجعية الدينية والحوزة العلمية إلى خطين وقيادتين متباينتين في المنهج والسلوك، أولهما عالم فاعل عامل لا يكتفي بتنميق الكلمات على الأوراق فقط بل يتحرك ويواصل الليل بالنهار ليعيد للإسلام هيبته وعزته وللمسلمين كرامتهم وحريتهم وثقتهم بأنفسهم ويدلّهم على معالم هويتهم المسلوبة من خلال ما يقدّم من نظريات وتشريعات ومنظومات فكرية ومعرفية تثبت أن دين الإسلام هو أصلح نظام للبشرية اليوم وغداً كما كان بالأمس، فألّف الشهيد الصدر الأول (قدس سره) اقتصادنا وفلسفتنا ومجتمعنا والأسس المنطقية للاستقراء والبنك اللاربوي وغيرها، مما أبهر عقول خصومه وأصدقائه على حد سواء؛ لذا لا نستغرب قيام الحكومة الروسية رمز النظام السياسي والاقتصادي الذي استهدفه في كتبه بنصب تمثال(2) للسيد الشهيد الصدر الأول العالم العربي المسلم الوحيد الذي يكرَّم بهذا الشكل في قلب عاصمة الاتحاد

ص: 301


1- التهذيب: 6/ 218، ح5، باب من إليه الحكم وأقسام القضاة والمفتين.
2- وُضع التمثال النصفي في جامعة موسكو الحكومية للعلاقات الدولية التابعة لوزارة الخارجية الروسية ورفع الستار عنه يوم الجمعة 28/ 2/ 2014 في احتفال حضره مثقفون وأكاديميون وسياسيون روس، ورؤساء عدد من البعثات الدبلوماسية.

السوفيتي سابقاً وفي أهم صروحها العلمية في موسكو باعتباره صاحب إنجازات إنسانية عظيمة، بينما تُعرض الحوزة النجفية عنه وعن آثاره والاحتفال به –ونحن نعيش ذكرى استشهاده الرابعة والثلاثين- وكأنه ليس مفخرتها وجوهرتها ووجهها الناصع.

من معاني نصرة السيدة الزهراء (علیها السلام):

إن من أهم أشكال النصرة للسيدة الزهراء (علیها السلام) وللمعصومين جميعاً لنكون صادقين في قولنا لهم عند زيارتهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (ونصرتي لكم معدة) هو السعي الدؤوب لهداية الناس وإرشادهم، والضغط المستمر لإقرار القوانين التي تنظم حياتهم وفق الشريعة الإلهية خصوصاً في الأحوال الشخصية كالزواج والطلاق والميراث والوصية والوقف لأنها لا تتنافى مع حق أحد ولا تسلب حرية أحد ولا تكره أحداً على خلاف ما يعتقد.

إن الله تبارك وتعالى حذّرنا بشدة من العمل بالقوانين الوضعية التي تتنافى وأحكام الدين، قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (المائدة:44 45 47).

ويؤكد الله تعالى على نبيه أن لا يتأثر بالمغريات والتهديدات والتسقيط الإعلامي ونحو ذلك من الضغوط لترك القوانين الإلهية، قال تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ

ص: 302

اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} (المائدة:49) ثم يبين الله تعالى أن أحسن الأحكام وأصلحها للبشر وأكثرها ملاءمة لطبيعة تكوينه الفردي والاجتماعي هي أحكام الله، قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة:50).فلنراجع واقعنا ولننظر هل مناهج التعليم المتبعة موافقة للشريعة؟ وهل العلاقات الاجتماعية القائمة بيننا منضبطة بتعاليم الإسلام؟ وهل السنائن العشائرية التي يحكمون بها مأخوذة من الشريعة؟ وهل وهل.. مما يطول ذِكره.

حرائر العراق ينتصرن للإسلام:

لقد سجّلت المؤمنات الرساليات من حرائر العراق المتأسّيات بالسيدة الزهراء (علیها السلام) والعقيلة زينب (علیها السلام) موقفاً مشهوداً في نصرة دين الله تعالى حين عقدن تجمعات حاشدة بالآلاف في مختلف المدن العراقية وبحضورهن وحضوركم في هذا المحفل الكريم للمطالبة بتصحيح مواد قانون الأحوال الشخصية وفق الأحكام الشرعية، ووجّهن صفعة شديدة لمن يريد إبقاء المجتمع العراقي المسلم المؤمن يعمل على وفق قوانين الجاهلية.

وأعادت هؤلاء النسوة للمرأة عموماً الثقة بنفسها وبقدرتها على إحداث التغيير والإصلاح وانتزاع الحقوق، تلك القدرة التي سُلبت منها عبر الأجيال نتيجة لعوامل عديدة، وساعدت نفس المرأة على استلابها باستكانتها واستسلامها وخضوعها للأعراف والتقاليد والثقافات التي لا تمت إلى الإسلام بصلة، وتناست

ص: 303

المرأة أن من أهم ثمرات ونتائج القيام الفاطمي والزينبي هو إعادة الثقة للمرأة بنفسها وأنها قادرة على انتزاع الحقوق وإيقاظ الأمة وإعادة الأمور إلى نصابها، فقامت هذه النسوة بتذكير الأمة بهذه الثمرة المباركة للقيام الفاطمي الزينبي العظيم. وها هي الانتخابات البرلمانية مقبلة بإذن الله تعالى، وتشكل النساء نصف عدد الناخبين تقريباً فهن إذن الرقم الصعب القادر على قلب الطاولة على رؤوس كل دهاقنة السياسة وتجار الحروب وأصحاب الأجندات الظالمة الفاسدة من الداخل والخارج.

من بركات الانتصار للإحكام الإلهية:

لقد كان من بركات هذه اليقظة وهذا الحراك الفكري والاجتماعي وإثارة مكامن القوة والإنسانية في الشريعة الإسلامية التفات المسلمين إلى المطالبة بحقهم في تشريع القوانين الخاصة بهم وجاءت ثمرتها في بريطانيا قبل أيام حيث اعتمدت لأول مرة في محاكمها الشريعة الإسلامية في الإرث والوصية لتنظيم شؤون المسلمين فيها؛ وقد وجدت الحكومة البريطانية في إعطاء هذا الحق للمسلمين خطوة تساعد على شعور المسلمين بالمواطنة وعدم الإقصاء والتهميش، فأتاح الله تبارك وتعالى هذا القرار في عنفوان الجدل حول القانون الجعفري ليكون حجة دامغة على المهزومين والمنبهرين بالغرب وسائر المعترضين على إقرار القانون الجعفري.

أليس من الغريب أن يكون الإسلام بهذه الدرجة من التأثير في بلاد غير

ص: 304

المسلمين بينما يستضعفه أبناؤه في بلادهم ويشعرون بالهزيمة الداخلية ويخجلون من إعلان هويتهم والتحرك بمشروعهم!. فأحيوا أيها الأحبة - خصوصاً الشباب والمثقفين وطلبة الجامعات- في نفوسكم الشعور بالفخر والاعتزاز ورفعة الرأس وأنتم تنتمون إلى هذا الدين العظيم، وأحسِّوا بقيمة كلمة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إلهي كفى بي عزّاً أن أكون لك عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي ربّاً، إلهي أنت كما أحب فاجعلني كما تحب.

أيها الإخوة والأخوات المجتمعون على ولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ):

اعلموا أنكم بنصرتكم للسيدة الزهراء (علیها السلام) والقانون الجعفري ساهمتم في رفع جزء(1) من البلاء والتيه الذي كان ستقع فيه الأمة لو أجمعت على خذلان دين الله تعالى، قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود:117) وقال تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَ-كِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة:251) وقال تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (يونس:98).م.

ص: 305


1- كان هذا في الخطاب السنوي في ذكرى شهادة الصديقة فاطمة الزهراء (علیها السلام) يوم 3/جمادي الثانية/1435 الموافق 3/ 4/ 2014 في ساحة ثورة العشرين في النجف الاشرف وبعد شهرين أي في 10/ 6 اكتسح ارهابيو (داعش) ومن والاهم عدة محافظات عراقية ووصلوا على مشارف سامراء وكربلاء وبغداد وسقطت ثلث مساحة العراق بأيديهم قبل ان يتداعى المجاهدون المضحون لدحرهم.

نسأل الله تعالى أن يمدّ المؤمنين والمؤمنات بنصره ويزيد في توفيقهم ويكلل جهودهم بالنجاح ببركة إحيائكم لهذه الشعيرة المقدسة والله ولي التوفيق.

ص: 306

القبس /25: سورة النساء:69

اشارة

{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}

الدعاء بالمعية الإلهية

في مناسبات المعصومين (سلام الله عليهم) ومجالسهم وعند زيارتهم تنتابنا عدة مشاعر منها الشوق إلى رؤيتهم ومصاحبتهم ومرافقتهم، ونكرّر الطلب يومياً في صلواتنا {اهدِنَا الصِّ-رَاطَ المُستَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} (الفاتحة:6-7) وعلى رأسهم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ونعبّر عن ذلك بما ورد في الزيارة ونكررها (يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيما)، والمشهور في فهم العبارة تمني الكون معهم في زمانهم - كيوم الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في كربلاء- ومشاركتهم مواقفهم ونصرتهم حتى نفوز ونسعد بذلك باعتبار أن (كان) فعل ماضي ناقص كما هو معلوم.

ولكن للعبارة فهم آخر بأن تكون (كان) تامة أو الشأنية التي لا تفيد الاقتصار على الزمن الماضي بل تشمل الحاضر والمستقبل مثل ما ورد في ذكر الأسماء الحسنى {وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} (النساء:158) و{وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} (النساء:134) أي أن الله تعالى متصف بهذه الصفات في كل الأحوال، فحينما ندعو الله تعالى (يا ليتنا كنّا معكم) أي نكون معكم دائماً.

ص: 307

مصاحبة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في كل النشآت:

وهذا الطلب لا يختص بنا نحن الذين حُرمنا من لقاء المعصومين (سلام الله عليهم) بل يشاركنا فيه حتى الذين فازوا وسعدوا بمرافقة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وآله المعصومين ومصاحبتهم في زمانهم فيتمنون أن تستمر عليهم هذه النعمة في الآخرة ولا يفترقون عنهم (صلوات الله عليهم أجمعين) بسبب تباين الدرجات، وقد وردت روايات كثيرة في ذلك مذكورة في سبب نزول قوله تعالى {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَ-ئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَ-ئِكَ رَفِيقاً ، ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيماً} (النساء:69-70) فقد روى الفريقان(1) جاء رجل إلى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال: (يا رسول الله إِنَّكَ لأَحَبّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي وَإِنَّكَ لأَحَبّ إِلَيَّ مِنْ مِنْ وِلْدِي وَإِنِّي لأَكُون فِي البَيْتِ فَأَذْكُرَكَ فَمَا أَصْبِر حَتَّى آتِي فَأَنْظُرُ إِلَيْكَ، وَإِذَا ذَكَرْتُ مَوْتِي وَمَوْتكَ عَرَفْتُ أَنَّكَ إِذَا دَخَلْتَ الجَنَّةَ رُفِعْتَ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَإِنِّي إِذَا دَخَلْتُ الجَنَّةَ خَشِيتُ أَنْ لا أَرَاكَ؟ فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حَتَّ-ى نَزَلَ جِبْرِيلُ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بِهَذِهِ الآية).

وفي رواية أن رجلا أتى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال: يا رسول الله ! إني أحبك حتى إني أذكرك ، فلولا أني أجئ فأنظر أليك ظننت أن نفسي تخرج ، وأذكر أني إذا دخلت الجنة صرت دونك في المنزلة ، فيشقّ ذلك علىً وأحب أن أكون معك في

ص: 308


1- البرهان في تفسير القرآن: 3/ 98، الدر المنثور: 2/ 588 ومما ننصح بقرائته: الاطلاع على أسباب نزول الآيات الكريمة ففي ذلك فوائد جمة كالاطلاع على الحوادث التاريخية وسيرة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وكيفية معالجة القرآن الكريم للمشاكل السياسية والاجتماعية والأخلاقية وأخذ الدروس والعبر من ذلك كله.

الدرجة ، فلم يرد عليه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) شيئاً فأنزل الله عز وجل {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ} فدعاه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فتلاها عليه.وتذكر بعض الروايات أن السائل بكى وفي رواية أنه جاء إلى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) محزوناً فسأله النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): مالي أراك محزوناً، وفي رواية أنه فتى مما يدل على حماسة ووعي وشدة إيمان هذا الشاب.

دروس من الآية الكريمة:

فالآية:

1.تطمئن القلوب الوالهة المشتاقة إلى رؤية رسول الله وآله الأطهار (صلوات الله عليهم أجمعين) وتبشرهم بإمكان ذلك إذا تحقق الشرط وهو العمل بطاعة الله تعالى.

2.تبيّن أن النعمة في الجنان لا تكتمل إلا بمرافقة هذه الفئات الكريمة فقد ذكرت هذه النعمة أو قل الثمرة لطاعة الله تعالى بعد عدة ثمرات في الآيات السابقة {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً ، وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّ-ا أَجْراً عَظِيماً ، وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} (سورة النساء: 66-67-68) ثم جاءت الآية محل البحث فالجنة الحقيقية ليست بالحور العين ولحم الطير والأنهار والقصور وإنّما بهذه المرافقة الكريمة.

3.إنّ هذه الآيات ترتبط ارتباطاً وثيقاً بما ندعو به يومياً في صلواتنا فنقول عشر مرات يومياً على الأقل {اهدِنَ-ا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ، صِرَاطَ

ص: 309

الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} (الفاتحة:6-7) فإنها تدل على أن طاعة الله تعالى والأخذ بما يعظك به تحقق لك الهداية إلى الصراط المستقيم {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} (النساء:68) وتبين من هم الذين أنعم الله عليهم وكيف تتحقق الأمنية بمرافقتهم ومصاحبتهم.4.إنها تجيب عن السؤال الذي توجّه به الصحابة في الروايات المتقدمة وتحلّ هذه المشكلة وتدل على الوسيلة لتحقيق هذه الأمنية العظيمة، والوسيلة هي طاعة الله تبارك وتعالى، وقد دلّت على ذلك الروايات الشريفة، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (إنه لا يدرك ما عند الله إلاّ بطاعته)(1) وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (طاعة الله مفتاح كل سداد وصلاح كل فساد)(2).

في معنى الطاعة في الآية الكريمة:

والملاحظ في الطاعة بحسب هذه الآية أمران:

أولهما: الاستمرارية والدوام والثبات وعلامته استعمال فعل المضارع (ومن يطع) وذلك بأن يتخذ طاعة الله تعالى ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) منهجاً في حياته ودليلاً لسلوكه فلا يقدّم ولا يؤخّر إلا وفق ما يرضي الله ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فيكون الطابع العام لسلوكه ومواقفه طاعة الله تعالى، ولو زلّت قدمه بسبب الغفلة أو الجهل أو ضعف النفس تذكّر المطلوب منه وعاد إلى خطّ الطاعة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ

ص: 310


1- وسائل الشيعة: 11/ 184 ح2.
2- غرر الحكم: 6012.

اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِ-رُونَ} (الأعراف:201).ثانيهما: إطلاق لفظ الطاعة فلا تختص بنماذج محددة منها، وإن ذكرت الروايات بعض هذه الطاعات، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الأسلمي، قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ عند النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، فَآتِيهِ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ ، فقال لي: سل. قلتُ: يا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أو غيرُ ذلك؟ قلتُ: هو ذاك، قال: فأعنّي على نفسك بكثرة السجود(1).

وفي رواية أخرى عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ذكر الطاعات الواجبة ثم قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (ما لم يعق والديه).

إلاّ أنّ ذكر هذه الطاعات المهمة من باب المثال أو بما يناسب السائل وإلا فإن الشرط المذكور في الآية {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (النور:52) مطلق، فلا تقتصر طاعة الله تعالى على العبادات المعروفة كالصلاة والصوم والطهارة والخمس ونحو ذلك وإن كانت منها وعلى رأسها، لكن هناك طاعات مهمة وثقيلة الميزان نغفل عنها أو نستثقلها كالإنصاف من نفسك وإن كان على خلاف هواك وكالسعي لقضاء حوائج الناس وإدخال السرور عليهم وأمثال ذلك، عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (ثلاث لا تطيقها هذه الأمة: المواساة للأخ في ماله، وإنصاف الناس من نفسه وذكر الله على كل حال)(2) فإن بهذه الأمور قوام الدين وصلاح1.

ص: 311


1- تفسير الدر المنثور- السيوطي: 2/ 182
2- بحار الأنوار: 75/ 27 ح11.

الأمة، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (نظام الدين خصلتان: إنصافك من نفسك ومواساة اخوانك)(1). أو مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي وصفتها الأحاديث الشريفة بأنها سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء وأسمى الفرائض وأشرفها.أو مثلاً العفاف للرجل والمرأة والتنزه عن الأمور الدنيّة، عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ما عبد الله بشيء أفضل من عفّة بطن وفرج)(2) وغيرها من الطاعات العظيمة كالتفقه في الدين ونشره بين الناس ورعاية الأيتام والمعوزين وتزويج المؤمنين ونحو ذلك.

الفئات المترافقة:

وقد بيّنت الآية الشريفة الفئات المترافقة وهم الأنبياء الذين يبلغون رسالات ربهم.

والصديقون الذين آمنوا بربهم وأطاعوه وأطاعوا رسله ظاهراً وباطناً وصدّقت أفعالهم أقوالهم.

والشهداء الذين حملوا الرسالة الإلهية ودعوا الناس إليها وسعوا لتطبيقها في حياة الأمة رغم العنت والمشقة حتى ضحّوا بأرواحهم واستشهدوا في سبيل الله تعالى، وكانوا شهداء على الأمة فأقاموا عليها الحجة البالغة.

والصالحون الذين بذلوا جهدهم في تطبيق التعاليم الإلهية في حياتهم وجعلوا الصلاح منهاجاً لحياتهم.

ص: 312


1- غرر الحكم: 9983.
2- الكافي: 2/ 79، ح1.

اسعوا لتكونوا من الصالحين:

فالإنسان الذي يريد أن يكون مع الأنبياء والأئمة الطاهرين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يستطيع ذلك بتوفيق الله وألطافه عندما يكون من الصالحين والعاملين المضحّين، روى أبو بصير قال أبوعبد الله الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (يا أبا محمد لقد ذكركم الله في كتابه فقال {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَ-ئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ} (النساء:69) فرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في هذا الموضع النبي، ونحن الصديقون والشهداء، وأنتم الصالحون، فتسموا بالصلاح كما سمّاكم الله)(1).

وذكر هذه المراتب بالتدريج يدل على أن الوصول للمرتبة العليا يتم باستيفاء المرتبة السابقة فإن لم يكن من الصالحين يسعى ليكون منهم وفق ما عرفناه آنفاً، والصالحون يسعون ليكونوا من الشهداء، وهم يطلبون سبيل الصديقين الذين يسيرون على هدى الأنبياء {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (يوسف:76).

وينبغي الالتفات إلى أن هذه المعي-ّة لا تعني المساواة في الدرجات والمقامات والقرب من الله تعالى والتنعم برضوانه، بل كل حسب استحقاقه {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} (الرعد:17)، وتؤكد الآية الثانية أن ذلك لا ينال إلا بفضل من الله تعالى وتوفيقه، وهو العالم بحقائق عباده واستحقاقاتهم، والإشارة إليه ب- (ذلك) للإشعار بأنه ليس سهل المنال، وانه مطلب عظيم يستحق بذل كل الجهد لتحصيله.

ص: 313


1- تفسير العياشي 1/ 256 ح190.

من آثار الصلاح هو المعيّة الإلهية:

ونريد الآن أن نتقدم خطوة أخرى ونقول أن الإنسان يمكن أن يحظى بهذه الرؤية المباركة هنا في الدنيا قبل الآخرة بحسب ما يظهر من بعض الروايات، فقد روى الكشي في رجاله بسنده عن اسماعيل بن سلام واسماعيل بن جميل قالا: بعث إلينا علي بن يقطين فقال: اشتريا راحلتين، وتجنبا الطريق - ودفع إلينا أموالاً وكتباً - حتى توصلا ما معكما من المال والكتب إلى أبي الحسن موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولا يعلم بكما أحد، قالا: فأتينا الكوفة فاشترينا راحلتين وتزوّدنا زاداً، وخرجنا نتجنب الطريق، حتى إذا صرنا ببطن الرمة شددنا راحلتنا، ووضعنا لها العلف، وقعدنا نأكل، فبينا نحن كذلك، إذ راكب قد أقبل ومعه شاكري، فلما قرب منَّا فإذا هو أبو الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فقمنا إليه وسلّمنا عليه، ودفعنا إليه الكتب وما كان معنا، فأخرج من كمّه كتباً فناولنا إيّاها، فقال: هذه جوابات كتبكم، فقلنا: إنّ زادنا قد فني، فلو أذنت لنا فدخلنا المدينة ، فزرنا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتزوّدنا زاداً فقال: هاتا ما معكما من الزّاد، فأخرجنا الزّاد إليه فقلّبه بيده فقال: هذا يبلّغكما إلى الكوفة، وأما رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقد رأيتماه، إني صليت معهم الفجر، وإنّي أريد ان أصلي معهم الظهر ، انصرفا في حفظ الله)(1)، ومحل الشاهد تأكيده (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لهما بأنهما قد رأيا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فعلاً وتحقق مرادهما وأمرهما بالرجوع إلى الكوفة.

والشاهد الآخر من حياة الإمام الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فقد روى الكليني في الكافي، في بصائر الدرجات بسنده عن صالح بن سعيد قال دخلت على أبي الحسن

ص: 314


1- معجم رجال الحديث: 13/ 249 عن رجال الكشي.

(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقلت: جعلت فداك، في كل الأمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك حتى أنزلوك هذا الخان الأشنع خان الصعاليك، فقال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (ههنا أنت يا ابن سعيد ؟ ثم أومأ بيده فقال: انظر، فنظرت فإذا بروضات آنقات، وروضات ناضرات، فيهن خيرات عطرات، وولدان كأنهن اللؤلؤ المكنون، وأطيار وظباء وأنهار تفور، فحار بصري والتمع، وحسرت عيني، فقال: حيث كنا فهذا لنا عتيد، ولسنا في خان الصعاليك)(1).بل الأمر أقرب من ذلك لأنّنا نحظى بوجود بقية الله الأعظم الإمام المهدي (عج) بين ظهرانينا وإن كنّا لا نعرفه شخصياً، ونخاطبه في دعاء الندبة (متى ترانا ونراك)، وتتحدث الشواهد التاريخية الكثيرة على إمكان ذلك لمن رضي عنه الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لخير وجده فيه، يُروى ان عابداً كان يتمنى لقاء إمام الزمان (عج) وبعد فترة من الرياضات الروحية والتعب والمشقة لم يصل الى شيء واخذ اليأس يدب الى قلبه ، وفي ليلة من الليالي بينما كان قائما يتعبد إذا بهاتف يناديه: (الوصول الى المولى يعني شد الرحال الى ديار الحبيب) فشدَّ الرحال من جديد واخذ يزيد من الصلاة والتعبد حتى انتهى الأمر به الى المكوث في المسجد أربعين يوما فأتاه نداء آخر يقول: (ان سيدك تجده في سوق الحدادين يجلس في باب رجل عجوز يصنع الأقفال) فذهب مسرعا فوجد الإمام (عجل الله تعالى فرجه) يشع نورا فارتعدت فرائص العابد إلا ان الإمام (عجل الله تعالى فرجه) طلب منه ان ينظر ما سيحصل ،فجاءت عجوز منحنية الظهر بيدها قفل عاطل وقالت للبائع أرجوك اشترِ هذا القفل بثلاثة دنانير فقال البائع: إن هذا القفل بثمانية5.

ص: 315


1- بحار الأنوار: 50/ 133 ح15.

دنانير وإذا أصلحته يصبح بعشرة فتصورت العجوز انه يسخر منها إلا انه بادر بإعطائها سبعة دنانير وقال لها: لاني أبيع واشتري أخذته بسبعة دنانير لأربح دينارا فذهبت العجوز مسرورة فالتفت الإمام (عجل الله تعالى فرجه) الى العابد وقال: (كونوا هكذا كهذا العجوز كي نأتيكم نحن بأنفسنا لا حاجة الى التعبد أربعين يوما ولا فائدة من الجفر والحروف فقط اصلحوا أعمالكم)(1).

درس عملي:

ونريد أن نخلص الآن إلى درس عملي وهو أنّك إنما تطلب قرب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأنه سبب مقرّب إلى الله تعالى وأنك تعيش بقربه سمواً روحياً متميزاً وهذا تأثير أكيد كالمغناطيس الذي يؤثر في الحديد ويجذبه من دون أن يلامسه، ولكن الله تعالى بكرمه ورحمته ولطفه بعباده لم يشأ حرمان عباده من هذه المؤثرات المباركة، حيث دلّت أن الحالة المعنوية المتألقة التي ترجوها من الكون في حضرة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والأئمة المعصومين (سلام الله عليهم أجمعين) يمكن أن تحققها بدرجة ما من خلال توفير بيئة الطاعة وتهيئة أسبابها كالحضور في المساجد والروضات المطهّرة واستثمار الأزمنة الشريفة ومجالس ذكر الله تعالى والمعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) والاستفادة من العلماء الذين يقربونك من الله تعالى، فهذه هي الجنة المعجّلة، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (الجلسة في الجامع خير لي من الجلسة في الجنة، لأن الجنة فيها رضا نفسي والجامع فيه رضا ربي)(2).

ص: 316


1- ثلاثة يشكون: 241.
2- وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أحكام المساجد، باب3، ح6.

القبس /26: سورة النساء:75

اشارة

{وَمَا لَكُم لَا تُقَتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلمُستَضعَفِينَ}

موضوع القبس: وجوب العمل لإنقاذ المجتمع من الظلم والجهل والتخلف والحرمان

قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَ-ذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً} (النساء:75).

في الآية استنكار واستهجان لحالة التقاعس والقعود عن أداء المسؤولية لدى البعض، وحث وتحريض واستنهاض المؤمنين للقتال في سبيل الله تعالى وتحرير المستضعفين رجالاً ونساءاً وصبياناً الذين يتحكم فيهم المستكبرون والطغاة المتفرعنون ويضغطون عليهم بمختلف الأساليب الوحشية ليتركوا دينهم الإسلامي، وهم ليسوا في أنفسهم ضعفاء وانما استضعفهم المستكبرون بأدوات الظلم والبطش التي يمتلكونها فسلبتهم القدرة على التغيير ولم يعودوا يمتلكون الا الدعاء من ربهم ان ينقذهم من هؤلاء الظلمة، وقد عبّر عن ذلك بألطف تعبير وانسبه للإخلاص فلم يقولوا يالقومنا أو ياللعرب أو وامعتصماه كما في بعض الحوادث، وإنما قالوا (رَبَّنَا) فهم يستغيثون بالله تعالى ويطلبون منه تعالى أن

ص: 317

ينجدهم بإخوانهم المؤمنين {وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً}.فيدعوهم الله تعالى إلى القتال في سبيله ويستغرب من تقاعس البعض ويتساءل مستنكراً {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ} وأنتم تطلبون احدى الحسنين النصر أو الشهادة وكلها في عين الله تعالى وفيها أجر عظيم، وقد أضاف اليها الجانب العاطفي بأن هؤلاء اخوانكم في الدين أو نظراؤكم في الإنسانية فكيف تسمحون ببقائهم تحت الظلم والقهر والتعذيب والحرمان وأنتم قادرون على تحريرهم واستعادة كرامتهم.

وقد رفع الله تعالى من شأن هؤلاء العاملين الرساليين بأن جعلهم هم الولي والنصير من قبله تبارك وتعالى لتحرير الناس الذين يستجيب بهم دعاء المؤمنين وفي ذلك تحفيز عظيم للنهوض والتحرك حتى يفوزوا بهذه المنزلة العظيمة.

والآية الكريمة ككثير من الآيات غيرها تكشف عن كون الجهاد هو عمل في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى وتحرير الانسان من الظلم والفساد والضلال وليس لجني مصالح اقتصادية أو توسيع نفوذ وهيمنة أو تصفية حسابات سياسية ونحو ذلك خلافاً للأمم المادية التي تدّعي التحضّر والتقدم فان حروبها جميعا للحصول على مصالح مادية ضيقة او الحفاظ عليها.

ويستفاد من الآية أهمية وجود النخبة الرسالية الصالحة المؤهلة لقيادة الأمة وتهّب لنجدتها وتحمل هم الامة جميعا والتي تعزّز اقتدارها بالقوى المعنوية والمادية لتحقيق الأهداف المرجوّه.

ص: 318

فالآية لا تختص بذوي المهاجرين من مكة إلى المدينة الذين بقوا في مكة وعانوا من اضطهاد قريش بل تشمل كل بلد يعاني فيه المجتمع من الاستضعاف العقائدي او الأخلاقي او الاقتصادي او السياسي او الفكري وقد أطلق القرآن الكريم عنواناً عاماً لهذه البلدان بقوله تعالى {هَ-ذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} (النساء:75).والآية وإن ذكرت القتال باعتباره الأسلوب المناسب يومئذ لردع مشركي مكة اللذين حشدوا الجيوش لمحاربة الإسلام وأهله، لكن الآية لا تختص بالقتال لان مورد النزول لا يخصص الآية، وانما تشمل قبل ذلك أي أسلوب من أساليب التي يستطيع بها المؤمنون انقاذ المستضعفين من مشاكلهم وحرمانهم واضطهادهم وتخلفهم، وآخر الدواء الكي كما قيل في المثل وهو القتال والمواجهة المسلحة، والا فالمطلوب هو العمل لاستعادة كرامة الإنسان وحريته وحقوقه، من خلال الدعوة إلى الله تعالى وتطبيق النظام الإلهي بالحكمة والموعظة الحسنة قال تعالى {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل:125).

ويمكن استفادة هذا التعميم بتقريبين:

1-ما ذكرناه آنفا من عدم خصوصية لذكر القتال فنجّرد الآية عن الخصوصية ونعمّم الخطاب الى كل أساليب الإنقاذ بحسب حالات الاستضعاف، وتدل على هذه المعنى روايات كثيرة إلى ان القتل يمكن ان يكون معنوياً ومادياً والحياة كذلك.

ص: 319

2-ان لفظ القتال لا يختص بالعمل المسلح فيمكن ان يشمل الخطاب والبيان والموقف والمقاطعة وحتى الصمت أحياناً لذا يصح ان يقال ان السيدة الزهراء (علیها السلام) وابنتها العقيلة زينب (علیها السلام) قاتلتا ايما قتال اقضّ مضاجع الظلمة ولكنه لم يكن بالسيف وانما بالكلمة والموقف والرفض والمقاطعة.

والمستضعفون عرفتهم آية أخرى قال تعالى{إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ، فَأُوْلَ-ئِكَ عَس-َى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} (النساء:98-99) فهم عاجزون فكرياً أو بدنياً أو اجتماعياً أو مالياً أو كبلّتهم ظروف خارجة عن القدرة على التغيير ، روى الشيخ الكليني في الكافي بسنده عن زرارة قال (سألت أبا جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن المستضعف فقال: هو الذي لا يستطيع حيلة يدفع بها عنه الكفر، ولا يهتدي بها إلى سبيل الايمان)(1) وروى الشيخ الصدوق بسنده عن عمر بن إسحاق قال: (سئل أبو عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): ما حدُّ المستضعف الذي ذكره الله عز وجل، قال: من لا يُحسن سورة من سور القرآن، وقد خلقه الله عز وجل خَلقة ما ينبغي له ان لا يحسن)(2).

فهؤلاء المستضعفون لهم حق على القادرين على إخراجهم من حالة الاستضعاف هذه بالأدوات المتاحة وأولها والشيء الرئيسي فيها إخراجهم من حالة الجهل والعمى الفكري الذي ضرب عليهم بطرق شتى كحرمانهم من7.

ص: 320


1- الكافي:2/ 297 ح 3.
2- معاني الأخبار: 202 ح 7.

أدوات المعرفة الصحيحة أو تقديس أفكار ورموز وسلوكيات موروثة وتجعل خطوط حمراء لا يجوز الاقتراب منها والتفكير فيها فضلاً عن مناقشتها وتقييمها.فكان واجباً على من يمتلك العلوم والثقافة الصحيحة أن يأخذ بأيديهم ويصحح أفكارهم ويبصرهم ويعلمهم ما ينفعهم وفي ذلك ثواب عظيم. ففي الاحتجاج وتفسير العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من كان من شيعتنا عالما بشريعتنا فأخرج ضعفاء شيعتنا من ظلمة جهلهم إلى نور العلم الذي حبوناه به جاء يوم القيامة وعلى رأسه تاج من نور يضيئ لأهل جميع العرصات، وعليه حلة لا يقوم لأقل سلك منها الدنيا بحذافيرها ، ثم ينادي مناد يا عباد الله هذا عالم من تلامذة بعض علماء آل محمد ألا فمن أخرجه في الدنيا من حيرة جهله فليتشبث بنوره ليخرجه من حيرة ظلمة هذه العرصات إلى نزه الجنان فيخرج كل من كان علمه في الدنيا خيرا أو فتح عن قلبه من الجهل قفلا، أو أوضح له عن شبهة)(1).

وفي نفس المصدر عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (علماء شيعتنا مرابطون بالثغر الذي يلي إبليس وعفاريته، يمنعونهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا، وعن أن يتسلط عليهم إبليس وشيعته النواصب، ألا فمن انتصب لذلك من شيعتنا كان أفضل ممن جاهد الروم والترك والخزر ألف ألف مرة لأنه يدفع عن أديان محبينا، وذلك يدفع عن أبدانهم)(2).8.

ص: 321


1- بحار الأنوار: 2/ 2 ح 2.
2- بحار الأنوار: 2/ 5 ح 8.

إن الله تعالى يريد من عباده الذين يمتلكون ما يساعدون به هؤلاء المستضعفين ان يعيدوا إليهم دينهم وكرامتهم وحريتهم وعزتهم، وما كان القيام الفاطمي ولا القيام الحسيني الا غضباً لله تعالى ولرسوله ولأداء هذه المسؤولية تجاه عباد الله تعالى كما ورد في زيارة الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وبَذَلَ مُهجَتَهُ فيكَ لِيَستَنقِذَ عِبادَكَ مِنَ الجَهالَةِ وحَيرَةِ الضَّلالَةِ)(1) وفي زيارة أخرى (وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فيكَ حَتَّى اسْتَنْقَذَ عِبادَكَ مِنَ الْجَهالَةِ وَحَيْرَةِ الضَّلالَةِ)(2).وهذا الغضب لله تعالى خصلة كريمة يحبها الله تعالى ويبغض من لا يتصف بها، في كتاب الكافي بسنده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إن الله عز وجل بعث ملكين إلى أهل مدينة ليقلباها على أهلها(3) فلما انتهيا إلى المدينة وجدا رجلا يدعو الله ويتضرع فقال: أحد الملكين لصاحبه: أما ترى هذا الداعي؟ فقال: قد رأيته ولكن أمضي لما أمر به ربي، فقال: لا ولكن لا أحدت شيئا حتى أراجع ربي فعاد إلى الله تبارك وتعالى فقال: يا رب إني انتهيت إلى المدينة فوجدت عبدك فلانا يدعوك ويتضرع إليك، فقال: امض لما أمرتك به فإن ذا رجل لم يتمعر(4) وجهه غيظا لي قط)(5).9)

ص: 322


1- مفاتيح الجنان، زيارة الاربعين
2- مفاتيح الجنان، زيارة العيدين
3- حيث كانت الأمم السابقة تعاقب بعقوبات جماعية كما يحكي القرآن الكريم عن عدة حالات منها واعفيت الامة الخاتمة من ذلك.
4- لم يتمّعر وجهه: أي لم يتغير الى الصفرة
5- الكافي: باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح 8، (الغضب لله تعالى شرط صدق الايمان: خطاب المرحلة ج 10 ص 339)

وفي الكافي والتهذيب عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (أوحى الله تعالى الى شعيب النبي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): اني معّذب من قومك مائة الف، أربعين الفاً من شرارهم وستين الفاً من خيارهم، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): يا رب هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ فأوحى الله عز وجل اليه: داهنو اهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي)(1).فنؤكد هنا من جديد الحاجة إلى استشعار هذه المسؤولية والقيام غضباً لله تعالى لإنقاذ عباد الله من الانحراف والفساد والانحلال والظلم والأخذ بأيديهم إلى حياة حرة كريمة عزيزة والخطاب موجه الى الجميع ولكل منكم دوره سواء كان من الحوزة العلمية أو الجامعيين وعموم الواعين بل الناس جميعاً، ولا تستغرب هذا فان أي مواطن يكون مسؤولاً عن اختيار الكفوء المخلص الشجاع في قول الحق الأمين على دين الناس وحقوقهم كالموقف الأخير في تصحيح قانون العنف الأسري الذي قُدِّم للبرلمان مؤخراً لإقراره وقد تضمن مواد تضاهي النمط الغربي في السلوك وتسلب حق الآباء في تربية ابنائهم على السلوك الصحيح وضبط تصرفاتهم بحجة الحرية الشخصية ونحو ذلك والجميع -- والاسلاميون منهم -- بين موافق أو ساكت، ويكون التكليف أأكد في الشرائح المستهدفة بالتخريب أكثر كالنساء والشباب.

وشهر رمضان المبارك الذي تقترب منّا أيامه فرصة ثمينة للقيام بهذه المسؤولية ونفض غبار التقصير والتقاعس.9)

ص: 323


1- الوسائل: 16/ 146 ح 1، (الغضب لله تعالى شرط صدق الايمان: خطاب المرحلة ج 10 ص 339)

ملحق: ما قدست أمة لم يؤخذ لضعيفها من قويّها بلا تردد

روى جابر قال: (رجعت الى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مهاجرة البحر) وهم المسلمون الذين أمرهم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالهجرة الى الحبشة تخلصاً من تعذيب قريش وملاحقتهم برئاسة جعفر بن أبي طالب ومكثوا هناك أكثر من عشر سنوات وعادوا في السنة السابعة من الهجرة الى المدينة (قال: (الا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة؟) قال فتية منهم: بلى يا رسول الله، بينا نحن جلوس، مرّت بنا عجوز من عجائز رهابينهم - أي رجال الدين المسيحيين - تحمل على رأسها قلّة من ماء، فمرّت بفتى منهم) وهو طائش ومغرور بشبابه وقوته قد أسكره الشباب والقدرة ونسي قدرة الله عليه، وبدل ان يشكر الله تعالى على هذه النعم فانه يستعملها في المعصية والظلم وهكذا يغتر الكثير بقوتهم وقدرتهم ويظهرونها على ضعاف الناس ومن لا حول لهم ولا قوة (فجعل احدى يديه بين كتفيها، ثم دفعها، فخرَّت على ركبتيها، فانكسرت قُلّتها، فلما ارتفعت، التفتت اليه فقالت: سوف تعلم يا غُدَر! - يوم القيامة - اذا وضع الله الكرسي وجمع الاولين والآخرين وتكلمت الايدي والارجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غداً) فتأثر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ورقّ لحال العجوز وهي ليست على دينه وغضب من فعل الشاب الظالم (قال: يقول رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (صَدَقَت صَدَقَت، كيف يُقدِّس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم)(1) .

والحديث مروي في كتبنا عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (ما قدست أمة

ص: 324


1- سنن ابن ماجة: 4/ 186، كتاب الفتن باب 20 ح 4010 ، 4011 ،4012.

لم يؤخذ لضعيفها من قويِّها غير متعتع)(1).فاذا أرادت الأمة أن تحيا كريمة عزيزة قوية مهابة فلابد ان تنتصف للمظلوم وتأخذ بحقه من الظالم، ولكي تصل الأمة الى هذا المستوى لابد ان تكون القوانين السائدة عادلة منصفة والجهة التي تشرّعها خبيرة تراعي المصالح العليا للعباد والبلاد وتعمل ضمن الشريعة الإلهية، وأن تكون السلطة التنفيذية مهنية مخلصة نزيهة كفوءة يكون همها وهدفها خدمة الانسان وسعادته وكرامته.

وأن تكون السلطة القضائية حافظة للحقوق العامة والخاصة لا تفرط فيها تحت ضغط التهديد او الترغيب او الميل او الهوى او المجاملة والمداهنة والصفقات المتبادلة ولا غير ذلك.

وان يكون الاعلام بصيراً دقيقاً متابعاً يرشّد العمل ويشخص الخلل ويثني على الاحسان، فكم من قضية إنسانية او مظلومية او فساد غضّ المسؤولون الطرف عنه وعقدوا الصفقات لتقاسم الكعكة لكن الاعلام لما فضحهم اضطروا لأنصاف المظلوم وتقويم الاعوجاج بمقدار ما.

وقبل هذا وذاك لابد ان تسود المجتمع ثقافة نصرة المظلوم والضرب على يد الظالم لتشكل هذه الثقافة حصانة من الانحراف ولان السلطات المذكورة نتاج هذا المجتمع وثقافتها وسلوكها منه، وأهم قنوات هذه الثقافة والمعرفة: الدين الذي هو منظومة من العقائد والأخلاق والاحكام والسنن التي تعصم الانسان من الوقوع في الخطأ والخطيئة والضلالة والانحراف والظلم.

ولا نقصد بالدين مجرد الشكليات الظاهرية بل حقيقته وجوهره الذي9.

ص: 325


1- وسائل الشيعة: 16 /120 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باب وجوبهما، ح9.

يظهر على شكل سلوك عفيف وقلب سليم ونظرة بصيرة وحكيمة، والا فان كثيراً من الموصوفين بالتدين الظاهري على مستوى المظاهر وإقامة الشعائر الدينية الا انه في سلوكه ابعد ما يكون عن الدين، سواء في علاقته مع أهله او في عشيرته او في وظيفته او في عمله او علاقاته وغير ذلك، ولا يكون محضره خيراً ولا يأمر بمعروف ولا ينهي عن منكر بل يجامل ويداهن على حساب الحق.روى صاحب كتاب المناقب انه (رجع علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الى داره في وقت القيظ - والصيف حار شديد الحر في الكوفة والامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) شيخ تجاوز الستين من العمر وقد أثقلته الهموم والمسؤولية - فإذا امرأة قائمة تقول: إن زوجي ظلمني وأخافني وتعدى علي وحلف ليضربني، فقال: يا أمة الله اصبري حتى يبرد النهار ثم اذهب معك إن شاء الله، فقالت: يشتد غضبه وحرده علي، فطأطأ رأسه - وكأنه يفكّر في إيجاد سعة ومخرج لنفسه - ثم رفعه وهو يقول: لا والله أو يؤخذ للمظلوم حقه غير متعتع - فلا مجال للصبر على الظلم الا بالسعي لإزالته - اين منزلك؟ فمضى الى بابه فوقف فقال: السلام عليكم، فخرج شاب) وهو لا يعرف علياً وتعجب من مثل هذا الشاب يسكن الكوفة ولا يعرف علياً ويعني ذلك انه لم يصلِ خلف علي ولا استمع الى شيء من خطبه ولا خرج تحت امرته للجهاد (فقال علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): يا عبدالله اتق الله فإنك قد أخفتها وأخرجتها) وبدل ان يقبل النصيحة ويشكر الناصح على سعيه في الإصلاح استكبر وطغى (فقال الفتى: وما أنت وذاك؟) فأنكر تدخل أمير المؤمنين وكأنه لا يعرف وظيفة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وقابله بالتهديد (والله لأحرقنها لكلامك) وتمادى في غيّه وزاد من تهديداته (فقال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهو مغضب وقد استّل سيف (آمرك

ص: 326

بالمعروف وانهاك عن المنكر تستقبلني بالمنكر وتنكر المعروف؟ قال: فأقبل الناس من الطرق ويقولون: سلام عليكم يا أمير المؤمنين) وهنا عرف الشاب ان المتكلم هو أمير المؤمنين ورئيس الدولة فخاف من عقوبته (فسقط الرجل في يديه فقال: يا أمير المؤمنين أقلني - في - عثرتي، فوالله لأكونن لها أرضاً تطأني) ومثل هذا كثيرون يخافون من العقوبات الدنيوية المعّجلة ولا يتقون الله تعالى في أفعالهم ولا يخشونه (فأغمد علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سيفه) ثم توجّه الى المرأة وأمرها بحسن التصرف والصبر وعدم استفزاز الرجل (فقال: يا أمة الله ادخلي منزلك ولا تلجئي زوجك الى مثل هذا وشبهه.)(1)فتلاحظ ان امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) استحضر نفس كلمة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وكذا الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حديثه السابق. .

ص: 327


1- بحار الانوار: 41/ 57 ح7 عن مناقب آل أبي طالب: 2/ 106 فصل: السابقة بالتواضع .

القبس /27: سورة النساء:103

اشارة

{إِنَّ ٱلصَّلَوةَ كَانَت عَلَى ٱلمُؤمِنِينَ كِتَبا مَّوقُوتا}

موضوع القبس: الصلاة فرض ثابت

يؤكد هذا الجزء من الاية الكريمة أهمية الصلاة في الإسلام وانها فرض ثابت مكتوب على المسلمين وان لها أوقات معينة يجب الالتزام بها.

روى الشيخ الكليني في الكافي بسنده عن داود بن فرقد قال (قلت لابي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) :قوله تعالى {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} قال كتباً ثابتاً، وليس أن عجّلت قليلاً اة اخّرت قليلاً بالذي يضرّك مالم تضيّع تلك الإضاعة)(1).

ولاشك في مدخلية التوقيتات والالتزام بها في التربية المثمرة لان ترك العمل الى رغبة الشخص يؤدي الى إهماله وتضييعه كما هو واضح من سيرة الناس، كما ان عدم الالتزام بالوقت يضيّع بعضاً من ثمراتها وهو اجتماع المؤمنين على فعل موحد مما يعطي للصلاة هيبتها وتأثيرها الروحي.

وان فرض الصلاة في أوقات معينة لا يعني اهمال ذكر الله تعالى في بقية الأوقات بل يصّرح الجزء السابق من الاية بلزوم ذكر الله تعالى في كل وقت

ص: 328


1- الكافي/ 3/ 270، ح13

وعلى كل حال حتى والحرب قائمة {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ}

أهمية الصلاة:

إنّ للصلاة أهمية كبرى في الدين ودوراً مهماً في حياة الإنسان ومصيره، عن أبي جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (قال: قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): ما بين المسلم وبين أن يكفر إلاّ ترك الصلاة الفريضة متعمّداً أو يتهاون بها فلا يصلّيها)(1).

وروي عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله: (الصلاة عمود الدين ، مثلها كمثل عمود الفسطاط ، إذا ثبت العمود ثبت الأوتاد والأطناب، وإذا مال العمود وانكسر لم يثبت وتد ولا طنب)(2).

وعن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: قال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إنّ عمود الدين الصلاة ، وهي أوّل ما يُنظر فيه من عمل ابن آدم، فإن صحّت نُظر في عمله ، وإن لم تصحّ لم يُنظر في بقيّة عمله)(3).

لذا كان مقياس صلاح الإنسان عند أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) هو اهتمامه بصلاته، عن هارون بن خارجة قال: (ذكرت لأبي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) رجلا ً من أصحابنا فأحسنت عليه الثناء ، فقال لي: كيف صلاته؟)(4).

ص: 329


1- الوسائل ج4 ص 43.
2- الوسائل ج4 ص27.
3- الوسائل ج4 ص34-35.
4- الوسائل ج4 ص32.

روى أبي بصير قال: دخلت على أُمّ حميدة أُعزّيها بأبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فبكت وبكيت لبكائها، ثمّ قالت: يا أبا محمّد ، لو رأيت أبا عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عند الموت لرأيت عجباً، فتح عينيه ثمّ قال: (اجمعوا كلّ مَنْ بيني وبينه قرابة، قالت: فما تركنا أحداً إلاّ جمعناه، فنظر إليهم ثم قال: إن شفاعتنا لا تنال مستخفّاً بالصلاة)(1).ويظهر أن هذه وصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأهل بيته جميعاً، روي عن زرارة عن أبي جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (قال: لا تتهاون بصلاتك ، فإنّ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال عند موته: ليس منّي من استخفّ بصلاته ، ليس منّي من شرب مسكراً ، لا يرد عليّ الحوض لا والله)(2)، بل هي وصية كل الأنبياء (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أحبُّ الأعمال إلى الله عز وجل الصلاة، وهي آخر وصايا الأنبياء)(3).

فلا يغتر البعض بما يقال له أنّه إذا فعل كذا فقد وجبت له الجنة، أو دخل الجنة بغير حساب مما يكثر منه الخطباء على المنابر من دون ذكر قيوده وشروطه.

فضل الصلاة وثوابها:

وقد ورد في فضل المصلي وثواب الصلاة شيء كثير، عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إذا قام العبد المؤمن في صلاته نظر الله عزّ وجلّ إليه ، أو قال: أقبل الله عليه حتى ينصرف ، وأظلّته الرحمة ، من فوق رأسه

ص: 330


1- الوسائل ج4 ص26-27.
2- الوسائل ج4 ص23- 24.
3- من لا يحضره الفقيه: 1/ 210 ح638.

إلى أُفق السماء ، والملائكة تحفّه من حوله إلى أًفق السماء ، ووكّل الله به ملكاً قائماً على رأسه يقول له: أيّها المصلّي ، لو تعلم من ينظر إليك ومن تناجي ما التفتّ ولا زلت من موضعك أبداً)(1). وعن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنّه قال: للمصلّي ثلاث خصال: إذا هو قام في صلاته حفّت به الملائكة من قدميه إلى أعنان السماء ، ويتناثر البّر عليه من أعنان السماء إلى مفرق رأسه ، وملك موكّ-ل به ينادي: لو يعلم المصلّ-ي من يناجي ما انفتل)(2).وعن الإمام الباقر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (قال: قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): لو كان على باب دار أحدكم نهر فاغتسل في كلّ يوم منه خمس مرّات ، أكان يبقى في جسده من الدرن شيء؟ قلنا: لا ، قال: فإنّ مثل الصلاة كمثل النهر الجاري ، كلّما صلّى صلاة كفّرت ما بينهما من الذنوب)(3)، وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (إذا قام الرجل إلى الصلاة أقبل ابليس ينظر إليه حسداً، لما يرى من رحمة الله التي تغشاه)(4).

الصلاة التامة:

إن الصلاة التي تكون لها هذه القيمة لابد أن تكون تامة في أجزائها وشرائطها التي يذكرها الفقهاء في رسائلهم العملية. عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (قال: بينا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) جالس في المسجد إذ دخل رجل فقام يصلّي ، فلم يتمّ ركوعه ولا سجوده ، فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): نقر كنقر الغراب ، لئن مات هذا وهكذا صلاته ليموتنّ

ص: 331


1- الوسائل ج4 ص32.
2- الوسائل ج4 ص33.
3- الوسائل ج4 ص12.
4- الخصال: 632 ح10.

على غير دين)(1).

المحافظة على أوقات الصلوات:

ومن المهم جداً لكي تؤدي الصلاة غرضها المنشود وتتحقق منها الآثار المباركة: المحافظة عليها في أوقاتها، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (قال: قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لا يزال الشيطان ذعراً من المؤمن ما حافظ على الصلوات الخمس لوقتهنّ فإذا ضيّعهنّ تجرّأ عليه فأدخله في العظائم)(2) وعن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) - في حديث-: (إنّ ملك الموت يدفع الشيطان عن المحافظ على الصلاة ، ويلقّنه شهادة أن لا إله إلا الله ، وأنّ محمّداً رسول الله ، في تلك الحالة العظيمة)(3)، وعن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (ما من عبد اهتم بمواقيت الصلاة ومواضع الشمس إلا ضمِنتُ له الرَوْحَ عند الموت، وانقطاع الهموم والأحزان، والنجاة من النار)(4).

من خطبة لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في نهج البلاغة انه قال في كلام يوصي أصحابه: (تعاهدوا أمر الصلاة ، وحافظوا عليها ، واستكثروا منها ، وتقرّبوا بها ، فإنّها كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً ، ألا تسمعون إلى جواب أهل النار حين سئلوا: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} ﴿المدثر: 42-43﴾ وإنّها لتحتّ الذنوب حتّ الورق، وتطلقها إطلاق الربق، وشبّهها رسول الله بالحمّة تكون على باب الرجل فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمس مرّات ،

ص: 332


1- الوسائل ج4 ص31-32.
2- الوسائل ج4 ص28.
3- الوسائل ج4 ص29.
4- بحار الأنوار: 83، 9ح 5.

فما عسى أن يبقى عليه من الدرن ، وقد عرف حقها رجال من المؤمنين ، الذين لا تشغلهم عنها زينة متاع ، ولا قرة عين من ولد ولا مال ، يقول الله سبحانه: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} (النور:37)، وكان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نصباً بالصلاة بعد التبشير له بالجنّ-ة ، لقول الله سبحانه {وَأْمُ-رْ أَهْلَ-كَ بِالصَّ-لَاةِ وَاصْطَب-ِرْ عَلَيْ-هَا} (طه: 132)) فكان يأمر بها أهله ويصبر عليها نفسه)(1).

علموا أولادكم الصلاة:

ولأجل أن تصبح الصلاة جزءاً أساسياً من حياة الإنسان لا يستطيع أن يحيا بدونها فقد أمر المعصومون بإلزام الصبيان بالصلاة من وقت مبكر كعمر (6-8) سنين بحسب استعداداته الذهنية وفهمه لما يقال له.

روى محمد بن مسلم: أنه سأل أحد الإمامين الباقر والصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (في الصبي ، متى يصلّي؟ فقال: إذا عقل الصلاة قلت: متى يعقل الصلاة وتجب عليه؟ قال: لستّ سنين)(2).

ويستغرب الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من الآباء والأمهات الذين لا يتابعون أداء أطفالهم للصلاة، روى أحدهم قال (سألت الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أو سئل وأنا أسمع، عن الرجل يجبر ولده وهو لا يصلّي اليوم واليومين؟ فقال: وكم أتى على الغلام؟ فقلت: ثماني سنين ، فقال: سبحان الله، يترك الصلاة؟! قال: قلت: يصيبه الوجع، قال:

ص: 333


1- الوسائل ج4 ص30- 31.
2- الوسائل ج4 ص18- 19.

يصلّي على نحو ما يقدر)(1).

الفرق بين الزاني وتارك الصلاة:

إن المتابع لحال المسلمين - خصوصاً في البلدان المترفة والتي تكون فيها فرص المغريات والشهوات كثيرة- يجد عند كثير منهم إهمال أمر صلاتهم، وعدم الالتزام بها في أوقاتها وهذه قضية حيوية وشيء خطير لابد من معالجته بالالتفات إلى ما ذكرناه من أهمية الصلاة والعقوبة الغليظة على من ضيّعها وأهملها، بحيث لا يُقاس به حتى مرتكب الكبائر كالزنا وشرب الخمر، ويعلّل الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ذلك بقوله (لأن الزاني وما أشبهه إنما يفعل ذلك لمكان الشهوة لأنها تغلبه، وتارك الصلاة لا يتركها إلاّ استخفافاً بها)(2).

حملة لتفعيل الصلاة في حياتنا:

إن من تكليفنا اليوم وفي كل يوم أن نطلق حملة شاملة لإعادة المسلمين إلى صلاتهم بالإقناع أو بالإلزام لمن كانت له سلطة وقيمومة، كالوالدين على أبنائهم، أو إدارات المدارس على الطلبة، وأن نقوم بتيسير السبل لذلك من خلال إنشاء المصليات داخل الجامعات والمدارس والمؤسسات الحكومية، وتفعيل دور المساجد ونحوها من الآليات لنكون ممن تناله شفاعة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والإمام جعفر الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

ص: 334


1- الوسائل ج4 ص20.
2- الوسائل: باب11، 2.

لذة الصلاة:

إن من استشعر العبودية لله تبارك وتعالى واعتزّ بها يجد في الصلاة لذة كبيرة، ولا يجد للحياة طعماً ولا معنى إذا خلت من الصلاة، ولا يكتفي بالصلوات المفروضة لأنه يجد الأوقات بينها كثيرة لا يتحملها بلا صلاة فيتنفل بما يسَّر الله تعالى له خصوصاً في الليل، فإن ما بين المغرب والفجر وقت طويل.

عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) – لما سُئل عن أفضل الأعمال وأحبها إلى الله – قال: (ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة، ألا ترى أنّ العبد الصالح عيسى بن مريم قال: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ} (مريم: 31))(1) وعن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (ليكن أكثر همك الصلاة، فإنها رأس الإسلام بعد الإقرار بالدين)(2).

ولما سأل أبو ذر الغفاري رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن الصلاة، قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (خير موضوع، فمن شاء أقلَّ ومن شاء أكثر)(3).

ولاشك أن الكلام عن الصلاة لا يستوعبه مجلس واحد، ولكننا أحببنا إثارة أصل الموضوع لأهميته ليكون فاتحة لعمل واسع بإذن الله تعالى، فلنحرص جميعاً على أن نكون ممن أحسن صلاته وأكثر منها وحافظ عليها في أوقاتها.

ص: 335


1- الكافي: 3/ 264، ح1.
2- بحار الأنوار: 77/ 127 ح33.
3- معاني الأخبار: 333 ح1.

القبس /28: سورة النساء:104

اشارة

{وَلَا تَهِنُواْ فِي ٱبتِغَاءِ ٱلقَومِ}

لكي نعالج العلل لا المعلولات فقط:

لا شكّ أنّ الابتلاءات التي تعصف بالعراق وأهله شديدة قلّما يتعرّض لمثلها شعب آخر، ولا تقتصر على الوضع الأمني الذي أصاب الناس بالخوف والقلق حيث لم تعد فيه مدينة آمنة، وإنّما يتعدّاه إلى الوضع الاقتصادي المزري بكثير من الناس، وكذا الجانب الخدمي والاجتماعي والسياسي البائس.

وهذه الأوضاع المزرية لها أسبابها طبعاً، والمصلح الحاذق -كالطبيب الماهر- يبحث عن علّة الداء فيعالجها، ولا يكتفي بمعالجة الأعراض المرضية ولسنا بصدد بيان هذه العلل، وإنما نريد أن نلفت النظر، إلى أن هذه البلاءات يمكن أن يكون تأثيرها على الأمة إيجابياً فتكون سبباً ومقدمة ليقظة الأمة ونهضتها وحركتها نحو ما يصلحها ويعيد إليها عزّتها وكرامتها، ويمكن أن يكون دورها سلبياً فتكون سلباً ليأس الأمة وفشلها وإحباطها ونومها وانهيارها، ومثال ذلك: أنّ من يكون متعباً بحاجة إلى النوم فإنّه يتثاءب، ومن يستيقظ من نومه يتثاءب، فالحالة واحدة وهي (التثاؤب) إلاّ أنّها قد تكون مقدّمة ومؤشراً للصحوة والاستيقاظ والنشاط والحيوية، وقد تكون علامة على الكسل والخمول والركود والنوم.

ص: 336

ولا شك أن المطلوب من الأمة الحيّة الواعية المتطلّعة إلى الارتقاء والازدهار، تجعل هذه الصعوبات والمحن والضغوط سبباً لتكاملها وتقدّمها ويقظتها واستشعارها لمسؤولياتها.

درس من معركة أحُد:

وهذا الدرس نستفيده من القرآن الكريم وهو يتناول تداعيات معركة أُحُد، قال تعالى: {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} (النساء:104) فالآية تدعو المؤمنين إلى عدم الضعف والاستكانة والانهزام أمام الضغوط والتحديات وأن لا يقصّروا في متابعة القوم والاستمرار في مواجهتهم في كل ساحات العمل والتحدّي سواء كانت عقائدية أو فكرية أو اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو عسكرية وغير ذلك، وتهيئة كل أسباب ومقوّمات هذه المواجهة، ولا يقعدكم ما يصيبكم من ألم القتل والجراح والخسائر والجهود، لأنّ الآخر يصيبه نفس ما يصيبكم ومع ذلك فإنّه لا ينسحب من المواجهة ويستمر في استهدافكم فلماذا تشعرون أنتم بالوهن والضعف والانسحاب، مع أنّ عندكم ميزة ليست عند أعدائكم وهي أنّكم ترجون ما عند الله تعالى من الرضوان ومجاورة أحبّائه وأوليائه (صلوات الله عليهم أجمعين) وهذا يشكّل حافزاً ودافعاً قويّاً يفتقده خصمكم.

من كان مع الله كان الله معه:

ولهذا جاءت الآية الأخرى لتطمئن المؤمنين وتقول لهم {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ

ص: 337

تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران:139) فالضعف والتخاذل والخوف والقلق غير مبرّر لأنّكم الأعلون دائماً بطاعتكم لله تبارك وتعالى ورجائكم لما عنده وموالاة أوليائه، فأنتم أعلون إن كنتم ترجون من الله تعالى رضوانه.وأنتم أيّها الأحبّة في الموصل وسهل نينوى قد كثر استهدافكم لأسباب سياسية واقتصادية وجغرافية وقومية وطائفية فكثر أعداؤكم وعظمت محنتكم، لكن لا يكن كل ذلك سبباً للتنصّل عن مسؤولياتكم التي يمكن أن نلفت النظر إلى عناوين بعضها:

1-وحدتكم لأنّ فيها قوّتكم وقدرتكم على تحصيل حقوقكم وتوجب احترام الآخرين بوجودكم، والالتفاف حول المخلصين من أبنائكم.

2-تأسيس المنظمات الخيرية لمساعدة العوائل المحتاجة والأرامل والأيتام وهم كثر خلّفتهم المحنة الشديدة والطويلة والشرسة وقد أعطيت الأذن للمؤمنين بأن يصرفوا حقوقهم الشرعية في هذا المورد.

3-تشجيع جملة من شبابكم الواعين المحبّين للعلم ليلتحقوا بالحوزة العلمية في النجف الأشرف ليكونوا حلقة الوصل مع المرجعية الرشيدة وليفقّهوكم في الدين ليعزّزوا عقيدتكم ويثبّتوا قلوبكم على الحق.

4-المواظبة على إقامة شعائر الدين من صلوات الجمعة والجماعة

وإحياء الشعائر الحسينية وإعمار المساجد، وجعلها منبراً للتوعية والتربية والتزوّد بالأخلاق والمعرفة.

ص: 338

لكي تستجيبوا لله ورسوله:

وأنتم بالتزامكم بهذه الخطوات العملية وأمثالها تتحقّق استجابتكم للآية المتقدمة (وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ) لأنّ عدم الوهن يتحقق من خلال الاستمرار بالنهوض بالواجبات التي أشرنا إلى عدد منها.

إنّ المتقاعس والمتخاذل سوف لا ينجو من البلاء وسيصيبه بشكل أو بآخر فتكون خسارته مضاعفة لأنّه سيذوق الألم وسيحرم من الأجر والثواب لأنّه لم يرابط لأداء مسؤولياته، فترون الإنفجارات لا تفرّق بين سنّي وشيعي أو عربي وشبكي أو صغير وكبير أو رجل وامرأة، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إنّك إن صبرت جرت عليك المقادير وأنت مأجور، وإن جزعت جرت عليك المقادير وأنت مأزور)(1) فالأقدار والبلاءات جارية على كل حال وأنت بموقفك –إيجاباً أو سلباً- محدِّد أثرها عليك؛ والمهم أن تكون دائماً ممن ترجو الله تبارك وتعالى وتحتسب عنده، واجعل هذا دائماً الفرق بينك وبين خصمك كما أشارت إليه الآية المتقدّمة ومحنتكم هذه تلزم الجميع بالوقوف إلى جانبكم ومد يد العون لكم ورفع الظلم والحيف عنكم، وتتأكّد أكثر على أبناء قوميتكم ومنطقتكم الذين تبوؤا المواقع المتنفّذة بأصواتكم ولا يجوز لهم الانشغال عن همومكم وآلامكم بمصالحهم الشخصية والفئوية.

ص: 339


1- منتخب ميزان الحكمة: 360 رقم 3455.

القبس /29: سورة النساء:114

اشارة

{لَّا خَيرَ فِي كَثِير مِّن نَّجوَىهُم}

موضوع القبس: مسؤولية الكلمة وأهمية تأثيرها

(النجوى) هو الحديث المتخفي، وتبيّن الاية الكريمة أن كثيراً من الكلام الذي يتهامس به الناس ويتداولونه في مجالسهم لاخير فيه لذا فانهم يتحدثون به خفية وتدعوهم الاية الى ان تكون احاديثهم مثمرة ومنتجه لذا استثنت الاية وقالت (الا من امر بصدقة او معروف او اصلاح بين الناسوبهذا المضمون وردت الاية الأخيرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (المجادلة:9) فالمشكلة ليست في اسرار الحديث واخفائه وانما في مضمونه ومؤداه والغرض منه، اذ من المعلوم ان بعض احاديث الخير والمعروف والإصلاح تجري سراً وفي الكتمان لمصلحة ما، كالاصلاح بين الزوجين، وكاحاديث الوعي الإسلامي في زمن الطواغيت ونحو ذلك.

فعلينا ان ندرك أهمية (الكلمة) فانها من أوسع القنوات الموصلة إلى رضا الله تبارك وتعالى فمن خلالها تكون النصيحة وبها تتم الموعظة وتجري الهداية ويتحقق الإصلاح وينتشر العلم والمعرفة وتُبنى الحضارة وتتقدم الإنسانية وتتكامل التربية فهي وعاء لهذه الطاعات العظيمة وغيرها.

ص: 340

ورد في الرواية انه سئل علي بن الحسين (عليهما السلام) عن الكلام والسكوت أيهما أفضل؟فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): لكل واحد منهما آفات، فإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت، قيل: كيف ذلك يا ابن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: لان الله عز وجل ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت، إنما بعثهم بالكلام، ولا استحقت الجنة بالسكوت، ولا استوجبت ولاية الله بالسكوت، ولا توقيت النار بالسكوت، إنما ذلك كله بالكلام، ما كنت لاعدل القمر بالشمس، إنك تصف فضل السكوت بالكلام ولست تصف فضل الكلام بالسكوت)(1) ففهم الإمام من حاله انه واقع في شبهة أن السكوت واعتزال الناس ومقاطعتهم أفضل لما بلغه من الأحاديث الشريفة التي تحثّ على السكوت وقلّة الكلام فبيّن له الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن الكلام إذا كان خالياً من السوء والفحشاء فهو أفضل بالتأكيد وقال له: وهل بُعثَ الأنبياء إلا بالكلام، قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أمر بِصَدَقَةٍ أو مَعْرُوفٍ أو إصلاح بَيْنَ النَّاسِ} (النساء:114) حتى عُدّت (الكلمة الطيبة صدقة)(2) في بعض الأحاديث.

وفي المقابل فإن الكلمة السيئة لها ضرر بليغ ومدمّر وإن كثيراً من الكبائر التي وعد الله بها النار مرتبطة بالكلمة كالغيبة والنميمة والبهتان والكذب والافتراء3.

ص: 341


1- بحار الانوار : ج 68 / ص 274/ ح3
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب احكام المساجد ، باب 27، ح3.

والسب والشتم والإيذاء وإشاعة الفاحشة وغيرها لذا ورد في الحديث (وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم)(1) وألّف العلماء والمربّون والأخلاقيون كتباً في (آفات اللسان).لذلك خصص المشرع الأقدس حصة كبيرة من تعاليمه لتهذيب هذه الكلمة وتوجيهها لتكون نافعة بنّ-اءة فرسم ملامح الكلمة الطيبة {كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بإذن رَبِّهَا} (إبراهيم:24-25) وحذر من ضرر الكلمة الخبيثة {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} (إبراهيم: 26) وحذر من مغبّة الكلمة الضارة.

فمثلاً اعتبر من يقول ولو شطر كلمة في المشرق فقُتل بها شخص في المغرب اعتبره قاتلاً، كما يفعل اليوم صناع ثقافة التكفير والقتل والظلم والعدوان فيطيعهم وينخدع بضلالاتهم شخص في المشرق أو المغرب ويقوم بعملية إجرامية يكون وزرها الأول على صانع هذه الثقافة.

ويوجد بهذا الصدد حديث شريف مهم ويشكّل ضربة قاضية لهؤلاء الذين يروّجون صناعة القتل والرعب لمجرد الاختلاف في الرأي أو تضرّر المصالح فقد روى الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن جده رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (أنه قال "يعذّب اللهُ اللسان بعذابٍ لا يعذّبُ به شيئاً من الجوارح فيقول: أي ربِّ عذّبتني بعذابٍ لم تعذّب به شيئاً، فيقال له: خرجت عنك كلمة فبلغت مشارق الأرض ومغاربها5.

ص: 342


1- الكافي: ج2 ص115.

فسفك بها الدم الحرام وعزّتي لأعَذّبنَّك بعذابٍ لا أعذّبُ به شيئاً من جوارحك)(1).فإذا استشعرنا هذه الأهمية فإن هذا الشعور سينظّم برامج التعامل مع الكلمة وسيراقبها ويتحكم بها، فإن الكلمة في وثاقك وتحت سيطرتك ما دمت لم تطلقْها فإذا أطلقتها فستكون أنت في وثاقها وتتحمل تبعتها ومسؤوليتها، وكم شخص ذهب ضحية الكلمة سواء في الدنيا أو في الآخرة كقاضي القضاة للمعتصم العباسي الذي وشى بالإمام الجواد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهو يعلم أن ذلك سيخلّده في النار كما قال هو نفسه.

ونحن اليوم نشهد ثورة معلوماتية هائلة وتكنولوجيا اتصالات عظيمة لم تحلم بها البشرية من قبل، تفتح لنا الأبواب الواسعة لإيصال خطاب السلام والسعادة للبشرية، ولم يعد الطغاة قادرين على حبس الكلمة ومنع وصولها إلى الناس كما كانوا يفعلون عبر التأريخ ولسانهم واحد {مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى} (غافر: 29)، واضطر الإسلام لحمل السيف في وجوه هؤلاء الطغاة ليحرّر شعوبهم من عبادتهم ويترك لهم الخيار في اعتناق العقيدة التي يقتنعون بها تحت شعار {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة:256)و{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} (الأنفال:42) و{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف:29) و{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (الإنسان:3) وشجّع الحوار وثقافة الرأي الآخر {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} (البقرة: 111) {وَلا تُجَادِلُوا أهل الْكِتَابِ إِلا4.

ص: 343


1- وسائل الشيعة، مج8، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب4، ح4.

بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت:46) {ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125). كما أننا نعيش بفضل الله تبارك وتعالى فرصة عظيمة لإيصال الكلمة الطيبة إلى مسامع العالم التوّاق للسلام والسعادة والخير، بعد أن فشلت أمامه كل الأيديولوجيات وبعد أن فشل غير اتباع أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في عرض الإسلام بشكله الصحيح مما اوجب نفوراً وارتداداً لدى معتنقيه، فالعالم كله ينتظر منكم يا اتباع أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أن تعكسوا لهم الصورة النقية الناصعة للإسلام المملوءة بالرحمة وحب الخير والسلام والطمأنينة لكل البشر.

وقد مرّت علينا عقود من سنيّ الكبت وسلب الحرّيات والحجر على الكلام، وقد أزاله الله تعالى ليبلوَنا أنشكر ونؤدي حق هذه النعمة، أم نكفر والعياذ بالله ونسيء استخدام هذه الحرية.

فهذه عوامل ثلاثة:

1-وسائل الاتصالات المتطورة.

2-فشل الإيديولوجيات في تحقيق السعادة للبشرية وتوفير الأمن والسلام والطمأنينة لها.

3-توفر الحرية الكاملة لممارسة الدعوة إلى الله تبارك وتعالى والحق والهداية والصلاح.

تضاعف علينا مسؤولية استثمار (الكلمة) في أداء الرسالة التي ائتمنا الله تبارك

ص: 344

وتعالى وقبلنا حملها بعد أن اعتذرت السماوات والأرض وسائر المخلوقات عن حملها {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} {الأحزاب: 72}

ص: 345

القبس /30: سورة النساء:143

اشارة

{مُّذَبذَبِينَ بَينَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ ۚ}

موضوع القبس: التذبذب في المواقف

العلم وحده لا يكفي:

لا شكّ أن الحديث عن فضل العلم وطلبه، وفضل العلماء ودرجاتهم لا ينقضي، والأقلام التي تكتب عنه لا تجف ولن تجف إن شاء الله تعالى، لكنّ الحديث عن العلم وحده لا يكفي، لأنّ العلم وحده لا يكفي، ولا بد أن ينضم إليه الحديث عن العمل بهذا العلم، وإلاّ فإن الكثير ممن ضلوا وانحرفوا وأضلّوا لم تكن مشكلتهم في نقص العلم، بالعكس فقد كان لديهم علم كثير، وما استطاعوا أن يخلقوا فتنة في المجتمع، ويضلّوا أمة كثيرة من الناس إلاّ من جهة أنّ عندهم علماً فاستطاعوا التأثير في الناس، وبدون ذلك العلم لم يكن أحدٌ يعبأ بهم.

فالعلم قد يكون وبالاً على صاحبه، والأحاديث في ذلك كثيرة حتى جعلت أشد الناس حسرة يوم القيامة شخصاً حمل علماً ونقله إلى الآخرين فاستفادوا منه، لكنّه هو لم ينتفع منه ولم يعمل به.

نماذج من علماء السوء:

وقد ذكرنا في حديث سابق مثالاً على ذلك وهو علي بن أبي حمزة

ص: 346

البطائني الذي تزعّم انشقاقاً على الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وكان عنده علمٌ كثير ورواياته تملأ الكتب وشبّهه الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هو وأصحابه بالحمير ليذّكره بالآية الشريفة {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الجمعة:5).

ميادين العلم:

والعمل بالعلم له ميادين (أولها) النفس فيصلحها ويهذبها ويكاملها (ثمّ) المجتمع فينقل ما تعلمه وعمل به إلى الآخرين ليساعدهم على الصلاح والهداية، فإن زكاة العلم إنفاقه وبذله للآخرين، والعلم يزكو وينمو ويباركُ فيه بالإنفاق.

مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَ-ؤُلاء وَلاَ إِلَى هَ-ؤُلاء:

ومع وضوح هذه المقدّمة، إلاّ إننا نشهد اليوم أمثلة كثيرة على عدم العمل بالعلم وعدم تحويله إلى واقع نعيشه ونتمثله في حياتنا، في أوساط من يسمَونَ بالمتدينين فضلاً عن غيرهم، والمورد الذي أريد أن أذكره محاولة البعض منهم أن يخوض في الدنيا ويمعن في طلبها مع زعمه المحافظة على دينه وآخرته، وهو أعجز من تحقيق ذلك؛ لأن الآخرة والدنيا بهذا الشكل ضرّتان لا تجتمعان كما ورد في الأحاديث الشريفة، وكان يمكنه أن يجعل الدنيا مزرعة للآخرة، فإن الكمالات والجنان لا تنال إلاّ بهذه الدُنيا.

فتوجد فئة من الناس تحاول أن تنال الدنيا التي فتحت أبواب كثيرة لها

ص: 347

اليوم من الامتيازات والمصالح من خلال العمل مع جهة ما، لها نفوذها وتسلطها ومواقعها ومناصبها، مع الاعتراف بأنها لا توصل للآخرة بل تصد عنها، ويقول إنني ما زلت أرجع في الأمور الدينية إلى الجهة الفلانية التي يعتقد أنها مبرئة للذمة أمام الله تعالى، وكأنّه لا تنافي بين الأمرين، وأنّه يمكن أن يكون مع جهة في دينه، ومع جهة أخرى في دنياه، وهو بذلك يخدع نفسه {يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} (النساء:142) فهم ممن وصفهم الله تعالى {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَ-ؤُلاء وَلاَ إِلَى هَ-ؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} (النساء:143).فمثل هذا الشخص يسقط ولا يستطيع المقاومة حتى النهاية، فإذا أراد الخير لنفسه فليحزم أمره وليتخذ موقفاً حاسماً بأن يجعل الله تعالى نصب عينيه ويختار ما فيه سلامة دينه ويتّبع الجهة التي تبرأ ذمته وتوصله إلى الفلاح فيما يحب ويكره، فيأتمر بأمرها وينتهي بنهيها ويعمل ضمن إطارها.

كربلاء: نموذج لصراع الدنيا والآخرة:

وأمامنا مثالان من كربلاء وهُما يعبّران عن حالة التنازع هذه والنتيجة التي انتهوا إليها.

أحدهما: عمر بن سعد فقد حاول أن يتجنّب قتال الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ويبتعد عن هذه الجريمة العظمى بالتوجه إلى إحدى الولايات، لكنّه بقي محباً للدنيا مع ابن زياد وله طمعٌ في نيل ولاية الري وجرجان، حتى وصل إلى مفترق الطريق عندما كلّفه ابن زياد بقيادة الجيش الذي خرج لقتال الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وبات تلك الليلة في حيرة وترددٍ شديدين كما يظهر من أبياته الشعرية التي قالها:

ص: 348

أأترك ملك الري والري مُنيتي***أم ارجع مأثوماً بقتل حسينِ

وخرج إلى كربلاء على رأس الجيش ولكنّه ظلّ يتأمل أن يأخذ الدنيا بيد من دون أن يخسر الآخرة باليد الأخرى وبقي أياماً في كربلاء يجتمع مع الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في خيمة نصبت لهما ويتبادلان الأحاديث، والإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يبذل المحاولات لإقناعه بالعدول عن هذا الخسران المبين، حتى جاء الشمر بكتابٍ من ابن زياد يأمره بمناجزة الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الحرب أو ترك قيادة الجيش للشمر، وهنا سقط ابن سعد واختار الدنيا فخسر آخرته ودنياه ولم يستطع الجمع بينهما.

ثانيهما: الحرّ الرياحي الذي كان قائداً في الجيش الأموي وخرج على رأس ألف فارس لاعتراض الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الطريق بعد دخوله العراق والمجيء به إلى الكوفة، وحاول أيضاً أن يحتفظ بموقعه وامتيازاته من دون أن يتورّط في دم الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فنفّذ أوامر قيادته بمنع الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من الرجوع إلى الحجاز، إلاّ أنّه طلب منه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن يذهب باتجاه لا يمر بالكوفة فاختار (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) طريق كربلاء وظلّ الحر يسايره، وهو يتمنى العافية والسلامة وأن لا تنتهي الأمور إلى القتال ويبقى محتفظاً بامتيازاته، إلاّ أنه في النهاية وصل إلى ساعة الحسم يوم عاشوراء حينما وقع القتال، فعاش صراعاً قاسياً ومريراً جعله يرتعد ويرتجف بدرجة استغربها من حوله وظنوا أنّه جبنٌ من المواجهة، فقال له أحدهم: لو قيل من أشجع أهل الكوفة لما عدوناكَ فما هذا الخوف؟ قال: ويلك إنّي أخيّر نفسي بين الجنة والنار ولا أختار على الجنة شيئاً، وأدركه اللطف الإلهي واستنقذه من النار ونقله إلى حيث السعادة الأبدية، ولم يستطع أي أحد غيره أن يتخذ نفس الموقف لشدته وصعوبته.

ص: 349

ولو كان كل من هذين النموذجين قد ترك طلب الدنيا وتخلّى عن زينتها الزائفة ليضمن آخرته من أول الأمر لما وقع في هذا المأزق الكبير الذي لا ينجح فيها إلاّ من عصم الله تعالى.

كونوا من السابقين:

وهنا تبرز الفئة الثالثة التي حسمت أمرها من البداية واتبعت الحق ولم تؤثر عليه شيئاً كعلي بن الحسين الأكبر (صلوات الله عليهما) الذي يجيب أباه لما علم منه أنّهم سائرون إلى الموت قال: أو لسنا على الحق، إذن لا نبالي أوقعنا على الموت أم وقع الموت علينا.

فمثل هذا الفريق نجح من أول الأمر ولا يعاني ولا يجد صعوبة ولا تردداً ويمضي قدماً.

فعلينا –أيّها الأحبة- أن نحذر أنفسنا ثم الآخرين من الإقدام على ما يوجب زلل الأقدام ويقرّب من حافة الهاوية مغترين بالقدرة على النجاة في ساحة الحسم والامتحان، فإنّها مجازفة غير مأمونة العواقب حينما نضع رجلاً هنا ورجلاً هناك، والدنيا مليئة بالامتحانات والفتن.

وهذا ما حاوله من قبل أبو هريرة فينقل أنّه كان يصلّي مع علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ويأكل من موائد معاوية فإذا وقعت المعركة انحاز إلى الجبل، فقيل له في ذلك قال: الصلاة مع علي أتم والأكل مع معاوية أدسم والجبل أسلم، وحاول بحسب زعمه أن يحصل على الآخرة مع علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وعلى الدنيا مع معاوية، لكن هذا غير ممكن وما كان لمعاوية أن يدعه يتمتع بدنياه بلا ثمن وهو أن يبيع له دينه كعمرو

ص: 350

بن العاص والمغيرة بن شعبة.وعلينا أن نستفيد من علمنا لأنفسنا وللآخرين ونحسم أمرنا باتباع الحق وسوف يجمع الله تعالى لنا الدنيا والآخرة بفضله وكرمه.

ص: 351

القبس /31: سورة المائدة:28

اشارة

{لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقتُلَنِي مَا أَنَا۠ بِبَاسِط يَدِيَ إِلَيكَ لِأَقتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلعَلَمِينَ}

موضوع القبس: من مبادئ الإسلام في التعايش السلمي

أدب من آداب القرآن واخلاقه ونموذج راقي للسلام والتعايش الذي تنشده البشرية اليوم وكل يوم ذكره الله تعالى ضمن قصة ابني آدم هابيل وقابيل، قال الله تبارك وتعالى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة:27) والنبأ: الخبر ذو الفائدة العظيمة الذي يفيد العلم، وهو هنا يتعلق بواقعة حدثت لابني آدم في بداية وجود البشر على الأرض وفيها الكثير من المواعظ والعبر، والقربان ما يتقرَّب به إلى الله تعالى، ولم تذكر الآيات الكريمة كيفية حصول العلم بالقبول وعدمه، لكن الروايات دلتّ على ان علامة القبول ان تأكله النار.

وتفيد صحيحة ابي حمزة في الكافي عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ان آدم أمر قابيل وهابيل ان يقرّبا قرباناً وكان هابيل صاحب غنم وكان قابيل صاحب زرع فقرّب هابيل كبشاً وقرّب قابيل من زرعه ما لم يُنقَّ، وكان كبش هابيل من أفضل

ص: 352

غنمه وكان زرع قابيل غير نقي فتُقبّل قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل وكان القربان اذا قُبِل تأكله النار)(1).فالأمر بتقديم القربان كان من النبي آدم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كجزء من تربيتهما وتعويدهما على الطاعة والأعمال الصالحة، أو لمعرفة المستحق لوراثة ابيهما معنوياً وفي سؤال وُجِّه إلى الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ففيم قتل قابيل هابيل؟ فقال: في الوصية)(2).

ويظهر من بعض الآيات الشريفة ان هذه التي كانت علامة القبول هي ايضا علامة استحقاق تحمل الرسالة الإلهية، قال تعالى {الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (آل عمران:183).

فالآية الكريمة تشير الى ان السر في القبول وعدمه هو اخلاص النية لله تبارك وتعالى وتنقية العمل وإحسانه المعبّر عنه بالتقوى فذكرت الآية معياراً عاماً للقبول {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة:27) وذكره هابيل بأدب ولم يقل لأخيه انك لست من المتقين، وبدلاً من ان يذعن قابيل للحقيقة، ويسعى لإصلاح حاله ويعالج سبب عدم القبول ويعود إلى طاعة ربِّه فأنه حسد أخاه حسداً شديداً وأصدر قراره بقتل أخيه لكن أخاه الصالح هابيل المتأدِّب بآداب الله تعالى قابل3.

ص: 353


1- الكافي:8/ 113 ح 92.
2- تفسير العياشي: 312 ح 83.

أخاه بموقف إنساني نبيل كان كافياً لردع أخيه عن فكرته السيئة فرفض ان يتصرف نفس التصرف ولا يقدم على قتل أخيه وان كان أخوه عازماً على قتله، لأنه لا يفعل الا ما فيه رضا الله تبارك وتعالى ولا يستفزّه خطأ الآخر فيدفعه لارتكاب خطأ مماثل {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة:8). في بعض قصص الأنبياء انه اتي له بأسرى في نهاية معركة انتصر فيها فقال بعض أصحابه اقتلهم فامتنع النبي المنتصر فقيل له انهم يقتلون أسرانا فقابلهم بالمثل، قال: انهم ليسوا قدوة لنا، وقد سجّل القرآن الكريم زجره عن مثل هذا السلوك بقوله {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (النساء:140), وفي سيرة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه أخبر ان عبد الرحمن بن ملجم سيقتله فقيل له: لم لا تقتله قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لا يجوز القصاص قبل الجناية)(1).

وهذا المبدأ شاهد على سمو القانون الاسلامي وتفوقه على القوانين الوضعية التي تجيز ما يسمى بالضربة الاستباقية أي ضرب الخصم اذا علم أو ظنّ بانه يستهدفه او لردعه عن التفكير بذلك.

ويجب الالتفات الى ان هابيل انما امتنع عن خصوص مد يده لقتل أخيه ابتداءاً ولمجرد الضربة الاستباقية اما بسط يده في الدفاع عن نفسه فهذا حق مشروع له بل يجب عليه ان لا يمكّن خصمه من نفسه، لذلك فان قتل هابيل كان اغتيالاً، في تفسير العياشي بسنده عن ابي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (لما قرب ابن آدم79

ص: 354


1- بحار الأنوار: ج2 ص 279

القربان فتقبّل من أحدهما ولم يتقبّل من الآخر، قال: تُقبِّل من هابيل ولم يُتقبَّل من قابيل، دخله من ذلك حسد شديد وبغى على هابيل، ولم يزل يرصده ويتبع خلوته حتى ظفر به متنحياً من آدم فوثب عليه وقتله)(1).واستعمال القرآن الكريم لمفردة التطويع، يكشف عن ان هذا الفعل الشنيع ما كان مستساغاً في أول الأمر لأنه خلاف الفطرة وحكم العقل بقبح الظلم والعدوان، ولازالت البشرية في أول تكونّها ولم ينتشر الفساد في الأرض فاستمر الشيطان في تزيين القتل واستثارة الحسد في نفسه الأمارة بالسوء حتى انقاد لهواه مما يبيّن خطورة رذيلة الحسد وأمثاله من الدوافع الذاتية السيئة على سلوك الفرد بغضّ النظر عن تأثير البيئة الاجتماعية إذ لم يتشكل يومئذٍ مجتمع بعد، ونفّذ قابيل ما تأمره به نفسه {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (المائدة:30).

ولا يخفى ما في كلمة (فَطَوَّعَتْ) من دلالة على المحاولات المتكررة والضاغطة لدفعه إلى تنفيذ الجريمة ولو أغلق على نفسه باب التفكير فيها لما وصل إلى هذه النتيجة، وهذا هو الحال في فعل المعاصي خصوصاً الكبائر فأنه لا يفعلها بمجرد خطورها على ذهنه ولكن استجابته لعملية الدعوة المتكررة والتزيين تجعله يستسلم لفعلها ففي رواية الكافي المتقدمة (ان ابليس أتاه فقال له: يا قابيل قد تُقبِّل قربان هابيل ولم يُتقبَّل قربانك وإنك إن تركته يكون له عقب يفتخرون على عقبك ويقولون: نحن أبناء الذي تُقبِّل قربانه، فاقتله كي لا يكون له عقب77

ص: 355


1- تفسير العياشي: 1/ 306 ح 77

يفتخرون على عقبك فقتله). وهذه اللطيفة القرآنية نور آخر نقتبسه من الآية الكريمة حاصله: ان الايمان ليس مجرد عقيدة نظرية وإنما هو سلوك والتزام بما يريده الله تعالى وتحكيم شريعته في الحياة، حيث كشفت الاخبار أن إيمان قابيل كان نظرياً فقط.

{فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} لأنه خسر نفسه حيث أوردها النار بهذا الأثم العظيم وتحمل أثم أخيه(1)، وخسر أخاه الصالح المحبّ له الشفيق عليه، وخسر دنياه لأن حياته أصبحت منكّدة كئيبة {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} (المائدة:31)، وخسر كرامته وسمعته الاجتماعية.

والآية الكريمة تشخّص مشكلة خطيرة وبلاءاً عظيماً يتعرض له الصالحون والمصلحون عند ما يناصبهم العداء ويكيد لهم من لا يرونه عدواً لهم ويتورعون عن القيام بفعل يشبه ما يريد فعله الخصوم ونتيجة ذلك أن يتلقى العدوان بنفس صابرة مطمئنة ويدافع عن نفسه بما يتيسّر له.

وفي الحديث الشريف عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لا ينفك المؤمن من خصال اربع جارٍ يؤذيه وشيطان يغويه ومنافق يقفو أثره ومؤمن يحسده، ثم قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) اما انه أشدّهم عليه، قلت: كيف ذاك؟ قال: انه يقول فيه القول فيصدق عليه)(2).70

ص: 356


1- عن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (من قتل مؤمناً متعمداً اثبت لله عزوجل على قاتله جميع الذنوب وبرئ المقتول منها) (بحار الأنوار: 101/ 377 باب 36 ح 42)
2- الخصال: أبواب الأربعة، ح 70 ، ص 170

فالخصم إذن مؤمن لا تستطيع ان تؤذيه او تعتدي عليه لكنه يحسد ويبغي ويفتري ويشوِّه الصورة ويسقط السمعة والكرامة ولا تستطيع أن تقابله بالمثل.وقد ابتلي أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بهذا البلاء فقد بغى عليه وقاتله مسلمون مقربون إليه يحرص كل الحرص على اكرامهم، وكان (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يمنع أصحابه من أن يبدأوا خصومهم بالقتال، وإنما يقاتلون دفاعاً عن انفسهم.

ومن خطاب الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم عاشوراء لأهل الكوفة (سللتم علينا سيفاً لنا في ايمانكم، وحششتم -- أي اوقدتم -- علينا ناراً اقتدحناها على عدِّونا وعدوّكم فأصبحتم أولياء لأعدائكم على اوليائكم)(1) فهؤلاء الرجال والسلاح الذي بأيديهم هم لنا ويجب ان يكونوا من جند الإسلام لأنهم مسلمون بحسب الظاهر، لذا كان (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يمنع أصحابه من ان يبدأوهم بقتال ولم يقاتلوا الا دفاعاً عن انفسهم.

ومن قصيدة دعبل الخزاعي الشهيرة:

اذا وُتروا مدّوا إلى واتريهم***أكفّاً عن الأوتار منقبضات40

ص: 357


1- الملهوف: 155، الاحتجاج: 2/ 97، تحف العقول:240

القبس /32: سورة المائدة:54

اشارة

{يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُۥ}

موضوع القبس: الحب الإلهي

حببوا الله تعالى للناس:

ورد في حديث نبوي شريف أنه توجد فئة من الناس لهم مقام رفيع يوم القيامة يغبطهم عليه الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، وتشرأبُّ أعناق طالبي الكمال إزاء مثل هذه الأحاديث ويقبلون عليها بكلّهم، والحديث الشريف عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (إني لأعرف ناساً ما هم أنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء بمنزلتهم يوم القيامة: الذين يحبّون الله ويحببونه إلى خلقه يأمرونهم بطاعة الله فإذا أطاعوا الله أحبهم الله)(1).

فمن الغريب أنك تجد بعض الناس يتحمّس في الدعوة إلى محبة حزبه أو فريقه الرياضي الذي يشجعه، أو الشخص الذي يعجبه، ويغفل عن الدعوة إلى محبة خالقه الكريم ويزهد في هذه المنزلة الرفيعة وهي منزلة قد لا يبدو من الصعب وصول الإنسان إليها بلطف الله تبارك وتعالى وتوفيقه إذ ليس عليه إلا أن يحبّبَّ الله تعالى إلى مخلوقاته.

ص: 358


1- مجمع الزوائد للهيثمي: 1/ 126.

يأمر الله تعالى النخبة من عبادة ليكونوا من الدعاة إلى محبة الله تعالى، ففي حديث عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (أوحى الله تعالى إلى موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): أحببني وحببني إلى خلقي، قال موسى: يا رب إنك لتعلم أنه ليس أحدٌ أحبُّ إلي منك فكيف لي بقلوب العباد؟ فأوحى الله إليه: فذكّرهم نعمتي وآلائي فإنهم لا يذكرون مني إلا خيراً)(1)، وورد مثله(2) عن النبي داود (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

كيف تحبب الله تعالى؟

وهذا الحديث يبين طريقاً لتحبيب الله تعالى إلى خلقه بتذكيرهم بنعمه التي لا تُعدّ ولا تحصى، ولا تحتاج معرفتها إلى مؤونة كبيرة، وليقم الإنسان بمراجعة لنفسه وحاله ليعرف سعة النعم، فمثلاً إذا جلس على الطعام ورأى أنواع المواد الداخلة في إعداده، وكم بُذل عليها من جهود لتصل إليه بهذا الشكل، ولننظر في الخبز الذي هو طعام مشترك لكل الناس كيف تعب الزرّاع لإنتاج حبات القمح ثم طحنت وعُجنت وخبزت، وكل مرحلة من هذه المراحل يقوم عليها عمال ومكائن ولوازم أخرى كالوقود والماء وغيرها، فإذا تأمل الإنسان في هذه المنظومة الواسعة من النعم التي تشترك لتقدم له رغيف الخبز، أحبَّ الإنسان خالقه الذي هيّأ له كل هذه الأسباب وذلّل له كل الصعوبات، وإذا تأمل في الأنواع الأخرى من طعامه وشرابه فإنه سيعجز عن إدراكها فضلاً عن استقصائها. لذلك حكي عن البعض أنه كان يبكي حينما يقدَّم له الطعام لما يراه من أعظم

ص: 359


1- بحار الأنوار: 13/ 351.
2- بحار الأنوار: 14/ 38.

النعم.وهذا لا يعني اقتصار النعم على المطعم والمشرب، ومن ظن ذلك فهو جاهل، فإن لله تبارك وتعالى على عبده نعماً لا تحصى على رأسها الإيمان بالله تعالى وتوحيده ونعمة الإسلام وولاية النبي وأهل بيته الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) وقد تضمن دعاء الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم عرفه جملة من تلك النعم من قبل خروجنا إلى هذه الدنيا، ولو تعرّف الإنسان على عجائب بدنه لرأى عجباً. في أمالي الشيخ الطوسي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (من لم يعلم فضل الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قصر علمه ودنا عذابه)(1) فإذا علم الإنسان بعض ما أنعم عليه ربه –وهي لا تعد ولا تحصى- أحبه، لأن الإنسان مجبول فطرياً على حب من أحسن إليه، ولو أن شخصاً وفّر لآخر واحدة من نعم الله كالحياة بإنقاذه من غرق أو موت محقق أو وفّر له نعمة البصر أو السمع أو الطعام لأحبه وكان مديناً له طول حياته بذلك الإحسان. فكيف لا يحب الله تعالى الذي وفّر له كل هذه النعم.

عرّفوا الله تعالى بما هو أهله من الكمال:

ومن الوسائل الأخرى لتحبيب الله تعالى إلى خلقه بيان صفاته الحسنى وتعريفه إلى خلقه بما هو أهله من الكمال فإن الإنسان ينجذب فطرياً إلى الجمال والكمال، وذلك يتطلب معرفة فإنه لا حب إلا بمعرفة، فنحن لم نرَ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ولا أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولا الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء والحسن

ص: 360


1- بحار الأنوار: 20/ 69.

والحسين والأئمة المعصومين والأنبياء والرسل (صلوات الله عليهم أجمعين) ولم نعايشهم ولكنهم وُصفوا لنا بمحاسن الأخلاق واطلعنا على سيرتهم الكريمة وسمو ذواتهم ومواقفهم النبيلة فأحببناهم، أما الجاهل بهم فإنه لا يعرفهم حتى يحبهم، وهكذا العلماء من السلف الصالح (قدس الله أرواحهم) فإن العامي الذي لا يعرف قيمة إنجازاتهم العظيمة يكون حبه هامشياً مجملاً، أما العلماء الذين وقفوا على مؤلفاتهم وسبروا أغوار علومهم وعلموا قوة ملكاتهم والجهود المضنية التي بذلوها فإنهم يحملون لهم كل الحب والإجلال والتعظيم.وهكذا إذا تعرّف الإنسان على الصفات الحسنى لخالقه أحبّه، فمثلاً إذا عرف سعة عفوه عن المذنبين وقرأ قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر:53) وقرأ بعض الروايات، وفي الحديث: أن رجلا قتل مائة رجل ظما، ثم سأل: هل من توبة؟ فدل على عالم، فسأله فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ولكن أخرج من القرية السوء إلى القرية الصالحة فاعبد الله فيها، فخرج تائبا فأدركه الموت في الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فبعث إليهم ملكا فقيل: قيسوا ما بين القريتين، فإلى أيتهما كان أقرب فاجعلوه من أهلها، فوجدوه أقرب إلى القرية الصاحلة بشبر، فجعلوه من أهلها)).(1)

أو عرف سعة رحمة الله تبارك وتعالى بعباده وأنه تعالى وزّع جزءاً من مائة جزء من رحمته على مخلوقاته فبها تتراحم، تصوروا أن رحمة الأمهات والآباء60

ص: 361


1- مستدرك الوسائل : ج 18 / 260

بأبنائهم لدى الإنسان والحيوان والمشاعر النبيلة التي تتدفق عند رؤية مبتلى أو عاجز أو ذوي عاهة، تشكّل هذه كلها جزء من مائة جزء من رحمة الله تعالى التي لا حدود لها، والقصص في رحمة الله تعالى وتدبيره لأمر خلقه ورعايتهم عجيبة.أو عرف كيف أن الله يستر على المذنبين والخاطئين ويحفظ كرامتهم ويصون سمعتهم بين الناس كقصة السيد بحر العلوم (قدس سره) الذي أمره الإمام المهدي (أرواحنا له الفداء) بأن يزور رجلاً عادياً من عامة الناس ويبشره بعلو منزلته لخصلة أحبّها الله تعالى فيه وهي أنه لما تزوج امرأة لم يجدها باكراً فطلبت منه الستر عليها وعدم فضحها فاستجاب لطلبها قربة إلى الله تعالى.

أقول: إذا تعرف الإنسان على مثل هذه الصفات لخالقه أحبه قطعاً.

التعرّف على سيرة الأنبياء والرسل والأوصياء:

ومما يحبّب الله تعالى إلى عباده التعرف على سيرة أنبيائه ورسله وأوصيائهم المنتجبين وسمو أخلاقهم وطهارة نفوسهم، فإن رباً يكون رسله وسفراؤه إلى خلقه مثل نبينا الأكرم محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ويكون أولياؤه مثل علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لجدير بأن يستأثر بحب عباده، لأنهم يعكسون صورة عن صفات ربهم. وكمثال على ذلك أن بعض الناس يحبون مرجعية ما ويقلدونها لأن وكيلها ومعتمدها عندهم حسن السيرة محبوب عندهم.

أحبوا الله تعالى ثم حببوه الى الآخرين:

ولا بد للإنسان قبل أن يحبب الله تعالى إلى خلقه أن ينطوي قلبه على حب

ص: 362

الله تعالى، ويظهر من الآيات الكريمة والروايات الشريفة أن هذا الحب علامة الإيمان، بل لا يؤثر عليه حب غيره، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة:24) وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} (البقرة: 165) وقال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة: 54).

متى يحصل الحب الإلهي؟

وروي أنه سئل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليك مما سواهما)(1) وفي حديث آخر (لا يؤمن العبد حتى أكون أحبَّ إليه من أهله وماله والناس أجمعين). ويحصل الحب لله تبارك وتعالى بعد تحقق مقدمتين، كلما قويتا قوي الحب وكمُل:

الأولى: تطهير القلب من حب الدنيا وتهيئته بتفريغه لحب الله تعالى، فإن القلوب أوعية لا تستوعب أمراً ما حتى تخليها من غيره، قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} (الأحزاب: 4) وقال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إن كنتم تحبون الله فأخرجوا من قلوبكم حب الدنيا) وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):

ص: 363


1- الحديث والذي يليه تجده في مجموعة ورّام (تنبيه الخواطر ونزهة النواظر): 1/ 223.

(إذا تخلى المؤمن من الدنيا سما ووجد حلاوة حب الله تعالى) ولذا وردت الوصية فيه عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (القلب حرم الله فلا تسكن حرم الله غير الله).وروي أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نظر إلى مصعب بن عمير مقبلاً وعليه إهاب كبش قد تنطق به فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (انظروا إلى هذا الرجل الذي قد نوّر الله قلبه، لقد رأيته بين أبويه يغذونه بأطيب الطعام والشراب فدعاه حب الله وحب رسوله إلى ما ترون)(1).

الثانية: المعرفة بالله تعالى، فإنه لا حب إلا بعد المعرفة، ولا يحب الإنسان شيئاً يجهله؛ ويكرر القرآن الكريم كثيراً الأمر بالتدبر والتأمل والتفكر في آيات الله للوصول إلى المعرفة، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت:53).

وتفاوت الناس في حبهم لله تبارك وتعالى بمقدار تفاوتهم في هاتين المقدمتين، وتبعاً لذلك تتفاوت درجاتهم عند الله تبارك وتعالى.

آثار حب الإنسان لله تعالى وعلاماته:

إذا كان الحب صادقاً فإن آثاره ستظهر على سلوك الإنسان وعلاقته بالآخرين، فهذه الآثار تكون علامات على صدق الحب، ومن دون تحققها يكون ادعاء الحب وهماً:

ص: 364


1- المحجة البيضاء، كتاب مقامات القلب: 114.

1-طاعة المحبوب والقيام بكل ما يقربه من محبوبه ويطبّق ما يكسبه رضاه ويجتنب ما يسخطه، ففي الحديث: (قال رجل للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): يا رسول الله علّمني شيئاً إذا أنا فعلته أحبني الله من السماء وأحبني الناس من الأرض، فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) له: ارغب فيما عند الله عز وجل يحبّك الله، وازهد فيما عند الناس يحبّك الناس)(1) قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (آل عمران:31)، قال الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (ما أحب اللهَ عز وجل من عصاه، ثم تمثّل فقال:

تعصي الإله وأنت تُظهرُ حبّ-هُ***هذا لعمري في الفعال بديعُ

لو كان حبّ-ك صادقاً لأطعتَه***إن المحب لمن أحبَّ مطيعُ (2)

ولا يجتنب المحرمات فقط بل يترك المكروهات لأن الله تعالى لا يحبها.

2-إدامة ذكر الله تبارك وتعالى، فإن المحب لا يغفل عن ذكر حبيبه ومن أحب شيئاً أكثر ذكره بلسانه أو بقلبه وعقله وأحبّ ذكر الله تعالى، عن الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (علامة حب الله تعالى حب ذكر الله، وعلامة بغض الله تعالى بغض ذكر الله تعالى)(3)، ودوام ذكر الله تعالى حصن الإنسان من الوقوع فيما يسخط الله تعالى ويبعد منه ومفتاح الارتقاء في الكمالات وسبب لذكر الله تعالى إياه {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} (البقرة: 152).0.

ص: 365


1- بحار الأنوار: 70/ 5 عن ثواب الأعمال والخصال.
2- بحار الأنوار: 70/ 15 عن أمالي الصدوق.
3- ميزان الحكمة: 1/ 510.

3-إيثار محبة الله على ما يحبه العبد، فإذا خُيِّر بين أمرين اختار أرضاهما لله تبارك وتعالى وإن كان على خلاف هواه وما تشتهيه نفسه، لأن المحب يؤثر رضا محبوبه على رضا نفسه ففي البحار عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (دليل الحب، إيثار المحبوب على من سواه).

4-إنه سيحب كل من يرتبط بمحبوبه فيحب الأنبياء والرسل (صلوات الله عليهم أجمعين) لأنهم مبعوثون من الله تبارك وتعالى، ويحب الأئمة والأوصياء (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لأنهم منتجبون من الله تبارك وتعالى، ويحب القرآن لأنه رسالة ربه إلى عباده، عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للناس وهم مجتمعون عنده: أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمة وأحبوني لله عز وجل وأحبوا قرابتي لي)(1) ويحب العلماء والفقهاء لأنهم يهدونه إلى الله تبارك وتعالى، ويحب الشعائر والمشاعر المقدسة لأنها تذكّره بالله تعالى، ويحب المؤمنين لأنهم أهل طاعة الله تعالى، عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إذا أردت أن تعلم أن فيك خيراً فانظر إلى قلبك فإن كان يحب أهل طاعة الله عز وجل ويبغض أهل معصيته ففيك خير والله يحبك، وإن كان يبغض أهل طاعة الله ويحب أهل معصيته فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع من أحب).

5-وإذا أحبَّ العبدُ ربَّه نشطت الأعضاء للعبادة ولم يستثقلها واستزاد منها فلم يقتصر على الواجبات، بل يكثر من المستحبات لأنها محبوبه عند الله تعالى، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (كان فيما ناجى الله عز وجل به موسىق.

ص: 366


1- بحار الأنوار: 70/ 16 عن علل الشرائع والأمالي للصدوق.

بن عمران (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن قال: يا بن عمران كذب من زعم أنه يحبني فإذا جنه الليل نام، أليس كل محب يحب خلوة حبيبه، هذا أنا ذا يا بن عمران مطلع على أحبائي إذا جنّهم الليل حوّلت أبصارهم من قلوبهم ومثلت عقوبتي بين أعينهم، يخاطبوني عن المشاهدة، ويكلموني عن الحضور، يا بن عمران هب لي من قلبك الخشوع ومن بدنك الخضوع ومن عينيك الدموع في ظلم الليل وادعني فإنك تجدني قريباً مجيباً)(1).6-ومن علامات حب الله تعالى أن العبد لا يكره الموت قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (الجمعة:6) في الرد على زعمهم {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} (المائدة:18)، وكيف يكرهه وبه ينتقل الإنسان من سجن الدنيا إلى حظيرة القدس ولقاء ربه وأوليائه (وإذا علم أنه لا وصول إلى هذا اللقاء إلا بالارتحال عن الدنيا بالموت، فينبغي أن يكون محباً للموت غير فارٍ منه، فالمحب لا يثقل عليه السفر عن وطنه إلى مستقر محبوبه ليتنعم بمشاهدته. والموت مفتاح اللقاء وباب الدخول إلى المشاهدة قال النبي الأكرم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه))(2).

نعم قد يحب الإنسان البقاء في الدنيا للاستزادة من طاعة الله تبارك وتعالىب.

ص: 367


1- بحار الأنوار: 70/ 14 عن أمالي الصدوق.
2- المحجة البيضاء للفيض الكاشاني، كتاب مقامات القلب.

ونيل رضاه وهذا لا ينافي الحب ((وفي الخبر المشهور أن إبراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال لملك الموت إذ جاءه لقبض روحه: هل رأيت خليلاً يميت خليله؟ فأوحى الله تعالى إليه: هل رأيت محباً يكره لقاء حبيبه، فقال: يا ملك الموت الآن فاقبض))(1).7-ومن علامات حب الله تعالى وآثاره أنه يسعى للاتصاف بصفاته الحسنى، فالمحب يتمثل في حياته كل حركات وسكنات بل رغبات محبوبه، كما نجد من يحب عالماً أو بطلاً فيقلّده في ملبسه ومشيته ومطعمه وحركاته ونحوها، فالعبد إذا أحب ربه اتصف بصفاته الحسنى.

8-ومن علامات حبّ الله تعالى حبّ عباده ومخلوقاته والرحمة بهم والشفقة عليهم لأنهم من صنع ربه وإبداعه ولأنهم رعاياه فيسعى لإسعادهم وقضاء حوائجهم وتفريج كربهم ورفع الظلم عنهم. فالذي يقابل حاجة الناس ومعاناتهم بقسوة قلب وعدم اكتراث لا يحلّ في قلبه حبّ الله تعالى.

9-ومن علامات حب الله تعالى الرضا بقضائه والتسليم لأمره روي (إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مرّ بقومٍ فقال لهم: ما أنتم؟ فقالوا: مؤمنون. فقال: ما علامة إيمانكم؟ قالوا: نصبر على البلاء ونشكر عند الرخاء ونرضى بمواقع القضاء، فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): مؤمنون برب الكعبة)(2) وقال أيضاً: (إذا كان يوم القيامة أنبت الله لطائفة من أمتي أجنحة فيطيرون من قبورهم إلى الجنان يسرحون فيها ويتنعمون كيف شاؤوا فتقول لهم الملائكة: هل رأيتم حساباً؟ فيقولون: ما9.

ص: 368


1- مجموعة ورام: 1/ 223.
2- مجموعة ورام: 1/ 229.

رأينا حساباً، فيقولون: هل جزتم على الصراط؟ فيقولون: ما رأينا صراطاً، فيقولون لهم: هل رأيتم جهنم؟ فيقولون: ما رأينا شيئاً، فتقول الملائكة: من أمة من أنتم؟ فيقولون: من أمة محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فيقولون: نشدناكم الله حدثونا ما كانت أعمالكم في الدنيا فيقولون: خصلتان كانتا فينا فبلّغنا الله هذه المنزلة بفضله ورحمته، فيقولون: وما هما؟ فيقولون: كنا إذا خلونا نستحي أن نعصيه ونرضى باليسير مما قسم لنا، فتقول الملائكة: يحق لكم هذا)(1).10-وأن يكون الحب ممزوجاً بالخوف من الإعراض أو الإبعاد أو أن يستبدل به غيره، يروى أن الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إذا أحرم ولبى وقال: (لبيك اللهم لبيك) كانت ترتعد فرائصه ويقول: أخشى أن يجيبني الله تبارك وتعالى: لا لبيك). وقد يكون الخوف من التوقف وعدم التوفيق لمزيد القرب من الله تعالى فيكون من أهل الحديث: (من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان يومه شراً من أمسه فهو ملعون)(2).

جزاء من يحب الله تبارك وتعالى:

1-إذا أحب العبد ربه أحبه وقرّبه منه وأدخله جنته قال تعالى: {يُحِبَّهُم وَيُحِبُّونَهُ}، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (من أحب أن يعلم ماله عند الله فلينظر ما لله عنده)(3) ويشرح الحديث الآخر كيفية معرفة ذلك عن أمير

ص: 369


1- مجموعة ورام: 1/ 230.
2- معاني الأخبار للصدوق: 242.
3- الحديث وما بعده في بحار الأنوار: 70/ 18 عن معاني الأخبار والخصال.

المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (من أراد منكم أن يعلم كيف منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله منه عند الذنوب كذلك منزلته عند الله تبارك وتعالى)، وفي حديث آخر عن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (من أحب أن يعلم كيف منزلته عند الله فلينظر كيف منزلته عنده فإن كل من خيِّر له أمران أمر الدنيا وأمر الآخرة فاختار أمر الآخرة على الدنيا فذلك الذي يحب الله ومن اختار الدنيا فذلك الذي لا منزلة لله عنده)(1).وروي في أخبار داود (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (يا داود أبلغ أهل أرضي أني حبيب من أحبني، ما أحبني أحد أعلم ذلك يقيناً من قلبه إلا قبلته لنفسي وأحببته حباً لا يتقدمه أحد من خلقي، من طلبني بالحق وجدني ومن طلب غيري لم يجدني، فارفضوا يا أهل الأرض ما أنتم عليه من غرورها وهلموا إلى كرامتي ومصاحبتي ومجالستي ومؤانستي وآنسوني أؤانسكم وأسارع إلى محبتكم)(2).

2-وإذا أحب الله عبده: وفقه لطاعته وجنّبه معصيته، روي أن موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (يا رب أخبرني عن آية رضاك عن عبدك فأوحى الله تعالى إليه: إذا رأيتني أهيئ عبدي لطاعتي وأصرفه عن معصيتي فذلك آية رضاي)، وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إذا أحب الله عبداً ألهمه طاعته). وفي حديث آخر (إذا أحبّ الله عبداً جعل له واعظاً من نفسه وزاجراً من قلبه يأمره وينهاه).

3-وإذا أحب الله عبده: تولى أمره وتدبير شؤونه، ونصره على أعدائه، وأولهم6.

ص: 370


1- بحار الأنوار: 70/ 26.
2- الحديث والذي يليه في بحار الأنوار: 70/ 26.

نفسه التي بين جنبيه فلا يخذله ولا يكله إلى نفسه وشهواته، وفي الحديث عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (عن جبرئيل قال: قال الله تبارك وتعالى: وإن من عبادي المؤمنين لمن يريد الباب من العبادة فأكفّه عنه لئلا يدخله عجب فيفسده، وإن من عبادي المؤمنين لمن لم يصلح إيمانه إلا بالفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا بالغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك)(1) إلى آخر الحديث.4-وإذا أحب الله عبده: كان دليله وسدد خطاه وأنار بصيرته وما أحوجنا إلى دليل يسدّدنا ويميّز بين الحقّ والباطل ويبصّرنا بحقائق الأمور، في الحديث النبوي المتقدم: قال الله تبارك وتعالى: (وما يتقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يبتهل إليّ حتى أحبه، ومن أحببته كنت له سمعاً وبصراً ويداً وموئلاً إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته)(2).

5-وإذا أحبّ الله عبداً حشره مع من أحب، جاء إعرابي إلى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): ماذا أعددت لها؟ فقال: ما أعددت كثير صلاة ولا صيام إلا أنّي أحب الله ورسوله، فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): المرء مع من أحب. قال: فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بذلك)(3).3.

ص: 371


1- علل الشرائع: 12 الباب 9، ح7.
2- وفي المحاسن: (كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها) (بحار الأنوار: 70/ 22).
3- مجموعة ورام: 1/ 223.

ما يحببكم إلى الله تعالى:

من خلال استقراء الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة تحصل على قائمة طويلة بما يحببك إلى الله تعالى، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (البقرة: 222) وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (الصف:4).

ومن الأحاديث الشريفة(1) عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (ثلاثة يحبها الله سبحانه: القيام بحقه، والتواضع لخلقه والإحسان لعباده) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (ثلاثة يحبها الله: قلة الكلام، وقلة المنام، وقلة الطعام، ثلاثة يبغضها الله: كثرة الكلام، وكثرة المنام، وكثرة الطعام) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (يقول الله تعالى: إنّ أحبَّ العباد إلي المتحابون بحلالي المتعلقة قلوبهم بالمساجد المستغفرون بالأسحار، أولئك إذا أردت بأهل الأرض عقوبة ذكرتهم فصرفت العقوبة عنهم).

وعن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (أحب العباد إلى الله عز وجل رجل صدوق في حديثه محافظ على صلواته وما افترض الله عليه مع أدائه للأمانة) وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (أحب المؤمنين إلى الله من نصب نفسه في طاعة الله ونصح لأمة نبيه وتفكّر في عيوبه وأبصر وعقل وعمل) وعن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (ما عبد الله بشيء أحب إلى الله عز وجل من إدخال السرور على المؤمن) وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (ألا وإن أحب المؤمنين إلى الله من أعان المؤمن الفقير من الفقر في دنياه ومعاشه ومن أعان ونفع ودفع المكروه عن المؤمنين)، وعن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن رسول الله

ص: 372


1- هذه الأحاديث نقلت من بحار الأنوار ومجموعة ورام.

(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (ما بني بناء في الإسلام أحب إلى الله عز وجل من التزويج)(1).

أوثق عُرى الإيمان:

أيها الأحبة:

إن الله تبارك وتعالى يحبُّكم لأنه خالقكم وصانعكم وأبدع في صنعكم وجعلكم في أحسن تقويم وكرّمكم وفضلكم على كثير ممن خلق وسخّر لكم ما في الأرض جميعاً ويباهي بكم ويتحدى بكم من اتخذوهم أرباباً من دونه وأنداداً له {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (لقمان:11) يروى أن أبا تمام الشاعر المشهور يقول إن كل بيت من شعري عندي كابني، أقول: هذا وهو بيت من الشعر مهما كان بديعاً، فما هو محل هذا الكائن العجيب عند خالقه ومبدعه.

أتحسب أنّك جرمٌ صغير***وفيك انطوى العالم الأكبر

فأحبوا الله تبارك وتعالى وحببوه إلى عباده وأحبوا عباد الله ومخلوقاته، واجعلوا دليلكم في من تحبون ومن تبغضون حب الله لهم وبغضه إياهم، في الكافي عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (مِن أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله وتعطي في الله وتمنع في الله)(2) وفي المحاسن عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع له فهو ممن كمل إيمانه).

ص: 373


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، باب استحبابه، ح4.
2- الحديث والذي يليه في بحار الأنوار: 69/ 238-239.

ملحق: الدين هو الحب، والحب هو الدين

الحب معنى شريف نبيل اودعه الله تبارك وتعالى في قلوب الناس ليجعل لحياتهم طعما جميلا ممتعا، فان الحياة بلا حب كصحراء جرداء قاحلة مخيفة، اما الحب فيحوّلها الى واحة خضراء مؤنسة، والحب يعطي للحياة معنى وجدوى لأنه يولّد عند الانسان املا وغرضا وهدفا يحيى ليحققه وهو الوصول الى محبوبه، سواء كان هذا المحبوب امرا معنوياً كالقرب من الله تعالى ورسوله الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والائمة الطاهرين (سلام الله عليهم)، او ماديا كالمال او الشهرة او السلطة او الاتصال بالجنس الاخر، ولولا هذا الامل لأصبحت الحياة بلا هدف ولا معنى مما يؤدي الى الشعور بالاحباط واليأس والموت، وقد قلت في بعض كلماتي ان من فوائد جعل رواتب للمتقاعدين والمسنين والعاجزين هو ايجاد هدف وغاية يحبونها ويعيشون على امل الحصول عليها وهو قبض الراتب فيملؤون حياتهم بِعدّ الايام والساعات لبلوغ ذلك الموعد.

فالحب اذا نعمة الهية عظيمة، وقد نسب الله تعالى وجوده في قلب الانسان اليه تبارك وتعالى كما في العلاقة الزوجية {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم:21) او بين الاخوة المتحابين في الله تعالى {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال : 63) بالحب تعمر الحياة لان الانسان اذا لم يحب شيئا فانه لا يتحمس لفعله والتحرك باتجاهه، اما اذا احبَّ فانه يضحي من اجل حبه ويذوب في محبوبه كالوالدين بالنسبة لأبنائهما، او القائد الرسالي بالنسبة الى شعبه،

ص: 374

وهكذا، لذا ليس غريباً أن نجد في الحديث الشريف عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الدين هو الحب، والحب هو الدين) (1) وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (هل الدين الا الحب؟ إن الله عز وجل يقول {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} (آل عمران:31) لأن الدين محرّك ودافع لكل عمل مثمر يجلب الخير والسعادة له وللآخرين، والحب هكذا أيضا فهما يلتقيان دائما.لكن المشكلة في تحريف هذا العنوان الشريف النبيل وإفراغه من محتواه بل تحويله الى عكس معناه ككثير من المصطلحات والعناوين التي تناولناها في كلمات عديدة كالحرية والاستعمار والسياسة، فاصبح الحب يعني العلاقات المشبوهة بين الجنسين واتباع الشهوات والنزوات بلا تعقل وروية وخارج اطارها الصحيح مما يولّد مشاكل اجتماعية وآثار نفسية تكون عاقبتها وخيمة وان بدت في اوّلها كأنها سعادة ومتعة، ويوجد من يغذّي هذا المعنى السيء للحب بين الشباب وخصوصا في الجامعات ويهيؤون البيئة المناسبة له، ويمجّدون من يقع فيه لاستدراج الآخرين وكسر الحواجز الاخلاقية والاجتماعية والنفسية والدينية، وتنتج دور السينما والتلفزيون والمسرح سيلا متواصلا من الافلام والمسلسلات لتحقيق هذا الغرض وتساندهم وسائل الاعلام المختلفة وهذا كله انحراف عن الفطرة السليمة وخروج عن الروابط الاجتماعية المتينة وتحطيم للأطر الصحيحة التي تنظم العلاقة بين الجنسين، وهذا تشويه لمعنى الحب ومصادرة له وتحويله الى معنى سيء، وهو ليس حبا اصلاً ولا يمكن تسميته بالحب بل هو اتباع98

ص: 375


1- راجع مصادر هذه الاحاديث في ميزان الحكمة:- 2/ 198

للنزوات والشهوات الحيوانية التي لا يمكن اعطاء عنوان الحب لها.ان الحب الانساني الحقيقي هو ما يتعلق بمن يستحق الحب وهو الله تبارك وتعالى، لان كل ما يوجب المحبة متحقق فيه سبحانه، فالله تعالى جميل ويعرف ذلك من لمساته الجميلة على الكون وما فيه من حولنا، والقلب يحب الجمال والله تعالى محسن الينا وقد تولاّنا بإحسانه ونعمه قبل ان نكون وبعد ان كنّا، والانسان مجبول على حب من احسن اليه، والله تعالى يحبنا ويشفق علينا حتى جعل من احبّ الاشياء اليه تعالى الاحسان الى المخلوقين، عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (الخلق عيال الله، فاحبّ الخلق الى الله من نفع عيال الله، وادخل على اهل بيت سروراً) (1)، ومقتضى المقابلة ان نبادله تعالى الحب وقد اثنى تعالى على قوم يبادلونه هذا الحب {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة: 54) وهكذا فان كل مقومات الحب متوفرة فيه تعالى.

ويتفرع عن حبّه تعالى حب من يرتبط به ومن امرنا بحبّه كرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والائمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) والاخوة المؤمنين عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (افضل الاعمال الحب في الله والبغض في الله تعالى).

وكذلك فان حب الابوين والزوجة والاولاد داخل في هذا الاطار وهو مبارك من الله تعالى ويثيب عليه لأنه مما ينسجم مع الفطرة، لكنه متى خالف ما يحبّه الله تعالى وخرج عن تعاليمه فهو مذموم ويجب رفضه ونبذه {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌح6

ص: 376


1- الكافي: 1/ 164 ح6

تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة:24).ولكي يكون الحب صادقا فلا بد ان تظهر اثاره على المحب من التملق للمحبوب والحرص على ارضائه والمسارعة الى تحقيق مراده فالحب لله تعالى لا بد ان يقترن بطاعته تبارك وتعالى وطاعة رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والابتعاد عن معصيته قال تعالى {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران31)

تعصي الاله وانت تزعم حبَّه***هذا لعمري في الفعال شنيع

لو كان حبّك صادقا لأطعته***ان المحب لمن احبَّ مطيعُ

ولا بد ان ي-ُبنى الحب على المعرفة ليكون راسخاً، لان المجهول لا يمكن أن تتعلق به المحبّة، ولو تعلّقت فلا تدوم، فعلينا أن نزداد معرفة بالله تعالى لنزداد حباً، ومن دون النظر بعين المعرفة والبصيرة فإننا لا ندرك معنى حب الله تعالى ولا نستطيع فهم حب عابس الشاكري للإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بذلك الشكل الذي اذهل الأعداء والأصدقاء على حدٍ سواء، يُحكى أن قيس المجنون بحبِّ ليلى قيل له أن ليلى ليست بذاك الجمال الذي يُصيب بالجنون وتهيم في الصحراء شوقاً الى لقائها، قال قيس: ذلك لأنكم نظرتم الى ليلى بعيونكم وليس بعيني، فإذا لم ننظر الى هذه الحقائق المعنوية بعين المعرفة والبصيرة فإننا لا ندركها.

نضع هذه الحقائق أمام من يريدون الاحتفال بعيد الحب ليصححوا نظرتهم للامور، وكجزء من عملية التصحيح يمكن اختيار يوم مناسب لهذه المعاني

ص: 377

ليكون عيداً للحب كالأول من ذي الحجة يوم أقدس علاقة حب شريفة في التاريخ وهو زواج أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) ومثلها علاقة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بام المؤمنين خديجة (علیها السلام) ونحو ذلك من المناسبات.

ص: 378

القبس /33: سورة المائدة:63

اشارة

{لَولَا يَنهَىهُمُ ٱلرَّبَّنِيُّونَ وَٱلأَحبَارُ عَن قَولِهِمُ ٱلإِثمَ وَأَكلِهِمُ ٱلسُّحتَ ۚ لَبِئسَ مَا كَانُواْ يَصنَعُونَ}

وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر قرآنياً/3

في الآية الكريمة توبيخ وتقريع للربانيين والأحبار لتركهم فريضة النهي عن المنكر، وكذا لتركهم الأمر بالمعروف المستفاد بالاقتران بين الفريضتين(1) وتصف تخليهم عن وظيفتهم ببئس الصنيع.

والربانيون نسبة إلى الرب سبحانه وتعالى، ويمكن أن يراد بهم ما نسميهم في عرفنا (المتدينين) وهم الذين يغلب عليهم الالتزام بالشريعة فنسبوا إلى صاحب الشريعة سواء كانوا من العلماء أو غيرهم، أو يراد بهم واجهة المؤسسة الدينية والقائمون بالوظائف الدينية كأئمة المساجد وخطباء المنابر والجمعة وسدنة العتبات المقدسة، أما الأحبار فهم العلماء وحملة العلم سواء كانوا صالحين أو فاسقين.

وذكر قول الإثم وأكل السحت من دون المنكرات لا يخصص الآية بها لعدم الخصوصية ولدلالة آيات أخرى على العموم كقوله تعالى: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} (المائدة:79)، وإنما ذكر قول الإثم وأكل السحت خاصة

ص: 379


1- بحث مفصلاً في البحوث التمهيدية في الجزء الأول من كتاب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

لأنهما المذكورات في الآية السابقة {وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (المائدة:62)، ولأنهما أصل المعاصي المتفشية في المجتمع. فقول الإثم يتضمن الغيبة والنميمة والكذب والافتراء والبهتان وإيذاء الآخرين والتضليل وترويج الشبهات وتحريف الكلم عن مواضعه والتغرير بالآخرين والتدليس عليهم وغيرها كثير.أما أكل السحت فيشمل موبقات كثيرة كالفوائد الربوية والرشوة في القضاء وسرقة أموال الشعب وأخذ الأثمان على إلقاء الأحكام بغير ما أنزل الله تعالى، وشرعنة عمل الظالمين، والتطفيف في الميزان وبيع المحرمات وأكل المال بالباطل والظلم ونحوها كثير.

فالآية تدعو إلى العمل بهذه الفريضة وتذم تاركها بأشد الذم، وهي عامة في دلالتها لكل المنتسبين إلى الشريعة، ولو قلنا بأن خطابها خاص لشريحة العلماء والمتدينين، فإن ذلك لا ينافي عموم الوجوب، وإنما خصَّت هؤلاء لأن الوجوب عليهم أأكد والامتثال متوقع منهم أكثر من غيرهم لمعرفتهم بعظمة هذه الفريضة وشدة وجوبها وسوء عاقبة تركها، كما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لنحملن ذنوب سفهائكم على علمائكم)(1).

ولا يرد هنا إشكال اجتماع وجوبين على موضوع واحد باعتبار الوجوب العام للفريضة الشامل للأحبار والربانيين، وهذا الوجوب الخاص المستفاد من الآية، لأن هذا الخطاب فيه مزيد تأكيد على هؤلاء الخاصة وتذكير بمسؤوليتهم المضاعفة3.

ص: 380


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب 7، ح3.

عن الفريضة، مضافاً إلى نقاشنا في أصل الكبرى فإننا لا نمنع منها كما تقدم(1).قال العلامة الطبرسي: ((فذمَّ هؤلاء - أي الربانيين والأحبار- بمثل اللفظة التي ذمَّ بها أولئك(2)، وفي هذه الآية دلالة على أن تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه وفيه وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر))(3).

قال في ظلال القرآن: ((إن سمة المجتمع الخيّر الفاضل الحي القوي المتماسك أن يسود فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. أن يوجد فيه من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ وأن يوجد فيه من يستمع إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وأن يكون عرف المجتمع من القوة بحيث لا يجرؤ المنحرفون فيه على التنكر لهذا الأمر والنهي، ولا على إيذاء الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر.

هكذا وصف الله الأمة فقال: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}(آل عمران: 110), ووصف بني إسرائيل فقال: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ}(الأحزاب: 79). فكان ذلك فيصلاً بين المجتمعين وبين الجماعتين.

أما هنا فينحى باللائمة على الربانيين والأحبار، الساكتين على المسارعة في الإثم والعدوان وأكل السحت؛ الذين لا يقومون بحق ما استحفظوا عليه من كتاب6.

ص: 381


1- انظر: أسمى الفرائض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، القسم الأول: ص92.
2- يقصد قوله تعالى: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} في هذه الآية وقوله تعالى: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} في الآية السابقة.
3- مجمع البيان: مج 2: 336.

الله))(1).أقول: ينبغي الالتفات إلى أن مطلوبية هذه الوظيفة من الربانيين وعلماء الدين لا تعني أن يتركوا كل أعمالهم ومسؤولياتهم وواجباتهم ويتفرغوا لأمر هذا ونهي ذاك ويترصدوا كل منكر لينهوا عنه ويراقبون أفعال الناس ويتجسسون عليهم ليأمروهم وينهوهم، فهذه سيرة غير عقلائية ولا متشرعية، وإنما عليهم أن يكونوا متصفين بهذه الصفة ويكون ديدنهم ذلك ويمتلكون حاسة الغضب لله تعالى إذا عُصي، ولا يترددون في الامتثال عند تنجّز التكليف.

((ثم إن قوله سبحانه: {يَفعَلُونَ} إما مجاز؛ لأن الترك ليس فعلاً –على قول المشهور-، وإما حقيقة، ويراد بالفعل الذي أوجب تركهم الأمر والنهي، وذلك عبارة عن تكالبهم على الدنيا وأخذهم الرشوة على سكوتهم والأول أقرب سياقاً والثاني أقرب والله العالم))(2).

أقول: ليس في التعبير مجاز، وإنما هو على نحو الحقيقة؛ لأن الترك يصدق عليه فعل إذا اقترن بالقصد، كالصوم الذي هو كفٌّ عن المفطرات مقترناً بنية القربة إلى الله تعالى. مضافاً إلى أن التقريب الذي ذكره للاستعمال على نحو الحقيقة مقبول، ومراد من الشارع المقدس، وهو الالتفات إلى علل الأفعال قبل نفس الأعمال والعلاج لا بد أن يتناول العلل، وقد نبّهنا على ذلك في خطابات متعددة.4.

ص: 382


1- في ظلال القرآن: مج 2/ 790.
2- الفقه: 48/ 164.

القبس /34: سورة المائدة:67

اشارة

{يَأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغ مَا أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}

يوم الغدير عيد الله الأعظم

كل آيات القرآن عظيمة وجليلة، وهذه الآية من أعظم الآيات القرآنية وأجلها قدراً لأنها أسست لمستقبل الإسلام بعد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وخلوده وحفظته وصانته من الانحراف والتشويه في أهم منعطف ومفصل تاريخي بوفاة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وغياب شخصه عن مسرح الحياة.

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} أمر متوجه إلى الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وخوطب بهذا العنوان بصفته حامل رسالة إلهية عظيمة مهيمنة على كل الأديان وقيّمة عليها وخالدة تنظم شؤون الحياة لكل البشرية مدى الأجيال، ولأنه رسول فأنه لا يملك الا تبليغ الرسالة كما يريد المُرسل {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} (النور:54).

{بَلِّغْ} أي أوصل الرسالة بوضوح وحسم وهو تعبير أقوى من (أبلغ) ولا يتحقق التبليغ الا بأمرين: كون البيان واضحاً معبراً عن المطلوب بدقة، وكونه معلناً صريحاً وحاسماً ومشهوراً للناس.

ص: 383

{مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} ولم يذكره صريحاً تعظيماً له وللإشارة إلى أنه منزّل إليك من الله تعالى وليس لك أي يد فيه حتى لا يتهم بمحاباة أو مصلحة شخصية وغير ذلك، ولأنه منزل إليك فليس لك خيار إلاّ تبليغه. وهذا الأمر المراد تبليغه لا يراد به كل ما انزل إليك -- كما قال بعض العامة -- لأن الجملة تصبح لغواً وتحصيل حاصل مع الجملة التالية وتصبح كالتالي ((وإن لم تبلّغ ما انزل اليك فما بلّغت ما انزل اليك)).

وليس هو قضية التوحيد أو النبوة أو البعث يوم القيامة ونحو ذلك من العقائد الحقة لأن هذه كلها بلّغها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) منذ بداية البعثة من دون تردد فلا تحتاج إلى التطمين التالي {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}.

وليس هذا الأمر من قبيل الأحكام الشرعية لأنها بُلّغت كلها تدريجياً بحسب نزول الآيات الآمرة بها.

وإنما هو أمر محدد أنزله الله تعالى إليك في آيات سابقة وبوحي متكرر في مناسبات متعددة لتبلّغه ولكنه لم يكن حاسماً قاطعاً كما يراد تبليغه الآن، وهو أمرٌ مهم وخطير بحيث أنه يعدل الرسالة كلها، وإن لم يبلّغه فكأنه لم يبلغ الرسالة كلها كما أفاد الجزء التالي من الآية.

{مِن رَّبِّكَ} اختار الرب دون الأسماء الحسنى وإضافه إليه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لإظهار مزيد من الرحمة والحنو على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بأن هذا الأمر أنزله ربك الذي ربّاك وتكفل بك وحماك ونصرك وأعلى شأنك فلتطب نفسك وليطمئن قلبك.

ص: 384

{وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} جملة لم يرد مثلها في القرآن الكريم وتعزّز التأكيدات المتكررة على تبليغ هذا الأمر، وظاهرها التهديد الا ان هذا المعنى غير وارد لأن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لا يحتمل فيه عدم التبليغ حتى يذكر جزاؤه، وقد قال تعالى {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام:124) فالآية في حقيقتها تعبير عن أهمية القضية بحيث ان اهمالها يعني التفريط بكل الرسالة وكأنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم يفعل شيئاً خلال مدة الدعوة التي تجاوزت عشرين عاماً. وكان يُشقّ على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تبليغ هذا الأمر لأنه كما يظهر من الآية يتعلق ب- ((حكم نازل، فيه شوب انتفاع للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) واختصاصه بمزية حيوية مطلوبة لغيره أيضاً يوجب تبليغه والعمل به حرمان الناس عنه، فكان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يخاف إظهاره فأمره الله بتبليغه وشدَّد فيه، ووعده العصمة من الناس وعدم هدايتهم في كيدهم إن كادوا فيه)).

{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ليس المقصود بالناس اليهود وأمثالهم لأنهم قد قضي عليهم قبل ذلك بسنين ولم تبق لهم باقية، ولا يراد بهم المشركون لأن شوكتهم كسرت بفتح مكة ودخلوا في الإسلام طوعاً أو كرهاً، وإنما المراد بهم جماعة من أصحاب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان يتوقع منهم التمرد والعصيان والانشقاق.

ولأن هذا الأمر يعرّضه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للاتهام بأنه يبتغي به مصلحة شخصية أو محاباة(1) وقد بلّغ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أحكاماً فيها ما يفسَّر على أنه مصلحة شخصية لهم.

ص: 385


1- روى الحسكاني في شواهد التنزيل (عن ابن عباس وجابر قالا: أمر الله محمداً (صلى الله عليه وآله) أن ينصب علياً للناس ليخبرهم بولايته، فتخوف رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يقولوا حابى ابن عمه، وأن يطعنوا في ذلك عليه، فأوحى الله إليه (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ) الخ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) بولايته يوم غدير الخم). وروى عن زياد بن المنذر عن أبي جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) إلى أن قال (إن جبرئيل هبط إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: ان الله يأمرك أن تدلَّ أمتك على وليّهم على مثل ما دللتهم عليه من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم وحجهم ليلزمهم الحجة من جميع ذلك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا ربِّ ان قومي قريبوا عهد بالجاهلية وفيهم تنافس وفخر، وما منهم رجل الا وقد وتره وليّهم، وإني أخاف -- أي من تكذيبهم -- فأنزل الله تعالى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ). (شواهد التنزيل: 1/ 191-192 وراجع تفسير الآية في أسباب النزول للواحدي ونزول القرآن لأبي نعيم.

كتزوجّه بأكثر من أربعة ولم يكن فيها حزازة ولا تردد لأنها لا تتعارض مع مصالحهم، لكن هذا الأمر المقصود بالآية من نوع خاص، لأنه يمسّ مصلحة مهمة لهم ويهدم طموحاً مُلحّاً ينتظرون تحقيقه وهو خطر عظيم قد يؤدي إلى إنهيار الكيان الإسلامي فأحبَّ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تأجيل تبليغه إلى وقت الضرورة لأنه يتعلق بما بعد وفاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ). وهذا التحليل العقلائي المستفاد من ظاهر الآية الكريمة وتسلسل فقراتها ينسجم مع ما ورد في مصادر العامة والخاصة من نزولها في التبليغ بولاية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الأمر بعد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقد نزلت فيه منذ بداية الدعوة الإسلامية آيات كثيرة كقوله تعالى {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء:214) فجمع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بني هاشم وأنذرهم ثم أخبرهم بأن علياً وزيره وخليفته. وتوالت الاخبارات حتى آية الولاية {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (المائدة:55) لكنها لم تصل إلى درجة التبليغ القاطع الحاسم وإقامة احتفال التنصيب الرسمي كما يقال،

ص: 386

خشية أن يتهموه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في ابن عمه. ولما علم الله تعالى أن أجله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قريب أمر بإنجاز الأمر فوراً وقد أشار (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلى ذلك فأنه قال قبل تبليغ الأمر (أيها الناس يوشك أن أقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي...).وهذه القضية المهمة التي جعل تبليغها يعادل تبليغ الرسالة كلها هي تعيين القيادة المعصومة التي تخلف النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتواصل حمل رسالة الإسلام وصيانتها ونشرها لتستمر في أداء دورها، أي نقل ارتباط الرسالة من الحامل الشخصي وهو النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلى الحامل النوعي لها الذي يتصف بصفات الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعلى رأسها العصمة والعلم وهو أمير المؤمنين ومن بعده الأئمة الطاهرون من بنيه (صلوات الله عليهم أجمعين) فان دوام الرسالة وحفظها يتحقق بوجود المؤهّل لحملها والا تموت الرسالة بموت حاملها كما حصل في شرائع الأنبياء السابقين حيث بقيت عرضة للتلاعب والتزوير وقد شرحنا ذلك في بحث مستقل(1).

وان مصدر قلقه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) علمه بأن قوماً من أصحابه كانوا يتطلّعون للسلطة من بعده وينتظرون موته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ليمسكوا بزمامها مدعومين بقطاع واسع ممن اسلموا كرهاً وانصياعاً للواقع أو طمعاً في أن يكون لهم شيء في دولة الرسول الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) خصوصاً من قريش، وهذا ما ورد على لسان عمر بن الخطاب في أكثر من محاورة مع ابن عباس وفي أحداها قال يا بن عباس! أتدري ما منع قومكم منه بعد محمد؟ فكرهتُ أن أجيبه، فقلت: إن لم أكن أدري فأمير المؤمنين يدريني،ه)

ص: 387


1- سيأتي بعنوان (كيف خطّط رسول الله (صلى الله عليه وآله) للخلافة من بعده)

فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة فتبجحوا على قومكم بجحاً بجحاً، فاختارت قريش لأنفسها ووفقت))(1) وهذا يعني ان قريشاً كانت تجتمع وتناقش كيفية الاستيلاء على السلطة بعد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وفق مصالحها هي وليس مصلحة الإسلام، وقد عزمت على انتزاع الأمر من علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ). وهذا ما كشف عنه أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) واشتكى منه لاحقاً بقوله (اللهم إني أستعديك على قريش ومن أعانهم فإنهم قد قطعوا رحمي وأكفئوا إنائي وأجمعوا على منازعتي حقا كنت أولى به من غيري)(2).

وهؤلاء هم من كان يخشى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من فتنتهم وتقليبهم الأمور لو نصّب علياً خليفة من بعده، وكثير منهم ينظر إلى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على أنه ملك وزعيم نجح في بسط سلطانه كأبي سفيان في كلمته التي قالها عندما بويع لابن عمه عثمان بالخلافة (تلاقفوها يا بني أمية تلاقف الكرة بيد الصبيان فوالذي يحلف به أبو سفيان فلا جنة ولا نار ولا معاد)(3) وأكّد بها قوله السابق حينما رأس جيش رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على مشارف مكة وقد اضاؤوا النيران فقال للعباس بن عبدالمطلب (لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً)(4) فقال له العباس (ويلك انها النبوة).71

ص: 388


1- تاريخ الطبري: 1/ 30 ط. مصر الأولى في ذكر سيرة عمر من حوادث سنة 23 ه-
2- نهج البلاغة: 336 الخطبة 217
3- الجوهري: السقيفة 39 - 40، ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 2/ 44
4- بحار الأنوار: 21/ 104، مجمع البيان في تفسير القرآن:10/ 471

فلم يكن خوف رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على نفسه فقد صدع بالدعوة وحيداً ولم يثنه بطش قريش وقسوتها {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} (الأحزاب:39).فأمن الله تعالى نبيه من هذه المخاوف، وصدق وعده حينما انهال الجميع فوراً على بيعه أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إماماً وخليفة من بعد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وكان اول المبايعين أبا بكر وعمر وهما يقولان (هنيئاً لك يا ابن ابي طالب، أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة)(1) وفي رواية أخرى قال ابن الخطاب (بخٍ بخٍ لك يا ابن ابي طالب)(2) وظلّ يكرر الاعتراف بولاية علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في كل مناسبة(3) كما سيأتي ان شاء الله تعالى.

ولما تم الأمر استبشر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وملأه السرور واطمأن على خلود الإسلام والقرآن ومستقبل الرسالة لأن الله تعالى قيّض لها من يحفظها ويصونها ونزل قول الله تبارك وتعالى {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} (المائدة:3) لأن فئات كثيرة كانت تعوِّل على وفاة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للتخلص من الإسلام بعد أن فشلت كل خططهم ومؤامراتهم للقضاءة.

ص: 389


1- مسند أحمد: 4/ 281 وسنن ابن ماجة باب فضائل علي، والرياض النضرة: 2/ 169.
2- شواهد التنزيل: 1/ 157،158
3- أورد جملة منها في (الفرقان في تفسير القرآن: 9/ 43) منها ما أخرجه الطبراني وفي الفتوحات الإسلامية: 3/ 307: حكم علي مرة على اعرابي بحكم فلم يرضَ بحكمه فتلبّبه عمر بن الخطاب وقال له: ويلك إنه مولاك ومولى كل مؤمن ومؤمنة.

عليه، أما اليوم فقد دخل اليأس قلوبهم لأن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وإن ارتحل بشخصه إلى الرفيق الأعلى فأنه سيبقى محفوظاً بأخيه وصنوه علي بن أبي طالب (صلوات الله وسلامه عليه).ان هذا الذي أوردنا من التفسير الظاهر من الآية الكريمة ينطبق تماماً على القضية التي نزلت فيها ونقلها جمع كبير من الصحابة أحصي منهم (110) ذكرت أسماؤهم في المصادر(1) وألف جمع غفير من علماء الفريقين كتباً خاصة فيه فقد صنف مسعود بن ناصر السجستاني(2) كتاب (الدراية في حديث الولاية) من سبعة عشر جزءاً روى فيه الحديث عن 120 صحابياً(3) وألّف فيه ابن عقدة(4) الذي وثقه ارباب المذاهب وسمى كتابه ((الولاية ومن روى غدير خم)) ورواه من 105 طرق وألف الطبري(5) صاحب التفسير والتاريخ ((كتاب الولاية)) وروى الحديث4)

ص: 390


1- راجعها في بحار الأنوار:37/ 181-182 وذكرهم باسمائهم في (الفرقان في تفسير القرآن: 9 /25) وأضاف لهم التابعين وتابعيهم وفي سائر القرون وقد أوفى المرحوم العلامة الأميني البحث والاستقصاء وسجَّل كل هذه الاسماء و الوثائق في المجلد الأول من كتاب الغدير: 214-223 وبذل صاحب تفسير الفرقان جهداً وافياً في استقصاد مصادر التفسير والحديث والتاريخ (الفرقان في تفسير القرآن: 9/ 23)
2- محدّث، قال عنه بعض مؤرخيه ان فوائده من الأخبار لا تحصى توفي سنة 477 ه- (الاعلام للزركلي:8/ 117)
3- بحار الأنوار: 37/ 126
4- أحمد بن محمد، حافظ مكثر فقد كان يقول: احفظ مئة ألف حديث بأسانيدها توفي سنة 332 ه- (الاعلام:1/ 198)
5- محمد بن جرير: مؤرخ مفسر إمام مجتهد قلده بعض الناس عرض عليه القضاء وديوان المظالم فأبى، صاحب التاريخ المعروف ووصف بأنه أوثق المؤرخين ، له تفسير مطبوع بثلاثين جزءاً وكتب كثيرة أخرى توفي سنة 310 ه- (الاعلام:6/ 294)

من خمس وسبعين طريقاً(1).وننقل النص من مصادر العامة فقالوا ((لّما صدر رسول الله من حجّة الوداع نزلت عليه في اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة آية {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ...} فنزل غدير خمّ من الجحفة وكان يتشعب منها طريق المدينة ومصر والشام ووقف هناك حتّى لحقه من بعده وردّ من كان تقدّم ونهى أصحابه عن سمرات متفرقات بالبطحاء أن ينزلوا تحتهنّ، ثم بعث إليهن فقّمَّ ما تحتهن من الشوك ونادى بالصلاة جامعة وعمد إليهنّ وظلّل لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بثوب على شجرة سمرة من الشمس، فصلى الظهر بهجير ثمّ قام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه، وذكر ووعظ وقال ما شاء الله أن يقول، ثمّ قال: ((إنّي أوشك أن أُدعي فأجيب، وإنّي مسؤول وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟)) قالوا: نشهد أنّك بلّغت ونصحت فجزاك الله خيراً، قال: ((أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً عبده ورسوله وأنّ الجنّة حقّ وأنّ النار حقّ؟)) قالوا: بلى نشهد ذلك. قال: ((اللهمّ أشهد)) ثم قال: ((ألا تسمعون؟)) قالوا: نعم. قال: ((يا أيّها الناس إنّي فرط وأنتم واردون عليّ الحوض وإن عرضه ما بين بصرى إلى صنعاء فيه عدد النجوم قدحان من فضّة، وإنّي سائلكم عن الثقلين، فأنظروا كيف تخلفونني فيهما)). فنادى مناد: وما الثقلان يا رسول الله؟ قال: ((كتاب الله، طرف بيد الله وطرف بأيدكم، فأستمسكوا به، لا تضلّوا ولا تبدّلوا؛ وعترتي أهل بيتي، وقد نبّأني اللّطيف الخبير انّهما لن يتفرّقا حتّى يردا عليّ الحوض، سألت ذلك لهما ربّي، فلا تقدموهما83

ص: 391


1- بحار الأنوار:37/ 183

فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلّموهما فهم أعلم منكم)) ثم قال: ((ألستم تعلمون أنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟)) قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ((ألستم تعلمون -- أو تشهدون -- أنّي أولى بكلّ مؤمن من نفسه؟)) قالوا: بلى يا رسول الله. ثم أخذ بيد عليّ بن أبي طالب بضبعيه فرفعها حتّى نظر الناس إلى بياض إبطيهما، ثم قال ((أيها الناس! الله مولاي وأنا مولاكم؛ فمن كنت مولاه، فهذا عليّ مولاه. اللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وأنصر من نصره، وأخذل من خذله، وأحبّ من أحبّه، وأبغض من أبغضه)). ثم قال ((اللهم اشهد)) ثم لم يتفرقا -- رسول الله وعليّ -- حتّى نزلت هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} (المائدة:3). فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): ((الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة، ورضا الربّ برسالتي والولاية لعلي))(1).وروى جمع من علماء العامة عن ابن مسعود أنه قال (كنا نقرأ على عهد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ -- أن علياً مولى المؤمنين -- وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ})(2).ة.

ص: 392


1- نقلناه بواسطة معالم المدرستين للمرحوم السيد مرتضى العسكري: 1/ 483-486 عن مجمع الزوائد للهيثمي: 9/ 105 و 163-165 وشواهد التنزيل للحسكاني: 1/ 192-193 ومسند أحمد: 4/ 281 وسنن ابن ماجة 1/ 43 ح 116 وغيرها.
2- الفرقان في تفسير القرآن: 9/ 19 عن الحافظ ابن مردوية/108، الدر المنثور: 3/ 298، الشوكاني في فتح القدير، الاربلي في كشف الغمة.

ومما اشكلوا به ان المولى لها عدة معانٍ في اللغة كالناصر والحبيب وغيرهما فلا تتعين بولي الأمر، وهو احتمال مدفوع بصريح الحديث النبوي الشريف لأنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بيَّن مراده من الولي، وتكذبه أيضاً ظروف الحادثة فهل أوقف النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تلك الجموع الحاشدة ليقول اني أحبّ علياً وأنه نصرني ونحو ذلك من الأمور الواضحة عند كل أحد.ان مما يؤسف له تحكم الاهواء والعصبيات في اذهان المفسرين الذين لم يستقوا علومهم من أهل بيت النبوة فشرّقوا وغرّبوا واوردوا وجوهاً في تفسير الآية وسبب نزولها مما لا يناسب أجواء نزول الآية وظروف الحدث، ولا يليق صدوره منهم وفيهم ذوو عقول كبيرة والمهم عندهم صرفها عن الحقيقة التي نزلت الآية لبيانها ورواها جمع كبير من الصحابة والتابعين مع انهم يكتفون في تفسير الآية برواية واحدة عن هذا الصحابي أو ذاك ولا نريد الاطالة في عرض هذه الوجوه ومناقشتها.

أقول: واذا كانوا إلى اليوم يرفضون سماع هذه الحقيقة والايمان بها مع تواتر روايتها والقطع بصدورها فكيف كانوا في لحظة الحدث مما يعطينا فكرة عن مخاوف رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من إبلاغ هذا الأمر.

وظل أمير المؤمنين وأهل بيته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وشيعته يؤكدون هذا الحق الثابت حتى لا يضيّعه المحرّفون، ومن أقواله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في ذلك (فوالله ما زلت مدفوعاً عن حقي، مستأثراً عليّ منذ قبض الله نبيه صلى الله عليه حتى يوم الناس هذا)(1). 6

ص: 393


1- نهج البلاغة: 49 الخطبة 6

وقال في الخطبة الشقشقية (أما والله لقد تقمصها فلان (ابن أبي قحافة) وانه ليعلم ان محلي منها محل القطب من الرحى)(1).وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري، ووالله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلا علي خاصة التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه)(2).

وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فوالله إني لأولى الناس بالناس، لم تكن بيعتكم إياي فلتة، وليس أمري وأمركم واحدا. إني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم)(3).

وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فلما مضى تنازع المسلمون الأمر من بعده، فوالله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن أهل بيته ولا أنهم منحوه عني من بعده، فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)! فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلما أو هدما، تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم، التي إنما هي متاع أيام قلائل)(4).

واعتبر الأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) يوم الغدير أعظم أعياد الإسلام لعظمة النعمة التي منّ الله تعالى بها فأكمل بها الدين ورضي الإسلام لنا ديناً، روى62

ص: 394


1- نهج البلاغة: 47 الخطبة 4
2- نهج البلاغة: 102 الخطبة 74
3- نهج البلاغة: 194 الخطبة 136
4- نهج البلاغة: 451 الخطبة 62

الكليني بسنده عن سالم قال (سألت أبا عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هل للمسلمين عيد غير يوم الجمعة والأضحى والفطر؟ قال: نعم أعظمها حرمة. قلت: وأي عيد هو جعلت فداك ؟ قال: اليوم الذي نصب فيه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه)(1) ومثلها عدة روايات في نفس الباب.وفي آمالي الشيخ الصدوق بإسناده عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): يوم غدير خم أفضل أعياد أمتي وهو اليوم الذي أمرني الله تعالى ذكره فيه بنصب أخي علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) علماً لأمتي يهتدون به من بعدي وهو اليوم الذي أكمل الله فيه الدين وأتمّ على أمتي فيه النعمة ورضي لهم الإسلام دينا)(2).

وروى الشيخ في التهذيب عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (وهو عيد الله الأكبر)(3).

لذا يعبّر الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بأسف وحسرة عن تضييع الأمة لهذا الأمر الإلهي العظيم الذي يعدل الرسالة كلها، بقوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (تعطى حقوق الناس بشهادة شاهدين وما اعطي أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حقه بشهادة عشرة الآف نفس يعني الغدير) ومثله عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ). 1

ص: 395


1- وسائل الشيعة: 10/ 440 أبواب الصوم المندوب، باب 14 ، ح 1
2- تفسير نور الثقلين:1/ 368 ح 29 من تفسير سورة المائدة
3- وسائل الشيعة: 8/ 89 أبواب الصلوات المندوبة باب 3 ح 1

وقد جعل الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) برنامجاً عبادياً مكثفاً في هذا اليوم شكراً لله تعالى على هذه النعمة وجعل عليها ثواباً عظيماً كالصوم والصلاة والدعاء والصدقة وتبادل التهاني مع المؤمنين، وزيارة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولو من بعد لمن يتعذر عليه زيارة مرقد الشريف عن قرب، روى إبن ابي نصر قال (كنّا عند الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والمجلس غاص بأهله فتذكروا يوم الغدير فأنكره بعض الناس(1) فقال الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): حدثني ابي عن أبيه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: ان يوم الغدير في السماء أشهر منه في الأرض) ثم قال (يا ابن ابي نصر، أينما كنت فاحضر يوم الغدير عند أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)) وبعد ان ذكر ثواب ذلك قال (والله لو عرف الناس فضل هذا اليوم بحقيقته لصافحتهم الملائكة في كل يوم عشر مرات)(2).ويمكن أن نفهم من الآية الكريمة أن على العاملين الرساليين ان لا يترددوا ولا يتلكأوا في نصرة مشروع الإسلام والتحرّك به مهما حاول الناس -- بكل ما يحويه اللفظ من استصغار في هذا الموضع -- وضع العراقيل وبث التهم والشبهات لأن الله تعالى يعصمه من هذه المكائد والخبث والشيطنة، وإنه تعالى ينصر من ينصره (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ) (الحج:40) وقد ورد هذا المعنى في خطبه لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال فيها (فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، واعلموا ان الأمر بالمعروف والنهي عن النكر لن يقرِّبا أجلاً ولن يقطعا رزقاً)(3). 7

ص: 396


1- الظاهر ان ذلك كان أيام ولايته العهد زمن المأمون فكان مجلسه الرسمي عاماً لكل الناس وليس للموالين فقط.
2- وسائل الشيعة: 14/ 389 أبواب المزار، باب 28 ح 1
3- وسائل الشيعة: 16/ 120 ، أبواب الأمر والنهي، باب 1 ح 7

ملحق: كيف خطط رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للخلافة من بعده (1)

الإمامة ضرورة عقلائية:

*ملحق: كيف خطط رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للخلافة من بعده (1)

إن الإمامة وولاية أمر الناس ضرورة اجتماعية لا يختلف فيها اثنان، وقد أطبق عليها جميع العقلاء، ولا يمكن لحياة المجتمع المتحضر ونظام معاشه أن يستقيم بدون إمام ورئيس يدير مع جهازه شؤون الأمة ويدبر أمورها. فوجود النظام الحاكم في المجتمع بمنزلة العقل في جسم الإنسان الذي يوجّه بوصلة الحياة، وبدونه تحصل الفوضى والتشتت والصراعات وتضييع مصالح العباد والبلاد.

ومن كلمات أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في ذلك: (لا بد للناس من أمير برّ أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ويبلغ الله فيها الأجل ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو وتأمن به السبُل ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح برّ أو يُستراح من فاجر)(2).

ص: 397


1- محاضرتان ألقاهما سماحة الشيخ محمد اليعقوبي على طلبة الحوزة العلمية في مسجد الرأس الشريف المجاور لمرقد أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، في النجف الأشرف بمناسبة عيد الغدير يومي (16، 17 ذي الحجة 1421ه- -12 ، 13/آذار/2001) وقد أضاف إليهما بعض الزيادات الضرورية. وقام أحد الفضلاء لاحقاً بتخريج النصوص من مصادرها.
2- نهج البلاغة: 1/ 87 الخطبة 40.

ضرورة الإمامة في الشرع:

والحكم في الشرع ضروري كذلك فقد أجمع علماء الإسلام على ضرورة وجود إمام، وإذا كان بينهم خلاف ففي التفاصيل ككيفية تعيين الإمام ومؤهلاته وصلاحياته لا في أصل احتياج الأمة، فأبناء العامة يقولون بالشورى(1)، أو أن الأمر لمن غلب حتى لو قهر الأمة بالسيف(2) وتقمّص إمامتها قهراً، ونحن - الإمامية- نقول أنها بالنص(3)، وأنها حق جعله الله تبارك وتعالى لمن اجتمعت فيه شروطها، سواء سمحت له الظروف بالقيام فعلاً بالأمر أو صودرت حريته ومُنِع من ممارسة دوره كاملاً، كما في الحديث الشريف: (الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا)(4) أي قاما بالأمر أو قعدا عنه لأي سبب من الأسباب.

وقد اهتم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بهذا الأمر بدقة، فكان (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لا يُخرج سرية إلا عليها أمير مهما قلّ أفرادها، بل في الحديث عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (الإمام الجائر خير من الفتنة)(5) و: إذا خرج اثنان للسفر فليؤمرا أحدهما(6)، وكان (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)

ص: 398


1- البخاري/باب رجم الحبلى 4/ 120 عن معالم المدرستين، المراجعات المراجعة 80.
2- الأحكام السلطانية ص7-11 لقاضي القضاة أبو يعلي الفراء الحنبلي - عن معالم المدرستين - أقوال مدرسة الخلفاء ص558.
3- أحصى الصافي الكلبايكاني في كتابه (منتخب الأثر) أكثر من خمسين رواية في هذا المجال، وقال بعد ذلك النصوص الواردة في ساداتنا الأئمة الاثنا عشر بلغت في الكثرة حداً لا يسعه مثل هذا الكتاب وكتب أصحابنا في الإمامة وغيرها مشحون بها واستقصاؤها صعب جداً (منتخب الأثر ص145 والرواية الأولى منتخب الأثر ص97 باب 8 فيما يدل على الأئمة الاثنا عشر بأسمائهم (نقلا عن مدخل إلى الإمامة).
4- البحار ج16 باب 11 ص 307.
5- شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني: 2/ 103.
6- كتاب المحجة ج4 آداب السفر عن أبو داود ج2 ص34 عن أبي هريرة عن النبي ص قوله (إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمروا أحدكم).

إذا خرج لغزوة لا يترك المدينة بدون خليفة له(1)، بل روي في حديث: (والٍ ظلومٌ غشوم خيرٌ من فتنة تدوم)(2)؛ لأنه به تحفظ الثغور وتقوم مصالح العباد، لذا تعامل الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بإيجابية مع السلطات الحاكمة في ما فيه مصالح العباد وحفظ النظام الاجتماعي ورقي الدولة الإسلامية وصيانة كرامتها، إلى درجة أنهم جوزّوا في بعض الظروف دفع الزكاة والخراج إلى السلطة وجعلوها مبرئة للذمة كأنها واصلة إليهم(3).

المصالح المهمّة من تعيين الخليفة:

في ضوء هذه الضرورة المجمع عليها عقلاً وشرعاً كان من مسؤوليات حامل الرسالة –أي رسالة- ووظائفه بل أهمها على الإطلاق تعيين الخليفة والإمام البديل لعدة مصالح مهمة:

1-ديمومة الرسالة واستمراريتها في أداء دورها، فإن أية رسالة مهما كانت تمتلك من نقاط قوة - كرسالة الإسلام - تموت بموت صاحبها، فإنه من المقطوع به ارتباط الرسالات والدعوات بحامليها القيّمين عليها المدافعين عنها المستوعبين لأسرارها، لذلك فإنها تنتهي بنهاية صاحبها إلا أن يواصل الطريق من هو جدير بحملها، وأنت ترى الرسالات السماوية - وهي أكمل الدعوات -

ص: 399


1- معالم المدرستين / ج1 / ذكر من استخلف الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على المدينة في غزواته.
2- ميزان الحكمة للريشهري: 3/ 2367 والغرر والدرر: ح 10109.
3- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب المستحقين، باب 20.

حُرِّفت وشُوِّهت بعد فترة يسيرة من غياب أصحابها(1).2-قطع الطريق أمام غير المؤهلين لهذا المنصب الإلهي، فإن الإمرة والزعامة خصوصاً الزعامة الدينية بما لها من قدسية وهيبة وجاه من أهم ما تنزع إليه النفس الأمّارة بالسوء، ففي الحديث: (آخر ما ينزع من قلوب الصديقين حب الجاه)(2) إذن سيكون المتربصون بها كثيرين والحالمون بها والساعون إلى تحصيلها أكثر. وقد اعترفوا أنه ما عانت الأمة من شيء كما عانت من مسألة الإمامة والخلافة وأن الويلات التي أصابتها والدماء التي سفكت ترجع في الأصل إلى هذا الأمر، وهذا واضح تأريخياً.

3-صيانة الأمة من التشتت وحمايتها من التمزق، فإن من شأن تعدد المتصدين لهذا المنصب أن تتعدد الأحزاب والفرق الموالية لهم، وكلٌّ يجرُّ النار إلى قرصه، فيتمزق أمر الأمة وتصبح طرائق قدداً، وها هي الأجيال بعد الأجيال تدفع ثمن التيه والضياع وآل أمرها إلى الانحلال، لذا قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}(آل عمران:103) {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}(الأنفال:46) وحبل الله الممدود إلى الخلق هما الثقلان كتاب الله وأهل بيت نبيه (صلوات الله عليهم أجمعين) كما دلت عليه النصوص الشريفة(3). وقدب.

ص: 400


1- كمثال على ذلك المسيحية بمجرد أن رفع عيسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أصبح الإنجيل الذي هو حاوي على كل ما يتعلق بالرسالة عدة أناجيل مزورة وموضوعة كإنجيل متي ويوحنا ولوقا ومرقس فلم يبق من الدين المسيحي إلا الاسم.
2- المحجة البيضاء ج6 / فصل حب الجاه ص107.
3- راجع كتاب (شكوى القرآن) وقد تقدم في هذا الكتاب.

أشارت الزهراء (سلام الله عليها) إلى هذه الفكرة المهمة في خطبتها فقالت: (وجعل إمامتنا نظاماً للملة)(1) أي بها تنتظم أمورهم وتستقر.4-إن حامل الرسالة لا يستطيع أن يستمر بمشروعه حتى النهاية ويقدم كل ما عنده قبل أن يطمئن إلى وجود البديل؛ لأنه قبل ذلك يخشى على مستقبل الرسالة، فإذا أحرز اجتماع الشروط في الشخص البديل استطاع أن يتقدم بلا تردد أو خوف على مستقبل الرسالة، هذا الخوف الذي أشار إليه نبي الله موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، لذا كان أول دعاء له: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} (طه: 29-32) وفي كلمات أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لَمْ يُوجِسْ مُوسَى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) خِيفَةً عَلَى نَفْسِهِ، بَلْ أَشْفَقَ مِنْ غَلَبَةِ الجُهَّالِ وَدُوَلِ الضَّلالِ)(2).

شرفية موقع الإمامة في الفكر الإسلامي:

هذه أمور يدركها كل عاقل، ويزداد الأمر وضوحاً كلما ازدادت أهمية الرسالة كدين الإسلام الذي جاء رحمة للعالمين وخالداً إلى يوم القيامة، فهو - أي الإسلام - بهذه السعة والشمول طولاً –على مدى الزمان- وعرضاً –لجميع البشر-، وكلما تعاظم منصب الشخص الراحل والغائب عن الساحة ازدادت المسؤولية والأخطار حول المنصب.

وأشرف موقع هو إمامة المسلمين وولاية أمورهم وخلافة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)

ص: 401


1- البحار ج6 باب 23 ص 315.
2- نهج البلاغة، خطبة 4 ص39.

التي قدّر لها أن تشمل شرق الأرض وغربها، كما بشر بذلك رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عندما كان يحفر مع المسلمين في الخندق وضرب على صخرتين فأضاءتا له(1) ولهم، وأكدها القرآن {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً}(الفتح:20) {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ}(الصف:13)، فكيف لا تتناوشه المطامع وتتجاذبه الأهواء.

(مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى):

أفمثل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يجهل هذه الأمور الواضحة، وهو المتصل بسبب إلى الله تبارك وتعالى، {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى}(النجم:3-4)، وهو القائل: (من مات ولم يوصِ مات ميتة جاهلية)(2) فهل يكون هو (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أول من يخرج عن ربقة الإسلام ويموت على الجاهلية {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}(الكهف:5)، أم يقال أن هذا الحديث وارد في الوصية بالمال ونحوه للورثة وغيرهم؟ فهل هذه الأمور أهم من الوصية بالأمة وحفظ كيانها من الضياع؟!.

أم يقال أنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فوجئ بأجله قبل أن يفكر بمستقبل الأمة وقبل أن يستعد للتخطيط للبديل مهما كان شكله وصيغته، وهو الذي نعى نفسه مراراً وصرح بقرب وفاته في حجة الوداع، وحينما قال: (إن جبرائيل كان يعارضني بالقرآن في

ص: 402


1- سيرة الأئمة الاثني عشر لهاشم معروف الحسني ج1 ص 290.
2- مناقب آل أبي طالب بن شهر آشوب ج1 ص 217.

السنة مرة، وعارضني في هذه السنة مرتين، وما ذلك إلا لدنو أجلي)(1).أم يقال أنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم يكن حريصاً على الأمة ولا مهتماً بأمرها، فلتواجه قدرها بنفسها ولو آل أمرها إلى الفناء، ولتذهب أتعابه سدى {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً}(النحل:92)، وهذا لا يصدر من أبسط الناس؛ فالراعي لا يترك غنمه إذا خرج لحاجة أو سفر حتى يعين لها راعياً، ولم يفعلها الخلفاء من بعده، فالأول نص على الثاني، وهو يقول: إني أخشى أن ألقى الله وقد تركت أمة محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) دون أن أولي عليها أحداً(2)، وجعل الثاني الأمر شورى بين ستة من أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)(3)، وقد أرسلت إليه أم المؤمنين عائشة بعدما طُعِن: أن أوصِ من يخلفك، ولا تترك أمة محمد بعدك هملاً وبدون راعٍ.

خطر الاعتراض من الداخل الإسلامي:

فكيف برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أكمل العقلاء وسيد الحكماء، وهو يرى بعينه الأخطار المحدقة بالأمة من الداخل والخارج، ففي الداخل كان المنافقون والمرجفون في المدينة - على تعبير القرآن - والقائلون: {لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} (المنافقون:8) وقد ازدادت شوكتهم بعد الفتح حيث استسلم الكثير ممن يتربص بالإسلام وبنبيه السوء رضوخاً للأمر الواقع، ولم يسلموا ولم يقتنعوا بالإسلام و{قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ

ص: 403


1- صحيح البخاري باب عرض جبرائيل القرآن على النبي.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ص164 - 165 في شرحه للخطبة الشقشقية.
3- راجع معالم المدرستين ج1 ص544.

الأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}(الحجرات:14).وكانوا يعارضون تصرفات رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) علناً وينتقدونه ويشككون في صحة أفعاله، والشواهد على ذلك كثيرة كما في صلح الحديبية(1) حينما منعوا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من التوقيع على وثيقة الصلح، وعندما عارضوا الإحلال من الإحرام في متعة الحج(2)، وحينما منعوه من كتابة كتاب لا يضلون بعده أبداً في رزية يوم الخميس(3)، وحينما كانوا يصلّون نوافل رمضان جماعة في المسجد وقد نهاهم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن ذلك مراراً(4)، وحينما تخلفوا عن جيش أسامة رغم لعنهل.

ص: 404


1- راجع نظريات الخليفتين: ج1.
2- عن معالم المدرستين ج2: في رواية الصحابي البراء بن عازب بسنن بن ماجة ومسند أحمد ومجمع الزوائد قال: خرج رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأصحابه فأحرمنا بالحج فلما قدمنا مكة، قال: (اجعلوا حجّكم عمرة) فقال الناس: يا رسول الله قد أحرمنا بالحج فكيف نجعلها عمرة؟ قال: (انظروا ما أمركم به فافعلوه) فردوا عليه القول، فغضب فانطلق ثم دخل على عائشة غضبان فرأت الغضب في وجهه، فقالت: من أغضبك أغضبه الله ، قال: (ما لي لا أغضب وأنا آمر أمراً فلا أُتبع).
3- رزية يوم الخميس: ما أخرجه البخاري بسنده عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس، قال: لما حضر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هلم اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، فقال عمر: إن النبي قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت فاختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم النبي كتاباً لا تضلوا بعده ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي قال لهم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تحوموا عني، فكان بن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم. (وقد تم التصرف في الحديث إذ نقلوا المعنى فقط لان اللفظ الثابت هو أن النبي يهجر ولكنهم حرفوه تهذيباً للعبارة ودفاعاً عن عمر. (المراجعات: المراجعة 86).
4- الوسائل: كتاب الصلاة باب عدم جواز الجماعة في صلاة النوافل في شهر رمضان، الحديث الأول.

(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للمتخلفين عنه(1).مضافاً إلى أن الانتشار السريع للإسلام وقصر فترته بالنسبة لعظمة الوظيفة التي جاء من أجلها، وهي نقل أمة كاملة من حضيض الجاهلية وظلماتها إلى نور الإسلام وسعادته أدّى إلى وجود قاعدة عريضة في المجتمع لم تصل إلى درجة كافية من فهم الرسالة واستيعابها والتفاعل مع تفاصيلها، وهم معرضون للانهيار والهزيمة مع أول امتحان يواجههم في حالة غيابه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وقد أخبره بذلك القرآن الكريم: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}(آل عمران:144) وهو ما وقع فعلاً حين ارتدت الجزيرة ولم يبق على الإسلام إلا تلك الثلة القليلة في المدينة المنورة التي عركتها التجارب وصلّبت عودها الامتحانات المتتالية مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)(2).

نموذج من الانحراف الإسلامي:

وقد أشارت أم المؤمنين عائشة إلى هذا الانحراف الذي حصل في مسيرة المسلمين عندما كانت تحرّض على الثورة ضد الخليفة الثالث عثمان، يروي الطبري(3): كانت السيدة عائشة من أشد الناس على عثمان، حتى أنها أخرجت ثوباً من ثياب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فنصبته في منزلها، وكانت تقول للداخلين إليها: هذا

ص: 405


1- راجع في استقصاء هذه الموارد كتاب (النص والاجتهاد) للسيد شرف الدين.
2- وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى ذلك في سورة المائدة آية 54: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
3- تأريخ الطبري 3/ 477 وقد نقلناه عن كتاب (بنور فاطمة اهتديت)/190.

ثوب رسول الله لم يبلَ وقد أبلى عثمان سنته، وقالوا إنها كانت أول من سمّى عثمان نعثلاً (اسم أحد اليهود بالمدينة) وكانت تقول: (اقتلوا نعثلا ! قتل الله نعثلاً) هذا ولم يمرّ على وفاة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أكثر من عقدين من الزمان.

حملات اليهود بعد وفاة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):

وكان في الداخل اليهود الذين لا ينسون لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وللإسلام القضاء عليهم وتهجيرهم من ديارهم وقتل رجالهم وسبي نساءهم وزوال دولتهم ونفوذهم في المدينة، لذلك كانت هجمة التشكيكات التي بثّوها في الأمة بعد وفاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وأسئلتهم المتنوعة الكثيرة التي كانت تعجز خليفة المسلمين وأصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فأصيب المسلمون بالإحباط والضعف والهزيمة أمامهم، وكانت حملة منظمة وليست اعتباطية ظهرت فجأة بعد غياب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وإقصاء الخليفة الحق الذي كان لهم بالمرصاد رغم إبعاده عن القيادة الدنيوية، لكنه كان يرى مصلحة الدين وإعلاء كلمة التوحيد فوق كل شيء، حتى اشتهرت كلمة الخليفة الثاني: (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن)(1) وما علمنا أنه احتاج إلى أحد سواه(2).

ص: 406


1- أخرجه سبط بن الجوزي ، أسد الغابة 4/ 22 ، الإصابة القسم 1/ 270 ، تهذيب التهذيب 7/ 327، عن نظريات الخليفتين لنجاح الطائي.
2- جعل الخليل بن أحمد الفراهيدي ذلك دليلاً على إمامته حينما سئل ما الدليل على إمامة أمير المؤمنين وخلافته لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: احتياج الكل إليه وعدم احتياجه للكل.

العدو الخارجي والكيد بالإسلام:

ومن الخارج كان هناك المتربصون بالإسلام شراً الذين أعيتهم الحيل في القضاء عليه، حيث بدأوا بتعذيب أصحابه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقتلهم، ثم حاصروه ومن معه في شعب أبي طالب اقتصادياً واجتماعياً، ثم تآمروا على قتله فهاجر إلى المدينة(1) وبات علي في فراشه(2) ثم جهزوا الجيوش لقتاله واستئصال أمره فلم يفلحوا في القضاء عليه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)(3)، ولم يبق أمامهم إلا نهاية حياته لتموت دعوته بموته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، بل حاول بعضهم فعلاً اغتياله أكثر من مرة كمحاولة رؤساء بني عامر، والمحاولة التي جرت أثناء مسيره إلى تبوك حيث حاول بعض المتآمرين تنفير ناقته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ليلقوه من السفح وتتقطع أوصاله، وقد أعلم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الصحابيَّ حذيفة بن اليمان بأسمائهم حتى سمي صاحب سر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وكان الخليفة الثاني لا يصلي على أحد حتى يصلي حذيفة ليعلم أنه ليس من المنافقين(4).

وفي الخارج كانت أيضاً الدولتان الرومية والفارسية اللتان بدأتا تفكران جدياً في أمره (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بعد أن غطى نوره الجزيرة كلها من اليمن جنوباً إلى تخوم الشام والعراق شمالاً، بل إنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بدأ التحرش بالدولة الرومية في معركة مؤتة(5)

ص: 407


1- حياة محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نهاية الفصل السادس والفصل السابع لمحمد حسين هيكل.
2- حياة محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الفصل العاشر لمحمد حسين هيكل.
3- حياة محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الفصل الثالث عشر لمحمد حسين هيكل.
4- راجع (المحلى) لابن حزم الأندلسي، (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد عن (نظريات الخليفتين: محاولة اغتيال النبي).
5- معركة مؤتة: كانت في سنة ثمان من الهجرة.

وغزوة تبوك، وأرسل الرسائل إليهم يدعوهم إلى الإسلام بلهجة الواثق بالنصر والمستعلي عليهم (أسلم تسلم).

التحديات الجسيمة أمام النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):

كل هذه المصاعب والتحديات التي تواجه الأمة بعد وفاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كانت نصب عينه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهو صاحب القلب الرحيم الذي نذر حياته لله تبارك وتعالى ولإصلاح الإنسانية وإنقاذها من الظلمات إلى النور، وقد وصفه القرآن الكريم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}(التوبة:128)، فكيف يترك أمر الأمة سدى؟! {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}(يونس:35) و{فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}(فاطر:3) فهذا الاحتمال –أي ترك الأمة سدىً من دون إرشادها إلى من يتولى أمرها- مرفوض قطعاً.

بقي احتمالان آخران تبنّت كل واحدٍ منهما طائفة من المسلمين.

عقيدة العامة في الإمامة:

الأول: - وهو الذي التزم به العامة- إيكال الأمر إلى الأمة نفسها فهي تختار من تشاء، وهو مرفوض أيضاً لعدة وجوه:

1-قصور الأمة عن تحمل مثل هذه المسؤولية، وقد عجزت عن أقل من هذا الأمر عندما واجهت التحديات بعد وفاة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، حتى بعد أن نالت تربية إضافية خلال عقود من السنين.

ص: 408

ففي خلافة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عندما بدأ أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يتقاتلون بينهم لم يعرفوا حكم هذه الحالة، عن الشافعي: أخذ المسلمون السيرة في قتال المشركين من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأخذوا السيرة في قتال البغاة من علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)(1). وبعد ذلك بعقود مرّت الدولة الإسلامية بأزمة مع الدولة الرومية، عندما أرادت أن تسكّ عملة فيها شتم نبي الإسلام وتتداول في بلاد المسلمين، فأنقذ الموقف الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)(2)، وهكذا ظلّت الأمة عاجزة عن حل مشكلاتها لولا وجود الأئمة(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)(3)، حتى اكتملت التربية بعد (260) عاماً بوفاة الإمام الحسن العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فدخلت الأمة مرحلة (وسطية) بين الوجود الفعلي للإمام والغيبة التامة، فكانت الغيبة الصغرى التي استمرت (70) عاماً لتبدأ الغيبة الكبرى بعد أن رسم الأئمة(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كل المعالم الرئيسية والخطوط العامة لمسيرة الأمة، وقبل هذه المراحل المتتابعة من التربية كانت الأمة عاجزة.

وكان هذا العجز واضحاً في الصدر الأول للإسلام لقرب عهدهم بالجاهلية الهمجية وقلة فترة الرسالة وانشغالهم عن استيعاب تفاصيلها، كما عبّر الخليفة الثاني حينما سئل عن قلة استفادته من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (ألهانا الصفقه.

ص: 409


1- كشف الغمة :1/ص 124، شرح نهج البلاغة: 9/ 230.
2- رواه الدميري في حياة الحيوان عن المحاسن والمساوئ للبيهيقي ورواه بهذا المضمون عن شذرات العقود للمقريزي عن سيرة الأئمة الاثني عشر/القسم الثاني/الإمام الخامس محمد الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لهاشم معروف الحسني.
3- الغيبة الصغرى والكبرى للسيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر قدس سره.

بالأسواق)(1)، ويقول بعضهم: كنّا نغتنم فرصة مجيء الإعرابي يسأل من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لنتعلم أحكام ديننا. فمع عجزهم عن هذه الأمور الجزئية، كيف يوكل إليهم أمر الإمامة التي بها قوام الأمة.2-لو كان لهذا الأمر وجود لبيّن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تفاصيله إلى الأمة، فيوضح صيغة الاختيار، ومن الذين لهم هذا الحق، وما هي شروط المرشحين للإمامة وضوابط الاختيار، ومن هو الحاكم فيها عند الاختلاف، وهكذا. ونحن نعلم أن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم يغفل عن أبسط تفاصيل الشريعة، كآداب المائدة وأحكام التخلي، فكيف يغفل عن مسألة الإمامة وهي أصل الشريعة وأساسها ؟!.

3-عدم التزام نفس الخلفاء الذين أعقبوه بمبدأ الاختيار، فالأول نص على الثاني(2)، والثاني جعله بين ستة من المهاجرين، فهل تراهم أول مخالفين لسنة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)(3)، بل إن الخليفة الثاني يقر ويعترف (أن بيعة أبي بكر فلتة (أو فتنة) وقى الله شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه كائناً من كان)(4).).

ص: 410


1- صحيح مسلم 2 ص234 في كتاب الآداب، صحيح البخاري 3 ص837، مسند أحمد 3 ص19، سنن الدارمي 2 ص274، سنن ابن داود 2 ص320، مشكل الآثار ج1 ص499. (عن كتاب الغدير ج6 ص158).
2- شرح النهج لابن أبي الحديد / ج1 شرح الخطبة الشقشقية.
3- شرح النهج لابن أبي الحديد / ج1 شرح الخطبة الشقشقية، سيرة الأئمة ج1، وسيأتي في الهوامش القادمة مزيد من التفصيل.
4- شرح النهج ج2 ص23، المراجعات / المراجعة 80، مسند أحمد 1/ 55، البخاري 4/ 111، تأريخ الطبري 2/ 446. (عن نظريات الخليفتين).

4-إن هذا المنصب العظيم له مؤهلاته الدقيقة التي لا يعلمها إلا المطلع على الأسرار ومن لا تخفى عليه خافية في السماوات ولا في الأرض، وأولها العصمة؛ لاشمئزاز الناس من الأخذ ممن يتورط في الذنوب، وكما يظهر من الآية الشريفة {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}(البقرة:124)، إنها مرتبة فوق النبوة والرسالة ولا يبلغها الرسول إلا بعد اجتيازه لامتحانات عسيرة، وقد ورد في تفسيرها أن الله اتخذ إبراهيم عبداً خالص العبودية، أي معصوماً قبل أن يتخذه نبياً، واتخذه نبياً قبل أن يتخذه رسولاً، واتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً، ثم ابتلاه ربه بكلمات فأتمهن، ونجح في تلك الاختبارات فاستحق التكريم الإلهي {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً}(1).

وأنت لو استقرأت الآيات الشريفة وجدتها تنسب الإمامة إلى الجعل الإلهي، كالآية المتقدمة وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ}(الأنبياء:73)، وقوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}(القصص:5)، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة:24)، لذا قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}(القصص:68) {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراًة.

ص: 411


1- سورة البقرة: 124، راجع تفسير الميزان وأصول الكافي/كتاب الحجة.

أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}(الأحزاب:36).5-إن كون الإمامة بالتعيين والنص الإلهي مرتكز في أذهان المسلمين عامة حتى عند من لم يعتقدوا به ظاهراً، لكن كلماتهم وأفعالهم تبرز ذلك، والشاهد على ذلك ما ورد في روايات عديدة أن الناس كانوا يرددون قوله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}(الأنعام:124) عند ما يطلع أحدهم عن كثب على سيرة أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ومواقفهم النبيلة السامية، فكأنه مرتكز في أذهانهم جميعاً أن حمل الرسالة أمر مجعول من قبل الله تبارك وتعالى، وليس لأحد أن يتدخل فيه.

6-إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نفسه لم يعط لنفسه الحق في تنصيب من يلي الأمة، وإنما أوكل الأمر إلى الاختيار الإلهي، ففي سيرة ابن هشام(1) لما دعا الرسول بني عامر للإسلام، وقد جاءوا في موسم الحج إلى مكة قال رئيسهم: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (الأمر لله يضعه حيث يشاء). إذا كان الأمر كذلك فكيف يُدعى إيكاله إلى الأمة.

عقيدة مدرسة أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في الإمامة:

الثاني: ولم يبق إلا الاحتمال الآخر، وقد تبنته مدرسة أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، وأرسى قواعده رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) واستوعبه الصفوة من أصحابه ودافعوا عنه

ص: 412


1- السيرة النبوية 2/ 424.

وصرحوا به رغم الوعيد والتهديد ومضوا عليه شهوداً وشهداء.وهذا موافق لسنة الله التي جرت في أنبيائه ورسله حيث كان لهم جميعاً أوصياء(1)، فلماذا لا يكون لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وصي {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ}(الأحقاف:9) {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}(فاطر:43)، وقد أُلفت كتب عديدة في هذا المجال بعنوان (إثبات الوصية) وأشهرها للمسعودي(2)، وهذا المسلك يقتضي تهيئة الشخص البديل وإعداده ليكون مؤهلاً لمواصلة وظائف ومسؤوليات الإمام والخلافة والقيادة النائبة بشكل تام وكامل وفاعل.

وهذا الاحتمال يبدو منسجماً مع النتائج التي تمخضت عن التحليل السابق وفي ضوء القابليات والمؤهلات التي اجتمعت في أمير المؤمنين(3) الذي قيل في كثرة فضائله: (لقد أخفى أولياؤه فضائله خوفاً، وأخفاها أعداؤه حسداً وحقداً،م.

ص: 413


1- وقد سلسل المسعودي في كتاب (إثبات الوصية) اتصال الحجج وأوصياء الأنبياء من لدن آدم حتى خاتم النبيين -صلوات الله عليهم أجمعين- وأوصياءه. عن معالم المدرستين ج1 ص283.
2- المسعودي هو: أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي ينتهي نسبه إلى الصحابي عبد الله بن مسعود توفي سنة 346ه-، وفي ترجمته بطبقات الشافعية 2/ 307 قيل كان معتزلي العقيدة، وأشار إلى هذا الكتاب الكتبي في فوات الوفيات 2/ 45، وياقوت الحموي في معجم الأدباء 13/ 94 وقالا: له كتاب البيان في أسماء الأئمة، وفي الميزان لابن حجر 4/ 224: له كتاب تعيين الخليفة، سماه في الذريعة وغيرها: إثبات الوصية. (معالم المدرستين ج2).
3- وأنا إلى هنا أتكلم بشكل موضوعي ووفق الظروف المنظورة بعيداً عن النصوص وأقيم سلوك رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كمؤسس أمة ومنشئ مجتمع مدني جديد وقائد ناجح حكيم.

وظهر ما بين ذلك ما ملأ الخافقين)(1)، وعن أحمد بن حنبل: (ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من الفضائل ما جاء لعلي بن أبي طالب)(2). وكان تميزه واضحاً عن بقية أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بكل صفات الكمال، وكان التفاف الواعين المخلصين من أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حوله معروفاً في حياة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبعد وفاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، كسلمان(3)، وأبي ذر(4)، والمقداد(5)، وعمار(6)، وعزّز ذلك الرعاية الخاصة والإعداد المركز الذي كان يحيطه به (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) منذ نعومة أظفاره والتي وصفها أمير المؤمنين نفسه بقوله: (وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللهِ -ص- بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، وَالْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ:ه.

ص: 414


1- سيرة الأئمة الاثني عشر ج1 علي وبيت المال ص319 … القول للحسن البصري في جواب من سأله عما يحدّث الناس عنه.
2- مستدرك الحاكم 3/ 107 بحسب كتاب (بنور فاطمة اهتديت) /136.
3- سلمان الفارسي أو المحمدي: كان أكثر أصحاب الإمام أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) علماً وحكمة، وكان والياً على المدائن في زمن الخليفة عمر بن الخطاب، توفي في المدائن التي كان والياً عليها في آخر خلافة عثمان سنة خمس وثلاثين وقيل أول سنة ست وثلاثين وغسله ودفنه أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).
4- أبو ذر: جندب بن جنادة: تقدم إسلامه وتأخرت هجرته، فشهد ما بعد بدر من غزوات رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، توفي منفياً بالربذة سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة.
5- المقداد بن الأسود الكندي: قال الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (إن الله عز وجل أمرني بحب أربعة من أصحابي واخبرني أنه يحبهم، فقيل: من هم ؟ فقال: علي والمقداد وسلمان وأبو ذر).. توفي سنة 33 هجرية. (الاستيعاب بهامش الإصابة 3/ 451، والإصابة 3/ 433 -434 عن معالم المدرستين ج1).
6- أبو اليقظان عمار بن ياسر: أسلم هو وأبوه وأمه وأسلم قديماً بعد بضعة وثلاثين رجلاً، وكان المشركون يخرجون عماراً وأباه وأمه إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء يعذبونهم فمر بهم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة)، فمات ياسر في العذاب وطعنت أمه بحربة أبي جهل، شهد عمار المشاهد كلها مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقتل بصفين مع علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقد جاوز التسعين من عمره.

وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إلى صَدْرِهِ، وَيَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ، وَيُمِسُّنِي جَسَدَهُ، وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ. وَكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ، وَمَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ، وَلاَ خَطْلَةً فِي فِعْلٍ. وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ -ص - مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلاَئِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، وَمَحَاسِنَ أَخْلاَقِ الْعَالَمِ، لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لي فِي كُلِّ يَوْمٍ عَلَماً مِنْ أخْلاقِهِ، وَيَأْمُرُني بِالْإِقْتِدَاءِ بِهِ. وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَة بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ, وَلاَ يَرَاهُ غَيْرِي، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإسلام غَيْرَ رَسُولِ اللهِ -ص - وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ. وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْه ِ-ص- فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا هذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: (هذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرَى مَا أَرَى، إِلاَّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيّ، وَلكِنَّكَ وَزِيرٌ، وَإِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ))(1).وهكذا هو منه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى فارقت روحه الدنيا، يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (وَلَقَدْ عَلِمَ الْمُسْتَحْفَظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) - أَنِّي لَمْ أَرُدَّ عَلَى اللهِ وَلاَ عَلَى رَسُولِهِ سَاعَةً قَطُّ. وَلَقَدْ وَاسَيْتُهُ بِنَفْسِي فِي الْمَوَاطِنِ الَّتي تَنْكُصُ فِيهَا الْأَبْطَالُ وَتَتَأَخَّرُ الْأَقْدَامُ، نَجْدَةً أَكْرَمَنِي اللهُ بِهَا. وَلَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللهِ - (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) - وَإِنَّ رَأْسَهُ لَعَلَى صَدْرِي. وَلَقَدْ سَالَتْ نَفْسُهُ فِي كَفِّي، فَأَمْرَرْتُهَا عَلَىُ وَجْهِي. وَلَقَدْ وُلِّيتُ غُسْلَه - (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) - وَالْمَلاَئِكُةُ أَعْوَانِي، فَضَجَّتِ الدَّارُ والأَفْنِيَةُ: مَلاٌَ يُهْبِطُ، وَمَلاٌَ يَعْرُجُ، وَمَا فَارَقَتْ سَمْعِي هَيْنَمَةٌ(2) مِنْهُمْ، يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى وَارَيْنَاهُ فِي ضَرِيحِهِ.ي.

ص: 415


1- نهج البلاغة بشرح الشيخ محمد عبده، ج2 ص157.
2- الهينمة: الصوت الخفي.

فَمَنْ ذَا أَحَقُّ بِهِ مِنِّي حَيّاً وَمَيِّتاً؟)(1).

الدور العلوي في الحفاظ على الدين:

ولقد أدى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) دوره بنجاح بعد وفاة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وحفظ الإسلام من الضياع، وكان وجوده والأئمة من بنيه بحق أماناً للأمة من الانحراف، بحيث يستغيث الخليفة الثاني ويتعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن(2)، فكانت خلافة أمير المؤمنين لمقام رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وإمامة الخلق من بعده نتيجة طبيعية ومنطقية لتسلسل التفكير أعلاه لا يسع أي منصف أن يحيد عنها، ولم يكن النص الذي سنشير إليه - وهو حديث الغدير - هو الذي جعل من علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إماماً وخليفة بعد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى يناقشوا في دلالته والمراد منه، لا لشيء إلا لتصحيح الواقع الذي حصل بأي ثمن كان وبأية طريقة، ولو بإنكار وجود الشمس في رابعة النهار. فعليع هو الإمام بما حمله من صفات الكمال قبل النص وإنما جاء النص للإشارة إليه ولتعريفه ولقطع العذر وإتمام الحجة على المخالفين ولحسم الموقف ووضع النقاط على الحروف - كما يقولون -.

التخطيط للخلافة:

ولعظمة هذه المسألة وأهميتها فقد كان التخطيط والتمهيد لها يؤرق عين رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ويقضّ مضجعه، فإنه يخشى ردود الفعل من هذه الأمة وهو خوف محمود كخوف موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الذي ذكره القرآن وأشرنا إليه، ليس

ص: 416


1- نهج البلاغة بشرح الشيخ محمد عبده، ج2 ص171-172.
2- أشار إلى كلمته المشهورة (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن).

شخصياً وإنما على مستقبل الأمة التي هي جديدة عهد بالإسلام وما زالت رواسب الجاهلية لم تنمحِ من ذاكرتها، ومازال التعصب يتحكم فيها(1)، فكيف يستطيع أن يضمن ولاءها لهذا القرار الهام الذي يصعب على النفوس الحالمة بالخلافة والقلوب المملوءة حسداً وحقداً على علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن تنصاع إليه، كذاك الفهري الذي ما إن سمع بحديث الغدير وتنصيب علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) خليفة بعد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومبايعة المسلمين له حتى جاء إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فقال له: هذا الأمر منك أم من الله؟ فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): إنه من الله. فقال: إن كان هذا من الله فأمطر علينا حجارة من السماء أو أئتنا بعذاب أليم. فما خرج منه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى نزلت عليه صاعقة من السماء. وقد ورد أنه سبب نزول قوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ، لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} (المعارج: 1-2)(2).

ص: 417


1- لاحظ كشاهد على ذلك كيف أن بشير بن سعد وأسيد بن حضير بادرا إلى بيعة أبي بكر خشية أن يفوز بها سعد بن عبادة. عن كتاب النص والاجتهاد المورد الأول يوم السقيفة ص80.. واجتماع أكثر الأنصار في السقيفة يرشحون سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، لكن ابن عمه بشير بن سعد بن ثعلبه الخزرجي وأسيد بن خضير سيد الأوس كانا ينافسانه في السيادة، فحسداه على هذا الترشيح وخافا أن يتم له الأمر فأضمرا له الحبكة مجمعين على صرف الأمر عنه بكل ما لديهما من وسيلة وصافقهما على ذلك وعويم بن ساعدة الأوسي، ومعن بن عدي حليف الأنصار.. وكان مع ذلك ذوي بغض وشحناء لسعد بن أبي عبادة…
2- روى الثعلبي الذي هو من قدوة مفسري المخالفين في شأن نزولها -انظر هامش ج8 تفسير الرازي لأبي مسعود ص292 والسيرة الحلبية ج3 ص302 ونور الأبصار ص69- أنه لما كان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بغدير خم نادى الناس فاجتمعوا فأخذ بيد علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال من كنت مولاه فعلي مولاه فشاع ذلك وطار في البلاد فبلغ الحارث بن النعمان الفهري فأتى... النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهو في ملأ من أصحابه، فقال: يا محمد أمرتنا من الله أن نشهد أن لا اله إلا الله وانك رسول الله ففعلناه وأمرتنا أن نصلي خمساً فقبلنا وأمرتنا أن نصوم شهر رمضان فقبلناه وأمرتنا أن نحج البيت فقبلناه ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك وفضلته علينا وقلت من كنت مولاه فعلي مولاه وهذا شيء منك أم من الله، فقال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): والذي لا اله إلا هو من الله، فولى الحارث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء واتنا بعذاب اليم، فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله وانزل الله تعالى {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ، لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ، مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} (حق اليقين في معرفة أصول الدين ج1 / الآية الثالثة الدالة على أن الإمام بعد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هو علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

الإعلان العظيم تكلل في يوم الغدير:

وبالمقابل كان (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لا يستطيع السكوت عن إنفاذ هذا الأمر وهو يرى نهايته تقترب، والأعداء يتربصون بدينه الدوائر، فكيف يهدأ له بال ويقرّ له قرار قبل أن تنعقد البيعة لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

حتى أذن الله تبارك وتعالى له بالتبليغ، بل أمره به وطمأنه من مخاوفه هذه بأنه سيعصمه من الناس، وبين أهمية هذا الأمر بأنه وحده في كفة وباقي الرسالة كلها في كفة، فقال عز من قال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}(المائدة:67).

فليس غريباً أن تدرج هذه الآية المباركة وآية الولاية التي سبقتها {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}(المائدة:55) في سورة المائدة التي يستشف المتأمل فيها أن غرضها تأسيس المجتمع المسلم، وبيان مميزاته الرئيسية ومقوماته وأسس كيانه، وعرض نقاط الفرق بين المجتمع الذي يقوم على أساس الإسلام والمجتمع الذي ليس كذلك كائناً ما كان وإن سمى نفسه مسلماً، فإنه في مفهوم القرآن (مجتمع جاهلي)، فالبينونة بين المجتمعين كاملة في الأحكام (كآيات أوفوا بالعقود

ص: 418

وحرمة الكلب والخنزير وغيرها) وفي من له حق الولاية (فقد تكررت كثيراً آيات ولاية المؤمنين والبراءة من الكافرين)، وفي الشريعة التي تنظم الحياة {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ، وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، هُمُ الظَّالِمُونَ، هُمُ الْفَاسِقُونَ}(المائدة: 44-4-47-50) وتمامها وعقد نظامها آية التبليغ وآية الولاية.

أعظم الأعياد في الإسلام:

ثم جعل يوم الحسم هذا أعظم عيد في الإسلام، ففيه كمل الدين وتمت النعمة بعقد البيعة والولاية لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وامتنَّ الله تبارك وتعالى على عباده بذلك فقال عز من قائل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً}(المائدة:3).

وجلس رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يتقبل التهاني بهذا الإنجاز العظيم ويقول لأصحابه: هنئوني هنئوني بابن عمي أمير المؤمنين. وأفرد له خباءً ليسلموا عليه ويبايعوا علياً خليفة من بعده وأميراً للمؤمنين، واستأذنه شاعره حسان بن ثابت أن يقول شعراً في المناسبة، فأذن له فأنشأ:

يناديهمُ يوم الغدير نبيهم***بخمٍّ فأسمع بالرسول مناديا

وفيها يقول:

فقال له: قم يا عليُّ فإنني***رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

وأول من سلم عليه الشيخان وهما يقولان له: بخٍ بخٍ لك يابن أبي طالب،

ص: 419

أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة(1).وقد نظم هذه الحقيقة التأريخية الدامغة أجيال من الشعراء جيلاً بعد جيل(2)، ومنهم عمرو بن العاص الخصم الألدَّ لعلي بن أبي طالب في قصيدته الجلجلية التي بعثها إلى معاوية يذكّره ببعض الحقائق التي تناساها، ومما جاء فيها(3):

وكم قد سمعنا من المصطفى***وصايا مخصصةً في علي

فأنحلَ-ه إمرة المؤمنين***من الله مستخلف المنحل

وقال: فمن كنت مولىً له***فهذا له اليوم نعم الولي

فبخبخَ شيخُ-ك لما رأى***عُرى عقد حيدر لم تُحلل

فقال: وليكم فاحفظوه***فمدخله فيكم مدخلي

وقد جاء هذا البيان - خطبة الغدير - منه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) متوّجاً لبيانات سابقة لا تقل عنه وضوحاً: (إن علياً مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)(4)، وإن:).

ص: 420


1- أخرج الإمام الواحدي في تفسير (يا أيها الرسول بلغ …) من طريقين معتبرين عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية يوم غدير خم بعلي بن أبي طالب، فلما بلغ الرسالة بنصه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالإمام وعهد إليه بالخلافة أنزل الله عز وجل {اليوم أكملت لكم …} وأول من هنأ علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في يوم الغدير هما: أبو بكر وعمر بقولهما: أمسيت يا بن أبي طالب مولى كل مؤمن ومؤمنة. (أخرجه الدار قطني - الفصل الخامس من الباب الأول من صواعق بن حجر ص26 وأحمد نحو هذا القول عن عمر من حديث البراء بن عازب ص281 ج4 من مسنده). (المراجعات 54 وما بعدها).
2- راجع الموسوعة الفريدة (الغدير) للشيخ الأميني قدس سره.
3- (راجع كتاب الغدير في ترجمة عمرو بن العاص).
4- حديث المنزلة: عن الإمام أحمد في الجزء الأول من مسنده في آخر صفحة 330 والإمام النسائي في خصائصه العلوية ص6 والحاكم في ج3 من صحيحه المستدرك ص123 والذهبي في تلخيصه معترفاً بصحته عن عمرو بن ميمون (المراجعات: 26).

(علي مع الحق والحق مع علي)(1) وإنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأهل بيته كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك(2)، وأنهم والقرآن صنوان لا يفترقان، وثقلان ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي أبدا(3).. وغيرها كثير.

لماذا كان يوم الغدير أعظم عيد في الإسلام؟

إن عظمة هذا اليوم لها مناشئ عديدة فهو:

1-يوم الطمأنينة على بقاء الرسالة واستمراريتها بعد أن انتقل ارتباطها من شخص رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فيمكن أن تموت بموته، إلى نوع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، أي إلى كل من تتجمع فيه صفات وشروط الإمامة فلم يعد وجودها منوطاً بشخصه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

2-وهو يوم الانتصار النهائي على مكائد الأعداء الذين لم يبق في جعبتهم من سلاح إلا موت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لتنتهي دعوته ففقدوا هذا الأمل الشيطاني بتنصيب أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) خليفة.

3-وهو يوم حماية الأمة من التشتت ومن الضياع بتعيين الحبل الذي إن اعتصموا به بقي ريحهم وكيانهم وانتشر أمرهم وعلت كلمتهم.

4-وهو يوم صيانتها من الانحراف بعد أن نصب لهم العلم والمحور الذي

ص: 421


1- البحار ج10 باب 26 ص432.
2- الوسائل: كتاب القضاء، صفات القاضي، باب5، حديث10.
3- الإمام أحمد والترمذي بعدة طرق تجدها في المراجعات: المراجعة 80.

يلتفون حوله.5-وهو يوم أمان الأرض ومن عليها من الفناء، لما ورد في الحديث: (إن الأرض لا تخلو من حجة ظاهر أو مستور، ولولاه لساخت الأرض بأهلها)(1).

6-وهو يوم الهداية إلى الدين ووضوح الحق بمعرفة الحجة كما في الدعاء: (اللهم عرفني نفسك، فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف رسولك، اللهم عرفني نبيك، فإنك إن لم تعرفني نبيك لم أعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك، فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني)(2).

7-وهو يوم الإمامة التي هي أس الإسلام وسنامه، فهو لا يقل أهمية عن يوم البعثة النبوية الذي انبثق فيه نور الإسلام.

التشيع يزداد وضوحاً بيوم الغدير:

لأجل هذا كله كان يوم الغدير أعظم عيد في الإسلام كما نطقت به الروايات الشريفة، وفي ذلك اليوم تبلورت فكرة (التشيع) ونضجت ثمارها وأينعت بعد أن كان قد زرع بذورها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في مناسبات عديدة، ابتداءً من يوم الدار وإنذار عشيرته الأقربين في أوائل البعثة الشريفة(3).

ص: 422


1- البحار ج36، باب41، ص315.
2- مفاتيح الجنان: الفصل السادس ، دعاء زمن الغيبة.
3- حياة محمد: الفصل الخامس، ص142، لمحمد حسين هيكل، المراجعات: مراجعة 20 قال فيها حين أنزل الله تعالى على الرسول الأكرم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} فدعاهم إلى دار عمه أبي طالب وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيد رجلاً أو ينقصونه، وفيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب، والحديث في ذلك من صحاح السنة المأثورة، وفي آخره قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم

ولهج رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بهذا الاسم المحبب له ولأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين) في مناسبات عديدة، أنقل بعضها من كتب العامة ليكون الخطاب أبلغ في الحجة:1-في الدر المنثور للسيوطي ج8/ص589: روى بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: كنّا عند النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فأقبل علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فقال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة)، فنزل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}(البينة:7).

2-ابن حجر في الصواعق المحرقة : (1) عن ابن عباس قال: لما أنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}، قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (هم أنت وشيعتك تأتون يوم القيامة راضين مرضيين ويأتي عدوك غضاباً مقمحين).

3-كنوز الحقائق للمناوي الشافعي(2) قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (علي وشيعته هم الفائزون يوم القيامة)، وروى احمد عن أمّ سلمة قالت: كان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)3)

ص: 423


1- الباب (11) الفصل الأول: الآية الحادية عشرة
2- كنوز الحقائق للمناوي (ص83)

عندي في ليلتي فغدت عليه فاطمة وعلي فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): يا علي أبشر فإنّك وأصحابك وشيعتك في الجنّة. (1)

أشكال التخطيط النبوي لتعيين الخليفة:

لقد كان تخطيط رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لهذا الأمر أي تعيين الخليفة والامتداد له على ثلاثة أشكال:

الأول: النص المباشر والواضح عليه، وعدم ترك الأمر مجملاً تتقاذفه التأويلات والتفسيرات، وقد تقدم فيما مضى فكرة عنه، وأنصح بقراءة كتاب (المراجعات) للسيد شرف الدين للاطلاع على المزيد من الأدلة والنصوص ببيان قوي وحجة دامغة، مما لو دخلت فيه سأخرج عن الاتجاه العام الذي رسمته لهذا البحث.

الثاني: الإشادة بالأشخاص المخلصين الواعين الذين يعلم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) منهم أنهم ثابتون على الخط وواعون للهدف وراسخون في المبدأ، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقولون كلمة الحق مهما كان الثمن، كسلمان والمقداد وأبي ذر وعمار وذي الشهادتين وبلال الحبشي وأم ايمن وأم سلمة، فكان (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يردد: (سلمان منّا أهل البيت)(2) (إن الجنة لتشتاق إلى أربعة: سلمان والمقداد وأبي ذر وعمار)(3) (ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء ذا لهجة أصدق

ص: 424


1- فضائل الصحابة: 2/ 654
2- البحار ج1، باب8، ص123.
3- وسائل الشيعة: ج22 خاتمة الكتاب، باب10، ص324.

من أبي ذر)(1) (مُلئ عمار إيماناً من قرنه إلى أخمص قدميه)(2) و(أم أيمن امرأة من أهل الجنة)(3) و(بلال من أهل الجنة)(4) وقال لأم سلمة: (لستِ من أهل البيت، لكنك على خير)(5).فكانت هذه الأوسمة تخطيطاً منه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للمستقبل إذا انقلبت الأمة على الأعقاب وتاهت بها السبل في بحر الظلمات، فسيكون هؤلاء أعمدة نور تضيء لطلاب الحقيقة الدرب، وتدلّهم على شاطئ الإيمان وقد أدّوا دورهم وقالوا كلمة الحق فثبتوها في لوح التأريخ(6) لو كان هناك من يسمع، بينما لم نسمع منه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كلمة واحدة في أولئك الذين انحرفوا عن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وخذلوه، رغم أن منهم من كان له مواقف مشهورة كالزبير بن العوام.

الثالث: وضع ضوابط يُعرف بها المستحقون لهذا الأمر وتمييزهم عمّن هم ليسوا أهلاً له، والذين يستخدمون أساليب لم يقم عليها دليل شرعي من أجل تثبيت استحقاقهم، أو تشويه صورة أهل الحق وإزالتهم عن موقعهم، كما كانوا يقولون: (إن قريش نظرت فاختارت، وإنها أبت أن تجتمع النبوة والخلافة في بنيي.

ص: 425


1- الوسائل ج10، باب2، ص23، سنن ابن ماجه المقدمة باب11، وسنن الترمذي كتاب المناقب، مناقب أبي ذر، ومسند أحمد، وطبقات ابن سعد. (عن معالم المدرستين).
2- الوسائل: ج19، باب6، ص35.
3- البحار: ج17، باب4، ص378.
4- البحار: ج22، باب37، ص142.
5- أخرجه الطبراني في الدر المنثور، وروي عن طريق الخاصة.
6- راجع كتاب الاحتجاج للطبرسي.

هاشم)(1) و(إن فلان - وهو الأول - أسنّ من عليّ)(2) و(إن علياً فيه دعابة)(3)، والله تبارك وتعالى يخاطبهم {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(النساء:65)، ويقول تعالى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(الحشر:7)، وقال تعالى {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}(القصص:68) {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَ-ى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}(الأحزاب:36) فما قيمة رأي أحد واختياره كائناً من كان بعد قضاء الله تبارك وتعالى واختياره {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ}(البقرة:90).

الضوابط والمعايير لتولّي الخلافة:

فبهذه المعايير والضوابط التي سنذكرها إن شاء الله تعالى تستطيع الأمة أن تفرز هؤلاء المتطفلين مهما مارسوا من أساليب الخداع والتضليل، المتقمصين لأمرها بغير حق:

(فمنها) قوله تعالى: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}(البقرة: 124)، والعهد هو

ص: 426


1- ابن أبي الحديد: ص107 من المجلد الثالث في شرح النهج، ابن الأثير: ص24 ج3 من كامله. (عن المراجعات: مراجعة 84). سيرة الأئمة: ج1 ص332 هاشم معروف الحسني.
2- الغدير: ج2 ص128.
3- شرح النهج: ج1 لابن أبي الحديد عن شيخه أبو عثمان في كتابه السفيانية، سيرة الأئمة: ج1 ص338.

الإمامة؛ لأنها جاءت جواباً على سؤال إبراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعد جعله إماماً، قال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي}، وقد فُسّرت في الروايات الشريفة بمن سجد لصنم يوماً ما(1)، فإن من فعل ذلك سفيه، ولا يكون السفيه إمام التقي كما في الحديث(2)، ويشهد له قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}(لقمان:13). (ومنها) قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا}(الحديد:10).

(ومنها) قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (لا يلي أمر هذه الأمة طليق).

(ومنها) قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (فاطمة بضعة مني، يرضى الله لرضاها، ويغضب لغضبها)(3).

وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (يا عمار تقتلك الفئة الباغية)(4).

(ومنها) حشدُهُ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) المعادين لخط الإمامة، وفيهم شيوخ قريش في جيش أسامة ذي السبعة عشر ربيعاً، ولعنه من تخلف عن جيش أسامة، وأمر1.

ص: 427


1- روى الفقيه ابن المغازي الشافعي مسنداً عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): انتهت الدعوة إلي وإلى علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولم يسجد أحدنا لصنم فاتخذني نبياً واتخذ علي وصياً. (حق اليقين في معرفة أصول الدين - الحادي عشر من الآيات الدالة على إمامة علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).
2- الكافي: كتاب الحجة، حديث 438، المجلد الثاني.
3- الإمامة والسياسة لابن قتيبة: 1/ 14، أعلام النساء: 3/ 314. (عن نظريات الخليفتين ج1).
4- الكافي: 5/ 11.

بإنفاذه فوراً(1)، وكان ذلك منه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لإخلاء الساحة من الذين لا ينصاعون لإمامة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

تطبيق الضوابط على المتصدين للخلافة بغير حق:

وبملاحظة هذه المعايير والضوابط تكتشف كيف خطط رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لحصر الأمر بعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فبعض المتصدين ممن أغضب فاطمة (علیها السلام) وماتت وهي واجدة عليهم، كما أشهدتهم (صلوات الله عليها) على ذلك، فنالوا بذلك غضب الله تبارك وتعالى، وهل يلي أمر الأمة أحد من المغضوب عليهم، ثم هم من الظالمين الذين سجدوا للأصنام ردحاً طويلاً من الزمن، فلا ينالهم عهد الله تعالى، فكيف يكون أحدهم إماماً لمن كرم الله وجهه عن ذلك -كما يعترفون- وهم أيضاً ممن تخلفوا عن جيش أسامة فينالهم حكمه.

وبعضهم لم يقاتلوا لا قبل الفتح ولا بعده، وهزائمهم في الحروب معروفة، ومنهم من ولّى منهزماً في معركة أحد لا يلوي على شيء ثلاثة أيام، حتى بلغ تخوم الشام، فقيل له: إن الأمر لا يستحق ذلك وقد عاد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سالماً إلى المدينة.

ومعاوية ومروان ممن أسلموا بل استسلموا بعد الفتح، فلا يستوون مع من آمن

ص: 428


1- الشهرستاني في المقدمة الرابعة من كتاب الملل والنحل. (المراجعات: مراجعة 90، النص والاجتهاد - سرية جيش أسامة).

وأنفق من قبل الفتح وقاتل، وهم من الطلقاء(1) فلا يحق لهم ولاية أمر الأمة. وهم من البغاة، لأنهم قتلوا عماراً في صفين، فكيف يلي أمر الأمة باغٍ أثيم(2).فلو كانت الأمة واعية لتلمست طريقها بوضوح، حيث لم يترك لها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عذراً، فهل كان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عاطفياً وبدافع الحب لابنته حين قال هذا الكلام، وهل سمعت بأحد غيور يرتقي المنبر ويثني على مزايا ابنته ؟! لا طبعاً خصوصاً في مثل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الذي يصفه القرآن {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى}(النجم:3-4). وإنما المسألة أبعد من ذلك، إنه يريد أن ينصب لهم ميزاناً يعرفون به الحق والباطل لو اختلطا عليهم، وإن كان الأمر واضحاً لكن قلبه الكبير ورحمته ورأفته بالأمة أبت إلا أن يوالي الحجج على هذه الأمة وينصب لها العلامات تلو العلامات حتى وهو على فراش المرض في رزية الخميس كما يسميها ابن عباس(3). ولأنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان يعلم أن أساليب التضليل كثيرة ووسائل الضغط قوية وشرسة، فالنص - وهو الشكل الأول من التخطيط - يُؤوَّل ويُحرَّف، وهذه الثلة المخلصة - وهو الشكل الثاني - يُضيَّق عليها وتحبس أنفاسها، فأبو ذر ينفى إلى الربذة حتى يموت غريباً(4)، وعمار وعبد الله بن9.

ص: 429


1- مستدرك نهج البلاغة: الباب الثاني، كتاب أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى معاوية وقوله: (…واعلم يا معاوية أنك من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة ولا تعقد معهم الإمامة…).
2- البحار: ج36، باب41، ص327، النص والاجتهاد: المورد 95 حرب معاوية لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).
3- المراجعات: المراجعة 86.
4- الوسائل: ج22 باب 12 ص395، معالم المدرستين ج1 ص459.

مسعود(1) يداس بطنه وتوجأُ عنقه، وأم أيمن امرأة أعجمية لا تقبل لها شهادة(2)، والحسن والحسين طفلان صغيران(3)، وعليّ يجر النار إلى قرصه فلا تقبل له ولا لولديه شهادة(4)، والزهراء (علیها السلام) تتجرع الآلام غصة بعد غصة حتى لحقت بأبيها بعد أيام وهكذا …، لذا كان الشكل الثالث من التخطيط ضرورياً ليكون شاهد عدل مدى الأجيال، تملأ أفواه مزوري الحقائق بالتراب.ولعلك تعجب مع وضوح هذا التخطيط وقوة الحجج المتوالية التي لم تنقطع حتى وفاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وإذا بالأمر يزول عن مستقره ويتقمص الخلافة غير علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وهو يعلم أن محل ابن أبي طالب منها محل القطب من الرحى، ينحدر عنه السيل، ولا يرقى إليه الطير(5).

وانه لعجيب فعلاً، ولو لم يكن حقيقة ثابتة أجمع عليها المؤرخون لما صدّقنا به، وقد أوجدت في عين أمير المؤمنين قذى، وفي الحلق شجى، وفي القلوب جمرة لا تطفأ إلى يوم القيامة حتى ينتصف المظلوم من الظالم، ونعم الحكم اللهة.

ص: 430


1- ابن مسعود: أسلم قديماً وأجهر قديماً في مكة فضربوه حتى أدموه وهاجر إلى الحبشة والمدينة، شهد بدراً وما بعدها، وقطع عثمان عطاءه سنتين لإنكاره على الوليد ما ارتكبه زمان ولايته على الكوفة ومات سنة اثنتين وثلاثين. (أسد الغابة: 3/ 256-260، مستدرك الحاكم: 3/ 315،320 وراجع أحاديث عائشة 62-65) (عن معالم المدرستين ج2)، وحول مقتله راجع للتفصيل سيرة الأئمة ج1 ص370 وكذلك ضرب عمار بن ياسر.
2- بحار الأنوار: ج28، باب4، ص302، سيرة الأئمة: القسم الأول ص118 لهاشم معروف الحسني.
3- سيرة الأئمة: القسم الأول ص119.
4- سيرة الأئمة: القسم الأول، ص118.
5- من كلمات لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الخطبة الشقشقية في نهج البلاغة.

والخصم محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)(1)، يقول الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بهذا الصدد: (إن حقوق الناس تثبت بشهادة شخصين، وقد أنكر حق جدي أمير المؤمنين وعليه سبعون ألف شاهد كانوا مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في غدير خم)(2).

المرجعية الدينية ومسؤوليات التخطيط لإعداد البديل:

وعلى أية حال، فليست هذه الحالة فريدة في التأريخ، بل هي تتكرر كلما تكررت ظروفها الموضوعية، وما دامت النفس الأمارة بالسوء الميالة لاتباع الهوى وإشباع الشهوات والنزوع إلى التسلط وحب الجاه، وقد عشنا مثلها فإلى الله المشتكى(3).

والذي أريده من هذا البيان ليس فقط ترسيخ هذه العقيدة والدفاع عنها وإن كان هذا مطلباً مهما، لكني بالإضافة إليه أقول: إن العلماء وعلى رأسهم المرجعية الشريفة هم ورثة الأنبياء(4)، ليس فقط في الحقوق والامتيازات، وإنما في الوظائف والمسؤوليات والواجبات، خصوصاً وقد أمرنا بالتأسي برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}(الأحزاب:21).

ص: 431


1- من خطبة الزهراء التي احتجت بها على الصحابة في مسجد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ). (المصنف). راجع شرح النهج لابن ابي الحديد: ج16 ص210.
2- بحار الأنوار: ج37 باب52 ص158.
3- يشير (دام ظله) بذلك إلى ما حصل من حركات (انقلابية) على وصية السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) رغم النصوص والإشارات المتكررة.
4- الكافي: 1/ 32.

ومن تمام التأسي والوراثة إعداد البديل بغض النظر عن كونه واحداً أو أكثر، وتربيته وتأهيله لهذا المنصب الإلهي الشريف، وأي تقصير فيه غير مغتفر لا عند الله سبحانه ولا عند رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ولا أوليائه العظام ولا عند المجتمع، وبعد أن يطمئن إلى إكمال إعداد البديل علمياً وفكرياً وأخلاقياً وعقائدياً - وهي المقومات الأربعة لشخصية العالم الديني، بل كل مسلم واعٍ مخلص- يجب أن يشير إليه صريحاً، وهذا هو الشكل الأول من التخطيط.وأما الشكل الثاني فيؤدى بالإشادة بمجموعة من الفضلاء الورعين المخلصين من أهل الخبرة الذين يطمئن إلى استقامتهم على الطريقة وإنصافهم الحق ونزاهتهم في بيانه وبصيرتهم في الأمور، حتى يرشدوا المجتمع بإخلاص وبلا لبس وإجمال وغموض إلى المرجع البديل.

وأما الشكل الثالث ففيه صنفان من الضوابط والمعايير والشروط، فمنها شروط ثابتة، وهي الاجتهاد والعدالة وغيرها من المذكورات في الرسائل العملية، ومنها شروط متحركة بحسب الزمان والمكان والظروف الموضوعية التي تعيشها المرجعية الشريفة، وهذه يجب طرحها بحسب الحاجة وفي وقتها المناسب. وهذا الكلام كله على نحو الإشارة والإجمال، وللتفصيل محله المناسب.

مسؤولية الأمّة في البحث عن المرجع البديل:

هذا بالنسبة لتكليف المرجعية، وفي مقابله توجد مسؤولية على الأمة يجب أن تعيها وتؤديها، وهي سؤال المرجع عن البديل، فإذا عينه كان من واجبهم الالتفاف

ص: 432

حوله والإشادة به ودلالة المجتمع عليه، وقد تكاملت هذه التربية عند أصحاب الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، فكانوا يسألونهم: (مَنْ الحجة بعدك)(1) و(إلى من المفزع إذا حدث حادث)(2) وهكذا، وإذا ذهب إمام فلم يكونوا يصدّقون كل من يدعي الإمامة، بل يجرون له الامتحانات التي لا ينجح فيها أي إمام(3)، كامتحانهم لجعفر أخي الإمام العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الذي ادعى الإمامة بعد أخيه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).ة.

ص: 433


1- أصول الكافي: كتاب الحجة باب الإشارة والنص على الأئمة.
2- نفس المصدر.
3- راجع كتاب أصول الكافي/كتاب الحجة.

القبس /35: سورة المائدة:79

اشارة

{كَانُواْ لَا يَتَنَاهَونَ عَن مُّنكَر فَعَلُوهُ ۚ لَبِئسَ مَا كَانُواْ يَفعَلُونَ}(1)

وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر قرآنياً/4

وهذه الآية صريحة في ذم كل التاركين لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا اختصت الآية السابقة وهي (المائدة:63) بالربانيين والأحبار.

في الدر المنثور بعدة أسانيد عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (إن بني إسرائيل لما عملوا الخطيئة نهاهم علماؤهم تعزيراً، ثم جالسوهم وآكلوهم وشاربوهم كأن لم يعملوا بالأمس خطيئة، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان نبي من الأنبياء، ثم قرأ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهن عن المنكر، ولتأطرنهم على الحق أطراً، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، وليلعننكم كما لعنهم)(2).

وإلى هنا نكتفي بتقريب الاستدلال بهذه الآيات الكريمة.

ص: 434


1- عرض مجمل لهذه الآية جاء في درس البحث الخارج الفقهي لسماحته.
2- الدر المنثور: مج 3/ 124.

القبس /36: سورة المائدة:105

اشارة

{يَأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيكُم أَنفُسَكُم}

موضوع القبس: دفع إشكال التعارض بين ما دل على وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر مع آية {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ}

ويحسن الآن التعرض إلى ما قيل من الإشكال بوجود التنافي ظاهراً بين هذه الآيات التي توجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُ-رُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إلى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (المائدة:105).

وتقريب الإشكال أن آية {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} تضع عن المؤمنين وظيفة الدعوة إلى الله تبارك وتعالى و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتكتفي منهم بالالتفات إلى إصلاح أنفسهم، ويكون معنى {لا يَضُ-رُّكُم} أي لا تبعة عليكم ولا مسؤولية شرعية؛ لسقوط التكليف عنكم.

ويظهر أن البعض اتخذ من هذه الآية ذريعة لترك هذه الفريضة منذ صدر الإسلام، ففي الدر المنثور بأسناد عديدة ((صعد أبو بكر منبر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنكم لتتلون آية من كتاب الله وتعدّونها رخصة، والله ما أنزل الله في كتابه أشدّ منها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ

ص: 435

أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَ-لَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} والله لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنَّ عن المنكر أو ليعمنّكم الله منه بعقاب))(1).أقول: آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تأبى أن تكون هذه الآية حاكمة عليها على نحو النسخ والإلغاء كما يصوّر الإشكال، خصوصاً بعد جعل هذه الوظيفة سمة الأمة الإسلامية التي تتميز بها عن كل الأمم في قوله تعالى: {كنتم خير أمة}، وعليه فلا يحتمل سقوط فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بآية {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ}، مضافاً إلى أن فهم آية {عليكم أنفسكم} على أنه ترك وظيفتي الدعوة والأمر والنهي قابل للمناقشة فيزول الإشكال من أصله.

وهذا ما سيتضح من خلال الوجوه التي نذكرها لمعالجة الإشكال، ومنها:-

1-إن آية {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} تأتي بعد امتثال فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالمعنى الذي تقدم(2) في تفسير قوله تعالى: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ} (التحريم:6) وفي هذا المعنى رواية أوردها في الدر المنثور بطرق عديدة عن أبي أمية الشعباني قال: ((أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أية آية؟ قال: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألتُ عنها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا9.

ص: 436


1- الدر المنثور: مج 3/ 215.
2- وكذلك انظر: أسمى الفرائض، القسم الأول: ص79.

رأيت شحّاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر، الصابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً، يعملون مثل عملكم)))(1).

وأخرج عن حذيفة وغيره في هذه الآية قال: ((إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر)).2-معنى {عليكم أنفسكم} أي أنتم مسؤولون عن صلاح أنفسكم والتزامها بأوامر الله تعالى ونواهيه ومنها فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير، وحينئذٍ لا تتحملون مسؤولية من ضل ممن هم مرتبطون بكم كآبائكم وأزواجكم ونحوهم، فتكون بمعنى قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الإسراء:15) وقوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ} (البقرة: 134)، خصوصاً وأن المخاطبين يومئذٍ كان آباؤهم وبعض أقربائهم على الشرك، ويؤيد هذا المعنى ورود لفظ {إذا اهتديتم} هنا وفي الآية السابقة عليها {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170).

ويمكن أن يستفاد هذا المعنى مما رواه في الدر المنثور بسنده عن ابن عباس في تفسير الآية قال: ((إذا ما أطاعني العبد فيما أمرته من الحلال والحرام، فلا يضرُّه من ضلَّ بعده إذا عمل بما أمرته به))(2)، وعنه أيضاً قال إن مراد الآية:9.

ص: 437


1- الدر المنثور، مج3، 215، وأوردها مختصرةً في تفسير البرهان: 3/ 298 عن مصباح الشريعة: 18.
2- الدر المنثور: مج 3، 219.

((أطيعوا أمري واحفظوا وصيتي)) واختاره العلامة الطبرسي في المجمع(1).3-إن آية {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} خاصة بدعوة الكفار إلى الإسلام فترخّص في تركها وترك الجهاد، وربما يستدل له باستعمال لفظ الهداية والضلال في الآية مما يناسب كون الخطاب بلحاظ دعوة الكفار، روى في الدر المنثور بسنده عن أبي عامر الأشعري ((إنه كان فيهم شيء فاحتبس على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ثم أتاه فقال: ما حبسك؟ قال: يا رسول الله قرأت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} قال: فقال له النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): أين ذهبتم؟ إنما هي: لا يضركم من ضلّ من الكفار إذا اهتديتم)(2).

أقول: هذا المعنى لا يمكن قبوله في فريضة الجهاد والدعوة إلى الله تبارك وتعالى كما لم يُقبّل في فريضة الأمر والنهي؛ لأن الدعوة إلى الخير من مقومات هوية هذه الأمة وعناصرها الأساسية كما تقدم في تقريب قوله تعالى: {ولتكن منكم}.

4-أن الآية خاصة بظرف التقية وحصول الضرر من ممارسة الفريضة

فتكون دليلاً على اشتراط عدم الضرر من الامتثال.

في الدر المنثور بطرقه عن ابن مسعود في قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ}5.

ص: 438


1- مجمع البيان: مج2: 392.
2- الدر المنثور: مج3، 215.

قال: ((مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر ما لم يكن من دون ذلك السوط والسيف، فإذا كان ذلك كذلك فعليكم أنفسكم)(1) وروى مثله عن ابن عباس.أقول: لا يدل ظاهر الآية ولا سياقها على الاختصاص بظرف التقية.

5-أن يقال: إن هذه الآية تدل على الرخصة، فتُحمل آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الظاهرة في الوجوب على الاستحباب كما هو مقتضى الصناعة.

وهو وجه يجري على القواعد المعمول بها لو كنّا نحن والآيات الشريفة، وعلى فرض ظهور الآية في هذه الرخصة، وروى في الدر المنثور عن الحسن أنه تلا هذه الآية فقال: ((يا لها من سعة ما أوسعها، ويا لها من ثقة ما أوثقها))(2).

أقول: بغضّ النظر عن صحة الوجه فنّياً، إلا أن فهم الرخصة بعيد لبعد الأثر المترتب عليها وهو قوله تعالى: {لا يضرّكم} إذ من المعلوم تضرر المجتمع بوجود الفساد والانحراف فيه، وأن عدم الردع عن المنكر يؤدي إلى انتشاره وفتكه في كيان المجتمع حتى يقضي عليه، قال تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} (الأنفال: 25).

مضافاً إلى أن نتيجة هذا الوجه مما لا يمكن قبولها لإجماع المسلمين على وجوب الفريضة في الجملة.

6-إن آية {عليكم أنفسكم} تدعو المؤمنين إلى الثبات على الحق8.

ص: 439


1- الدر المنثور، مج3، 216، 219.
2- الدر المنثور، مج3، 218.

والاستقامة، وأن يلزموا ما هم عليه، ولا يتأثروا بما عليه أهل الضلال من النعم المادية والترف فيدعوهم ذلك إلى ترك ما هم عليه، فتقول لهم الآية: إن ما عندهم هو الخير فالزموه –الذي هو معنى عليكم- ولا يغرنكم ما فاتكم مما عند أهل الضلال فتضلوا مثلهم، فتضروا أنفسكم بالتأثر بهم، ولا تخافوا من أن يكون لزوم طريقتكم المثلى سبباً لفوات النعم عليكم ونحوها.فيكون هذا المعنى قريباً من قوله تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (طه: 131)، وقوله تعالى: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} (آل عمران: 196-197)، وقوله تعالى: {وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} (القصص:57)، وهو ما يريد الله تعالى حماية عباده منه في قوله تعالى: {وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ، وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ، وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} (الزخرف: 33).

7-ما يقرب من قول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لا أصلحكم بفساد نفسي) ويكون معنى الآية: التفتوا أولاً إلى إصلاح أنفسكم ولا تنشغلوا بالعمل على إصلاح المجتمع وتضيّعوا أنفسكم، فإذا لزم الانهماك بالعمل الاجتماعي تضييع أنفسكم فتركه أولى والالتفات إلى تهذيب النفس وتكميلها.

وهذه مشكلة كبيرة أفرزها واقع العمل الإسلامي الاجتماعي والحركي،

ص: 440

والمتصدين له على أوسع مستوياته لكنهم عندما يتعرضون لامتحانات التقوى والاستقامة ينهارون، وقد شخّصت هذه المشكلة في جملة من خطاباتي.وتدل عليه فيما نحن رواية علي بن إبراهيم في تفسيره الآية عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (أصلحوا أنفسكم فلا تتبعوا عورات الناس ولا تذكرونهم، فإنه لا يضركم ضلالتهم إذا كنتم أنتم صالحين)(1).

وقد نبّه القرآن الكريم إلى هذه النكتة في آيات عديدة كقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً، وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} {الكهف: 6-7)، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاءُ اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} (الرعد:31).

أقول: والخلاصة أن على المؤمن أن يراقب الله تعالى في حركته ولا يشغله شيء عن إصلاح نفسه ويوظف كل عمل لهذا الغرض، ومن تلك الأعمال الدعوة إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يكلف نفسه أكثر من ذلك، فإن النتائج بيد الله تعالى وهو مدبّر الأمور ومسبب الأسبا.

وهذا الوجه اختاره السيد الطباطبائي في الميزان (قدس سره): ((إن الآية لا تنافي آيات الدعوة وآيات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فإن الآية إنما تنهى8.

ص: 441


1- البرهان في تفسير القرآن: 3/ 298 عن تفسير القمي: 1/ 188.

المؤمنين عن الاشتغال بضلال الناس عن اهتداء أنفسهم وإهلاك أنفسهم في سبيل إنقاذ غيرهم وإنجائه. على أن الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من شؤون اشتغال المؤمن بنفسه وسلوكه سبيل ربه، وكيف يمكن أن تنافى الآية آيات الدعوة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أو تنسخها ؟ وقد عدهما الله سبحانه من مشخصات هذا الدين وأسسه التي بنى عليها كما قال تعالى: {قُلْ هَ-ذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) وقال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} (آل عمران: 110).

فعلى المؤمن أن يدعو إلى الله على بصيرة وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر على سبيل أداء الفريضة الإلهية وليس عليه أن يجيش ويهلك نفسه حزنا أو يبالغ في الجد في تأثير ذلك في نفوس أهل الضلال فذلك موضوع عنه))(1).

8-ما يشبه الوجه الخامس بتطبيقه على المجتمع وذلك بأن نفهم من {أنفسكم} العموم المجموعي لا الاستغراقي؛ لأن المؤمنين كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، فيكون المعنى: عليكم أن تلتفتوا إلى صلاح وإصلاح مجتمعكم من خلال إصلاح أنفسكم، وحينئذٍ يكون قوله تعالى: {لا يضرّكم} إما من باب التطمين من قبل الله تعالى بأنهم لا يضرّهم الضالون، بمعنى أن ضلالهم لا يسري ولا يصل إليكم ما دمتم عاملين على3.

ص: 442


1- الميزان في تفسير القرآن: 6/ 163.

إصلاح بعضكم بعضاً، فتكون من آيات الحث على فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو تكون بمعنى أنهم ليس عليهم تضييع وظيفتهم أمام مجتمعهم من أجل أن يلتفتوا إلى إصلاح حال الآخرين.وهذا المعنى أورده في مجمع البيان وقال: ((إن هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الله تعالى خاطب بها المؤمنين فقال: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} يعني عليكم أهل دينكم –كما قال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}- لا يضركم من ضل من الكفار، وهذا قول ابن عباس في رواية عطا عنه، قال: يريد يعظ بعضكم بعضاً وينهى بعضكم بعضاً ويعلّم بعضكم بعضاً ما يقرّبه إلى الله ويبعده عن الشيطان ولا يضركم من ضل من المشركين والمنافقين وأهل الكتاب))(1).

وأيضاً احتمله السيد الطباطبائي، قال (قدس سره): ((وتسع الآية أن تحمل على الخطاب الاجتماعي بأن يكون المخاطب بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} مجتمع المؤمنين فيكون المراد بقوله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} هو إصلاح المؤمنين مجتمعهم الإسلامي باتخاذ صفة الاهتداء بالهداية الإلهية بأن يحتفظوا على معارفهم الدينية والأعمال الصالحة والشعائر الإسلامية العامة كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103} وقد تقدم في تفسيره أن المراد بهذا الاعتصام الاجتماعي الأخذ بالكتاب والسنة.

ويكون قوله: {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} يراد به أنهم في أمن2.

ص: 443


1- مجمع البيان: مج2/ 392.

من أضرار المجتمعات الضالة غير الإسلامية فليس من الواجب على المسلمين أن يبالغوا الجد في انتشار الإسلام بين الطوائف غير المسلمة أزيد من الدعوة المتعارفة كما تقدم.وهنا معنى آخر لقوله: {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} من جهة أن المنفى في الآية هو الإضرار المنسوب إلى نفس الضالين دون شيء معين من صفاتهم أو أعمالهم فتفيد الإطلاق، ويكون المعنى نفى أن يكون الكفار ضارين للمجتمع الإسلامي بتبديله مجتمعاً غير إسلامي بقوة قهرية فتكون الآية مسوقة سوق قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} (المائدة: 3) ، وقوله: {لَنْ يَضُ-رُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ} (آل عمران: 111).))(1).

9-ما ذكرناه في بعض كتبنا(2) من أن التكاليف على قسمين: الفردية والاجتماعية، ونعني بالأولى تلك التي توجَّه إلى الفرد بما هو فرد من دون ارتباطها بتكليف الآخرين، كالصلوات اليومية التي يجب على الفرد القيام بها سواء امتثل الآخرون أم لا، أما الثانية فهي التي يُخاطب بها الفرد بما هو جزء من المجتمع، وهذا الفرق ناشئ من كون امتثال الأولى يؤتي ثماره سواء أدى الآخرون أم لا بعكس الثانية.

فآية {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} بلحاظ الأولى أما وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي من الثانية، فموضوعهما مختلف.

ص: 444


1- الميزان في تفسير القرآن: 6/ 167- 168.
2- خطاب المرحلة: 1/ 291-292.

الصورة

ص: 445

الفهرس الإجمالي

الصورة

ص: 446

الصورة

ص: 447

الصورة

ص: 448

الصورة

ص: 449

الصورة

ص: 450

الصورة

ص: 451

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.