أثر كلام الإمام علي(عليه السلام) في النثر العربي

هوية الکتاب

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 1352 لسنة 2016 م مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI ara IQ-KaKPLI rda.

رقم تصنیف LC:

BP38.09.N7 T3 2016.

المؤلف الشخصي: الطالقاني، ضیاء طعمة عبد الحسین.

العنوان: أثر کلام الإمام علي (علیه السلام) في النثر العربي حتی نهایة القرن الثاني للهجرة: (الحسن البصري وابن المقفع إنموذجا).

بیان المسؤولیة: تألیف ضیاء طعمة عبد الحسین الطالقاني؛ تقدیم سید نبیل قدوري الحسني.

بیانات الطبعة: الطبعة الأولی.

بیانات النشر: کربلاء: العتبة الحسینیة المقدسة - مؤسسة علوم نهج البلاغة.

1437 ه= 2016 م.

الوصف المادي: 472 صفحة.

تبصرة عامة:

تبصرة ببیلوغرافیة: یتضمن هوامش - لائحة المصادر (الصفحات 435 - 466).

تبصرة محتویات:

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (علیه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 هجریا - سیرة.

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (علیه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 هجریا - النثر العربي.

موضوع شخصي: الحسن البصري، 21 - 110 هجریا - تأثر.

مصطلح شخصي: ابن المقفع، عبد الله، 106 - 142 هجریا - تأثر.

مصطلح شخصي: النثر العربي - تاریخ ونقد.

مؤلف إضافي: الحسني، نبیل قدوري حسن، 1965 م، مقدم.

عنوان إضافي: نهج البلاغة. شرح.

تمت الفهرسة قبل النشر في مکتبة العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 1

اشارة

اثر کلام الامام علي والنثر العربي حتی نهایة القرن الثاني للهجرة الحسن البصري وابن المقفع إنموذجاً

ص: 2

ص: 3

اثر کلام الإمام علي في النثر العربي حَتَّیٰ نَهایَةِ القُرْن الثَانِيْ لِلهِجَرة الحسن البصري وابن المقفع إنموذجاً تَألِیْفُ ضِیَاءُ طعمَة عَبدُ الحُسَیْن الطَالقَانِيْ إصْدَار مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 4

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1437 ه - 2016 م العراق: كربلاء المقدسة - شارع السدرة - مجاور مقام علي الأكبر علیه السلام مؤسسة علوم نهج البلاغة هاتف: 07728243600 07815016633 الموقع: www.inahj.org Email: Inahj.org@gmail.com

ص: 5

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المؤسسة الحمد لله على ما أنعم وله الشکر بما ألهم والثناء بما قدّم من عموم نعمٍ ابتدأها وسبوغ آلاء أسداها والصلاة والسلام علی خیر النّعم وأفضلها محمد وآله الأخیار الذین أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهیراً.

أمّا بعد:

لو أنصف أهل العلم والفکر الإمام علي بن ابی طالب علیه السلام لوجدوا أثره في جمیع الحقول المعرفیة إن لم یکن له النصیب الاوفر والسهم الأعظم في البعض منها وما هذه الرسالة الموسومة ب(أثر کلام الإمام علی علیه السلام في التراث الأدبي) إلا واحدة من الدراسات المنصفة التي تستنهض الأقلام العلمیة للکتابة في أمرین مهمین:

أولا: حجم الظلم الذي جناه کثیر6 من المصنفین في المعارف والعلوم الإسلامیة ولا سیما أهل الأدب واللغة من خلال تغییب کلام الإمام علي بن ابي طالب علیه السلام

ص: 6

المقدمة

وتحویله بالنسبة إلی غیره تجرباً علی الله ورسوله صلی الله علیه وآله وسلم.

والأمر الآخر، انتهاك حقوق الملکیة الفکریة للإمام علی بن ابی طالب علیه السلام فیما لو عملت به المنظمات الحقوقیة في عالم الیوم.

ونحن من هذه المؤسسة التي تعنی بعلوم کتاب نهج البلاغة وحیاة أمیر المؤمنین علي بن أبي طالب علیه السلام وفکره ومن هذا البحث الموسوم الذی یعدّ مادة وثائقیة تثبت وقوع هذه السرقات في مجالها المعرفي ندعوا الباحثین والعاملین في مجال حقوق الملکیة الفکریة الی اعتماد هذه القضیة وبیان حجم السر - قات التي وقعت في التراث الإسلامی ومعارفه العدیدة والتي تعود في اصلها الی الإمام علي بن ابي طالب علیه السلام وتمت سرقتها ونسبتها الی غیره، وهو القائل علیه السلام: «نحن الشعار الأصحاب، والحزنة والأبواب، ولا تؤتی البیوت إلا من أبوابها، فمن أتاها من غیر أبوابها سمي سارقاً».

فجزی الله الباحث عن عمله في هذه الدراسة کل خیر، فقد بذل فیها جهده لبیان حق من حقوق الإمام علی علیه السلام في هذا الحقل المعرفي، وآخر دعوانا (أن الحمدلله رب العالمین).

السَّیَّد نَبیلُ قَدُّوِدي حَسَن الحَسَني رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 7

المقدمة الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا لا يحصي عدده العادون، ولا يبلغ كنهه المجتهدون، حمدًا دائمًا، يصعد أوّله ولا ينتهي آخره، والصلاة والسلام على خير الأنام محمّد وآله الكرام.

وبعدُ ... فإنّه من دواعي البهجة والسرور أن نقدِّم دراسة تخصّ كلام أمير المؤمنین علي بن أبي طالب علیه السلام دراسة لم يُسبق أن دُرس هذا الكلام بمثلها، فكانت تحت عنوان «أثر کلام الإمام علي علیه السلام في النثر العربي حتی نهایة القرن الثاني للهجرة».

وقد علمت يقينًا أني بهذه الدراسة كراكب الصعبة لأمرين هما: إنّ دراسة الأثر والتأثير دراسة شاقة، وعمادها الأساس هو الباحث - أي باحث - الذي يتولّى هذهِ المهمة.

والأمر الثاني إن التنقيب عن أثر كلام أمير المؤمنين علیه السلام في النثر مشقة وجسامة أخری، کون هذا الکلام هو ترجمان للقرآن الحكيم، ولكلام النبي الكريم صلی الله علیه وآله ي

ص: 8

بمعنى إنّ بين هذا الثلاثي شبه كبير جدًّا، وعلیه من الصعوبة بمکان فرز أثر النص القرآني عن أثر النص النبوي عن أثر النص العلوي.

وبعد أن جعلت الله حسبي في أموري كلّها، فهو المدعوُّ للمهمّات، وهو المفزع في الملمات، فُتحت أمامي طرُق لم أكن أتوقعها أفضت إلى اكتشاف أثرٍ مهيب لكلام الإمام علیه السلام علی جمیع الکتاب الذین قرأت لهم مدّة الدراسة.

وبعد هذه النتائج التي حصلت عليها من عشرات الكتاب، قدمت للدكتورة المشرفة خطةً توزّعت على تمهيد وخمسة فصول، وبعد المناقشة والتعديلات أذنت لي وشرعت بالكتابة على هذا الأساس، ولكن عند وصولي إلى الفصل الثالث لاح لي أنّ الرسالة - بالفصول الثلاث - تقلُّ أو تنيف على الثلاثمائة صفحة.

وهنا كنت أمام خيارين:

الأوَل:

الانتقاء من النصوص المتأثرّة التي جمعتها، بسبب عدم إمكان بث هذهِ النصوص في رسالة أو أطروحة واحدة، بل الأمر يحتاج إلى أكثر من ذلك، وهذا الخيار لم أفضله لأنّ النصوص التي تبقى بعد الانتقاء - وهي الأكثر بكثير - لايمكن أنّ تُدرس من جديد على اعتبار أنّ المدّة الزمنية التي ينتمي إليها النص دُرست بهكذا دراسة.

الثاني:

الاكتفاء بما كتبته عن الحسن البصري وابن المقفع، علًما أنّ أیًّا من الأدیبین ينهض بدراسة تامة، لكنّي فضلت الجمع بينهما - بعد أن اختصرت من كلامهما المتأثر أيضا - من أجل تعزيز احدهما بالآخر، لأنّ هذا التعزيز يعزز بدوره أثر كلام الإمام من جهة، ومن جهةٍ أخری حتی لا یکون هنالك إشکال أو تساؤل

ص: 9

مفاده لماذا تأثّر الأديب الفلاني دون غيره بكلام الإمام علیه السلام.

وهذا الخيار الثاني هو الذي فضّلته وحاورت بهِ الدكتورة المشرفة فوجهتني ثم تفضلت عليّ بالموافقة، فأصبح العنوان بحلتهِ النهائية «اثر كلام الإمام علي علیه السلام في النثر العربي حتى نهاية القرن الثاني الحسن البصري وابن المقفع أنموذجا».

وكان قد حصل هذا في الشهر الثامن من عام 2012 م.

وبخصوص باقي النصوص المتأثرة التي تمَّ جمعها من نثرٍ عائدٍ لعشرات الكتاب وعددها بالمئات ندّخرها لدراسات لاحقة بعونه تعالى.

أمّا المنهج الذي اتبعته، فكان على النحو الآتي:

التمهید:

وفيه تمَّ التعرض لمفهوم الأثر والتأثير في اللغة والإصطلاح.

أمّا الفصل الأول فكان تحت عنوان «كلام الإمام علي علیه السلام من حیث التوثیق والتأثير».

ونحن هنا ندرس أثر كلام الإمام علیه السلام في القرن الأول والثاني كان لزامًا علينا أن نبيّن هل كان الكلام الذي يُدرس أثره مجموعًا ومحفوظًا ومدوّنًا حتى يقرأ ويؤثِّر أم لا؟ فإن كان الجواب بنعم، فهذا يعني إننّا قطعنا شوطًا مهمًّا وتوصلنا - مبدئيًا - إلى فاعلية هذا الكلام وتأثيرهِ، وإلاّ لماذا أهتُمَّ بجمعه في ذلك الزمن المبکر جدًّا. فكانت هذه النقطة الأولى من المبحث الأول.

ولمّا عثر الباحث على بعض الأدلة القطعية التي تُسهم في دحض الشبهات التي وُجّهت لبعض كلام أمير المؤمنين علیه السلام، آثر أن یسجلها ویردفها بأدلّةٍ أخری خاض غمارها الباحثون مسبقًا، فكانت هذهِ النقطة الثانية من المبحث الأول.

ص: 10

ونحن نخوض غمار اثر كلام أمير المؤمنين علیه السلام کتن من الواجب أن نقف علی جمالية هذا الكلام، وأسبابها، وما قيل فيها قديمًا وحديثًا. ولهذا خُصِّص المبحث الثاني.

وجاءَ الفصل الثاني معنونًا ب«أثر كلام الإمام علي علیه السلام في نثر الحسن البصري». وعلى وفق المادة التي تم جمعها تمّ تقسيم هذا الفصل على أربعة مباحث:

الأول:

أثر كلام الإمام علي علیه السلام في خطب البصري.

والثاني:

أثر كلام الإمام علي علیه السلام في رسائل البصري.

ولما وجدنا البصري قد أتى على أكثر من خطبة علوية كاملة وفرَّقها في نصوصٍ عدّة آثرنا أن نورد شاهدًا حيًّا على هذا الفعل، فكان ذلك في المبحث الثالث، وتحت عنوان «أثر خطبة المتقين للإمام علي علیه السلام في نثر الحسن البصري».

الرابع:

أثر كلام الإمام علي علیه السلام في مواعظ البصري، وتجدر الإشارة هنا إلى الباحث مع كونهِ سار على تقسيم الأثر إلى مظاهرهِ المتعددة التي تشخص ضمن النتاج النثري لكلا الأديبين وبنقاط مستقلة، إلاّ أنّه رأی من المستحسن عدم إفراد كلِّ مظهر - في المباحث الثلاثة الأولى - بنقطة منفصلة، لأن رسائل البصري وخطبه - وعلى طولها - ما هي إلاّ جمع من کلام الإمام علیه السلام فكان يجعل مقدمة الرسالة - مثلاً - من نصٍّ علوي كأن يكون بالمعنى، ثم ينتقل إلى نصٍّ آخر فيوردهِ بنصّهِ، وإلى ثالث يوردهِ بإيجاز... وهكذا.

ص: 11

فكان الأمر - والحال هذه - إذ قُسِّمت الرسالة إلى أجزاء، جزء منها في نقطة التضمين، والثاني في نقطة أخری،... تكون النتيجة عدم تبيان الأثر العلوي بطريقة تبين ما فعله البصري كدراستنا لتلك الرسالة دون أن نجزِّءها، وعلى هذا فضّلنا - طمعًا في بيان الأثر أكثر - أن نشير إلى هذه المظاهر ضمنًا، وذلك عندما نتسلسل بالرسالة أو الخطبة.

وتكفّل الفصل الثالث والأخير ببيان «أثر كلام الإمام علیه السلام في نثر ابن المقفع»، وجاء هذا الفصل مقسّمًا على أربعة مباحث رئيسة هي:

الأول:

أثر كلام الإمام في رسالة الأدب الكبير، وكان هذا الأثر قد ظهر بمظاهر هي:

أولاّ: التضمين بنوعيه النصي والمحور.

ثانيًا: التلفيق.

ثالثًا: البسط.

رابعًا: الإيجاز.

الثاني:

اثر كلام الإمام علیه السلام في رسالة الأدب الصغير. وكان ظهور هذا الأثر بمظاهر لا تختلف عن سابقتها.

الثالث:

أثر كلام الإمام علیه السلام في رسائل أخری لابن المقفع، وكان ذلك في نقاط ثلاث:

ص: 11

أولاً: أثره في رسالة الصحابة.

ثانيًا: أثره في رسالة الدرة اليتيمة.

ثالثًا: أثره في رسائل متفرقة أخری لابن المقفع.

وهذه الرسائل لقصرها لم تقسَّم بحسب التقسيم السابق، بل تمّت الإشارة لنوع الأثر فيها ضمنًا.

الرابع:

تكرار ابن المقفع لكلام الإمام علیه السلام.

وكانت الخاتمة آخر رحلة البحث، حيث ضمّت نتائج عدّة توصلّت إليها الدراسة.

وبعد هذا فإنّ من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذا لا يسعني إلاّ أن أتقدم بالشكر الجزيل للمشرفة الأستاذة المساعدة الدكتورة جنان الجبوري لرعايتها وتوجيهاتها ووقوفها مع الباحث ونصرتها إياه في يومٍ عزَّ فيه الناصر.

كما أتقدم بالشكر الموصول لفضيلة الأستاذ المساعد الدكتور علي كاظم المصلاوي باذر بذرة الرسالة، وها هي إحدی ثمراتها بين يديه السخيتين.

كذلك الشكر للأستاذ الدكتور الأديب عبود جودي، فهو ممّن شجعني علی هذهِ الدراسة، حيث قال لي عندما شكوت له رفض الموضوع: «يا بنيَّ موضوعك جميل فتمسك بهِ».

وأشكر الأستاذ الدكتور أحمد شاكر غضيب أستاذ الأدب الإسلامي في جامعة بغداد، فهو أشعل بداخلي جذوة مميّزة لما كتب لي عندما طلبت منه

ص: 12

استشهادًا «الموضوع في غاية الروعة والجمال، وسيكون دراسة تأسيسية لما بعده من دراسات» وأشكره مجدّدًا أينما حلَّ وارتحل.

كذلك أقدم شكري وامتناني لسماحة الخطيب الشيخ عبد الحميد المهاجر، فهو أسهم إسهاما فعّالاً في هذا الموضوع - وإن كان لا يدري - كوني حفظت بعض كلام الإمام علي علیه السلام بسببه، فكان حفظي لهذا الكلام هو من أعانني وجعلني أشخصه لمَّا كنت أفتش عنه في خبيئات النثر العربي.

وأخيرًا فإنّي من اناسٍ سجيَّتهم النقص، وحليفهم التقصير والقصور، فأدعو الله وأولياءه، وأرجو من القرّاء المعاملة باللطف لا بالعدل، والحمل على التفضّل لا على الاستحقاق، وصلى الله على محمّد وآله الأطيبين الأطهرين.

ص: 13

ص: 14

التمهید مفهوم الأثرو

التّأثیر والتّأثّر في اللغة والإصطلاح:

تعود هذه المسميات الثلاث على وفق ما أشارت إليه المعجمات اللغوية إلى الفعل الثلاثي (أثر). قال الخليل بن أحمد (ت 175 ه): «الأثر بقية ما يری من كل شيء... والأثارة البقية من الشيء والجمعُ أثارات، ومنه قوله تعالى:

«أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ»(1)»(2).

أمّا ابن منظور (ت 711 ه)، فقال: «الأثر بقية الشيء... وخرجت في إثَرهِ وفي أثرهِ أي بعده ... والتأثير إبقاء الأثر في الشيء، وأثّر في الشيء: ترك فيه أثرًا»(3). وآثره عليه فضّله. وفي التنزيل:

ص: 15


1- الأحقاف 4
2- معجم مقاييس اللغة 1 / 54 - 55 باب (أثر)
3- لسان العرب 4 / 5 مادة (أثر)

«لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا»(1)»(2).

وبعد هذا ومن خلال هذه التعريفات اللغوية نستنتج أنَّ التأثّر له علاقة مباشرة بالتفضيل، أي أنَّ درجة التَّأثُّرِ تتوقَّفُ على درجة التَّفضيل؛ فكلّما كان هذا التفضيل أكثر كان أثره أبلغ وأبين على المتأثر الذي يسعى جاهدًا من أجل تسخيره في عمله، متَّبعًا من أجل ذلك طرقًا عدّة هذا - بالطبع - إذا كان المتَّأثِّرُ أديبًا.

والأمر الآخر الذي يمكن إستنتاجه هو أنَّ هذا الأثرَ الباقي يمكن أن يُری أو لا یُری(3). وهذا الإستنتاج مناسب تمامًا لو ُ طُبِّق في ميدان الأدب، كون الأثر الأدبي يُقسم على قسمين:

القسم الأول:

الأثر الظاهر، أو هو ذلك الأثر الذي يُر كالإقتباس، والتضمين...

القسم الثاني:

الأثر غير الظاهر وهذا الأثر - بطبيعة الحال - لا يُری ولكن يحتاج إلى بصيرة نافذة لإثباته.

وللتدرج في معرفة هذه الظاهرة لابُد من معرفة إنّها ظاهرة طبيعية، لا غنى للإنسان عنها، فهو بطبعهِ كائن اجتماعي جُبِل على هذا الأمر، فمرّةً يؤثر وأخری يتأثّر بالآخرين - وبشتى الوسائل - لأنّه ومهما أوتي من قوة لا يستطيع تكوين

ص: 16


1- يوسف 91
2- لسان العرب 4 / 7 مادة (أثر)
3- ينظر التأثير والتأثر في النص النقدي العربي 4

نفسه «من لا شيء»(1)، بل لابُدَّ له من معينٍ يعينه بُغية ذلك التكوين. والذي يهمنا هنا هو التكوين الأدبي، وهذا ما دعا إليه كبار النقاد العرب، وأسموه بالتثقيف مرّة، والتمرّس بما جاءت بهِ قرائح الفحول من الأدباء أخری، إذ أنّ هذا التثقيف أو التمرس بتلك الآثار، وبطرق عدة: حفظًا، ورواية، ودراسةً، لا شك بأنها من أهمِّ الروافد التي تسهم في تكوين الأديب و «تُظهِر التَّأثيرَ والتأثّر على سطحِ نتاجِ الشاعر مهما حاولَ إخفاءَه، فهو مدينٌ لغيرهِ فيما سيبلُغ أو بلغَ من منزلةٍ شعريَّةٍ»(2).

وكان من أوائل أولئك النُّقاد الذين دعوا إلى إفادة اللاّحق من كلام السَّابق هو الناقد الذّوّاقة(3)- مثلما سمَّته هند حسين طه - ابن طبا طبا العلوي (ت 322 ه)، والذي كثيرًا ما كان يؤكد على هذه المسألة، فقد كان معتقدًا ومقتنعًا بأنّ الأُدباء الذينَ عاصر هم في محنة وهذهِ المحنة عبَّر عنها بقوله: «والمحنة على شعراء زماننا في أشعارهم، أشدُّ منها على مَنْ كان قبلهم، لأنَّهم قد سُبِقوا إلى كلِّ معنًى بديعٍ، ولفظٍ فصيحٍ، وحلية لطيفةٍ، وخلاّبةٍ ساحرةٍ...»(4).

ويبدو أنّ هذه الأزمة أو المحنة التي مرّ بها أدباء زمانه كانت إحدی الأسباب الرئيسة التي حدت بابن طباطبا أن ينصح الأديب في أن «يُديم النَّظر في الأشعار التي أخترناها لتلصقَ معانيها بفهمه، وترسيخ أصولها في قلبه، وتصير مواد لطبعه، ويذربُ لِسانهُ بألفاظها؛ فإذا جاشَ فكره بالشِّعرِ أدّی إليه نتائج ما استفادَه مما نظر فيه من تلك الأشعار، فكانت تلك النتيجة كسبيكة مفرغة من جميع الأصناف

ص: 17


1- خصام ونقد 257
2- أبو العلاء المعّري والشعر العربي في الأندلس دراسة تحليليَّة في التأثير والتأثر 11
3- ينظر: النّظريّة النقديّة عند العرب 233
4- عيار الشعر 8 - 9

التي تخرجها المعادن. وكما قد أغترف من وادٍ قد مدَّته سيولٌ جارية من شعابٍ مختلفة، وكطيبٍ تركّب من أخلاطٍ من الطيب كثيرة، فيستغرب عيانُه، ويغمض مستبطنُه، ويذهب في ذلك إلى ما يُحكى عن خالدٍ بن عبد اللهِ القسريِّ(1)، فإنّه قال: حفّظني أبي ألف خطبة ثمّ قال ليَ: تناسَها، فتناسيتُها؛ فلمْ أرِدْ بعد ذلكَ شيئًا من الكلام إلاّ سَهُلَ عليَّ. فكان حِفظُه لتلك الخطب رياضةً لفهمِهِ، وتهذيبًا لطبعهِ، وتلقيحًا لذهنهِ، ومادّةً لفصاحتهِ، وسببًا لبلاغته ولسنهِ وخطابتهِ»(2).

فابن طبا طبا في كتابه المذكور الذي يُعدُّ من أخصب الكتب النقديَّة التي وصلتْ إلينا(3)، يشيرُ صراحةً إلى التَّمرُّس بتراث الآخر كون هذا التمرس ينتجُ التَّأثر الذي يستبين من خلال ما يبقى من أثر.

ولم تغبْ هذه الفكرة عن ذهن القاضي الجُرجاني (ت 366 ه)، بل أكَّدها بقوله: «وما زالَ الشاعرُ يستعينُ بخاطرِ الآخر، ويستمدُّ من قريحتهِ...»(4).

أمّا أبو هلال العسكري (ت 395 ه) فقد عقد فصلاً تحدَّث فيه عن حُسن الأخذ وطرقه مؤكِّدًا من خلاله على ضرورة التأثر بالآخر، مُشبِّهًا الأديب المُبتدئ بالطفل الذي لا يتعلمُ النُّطق الصَّحيح إلاّ بعد استماعه من البالغين، فقال «ولولا أنّ القائل يؤدّی ما سمع لما كان في طاقته أن يقول، وإنما ينطقُ الطّفلُ بعد

ص: 18


1- خالد بن عبد الله القسري أحد الخطباء المشهورين. ولي مكة سنة 89 ه، والكوفة والبصرة سنة 105 ه. سجنه يوسف بن عمر وعذبه، ثّم قتله في أيام الوليد بن يزيد سنة 126 ه. ينظر: الأعلام 2 / 297
2- عيار الشعر 10
3- ينظر: النظرية النقدية عند العرب 233
4- الوساطة بين المتنبي وخصومه 185

استماعه من البالغين»(1).

وهذا الدور غير المتناهي الذي أعطاه أبو هلال للمُحيطِ بالأديب، تنبّهَ إليه الدكتور طه حسين، ورأی أنّ الفردَ لا يستطيعُ تكوينَ نفسهِ «من لا شيء وإنما جاء من أسرته أوّلاً، ولم یکدْ یری النّور حتَّى تلقتهُ الحياةُ الإجتماعيَّة فصوّرتهُ في صورتها، وصاغتهُ على مثالها وأخضعتهُ لمؤثِّر اتها التي لا تُحصى. فعنصر الفرديّة فيه ضئيلٌ لا يكاد يحسُّ إلاّ أن يمتازَ هذا الفردُ، وامتيازه نفسه يرد في كثيرٍ من الأحيانِ إلى الحياةِ الإجتماعيَّةِ التي أنشأتْهُ»(2).

أمّا ابن رشيق القيروانيُّ (ت 456 ه) - ومن خلال توصياته للأديب - فإنّه بدا موافقًا تمام الموافقة لتوصيات بعض من سبقه من النقاد أمثال: أبي هلال، وابن طباطبا وغيرهم. ومن ذلك قوله: «وليأخذ نفسه بحفظ الشعر والخبر، ومعرفة النسب، وأيام العرب؛ ليستعمل بعض ذلك فيما يريده من ذكر الآثار، وضرب الأمثال، وليعلق بنفسه بعض أنفاسهم ويقوی بقوة طباعهم»(3).

ويؤكد القيروانيُّ هذه المسألة بنص آخر موصيًا الشُّعراء بأنْ «لا يستغني المولد عن تصفح أشعار المولدين؛ لما فيها من حلاوة اللفظ، وقرب المأخذ، وإشارات الملح، ووجوه البديع الذي مثله في شعر المتقدمين قليل»(4).

ومهما يكن من شيء فإنّ هذه الإحاطة بالتراث الأدبي التي دعا إليها النُّقاد كان القصدُ من ورائها تكوين نص إبداعيٍّ جديد «يتمثلُ إبداعُه في بنائِه النُّصوص

ص: 19


1- الصناعتين 202
2- خصام ونقد 257
3- العمدة 1 / 197
4- العمدة 1 / 198

السَّابقة عليه ويتجاوَزُها طارحًا قوانينه الخاصَّة التي يُعادُ توظيفُ النُّصوصِ القديمة من خلالها»(1).

وإذا ما انتقلنا إلى حازم القرطاجنّي (ت 684 ه) وجدناه يشايعُ أسلافه من النّقّاد العرب مبرزًا هذا الأمرَ بطريقةٍ فيها مسحة فلسفيّة حين جعل للأديب ثلاث قوی - کما یری الدكتور منصور عبد الرحمن - تكونُ ثمرتُها في القوَّة الصانعة، التي تبرز فيها مقدرة الأديب على التأليف، ولكن هذه القوّة تكون خاضعة لقوَّتين سابقتين:

الأولی:

القوّة الحافظة، أي الذاكرة وهذه القوة لا تتأتى للأديب إلاّ عن طريق مُخالطة النُّصوص والتّبصُّر بمنهاج القول.

الثانیة:

القوَّة المائزة، تلك القوّة التي يستطيع بها الأديب أنْ يتبيّن مواضع الجمال وأسبابه، وينتقي منها ما يُلائم الحاجة(2).

ولعملية التأثير والتأثر والتي أسماها الدكتور داوود سلوم ب(الإنتقال) ثلاثة حدود تقوم عليها هي:

الحد الأوّل:

المرسل من الأدب المؤثِّر، وقد يكون كتابًا، أو تيّارًا، أو فكرة.

ص: 20


1- إشكاليات القراءة والتأويل 257
2- ينظر: معايير الحكم الجمالي في النقد الأدبي 210 - 212

الحد الثاني:

الأخذ ويقصد بهِ المتلقي، أو هو ذلك النتاج الذي وقَع عليه التأثير(1).

ویری الباحث - هنا - أنَّ درجة التأثير تقف و تُحدَّد على أساس هاتين الجهتينِ أو الحدَّين، أي بمدی قوّة الأولى وإبداعها، ومدی إيمان - الإيمان الباطني(2)- وتقبُّلِ الثانية، فكلما كان الإبداع من الأولى أكثر، كان التقبل من الثانية والتأثير عليها أبلغ، ومن ثمّ كان الأثرُ أوضح، ويمكن أنّ نستدِّلَ على ذلك بقول الجاحظ (ت 255 ه): «فإذا كان المعنى شريفًا، واللفظ بليغًا، وكان صحيحَ الطبعِ، بعيدًا منَ الاستكراهِ ومنزهًا عن الاختلال مصونًا عن التكلفِ، صنعَ في القلبِ صنيعَ الغيثِ في التُّربةِ الكريمةِ...»(3).

الحدُّ الثالث:

الوسيطُ وهو الذي قامَ بنقلِ ذلك العملَ(4). وهذا الحدُّ - مثلما يراه الباحث - ليس حتميًا كالحدَّين الأوّلين، إذ نری كثيرًا من الأدباءِ تأثرَ بعضهم بالأخر دون الحاجة إلى هذا الحد، سواءً ذلك داخل أدب الأمّةِ الواحدةِ، أم بينَ أدبينِ لأمتين مختلفتين.

ص: 21


1- ينظر دراسات في الأدب المقارن التطبيقي 21
2- يشير الباحث بذلك إلى الجهات الإسلامية التي ناوأت الإمام علیه السلام في الظاهر، بينما هم في قرارة أنفسهم يعتقدون صحة منهجه، وعلى ذلك أكثر من دليلٍ ودليل، فعندما دخل ضرارُ بن ضمرة على معاوية طلب منه الأخير أن يصف أمير المؤمنين علیه السلام فأبى ضرار، ولكن ألحَّ عليه معاوية فقال ضرار: «... فكان والله بعيد المدی شديد القوی، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجّرُ العلمُ من جوانبه، فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا الحسن، فلقد كان كذلك...»، زهر الآداب 1 / 78
3- البيان والتبيين 1 / 61
4- دراسات في الأدب المقارن التطبيقي 28

وبعد حدود التأثر تجدر الإشارة إلى الطرق التي من خلالها نتبيّن أو نحدِّد ذلك الأثر، والَّتي يمكن حصرها في طريقتين:

الأولی:

الاعتراف أو التَّصريح من قبل الأديب المتأثر، بأنّه تأثر بأديب ما، ومثال ذلك ما قاله عبد الحميد الكاتب (ت 132 ه) حين سُئِلَ ما الّذي خرَّجكَ في البلاغة، قال: «حفظُ كلام الأصلع»(1). وبطبيعة الحال يكون هكذا «اعتراف مفتاح البحث المثمر الأكيد»(2).

الثانیة:

التشابه، أي التشابُه بين الأعمال الأدبيَّة، والذي يُعدّ ضرورة لابُدَّ منها في دراسة التأثير والتأثُّر، كونها تمثِّل «نقطة البدء الضّروريّة الّتي تُتيح لنا اكتشاف تأثُّر أو اقتباس، أو غيرَ ذلك، وتتيح لنا بالتَّالي أنْ نفسِّرَ أثرًا بأثرٍ تفسيرًا جزئيًا»(3). وهذه الطريقة يلجأ إليها حتى مع وجود الإعتراف والتصريح، إذ لا بُدَّ من الرجوع إلى النَّصَّين وعمل مقارنة بينهما لإثبات التأُثُّر، ولكن مع الحيطة والحذر والأخذ بالحسبان من أن «يكون هذا التشابه بين النَّصين خادعًا...، بل قد يكون التشابه الأدبي نتيجة صدفة، أو من المواضيع المشتركة بين قرائحِ الإنسانيَّة»(4).

ومن هذا نستنتج أنَّ هنالك نوعين من التشابُهات:

ص: 22


1- ثمار القلوب في المضاف والمنسوب 61 ، وينظر: رسائل البلغاء 17
2- في الأدب المقارن مقدِّمات للتطبيق 10
3- الأدب المقارن (فان تيغيم) 20
4- في الأدب المقارن مقدِّمات للتطبيق 11

الأول:

تشابُه مُسلَّم بأنَّهُ جاء نتيجة للتأثُّر، وهذا بطبيعته يكون في المعاني الخاصّة، وكذلك يكون في الأخذ النصيِّ كالإقتباس، والتضمينِ.

الثاني:

تشابه يلفهُ الشِّك، وينتابُه عدم اليقين من كونه جاء نتيجةً للتأثُّرِ أمْ لا، ودرجة الشكِّ هذه تتوقف على درجة التشابه، إذ كلَّما كان التشابه أكبر، قابله شكٌ أقل.

وإذا كان الأمر هكذا - وهو كذلك - كان لزامًا على الباحث أن لا يعُدَّ كلَّ تشابهٍ بين كلام أمير المؤمنين علیه السلام وكلام غيرهِ من الأدباء - مدة الدّراسة - أثرًا للنَّصِّ العلوي، كون بعض مصادر الكلاميين مشتركة، وأهمُّها القرآن الكريم، الذي ظهر أثرُه بطريقتين: أوّلُهُما مباشر عن طريق اللَّفظ، والأسلوب، والغرض، والمعنى. والآخر غير مباشر وذلك حين مكّنَ العرب من الإختلاط بغيرهِمُ مِن الأمَمَ ذواتِ الحضارة الرَّائعة(1)، حتى نقلهم هذا الأثر «من حجرِ ضبٍّ إلى مُلكٍ واسعِ الرِّفعةِ مُترامي الأطراف»(2).

ثمَّ الحديث النبوي، الذي يُعدُّ هو الآخر منهلاً لأولئك الأدباء، ولأسباب عدّة منها: إنه نقل لنفسه ما للقرآن من أثر جليل في اللغة العربية وآدابها فصار نبتًا لذلك الغرس، أو هو مرآة عاكسة، أي أنّ الحديث النبوي الشريف أثر في اللّغة العربية بالكيفية التي أثر فيها القرآن(3). وكان من أوائل الذين تأثروا

ص: 23


1- ينظر: اثر القرآن الكريم في اللغة العربية 11 - 12
2- م. ن 11
3- ينظر: أثر الأدب النبوي في الأدب العربي حتى نهاية العصر الأموي 9

بالقرآن الكريم أمير المؤمنين علیه السلام، فكان يسير مع القرآن «جنبًا بجنب، يدعو، ويهدي، ويبين»(1). مثلما تأثرَ بالرسول علیه السلام وقد أوضح جانبًا من هذا بقوله:

«وَلَقَدْ کُنْتُ أَتَّبِعُهُ اِتَّبَاعَ اَلْفَصِیلِ أَثَرَ أُمِّهِ یَرْفَعُ لِي فِي کُلِّ یَوْمٍ مِنْ أَخْلاَقِهِ عَلَماً وَ یَأْمُرُني بِالاِقْتِدَاءِ بِهِ»(2).

ولكن هذا - على صعوبته - لا يمنع من معرفة الابتكارات والإبداعات التي أتحف بها الامام علیه السلام الأدب العربي، وتأثرّ ها الأدباء فيما بعد.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّه بعد أن عرفنا أنّ النصَّ المتأثر هو ذلك النص «الذي لم يكتب ما لم يكن صاحبه قد أطّلع قبل كتابته على نصٍّ غيره»(3).

فهل هذا الأثر وبأي طريقةٍ ورد لم يكن بمدعاة عيب، ولا يتنافى مع الأصالة مثلما قال: (بول فاليري): «لا شيء أدعى إلى إبراز أصالة الكاتب وشخصيته من أن یتغذی بآراء الآخرين، فما الليث إلاّ عدة خرافٍ مهضومة»(4). أم ینبغي - من أجل الاحتفاظ بمشروعية عملية التأثير والتأثر - السير على وفق شروط وقواعد لتبتعد هذه العملية عن مفهوم السرقة؟ وحقيقة هذا أمر قيل فيه كثير جدًّا، وأهم ما يهمّنا هنا هو أن الأثر يظهر بمظاهر عدة في نتاج الأديب المتأثر، كالتضمين، والإحتذاء، والبسط، وغير هذا، والتركيز على هذه المظاهر من حيث هي وإثبات أنّ الأديبين المخصوصين بالدراسة سلوكها أهم بكثير من الخوض في أنّ التضمين هل هو سرقة محضة، أم إبداع؟.

ص: 24


1- عليٌّ من المهدِ إلى اللَّحدِ 73
2- نهج البلاغة 348
3- الأدب المقارن (مجدي وهبة) 15
4- الأدب المقارن (د. محمد غنيمي هلال) 18

وبعبارة أخری «إنَّ الأخذ، أو السرقة، أو التقليد، أو الإتِّباع موجود في فنون النثر جميعًا، ولم تقتصر على فنِّ الشعر»(1). فكل هذه المصطلحات ومثلما يراها الباحث ولادات - سواءً أكانت شرعية أو غير شرعية - للتأثّر، وإلاّ لماذا يسرق الأديب، أو يضمِّن، أو يحتذي، أو يختزل نصًّا ما، أليس لأنّه تأثّر بذلك النص ورغب في أن يكون ضمن دائرة عطائه الأدبي.

ثمَّ بعد هذا لو تمَّ تحديد الأثر يبقى هنالك سؤال مفاده هل أنّ هذا الأثر «متَّسِمٌ بعدم القصدية... بشكل عفوي، غير مقصود»(2)، أم هو متَّسِمٌ بالعفویة وعدم القصد تارةً، والقصد والوعي الكامل تارةً أخری(3).

أمّا الباحث فيری أنَّ هذهِ التأثيرات - لو ثبتت - فهي مقصودة في معظمها، على إعتبار أنّ النَّصَّ المُتأثِّرَ مرَّ بمرحلتين:

الأولی:

انتقال التأثير هذا من النَّصَّ الأدبي إلى فكر المُتلقي، وإعتلاجه في صدره.

وهذهِ المرحلة لا يُنكِرُ أحد كونها مقصودة، وبإرادة المتلقي، كما ويری الباحث - أيضًا - أنّ هذهِ المرحلة أهمُّ من لاحقتها لأنّ الأثر الذي سيُحدَّد في نصٍّ ما متوقِّف عليها، ومرتبط بها.

الثانیة:

انتقال التأثير من فكر المتلقي إلى نصِّهِ الأدبي إذا كان أدبيًا. وبما أنّه المرحلة

ص: 25


1- السرقات الأدبية 66
2- المسبار النقدي 139
3- ينظر: قضايا الحداثة 151

الأولى مقصودة، فعلى الأرجح تكون الثّانية مقصودة أيضًا، وإن تباعدت المدة الزّمنيّة بين المرحلتين، وبعبارة أخری: لا يهمنا متى حدثت المرحلةُ الثانية ما دامت تلك الصور، أو التأثيرات التي رغب بها الأدباء «كامنةً في مخيِّلتهم، حتى يحينَ الوقتُ فيؤلِّفوا منها الصُّورَة التي يُريدونها»(1).

ص: 26


1- في النقد الأدبي 167

الفصل الأول كلام الإمام علي علیه السلام من حيث التوثيق والتأثير

ص: 27

ص: 28

المبحث الأوّل: نظرة توثیقیة

اشارة

علی کلام الإمام علی علیه السلام من خلال:

أوَّلاً: جمعه المبکّرو

بعض مصادره.

إن المطّلع على تراث أمير المؤمنين علیه السلام يجدُ حقيقة لا مفرَّ منها، وهي أنّ هذا الكلام أو بعضه، حُفِظ ودوِّن ساعةَ إلقائه، وهذا نابع من أسباب عدة: أهمها تأثير هذا الكلام، والتأثر به؛ لأنّ ما يحمله من ميزات فاقت غيره من الكّلام حتّمت التوجه نحوه، ودعت إلى الاهتمام به وإعطائه الأولوية منذ وقت مبكّر جّداً، وهذا يعني إنّ الشريف الرّضي لم يكن هو أوّل من جمع كلاماً لأمير المؤمنين علیه السلام، بل سُبِقَ إلى ذلك بقرون، وأمامنا على ذلك أدلّةٌ ثلاثة: الأوّل:

التصريحات الواضحة والصريحة التي جاءت من مصادر سبقت الشريف الرضي والتي أكّدت جمع كلام أمير المؤمنين علیه السلام. قال الجاحظ

ص: 29

(ت 255 ه) «هذه خطب رسول الله صلی الله علیه وآله مدّونة محفوظة ومخّلدة مشهورة، وهذه خطب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي»(1) وفي البيان والتبيين دوّن الجاحظ حكمة أمير المؤمنين علیه السلام: «قیمةُ کُلِّ إنسانٍ ما یُحسِنُ»(2)ثم علق علیها بقوله: «فلو لم نقف من هذا الكتاب إلاّ على هذهِ الكلمة لوجدناها كافية شافية ومجزية مغنية، بل لوجدناها فاضلة على الكفاية وغير مُقصِّرة عن الغاية»(3) فقول الجاحظ «فلو لم نقف من هذا الكتاب...» يری فیه الباحث من الممکن أن يكون الكتاب الذي وقف عليهِ الجاحظ هو أحد الكتب التي جمعت كَلامَ أمير المؤمنين علیه السلام، فأخذ الجاحظ منه الحكمة المذكورة، علماً أنَّ الجاحظ ،هو الذي قال بأ ّ ن خطب علي مدوَّنه ومحفوظة، وهذا يدلّ بوضوح على أنّ خطب أمير المؤمنين علیه السلام كانت بين يدي الجاحظ فأخذ منها. ويمكن أن يكون الكتاب هو كتاب البيان والتبيين لكنّ الأول هو الأصوب ويدعمه أيضاً قوله: «لو لم نقف...» ويُفاد من هذه العبارة أنّه قرأ كتاباً ووقف فيه على هذه الحكمة، وإلاّ لو كان كتابه لقال: لو لم ندوّن في هذا الكتاب، أو لو لم نُودِع في هذا الكتاب.

بعد الجاحظ أكّدَ لنا ابن واضح اليعقوبي (ت 292) هذه الحقيقة بقوله: «کان علي بن أبي طالب علیه السلام مشتغلاً أيّامه كلّها بالحرب، إلاّ أنّه لم يلبس ثوباً جديداً، ولم يتخذ ضيعةً، ولم يعقد على مالٍ، إلاّ ما كان بينبع والبغيبغاء مما يتصدّق به، وحفظ الناس عنه الخطب، فأنّه خطب بأربعمائة خطبة، حفظت عنه، وهي

ص: 30


1- البيان والتبيين 1 / 127
2- م. ن 1 / 61
3- م. ن 1 / 61

التي تدور بين النّاس، ويستعملونها في خطبهم وكلامهم»(1).

أمّا المسعودي (ت 346 ه) هو الآخر أحصى خطب أمير المؤمنين علیه السلام فقال:

«والذي حفظ الناس من خطبهِ في سائر مقاماته أربعمائة ونيّف وثمانون يوردها على البديهة وتداول الناس ذلك عنه قولاً وعملاً»(2).

ومن الذين أخبروا بأنّ كلام أمير المؤمنين علیه السلام كان مجموعاً سبط ابن الجوزي (ت 654 ه) مسنداً حديثه إلى الشريف المرتضى (ت 436 ه)قال: «وقعَ إليَّ من خطب أمير المؤمنين علیه السلام أربعمائة خطبة»(3).

من هذا نعرف أنَّ كلام أمير المؤمنين علیه السلام كان مدوّناً ومحفوظاً، بل كان فاعلاً ومؤثراً، يدور بين الناس، يستعملونه ويستشهدون بهِ، وبطبيعة الحال سيكون للأدباء الحظ الأوفر من هذا الشأن، كونهم أصحاب مهنة ويعرفون من أين ينهلون لدعم كلامهم.

وبعد هذه الاعترافات الصريحة التي شهدت وأكّدت على تأثير كلام أمير المؤمنين علیه السلام بشكل فعَّال يستنتج الباحث استنتاجاً يراه مهمَّا جدّاً، وهو كالآتي:

إنّ الذين سبقوا الشريف الرّضي، أو الذين لحقوه تحدّثوا عن أعدادٍ متقاربة لخطب أمير المؤمنين علیه السلام • ابن واضح: أربعمائة خطبة.

• المسعودي: أربعمائة ونيف وثمانون.

ص: 31


1- مشاكلة النّاس لزمانهم 15
2- مروج الذهب 2 / 419
3- تذكرة الخواص 128

• ابن الجوزي: أربعمائة.

وهذه الأعداد على الأرجح هي أعداد الخطب والرسائل معاً إذ من غير المتوقع، وغير المعقول أن تُجمَعَ الخطب ولم تجمَعِ الرسائل ولم يُتَحدَّث عنها ولا عن أرقامها.

أمّا الشريف الرضي فجمع في نهج البلاغة «ثلاثمائة وعشرين» بین خطبة ورسالة. وينبغي أن نأخذ بعين الإعتبار انّه أقرَّ بعدم جمعه لكلام أمير المؤمنين علیه السلام كاملا، بل قال: «كتاب يحتوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام»(1).

ولهذا السبب أي الاختيار القائم على الاصطفاء قلَّت الأعداد في نهج البلاغة عن الأعداد إليَ تحدَّثَ عن سابقوا الرضي.

وفي العصر الحديث جاء صاحب مستدرك نهج البلاغة وأردف الخطب والرسائل التي جمعت في النهج ب(مائة وثمان وثلاثين) بين خطبة ورسالة.

أي أنّ «عدد الخطب في نهج البلاغة ( 241 ) + عدد الخطب في مستدرك نهج البلاغة (93) = 334.

عدد الرسائل في نهج البلاغة ( 79 ) + عدد الرسائل في مستدرك نهج البلاغة (45) = 124.

المجموع: 334 + 124 = 458»(2).

إذاً الحصيلة شبه النهائية التي حصلنا عليها هي (458) خطبة ورسالة وهذه الحصيلة التي جاءت في القرن العشرين لو قارنّاها بالأعداد التي صدرت في

ص: 32


1- نهج البلاغة 8
2- مع المشككين في نهج البلاغة 82

القرون الأولى لوجدنا بينهما قرباً قريباً جدّاً، كما هو عند:

• بن واضح: أربعمائة • المسعودي: أربعمائة ونيف وثمانين • ابن الجوزي: أربعمائة يقابلها أربعمائة وثمان وخمسون من النهج ومستدركه، وهذا لم يحدث بمحض الصدفة مطلقاً، وإنّما هو نتيجة طبيعية شرعيّة لما صدر من خطب ورسائل عن مولانا أمير المؤمنين «صلوات الله عليه»، وعلى هذا فإنّ العدد الحديث يدعم بشدة الأعداد القديمة، والأعداد القديمة تؤكد ما صدر حديثاً.

الثاني:

أسماء الكتب التي وصلتنا والتي اختصت بجمع كلام أمير المؤمنين علیه السلام ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

1 - كتاب «خطب أمير المؤمنين علیه السلام على المنابر في الجمع والأعياد وغيرها» لزید بن وهب الجهني الكوفي ت 96 ه(1).

2 - كتاب «خطب أمير المؤمنين علیه السلام» لمسعدة بن صدقة العبدي (ت 183 ه)، يكنّى أبا محمد، روی عن أبی عبد الله الصادق علیه السلام (استشهد 148 ه)، وعن أبي الحسن الكاظم علیه السلام (استشهد 183 ه)(2).

وهذا الكتاب كان موجوداً في زمن السيد هاشم البحراني (ت 1109 ه)

ص: 33


1- ينظر: الفهرست للطوسي 131
2- ينظر: رجال النجاشي 322

ونقل عنه كثيراً في تفسير «البرهان» وذكره في مقدمة التفسير(1).

3 - كتاب «خطب علي علیه السلام» لأبي الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف المدائني (ت 225 ه). وله كتب أخری منها: كتاب رسائل النبي صلی الله علیه وآله، وكتاب (المغازي)، وکتاب (السرايا)(2).

4 - كتاب «مائة كلمة لأمير المؤمنين» أختارها وجمعها الجاحظ (ت 255 ه).

قال عنها الخوارزمي (ت 568 ) بحديث مسند: «قال أبو الفضل احمد بن أبي طاهر(3)صاحب أبي عثمان الجاحظ: كان الجاحظ يقول لنا زماناً: إنّ لأمير المؤمنین علیه السلام مائة كلمة،كُلّ كلمة منها تفي ألف كلمة من محاسن كلام العرب.

قال: وكنت أسأله دهراً بعيداً أن يجمعها ويمليها عليَّ وكان يعدني بها ويتغافل عنها ضنَّاً بها. قال: فلما كان أخر عمره أخرَج يوماً جملةً من مسودّاتِ مصنفاته، فجمع فيها تلك الكلمات وأخرجها إليَّ بخطّه فكانت الكلمات المائة هذهِ لو كُشِفَ لي الغطاءُ ما ازددت يقيناً...»(4).

وبعد ذلك كان جمع الجاحظ لهذهِ الكلمات السبب المباشر في تأليف كتاب «غرر الحكم ودرر الكلم» لعبد الواحد الآمدي (ت 550 ه)، فقد احتجَّ هذا الأخير بشدّة على الجاحظ، لإختصارهِ على هذه المائة فقط، لذا قال وهو يقدّم

ص: 34


1- ينظر: مصادر نهج البلاغة 1 / 147
2- ينظر: الفهرست لابن النديم (ت 380 ه) 147 - 149. وينظر: معجم الأدباء 13 / 131
3- هو أحمد بن أبي طاهر كان من الكُتَّاب البلغاء، وكان شاعراً وراوياً لهُ كتاب بغداد المصنّف في أخبار الخلفاء ولِدَ في بغداد سنة (20 ه) وتوفي بالشام سنة (280 ه) ينظر: تأريخ بغداد 4 / 433
4- مناقب الخوارزمي 338 - 340

لكتابه المذكور: «فإنّ الذي حداني على تخصيص فوائد هذا الكتاب... ما تبجّحَ» بهِ أبو عثمان الجاحظ عن نفسه... وحدّده من المائة حكمة... التي جمعها عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام. فقلت: يالله العجب! من هذا الرَّجل وهو علامة زمانه، ووحيد أقرانه... كيف عشيَ عن البدر المنير؟ ورضي من الكثير باليسير؟... وإني مع كسوف البال... جمعتُ يسيراً من قصير حكمه... يخرس البلغاء عن مساحته... سميته غُرر الحِكَم و دُرر الكلم»(1).

وهذه المائة كلمة ونسبتها للجاحظ أكدّها حديثاً بروكلمان واسماها «أمثال سيِّدنا علي، يُنسب جمعُها إلى الجاحظ، كما روی ذلك ابن قتيبة في عيون الأخبار(2)»(3).

الثالث:

التأثيرات الكبيرة والكثيرة جدَّا التي تركها كلام أمير المؤمنين علیه السلام، بما يدلُّ على أنّ كلامه كان مجموعاً منذ القرن الأول للهجرة، وهذا ما ستتكفَّل الدراسة بيانهِ في الفصلين القادمين.

أمّا بالنسبة للمصادر التي من المُحتمل أن يكون جامع نهج البلاغة نقل عنها كونها روت كلام أمير المؤمنين علیه السلام الموجود في نهج البلاغة فهي كثيرة جدّاً. وقبل الحديث عن بعضها تجدر الإشارة إلى أمرين مهمين هما:

ص: 35


1- غرر الحكم ودرر الكلم 14
2- بعد الرجوع إلى كتاب (عيون الأخبار) لم أجد هذا فيه فأمّا بروكلمان أشتبه في إسم الكتاب الذي نقلَ عنه وإمّا يدٌ عبثت بالكتاب. وعلى كلِّ الأحوال فإن كتاب (المائة كلمة) مطبوع ومتوفر بالمكتبات
3- تأريخ الأدب العربي 1 / 179

1 - إنّ الشريف الرضي عندما جمع كلام أمير المؤمنين علیه السلام وأودعه في الكتاب الذي أسماه (نهج البلاغة) لم يُرد لهُ أن يكون كتاباً فقهيَّاً أو تأريخيَّاً مدعوماً بالأسانيد والأحداث وتواريخها، بل أراد لهُ أن يكون كتاباً أدبياً ومثلما قال هو: «يتضمن من عجائب البلاغة، وغرائب الفصاحة، وجواهر العربية...»(1) علمَّا أنّ الرضي لم يكن عاجزاً عن ذكر تلك الأسانيد. ودليل الباحث على ذلك أنّ الرضيَّ نفسه وفي كتابه خصائص أمير المؤمنين كان قد ذكر كلاماً عن أمير المؤمنين علیه السلام مع سندهِ التام، فقال: ومن كلامه علیه السلام لكميل بن زياد النَّخعي على التَّمام حدثني هارون بن موسى قال: حدثنا أبو علي محمّد بن همام الإسكافي قال: حدثنا أبو عبد الله جعفر بن محمّد الحسيني قال: حدثنا محمد بن علي بن خلف قال: حدثنا عيسى بن الحسين بن عيسى بن زيد العلوي عن إسحاق بن إبراهيم الكوفي عن الكلبي عن أبي صالح عن كميل بن زياد النَّخعي قال: أخذ بيدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام فأخرجني إلى الجبّانة، فلما أصحر تنفّسَ الصعداء، ثم قال: ياكميلَ بن زياد، إنَّ هذهِ القلوبَ أوعيةٌ، فخيرُها أوعاها، فأحفظ عنّي ما أقول لك: الناس ثلاثةٌ...»(2).

بينَما في نهج البلاغة ذكر الرضي هذا الكلام مرفوعاً إلى كميل بن زياد دون المرور بهذا السند «قال كميل بن زياد: أخذ بيدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام فأخرجني إلى الجبانة...»(3).

ص: 36


1- نهج البلاغة 8
2- خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام 86
3- نهج البلاغة 578

وحقيقة ومن جانب الذوق الأدبي لو كانت هكذا أسانيد في نهج البلاغة لذهب من متعته ورونقه الكثير، كون القارئ يبقى منشغلاً بهذه العنعنة المملّة إلى حدَّ ما، والتي تؤثر سلباً على التلقي، لأنّ المتلقي يريد التفاعل مع النّص وما يثيره فيه من عاطفة وخيال... بعيداً عن هكذا أسانيد هي ليست من وكدهِ، ولعلَّ الرضي كان متنبِّهاً لذلك، كونه أديباً يعرف أين تتحققُ المتعة الأدبية كاملةً، في أيِّ طريقةٍ، وأيّ نصٍّ.

2 - إنَّ الكتب التي كانت متوفرة بين يدي الرضي، أو في زمنه لا يمكن التَّكهن الدقيق بإعدادها وأسمائها، لأنها كانت كثيرة جدّاً من جهة. ولم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء من جهةٍ أخری. فقد كانت لأخيه السيد المرتضى (ت 436 ه) مكتبة تحتوي على ثمانين ألف كتاب، ولكنها دُمِّرت من قبل السلاجقة(1)، مثلما أحرقت قبل هذه مكتبة الصاحب بن عباد (ت 385 ه) التي كانت فهارسها فقط عشر مجلّدات(2). أما مكتبة (دار العلم) التي أسَّسها سابور(3)بن أردشير (ت 450 ه) والتي كانت من أغنى دور الكتب في عاصمة العباسيين، فقد تعرضت هي الأخری للإحراق(4)، قال عنها الحموي (ت 626 ه): «لم يكن في الدنيا أحسنُ كتباً منها كانت كلها بخطوط الأئمة المعتبرة وأصولهم المحررّة، واحترقت فيما أُحرِقَ من

ص: 37


1- ينظر: المحرقة الكبری 110
2- ينظر: م. ن 129
3- هو سابور بن أردشير وَزِرَ لبهاء الدولة أبي ناصر بن عضد الدولة ثلاث مّرات وكان كاتباً شديداً أسس في بغداد مكتبة أسماها دار العلم فيها أكثر من عشرة آلاف مجلّد أحرقت عند مجيء طغرل بك. توفي ببغداد سنة 450 ه. ينظر: المنتظم في تأريخ الملوك والأمم 16 / 49
4- ينظر: الشافي في الإمامة 1 / 10

محال الكرخ عند ورود طغرل بك أوَّل مُلوك السلجوقية إلى بغداد سنة 447 ه»(1)، وإلى هذا المصير أيضاً ذهبت كتب الفاطميين التي بلغ عددها مليون وستمائة ألف كتاب(2).

ومن هذه الأمثلة ما أورده صاحب كتاب شذرات الذهب في معرض ترجمته للإمام الصادق علیه السلام، فقال: «.. الإمام سلالة النبوّة أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق بن الإمام محمد الباقر... قد ألف تلميذه جابر بن حيان الصوفي كتاباً في ألف ورقة يتضمَّن رسائله وهي خمسمائة»(3)ولكن لم يصلنا لا الكتاب ولا الخمسمائة رسالة.

والذي يهم الدراسة من هذهِ المجازر التي تعرّضت لها أمات المصادر العربية هو كم هي الكتب التي كانت بين يدي الشريف الرضي، والتي قرأها وأخذ عنها؟ ثمَّ كم هو العدد الذي وصلنا منها؟ أليس «الباقي من الكتب التي ألفها المسلمون.. إلاّ نقطة من بحر مما أحرقه الصليبيون، والتتر،...»(4).

وإذا كان الأمر هكذا فهل يُلام أحد إذا بقيت خطبة أو خطبتان من نهج البلاغة لم يُعثر عليها في كتاب سبق النهج؟ والأعجب من ذلك أن هناك كتبًا جاءت بعد النهج بمئات السنين لم يطالبها أحد بسند، بل ما جاء فيها يؤخذ بهِ وبدون تشكيك خذ مثلاً كتاب صبح الأعشى وصاحبه

ص: 38


1- معجم البلدان 1 / 534
2- ينظر: تاريخ التمدن الإسلامي 3 / 231. وعن هذا الموضوع أيضًا ينظر: مصادر نهج البلاغة 1 / 26 - 37
3- شذرات الذهب 220
4- المحرقة الكبری 141

القلقشندي ت( 756 ه).

وعلى أية حال فلمّا ظهرت هذه الشبهة حديثاً - شبهة المصادر - إنبری لها من الباحثين وذكروا للنهج من المصادر الكثيرة ومنهم: عبد الزهراء الكعبي في كتابهِ «مصادر نهج البلاغة وأسانيده» إذ ذكر فيه مائة وتسعة مصادر لنهج البلاغة(1).

وكذلك الدكتور إبراهيم السامّرائي في كتابه (مع نهج البلاغة دراسة ومعجم) فكان قد جعل لنهج البلاغة ذكراً من سبعة مصادر(2)، ولكن مصادر السامّرائي ليست فيها زيادة تذكر على مصادر الكعبي.

أمّا الباحث فيردف تلك المصادر بمصدرٍ واحدٍ وهو كتاب «التعازي والمراثي» للمبرد (ت 285 ). فقد ذكر المبّرد في هذا الكتاب مقطوعات كثيرة من كلام أمير المؤمنين علیه السلام كان قد دوّنها الشريف الرضي في نهج البلاغة ومن ذلك: «قال عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه للأشعث بن قيس(3)وقد عزّاه عن ابنٍ له يا أشعث، إن تجزع على ابنك فقد أستحقَّت ذلك منك الرحم، وإن تصبر ففي الله الخلف - يا أشعث -، إنّكَ إن صبرت جری عليك القدر وأنت مأجور، وإن جزعت جری عليك القدر وأنت مأزور»(4). فهذا الكلام موجودٌ في نهج البلاغة مع تغيير طفيف(5). وغير هذا فقد استشهد المبرد بحكمٍ لأمير المؤمنين علیه السلام فی

ص: 39


1- ينظر مصادر نهج البلاغة وأسانيده 27 - 37
2- ينظر: مع نهج البلاغة دراسة ومعجم 30
3- هو معدِ يكرب بن قيس وسمي الأشعث لشعث رأسه وهو من كندة أنجب محمّداً شرك في مقتل الإمام الحسين علیه السلام وجعدة التي سمت الحسن علیه السلام وهو شرك في قتل أمیر المؤمنین علیه السلام. ينظر: طرائف المقال 3 / 165. وينظر: الكنى والألقاب 2 / 34 - 35
4- التعازي والمراثي: 205 - 206
5- ينظر: نهج البلاغة 606

مواطن عدّة(1)دوّنت فيما بعد في (نهج البلاغة)، فمن الممكن رجع الشريف الرضي إلى هذا الكتاب وأخذ منه تلك الحكم، أو إلى غيرهِ.

ثانیا: التشکیکات فیه

لعلّ الحديث عن الشكوك التي أثيرت على كلام الإمام علي علیه السلام يُعدُّ من نافلة القول، ولكن بعَد أن عنّت للباحث مسائل تتعلّق بهذا الأمر وتسهم في الدفاع عن حياض كلام أمير المؤمنين علیه السلام بدحض ما أُثير من شبه حول كلامه علیه السلام وبخاصة المجموع منه في نهج البلاغة، سجَّلها معزّزاً إيّاها بردود سابقة.

قبل الخوضَ في هذهِ الشكوك، وإلى كلِّ من ألقى السَّمع وأصبح شهيداً ينبغي الإلتفات إلى سببين رئيسين يبدِّدان كلَّ الإثارات التي أُثيرت حول كلام الإمام علیه السلام لخَّصهما الدكتور زكي مبارك بقوله:

«عندنا في هذا المقام مشكلتان: الأولى عبقرية علي بن أبي طالب علیه السلام، عبقريته الخطابية والإنشائية، والثانية ضمير الشريف الرضي... فقد كان معروفاً إنَّ ابنَ أبي طالب له مجموعة من الخطب تحدّثَ عنها الجاحظ في مطلع القرن الثالث، وهل يعقل أن تضيع آثار ابن أبي طالب ضياعاً مطلقاً وكان في زمانه وبشهادة خصومه من أفصح الخطباء، فأين ذهبت آثاره في الخطابة والإنشاء؟ وهل يعقل أن تضيع آثاره وحوله أشياع يحفظون كُلَّ ما يُنسَب إليه؟ هل يعقل أن يحفظ الناس أشعار العابثين والماجنين من أهل العصر الأموي وينسوا آثار خطيب قَتلَ بسيفه ألوفاً من أبطال الحروب؟ ومن الذي يتصور أنَّ الذاكرة العربية تحفظ أشعار النصاری واليهود وتنسى خطب الرجل الذي غُسِّلَ بدمه في يومٍ من أيام الفتن؟... أما ضمير الشريف الرضي فهو عندي فوق الشُّبهات، وهو خدم التشيّع بالصدق لا بالإفتراء، فإن كان جمع

ص: 40


1- ينظر: التعازي والمراثي 2، 9، 97، 118، 206، 302

آثار علي بن أبي طالب علیه السلام خدمة سياسية لمذهب التشيع فهو ذلك ولكنها خدمة بأسلوب مقبول، هو إبراز آثار أمير المؤمنين علیه السلام، ولا يُعاب على الرجل أن يخدم مذهبه السياسي بجميع الوسائل والأساليب ما دام في حدود العقل والذوق»(1).

إذاً هنالك دعامتان أساسيتان تمنعان وتبدَّدان الشكوك هما:

1 - عبقرية الشخص الذي جُمِع كلامه، وقدرته على الإبداع في كل حينٍ، وكلِّ موضوع.

2 - وثاقة ونزاهة الشخص الذي جمع هذا الكلام.

3 - ثم نردفها بثالثة وهي حفظ الكتاب - نهج البلاغة - من الدسِّ والتحريف؛ لأنّ النسخة التي وصلت إلى عبد الحميد ألمعتزلي (ت 656 ه) واعتمدها في شرحه هي بخطِّ الرضي نفسه(2)، فضلاً عن أنّ هناك نسخاً موجودة اليوم لنهج البلاغة منها في مكتبة السيد محمد الطباطبائي في طهران وتأريخها (512 ه) وغيرها(3).

وعليه فالكتاب سالم من التحريف، والجامع موثوق، ومنشئ الكلام عبقري، إذاً من أيِّ باب يدخل الشك؟.

وما دام ورد ذكر وثاقة الرَّضي يودّ الباحث عمل مقارنة سريعة بين جامع النهج (الرضي)، وبين باذر بذرة التشكيك الأولى (ابن خلكان ت 681)؛ ليتبيّن مَنْ منهم يستحِقُّ التصديق والإتباع؟

ص: 41


1- عبقرية الشريف الرضي 1 / 222 - 223
2- ينظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 12 / 20، 19 / 374
3- ينظر: نهج البلاغة لمن 54 (الهامش)

أمّا الشريف الرّضي، فما قاله عنه الدكتور زكي مبارك: من أنّ ضميره فوق الشّبهات، هو أمر مسلَّمٌ بهِ، معروف قديماً، مُجمَع عليه عند أهل العلم. قال الثعالبي (ت 427 ه) وهو من معاصري الرّضي: «هو أبو الحسن محمد بن الحسين بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب علیه السلام... وهو اليوم أبدع أبناء الزمان، وأنجب سادة العراق، يتحلّى مع محتدهِ الشريف، ومفخره المنيف، بأدب ظاهر وفضل باهر، وحظٍّ من جميع النّاس وافر، ثمّ هو أشعر الطالبيين، من مضى منهم ومن غبر على كثرةِ شعرائهم... ولو قلت إنّه أشعر قريش لم أبعد عن الصدق»(1). وكانَ ابن أبي الحديد يسميه عدلاً وقال عنه: «خبرُ العدل معمول به»(2).

وأمّا ابن خلكان، فقد قال عنه الصفدي (ت 764)، وابن شاكر الكبّي (ت 764 ه)، وهما أقرب أصحاب التراجم لهُ زمناً وفكراً: «وكانَ له ميلٌ إلى بعض أولاد الملوك ولهُ فيه الأشعار الرائعّة، يقال إنّه (....)(3) ثم قال ألصفدي: أخبرني.. القاضي جمال التبريزي... قال: كان الذي يهواه القاضي شمس الدين هو الملك المسعود، وكان قد تيّمه حبّه فكنت أنام عنده في العادلية فتحدثنا في بعض الليالي إلى أن راح النّاس من عنده فقال لي نم أنت، وألقى عليَّ فروة، وقام يدور حول البركة في العادلية ويكرر هذين البيتين إلى أن أصبح وتوضأ وصلينا. والبيتان المذكوران:

ص: 42


1- يتيمة الدهر 3 / 155
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 18 / 328
3- الخبر لا يليق ذكره هنا

أنا والله هالك آيس من سلامتي أو أرالقامة التي قد أقامت قيامتي ويقال إنّه سأل بعض عما يقوله أهل دمشق عنه فاستعفاه فألحَّ عليه فقال:

يقولون إنّكَ تكذب في نسبك، وتأكل الحشيشة، وتحب الغلمان، فقال: أمّا النسب والكذب فيه فإذا كان ولا بدّ منه فكنت أنتسب إلى العباس، أو إلى علي بن أبي طالب، أو إلى أحد الصحابة، وأمّا النسب إلى قومٍ لم يبق لهم بقيّة وأصلهم فرس مجوس فما فيه فائدة، وأمّا الحشيشة فالكلّ ارتكاب محرّم، وإذا كان ولا بد فكنت أشرب الخمر لأنّه ألذ، وأمّا محبة الغلمان فإلى غدٍ أُجيبك عن هذهِ المسألة»(1) نخلص من النص إلى ما يأتي 1 - كان لابن خلكان ميلٌ شديد للغلمان ! 2 - لم يجد ابن خلكان لنفسهِ نسباً معيّناً، بل كان يخيّر نفسه حسبما قال مرّة لابن عباس وأخری لأمير المؤمنين علیه السلام أمّا المجوس فلم ينتسب لهم لأنّ ذلك ليس فيه فائدة ! 3 - كان يفضل الخمرة على الحشيشة ؛لأن الأولى ألذ ! وفعلاً لم يتعرض لتراث أمير المؤمنين علیه السلام ويقدح فيه إلاّ هكذا نماذج. ولم يدافع عنه إلاّ الشريف الرضي وأمثاله.

وعلى الرغم من ذلك ينبغي الوقوف على بعض التشكيكات، والتي منها:

ص: 43


1- الوافي بالوفيّات 7 / 203 - 204، وينظر: فوات الوفيات 1 / 155 - 156

الوقفة الأولی: وقفة مع المشککین الروّاد وتشکیکاتهم

مثلما سبق، وبحسب المصادر التأريخية يُعدُّ ابن خلكان رائداً لبذرةِ التشكيك في كلام أمير المؤمنين علیه السلام المجموع في نهج البلاغة، وذلك بقوله: «وقد اختلف النّاس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، هل هو جمعه - أي المرتضى - أم جمعُ أخيه الرّضي.

وقد قيل أنّهُ ليس كلام علي، وإنّما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه، والله العالم»(1).

وكلام ابن خلكان هذا مردود بنظر الباحث من وجوه عدّة منها:

أ - إن هذه التهمة قائمة على عبارتين وهما في الحقيقة مجهولتين بوضوح «وقد اختَلفَ الناس - وقد قيل». من هؤلاء الناس الذين اختلفوا أو قالوا؟ لماذا لم يتكلموا هم؟ ولماذا لم يذكر ابن خلكان أسماءهم وتصريحاتهم دعماً لحجتهِ وهو المؤسس ومن ثم يكون بحاجة ماسَّةَ لمن يدعمه ويعضد ما ذهب إليه؟ ب - أين الأدباء والنقاد الذين سبقوا ابن خلكان، ثمّ أين الأدباء والنقاد العباقرة الذين عاصروا الرضي أو جاؤوا بعده؟ إذ المدة التي تفصل نهج البلاغة عن أوّلِ تشكيك هي ما يقارب 280 عاماً؛ لأنّ النهج أُلِفَّ في تمام المائة الرابعة للهجرة، وابن خلكان (ت 681 ه) علماً أنّ هذه المدّة المديدة عرفت من الأدباء، والنقاد، وأصحاب الذوق ما أعجز الدهر أن يأتي بمثلهم فكيف خفي عليهم ذلك؟

ص: 44


1- وفيات ألأعيان 3 / 313

ج - ليس في كلام ابن خلكان شيءٌ واضح يستطيع أحدُ الردَّ عليه إلاّ قوله:

«هل هو جمعه أم جمع أخيه «وفي هذه العبارة اعترف ابن خلكان من حيث يدري أو لا يدري بأن الكلام هو ليس من إنشائهما، بل هو من جمع أحدهما هذا أولاً، ثانياً: إنّ نهج البلاغة مثبت ومؤكد جمعه من قبل الشريف الرضي، وبشهادة الرضي نفسه إذ قال في كتابهِ (حقائق التأويل): «... فلينعم النظر في كتابنا الذي ألفّناه ووسمناه ب«نهج البلاغة»»(1). وقال في كتابه (المجازات النبوية): «وقد ذكرناه... في كتاب نهج البلاغة »(2)هذا فضلاً عن مقدمته التي قدّم بها للنهج. ثمّ شهادة معاصريه كالنّجاشي (ت 450 ه) الذي قال في ترجمة الرضي «محمد بن الحسين بن موسى... لهُ كتب، منها: حقائق التنزيل،... كتاب نهج البلاغة»(3) وشهادة المعاصرين ومنهم شوقي ضيف - الذي يُعدَّ من أشد المشككين - الذي قال:

«فالكتاب من عمل الشريف الرضي»(4).

وبعد ابن خلكان سارَ مَنْ سار على نهجه ومنهم الذهبي (ت 748 ه) الذي قال في ترجمته للشريف المرتضى: «عليّ بن الحسين العلوي الحسيني الشريف المرتضى المتكلم الرافضي المعتزلي... وليَ نقابة العَلَويّة، ومات سنة ست وثلاثين وأربعمائة.. وهو المتهم بوضع نهج البلاغة.. ومن طالع نهج البلاغة جزم بأنّه مكذوب على أمير المؤمنين علي (رضي الله عنه).. ففيه السبّ الصُّراح على السيدين أبي بكر، وعمر رضيَ الله عنهما، وفيه التناقض والأشياء الركيكة،

ص: 45


1- حقائق التأويل 167
2- المجازات النبوية 391
3- رجال النجاشي 398
4- الفن ومذاهبه في النثر العربي 62

والعبارات التي مَنْ له معرفة بنفس القرشين الصحابة ونفس غيرهم ممن يعدهم من المتأخِّرين جزم بأنّ الكتاب أكثره باطل»(1).

وهذا مردودٌ أيضاً بالتالي:

أ - أمّا تهمة الخلط بين مَنْ جمع النهج فقد عرفتَها سابقاً.

ب - المرتضى لم يكن معتزلياً، بل هو من علية أتباع مدرسة أهل البيت، وإلاّ كيف «ولي نقابة العَلَوية» مثلما قال الذهبي نفسهُ، ثم أليس الذهبي هو من قال - في كتاب آخر له - عن المرتضى: «عالم الإمامية أبو طالب علي بن الحسين... الشريف المرتضى»(2). إذاً فما هذا التناقض عند الذهبي بين كتاب وآخر؟ مرّة يعد المرتضى علویًّا رافضیًّا إمامیًّا، وأخری یعدّه معتزلیًّا؟ ج - ليس في الكتاب أيّةُ ركاكة في العبارة، بل الذين طلب الذهبي الرجوع إليهم أو قال عنهم إنّهم لهم «معرفة بنفس القرشيين..» ذهبوا، بل أجمعوا على خلاف ما ادّعاه الذهبي تماماً، سواءً في القديم أو الحديث. قال ابن أبي الحديد في وحدة كلام أمير المؤمنين علیه السلام الأسلوبية وتناسقهِ من أولهِ إلى آخرهِ: «مَنْ قد أنسَ بالكلام والخطابة، وشدا طرفاً من علم البيان، وصار له ذوقٌ في هذا الباب لا بُدَّ من أن يفرَّقَ بين الكلام الركيك والفصيح، وبين الفصيح والأفصح، وبين الأصيل والمولّد،... ألا تری إنّا مع معرفتنا بالشعر ونقدهِ، ولو تصفّحنا ديوان أبي تمام، فوجدنا قد كتب في أثنائهِ قصائد أو قصيدة واحدة لغيره، لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمام ونَفَسه، وطريقتهِ ومذهبه في القريض، ألا تری أنّ العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعرهِ قصائد كثيرة منحولة إليه، لمباينتها لمذهبه

ص: 46


1- ميزان الاعتدال 3 / 124
2- تذكرة الحفاظ 3 / 109

في الشعر... وأنت إذا تأمّلت «نهج البلاغة» وجدته كلَّه ماءً واحداً، وأسلوباً واحداً، كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية، وكالقرآن العزيز، أوّله كأوسطه، وأوسطه كآخرهِ»(1).

أمّا في العصر الحديث فقد علت الأصوات التي أكدّت هذه الميزة في نهج البلاغة، فقد قال محمد محيي الدين عبد الحميد: «ليس من شك عند أحد في ذلك، وليس عند أحد في إنّ ما تضمنّهُ الكتاب جارٍ على النهج المعروف عند أمير المؤمنين علیه السلام، موافق للإسلوب الذي يحفظهُ الأدباء والعلماء من كلامه الموثوق بنسبته إليه»(2)، حتى عُدّت الوحدة الإسلوبية هذه في كلام أمیر المؤمنین علیه السلام سنداً قويّاً على صحة كلام الإمام وصدورهِ القطعي عنه علیه السلام، إذ قال الأستاذ الهنداوي: «لا نکاد نری كتاباً انفرد بقطعات مختلفة يجمعها سلك واحد من الشخصية الواحدة والإسلوب الواحد، كما نراه في نهج البلاغة، لذلك نقرّر ونكرِّر إنّ النهج لا يمكن أن يكون إلاّ لشخصٍ واحدنَفَخَ فيه نفس واحد»(3).

هذا هو طَرَفٌ من شهادات أولئك الذين قال عنهم الذهبي لهم معرفة بنفس القرشيين من الصحابة وغيرهم، لكنّ رياحهم جاءت تماماً بما لا تشتهيه سفينةُ شكِّه، وكان الأجدر بالذهبي أن يستشهد ولو بعبارة واحدة من تلك التي وصفها بالرّكيكة حتى يثبت ما ادّعاه، ويجعل القارئ على بيّنة من ذلك.

ص: 47


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10 / 304
2- مجلة تراثنا ع 1 / 103
3- فضائل الإمام علي 72 (الهامش)

إذاً فنهج البلاغة ينتظمه إسلوب واحد رفيع المستوی، ومن طرازٍ خاص،لا يصدر إلاّ عن واحد، ولا يستطيع أحدٌ أن يتقمّصه.

ثمَّ من هذا الذي وصل إلى هذا المستوی وكتب بإسلوب وبلاغةٍ لا يُميَّزان عن كلام أمير المؤمنين علیه السلام؟ لماذا لا يُظهر نفسَه حتى ينال من الخلود ما ناله أمير المؤمنین علیه السلام في هذا الجانب؟ بل كيف خفي قديماً ولا يزال مخفيّاً عند قومٍ لا يخفى عليهم هكذا أمر لشدة تقديسهم له؟ ومن المناسب هنا إيراد رأي الأمير شكيب أرسلان لّما سُئِلَ عن صحة ما في نهج البلاغة، فقال: «إذا كان نهج البلاغة موضوعاً فمن هو واضعه؟ هل هو الشريف الرضي؟ فقالوا له: نعم. فقال: إنَّ الشريف الرّضي لو قُسِّم أربعين رجلاً ما استطاع أن يأتي بخطبةٍ واحدة قصيرة من خطب نهج البلاغة، أو جملة من جمله»(1).

د - لم يكن في نهج البلاغة السب الصراح مثلما قال الذهبي، لكنه أشار بكلامهِ هذا إلى الخطبة الشقشقية، التي قال عنها الدكتور إبراهيم السامّرائي - وهو من طائفة المشككين طبعاً -: «وليس لدارسٍ أن يقول أن الشقشقية ليست لعلي، بل هي له، وهي تشير أشارات صريحة إلى ما كان يعتلج في نفسه مما يشعر أن حقّه قد سُلِبَ»(2).

والشقسقية من خطبه وقد أكدها المؤرخون وبطرقٍ متعددة. قال ابن الخشاب(3)(ت 567 ه): «وإني لأعلم أنّها كلامه - يعني الإمام علي - والله لقد

ص: 48


1- أعيان الشيعة 1 / 540
2- مع نهج البلاغة دراسة ومعجم 10
3- هو عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن نصر بن الخشّاب،كان أعلم أهل زمانه بالنحو وكانت له = معرفة بالحديث واللغة والفلسفة والحساب والهندسة. روی كثيراً من الحديث، صنّفَ الرد على الحريري في مقاماته. وشرح اللمع لابن جني ولم يتمه وغيرهما كثير توفي سنة (567 ه) ينظر: الوافي بالوفيات 17 / 11

وقفت على هذهِ الخطبة في كُتُبٍ صُنِّفَتْ قبل أن يُخلقَ الرضي بمائتي سنة، ولقد وجدتها مسطورة بخطوطٍ أعرفها، وأعرف خطوط مَن هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي»(1)، وبعد ذلك قال ابن أبي الحديد: «قد وجدت أنا كثيراً من هذهِ الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي(2)... ووجدت أيضاً كثيراً منها في كتاب أبي جعفر(3)بن قبة أحد متكلمي الإمامية وهو الكتاب المشهور المعروف بكتاب (الإنصاف)»(4) أمّا الباحث فيؤكد هذه الخطبة من خلال طريق آخر لا يقبل الضلال أيضاً، وهو اعتماد بعض أصحابِ المعجمات اللغوية على بعض فقراتها، وهذا دليل على صدورها من المنبع المؤسس الأصيل للكلام العربي، وهذا السبب دعاهم للإستشهاد بكثيرٍ منها. ومن تلك المعجمات التي عثرنا فيها على بعضٍ من

ص: 49


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 / 158
2- هو عبد الله بن أحمد بن محمود يكنى أبا القاسم من متكلمي المعتزلة، وأسس طائفة عندهم تسمى بالكعبية. أقام ببغداد ثم عاد إلى بلخ فأقام بها وتوفي هناك(سنة 319 ه). ينظر: تأريخ بغداد 9 / 392. وينظر: وفيات الأعيان 3 / 46
3- هو محمد بن عبد الرحمن بن قِبَة الرازي متكلّم عظيم القدر حسن العقيدة، قوي الكلام كان معتزليّا ثمً أصبح إمامياً. له كتب عدّه منها (المستثبت) و (الإنصاف في الإمامة) نقل منه الشيخ المفيد في كتاب العيون والمحاسن. ينظر: معجم رجال الحديث 16 / 136، وینظر: معجم المؤلفين 10 / 184 - 149
4- شرح نهج البلاغة 1 / 159

فقرات الخطبة الشقشقية:

1 - النهاية في غريب الحديث، فقد ذكر منها:

- «حديث عليِّ في خطبةٍ له: تلك شقشقةٌ هدرت ثمَّ قرَّت»(1).

- «حديث عليٍّ رضي الله عنه: أصولَ بيدٍ جذّاء»(2).

- «حديث علي: والناس حولي كربيضة الغنم»(3).

2 - لسان العرب، فقد ذكر منها:

- «وفي حديث عليٍّ (رضوان الله عليه) في خطبة له تلك شقشقة هدرت ثمَّ قرَّت»(4).

- «وفي حديث عليٍّ كرّم الله وجهه: أصول بيدٍ جذّاء»(5).

- «وفي حديث علي رضي الله عنه: والناس حولي كربيضة الغنم»(6).

3 - القاموس المحيط، فقد جاء فيه: «والخطبة الشقشقية العلوية لقولهِ، لابن عباس،... هيهات، تلك شقشقة هدرت ثم قرَّت»(7).

4 - تاج العروس، استشهد ببعضها فقال:

ص: 50


1- النهاية في غريب الحديث 2 / 490. (باب الشين مع القاف)
2- م. ن 1 / 250 (باب الجيم مع الذال)
3- م.ن 2 / 185. (باب الراء مع الباء)
4- لسان العرب 10 / 185 مادة (شقق)
5- م. ن 3 / 479 مادة (جذذ)
6- م. ن 7 / 153 مادة (رض)
7- القاموس المحيط 3 / 251

- «والخطبة الشقشقية: وهي الخطبة العلوية... سميت بذلك: لقولهِ لابن عباس رضي الله عنهم ... يا ابن عباس هيهات، تلك شقشقة هدرت ثم قرَّت»(1).

- «وفي الحديث: كربيضة الغنم»(2).

وصاحب المعجم المذكور هنا اكتفى بقولهِ: وفي الحديث دون أن ينسبه لَمِن.

ولكنهُ عُرِف ممّا مضى.

- «وفي حديث عليٍّ رضي الله عنه: أصول بيدٍ جذّاء»(3).

5 - المعجم الوسيط: «ويُقال: شقشقة هدرت ثمَّ قرَّت»(4).

وأصحاب هذا المعجم لم يذكروا صاحب هذا القول وأكتفوا ب(يُقال)، وبحسب ظنّي الأمر يعود إلى أن من بين مؤلفي هذا المعجم هو الأستاذ الكبير أحمد حسن الزيّات، والزيّات هو من المشككين بكلام أمير المؤمنين علیه السلام ولهذا ذكر هذه الكلمات لأهميتها دون ذكر قائلها حتى لا يكون حجة على المشككين هو وغيره.

هذا هو ذكر لبعض المعجمات وبعض الجمل التي أُخذت من الخطبة الشقشقية.

ومن أولئك الذين وثَّقوا هذه الخطبة وأكّدوا عليها هو ابن الجوزي

ص: 51


1- تاج العروس 13 / 250 باب (شفلق)
2- م. ن 10 / 57 باب (ربض)
3- م. ن 5 / 354 باب (جذذ)
4- المعجم الوسيط إبراهيم مصطفى وآخرون 1 / 491 (باب الشين). وينظر: المعجم الوسيط إبراهيم أنيس وآخرون 1 / 489 (باب الشين)

(ت 654 )، الذي قال عنها: «ذكر بعضها صاحب نهج البلاغة وأخلَّ بالبعض، وقد أتيتُ بها مستوفاة: أخبرنا بها شيخنا أبو القاسم النّفيس بإسناده عن ابن عباس قال: لما بُويعَ أمير المؤمنين علیه السلام بالخلافة ناداه رجل من الصف وهو على المنبر: ما الذي أبطأك إلى الآن؟ فقال بديهاً: أما والله لقد تقمصها فلان وهو يعلم أنّ محليَّ منها محلُّ القُطب من الرَحا... الخ الخطبة»(1).

وواضح هنا من كلام سبط ابن الجوزي إنّه مطلع على الخطبة من غير طريق نهج البلاغة، بل هي برواية شيخه أبي القاسم وبسند إلى عبد الله بن عباس، ثمَّ بعد المقارنة التي أجراها سبط ابن الجوزي بين الخطبتين، أي الخطبة التي عنده والخطبة التي دونها الرضي في نهج البلاغة خرج بمحصّلة هي إن الرّضي لم ينقلها كاملةً بل «ذكر بعضها... وأخلَّ ببعض».

ومن المناسب هنا أن نقف مع ما ذكره الأستاذ الكبير أحمد زكي صفوت حول الخطبة، فبعد ما ذكره - أي الأستاذ - من كلام ابن أبي الحديد السابق الذكر حول الخطبة صرح قائلاً: «من ذلك يتبين لك أن الشقشقية كانت معروفة قبل مولد الرضي من أكثر من طريق. فلا تبعة إذن عليه، ولا سبيل إلى إتهامه بإنتحالها ولكنّا مع ما نری فيها من جزالة اللفظ، وروعة الأسلوب التي تغرينا أن ننظمها مع كلام علي في سلك واحدٍ. نتراجع حين يبدو شَبحُ الشك ماثلاً فيها...»(2).

فما جاء في ذيل كلام الأستاذ فيه من الغرابة شيء؛ فالأستاذ هنا يقرُّ بأنها كانت موجودة قبل الشريف الرضي، ثم جاء الرضي وأكدّها هذا من ناحية

ص: 52


1- تذكرة الخواص 117
2- ترجمة الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام 134

السند والرواية التأريخية. أمّا من ناحية الأسلوب فقد رأی الأستاذ أنها داخلة ضمن إسلوب الإمام وطريقتهِ. ولكن مع هذا كله لماذا تراجع الأستاذ الكبير؟ ثمَّ أيُّ دليل تقتضيه الوثاقة أكثر من الدليلين اللذين ذكرهما هو: الرواية التأريخية، وموافقة الأسلوب؟

الوقفة الثانیةً: وقفة مع شبهة الطول في کلام الإمام علي علیه السلام

اتّخذَ بعض الباحثين الطول الذي ورد في بعض خطب أمير المؤمنين علیه السلام كالخطبة المسماة بالقاصعة وبعض رسائله كعهدهِ لمالك الأشتر (رضوان الله عليه) ذريعة للتشكيك في نهج البلاغة. فقد ذكر الدكتور نايف معروف في كتابه الأدب الإسلامي هذه الشبهة قائلاً: «كثرة الخطب وطولها،لأنّ هذه الكثرة وهذا التطويل مما يتعذر حفظه، وضبطه قبل عصر التدوين»(1).

وقال الأستاذ المرحوم أحمد زكي صفوت: «فإنّا يخالج نفوسنا الشك في عهد الأشتر لا من حيث ما ورد فيه من النظريّات السياسية والعمرانية، لأنّا لا نستبعد صدور مثل هذا من الإمام... وإنّما يخالجنا الشك فيه من حيث طوله وإسهابه»(2).

وبنظر الباحث هذا مردود بالتالي:

أ - أما بالنسبة لكثرة الخطب، وردّاً على ما ذكره الدكتور نايف معروف؛ فإنها كانت معروفة ومؤكدّة قبل أن يُجمع نهج البلاغة، بل حتى قبل أن تُعقد للرضي

ص: 53


1- الأدب الإسلامي 54
2- ترجمة الإمام علي بن أبي طالب 128

نُطفة، بل إنّ الذين تحدثوا عن عدد خطب أمير المؤمنين علیه السلام ومن سابقي الرضي ُ تحدّثوا عن (480 ونيف) خطبة، بينما الرضي دوّن في النهج (241) خطبة، أي نصف العدد المذكور تقريباً، وهذا ما أفرغ منه الباحث سابَّقاً(1).

ب - وبالنسبة للإطالة في الخطب، وبصورة إجمالية، فهذا أمرٌ قد عُرِفَ عند العرب، وذكرَ أربابُ المصنفات في مصنفاتهم أطرافاً عنه، فقد نَقل لنا الجاحظ عن قيس بن خارجة أنه خطب بخطبةٍ: «يوماً إلى الليل فما أعاد فيها كلمةً ولا معنی»(2). ولْنَتَصور هنا كم سيملأ هذا الخطاب المذكور لو دوّن. ولنهب أنَّ في هذا الكلام شيئاً من المبالغة، ولنفترض أنّه خطب بنصف يومٍ، أو ضحى من نهار أيضاً كم سيملأ من الكراريس؟ وهل سيبقى العهد أو الخطبة القاصعة قباله طويلان؟.

أمّا ما ذكره الدكتور بدوي طبانة من أنّ «الخطيب صار فيه انحناء فساعدته العصا على انتصاب قامته»(3)أليس هذا الإنحناء راجع إلى طول الموقف وطول الموقف عائدٌ بدورهِ إلى طول الخطبة؟ وعليه فالطول في الخطب ورغَبة الخطيب في ذلك موجودة قبل أمير المؤمنين علیه السلام.

ج - لوعدنا للتطويل عند الإمام علي بخاصة، لوجدناه من مزايا خطابه التي قد عُرِفَ بها قبل أن يجمع بعض كلامه في نهج البلاغة. وهذا ما أكّده الجاحظ بقوله: «لم يكن عمر من أهل الخطب الطوال، وكان كلامه قصيراً، وإنّما

ص: 54


1- تنظر: الرسالة 3 - 4
2- البيان والتبيين 1 / 79
3- السرقات الأدبية 21

صاحب الخطب الطوال عليُّ بن أبي طالب علیه السلام»(1)؛ فالجاحظ الذي هو مضطلع في الأدب العربي باتفاق الجميع، كان متنبِّهاً إلى ميزة طول الخطب عند أمير المؤمنين علیه السلام دون غيرهِ من الصحابة.

وقال ابن دأب(2): «فأدركتُ النّاس وهم يعيبون كُلَّ مَن استعان بغير الكلام الذي يشبه الكلام الذي هو فيه، ويعيبون الرّجل الذي يتكلّم ويضرب بيده على بعض جسمه، أو على الأرض، أو يدخل في كلامه ما يستعين بهِ. وهم يقولون: کان علیه السلام - أي أمير المؤمنين - يقوم فيتكلم من ضحوةٍ إلى أن تزول الشمس لا يدخل في كلامه غيرَ الذي تكلَّم بهِ»(3).

وهذه هي ميزة ممتازة أخری من مزاياه علیه السلام فعندما يعمد إلى التطويل لا يدخل في كلامه ما لا طائل منه، ولا يستشهد بكلام غير مصبوبٍ ومسبوك في المعنى الذي أراد. ومهما طال كلامه علیه السلام فإنه يُبقي المتلقي في حالةِ شدٍّ وشوقٍ دونما ملالةِ أو سأم حتى غدا ينتج الخطب والعهود الطوال بطريقة خاصة تتميز عن كل من طوّلوا في ذلك، ولهذا قال هبة الدين الشهرستاني:

«إنّ الخبراء لو تأمّلوا نسج هذا العهد العلوي وموادهِ حكموا مبدئيّاً على أنّ... المنشيء لهذا العهد أمير عربي أديب. قضائي. فقيه. فلسفي. سياسي. إداري. روحاني. اجتماعي. ولم يسمح الدهر للعرب برجل جامع لهذه المزايا بعد محمد صلی الله علیه وآله وسلم وعلي علیه السلام حتى ولا يدنو من ذلك نفسيّة الشريف الرضي أيضاً»(4). ولربما نسي الشهرستاني أن يقول: عسكري.

ص: 55


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 12 / 265
2- هو عيسى بن يزيد بن بكر بن دأب يكنّى أبا الوليد كان من أكثر زمانه علمًا وأدباً ومعرفةً بأخبار الناس. وكان معاصراً لموسى الهادي العباسي. ينظر: الكنى والألقاب 1 / 281 - 282
3- الاختصاص 155
4- الراعي والرعية 6 - 7

هذا بعض ممّا قيل في قدرة أمير المؤمنين علیه السلام على تطويل الخطب والرسائل. أما هو علیه السلام فقد تحدّث عن هذا الأمر فقال:

«واللهِ لو أمر تُكُم فجمعتُم من خيارِ كُم مائةَ، ولو شِئتُ لحدَّثتُكم من غدوةٍ إلى أن تغيب الشّمس؛ لا أخبرتكم إلا حقًّا»(1).

فهنا أكَّد أمير البيان علیه السلام على أنّهُ قادرٌ على ذلك التطويل المهيب وبشرطٍ صعبٍ مستصعب وهو جعله ضمن دائرة الحق والصدق «لا أخبرتكم إلاّ حقًّا». وهذا غير داخل في باب المبالغة البتّة لأنهُ علیه السلام معصوم والمعصوم لا يتوكَّأ على عنصر المُبالغة.

د - أما الشكوك الخاصة بالعهد حصراً. لأنّه طويل. فقد دُفعِت بالأدلة السابقة، مثلما تُدفع بأدلة أخری قائمة على التأثير والتأثر وهي بالعشرات - ستأتي بعونهِ تعالى - ومنها: قال أبو هلال العسكري (ت 395 ه): «ومن حسن الإتباع.. قول إبراهيم بن العباس(2)حيث كتب: إذا كان للمحسن من الثواب ما يقنعه وللمسيء من العقاب ما يقمعه، ازداد المحسن في الإحسان رغبةً، وانقاد المسيء للحقِّ رهبة. أخذه من قول عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) أخبرنا به أبو أحمد، قال: أخبرنا أبو بكر الجوهري(3)قال: أخبرنا أبو يعلى ألمنقري(4)قال:

ص: 56


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6 / 262
2- هو إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول ألصولي البغدادي شاعر، وكاتب مشهور لهُ ديوان شعر. وهو ابن أخت العباس بن الأحنف الشاعر. أتصل بذي الوياستين (الفضل بن سهل ثم تنقل في أعمال السلطان ودواوينه إلى أن توفي بسُرَّ من رأی سنة 243 ه.ينظر: وفيات الأعيان 1 / 44. ينظر: الوافي بالوفيات 6 / 19
3- هو محمد بن شاذان يكنى أبا بكر الجوهري البغدادي، مقرئ معروف، ومحدِّث مشهور، ثقة صدوق. توفي سنة 286 ه ينظر: تاريخ بغداد 2 / 428
4- أبو يعلى زكريّا بن يحيى بن خلّاد ألمنقري من أهل البصرة. كان من جلساء الأصمعي. ينظر: = الثقات 8 / 255

أخبرنا العلاء بن الفضل بن جرير(1)قال: قال عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) يجب على الوالي أن يتعهد أموره، ويتفقّد أعوانه، حتى لا يخفى عليه إحسان محسن ولا إساءة مسيء. ثمَّ لا يترك واحداً منهما بغير جزاء، فإن ترك ذلك تهاون المحسن، واجترأ المسيء..»(2)وهذا المقطع من كلام أمير المؤمنين علیه السلام من مقاطع العهد، لكن الرضي أودعه نهج البلاغة مع تغيير طفيف:

«وَلاَ یَکُونَنَّ اَلْمُحسِنُ وَاَلْمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِیداً لِأَهْلِ اَلْإِحْسَانِ فِي اَلإِحْسَانِ، وَتَدْرِیباً لِأَهْلِ اَلإِسَاءَةِ»(3).

ثمّ إننا نجد ابن المقفع (ت 142 ه) أخذ هذا الكلام أيضًا، فقال: «ثمّ علي الملوك بعد ذلك، تعاهد عمالهم وتفقد أمورهم حتى لا يخفى عليهم إحسان محسن ولا إساءة مسيءٍ.

ثمّ علیهم، بعد ذلك، أن لا يتركوا محسناً بغير جزاء، ولا يُقرَّوا مسيئاً، ولا عاجزاً على الإساءة والعجز. فإنهم إن تركوا ذلك تهاون المحسنُ، واجترأ المسيء»(4).

ومما أخذه بن المقفع مؤكدّاً عن العهد قوله: «حقُّ الوالي أن يتفقَّد لطيف أمور رعيته، فضلاً عن جسمها، فإنّ للّطيف موضعاً ينتفع بهِ، وللجسيم موضعاً لا يُستغنى عنه»(5).

ص: 57


1- هو العلاء بن الفضيل بن عبد الملك يكنى أبا الهذيل. بقي حيَّا إلى سنة 220 ه. ينظر ميزان الاعتدال 3 / 104
2- الصناعتين 220
3- نهج البلاغة 504
4- الأدب الصغير والأدب الكبير 146
5- الأدب الصغير والأدب الكبير 31

فهذا عن قولهِ علیه السلام:

«وَلاَ تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطِیفِ أُمُورِهِمُ اِتَّکَالاً عَلَی جَسِیمِهَا، فَإِنَّ لِلْیَسِیرِ مِنْ لُطْفِكَ مَوْضِعاً یَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَلِلْجَسِیمِ مَوْقِعاً لاَ یَسْتَغْنُونَ عَنْهُ»(1).

فواضح جدّاً هنا كيف أخذ ابن المقّفَع قول الإمام علیه السلام:

«تفقّد لطيف أمورهم اتكالاً على جسيمها».

وقال:

«يتفقد لطيف أمور رعيته فضلا عن جسيمها».

وقول الإمام علیه السلام:

«فَإِنَّ لِلْیَسِیرِ مِنْ لُطْفِكَ مَوْضِعاً یَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَلِلْجَسِیمِ مَوْقِعاً لاَیَسْتَغْنُونَ عَنْهُ».

الذي حوَّره قليلاً ابن المقفع: «فإنَّ للّطیف موضعاً ینتفع بهِ، وللجسیم موضعاً لا یُستغنی عنه». وغير هذا كثيرةٌ جدًّا هی التأثیرات التی ترکها العهد. على نتاجات ابن المقفع، وسيعرف هذا لاحقاً بعونهِ تعالى.

إذاً فالعهد كان موجوداً ومقروءاً ومؤثِّراً. والطول في الخطابة كان موجوداً أيضاً وبخاصة عند أمير المؤمنين علیه السلام.

ه - إنّ من الأسباب المهمة وراء طول الخطب والرسائل عند أمير المؤمنين علیه السلام مثلما يری الباحث هو القرآن، نعم القرآن نفسه؛ لأن العلاقة بين القرآن وترجمانه علاقة وطيدة متداخلة لا يمكن أن تحدَّ بمدی سواء من ناحية الشكل الكلّي أو المضمون. والقرآن - كما هو معلوم - فيه سورة البقرة وفيها

ص: 58


1- نهج البلاغة 507

(286) آية، وفيه سورة الكوثر وفيها (3) آيات.

وهكذا كان كلام أمير المؤمنين علیه السلام ففيه العهد ما يقارب (285) سطراً، وفيه الحكمة «النّاسُ أعداءُ ما جَهِلوُا»(1)وعلى هذا فمن الطبيعي جداً أن يكون القرآن ألقى فيما ألقى بظلاله على أمير المؤمنين مسألة التطويل، فورثها علیه السلام عن القرآن.

و - «ما وقع بين المسلمين من إختلاف مذهبي وسياسي أوجب على الخطيب الإطالة إيضاحا لفكرتهِ ودفاعاً عن مذهبه وتفنيداً لأقوال خصومه. ومن الخطب الطوال... طائفة من خطب علي»(2).

ی - مراعاة مقتضى الحال، قال الدكتور زكي مبارك: «وكان من الخطباء من يطيل، وكان منهم من يوجز... وسحبان بن وائل الذي عُرِفَ بالتطويل وبأنّه كان يخطب أحياناً نصف يوم أُثِرت عنه الخطب القصيرة الموجزة... وذلك يدلُّ على أنّ الفطرة كانت غالبة على ذلك العصر وأن القاعدة المطردة لم تكن شيئاً آخر غير مراعاة الظروف. ورسائل علي بن أبي طالب علیه السلام وخطبه ووصاياه وعهوده إلى ولاته تجري على هذا النمط، فهو يطيلُ حين يكتبُ عهداً يبين فيه ما يجب على الحاكم في سياسة القطر الذي يرعاه، ويوجز حين يكتب إلى بعض خواصه في شأنٍ معَّينٍ لا يقتضي التطويل»(3).

فأمير المؤمنين علیه السلام عندما كان يكتب لمن ولاّه يأمرُه بأن لا يقصِّر لا في حقوق الخالق ولا المخلوق، موضحاً له صغائر الأمور وكبارها وفي وظائف الدولة كافة

ص: 59


1- م. ن 584
2- الخطابة العربية في عصرها الذهبي 41
3- النثر الفني في القرن الرابع الهجري 1 / 69

وعلى هذا لابُدَّ من أن يطول كتابه علیه السلام.

وهنا بودِّ الباحث الإشارة إلى أنّ الأثر الذي تركه العهد بخاصة كان ظهوره جليّاً على طبقة خاصّة وهي طبقة الحكام ومن كان في أروقتهم وتحت ظلهم وأمرتهم من الكتاب أمثال عبد الحميد، وابن المقفع وهذا ما سيُعرف في قابل البحث إن شاء الله. ولعل السبب في ذلك يكمن فيما ذكره ابن أبي الحديد - وهو الراجح عند الباحث - إذ قال في حديث مسند: «أنّ عليّاً لما كتب إلى محمّد بن أبي بكر هذا الكتاب، كان ينظر فيه ويتأدب بأدبه، فلما ظهر عليه عمرو بن العاص وقتله، أخذ كتبه أجمع، فبعث بها إلى معاوية فكان معاوية ينظر في هذا الكتاب ويتعجَّب منه، فقال الوليد بن عُقبة، وهو عند معاوية، وقد رأی لك! قال معاوية: ويحك! أتأمرني أن أحرق علماً مثلَ هذا! والله ما سمعتُ بعمل هو أجمع منه ولا أحكم. فقال الوليد: إن كنت تعَجبُ من علمه وقضائه فعلامَ تقاتله! فقال: لولا أنّ أبا تراب قتل عثمان ثم أفتانا لأخذنا عنه. ثمَّ سكت هنيهة، ثمَّ نظر إلى جلسائهِ فقال: إنّا لا نقول: إنّ هذهِ من كُتب علي بن أبي طالب؛ ولكن نقول: هذه من كُتب أبي بكر الصديق كانت عند ابنه محمد فنحن ننظر فيها، ونأخذ منها. قال - أي الراوي -: فلم تزل تلك الكتب في خزائن بني أمية؛ حتى ولي عمر بن عبد العزيز فهو الذي أظهر أنها من أحاديث علي بن أبي طالب علیه السلام»(1).

وفي هذه الرواية يبدو أنّ الذي أُخذ بعد إستشهاد محمد بن أبي بكر (رضوان الله عليه) أكثر من كتاب، بل كتب عدّة «أخذ كتبه أجمع»، «إنّ هذهِ من كتب...

ص: 60


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6 / 223

كانت». وعلى كلّ الأحوال فيمكن أن يكون من بين تلك الكتب عهد الإمام لمالك الأشتر، حيث قال عنه ابن أبي الحديد بعد ذكره لهذهِ الرواية «الأليق أن يكون الكتاب الذي كان معاوية ينظر فيه، ويعجب منهُ، ويفتي بهِ، ويقضي بقضاياه وأحكامه هو عهد علي علیه السلام إلى مالك الأشتر... وهذا العهد صار إلى معاوية لما سُمَّ الأشتر ومات قبل وصوله إلى مصر؛ فكان ينظر فيه ويعجب منه، وحقيق من مثله أن يقتنى في خزائن الملوك»(1).

وبعد هذا يمكن القول: أنّ معاوية ومن جاء بعده قد أطلعوا كُتَّابهم على العهد المذكور ولهذا كثُر تأثّرُهم بهِ.

الوقفة الثالثة: شبهة الصیغ الفلسفیة

والإصطلاحات الکلامیة أو مباحث علم التوحید والعدل الإلهي يُعرَّف علم الكلام أو علم التوحيد بأنه «علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، وهذا العلم - فيما أعتقد - هو النتاج الخالص للمسلمين»(2)ومن أوائل أولئك المسلمين هو أمير المؤمنين علیه السلام، فقد اشتهر بالبحث الدقيق والمعمق في هذا العلم، لأنّه أراد نشر الصفات الإلهية الحقّة غير المتلبسّة بالترسبات اليهودية والمسيحية مثل التجسيم والتشبيه وهذه العملية «لم تكن عملية سهلة أبداً بل كانت ضرباً من ضروب المجازفة والمخاطرة بأعزّ ما يملكه المبلِّغُ التوحيدي»(3). وهذا العلم هو وحده من أنصف الذات الإلهية،

ص: 61


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6 / 223 - 224
2- نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام 30
3- الإمام علي في الفكر المسيحي المعاصر 395

وهو الذي ردَّ ويردَّ على أولئك الذين كأنّهم «خلقوا ألهتهم بأيديهم»(1).

وأمير المؤمنين علیه السلام بنهضته تلك قد رام التأكيد على أنّ الدين الإسلامي الحنيف هو مثلما قال الدكتور نظمي لوقا: «دين يؤكّد وجود الله، وانّه خالق الخلق، وانّهُ الكامل المتفرد بالكمال، بيده الأمر، وهو على كل شيءٍ قدير... ويؤكد وحدانية الله توحيداً يقضي على عقابيل التعددية في تصوُّر الإله... ويلزم كذلك أن يؤكد هذا الدين التنزيه لله، حتى لا يُنزلق إلى التجسيم الذي طالما وقعوا فيه بعد كُلِّ دعوةٍ للتوحيد بين غلبة الحسِّ عليهم»(2).

لكن أهل البيت علیه السلام الذين يمكن تسميتهم بسفراء هذا العلم، دفعوا ضريبة عملهم هذا نتيجة حملهم ونشرهم هذه العلوم التوحيدية في ذلك المجتمع الفلسفي المتناقض(3)، وكان من تلك الضريبة أن شُكِّكَ في كلامهم هذا وعلى رأسهم أمير المؤمنين علیه السلام. قال أحمد أمين مشككَّاً في نهج البلاغة: «واستوجب الشكَّ هذا أمورٌ: ما في بعضه من سجع منمّق، وصناعة لفظية...»(4). وإلى هذا ذهب أيضاً الأستاذ أحمد زكي صفوت بحجة «أنّ هذا الأسلوب المنطقي لم يعهد في كلام العرب، ولم يستعمله العلماء إلاّ بعد ترجمة المنطق والعلوم الدخيلة، وذلك العصر لم يدركه الإمام»(5).

ردَّ العلماء على هذه الشبهة بردود عدة، ومن ذلك ما قاله محمّد جواد مغنية:

ص: 62


1- م. ن 395
2- م. ن 393
3- ينظر: م. ن 395
4- فجر الإسلام 149
5- ترجمة الإمام علي بن أبي طالب 144

«... والغريب أنّ هؤلاء المنكرين لا يستكثرون على ابن خلدون الكلام في علم الإجتماع قبل أن يعرفه روسو ومنتسيكو، وأن يقولوا عن علومه ومعارفه: تدفق فجائي وحدس باطني وأختمار لا شعوري، ثم يستكثرون على باب مدينةالعلم.. أن يصفَ البارئ بصفات تليق بجلالهِ... وهو أعرف الناس به بعد الرسول»(1).

أما الباحث فيدحض هذه التهمة بطريقين:

الطریق الأول شهرته علیه السلام العَریضة علی مر العصور الماضیة بهذا العلم إنّ هذا العلم هو من المسلمّات التي عُرِفت عن أمير المؤمنين علیه السلام، وهو الذي أكده مهرةُ الفنّ، وأصحاب المصنفات في مصنفاتهم على مرَّ العصور. فمثلاً الكليني (ت 328 ه) وبعد أن نقل عن أمير المؤمنين علیه السلام إحدی خطبه في التوحيد قال: «وهذه الخطبة من مشهورات خطبهِ علیه السلام، حتى لقد إبتذلها العامة، وهي كافية لمن طلب علم التوحيد إذا تدبّرها وفهم ما فيها، فلو اجتمع ألسنُة الجنّ والإنس ليس فيها لسان نبيّ على أن يبيّنوا التوحيد بمثل ما أتى به - بأبي وأمي - ما قدروا عليه ولولا إبانته علیه السلام ما علم الناس كيف يسلكون سبيل التوحيد»(2).

فواضح إذاً من كلام الشيخ الكليني أنّ هذه الخطبة في التوحيد من مشهورات خطبهِ، بل أصبحت مبتذلةً من كثرة تداولها بين العامة. والكليني توفي قبل أن يجمع نهج البلاغة ب(72) عاماً.

ص: 63


1- فضائل الإمام علي 73
2- الكافي 1 / 136

أمّا المرتضى (ت 436) فقد قال في أماليه: «اعلم أنّ أصول التوحيد والعدل مأخوذة من كلام أمير المؤمنين - صلوات الله عليه - وخطبه، فإنها تتضمن من ذلك ما لا زيادة عليه، ولا غايةَ وراءه، ومن تأمّل المأثور في ذلك من كلامهِ علم أنَّ جميع ما أسهب المتكلمون من بعد في تصنيفه وجمعه، إنّما هو تفصيل لتلك الجمل، وشرح لتلك الأصول»(1).

ثم استشهد الشريف المرتضى بأمثلة عدة على ذلك منها قوله علیه السلام في وصف الله تعالى:

«لا تشبهه صورة، ولا يُحَسُّ بالحَوَاسِ الخَمْسِ، ولا يُقَاسُ بِقِياسِ النَّاسِ»(2).

وقد عدّ ابنُ أبي الحديد هذا العلم أعلى مناقب أمير المؤمنين علیه السلام على كثرتها، وإنّ جميع من جاء بعده فعنه أخذ في هذا المضمار، فقال: «واعلم أنّ التوحيد والعدل والمباحث الشريفة الإلهيّة، ما عُرِفَتْ إلاّ من كلام هذا الرجل،... وهذهِ الفضيلة عندي أعظمُ فضائله علیه السلام»(3).

والقائمة تطول بأسماء هؤلاء ونختمهم بالعلوي (ت 745) فقد نقل كثيراً من حكم أمير المؤمنين علیه السلام وخطبه بهذا الصدد، وقد توسّعَ في شرحها والتعليق عليها، فبعد أن أورد كلام الإمام علي علیه السلام «التوحيد ألاّ تتو هّمه، والعدل إلاّ تتهَّمهُ»(4)قال:

«هاتان الكلمتان قد جمعتا وحازتا علوم التوحيد على كثرتها، وعلوم الحكمة على غزارتها، بألطف عبارةٍ وأوجزها. ولو لم يكن في كلام أمير

ص: 64


1- أمالي المرتضى 1 / 162 - 163
2- م. ن 1 / 163
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6 / 410
4- الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز 2 / 251

المؤمنين علیه السلام في علوم التوحيد والعدل إلاّ هاتان الكلمتان لكانتا كافيتين في معرفةِ فضله، وإحرازهِ لدقيق علم البلاغة وجزله..»(1).

وهنا بودِّ الباحث أن يتساءل:

هل كُلَّ هؤلاء الذين صرّحوا وأكّدوا بأنّ أمير المؤمنين كان مبرّزاً في هذهِ الحلبة أي حلبة علوم التوحيد كانوا يكذبون؟ - أجلهّم الله - أم كانوا مُغفّلين؟ أم كانت في كلامهم محاباة؟ ولأي جهةٍ كانت هذهِ المحاباة؟ أم كانوا ماذا؟.

إذا لم تكن هذهِ الخطب العظيمة لأمير المؤمنين علیه السلام إذاً لمن هي؟ لماذا لم يصرح بها صاحبها ويحز ذلك الفضل الذي لم تُحزه الأوائل؟ ولماذا المشككون لم ينسبوها حتى نعرف قائلها؟.

أين علماء القرن الثاني والثالث بل الرابع والخامس وحتى القرن الثالث عشر - وقد رأيت معي لَمِنْ كان حُكْمَهُم - من هذا التشكيك؟ هل يعقل خفي الأمر هذا على جهابذة العلم لما يقارب (1000)عام؟ حتى يأتي في العصر الحديث الأستاذ الكبير أحمد أمين ويخالف ذلك والأستاذ الكبير أحمد زكي صفوت الذي قال: «وإنّنا نسوَّغ لأنفسنا أن نقول: من الجائز أن يكونَ بعضُ غلاة الشيعة قبل الشريف الرضي قد دسوا على الإمام بعض الخطب..»(2). وهل هذا صحيح تأتي هكذا شخصيات لها قدم راسخُ في مجال تخصصها وتنفي تراث عظيم قد شهد بهِ الجميع؛ لأنّ الأستاذ قد «سوّغَ «لنفسهِ. ألا يعلم وهو الخبير أن الباحث العلمي يميل مع الدليل لا مع ما تسوِّغه النفس الأمّارة.

ص: 65


1- م. ن 2 / 251
2- ترجمة الإمام علي بن أبي طالب 158

الطریق الثاني طریق تأثیر هذا الفن النثري والتّأثر بهِ فبعد أن رسخت قدم أمير المؤمنين علیه السلام في هذا العلم وانتشرت خطبه التوحيديه «التي ستشكل لاحقاً حجَر الأساس في عملية انتشار الأيديولوجيا الإسلامية التوحيدية... التي أرادها الرسول صلی الله علیه وآله أن تَنتشر على نطاقٍ أوسع بين الناس»(1) انتشرت بالفعل، وأخذت صداها الواسع في التأثير، فكان من أوائل الذين تأثّروها أبناؤه وأحفاده علیه السلام. ونذكر منهم علماً واحداً وهو الإمام السجاد (استشهد 95 ه) علیه السلام فمما روي عنه من هذا النوع من الكلام قوله في الصحيفة السجادية:

«الحمدُ للهِ الأوّلِ بلا أوّلٍ کان قبلَهُ، والآخرِ بلا آخرٍ یکونُ بعَدهُ، الّذي قَصُرتْ عن رؤَیتهِ أبصارُ الناظرین، وعجزت عن نعته أوْهامُ الوَاصِفِین»(2).

وشبيه هذا كثير في خطب الإمام عليٍّ علیه السلام منها قوله:

«وأشهد أن لا إله الّا الله وحده لا شريك له: الأوّلُ لا شيء قبلهُ والّاخرُ لا غاية له، لا تقعُ الأوهام له على صفة، ولا تُعْقَدُ القلوب منه على كيفيّة...»(3).

ومنها:

«الحمدُ لله الأوّلِ قبلَ کُلِّ أوَّلٍ، والآخرِ بعد کُلِّ آخر، وبأولیتَّه وجَبَ أنْ لا أوَّلَ له، وبآخریتّه وجب أن لا آخر له..»(4).

ص: 66


1- الإمام علي في الفكر المسيحي المعاصر 393
2- الصحيفة السجادية 27
3- نهج البلاغة 125
4- م. ن 166

وقال الإمام السجاد علیه السلام متأثراً بجدهِ أيضاً:

«الحمدُ لله الذي... كلّت الألسنُ عن غايةِ صفته وأنحسرَتْ العقولُ عن كنه معرفته..»(1).

وهنا تضمين لكلام أمير المؤمنين علیه السلام:

«الحمدُ للهِ الذي انحسرت الأوصافُ عن كُنهِ معرفتهِ..»(2).

وبعد ذلك لم يعد الأمر مختصّاً بأمير المؤمنين وأهل البيت علیه السلام فحسب، بل نجدُ أنّ هناك من تخرج بخطب الإمام هذه، وعلى رأس أولئك المعتزلة - الذين هم أهل التوحيد والعدل، وأرباب النظر، ومنهم تعلّمَ الناس هذا الفن - فهم تلامذته - أي الإمام - وأصحابه علیه السلام؛ لأنّ كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم(3)عبد الله بن محمّد بن الحنفيّة، وأبو هاشم تلميذ أبيه، وأبوه تلميذهُ علیه السلام(4).

فواصل بن عطاء كان كثير التأثر بخطب أمير المؤمنين علیه السلام التوحيدية ومن خطبهِ التي بان فيها هذا الأثر قوله:

«الحمد لله... الذي علا في دُنوّهِ، ودنا في علوّه...»(5).

وهذا كقوله علیه السلام:

ص: 67


1- الصحيفة السجادية 251
2- نهج البلاغة 249
3- هو عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب علیه السلام يكنُىّ أبا هشام كان كثير العلم والرِّواية توفي في خلافة سليمان بن عبد الملك سنة 98. ينظر: تأريخ دمشق 32 / 272
4- ينظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 / 23. ينظر: الثقات 7 / 2
5- جمهرة خطب العرب 2 / 501

«قرُبَ فَنَأی، وعَلَا فَدَنا، وظَهَرَ فَبَطَنَ، وبَطَنَ فعَلَنَ»(1).

وكقولهِ علیه السلام أیضاً:

«سبقَ في العلوِّ فلا شيء أعلى منه، وقرُبَ في الدنو فلا شيء أقربُ منه»(2).

وهكذا كان يسير قطار العلوم التوحيدية بشحناتٍ ورثها عن أمير المؤمنين علیه السلام ليصل إلى أبي إسحاق الصابي(3)(ت 384 ه)، الذي قال واصفاً الله تعالى بأوصافٍ إستقاها من الإمام علي علیه السلام: «لا تحدُّه الصفات، ولا تجوزه الجهات، ولا تحصرهُ قرارة مكان، ولا يغيره مرور زمان، ولا تتمثَّله العيون بنواظرها، ولا تتخيله القلوب بخواطرها...»(4). فقوله: «لا تحدّه الصفات» عن قول أمير المؤمنين علیه السلام:

«الذي ليس لصفتهِ حدُّ محدود...»(5).

ص: 68


1- نهج البلاغة 358
2- م. ن 82
3- هو أبو إسحاق إبراهيم بن هلال،الأديب البليغ صاحب الرسائل المشهورة كان صابئياً مشركاً وكان كاتب الإنشاء ببغداد عن الخليفة عز الدولة بختيار بن معز الدولة سنة(349) كان يصوم رمضان موافقة وحسن عشرة للمسلمين ويحفظ القرآن حفظاً يدور على طرف لسانه وسنِّ قلمه. وعندما توفي رثاه الرضي بقصيدة مشهورة منها: أرأيت من حملوا على الأعواد أرأيت كيف خبا ضياء النادي. وعاتبه الناس على ذلك فقال إنّما رثيت فضله ت (384 ه) ينظر: سير أعلام النبلاء 16 / 523. وينظر: وفيات الأعيان 1 / 212. وينظر: النثر الفني في القرن الرابع الهجري 2 / 353
4- النثر الفني في القرن الرابع الهجري 2 / 360
5- نهج البلاغة 15

وقوله: «لا تتمثّله العيون بنواظرها» کقوله علیه السلام:

«لا تدركه العيون بمشاهدة العيان»(1).

ويبدو أن الدكتور زكي مبارك تنبَّه لأثر أمير المؤمنين علیه السلام علی أبي إسحاق الصابي، وإلاّ كيف قال: «ولو أننّا قارنا هذه العبارات بأمثالها مما تكلم بهِ الشريف الرضي على لسان علي بن أبي طالب لرأينا الصابي يستقي من نفس المنبع الذّي الشريف استقى منه»(2).

وينبغي هنا لفتُ الانتباه إلى نكتة وهي أن أبا إسحاق توفي (384 ه) أي قبل أن يُجمع نهج البلاغة ب(ستة عشر عاماً)، وهذا دليل آخر على أنّ تلك الخطب كانت معروفة ومؤثرة قبل جمع النهج.

وصفوة القول هنا إنّ العلوم التوحيدية أو مباحث العدل الإلهي التي برع بها أمير المؤمنين علیه السلام كانت موجودة وفاعلة ومؤثّرة، ولإثباتها سلكت الدراسة أكثر من محجّةٍ بيضاء.

الوقفة الرابعة شبهة السجع السجع لغةً:

قال الخليل بن أحمد (ت 175 ه): «سجع الرجل إذا نطق بكلام له فواصل كقوافي الشعر من غير وزن، كما قيل: لصُّها بَطلٌ وتَمرُها دَقَل.. ويسجع سجعاً

ص: 69


1- م 0 ن 298
2- النثر الفني في القرن الرابع الهجري 2 / 261

فهو ساجع، وسجّاع، وسجَّاعة»(1).

أما اصطلاحاً: فهو مجيءُ الكلام المنثور على رويِّ واحد، فتصبح الكلمتان في آخر كلِّ فقرتين أو أكثر على حرف معين، بغية أن يكتسب النثر ضرباً من الموسيقى والتنغيم، ويجازي عاطفة قائله، ويثير نَفس سامعه(2). وكان له «منزلةً سنّيةً بين العرب في الجاهلية وكان يغمُر كلامهم»(3). والسجع «لم يخلُ منه عصر من عصور الأدب، ولا نستثني من ذلك عصر صدر الإسلام»(4). وهکذا جاءالسجع العلوي مزدانًا بالعفوية، كقولهِ:

«قد استطعمو كُمُ القتالَ، فأقِرُّوا على مذلّةٍ، وتأخيرِ محلَّةٍ، أو روّوا السيوفَ منَ الدِّماء تروَوا من الماء»(5).

ولكنّ هذا السجع الذي جاء في نهج البلاغة أتخذه بعض الباحثين الكبار ذريعةً للتشكيك في الكتاب. قال الدكتور شوقي ضيف «وكأنّ الشريف الرضي وجد مادةً صاغ منها كتابه، وهي مادة بُنيتَ على السجع، وفي ذلك نفسه ما يدُلُّ على كذب نسبتها إلى علي...»(6).

أمّا الأستاذ أحمد زكي فقد أدلى بدلوهِ وكأنّه يردّ على من شكّكَ في سجع الإمام علي علیه السلام، فقال: «أمّا ما ورد في كلامهِ من السجع فليس ببدعِ أن يسجعَ

ص: 70


1- كتاب العين 1 / 214
2- ينظر: مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة ع 27 / 114
3- البديع في ضوء أساليب القرآن 125
4- تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي القديم 207
5- نهج البلاغة 83
6- الفن ومذاهبه في النثر العربي 62

علي، وقد جاءَ فيه سجع مقبول مّتسق لا يُستَوحشُ منه. وأنت إذا تأمَّلتَ خُطَبَ الجاهلية ألفيتَ كثيراً منها مسجوعاً... والقرآن لا يخلو من هذهِ الحلية، وقد تُبْنى آياتٍ وفيرة العدد بل سورة طويلة كاملة على قافية واحدة - انظر سورة مريم والقمر والرحمن والدهر - وكذلك وردَ السجع في كلام الرسول - صلی الله علیه وآله -. علی أني أخالك تسلّم معي بأن الخُطب المسجوعة - سجعاً غير متنافر - لها رنين في النفس يهزُّ الأفئدة ويأخذ بمجامع الألباب. وعليُّ في خطبه يبغي أن يلين القناة الجامدة ويجمع الأهواء الشاردة، ويستهوي الأفئدة المستعصية..»(1).

وهذا ردٌ كافٍ ووافٍ على مَن لا يقرُّ بالسجع عند الإمام علي علیه السلام، لأنّ السجع موجودٌ في الجاهلية كخطبة قيس بن ساعده الأيادي التي ينقل الجاحظ أن الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله نقلها:

«أيُّها الناس اجتمعوا، فاسمعوا، وعوا. من عَاش مات، ومن مات فات...»(2).

وموجودٌ في القرآن مثلما استشهد الأستاذ بأربع سورٍ قرآنية، ثمّ دعمَّ الأستاذ رأيهُ بالأسجاع التي وردت في الكلام النبوي الشريف ومن ذلك قوله صلی الله علیه وآله:

«يا أيُّها النَّاسُ: أفشُوا السَّلامَ، وأطعِمُوا الطَّعَامَ، وصلّوا والناّسُ نيّامُ...»(3).

وميزة السجع عند الإمام علي علیه السلام وبحسب رأي الأستاذ أيضاً هو «مقبول متسق لا يستوحش منه «لأنّه كان» يبغي أن يلين القناة الجامدة... «. ومع هذا کلّهِ ختم

ص: 71


1- ترجمة الإمام علي بن أبي طالب 151
2- البيان والتبيين 1 / 186
3- سنن الترمذي 4 / 65

الأستاذ كلامه بعبارة فيها شيءٌ من الغرابة لما قال: «على إنّنا مع هذا كلّه لا نطمئنّ إلى جميع ما وردَ في النهج من كلام مسجّع، ولا نرتاح إلى الثقة بهِ ثقةً مطلقة»(1).

فلماذا هكذا يقول الأستاذ وهو الذي قدَّم ما قدّم عن انتشار السجع بعامة وعند أمير المؤمنين علیه السلام بخاصة؟ ثمَّ ما هي هذهِ الأسجاع التي لا يطمئِنُّ لها؟ حبذا لو ذكر عنها خطبة أو جملة، ليتبين سبب عدم قبوله لها.

ولم يقل أحدٌ بأنَ ما ورد من أسجاع في كلامه علیه السلام كان متكَّلفّاً مثلما عرف في العصر العباسي، بل كان عفوي الخاطر، مصوناً من التكَّلف، وكان زينةً تزدان بها خطبه ورسائله، والسجع إذا كان هكذا «لم يكن في جميع صنوف الكلام أحسن منه»(2). فمن أسجاعه العجيبة ما جاء في كتابهِ الذي بعثه إلى عبد الله بن عباس (ت 67 ه):

«أما بعدُ، فإنَّ مصر قد أفتتحت ومحمّد بن أبي بكرِ رحمه الله قد أستشهد؛ فعند اللهِ نحتَسِبُه وَلداً نَاصحاً، وعَامِلاً كَادِحاً، وسَيفاً قَاطِعاَ، وَرُكناً دافعاً...»(3).

فجاءت الفواصل بكلماتٍ كلها منصوبة (جهراً، بَدءاً، كارهاً، كاذباً...) وقد أحسن ابن أبي الحديد عليها تعليقاً، إذ قال: «أنظر إلى الفصاحة كيف تعطي هذا الرجل قيادها، وتملّكهُ زمامها؛ وأعجب لهذه الألفاظ المنصوبة، يتلو بعضها بعضاً كيف تواتيه وتطاوعه؛ سلسة سهلة، تتدفق من غير تعسُّفٍ ولا تكلُّف... وأنت وغيرك من الفصحاء إذا شرعوا في كتابٍ أو خطبة، جاءت القرائن والفواصل تارة مرفوعة، وتارةً مجرورة، وتارةً منصوبة،

ص: 72


1- ترجمة الإمام علي بن أبي طالب 152
2- الصناعتين 267
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16 / 300

فإن أرادوا قسرها بإعرابٍ واحد ظهر منها في التكلّف أثرٌ بيِّنٌ، وعلامةٌ واضحة، وهذا الصنف من البيان أحد أنواع الإعجاز في القرآن»(1).

وبسبب هكذا أسجاع عدّ الكاتب (نرسيسيان) رئيس الكتاب في القنصلية البريطانية عدَّ نهج البلاغة متفوَّقاً على كلَّ كلام عربي لكثرة ما فيه من السهل الممتنع وأنقياد الأسجاع الصعاب دونما تكلّف(2)مستشهداً بقولهِ علیه السلام:

«أم هذا الذي أنشأهُ في ظُلمات الأرحام، وشُغٌفِ الأستارِ، نطفةً دهاقاً، وعلقةً محاقاً، فجنيناً وراضعاً، ووليداً ويافعاً...»(3).

ثمَ قال هذا الكاتب متمنَّياً: «لو كان يرقى هذا الخطيب العظيم منبر الكوفة في عصرنا هذا لرأيتم مسجدها على سعته يتموَّج بقبَّعات إلافرنج للإستقاء من بحر علمهِ الزاخر»(4).

ص: 73


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16 / 301
2- ينظر: ما هو نهج البلاغة 7
3- نهج البلاغة 120
4- ما هو نهج البلاغة 7

ص: 74

المبحث الثاني: إضاءة تمهیدیة

اشارة

عبقریة الإمام علی علیه السلام الأدبیة ومرجعیتها لم يشتهر في التراث العربي كلام بعد القرآن الكريم، وكلام النبي محمد صلی الله علیه وآله كاشتهار كلام أمير المؤمنين علیه السلام، فقد أشرق في مملكة الأدب إشراق الشمس في رابعة النّهار، ولشّدة تأثيره وُصِفَ بأنّه «قريباً من حدِّ الإعجاز»(1)، وقيل هو «دونَ كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين»(2)، وما قرب من حدِّ الإعجاز فإنَّ الأنام حتماً عجزوا عن مضاهاتهِ، أو الإتيان بمثله، ولكن ما لا يُدرك جلّه لا يترك كلّه، فراح الأدباء صوب هذا الكلام للإستعانة بهِ؛ فهو خيرُ معين لمن أراد أن يجعل لنتاجهِ الأدبي سوقاً رائجة، وهذا ما شهد به الشريف الرضي، إذ قال وهو يقدّم لكلام جدّه: «کان أمیر المؤمنین علیه السلام مشرَعَ الفصاحةِ وموردَها،

ص: 75


1- في رحاب نهج البلاغة 18، وينظر: تأريخ الأدب العربي 187
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 / 28

ومنشأ البلاغة ومولدها؛ ومنه علیه السلام ظهر مكنونها، وعنه أُخِذت قوانينُها؛ وعلى أمثلته حذا كُلُّ قائلٍ خطيب، وبكلامه استعان كلُّ واعظ بليغ. ومع ذلك فقد سبق وقصروا، وقد تقدَّم وتأخّروا»(1).

ولكن ما الذي جعل من عليّ بن أبي طالب علیه السلام متربَّعاً على عرش البلاغة والفصاحة مالكاً بزمامهما تدوران معه حيثما دار؟.

أرجع أغلب الباحثين عبقرية أمير المؤمنين علیه السلام البلاغية هذه إلى سببين أو ثلاثة، فمثلاً الأستاذ أحمد حسن الزيّات أرجع سمو الإمام في هذا الجانب إلى أمرين: خلاطه بالرسول صلی الله علیه وآله، ومرانه على الخطابة منذ حداثة سنّه فقال: «وهو بالإجماع أخطب المسلمين، وإمام المنشئين... وما نظنُّ ذلك قد تهيّأ له إلاّ لشدّة خلاطِه للرسول، ومرانته منذ الحداثة على الخطابة له والخطابة في سبيله»(2).

في حين رأت الدكتورة إبتسام مرهون الصفّار إنّ من وراء تلك العبقرية العلوية الأدبية القرآن الكريم، فقالت إنّ الإمام يمتلك تراثاً جمّاً يمثَّلُ قدرةَ هذه الأمّة العظيمة على الخلق والإبداع متمثَّلة بقابليّة الإمام البلاغية وقدرتهِ في التعبير عن شتى المعاني بإسلوب رائع مؤثر. وقد استمدَّ معانيه وأفكاره من معين القرآن الذّي نهل أدبه، وارتوی من آياته(3).

وهذه الأسباب - على أهميتها القصوی - لم تكن هي وحدها التي أنتجت ذلك البليغ المؤثّر، زعيم دولة البلاغة، وقائد صولة الفصاحة(4)،لأنّ الذين

ص: 76


1- نهج البلاغة 8 - 9
2- تاريخ الأدب العربي 187، وينظر: تأريخ الأدب العربي (العصر الأموي) 233
3- ينظر: أثر القرآن في الأدب العربي 186
4- ينظر: شرح نهج البلاغة لمحمد عبده 5

حفظوا وكتبوا وتعلّموا القرآن والحديث النبّوي هم كثيرون، ولكنّهم لم يصلوا إلى ما وصل إليه علیه السلام ولم يبلغوا ما بلغ، بل المتأمل في شخصيته وتأريخه يجد أسباباً عدّة اجتمعت في شخصه علیه السلام دون أن تتوفّر لغيره، مكّنته من هذا الإبداع الأدبي، والتي أوجبت فيما بعد التأثير العميق على الأدباء. ومن هذه الأسباب:

أوّلاً:الجانب الوارثي

وُلِدَ عليُّ بن أبي طالب علیه السلام من أسّرة عربية خالصة، فأبوه أبو طالب (رضوان الله عليه) كان شريفاً عظيماً «يمتلك ناصية الخطابة وله شعر جيد»(1). وأمُّهُ فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، وهي أوّلُّ هاشمية ولدت هاشميّاً(2)، وقال المسعودي (ت 346 ه): «وكانَ أوّلُ من وَلدَهُ هاشميّان من الخلفاء»(3).

ولم يقتصر الأمرُ على والدي الإمام علیه السلام، بل أبعد من ذلك فعليُّ علیه السلام سلیل الدوحة الهاشمية التي امتازت بمزايا كريمة وخلال حميدة سواءً في الجاهلية، أو الإسلام، فقال هو في ذلك:

«فإسلامُنا قد سُمِعَ، وجاهلِيَّتُنَا لا تُدفعَ»(4).

وجاهليتنا لا تدفع أي «إنّ شرفنا في الجاهلية لا ينكره أحد»(5). وهذا ما

ص: 77


1- روائع البيان في خطب الإمام: 77
2- ينظر: الحياة الأدبية في عصر صدر الإسلام 135
3- مروج الذهب 2 / 350
4- نهج البلاغة 452
5- شرح نهج البلاغة لمحمد عبده: 376

أكدّه الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله في أكثر من تصريح فمن ذلك قال مفتخراً بنفسه: «إنّ الله اصطَفَى من ولد اّدم إبراهيمَ، واتّخذه خليلاً، واصطفى من ولدِ إبراهيم إسماعيلَ...، ثمَّ اصطفى من قريش بني هاشم، ثم اصطفى من بني هاشم بني عبد المطلب ثمَّ اصطفاني من بني عبد المطلب»(1).

أمّا الفصاحة والبلاغة فكانت إحدی ميِزاتهم التي لا تُنكر بشهادة كبار المسلمين. قال ابن عباس (ت 67 ه): «أعطى الله عزّ وجَلَّ بني عبد المطلب سبعاً الصباحة، والفصاحة، والسماحة، والشجاعة، والحلم، والعلم، وحب النساء»(2)ثم إنّنا بعد ذلك نجد الإمام السجاد علیه السلام (استُشهد 95 ه) قد أكّدَ مواهب السماء هذه وذلك في خطبتهِ التي خطبها في مجلس يزيد بن معاوية، والتي أفتتحها بقوله:

«أيها الناس أُعطينا ستّاً، وفُضَّلنا بسبع: أُعطينا العلمَ، والحلمَ، والسماحةَ، والفصاحةَ، والشجاعة، والمحبّة في قلوب المؤمنين...»(3).

وعلى أيّة حال فإنّ الجانب الوراثي من الجوانب الفاعلة التي تلعب دوراً بارزاً في رسم الشخصية بشتى توجِّهاتها. وهذا ما يراه علم الجينات الحديثَّ، فقد أكّدَ على أنّ وراثة الفرد تتكوّن أساساً من موروثات نوعية يتلقّاها من كلٍّ من والديه عند الحمل، إذ إنّ الخليتين عند الأبوين اللذين نشأ منهما الفرد تحتوي كّلُّ منهما على مئات الآلاف من جزئيّات دقيقة تسمى بالموروثات، وهذه الجزيئات الموروثة هي المسؤولة عن انتقال الصفات الوراثية من الأبويين والأجيال السابقة

ص: 78


1- ذخائر العقبى 10
2- م. ن 15
3- بحار الأنوار 45 / 138

إلى الفرد(1). وما يهمُّ الدراسة من هذا الأمر هو أن أحد الأسباب الكامنة وراء بلاغة الإمام علي علیه السلام ما ورثه عن آبائه من مقدرةٍ عالية في هذا الجانب، ثمَّ تعزيزهِ إياها بروافد أُخر، فكان مثالاً لقول معروف الرصافي:

وخيرُ النّاس ذو حسبٍ قديم أقامَ لنفسهِ حسباً جديدا(2)(الوافر)

ثانیاً: الأثر النبوي

في کلام الإمام علیه السلام للحديث عن العلاقة بين الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله، وبين أمير المؤمنين علیه السلام، وإفرازات هذهِ العلاقة على مسيرة الإمام علیه السلام الإبداعية وبخاصة الأدبية منها ينبغي تكرار أمرين هامين:

الأول:

إنّ النبي محمد صلی الله علیه وآله وفي جانب من جوانب شخصيته العظيمة هو ذلك الأديب العربيّ الأسمى الذي بزّ أهل الفصاحة في وقت وصلوا فيه إلى الذروة في هذا الميدان، فقال:

«أنا أفصحُ العربِ بَيدَ أنّي من قريش»(3).

وقال:

«أنا أفصحُ مَنْ نطقَ بالضّاد»(4).

ص: 79


1- ينظر: سيكولوجيّة الفروق الفردية في الذكَّاء 35
2- ديوان معروف الرّصافي 1 / 98
3- التلخيص الحبير 4 / 14
4- السيرة الحلبية 1 / 30

ولا جَرَمَ أنّ هذه القدرة العالية التي كان يمتاز بها مكَّنته مثلما قال الرافعي من: إنتزاع المذاهب البيانية، واقتضاب ألفاظٍ كثيرةٍ لم تُسمَعْ من العرب قبله، ولم توجد في متقدِّم كلامها، وهي تُعَدُّ من حسنات البيان، لم يتفق لأحدٍ مثلها في حُسن بلاغتها(1).

الثاني:

إنّ القرابة أو العلاقة بينهما علیه السلام وعلى الرغم من معرفتهما لدی العامة والخاصة، إلاّ أنّها أصعب بكثير من أن يُحاط بتفاصيلها ودقائقها، فإن شئت قلت أنها علاقة «من نوع علاقة موسى بهارون»(2)علاقة قائمة على الاصطفاء من جانب المصطفى صلی الله علیه وآله «إكراماً لعلي، وفي روح عليِّ كانت الاستجابة حاضرة، مسرعة، متشوِّقة»(3). أو هي مثلما وصفها الحبيب المصطفى بقوله: «عليٌّ منّي بمنزلة رأسي من جسدي»(4). » علماً أنّ هذه القرابة القريبة بين هذين العظيمين لم يخلُ منها الذكر الحكيم، والذي يُعدُّ بدورهِ أدقّ من وصفها، وأبلغ من عبَّر عنها وذلك في قولهِ تعالى:

«فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ»(5).

فالمراد ب «أنفسنا» بحسب ما أورد السيوطي (ت 911 ه) في الدر المنثور:

ص: 80


1- ينظر: تأريخ آداب العرب 2 / 262
2- عليُّ سلطة الحق 75
3- م. ن 75
4- ميزان الحكمة 1 / 144
5- آل عمران 61

«رسول الله صَلی اللهِ عَلیه وآله وسَلَم وعلي علیه السلام»(1).

أمّا أميرُ المؤمنين علیه السلام فكثيراً ما كان يتغنّى بهذه العلاقة وقد وصفها ب :

«القَرابَةِ القَریبَةِ، والمَنْزِلةِ الخَصِیصَةِ، وضَعَني في حجرهِ وأنا ولَدٌ (ولید) یَضُمُّني إلی صَدْرهِ، ویَکْنُفني في فراشِه وَیُمِسُّني جَسَدَه... ولقد کنت أتَّبعه اتِّباع الفصیلِ أثَرَ أُمّه»(2).

في كُلِّ الظروف والأوقات ففي السلم «كان عليُّ بن أبي طالب أوّل من صلّى مع النبي، فكانت البدايةُ مُمتَلئة بالقوّة، لأنها دمجت ذات عليٍّ بذات النبي القائد دمجاً لا فجوةَ فيه»(3).

وفي الحرب «كان عليُّ مِنجلَ الموت الذي يلاحق رؤوس قريش من أعداءِ دين الله فيقطفها قطفاً و... كان المؤيّد دائمٍا برسول الله المقرّب إليه المرموق منه بعين الحب والرعاية. لم تفت بهِ فرصةٌ واحدة مذ دخوله المدينة إلا إجتباه الرسول دون سواه»(4).

وعلى أية حال فإنّ القيمة الأدبية العظمى التي كان يمتاز بها «أفصح من نطق بالضاد صلی الله علیه وآله» وبفعل تلك القرابة القريبة - بينه وبين أمير المؤمنين علیه السلام - التي تجسَّدت في «السيرة، والسلوك، وفي الأفكار والحياة اليوميّة»(5)ألقت بظلالها على مسيرة أمير المؤمنين علیه السلام، لاسيّما الأدبية منها حتى أصبح من الصعب التمييز بين بعض كلامهما لأنّهما بحسب وصف الشريف الرضي (ت 406 ه):

ص: 81


1- الدر المنثور 2 / 39. وينظر: تفسير القرآن العظيم: 2 / 55 وينظر: تفسير الميزان 3 / 265
2- نهج البلاغة 348
3- عليُّ سلطة الحق 64
4- المجموعة الكاملة للإمام علي بن أبي طالب 1 / 63
5- علي سلطة الحق 64

«مُستقاهُما من قَلِيِبٍ(1)، ومفرُوغهما من ذَنوب(2)»(3).

أمّا مواطن كلام الإمام التي برز فيها الأثر النبوي فكثيرة، ومنها خطبته التي قال فيها:

«المغبُونُ من غَبَنَ نفسَهَ... والسعیدُ مَنْ وُعِظ بِغَیْرِه»(4).

فآخر الخطبة تضمين حرفي لقول سيد المرسلين صلی الله علیه وآله:

«السعيد من وُعِظ بغيرهِ»(5).

ومن تضمينه لكلام الرسول صلی الله علیه وآله أیضاً قوله علیه السلام:

«لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»(6).

فهذا أيضاً تضمين حرفي لقول المصطفى صلی الله علیه وآله:

«لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»(7).

ثالثًا: الأثر القرآني

في کلام الإمام علي علیه السلام لا يخفى الأثر الواسع الذي أحدثه كتاب الله العزيز حال نزوله على اللغة

ص: 82


1- القليب: البئر وجمعها قُلُب ينظر: لسان العرب مادة (قلب) 1 / 689
2- الذَّنوب: الدَّلو فيها ملؤها أو قريبٌ منه، وقيل هي الملأی ولا يقال لها وهي فارغة ينظر: م.ن مادة (ذنب) 1 / 392
3- نهج البلاغة 593
4- م. ن 127
5- الشّفا بتعريف حقوق المصطفى 1 / 80
6- نهج البلاغة 583
7- نور اليقين في سيرة سيد المرسلين 1 / 27

العربية والناطقين بها عموماً، فقد كان هذا الأثر واضحاً في الإسلوب، والمعاني والألفاظ، حتى أصبحت اللغة العربية بفعله لا تزداد في «كرِّ الغداة ومرِّ العشيِّ إلّا قداسةً وجلالاً، جعلها تتشبث بالبقاء وتمشي إلى الخلود»(1).

لقد أدرك الأُدباء في وقت مبكر هذهِ النقلة الجديدة وهذا التطور الذي أحدثه القرآن الكريم، والذي لم يكن بحسبان أحدٍ منهم، فحاولوا أن يصوغوا آثارهم الأدبية من شعرٍ ونثرٍ مهتدين بهدي ديباجته الكريمة وحاشيته الدَّقيقة وعباراته السلسة، وعكف عليه علماء اللغة وفنونها فهيمن على عقولهم وامتلك مقادُهُ أذواقَهم حتى أينعت ثمارُه في جميع فنونهم فظهرت للقرآن نتائجُ فريدةُ في اللغة والأدب والبلاغة والنقد»(2). غير أنّ هذا التأثير القرآني ظلَّ متفاوتاً على الشخصيات الإسلامية وغيرها من شخص لآخر، ولكنّه بلغ الذروة على أمير المؤمنين علیه السلام حتى عُدَّ كلامه المثال الحي، وفعله التطبيق الواعي لكلام الله تعالى وغدت تربطهما علاقة حميمة وصداقة صدوقة خالدة بخلود الحديث الشريف:

«لَنْ یفتَرقا حتّی یَرِدا عليَّ الحوضَ»(3).

وهذا مرّده إلى إيمانه علیه السلام المطلق بمباديء القرآن الكريم: أوامره ونواهيه جميعاً، ومرّدهُ أيضاً إلى الجهد الجهيد الذي بذله مع القرآن الكريم على صعيد الحفظ، والجمع، والتفسير أمّا الحفظ فقال ابن أبي الحديد (ت 656 ه): «اتّفق

ص: 83


1- أثر القرآن الكريم في اللغة العربية: 31
2- نظرية الإعجاز القرآني وأثرها في النقد العربي القديم 184
3- الحديث: «إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله... وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوضَ» مسند أحمد بن حنبل 17 / 170. وينظر: المعجم الكبير 3 / 65. وينظر: المعجم الأوسط 3 / 374. وينظر: السنن الكبری للنسائي 5 / 45

الكلُّ على أنّه كانّ يحفظ القرآن على عهد الرسول صلی الله علیه وآله ولم يكن غيره يحفظه، ثمّ هو أولُّ من جمعه»(1). وبهذا - أي الجمع - صّرح ابن النديم قائلاً: «فأقسم أنّهُ لا يضع عن ظهرهِ رداءَه حتى يجمع القرآن فجلس في بيته ثلاثة أيّام حتى جَمع القرآن؛ فهو أوّل مصحف جمع فيه القرآن من قلبه... ورأيتُ أنا في زماننا عند أبي يعلى حمزة الحسني رحمه الله مصحفاً قد سقط منه أوراق بخطِّ علي بن أبي طالب يتوارثه بنو حسن على مرِّ الزَّمان، وهذا ترتيب السور من ذلك المصحف»(2).

وهذه العملية - أي عملية جمع القرآن - أصبح من المتاح والميسور الكشف عن تجِّلياتها في نتاجه، وبأنواعه وأغراضه المتعّددة؛ كونها أثمرت وأصبحت سبباً رئيساً في جعل علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه) خطيباً مفوَّهاً.

ثمَّ بعَد الحفظ والجمع للقرآن الكريم برع علیه السلام في علمه وتفسيره لكلام الله تعالى، قال القرطبي (ت 671): «فأمّا صدر المفسِّرين والمؤيد فيهم فعليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ويتلوه عبد الله بن عباس»(3)الذي قال: «ما أخذتُ من تفسير القرآن فعن عليِّ بن أبي طالب»(4).

ولكن كُلَّ من وصفَ أمير المؤمنين علیه السلام في هذا المضمار لا يرقى إلى حقيقتهِ، ولا إلى ما وصف بهِ نفسه، لأنه أعلم بنفسه من غيره، ولهذا جاء تصويره لمنزلته العلمية أدق بكثير مما قيل فيه على الأقل في هذا الجانب، فقال علیه السلام واصفاً علمه بالكتاب العزيز:

ص: 84


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 / 30
2- الفهرست لابن النديم 41
3- الجامع لأحكام القرآن 1 / 37
4- م 0 ن 1 / 37

«.. ما بَیَنَ لوْحَي المصحفِ من آیة الّا وقد علمتُ فیمَنْ نزلت، وأینَ نَزَلت، في سهلٍ أو في جبل، وإنَّ بینَ جوتنحي لعلماً جمّاً، فسلوني قبل أن تفقدوني فإنّکم إن فقدتموني لم تجدوا من يحدِّثكُم مثلَ حديثي»(1).

وهذا الأثر العظيم الذي تركه القرآن الكريم على كلام الإمام القويم هو الذي دفع كرينكو - أستاذ الآداب العربية في كليّة عليكرة الهندية - عندما سُئِل عن الإعجاز القرآني إلى القول: « إنّ للقرآن أخاً صغيراً يسمى نهج البلاغة فهل في إمكان أحدِ منَّا أن يأتيَ بمثل هذا الأخ الصغير حتّى يسوِّغ لنا الدراسة عن الأخ الكبير»(2). فالمستشرق بكلامه هذا قد عدَّ نهجَ البلاغة طريقاً مهَيعاً وعلماً دالّاً على فهم النِّص القرآني، وهذا الأمر لربّما يُعدُّ من المسلَّمات عند المسلمين لأنّ كلامه علیه السلام من القرآن منطلقٌ وعليهِ دالٌّ، وهو أيضاً صوتٌ صادح بآيات الكتاب والفاظهِ ومعانيه. وهذا ما سلّط عليه الباحثون جهدَهم وأستخرجوا كثيراً من الدُّرر القرآنية الكامنة في النص النهجي(3).

ومن الشّواهد القرآنية التي أثَّرت في كلامهِ علیه السلام قوله تعالى:

«وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا»(4).

فالباحث يری أنّ الآیة لكريمة هي التي دعت أمير المؤمنين علیه السلام یقول:

ص: 85


1- أمالي المفيد 152
2- المستويات الجمالية في نهج البلاغة 34
3- درس الباحثون هذا الموضوع في أكثر من دراسة منها: الأثر القرآني في نهج البلاغة دراسة في الشكل والمضمون، ومنها: الأثر الدلالي للقرآن الكريم في نهج البلاغة
4- البقرة 143

«نحن النُمْرُقةُ الوُسطی بها یلحقُ التّالي، وإلیها یرجعُ الغالي»(1).

والنّمرُق والنُمرُقَةٌ مثلَّثةٌ هي الوسادة الصغيرة(2)، وهذا تشبيه جميل ذُكِرَ فيه المشبّه «نحنُ» أي أهل البيت علیه السلام، والمشبه بهِ الوسادة أو «النمرقة الوسطى» أمّا وجه الشبه، أو الغاية التي جاء من أجلها التشبيه فهي مثلما قال محمد عبده: «الإستناد اليهم في أمور الدين كما يُستند إلى الوسادة لراحة الظهر واطمئنان الأعضاء ووصفها بالوسطى لإتصال سائر النّمارق بها، فكأنَّ الكل يعتمد عليها إمّا مباشرةً أو بواسطة ما بجانبه، وآل البيت على الصراط الوسط العدل، يلحق بهم من قصَّر ويرجع إليهم من غلا وتجاوز»(3).

ولو قال المرحوم:

الإستناد إليهم في أمور الدين والدنيا لكان أدق.

والذي يعضّد الترابط بين الآية الكريمة وبين قول أمير المؤمنين علیه السلام ما صّرح بهِ المفسرون من جمهور المسلمين، فقد قال الآلوسي: «عن عليٍّ كرَّم الله وجهه:

نحن الذين قال الله تعالى فيهم:

«وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا»»(4).

وعن الإمام لباقر علیه السلام (إسُتشهد 114 ه) إنّهُ قال:

«نحنُ الأمةُ الوسطُ، ونحنُ شهداءُ اللهِ علی خلقهِ»(5).

أمّا الأمر الذي تعنيه الدراسة هنا ويهمُّها أكثر من غيره هو أنّ هذا الأثر

ص: 86


1- نهج البلاغة 570 - 571
2- ينظر: القاموس المحيط 3 / 287
3- شرح نهج البلاغة للشيخ محمد عبده 472
4- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم 2 / 39. أو 2 / 4
5- مجمع البيان 1 / 417

القرآني العظيم على كلام أمير المؤمنين علیه السلام كان أحد الإشعاعات المهمة التي من خلالها نَفَذَ كلامه علیه السلام إلى قلوب المتلقين حاملاً معه أبلغ التأثير وأعذبه.

رابعًا: الشمولیة في کلامه

علیه السلام من اللافت للنظر في النص العلوي أنّه يمتاز بشمولية واسعة جدّاً قلَّ نظيرها، وما هذا إلاَّ إنعكاس واضح لثقافته غير المحدودة، والتي ظهرت تجلياتها على التنوع المهيب في كلامه الذي تضمّنَ «مُختَلَف مستويات المعرفة، كالحديث عن الكون وظواهره المختلفة، من سماءٍ وأرضٍ وكواكب وبشر وحيوان وعناصر أخری وكذلك يتضمن الحديث عن الظواهر النفسيّة والتربوية والإجتماعية والسياسية والإقتصادية والتأريخية»(1)، ومن هنا كان كلامه علیه السلام مفتاحاً لكلِّ العلوم، بيدهِ أبجديات المعارف التي تحتاجها البشرية. وقد أوصل بعضهم هذهِ العلوم إلى مائتي علمٍ مُستخرج من نهج البلاغة(2). وهذهِ الظاهرة في كلامه علیه السلام ممّا عُرِفت عنه سابقاً، وكان متفرِّداً بها، قال الرضي: «ومن عجائبه علیه السلام التي انفَردَ بها وأَمِن المشاركةَ فيها، أنّ كلامه الوارد في الزهد والمواعظ، والتذكير والزواجر، إذا تأمَّلهُ المتأمَّل، وفكّرَ فيه المتفكِّر، وخلع من قلبه أنّه كلام... من لاحظَّ له في غير الزهادة، ولا شغلُ له بغير العبادة، قد قبعَ في كسر بيت، أو انقطعَ إلى سفحِ جبل، لا يسمع إلاّ حسَّه ولا يری إلاّ نفسه، ولا يكاد يوقنُ بأنه كلامُ من ينغمس

ص: 87


1- مختصر تأريخ الأدب العربي في ضوء المنهج الإسلامي 93
2- ينظر: علوم نهج البلاغة 10. وللمزيد عن هذهِ العلوم وأمثلتها في كلام أمير المؤمنين ينظر: م. ن11 - 162. وينظر: الاتجاهات الفكرية عند الإمام علي: 277 - 300. وينظر: الإعجاز العلمي عند الإمام علي علیه السلام 15 - 71

في الحرب مُصلتاً سيفه فيقطُّ(1)الرِّقاب، ويجدِّلُ الأبطال، ويعود به ينطف دماً، ويقطرُ مهجاً، وهو مع تلك الحال زاهد الزُّهّاد وبدل الأبدال. وهذه من فضائلهِ العجيبة وخصائصهِ اللطيفة، التي جمع بها بين الأضداد»(2).

ويبدو أنّ الشاعر صفي الدين الحلّي (ت 750 ه) تأثَّر بوصف الشَّريف الرضي (ت 406 ه) هذا، كما تأثر بتلك الأضداد التي وُجدت سويّةً في كلام الإمام عليّ علیه السلام فقال:

جُمِعت في صفاتك الأضدادُ فلهذا عزّت لك الأنداد (الخفيف) زاهدٌ حاكمٌ حليمٌ شجاعٌ فاتكٌ ناسكٌ فقيرٌ جواد شيمٌ ما جُمعنَ في بشرٍ قط ولا حاز مثلَهُنَّ العبادُ(3) وكان من مظاهر هذا الجمع انّه علیه السلام مثلما قال الفاخوري: «من أوّلِ من جمع في الخطبة الواحدة بين الدين والسياسة، وكان هدفه إقناع جنوده بصحّة عقائده، وهكذا كانت خطبه ترتكز على العقيدة الإسلامية»(4).

وتجدر الإشارة إلى أنّ كلامه في الأمور والمسائل العلمية البحتة وعلى الرغم مما تتطلبه الكتابة فيها من جمود وبعد عن المتعة الأدبية، إلاّ أنّه علیه السلام وبعد أن يسكب عليها من مواهبه الكبری وروحه الشّفَّافة يخرجها ممتازةً «بلغة فنية تتوكّأ على

ص: 88


1- قطَّ يقطُّ قطاَّ بالقط هو قطع الشيء الصلب، وقيل هو القطع عَرْضاً. ينظر: لسان العرب 7 / 380 مادة (قطط)
2- نهج البلاغة: 10 - 11
3- ديوان صفي الدين الحلي 89
4- الجامع في تاريخ الأدب العربي 1 / 351

الإيقاع والصُّورةِ وسائر عناصر الفن»(1). أي أنّ استراتيجيته التي كان يتوخاها في الخطاب - على الرغم من تعدده -(2)واحدة من الناحية الفنية. ولعلّه من وراء ذلك أراد لأفكاره ومن خلال كلامه أن تشقَّ طريقها إلى النفوس مصحوبةً بقوة التأثير، والحجّة البالغة في الإقناع، فضلاً عن دفع الملالة والسأم عن المتلقي. وبما إنّ «عليّ بن أبي طالب علیه السلام، وهو الحاوي على جميع سمات العبقريّات المتعدّدة، فهو الخليفة القائد، وهو المحارب العظيم، وهو الفيلسوف، وهو الأستاذ في العدل والمؤسس لعلم النحو، وهو الفقيه، القاضي، العالم بالحساب والفلك، وهو أمير البلاغة والشاعر، والحكيم، والحافظ لتراث محمّد رسول الله صلی الله علیه وآله وهو الأخلاقي الرفيع، والأنموذج في كل شيء. يستطيع المرء أن يتعلم عنه أشياء كثيرة، ولكن لا يستطيع أن يكون مثله»(3). فإنّ هذه الموسوعية التي انطوت عليها شخصيتهِ ولّدت أثراً على كلِّ هذه الأصناف التي ذُكِرت، وهذا ما تنشده الدراسة فمثلاً وجدت الدراسة أنّ أشهر الواعظين كانوا يتنفسون كلامه علیه السلام ثم يعظون الناس، به بالنص أو المعنى وعلى رأس هؤلاء الحسن البصري (ت 110 ه)، وعمر بن عبد العزيز (ت 101 ه)، وهكذا كان الفلاسفة والمتكلمين مثل واصل بن عطاء (ت 127 ه) الذي نهل علم التوحيد عن أمير المؤمنين علیه السلام، ثمَّ بصمته الواضحة جدّاً لدی الباحث على كُتاب الدولة ومدبري سياستها الداخلية والخارجية، ومنظمي الجند، وواضعي خطط الحرب وليس

ص: 89


1- مختصر تأريخ الأدب العربي في ضوء المنهج الإسلامي 94
2- للتوسع حول شمولية وتعدد الخطاب عند أمير المؤمنين ينظر: الخطاب في نهج البلاغة بنيته وأنماطه ومستوياته دراسة تحليلية 121 - 122. وينظر: الخطاب في نهج البلاغة دراسة موضوعية فنية 66 - 75
3- عليًّ سلطة الحق: 43

أدلُّ على ذلك من التأثيرات الكبيرة التي أوجدتها الدراسة في رسالة الصحابة لابن المقفع (ت 142) والعهد الذي كتبه عبد الحميد الكاتب (ت 132 ه) على لسان مروان بن محمد (ت 132) إلى ولده(1).

ولكن مع هذا وعلى الرغم من إنّ هؤلاء الكتاب قد تخصّص كُلٌّ منهم بعلم أو فنٍ من فنون القول، إلاّ أنّ مرجعيته وإمامه الذي لا يضل هو علي بنُ أبي طالب علیه السلام فهم بذلك استطاعوا التعلُّمَ منه دون أن يصلوا إليه، لأنّ الذي يقرأ كلامه يجده مثلما قال السيد الخوئي: «وهذه خطبه في نهج البلاغة، فإنّه حينما يوجه كلامه فيها إلى موضوع لا يدع فيه مقالاً لقائل، حتى ليُخال من لا معرفة له بسيرته أنّه قد قضّى عمره في تحقيق ذلك والبحث عنه»(2)لذلك غدا: «تعزی إليه كُلُّ فضيلة، وتنتهي إليه كل فِرقة، وتتجاذبه كُلُّ طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها، وأبو عُذرها؛...

كُلُّ من بزغ فيها بعده فمنه أخذ، وله اقتضى، وعلى مثالهِ احتدی»(3).

خامسًا: الإلهام الغیبي و

المدد الإلهي يعرّف الإلهام: «بأنّه قوة تلقائیة لا شعوریة یتمیّز بها بعض الأشخاص فتمنحهم، من حيث لا يدري أحد من أين القدرة على الإبداع والخلق في ومضة خاطفة»(4).

ص: 90


1- لكن بعد أن نهضت الرسالة بابن المقفع والبصري أكتفينا بهما وادخرنا النصوص المتأثرة لدی عبد الحميد وأمثاله إلى دراسة قابلة إن شاء الله
2- البيان في تفسير القرآن 77
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 / 22
4- الإبداع في الفن 81

أمّا إلهام الإمام عليّ بن أبي طالب علیه السلام الذي كان مُعزَّزاً ومحفوفاً بهِ فقد كان معروف المصدر، إذ تشيرُ مُعظمُ الرّوايات والأحداث الإسلامية إلى رعاية السماء له في كثير من جوانب العظمة والإرتقاء(1)، وهذا الأمر جاءَ واضحاً إمّا بأمرٍ من الله تعالى، فعن النبي صلی الله علیه وآله أنهُ قال لأمير المؤمنين علیه السلام:

«إنّ الله أمرني أن أُدنَيك ولا أُقصيَك، وأنْ أُعلِّمك أن تعيَ وحقُّ على الله أن تعيَ، قال فنزل قوله تعالى:«وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ»(2)»(3).

أو بدعوات الرسول صلی الله علیه وآله فكثيرًا ما كان يدعو لتسديد خطى أمير المؤمنين علیه السلام حتى أن هذه الدعوات دخلت هذا الحيّز من بابه الواسع، فقد ورد عن الإمام علي علیه السلام أنه قال للنبي صلی الله علیه وآله حين بعثه في إحدی المهمات:

«إنّكَ تبعثني إلى قومِ أسنُّ منّي فكيف القضاء فيهم؟ فقال: إنّ الله سيهدي قلبك، ويثبِّتُ لسانَك. قال فما تعاَييتُ في حكومةٍ بعد»(4).

وهذهِ وثقية ثمينة، وشهادة رصينة من الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله بحق عليِّ علیه السلام أكدّ من خلالها على هداية قلبهِ وتثبيت لسانه. وأيَّ شيءٍ تبتغيه البلاغة أكثر من هذا فالكلام ينبع من القلب ثمّ يترجمه اللسان، ومثلما قال عليٌّ علیه السلام:

«اللِّسانُ تُرجمانُ الجَنَانِ»(5).

أو إنّ الإلهام إفاضة على أمير المؤمنين علیه السلام من الإلهام النبوي، على اعتبار إنّ

ص: 91


1- ينظر: علي كما وصف نفسه 49
2- الحاقة 12
3- مجمع البيان 10 / 107. وينظر: لباب النقول 201
4- خصائص أمير المؤمنين 37
5- غرر الحكم ودرر الكلم 205

الإلهام النبوي انتقل كلّهُ أو بعضه إلى الوصي الذي أُدمجت ذاته «بذات النبي القائد دمجاً لا فجوة فيه فكانت صورة الربيب متجسدّة في السيرة والسلوك، وفي الأفكار والحياة اليومية»(1). ولربّما هذه العلاقة المعقدة المعرفة هي التي حدت بالدكتور محمود البستاني إلى أن يؤكد إنتقال الإلهام النبوي إلى العطاء العلوي، فقال: «يمكن القول إنّ أجود ما عرفه تأريخ البشرية هو ما أنتجه الإمام عليُّ علیه السلام فكراً، وعُمقاً، وفنّاً. نسوق هذه الحقيقة وأمامنا وثيقتان: إحداهما نتاج الإمام نفسه حيث عكس تأثيراً على الكُتَّاب... وأمّا الوثيقة الأخری، فهي الحديث المعروف عن النبي صلی الله علیه وآله القائل:

«أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها»(2).

إنّ هذا الحديث ليس مجرّد إستعارة فنية تتوكَّأ على المدينة وبابها، بل هي حقيقة لها واقعها الحيّ، حيث نعرفُ أنّ المعصوم علیه السلام لا يتوكّأ على مُبالغة أو وهم؛ أو خيال، لذلك فإنّ الحديث المذكور يعني أنّ الله تعالى ألهم النبي صلی الله علیه وآله المعرفة التي لم يُلهمها للآخرين... وأنّ عليّاً هو الشخصيَّة الوحيدة التي يمكنها أن تكون بمثابة باب إلى دخول المدينة، وهذا يعني أيضاً أنّ النبي صلی الله علیه وآله قد أوصل المعرفة التي منحها اللهُ إيَّاه إلى عليّ علیه السلام وجعله لساناً رسميّاً يتكلَّم بالمعرفة نيابة عن النبي صلی الله علیه وآله»(3).

وهكذا كان قسمٌ كبير من عطائه مصدره الجانب الغيبي، أو عن طريق الوحي الذي عبّر عنه الفاخوري بقوله: «أوَّلُ ما يتبادر إلينا من فلسفة الإمام

ص: 92


1- عليُّ سلطة الحق 64
2- عليُّ إمام البررة 2 / 96. وينظر: المستدرك 3 / 137
3- مختصر تأريخ الأدب الإسلامي في ضوء المنهج الإسلامي 93

إنّ للمعرفة طريقين: طريقُ الوحي، وطريق العقل. أمّا الوحيُ فواسعُ النَّطاقِ، وخبرهُ حقُّ اليقين»(1).

أمّا العقاد فقد عدَّ كلام أمير المؤمنين علیه السلام يَنمُّ عن قدرة إلهّية من خلال ما أوتي من حكمة، فقال: «فكل نمط من أنماط كلامه، شاهد له بالملكة الموهوبة في قدرة الوعي وقدرة التعبير، فهو ولا شك من أبناء آدم الذين علموا الأسماء وأوتوا الحكمة، وفصل الخطاب»(2).

ولو عدنا إلى أمير المؤمنين علیه السلام نفسه ودعوناه لبيان هذا الجانب لقال: بلغة الواثق، مفتتحاً قولَه بالقسم:

«تَاللهِ لقد عُلِّمتُ تَبلِیغَ الرِّسَالَاتِ، وإتْمَامَ العِدَاتِ، وَتَمَامَ الکَلمِاتِ، وعِنْدَنا - أهلُ البیتِ - أبَوابُ الحُکمِ، وِضِیاءُ الأَمرِ»(3).

وقال:

«فَاسِتَمِعُوا مِن رَبّانیِّکُم، وأَحضِروهُ قُلُوبَکُم، واستیقُظُوا إنْ هَتَفَ بکُم»(4).

فأمير المؤمنين علیه السلام هو صاحب الأذن الواعية بحسب الذكر الحكيم، وهو ثابت القلب واللسان، وهو باب مدينة العلم بحسب الوثيقة النبوية، وهو ربّانيُّ هذه الأمة ومن عُلِّمَ تمام الكلمات بحسب ما وصف به نفسه، وهو صاحبُ القدرة الإلهية في كُلِّ نموذجٍ من كلامهِ بحسب وصف العقاد، وهو صاحبُ

ص: 93


1- الجامع في تأريخ الأدب العربي: 1 / 345
2- العبقريات الإسلامية 2 / 145
3- نهج البلاغة 202 - 203
4- م.ن 180

فلسفةٍ يشكل الوحي جزءاً لا يتجزّأ منها بحسب كلام حنّا الفاخوري، وهو من عُزِّز بنفحٍ إلهيِّ وإلهام قدسي مكّناه مع غيرهما من وجوه البيان، وملّكاه أعنّة الكلام، بحسب وصف محمد أبي الفضل إبراهيم(1).

أما سبط ابن الجوزي (ت 654 ه) فقد سبق هؤلاء إلى بيان هذه الحقيقة في كلام الإمام علیه السلام ووصفه بوصفٍ دالٍ على تأثُّرٍ عميق، فقال: «كانَ علي ينطق بكلام قد حُفَّ بالعصمة، ويتكلَّم بميزان الحكمة، كلامٌ ألقى اللهُ عليه المهابة؛ فكُلُّ من طرق سمعَه وراقه فهابه، وقد جمع الله له بين الحلاوة والملاحة، والطّلاوة والفصاحة، ولم يسقط منه كلمة، ولا بارت له حجّة، أعجز الناطقين، وحاز قصبَ السَّبق في السابقين»(2). فابن الجوزي إذاً أرجع غالبية بلاغة الإمام ومهابة كلامه للتّصرّف الإلهي «قد حُفّ بالعصمة» «كلامٌ ألقى الله عليه المهابة» «قد جمع الله له...».

وهذا الدعم الإلهي لم يأت من فراغ، بل هو إستحقاق لهُ علیه السلام؛ لأنّهُ ذاب تماماً في الله سبحانه وتعالى، وطبيعي مَنْ يتميز بهذا يكون مصداقاً فعليّاً لقولهِ تعالى:

«وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا»(3).

ونری أيضاً أنّ الله - سبحانه وتعالى - حباه بهذه الخصّيصة؛ لأنه مجتبى ومعد لمواصلة المسيرة النبوية بشهادة قول المصطفى صلی الله علیه وآله:

«أنتَ مِنِّي بَمنزِلَةِ هَارونَ من موسی إلا أنّهُ لا نبيَّ بَعْدِي»(4).

ص: 94


1- ينظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي حديد 1 / 5 حقيق محمد أبو الفضل إبراهيم
2- تذكرة الخواص 114
3- العنكبوت 69
4- صحيح مسلم 7 / 120، وينظر: مناقب الإمام أمير المؤمنين علیه السلام 317

والعجيب إنّ هارون لم يكن وصيّاً لموسى علیه السلام فحسب، بل كانَ فصيحاً أيضاً، قال تعالى حكاية على لسان نبيّهِ موسى:

«وأخي هارُونَ هُوَ أفَصَحُ منِّي لِسَاناً فأرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً یُصدقُني إنّي أخافُ أنْ یُکذِّبونِ»(1).

وهكذا كان أمير المؤمنين علیه السلام أيضاً مدعوماً بهذه الصفة، لأنّها ضرورة من الضرورات التي ينبغي توافرها في المبلّغ الرّسالي الهادف.

وتجدر الإشارة إلى أنَّ الباحث - وبهذا التوجيه الذي يجيء الإلهام من خلاله - لا يتّفق مع تعريف عز الدين إسماعيل للعبقرية والإلهام، فهو يراهما «قوّة خفيّة تدبُّ في الإنسان مستقلّة عن مجهوداته الخاصة»(2).

ومهما يكن من أمرٍ بعد هذا، فلا شكَ ولا ريب من إنّ هذا الإلهام الإلهي، والنفح القدسي الذي تجلّى في كلام أمير المؤمنين علیه السلام كان من افرازاتهِ ذلك النصيب الكبير من التأثير على القارئ.

سادساً: هضمه لتراث العرب

الأدبي ولد عليُّ علیه السلام في بيئةٍ كان الأدب أرقى وأثمن ما يُمتَلك، فكان عند قومهِ، وفي بيئتّه تلك البضاعة المزجاة التي يحلو التفاخر بها، وتمجيد أصحابها؛ فالأديب يمثل لديهم لسان القبيلة المدافع والذائد عنها، والمحامي عن حقوقها، وهذا يعني إنّ من لا يمتلك هذا الصنف أو تلك الشَّخصيّة فإنّه خسر محارباً فاق في

ص: 95


1- القصص 34
2- الأدب وفنونه دراسة ونقد 35

لسانه وقع السيف. وبسبب أهميّه العرب هذه أصبحت لهم ثروة أدبية هائلة ومتميزة على الصعيدين الكمّي والفنّي.

في هذه الأثناء، وفي تلك البيئة والعمل الأدبي مُفعَمٌ بالعَطاء وُلِدَ الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام، فمن غير المعقول أن لا يتأثّر ببضاعة قومه، بل المتتبع لنتاجه يجده قد «ضَمَّ روائع البيان الجاهلي الصافي المتَّحد بالفطرة السليمة إتحاداً مباشراً إلى البيان الإسلامي الصافي المهذّب المتَّحِدُ بالفطرة السليمة والمنطق القوي اتحادًا لا يجوز فيه فصل العناصر بعضها عن البعض»(1)فقد ورد عنده الإستشهاد بالموروث الجاهلي من شعرٍ ومثل وحكمة في مواطن عدة، فمن التضمين الشعري المباشر أو النصي تمثله في خطبته الشقشقية بقول الأعشى إلى ابن الحطاب:

شتَّان ما يومي على كورها ويومُ حيَّانَ أخي جابر(2)(السريع) ومن التضمين بالمعنى قوله علیه السلام:

«وَلَیس لِوَاضِعِ المعرُوفِ في غیرِ حقِّهِ، وعن غیرِ أهْلِهِ، من الحَظِّ فِیمَا أتَی إِلَّا محمَدَةُ اللِّئامِ...»(3).

فالباحث يری أن هناك شبهاً كبيراً بين قول الإمام هذا وبينَ بيت لزهير أبن سلمى في معلقتهِ، قال فيه:

ومن يجعل المعروفَ في غير أهلِه يكنْ حمدهُ ذمّاً عليه ويندمِ(4)(الطويل)

ص: 96


1- روائع نهج البلاغة 10
2- نهج البلاغة 26. والبيت للأعشى الكبير، ينظر: ديوانه 147
3- م.ن 228
4- ديوان زهير بن أبي سلمى 111

فالشبه هنا واضحٌ تماماً وبخاصة بين صدر البيت وبين ما أبتدأ به أمير المؤمنين علیه السلام كلامهُ:

«وليس لواضع المعروف في غير حقِّهِ، وعند غير أهله».

أمّا الأمثال، فقد وظّفَها في غير ما موطن من كلامه، حيث جاء في إحدی خطبه:

«وَأَحُثُّکُمْ عَلَی جِهَدِ أَهْلِ اَلْبَغْيِ فَمَا آتِي عَلَی آخِرِ قَوْليِ حَتَّی أَرَاکُمْ مُتَفَرِّقِینَ أَیَادِيَ سَبأ»(1).

فقوله «أيادي سبأ»من الأمثال المشهورة عند العرب(2)، ويضرب للمتفرِّقين، وأصله(3)قوله تعالى:

«وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ»(4).

وبعد أن عرفنا أن المثل يضرب للمتفرقين؛ فإنّ توظيفه من قبل الإمام كان من البراعة بمكان، إذ عضّد بهِ تشتت أنصاره عنه، وخذلانهم إيّاه، فكان هذا المعنى الركيزة الأساس والصورة الواضحة للخطبة التي ورد فيها المثل ومنها قوله علیه السلام:

«أَمَا والذّي نَفْسي بِیَدِه، لَیَظْهَرَنَّ هؤُلاءِ القومِ علیکُم، لیس لأنَّهم أولی بالحقِّ منکُم، ولکِنْ لإسَراعِهِم إلی باطلِ صاحِبِهم، وإبطائِکُم، لیس لأنَّهم أولی بالحقِّ منکُم، ولکِنْ لإسَراعِهِم إلی باطلِ صاحِبِهم، وإبطائِکُم عن حقّي. ولَقْد أصَبَحتِ الأُممُ تَخافُ ظُلمَ رُعاتهَا، وأصبَحتُ أخَافُ ظُلمَ رعیّتي... أتلُو علیکُم الحِکَمَ

ص: 97


1- نهج البلاغة: 161
2- ينظر: مجمع الأمثال 11 / 276
3- شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد 4 / 36
4- سبأ 19

فَتَنْفِرونَ منها، وَأَعِظُکُم بالموْعِظَةِ البالِغَةِ فَتَتَفَّرقُونَ عنها»(1).

وتجدر الإشارة إلى أنَّ توظيفاً للإرث الأدبي قد حصلَ في مواطن متعدّدة من كلام على بن أبي طالب علیه السلام(2). والذي يهم الدرّاسة من هذا الإرث هو أنَّ التضمين الذي أجراه على تلك الأبيات وأنصاف الأبيات والأمثال التي يفهمُ قصتَها وأحداثَها قو مُه، عائدُ إلى رغبته في التوصيل التام لأفكاره المبتغاة، ومن ثمَّ شدة التأثير عليهم وعلى لاحقيهم، لأنّ مِن نتائج انفتاح النص على نصوص الآخرين، ومحاكاتها، وتوظيفها ببراعة هو خلق جوِّ إبداعيٍّ له القدرة على فرض هيمنته، وتأثيره في الآخرين على مرِّ العصور، وهذا لا يتوفّر إلاّ في نصوصٍ متعاليةٍ كالنص النهجي، والذي هو كغيره من النصوص التي تنفتح على نصوصٍ سابقةٍ لها أثرها في مرجعية الإمام الثقافية»(3).

سابعًا: سداد الرأي و

صدق اللهجة، والتودّد إلی السامع هذه هي الصفات الثلاث التي عدَّها الأب لويس شيخو آداب الخطيب الرئيسة(4).

أمّا السَّداد وبحسب ما وردَ في المعاجم اللغوية فإنّ معناه: الإصابة في المنطق، وأن يكونَ الرجلُ مسدَّداً(5).

ص: 98


1- نهج البلاغة 161
2- ينظر على سبيل المثال لا الحصر: نهج البلاغة 25، 52، 67، 71، 180، 477، 488
3- الاقتباس والتضمين في نهج البلاغة 16
4- ينظر: علم الأدب 2 / 48
5- ينظر: غريب الحديث 2 / 62

وهذا قريبٌ جداً من معناه الإصطلاحي الذي يعني «أصالة العقل وعلمه التام بالقضية وتمييزه لوجوهِ الأمور ومعضلات المشاكل بحيث يثق السامع بقول الخطيب وينقادُ إلى كلامه»(1). ولا بُدَّ للخطيب صاحب الرأي السديد من «إيراد قضيّته على صورةٍ جليّةٍ قريبة المنال... وتمكينها في ذهن السَّامع بالبيِّنات اللامعة والشواهد الساطعة... واستدراك اعتراضات الخصم وتفنيدها»(2).

وعلى أيّةِ حال فإنَّ هذه الشروط إن انطبقت على أحدٍ؛ فإنّ أميرَ المؤمنين علیه السلام يأتي في الطليعة، إذ كان هو المبرَّز في إيراد ما يريد بسدادِ رأيِّ تام، فضلاً عن أقواله التي كان يؤكد من خلالها على هذا الجانب، كقوله علیه السلام:

«من علاماتِ الإِقْبالِ سَدَادُ الأقْوالِ، والرِّفقُ في الأَفعالِ»(3).

فأمير المؤمنين علیه السلام تحدثّ هنا عن التأثير والذي أسماه ب «الإقبال» لأنّ الإقبال هو نتيجة متوقعة للتأثير، فكلمَّا كان التأثير أبلغ كان الإقبال أوسع، ولكن هذا الإقبال أرجعه أمير المؤمنين علیه السلام إلى «سداد الأقوال» علماً أنّ سدادَ القول راجع إلی حجر أساس وهو سداد العقل.

أمّا الحوادث والمناظرات التي بيَّنت سداد الرأي عند أمير المؤمنين علیه السلام، فهي كثيرة جدّاً، إن لم يكن جميع كلامه استدلالاً على الرأي السديد. ولعل من المناسب هنا ذكر كلامه الذي كلّم به كليب الجرمي(4)مرسول أهل البصرة

ص: 99


1- علم الأدب 2 / 48
2- م. ن 2 / 49
3- غرر الحكم ودرر الكلم 210
4- هو كليب الجرمي منسوب إلى بني جرم بن رَبَّان بن حُلوان من حمير بعثه قومه إلى الإمام علي يستعلم حاله أهو على حجة أم على شبهة. ينظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9 / 197

للإمام بعدمَا أصبحت معسكراً لأهل الجمل، وعند وصول الرجل طلب منه الإمام أن يبايع فقال:

«إنّي رسولُ قومٍ، ولا أُحدث حدثاً حتی أرجع إلیهم. فقال علیه السلام لو أنّ الّذینَ بعثوكَ رائداً تبتغي لُهم مساقِطَ الغَیثِ، فرَجَعْتَ إلیهم وأخبر تَهُم عن الکلأ والماءِ، فَخَالَفوا إلی المَعاطِشِ والمجَادبِ، ما کُنتَ صَانِعاً؟ قال: کنتُ تارکَهم ومخالِفَهُم إلی الکلأِ والماءِ. قال علیه السلام: فَامْدُدْ إذاً یَدَك. فقال الرَّجُل: فو الله ما أستطعت أن أمتنع عند قیام الحُجَّةِ عليَّ فبایعتهُ علیه السلام»(1).

وهكذا كان علیه السلام وبفعْلِ سداد رأیه یرشد المسترشد ویفحم الخصم بأدلّة قاطعة وبراهين ساطعة، وهذا المثال أحدها، حتى قال عنه ابن أبي الحديد (ت 656 ه):

ولا شيءَ ألطف ولا أوقع ولا أوضح من المثال الذي ضربه عليه السلام، وهو حُجَّةٌ لازمة لا مدفع لها»(2).

جاء تأثير كلام الإمام علیه السلام من مثاله الذي ضربه من الواقع الذي يعيشه الفرد العربي آنذاك؛ فالكلأ والمرعى هو عماد الحياة العربية البدوية، والمثال جاءَ عليها وبطريقة جليّة سهلة الفهم، واضحة المقصد هذا من جهة. ومن جهةٍ أخری احتفاظهِ علیه السلام بالبلاغة في أروع صورها عند إيراد الحجة، وبخاصة عندما شبّه نفسه أو جهته ومعسكره ب «مساقط الغَيث.. الكلاء والماء»، وهذا ما يتغنّى بهِ العربي ويرنو إليه أينما حلَّ وارتحل.

أمّا خصومه والمتمثِّلون بأصحاب الجمل فقد شبههم ب «المعاطش والمجادب»، وهذا ما ينفرُ منه السمع، ويُتخوَّف من الإصطدام به في أيِّ مكان،

ص: 100


1- نهج البلاغة 282 - 283
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9 / 197

وبالتالي فإنَّ إيراد هذا التشبيه سيكون تأثيره بإتجاهين متعاكسين: الأول هو تثبيط الرجل، وإبعاده عن معسكره، والثاني هو ترغيبهِ بالدخول في حظيرة الصواب، المتمثّلة بمعسكر أمير المؤمنين علیه السلام. وهكذا جاء جواب المبعوث بما خطط لهُ علي بن أبي طالب علیه السلام: «كنتُ تاركهم ومخالفهم إلى الكلإِ والماء».

ومهما يكن من شيء فإنّ هذا كله وسيلة وليس غاية؛ لأن الغاية التي ابتغاها (صلوات الله عليه) قول الجرمي: «فوالله ما استطعتُ أن أمتنعَ عند قيامِ الحُجّةِ عليَّ فبايعته علیه السلام».

وبعد سداد الرأي يأتي صدق اللهجة. واللهجةُ على وفق ما صرّحت بهِ المعاجم اللغوية تعني اللسان، ويُقال فلان فصيح اللهجة(1). وجاء في الحديث النبّوي:

«ولا أظلّتْ الخَضْراءُ ولا أقَّلتِ الغبراءُ ذيِ لهجةٍ أصدق من أبي ذر»(2).

وصِدق اللهجة من أهمِّ ما ينبغي أن يتحلّى به الخطيب، كونه يسهم في مدِّ جسور الثقة بين الخطيب وجمهورهِ «لُيثبت لدی السّامعين خلوص نيّتهِ واستقامة عمله وحرصه على الحقيقة، فيزيدُ ميلُهم إلى رأيه وركو نُهم إلى تصديقه»(3).

وفضيلة صدق اللهجة البالغة هذه تنبه لها أمير المؤمنين علیه السلام فأسماها صراحة حيث قال:

«مَنْ صدقت لهجَتُه صحَّتْ حُجّتُه»(4).

وجسدها واقعا، فكان مثالاً يحتذی فيها وهذا ما نتلمسه في تصريحات عدة

ص: 101


1- لسان العرب مادة (لَهَجَ)
2- سبيل الهدی والرشاد في سيرة خير العباد 11 / 241
3- علم الأدب 2 / 49
4- غرر الحكم ودرر الكلم 219

له، من نحو قوله:

«ما کَذَبْتُ ولا کُذِّبْتُ..»(1).

وقوله أيضاً:

«والذّي بعثَهُ بالحقِّ - يعني الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله -، واصطَفاهُ على الخلقِ، ما أنْطِقُ إلَّا صَادِقاً... أيُّها النّاسُ، إنّي - والله - ما أحثُّكُم على طاعةٍ إلّا وأسْبقُكُم إليها، ولا أنها كُمْ عن معصية إلَّا وأتَناهَى قبلكُم عنها»(2).

وهنا يطلُّ علينا علیه السلام في قوله الأخير «أيها الناس... الخ» إطلالة في غاية الأهمية - من أجل أن يكون الواعظ أو القائد مؤثّراً في جمهوره ورعيته -، ألا وهي التطبيق الفعلي لما يقول، لأنّ الكلام - مثلما يری هو (صلوات الله عليه) - إذا كان قائله مطبِّقاً إياه وبلهجة صادقة خرج من القلب وإذا خرج من القلب سقط في القلب أي كان مؤثّرا،. بينما إذا خرج من اللسان؛ فإنه سيفقد ذلك التأثير المرجو فقال علیه السلام في ذلك:

«الکلمةُ إذا خَرَجَتْ منَ القلبِ وَقَعْت في القلبِ وإذا خَرجتْ من اللسِّان لم تجاوز الآذان»(3).

وهكذا كان علیه السلام يصوغ قوانين نفسانية خالدة تؤثر في ما لا يحصى من النفوس دون أن يؤثر على صلابتها، وصحتها، وديمومة فاعليَّتها زمان أو مكان.

وتبقى مسألة مهمة هنا تجدر الإشارة إليها، وهي أنّ أمير المؤمنين علیه السلام ملك

ص: 102


1- نهج البلاغة 585
2- م. ن 289 - 290
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 20 / 446

ناصية التوفيق التام في كلامه بين صدق اللهجة وبين البلاغة السّاحرة، وهذا من اكبر العبقريات عنده علیه السلام على الرغم من صعوبة أو استحالة الجمع بين الأمرين حتى «قال بعض الحكماء لم يُرَ متديِّن صادق اللهجة مفلقاً في شعره»(1).

وأمّا ثالث ركائز الخطيب الرئيسة، فهو التودّدُ أو التحبب إلى السامع. وتعُدُّ هذه الركيزة من ميزات أمير المؤمنين علیه السلام وكثيراً ما كان يوصي بها أيضاً بنفسه، فمرّةً قال:

«التودُّدُ إلى النّاسِ رأسُ العقلِ»(2).

وأخری قال:

«التودّدُ نِصفُ العقلِ»(3).

وثالثة قال:

«أوَّل المروءَةِ طلاقةُ الوجهِ وآخرُها التودُّدُ إلى النّاسِ»(4).

وللتودّدِ موجبات منها: الوقار، والتصوّن، والوفَاء، والنّزاهة، وأن يؤثرَ الخطيب أمر الرعيّة على شؤونهِ الخاصة(5)وهذه الموجبات كانت مجتمعة في شخص أمير المؤمنين علیه السلام، فمن الوقار الممزوج بالتودد ما وصفه به صعصة بن صوحان(6)

ص: 103


1- الإتقان في علوم القرآن 2 / 325
2- غرر الحكم ودرر الكلم 445
3- نهج البلاغة 577
4- غرر الحكم ودرر الكلم 211
5- علم الأدب 2 / 49 - 50
6- هو صعصعة بن صوحان بن الحجر بن الحارث من ربيعة وكان يكنى بأبي طلحة، وكان خطيباً، ومن أصحاب علي بن أبي طالب، شهد معه الجمل، وروی عنه عهده لمالك الأشتر. ينظر: الطبقات الكبری 6 / 221، ينظر: ورجال النجاشي 203

(ت 60 ه): «كان فينا كأحدنا، لينُ جانبٍ، وشدَّةُ تواضُعِ، وسهولةُ قيادةٍ، وكُنّا نهابُه مهابهَ الأسير المربوط للسَّيّافِ الواقف على رأسه»(1). ومن التصوّن والنزاهة فَمَنْ غيره قال أو يقول:

«واللهِ لقد رقَّعتُ مِدْرَعتي هذهِ حتّى استَحْيَیْتُ من راقِعِها»(2).

وفي جانب الإيثار آثر التنازل عن حقوق يراها له، متماهياً مع رغبة بعض المسلمين، فقال:

«لَقَد عَلِمْتُم أنَّي أحقُّ النّاسِ بِهَا مِن غیري، وواللهِ لَأُسَلمِنَّ ما سَلَمِت أمورُ المُسْلمینَ؛ وَلَم یَکُنْ فیها جَورٌ إلَّا عليَّ خاصّةً، التِماساً لأجر ذلك وفَضْلِهِ، وزُهداً فیما تنافستُمُوهُ مِنْ زٌخرُفه وَزِبرجهِ»(3).

ولُبُّ القول الذي تذهب إليه الدراسة هو أنّ هذهِ الصفات الثلاث - سداد ألرأي، وصدق اللهجة، والتودد إلى السامع - إجتمعت متآنسة فيما بينها بكلام أمير المؤمنين علیه السلام، وكان بعضها يدعم بعضاً حتى أنجبت إنجابات شرعية بضمنها ذلك التأثير العظيم الذي تركته على نفوس عشاق الأدب الرفيع، وطالبي الحقيقة المقدمّة بثوبٍ من البلاغة الساحرة.

ثامنًا: المحن التي

تعرّض لها علیه السلام عرفنا في السابق موجزاً عن نشأة أمير المؤمنين علیه السلام وعلاقته بالرسول محمّد صلی الله علیه وآله

ص: 104


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 / 29
2- نهج البلاغة 263
3- نهج البلاغة 103 - 104

والتي كانت على مرحلتين:

الأولی:

تمتد إلى نزول الوحي وتبشير الرسول بالنبوة.

الثانیة:

تمتد إلى رحيل النبي صلی الله علیه وآله (سنة 10 ه). والذي يلحظ على خطاب أمير المؤمنين علیه السلام بعد هذه المدة - وهذا ما تهتم بهِ الدراسة هنا - هو بروز عنصر الشّكاية والتألّم وعدم الرّضى في كلامه. وقد أصابَ بودلير لما قال: «لكي تكتشف عقليّة.. ما، أو على الأقل تكتشف ما يشغل فكره أساساً دعنا نفتِّش عن الكلمة أو الكلمات التي تتردد عنده كثيراً، فسوف تعبِّر هذه الكلمة عمّا يستحوذ تفكيره»(1). فكان من بواكير هذه الكلمات والخطابات التي بيَّنت سأم الإمام علیه السلام قوله عند دفن زوجته الزهراء علیه السلام سنة (10 ه):

«قلَّ یا رسولَ اللهِ عن صَفِیَّتكَ صَبْرِي، وَرَقّ عنها تجلّدِي... أمّا حُزْني فَسَرْمَدٌ، وأمّا لَیلي فَمُسَهَّدٌ... وسَتُنَبّئُكَ ابَنتُكُ بتَضافُرِ أُمّتِكَ علی هَضْمِهَا، فأَحْفِها السُّؤالَ، واستَخْبرْها الحاَلَ»(2).

وأستمرَّ هذا اللون الخطابي الّا أنّه بدأ يظهر جليّاً عنده علیه السلام، لأنهُ کان «یعیش أصعب مراحل التأريخ فالفتن تأخذه من كُلِّ جانب»(3)تمَثّلَ جانبٌ منها بالمعارك الظالمة التي وقعت في خلافته والتي جعلته مثلما قال الأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي: «في كفاحٍ دائمِ وحروب مستمّرة خرجت عليه عائشة بالبصرة ومعها

ص: 105


1- الاتجاه الأسلوبي في النقد الأدبي 170
2- نهج البلاغة 370 - 371
3- مجلة تراثنا ع 1 / 171

طلحة والزبير، ومعركة الجمل المشهورة ثمَّ استمرت الحروب بينه وبين معاوية بن أبي سفيان... ومنها موقعة صفين ثم كان أمر التحكيم الذي قبله عليُّ على كره منه»(1).

ثمَّ الخوارج الذين هم في الأصل أصحابه علیه السلام، كما تمثّلت تلك الفتن أيضاً بالإنتهازّيين الذين يركبون موج الأحداث ويتصيَّدون غنائمها، وفي هذهِ المرحلة أدرك الإمام علي علیه السلام أن جذور الفتنة تضرب في أعماق النفس فتوجه إليها خطيباً وواعظاً على السواء، ومن يقرأ ما في نهج البلاغة تنكشف له هذهِ الحقيقة التي هي أم الحقائق فيه(2). فكان في هذا - مثلما قال هو علیه السلام - يُقاتل:

«رجُلَینِ: رجُلاً ادَّعَی ما لَیْسَ لهُ، وآخَرَ مَنَعَ الّذي عَلَیهِ»(3) أمّا الجانب الآخر الذي زاد في محن الإمام علیه السلام هو قلة المُّعين، وهذا ما بدا واضحاً في خطبة الشقشقية:

«وَطَفِقْتُ أرتئِي بینَ أنْ أصولَ بیدٍ جذّاء، أو أصبِرَ علی طَخْیَةٍ عمیّاء»(4).

والجذّاء هي المقطوعة(5)؛ فالتأريخ لم ينقل لنا بأنّ أمير المؤمنين علیه السلام کانت يده مقطوعة، بل كلامه هذا كناية عن قلة الأنصار، وهذا ما بدا جليّاً في قوله:

«أما والذّي نَفْسي بیدِهِ، لَیَظْهَرَنَّ هؤلاءِ القَومُ علیکم، لیس لأَنَّهم أَولی بالحقِّ منکُم، ولکِنْ لإسْرَاعِهم إلی باطِلِ صَاحِبِهم، وإِبْطَائِکُم عن حَقِّي. ولَقد أصَبَحتِ الأُمَمُ تَخافُ ظُلمَ رُعاتِها، وأصبَحتُ أخافُ ظُلمَ رعیَّتي...

ص: 106


1- الحياة الأدبية بعد ظهور الإسلام 132
2- ينظر: مجلة تراثنا ع 1 / 171
3- نهج البلاغة 286
4- نهج البلاغة 25
5- ينظر: لسان العرب مادة(جَذَذَ) 3 / 479

«أيُّها القَومُ الشَّاهِدَةُ أبدانُهُم، الغائِبَةُ عنهُم عُقُولُهم، المُخْتَلِفةُ أهَواؤُهُم، المُبْتَلی بهم أُمَراؤُهُم. صَاحِبُکُمُ یُطیعُ اللهَ وأنْتُم تَعْصونَه، وَصَاحِبُ أهلِ الشَّامِ یَعْصِي اللهَ وَهُم یُطیعونه»(1).

وبما إنّ الدراسة - في هذا الفصل - تبحث في بعض أسباب محن الإمام علي علیه السلام فينبغي التعرض لجانب ثالث كان قد شكل حسرة وغصّة في قلب الإمام علیه السلام وزاد في عيشته الخانقة تمثّل في التفريق بينه وبين حواريّيه، إمّا عن طريق النَّفي مثلما حدث مع أبي ذر الغفاري (ت 31 ه) الذي قال عنه طه حسين: «وإنّما سيّره عثمان إلى الربذةِ منفياًّ فأقام فيها حتى مات غريباً»(2).

أو الإغتيال السياسي كإغتيال مالك الأشتر سنة ( 37 ه) الذي وصفه الامام علیه السلام لمّا جاءَ خبر نعیه:

«مَالِكُ ومَا مالِكٌ! والله لو کان جبلاً لکان فِنْداً، ولو کان حجراً لکانَ صَلْداً، لا یرِتقیه الحافِرُ، ولا یُوفي علیه الطائرُ»(3).

وقال فيه أيضا:

«رَحمَ اللهُ مالكاً فلقد كان لي كما كنتُ لرسول اللهِ صلی الله علیه وآله»(4).

أو القتل في الحرب كقتل محمد بن أبي بكر سنة ( 37 ه) الذي أبّنه الإمام علیه السلام بقوله:

ص: 107


1- نهج البلاغة 160 - 161
2- الفتنة الكبری 164
3- نهج البلاغة 632
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 19 / 120

«إنّ حُزنَنَا عليه على قَدْرِ سُرُورِهِم بهِ، إلَّا أنَّهم نَقَصوا بغيِضاً، ونَقَصنا حَبيباً»(1).

فكثيراً ما كان علیه السلام يؤبِّن أصحابه الذين مضوا بكلمات نابعة من قرارة قلب يعتصره الألم والأسى:

«أَینَ إخوَانِي الَّذِینَ رَکِبُوا الطَّرِیقَ، وَمَضَوا علی الحقِّ؟ أین عمَّارٌ؟ وأینَ ابنُ التَّیِّهَانِ(2)؟ وأینَ ذو الشَّهادَتَینِ(3)؟ وأینَ نُظَراؤُهُم مِن إخَوانِهِمُ الّذینَ تَعَاقدوا علی المنَّیةِ، وأُبردَ برُؤوسِهِم(4)إلی الفَجَرَةِ!؟ فقال الراوي: ثم ضرب بیده علی لحیته الشریفة، فأطال البکاء، ثم قال علیه السلام: أَوِّهِ علی إخواني الّذینَ تَلَوُا القُرآنَ فأحکَمُوُه، وتدبّروا الفرضَ فأقَامُوه...»(5).

هذا جانب من المحن والفتن التي تعرّض لها علیه السلام والتي جعلت محياه ومماته تأريخاً دامياً للفضيلة المعذبة، والنفس المطمئنة الشهيدة»(6). وبما إنّ حياته كلها كفاح، ونضال، وحزن ويأس(7)من قومه؛ فقد تولّد عنده الإنفعال الذي منشَؤه

ص: 108


1- م. ن 611
2- ابن التَّيِّهان: هو أبو الهيثم بن التَّيِّهان، وأسمه مالك، وأسم أبيه مالك أيضا ابن عبيد بن عمرو بن عامر الأنصاري قيل: إنهُ توفي سنة عشرين. وقيل انهُ أدرك صفّين، وشهدها مع علي علیه السلام وقتل فيها وهو الأكثر. ينظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10 / 290
3- ذو الشهادتين: هو خزيمة بن ثابت الأنصاري من الأوس جعل رسول الله صلی الله علیه وآله شهادته كشهادة رجلين قُتِلَ بصفين بعدَ أن شهدها إلى جانب أمير المؤمنين. ينظر: م.ن 10 / 290 - 291
4- أُبرد برؤوسهم: حملت رؤوسهم مع البريد إلى الفسقة للبشارة بها والفجرة هنا أمراء معسكر الشام.ينظر: م. ن 10 / 291
5- نهج البلاغة 306
6- تأريخ الأدب العربي 135
7- ينظر: أدب العرب 156

الإتحاد المباشر بين العبقري وبين الموضوع الذي يشغله»(1)والذي يراه - أي الإنفعال - برجسون «جوهر الأبداع»(2)، ثمّ إنّ هذا الإنفعال الذي تولد من هاتيك الفتن، كان من أهمِّ بواعث الخطابة وما يدعو اليها(3)، مثلما تولَّد عنده علیه السلام وكنتيجة متوقعة لتلك الأحداث عنصر الغربة أو الإغتراب(4)، عاش غريباً لأنه لاقى من الإعوجاج والعداوة ما تئِنُّ له الجبال لا لشيء الّا أنه أراد أن يقيم العدل في كُلِّ شيء، وأن تتمثلهُ كُلُّ نفسٍ، لأنه يعدل وهم لا يعدلون لأنّه ينتصف من نفسهِ ولا ينتصفون لأنّه يأتمر بالله ولا يأتمرون(5)فكانت النتيجة:

«اللهُم إنِّي قَد مَلِلتُهم ومَلُّوني وسَئمِتهم وسَئِموني، فأَبْدِلني بهم خیراً منهم، وأَبْدِلْهُم بي شَرَّاً مِنَّي، اللهم مِثْ قُلُوَبهم کما یُماثُ الملحُ في الماء»(6).

عاش غريباً لإنهُ مثلما قال جبران خليل جبران: «لم يعرف العرب حقيقة مقامه ومقداره... مات قبل أن تبلغَ العالمَ رسالته كاملةً وافية. غير أنني أتمثّلُهُ مبتسماً قبل أن يغمض عينيه عن هذه الأرض. مات شأن جميع الأنبياء والباصرين الذين يأتون إلى بلد ليس ببلدهم وإلى قومٍ ليس بقومهم وفي زمنٍ ليس بزمنهم ولكن لربِّك شأنٌ في ذلك وهو أعلم»(7).

ص: 109


1- الإبداع في الفن 80
2- م. ن 80
3- ينظر: الحياة الأدبية بعد ظهور الإسلام 134
4- یری أغلب الدارسين أن الفيلسوف الألماني هيجل هو من طرح مصطلح الأغتراب وأكدَّ عليه ودرسه بتعمق. ينظر: الاغتراب وأنواعه 5
5- ينظر: الأغتراب عند الإمام علي من خلال نهج البلاغة 112
6- نهج البلاغة 52
7- الراعي والرعية 47

والذي يهمُّ الدراسة من هذ ِ ه المحن وما ولدته في تأريخ الإمام، إنّها أسهمت إسهاماً فعّالاً في جعل كلامهِ علیه السلام ذي فاعلية فاعلة على التأثير لأنهُ أديبٌ من طرازٍ خاص عانى من أزمات خانقة - والأديب الذي يعيش المشكلة يكون أقدر من غيره في الإفصاح عنها - وحمل هموم الرعية صغيرها وكبيرها، ممّا انعكس إيجاباً على عَطائهِ الأدبي، فصاغ ما عاناه بكلمات وصور أدبية سَكبَ عليها حرارة روحهِ المعذبة، فجعلها تشقُ طريقاً مهيعاً إلى قلوب السامعين. وهذا بدوره شكّلَ نواةً مقتدرة على خلق التأثير.

هذه هي مجموعة أسباب اجتمعت في شخص أمير المؤمنين علیه السلام - دون غيره - استطاع أن يوظفَّها توظيفاً مهيباً بمساعدة أسباب أُخر منها: سلامة ذوقه وروحه الصافية(1)، وكذلك ما أمتاز به من ذكاء مُفرط، فقد قال عنه ابن عباس (ت 68 ه):

«ما رأيتُ قط أذكى من عليِّ بن أبي طالب»(2)، فضلاً عن خلوص نيّتهِ، وروحه الإنسانية التي جاءت آثارها مثلها، فهي «لم تُوضع لفريق دون فَريق، ولم يُراع فيها شعبٍ، وإنّما خُوطِبَ بها الإنسان أنّى وُجِد وكان. ولأنّها تُلامس كُلَّ قلبٍ، وتُضمِّدُ كُلَّ جُرح، وتكفكف كلَّ دمعة، كانت مُلكاً للناس أجمعين، وكانت خالدةً عند الناس أجمعين»(3).

وتجدر الإشارة إلى أنّ هناك صفات عدّة في كلام الإمام علیه السلام كان الدكتور أحمد محمد الحوفي يری أنها تقف وراء تأثير كلام الإمام علیه السلام هي: تخيّر المفردات وإنسجامها مع النّاحية الصوتية وقوّة التعبير وسهولته، وقصر المفردات وتوازنها،

ص: 110


1- ينظر:الجامع في تأريخ الأدب العربي 1 / 352
2- الأغاني 1 / 81
3- دراسات في نهج البلاغة 11

وكثرة الصيغ الإنشائية(1).

إذا فأمير المؤمنين علیه السلام كان قد حّلق بجناحين هما عماد البلاغة: اللب، والإسلوب ف «الأثر الفني الكامل في نظري - والكلام لتوفيق الحكيم - هو ذلك الذي يحدث فينا ذلك الشعور الكامل بالإرتفاع... وقلّما يحدث هذا إلّا عن طريق السمو في اللبّ والاسلوب»(2)، وتلك سمتان جليّتان في أدب أمير المؤمنين علیه السلام، فبكلامه «يندمج الشكل بالمعنى إندماج الحرارة بالنّار والضوء بالشمس والهواء بالهواء... هذا من حيث المادة. أمّا من حيث الأسلوب، فعليُّ بن أبي طالب ساحر الأداء. والأديب لا يكون إلّا بإسلوب، فالمبنى ملازمٌ فيه للمعنى، والصورة لا تقلُّ في شيءٍ عن المادّة... وإنّ قسط عليّ بن أبي طالب من الذوق الفنّي - أو الذوق الجمالي - لمّما يندر وجوده... وإنّ شروط البلاغة التي هي موافقة الكلام لمقتضى الحال لم تجتمع لأديب عربي كما اجتمعت لعليِّ بن أبي طالب»(3).

وعلى كلِّ الأحوال فإنّ هذه الصفات التي اجتمعت في كلام أمير المؤمنين علیه السلام هي التي جعلت من «كلِّ مثقّفٍ عربي، كلِّ كاتب عربي، كُل شاعر عربي، كُلِّ خطيب عربي مدين للإمام علي. فإذا كان كُلُّ مسلم في الدنيا مدينُ للقرآن الكريم في تكوين عقليّته وتفكيرهِ فإنَّ كلَّ مثقّفٍ عربي مدين لنهج البلاغة في تقويم قلمه»(4)إذ «لولا كلام عليِّ بن أبي طالب وخطبه وبلاغته في منطقه ما

ص: 111


1- ينظر:علي سلطة الحق 547 - 559
2- فن الأدب 76
3- الإمام علي صوت العدالة الإنسانية 1 / 529
4- الإمام علي أسد الإسلام وقدِّيسه 225

أحسن أحدٌ أن يكتب إلى أمير جند، ولا إلى رعيّة»(1)، وهذه الحقيقة التي هي عين الصواب - لما سيتضح لاحقاً - وتأثّر الكتاب بأميرهم إلى هذه الدرجة، لم يكن عبثاً بل لأنَّهم وجدوا «الفصاحة تُنسَب إليه، والبلاغة تُنقَل عنه، والبراعة تُستفاد منه، وعلم المعاني والبيان غريزة فيه.. فعصابة الفُصحاء على تفاوت طبقاتهم دونه، وزمرة البلغاء على تباين حالاتها عيالٌ عليه»(2) وهكذا كل من وصف بلاغة أمير المؤمنين علیه السلام فقد وصفها بوصف مؤثر.

وهذا راجع لأمرين: الذوق الصافي والفطرة السليمة والمقدرة الأدبية الخلاقة لدی الواصفين وللتأثير العظيم الذي تركه كلامه علیه السلام على متذوِّقي الأدب الرفيع، فعن عامر الشعبي (ت 106 ه) أنّه قال: «تكلّم أمير المؤمنين علیه السلام بتسع كلمات ارتجلهُنّ ارتجالاً فقأنَ عيون البلاغة، وأيتمن جواهر الحكمة، وقطعن جميع الأنام عن اللحاق بواحدةٍ منهنَّ، ثلاث منها في المناجاة، وثلاث منها في الحكمة، وثلاث منها في الأدب. فأمّا اللائي في المناجاة، فقال: إلهي كَفى بي عزًّا أن أكونَ لكَ عبداً، وكفى بي فخراً أن تكونَ لي ربّاً أنت كما أُحُبّ فاجعلني كما تُحبُّ، وأمّا اللأئي في الحكمة، فقال: قيمةُ كُلِّ امرئٍ ما يُحسِنُه، وما هلك امرؤُ عرفَ قدَره، والمرءُ مخبوءُ تحت لسانه. وأمّا اللائي في الأدب، فقال: امنُنْ على مَنْ شئت تكن أميَره، واستغن عمَّن شئت تكُن نظيَره، واحتجْ إلى مَنْ شئت تكُن أسيَره»(3).

وبعد أن أدرك الأدباء هذه الثروة الأدبية اتَّكأوا عليها، وتتلمذوا بها، حتى

ص: 112


1- الإختصاص 148 - 149
2- مطالب السؤول في مناقب آل الرسول 178
3- ميزان الحكمة 1 / 57، وينظر: من أروع ما قاله الإمام علي علیه السلام 62

أصبحت لهم بفضلها قدم راسخة في ميادين الأدب قديماً وحديثاً، ففي القديم قال ابن نباتة الخطيب(1)(ت 374 ه): «حفظتُ من الخطابة كنزاً لا يزيدُه الإنفاق إلاّ سعةً وكثرةً، حفظتُ مائةَ فصلٍ من مواعظ عليِّ بن أبي طالب»(2).

ومن كلام ابن نباتة يَستَدِلُّ الباحث - فضلاً عن التأثر المهيب بكلام الإمام - على أنّ كلام الإمام كان مجموعاً وهذا ما وضح في قول الأديب «مائة فصل من مواعظ...» وإلاّ كلمة فصل لا يمكن أن تُطلق على خطبة، ولا على رسالة، ولا على حكمة، بل هي جزء من كتاب مجموع.

وتجدر الإشارة إلى أنّ ابن أبي الحديد (ت 656 ه) عمل مقارنة بين بعض خطب ابن نباتة «الفائز بقصبات السّبق من الخطباء؛ وللنّاس غرامٌ عظيم بخطبه وكلامه»(3)، وبين كلام أمير المؤمنين علیه السلام امتازت تلك المقارنة بأحكام تعليليّة، ونتائج علمية؛ كونها صادرة من مؤرخ كبير، وناقد بصير، ولغوي، وشاعر.

كانت خلاصة تلك المقارنة هي «أنَّ سطراً واحداً من كلام نهج البلاغة يساوي ألف سطر منه - أي كلام ابن نباتة - بل يزيد ويُربي على ذلك، فإنَّ هذا الكلام

ص: 113


1- اشتهر بابن نباتة في الأدب العربي رجال ثلاثة: أولهم عبد الرحيم بن محمد. والثاني ابن نباتة السعدي (ت 405 ). والثالث ابن نباتة المصري صاحب (سرح العيون) (ت 768 ه). ينظر: النثر الفني في القرن الرابع الهجري 1 / 192. ومقصودنا الأول عبد الرحيم بن محمد بن إسماعيل صاحب الخطب المشهورة؛ كانَ إماماً في علوم الأدب، وكان خطيب حلب، وبها اجتمع بالمتنبي في خدمة سيف الدولة. ينظر: وفيّات الأعيان 3 / 156. وله ديوان خطب مطبوع يُعرف ب «ديوان الخطب النباتية» متأثر به كثيراً بكلام أمير المؤمنين علیه السلام
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 / 28
3- م. ن 7 / 144

مُلزَّق عليهِ آثار كُلفة وهُجنة»(1).

ومما يسجّل بقوة لبلاغة أمير البلاغة علیه السلام أن تأثيرها تجاوزَ حدود المحبين ليسحر أشدَّ المناوئين له علیه السلام، فهذا هو معاوية لمّا قال له أحد شيعته: «جئتكُ من عند أعيا الناس. قال له: ويحك وكيف يكون أعيا النّاس! فوالله ما سنَّ الفصاحةَ لقريش غيرُه»(2).

ثم لم يكن تأثير كلامه علیه السلام على أديب بعينهِ أو طائفة، أو قومية، أو بحدود عصر معين، بل بلاغته علیه السلام خارجة عن هذه الأُطر فمثلاً الأديب الفارسي سعدي الشيرازي بعد أن «عثر علی ضالّتهِ المنشودة في بلاغة الإمام علي»(3)سبك عهده لمالك الأشتر - على طوله - شعراً، وسكبه نثراً في الرِّسالة الخامسة من رسائله الست(4).

وكان المتنبي (ت 354 ) معتمد في بعض أبياتهِ الرائعة على حِكم الإمام علیه السلام، قال العّلامه محمد حسين آل كاشف الغطاء(5): «إنّ المتنبي كثيراً ما كان يصول على حِكم الأئمة علیه السلام وخصوصاً حِكم أمير المؤمنين علیه السلام فيأخذ معانيها ثم ينظمها في أقواله... خذ مثلاً المتنبي يقول:

ص: 114


1- م. ن 7 / 146
2- نوادر وقصص من شرح نهج البلاغة 1 / 12
3- الأثر العربي في أدب سعدي 380
4- ينظر:.ن 378
5- هو الشيخ محمد حسين بن الشيخ علي بن الشيخ محمد رضا كاشف الغطاء، من كبار رجال الإسلام المعاصرين ووُصِفَ بأنّه خطيب بارع، ساحر البيان، فصيح اللسان. توفي سنة(1373 ه) في النجف ودُفِن فيها. ينظر: علماء في رضوان الله 441 - 444

الظّلمُ من شيم النفوس فإن تَجد ذا عفَّةٍ فلعلَّة لا يظلِمُ(1)(الكامل) أخذها من قول عليٍّ علیه السلام:

«ألظُّلمُ كامِنٌ في النُّفوسِ، القوَّةُ تُبديه، والضَّعفُ يُخفيه»(2).

وغير هذا كثيرُ عند المتنبي، فقوله:

وإذا كانت النّفوس كباراً تعبت في مُرادها الأجسام(3)(الخفيف) نتلمَّس من ورائه حكمة أمير المؤمنين علیه السلام:

«أتْعَبُ النّاسِ قلْباً مَنْ عَلَتْ همَّتُهُ، وکثُرَت مُروءَتُهُ»(4).

ومن طُرق تأثُّر الشعراء بكلام أمير المؤمنين علیه السلام هي أن يعمد الشاعر إلى وصف الإمام ومناجاته مع الله سبحانه وتعالى، ويمدح بها من يشاء؛ فالبحتري (ت 284 ه) يصوغ بيتين في المديح - مخاطباً بها ابن المدبر - من أجمل أبياته:

دنوتَ تواضُعاً وعلوتَ قدرا فشأناك انحدارٌ وارتفاعُ (الوافر) كذلك الشمّسُ تَبعُدُ أن تُسامى

ص: 115


1- شرح ديوان المتنبي للبرقوقي 4 / 186
2- مصادر نهج البلاغة 1 / 43
3- شرح ديوان المتنبي 4 / 48
4- غرر الحكم ودرر الكلم 206

ويدنو الضوءُ منها والشعاعُ(1) معتمداً على مناجاة ووصف أمير المؤمنين علیه السلام للباري عزّ وجلَّ:

«قَرُبَ فنأی، وعلا فدنا»(2).

ووصفه أيضاً:

«سَبَقَ في العُلُوَّ فَلَا شَيءَ أعْلَی مِنْهُ، وَقَرُبَ في الدُّنُوِّ فلا شيءَ أقربَ منه»(3).

وفي الأدب الحديث ما زال كلام الإمام علي (صلوات الله عليه) ينبوعاً ثراًّ، ومنهلاً عذباً، يلجأ إليه أدباء لإتمام وتقويم شخصيّاتهم ومواهبهم الأدبيّة، وهذا ما أشار إليه الجواهري بقوله: إنَّ أدبياً لم يدرس نهج البلاغة لا يمكن أن يكونَ شاعراً ولا كاتباً أبداً، ولو قرأ مليون مليون رواية، أو كتاب أجنبي، ولو استو عَب كُلَّ النّظريّات والعقائد والمبادئ(4).

أمّا الشيخ الأديب ناصيف اليازجي، فقد عدَّ نهجَ البلاغة الرّكيزة الثّانية بعدَ القرآن الكريم، وهما معاً أسهما في تكوينه الثّقافي وإتقانه الكتابة، فقال: «ما أتقنتُ الكتابةَ إلّا بدرس القرآن العظيم ونهج البلاغة القويم فهما كنز العربية الذي لا ينفذ وذخير تُها للمُتأدَّب. وهيهات أن يظفرَ أديب بحاجته من هذهِ اللغة الشريفة إن لم يحيِ لياليَهُ سهراً في مطالعتهما والتّبحُّرِ في عالي أساليبهما»(5).

ص: 116


1- ديوان البحتري 2 / 69
2- نهج البلاغة 358
3- م. ن 82
4- ينظر: لغة الشعر بين جيلين 69
5- ما هو نهج البلاغة 20

الفصل الثاني أثر کلام الإمام علي علیه السلام في نثر الحسن البصري

ص: 117

ص: 118

توطئة

الحسن البصري ولد الحسن بن أبي الحسن البصري عام (21 ه) من أبٍ نصراني جيء بهِ مسبيًّا وكانت ولادته في المدينة لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب(1).

نشأ البصري في مدينة رسول الله صلی الله علیه وآله وفي مجتمعها المسلم(2)، وبقي فيها مدة ما تبقّى من خلافة عمر بن الخطّاب، ثمَّ خلافة عثمان بن عفان كلّها، وعندما بايع النّاسُ أمير المؤمنين علیه السلام ليكون الخليفة الرابع، نزح الحسن البصري مع أسرته، لينزلَ البصرة، جانحًا عن الأحداث التي حدثت مدّة خلافة أمير المؤمنين علیه السلام، ولكن بعدما حكم الأمويون خرج للعمل في ظلِّ سلطتهم(3)، إذ «صارَ كاتبًا في أُمرة معاوية للربيع بن زياد(4)»(5).

ص: 119


1- ينظر: الروض المعطار 1 / 531
2- ينظر: النثر عند الحسن البصري 7
3- ينظر: تأريخ الأدب العربي العصر الإسلامي 445
4- هو الربيع بن زياد بن الربيع الحارثي ولاه معاوية على سجستان ثم على الكوفة بعد وفاة واليها المغيرة بن شعبة. وتولى خراسان أيضًا. توفي 53 ه. ينظر الوافي بالوفيات 2 / 190
5- م. ن

نظراً لفصاحتهِ وبلاغة قلمه(1). وبعدها «وُلِّيَ قضاء البصرة لعمر بن عبد العزيز»(2).

وعلى الرغم من أنّ هناك رأيًا يقول إنَّ الحسن البصري «لازمَ عليَّ بن أبي طالب ناشئًا»(3)، إلاّ أنّ هذا لم يقم عليه دليل فَمِن هذا الطرف من حياة البصري نستدل على صحّة الأخبار التي كانت تقول بأنه كان على خلاف مع أمير المؤمنين علیه السلام، وبينهما جفوّة بيِّنة، وما نزوحه عن المدينة عندما آلت القيادة لأمير المؤمنين علیه السلام، ثم تسنّمه مناصب مهمة إبّان حكم بني أمية إلاّ شاهدًا لا يضلّ، فضلاً عن تصريحاتهِ في هذا الشأن كقوله: «لو كان عليٌّ يأكل الحشف بالمدينة لكان خيراً لهُ مما دخلَ فيه»(4).

ومن الصفات التي امتاز بها البصري انه «كان بادي الحزن، فإذا أقبل فكأنه أقبل من دفن حميمه، وإذا جلس فكأنه أُمِرَ بضرب عُنُقِهِ»(5). ولكن لهذهِ الخصلة سببًا غيرُ الذي هو رائج من كونه قد طلّقَ الدنيا لأنَّها فانية زائلة، بل السبب وراء حزنه هو دعاء أمير المؤمنين علیه السلام عليه. فقد روي أن الإمام علیه السلام رأی البصري يتوضّأ ويسرف في الماء فقال له: «أرقتَ ماءً كثيراً يا حسن؛ فقال: ما أراقَ أميرُ المؤمنين من دماءِ المسلمين أكثر! قال: أوساءَكَ ذلك؟ قال: نعم. قال: فلازلت مسوَّءًا»(6).

ص: 120


1- ينظر: الأساليب النثرية 41
2- العقد الفريد 4 / 217
3- الأساليب النثرية 41
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4 / 305
5- البيان والتبيين 2 / 83. وينظر: المعارف 441
6- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4 / 305

قال ابن أبي الحديد: «قالوا: فما زال الحسن البصري عابسًا قاطبًا مهمومًا إلى أن مات»(1).

أمّا ما أورده الطبرسي «من أعلام القرن السادس الهجري» في كتابه (الإحتجاج) فقد بيّن بوضوح مدی تأثر البصري بأمير المؤمنين علیه السلام من جهة، وعدم رضى الأخير عنه من جهةٍ أخری فقد جاء في هذا الكتاب « لمّا أفتتح - أي البصرة - أمير المؤمنين علیه السلام بكلمةٍ كتبها. فقال أمير المؤمنين علیه السلام بأعلى صوته: ما تصنع؟ فقال: نكتبُ آثاركُم لنحدِّثَ بها بعدكم. فقال أمير المؤمنين: أما إنَّ لكُلِّ قومٍ سامري وهذا سامريُّ هذهِ الأمة، أما إنّهُ لا يقول لا مساس(2)ولكن يقول لا قتال»(3). إذاً فالحسن البصري وبشهادته يكتبُ كُلَّ كلمة يتحدّثُ بها أمير المؤمنين علیه السلام لتكون سلاحه المضاء - فيما سنری - في خطبه - ورسائله وحكمه.

أما عن قول الإمام للبصري: إنّكَ ستقول لا قتال، فهذا فعلاً ما نجده فقد كان أهم متبنيّاته، فبمرور الزمن وعندما فتكَ الحجاج (ت 97 ه) بالمسلمين، واجتماع بعض المسلمين لمحاربته، أخذَ البصري يثبِّطهم عن ذلك، محاولاً ثنيهم وفلّ عُری عزيمتهم، طالبًا منهم التوجه إلى الدعاء والتضرع، فقال: «أيّها النّاس

ص: 121


1- م. ن 305
2- أشارَ إلى قوله تعالى حكاية عن النبي موسى ؇ إذ قال للسامري: «وَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ» طه / 97. قال الجبائي: معناه لا مساس لأحدٍ من النّاس لأنّ السامري جعل يهيم في البريّة مع الوحوش. ينظر: البيّان في تفسير القرآن 7 / 200
3- الاحتجاج 1 / 209

إنّهُ والله ما سَلّطَ الله الحجَّاجَ عليكم إلاّ عقوبةً فلا تُعارضوا عقوبةَ الله بالسيف، ولكن عليكم السَّكينة والتضرُّعَ»(1). ومثلَ هذا قال عندما خرج يزيد ابن المهلّب لمحاربة أهل الشام(2).

ومقابل هذه الأخبار التي تحدثت عن وجود قطيعة وجفوة بين الحسن البصري وأمير المؤمنين علیه السلام، توجد هنالك أخبار تبررها، مثلاً لما سُئِلَ البصري عن الإمام علي علیه السلام قال: «ما أقول فيه! كانت له السّابقة و الفضل و العلم والحكمة والفقه و الرأي والصُّحبة والنّجدة و البلاء والزهد والقضاء والقرابة، إنَّ علیًّا كان في أمره علیًّا... فقلتُ - أي الراوي -: يا أبا سعيد، فما هذا الّذي يُقالُ عنك إنّك قُلتَه في عليٍّ؟ فقال يا ابن أخي اُحقِنُ دمي من هؤلاء الجبابرة، ولو لا ذلك لشَالتْ بيَ الخُشُب»(3).

وبنظر الباحث لم يكن الرأي الثاني هو الراجح، إذ لو علم الإمام علي علیه السلام صدق سريرة البصري وإخلاصه القلبي لما دعا عليه مثلما سلف هذا من جانب، ومن جانب آخر لو كان البصري صادقًا لما ترك أمير المؤمنين، ودخل ضمن الدائرة الأموية. فعليه كان أموي الهوی. ومثلما قال إحسان النص في كتابه « الخطابة العربية في عصرها الذهبي»: «من المحقق أنّ الحسن لم يكن متحمّسًا لعلي وشيعته»(4).

أما موارد ثقافته، فقيلت فيها آراءُ عدّة، فمثلاً شوقي ضيف يری إنّ

ص: 122


1- الطبقات الكبری 7 / 164
2- ينظر: تأريخ الطبري 4 / 84
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4 / 305 - 306
4- الخطابة العربية في عصرها الذهبي 349

من وراء ثقافة البصري «القرآن الكريم، وهدي الرسول صَلی الله عَلیه وآله وسلم، وصحابته الورعين، وخاصّة عمر بن الخطاب، فإنّه يروي عنه كثيراً من أقواله وعظاته»(1).

ولا جدال أنّ البصري وغيره من كبار الكتّاب والوعّاظ تأثروا بالقرآن، والرسول صلی الله علیه وآله، وأصحابه، غير أنّ الباحث يری في هذا التقسيم إلتفافا وتعتيمًا على اثر كلام أمير المؤمنين علیه السلام على البصري مصدره الحسن البصري نفسه، ثم من سارَ على قوله، لأنّنا إذا اعتمدنا على أسماء الأشخاص الذين ذكرهم البصري في نتاجاته الأدبية، وقلنا إنّهم هم حصراً من تأثّر بهم؛ فإنَّ أمير المؤمنين علیه السلام سوف لم يكن له أيُّ نصيب يذكر بينهم في هذا الشأن، كون البصري لم يذكر إسمَ الإمام علیه السلام في نتاجاتهِ ولا مرّةً واحدة - بحسب قراءة الباحث - وهذا إجحاف كبير بحقِّ الإمام من قبل البصري، الذي اعتمد اعتمادًا مهيبًا على كلام الإمام علیه السلام، فكان يغترف منه اغترافًا ويسكبه سكبًا في جميع نتاجاته دون استثناء.

وفي بعض الأحيان عندما يُطلب من البصري ذكر صاحب الحديث أو الموعظة عمَّن هما؟ فيجيب: «وما تصنع بعمّن؟ أمّا أنت فقد نالتك موعظته، وقامت عليك حُجّته»(2).

وهنا لابدّ من وقفة مع هذهِ الرّواية، إذ نستنتج منها: إنّ هذا السائل علم أو شكّ، أو لاح له أنّ ما تحدث بهِ البصري هو ليس له، وإلاّ لماذا سأله عن مُبدع ذلك الحديث.

ونستنتج من هذا أيضًا إنّ عائدية الحديث هذا هي لجهات ثلاث لا غير. أمّا

ص: 123


1- تأريخ الأدب العربي (العصر الإسلامي) 447
2- عيون الأخبار 2 / 137. وينظر: أمالي المرتضى 1 / 217. وينظر: وفيات الأعيان 2 / 70

الجهة الأولى فهي البصري نفسه، وهذا مردود، إذ لو كان الحديث الذي تحدّث به البصري هو له لأسرع إلى ذكر اسمه، دون تحرّج أو تأخير، لما في ذلك من قيمة وفضلٍ كبيرين.

أمّا الجهة الثانية فتكون متمثّلة بالرسول الأكرم صلی الله علیه وآله والخلفاء الثلاثة الراشدين الأوائل، ولو كان الحديث لهذهِ الجهة لذكرها البصري - مثلما فعل في مواطن كثيرة من نثره - على اعتبار إنّه لا يتحرّج من ذكر الرسول صلی الله علیه وآله عندما يتحدّث بحديثه، ولا من الخلفاء الثلاثة الأوائل. ونحن هنا لا نزعم أنّه لم يتأثر بهذهِ الجهة العظيمة، بل نتحرّی مَنْ هي الجهة التي يتحرّج بل وامتنع البصري من ذكر اسمها، مع أخذهِ عنها، ولماذا.

إذاً بقيت لنا جهة واحدة وهي عائدية الحديث، أو الموعظة لأمير المؤمنين علیه السلام، وهذا ما يتبنّاه الباحث، وعليه أدلة عدة منها:  الأول:

قول البصري السالف لمّا سأله أمير المؤمنين علیه السلام ما تصنع؟ فقال: «نكتب آثاركم لنحدِّثَ بها بعدكم».

الثاني:

إذاً باعتراف البصري كان يكتب آثار أمير المؤمنين علیه السلام، وفي الوقت نفسه كان البصري كاتبًا - مدة عطائه بتمامها - في ظلِّ الدولة الأموية، وهذه الدولة رافضة لكلِّ ما يتصل بأمير المؤمنين علیه السلام من كلام، ومنهج، وذرية، وعليه فالبصري لا يستطيع ذكر اسم الإمام، وذكره هذا يستوجب مدحه علیه السلام في معقل مناوئيه.

ص: 124

الثالث:

وهذا أهم الأدلّة، إذ تبيّن بعد عرض نتاجات البصري على كلام أمير المؤمنين علیه السلام أنّ هذه المواعظ هي له علیه السلام بشكل قطعي لا يقبل الطعن.

وهناك خبر طريفٌ عده كثيرُ من المهتمين بالبلاغة سببًا رئيسًا يقف خلف بلاغة الحسن البصري إذ «قالوا وكانت خيرة(1)أمه ربّما غابت فيبكي فتعطيه أمُّ سَلمَة ثديها تعلِّله بهِ إلى أن تجيء أمّه فيدرُّ ثديها فشربه، فيرون أنَّ تلك الحكمة والفصاحة من بركة ذلك»(2).

وفي نظر الباحث - وبدعم كامل من نتائج الدراسة - لم ينصف الشيخ البصري من جانب ثقافته وتأثرهِ من القدماء إلاّ الشريف المرتضى (ت 436 ه)، إذ قال: «وكان الحسن البصري بارع الفصاحة، بليغ المواعظ، كثيرَ العلم. وجميع كلامهِ في الوعظ وذم الدنيا أوجلُّه مأخوذ لفظًا ومعنًى، أو معنًى دون لفظ؛ من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام فهو القدوة والغاية»(3)وهذهِ شهادة نقدية ودليل ثاقب وثابت على تأثره بأمير المؤمنين علیه السلام.

ومن المحدثين الكاتب محمد أمين النواوي بقوله: «وهل كان الحسن البصري في زواجر وعظه، وبالغ منطقهِ إلاّ أثرًا من عليٍّ، وقطرة من محيط أدبه، ففُتِنَ النّاس بعبادته، وخلبَ البابهم بجمله، فكيف يكون الأستاذ

ص: 125


1- خيرة اسم ام الحسن البصري كانت خادمة لأمّ سلمة زوج النبي المصطفى صلی الله علیه وآله وسلم، ینظر: طبقات الفقهاء 91
2- المعارف 440 0 وينظر: طبقات الفقهاء 91
3- أمالي المرتضى 1 / 167

العليم والإمام الحكيم عليُّ بنُ أبي طالب»(1).

لم يجانب الصواب هذان الرأيان طرفة عين، غير أنهما تبقى تعوزهما الدراسة المقارنة بين الكلاميين حتى تثبتهما.

وإلى جانب هذه الآراء، هنالك من يقول: إنَّ مرجعية البصري الأدبية وتعليلها أمرٌ حيّرَ القدماء(2).

والباحث يقول: لا حيرة بعد هذه الدراسة، لأنّ الذي وصلنا من عطايا البصري النثرية يكفي للخروج بنتيجة مرضيّة وصريحة حول المنبع الأكبر الذي استقى منه ثقافته بطريقة لا تقبل الشكّ، ولكن لو وصلتنا آثارهُ كاملة لكان ذلك أفضل دون ريب، فقد ذُكِر أنّ لهُ كتباً عدّة(3)، ولكن بعدما ثقُل عليه المرض طلب من ولده عبد الله أن يجمعها فجمعها، ثمَّ أمر خادمه أن يسجر التنور، فأمره بها وأُحرقت غير صحيفة واحدة(4).

ص: 126


1- مصادر نهج البلاغة 1 / 69
2- ينظر: الخطابة العربية في عصرها الذهبي 362
3- ينظر: الطبقات الكبری 7 / 174
4- ينظر: م. ن 7 / 174 - 175، وينظر: سير أعلام النبلاء 4 / 584

المبحث الأوّل: في خطب الحسن

عاش الحسن البصري أغلب عطائه في العصر الأموي وهو عصرذهبي - مثلما هو معروف - للخطابة العربية، لأسباب عدّة، يمكن أن يكون على رأسها الدافع العقائدي، والدافع السياسي.

ماشى البصري عصره بتطورهِ الخطابي وبلغ فيه شأوًا رفيعًا، وأُشير إليه بالبنان. قال عنهُ الجاحظ «أخطب النَّاسِ صاحبُ العمامة السوداء بين أخصاص(1)البصرة، إذا شاء خطب، وإذا شاء سكت»(2).

وللخطب أنواع عدّة، غير إنّ البصري برز في الخطب الدينيّة منها: «إذ كان من أعلامها البارزين في القرن الأول الهجري»(3).

ص: 127


1- أخصاص: جمع خصّ هو بيت من الشجر أو القصب، وسُمِّيَ بذلك لما فيه من الخصاص وهي تفاريج. ينظر: لسان العرب: 7 / 26 مادة (خصص)
2- البيان والتبيين 1 / 320
3- النثر عند الحسن البصري 32

اعتمد الحسن البصري في خطبه الدينية على موضوعات طرقها أمير المؤمنين علیه السلام قبله برمتها كالتخويف من الموت، والزهد في الدنيا واليأس منها، والاستعداد لبيت الغربة والوحشة.. وأغلب خطبه تلك - إن لم تكن جميعها - كان لأثر الكلام العلوي حضورٌ مهيمنٌ عليها، حتى إنّنا نجد خطبًا طوالاً للبصري ما هي إلاّ تلفيقًا وجمعًا لخطب ومواعظ الإمام، فمن خطبة له علیه السلام حذر فيها من الدنيا، منها:

«مَنْ أَقَلَّ مِنْهَا اِسْتَکْثَرَ مِمَّا یُؤْمِنُهُ، وَمَنِ اِسْتَکْثَرَ مِنْهَا اِسْتَکْثَرَ مِمَّا یُوبِقُهُ»(1).

وقال علیه السلام في أخری:

«مَنْ سَاعَاهَا فَاتَتْهُ، وَمَنْ قَعَدَ عَنْهَا وَاتَتْهُ»(2).

فأمير المؤمنين علیه السلام يدعو إلى ترك الدنيا، لأنّ الحصول عليها لا يأتي بأن يقضي المرء عمره يلهث ورائها، لأنَّ من فعل هذا فاتته الدنيا وأجحف بحظِّه من الآخرة، وكأنّ الدنيا داء فكلما استكثر الإنسان منها فإنّه مستكثرٌ ممّا يهلكهُ والمقلُّ منها مستكثر مما يؤمنه.

نظر البصري إلى هذا المعنى واستهلَّ بهِ إحدی خطبه، فقال: « إنّ الدُنيا دارُ عملٍ من صحَبَها بالنّقص لها، والزَّهادةِ فيها سعدَ بها ونفعتهُ صحبَتُها، ومَنْ صحبها على الرَّغبة فيها، والمحبَّةِ لها شقيَ بها وأجحفَ بحظّه من الله عزَّ وجلّ»(3).

ص: 128


1- نهج البلاغة 189
2- م. ن 109
3- حلية الأولياء 2 / 140

فالبصري يری ما قاله الإمام علیه السلام، ويذهب أيضًا إلى الطريقة التي اعتمدها علیه السلام من أجل توصيل الفكرة، تلك الطريقة القائمة على الشرط ثم النتيجة:

فالشرط عند الإمام «من أقل منها» تكون النتيجة «استكثر مما يؤمنه».

عند البصري «من صحبها بالنقص منها» تكون النتيجة «سعد بها».

والبصري أيضًا لم يغفل المقارنة التي اعتمدها الإمام علیه السلام بين من أقل ومن استكثر من الدنيا والتي اعتمد الطباق فيها كقوله علیه السلام: «ساعاها - قعدَ عنها».

وقوله علیه السلام: «فاتته - واتته».

وقوله علیه السلام: «أقلَّ - استكثر».

وقوله علیه السلام: «يؤمنه - يوبقه».

فقال البصري: «الزهادة فيها - الرغبة فيها».

وقوله: «سعد - شقي».

والملاحظ أنّ البصري أكّدَ هذا المعنى بقوة، مرّة من خلال «إنَّ» التوكيدية، وأخری من خلال تكرار «الدنيا» - التي هي موطن الشاهد- إمّا بلفظها، وهذا ورد مرّةً واحدة، أو بالضمیر العائد علیها «صحبها، فیها، بها...» وهذا ورد ثمان مرات.

وبعد هذا قال البصري في الخطبة نفسها، واصفًا الدنيا: «فأمرُها صغیرٌ، ومتاعُها قلیلٌ، والفناءُ علیها مکتوبٌ...»(1).

وهذا كقول أمير المؤمنين علیه السلام في خطابه للدنیا:

يا دُنیا یا دُنیا، إلیكَ عنِّي... قَدْ طلَّقتُكِ ثلاثًا لا رَجْعَةَ فِیهَا! فَعَیْشُكِ قصیر،

ص: 129


1- م. ن 2 / 140

وخَطَرُكِ یَسیرْ، وأملُكِ حقیر»(1).

وليسَ المعنى وحده شقَّ طريقهُ إلى خطاب البصري، بل حتى صياغة الجملة أو العبارة القائم على القصر تجده بيّنًا عنده كذلك:

فالإمام قال: «فعيشك قصير».

وعند البصري: «فأمرها صغير».

وقال الإمام: «وخطرك يسير».

وعند البصري: «ومتاعها قليل».

ثمّ اعتماد البصري على إسلوب الإخبار الذي أنتهجه الإمام علیه السلام، ولكن مما زاد في وقع عباراتهِ علیه السلام إنّها جاءت جميعها مسجوعة سجعًا محبَّبًا «قصیر، یسیر، حقير» وبألفاظٍ ذات دلالة واضحة على تصغير وتحقير الدنيا، في حين خلا كلام البصري من هذا الفن البديعي.

ولا زال البصري واصفًا الدنيا محذرًا منها في الخطبة نفسها، حتى قال: «فإنّها قد آذنتْ بزوالٍ، لا یدومُ نعیمُها، ولا یؤ مَنُ فجائِعها، یبلی جدیدُها، ویسقَمُ صحیحُهَا، ویفتقرُ غنیُّها میّالةٌ بأهلِها، لعّابَةٌ بهم علی کلِّ حالِ»(2).

فبداية كلامه لا يختلف عن اخبار الإمام علیه السلام عن الدنيا:

«وَقَدْ آذَنَتْ بِبَیْنِهَا، وَنَادَتْ بإنْقِطَاعِهَا، وَنَعَتْ نَفْسَهَا بالزَّوالِ»(3).

ص: 130


1- نهج البلاغة 563
2- حلية الأولياء 2 / 141
3- تحف العقول 211

فالجملة التحقيقية «قَدْ آذَنَتْ بِبَیْنِهَا» والتي من خلالها أکد الإمام علی أنّ الدنیا مصيرها الفراق فلم يغير البصري فيها شيئًا يذكر: «قد آذنت بزوال».

وباقي كلام البصري، فهو من خطبة أخری للإمام علیه السلام، منها قوله:

أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُحَذِّرُکُمُ اَلدُّنْیَا، فَإِنَّهَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ... لاَ تَدُومُ حَبْرَتُهَا، وَلاَ تُؤْمَنُ فَجْعَتُهَا. غَرَّارَةٌ ضَرَّارَةٌ، حَائِلَةٌ زَائِلَةٌ... أَکَّالَةٌ غَوَّالَةٌ»(1).

وإذا عرفنا أنّ «الحبرة» في قول الإمام معناها: النعمة، أو النعمة التامة(2)، فعليه أنَّ كلام البصري: «لا يدوم نعيمها، ولا يؤمن فجائعها»، بنصه عن كلام الإمام علیه السلام:

«لاَ تَدُومُ حَبْرَتُهَا، وَلاَ تُؤْمَنُ فَجْعَتُهَا».

ومثلما یری الباحث إستعمال الفعل المضارع «تؤمن» مع المؤنث «الفجیعة» أكثر دقة من استعمال «یؤمن» معها.

وفي كلام الإمام علیه السلام عن الدنيا وحقارتها نجده يستعمل صيغة المبالغة: «غرّارة، ضرّارة، أکّالة، قوّالة».

وما هذا إلاّ لإعطاء هذهِ المعاني بعدًا عميقًا، وتأكيدًا بالغًا. لم يغفل البصري هذا بل جنح إليه لما قال: «میّالة، ولعَّابة».

وأمّا قول البصري: «یبلی جدیدها». فهو ممّا وردَ نظیره في إحدی خطب الإمام علیه السلام:

ص: 131


1- نهج البلاغة 188
2- ينظر: لسان العرب 4 / 158 مادة (حَبَرَ)

«وَصَارَ جدیدُها رثَّا»(1).

والرَّثُّ هو البالي(2). أي صارَ جديدُها بالیًا، وعليه لا فرق تمامًا بين معنى كلام الإمام علیه السلام ونصِّ البصري.وهكذا سارَ البصري في خطبتهِ التي نحن بصددها تمامًا على النهج العلوي، حتی قال: «یا ابنَ آدَمَ أنتَ اليوم في دارٍ هيَ لافظتُكَ وكأنْ قد بدالكَ أمرُها فإلى الصرامِ ما يكونُ سريعًا، ثمَّ يفضي بأهلها إلى أشدِّ الأمورِ وأعظمها خطرًا»(3).

وهو هنا تحدث عن ثلاثةِ معانٍ حول الدنيا: كونها لافظتك، بمعنى أنّ الدنيا ستخرجك منها قسراً، وإنّ صرمها وانقطاعها سيكون سريعًا، ثمَّ حذرَ أبناء الدنيا من عقبةٍ كؤودا لا بُدّ من عدّة صالحة لإجتيازها.

وهذه المعاني، وبعض ألفاظها ما نجدها في جانب من خطبةٍ لأمير المؤمنين علیه السلام جاء فيها:

«..وَاِنْصَرَمَتِ اَلدُبنْیَا بِأَهْلِهَا، وَأَخْرَجَتْهُمْ مِنْ حِضْنِهَا، فَکَانَتْ کَیَوْمَ مَضَی، أو شَهْرٍ اِنْقَضَی، وَصَارَ جَدِیدُهَا رَثّاً، وَسَمِینُهَا غَثّاً، فِي مَوْقِفٍ ضَنْكِ اَلْمَقَامِ، وَأُمُورٍ مُشْتَبِهَةٍ عِظَامٍ»(4).

فقول البصري: «أنت اليوم في دار هي لافظتك» المحلّى بالكناية عن الموت هو من کنایة الإمام علیه السلام في هذا المعنی: «وَأَخْرَجَتْهُمْ مِنْ حِضْنِهَا».

ص: 132


1- نهج البلاغة 326
2- ينظر: لسان العرب 2 / 151 مادة (رَثثَ)
3- حلية الأولياء 2 / 141
4- نهج البلاغة 326

وقوله: «وكأن قد بدالك امرُها فإلى الصرام ما يكون سريعًا» المحلى بالإستعارة، لا يختلف عن استعارة الإمام في هذا المعنى «وَاِنْصَرَمَتِ اَلدُّنْیَا بِأَهْلِهَا».

أما تحذيره في آخر المقطع من مخاطر ما بعد الحياة، فنجدها في آخر كلام الإمام علیه السلام.

وفي الوقت الذي ذَمَّ أمير المؤمنين علیه السلام الدنيا، رغّبَ في أن تكون هي محطة تزود لمحطات لاحقة، فقال:

«فَتَزَوَّدُوا فِي أَیَّامِ اَلْفَنَاءِ لِأَیَّامِ اَلْفَنَءِ لِأَیَّامِ اَلْبَقَاءِ»(1).

کنی علیه السلام عن الدنیا ب «أیام لفناء» بإعتبار ما ستؤول إليه الدنيا هو الفناء الحتمي، وكنى ب «أیام البقاء» عن الآخرة كونها لا موت فيها، إمّا نعيمٌ دائم، أو جحيمٌ دائم.

تجنب البصري الكناية هذه وباشر المعنى مباشرةً، فقال في الخطبة نفسها:

«ولیکنْ سعْیُكَ في دُنیاكَ لأخرتِكَ»(2).

وكثیرًا ما كان الإمام يقارن بين الدين والدنيا، ويوصي الرعية بأن يكون همهم حفظ دينهم وإن أضرَّ ذلك في دنياهم، لأن صون دينهم حسنة لا تضرُّ معها سيئة، وتضييع الدين سيئة لا تنفع معها حسنة، فقال في إحدی خطبه:

«وَإِنَّهُ لاَ یَضُرُّکُمْ تَضْیِیعُ شَيْءٍ مِنْ دُنْیَاکُمْ بَعْدَ حِفْظِکُمْ قَائِمَةَ دِینِکُمْ. أَلاَ وَإِنَّهُ لاَ یَنْفَعُکُمْ بَعْدَ تَضْیِیعِ دِینِکُمْ شَيْءٌ حَافَظْتُمْ عَلَیْهِ مِنْ أَمْرِ دُنْیَاکُمْ»(3).

ص: 133


1- نهج البلاغة 254
2- حلية الأولياء 2 / 124
3- نهج البلاغة 287

اعتمد البصري هذا المعنى في أكثر من نصٍّ، فقال في الخطبة التي نحن بصددها: «ويحك يا ابنَ آدم ما يضرّكَ الذي أصابَكَ من شدائد الدُّنيا إذا خلصَ لك خیرُ الآخرة»(1).

وقال في نص آخر: «ابن آدم! إنّهُ لا يضرُّك ما زُوَيَ عنكَ من دُنياك إذا اُدّخرَ لكَ خیرُ آخِرَتِكَ، وما ينفعكُ خیرُ ما أصبت منها إذا حُرِمْتَ خیرَ آخرتِك»(2).

وهنا يبرز الأثر العلوي مهيمنًا على كُلِّ شيء من كلام البصري المذكور؛ فمقدمة كلام الإمام لم يغیّر فيها شيئًا سوی أنه استبدل لفظة «تضييع»ب «زُوِيَ». وحتى التضاد الذي نجده عند الإمام كقوله: «یضرّکم - ینفعکم» استعمله البصري نفسه، فقال: «یضرُّكَ - ینفعك».

أما النداء «یا بن آدم» الذي أفتتح بهِ البصري حديثه فهو جزءُ من إسلوب اعتاده، إذ عندما يأخذ المقطع من كلام أمير المؤمنين علیه السلام یقدم لهُ - في مواطن عدة - بهذهِ العبارة.

وعلى هذا النهج هي خطب الحسن البصري، حتى أنّك لا تكاد تجد خطبة واحدة من خطبه خالية من أثرٍ لكلام أمير المؤمنين علیه السلام، فمن خطبة لهُ نجده یأتي علی حکمة الإمام علي علیه السلام:

«افْعَلوا الخیرَ وَلا تَحْقِرُوا منه شيئًا، فإنَّ صغیرَهُ كَبیرٌ وَقَلِیلَهُ كثیرٌ»(3).

ص: 134


1- حلية الأولياء 2 / 143
2- آداب الحسن البصري 70
3- نهج البلاغة 629

فأمير المؤمنين علیه السلام وهو یُرغِّب بفعل الخير؛ فقد افتتح حكمته بفعل الأمر «افعل»، ثم نهى عن تحقير الخير بلا الناهية، مؤكدّاً على أنّ صغير الخير وإن قلَّ فهو كبير؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى ينمي الحسنات.

أخذ البصري هذهِ الحكمة، بعضًا منها بنصّه، والآخر بمعناه، وتوسَّعَ عليها، مؤکِّداً بما أکَّدَ الإمام، ناهیًّا عمّا نهی عنه الإمام، فقال: «فلا تَحْقِرَنَّ من الخیرِ شیئًا وإنْ هو صغر، فإنّكَ إذا رأیته سرَّكَ مکانَه، ولا تَحقِرَنَّ من الشرِّ شیئًا فإنّكَ إذا رأیته ساءَكَ مکانُه»(1).

فبداية كلامه: «فلا تحقرن من الخیر شیئا» تضمین محور لبدایة حکمة الإمام علیه السلام:

«افْعَلوا الخیرَ وَلا تَحْقِرُوا منه شیئًا».

وكلامهُ «ولا تحقرن من الشر شيئا... الخ» يمثل بؤرة التوسّع، أو البسط التي أجراها على كلام الإمام علیه السلام.

ثم قال البصري في الخطبة ذاتها: «فرحمَ اللهُ رجلاً كسبَ طيِّبًا، وأنفقَ قصدًا، وقدَّمَ فضلاً ليوم فقره وفاقته»(2).

وهذا الكلام يشبه إلى حدٍّ كبير في صياغتهِ، وأسلوبه، ومعناه فاتحةً لإحدی خطب أمير المؤمنين علیه السلام، جاء في بعضها:

«رَحِمَ اللهُ أمَرءًا.. قَدَّمَ خالصًا، وعَمَلَ صالًحا..»(3).

فمثلاً استعمل الإمام العبارة المسجوعة القصيرة «قَدَّمَ خالصًا..».

ص: 135


1- حلية الأولياء 2 / 143
2- م. ن 2 / 143
3- نهج البلاغة 105

وهكذا البصري أيضًا «قدّم فضلا».

ونجد البصري استعمل بعض ألفاظ الإمام بعينها، وبعضها حوّر في ثوبها، کقوله «کسبَ طیّبًا» فهو لا يختلف عن كلام الإمام علیه السلام «عمل صالًحا»، إذ جعل «کسب» بدلاً من «عمل»، و»طیبًا» بدلاً من «صالًحا».

وفي الخطبة نفسها يطالعنا أثر آخر لكلام أمير المؤمنين علیه السلام في قول البصري:

«أنتمْ تسوقونَ النّاسَ، والسَّاعةَ تسوقُكم»(1).

وما هذا إلاّ تحويرٌ شكليٌ لقول أمير المؤمنين علیه السلام:

«فإنَّ النَّاسَ أمَامَکُمْ، وإنَّ السَّاعَةَ تحْدوکُمْ»(2).

فبداية قول البصري فيه كناية عن الموت، بمعنى إنّ الناس ماتوا وهم الآن أمامكم. وهذا ما نجدهُ صراحة في الجملة الأولى عند الإمام علیه السلام «فإنَّ النَّاسَ أمَامَکُمْ»، وبما أنّه لا فرق بین «تحدوکم» و«تسوقکم». حيث يُقال: حدا الإبل أي ساقها(3)، فلا فرق تمامًا بين المقطعين الآخرين من النّصّين، إذ كلّ ما عمله البصري أبدل «تحدوکم»ب «تسوقکم».

وممّا تسجله الدراسة على الحسن البصري إنّهه كان يعمد إلى المقطع العلوي، فيقدم ويؤخر فيه من جهة، ثم يحوّر فيه شكلیًّا من جهة أخری، وأمثلة هذا کثیرة جدًّا، فمن خطبة لأمیر المؤمنین علیه السلام حذّرَ فیها من الغفلة وبغتة الموت، قال في بعضها:

ص: 136


1- حلية الأولياء 2 / 143
2- نهج البلاغة 280
3- ينظر: لسان العرب 14 / 168

«حَتَّی إِذَا کَشَفَ لَهُمْ عَنْ جَزَاءِ مَعْصِیَتِهِمْ، وَاِسْتَخْرَجَهُمْ مِنْ جَلاَبِیبِ غَفْلَتِهِمْ اِسْتَقْبَلُوا مُدْبِراً، وَاِسْتَدْبَرُوا مُقْبِلاً، فَلَمْ یَنْتَفِعُوا بِمَا أَدْرَکُوا مِنْ طَلِبَتِهِمْ، وَلاَ بِمَا قَضَوْ مِنْ وَطَرِهِمْ. إِنِّي أُحَذِّرُکُمْ، وَنَفْسِي، هَذِهِ اَلْمَنْزِلَةَ. فَلْیَنْتَفِعِ اِمْرُؤٌ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّمَا اَلْبَصِیرُ مَنْ سَمِعَ فَتَفَکَّرَ، وَنَظَرَ فَأَبْصَرَ، وَاِنْتَفَعَ بِالْعِبَرِ»(1).

أخذ البصري بعض هذا مفتتحاً بهِ إحدی خطبه، فقال: «رحمَ اللهُ أمرءًا عرف ثمَّ صَبَرَ، ثمَّ أبصرَ فبصر، فإنَّ أقوامًا عرفوا فانتزَعَ الجزعُ أبصارهم، فلا هم أدركوا ما طلبوا، ولا هم رجعْوا إلى ما تركوا، اتّقوا هذه الأهواءَ المُضِلَّةَ البعيدةَ من اللهِ»(2).

فأول کلام البصري هو مما جاء في نهایة کلام الإمام علیه السلام، إذ کان الأثر العلوي فیه جلیًّا سواء من ناحیة المعنی الذي أکّدَ وحثّ فيه الإنسان على التفكر والتدبير في ما يسمعه، ثم النظر بالعين والتبصر بالقلب. أو من ناحية صياغة الجملة، فتجد الإمام علیه السلام اعتمد على جملٍ قصيرة مسجوعة، وهكذا البصري.

حتى أنّه لم يغیّر في قول الإمام علیه السلام «ونظر فأبصر» إلاّ شکلیًّا فقط حين قال: «ثم أبصر فبصر» أمّا ألفاظ الإمام «سمع، تفكر، نظر، أبصر، انتفع» فحامَ حولها البصري بألفاظهِ «عرف، صبر، أبصر، بصر».

أمّا قوله «فإنّ أقوامًا عرفوا..» بمعنى تبیّن لهم ما كانوا فيه، وما قدمّوه من عمل، فكان ينظر فيه إلى قول الإمام المذكور «حتى إذا كشفَ لهم عن جزاء معصيتهم..».

ص: 137


1- نهج البلاغة 246
2- حلية الأولياء 2 / 146

ولكن هؤلاء القوم جاءت معرفتهم متأخرة، فهي لم تغنِ عنهم شيئًا، وهي في وقتٍ مثلما عبر الإمام علیه السلام عن هذا المعنى بأسلوب العكس الجميل:

«استقبلوا مدبرًا، واستدبروا مُقبلاً».

والمعنی: «استقبلوا أمرا كان في ظنهم واعتقادهم مدبرًا عنهم، وهو الشقاء والعذاب... وتركوا وراء ظهورهم ما كانوا خَوِّلُوه من الأولاد والأموال والنَّعم»(1).

وبما إنهم هكذا، فكانت عاقبتهم مثلما قال علیه السلام:

«فَلَمْ یَنْتَفِعُوا بِمَا أَدْرَکُوا مِنْ طَلِبَتِهِمْ، وَلاَ بِمَا قَضَوْا مِنْ وَطَرِهِمْ».

إذ تجد الإمام علیه السلام هنا يصوغ هاتين الجملتين بصورة فيها طولٌ على العكس من لاحقاتها، وكان البصري متّکئًا على لفظ ومعنى وصياغة هذا المقطع بقوله: «فلا هم أدركوا ما طلبوا، ولا هم رجعوا إلى ما تركوا».

وممّا يؤخذ عليهِ إنّه لم ينقل ما يجده عند الإمام من ألفاظ، وفنون، وصور، ومعانٍ إلى علاقة جديدة أو توظيف مغاير، بل يتكىء تمامًا سويةً على اللفظ والمعنى والصياغة.

ومثلما افتتح البصري خطبته بأثر علوي عاد وختمها بكلام الإمام علیه السلام:

«وَاعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ لَمْ یُعَنْ عَلَی نَفْسِهِ حَتَّی یَکُونَ لَهُ مِنْهَا وَاعِظٌ وَزَاجِرٌ، لَمْ یَکُنْ لَهُ مِنْ غَیْرِهَا لاَ زَاجِرٌ وَلاَ وَاعِظٌ»(2).

ص: 138


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9 / 109
2- نهج البلاغة 135

فأمير المؤمنين علیه السلام يأمر ثمّ يؤكد على أنّ أي موعظة خارجية بدون استعداد وتقبل داخلي لا تؤدي دورها في إحداث التغيير المرجو.

نظر البصري إلى الشق الأول من هذا الكلام، فقال: «إنَّ العبدَ لا يزالُ بخیرٍ ما كان لهُ واعظٌ من نفسهِ، وكانت المحاسبة من همِّه»(1).

ولو أمعنّا النَّظرَ أكثر في قول البصري «كان لهُ واعظٌ من نفسهِ» فنجده لا يختلف عمّا ورَد في مقطع الإمام علیه السلام: «یَکُونَ لَهُ مِنْهَا وَاعِظٌ وَزَاجِرٌ»، فأستبدل الفعل المضارع الناقص «یکون»ب «کانَ». ولعل «یکون» آثرُ استعملاً من «کان» لدلالتهِ علی الإستمراریة، والنفس تحتاج إلى الوعظ بإستمرارية متواصلة.

أمّا «منها» فالهاء هنا عائدة على النفس بمعنى من نفسه، وهذا ما ذكره البصري صراحة (من نفسه).

ونجد الإمام علیه السلام لم يكتفِ بالوعظ، بل أردفهُ بالزجر، لأنّ من النفوس لا يكفيها الوعظ، بل هي بحاجة إلى كبح جماحها وزجرها، ولكنَّ البصري أهمل هذا مكتفيا بالوعظ.

أغلب خطب البصري من هذا النوع، حيث يجعل منشئُها هيكلیّتَها من مقدمة أو استهلال، ووسط، ثم الخاتمة من كلام أمير المؤمنين علیه السلام، وهذا إن دلَّ على شيء فأول ما يدلّ على الرغبة والغرام بهذا الكلام حتى جعلاه بهِ يفتتح، وبه يعرض، وبه يختتم.

ومن خطبه الأخری التي بُنِیَت علی هذا البناء قوله: «یا ابن آدم: بع دنياكَ بآخرتك تربحهُما جميعًا، ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهُما جميعًا»(2).

ص: 139


1- حلية الأولياء 2 / 146
2- جمهرة خطب العرب 2 / 485

فنهيه عن بيع الآخرة بالدنيا، تضمين حرفي لما وردَ في وصية الإمام علي لولدهِ الحسن علیهم السلام:

«فَأَصْلِحْ مَثْوَاكَ، وَلاَ تَبِعْ آخِرَتَكَ بِدُنْیَاكَ»(1).

وقبل أن يضمّن البصري عبارة الإمام علیه السلام التي استعار فيها لفظة البيع للآخرة، كان قد ذكر هذا المعنى، بمعنى أنّهُ كرر المعنى العلوي مرتين: الأولى عن طريق العكس، والثانية بالنص وهذا التكرار لترسيخ معنًى واحد، هو تفضيل الآخرة على الدنيا.

وبعد هذه المقدمّة انتقل البصري إلى موعظة أخری دعا فيها إلى منافسة أهل الخیر في الخیر، والابتعاد عن أهل الشر، فقال: «يا بن آدم إذا رأيتَّ النَّاسَ في الخير فنافسْهم فيه، وإذا رأيتهُم في الشَّرِّ فلا تغبطهم عليه»(2).

فكلامه هذا يشبه إلى حدٍّ كبير بعض ما جاء في إحدی خطب الإمام علیه السلام:

«فَإِذَا رَأَیْتُمْ خَیْراً فَأَعِینُوا عَلَیْهِ، وَإِذَا رَأَیْتُمْ شَرّاً فَاذْهَبُوا عَنْهُ»(3).

فالمعنى هو المعنى بين النصين، والألفاظ نفسها، وحتى التي غیّر فيها البصري فإنّها بقيت تحوم حول دلالة الألفاظ في نص الإمام علیه السلام:

فقول البصري: «فنافسهم فيهِ» من قول الإمام:

«فأعينوا عليه».

من قول الإمام: «فلا تغبطهم عليه». من قول الإمام:

ص: 140


1- نهج البلاغة 458
2- جمهرة خطب العرب 2 / 485
3- نهج البلاغة 294

«فاذهبوا عنه».

أمّا صياغة الموعظة والتي ابتدأها الإمام ب «إذا» الشرطية - وهي ظرف لما يستقبل من الزمان - وما تلاها من فعل الشرط ومفعوله «رأیتم خیرًا»، ثم جواب الشرط المقترن بالفاء «فأعینوا علیه»، ثم الجملة التي جاءت بعد هذهِ والتي كانت على غرارها تمامًا، ثم ما أختتم بهِ الجملتين من جار ومجرور «علیه، فیه»، فوجد البصري في هذا كلِّه أسوة حسنة، فسار عليه خطوة خطوة.

والذي يُلحظ على خطب البصري تعرّضه في الواحدةِ منها إلى موضوعات وعظية عدّة، يربط بين كلِّ موضوع وآخر بعبارة يا أبن آدم، أو يا فلان، أو غیرهما، وهذا بدورهِ أدّی إلى غياب الإنسجام والسبك عن خطبه، ومردّ هذا - مثلما يری الباحث وستكشفه الدراسة - إلى أنّ البصري يجمع في الخطبة الواحدة حكمًا ومقاطع من خطب علوية عدّة، فبعد أن انتهى من حث الناس على المنافسة في أعمال الخير انتقل إلى موعظةٍ أخری، فقال: «أمَّتكم آخر الأمم، وأنتم آخر أمَّتكم، وقد أُسرِعَ بخياركم، فماذا تنتظرون»(1).

فالبصري بهذا يشايع أمير المؤمنين علیه السلام في هذا المعنى الذي أورده بطريقة جميلة، حيث قال:

«أَیْنَ أَخْیَارُکُمْ وَصُلَحَاؤُکُمْ! وَأَیْنَ أَحْرَارُکُمْ وَسُمَحَاؤُکُمْ! وَأَیْنَ اَلْمُتَوَرِّعُونَ فِي مَکَاسِبِهِمْ، وَاَلْمُتَنَزِّهُونَ فِي مَذَاهِبِهِمْ! أَلَیْسَ قَدْ ظَعَنُوا جَمِیعاً عَنْ هَذِهِ اَلدُّنْیَا اَلدَّنِیَّةِ»(2).

فقول البصري: «وقد أُسرِعَ بخیارکم» یری فیه الباحث اختزالاً لکلام

ص: 141


1- جمهرة خطب العرب 2 / 485
2- نهج البلاغة 215 - 216

الإمام، إلاّ أنّ الإمام لم يصرح مباشرة بأنّ الأخيار ظعنوا أو أُسْرِع بهم، بل اعتمد على الإستفهام المكرر في ثلاث مرات متتالية، وذلك حتى يلفت انتباه السامع إلى ما أجاب بهِ «أليس قد ظعنوا جميعًا»، أو لأنّهُ أراد أن تكون الإجابة من المخاطب نفسهِ، فعلی الرغم من إن الإستفهام يستعمل «لطلب الفهم لما ليس مفهوما، أو لما هو غامض أو لطلب حصول الصورة الذهنية بواسطة أدوات محددة، ولكن الإستعمال الخاص للإستفهام يفرغ هذه الأدوات من دلالة الإستفهام إلى دلالات بديلة يعكسها السياق الذي ترد فيه»(1). ومثالها كلام الإمام المذكور، فهو يعلم أين ذهب الأخيار والصلحاء، ويعلم أنّ الناس أو من خاطبهم يعلمون بذلك، لكنّه أرادَ منهم أن لا يتناسوا هذه العاقبة الحتمية، وتكون نصب أعينهم. ولذا فإنّ كلامَ البصري لم يكن له هذا الجذب والشد الذي وجدناه في هذا المقطع من خطبة أمير المؤمنين علیه السلام.

ومن شدّة تأثر البصري بهذا المعنى عادَ وكررّ - في الخطبة نفسها - قوله السابق بنصّه مع زيادة فيها أثر علوي أيضًا، فقال: «وَرَبِّ الكعبةِ قد أُسْرِعَ بخياركم وأنتمُ كُلِ يومٍ تَرْذلون فماذا تنتظرون؟»(2).

فبعد أن تحدَّثَ البصري عن ذهاب الأخيار، مؤكِّدًا على هذا المعنى بتكرارهِ، واستعمال القسم، وإيرادهِ بتركيب يدلّ على التحقيق «قد أسرع» عاد وذمِّ من خاطبهم «وأنتم کُلّ یومٍ ترذلون»، بمعنى تصيرون أرذال، والرّذيل هو الخسيس، وقيل هو الدُّون من النّاس(3).

ص: 142


1- جدلية الإفراد والتركيب 194
2- جمهرة خطب العرب 2 / 486
3- ينظر: لسان العرب 11 / 280 مادة (رذل)

وهذا ما نجدهُ تمامًا في خطبة أمير المؤمنين علیه السلام السابقة، فعندما تحدّث علیه السلام عن ذهاب الأخيار والصلحاء ذم من خاطبهم بقوله:

«وَهَلْ خُلِقْتُمْ إِلاَّ فِي حُثَالَةٍ لاَ تَلْتَقِي بِذَمِّهمُ اَلشَّفَتَانِ، اِسْتِصْغَاراً لِقَدْرِهِمْ، وَذَهَاباً عَنْ ذِکْرِهِمْ!»(1).

ولكنّ الإمام ومن شدّة توجعه من القوم أكّدَ ذمَّهم أكثر وبطرق مختلفة، فنجده استعمل اللفظ الدال على الذم ک»حُثالة» وهي الرديء من كُلِّ شيء(2).

واستعمل التعبير الجميل الدال على اقوی درجات الذم وأبلغها «تَلْتَقِي إِلاَّ بِذَمِّهِمُ اَلشَّفَتَانِ» بمعنی: «ما بقيتم إلاّ في أوغادِ النّاس وأراذلهم.. يأنف الإنسان أن يذمَّهم، ولا يطبق إحدی الشّفتین منه علی الأخری ليتكلم عنهم «استصغارًا لقدرهم» أي تر ّ فعاأي ترفّعا «عن ذکرهم «واحتقارًا لهم»(3). ومن باب تأكيد الذم أيضًا قدّم علیه السلام «بذمّهم» وهو يستحق التأخير على آالشفتان» الذي يستحقّ التقديم، لأنّه فاعل «تلتقي»، بينما اختزل البصري هذا المعنى بتعبيرهِ السالف الذي خلا منه جمالية تذكر سوی الإشتراك في معنی الذم.

وممّا كان بادیًا على كلام أمير المؤمنين علیه السلام التأوه والحسرة الشديدان على قومه، كونهم لم يمتثلوا أوامره وبخاصةٍ مواعظه، وكفى بها شأنًا أن يسميها هو صائبة وشافية، فقال في خطبته المسماة بالغرّاء:

«فَیَا لَها أَمْثَالاً صَائِبَةً، وَمَوَاعِظَ شَافِیَةً، لَوْ صَادَفَتْ قُلُوباً زَاکِیَةً، وَأَسْمَاعاً

ص: 143


1- نهج البلاغة 216
2- ينظر: لسان العرب 11 / 142 مادة (حثل)
3- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة 8 / 233

وَاعِیَةً، وَآرَاءً عَازِمَةً، وَألْبَاباً حَازِمَةً»(1).

ومثل هذا نجده عند البصري، فعندما يسوق النصائح والعظات، تراهُ معتّزًا بها معظمًّا إیاها، وفي الوقت نفسه كان متأوِّهَا، ومتشكیًّا من عدم سیر الناس علی ما یقول، فقال في الخطبة التي هي محل الشاهد: «فيا لها موعظةً لو وافقتْ من القلوبِ حیاة»(2). فهوَ لم يغیّر في كلام الإمام علیه السلام إلاّ في بعض المبنی، فقوله: «فيالها موعظة» من قول الإمام:

«فيالها أمثالاً.. ومواعظ».

وقوله: «ولو وافقت من القلوب» من قول الإمام:

«لو صادفت قلوبًا».

ومن أجل أن تكون المواعظ شافية، وصائبة نجد أمير المؤمنين علیه السلام أشرك - وهو العارف بذلك - أكثر من حاسةٍ وعضو، فيريد رأیًا عازمًا، ولُبًّا حازمًا، وسمعًا واعیًا، وقلبًا زاكیًا. في حين أنّ البصري اكتفى من هذا بالقلب، ولم يشرك سواه في عملية الوعظ، إلاّ أنّه أكّد عليه وذلك لمّا قدمّه وهو يستحق التأخير.

ومن كلام أمير المؤمنين علیه السلام الذي نجده حاضرًا في الخطبة البصرية هذهِ قوله في وصیّةٍ لولدهِ محمّد بن الحنفية علیه السلام لما أعطاه الرّایة یوم الجمل: «.. تِدْ في الأرْضِ قَدَمَك»(3).

ص: 144


1- نهج البلاغة 115
2- جمهرة خطب العرب 2 / 485
3- نهج البلاغة 35

ضمّن البصري هذا المقطع، وبطريقته التي باتت ذائعة، إذ قدّمَ له بعبارة يا يا ابن آدم، فقال: «یا ابن آدم طُأ الأرضَ بقدمكَ»(1).

فلم يغیّر البصري هنا سوی لفظةٍ واحدة، إذ ابدل فعل الأمربفعل الأمر «تد» بفعل الأمر «طأ»، ورفع حرف الجر من الأرض وأدخله على القدم.

یری الباحث أنّ استبدال البصري للفعل المذكور كان في محلّهِ، لأنّ الإمام علیه السلام عندما أوصى ولده كان في ساحة حرب، وهذا يتط ّ لب منه فعلاً لهُ دلالة علی الثَّبات والعزيمة، والإصرار فأستعمل الأمر «تد» وهو من وتَّدَ، يقال: «وتَّدَ فلان رِجلَه في الأرضِ إذا ثبَّتها»(2).

بينما البصري حينما غیّر - وهذا قليل جدًا - وظيفة هذا المقطع إلى غرض الوعظ والتذكير بالموت، غیّر معه الفعل، وهذا التغيير كانت له المقدرة على تغير سياق الجملة؛ فتحول المعنى من الثبات والعزيمة في ميدان الحرب إلى التذكير بما سيؤول لهُ مصير الإنسان، وكأنّه أراد أن يقول: طأ أيها الماشي الأرضَ بقدمك، ولكن تذكّر بأنّها ستكون قبرك قريبًا.

وللبصري خطبةً أخر خطب بها أمام عمر بن هبيرة(3)، قسّمها على خمسة مقاطع، كلُّ مقطع يبدأ بعبارة «يا عمر بن هبيرة»، وكانَ تعالق واضح بين هذهِ المقاطع وبين كلام أمير المؤمنين علیه السلام. قال في أولها: «يا عمر بن هبيرة يوشِكُ أنْ ينزلَ بَك ملكٌ من ملائكةِ الله تعالى فظٌّ غليظٌ لا يعصي اللهَ ما أمرَه، فيخرجُكَ من

ص: 145


1- جمهرة خطب العرب 2 / 486
2- لسن العرب 3 / 444 مادة (وتد)
3- هو عمر بن هبيرة بن معاوية الفزاري، جُمعَت له ولاية العراق سنة 103 ه إبان خلافة يزيد بن عبد الملك، ثم عُزِلَ بخالد القسري. ت 107 ه تقريبًا. ينظر: سير أعلام النبلاء 4 / 562

سَعَةِ قصِرك إلى ضيقِ قبرك»(1).

حذّر البصري الوالي من سرعة أو بغتة نزول ملك الموت علیه السلام فينقله قسرًا «من سعة قصرِهِ» وهو كناية عن النّعيم، وغضارة العيش، وكامل الحرية على الحركة إلی «ضیق قبرك» ومعناه عكس الأول تمامًا.

ومن يمعن النظر في مقابلة البصري هذهِ يجد ربطًا وثيقًا بينها وبين ما جاء في إحدی خطب الإمام علیه السلام:

«اِسْتَبْدَلُوا بِظَهْرِ اَلْأَرْضِ بَطْناً، وَبِالسَّعَةِ ضِیقاً، وَبِالْأَهْلِ غُرْبَةً، وَبِالنُّورِ ظُلْمَةً»(2).

فکلام الإمام علیه السلام: «استبدلوا.. بالسعة ضيقًا» كان مرجعية خصبة لقول البصري: «فيخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك».

ولکن «السّعة» في كلام الإمام علیه السلام لها من الدلالة أوسع وأبعد من «السّعة» عند البصري، كون البصري عرفها بالإضافة وجعلها مختصة بسعة القصر «سعة قصرك».

أمّا الضيق، فالمقصود بهِ القبر عند الطرفين، غير أن أمير المؤمنين علیه السلام لم یذکر القبر بإسمه الصريح، بل استعاضَ عنها بكنايات، لأن الجميع «قد أجمع على أنّ الكناية أبلغ من الإفصاح، والتعريض أوقع من التصريح»(3) فجاءت کنایاته علیه السلام جمیلة ومؤثرة: «بِظَهْرِ اَلْأَرْضِ بَطْناً، وَبِالْأَهْلِ غَرْبَةً، وَبِالنُّورِ ظُلْمَةَ» وهذه التعابیر

ص: 146


1- حلية الأولياء 2 / 149
2- نهج البلاغة 191
3- دلائل الإعجاز 53

تبیّن بوضوح أنّ الإمام كانَ يقصد الإنتقال من عالم الدنيا إلى عالم البرزخ، وتعطي صورة واضحة ومكبرة عن وحشة تلك الدار التي لا مفرَّ منها، بما لها - تلك التعابير - من دلالة واسعة على إحداث هزّة من الحزن، والتوجّس لدی المتلقي.

وبعد ذلك قال البصري: «يا عمر بن هبيرة إن تتَّقِ اللهَ يعصمْك من يزيد بن عبد الملك، ولا يعصمُكَ يزيد عبد الملك من اللهِ عزَ و جلَّ»(1).

والباحث هنا يذهب إلى ما ذهب إليه ابن أبي الحديد، حين رأی إنّ هذا الكلام أخذه البصري مما ورد في عهد أمير المؤمنين علیه السلام لمحمد بن أبي بكر:

«وَلاَ تُسْخِطِ اَللهَ بِرِضَا أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، فَإِنَّ فِي اَللهِ خَلَفاً مِنْ غَیْرِهِ، ولیسَ مِنَ اللهِ خَلَفٌ في غیرهِ»(2).

فالإمام علیه السلام ینهی جازمًا عن تفضيل رضى المخلوق على سخط الخلاق، مؤكِّدًا على أنّ الله هو الكافي من كلِّ شي ٍ ء، ولا يكفي من الله شيء، وفي هذا برهان دقيق على وجوب الإمتثال لأوامر الله تعالى، إذ «کُلّما کانَ في الله خَلَفُ عن غيره، وليسَ في غيرهِ خلفٌ منه، فالواجب اتِّباع رضاه وأن لا يُسخط برضا غيره»(3).

ومن شدّة تأثر البصري بهذا المعنى عادَ وكرر - في الخطبة نفسها - ما ذكره مع تغيير طفيف، فقال: «يا عمر بنَ هبيرة! إن تك مع الله تعالى في طاعته كفاك بائقة يزيد بن عبد الملك، وإن تك مع يزيد بن عبد الملك على معاصي الله وكلك الله إليه»(4).

ص: 147


1- حلية الأولياء 2 / 149
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 15 / 114
3- شرح نهج البلاغة لابن ميثم 4 / 238
4- حلية الأولياء 2 / 150

والتكرار بهذه الطريقة لم يكن في مصلحة النص والأديب، لأنّه خالٍ من الجدّة والطرافة، قال الخطابي (ت 388 ه): «وأمّا ما عابوه من التكرار فإنَّ تكرار الكلام على ضربين: أحدهما مذموم وهو ما كانَ مُستغنًى عنه، غير مُستفاد بهِ زيادة معنى لم يستفيدوه بالكلام الأوّل؛ لأنّه حينئذٍ يكون فضلاً من القولِ ولغوا، وليس في القرآن شيءٌ من هذا النوع»(1).

ثمّ لو أمعنّا النّظر في قول البصري في المقطع الرابع: «يا عمر بن هبيرة لا تأمن أن ينظر الله إليك على أقبح ما تعمل في طاعة يزيد بن عبد الملك نظرة مقت، فيغلق بها بابَ المغفرةِ دونَكَ»(2).

لوجدناه ينهل من حكمة أمير المؤمنين علیه السلام:

«اِحْذَرْ أَنْ یَرَاكَ اَللهُ عِنْدَ مَعْصِیَتِهِ، وَیَفْقِدَكَ عِنْدَ طَاعَتِهِ فَتَکُونَ مِنَ اَلْخَاسِرِینَ، وَإِذَا قَوِیتَ فَاقْوَ عَلی طَاعَةِ اَللهَّ، وَإِذَا ضَعُفْتَ فَاضْعُفْ عَنْمَعْصِیَةِ اَللهَّ»(3).

فالمعنى واحد بين النّصين وهو تحذير المرء ونهيه من أن يراه الله في العاصين ولا يجده مع المطيعين.

ومثلما ابتدأ الإمام حكمته بإسلوب الإنشاء آمرًا «احذر» ابتدأ البصري بهذا الإسلوب ناهیًا «لا تأمن» والمعنى واحد. وأمّا ما ورد بعد الأمر عند الإمام: «أن يراك الله» فقد غيَّر فيه البصري طفيفًا، بل أقلّ من القليل، لما قال: «أنْ ینظرَ اللهُ إلیك».

والذّي لم يلتزم بهذا الوعظ، فقد حذّره الإمام «فتکون من الخاسرین»،

ص: 148


1- بيان إعجاز القرآن 52
2- حلية الأولياء 2 / 150
3- نهج البلاغة 623

والبصري لم يبرح سائراً على فقرات الحكمة العلوية، لمّا حذر والیَه بمثل هذا:

«فيغلق بها باب المغفرة دونك».

لقد رأينا كيف كان يجمع البصري في نصِّه الواحد عدّة آثارٍ علویّة، إذ في المقطع الأول نجدُ أثرًا لخطبةً، وفي الثاني نجد أثرًا لرسالة، وفي الثالث لحكمة، وعلى الرغم من كون هذا الأثر العلوي لهُ قوةٌومقدرة على إثراء كلام البصري على صعيدي الشكل والمضمون، إلاّ أنّ البصري - ومثلما يری الباحث - بهذهِ الطريقة عرّضَ خطبَهُ ورسائلَه - معظمها - إلى عدم الإنسجام والتلاحم بين عناصرها الرئيسة، لأنَّ المقطع الأول - وإنْ كانت جميعها وعظية وإنْ كانت المواعظ يصلح بعضها مع بعضها الآخر - لا يرتبط بالثاني، والثاني لا يرتبط بالثالث وهكذا. ولذا حاول التخلّص من هذهِ الفجوات التي تحدث بين كُلِّ مقطع وآخر من المقاطع التي ينتقيها من كلام أمير المؤمنين علیه السلام بتكرار بعض العبارات - كتكرار (يا عمر بن هبيرة) هنا - لتكون هي الرابط والموصل بين أجزاء الخطبة الرئيسة.

وتجدر الإشارة إلى أن هذه الميزة في نثر البصري بعامة قد عُرفت عنه، قال إحسان النص «ومن مظاهر إسلوبه... عدم الربط بين الفقرات فتبدو كلّ فقرة موعظة مستقلة بذاتها»(1). والأهم هنا إن عدم الربط هذا عائد إلى السبب المُبَيَّن قبل قليل.

والغالبية الساحقة من خطب ورسائل البصري التي تطول سجَّلت الدّراسة عليها هذه الطريقة في البناء، وذلك الأثر من الإمام علیه السلام.

فمن خطبة أخری له إبتدأها قائلاً: «رحِمَ اللهُ رجلاً خلا بكتابِ اللهِ، فعرضَ

ص: 149


1- الخطابة العربية في عصرها الذهبي 364

عليهِ نفسه، فإنْ وافقه حَمِدَ رَبَّه، وسأله الزِّيادةَ من فضلهِ، وإنْ خالفه أعتبَ وأنابَ، وراجعَ من قريبٍ»(1).

وهذا المعنى من المعاني الشائعة، غیرَ أنّ البصري جمع في خطبته هذهِ طريقة ومعنى وبعض ألفاظٍ وردت في خطبة دعا فيها أمير المؤمنين علیه السلام للإحتكام للقرآن، فقال:

«وأعَرِضٌوا ما أشْکَلَ علیْکُم علی القُرآنِ، فَما عَرّفَهُ القُرآنُ فالزَموهُ، وَما أنکَرَهُ فرُدّوه»(2).

ومعنى قوله علیه السلام - بحسب فهم الباحث - : «فما عرّفه القرآن». أي ما شهد له القرآن بأنّه عملٌ معروف، وقولهُ: «وما أنکره» أي ما شهد علیه القرآن بأنه عملٌ منكر.

والمعنى واحدٌ بين نصِّ الإمام ونصِّ البصري قائمٌ على الرجوع إلى كتاب الله الكريم وجعله فيصلاً وحكمًا، فإن طابق العملُ الأمرَ القرآني، فالإلتزام بذلك العمل والإزدياد منهُ خیرٌ، وإن خالفَ العملُ القرآن، فإنكار ذلك العمل خير.

ومن الفوارق بين النَّصين: كان موجَّ ً ها للجماعة:

«وأعَرِضٌوا ما أشْکَلَ علیْکُم القُرآن».

وهذا بدورهِ وسَّع دلالة الكلام، ومما زادَ في وسعها ورود «ما» بعد فعل الأمر، بمعنى اعرضوا جميع المشاكل على القرآن المجيد سواء التي تخصَّ الفرد، أو التي بينه وبين محيطه.

ص: 150


1- البيان والتبيين 3 / 69
2- تأريخ الطبري 3 / 494

وعلى الرغم من إنّ البصري استعمل هذه الجملة بطريقة واضحة «فعرض علیه نفسه»، إذ أبدل فعل الأمر «اعرضوا» بالماضي «عرض»، وأبدل «علی الله»ب «عليه «ولا فرق مطلقًا - هنا - بين شبه الجملة عند الطرفين، لأن الضمير «الهاء» في كلام البصري عائد على لفظ الجلالة فيكون كلامه «علی الله». ومع هذا نجد في هذا التبديل قد ضیّق البصري الدلالة وحدَّ من سلطة القرآن اللامتناهية - طبعًا في هذا النص - عندما:

1 - حوَّلَ الخطاب من صيغة الجمع إلى صيغة المفرد، من «اعرضوا» إلی «اعرض».

2 - عرَّف المعروض على القرآن، وحدّده بقوله: «نفسه». بینما نجد الإمام علیه السلام لم يحدد شيئًا معينًا يُعرضُ على القرآن، بل - مثلما سلف - استعمل لفظة «ما» وهذه اللفظة بنكرتها تبيَّن بعض ما للقرآن من سلطة، وأنّهُ هو القادرُ على حل جميع المشاكل خارج حدود الزمان، والمكان، والأشخاص.

وبعد هذا سينتقل البصري في خطبته المذكورة إلى موعظةٍ أخری، وکأنّ هذهِ الموعظة بداية خطبة جديدة، وقد أدرك وهو بذلك لا بُدَّ من إيجاد رابط بين المقطعين لذا كرَّر الدعاء «رحم الله» الذي ابتدأ بهِ المقطع الأوّل، فقال: «رَحِمَ الله رجلاّ وعظَ أخاه وأهله، فقال: يا أهلي صلاتكم صلاتكم، زكاتكم زكاتكم، جيرانكم جيرانكم، إخوانكم إخوانكم، مساكينكم مساكينكم، لعل الله يرحمكم»(1).

وكأنَّ البصري بكلامه هذا قد أقتطع جملاً لا من وصیّة أمير المؤمنين لولده علیهم السلام لما ضربه ابن مُلْجَم (لعنه الله)، منها:

ص: 151


1- البيان والتبيين 3 / 69

«ثُمَّ إنّي أوصيكَ يا حَسَنُ وجَمیعَ أهلِ بيتي ووُلدي ومَنْ بَلَغَهُ كِتابي بتقوی اللهِ ربِّكم... اللهَ اللهَ في القُرآنِ فَلا يسبِقُكم إلى العَمَلِ به أحدٌ غَیرُکُم... اللهَ اللهَ في جيرانِكُم فإنَّ النبيَّ$ أوْصى بهم... حتّى ظَنَنَّا أنّهُ سَیُوَرِّثُهُم... اللهَ اللهَ في الصَّلاةِ فإنّها خیرُ العَمَلِ، إنَّها عمودُ دينِکُم. اللهَ اللهَ في الزَّكاةِ فانَّها تُطْفئُ غَضَبَ ربِّکُم...

اللهَ اللهَ في الفُقَراءِ والمَسَاکِینِ فَشَاركوهم في معايشِكُ... وَعَليکُمْ يا َ بنِيَّ بالتَّوَاصْل والتَّباذل والتَّبارِّ، وإيَّاکُم والتَّقاطُعَ والتَّدابُرَ والتَّفَرُّقَ»(1).

فجميع فقرات البصري نجد لها منبتًا في هذا الجزء من الوصية العلوية، وبمقارنة النَّصين جملةً بجملة يكون الأثر العلوي أكثر جلاءً.

فقول الإمام علیه السلام: «إني أوصيك.. وجميع أهلي» قابله البصري وبتحوير طفيف لمّا قال: «رحم الله رجلاً وعظ أخاه وأهله».

وقول الإمام: «الله الله في جيرانكم».

قابله البصري: «جيرانكم جيرانكم».

وقول الإمام: «الله الله في الصلاة».

قابله البصري: «صلاتكم صلاتكم».

وقول الإمام: «الله الله في الزكاة».

قابله البصري: «زكاتكم زكاتكم».

وقول الإمام: «الله الله في الفقراء والمساكين».

قابله البصري: «مساكينكم مساكينكم».

ص: 152


1- الكافي 7 / 35 - 36

وقول الإمام: «عليكم يا بنيّ بالتواصل والتباذل والتبارِّ».

قابله البصري: «إخوانكم إخوانكم».

ولم يعتمد البصري على المعنى والألفاظ التي وجدها في الوصية، بل أكّد بما أكّد بهِ الإمام علیه السلام، وهو التكرار، كون التكرار من أهم قوانين الإيقاع(1)، لذا جاء بهِ الإمام علیه السلام ليتم التأكيد على المفاهيم التي أوجزها وهو على فراش الموت، لافِتًا نظر السامع وانتباهه ومستدعیًا اهتمامه من خلال هذا التركيب(2): «الله الله».

وعلى الرغم من التشابه الكبير بين النصين، إلاّ أنّ الباحث يری هنالك فروقًا شکّلت علامة فارقة بينهما، منها:

أولاً: صحيح أنّ الإمام أوصى ولده وأهله علیهم السلام، لكنّه بعمق نظر، وسعة أفق، وإيمان راسخ بإنه ليس حكرًا على طائفةٍ معينة، أو زمانٍ معینٍ، جعل وصيته لا تختص بالأهل والولد، بل هي خارجة عن أيةِ حدود زمانية، او مكانية، أو شخصية، سارية المفعول لتشمل كُلَّ: «مَنْ بلغهُ کتابي»، بينما البصري اكتفى بوعظ: «أخاه وأهله».

ثانیًا: إنّ التوكيد الذي استعمله الإمام علیه السلام من خلال تكرار لفظ الجلالة، وعلى امتداد الوصية «الله الله في جیرانکم..»، أبلغ وأوكد من تكرار البصري ما أريد الإلتزام بهِ من واجبات إنسانية وإسلامية: «جيرانكم جيرانكم..». لما یحمله لفظ الجلالة من تعظيم وتقديس، وخشية ورهبة في أعماق كُلِّ مخلوق.

ثالثاً: ومن أجل أن تكون وصيته علیه السلام ذات تأثير فعَّال، وحجّة بالغة نجده

ص: 153


1- ينظر: الأسس الجمالية في النقد الأدبي 221
2- ينظر: المستويات الجمالية في نهج البلاغة 70

يبیّن فضيلة العمل الذي يأمر به، ويكشف أجره، فعندما أوصى بالصلاة بين أنها: «خير العمل»، وعندما أوصى بالزكاة بيَّن أنها «تطفيء غضَب ربّكم». وهذا الإسلوب يخلق دفعة من الإقناع بالقول أكثر من لو كان يوصي بالفعل دون بيان أجره وفضيلته، في حين أنّ البصري أهمل هذا في نصّهِ المتأثر.

ص: 154

المبحث الثاني: في رسائل الحسن

يعدُّ فن الرَّسائل فنًّا مهمًا من فنون النثر الفنّي، حيث بدأت ملامحه تتطوَّر بوضوح في أواخر العهد الرّاشدي، حتى اتُخِذَ هذا المصطلح للدَّلالة على النَّصِ المُدوَّن والمبعوث من قبلِ شخصٍ إلى آخر(1). وقد حفّزت عوامل عدّة على كتابة الرسائل والإهتمام بها، كان على رأس هذه العوامل، تعيين الولاة على أطراف مترامية من الدولة الإسلامية العظمى آنذاك، فكانت وسيلة الإتِّصال الوحيدة بين رأس السلطة (الخليفة)، وبين ولاته هي الرسائل - التحريرية أو الشفوية - فكان الخليفة ينقل إلى واليه، أو الوالي إلى الخليفة ما يشاء من أمور تخصّ الدين والدنيا عن طريق هذا الفن.

وعلى الرّغم من تعدد موضوعات الرَّسائل، إلاّ أنّ أبين ما طرق منها الحسن البصري موضوع الوعظ، والترغيب في الآخرة، والترغيب عن الدنيا، لأنّها

ص: 155


1- ينظر: الرسائل الفنية في العصر الإسلامي حتى نهاية العصر الأموي 16 - 17

دار تصرّمٍ وانتقال، والتذكير بالموت، بمعنى إنّ موضوعاتها لا تختلف عن موضوعات الخطب، وقد قيل في هذه الرسائل الكثير، وعُدَّتْ «نموذجًا راقیًا لأدب المواعظ في هذا العصر، لشيوعها وغزارتها، ولما اتّسمت بهِ أيضًا من مزايا فنیّة عالية... وغدت مثالاً احتذاه منشئووا هذا اللون من الرَّسائل، ونهلوا من معينها»(1).

ورأي الباحث غانم جواد لم يكن دقيقًا كون رسائل البصري عن بكرة أبيها جاءت تقليدًا صارخًا لكلام أمير المؤمنين علیه السلام، حتى أنّ أهم رسائلهِ وأطولها لا تعدو سوی أنها تلفيق لكلامهِ علیه السلام، إذاً فكيف مَنْ جاءَ بعدَ البصري احتذی مثاله ونهل من معینه؟ وعلى أیّةِ حال فمن رسائلهِ الطوال التي جمعها من كلام الإمام علیه السلام رسالة أرسلها إلى عمر بن عبد العزيز تجاوزت اسطرها مائة سطراً، قال في مستهلَّها:

«.. واحتمالُ المؤونةِ المنقطعةِ التي تعقبُ الراحة الطويلةَ...»(2).

فالبصري في هذا کان ینظر إلی جملةٍ وردت في خطبة المتقین للإمام علي علیه السلام جاء فیها:

«صَبَرُوا أَیَّاماً قَصِیرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِیلَةَ»(3).

وکطریقته في الخطب يجمع البصري مقاطع عدّة من كلام أمير المؤمنين علیه السلام، ويضع لها جملة لتكون هي الرابط - وهي هنا أحذرها - بين هذه المقاطع على امتداد الرِّسالة، فبعد أن أخذ مقطعًا من خطبة المتقين، قال محذراً من الدنيا:

ص: 156


1- م. ن 280 - 281
2- حلية الأولياء 2 / 134
3- نهج البلاغة 351

«فاحذر هذه الدَّارَ الصارعة الخادعةَ الخاتلةَ التي قد تزيَّنَت بخدعِها، وغرَّت بغرورها، وقتلت أهلَها بأمِلها»(1).

وتحذيره هذا لا يختلف عن تحذير الإمام علیه السلام من الدنيا، حينما قال:

«أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُحَذِّرُکُمُ اَلدُّنْیَا، فَإِنَّهَا.. حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ... وَتَحَلَّتْ بِالآْمَالِ، وَتَزَیَّنَتْ بِالْغُرُورِ... حَائِلَةٌ زَائِلَةٌ، نَافِدَةٌ بَائِدَةٌ... کَمْ مِنْ وَاثِقٍ بِهَا قَدْ فَجَعَتْهُ، وَذِي طُمَأْنِینَةٍ قَدْ صَرَعَتْهُ»(2).

سارَ البصري على أثر هذا الكلام شكلاً ومضمونًا، فمثلما ابتدأ الإمام خطبته:

«فَإِنِّي أُحَذِّرُکُمُ اَلدُّنْیَا».

ابتدأ البصري مقطعه من الرسالة «فاحذر هذهِ الدار».

وبعد أن حذَّرَ الإمام من الدنيا، بیّن مساوئها التي توجب التحذير، معتمدًا في بعضهِ على قصر الجملة التي تتكون من الفعل الماضي المتصل بتاء التأنيث وما بعده من شبه الجملة «وتحلَّت بالآمال، وتزيَّنت بالغرور». وهذا ما وجدناه في قول البصري: «قد تزينت بخدعها وغرت بغرورها».

ثمَّ بعد ذلك حذّرَ علیه السلام من الدنيا بواسطة ألفاظ صاغها على إسم الفاعل «حائلة، زائلة، نافذة، بائدة»، وتوظيف هكذا ألفاظ يكشف استغلال ما لها من قوة تعبيرية تؤدّي فضلاً عن معناها كلَّ ما تحمله من صور مدّخرة، ومشاعر كامنة لفَّتْ نفسها لفًّا حول ذلك المعنی الفعلي(3) القائم على تحقير الدنيا. والبصري سارَ

ص: 157


1- حلية الأولياء 2 / 134
2- نهج البلاغة 188 - 189
3- ينظر: فنون الأدب 76

على هذا تمامًا بألفاظه «الصارعة، الخادعة، الخاتلة».

وبعدَ تأثرهِ بالخطبتين المذكورتين إتّجهَ البصري صوب رسالةٍ بعثها أمير المؤمنین علیه السلام إلى سلمان الفارسي (رضي الله عنه) جاء فيها:

«أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّمَا مَثَلُ اَلدُّنْیَا مَثَلُ اَلْحَیَّةِ: لَیِّنٌ مَسُّهَا، قَاتِلٌ سَمُّهَا؛ فَأَعْرِضْ عَمَّا یُعْجِبُكَ فِیهَا، لِقِلَّةِ مَا یَصْحَبُكَ مِنْهَا؛ وَضَعْ عَنْكَ هُمُومَهَا، لَمِا أَیْقَنْتَ بِهِ مِنْ فِرَاقِهَا، وَتصَرُّفِ حَالاَتِهَا؛ وَکُنْ آنَسَ مَا تَکُونُ بِهَا، أَحْذَرَ مَا تَکُونُ مِنْهَا؛ فَإِنَّ صَاحِبَهَا کُلَّمَا اِطْمَأَنَّ فِیهَا إِلَی سُرُورٍ أَشْخَصَتْهُ عَنْهُ إِلَی مَحْذُورٍ، أَوْ إِلَی إِینَاسٍ أَزَالَتْهُ عَنْهُ إِلَی إِیحَاشٍ وَاَلسَّلاَمُ»(1).

ضمَّن البصري هذه الرسالة كاملةً في منتصف رسالتهِ التي نحن بصددها، قائلاً: «فاحذرها الحذر كله؛ فإنَّها مَثلُ الحيَّة لیَّنٌ ملمسُها وسمُّها يقتلُ؛ فأعرضْ عمّا يعجبُكَ فيها لقلَّةِ مَا يصحَبُكَ منها، وضَعْ عنكَ همومها لَمِا عاينتَ مِن فجائِعها، وأيقنت به من فراقها، واجعل شِدَّة ما اشتدَّ منها رجاءَ ما ترجوا بعدها وكنْ أسرَّ ما تكون فيها احذر ما تكونُ لها؛ فإنَّ صاحبها كُلَّما اطمأنَّ فيها إلى سرورٍ له أشخصتهُ عنها بمكروه، وكلما ظفر بشيءٍ منها وثنيَ رجلاً عليه انقلبت بهِ..»(2).

والبصري هنا قد أجری بعض التغييرات البسيطة على كلام الإمام أمير المؤمنين علیه السلام، غير أنّها وإن كانت بسيطة في الظاهر، لكنّها تؤثر في بناء النص بشكل عام، فإذا فتَّشتَ عن أثرها تجده سلبیًا على نص البصري فخذ مثلاً قوله:

«ليِّن ملمسها، وسمها يقتل». الذي هو تضمین

ص: 158


1- نهج البلاغة 538
2- حلية الأولياء 2 / 135

لقول الإمام علیه السلام: «لين مسُّها، قاتل سمها». فهو بهذا التقديم والتأخير الذي أجراه على الجملة الثانية من كلام الإمام علیه السلام خَسِرَ ذلك الوقع المحبب المتأتي من السجع الموجود في «مسها، سُمها». وبتغيير «مسها» إلی «ملمسها» ضیّع ذلك الجناس الموجود في لفظتي الإمام علیه السلام المذكورتين. وحتى ذلك التغيير الذي يعملهُ على الحروف نجده يحرف بعض المعنى الدقيق الموجود في کلام الإمام علیه السلام وهذا مطّرد عند البصري، فمنه: «ولكن أسر ما تكون فيها، أحذر ما تکون لها». الذي هو من مقطع الإمام علیه السلام: «وكن آنس ما تكون بها، أحذر ما تكون لها منها». یری الباحث في استبدال البصري «منها» ب «لها» فيه بعض الإخفاق، لأنّ ما يقال عن الدنيا: إحذر منها أو احذرها، آنس وألطف على السمع من احذر لها.

وهكذا يتخیّر البصري ما يروقه من خطب ورسائل مولانا أمير المؤمنين علیه السلام ليضعه في رسالتهِ المطوّلة هذه، فما أن انتهى من رسالة الإمام إلى سلمان الفارسي، عادَ واقتطع مقطعًا من خطبة علوية، جاء فيها:

«أَیُّهَا اَلنَّاسُ، اُنْظُرُوا إِلَی اَلدُّنْیَا نَظَرَ اَلزَّاهِدِینَ فِیهَا، اَلصَّادِفِینَ عَنْهَا؛ فَإِنَّهَا وَاَللهَّ عَمَّا قَلِیلٍ تُزِیلُ اَلثَّاوِيَ اَلسَّاکِنَ، وَتَفْجَعُ اَلْمُتْرَفَ اَلآْمِنَ؛ لاَ یَرْجِعُ مَا تَوَلّی مِنْهَا فَأَدْبَرَ، وَلاَ یُدْرَی مَا هُوَ آتٍ مِنْهَا فَیُنْتَظَرُ. سُرُورُهَا مَشُوبٌ بِالْحُزْنِ، وَجَلَدُ اَلرِّجَالِ فِیهَا إِلَی اَلضَّعْفِ وَاَلْوَهْنِ»(1).

وكعادتهِ قدّم وأخَّر البصري في هذا المقطع، ليقول: «سرورها مشوبٌ بالحزن، وآخر الحياة فيها الضَّعفِ والوهن، فانظر إليها نظر الزَّاهد المفارق، ولا تنظرْ نظرَ العاشقِ الوامق، واعلم أنّها تُزيلُ الثاويَ السَّاكنَ وتفجعُ المغرورَ الآمنَ، لا يرجعُ

ص: 159


1- نهج البلاغة 169 - 170

ما توَّلى منها فأدبرَ ولا يُدری ما هو آتٍ فيها فينتظر»(1).

فواضح أنّ البصري نسخَ هذا المقطع العلوي بنصّه، إلاّ قول الإمام علیه السلام:

«انظروا إلى الدنيا نظر الزاَّهدين فيها الصادفين عنها».

فقد غیّر فيه طفيفًا لمّا قال: «فانظر إليها نظر الزاهد المفارق».

وبعد هذا قال البصري مباشرة:" فاحذرها فإنَّ أمانيَّها كاذبة، وإنَّ آمالها باطلةٌ عيشها نكد وصفوها كدر وأنت منها على خطر»(2).

فهذا لا يختلف عن وصف الإمام علي علیه السلام الدنيا، وذلك بقوله:

«..وعیشها رَنِقٌ، وعذبُها أجَجٌ، وحُلوُها صَبِرٌ»(3).

فقوله: «عیشها نکد».

کقوله علیه السلام: «عيشها رنق».

وأمّا قوله: «وصفوها كدر» فنجده في خطبة أخری لأمیر المؤمنین علیه السلام منها قوله: «وكدَرَ منها ما كان صفوًا»(4).

ثمَّ بَعد هذا اتّجهَ البصري إلى خطبةٍ أخری لأمير المؤمنين علیه السلام وصفَ فیها عظمة الخالق - سبحانه وتعالى - ، وذكر فيها صفات الأنبياء: موسى، وداوود،

ص: 160


1- حلية الأولياء 2 / 135
2- م. ن 2 / 136
3- نهج البلاغة 189
4- م. ن 84

وعیسی علیهم السلام وختمهم بالنّبي الخاتم صلی الله علیه وآله.

یُذكر أنّ البصري ضمّن من هذهِ الخطبة ما يقارب العشرين سطرًا، وعلى عادتهِ القائمة على تحوير بعض الفقرات، وعلى التقديم والتأخير، فآخر ما تكلَّم - أي في الخطبة المقصودة - عنه الإمام علیه السلام من الأنبياء هو النبي محمد صلی الله علیه وآله لأنّهُ صفوتُهم وخاتمهم، ولأنّه خير هادٍ لمن تأسى، وأفضل مُرَوِّحٍ لمن تعزی، فالخلق لم يصابوا بمثلهِ أبدًا، فقال:

«فَتَأَسَّ بِنَبِیِّكَ اَلْأَطْیَبِ اَلْأَطْهَرِ صلی الله علیه وآله فَإِنَّ فِیهِ أُسْوَةً لَمِنْ تَأَسَّی، وَعَزَاءً لَمِنْ تَعَزَّی... عُرِضَتْ عَلَیْهِ اَلدُّنْیَا فَأَبَی أَنْ یَقْبَلَهَا، وَعَلِمَ أَنَّ اَللهَ سبحانَهُ أَبْغَضَ شَیْئاً فَأَبْغَضَهُ، وَحَقَّرَ شَیْئاً فَحَقَّرَهُ، وَصَغَّرَ شَیْئاً فَصَغَّرَهُ»(1).

جعل البصري هذا بداية لمقطعٍ جديد في الرسالة التي ما زلنا فيها، فقال:

»ولقد عُرِضَتْ على نبيِّنا (صلى الله عليه و سلم) بمفاتيحِها وخزائنِها، ولم ينقصه ذلك عنده جناح بعوضةٍ فأبى أن يقبلها، وما منعه من القبول لها إلاّ أنّهُ علم أنّ الله تعالى أبغض شيئاً فأبغضه، وصغَّر شيئًا فصغَّره، وَوَضَعَ شيئًا فوَضَعَه»(2).

وقبل أن ينتقل البصري إلى المقطع الثاني من خطبة أمير المؤمنين علیه السلام، انتقل إلى خطبةٍ علويةٍ أخری مُؤقَّتًا وبالتحديد لقوله علیه السلام:

«وَأُحَذِّرُکُمُ اَلدُّنْیَ فَإِنَّهَا مَنْزِلُ قُلْعَةٍ... لَمْ یُصْفِهَا اَللهُ تَعَالَی لِأَوْلِیَائِهِ، وَلَمْیَضِنَّ بِهَا عَنْ أَعْدَائِهِ»(3).

ص: 161


1- نهج البلاغة 261
2- حلية الأولياء 2 / 137
3- نهج البلاغة 192

وقال علیه السلام مثل ذلك في حكمة له: «تَغُرُّ وَتَضُرُّ وَتَمُرُّ، إِنَّ اَللهَ تَعَالَی لَمْ یَرْضَهَا ثَوَاباً لِأَوْلِیَائِهِ، وَلاَ عِقَاباً لِأَعْدَائِهِ»(1).

فالمعنى قائم على أن الله تعالى من َ ع الدنيا و «لم یُصفِها» للذين اختصَّهم وحباهم بولايته، وفي المقابل أباحها، ولم يبخل «لم یضن» بها على من عادوه سبحانه، فعاداهم، أن بسط لهم الدنيا، ليتيهوا في غرورها وزينتها إلى أن تمرَّ عليهم مسرعة وهم على هذا الحال من البعد عن الحقِّ تعالى.

نظر البصري إلى هذا المعنى بتفاصيلهِ، ليقول: «ولو لم يدلّه على صغرِ هذه الدار إلاّ أنّ اللهَ تعالى حقَّرَها أن يجعلَ خیرَها ثوابًا للمُطيعين، وأن يجعلَ عقوبتها عذابًا للعاصين، فأخرجَ ثوابَ الطّاعةِ منها، وأخرجَ عقوبة المعصيةِ عنها، وقد يدلّكَ على شرِّ هذهِ الدّارِ أنّ الله زواها عن أنبيائهِ وأحبائهِ اختبارًا، وبسطها لغيرهم اعتبارًا واغتِرارًا»(2).

وفضلاً عن المعنى حتى هذه المقابلات التي كررها البصري في هذا المقطع منبتها كلام الإمام علیه السلام المذکور.

وقوله:

«أن الله تعالى حقَّرها أن يجعلَ خيرها ثوابًا للمطيعين وأن يجعل عقوبتها عذابًا للعاصين».

كرَّره بطريقة أخری لما قال: «أن الله تعالى زواها عن أنبيائه وأحبائه اختبارًا

ص: 162


1- م. ن 627
2- حلية الأولياء 2 / 137

وبسطها لغيرهم اعتبارًا».

وعلى أية حال فهذا التكرار مما ورد في حكمة الإمام:

«إِنَّ اَللهَ تَعَالَی لَمْ یَرْضَهَا ثَوَاباً لِأَوْلِیَائِهِ، وَلاَ عِقَاباً لِأَعْدَائِهِ».

وفي خطبته علیه السلام:

«لَمْ یُصْفِهَا اَللهُ تَعَالَی لِأَوْلِیَائِهِ، وَلَمْ یَضِنَّ بِهَا عَنْ عَلَی أَعْدَائِهِ».

ولعلَّ البصري عندما وجدَ هذا المعنى في نصين مختلفين عند الإمام - في الخطبة والحكمة - ومن شدّة ولعه بهما آثر جمعهما في نصٍّ واحد، لكن هذه حالة غير مرضية لأن هذا التكرار لا طائل منه، كونه جاء في مقطعٍ واحد، وحتى بدون أيِّ فاصل يُذكر، ثم إنّه لا يحمل في طیّاته جدّة.

وبعد هذا النص الذي كان بمثابة فاصلة، ولربّما كانت تمويهیّة، عادَ البصري إلى خطبةِ أمير المؤمنين علیه السلام السابقة التي تحدَّث فيها عن صفات بعض الأنبياء وكيف كانوا مثالاً للزُّهدِ في الدنيا، ومنهم - فضلاً عما تقدَّم - النبي موسى علیه السلام، الذي وصفه الإمام علیه السلام بقوله:

«رَبِّ إِنِّي لِما أنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَیْرٍ فَقِیرٌ»(1).

وَاللهِ، مَا سَألَهُ إِلا خُبْزا یَأْکُلُهُ، لأنّهُ کَانَ یَأْکُلُ بَقْلَةَ اَلأَرْضِ، وَلَقَدْ کَانَتْ خُضْرَةُ الْبَقْلِ تُرَی مِنْ شَفِیفِ صِفَاقِ بَطْنِهِ لُهِزَالِهِ، وَتَشَذّسبِ لَحْمِهِ»(2).

ص: 163


1- القصص 24
2- نهج البلاغة 260

الصِفاق هو «الجلد الباطن الذي فوقه الجلد الظاهر من البطن وشفيفه: رقيقه الذي يستشفُّ ما وراءه»(1).

ضمّن البصري هذا قائلاً: «وأمّا موسى علیه السلام فرُئِي خضرَةُ البقلِ من صفاقِ بطنهِ من هزاله. ما سألَ اللهَ تعالى يومَ أوی إلی الظّلِّ إلا طعامًا یأکلُه من جوعه»(2).

فلم يكتفِ البصري بالتقديم والتأخير بين مقاطع الخطبة العلوية، بل يأتي على المقطع الواحد فيقدّم منه ما يشاء ويؤخر ما يشاء، فما ذكره الإمام في آخر وصفه للنبي الكليم:

«وَلَقَدْ کَانَتْ خُضْرَةُ الْبَقْلِ تُرَی مِنْ شَفِیفِ صِفَاقِ بَطْنِهِ لُهِزَالِهِ، وَتَشَذُّبِ لَحْمِهِ».

جعله البصري في أول وصفه للنبي المذكور علیه السلام:

«فرئي خضرة البقل من صفاق بطنهِ من هزاله».

وما ذكره الإمام علیه السلام في أوِّل وصفهِ للنبي:

«وَاللهِ مَا سَألَهُ إِلا خُبْزًا يَأْکُلُهُ».

جعله البصري آخرًا مع تحوير شكلي وجزئي: «سأل الله تعالى... إلا طعامًا يأكله من جوعه».

وهنا لابُدَّ من الإشارة إلى أنّ حتى الآية التي استشهد بها أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) استشهد بها البصري، ولكن من طرفٍ خفي، فقوله «أوی إلى الظل» إشارة إلى الآية التي ذكرها الإمام علیه السلام، وبذكرها كاملةً يتضح ذلك،

ص: 164


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9 / 155
2- حلية الأولياء 2 / 138

قال تعالى:

«فَسَقَی لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّی إِلَی الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَیْرٍ فَقِیرٌ»(1).

وهكذا كان البصري يحذو حذوَ أمير المؤمنين علیه السلام خطوة خطوة، فبعد أن انتهی علیه السلام من وصف النبي موسى علیه السلام ضرب بالنبيِّ داوود، والنبي عيسى علیه السلام مثالاً على الزهد في الدُّنيا قائلاً:

«وَإِنْ شِئْتَ ثَلَّثْتُ بِدَاوُدَ - صلی الله علیه وسلم - صَاحِبِ اَلْمَزَامِیرِ، وَقَارِئِ أَهْلِ اَلْجَنَّةِ، فَلَقَدْ کَانَ یَعْمَلُ سَفَائِفَ اَلْخُوصِ بِیَدِهِ، وَیَقُولُ لِجُلَسَائِهِ: أَیُّکُمْ یَکْفِینِي بَیْعَهَا! وَیَأْکُلُ قُرْصَ اَلشَّعِیرِ مِنْ ثَمَنِهَا. وَإِنْ شِئْتَ قُلْتُ فِي عِیسَی بْنِ مَرْیَمَ علیه السلام، فَلَقَدْ کَانَ یَتَوَسَّدُ اَلْحَجَرَ، وَیَلْبَسُ اَلْخَشِنَ، وَیَأْکُلُ اَلْجَشِبَ، وَکَانَ إِدَامُهُ اَلْجُوعَ، وَسِرَاجُهُ بِاللَّیْلِ اَلْقَمَرَ، وَظِلاَلُهُ فِي اَلشِّتَاءِ مَشَارِقَ اَلْأَرْضِ وَمغَارِبَهَا، وَفَاکِهَتُهُ وَرَیْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ اَلْأَرْضُ لِلْبَهَائِمِ؛ وَلَمْ تَکُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ، وَلاَ وَلَدٌ یَحْزُنُهُ، وَلاَ مَالٌ یَلْفِتُهُ، وَلاَ طَمَعٌ یُذِلُّهُ رِجْلاَهُ، وَخَادِمُهُ یَدَاهُ!»(2).

أخذ البصري هذا كلّه بين التضمين الحرفي والتحوير، والتقديم والتأخير، مقدما وصفَ النبي داوود على النبي عيسى علیهم السلام، فقال: «وإن شئت ثلثته بصاحب الرُّوِحِ والكلمةِ ففي أمرهِ عجيبة، كان يقول: أدمي الجوعُ، وشعاري الخوف، ولباسي الصّوف، ودابتي رجلي، وسراجي بالليل القمر، وصِلايتي في الشتاء الشَّمسُ، وفاكهتي وريحاني ما أنبتتِ الأرضُ للسِّباعِ والأنعامِ، أبِيتُ وليسَ لي شيءٌ وليس أحدٌ أغنى منّي.

ولو شئت ربّعتُ بسليمان ابن داود علیهم السلام، فلیس دونهم

ص: 165


1- القصص 24
2- نهج البلاغة 260 - 261

في العجب يأكل خبزَ الشّعير في خاصّته... فإذا جنَّه الليلُ لبسَ المسوح وغَلَّ اليدَّ إلى العُنقِ، وبات باكیًا حتى يُصبح يأكلُ الخَشِنَ من الطّعامِ، ويلبس الشّعر من الثّياب»(1).

فأوّل كلامه عن النبي عيسى علیه السلام:

«كان يقول أدمى الجوعُ.. ودابتي رجلي وسراجي بالليل القمر».

تضمين واضح من قول الإمام علیه السلام:

«وکَانَ إِدَامُهُ اَلْجُوعَ، وَسِرَاجُهُ بِاللَّیْلِ اَلْقَمَرَ».

وقوله في الفقرة المذكورة «ودابتي رجلي» أقتنصه من آخر خطبة الإمام علیه السلام:

«دَابَّتُهُ رِجْلاَهُ».

أمّا قوله: «وفاكهتي وريحاني ما أنبتت الأرض للسِّباع والأنعامِ».

ففيه تغيير أكثر على كلام الإمام:

«وَفَاکِهَتُهُ وَرَیْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ اَلْأَرْضُ لِلْبَهَائِمِ».

وبالنسبة لقوله: «وصِلايتي في الشتاء الشمس» وما فيه من كناية، فقد أخذه من قول الإمام علیه السلام:

«وَظِلاَلُهُ فِي اَلشِّتَاءِ مَشَارِقَ اَلْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا».

وهذه كناية لطيفة جدًا - مثلما يری الباحث - عن عدم وجود مأوی للنبي عیسی علیه السلام لأنَّ «مَن كانَ كنُّهِ المشرق والمغرب فلا کُنَّ له»(2).

ص: 166


1- حلية الأولياء 2 / 137
2- شرح نهج البلاغة لمحمد عبده 2 / 252

وفي المقطع الثاني ذهب البصري بعيدًا، ولم يكن موفَّقًا حين أبدل النبي داوود - الموصوف من قبل أمير المؤمنين - بولدهِ سليمان علیهم السلام، وذلك لأن الحديث هو حديث عن الزهد والتبتل إلى الله سبحانه وتعالى، وعلى الرغم من إنّ الأنبياء كلَّهم معصومون و عُبَّاد، إلاّ أنّ الذي اشتهر بالزهد من بين النبيَّين المذكورَين هو النبي داوود علیه السلام، فقد كان صاحب محراب، وكان قارئًا ذا صوت شجي عندما يقرأ كتابه المنزل عليه وهو الزبور، فقد قيل عنه: «أُعطِيَ من طيب النَّغم ولذة ترجيع القراءة ما كانت الطيور لأجلهِ تقع عليه و هو في محرابه»(1).

وعلى أية حال فإنّ في هذا المقطع نجد البصري يستعير وصف الإمام للنبي عيسى علیهم السلام:

«وَیَلْبَسُ اَلْخَشِنَ، وَیَأْکُلُ اَلْجَشِبَ».

ليصف به سليمان علیه السلام:

«یأکلُ الخَشِنَ من الطّعامِ، ویلبس الشّعر من الثّیاب».

والبصري هنا كرر الخشونة مرتين الأولى: باللفظ، والثانية: عندما كنّى عنها بلبس الشعر، ولكنه لو استعمل الجشوبة للطعام والخشونة للباس - مثلما وجدهما عند الإمام - لكان ذلك أبلغ.

وقد بدا هذا التكرار على نفس المعنى وبصورة أكثر جلاءً بين قوله: «فإذا جنّه اللیل لبَسَ المسوح».

والمسوح أو المسح هو الكساء من الشَّعر(2)، بمعنى لبسَ ثوبًا من الشعرِ.

ص: 167


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9 / 155
2- ينظر: لسان العرب 2 / 593 مادة (مسح)

وقوله: «ويلبس الشّعر من الثّياب».

وهكذا تكرار مذموم لا طائل منه، لأن من يعمد إلى هذا الفن ينبغي أن يأخذ بحسبانه إتحاف المتلقي «بشيءٍ من التلوين اللفظي والمعنوي...، فيه جدّة وطرافة لا توجد في الفقرة السابقة»(1). بينما تكرار البصري خلا من أي جدّة.

أمّا قول البصري وهو يصف سليمان علیه السلام: «وغَلَّ اليد إلى العنق» فلا أدري ماذا كان يقصد بهذا، فهل غلّ اليد إلى العنق مدح؟ وهل في هذا دلالة على الزهد؟ أم فيه دلالة على الإنقطاع إلى الله وطول العبادة؟ یری الباحث إن من الصعب أن تورد هذهِ العبارة في باب المدح، وبخاصة إذا تأسيَّنا بالقرآن الكريم وعرفنا أنه أوردها في باب الذم. قال تعالى:

«وَلَا تَجْعَلْ یَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَی عُنُقِكَ»(2).

فغلُّ اليد مجازٌ عُبِّرَ به عن البخل(3). أو هو «تمثيل الشح والإمساك بغل اليد إلى العنق وهو تمثيل مبني على تخيل اليد مصدرًا للبذل والعطاء.. وغلّها شحًّا، وهو تخيل معروف لدی البلغاء والشعراء»(4).

لكن البصري أراد أن يزيد على كلام أمير المؤمنين علیه السلام زيادةً عسى أن تكون متميِّزة، لكن تمیّزها كان سلبیًا، وقد ورد عنده مثل هذا كثير، سنشير إلى بعضه.

انتهت خطبة أمير المؤمنين علیه السلام، لكنّ رسالة البصري لم تنته بعد، إذ انتقل إلى

ص: 168


1- البلاغة الفنية 238
2- الإسراء 29
3- ينظر: الجامع لأحكام القرآن 10 / 219
4- التحرير والتنوير 15 / 84 - 85

وصفٍ عام لأولياء الله الذين ساروا على منهاج الأنبياء الموصوفين، فقال: «ثمَّ اقتصَّ الصالحونَ بعد منهاجهم... وصبروا في مُدَّةِ الأجلِ القصير... ونظروا إلى آخر الدُّنيا، ولم ينظروا إلى أوَّلها ونظروا إلى عاقبةِ مرارتها، ولم ينظروا إلى عاجلةِ حلاوتِها»(1).

وإنتقالة البصري هذه من وصف الأنبياء إلى وصف المقتدين بهم، رافقتها إنتقالة من خطبة علوية إلى خطبة علوية أخری.

فقوله «وصبروا في مُدَّةِ الأجلِ القصير»، من كلام الإمام الذي وصف به المتقين «صبروا أیَّامًا قصیرةً»(2).

وباقي كلامه من حكمة الإمام علیه السلام:

«إِنَّ أَوْلِیَاءَ اَللهَّ هُمُ اَلَّذِینَ نَظَرُوا إِلَی بَاطِنِ اَلدُّنْیَا إِذَا نَظَرَ اَلنَّاسُ إِلَی ظَاهِرِهَا، وَاِشْتَغَلُوا بِآجِلِهَا إِذَا اِشْتَغَلَ اَلنَّاسُ بِعَاجِلِهَا..»(3).

فقد میّز أولياء الله بصفات تسع منها ماذُكر. وأولى هذهِ الصفات: أنّهم نظروا إلى باطن الدنيا: أي إلى حقيقتها، وغرض الحكمة الإلهية من وجودها، لمّا نَظر النّاسُ إلى ظاهرها، من زينتها وقينتها(4).

إلى هذا أشار البصري بقولهِ السابق: «ونظروا إلى آخر الدنيا ولم ينظروا إلى أوَّلها».

ص: 169


1- حلية الأولياء 2 / 137
2- نهج البلاغة 351
3- م. ن 630 - 631
4- ينظر: شرح نهج البلاغة لابن ميثم 5 / 503

فلم يستبدل سوی الطباق في حكمة الإمام«باطن - ظاهر»ب «آخر - أوّل».

وثاني الصفات: إنهم اشتغلوا بآجلها وهو ثواب الله ورضوانه، إذا اشتغل النّاسُ بعاجلها وحاضر لذّاتها(1).

وهذا ما نجده في قول البصري: «ونظروا إلى عاقبة مرارتها، ولم ينظروا إلى عاجل حلاوتها».

وبعدما انتهى من وصف الأنبياء والصالحين، عادَ البصري محذرًا من الدنیا، مشجِّعًا على اغتنام أیّامها المعدودة، فقال: «.. وإنَّما الدنيا إذا فكَّرت فيها،ثلاثة أیّام، يومٌ مضى لا ترجوه، ويومٌ أنت فيه ينبغي لكَ أن تغتنمه، ويومٌ يأتي لا تدري أنتَ مِن أهله أم لا؟ ولا تدري لعلَّك تموت قبله، فأمّا أمسٌ فحكيمٌ مؤدَّب وأمَّا اليومَ فصديقٌ مودِّعٌ، غیرَ أنَّ أمسَ وإن كان قد فجعكَ بنفسهِ فقد أبْقى في يديك حكمتَه، وإن كنتَ قد أضعتَه فقد جاءَك خلفٌ منه وقد كانَ عنكَ طويلَ الغيبةِ وهو الآن عنك سريعُ الرِّحلةِ»(2).

وكأنّ البصري هو من فكر بالدنيا فوجدها ثلاثة أیّام، ولو قال إنّما الدنيا ثلاثة أيام مثلما وصفها الإمام عليّ بن أبي طالب لكان أقرب للأمانة. وبلا أدنى شك فإنّ البصري لم يكتب هذا ولا بعضه إذا لم تكن بين يديه حكمة أمير المؤمنين علیه السلام التي تقول:

«ألا إنَّ الأيَّامَ ثلاثةٌ: يومٌ مَضَى لا تَرْجُوه، وَیَوْمٌ بَقِيَ لابُدَّ منه، وَیَوْمٌ يأتي لا تأمَنَه. فالأمسُ مَوْعِظَةٌ، واليومُ غَنيمَةٌ، وَغَدٌ لا تدْري منْ أهلُه، أمس شاهِدٌ

ص: 170


1- ينظر م. ن 5 / 503
2- حلية الأولياء 2 / 138

مَقْبولٌ، والیومُ أمِینٌ مُؤدٍ، وغَدٌ یعَجلُ بِنَفْسِك سَرِیعُ الظَّعنِ، طویلُ الغیبة، أتاكَ وَلم تْأتهِ»(1).

فالإمام علي علیه السلام قسَّمَ عمُرَ الإنسان على ثلاثة أقسام، من أجل أن يتذكر الإنسان ما فعل بالأمس ولا يقع في زلاّته، ويتحّرز في يومه الذي هو فيه لأنّه سينصرم كما أنصرم الأمس، ثمّ يستعد للغد عسى أن يكون من أهله.

سارَ البصري على هذا خطوة خطوة، وخیّرَ نفسه - هنا وعلى طول نتاجاته - فإن شاء ضمَّن حرفیًّا، وإن شاء حوّر، وإن شاء كرّر المعنى بدون طائل، وإن شاء أخذ بالمعنى. وبمقابلة الكلامين فقرة فقرة يتبين ما يريده الباحث، فقوله: «وإنّما الدنيا ثلاثة أيام» بتحوير طفيف عن حكمة الإمام علیه السلام: «ألا إنّ الأيام ثلاثة» وقوله: «يومٌ مضى لا ترجوه».

بنصه من الحکمة: «يومٌ مضى لا ترجوه».

وقول البصري: «فأمّا أمسٌ فحكيمٌ مؤدَّب». ثم تكراره لهذا المعنى بقوله:

«غیرَ أنَّ أمسَ وإن كان قد فجعكَ بنفسهِ فقد أبقى في يديك حكمتَه». بسط وتفصيل لقولهِ علیه السلام: «فالأمس موعظة».

وقوله: «ويوم أنت فيه ينبغي لكَ أن تغتنمه».

توسع وزيادة على قول الإمام علیه السلام: «اليوم غنيمة».

وقوله: «ويومٌ يأتي لا تدري أنتَ من أهله أم لا؟ ولا تدري لعلَّك تموت

ص: 171


1- تحف العقول 247

قبله». وهنا وقع البصري بالتكرار الذي لا طائل منه مرّة أخری، لأنّ الجملة التي بعد السؤال تكرار واضح لما قبله.

وعلى أية حال فهذا من قولهِ علیه السلام: «وغدٍّ لا تدري مَنْ أهله».

وقول البصري: «وأمَّا اليومَ فصدیقٌ مودِّعٌ».

بالمعنى من قول الإمام علیه السلام: «واليوم أمين مؤدٍّ».

وقوله: «فقد جاءك خلف - يقصد يوم الغد - منه وقد كان عنك طويل الغيبة وهو الآن عنك سريع الرحلة».

ففيه تضمين نصي، وتضمين محوّر، وأخذ بالمعنى، وتقديم وتأخير من قولهِ علیه السلام: «وغَدٌ يعَجلُ بِنَفْسِك سَرِيعُ الظَّعنِ، طويلُ الغيبة».

وما دام الحديث عن استغلال اليوم بالطريقة المثمرة، رأی البصري فرصة سانحة في ذلك، ليوظف حكمة علوي أخری، جاء فیها:

«یَا اِبْنَ آدَمَ، لاَ تَحْمِلْ هَمَّ یَوْمِكَ اَلَّذِي لَمْ یَأْتِكَ عَلَی یَوْمِكَ اَلَّذِي قَدْ أَتَاكَ..»(1).

أخذ البصري هذه الحكمة، فقال: «وإيَّاك أن تُدخلَ على اليوم همَّ غدٍ، أو همَّ ما بعده»(2).

هذه هي أطول رسائل البصري، ذلك الواعظ البليغ! وبسبب هذا الطول زاد الأثر العلوي وضوحًا عليها - إذ كلما زاد أي نصٍّ للبصري طولا ً ولو لسطرين زاد الأثر العلوي في ذلك النص - وفرض هيمنة تامة فاقت التصوّر، فالرسالة باسم البصري ظاهرًا، أمّا حقيقتها فهيَ جمع من خطب ورسائل وحكم أمير

ص: 172


1- نهج البلاغة 601
2- حلية الأولياء 2 / 137

المؤمنین علیه السلام. ولو لم تكن عند البصري الاّ هذهِ الرسالة لكفى بها بيانًا وإفصاحًا عمّن كانَ يقف خلف بلاغة البصري ووعظه.

كتب البصري رسالة أخری لعمر بن عبد العزيز، أغلبها مكرّر في الرّسالة السابقة، وكانت عبارة عن أثر علوي من قول كاتبها: «أمّا بعد إلى قوله والسلام علیکم». نذكر منها الجزء القليل الذي لم يُكرر في الرسالة السالفة، فقد ورد في أوّلها: «أمّا بعدُ، اعلمْ يا أمیرَ المؤمنين أنَّ الدنيا دارُ ظعْنٍ، وليست بدار إقامة..»(1).

وهذا من خطبة الإمام علیه السلام التي تقول:

«وَأُحَذِّرُکُمْ اَلدُّنْیَا فَإِنَّهَا مَنْزِلُ قُلْعَةٍ، وَلَیْسَتْ بِدَارِ نُجْعَةٍ..»(2).

فالدنيا هي دار ارتحال وليست بدار قرار، والبصري لم يقدم شيئًا يذكر لما أبدل «قُلعة» ب»ظعن»، لأن المعنى واحد، يقال عن «الدنيا دار قُلْعَةٍ أي انقلاع»، وعن القوم هم على قلعة أي على تحوّلٍ وارتحال(3)، وكذلك الظعن فهو يعني الارتحال. وهكذا إبداله «نجعة»ب «إقامة».

فالنجعة تعني «طلب الكلأ في موضعه، أي ليست محط الرحال ولا مبلغ الآمال»(4)، وهذا ما عبّر عنه البصري بأن الدنيا ليست بدار إقامة.

ومثلما افتتح الإمام خطبته بما يدلّ على تشديد التحذير من الدنيا عن طريق استعمال الفعل المضارع «أحذِّرُ» ثمَّ استعمال «إنّ»، كذلك البصري ذهب إلى ما

ص: 173


1- جمهرة رسائل العرب 2 / 326
2- نهج البلاغة 192
3- ينظر: م. ن 8 / 290 مادة (قلع)
4- شرح نهج البلاغة لمحمد عبده 1 / 191

يشبه هذا لمّا افتتح رسالته بفعل الأمر «اعلم»، ثم ب«إنّ». إلاّ أن إيصال المعنى عن طريق الإيقاع الموجود في اللفظتين المسجوعتين «قُلْعَةٍ، نُجْعَةٍ» المتساويتين في كلِّ شيءٍ من المبنى سواءً عدد الحروف، أو ما تحمله الحروف من سكنات وحركات، أعطى كلام الإمام علیه السلام وقعًا وأثرًا أكبر من الذي نجده في لفظتي البصري «ظعن، إقامة».

وبعد ذلك قال البصري: «... ولها في كلِّ حين صرعةً، وليست صرعةً كصرعة، هي تهینُ من أكرَمَها، وتُذِلُّ من أعزّها، وتصرعُ مَنْ آثَرها، ولها في کُلّ حین قَتْلى، فهيَ كالسُّم يأکُلُه مَنْ لا يعرفه وفيه حتفُه، فالزادُ فيها ترکُها، والغِنى فيها فقرُها»(1).

وهذا كقول الإمام علیه السلام في ذمِّ الدنیا:

«مَنْ أَقَلَّ مِنْهَا اِسْتَکْثَرَ مِمَّا یُؤْمِنُهُ! وَمَنِ اِسْتَکْثَرَ مِنْهَا اِسْتَکْثَرَ مِمَّا یُوبِقُهُ، وَزَالَ عَمَّا قَلِیلٍ عَنْهُ. کَمْ مِنْ وَاثِقٍ بِهَا قَدْ فَجَعَتْهُ، وَذِي طُمَأْنِینَةٍ إلیّها قَدْ صَرَعَتْهُ...»(2).

فكلُّ مَنْ في الدنيا مصروع لا محالة، أكّد أمير المؤمنين علیه السلام على هذهِ الحقيقة من خلال عبارته التحقيقية «قد صرعته».

ويبدو أنّ البصري أراد أيضًا تأكيد هذهِ الحقيقة، عندما كرر لفظة «صرعة» أربع مرّات بين الإسم والفعل: «صرعةٌ، صرعة، كصرعةٍ، تصرع».

وقد حذر الإمام علیه السلام من الإستكثار من الدنيا؛ لأنّ من استكثر منها ثقل حمله ودنا هلاكه، ومن أقلَّ منها خفَّ حمله وكثر أمانه، مكرّرًا لفظة

ص: 174


1- جمهرة رسائل العرب 2 / 326
2- نهج البلاغة 189

«الإستكثار» ثلاث مرات؛ ولعل سبب ذلك التكرار مثلما يراه الباحث هو انّ الإنسان - وهو خارجٌ من الدنيا - لا بدّ وأن يكون مستكثرًا، إما «ممّا يؤمنه» من الأعمال الطالحة، وإما «ممّا يوبقه» من الأعمال الصالحة.

امّا المقابلات التي وجدناها عند الإمام علیه السلام فإنّ البصري قد غیّر في ثوبها دون معناها فقوله:

«ترکها» یُقابل «من أقلَّ منها» عند الإمام علیه السلام.

«الغنى فيها» یُقابل «من استکثر منها» عند الإمام علیه السلام.

وبعد هذا انتقل البصري إلى خطبة المتقين ليضمن منها مقطعًا من ستة أسطر سنعرض لهُ - بعونه تعالى - في مبحث الخطبة المذكورة.

وبعد ذلك المقطع انتقل إلى خطبة رابعة من خطب أمير المؤمنين علیه السلام، لیأخذ منها مقطعًا كبیرًا، وعلى طريقته التي باتت واضحة بين التضمين الحرفي، والمحور، والأخذ بالمعنى، والتقديم والتأخير، فقال: «.. فالعيونُ إليها ناظرةٌ، والقلوبُ عليها والهِةٌ، والنّفوسُ لها عاشقةٌ، وهي لأزواجِها كُلِّهم قاتلةٌ، فلا الباقي بالماضي مُعتَبِر، ولا الآخِرُ لمِا رأی من أثَرِها على الأوَّلِ مُزدَجِر، ولا العارفُ باللهِ المُصدق له حين اخبره عنها مُدَّكر، قد أبت القلوبُ لها إلاّ حُبًّا، وأبت النّفوس لها إلا عشقًا، ومن عشِقَ شيئًا لمْ يُلهم غیَره، ولم يعقل سِواه، ماتَ في طلبه،... وجاءته منيَّتُه على أسرِّ ما كان منها حالاً وأطول ما كان فيها أمَلاً، فَعظُمَ نَدَمه، وكثُرت حسرتُه، مع مَا عالجَ من سكرته، فاجتمعت عليه سكرةُ الموتِ بكرْبَته، وحسرة الفوتِ بغُصَّته، فغیرُ موصوفٍ ما نَزَلَ به»(1).

ص: 175


1- جمهرة رسائل العرب 2 / 327

وما هذا برمته إلاّ إعادة على الطريقة البصرية لجزء من خطبة علوية، جاء فيه:

«سُبْحَانَكَ خَالِقًا وَمَعْبُوداً.. خَلَقْتَ دَاراً وَجَعَلْتَ فِیهَا مَأْدُبَةً: مَشْرَباً وَمَطْعَماً، وَأَزْوَاجاً وَخَدَماً، وَقُصُوراً، وَأَنْهَاراً، وَزُرُوعاً، وَثِمَاراً؛ ثُمَّ أَرْسَلْتَ دَاعِیاً یَدْعُو إِلَیْهَا، فَلاَ اَلدَّاعِيَ أَجَابُوا، وَلاَ فِیمَا رَغَّبْتَ رَغِبُوا، وَلاَ إِلَی شَوَّقْتَ إِلَیْهِ اِشْتَاقُوا. أَقْبَلُوا عَلَی جِیفَةٍ قَدِ اِفْتَضَحُوا بِأَکْلِهَا، وَاِصْطَلَحُوا عَلَی حُبِّهَا، وَمَنْ عَشِقَ شَیْئاً أَعْشَی «أعمی» بَصَرَهُ، وَأَمْرَضَ قَلْبَهُ، فَهُوَ یَنْظُرُ بِعَیْنٍ غَیْرِ صَحِیحَةٍ، وَیَسْمَعُ بِأُذُنٍ غَیْرِ سَمِیعَةٍ، قَدْ خَرَقَتِ اَلشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ، وَدَمَاتَتِ اَلدُّنْیَا قَلْبَهُ، وَوَلَهِتْ عَلَیْهَا نَفْسُهُ،.. لاَ یَنْزَجِرُ مِنَ اَللهَّ بِزَاجِرٍ، وَلاَ یَتَّعِظُ مِنْهُ بِوَاعِظٍ، وَهُوَ یَرَی اَلْمَأْخُوذِینَ عَلَی اَلْغِرَّةِ - حَیْثُ لاَ إِقَالَةَ لَهُمْ وَلاَ رَجْعَةَ - کَیْفَ نَزَلَ بِهِمْ مَا کَانُوا یَجْهَلُونَ، وَجَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ اَلدُّنْیَا مَا کَانُوا یَأْمَنُونَ، وَقَدِمُوا مِنَ اَلآْخِرَةِ عَلَی مَا کَانُوا یُوعَدُونَ. فَغَیْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِمْ؛ اِجْتَمَعَتْ عَلَیْهِمْ سَکْرَةُ اَلْمَوْتِ وَحَسْرَةُ اَلْفَوْتِ، فَفَتَرَتْ لَها أَطْرَافُهُمْ، وَتَغَیَّرَتْ لَها أَلْوَانُهُمْ...»(1).

وبهذه المقارنة يتّضح جلیًا ما عمله البصري على كلام أمير المؤمنين علیه السلام. فقوله علیه السلام: «فَلاَ اَلدَّاعِيَ أَجَابُوا، وَلاَ فِیمَا رَغَّبْتَ رَغِبُوا» وقوله «لاَ یَنْزَجِرُ مِنَ اَللهَّ بِزَاجِرٍ، وَلاَ یَتَّعِظُ مِنْهُ بِوَاعِظٍ».

اختزله البصري قليلا بقوله: «فلا الباقي بالماضي مُعتَبِر، ولا الآخِرُ فِما رأی من أثَرهِا على الأوَّلِ مُزدَجِرِ».

«قَدِ اِفْتَضَحُوا بِأَکْلِهَا، وَاِصْطَلَحُوا عَلَی حُبِّهَا».

ص: 176


1- نهج البلاغة 183

أخذه البصري بين اللفظ والمعنى: «قد وأبت القلوبُ لها إلاّ حُبًّا، وأبت النّفوس لها إلا عشقًا».

وقوله علیه السلام:

«وَمَنْ عَشِقَ شَیْئاً أَعْشَی «أعمی» بَصَرَهُ».

نجده بين التضمين الحرفي والتحوير في مقطع البصري: «ومن عشِقَ شيئًا لمْ يُلهم غیَره، ولم يعقل سِواه».

وقوله علیه السلام:

«فَهُوَ یَنْظُرُ بِعَیْنٍ غَیْرٍ صَحِیحَةٍ، وَیَسْمَعُ بِأُذُنٍ غَیْرِ سَمِیعَةٍ، قَدْ خَرَقَتِ اَلشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ، وَأَمَاتَتِ اَلدُّنْیَا قَلبَهُ، وَوَلَهِتْ عَلَیْهَا نَفْسُهُ».

اختزله البصري، وقدمه إلى أول المقطع: «فالعيونُ إليها ناظرةٌ، والقلوبُ عليها والهِةٌ، والنّفوسُ لها عاشقةٌ».

وقوله علیه السلام:

«وَهُوَ یَرَی اَلْمَأْخُوذِینَ عَلَی اَلْغِرَّةِ - حَیْثُ لاَ إِقَالَةَ لَهُمْ وَلاَ رَجْعَةَ - کَیْفَ نَزَلَ بِهِمْ مَا کَانُوا یَجْهَلُونَ وَجَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ اَلدُّنْیَا مَا کَانُوا یَأْمَنُونَ».

اختزل البصري معناه: «وجاءته منيَّتُه على أسرِّ ما كان منها حالاً وأطول ما كان فيها أمَلاً».

وقوله علیه السلام:

«فَغَیْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِمْ، اِجْتَمَعَتْ عَلَیْهِمْ سَکْرَةُ اَلْمَوْتِ وَحسْرَةُ اَلْفَوْتِ».

ضمنه البصري حرفیًا مع التقديم والتأخير: «فاجتمعت عليه سكرةُ الموتِ..

ص: 177

وحسرة الفوتِ.. فغیرُ موصوفٍ ما نَزَلَل به».

وعلى الرغم ممّا قاله الإمام قي المقطع الأخير من إنّ القومَ غیرُ موصوف ما نزل بهم، إلاّ أنّه وصفهم بلوحة تفصيلية - على صعيدي المعنى والفن - غاية في الدقة والتأثير، حتى أنّ القارئ عندما يقرأ الخطبة كاملة يشعر وكأنّه يراهم، وكأنَّه هو المقصود بذلك حصرًا فيتيه حائرًا لما سيحلّ بهِ، وكيفیّة الخلاص منه. وقد أجاد ابن أبي الحديد في تعليقه على هذهِ الخطبة، حيث قال: «من أراد أن يتعلم الفصاحة و البلاغة و يعرف فضل الكلام بعضه على بعض، فليتأمَّل هذه الخطبة.. ثم لينظر الناظر إلى ما عليها من البهاء، والجلالة، والرّواء، والديباجة، وما تحدثه من الروعة والرّهبة، والمخافة، والخشية حتى لو تليت على زنديق ملحد مصمم على اعتقاد نفي البعث و النشور لهدَّت قواه، وأرعبت قلبه..»(1).

وتجدر الإشارة إلى أنّ باقي الرسالة البصرية التي نحن بصددها مكرّر برمته في الرسالة السابقة، ثمَّ أنَّ جميع هذا التكرار هو من كلام أمير المؤمنين علیه السلام(2).

ولا تختلف المعاني والتوصيات التي أرسلها الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز، والتي بیّن فيها صفات الإمام العادل عمّا كتبه في رسائلهِ الأخری، فهو بين حاضٍّ له على السير بعدالة والرفق بالرعية، وبين الزّهد في الدنيا والاستعداد للموت. وممّا جاءَ فیها: «فالآنَ يا أمير المؤمنين وأنت في مَهَلٍ، قبلَ حلول الأجلِ

ص: 178


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 7 / 138
2- للمزيد ينظر الرسالة كاملة في جمهرة رسائل العرب 2 / 326 - 328، وتقارن بما بیّنه الباحث عن الرسالة الأولى

وانقطاع الأملِ، لا تحكمْ يا أمیرَ المؤمنين في عباد اللهِ بحُكم الجاهلين»(1).

وتشديده هذا على استغلال أیّام الحياة قبل حلول الفوت، قد طرقه أمير المؤمنين كثیرًا، وبصورٍ شتّى، منها قوله:

«رَحِمَ الله امرءًا. اِغْتَنَمَ اَلْمَهَلَ، وَبَادَرَ اَلْأَجَلَ، وَتَزَوَّدَ مِنَ اَلْعَمَلِ»(2).

فالمهل "هنا مدّة الحياة مع العافية. فإنَّهُ أُمْهِلَ فيها دون أن يؤخذ بالموت، أو تحلُّ بهِ بائقة عذاب، فهو يغتنم ذلك ليعمل فيه لآخرته، فيبادر الأجل قبلَ حلوله بما يتزوَّده من طيب العمل»(3).

وقول البصري: «وأنت في مهل».

لا يختلف عن قول الإمام: «اغتنم المهل».

وهكذا قوله: «قبل حلول الأجل».

بالنسبة لقول الإمام: «وبادر الأجل».

وكتب البصري في الرسالة أيضًا: «ولا يغرنَّك الّذين يتنعّمون بما فيه بُؤسُك، ويأكلون الطيِّباتِ في دنياهم بإذهاب طيِّباتِك في آخرتك»(4).

وكلامه هذا نجد ما يضارعه في كلام أمير المؤمنين علیه السلام التي ضمن منها البصري مقطعًا كبیرًا في الرسالة السابقة، فبعد قوله: «فغير موصوفٍ مانَزَلَ بهم..». قال علیه السلام:

ص: 179


1- جمهرة رسائل العرب 2 / 325
2- نهج البلاغة 105
3- شرح نهج البلاغة لمحمد عبده 1 / 115
4- جمهرة رسائل العرب 2 / 325

«وَیَتَذَکَّرُ أَمْوَالاً جَمَعَهَا... تَبْقَی لَمِن وَرَاءَهُ یُنَعَّمُونَ فِیهَا، وَیَتَمَتَّعُونَ بِهَا، فَیَکُونُ اَلْمَهْنَأُ لِغَیْرِهِ، وَاَلْعِبْءُ عَلَی ظَهْرِهِ»(1).

وفي ختام هذه الرسالة بیّن البصري للخليفة إنّه لم يدّخر ما بوسعه من نصائح وعظات إلاّ قدمها له، على الرغم من أنّه لم يبلغ بعظاته تلك من اسماهم بأولي النُّهى، فقال: «إنّي يا أمير المؤمنين وإن لم أبلغ بعِظَتي ما بلغهُ أولو النُّهَى من قبلي فلمْ آلُكَ شفقَةً ونُصحًا»(2).

ففي كلام البصري هذا نشعر بوجود جملة اعتراضية من قولهِ: «وإن إلى قوله قبلي». والكلام الأصلي هو «إني يا أمير المؤمنين لم آلك شفقة ونصحًا»، وهنا يتّضح جليًا أثر ما جاء في وصیّة أمير المؤمنين لولدهِ الحسن علیهم السلام: «فإنّي لم آلُكَ نصيحةً»(3).

ولم آلك نصحًا: أي لم اقصّر ولم أبطىء لك في النصيحة، وهو من ألا يألوا أي قصر(4).

وممّا تمیّزت بهِ رسائل البصري، التّفاوت البیّن، من حيث الطول والتّوسط والقصر، فمثلما وجدنا عنده رسالة طويلة وأخری متوسطة، نجد عنده الرسالة الموجزة. ومن هذا النوع ما كتبه لأحد تلامذته: «أمَا بَعدُ فإنّي أوصيكَ بتقوی الله... فإنَّ الدُّنيا ميدانُ مسابقة، والغايةُ الجنة أو النّار»(5).

ص: 180


1- نهج البلاغة 184
2- جمهرة رسائل العرب 2 / 325
3- نهج البلاغة 461
4- ينظر: منهاج البراعة 3 / 97
5- البداية والنهاية 9 / 289

وتشبيه البصري هذا للدنيا بأنّها ميدان مسابقة ونهاية المسابقة الجنة أو النار إتكأ فيه تمامًا على وصف أمير المؤمنين علیه السلام:

«أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اَلدُّنْیَا قَدْ أَدْبَرَتْ... أَلاَ وَإِنَّ اَلْیَوْمَ اَلْمِضْمَارَ، وَغَداً اَلسِّبَاقَ، وَاَلسَبَقَةُ اَلْجَنَّةُ، وَاَلْغَایَةُ اَلنَّارُ»(1).

المضمار هو «الموضع الذي تُضمَّرُ فيه الخيلُ وتضميرها أن تُعْلَفَ قوتًا بعد سمنها»(2). والمعنی: أراد علیه السلام أنّ الإنسان في مدة عمره يستعد بالتقوی ویروض نفسه بالأعمال الصالحة للسبقة إلى لقاء الله تعالى كما أنّ الفرس يستعد بالتضمير إلى سبق مثله(3).

وعلى الرغم من إنّ التعالق كبیرٌ بين النصّين، فتشبيه البصري للدنيا بانّها «ميدان مسابقة» من تشبيه الإمام لها بأنّها «مضمار».

وقول البصري: «والغاية الجنّة أو النّار». من قول الإمام: «والسبقة الجنة، والغاية النار».

ومع هذا فإنّ البصري لم يصب لما جعل الجنة والنار كليهما غاية، مقارنة بكلام أمير المؤمنين علیه السلام الذي جعل الجنة سَبقة، والنَّارَ غاية. وبإيراد تعليق الشريف الرَّضي على نصِّ الإمام يتضح كم تقدَّم علیه السلام حيث تأخر البصري، قال الرضي (رحمه الله): « وأقول: إنه لو كان كلام يأخذ بالأعناق إلى الزّهد في الدنيا، ويضطر إلى عمل الآخرة لكان هذا الكلام... ومن أعجبه قوله علیه السلام:

ص: 181


1- نهج البلاغة 58
2- لسان العرب 4 / 491 مادة (ضمر)
3- ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة 4 / 6

«أَلاَ وَإِنَّ اَلْیَوْمَ اَلْمِضْمَارَ، وَغَداً اَلسِّبَاقَ، وَاَلسَبَقَةُ اَلْجَنَّةُ، وَاَلْغَایَةُ اَلنَّارُ».

فإن فيه - مع فخامة اللفظ، وعظم قدر المعنى، وصادق التمثيل، وواقع التشبیه - سرًّا عجيبًا، ومعنى لطيفا، وهو قوله: [والسبقة الجنة والغاية النار] فخالف بين اللفظين لاختلاف المعنيين و لم يقل [السبقة النار] كما قال: [السبقة الجنة] لأن الاستباق إنما يكون إلى أمرٍ محبوب، وغرض مطلوب، وهذه صفة الجنة، وليس هذا المعنى موجودًا في النار نعوذ بالله منها فلم يجز أن يقول:

[والسبقة النار] بل قال: [والغاية النار]...»(1).

ومن رسائلهِ القصيرة الأخری قوله : «أمّا بعدُ، يا أمير فكأنّ الذي كانَ لم يكن، وكأنَّ الذي هو كائنٌ قد نزل، واعلم يا أمير المؤمنين أنَّ الصبرَ - وإن أذاقك تعجيل مرارته - فلنعم ما أعقبك من طيب حلاوته، و حُسن ِ عاقبته، وأنّ الهوی - وإن أذاقك طعمَ حلاوته - فلبئس ما أعقبك من مرارته وسوء عاقبته، واعلم يا أمير أنّ الفائزَ مَنْ حرص على السلامة في دار الإقامة، وفازَ بالرحمة أُدخِلَ الجنة»(2).

تتكون الرسالة من ثلاثةِ مقاطع، كُلُّ مقطعٍ منها يبتدأ ب «یا أمیر المؤمنین»، وكلُّ هذه المقاطع بُنيت من كلمات أمير المؤمنين علیه السلام.

أمّا الأول منها، فقد كرر البصري معناه وأرسله بمفرده إلى عمر بن عبد العزیز:

«سلامٌ عليكَ أمّا بعد، فكأنّكَ بالدنيا لم تكن، وبالآخرة لم تزَل»(3). وهذا دون شك عن أمير المؤمنين علیه السلام وقد وردَ في موضعين أيضًا:

ص: 182


1- نهج البلاغة 59
2- جمهرة رسائل العرب 2 / 331
3- حياة الحسن البصري وسيرته العلمية 136

الأول قوله علیه السلام في خطبة ضمّن البصري بعضها حرفیًا، وقد أشرنا لذلك في السابق(1):

«فَکَأَنَّ مَا هُوَ کَائِنٌ مِنَ اَلدُّنْیَا عَنْ قَلِیلٍ لَمْ یَکُنْ، وَکَأَنَّ مَا هُوَ کَائِنٌ مِنَ الآْخِرَةِ عَمَّا قَلِیلٍ لَمْ یَزَلْ»(2).

الثاني قوله علیه السلام:

«فَکَأَنَّهُمْ لَمْ یَکُونُوا لِلدُّنْیَا عُمَّاراً، وَکَأَنَّ اَلآْخِرَةَ لَمْ تَزَلْ لَهُمْ دَاراً»(3).

فالمعنى واحد بين النصوص الأربعة، وهو مثلما شرح ابن أبي الحديد نصَّ الإمام علیه السلام الأول بقوله: «ما هوَ كَائنٌ موجود من اَلدُّنيا سيصير عنْ قَلِیلٍ - أي بعدَ زمانٍ قليل - معدومًا، والزّمان القصير ههنا: انقضاء الأجل وحضور الموت. ثم قال: إنّ الذي هو كائن وموجود من الآخرة سيصير عن قليل - أي بعد زمان قصير أيضًا - كأنه لم يزل؛ والزّمان القصير ههنا هو حضور القيامة..»(4) وبودِّ الباحث تبيان التعالق الواضح بين النصوص الأربعة بطريقة أوضح:

فقول البصري: «فكأنّ الذي كانَ لم يكن»، وقوله: «فكأنك بالدنيا لم تكن».اعتماد كلي على قول الإمام:

«فَکَأَنَّ مَا هُوَ کَائِنٌ مِنَ اَلدُّنْیَا عَنْ قَلِیلٍ لَمْ یَکُنْ».

وقوله علیه السلام:

ص: 183


1- تنظر: الرسالة 98 - 99
2- نهج البلاغة 170
3- م. ن 322
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 7 / 74

«فَکَأَنَّهُمْ لَمْ یَکُونُوا لِلدُّنْیَا عُمَّاراً».

أمّا قول البصري: «وكأنّ الذي هو كائن قد نزل» وقوله: «وبالآخرة لم تزل».

اعتماد على قول الإمام: «وكأن ما هُوَ كَائِنٌ مِنَ الآْخِرَةِ عمَّا قَلِيلٍ لمْ يَزَلْ».

وقول علیه السلام:

«وَکَأَنَّ اَلآْخِرَةَ لَمْ تَزَلْ لَهُمْ دَاراً».

وبالنسبة للمقطع الثاني من الرسالة «إنّ الصبرَ إلى قوله وسوء عاقبته» فهو لا يعدو - إذا فتشتَ عن معناه - بسطاً، أو توسّعًا لمقابلة أمير المؤمنين علیه السلام التي أجراها بين الحقِّ والباطل:

«إِنَّ اَلْحَقَّ ثَقِیلٌ مَرِيٌ، وَإِنَّ اَلْبَاطِلَ خَفِیفٌ وَبِيءٌ»(1).

وكأنّ البصري بتوسعه السالف شرح الحكمة العلوية كما شرحها ابن أبي الحديد لما قال: «الحق و إن كان ثقيلاً إلاّ أنَّ عاقبته محمودة، ومغبّته صالحة، والباطِلُ وإن كان خفيفًا إلاّ أنَّ عاقبته مذمومة و مغبّته غير صالحة، فلا يحمِلنَّ مضارُّ عظیمة آجلة..»(2) أمّا المقطع الثالث في الرسالة، والمتمثل بقول البصري: «إنّ الفائز مَنْ حَرِصَ على السلامة في دار الإقامة». كقول أمير المؤمنين علیه السلام في وصف السالك الطريق إلی الله سبحانه: «وَتَدَافَعَتْهُ اَلْأَبْوَابُ إِلَی بَابِ اَلسَّلاَمَةِ، وَدَارِ اَلْإِقَامَةِ»(3).

ص: 184


1- نهج البلاغة 621
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 19 / 184
3- نهج البلاغة 391

وكتب إلى عمر بن عبد العزيز أيضا: «واعلمْ أنَّ الهولَ الأعظم، و مُفظِعات الأمور أمامك لم يقطع منها بعد، وأنّه لا بُدَّ واللهِ لك من مشاهدة ذلك ومعاينَته، أمَّا بالسَّلامةِ والنجاة منه، وأمَّا بالعطب»(1).

ورسالته هذه مقتطعة - بين المعنى والتضمين والتقديم والتأخير - من خطبةٍ لأمير المؤمنين علیه السلام منها:

«فَإِنَّ أَمَامَکُمْ عَقَبَةً کَؤوداً، وَمَنَازِلَ مَخُوفَةً مَهُولَةً، لاَ بُدَّ مِنَ اَلْوُرُودِ عَلَیْهَا، وَاَلْوُقُوفِ عِنْدَهَا. وَاِعْلَمُوا أَنَّ مَلاَحِظَ اَلْمَنِیَّةِ نَحْوَکُمْ دَانِیَةٌ، وَکَأَنَّکُمْ بِمَخَالِبِهَا وَقَدْ نَشِبَتْ فِیکُمْ، وَقَدْ دَهَمَتْکُمْ مِنْهَا مُفْظِعَاتُ اَلْأُمُورِ، وَمُعْضِلاَتُ اَلْمَحْذُورِ»(2).

فالنّصَّان يصوّران أمرًا حتمیًّا في الدنيا، ألا وهو إقبال المنية، وهذا ما نجده في بداية المقطع من خطبة الإمام علیه السلام:

«فَإِنَّ أَمَامَکُمْ عَقَبَةً کَؤوداً... لاَ بُدَّ مِنَ اَلْوُرُودِ عَلَیْهَا، وَاَلْوُقُوفِ عِنْدَهَا».

بينما البصري جعل هذا ثانیًا: «وإنّه لا بُدَّ والله لك من مشاهدة ذلك ومعاینة». محذِّران - أي النصان - من إنّ المنية لا تطلب الإذن، بل تداهم في كلِّ لحظة، وهذا ما جعله الإمام في المقطع الثاني من الخطبة:

«وَاِعْلَمُوا أَنَّ مَلاَحِظَ اَلْمَنِیَّةِ نَحْوَکُمْ دَانِیَةٌ... وَقَدْ دَهَمَتْکُمْ مِنْهَا مُفْظِعَاتُ اَلْأُمُورِ». بينما البصري جعل هذا أولاً: «واعلمْ أنَّ الهولَ الأعظم، ومُفظِعات الأمور أمامك».

ومثلما أكد الإمام علیه السلام هذا المعنى بفعل الأمر «اعلم» ثم ب«أنّ» فعل البصري

ص: 185


1- جمهرة رسائل العرب 2 / 331
2- نهج البلاغة 372

هکذا «اعلم أنّ».

وأما قول الإمام علیه السلام:

«مُفْظِعَاتُ اَلْأُمُورِ».

الذي يعنى تجاوز المقدار في الشدّة(1) فنجده بنصِّه في رسالة البصري. ومع هذا يبقى بون بين الكلامين في أمورٍ عدة، منها: تصوير الإمام للمنية كأنها كائن حيّ، أقبلت تلحظ البشر على دنوٍّ منهم، ثمَّ إنّها تتخير مَنْ منهم ستُنشِبُ مخالبها فيه.

وهدف الإمام من تصوير المنسّة بهذهِ الهيأة المرعبة والمقلقة هو دفع المرء للإستعداد أكثر لذلك اليوم الذي لا مفرَّ منه، وهذا ما قاله صراحة في آخر الخطبة:

«واستَظْهِرُوا بزادِ التقوی»(2).

وللبصري رسائل موجزة جدًّا، ومنها: «أما بعدُ يا أمير المؤمنين، فإنّ طول البقاء إلى فناء، فخذ من فنائِكَ الذي لا يبقى، لبقائك الذي لا يفنى، والسلام»(3).

وما هذا المعنى والألفاظ، والمقابلة التي أجراها بين الفناء والبقاء « فخذ من فنائِكَ الذي لا يبقى، لبقائك الذي لا يفنى» إلاّ مقطعًا من خطبةٍ طويلة لأمير المؤمنين علیه السلام منها:

«وَأَزْمَعَ اَلتَّرْحَالَ عِبَادُ اَللهَّ اَلْأَخْیَارُ، وَبَاعُوا قَلِیلاً مِنَ الدُّنیَا لاَ یَفْنَی»(4).

ص: 186


1- نهج البلاغة 372
2- م. ن 372
3- حياة الحسن البصري 136
4- نهج البلاغة 306

هذه هيَ أهم رسائل البصري، وبعد أن عرفنا على مَنْ اعتمد في صياغتها - اللفظية والمعنوية - تبقى مسألة لها من الأهمية نصيب أعني ذلك التفاوت الكبير بين طول هذه الرسائل وقصرها، فمثلما وجدنا عنده رسالة تربو على المائة سطر - وهي الرسالة الأولى في المبحث -، و أُخر تميَّزنَ بالتوسط، وقسم ثالث بالقصر، وجدنا رسائل لا تتجاوز كلمات الواحدة منها سطرًا واحدًا. وهذه الطريقة هي أيضًا أثرٌ علويٌ خالصٌ؛ لأنّ أمير المؤمنين علیه السلام لم يُسبَقُ إلى هذا، لا منْ الذين سبقوه، ولا منَ الذين عاصروه.

وصفوة القول إنَّ رسائل البصري بلفظها ومعناها، وطولها وقصرها، كانت تموج بأثر كلام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه).

ص: 187

ص: 188

المبحث الثالث: أثر خطبة المتقین

للإمام علي علیه السلام في نثر الحسن البصري تُعدّ هذه الخطبة من الخطب التي لا يختلف إثنان في مرجعيَّتها لأمير المؤمنین علیه السلام. وسببُ إلقائها عائدُ إلى طلبٍ من أحد أصحابهِ علیه السلام المقربیّن يدعى همّام(1)، إذ قال:

«یَا أَمِیرَ اَلْمُؤْمِنِینَ صَیفْ لِيَ اَلْمُتَّقِینَ حَتَّی کَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَیْهِمْ فَتَثَاقَلَ علیه السلام عَنْ جَوَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: یَا هَمَّامُ، اِتَّقِ اَللهَ وَأَحْسِنْ..»(2).

ص: 189


1- هو هّمام بنُ شريح بن يزيد بن ثمرة بن عمرو بن جابر، يعدُّ من خُلَّص شيعتة أمير المؤمنين علیه السلام وأوليائه، وكان ناسکًا عابدًا. ينظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10 / 307. وقال عنه الأميني: هو هّمام ين عبادة بن خثيم، كان صاحبًا لأمير المؤمنين علیه السلام، وكان أحد الزُّهاد الثمانية. ینظر: أعیان الشیعة 10 / 271. والمترجمون لم يحددوا سنة وفاته لكن يمكن أن نجعلها بين سنة (36 - 41 ه)، أي مدّة خلافة أمير المؤمنين علیه السلام أي هّمام - في ساعة إلقاء الخطبة المذكورة، والخطبة ألقاها الإمام في أيام خلافته
2- نهج البلاغة 35

وتثاقل الإمام المروي هنا اختلف في توجيه المفكّرون، ولكن في توجيه ابن أبي الحديد بعض الإحاطة لمّا قال: «يجوز أن يكون تثاقلَ عن جوابه لأنه علم أنّ المصلحة تكمن في تأخير الجواب، أو لعلّه رأی في التثاقل شوقًا يشدُّ همَّام للإستماع للوصف، فيكون أبلغ في التأثير، أو إنّه تأخَّر من باب تأخير البيان لوقت حاجته، لا من باب تأخيره عن وقت حاجته»(1).

و لمّا أصر همّام بعد تثاقل الإمام علیه السلام عن إجابته خطب الإمام بخطبةٍ قائمة على الوصف، تعدُّ من أروع خطبهِ وأشدّها تأثیرًا، إلى درجةٍ جعلت من المُخاطب المذكور يصعق ويموت، وهذهِ مقدرة من البيان لا يمكن التكهّن بحدودها. نعم من الممكن لأمراء البيان أن يستهوي بيانهم القلب ويشغفه، ولكن إلى هذهِ الدرجة من التأثير بحيث تلامس البلاغة الروح وتجعلها - بإذن الله - تفارق الجسد فهذا أمرٌ محیِّر للألباب.

فإن قال قائل هنا إنّ الصفات من حيث المبدأ هي التي أثَّرت على همّام وأوصلته إلى حتفه، فالجواب نعم، ولكن ليس هذا الأمر - مطلقًا - هو من يملك زمام الحادثة، لأنّ هذه الموضوعات التي طرقها الإمام هي موضوعات مطروقة بكاملها، وسبق أن سمعها همّام وغيره، لكنّ الإبداع كمَن في الوصف التفصيلي للمؤمنين بصفات رَبَت على المائة صفةِ، فضلاً عن التصوير الدقيق لهم، وكأنّ المتلقي يشاهدهم ويشاهد برنامجهم الذي رسمه الإمام علیه السلام على طول اليوم والليلة، وما صاحب هذا من صدق في الوصف، وفنون بلاغية كثيرة جدًّا كالطباق والسجع والتشبيه والاستعارة والكناية والمجاز وغير ذلك.

ص: 190


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10 / 307 - 308

ونری أيضًا إنّ جانبًا من هذهِ الدقة - التي ستمر علينا - في وصفهِ علیه السلام جاءَ تلبیةً لطلب همّام، لأنّه حدّدَ الإمام بوصفٍ متمیّز للمتقين «كأنّي أنظر إليهم».

وممّا بانَ في الخطبة إنّ الإماملم يخاطب بها مَنْ سأله فحسب، بل استغلَّ الظرفَ ليجعلَها تشمل أكثر من مخاطب، إبتداءً من أوَّلهم المستمع المقصود همّام، إلى مخاطبة الإمام علیه السلام لله - سبحانه وتعالى - على سبيل الدعاء والثنّاء، مرورًا بمخاطبة الجمهور المستمع، وإنتهاءً بالمستمعين المعترضين(1) من نحوِ قول الإمام علیه السلام لأحدهم:

«لاَ تَعُدْ لمِثْلِهَا، فَإِنَّمَا نَفَثَ اَلشَّیْطَانُ عَلَی لِسَانِك!»(2).

وفي هذه التوسعة أي توسعة من يشمله الخطاب، توسعه لأثر الخطبة، وفعلاً كانَ لها أثرٌ بالغ في النثر العربي وعلى رأس مَنْ تأثّروا بها هو الحسن البصري، إذ أتى على الخطبة بكاملها وقسَّمها على قسمين: جعل الأوّل منهما في ثمانية نصوص تقريبًا بين خطبة ورسالة وموعظة، أمّا الثاني فجعلهُ في خطبةٍ طويلة. وسنذكر قسمي الخطبة على طولهما لإقتضاء الضرورة لذلك، ونلحق بكلّ قسمٍ كلام البصري المأخوذ عن ذلك القسم.

قال أمير المؤمنين علیه السلام:

«أَمّا بَعْدُ فَإِنَّ اَللهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَی - خَلَقَ اَلْخَلْقَ حَیْن خَلَقَهُمْ غَنِیّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِیَتِهِمْ، لِأَنَّهُ لاَ تَضُرُّهُ مَعْصِیَةُ مَنْ عَصَاهُ، وَلاَ تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ. فَقَسَمَ بَیْنَهُمْ مَعَایِشَهُمْ، وَوَضَعَهُمْ مِنَ اَلدُّنْیَا مَوَاضِعَهُمْ. فَالمُتَّقُونَ فِیهَا هُمْ أَهْلُ اَلْفَضَائِلِ: مَنْطِقُهُمُ اَلصَّوَابُ، وَمَلْبَسُهُمُ اَلاِقْتِصَادُ،

ص: 191


1- ينظر: نهج البلاغة في ضوء علم اللغة الإجتماعي 252 - 254
2- نهج البلاغة 254

وَمَشْیُهُمُ اَلتَّوَاضُعُ. غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اَللهُ عَلَیْهِمْ، وَوَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَی اَلْعِلْمِ اَلنَّافِعِ لَهُمْ. نُزِّلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي اَلْبَلاَءِ کَالَّذِي نُزِّلَتْ فِي اَلرَّخَاءِ. وَلَوْ لاَ اَلْأَجَلُ اَلَّذِي کَتَبَ اَللهُ لَهُمْ (عَلَیْهِمْ) لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَیْنٍ، شَوْقاً إِلَی اَلثَّوَابِ، وَخَوْفاً مِنَ اَلْعِقَابِ. عَظُمَ اَلْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْیُنِهِمْ، فَهُمْ وَاَلْجَنَّةُ کَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِیهَا مُنَعَّمُونَ، وَهُمْ وَاَلنَّارُ کَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِیهَا مُعَذَّبُونَ. قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ، وَشُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ، وَأَجْسَادُهُمْ نَحِیفَةٌ، وَحَاجَاتُهُمْ خَفِیفَةٌ، وَأَنْفُسُهُمْ عَفِیفَةٌ. صَبَرُوا أَیَّاماً قَصِیرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِیلَةً. تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ یَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ. أَرَادَتْهُمُ اَلدُّنْیَا فَلَمْ یُرِیدُوهَا، وَأَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا. أَمَّا اَللَّیْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ تَالِینَ لِأَجْزَاءِ اَلْقُرْآنِ یُرَتِّلُونَهَا تَرْتِیلاً؛ یُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَیَسْتَثِیرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ؛ فَإِذَا مَرُّوا بِآیَةٍ فِیهَا تَشوِیقٌ رَکَنُوا إِلَیْهَا طَمَعاً، وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَیْهَا شَوْقاً، وَظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْیُنِهِمْ. وَإِذَا مَرُّوا بِآیَةٍ فِیهَا تَخْوِیفٌ أَصْغَوْا إِلَیْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ، وَظَنُّوا أَنَّ زَفِیرَ جَهَنَّمَ وَشَهِیقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ، فَهُمْ حَانُونَ عَلَی أَوْسَاطِهِمْ، مُفْتَرِشُونَ لَجِبَاهِهِمْ وَأَکُفِّهِمْ وَرُکَبِهِمْ، وَأَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ، یَطْلُبُونَ إِلَی اَللهَّ إِلَی اَللهَّ تَعَالَی فِي فَکَاكِ رِقَابِهِمْ. وَأَمَّا اَلنَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ، أَبْرَارٌ أَتْقِیَاءُ قَدْ بَرَاهُمُ اَلْخَوْفُ بَرْيَ اَلْقِدَاحِ، یَنْظُرُ إِلَیْهِمُ اَلنَّاظِرُ فَیَحْسَبُهُمْ مَرْضَی، وَمَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ؛ وَیَقُولُ: لَقَدْ خُولِطُوا! وَلَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِیمٌ! لاَ یَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالهِمُ اَلْقَلِیلَ، وَلاَ یَسْتَکْثِرُونَ اَلْکَثِیرَ؛ فَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ، وَمِنْ أَعْمَالهِمْ مُشْفِقُونَ»(1).

أخذ البصري هذا وجعله في مواطن عدة، إذ إنّ جمیع ما سنذکره عنه من

ص: 192


1- نهج البلاغة 351 - 352

نصوص هي من جزء الخطبة المذكور، وسنعزف عن نصوصهِ القصار المتأثرة بهذا الجزء من الخطبة، لأنّ في الطوال منها الكفاية:

النص الأول:

خطب البصري، فقال: «واللهِ لو أنَّ رجلاً منكم أدرکتُ من القرون الأولی، ورأی من رأيتُ من السَّلف الصالح، لأصبح مهمومًا، وأمسى مغمومًا،... أيُّها النّاسُ! إنّ لله عبادًا هم كمن رأی أهلَ الجنة في الجنّةِ مُتنعمين، وأهلَ النّار في النّار مُعذَبین، فهم يعملون لمِا رأوا مِنَ النعيم، وينتهون عمّا خالفوا من العذاب الأليم.

أيُّها الناسُ! إنّ للهِ عبادًا قلوبُهم محزونةٌ، وشرورهُم مأمونةٌ، وأنفسهم عفيفة، وجوانحهم خفيفة، صبروا الأیّامَ القلائِلَ؛ لمِا رَجَوا في الدُّهورِ الأطاول، أمّا الليل، فقائمون على أقدامهم يتضرّعون إلى ربِّهم، ويسعونَ في فكاك رقابهم تجري من الخشية دموعهم، وتخفُقُ من الخوفِ قلوبُهم، وأمّا النّهارُ فحكماءُ عُلماءُ أتقياءُ أخفياء، يحسبُهم الجاهل أغنياءَ منَ التعفُّفِ، تخالُهُم من الخشية مرْضى، وما بهم مرضً، ولكنَّهم خُولطوا بذكر النّار وأهوالها لَهم - والله - كانوا فيما أحلَّ لهم أزهدَ دمنكم فيما حُرِّمَ عليكم، وكانوا أبصرَ بقلوبهم لِدينهِم منكم لدنياکَم بأبصاركم، ولهم كانوا بحسناتهم أن تُردَّ عليهم أخوفَ منكم أنْ تعذَّبوا على سيئاتكم»(1).

النص الثاني:

لمّا سُئِل البصري أنْ يصفَ أصحاب رسول صلی الله علیه وآله، خطب خطبةً قال فیها: «ظهرت منهم علامات: الخير في السيماء، والسمتُ، والهدی، والصدقُ،

ص: 193


1- آداب الحسن البصري 123 - 124

والخشونةَ، ملابسهم بالاقتصادِ، وممشاهُم بالتواضع، ومنطقهُم بالعملِ، ومطعمهم ومشربهم بالطيب من الرِّزق، وخضوعُهم بالطاعةِ لربِّهم تعالى، واستقادتُهم للحق فيما أحبّوا وكرِهوا، وإعطاؤُهم الحقَ من أنفسِهم ظمِئت هواجرُهم، ونحلت أجسامُهم، واستخفّوا بسخطِ المخلوقين رضى الخالق، لم يفرِّطوا في غضب، ولم يحيفوا في جور، ولم يجاوزوا حكم الله تعالى في القرآنِ، شغلوا الألسُنَ بالذكر، بذلوا دماءَهم حين استنصرهم، وبذلوا أموالهم حين استقرضَهم، ولم يمنعهم خوفُهم في المخلوقين، حسنت أخلاقهم، وهانت مؤونتُهم، وکفاهم الیسیرُ من دنیاهم إلی آخرتِهم»(1).

النص الثالث:

وخطب أيضًا، فقال: إنّ المؤمنَ عملَ لله تعالى أيَّامًا يسيرةً، فوالله ما ندِمَ أن يكونَ أصاب من نعيمها ورخائِها، ولكن راقت الدنيا له فاستهانها وهضمها لآخرته، وتزوَّد منها. فلم تكن الدنيا في نفسه، بدار ولم يرغبْ في نعيمها ولم يفرحْ برخائِها، ولم يتعاظمْ في نفسه شيءٌ من البلاء إن نزل بهِ مع احتسابه للأجر عند الله، ولم يحتسب نوال الدنيا حتى مضى راغبًا راهبًا فهنيئًا هنيئًا»(2).

النص الرابع:

روي عن البصري أنّه كان یقول: «أدركتُ من صدر هذهِ الأمة قومًا كانوا إذا جنّهم الليلُ فقيامٌ على إطرافِهم يفترشونَ خدودَهم تجري دموعُهم على خدودِهم، يناجون مولاهم في فكاكِ رقابِهم، إذا عملوا الحسنةً سرَّتهم وسألوا

ص: 194


1- حلية الأولياء 2 / 151
2- م. ن 2 / 146 - 147

الله أن يتقبّلَها منهم، وإذا عملوا سيِّئةً ساءتهم وسألوا اللهَ أنْ يغفرَها لهم»(1).

النص الخامس:

قال البصري واصفًا المؤمنين: «إنّ المؤمنين قومٌ ذٌلُل، ذُلِّلتْ منهم واللهِ الأسماعُ والأبصار والجوارح، حتى يحسبهم الجاهلُ مرضى، وإنَّهم لأصحِّاءُ القلوبِ، ولكن دخلهم من الخوفِ ما لم يدخلْ غیرَهم، ومنعهم من الدنيا علمُهم بالآخرة، فقالوا: الحمد لله الذي أذهبَ عنّا الحزنَ، والله ما حزنهم حزنَ الدنيا، ولا تعاظم في أنفسهم ما طلبوا بهِ الجنّة»(2).

النص السادس:

وفي خطبة أخری له صنّفَ فيها قرّاء القرآن إلى ثلاثة أصناف، ذمَّ الأوَّلَين، ومد َ ح الثالث، فقال فيه: «... ورجلُ قرأ القرآن، فبدأ بما يعلمُ من دواءِ القرآنِ فوضعه على داءِ قلبه، فسهر ليله، وانهملت عيناه، وتسربل بالخشوع، وارتدی بالحزن...»(3).

النص السابع:

كتب الحسن البصري رسالةً أرسلها إلى عمر بن عبد العزيز، منها: «.. فكنْ فيها يا أمير المؤمنين كالمُداوي جَرْحَه: يصبرُ على شدَّةِ الدَّواء، مخافةَ طولِ البلاء وليحتمي قليلاً، مخافةَ ما يكره طويلاً، فإنَّ أهلَ الفضائل كانوا منطقُهم فيها بالصواب، ومشیُهم بالتّواضع، مطعَمهم الطيِّبُ من الرِّزق، مُغمضي

ص: 195


1- البيان والتبيين 3 / 481
2- جامع البيان عن تأويل آي القرآن 11 / 34
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10 / 232

أبصارهم عن المحارم، فخوفُهم في البرِّ كخوفِهم في البحر، ودعاؤهم في السَّرَّاء كدعائهم في الضّراء، لولا الآجالُ التي كُتِبتْ لهم، ما تقاوت أرواحُهم في أجسادهم خوفًا من العقاب، وشوقًا إلى الثَّواب، عظُم الخالقُ في نفوسِهم، فصغُر المخلوقون في أعیُنهم. واعلم ْ يا أمير المؤمنين... ليس ما يفنى وإنْ كان كثیرًا بأهلٍ أن يؤثرَ على ما يبقى وإن كان طلبُه عزيزًا، واحتمالَ المؤونةِ المنقطعة التي تعقب الراحة الطويلة خير من تعجيل راحة منقطعةٍ تُعْقب مؤونة باقية، وندامة طويلة..»(1).

النص الثامن:

خطب البصري، فقال: «إن لله - عزَّ و جلَّ - عبادًا كمَنْ رأی أهل الجنّة في الجنّة مخلدين، وكمَنْ رأی أهل النارَ في النّار مخلّدين، قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونه، حوائجهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة، صبروا أياما قصارا تعقبُ راحةً طويلة، أمّا الليلُ فمصافّةٌ أقدامُهم، تسيل دموعَهم على خدودهم يجأرون إلى ربِّهم ربنا ربنا، وأمّا النهار فحلماءُ علماء بررة أتقياء كأنّهم القداحُ، ينظر إليهم الناظِرُ فيحسبُهم مرضى وما بالقوم من مرض، أو خولطوا ولقد خالط القوم من ذكر الآخرةِ أمرٌ عظيم»(2).

فجميع هذه النصوص التي ذُكرت هي من الخطبة المذكورة، مرّةً بالنص، وأخری بتغيير طفيف، وثالثة بالمعنى، ورابعة بهذهِ الطرق كلها، أي يقوم البصري بتكرار العبارة الواحدة من الخطبة العلوية مرّات عدّة كيفما شاء، وأنى شاء.

ص: 196


1- جمهرة رسائل العرب 2 / 326
2- حلية الأولياء 2 / 148

أمّا مباشرة أمير المؤمنين علیه السلام في غرض الخطبة نجده قد استهلّ خطبته مؤكّدًا على أنّ المتقين هم أصحاب الفضائل في الدنيا «فالمتقون فيها هم أصحاب الفضائل» وذلك من خلال ذكره للمتقين مرَّتين؛ الأولى بالنص، والأخر لما كرّر الضمير «هم» العائد عليهم. وعلى هذا سار البصري في نصهِ السابع: «فإنّ أهل الفضائل» فهو هنا رغّبَ أيضًا في التأكيد على ما ذكر عن طريق «إنّ». ولکنّ وصفَ الإمام هذا مجمل يحتاج إلى تفصيل(1)، ولا ننسى شرطَ همّام لما أراد وصفًا مفصَّلاً للمؤمنين من أميرهم (صلوات الله عليه)، ولذا بدأ يفصل، والبصريفيما بعد يأخذ ويعظ.

فبدأ علیه السلام باللسان، ولعلَّ السبب في ذلك إن أول ما يدلّ على لبّ الإنسان وجوهرهِ هو منطقه؛ فإذا كان كلام المتكلم صوابًا، فتوسَّمْ يا همّام بصاحبهِ التقوی، واللسان مرتبط بالقلب، فالقلب يفكر ويهيء، واللسان ينطق، فمن صحَّ منطقه، كانت تلك علامة على صحَّة قلبِه وإيمانه. وبعد اللسان انتقل إلى وصف الهيئة كونها تفصح أيضًا عن مكنون الرجل، ثم غيرهما من الصفات، فقال علیه السلام:

«منطقهم الصَّواب، ... وملبسهم الإقتصاد، ومشيهم التَّواضع غضّوا أبصارهم عمَّا حَرَّم الله عليهم».

ضمّن البصري هذا المقطع مرّتين، مرّةً في نصّهِ السابع حيث قال: «منطقُهم فيها بالصواب، ومشیُهم بالتّواضع، مُغمضي أبصارهم عن المحارم». والأخری في نصّه الثاني، لما قال: «ملابسهم بالإقتصاد، وممشاهم بالتَّواضع».

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ كلام الإمام علیه السلام:

ص: 197


1- ينظر: البعد الفكري والتربوي في نهج البلاغة 95

«غضوا أبصارهم عمَّا حَرَّم الله عليهم».

أخذه من قوله تعالى:

«قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ»(1).

فالقرآن الكريم دعا المؤمن أن يغضّ «من» بصره، ومن هنا تبعيضّية، أي بعض بصره، وأمير المؤمنين علیه السلام سارَ على هذا، فنهى عن بعض البصر، وشخّصه بالمحرم «عمَّا حرَّم الله». بينما البصري آثر أن يقتفي المسلك العلوي باللفظ والمعنی، لمّا قال: «مُغمضي أبصارهم عن المحارم».

ثمّ بعد ذلك انتقل علیه السلام إلی وصف أنفس المتقین، فقال:

نُزِّلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نُزِّلتْ في الرَّخاء».

بمعنى أنَّ نفوسهم صلبة الإيمان لا تقنط إذا نزل بها البلاء، ولا تبطر إذا حلَّ بها الرخاء، بل شُغْلُها في الحالين الشكر(2).

أخذ البصري هذا بمعناه وكرّره مرّات عدّة في نصوصهِ السابقة، إذ ذكره في نصّهِ السابع لما قال في: «فخوفهم في البرِّ كخوفِهم في البحر، ودعاؤهم في السَّرَّاء کدعائهم في الضّراء».

وفي نصّهِ الثاني، وذلك في قوله: «واستقادتُهم للحقّ فيما أحبّوا وكرهوا».

وكذلك في الثالث، حيث قال: «إنّ المؤمن.. لم يتعاظمْ في نفسه شيءٌ من البلاء إن نزل بهِ مع احتسابه للأجر عند الله، ولم يحتسب نوال الدنيا حتى مضى راغبًا راهبًا».

ص: 198


1- النور 30
2- ينظر: البعد الفكري والتربوي في نهج البلاغة 96

وکرّره في نصٍّ آخر لم ندرجهُ مع النصوص السابقة منه مواطن الشاهد:

«المؤمن.. حامدٌ على الرَّخاء، صابرٌ على البلاء»(1).

فمقطع الإمام علیه السلام إمامٌ لكلِّ نصوص البصري هذه، فالمعنى واحدٌ بين النصوص تمامًا - فضلاً عن بعض الألفاظ - قائمٌ على المقارنة بين تصرّف المؤمن في حالة الكرب والشدَّة، وتصّرفه في حالة اليسر والفرج، ولذا استعمل علیه السلام من اجل إظهار هذا المعنى بصورة مشوِّقة الطباق، وذلك بين لفظتي «البلاء» و«الرّخاء». والبصري اعتمد هذا تمامًا، فذكره مرّة بلفظه « الرّخاء » «البلاء» وأخری ذکر «البلاء» ولم يذكر ما يقابله بالنصّ، بل قال: «نوال الدنیا» أي عطایاها، وهذا معناه الرّخاء، والباقي بمعناه وذلك في قوله: «السرّاء» و«الضرّاء» وقوله:

«أحبّوا» و«کرهوا». وكلّ طباقات البصري هذه منبتها طباق الإمام علیه السلام المذکور مثلما اتضح.

والملفت إنَّ الطباق عُدَّ ميزة امتازت بها مفردة البصري، فقد قالت الباحثة سلافة صائب: «ومما امتازت بهِ مفردات الحسن البصري ظاهرة المطابقة بينها، بمعنى أنّه أورد في مواضع كثيرة من نثرهِ ما عرف في البلاغة بعد عصرِهِ ب«الطباق»(2). وعللت ذلك قائله: «بأنّه - أي الحسن - كان يضع الخير والشر، والصواب والخطأ، أمام سامعيه، فيخطِّيء هذا ويصوِّب ذلك فهو يعرض أمامهم الخطر ليحذ رهم منه، ويرسم لهم سبيلَ النجاة ليدلَّهم عليه»(3).

ص: 199


1- آداب الحسن البصري 135
2- النثر عند الحسن البصري 91
3- النثر عند الحسن البصري 91

والحقيقة ليست هذه، إذ قبل أن يضع البصري الخير والشرُ أمام سامعيه، وضع كلام أمير المؤمنين علیه السلام أمام ناظرَيه، وأخذ منه فيما أخذ تلك الطباقات.

وتجدر الإشارة هنا أيضًا إنّ الباحثة ضربت أمثلةً على ما قالت، ولكن هذه الأمثلة اغلبها - إنْ لم تكن جميعها - من كلام أمير المؤمنين علیه السلام.

وبعد أن انتهى أمير المؤمنين علیه السلام من وصف أنفس المتقين، انتقل إلى وصف شوقهم للجنّةِ، وخوفهم من النار بقوله:

«وَلَوْ لاَ اَلْأَجَلُ اَلَّذِي کَتَبَ اَللهُ لَهُمْ (عَلَیْهِمْ)، لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَیْنٍ شَوْقاً إِلَی اَلتَّوَابِ، وَخَوْفاً مِنَ اَلْعِقَابِ».

وكلامه هذا «إشارة إلى غاية نفرتهم من الدنيا، وفرط رغبتهم إلى الآخرة»(1).

فإن كان البصري أخذ مقطع الخطبة السابق بمعناه وبعض ألفاظه، فهو هنا عادَ إلى التضمين المباشر مع التقديم والتأخير لا غير، وذلك لمّا قال في نصه السابع: «لولا الآجالُ التي كُتِبتْ لهم، ما تقاوت أرواحُهم في أجسادهم خوفًا من العقاب، وشوقًا إلى الثَّواب».

ثمّ انتقلإل علیه السلام إلى وصف منزلة الباري - جلَّ وعلا - ومنزلة خلقه في نفوس المؤمنين، وذلك لمّا قال:

«عَظُمَ اَلْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْیُنِهِمْ».

فهؤلاء المؤمنون آمنوا بالله حقّ إيمانهِ، ولذا عظم في أنفسهم، وصغر خلقه في أعينهم، وهذه معادلة عكسية، إذ كلّما عظم الباري في نفْس المخلوق، صغر .118 / 1) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة 12 / 118

ص: 200


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة 12 / 118

في عينه خلق الباري. ومن دقة الوصف هنا عند الإمام استعمال لفظة «أنفسهم» مع الخالق، و»أعینهم» مع المخلوقین الذین کنّی عنهم ب«ما دون ذلك» أي دون الخالق، وکلُّ ما دون الخالق فهو مخلوق، إذ نری أنّ الإمام علیه السلام - وهو مؤسس علم التوحید - أراد فیما أراد أنّ المتَّقین الحقیقیین هم الذین لم یجسِّموا الإله - مثلما فعلت الیهود والنصاری - بل هو تعالی عظیمٌ في ظنون أفکارهم، بعیدٌ عن نواظر عیونهم، لذا قال إن المتقین عظّموا الله في «أنفسهم». أمّا المخلوقون، فهم مشاهدون، لذا استعمل معهم لفظة «أعین». ویبدو أنّ ابن أبي الحدید لم یتنبه لهذه الدقة في استعمالات الإمام هذه، وذلك لما قال:

«إنَّ الخالق عظم في أعینهم..»(1).

ذكر البصري هذا المقطع، وكرّره مرات عدّة، فمرةّ بنصه، وذلك قوله في نصه السابع: «عظُم الخالقُ في نفوسِهم، فصغُر المخلوقون في أعیُنهم».

وأخری بتحوير طفيف، من نحو ما ورد في نصه الثاني: «واستخفّوا بسخط المخلوقين رضى الخالق».

وثالثة بمعناه، وذلك قوله في نصه الأول: «وكانوا أبصر بقلوبهم لدينهم منكم لدنياكم بأبصاركم».

وما زال علیه السلام يصف درجة يقين المؤمنين المتمیّزة، حيث قال:

«فَهُمْ وَاَلْجَنَّةُ کَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِیهَا مُنَعَّمُونَ وَهُمْ وَاَلنَّارُ کَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِیهَا مُعَذَّبُونَ».

وهذا "تصوير ليقينهم وإيمانهم بالله، وأنّهم قد بلغوا الذروة منه، عن علم

ص: 201


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10 / 312

وبصيرة لا عن تقليد ومحاكاة»(1). والواو في قوله «والجنة» وكذلك «النار» واو المعیة(2) فهو هنا ينقل صورة عن المؤمنين كأنهم في الجنة يتنعمون بنعيمها، وكأنهم فكان هذا ممّا ضمّنه البصري أيضًا، لمّا قال في نصّهِ الثامن: «إن لله - عزَّ وجلَّ - عبادًا کمَنْ رأی أهل الجنّة في الجنّة مخلدین، وکمَنْ رأی أهل النارَ في النّار مخلّدین».

لكن البصري لمّا حذف الحرف «قد» الذي أدخله الإمام علیه السلام على الفعل الماضي مرّتین «قد رأی أهل الجنة» و» قد رأی أهل النار »ضیّع دلالة التحقيق والتأكيد المتأتیة من هذا الترکیب. أمّا استبداله للفظتي الإمام «منعمون» و»معذبون» بتكرار لفظة «مخلدین»، أذهب الطباق الجميل المتأتي من هاتين اللفظتين، نعم صحيح إنَّ من البشر مَنْ يخلد في الجنة أو النار، لكن في لفظتي النعيم والعذاب الضديتين دافع تحفيز يدفع المتلقي أكثر نحو الجنة، ودافع تنفير ينفِّره أكثر عن النار.

وفي نصّه الأول كرّر البصري هذا المقطع، وأعادَ لهُ اللفظتين المذكورتين، فقال: «أیُها الناس إنَّ لله عبادًا کمَنْ رأی أهل الجنّة في الجنّة متنعمين، وأهل النارَ في النّار معذبین».

وبعد ذلك وجدنا الإمام علیه السلام قد قال:

«قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ، وَشُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ، وَأَجْسَادُهُمْ نَحِیفَةٌ، وَحَاجَاتُهُمْ خَفِیفَةٌ، وَأَنْفُسُهُمْ عَفِیفَةٌ».

ص: 202


1- في ظلال نهج البلاغة 2 / 165
2- ينظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10 / 313

ضمّن البصري هذا في نصّهِ الثامن: «قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونه، حوائجهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة».

وكرّر هذا التضمين في نصّهِ الأول:

«أیُها الناس إنَّ لله عبادًا قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ، وَشُرُورُهُمْ مَأْمونه، حوائجهم خفیفة، وأنفسهم عفیفة».

وکرّر هذا التضمین في نصّهِ الأول:

«أیُها الناسِ إنَّ لله عباداً قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ، وشُرُورُهُم مَأْمُونَةٌ، وَأَنْفُسُهُمْ عَفِیفَةٌ، وَحَاجَاتُهُمْ خَفِیفَةٌ».

ثم قال علیه السلام في وصفهِ للمتقین:

«صَبَرُوا أَیَّاماً قَصِیرَةً، أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِیلَةً». فکنّی علیه السلام عن الدنیا بالأیام القصیرة، وعن الجنة ونعیمها بالراحة الطویلة.

ولعل قوله هذا من قولهِ تعالی:

«وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِیرًا»(1).

لكن البصري اعتمد الوصف العلوي، وکرّره مرّات عدّة من نحو ما ورد في نصّهِ الثامن: «صبروا أیّامًا قصارًا تُعقبُ راحة طویلة».

والملاحظ أنّ الإمام علیه السلام استعمل الفعل الماضي - كونه يحمل دلالة قطعية - مرّتين، لمّا عدّ صبر المؤمنين في الدنيا أعقبهم نعيم الآخرة، إلاّ أن البصري حین أبدل الفعل الثاني «أعقب» عند الإمام علیه السلام وحوّله إلى المضارع «تعقب» أهدرَ تلك الدلالة الحتمية، وصار المعنى إنّ هؤلاء سیُعْقب صبرهم بالراحة، ولعل أمدَ هذا بعيد، وهذه الدرجة من التسويف، عكس درجة اليقين القطعية التي ألفيناها عند أمير البيان علیه السلام. أمّا إبداله «قصیرة»ب «قصارًا» فهو تقصیر آخر، کونه بهذا التحویر أضاع الاتفاق المحبب في الوزن والسجع بین اللفظتین العلویّتین

ص: 203


1- الإنسان 12

«قصیرة»و «طویلة».

وثانية كرر البصري هذا المقطع، محوِّرًا فيه ما شاء، وذلك في نصّهِ الأول:

«صبروا الأیّام القلائل، لمِا رجوا في الدهور الأطاول».

وثالثة رأی من المستحسن أن يزيد أكثر في التحوير، وهذا ما وجدناه في نصّهِ الثالث: «إنّ المؤمنَ عملَ لله تعالى أيَّامًا يسيرةً، فوالله ما ندِمَ أن يكونَ أصاب من نعيمها ورخائِها». إذ استبدل «أیّامًا یسیرةً، فوالله ما ندِمَ أن یکونَ أصاب من نعیمها ورخائها». إذ استبدل «أیّامًا قصیرة»ب «أیَّامًا یسیرةً»، والباقي عنده توسع علی قول الإمام «راحة طویلة».

وغير هذا من تكرارهِ الكثير لهذا المقطع(1).

وبعد ذلك بدأ أمير المؤمنين علیه السلام يفصِّل في صفات المؤمنين أكثر فأكثر، وذلك من خلال ذكر حالهم في الليل، وحالهم في النهار، فقال وهو يصف منهجهم الليلي:

«أَمَّا اَللَّیْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ، تَالِینَ لِأَجْزَاءِ اَلْقُرْآنِ یُرَتِّلُونَهَا تَرْتِیلاً؛ یُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَیَسْتَثِیرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ؛ فَإِذَا مَرُّوا بِآیَةٍ فِیهَا تَشْوِیقٌ رَکَنُوا إِلَیْهَا طَمَعاً، وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَیْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ، وَظَنُّوا أَنَّ زَفِیرَ جَهَنَّمَ وَشَهِیقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ، فَهُمْ حَانُونَ عَلَی أَوْسَاطِهِمْ، مُفْتَرِشُونَ لَجِبَاهِهِمْ وَأَکُفِّهِمْ وَرُکَبِهِمْ، وَأَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ، یَطْلُبُونَ إِلَی اَللهَّ تَعَالَی فِي فَکَاكِ رِقَابِهِمْ».

ذكر البصري أوَّلَّ هذا المقطع وآخره في نصّهِ الرابع، وذلك قوله: «أدرکت من صدر هذه الأمة قوما كانوا إذا جنهم الليل فقيام على أطرافهم، يفترشون

ص: 204


1- ينظر: جمهرة رسائل العرب 2 / 326، 2 / 329

خدودهم... يناجون مولاهم في فكاك رقابهم».

وممّا يؤاخذ عليه البصري - بنظر الباحث - بعض التغييرات التي أجراها على النص العلوي، ومنها إبداله «فصافون أقدامهم»ب «فقيام على أطرافهم»، فمفردة البصري «أطراف» لم تكن فاعلة كمفردة الإمام علیه السلام «أقدام»، لأنَّ من يريد الوقوف طويلاً بين يدي الله سبحانه وتعالى - وهذا ما جاء من أجله المقطعين المؤثر والمتأثر - لا تعينه أطرافه على ذلك كما تعينه قدماه. نعم الإمام علیه السلام استعمل الأطراف، لكن بعبقريته، ودقة تصويره للمتقين، استعملها عندما وصل بوصفه لهم وهم ساجدين «مفترشون لجباههم وأكفهم وركبهم وأطراف أقدامهم»، فهو هنا ذكر أعضاء السجود السبعة المتمثلة بالجبهة، والكفين، والركبتين، وطرفي القدمين، وبالتالي فإنّ لفظة الأقدام مناسبة للوقوف، ولفظة الأطراف مناسبة للسجود، ولكن البصري حرّف في كلام الإمام علیه السلام، فوقع في التقصیر.

ومن تغييراته أيضًا، إبدال قول الإمام: «يفترشون جباههم» والذي هو کنایة عن کثرة السجود(1) ب«يفترشون خدودهم»، وهنا سقط البصري أيضًا، كونه جعل هؤلاء الساجدين يتخذون من خدودهم فرشًا يجعلونها مواضع سجودٍ لله - تعالى - ، وهذا غير مقبول لأنّ مواطن السجود سبعة، هي التي عدده الإمام علیه السلام، ولكن لو قال على الأقل: يفترشون وجوههم لقلنا إنه أطلق - على سبيل المجاز - الکل «الوجه»، وأراد الجزء «الجبهة» أي موضع السجود، غیر أنّه لم یعمل حتی هذا.

وعلى أیّةِ حال فمن غير المقبول أن يسجد الإنسان بخدّهِ ويترك جبهته، ونحن

ص: 205


1- ينظر: منهاج البراعة 2 / 278

في معنًى يتحدث عن الصلاة.

أمّا قوله: «يناجون مولاهم في فكاك رقابهم» فهو إعادة بتغيير جزئي طفيف لقول الإمام علیه السلام:

«یَطْلُبُونَ إِلَی اَللهَّ تَعَالَی فِي فَکَاكِ رِقَابِهِمْ».

أمّا وصفه علیه السلام للمتقين بأنّهم يستثيرون بالقرآن دواء دائهم، والإستثارة بمعنى الهيجان فهم يهيِّجيون بالقرآن الفكر الذي يمحو الجهل(1)، فقد جعله البصري في حديثه الذي قسم فيه قرّاء القرآن على ثلاثة أقسام، وذلك في نصه السادس إذ قال: «ورجل قرأ القرآن فبدأ بما يعلم من دواء القرآن فوضعه على داء قلبه».

وبعد أن انتهى أمير المؤمنين علیه السلام من وصف حال المؤمنين في الليل، انتقل إلى وصفهم بالنهار، وذلك قوله:

«وَأَمَّا اَلنَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ أَبْرَارٌ أَتْقِیَاءُ».

ضمّن البصري هذا بتمامه في نصّه الثامن: «وأمّا النهار فحلماء علماء بررة أتقیاء».

ثمَّ بعدَ ذلك وصفهم علیه السلام بأنّهم على خوفٍ دائم، لمّا قال: «قد براهم الخوف بری القداح».

القداح: هو العود إذا بلغ، فشُذِّبت عنه أغصانه، و قُطِعَ على مقدار النبل الذي يُراد من الطول والقصر(2)، وبَرْي العود والسهم نحتُه(3). فهو هنا يشبه

ص: 206


1- ينظر: شرح نهج البلاغة لمحمد عبده 2 / 330
2- ينظر: لسان العرب 2 / 556 مادة (قدح)
3- ينظر: م. ن 2 / 98 مادة (بری)

تأثير الخوف عليهم ببري القداح، ووجه الشبه شدة النحافة(1).

فمرّة أخذ البصري هذا التشبيه بألفاظه، لمّا قال في نصّه الثامن: «کأنهم القداح».

وأخری بمعناه، لمّا قال في نصّه الخامس: «دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم».

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ أمير المؤمنين علیه السلام وصف المتقين بالليل، بصفاتٍ تختلف عن النهار، فمثلاً اختار الليل للصلاة، لأنّ فضيلتها في جوف الليل تفوق فضيلتها في وضح النهار. أمّا ألفاظ الليل فكانت مخيفة مقلقة من نحو «تخویف، زفير، جهنم، جباه، يحزنون، دواء، داء». وكأنه يصوّر المتقين في ليلهم وهم في ضجّة ودوي، وانقطاع تام لله تعالى.

بينما ألفاظه للمتقين في النهار كانت توحي بالهدوء والسكينة والتواضع، والذبول، من نحو «علماء، أبرار، أتقياء، حلماء، مرضى». وکأنه علیه السلام جعل لیلَ المتقين للمتقين، ينقطعون بهِ إلى ربّهم، وجعل نهارهم للناس، إذ مَنْ كان بهذهِ الصفات من حلم وتواضع وعلم... كان سهلاً ومحبّبًا لدی الناس مخالطته، والإفادة من علمه وخُلُقِه.

وهكذا باقي كلام البصري المذكور سالفًا، فهو إمّا بالنص، أو بالتحوير أو بالمعنى من ذلك الجزء المذكور من الخطبة العلوية.

أمّا جزء الخطبة الثاني، والمتمثل بقوله علیه السلام:

«فَمِنْ عَلاَمَةِ أَحَدِهِمْ أَّنَّكَ تَرَی لَهُ قُوَّةً فِي دِینٍ، وَحَزْماً فِي لِینٍ، وَإِیمَاناً فِي

ص: 207


1- ينظر: البعد الفكري والتربوي في نهج البلاغة 99

یَقِینٍ، وَحِرْصاً فِي عِلْمٍ، وَعِلْماً فِي حِلْمٍ، وَقَصْداً فِي غِنیً، وَخُشُوعاً فِي عِبَادَةٍ، وَتَجَمُّلاً فِي فَاقَةٍ، وَصَبْراً فِي شِدَّةٍ، وَطَلَباً فِي حَلاَلٍ، وَنَشَاطاً فِي هُدًی، وَتَحَرُّجاً عَنْ طَمَعٍ، یَعْمَلُ اَلْأَعْمَالَ اَلصَّالِحَةَ وَهُوَ عَلَی وَجَلٍ، یُمْسِي وَهَمُّهُ اَلذِّکْرُ، یَبِیتُ حَذِراً، وَیُصْبِحُ فَرِحاً؛ حَذِراً لمَّا حُذِّرَ مِنَ اَلْغَفلَةِ، وَفَرِحاً بِمَا أَصَابَ مِنَ اَلْفَضْلِ وَاَلرَّحْمَةِ. إِنِ اِسْتَصْعَبَتْ عَلَیْهِ نَفْسُهُ فِیمَا تَکْرَهُ لَمْ یُعْطِهَا سُؤْلَها فِیمَا تُحِبُّ. قُرَّةُ عَیْنِهِ فِیمَا لاَ یَزُولُ، وَزَهَادَتُهُ فِیمَا لاَ یَبْقَی، یَمْزُجُ اَلْحِلْمَ بِالْعِلْمِ، وَاَلْقَوْلَ بِالْعَمَلِ. تَرَاهُ قَرِیباً أَمَلُهُ، قَلِیلاً زَللهُ، خَاشِعاً قَلْبُهُ، قَانِعَةً نَفْسُهُ، مَنْزُوراً أَکْلُهُ، سَهْلاً أَمْرُهُ، حَرِیزاً دِینُهُ، مَیِّتَةً شَهْوَتُهُ، مَکْظُوماً غَیْظُهُ، اَلْخَیْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ، وَاَلشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ. إِنْ کَانَ فِي اَلْغَافِلِینَ کُتِبَ فِي اَلذَّاکِرِینَ، وَإِنْ کَانَ فِي اَلذَّاکِرِینَ لَمْ یُکْتَبْ مِنَ اَلْغَافِلِینَ. یَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ، وَیُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ، وَیَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ، بَعِیداً فُحْشُهُ، لَیِّناً قَوْلُهُ، غَائِباً مُنْکَرُهُ، حَاضِراً مَعْرُوفُهُ، مُقْبِلاً خَیْرُهُ، مُدْبِراً شَرُّهُ، فِي اَلزَّلاَزِلِ وَقُورٌ، وَفِي اَلْمَکَارِهِ صَبُورٌ، وَفِي اَلرَّخَاءِ شَکُورٌ. لاَ یَحِیفُ عَلَی مَن یُبْغِضُ، وَلاَ یَأْثَمُ فِیمَنْ یُحِبُّ. یَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ یُشْهَدَ عَلَیْهِ، لاَ یُضِیعُ مَا اُسْتُحْفِظَ، وَلاَ یَنْسَی مَا ذُکِّرَ، وَلاَ یُنَابِزُ بِالْأَلْقَابِ، وَلاَ یُضَارُّ بِالْجَارِ، وَلاَ یَشْمَتُ بِالْمَصَائِبِ، وَلاَ َدْخُلُ فِي اَلْبَاطِلِ، وَلاَ یَخْرُجُ مِنَ اَلْحَقِّ. إِنْ صَمَتَ لَمْ یَغُمَّهُ صَمْتُهُ، وَإِنْ ضَحِكَ لَمْ یَعْلُ فِي اَلْبَاطِلِ، وَلاَ یَخْرُجُ مِنَ اَلْحَقِّ، إِنْ صَمَتَ لَمْ یَغُمَّهُ صَمْتُهُ، وَإِنْ ضَحِكَ لَمْ یَعْلُ صَوْتُهُ، وَإِنْ بُغِيَ عَلَیْهِ صَبَرَ حَتَّی یَکُونَ اَللهُ هُوَ اَلَّذِي یَنْتَقِمُ لَهُ، نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ، وَاَلنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ. أَتْعَبَ نَفْسَهُ لِآخِرَتِهِ، وَأَرَاحَ اَلنَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ. بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ وَنَزَاهَةٌ، ودُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنْهُ لِینٌ وَرَحْمَةٌ، لَیْسَ تَبَاعُدُهُ بِکِبْرٍ وَعَظَمَةٍ، وَلاَ دُنُوُّهُ بِمَکْرٍ وَخَدِیعَةٍ»(1).

ص: 208


1- نهج البلاغة 352 - 354

فقد أخذه البصري برمته، ووعظ بهِ مجموعة من النّاس بعد فراغهم من أداء صلاة الجمعة، فقال: «إنّ أخلاق المؤمن قوةً في دين، وحزمًا في لين، وإيمانًا في يقين، وعلمًا في حلمٍ، وحلمًا في علم.. وتجمُّلاً في فاقة، وقصدًا في غنى،... وعطاءً للحقوق وإنصافًا في استقامة، لا يحيفُ على مَن يُبغضُ، ولا يأثمُ في مساعدةِ مَن يُحبُّ، ولا يهمزُ، ولا يغمزُ، ولا يلمزُ، ولا يلغو... ولا يجحدُ الحقَّ الذي عليه.. ولا يشمَتُ بالقبيحة إن حلَّت بغيرهِ، ولا يُسرُّ بالمصيبةِ إذا نزلت بسواه... إن أحسن استبشر، وإن أساءَ استغفر،... وإنْ سُفِه عليه حَلم، وإن ظُلِم صبرَ، وإن جِير عليه عدَلَ، لا يتعوّذُ بغير الله، ولا يستعين إلاّ بالله، وقورٌ في الملأ، شكورٌ في الخلاء، قانعٌ بالرِّزقِ، حامدٌ على الرخاء، صابرٌ على البلاء، لا يجمحُ بهِ القنوطُ، ولا يغلبُه الشُّحُّ، إنْ جلسَ مع اللاغطين كُتِبَ من الذاكرين، وإن جلسَ مع الذاكرين، كُتِبَ من المستهترين. المؤمن طلقُ البشرِ... راحمٌ وصولٌ، يُقطعُ فيصِلُ، ويؤذی فیحتملُ، ویهان فیُکرِمُ، صبورٌ علی الأذی، محتمِلٌ لأنواعِ البلاءِ... المؤمنُ هیّنٌ لیِّنٌ كيِّسٌ في دينه، غبيٌّ في دُنياه... وهو في محاسبةِ نفسه في تعب، والنّاسُ منه في راحة.

المؤمنُ... قريبُ الرّضِا، بعيدُ الغضبِ، يعلمُ إذا عُلِّمَ، ويفهَمُ إذا فُهِّمَ، مَن صاحبه سَلِمَ، ومن خالطه غنِمَ، كاملُ العقلِ، كثیرُ العمل، قليلُ الأمل، حسَنُ الخُلُقِ، كتومُ الغيظ»(1).

والبصري كعادتهِ مع كلام أمير المؤمنين علیه السلام إن شاء ضمّنَ حرفیًّا، وإنْ شاءَ حوَّرَ قليلاً، وإن شاءَ أخذ بالمعنى، وإنْ شاء قدّم، وإن شاءَ أخّر. فكلُّ هذا طبّقهُ في قولهِ المذكور.

فأوّل کلام الإمام علیه السلام والذي ابتدأه بلفظة» (علامة)، وهي لفظة سیمیائیّة

ص: 209


1- آداب الحسن البصري 135 - 136

تعمل بواسطة التشابه الواقعي بين الدال والمدلول على تبني ملاحظة السلوك الدال على صفة المتقين»(1)، والمثل بقولهِ علیه السلام:

«فَمِنْ عَلاَمَةِ أَحَدِهِمْ أَنَّكَ تَرَی لَهُ قُوَّةً فِي دِینٍ، وَحَزْماً فِي لِینٍ، وَإِیمَاناً فِي یَقِینٍ، وَحِرْصاً فِي عِلْمٍ، وَعِلْماً فِي حِلْمٍ، وَقَصْداً فِي غِنًی، وَخُشُوعاً فِي عِبَادَةٍ، وَتَجَمُّلاً فِي فَاقَةٍ».

نجده حرفیًّا في نص البصري، وذلك قوله: «إنّ أخلاق المؤمن قوةً في دين، وحزمًا في لين، وإيمانًا في يقين، وعلمًا في حلمٍ، وحلمًا في علم.. وتجمُّلاً في فاقة، وقصدًا في غنًى».

وبعد ذلك قال أمير المؤمنين علیه السلام واصفًا حالتي الحذر والفرح عند المتقي: «یُمْسِي وَهَمُّهُ اَلشُّکْرُ، وَیُصْبِحُ وَهَمُّهُ اَلذِّکْرُ ولعله هنا لم يقصد تخصيص الحذر بالبيات، والفرح بالصباح، وإنّما المراد انّه يبيت ويصبح جامعًا بين وظيفتي الخوف والرجاء(2).

وهنا انتقل البصري من التضمين الحرفي إلى الأخذ بالمعنى، وذلك قوله بعد كلامه السابق: «المؤمن إن أحسن استبشر، وإن أساءَ استغفر».

وأمّا قوله علیه السلام:

«تَرَاهُ قَرِیباً أَمَلُهُ... مَکْظُوماً غَیْظُهُ... بَعِیداً فُحْشُهُ، لَیِّناً قَوْلُهُ، غَائِباً مُنْکَرُهُ، حَاضِراً مَعْرُوفُهُ مُقْبِلاً خَیْرُهُ مُدْبِراً شَرُّهُ». فد أخّره البصري وختم بهِ نصّهِ وذلك

ص: 210


1- نهج البلاغة في ضوء علم اللغة الاجتماعي 251 - 252
2- ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة 12 / 142

لمّا قال: «المؤمنُ... قريبُ الرّضِا، بعيدُ الغضبِ،... من صاحبه سلم، ومّن خالطه غنِمَ، كاملُ العقلِ، كثیرُ العمل، قليلُ الأمل، حسَنُ الخُلُقِ، كتومُ الغيظ».

فقد أبدل البصري هنا «قریبًا أمله»ب «قلیل أمله». وإبداله «قریبًا»ب «قلیل» لم يكن موفّقًا بنظر الباحث، لأنّ لفظة قريب بدلالتها المعنوية توائم الأمل بدلالته المعنوية أيضًا أكثر من موائمة قليل بدلالتها المادية له.

وأبدل «مکظومًا غیظه»ب «کتوم الغیظ».

وأبدل «بعیدًا فحشه»ب «بعید الغضب».

ولا فرق بين لفظتي الفحش والغضب، لأنّ الثانية تسبب الأولى، فالفحش الذي هو القبيح من القول والفعل(1) سببه الغضب.

ومعنی قوله علیه السلام: «بعیدًا فحشه»: «لا یعني به أنّه - أي المؤمن - قد یُفحش تارةً ويترك الفحش تارات بل لا فحش له أصلا، فكنّى عن العدم بالبعد، لأنه قريب منه»(2).

وبالنسبة لآخر كلامه علیه السلام في المقطع المذكور: «بعيدًا فحشه إلى قوله مدبرًا» فإنّ هذهِ صفات نبيلة، مَن يوفّق لمصاحبة حاملها، يكون قد غنم منها، وسلم من خالطه غنم».

وقال أمیر المؤمنین علیه السلام واصفًا ذِكر المتقين الدائم لله - سبحانه وتعالى - :

«إِنْ کَانَ فِي اَلْغَافِلِینَ کُتِبَ فِي اَلذَّاکِرِینَ وَ إِنْ کَانَ فِي اَلذَّاکِرِینَ لَمْ یُکْتَبْ

ص: 211


1- ينظر: لسان العرب 6 / 325 مادة (فحش)
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10 / 324

مِنَ اَلْغَافِلِینَ».

ومعناه «أنه لا يزال ذاكرًا الله تعالى، سواء كان جالسًا مع الغافلين أو مع الذاكرين، أمّا إذا كان مع الغافلين فإنه يذكر الله بقلبه، وأمّا إذا كان مع الذاكرين فإنه يذكر بقلبه و لسانه»(1).

حوّرَ البصري طفيفًا في هذا لمّا قال: «إنْ جلسَ مع اللاغطين كُتِبَ من الذاكرين، وإن جلسَ مع الذاكرين، كُتِبَ من المستهترين».

وإبدال البصري «الغافلین»ب «المستهترین» لم يكن في محلّه - بنظر الباحث - لأنّ هذهِ اللفظة تعني «کثیر الأباطیل»(2). وتعني أیضًا المولع بالذکر والتسبیح(3). وإن یُفهَم من سياق الكلام أن البصري قصد المعنى الثاني، إلاّ أنّه وفي وصفٍ آخر للمؤمن نعته بأنّه غبی، وذلك لمّا قال: «المؤمن كیّس في دينه غبيٌّ في دنياه»، وهذا وصف غیر صحیح، فالمؤمن الحق لم یکن غبیًّا لا في دينه، ولا في دنياه، بل حاذق بهما معًا، لأنّ الدنيا هي مزرعة الآخرة، ولا تصلح هذه المزرعة إذا كان مدبِّر شؤونها غبیًّا، أي غافلاً ولم یفطن(4).

فإن كان البصري أخّر هذه الفقرة والتي قبلها، إلاّ أنّ قول الإمام علیه السلام:

«لا يحيف على مَنْ يُبغض، ولا يأثم فيمن يحب».

قدمه، بعد أن ضمنه بنصّه، وذلك قوله: «لا يحيف على من يبغض، ولا يأثم

ص: 212


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10 / 323 - 324
2- ينظر: لسان العرب 5 / 249 مادة (هتر)
3- ينظر: م. ن 5 / 249 مادة (هتر)
4- ينظر: م. ن 15 / 14 مادة (غبا)

في مساعدة من يحب».

ومن طرقه بالتقديم والتأخير على الكلام العلوي، هي أن يأتي على الجملة الواحدة، فيقدِّم ويؤخِّر فيها، فمثلاً جملة الإمام علیه السلام: «یصل من قطعه»، قدّم وأخّر البصري فيها لما قال: «یقطع فیصل».

ومن فقرات هذه الخطبة فقرات بسطها البصري، فقول الإمام علیه السلام: «لا يشمت بالمصائب». بسَطه البصري لمّا قال: «ولا يشمت بالقبيحة إن حلّت بغيره ولا یُسرّ بالمصائب إن نزلت بسواه».

وإن فتَّشنا عن بسط البصري هذا وجدناه تكرارًا لا طائل منه، فقوله: «إن نزلت بسواه» لا يختلف البتة عن قوله: «القبیحة»، ثم عادَ وذکرها في آخر كلام ِ ه المذكور بنصها «بالمصائب».

فإن کان کرر البصري المقطع السالف مرّتین، إلاّ أنّه لمّا أخذ المقطع العلوي: «وإن بُغي عليه صبر»، كرّره ما يقارب الست مرات:

فقال: «وإن ظُلم صبر». وقال: «وإن جير عليه عدل». : وقال: «صبور علی الأذی». وقال: «یؤذی فیحتمل». وقال: «محتمل لأنواع البلاء» وغیرها.

وتنبغي الإشارة هنا إلى أنَّ التكرار ممّا عُرف عن البصري بوضوح، حتى أنّ أغلب دارسيه سجّلوا عليه هذه السمة، فكان يكرر كثیرًا من المعاني الدقيقة والألفاظ والجمل في أكثر من نصٍّ من نصوصه النثرية(1)، ولكنّ الجديد هنا إنّ

ص: 213


1- ينظر: الخطابة العربية في عصرها الذهبي 364، وينظر: الرسائل الفنّية في العصر الإسلامي حتى نهاية العصر الأموي 282، وينظر: النثر عند الحسن البصري 92 - 93

مكرّرات البصري هذه ما هي إلاّ نصوص علوية بامتياز. فكان يقطع العبارة أو المقطع العلوي - المكون لربما من عدّة اسطر - ويكرره فيما شاء من نصوص نثرية، وهذا الأمر بات جلیًّا لا غبار علیه.

وبقي لنا أن نشير هنا إلى أنَّ من طِباقات البصري الجميلة(1)، قوله في نصّهِ المذكور:

«وهو في محاسبة نفسه في تعب، والناس منه في راحة».

والحقيقة إنّ البصري صفر اليدين من هذا الطباق، لأنّه من الخطبة العلویة المذكورة، والمتمثل بقول أمير البيان علیه السلام: «نفسه منه في عناء، والناس منه في راحة». وكلّ ماسُجِلَ للبصري هنا هو إبداله «عناء»ب «تعب»! وهكذا باقي التشابهات بين نص البصري وجزء الخطبة العلوية.

ص: 214


1- ينظر: النثر عند الحسن البصري 91

المبحث الرابع: في مواعظ و

اشارة

وحکم الحسن البصري تُعد الموعظة «نثر فنيّ يُطلق دون تكلّفٍ أو تهيئة، يتألّف من جمل قصار، أو جملةٍ أو جملتين، ويحتوي على حكمة، يلقيه مَن حنّكته التجارب، ومحّصته الممارسات، ودرَّسته الحوادث، فيستفيدُ الآخرون من ثمار تجاربه دونما تكلّف خوض حوادث، وتحمُّل مشاقٍّ، ومواجهة صعوبات، يتوخّى فيه الإيجاز والوضوح والدِّقة في التعبير»(1).

زخرت كتب التراث الإسلامي والأدب العربي بحكم ومواعظ البصري، لما في هذه الحكم من صفات مؤثِّرة، فقد وصفها الشيخ أبو الحسن الندوي بقوله: «ومواعظ الحسن البصري تجمع بين القوّة والسّهولة التي عُرف بها كلام عهد الصحابة وهي تدور غالبًا حولَ قِصَرِ الحياة، وغدر الدنيا، وخلود الآخرة، والحث على الإيمان والعمل الصالح...»(2). وقیل عنه أیضًا:

ص: 215


1- تأريخ الأدب الإسلامي 250
2- حياة الحسن البصري ومسيرته العلمية 127

«ما زال الحسن يعي الحكمة حتى نطق بها»(1).

وما يهمنا هنا إنَّ من أهم الأسباب الكامنة وراء إبداع البصري في حكمهِ هو كلام أمير المؤمنين علیه السلام؛ إذ إنّ من الندرة النادرة تمرُّ حكمة من حكم البصري دون أن تحمل معها أثرًا لكلام أمير المؤمنين علیه السلام. وقد برز هذا الأثر بمظاهرَ عدّة منها:

أوّلاً: التضمین

التضمين في اللغة هو «جعل الشيء في ضمن الشيء مشتملاً عليه»(2).

وفي الاصطلاح هو أن يضِّمن المتكلِّم كلامه كلمةً من بيتٍ، أو من آية،... أو مثلاً سائرًا، أو جملة مفيدة، أو فقرة من حكمة»(3).

والتضمين «فنٌّ: من فنون الإيجاز في البيان»(4)، يلجأ لهُ الأديب من أجل إتمام المعنى، أو زيادة الكلام جمالا ً(5)، وهو بهذا يكون قد «شُرِّع... لغرض تعبيري وفائدة معنوية»(6).

وبما أنّ البصري كان رجلا ً واعظًا، فقد أدرك إنَّ من أسباب رواج وعظهِ، وتجميله في آذان سامعيه هو الإعتماد على كلام الإمام علي علیه السلام والتضمين منه، إمّا بالنص، وإمّا بتحوير طفيف.

ص: 216


1- م. ن 126
2- التعاريف 181
3- تحرير التحبير 1 / 140
4- البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها 2 / 49
5- ينظر: مصطلحات السرقة الأدبية في التراث النقدي إلى نهاية القرن السابع الهجري 88
6- دراسات في النحو 690

1 - التضمین النَّصي:

بمعنى أن يضمَّن فقرة من الكلام العلوي دونما إبدال كلمة منه. وقد ورد هذا كثیرًا عند البصري، فمن خطبةٍ لأمير المؤمنين علیه السلام منها:

«... وَاِنْقَلِبُوا بِصَالِحِ مَا بِحَضْرَتِکُمْ مِنَ اَلزَّادِ»(1).

ضمّن البصري هذا المقطع من الخطبة في آخر موعظته: «تصبّروا وتشدَّدوا فإنّما هي ليالٍ تعدُّ، وإنّما أنتم ربٌ وقوفٌ، يوشكُ أنْ يُدعى أحدكم فیُجيب ولا يلتفت، فانقلبوا بصالح ما بحضرتكم»(2).

وقال الإمام علي علیه السلام في إحدی حکمه:

«خَالِطُوا اَلنَّاسَ مُخَالَطَةً، إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَکَوْا عَلَیْکُمْ، وَإِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَیْکُمْ»(3).

فهو هنا علیه السلام حثَّ علی التعامل بمكارم الأخلاق مع المجتمع، لأنّ الذي يُحنُّ إليه في حياته و يُبكى عليه عند مماته، حصل على ثمرة لم يحصدها إلاّ بعد أن زرع طيبًا في نفوس قومه. ومن أجل التأكيد على هذا المعنى استعمل الإمام علیه السلام الفعل «خالط» مع مصدره «مخالطة».

ضمّن البصري عبارة الإمام الأولى في أوَّل موعظته التي قال فيها "خالطو النّاس في الأخلاق الكريمة، وزايلوهُم في الأفعال القبيحة»(4).

ص: 217


1- نهج البلاغة 372
2- حياة الحسن البصري 159
3- نهج البلاغة 552
4- آداب الحسن البصري 46

وفي حکمةٍ أخری قال الإمام علیه السلام «مَنَ صَارَعَ الحقَّ صَرَعَهُ»(1).

استعارَ علیه السلام لفظ المصارعة للمقاومة، فمن صارع الحقَّ قاومه الحقُّ وصرعه، لأنّ الله - سبحانه وتعالى - وملائكته، ورسله، والصالحين من عبادهِ أعوان الحق، وهؤلاء لا مقاوم لهم(2).

ضمّن البصري هذه الحكمة في المقطع الثاني من قوله: «منْ لم يجرِّب الأمور خُدِع، ومن صارع الحقَّ صُرِع»(3).

إلاّ أنّ البصري هنا أبدل الفعل «صارع» في حكمة الإمام بالفعل نفسه، ولكنّه بناه للمجهول فقال: «صُرِع»، وذلك حتی یوائم فعله الأول «خُدِع».

وبیّن الإمام علیه السلام في إحدی خطبه جانبًا من منزلةِ القرآن السامية قائلاً:

«..ومَا جَالَسَ هَذَا اَلْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلاَّ قَامَ عَنْهُ بِزِیَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ: زِیَادَةٍ فِي هُدًی، أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمًی. وَاِعْلَمُوا... أَنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَقَائِلٌ مُصَدَّقٌ»(4).

فعبارة الإمام علیه السلام «شافع مشفع» نجدها في أ ّ ول دعاء البصري: «اللهم اجعله لنا شافعًا مُشفَّعًا، ونورًا وشفاءً وهدًی وموعظةً»(5).

2 - التضّمین المحوّر:

وهذا النوع من التضمين كالاقتباس الإشاري الذي يعني عدم التزام الأديب

ص: 218


1- نهج البلاغة 626
2- ينظر: شرح نهج البلاغ لابن ميثم 5 / 498
3- آداب الحسن البصري 57
4- نهج البلاغة 291
5- آداب الحسن البصري 87

بالآية القرآنية وتركيبها، بل هو إشارة إلى ذلك(1).

ويمكن أن نعرف التضمين المحوّر فنقول: هو تضمين بتصرّفٍ لنصٍّ ما، وهذا التصرف قد يكون على اللفظة الواحدة وقد يكون على التركيب.

أورد البصري كثیرًا من كلام أمير المؤمنين علیه السلام بهذهِ الطريقة، فمن حكمةٍ له بیّن فيها إنّ الله تعالى أنعم بنعمٍ شتى على عباده، وأقل ّ درجات شكر هذهِ النعم عدمُ الاستعانة بها على معصية مسديها، فقال علیه السلام:

«أَقَلُّ مَا یَلْزَمُکُمْ للهَّ سُبْحَانَهُ أَلاَّ تَسْتَعِینُوا بِنِعَمِهِ عَلَی مَعَاصِیهِ»(2).

فآخر حكمة الإمام ضمّنه البصري في آخر موعظته التي قال فيها: «أشدُّ النّاس صراخًا يوم القيامة رجلٌ سنَّ ضلالةً فأتبع عليها.. ورجلٌ فارغٌ استعان بنعم الله على معاصيه»(3).

وممّا ورد في وصية أمير المؤمنين لولدهِ الحسن علیه السلام:

«... وَإِیَّاكَ وَاَلاِتِّکَالَ عَلَی اَلْمُنَی، فَإِنَّهَا بَضَائِعُ اَلنَّوْکَی»(4).

والنوكى: جمع أنوك وهي كالأحمق(5).

فتحذير أمير المؤمنين لولده الحسن علیهم السلام من الاتكال على المنى ضمّنه البصري مع تحوير طفيف في آخر موعظته التي قال فيها: «القلب الذي يُحبُّ الله يحبُّ

ص: 219


1- ينظر: معجم آيات الاقتباس 19
2- نهج البلاغة 611
3- الفتوحات المكية 4 / 539
4- نهج البلاغة 468
5- ينظر لسان العرب 10 / 501 مادة (نوك)

التعب، ويؤثر النَّصب، هيهات، لا ينالُ الجنّة من يؤثر الرّاحة. من أحبَّ سخا.

ومن أحبَّ سخا بنفسه إنْ صَدَقَ، وترك الأماني؛ فإنّها سلاح النَّوكى»(1).

وممّا جاءَ في إحدی حکمه علیه السلام:

«مَنْ نَظَرَ فِي عَیْبِ نَفْسِهِ اِشْتَغَلَ عَنْ عَیْبِ غَیْرِهِ... وَمَنْ کَثُرَ کَلاَمُهُ کَثُرَ خَطَؤُهُ..»(2).

حوّرَ البصري عبارة الإمام الأخيرة، وذلك في آخر قوله: «من ساء خُلقُه، عذّبَ نفسه، ومن كثر مالُه، كثرت ذنوبُه، ومن كثر كلامُه، كثر سقطُه»(3).

ومن خطبة طويلة لأمير المؤمنين علیه السلام حمد الله فیها، ووعظ بالتقوی، منها قوله:

«فَارْعَوْا عِبَادَ اَللهَّ مَا بِرِعَایَتِهِ یَفُوزُ فَائِزُکُمْ... فَإِنَّکُمْ مُرْتَهَنُونَ بِمَا أَسْلَفْتُمْ وَمَدِینُونَ بِمَا قَدَّمْتُمْ وَکَأَنْ قَدْ نَزَلَ بِکُمُ اَلْمَخُوفُ فَلاَ رَجْعَةً تَنَالُونَ (تُنَالُونَ) وَلاَ عَثْرَةً تُقَالُونَ»(4).

ضمّن البصري بعضَ هذا المقطع، فقال في إحدی مواعظه: «ابن آدم! إنّكَ مُرتَهنٌ بعملِكَ، واردٌ عليك أجلُكَ»(5).

فکلامه: «إنّك مُرتَهنٌ علیك أجلُكَ»،تضمين محوّر لقول

ص: 220


1- آداب الحسن البصري 33 - 34
2- نهج البلاغة 614
3- آداب الحسن البصري 42
4- نهج البلاغة 327
5- آداب الحسن البصري 32

الإمام علیه السلام:

«فَإِنَّکُمْ مُرْتَهَنُونَ بِمَا أَسْلَفْتُمْ، وَمَدِینُونَ بِمَا قَدَّمْتُمْ».

فحتى وإن غیّر البصري هنا في بعض الألفاظ إلاّ أنّه بقي يدور في ذلك النص العلوي من حيث المعنى الواضح بين النصين، فضلا ً عن الصياغة، وذلك لما جعلَ موعظته مكونّة من عبارات قصيرة مسجوعة، وهذا بعينهِ وجدناه في النص العلوي. ومثلما استعمل الإمام علیه السلام التقديم والتأخير هنا ومن نحو قوله: «فلا رجعة تنالون» إذ قدّم «رجعة» علی «تنالون» لأهمیة الأولى، فهو يريد أن يؤكد أنَّ لا رجعة للحياة بعد الموت، استعمله البصري أيضًا، ففي قوله: «وارد عليك أجلك» قدّم الجار والمجرور «علیك» علی «أجلك» في حين أنَّ هذا الأخير يستحق التقديم كونه فاعل لإسم الفاعل «وارد».

وروي أنّ إعرابیًا لقيَ الحسنَ البصري فقال له: «علِّمني دينًا مبسوطًا... فقال الحسن:... إنَّ خیرَ الأمور لأوساطُها»(1).

فحكمة البصري هذه تشبه بشدة فقرة وردت في عهد الإمام علي علیه السلام لمالك الأشتر، جاءَ فيها:

«وَلْیَکُنْ أَحَبَّ اَلْأُمُورِ إِلَیْكَ أَوْسَطُهَا فِي اَلْحَقِّ»(2).

ثانیًا: البسط أو الزیادة

البسط في اللغة نقيض القبض(3)، و «وبسط الشيء نشره وتوسُّعه»(4).

ص: 221


1- م 0 ن 57
2- نهج البلاغة 502
3- ينظر: لسان العرب 10 / 505 مادة (بسط)
4- المفردات في غريب القرآن 46

أمّا في الإصطلاح فقد عرّفه ابن أبي الأصبع (ت 654 ه) فقال: «أن یأتي المتكلِّم إلى المعنى الواحد الذي يمكنه الدلالة عليه باللفظ القليل فيدلُّ عليه باللفظ الكثير ليضمّن اللفظ معاني أُخر يزيدها الكلام حسنًا، لولا بسط ذلك الكلام بكثرة الألفاظ لم تحصل تلك الزِّيادة»(1).

ولا تخرج الزيادة عن هذا المعنى، فهي تعني زيادة الأديب في معنًى ما، إمّا بشرحه، أو كشفه(2)، ويعدُّ الأصمعي (ت 216 ه) أوّل من أشار إلى هذا المظهر النقدي، وضرب مثلاً على ذلك(3).

لا يقلُّ هذا المظهر أهمية عن مظاهر التأثير والتأثر الأخری ولذا ظلَّ ساري المفعول حتى في الأدب الحديث، إذ إنّ الباحث يری البسط هو الذي سُمّيَ في الدراسات الأدبية الحديثة ب (التمطيط). وعُدت هذهِ الآلية من أهمِّ آليات التناص، حتى أنَّ بعض الباحثين اقتصر عليها مع آلية الإيجاز(4). وهي - آلية التمطيط ومثلها مظهر البسط - "في الخطاب النثري أوسع انتشارًا لما لهذه الآلية من علاقة مع الصيغ السردية»(5).

اعتمد البصري هذا المظهر، إذ أورد كثیرًا من النصوص العلوية بهذه الطريقة، فمن حكمة لأمير المؤمنين علیه السلام جاء فیها:

«تَرْكُ اَلذَّنْبِ أَهْوَنُ مِنْ طَلَبِ اَلتَّوْبَةِ»(6).

ص: 222


1- تحرير التحبير 3 / 548
2- بنظر: مصطلحات السرقة الأدبية 109
3- ينظر: فحولة الشعراء 9 - 10
4- ينظر: التناص في شعر أحمد مطر 181
5- التناص في العصر الأموي 14 نقلا عن التناص في الشعر الأندلسي في عهد بني الأحمر 18
6- نهج البلاغة 584

أخذ البصري هذه الحكمة وبسطها، فقال: «ابن آدم تركُ الخطيئةِ أهونُ عليك من طلب التوبة؛ ما يؤمنك أن تكون أصبت كبيرة أَغلق دونها باب التوبة، فأنت في غير معمل»(1).

فواضح إنّ البصري لم يكتفِ بإيراد الحكمة، فأول زيادته إنّه قدم على الحكمة العلویة نداء «ابن آدم» وهذهِ افتتاحية محببة عنده يقدِّم بها لكلام أمير المؤمنين علیه السلام، وبعد ذلك لم يكتفِ بإيراد الحكمة كاملةً بل زاد عليها، وذلك لمّا نهى عن مقارفة الكبائر من الذنوب بحجة إنّ من هذهِ الذنوب ما يغلق باب التوبة، وعليه فإن الخيار السليم من هذا التهیّب تركُ الذنب بالأساس حتى لا نرجع إلى خيار طلب التوبة، لأنّ «طلب التوبة من الله يحتاج إلى استعداد شديد يصلح معه العبد لقبولها منه وإفاضة العفو علیه»(2).

وفي الحقيقة هذهِ درجة رفيعة قلَّ من يتمكَّنها، أي ترك الذنب أساسًا وعدم اللجوء إلى التوبة.

ولما بلغ أمیرُ المؤمنين علیه السلام اتهام بني أمیّة له بالمشاركة في دم الخليفة الراشد عثمان بن عفان، سارع علیه السلام إلی نفي هذهِ التهمة عنه مبيِّنًا منزلته السامية، وداعیًا إلى الرجوع إلى القرآن ليكون حَکَمًا فيصلاً، فقال:

«أَنَا حَجِیجُ اَلْمَارِقینَ، وَخَصِیمُ اَلنَّاکِثِینَ اَلْمُرْتَابِینَ، وَعَلَی کِتَابِ اَللهَّ تُعْرَضُ اَلْأَمْثَالُ»(3).

فدعوة أمير المؤمنين علیه السلام إلى القرآن، وردت عند البصري بشكل أكثر تفصيلاً وذلك في قوله: «إنَّ المؤمنینَ شهودُ اللهِ في الأرضِ يعرضونَ أعمالَ أبن آدم على

ص: 223


1- حياة الحسن البصري 146
2- شرح نهج البلاغة لابن ميثم 5 / 445
3- نهج البلاغة 104

كتاب اللهِ، فمن وافقَ كتابَ اللهِ حمدَ اللهَ عليه، وما خالفَ كتاب اللهِ عرفوا أنّه مخالف لكتاب الله، وعرفوا بالقرآن ضلالةَ من ضلَّ من الخلقِ»(1).

فقول الإمام علیه السلام:

«وَعَلَی کِتَابِ اَللهَّ تُعْرَضُ اَلْأَمْثَالُ».

يشبه بشدة قول البصري: «يعرضونَ أعمالَ أبن آدم على كتاب اللهِ». وکلُّ ما قبل کلام البصري هذا وما بعده بسط له.

وفي حكمةٍ له قال الإمام علیه السلام:

«ما مِن یَومٍ إلّ یَتصفّحُ مَلكُ المَوْتِ وجُوَهَ الْخَلائِقِ، فَمَنْ رآه علی مَعْصِیَةٍ أو لَهْوٍ، أو رآهُ ضَاحِکًا فَرِحًا، قالَ لَهُ یا مِسْکینُ مَا أغْفَلكَ عمَّا یُرادُ بك! اعْمَلْ ما شئتَ، فإنَّ ليَ فیكَ غَمَرَةٍ أقطَعُ بِها وتینك»(2).

ذکر البصري هذه الحکمة، فقال: «ما من يومٍ إلا وملكُ الموت يتصفحُ وجوه الناسِ خمسَ مراتٍ، فمن رآه على لهوٍ ولعب أو معصية أو ضاحكا حرَّك رأسَه وقال له: مسكين هذا العبد غافل عما يراد به ثم يقول له: اعمل ما شئت فإن لي فيك غمزة أقطع بها وتينك»(3).

ففي كلام البصري زيادات على كلام أمير المؤمنين علیه السلام لعلها طریفة من نحو قولهِ عن ملك الموت عزرائیل علیه السلام: «حرَّك رأسه» فمن الإستحالة أن یری أحد ملك الموت فكيف إذًا نراه يحرِّك رأسه متوعِّدًا أهل اللعب واللهو؟ نعم إلاّ إذا

ص: 224


1- حياة الحسن البصري 157
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 20 / 490 - 491
3- المستطرف في كلِّ فنٍّ مستظرف 2 / 501

قصد البصري هذا الأمر على سبيل التصوير.

وفي حكمة لأمير المؤمنين علیه السلام بيَّن من خلالها عمق إيمانه الذي لا يُدانى فقال:

«لوْ کُشِفَ لِيَ الغِطَاءُ لَما ازدَدْتُ یَقِینًا»(1).

قال ابن ميثم: الغطاء ما یٌستر بهِ الشيء ويغطى، واليقين مقام في عُرف العلماء أخَصُّ من العلم، فكان أمير المؤمنين علیه السلام متسنِّمًا لذروة ذلك المقام، رائیًا ببصيرته الأسرار الإلهیّة، مطّلعًا بقوَّتهِ القدسية على الأطوار الورائية(2). ولمّا وصفَ البصري درجةَ إيمانه، أورد هذا المعنى مفصَّلاً، فقال: «بالیقین طلبتُ الجنّةَ، وباليقين هربت من النّار، وباليقين أدَّيتُ الفرائضَ على أكمل وجهها، وباليقين أصبر على الحق»(3).

وفي إحدی حکمه بیّن الإمام إنّ على الإنسان أن يصبر على المكروه، وعن المحبوب، فمثلما ينبغي الصبر على المصيبة ينبغي أيضًا الصبر عن ارتكاب المحبوب المحذور، فقال:

«اَلصَّبْرُ صَبْرَانِ صَبْرٌ عَلَی مَا تَکْرَهُ، وَصَبْرٌ عَمَّا تُحِبُّ»(4).

أخذ البصري هذه الحكمة بين التنصيص، والتحوير، والزيادة، فقال:

«الصبر صبران: صبرٌ عندَ المصيبةِ، وصبرٌ عن المعصية، فمن قَدَرَ على ذلك فقد نالَ أفضلَ الصبرین»(5).

ص: 225


1- شرح المائة كلمة 52
2- ينظر: م 0 ن 52 - 54
3- حياة الحسن البصري 159
4- نهج البلاغة 561
5- آداب الحسن البصري 39

فأوّل كلام البصري من أول حكمة الإمام علیه السلام، ثم بعد ذلك أبدل قول الإمام علیه السلام:

«صبرٌ على ما تكره»ب «صبرٌ عند المصيبة».

والمعنى واحد تمامًا، كون الصبر على المصيبة هو صبر على مكروه، وأبدل «صبرٌ عمّا تحب»ب «صبر عن المعصیة».

وهنا استعمل الإمام علیه السلام مع الصبر على المكروه حرف الجر «علی»، لأنّ وقوع المكروه - لا سامح الله - لا يستطيع أحدٌ ردّه، بل خياره الوحيد - كي ينال ثواب هذا الإبتلاء - الصبر عليه، والبصري قال في ذلك «عند»، أي عند نزول المكروه. أمّا الأمر المحبب للنفس، وأن كان محذورًا في الوقت نفسه فبمباشرته وعدمها إرادیّتان، ولذلك نهى الإسلام عنه بالحرف «عن»، وهکذا عند البصري.

أمّا الزيادة، فتكمن في آخر كلام البصري لمّا عدَّ من يقدر على الصبر عن المعصیة «نال أفضل الصبرین».

وإن كان البصري في حكمته المذكورة بسط الكلام في الصبر الثاني، وعدّه أفضلَ الصبرین؛ فهو في موعظةٍ أخری توسّع على الصبر الأوّل - أي الصبر على المکروه - وعدَّه فاضلاً أيضًا، فقال: «ما مِن جرعةٍ أحبُّ إلى اللهِ - عزّ وجلّ - من جُرعةِ مُصيبةٍ موجعةٍ يتجرَّعها صاحبها بحُسن عزاءٍ وصبرٍ، أو جرعةِ غيظٍ يحملُها بفضلِ عفوٍ و ِ حلمٍ»(1).

وخلاصة كلامه: إنّ تجرّع المصيبة الموجعة، وتحمل الغيظ «أحبُّ» جرعة

ص: 226


1- آداب الحسن البصري 39

يقدِّمها العبد قربانًا بين يدي الله تعالى. ولبُّ كلامه هذا أول حكمة الإمام علیه السلام «صبرٌ علی ما تکره». وبشرح ابن أبي الحديد على هذا المقطع من الحكمة: «النوع الأول أشقُ من النوع الثاني لأنّ الأول صبرٌ على مضّرة نازلة، والثاني صبرٌ علی محبوب متوقّع لم یحصل»(1). يتبين القرب القريب بين نص الإمام وبسطه من قبل البصري.

وبعد هذا لا ندري أيَّ الصبرين كان هو الأهم عند البصري، ففي بسطه لهما نجده قد استعمل افعل التفضيل، فالصبر على المكروه عنده «أحب»، والصبر عن المعصية عنده «أفضل».

وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه التقسيمات العددية التي ألفيناها عند الحسن البصري عدت من ميزات البصري النثرية(2) وذلك من نحو قوله المذكور «الصبر صبران» وغيره. ولكن الغريب إنَّ هذه التقسيمات عندما يجدها بعض الباحثين في كلام أمير المؤمنين علیه السلام يعدونها أمرًا مكذوبًا عليه(3)، بحجة إنّ هذه التقسيمات عرفت فيما بعد، أي عندما ترجمت كتب اليونان إلى العربية.

وهنا وقع أصحاب هذه النظرية بتناقض مقيت، لأنّ الكل وبدون أي استثناء مجمعون على أنّ ثقافة أمير المؤمنين والحسن البصري هي ثقافة عربية إسلامية محضة، لا تشوبها شائبة أعجمية، وإذا كان الأمر هكذا - وهو كذلك - إذًا لماذا هذه التقسيمات عند الحسن البصري هي ميزة ممتازة، وعندَ أمير المؤمنين علیه السلام أكذوبة منسوبة!

ص: 227


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 18 / 311
2- ينظر: تاريخ الأدب العربي (العصر الإسلامي) 450
3- ينظر المشككون بنهج البلاغة والرد عليهم 110

وفي إحدی حکمه فرَّق أمیر المؤمنین علیه السلام بين كلام العاقل، وكلام الأحمق بمقارنة فريدة، فقال:

«لِسَانُ اَلْعَاقِلِ وَرَاءَ قَلْبِهِ، وَقَلْبُ اَلْأَحْمَقِ وَرَاءَ لِسَانِهِ»(1).

أخذ البصري هذه الحكمة، وتوسع فيها شرحًا، فقال: «لسانُ العارفِ من وراءِ قلبه، فإذا أرادَ أن يتكلم تفكَّر، فإن كان الكلامُ له، تكلّم به، وإنْ كان عليه، سكت، وقلبُ الجاهل وراءَ لسانهِ، كُلَّما هَمَّ بكلامٍ، تكلَّمَ به»(2).

فواضح إنّ البصري قسم الحكمة العلوية على قسمين، ثمّ توسَّع على كلِّ منها، وكأنّه شرحٌ لها، فقوله لما وصف لسان «العارف»: «فإذا أرادَ أن يتكلم تفکَّر،فإن كان الكلامُ له، تكلّم به، وإنْ كان عليه سكت، وقلبُ الجاهل وراءَ لسانهِ، کُلَّما هَمَّ بکلامٍ، تکلَّمَ به» تمامًا كشرح الرضي على كلام الإمام «لسان العاقل» وذلك لما قال: «العاقل لا یطلق لسانه، إلاّ بعدَ مشاورة الرّویّة ومؤامرة الفکرة»(3). أما قوله في وصف قلب الجاهل: «كُلَّما هَمَّ بكلامٍ، تكلَّمَ به»، فهو ایضا كشرح الرضي على لسان الأحمق، حيث قال: «و الأحمق تسبق حذقات لسانه و فلتات كلامه مراجعة فكره»(4).

ومثلما هو معروف لدی الجمیع من أنَّ أمير المؤمنين علیه السلام هو من سادات العبّاد علی مدی الدهر، إذ کان علیه السلام خبیرًا بالعبادة، وأوقاتها، وطرقها، ومركز ثقلها وإنطلاقها وهو القلب، ولذا أعطانا منهاجًا متميِّزًا في هذا المجال، فقال:

ص: 228


1- نهج البلاغة 559
2- آداب الحسن البصري 43
3- نهج البلاغة 559
4- م. ن 559

«إِنَّ لِلْقُلُوبِ شَهْوَةً وَإقْبَالاً وَإِدْبَاراً فَأْتُوهَا مِنْ قِبَلِ شَهْوَتِهَا وَإِقْبَالِهَا فَإِنَّ اَلْقَلْبَ إِذَا أُکْرِهَ عَمِيَ»(1).

قصد علیه السلام بإقبال القلب میله، وبإدباره نفوره(2).

وردَ هذا المعنى في موعظةٍ للبصري قال فيها: «إنَّ الدِّينَ قويٌ، وإنَّ الحقَّ ثقيلٌ، وإنّ الإنسانَ ضعيفٌ، فليأخذْ أحدُكم ما يُطيق؛ فإنَّ العبدَ إذا كلَّفَ نفسَه من العمل فوق طاقتِها، خافَ عليها السّآمةَ والتَّرك»(3).

فقول الإمام علیه السلام لما أمر بممارسة الفعل بشهوة وإقبال من القلب: «فَأْتُوهَا مِنْ قِبَلِ شَهْوَتِهَا وَإِقْبَالِهَا».

نجد معناه في قول البصري «فلیأخذْ أحدُکم ما یُطیق» بمعنی لا يجبر نفسه ولا يكرهها، لأنّ هذا الإكراه، ومثلما قال البصري أيضًا:

«فإنَّ العبدَ إذا كلَّفَ نفسَه من العمل فوق طاقتِها، خافَ عليها السّامةَ والتَّرك» وهذا بسط لكلام الإمام علیه السلام.

«فَإِنَّ اَلْقَلْبَ إِذَا أُکْرِهَ عَمِيَ».

وتجدر الإشارة إلى أنّ الإمام علیه السلام أفتتح حکمته ب «إنّ» التوكيدية محذرا من أنّ إكراه القلب في حالة إدباره يولد العمى للقلب. والبصري أيضًا رغب في توکید هذا المعنى، ولكنه اعتمد كثیرًا على التوكيد ب «إنّ» وذلك لما جعل موعظته مقسمة على خمسة فقرات، أربعة منها وكَّدها ب «إن»، وواحدة ب «لام الأمر».

ص: 229


1- م. ن 586
2- ينظر: شرح نهج البلاغة لابن ميثم 5 / 449
3- آداب الحسن البصري 53

وفي الحالتين - إقبال القلب وإدباره - نجد أمير المؤمنين علیه السلام قد قدّم القلب على الرغم من إنّه في الموضع الأول يستحقُّ التأخير، وذلك لأنّ القلب هو مركز الثقل، وهو محرّك الجوارح، فإذا اشتهى القلب وأقبل، أقبل وهو يقود الجوارح، وبإدبارهِ تدبر الجوارح.

وقال الإمام علیه السلام:

«أَیُّهَا اَلنَّاسُ... إِنَّهُ مَنْ وُسِّعَ عَلَیْهِ فِي ذَاتِ یَدِهِ فَلَمْ یَرَ ذَلِكَ اِسْتّدْرَاجاً فَقَدْ أَمِنَ مَخُوفاً وَمَنْ ضُیِّقَ عَلَیْهِ فِي ذَاتِ یَدِهِ فَلَمْ یَرَ ذَلِكَ اِخْتِبَاراً فَقَدْ ضَیَّعَ مَأْمُولاً»(1).

الإستدراج هو الأخذ على فُجأة(2). وفي الحكمة بیّن علیه السلام إنّ مَنْ أنعم الله علیه ولم یکن من ذلك علی وجل فقد «أمن مخوفًا»، لأنّ هذهِ النعم قد تكون من باب الإبتلاء الذي یجرّ يفشل فيه إلى البلاء. وإنْ مَنْ ضيّق عليه الله - سبحانه - في «ذات یده» أي أصبح فقیرًا، ولم يواجه هذا الأمر بالصبر والشكر فقد ضیّع «اختبارًا» کان «مأمولاً» لفتح أبواب النعم. وهدف الإمام (صلوات الله عليه) من هذا هو جعل العبد في حالة شكر دائم لربِّ العزّة، سواء في أیّام الرخاء، أو الأیّام التي تكون فيها حَلَقُ البلاء دائرة؛ فإذا كان المرء هكذا أمِنَ سَلْبَ النعم «الاستدراج»، وضمن الزيادة، لأنّ لكل شيءٍ في الحياة قانون، وقانون الزيادة الشكر.

أخذ البصري هذه الحكمة بشقیّها، فقال: «والله ما أحدٌ من النّاس بُسِط له في أمرٍ من أمور دنياه، فلم یحَفْ أن يكونَ ذلك مكرًا به، واستدراجًا له، إلاّ نقص ذلك من عملهِ، ودينه، وعقله، ولا أحدُ أمسك الله الدنيا عنه، ولم يرَ أنّ ذك خیرٌ

ص: 230


1- نهج البلاغة 615 - 616
2- شرح نهج البلاغة لابن ميثم 5 / 458

له، إلاّ نقصَ ذلك من عمله، وبان العجزُ في رأيه»(1).

فواضح إنّ البصري حوّر شكلیًّا في کلام أمیر المؤمنین علیه السلام عن الإستدراج، فمثلاً أبدل قول الإمام علیه السلام:

«إنّه من وُسِّع عليه في ذات يدهِ»ب «بسط له في أمر من أمور دنياه».

وكذلك قوله: «فلم يَخفْ أن يكونَ ذلك مكرًا به، واستدراجًا له» فهو کقول الإمام علیه السلام:

«فَلَمْ یَرَ ذَلِكَ اِسْتِدْرَاجًا فَقَدْ أَمِنَ مَخُوفًا».

أمّا موطن التوسّع فيكمن فيما عدد البصري من نقصٍ حاصل نتيجة عدم الوجل من النعم إذا تتابعت، وذلك لما قال: «إلاّ نقص ذلك من عملهِ، ودينه، وعقلهِ». والشقّ الثاني في موعظة البصري هو كالأول بالنسبة للحكمة العلوية، فقد أخذ باقيها بمعناه وزاد عليها بسطًا في القول أيضًا.

وكتب الإمام علي علیه السلام رسالةٍ إلى محمد بن أبي بكر، منها:

«... فإنّهُ لا ُ بدَّ لكَ مِن نصيبِكَ مِن الدُّنيا، وأنْتَ إلى نصيبِكَ من الآخرة أحوج..»(2).

ضمن البصري هذا المقطع من الرِّسالة، وزادَ عليه، فقال: «ابنَ آدمَ! لاغناءَ عن نصيبك من الدّنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أفقر، فعليك بهِ، فإنّه سيأتي بك إلى نصيبك من الدُّنيا، فينظمه لك نظًما يزولُ معكَ حيثُ تزولُ»(3).

ص: 231


1- آداب الحسن البصري 65
2- الغارات 229، وينظر: المصنّف 8 / 185
3- آداب الحسن البصري 72

وفي حكمةٍ لهُ علیه السلام أعطى من خلالها منهاجَاا مستقيمًا لكلِّ قائدٍ ينشد القيادة الصحیحة والمؤثرة، فقال:

«مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً، فَعَلَیْهِ أَنْ یَبْدَأَ فَلْیَبْدَأْ بِتَعْلِیمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِمِ غَیْرِهِ، وَلْیَکُنْ تأْدِیبُهُ بِسِیرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِیبِهِ بِلِسَانِهِ»(1).

أخذ البصري هذه الحكمة، فقدّم وأخر بين فقراتها، وبسط القول على بعضها، فقال: «الواعظُ مَنْ وعظ الناسَ بعمله، لا بقوله. وكان ذلك شأنَه إذا أراد أن يأمر بشيءٍ، بدأ بنفسِه ففعله، وإذا أراد ينهى عن شيءٍ، انتهى عنه»(2).

فآخر حكمة الإمام علیه السلام:

«وَلْیَکُنْ تَأْدِیبُهُ بِسِیرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِیبِهِ بِلِسَانِهِ».

جعله البصري أولاً لما قال: «الواعظُ مَنْ وعظ الناسَ بعمله، لا بقوله».

وأوّل حكمة الإمام لما أمر مَنْ سماه بالإمام:

«بِتَعْلِیمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِیمِ غَیْرِهِ».

جعله البصري ثانیًا - وفيه تكمن الزيادة - لما قال: «وکان ذلك إلی آخر قوله».

وقد بين الإمام علي علیه السلام في إحدی حكمه إنّ الإنسان مخلوق ضعيف، يتهاوی أمام أضعف المخلوقات الأُخر، ويموت بأبسط العوارض والأحداث، وهو في هذا لا يدري من أين تأتيه العلل والأمراض، ومتى يأتيه أجله، فقال:

«مِسْکِینٌ اِبْنُ آدَمَ مَکْتُومُ اَلْأَجَلِ مَکْنُونُ اَلْعِلَلِ مَحْفُوظُ اَلْعَمَلِ تُؤْلِمُهُ اَلْبَقَّةُ وَ تَقْتُلُهُ

ص: 232


1- نهج البلاغة 562
2- آداب الحسن البصري 119

اَلشَّرْقَةُ وَ تُنْتِنُهُ اَلْعَرْقَةُ»(1).

ضمن البصريّ هذه الحكمة مع زيادة عليها، فقال: «مسکینٌ ابنُ آدم! ما أضعفهُ! مكتومُ العِللِ، مكتومُ الأجلِ، تُؤذيه البَقَّةُ، وتقتلُه الشَّرقَةُ، يرحلُ كلَّ يومٍ إلى الآخرةِ مرحلةً، ويقطعُ من الدنيا منزلةً، وربمَّا طغى وتكبَّر، وظَلَم وتجبَّر»(2).

وحثَّ أمير المؤمنين علیه السلام على العمل الصالح في إحدی خطبه، فقال:

«رَحِمَ اَللهُ عَبْداً... اِغْتَنَمَ اَلْمَهَلَ وَبَادَرَ اَلْأَجَلَ...»(3).

وردت موعظة للبصري قوامها كلام الإمام علیه السلام، جاء فیها: «أیُّها النّاسُ! اغتنموا الصِّحَّةَ والفراغ، وبادروا بالأعمالِ من قبلِ يومٍ تشخصُ فيه القلوبُ والأبصارُ»(4).

فقوله: «اغتنموا الصِّحَّةَ والفراغ» يمكن أن يكون بسطًا لجملة الإمام علیه السلام «اِغْتَنَمَ اَلْمَهَلَ» ولكن مع زيادة البصري هذه فإنَّ دلالة «المهل» تبقي أوسع مما عدّد البصري. أمّا باقي قوله فبسط لجملة الإمام «بادرَ الأجل».

وقال علیه السلام:

«مَا عَاْلَ مَنِ اقْتَصَدَ»(5)، أي ما أفتقر من لزم الاقتصاد.

ص: 233


1- نهج البلاغة 628
2- آداب الحسن البصري 127
3- نهج البلاغة 105
4- آداب الحسن البصري 127
5- نهج البلاغة 577

توسع البصري على هذه الحكمة قليلاً بقولهِ: «ما عالَ أحدٌ قط عن قصدهِ»(1).

ثالثاً: الإیجاز

الإيجاز لغةً من أوجز الشيء إذا اختصرهُ وقللهُ(2).

والإيجاز في الإصطلاح: هو وضع المعاني المقصودة الكثيرة بأقلَّ عبارة(3).

استعمل البصري هذا المظهر مع كلام الإمام علي علیه السلام، حيث أورد عددًا واسعَا من حكم الإمام، وبعض فقرات من خطبه ورسائله بشكل موجز، ففي خطبة أمیر المؤمنین علیه السلام المسماة بالغراء، وبعد أن ضرب الأمثال، وأوصى بالتقوی، ونفّر من الدنيا، وأكّد على حتمية الموت، فقال:

«... فَیَالَها أَمْثَالاً صَائِبَةً، وَمَوَاعِظَ شَافِیَةً، لَوْ صَادَفَتْ قُلُوباً زَاکِیَةً، وَأَسْمَاعاً وَاعِیَةً، وَآرَاءً عَازِمَةً، وَأَلْبَاباً حَازِمَةً، فَاتَّقُوا اَللهَ تَقِیَّةَ مَنْ سَمِعَ فَخَشَعَ، وَاقْتَرَفَ فَاعْتَرَفَ»(4).

فأمیر البیان علیه السلام يشيد بأمثاله التي يضربها، ومواعظهِ التي يسوقها للناس، لكنّه يتأوّه ويتحسَّر لقلّة مَنْ يتقبلها ويتخذها صراطًا يسير عليه. وقد وردَ مثل هذا - ولكن بشكل موجز - في موعظة للبصري، قال فيها: «لو أنّ بالقلوب حیاةً، ولو أنَّ بها صلاحًا، لبکت من لیلةٍ صبیحتُها القیامةُ»(5).

ص: 234


1- البخلاء 192
2- ينظر: لسان العرب 5 / 427 مادة (وجز)
3- ينظر: التعريفات 74
4- نهج البلاغة 115
5- آداب الحسن البصري 127

ومن كتاب بعثه أمير المؤمنين علیه السلام إلى عبد الله بن عبّاس، جاء فيه: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّك لَسْت بِسَابِقٍ أَجَلَكَ، وَلاَ مَرْزُوقٍ مَا لَیْسَ لَكَ، وَاِعْلَمْ بِأَنَّ اَلدَّهْرَ یَوْمَانِ، یَوْمٌ لَكَ وَیَوْمٌ عَلَیْكَ، وَأَنَّ اَلدُّنْیَا دَارُ دُوَلٍ، فَمَا کَانَ مِنْهَا لَكَ أَتَاكَ عَلَی ضَعْفِكَ، وَمَا کَانَ مِنْهَا عَلَیْكَ لَمْ تَدْفَعْهُ بِقُوَّتِكَ»(1).

اعتمد البصري هذا الكتاب بشكل مباشر، ووعظ بهِ قائلاً: «اِبنَ آدمَ! إنّكَ لست بسابقٍ أجلُك، ولا بمغلوبٍ على رزقِك، ولا بمرزوقٍ ما ليس لك، فلِمَ تكدح؟ وعلامَ تقتلُ نفسَك؟»(2).

فواضح إنّ البصري قسم كتاب الإمام علیه السلام علی ثلاثة أقسام:

الأول ضمّنه بنصهِ، وذلك لما قال :«لست بسابقٍ أجلُك... ولا بمرزوقٍ ما ليس لك».

والثاني والذي قال فيه الإمام علیه السلام:

«وَاِعْلَمْ بِأَنَّ اَلدَّهْرَ یَوْمَانِ، یَوْمٌ لَكَ وَیَوْمٌ عَلَیْكَ».

فقد حذفه البصري بتمامه.

أمّا الثالث والمتمثل بقول الإمام علیه السلام:

«وَأَنَّ اَلدُّنْیَا دَارُ دُوَلٍ، فَمَا کَانَ مِنْهَا لَكَ أَتَاكَ عَلَی ضَعْفِكَ، وَمَا کَانَ مِنْهَا عَلَیْكَ لَمْ تَدْفَعْهُ بِقُوَّتِكَ».

فقد أوجزه البصري بقوله: «فلِمَ تكدح؟ وعلامَ تقتلُ نفسَك».

ص: 235


1- نهج البلاغة 542
2- آداب الحسن البصري 57

وفي خطبةٍ له علیه السلام وصف فيها الملاحم، وذمَّ فيها أقوامًا، منها قوله:

«وَکَانَ أَهْلُ ذَلِكَ اَلزَّمَانِ ذِئَاباً، وَسَلاَطِینُهُ سِبَاعاً، وَأَوْسَاطُهُ أُکَّالاً، وَفُقَرَاؤُهُ أَمْوَاتاً، وغَارَ اَلصِّدْقُ، وَفَاضَ اَلْکَذِبُ، وَاُسْتُعْمِلَتِ اَلْمَوَدَّةُ بِاللِّسَانِ، وَتَشَاجَرَ اَلنَّاسُ بِالْقُلُوبِ، وَصَارَ اَلْفُسُوقُ نَسَباً، وَاَلْعَفَافُ عَجَباً، وَلُبِسَ اَلْإِسْلاَمُ لُبْسَ اَلْفَرْوِ مَقْلُوباً»(1).

فكأنّ البصري وظّفَ بعض فقرات المقطع العلوي المذكور لمَّا ذمَّ بعضَ الفئات من الناس، وذلك في قوله: «إذا أظهرَ الناسُ العلمَ، وضیّعوا العملَ، وتحابُّوا بالألسنِ، وتباغضوا بالقلوب، وتقاطعوا في الأرحام، لعنهُم الله - جلَّ ثناؤه -، فأصمَّهم وأعمى أبصارهم»(2).

فعبارة البصري: «وتحابُّوا بالألسن» إیجاز بعض الشيء لعبارة الإمام علیه السلام:

«وَاُسْتُعْمِلَتِ اَلْمَوَدَّةُ بِاللِّسَانِ».

وعبارته: «وتباغضوا بالقلوب» إيجاز لعبارة الإمام علیه السلام:

«وَتَشَاجَرَ اَلنَّاسُ بِالْقُلُوبِ».

وكتب الإمام علي علیه السلام کتابًا إلی عاملٍ له بعثه علی الصدقة، جاء في بعضهِ:

«أَمَرَهُ بِتَقْوَی اَللهَّ.... أَمَرَهُ أَلاَّ یَعْمَلَ بِشَيْءٍ مِنْ طَاعَةِ اَللهَّ فِیمَا ظَهَرَ فَیُخَالِفَ إِلَی غَیْرِهِ فِیمَا أَسَرَّ، وَمَنْ لَمْ یَخْتَلِفْ سِرُّهُ، وَعَلاَنِیَتُهُ، وَفِعْلُهُ، وَمَقَالَتُهُ فَقَدْ أَدَّی اَلْأَمَانَةَ، وَأَخْلَصَ اَلْعِبَادَةَ»(3).

ص: 236


1- نهج البلاغة 181
2- آداب الحسن البصري 59
3- نهج البلاغة 446

فهو يأمر عامله بإصلاح قوله وفعله، وظاهره وباطنه معًا، ففي ذلك خالص العبادة، وصون الأمانة.

ورد هذا المعنى، وبعض ألفاظهِ بشكلٍ موجز في حكمةٍ للحسن البصري، قال فیها: «المؤمنُ صدَّقَ قولَه فعلُه، وسرَّه علانيتُه»(1).

ومثلما هو واضح فقد قدّم وأخّر البصري في طباقات الإمام «سره - علانیته»، «فعله - مقالته»، وأوردها بتمامها وقد رُوي لمّا صدر أمر نفي الصحابي أبي ذر الغفاري إلى قرية الربذة، شيَّعه أمير المؤمنين وولداه الحسنان علیهم السلام، وعقيل، وعمّارُ بن ياسر، وعندها تكلّمَ كُلٌّ منهما بكلام(2) غايته التهوين على أبي ذر من ظلامة النفي، وحمله على التصبر، فکان أوّلهم خطابًا أمیر المؤمنین علیه السلام حيث قال كلامًا من أروع كلامه منه:

«یَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ غَضِبْتَ للهَّ فَارْجُ مَنْ غَضِبْتَ لَهُ إِنَّ اَلْقَوْمَ خَافُوكَ عَلَی دُنْیَاهُمْ، وَخِفْتَهُمْ عَلَی دِینِكَ فَاتْرُكْ فِي أَیْدِیهِمْ مَا خَافُوكَ عَلَیْهِ، وَاُهْرُبْ مِنْهُمْ بِمَا خِفْتَهُمْ عَلَیْهِ، فَمَا أَحْوَجَهُمْ إِلَی مَا مَنَعْتَهُمْ، وَمَا أَغْنَاكَ عَمَّا مَنَعُوكَ»(3).

قال البصري موعظة موجزة لبُّها بعضُ کلام لإمام علیه السلام، جاء فیها: «مَنْ نافسكَ في دینك فنافسه، ومن نافسك في دُنیاك، فألقها في نحرهِ»(4).

فقول أمير المؤمنين علیه السلام:

ص: 237


1- آداب الحسن البصري 61
2- ينظر عمّا قالوه: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 8 / 373
3- نهج البلاغة 216
4- آداب الحسن البصري 68

«إِنَّ اَلْقَوْمَ خَافُوكَ عَلَی دُنْیَاهُمْ، فَاتْرُكْ فِي أَیْدِیهِمْ مَا خَافُوكَ عَلَیْهِ».

نری البصري أوجزه بقوله: «ومن نافسك في دُنياك، فألقها في نحرهِ».

أمّا الجناس الناقص في خطبة الإمام علیه السلام التمثل بین لفظتي «دنیاهم» و «دینك»، أبقاه البصري على حالهِ لما قال: «دینك» و «دنیاك».

وبالنسبة لورود التكرار الواضح في النص العلوي من نحو تكرار لفظ الخوف ومشتقاتهِ أربع مرات، اعتمده البصري أيضًا، فقد كرر لفظ المنافسة ومشتقاتهِ ثلاث مرات، فضلاً عن تكرارات أخری بین النصین.

وكثیرًا ما كان أمير المؤمنين علیه السلام یصف نفسهِ، وزهده في الدنیا، فقال في إحدی خطبهِ:

«وَاَللهَّ لَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِي هَذِهِ حَتَّی اِسْتَحْیُیْتُ مِنْ رَاقِعِهَا، وَلَقَدْ قَالَ لِي قَائِلٌ أَلاَ تَنْبِذُهَا عَنْكَ، فَقُلْتُ: اُعْزُبْ (اُغْرُبْ) عَنِّي فَعِنْدَ اَلصَّبَاحِ یَحْمَدُ اَلْقَوْمُ اَلسُّرَی»(1).

فوصف الإمام علیه السلام لحالهِ من الزهد نتلمَّس بعضه في حكمةٍ للبصري وصف فيها أشخاصا لم يسمِّهم، منها قوله: « أدركتُ أقوامًا... كان أحدهم يعيشُ دهرهِ » لم يجدَّدْ له ثوبٌ... ولايُجعلُ بينه وبين الأرض سترٌ»(2).

فنری أنّ وصف البصري هذا ينطبق فيما ينطبق على أمير المؤمنين علیه السلام فقوله: «يعيش دهره لم يجدد له ثوب» كأنه إيجاز لكلام الإمام لمّا قال إنّه لم يبدل ثوبه، بل كان يرقعه كثیرًا، ومن كثر ترقيعه بدأ يستحي من راقعه.

ص: 238


1- نهج البلاغة 263
2- آداب الحسن البصري 68

وليس هذا فقط، بل إنّ أمير المؤمنين علیه السلام يعد مصداقًا بیّنًا من مصاديق قول البصري: «لا یُجعل بینه وبین الأرض ستر»، إذ كان الأول يُحبَّ مباشرة التراب، حتى سُميَّ بأبي تراب.

وممّا وردَ في عهد الإمام علي علیه السلام لمالك الأشتر قوله:

«فَإِنَّ صَبْرَكَ عَلَی ضِیقِ أَمْرٍ تَرْجُو اِنْفِرَاجَهُ، وَفَضْلَ عَاقِبَتِهِ خَیْرٌ مِنْ غَدْرٍ تَخَافُ تَبِعَتَهُ، وَأَنْ تُحِیطَ بِكَ مِنَ اَللهَّ طِلْبَةٌ لاَ تَسْتَقِیلُ (تَسْتَقْبِلُ) فِیهَا دُنْیَاكَ وَلاَ آخِرَتَكَ»(1).

فتفضيل أمير المؤمنين علیه السلام ضيق أمرٍ مع رجاء انفراجه، على آخر مجهولة تبعته، وربما قد تكون مخيفة، تخسر الدنيا والآخرة، فضلاً عن تركيب النص المتكوّن من مقطعين، يفصل بينهما فعل التفضيل «خیر»، نجده في موعظةٍ موجزة للبصري، قال فیها: «إنَّ خوفَك حتى تلقى الأمنَ؛ خیرٌ من أمنِك حتى تلقى الخوفَ»(2). وفي إحدی حكمه قال الإمام علیه السلام:

«إِنَّ هَذِهِ اَلْقُلُوبَ تَمَلُّ کَمَا تَمَلُّ اَلْأَبْدَانُ، فَابْتَغُوا لَها طَرَائِفَ اَلْحِکْمَةِ (اَلْحِکَمِ)»(3). ولمّا كان انصراف القلب عن العلم وملاله منه فعلاً غير محمود أمر (صلوات الله عليه) بطلب طرائف الحكم المعجبة للنفس، اللذيذة لها، لتكون هذهِ النفوس أبدًا في اكتساب العلم والحكمة(4).

ص: 239


1- نهج البلاغة 519
2- آداب الحسن البصري 35
3- نهج البلاغة 566
4- ينظر: شرح نهج البلاغة لابن ميثم 5 / 418

أخذ البصري معنى الحكمة وأوجزه، فقال: «حادثوا هذهِ القلوبَ؛ فإنَّها سريعةُ الدثورِ»(1).

وفي حکمة أخری قال علیه السلام:

«أَحْبِبْ حَبِیبَكَ هَوْناً مَا، عَسَی أَنْ یَکُونَ بَغِیضَكَ یَوْماً مَا، وَأَبْغِضْ بَغِیضَكَ هَوْناً مَا، عَسَی أَنْ یَکُونَ حَبِیبَكَ یَوْماً مَا»(2).

وخلاصة معنى الحكمة: «کلُّ حبیب جازَ أن يكون عدوًّا في وقت ما فینبغي أن لا یفرط في محبّته. وکلُّ عدوٍّ جاز أن یکون صدیقً یومًا ما فينبغي أن لا يفرط في بغضه»(3).

أخذ البصري هذ ِ ه وأوجزَ بعضها، فقال: « أحبوا هونًا، وأبغضوا هونا، فقد أفرط أقوامٌ في حبِّ أقوام فهلكوا، وأفرط أقوام في بغض أقوام فهلكوا، لا تفرط في حبِّك، ولا تفرط في بغضك»(4).

فقوله: «أحبوا هونا» إیجاز لقول الإمام:

«أَحْبِبْ حَبِیبَكَ هَوْناً مَا».

وقوله: «وأبغضوا هونا» إیجاز لقول الإمام:

«وَأَبْغِضْ بَغِیضَكَ هَوْناً مَا».

وهنا أیضًا جنح البصري إلی التکرار الذي لا طئل منه، فقد کرر قوله:

ص: 240


1- آداب الحسن البصري 130
2- نهج البلاغة 602
3- شرح نهج البلاغة لابن ميثم 5 / 465
4- المصنف 11 / 181

«أحبوا هونا» لم قال: «لا تفرط في حبِّك». وکذلك کرّر قوله: «وأبغضوا هونا» لما قال: «لا تفرط في بغضك».

رابعًا: العکس

العكس لغةً: من «عكس الشيء يعكسهُ عكسًا، فانعكسَ ردَّ آخره على أوّله»(1).

وفي الاصطلاح: أن يجعل الأديب مكانَ اللفظة لفظةً ضدَّها(2). وهذا يعني إنَّ العكس لا يقتصر على المعنى فحسب، بل يشمل اللفظة(3). وسواءً عكس اللفظ، أم المعنى لم يرد عند البصري إلا ضئيلاً، ولعل السبب في ذلك عائد إلى أنَّ هذا المظهر يتطلب من الأديب المتأثر أن يكدَّ ذهنه، ويجيل نظره، حتى يغيِّر جذریًا في المعنى المأخوذ من خلال عكسه، بينما البصري - ومثلما بان سلفًا - لم يتبع هذا الإسلوب، أسلوب التغيير العميق مع كلام الإمام علیه السلام، بل ما أجراه تغيرات في غالبيتها شكلیّة.

وعلى أیّةِ حال فإنَّ من حكم الإمام علیه السلام التي تعامل معها البصري بهذهِ الطريقة قوله علیه السلام:

«قِلِّةُ العِیَالِ أحَدُ الیَسَارَیْنِ»(4).

واليساران هنا هما: الحصول على المال أولاً، وعدم إنفاقهِ على العيال لقلّتهم

ص: 241


1- لسان العرب 6 / 144 مادة (عکس)
2- ينظر: العمدة 2 / 282
3- ينظر: مصطلحات السرقة الأدبية 127
4- نهج البلاغة 577

ثانیًا، وإطلاق اليسار على قلَّةِ العيال مجاز، حيث أطلق المسبب وأراد السبب(1).

عكس الحسن البصري ألفاظًا من الحكمة، فقال "جهدُ البلاء... كثرَةُ العيال»(2).

فأوّل ما فعله البصري مع الحكمة العلوية هو التقديم والتأخير، حيث قدّم النتيجة، وأخّرَ سببها، فالنتيجة هي الجهد والمشقة، وسببها عند البصري كثرة العیال، ثم عكس «قلة العیال» لما قال «کثرة العيال». وبما أنّه عکس السبب - المؤخر - لذا عكس النتيجة - المقدّمة - لما عدَّ كثرة العيال «جهد»، وهذا هو عكس لليسار في حكمة الإمام علیه السلام.

أمّا حكمة الإمام علیه السلام التي تقول:

«أرْکانَ الکُفْرِ أرْبَعَةٌ: الرَّغَبةُ، والرَّهبَةُ، والسُّخط، والغَضَبُ»(3).

فقد ضمنها البصري، مع شيءٍ من العكس لما قال: «مَنْ کانت له أربعُ خلالٍ حرَّمهُ اللهُ على النّار، وَأعاذه من الشيطان: مَنْ يملك نفسه عندَ الرَّغبةِ، والرَّهبةِ، وعندَ الشهوَةِ، وعندَ الغضبِ»(4).

فال «أرکان» بحسب تعبير الإمام، وال»خلال» بحسب تعبير البصري هي واحدة بين النصّين، إلاّ الثالثة، حيث أبدل «السخط»ب «الشهوة». لکنّ الأرکان تؤدي عند الإمام إلی «الکفر»، والكفر يؤدي إلى النار، بينما البصري عكس هذا لما الكفر

ص: 242


1- ينظر: شرح نهج البلاغة لابن ميثم 5 / 436
2- آداب الحسن البصري 51
3- تحف العقول 207
4- حلية الأولياء 2 / 145

عدَّ مَنْ يملك نفسه ويزلفها عن هذهِ الخلال محرّم على النار. وبعبارة أخری فالذي يباشر هذهِ الأركان وتُدخلُه مباشرتُها النار، عكس من يمتنع عنها فيورث الجنّة.

ولعلّ من المناسب هنا أن نشير إلى أنَّ هنالك حكمًا علوية كثيرة ذكرها البصري، ووعظ بها الناس دون أن يشير إلى مبدعها الأول ودون أن يضمنها في کلامٍ له حتی نقول عنها إنّها تضمین. وأمثلة هذا كثيرة جدًّا، فمن حکمةٍ لأمیر المؤمنین علیه السلام قال فیها:

«إنَّ لأهلِ الدين علامات يعرفون بها: صدق الحديث، وأداء الأمانة، ووفاء بالعهد، وصلة للأرحام، ورحمة للضفاء، وقلة مواتاة للنساء، وبذل المعروف وحسن الخلق وسعة الحلم وأتباع العلم وما يقرب من الله زلفى، فطوبى لهم وحسن مآب»(1).

وعظ البصري بهذه الحكمة، فقال: «إنَّ لأهل الخير علامةً يعرفون بها: صدقُ الحديث، وأداءُ الأمانة، والوفاءُ بالعهد...»(2).

وقال أمير المؤمنين علیه السلام في حکمة أخری:

«مَنْ أطالَ الأمَلَ أساءَ العَمَلَ»(3).

روي أنّ البصري كان يعظ بهذه الحكمة، فيقول: «ما أطالَ الأمَلَ أساءَ العَمَلَ».

روي أنّ البصري کان یعظ بهذه الحکمة، فیقول: «ما أطالَ عبدٌ الأملَ إلاّ أساءَ العَمل»(4).

ص: 243


1- تخف العقول 237. وهناك من یروي هذه الحکمة عن النبي الأکرم صلی الله علیه وآله وسلم، ینظر: الکافي 2 / 289
2- آداب الحسن البصري 37 - 38
3- نهج البلاغة 558. وينظر: مناقب الخوارزمي 377
4- آداب الحسن البصري 45

و لمّا قيل للبصري ما تقول يا أبا سعيد في الدنيا؟ فأجاب: «وما عسى أنْ أقولَ في دارٍ حلالُها حسابٌ، وحرامُها عقابٌ؟ فقال له الرجل: تالله ما رأيتُ كلامًا کلامي...»(1).

وفي الحقيقة ليس وصف الدنيا هذا للبصري، بل ما هو إلاّ جزءًا من خطبةِ أمير المؤمنين علیه السلام التي تقول:

«مَا أَصِفُ مِنْ دَارٍ أَوَّلُهَا عَنَاءٌ، فِي حَلاَلَهِا حِسَابٌ، وَفِي حَرَامِهَا عِقَابٌ، مَنِ اِسْتَغْنَی فِیهَا فُتِنَ، وَمَنِ اِفْتَقَرَ فِیهَا حَزِنَ، وَمَنْ سَاعَاهَا فَاتَتْهُ، وَمَنْ قَعَدَ عَنْهَا وَاتَتْهُ، وَمَنْ أَبْصَرَ بِهَا بَصَّرَتْهُ، وَمَنْ أَبْصَرَ إِلَیْهَا أَعْمَتْهُ»(2).

روي عن البصري أنّه كان يقول: «من أیقنَ بالخلف جادَ بالعطیَّةِ»(3).

وهذه هي حكمةٌ علوية بتمامها: «من أیْقَنَ بالخَلَف جَادَ بالعطيَّةِ»(4).

ووعظ البصري، فقال: «إنَّ فضلَ الفعال علی الکلام مکرمة، وإنَّ فضلَ الکلام علی الفعل عار»(5).

وهنا غیّر البصري طفيفًا في حكمة الإمام علیه السلام:

إنَّ فضلَ القوْلِ على الفِعْلِ لهُجْنَةٌ وإنَّ فَضْلَ الفِعْلِ على القَوْلِ لَجمَالٌ

ص: 244


1- آداب الحسن البصري 76
2- نهج البلاغة 109. وينظر: كنز الفوائد 160
3- حياة الحسن البصري 125
4- نهج البلاغة 138
5- حياة الحسن البصري 144

وزیْنَةٌ»(1).

والقائمة تطول وتطول جدًّا بهذهِ الأمثال، ولكن لا ينبغي أن يحدث هذا، فهو أمرٌ مجانب للإنصاف، وبخاصّةٍ إذا عرفنا أنّ البصري عندما كان يورد حكم الرسول الكرم محمد صلی الله علیه وآله وسلم كان يذكر اسم الرسول، وهكذا كان يذكر أسماء الخلفاء الراشدين الثلاثة الأوائل عندما يعظ بمواعظهم الناس، إلاّ الإمام علي علیه السلام فلم يذكره البصري - على الرغم من أخذهِ لعددٍ لا يُحصى من حكمه ومواعظه علیه السلام - ولا مرّة واحدة، إلاّ بتلميح واحد فقط - هذهِ النتائج بحسب قراءة الباحث في نتاجات البصري الأدبية - حيث قال البصري: «روي عن بعض الصالحين أنّه كان يقول: أفضلُ الزُّهدِ إخفاءُ الزُّهدِ»(2).

وهذه هي حكمة علوية بنصِّها(3).

وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا الأمر - أي عدم ذكره اسم من تأثر بهِ، ووعظ بكلامه - له منبت في اعترافات البصري الشخصية، فعندما كانَ يُسأل عن صاحب الحكم التي يستشهد بها يغضب ويرفض الإجابة عن هذا السؤال، وهذا ما عرفنا طرفًا منه في توطئة هذا الفصل.

ولكنّ الآن عرفنا إنها تعود لحكيم الإسلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام، ذلك الشخص الذي وقع المتذبذبون في حيرةٍ من أمرهم تجاهه، فهم من جهةٍ لا يستطيعون ذكر اسمه، لأنّهم في ركب أعدائه، ومن جهة أخری معاكسة لا يستطيعون الاستغناء عن كلامه الرفيع.

ص: 245


1- غرر الحكم ودرر الكلم 233
2- م. ن 170
3- ينظر نهج البلاغة 554. وينظر: دستور معالم الحكم 20

وبعد أن عرفنا تفصيلاً عمق أثر كلام الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في أدب الحسن البصري كان من الجدير أن نشير هنا أيضًا إلى أنّ الآراء التي عللت ثقافة البصري الأدبية لم يصمد منها إلاّ رأيٌ واحد، وهو رأي الشريف المرتضى، حين عدَّ جميع أو ُ جلَّ كلام البصري مأخوذ من كلام أمير المؤمنين علیه السلام. أمّا الآراء التي عاكست هذا الرأي، فهي عاكست الصواب أيضًا، من نحو قول الجاحظ: «فأمّا الخطب فإنّا لا نعلم أحداً یتقدم الحسن یتقدم الحسن البصري فیها»(1).

وهذا الكلام تعوزه الدقة، كون جميع خطب ورسائل ومواعظ البصري جاءت تقليدًا صارخَا - بكلِّ ما تعنيه الکلمة من معنی - لکلام أمیر المؤمنین علیه السلام. إذاً فكيف الجاحظ - وهو الخبير في التراث العرب الأدبي - لا يعلم أحدًا يفوق البصري في هذا المجال؟ ورأي الجاحظ هذا هو الغالب، بل الساحق في أدبنا الحديث، فمثلاً الدكتور شوقي ضيف عدّ البصري "بلا ريب أكبر من ثبّتوا في هذا العصر - أي الأموي - ذلك الأسلوب المونق الذي تأثر به عبد الحميد و مَن خلفوه من الکتاب»(2). وکان للبصري إسلوبًا خاصًّا وطابعًا متمیّزًا في نظر كلِّ من طه حسين، وإحسان النص(3).

أمّا من حيث الأسلوب، فبعد مقارنة كلام البصري بكلام أمير المؤمنين علیه السلام لم يثبت للبصري أسلوب ممیّز قط، بل أسلوبه الموصوف بالمونق والقائم على "الطباق والتصوير»(4)، ثبت أنّه ورثه عن أمير المؤمنين علیه السلام، وقلّده فیه تقلیدًا

ص: 246


1- البيان والتبيين 1 / 207
2- تأريخ الأدب العربي (العصر الإسلامي) 450
3- ينظر: من حديث الشعر والنثر 26 - 27، وینظر: الخطابة العربیة في عصرها الذهبي 354
4- تأريخ الأدب العربي (العصر الإسلامي) 450

صارخًا. ويستشفُّ أيضًا من كلام الدكتور شوقي ضيف أنّه أراد أن يقول: إنّ عبد الحميد تأثر بالحسن البصري، وهذا لا يمكن أن يقبل بحال من الأحوال، لأنّ الحسن البصري هو متأثِّرًا أكثر بكثير من كونهِ مؤثّرًّا، هذا من جهة، ومن جهة أخری لا النقاد قالوا بتأثر عبد الحميد بالبصري، ولا عبد الحميد قال بذلك، بل إنّ اعتراف الأخير كان صریحًا عندما سُئِل ما الذي خرّجك في البلاغة قال: «بعد أن حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع قال الثعالبي: يعني أمير المؤمنین»(1). وليت الوقت أمهلنا لندوِّن ما استخرجناه من تأثيرات عبد الحميد الهائلة بكلام أمير المؤمنين علیه السلام.

ص: 247


1- ثمار القلوب في المضاف والمنسوب 1 / 189

ص: 248

الفصل الثالث أثر کلام الإمام علي علیه السلام في نثر ابن المقفع

ص: 249

ص: 250

توطئة

قلّما تجدُ كتاباً عنى بالنثر العربي الفني ومدارسه وأصوله ومن أبدع فيه دونما تجدُ شهيته مفتوحة أمام هذا المُنشئ الذي احتدم الصراع حول ديانته، وموارد ثقافتهِ، ومنزلته الأدبية، ولذا لا أراني بحاجة إلى التوسع في تلك الآراء، إلا بما يخدم البحث، ويوضِّح ما يذهب إليه الباحث.

وإجمالاً هو أبو عمرو روزبه بن داذويه قبل الإسلام، فلمّا اسلم سُمِّيَ عبد الله وكنّي بأبي محمّد وكان في نهاية الفصاحة والبلاغة(1). و يُعدُّ من العشرة المبشرين بالبلاغة بحسب تصنيف ابن النديم(2). حصل على نصيبٍ وافرٍ من العلم في البصرة عن طريق الأعراب الذين يفدونها؛ لأنها كانت تمثل كعبة العلم والأدب

ص: 251


1- خزانة الأدب 8 / 180
2- ينظر: الفهرست 182

يومئذ، ومحط أنظار طلاّب العلم، لاسیّما وأنّها ضمّت سوق المربد الذي عرف باحتضانه للعلم والعلماء، وقد ضاهى سوق عكاظ الذي عُرِف قبل الإسلام، وبها اتصل بآل الأهتم المشهورين بالفصاحة(1).

ومن بعض الرِّوايات يُفهم أنّ ابن المقفع قضّى ردحاً من الزمن بالكوفة فقد ذكر سعيدُ بن سِلْم(2): «قصدتُ الكوفة فرأيتُ ابن المقفع فرحّبَ بي وقال: ما تصنع هاهنا، فقلت: ركبني دَين... فقال: أين منزلك؟ فعَّرفته. فأتاني في اليوم الثاني...ومعه منديل فوضعه بين يدي، فإذا فيه أسورة...ودراهم متفرِّقة، مقدار أربعة آلاف درهم، وحينئذٍ زمان المنصور، وفي الدراهم ضيق...»(3). ومن هذا يعرف إنّ ابن المقفع كان قبل سعيد بالكوفة، ولهذا رحّب بهِ وسأله عن حاله، ثم أعطاه مكرمةً سخیّةً. ولو كان ابن المقفع غريباً على الكوفة، أو ضيفاً مارّاً بها لما استطاع أن يفعل ذلك مع الرجل. ولعلَّ أديبنا في رحلتهِ إلى الكوفة اطَّلَع على كلام أمير المؤمنين علیه السلام فتأثّر بهِ، وحفظ بعضه. وسواء البصرة أم الكوفة فإنهما مصران عربیّان تخرّجَّ فيهما ابن المقفع وغدا عربيّ الثقافة والمنشأ.

أما بالنسبة لديانته فقد عُرِفَ بالتدين من خلال كلامه، وقد رُبِّيَ تربيةً إسلامية، وأولع بالعلوم والآداب فما بلغ العشرين حتى كان آية من الآيات في الفطنةِ والذّكاء لا يشقُّ له غبار في حسن البيان ومتانة التبيان(4). وإلى هذا ذهب

ص: 252


1- ينظر: دفاتر عباسية 286
2- وهو سعيد بن سلم بن قتيبة بن مسلم الباهلي، سكن خراسان، وولي بعض أعمالها، وقدم بغداد وحدَّثَ بها. كان عالماً بالحديث والعربية. ينظر: تأريخ بغداد 9 / 74
3- محاضرات الأدباء 1 / 29
4- ينظر: ابن المقفع، حياته، آثاره، 41

الأستاذ محمد كرد علي فقد أنصف ابن المقفع في هذا المجال لما قال: «لم یخالف الشرع بل خدمه وأحنى عليه»(1). ولا توجد عنده فيما أثِر عنه من نصوص نثرية كلمةٌ واحدةٌ تشعر بزندقته(2). وكيف يكون زنديقاً ويخالف الشرع وهو الذي كانت وصاياه ومواعظه تزخر بالأخلاق والآداب الإسلامية في صغائر الأمور وكبارها من نحو قوله: «لا یعجبنَّك إكرامُ من يُكرمُك لمنزلةٍ أو سلطانٍ، فإنّ السلطان أوشكُ أمورِ الدنيا زوالاً. ولا يعجبنَّكَ إكرامُ من يُكرمُكَ للمالِ، فإنّه هو الذي يتلو السلطان في سُرعةِ الزوال.. ولكن إذا أُكرِمْتَ على دينٍ أو مروءةٍ فذلك فليعجُبْكَ! فإنَّ المروءة لا تُزايلُكَ في الدُّنيا. وإنّ الدينَ لا يُزايلُكَ في الآخرة»(3). وخلاصة قوله إنّ المكرمة إذا جاءت من أجل الدين والمروءة فهيَ الغالبة على كُلِّ المكرمات. وواضح من كلامهِ إنّهُ يؤمن بالآخرة وأنّ طريقها السليم هو الدين.

ولكن مع هذا ما زال ابن المقفع عند جمهور من الباحثين معلقاً على شمّاعة الزّندقة. والزندقة في زمن ابن المقفع - مثلما معروف - أُريد بها أهدافا سياسية أكثر منها دينية، فكانت من التهم الجاهزة التي تُسَاقُ لمن لا يسوق للسلطان كامل الطاعة. فكان من الذين اتهموه بهذه التهمة الدكتور شوقي ضيف، حیث قال: «ویظهر أنّه علی الرُّغم من زندقته کان یبهره جمال القرآن»(4).

ولو كان زنديقًا حقًا لنفّذ بهِ المنصور الحكم بطريقة علنية لا بطريقة

ص: 253


1- أمراء البيان 1 / 123
2- ينظر: م. ن 122
3- الأدب الصغير والأدب الكبير 124
4- تأريخ الأدب العربي (العصر العباسي) 523

الإغتيال(1).

وإلى جانب الزندقة اتّهمه حنا الفاخوري بالشعوبية، ولكن شعوبيته هذهِ المرة «اتخذت طریق التشیّع، فأظهر مع الموالي ميله إلى بني العبّاس وإن لم يكن قلبه معهم، وكان علوي السياسة، فارسي النزعة، يدين بالإسلام ظاهراً لا باطناً، ويأخذ بالتَّقیّة..»(2).

وبحسب ما يری الباحث إنَّ في كلام الفاخوري غموضاً، أو تناقضاً بعض الشيء، إذ كيف كان ابن المقفع غير إسلامي فارسي النزعة ثمَّ يعمل بالتقية، والتقية هي مبدأ إسلامي؟ وعندما أخذ بها ابن المقفع هل أراد تمرير شعوبیّتهِ أم تمرير سياستهِ العلوية؟ وهناك بون شاسع بين الشعوبية وبين السياسة العلوية التي كانت جامعة مانعة ليس فيها تقصير لا في الدين ولا في الدنيا، ثم لا أدري كيف اتفقت هذهِ الصفات الثلاث (الشعوبية، السياسة العلوية، التقية) في نصٍّ واحد عند الفاخوري؟ أمّا روافد ثقافته فعلى الرغم من اختلاف الباحثين حول مصدرها الأهم، إلاّ أنّ غالبيتهم قد أرجعوا السواد الأعظم منها إلى الإرث الأدبي الفارسي، فبعد حديثه عن ثقافة ابن المقفع وبخاصة في الأدبين الكبير والصغير قال أحمد أمين:

«في الكتابين اثرٌ كبير من الثقافة الفارسية. ففيها حكم كثيرة من حكم الفرس... وكثيراً ما كان يقول (احفظ قول الحكيم) و (قال الحكيم) و (قالت الحكماء) وهو يقصد حكماء الفرس...»(3).

ص: 254


1- ينظر رسائل البلغاء 12
2- الجامع في تأريخ الأدب العربي 1 / 534
3- ضحى الإسلام 1 / 203

وبدورنا أن نردَّ على مقولة أحمد أمين في حُكمه على ابن المقفع بأنّه أراد حكماء الفرس، فلماذا «يقصد حكماء الفرس «حصراً؟ وهل الأمة الفارسية تمتلك من الحكماء ما فاق حكماءنا علماً وأدباً وبلاغة...؟ وكان الأجدر بالأستاذ وهو يتهم ابن المقفع بهذا أن يذكر الحكمة التي ضمّنها ابن المقفع، ثم يذكر الحكيم الفارسي الذي أَخذت عنه، حتى يضمن صمود رأيه عن طريق هكذا دليل.

وعلى كل الأحوال فذيل كلام المرحوم لم يكن دقيقاً، لأنّ هؤلاء الحكماء الذين تحدّث عنهم ابن المقفع، واحتجَّ بهم أحمد أمين لم يكونوا - بحسب نتائج الدراسة - فُرسًا قط، بل هم إسلاميون ويتصدرهم أمير المؤمنين علیه السلام.

وإلى جانب هذهِ الآراء التي عدّت ابن المقفع فارسي الثقافة، توجد هنالك آراء في القديم والحديث أرجعت ثقافة أديبنا المذكور إلى الإرث الأدبي العربي الإسلامي، وبالتحديد إلى كلام الإمام علي علیه السلام، فمثلاً القلقشندي كان يری إنّ ابن المقفع من فرسان الكلام الذين اقتفوا طريقة الإمام علي علیه السلام في الکتابة(1).

أمّا المحدثون الذين تحدثوا عن وجود رابط بين ثقافة ابن المقفّع وبين كلام أمیر المؤمنین علیه السلام فمنهم یوسف أبو حلقة، فبعد دراستهِ وتحلیله لکلام ابن المقفع قال: إنّهُ یری - أي ابن المقفع - في کلام أمیر المؤمنین علیه السلام البناء النّثري الأوّل عند العرب، ولهذا عمد إلی تفصیله(2).

وقال الدكتور محمد نبيه حجاب «إنّ ابن المقفع کان مشغوفًا بإسلوب

ص: 255


1- ينظر: صبح الأعشى في صناعة الإنشا 2 / 353
2- ينظر: عبد الله بن المقفع دراسة وتحليل 7

الإمام»(1).

ومنهم من كان يری إنّ ابن المقفع تبنّى جانبًا من آراء الإمام علیه السلام فقد قال جورج غريب «يتبنّى ابن المقفع رأي عليَّ بن أبي طالب، القائل بكون السلطان عماد الناس»(2).

وباقي رجالات أدبنا المعاصر الذين تحدّثوا عن هذا الشأن، جاءت آراؤهم على استحياء وتشكيك، فمثلاً قال محمد كرد علي: «وقيلَ أنّهُ ّ تخّرجَ في البلاغة بخطب عليِّ بن أبي طالب»(3). وما نقله محمد كرد علي لم يَرُقْ لمحمد كرد علي نفسه بدعوی «قلّة المأثور من تلك الخطب يومئذ»(4).

ولا أدري كيف علم الأُستاذ المرحوم بقلّة خطب الإمام يومذاك، والمصادر التأريخیّة تحدِّثنا عن المئات منها، والتي كانت محفوظة مدونّة ومشهورة، وعليها تخرج الأدباء، وأقلَّها على الإطلاق ما دونّه الشريف الرضي في نهج البلاغة، لأنّهُ كان يصطفي من كلام جدّهِ اصطفاءً بما يتلاءم وذوقه الأدبي، وهذا ما تطرقنا لهُ في الفصل الأول.

وشبيه ما قاله كرد علي ذهب إليه الدكتور محمد مهدي البصير بقوله: «یری بعض مؤرِّخي الأدب العربي أنّهُ َ حَفِظَ القرآن، وقرأ الشعر الجاهلي، وعرف الشيء الكثير من خُطب علي بن أبي طالب علیه السلام»(5).

ص: 256


1- بلاغة الكتاب في العصر العباسي 133 (الهامش)
2- عبد الله بن المقفع 81
3- أمراء البيان 1 / 105
4- م. ن 1 / 105
5- في الأدب العباسي 9

ولكن الدكتور في نفسه شيءٌ من هذا الرأي، لأنّه رأی من الصعوبة إثباته لعدم وجود دليل من آثار ابن المقفَّع يدُلُّ على تأثُّرهِ بالأدب العربي دلالة واضحة(1).

ورأي الدكتور المرحوم هذا يفتقر إلى الدّقة، كون الدراسة تكفّلت بكشف عشرات الأدلة التي بیّنت تأثر ابن المقفع العميق بأحد أهم زعماء الأدب العربي، ألا وهو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام.

ولوعدنا إلى ابن المقفع نفسه، وتوخينا رأيه عن أي رافدٍ استقى ثقافته الأدبية، لوجدناه يقرّ صراحة بتأثّرهِ تأثراً كبير بأناس لكنّه لم يسمِّهم، فمثلاً عندما سُئِل عن هذا الأمر قال: «شربت من الخطب ریًّا. ولم أضبط لها رويَّا. ففاضت ثمَّ فاضت. فلا هي نظاماً، ولا نسيتُ غيرها كلاما»(2).

وكلمة خطب هنا فيها دلالة على العروبة، لأنّ الفرس لم تُنقَلْ لنا عنهم خُطبٌ، بل حكمٌ ومواعظ هذا من جانب، ومن جانب آخر لو أمعنَّ النظرَ القارئ معي لوجدنا في كلام صاحبنا ابن المقفع تضمينًا نصیًّا المقرَّب عبد الحميد بن يحيى الكاتب لمّا سُئل ما الذي خرّجَك في البلاغة فقال:

«حفظتُ سبعين خُطبةً من خُطَبِ الأصلعِ ففاضت ثمَّ فاضت»(3). إذاً (ففاضت ثمَّ فاضت) علمنا من أين أخذها ابن المقفع. وهذا الفيضان في بلاغة الرجلين كان وراءه واحد، لكنّ عبد الحميد صرّحَ بذلك وابن المقفع لمّحَ له. وهذا بدورهِ عائدٌ إلى الإستراتجية التي يتّبعُها كلُّ من البليغين، فعبد الحميد كان أموي التوجه

ص: 257


1- ينظر: م. ن 9 (الهامش)
2- البدایة والنهایة 10 / 102. وينظر: وفیات الأعیان 2 / 151. وینظر: سیر أعلام النبلاء 6 / 209. وينظر: تأريخ الإسلام 9 / 198
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 / 28

في السرِّ والعلن، ورأينا كيف استعمل النبز مع أمير المؤمنين علیه السلام، ولذا فهو لا يتهیّب من ذكره الإمام علیه السلام بهذهِ الغلظة. أمّا ابن المقفع فهو على العكس من ذلك كان علوي التوجّه «يأخذ بالتقية فيما يعمل وفيما يقول، ويسعى لقلب وجه الحكم عن طريق العقل والفلسفة... وهذا كُلُّه من طلائع الحركة الشيعیّة...

وهكذا نفهم السبب الذي لأجله انتشرت آراءُ ابن المقفع في كتب رجال التشیّع والإسماعيلة من مثل المتنبّي، وأبي العلاء المعرّي وإخوان الصفاء وغيرهم، وهكذا نفهم أيضًا السبب الخفي الذي لأجله اضطُهِدَ ابنُ المقفع، وقُتِلَ شرَّ قَتلة»(1).

توجّهَ ابنُ المقفع هذا التوجّه لأنّهُ «کان ینظر إلی مثل أعلی لم یجده عند الأمویین، كما إنّه لم يقع عليه عند العباسيين. ولكنّه رآه أغلب الظن، عند بعض جماعات لم يتسلّموا مقاليد الحكم»(2) ولعلّ حديث ابن المقفع «عن السلطة والإمام»(3) يبیّن هؤلاء الناس الذين اقترنت بهم المُثل العليا، ولكن يوسف أبو حلقة يری في حدیث ابن المقفع هذا «حديثاً غامضًا...، حتى أنّهُ ليوقع ابن المقفع في تناقض مقيت. وما ذاك إلا لأنّ ابن المقفع كان يعمد ُ إلى اللفَّ والدوران خوفًا من الخليفة المتسلِّح بالحكم المطلق»(4).

والباحث یری إنّ دراسة نتاج ابن المقفع وعرضه على كلام أمير المؤمنين علیه السلام هو وحده الذي يتكفّل بكشف هذا الغموض.

ص: 258


1- الجامع في تأريخ الأدب العربي 1 / 534
2- عبد الله بن المقفع دراسة وتحليل 7
3- م. ن 20
4- م. ن 20

أمّا في كتابيه الأدب الكبير والأدب الصغير فقد تحدثَ ابن المقفّع مراراً اوتكراراّ على أنّه ضمنها حِكماً وأمثالاً ومواعضاً من أناس وصفهم، ووصف كلامهم، وأخلاقهم، ومذهبهم، وديانتهم، وعلاقتهم بالله تعالى، وبلاغتهم... ولكنّه مع ذلك - كعادته - لم يسمِّهم، فهو بوصفه «كأكثر أصحاب المُثُل العليا يترك لأبناء الإنسانية أن يقرؤوا ما بين السطور، خوفاً من ظلم بطّاش يمنعُ تأدیةَ الواجب الفكري ألبنّاء العامل للخير العام»(1).

ففي الأدب الصغير مثلاً قال: «وقد وضعتُ في هذا الكتاب من كلام الناسِ المحفوظِ حروفاً فيها عونٌ على عمارةِ القلوبِ وصقالها وتجليةِ أبصارها، وإحياءٌ للتفكیرِ وإقامةٌ للتدبير، ودليلٌ على محامدِ الأمور ومكارمِ الأخلاقِ إن شاء اللهُ»(2).

ثمّ يستمر ابن المقفع واصفًا أولئك الناس الّذين أخذ عنهم. وهذهِ المرّة في الأدب الكبير، فقال: «إنا وجدنا الناس قبلنا كانوا أعظم أجساماً، وأوفر مع أجسامهم أحلاماً... فكان صاحبُ الدين منهمُ أبلغ في أمر الدينِ علماً وعملاً من صاحبِ الدين منا، وكان صاحبُ الدنيا على مثلِ ذلك من البلاغةِ والفضلِ... وبلغَ من اهتمامهم بذلكَ أن الرجلَ منهم يفتحُ له البابُ من العلم»(3). وعلی هذا وبعد أن عددّ صفات كثيرة كانت إسلامية، بل لم تجتمع كلّها إلاّ عند الصفوة من الإسلاميين، خلص ابن المقفع إلى نتيجة هي أنَّ «مُنتهى علم عالمنا في هذا الزّمان، أن يأخذَ من علمهِم، وغايةُ إحسان مُحسِننا أن يقتدي بسيرتهم. وأحسن ما يصيب ُ من الحديث محدِّثنُا أن ينظرَ في كُتُبهِم فيكون كأنّهُ إیّاهُم يحاوِرُ، ومنهم

ص: 259


1- عبد الله بن المقفع دراسة وتحليل 7
2- الأدب الصغير والأدب الكبير 132
3- م. ن 63 - 64

يستمع، وآثارهم يتَّبع... ولم نجدهم غادروا شيئاً يجدُ واصفٌ بليغٌ في صفةٍ له مقالاً لم يسبقوه إليه: لا في تعظيم الله، عزَّ وجلَّ، ولا في تحرير صنوفِ العلم وتقسيم أقسامها وتجزئة أجزائها وتوضيح سُبُلِها، وتبینِ مآخذها، ولا في وجهٍ من وجوهِ الأَدَبِ و ضُروبِ الأخلاق»(1).

ومما تقدم هل يبقى بعدَ ذلك لقائل مقال أنّ هؤلاء الذين تأثّر بهم ابن المقفّع غير إسلامیّين. ولكن مع هذا ومما يؤسف له إنَّ هذهِ التصريحات ومثلما يری الباحث أنّها فُهِمتْ عكس ما أراد لها ابن المقفع، فمثلاً الأستاذ محمد كرد علي یری في قول ابن المقفع الأخير مسألةٌ فيها نظر، فقال: «وقوله: إنَّ القدماء لم يغادروا شيئاً لا في تعظيم الله... قولٌ فيه نظر، ولعلّه مما قاله قبل إسلامه، ولا يعقل أن تحتويَ كتب زراد شت وغيرها من الكتب أموراً في تعظيم الخالق وتصغير الدنيا أكثر من القرآن»(2) وردًا على كرد علي فهنا إذا قسنا على أنّ إسلام ابن المقفع كان إيذانًا بمرحلة جديدة أو نوع جديد من الخطاب، فإنّ قوله المذكور يدلُّ على إسلاميته الواضحة، لما طفح به من ألفاظ ومعان ٍتدلُّ على ذلك لا العكس هذا من جهة. ومن جهة أخری مَن قال إنّ ابن المقفع کان يقصد كتب زرادشت حتى تُطلق هكذا أحكام؟ وهنالك من ذهب أبعد من هذا بكثير، وأطلق أحكامًا قاسية على تصريحات ابن المقفع تلك. فقد قال أنعام الجندي: «كان فارسيُّ النزعة يطمح إلى عودة استقلال بلاده، وحكمها الذاتي، وكان يری أنّ العقبة الوحیدة، هي العرب

ص: 260


1- م. ن 64
2- أمراء البيان 1 / 113

والحكم العربي، ولهذا عمل جاهداً على الطعن بهم، والتقليل من شان حضارتهم وفنونهم جميعًا، وما قدمتا كتابي الأدب الكبير والأدب الصغير، إلاّ دليل على ذلك. ولقد كان شديد التوكيد على تحسين كلام الأقدمين... حتى لإدعى أنّ كلَّ نتاج جديد إنّما هو ترديد وتقليد لما أثر عن السابقين. هذهِ الفكرة وحدها، لا إخلاقية أولاً، لإنّها تجرد الإنسان من قيم الإبداع... وهي لا إنسانية ثانیًا لأنّها لا تؤمن بالعقل..»(1).

فما ذهب إليه الجندي في طعن ابن المقفع بالعرب وهم عقبته الوحيدة، فهذا ليس له أي دليل يذكر في ما قال أديبنا المخصوص بالدراسة، بل كان على العكس من ذلك، يمدح العرب، ويعلّي من شأنهم، ويمنِّي نفسه بأنّه لو كان منهم.

ففي قُصَّةٍ طويلة سأل شبيبُ بن شيبة(2) ابنَ المقفع أيّ الأُممِ أعقل: الفرس أم الروم أم الصین...؟ فقال: العرب «قال: أي شبیبُ -: فضحكنا. فقال: أما أنّي ما أردتُ موافقتَكم ولكن إذ فاتني حظِّي من النسبة فلا يفوتني حظّي من المعرفة، إنّ العرب حَكمتْ على غير مثالٍ مُثِّلَ لها، وآثارٍ اُثرِتْ... يجودُ احدهم بقوَّته، ويتفضّلُ بمجهودهِ، ويُشاركُ في ميسورهِ ومعسورِه، ويصفُ الشيءَ بعقلِه فيكون قدوةً ويفعلُه فيصیرُ حجّةً... أدَّبتهم أنفُسُهم، ورفعتهُم هِمَمهُم، وأعلتْهم قلوبهم وألسنتهم، فلم يزل حباء الله فيهم، وحباؤهم في أنفسهم حتى رفع لهم الفخر، وبلغ بهم أشرف الذِّكر... وافتتح دينه وخلافته بهم إلى الحشرِ، على الخير فيهم ولهم.

ص: 261


1- دراسات في الأدب العربي 56
2- هو شبيب بن شيبة المنقري يكنى أبا معمر. كان ممتازاً بالفصاحة. قدم بغداد في أيام المنصور العبّاسي واتصل بهِ، ومن بعدهِ بالمهدي، وكان كريماً عليهما أثيراً عندهما. ينظر: وفيات الأعيان 2 / 458

وقال:

«إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ»(1).

فمن وضعَ حقَّهم خسر، ومن أنكر فضلهم خصم، ودفع الحق باللسان أكبتُ للجنان»(2).

والغريب إنّ من يُقدِّس العرب بهذا التقديس هل من المنطقي أنْ يُقال عنه إنَّ عقبته الوحيدة العرب، وإنّه عمل جاهداً على الطعن بهم؟ وعلى كلّ حال فابن المقفع أجاد في دحض هذه الشبهة عن نفسهِ هذا أولاً. ثانياً: إنّ اعتراض الجندي على امتيازات أولئك الناس الذين وصفهم ابن المقفع بأنهم لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة.. ثمّ عدَّ دعوةَ ابن المقفع تلك - بموجب هذا الوصف - لا أخلاقية ولا ثقافية. فيما لا يشكُّ فيه الباحث إنّهُ لبس؛ فابن المقفع لم يكن يقصد أو يدعو بما ذكر إلى الجمود أو الإتكاء على الأقدمين وتقليدهم الأعمى - مثلما فهم الجندي وغيره - وإلاّ لو كان يقصد هذا الجمود لبقى هو في تلك الخانة، ولما وصل إلى ما وصل إليه من ذلك الإبداع النثري الذي ما زال متمیّزاً على الرغم من زحمة النثر والناثرين، ولكن غاية ما هنالك أنّهُ وجد كلامًا لأُناس امتازوا ب«تعظیم الله عزَّ وجل، ومعرفتهم بالأولى وتحقيرها، وترغيبهم بالآخرة، ومعرفتهم في صنوف العلم المتعددة وتقسيم أقسامها، وتجزئة أجزائها، وسمو أخلاقهم، وعُظم حلمهم على الرغم من قوّةِ أجسامهم، فضلاً عمّا امتازوا بهِ من البلاغة...» فوصفهم بما يستحقون وأثنى عليهم، وحبّبَ الأخذ عنهم، والسير على هديهم. أما ثالثاً فلم يكن ابن المقفع متأثراً بالفرس بقدر تأثِّرهِ بالعرب لأنّهُ حینَ سُئِل عن الفرس

ص: 262


1- الأعراف 128
2- أمراء البيان 1 / 114 - 115

قال: «ليسوا بذلك، إنّهم ملكوا كثيراً من الأرض، ووجدوا عظيمًا من الملك، وغلبوا على كثير من الخلق، ولبث فيهم عقد الأمر، فما استنبطوا شيئًا بعقولهم، ولا ابتدعوا باقي حكم في نفوسهم..»(1). وهكذا أجوبته عن باقي القومیّات، حتى إذا وصل إلى العرب أجاب ما عرفتهُ، وكانت إجابته تلك تنمُّ عن معرفة ودراسة لا تعصُّب، فبما فاته الحظ أن يلتحق بهم من ناحية النسب، لم يفته الحظ من معرفتهم والتأثر بهم. ومن هنا نستنتج أهمَ الإستنتاجات، وينكشف لنا جزءٌ كبير من الغموض الذي لفّ مقدمتي الأدب الكبير والأدب الصغير وما علينا في ذلك إلاّ إرجاع آراء وانطباعات ابن المقفع في الأمم والقوميّات وعرضها على مقدمتي الأدبين سنعرف أنّ ما كان مقصوداً هناك هم العرب.

وخلاصة القول بعد هذا إنّ الذين اتهموا ابن المقفع بأنّهُ نقل الكتابين عن الفارسية كانوا قد اعتمدوا على ما قدّمهُ لهذين الكتابين. وبرأي الباحث إنّ القوم فهموا عكس ما أراد ابن المقفع، لأنّهُ كان قاصداً العرب فيما قدَّم، أو على الأقل كان لهم النصيبُ الأكبر في ذلك. وعلى رأسهم أمير المؤمنين علیه السلام، فقد کان أديبنا يحمل في بنیّات أفكارهِ جانبًا من السياسة والأهداف والتطلعات العلوية.

هذا فضلاً عن تأثرهِ بأبناء وذرية أمير المؤمنين كالإمام الحسن، وزين العابدين والصادق علیه السلام - مثلما سيمر علينا - ولكنه لا يستطيع أن يجهر بذلك، لما كانت - تکّنهُ لهم السلطتان الأموية ومن ثم العباسية - واللتان كان ابن المقفع يعيش في ظلهما - من عداء مبرم.

وعلى هذا فابن المقفع كان واقعًا بين قوّتين متعاكستين: الأولى شدّة تأثرهِ بهؤلاء النفر الذین رأی في کلامهم حلاًّ جذریًّا لکلِّ معضله. الثانية بغض

ص: 263


1- م 0 ن 1 / 114

السلطتين لهما. ولكن ابن المقفع بفطنته وذكائهِ الحاد، ورغبته الرسالية الهادفة، استطاع أنّ يوفّق بين هاتين الطائفتين، وأن يسير برهة من الزمن وهو يكتب ما يريد في هذا الطريق طريق ذات الشوكة مثلما سيتضح ذلك.

ص: 264

المبحث الأول: في رسالة الأدب الکبیر

اشارة

الأدب الكبير رسالة، أو كُتيّب ضمّنه ابن المقفع طائفة من الحكم والمواعظ في أسلوب خطابي موجّه إلى العقلاء الذين هدفهم الحصول على سعادة الدّارين(1).

يحتوي هذا الكتاب على مقدمة - عُرِف محتواها في الصفحات السابقة - وقسمين: الأول قسَّمهُ على بابين أيضًا. خصَّ بأولهما الحديث عن السلطان، وما يحتاجه من أمور في تدبير ملكه، وما ينبغي عليه أن يتجنبه من آفات كالبخل، والكذب، والاحتجاب عن الناس...، وخص بالثاني صاحب السلطان وكيف يتعامل مع السلطان.

أما القسم الثاني: فبسط القول فيه عن الصداقة والصديق، ومكارمٍ من الأخلاق عدّة. وكانت تنضوي تحت هذه العنوانات الثلاثة ما شئت من الحكم والمواعظ کماًّ ونوعاً. وهي في حقيقتها وبغالبيتها لا تخلو من اثر لكلام أمير 1) ينظر: الجامع في تأريخ الأدب العربي 1 / 546

ص: 265


1- ينظر: الجامع في تأريخ الأدب العربي 1 / 546

المؤمنین علیه السلام فقد كان له هيمنة عجيبة عليها واثر بالغ فيها تجلى بمظاهر عدّة، منها:

أولا: التضمین

عرفنا مما سبق إن التضمين له محّرك أساس، وهو أنّ تضمين نصٍّ ما معتمد على الإعجاب بذلك النص، والرغبة من قبل الأديب المتأثر في أن يكون ذلك النص ضمن نتاجا ته من جهة، ورغبة ذلك الأديب في أن يؤثر نصّه الكلي بشفاعة النص المُضمَّن على المتلقين من جهةٍ أخری.

وقد برز التضمين بروزاً واضحا ً في رسالة الأدب الكبير حتى أصبحوقد ظهر يشكل ظاهرة من أكبر مظاهر تأثر ابن المقفع بكلام أمير المؤمنين علیه السلام، وقد ظهر فنّ التضمين عند ابن المقفع بنوعين:

1 - التضمین النصّي:

ومن هذا التضمين قوله الذي افتتح بهِ الباب الثاني من رسالة الأدب الكبير وقد خص به الأصدقاء: «ابذُلْ لِصديقك دَمَكَ ومالكَ، ولمعرفتك رِفدَك ومحضرك، وللعامة بشرَك وتحنّنك، ولعدوكَ عدلكَ وإنصافك، واضنَنْ بدينك وعرضك على كلِّ أحد»(1).

وما هذا إلا فقرة من وصية أمير المؤمنين لولدهِ محمد ابن الحنفية علیهم السلام التي قال فيها:

«ألزمْ نفسَكَ التودُّدَ.... وأبذِلْ لِصَدِیقِكَ نفسَكَ ومالَكَ، ولمعِرفَتِكَ رِفْدَكَ ومحضَرَكَ وللعامّةِ بشرَكَ ومَحَبَّتكَ، ولعدَوِّكَ عَدْلك وإنْصَافَكَ، واضْنَنْ

ص: 266


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 98

«بدينِك وعِرْضكَ عن كُلِّ أحدٍ فإنّهُ أسلمُ لدينِكَ و دُنياك»(1).

فواضح إذاً إنّ أغلب كلام ابن المقفع المذكور أخذه بالنصّ من هذهِ الوصية.

والملفت للانتباه إنّ ابن المقفع وبعد صفحات ذكر هذا المعنى وهذهِ التفاصيل، مكرِّراً بعض الألفاظ ولكن باختزال شديد، ثمّ نسبها للحكيم فقال : «أحفظْ قول الحكيم الذي قال: لِتکُنْ غايتٌك فيما بينَك وبینَ عدوِّك العدْلَ، وفيما بينَكَ وبين صديقِك الرِّضاءَ»(2).

ومن هذا نستنتج أمرين:

الأول:

إذا كانت حكمة ابن المقفع السابقة هي له، فهو لم يعد مطلقاً بحاجة إلى الاستشهاد بقول الحكيم هذا، لأنّ تلك الحكمة هي ابلغ، وأكثر بياناً، وتفصيلاً، وإيصالا للمعنى من قول الحكيم، وما الداعي إذا كان ابن المقفع يمتلك أكثر من قول الحكيم بكثير أن يستشهد بكلامه، وعلى هذا فإنّ هذا دليل آخر على إن الحكمة الأولى هي ليست لأبن المقفع أيضاً.

الثاني:

حكمة الحكيم هذه مكوّنة من فقرتين لا غير، الأولى أخُذت بتحوير طفيف عن قول أمير المؤمنين علیه السلام السالف وهي کالتالي:

ص: 267


1- نهج السعادة 7 / 232، وینظر بحار الأنوار: 74 / 396
2- الأدب الصغير والأدب الكبير 103

الحكيم: «بينك وبين عدوّك العدلَ».

ابن المقفع: «ولعدوّك عدلك».

بينما الفقرة الثانية أُخذت بالمعنى عن كلامه علیه السلام.

أمیر المؤمنین علیه السلام: »ابذل لصديقك نفسك ومالك».

الحکیم: «وفيما بينك وبين صديقك الرضاء».

ابن المقفع: «أبذل لصديقك دَمَك ومالك». وبالتالي فإنّ هذا الحكيم إما هو أمير المؤمنين علیه السلام، بعد أن غُیِّر في کلامه المذکور، وإمّا شخص كانت مرجعيته كلام الإمام علیه السلام، وفي كلِّ الأحوال أصل هذا كلّه هي وصية أمير المؤمنين علیه السلام المذکورة.

وأمّا من يطالع مجموعة المغريات التي أمر ابن المقفع باجتنابها «تحرّزْ من سُكر السُّلطان و سُكر المالِ وسُكر المنزلة وسكر الشباب، فإنّه ليس هذا شيءُ إلاّ وهو ريحُ جِنّةٍ تسلُبُ العقل، وتذهب بالوقار، وتصرفُ القلب والسمعَ والبصرَ واللسانَ إلى غير المنافع»(1) فسيجد عباراتٍ عدّة منها مضمّنة نصیًّا من حكمة أمير المؤمنين علیه السلام:

«يَنْبغي للعاقلِ أن يحتَرِسَ من سُكرِ المالِ و سُكرَ القُدرَةِ و سُكر العلم وسكر الشباب، فإنّ لكَلِّ ذلك ريحاً خبيثةً تسلِبُ العقلَ وتستَخِفُّ الوقارَ»(2).

وعن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:

ص: 268


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 96 - 97
2- غرر الحكم ودرر الكلم 242

«كان أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) يقول: ليجتمع في قلبِكَ الافْتِقارُ إلى النّاسِ والاستغناءُ عنهم، يكونُ افتقارُكَ إليهم في لين كلامِكَ، وحْسْنِ بشرِك، ويكونُ استِغْناؤُك عنهُم في نزاهَةِ عِرضِكَ، وبقاءِ عزَّكَ»(1).

فقد أکّدَ علیه السلام على معانٍ ساميةٍ، وأعطى منهاج عمل وطريقة تصرف رائعة بين الفرد ومجتمعه موظفاً فن المقابلة من أجل إيصال المعنى بطريقة مؤثرة، فهو من جهة يأمر بالافتقار إلى الناس والتودد لهم من خلال أعمالٍ تسمح بذلك كلين الكلام، وبشاشة الوجه، ومن جهة أخری أمر بالاستغناء عن النّاس من خلال صون العرض وعيش العز، لأنّ مثل العرض والعز لا يمكن التقرّب على حسابهما إلى أيِّ جهة كانت.

وجد ابن المقفع ضالته في هذه الحكمة؛ فنظمها في عقد حكم الأدب الكبير بنصها، فقال: «ولْيجتمعْ في قلبكَ الافتقارُ إلى النّاسِ والاستغناءُ عنهم، وليكنِ افتقارُكَ إليهم في لين كلمتك لهم، وحُسنِ بشرِكَ بهم. وليکُنْ استغناؤك عنهم في نزاهةِ عرضِك، وبقاء عِزّك»(2).

وقال علیه السلام في بيان فضل العقل على القول:

«إنّ فضلَ القولِ على الفعل لُهجنَةُ، وإنَّ فضلَ الفِعْلِ على القولِ لَجمالٌ وزینَةٌ»(3).

ضمن ابن المقفع هذهِ الحكمة في الأدب الكبير فقال: «فإنّ فضلَ القول علی

ص: 269


1- الكافي 2 / 149، وینظر: معاني الأخبار 267
2- الأدب الصغير والأدب الكبير 126
3- غرر الحكم ودرر الكلم 233

الفعل عارٌ وهجنة، وفضلَ الفعل على القول زينةٌ»(1).

ومن أكثر حكم الإمام أثراً في الأدب الكبير قوله علیه السلام في وصف أخٍ لهُ:

«کَانَ لِي فِیمَا مَضَی أَخٌ فِي اللهِ، وَکَانَ یُعْظِمُهُ فِي عَیْنِي صِغَرُ الدُّنْیَا فِي عَیْنِهِ. وَکَانَ خَارِجاً مِنْ سُلْطَانِ بَطْنِهِ، فَلاَ یَشْتَهِي مَا لاَ یَجِدُ، وَلاَ یُکْثِرُ إِذَا وَجَدَ. وَکَانَ أَکْثَرَ دَهْرِهِ صَامِتاً، فإِنْ قَالَ بَذَّ الْقَائِلِینَ، وَنَقَعَ غَلِیلَ السَّائِلِینَ، وَکَانَ ضَعِیفاً مُسْتَضْعَفا ً! فَإِنْ جَاءِ الْجِدُّ فَهُوَ لَیْثُ غَاب، وَصِلُّ وَادٍ، لاَ یُدْلِي بِحُجَّة حَتَّی یَأْتِيَ قَاضِیاً، وَکَانَ لاَ یَلُومُ أَحَداً عَلَی مَا یَجِدُ الْعُذْرَ فِي مِثْلِهِ، حَتَّی یَسْمَعَ اعْتِذَارَهُ؛ وَکَانَ لاَ یَشْکُو وَجَعاً إِلاَّ عِنْدَ بُرْئِهِ؛ وَکَانَ یقُولُ مَا یَفْعَلُ وَلاَ یَقُولُ مَا لاَ یَفْعَلُ؛ وَکَانَ إذَا غُلِبَ عَلَی الْکَلاَمِ لَمْ یُغْلَبْ عَلَی السُّکُوتِ، وَکانَ عَلی مَا یَسْمَعُ أَحْرَصَ مِنهُ عَلی أَنْ یَتَکَلمَ؛ وَکان إذَا بدَهَهُ أَمْرَانِ نَظَرَ أَیُّهُمَا أَقْرَبُ إِلَی الْهوَی فَیُخَالِفُهُ، فَعَلَیْکُمْ بِهَذِهِ اَلْخَلاَئِقِ فَالْزَمُوهَا، وَتَنَافَسُوا فِیهَا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِیعُوهَا فَاعْلَمُوا أَنَّ أَخْذَ اَلْقَلِیلِ خَیْرٌ مِنْ تَرْكِ اَلْکَثِیرِ»(2).

وهذهِ الحكمة امتازت بالطول نوعا ما، لأنها قائمة على وصف شخصٍ معين عُرِفَ بأخلاقه النبيلة لا يرغب أمير المؤمنين علیه السلام بذکر إحداها وترك الأخری لذا طال الكلام فيها، إلاّ أنّ وحدة الموضوع سمة بارزة فيها تجلت في التركيز على بيان صفات ذلك الأخ الذي اخُتِلفَ فيه من هو، فقال قوم: هو رسول الله صلی الله علیه وآله واستبعده آخرون لقوله: «کان مستضعفاً» فإن الرسول الأکرم صلی الله علیه وآله لا يُقال في صفاته مثل هذه الكلمة، وقال قوم: هو أبو ذرٍ الغفاري، وقال غيرهم هو المقداد، وذهب غيرهم إلى إن أمير المؤمنين علیه السلام لم یُشر إلی أخٍ معیَّن،

ص: 270


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 103
2- نهج البلاغة 605 - 606

ولكنّه كلامٌ خارج مخرج المثل(1).

كان ابن المقفع شديدُ التأثر بهذه الحكمة وعلى طول الأدب الكبير لما اجتمع فيها من عبقرية فَذّةً تجلت في الوصف الدقيق الرائع المعبّر عن أغزر المعاني(2) بفنون بلاغية عدّة منها: أسلوب الأخبار الذي ابتدأ به الحكمة، و هذا الأسلوب موائم مع الحكمة تماماً، لأنّ غرضها الرئيس هو الإخبار وبيان صفات ذلك الممدوح الذي وصفه أمير المؤمنين علیه السلام بالأخ.

ثمّ ما فیها من فنون أخری کالکنایة في قوله: «خارجاً من سلطان بطنه وهو كنايةٌ عن الخروج من أسر الشهوة والرذيلة إلى فضيلة العفّة(3).

والتشبيه «فإن جاء الجدُّ فهو لیث الغاب وصل واد»... فضلاً عن الفنون البديعية المتعددة من تكرار متعدد الطرق. مرة باللفظ نفسه «وکان یقول ما یفعل، ولا يقول ما لا يفعل» إذ ذكر الفعل المضارع «یقول» » مرتین وکذلك «یفعل»، لبيان رجاحة القول على الفعل، ورذالة القول إذا اقتصر عن الفعل. وأخری کرّر الفعل نفسهُ ولکن مرة بالمضارع وأخری بالماضي «.. ما لا یجد، ولا يكثر إذا وجد «. وثالثة کرّرَ الأسماء «وکان یعظّمُه في عیني صغرُ الدنیا في عینهِ» وفي الجملة هذهِ فضلاً عن تكرار «عیني - عینهِ» أسلوب التقدیم والتأخیر إذ قدّم علیه السلام فعل الإمام هذا للتأكيد على عظمة ذلك الممدوح، ولأنّ الغرض الرئيس الذي جاءت من اجلهِ الحكمة هو التعظيم والتبجيل،

ص: 271


1- ينظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 19 / 109
2- ينظر: شرح ابن ميثم 5 / 471
3- م 0 ن 5 / 471

فضلاً عن استعماله - لأجل هذا البيان - الجملة الفعلية وبالتحديد الفعل المضارع «یعظم» لما فيه من دلالة على الحركة والاستمرارية. أمّا طباق الإيجاب الذي وردَ في هذا المقطع والمتمثل العظم والصغر، فكان عماد معناه، إذ أنّ هناك علاقة عكسية مفادها إن صغر الدنيا وتحقيرها في عینِ الممدوح، ولَّد لهُ ُ ه عظم المنزلة عند أمير المؤمنين علیه السلام.

وسجع بأنواع متعددة، فمرّة السجع المتفق بالفاصلة والوزن «فإن قال بذ ّ القائلين، و نَقع غليل السائلين».

وأخری متفق بالفاصلة دون الوزن «فلا يشتهي ما لا يجد، و لا يكثر إذا وجد «. ف «یجد - وجد «بينهما أتفاق في الفاصلة دون الوزن.

وثالثة متفق بالوزن دون الفاصلة «أنّ اخذ القلیل خیرٌ من تركِ الکثیر»، «فهو ليث غاب، وصلُّ وادٍ».

فقد اتفق «قليل - كثير» بالوزن دون الفاصلة، ومثلهما »غاب - واد». کانت هذهِ وقفة قصيرة مع صياغة النص الفنية.

وفي هذا التناغم العميق بين المضمون والفن وجد ابن المقفع ضالّتَهُ وجعل من تلك الحكمة مسك الختام للأدب الكبير فقال: «وإني مخبركَ عن صاحبِ لي كانَ من أعظمِ الناسِ في عيني، وكان رأسُ ما أعظمه في عيني صغر الدنيا في عينهِ: كان خارجاً من سلطانِ بطنهِ، فلا يتشهى ما لا يجدُ، ولا يكثرُ إذا وجدَ، وكان خارجاً من سلطانِ فرجهِ، فلا يدعو إليه ريبةً، ولا يستخف له رأياً ولا بدنا ً، وكان خارجاً من سلطان لسانهِ، فلا يقولُ ما لا يعلمُ، ولا يُنازعُ في ما يعلمُ، وكان خارجاً من سلطانِ الجهالةِ، فلا يقدمُ أبداً إلا على ثقةٍ بمنفعة.

ص: 272

كان أكثر دهرهِ صامتاً. فإذا نطق بذَّ الناطقینَ.

کان یری متضاعفاً مستضعفاً، فإذا جاء الجد فهو الليثُ عادياً.

کان لا یدخلُ في دعوی، ولا يشتركُ في مراءٍ، ولا يدلي بحجةٍ حتى يری قاضياً عدلاً وشهوداً عدولاً.

وكان لا يلوم أحداً على ما قد يكون العذرُ في مثلهِ حتى يعلمَ ما اعتذارهُ.

وكان لا يشكو وجعاً إلا إلى من يرجو عندهُ البرء.

وكان لا يستشير صاحباً إلى من يرجو عندهُ النصيحةِ.

وكان لا يتبرمُ، ولا يتسخطُ، ولا يشتهى، ولا يتشكى.

وكان لا ينقمُ على الولي، ولا يغفلُ عن العدو، ولا يخص نفسهُ دونَ إخوانهِ بشيءٍ من اهتمامهِ حيلتهِ وقوتهِ.

فعليكَ بهذه الأخلاقِ إن أطقت، ولن تطيق، ولكن أخذ القليلِ خیرٌ من تركِ الجميعِ»(1).

وما دمنا بين النصیّن المذكورين بودّ الباحث أن يفرغ من أمرين هامين هما:

الأمر الأول:

إن متأمل النصّين بدقة يجد غالبية كلام ابن المقفع تضمينا نصيا من الحكمة، ويجد أيضًا إنّ ابن المقفع قد مسّ حكمة أمير المؤمنين علیه السلام مرّةً بزیادةٍ علیه، وأخری بحذف منها.

أما الزيادة فهو أسلوب واضح يلجأ إليه ابن المقفع في أحايين كثيرة مع كلام

ص: 273


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 133 - 134

أمیر المؤمنین علیه السلام الذي يضمّنه في رسائِلهِ، وهي هنا كثيرة ومنها قوله: «کانَ لا یدخُلَ في دعوی، ولا يشترك في مَراءٍ، ولایُدْلي بحُجةٍ حتى يری قاضیاً عدلاً وشهوداً عدولاً».

وما هذا إلا تَوسعاً لإحدی فقر حکمة الإمام علیه السلام: «لا یُدْلي بحُجّةٍ حتی یأتي قاضیاً» فأخذَ ابن المقفع هذا وبدأ يفصل: أن لا يدخل ذلك الصاحب في دعوی إلا إذا وجَد قاضياً، والقاضي ينبغي كونه عادلا، ومعه شهود، والشهود يجب توافر العدالة فيهم.

وأمّا الحذف، فإن فقرات حكمة أمير المؤمنين علیه السلام والتي لم يذكرها ابن المقفع في حكمته المذكورة لم يُفرِّط بها لكنّه ذكرها سابقاً، وجعلها متناثرة على طول الأدب الكبير. وهي كالأتي: فقول أمير المؤمنين علیه السلام: «وکان علی ما یسمع احرَص َ منه علی أن یتکلّمَ «نجده في وسط الأدب الكبير «ولیعرف العلماء حینَ تُجالِسُهم أنّكَ على أن تسمعَ أحرص منك على أن تقول»(1).

وقوله علیه السلام:

«وكان إذا غُلِبَ على الكلامِ لم یُغْلَبْ على السكوت».

لم يغفله ابن المقفع، بل ضمّنه إحدی مقاطعه متوسّعاً فیه من خلال تبیان محاسن السکون «وإن غلبتَ على الكلامِ وقتاً فلا تغلبن على السكوتِ، فإنهُ لعلهُ يكونُ أشدهما لكَ زينةً، وأجلبهما إليكَ للمودةِ، وأبقاهُما للمهابةِ، وأنفاهما للحسدِ»(2).

ص: 274


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 99
2- م 0 ن 126

وهكذا فعل ابن المقفع مع قوله علیه السلام:

«وکان إذا بدَهَهُه أمرانِ ینظُرُ أیُّهُمَا اقرب إلی الهوی فَیُخالِفُهُ».

وبدههه: إذا خطَرَ بباله أمران دفعةً من غير سابقة(1). رأی أیهما تستهویه نفسه أكثر فعمل بالآخر الذي يشقُّ عليها، ولعله كان منطلقًا من قولهِ تعالى:

«إنَّ انَّفسَ لأمَّارةٌ بالسُّوءِ»(2).

ضمّن ابن المقفع هذا المقطع من حكمة الإمام علیه السلام في نهایة الأدب الکبیر بتحويرٍ بسيط مع زيادة عليها، فقال: «إذا بَدَهَكَ أمران لا تدري أیُّهُما أصوَب فانظرْ أیُّهُما اقربُ إلى هواك فخالِفْهُ، فإنَّ أكثرَ الصواب في خلاف الهوی»(3).

وإما قوله علیه السلام: «وكان يقول ما يفعل ولا يقول ما لا يفعل». فقد ضمّنه ابن المقفع في وصاياه التي دعا فيها إلى تقديم الفعل على القول فقال: «ولیعرف إخوانك والعامةُ أنكَ، إن استطعتَ، أن تفعلَ ما لا تقولُ أقربُ منك إلى أن تقولَ ما لا تفعلُ»(4).

الأمر الثاني:

إنّ الأستاذ المرحوم محمد كرد علي وبعد أن قرأ نص الحكمة العلوية في نهج البلاغة، وقرأها عند ابن المقفع، شکّك بمرجعيتها لأمير المؤمنين علیه السلام مدّعیاً بأنها لابن المقفع، فقال في استدراكه الذي جعله في آخر كتاب (أمراء البيان):

ص: 275


1- شرح نهج البلاغة لابن ميثم 5 / 471
2- سورة يوسف 53
3- الأدب الصغير والأدب الكبير 126
4- م 0 ن 103

«أنّ صفة الرّجل الكامل الذي عرفه ابن المقفع قد استحسنها بعض المتأخرين فأدمجوها في الكتاب الذي كسروه على كلام الخليفة الرابع»(1). وقال: «فإنّ نصَّ عبارة ابن المقفع مُعلنةً عن نفسها بأنّه عرف رجلاً هذهِ صفاته الحسنة فوصفه ولا يعقل أن يأخذ كلاماً لغيره ويستحلَّ نسبته إليه خصوصاً إذا كان من الكلام المأثور المعروف صاحبه ثمَّ إنّ يتيمتهُ اشتهرت قبلَ أن ُ يؤلَّفَ نهج البلاغة بنحو قرنين ونصف»(2).

والباحث يدحض هذا بما يأتي:

1 - الأستاذ قال عن الحكمة: «استحسنها بعض المتأخرين فأدمجوها في الکتاب..» وهذا الكلام فيه انتقاص واضح من المقابل، إذ إنّه يرمي الآخرين بالانتحال لمجّرد استحسانهم لكلام ما وسرقة ذلك الكلام ونسبه لأمير المؤمنين علیه السلام.

فهل أمیر المؤمنین علیه السلام بحاجة إلى هكذا عمل شنيع تُسرق الحكمة من غيره وتُنسب لهُ؟ ثم مَنْ هذا الذي استحسنها ونسبها زوراً للإمام علیه السلام؟ فضلاً عن إنّ الكلام المُستحسن كثير جدّاً فلماذا هذهِ الحكمة بالذات أُخذت من ابن المقفع ونُسبت لأمير المؤمنين علیه السلام؟ وأما قوله بأنّ المتأخرين وضعوها في كتاب نهج البلاغة. فهذا غير مقبول أيضا، لأنّ الحكمة معروفة منذ وقت مبكر على أنّها من كلام أمير المؤمنین علیه السلام، ومعروف أيضاً إنّ ابن المقفع أخذها عنه علیه السلام. فمثلا ً قال صاحب التذكرة الحمدونية بعد أن دوّن الحكمة المقصودة: «وقد ادعی ابن المقفع أکثر

ص: 276


1- أمراء البيان 575
2- م 0 ن 574

هذا الكلام في رسالة له»(1).

2 - إنّ ابن المقفع لم يتأثر بهذهِ الحكمة العلوية فحسب، بل جميع رسائله المشهورة كانت تموج بالأثر العلوي. وعليه فماذا عن عشرات الحكم التي ضمنها ابن المقفع في نتاجا ته هل كلُّها من الحكم التي »استحسنها بعض المتأخرين فأدمجوها في الكتاب الذي كسروه على كلام الخليفة الرابع..»؟ 3 - وبالنسبة لقوله: «فإنّ نصَّ عبارة ابن المقفع معلنة عن نفسها بأنّه عرف رجلاً هذهِ صفاته... «. فهذا ليس دليلاً، فإن كان هذا دليلاً؛ فإنّ حكمة الإمام أيضاً معلنةً عن نفسها بأنّه عرف رجلاً هذهِ صفاته. وممّا يؤكد ذلك الاهتمام المكثف بمعرفة شخص ذلك الصاحب. ولذا قيلت فيه أقوال عدّة:

فقال قوم: هو رسول الله صلی الله علیه وآله، واستبعده قوم لقول الإمام علیه السلام:

«وکان ضعیفاً مستضعفاً»، وقال قومٌ: هو أبو ذر الغفاري، واستبعده قومٌ لقول الأمام علیه السلام: «فإن جاء الجد فهو ليث عادٍ.. «، وأبو ذر لم یکن من الموصوفين بالشجاعة، وقال قوم: هو المقداد بن الأسود وكان شجاعاً حسن الطريقة(2).

أما صاحب ابن المقفع المزعوم - وهو يحمل تلك الصفات الفاضلة - كان من المُفترض أن يُعرف مَنْ هو، ولكن لم يبحثه احد ولم تصلنا أخبار عنه.

4 - ثم قال الأستاذ عن ابن المقفع: «ولا یعقل أن یأخذ کلاماً لغیره

ص: 277


1- التذكرة الحمدونية 1 / 397
2- ينظر: شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد 19 / 109

ویستحلّ نسبته إلیه «وهل يعقل أم لا يعقل بأنّ ابن المقفع اخذَ كلاماً لغيره، فهذه مسألة تحدثنا فيها سابقاً، وتكّل بالإجابة عنها ابن المقفع نفسه. فقد ذكر في الأدب الكبير وهو الذي وردت فيه تلك الحكمة بأنّ كلامه مأخوذ من حكم الأولین، فقال: «فلم يبقَ في جليل الأمر ولا صغيرهِ لقائلٍ بعدهم مقال، وقد بقيت أشياءٌ... مشتقّ من جسام حكم الأولين وقولهم،... ضمن ذلك بعض ما أنا كاتبٌ في كتابي هذا من أبواب الأدب التي يحتاج أليها النّاسُ»(1).

وقال في هذا الغرض أيضاً: «وأحسنُ ما يصيبُ مُحدِّثُنا أن ينظرَ في کُتُبِهم فيكون كأنه إياهم يحاور،.. وأثارَهُم يتّبع»(2).

فالمحسن عند ابن المقفع من يتأثر ب «حکم الأولین» - وسنعرف الأولین من هم أكثر فأكثر - إذاً لماذا لا يعقل أن يأخذ ابن المقفع كلاماً لغيرهِ؟ ثم أليس الأستاذ المرحوم هو الذي أعترف وأکّد في ترجمته لأبن المقفع بأنّ حكمه منقولة، ولم يكن أبا عذرتها(3).

فهل نقل الحكم هذا - بنظر المرحوم - جائز عن غير الإمام فقط؟ أم يجوز عنه علیه السلام، وإذا جاز ذلك لماذا رفع لواء التشكيك لمّا وجد أولَّ تماثل بين الكلاميين؟ 5 - تحدث الأستاذ عن «الکلام المأثور المعروف صاحبه». وهو بهذا عدَّ الحکمة المذکورة مأثورة عن ابن المقفع أكثر منه عند أمير المؤمنين علیه السلام، وهذا مجانب للصواب جملةً وتفصيلاً، لأنّ - وبحسب إطّلاّع الباحث - جميع من

ص: 278


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 65
2- م 0 ن 64
3- ينظر: أمراء البيان 112

رواها إمَّا عن أمير المؤمنين، وإمّا عن الإمام الحسن علیهم السلام، وهناك من رواها في كتاب واحد مرّةً عن الوالد وأخری عن الولد علیهم السلام.

فمن المصنفات التي روتها عن أمير المؤمنين علیه السلام ما یأتي: - نهج البلاغة(1) - التذكرة الحمدونية(2) - ربيع الأبرار(3) - غرر الحكم ودرر الكلم(4) - أعيان الشيعة(5) ومن المصنفات التي روت الحكمة عن الأمام الحسن علیه السلام ما یأتي: - عیون الأخبار(6) - الكافي(7) - تأريخ بغداد(8) - تحف العقول عن آل الرسول(9) - البداية والنهاية(10) أما المصنّفات التي روتها عن الإمامين معاً فمنها:

- ميزان الحكمة، فقد وردت فيه مرّة عن الإمام أمير المؤمنين علیه السلام(11)، وأخری

ص: 279


1- ينظر: نهج البلاغة 605 - 606
2- ينظر: التذكرة الحمدونية 1 / 397
3- ينظر: ربيع الأبرار 1 / 308
4- ينظر: غرر الحكم ودرر الكلم 540
5- ينظر: أعيان الشيعة 1 / 577
6- ينظر: عيون الأخبار 2 / 383
7- ينظر: الكافي 2 / 237
8- ينظر: تأريخ بغداد 12 / 311
9- ينظر: تحف العقول 262
10- ينظر: البداية النهاية 8 / 43
11- ينظر: ميزان الحكمة 2 / 264

عن الإمام الحسن علیه السلام(1).

- بحار الأنوار، وردت فيه مرّة عن أمير المؤمنين علیه السلام(2)، وأخری عن الإمام الحسن علیه السلام(3).

والذي يراه الباحث إنّ الحكمة لأمير المؤمنين استشهد بها من بعدهِ ولده الحسن علیهم السلام وهذا أمر طبيعي جداّ ً. ولهذا منهم من سمعها عن الوالد فرواها عنه، ومنهم من سمعها عن الولد ورواها عنه. وما جاء في كتاب مشكاة الأنوار يؤيد هذا ويحلّ النزاع إذ ورد فيه:»من کلام أمیر المؤمنین عليٍّ، خطبَ بهِ الحسنُ بن عليٍّ علیهم السلام فقال:

«أیّها النّاس إنّما أُخبِرُکم عَنْ أخٍ لي، کانَ مِنْ أعظَمِ النّاس في عیني، وكانَ رأسُ ما عَظُمَ بهِ فيِ عَیْني صِغَرُ الدُنيا في عينه، وكانَ خارجاً من سُلطان ِ بطْنهِ...»(4).

وعليه فهل يعقل ترك هذهِ الروايات والتي جاءت من مصادر مهمة في التراث الإسلامي، ومنها ما هو سبق نهج البلاغة زمناً، ومنها معاصر له، ومنها متأخر عنه والأخذ بمجرد شكِّ للمرحوم محمد كرد علي.

6- أما قوله: بأنّ اليتيمة اشتهرت قبل أن يؤلَّف النهج، فلم يعد حجة، لأنّها وإن جاءت قبل النهج، إلاّ أنّها تبقى متأخرة عن كلام الإمام علیه السلام بما یقارب المائة عام، وبعبارة أخری إن إن كلام أمير المؤمنين علیه السلام سابق لکلِّ کلام ابن المقفع

ص: 280


1- ينظر: م 0 ن 1 / 47
2- ينظر بحار الأنوار 75 / 108
3- ينظر: م 0 ن 110 / 35
4- مشكاة الأنوار 421

زمناً، وبلاغةً، وتأثيراً.

7 - حاول المرحوم محمد كرد علي أن يدعم شكَّه في الحكمة العلوية وعدم عائديتها لأمير المؤمنين علیه السلام بتصریح ظاهرهُ صحیح وباطنه علیل، فقال: «وقد اعترف ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة بأنّ ما عزي إلى أمير المؤمنين علیه السلام هو من کلام غيره من الحكماء...»(1) وهنا أودُّ الحذر والنظر بدقة. فالحكمة التي هي مدار الحديث الآن مدونّة في نهج البلاغة، وابن أبي الحديد أكد مِراراً وتكراراً وبطرق عدة بأنَّ ما جاء بين دفتيّ النهج قطعي الصدور عن أمیر المؤمنین علیه السلام، ولا غبار على ذلك وحمل حملاتٍ على من شكکّوا فيه ووصفهم بأنّهم «أقوام أعمتْ العصبیّة أعیُنَهم، فضلّوا عن النهج الواضح وركبوا بنیّاتِ الطريق، ضلالاً وقلة معرفة بأساليب الكلام...»(2). إذاً کیف يستدل محمد كرد علي على شکّه في هذهِ الحكمة بكلام ابن أبي الحديد وهو يخالفهُ جملةً وتفصيلا.ً وهذا الرأي الذي تحدثَ فيه المرحوم هو موجود فعلاً في شرح نهج البلاغة، ولكن أنّى هي طريقة وجودهِ وأين؟ بعدَ أن فرغَ ابن أبي الحديد من شرح النهج تبرّع بجمع بعض كلام أمیر المؤمنین علیه السلام وقال: «ونحنُ الآن ذاكرون ما لم يذكره الرّضي ممّا نسبه قوم إليه - يعني إلى الإمام - فبعضٌ مشهورٌ عنه، وبعضهُ ليس بذلك المشهور، لكنّه روي عنه، وعُزِيَ إليه..»(3).

فكلام المعتزلي هذا لا يقصد بهِ ما جاء في نهج البلاغة مطلقا، بل صرّح بملء

ص: 281


1- أمراء البيان 2 / 574
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10 / 303
3- م. ن 20 / 420 - 421

فیه وأکد علی انّه قصد بهذا الحدیث الحکم الألف التي جمعها هو »فوجدناه ألف کلمة»(1). ومن هذا يتضح أن محمد كرد علي إمّا وقعَ في لبس ٍ واشتباه، أو أراد أن يخلط الأوراق ليثبتَ ما يراه ولعل الأولى أقرب. وعلى كلِّ الأحوال لا يحق مطلقاً للأديب أن يستدل بقول ابن أبي الحديد هذا على أيّ نصٍّ من نصوص نهج البلاغة لما عرفتَ.

8 - هناك دليل قاطع ولا يحيد على أنّ الحكمة كانت موجودة قبل ابن المقفع، وهذا الدليل قائمٌ على التأثير والتأثر، فقول أمير المؤمنين علیه السلام في الحکمة المذکورة: «وَكانَ عَلى مَا يَسْمَعُ أَحْرَصَ مِنهُ عَلی أَنْ یَتَکَلمَ» أخذهُ الحسن البصري، فقال: «فکن علی أن تسمعَ أحرصَ منك علی أن تقول»(2). والبصري متوفى سنة (110 ه)، وابن المقفع مولود سنة (106 ه) بمعنى إنّ البصري توفي وللأخير أربع سنوات مع العمر، وهو بالتأكيد في هذه المدَّة لم يسمع بالبصري، ولم يره، وعليه فلا شكَّ بوجود الحكمة قبل ابن المقفع، بل وإنّها كانت معروفة ومؤثِّرة، ولذا تأثر بها البصري. مع جدير التنبيه إلى أن هذا المقطع مما ضمنه ابن المقفع أيضًا، وأشرنا إليه سابقًا.

وبعد هذا تجدر الإشارة إلى أنَّ محمد كرد علي يقال عنه قد غیّر رأيه وتلاشت شكوكه في نهج البلاغة(3). وهذا ما يراه الباحث مستدلا ًبقول الأستاذ في مقاله الذي یحمل عنوان» الإنشاء والمنشئون»: «إذا أردنا أن نحكم على المنشئين بما انتهى إلينا من خطبهم، ورسائلهم، ومحاوراتهم، ومصنّفاتهم، وبدأنا بأهل

ص: 282


1- م. ن 20 / 421
2- البيان والتبيين 2 / 373
3- ينظر: مع المشككين في نهج البلاغة 97

القرن الأول للهجرة، نری على رأسهم أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب (كرم الله وجهه)، فأنه سيدُ البلغاء على الإطلاق وواضع البيان العربي... ونهج البلاغة الذي جمعه الشّريف الرّضي من كلامه وشرحه ابن أبي الحديد كتاب الدهر الخالد...»(1).

وقال: «وإذا طلبت البلاغة في أتمِّ مظاهرها، والفصاحة التي لم تشبها عجمة، فعليك بنهج البلاغة الذّي فيه خطب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام ورسائله إلى عمّاله...»(2).

2 - التضمین المحوّر:

لقد ورد هذا النوع من التضمين في أماكن عدّة من رسالة الأدب الكبير، وکان لعهد الإمام علي علیه السلام لمالك لأشتر (رضوان الله عليه) نصيب ٌوافر من هذا النوع من التضمين، فكان ممّا نهى عنه علیه السلام هو الاحتجاب عن النّاس وبیّن نتائج الاحتجاب(3) المهلكة، ثمّ بیّن إنّ لا مبرِّرَ للاحتجاب، فقال:

«وَإِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَیْنِ: إِمَّا امْرُؤٌ سَخَتْ نَفْسُكَ بِالْبَذْلِ في الْحَقِّ، فَفِیمَ احْتِجَابُكَ مِنْ وَاجِبِ حَقٍّ تُعْطِیهِ، أَوْ فِعْل کَرِیم تُسْدِیهِ، أَوْ مُبْتَلَیً بِالْمَنعِ، فَمَا أَسْرَعَ کَفَّ النَّاسِ عَنْ مَسْأَلَتِكَ إِذَا أَیِسُوا مِنْ بَذْلِكَ»(4).

أخذ ابن المقفع هذا بتقسيماتهِ، ولكن وظّفه في وصيته للوزير لمّا أوصاه بالرفق بنظرائه قائلاً: «فإنما أنت في ذلك أحدُ رجُلين: إمّا أن يكونَ عندك فضلٌ

ص: 283


1- مجلة تراثناع 1 / 34
2- م. ن ع 1 / 34
3- وهذا أيضاً ما أخذه ابن المقفع ولكنه جعله في مكان آخر سنوضحه في نقطة التلفيق
4- نهج البلاغة 517

على ما عند غيركَ، فسوف يبدوُ ذلك ويحتاجُ إليهِ ويلتمسُ منكَ وأنتَ مجملٌ.

وإمّا ألاّ يكون ذلك عندكَ»(1).

فالنصّان يتكونان من ثلاث فقرات هي:

الأولى: وفيها تضمين لم يزد فيه ابن المقفع على كلام أمير المؤمنين علیه السلام إلاّ اسم الإشارة «ذلك»:

«إنما أنت احد رجلين «أمیر المؤمنین علیه السلام «إنما أنت في ذلك احد رجلين» ابن المقفع الثانية: الجود والعطاء وهنا ازداد التحوير:

«إما امرؤ سخت نفسُكَ بالبذل» عند أمیر المؤمنین علیه السلام «إمّا أن يكونَ عندكَ فضلٌ.. على غيرك» عند ابن المقفع الثالثة: المنع:

«أو مبتلى بالمنع» عند أمیر المؤمنین علیه السلام «وأمّا أن لا يكون ذلك عندك» عند ابن المقفع و »ذلك» إسم إشارة أشار بهِ ابن المقفع إلى الفضل أو الجود الذي يجود بهِ الرجل على غيرهِ - وهذهِ من طرق التمويه عند ابن المقفع على كلام الإمام علیه السلام - وعليه يكون الكلام: وإما أن لا يكون لكَ فضلٌ على غيرك، وعندها يكون كلامه أكثر شبهًا بكلام أمير المؤمنين علیه السلام «مبتلی بالمنع».

وبعمق نظرٍ من أمیر المؤمنین علیه السلام ونتيجة لإهتمامه بالوالي والرعية على حدٍّ

ص: 284


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 90

سواء وشدِّ أواصر المودة بينهم، وجّه واليه إلى مَا مِن شأنه أن يؤدي إلى ذلك ومنه حسن الظنِّ «وذلك إنّ الوالي إذا أحسنَ إلى رعيتهِ قويت رغبتهم فيه وأقْبَلوا بِطباعِهم على محبّتهِ وطاعتِهِ، وذلكَ یَسْتَلْزِمُ حُسنَ ظَنّهِ بهم»(1) فقال علیه السلام:

«فلیکُن منكَ في ذلك أمرٌ یجْتَمعُ لَكَ بهِ حُسْنُ برعیَّتَكَ، فإنَّ حُسْنَ الظَّنِّ یقطَعُ عنكَ نصباً طويلاً»(2).

أتى ابن المقفع على هذا المعنى وبعض ألفاظه مع تحوير عليها، فقال: «لا يُولَعَنَّ الوالي بسوءِ الظنِّ لقولِ النّاس، وليجعلْ لحُسنِ الظّنِّ من نفسهِ نصيباً موفوراً يروِّحُ عن قلبه، ویُصدِرُ عنهُ في أعماله»(3).

أکدَّ أمیر المؤمنین علیه السلام على حسن الظن من خلال لام الأمر المسبوقة بالفاء. لأن الفاء أو الواو إذا اقترنت أحداها بلام الأمر ينتجان أمراً ابلغ مما لو كانت اللام وحدها. وبتغير طفيف افتتح ابن المقفع فقرته بلا الناهية ناهياً عن سوء الظن.

وهذا بمفرد ِ ه لا .« حسن الظن » والنقطة الدالة التي يلتقي عندها الطرفان هي «حسن الظن». وهذا بمفردهِ لا يمكن لعاقل أن يدعي بأنه أثر علوي خالص إلاّ إذا عُزز بأدلة أخری. فبعد أن أمر أمیر المؤمنین علیه السلام بحسن الظن عللّ أن حسنَ الظن يجعلك في رَوح ويبعدُ

ص: 285


1- شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني 5 / 339
2- نهج البلاغة 504
3- الأدب الصغير والأدب الكبير 71. والذي يجعلنا نؤكد بلا شك إنّ هذا مما أخذه ابن المقفع من کلام أمیر المؤمنین علیه السلام المذكور هو تضمينه للفقرة العلوية التي وردت قبل هذهِ المذكورة تضميناً أشبه ما يكون نصيباً إلآّ انه أبعدها بعيداً جداً حيث وضعها في الأدب الصغير وليس هنا فيالأدب الكبير وستعرف في مكانها

عنك التعب الشدید «نصباً طویلاً». ولم يحِدْ ابن المقفع عن هذا بل سار عليه وبرّرَ دعوته عادّاً حسن الظنِّ يروّح عن القلب.

والباحث یری في كلام ابن المقفع السالف شيئاً من الربكة. فما إن نهى عن سوء الظنِّ «لا يولعنَّ الوالي بسوء الظن» سرعان ما عاد وأمر بحسن الظن «وليجعلْ لحُسنِ الظّنِّ من نفسهِ نصيباً موفوراً «وهذا تکرار لا طائل منه لأنَّ المعنى واحد ٌبين الجملتين تماماً.

وبهذه الطريقة نستجلي التحوير الذي أجراه ابن المقفع على فقرة العهد العلوي أکثر فقوله: «لا یولعنَّ الوالي» من قوله علیه السلام: «فلیکن منك» والکاف في قول أمیر المؤمنین علیه السلام «منك» تدلُّ على «الوالي» الذي ذکره ابن المقفع صراحةً. وقوله «وليجعل لحسن الظن نصيبًا موفوراً» من قوله علیه السلام: «یجتمع لك به حسن الظن»، وقوله: «یروّح بهِ عن قلبه» من قوله علیه السلام: «یجتمع لك به حسن الظن»، وقوله: «یروّح بهِ عن قلبه» من قوله علیه السلام: «یقطع عنك نصیبًا طویلاً»؛ فالمعنى واحد بين كلّ هذه الفقرات، فضلا عن ألفاظ بنصها. ومن حکم أمیر المؤمنین علیه السلام التي ضمنها ابن المقفع بهذهِ الطريقة قوله علیه السلام:

«صاحبُ السُّلطانِ كراكبِ الأسدِ يُغبَطُ بموقعهِ وهو اعلمُ بموقعِهِ»(1).

فقد شبه صاحب السلطان براكب الأسد، النّاس تتمنى منزلته التي هو عليها من القرب والتنعّم بأنعام السلطان، لكنَّه بقرارة نفسه متهيب من تلك المنزلة، لما يعلم من أنّ ليسَ للسلطان مودة دائمة.

ضمّن ابن المقفع هذهِ الحكمة، ولكنّه خاطب بها السلطان وليس صاحبه فقال: « تضبط أمورك وتصول على عدوِّك بقوم ٍ لست منهم على ثقةٍ

ص: 286


1- نهج البلاغة 520

من دين ولا رأي ولا حفاظ من نيَّةٍ... فإنما أنت في ذلك كراكبِ الأسدِ الذي يهابه من نظرَ إليه، وهو لمركبه أهيبُ»(1).

ثانیاً: التلفیق

التلفیق لغة من اللَّفقِ بمعنى «خیاطة شُقّتین تلفقُ إحداهما بالأخری لفقاً والتلفيق أعم فإن انفصلت الشقتين يقال: انفصل لفقهما فلا يلزمه اسم اللفق قبل الخياطة»(2).

وهذا المعنى ما أقربه من المعنى الاصطلاحي، فبدل جمع شقتي قماش جمع نصين أدبیّين أو أكثر عندها يكون النص مُلفقا.

وعرفهُ أسامة بن منقذ (ت 584 ه )، فقال: «هو أن یکون البیت مُلفّقا ً من أبياتٍ قبله»(3) وعلى الأديب في هذا الفن أن يراعي مسألة تناسب النصوص فيما بينها تناسباً لا فجوة فيه، وذلك بعد أن يضمَّ إلى ذكر الشيء ما يليق بهِ ويجري مجراه، لأنّ التلفيق يُقال عنه مراعاة النظير أيضاً(4). وللتلفيق أهمية واسعة، وبخاصة في ميدان النثر، فقد قال الحريري (ت 510 ه) في المقامة الفراتية: إنَّ صناعة الإنشاء مبنیّةٌ على التلفيق(5). وهو بهذه الحالة يعتمد بالدرجة الأساس على ثقافة الأديب، فكلما كانت تلك الثقافة متنوعة ومتعددة المشارب كان النصُ

ص: 287


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 75. وينظر: أدب ابن المقفع دراسة اسلوبية 51
2- العين 5 / 165
3- البديع في نقد الشعر 201
4- ينظر: نهاية الأرب في فنون الأدب 7 / 106
5- ينظر: مقامات الحريري 217، وينظر: صبح الأعشى 2 / 316

مُتّسمًا بالتلفيق أكثر، وهو مباح أيضاً من أي نص ولأي أديب، غير أنّ وجوده في الأدب الكبير يختلف نوعاً ما لأنَّ - وبدون مبالغة - جميع التلفيقات التي عثر عليها الباحث في هذا الأدب هي من كلام أمير المؤمنين علیه السلام. ویری الباحث إنّ هذا الأمر يحمل في طیّاته دلالات عدّة منها:

1 - الغرام الشديد بكلام أمير المؤمنين علیه السلام حتی انّه فرض هیمنة ً ولم يترك مجالاً لأبن المقفع أن يستعين بحكمة أخری یردف بها الحکمة العلویة.

2 - فعل ابن المقفع هذا لربما لإيمانه بأنّ كلام أمير المؤمنين علیه السلام یباین باقي الكلام، وبالتالي فإنّ تلفيق كلام غريب مع كلامهِ علیه السلام سیُکتشف، أو یکون شاذاً.

3 - إيمانه بأن الموضوع الذي يريد معالجته في أدبه لا يمكن استيفاء معناه، ورواجه، إلا ّبتلفيق كلام أمير المؤمنين علیه السلام.

4 - قد تكون ثقافة الأديب المُلفِّق بهذه الطريقة مُقتصرة ومأخوذة من الكلام المُلفَّق.

ولا يهمنا أيّ الطرق سلك ابن المقفع وأي المقاصد قصد، لأنّ النتيجة واحدة، وهي تأثره البالغ بكلام أمير المؤمنين علیه السلام وبهذه الطریقة التي جعلته يردف الحكمة العلوية بأختها والرسالة بالرسالة والمعنى بالمعنى.. حتى يمكن عد هذا المظهر أكبر مظاهر تأثر ابن المقفع بكلام أمير البيان علیه السلام، سواء هنا في الأدب الكبير، أو ما سيأتي في الأدب الصغير.

وبدقّةٍ أكثر فإن تلفيق ابن المقفع لكلام الإمام علیه السلام قد وردَ مکوّن من:

1 - حکمتین علویّتین:

كتب ابن المقفع في الأدب الكبير موصیًّا الوالي: «لا یُضیعین الوالي التثبت

ص: 288

عندما يقولُ، وعندما يُعطي.. فإنّ الرجوعَ عن الصمتِ أحسنُ من الرجوعِ عن الكلامِ، وإن العطيةَ بعد المنعِ أجملُ من المنعِ بعد الإعطاء»(1).

فابن المقفع أوصى الوالي وصدره مطمئن لأنّ ما أوصى بهِ برّره بكلام أمیر المؤمنین علیه السلام. فحكمته التي هي في القول ما هي إلاّ معنى، وصياغة، وأسلوباً من وصية أمير المؤمنين لولده الحسن علیهم السلام منها:

«وتلافيكَ ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك»(2).

فالمعنى واحد بين النصیّن ومفاده إن المتكلم قادر على أن يتكلم بعد صمتهِ، ولكن لا يستطيع أن يعيد ما تكلّم بهِ». لأنّ الکلام یُسمع وینقل؛ فلا يُستطاع إعادتهِ صمتًا... وليسَ الصمت بمنقولٍ ولا مسموع فیُتعَذَّر استدراكه»(3).

وهكذا الصياغة فهي صياغة علوية بإمتياز، فقد جعل ابن المقفع حكمته تتكون من مقطعين يفصل بينهما اسم التفضيل: «فإن الرجوع عن الصمت أسهل من الرجوع عن الكلام».

وهكذا أمير المؤمنين علیه السلام:

«تلافيك ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك ما فاتك من منطقك».

وحتى بعد أن غیّر ابن المقفع بعض الألفاظ إلاّ أن دلالتها هي هي لم تتغير.

فقد أبدل (صمتك) ب (الصمت).

ص: 289


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 78 - 79
2- نهج البلاغة 468
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16 / 268

و (أيسر) ب (أسهل).

و (منطقك) ب (الكلام ).

و (تلافيك) ب (الرجوع).

وأمّا قوله الأخير والذي تحدّث فيه عن العطاء، فهو تضمين نصي لحكمة أمير المؤمنين علیه السلام:

«العطیّةُ بعد المنْعِ ِأجملُ من المنعِ ِبعد العطیّةِ»(1).

وقد قال ابن المقفع وهو يلفق أيضاً من حكمتين علويتين: «واعلم أن الصبر صبرانِ: صبرُ المرءِ على ما يكرهُ، وصبرهُ عما يحب. والصبرُ على المكروهِ أكبرهما وأشبههما أن يكون صاحبهُ مضطرّاً. واعلم أن اللئامَ أصبرُ أجساداً، وأنّ الكرامَ هم أصبرُ نفوساً»(2).

فأول كلامه من حكمة أمير المؤمنين علیه السلام:

«الصبر صبرانِ: صبرُ على ما تكره ُ، وصبرٌ عما تُحب»(3).

وبعد أن عشق ابن المقفع كلام أمير المؤمنين علیه السلام عشق تأکیده أیضاً وما ابتدأ بهِ من فعل الأمر «اعلم» - الذي غالباً ما يقدم بهِ لقول الإمام - وما عزّزه ب - «إنّ» التوکیدیة، إلاّ دلالة علی ذلك.

ومن عشقه البالغ لهذا الكلام رغبته في التوسع بهِ، أو شرحه حتى إنّ قوله: «والصبرُ علی المکروه أکبرهما». لا يكاد يختلف عن شرح ابن

ص: 290


1- غرر الحكم ودرر الكلم 79
2- الأدب الصغير والأدب الكبير 110
3- نهج البلاغة 561، وينظر: أدب ابن المقفع دراسة أسلوبية 52

أبي الحديد: «النوع الأول أشقُّ من الثاني»(1)، ولربما لهذا السبب قدّم أمیر المؤمنین علیه السلام الصبرَ على الضّراء على الصبر عن السرّاء، أي لجسامة الأول.

أما قول ابن المقفع الأخير فهو تضمين لحكمة أمير المؤمنين علیه السلام: «اللّئامُ أصبرُ أجسادًا»(2).

غير أنّ ابن المقفع - كعادته – قدّمَ لها بفعل الأمر ثم توسع عليها كأختها.

2 - ثلاث حکم علویة:

تحدث أمیر المؤمنین علیه السلام عن الصداقة والصديق في أقوالٍ كثيرة؛ فمرّة يعدّ الصديق أفضل عدّةٍ لنوب الزمان، وأخری یعده زینة في أیام الأمان، مؤکداً على أنّ من يعجز عن اكتساب الصديق فهو أعجز الناس، فقال في هذهِ المعاني:

• «إخوانُ الصدقِ أفضَلُ عدَّةٍ»(3).

• «الأخْوَانُ زينَةٌ في الرّخاء، وعدَّةٌ في البَلاَءِ»(4).

• «أَعْجَزُ اَلنَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ اِکْتِسَابِ اَلْإِخْوَانِ وَأَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَیَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ»(5).

جمع ابن المقفع هذه الحكم الثلاث، فقال: «اعلم أنّ إخوانَ الصدقِ هم خیرُ مکاسبِ الدنیا، هم زینةٌ في الرخاء،وعدةٌ في الشدةِ، ومعونةٌ علی

ص: 291


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 18 / 311
2- غرر الحكم ودرر الكلم 260
3- عيون الحكم والمواعظ 126، ميزان الحكمة 1 / 41
4- غرر الحكم ودرر الكلم 82
5- نهج البلاغة 522

خيرِ المعاشِ والمعادِ. فلا تفرطن في اكتسابهم وابتغاء الوُصلاتِ والأسبابِ إليهم»(1).

إذاً فهذه الحكم التي فرقها الإمام جمعها ابن المقفع في نصٍّ واحد، وكان قد ابتدأها بفعل الأمر «اعلم» وهذهِ الطريقة غالباً ما يستعملها مع كلام الإمام علیه السلام الذي یضمنه. ضمّنَ من الحکمة الأولی حرفیا «إخوان الصدق». ومن الثانیة حرفیا أیضاً «هم زینة في الرخاء». والضمير «هم» هنا عائد علی «الإخون» واستعمال الضمير بدلاً من الاسم الصريح طريقة شائعة جداً في تعامله مع كلام أمير المؤمنين علیه السلام.

أمّا تضمينه المحور فمن الحكمة الثانية والثالثة.

ففي الحكمة الثانية قال الإمام علیه السلام:

«وعدة في البلاء».

غير فيها ابن المقفع تغیرًا طفيفاً فقال: «وعدّة في الشدة». والمعنی وحد إذ لا فرق بین الشدّة والبلاء.

وأما قول الإمام علیه السلام في حکمته الثالثة:

«أعجز الناس من عجزَ عن اكتساب الأخوان».

جعله ابن المقفع آخراً «فلا تفرطن في اکتسابهم».

والضمیر «هم» هنا أيضاً عائد على الأخوان أي لا تفرط في اكتساب الأخوان، وهنا يبرز الأثر العلوي أكثر جلاءً.

ص: 292


1- الأدب الصغير والدب الكبير 108

3 - حکمتین ووصیة:

فمن هذا النوع من التلفيق قول ابن المقفع في باب الاعتذار: «لا تعتذرنّ إلاّ إلى من یُحبُّ أن يجدَ لكَ عذراً، ولا تستعين إلا بمن يُحب أن يظفركَ بحاجتكَ، ولا تُحدثنَ إلا من یری حديثكَ مغنماً، ما لم يغلبكَ اضطرارٌ. وإذا اعتذر إليكَ معتذرٌ، فتلقهُ بوجهٍ مشرقٍ وبشرٍ ولسانٍ طلقٍ إلا أن يكونَ ممن قطیعتهُ غنیمةٌ»(1).

فكلامه هذا مكون من أربعة نصوص علوية: حكمتين، ثمّ مقطعين من وصية أمير المؤمنين لولده الحسن علیهم السلام.

أمّا بداية كلامهِ فهو تضمين لحكمة علوية نهى فيها علیه السلام عن الإعتذار إلاّ إلی مقابل يتقبله وفي نفس غرس لتلقيه، وإلاّ فالرغبة عنه أولى، فقال:

«لا تعتذرْ إلى من لا یُحبُ أنْ يجدَ لك عُذراً»(2).

وأما قوله: «ولا تحدِّثنَّ إلاّ مَن یری حدیثك مغنما». فهو یشبه ما جاء في وصیة الإمام لولدهِ الحسن علیهم السلام:

«ولا ترغَبَنّ فیمَنْ زَهدَ فیكَ»(3).

ثمَّ عادَ مجدّداً إلی حدیث عن الاعتذار: «وإذا اعتذرَ اليك مُعتذر فتلّقه بوجه مترف..».

وهذا كقول أمير المؤمنين علیه السلام في هذا الباب:

ص: 293


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 107
2- غرر الحكم ودرر الكلم 749
3- نهج البلاغة 470

«واقبَلْ عُذرَ مَنْ اعتذرَ إلیك»(1).

وبالنسبة لما وردَ في ذيل كلامه: «إلاّ أن یکون ممّن قطیعته غنیمة».

فكان فيه صدی لقول أمیر المؤمنین علیه السلام:

«قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل»(2). و«هذا حقٌّ، لأنَّ الجاهل إذا قطعك انتفعت ببعدهِ، كما تنتفع بمواصلة الصديق العاقل لك»(3).

وبعبارة أخری مثلما أنّ صلة العاقل غنيمة كذلك قطيعة الجاهل غنيمة أيضاً، لأنَّ في الجاهل شراً، وبجفائهِ يجفو ذلك الشر، وبالتالي فإنّ بعده غنيمة. وهنا يتضح بجلاء التطابق بين كلام أمير المؤمنين علیه السلام وکلام ابن المقفع.

ومثلما اتّضحَ فإنّ ابن المقفع تحدّثَ في مستهلِّ كلامهِ عن الاعتذار، ثمَّ انتقل إلى معنًى آخر عندما بیّنَ مَنْ تُفضّلُ الاستعانة بهم، ثم إلى معنًى ثالث تحدَّثَ فيه عمَّن تفضّل محادثته، ثمَّ عادَ رابعة إلى الاعتذار، وهو بهذا كلّهِ یلفِّق کلام أمیر المؤمنین علیه السلام إلاّ أنّ هذا التلفيق - مثلما يراه الباحث - لم یکن ممدوحاً، لأنّه جمع بین معانٍ لیست هي بالمتقاربة، بینما التلفیق المحبَّب هو مثلما قال الدكتور إحسان عباس: «أنْ یأخذَ الشاعر المعاني المتقاربة ویستخرج منها معنًی مؤکّداً یکون له کالاختراع»(4).

4 - حکمة ومقطع من العهد:

فمن ذلك قول ابن المقفع: «حقُّ الوالي أن يتفقدَ لطيفَ أمورِ رعيتهِ، فضلاً

ص: 294


1- غرر الحكم ودرر الكلم 436
2- نهج البلاغة 471
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16 / 284
4- تأريخ النقد الأدبي عند العرب 459

عن جسيمها، فإنّ للّطيفِ موضعاً ينتفعُ به، وللجسيم موضعاً لا يُستغنى عنهُ.

ليتفقد الوالي، في ما يتفقدُ من أمورِ رعيتهِ، فاقةَ الأخيارِ الأحرار منهم، فليعمل في سدِّها، وطغيانَ السّفلةِ منهم فليقمعهُ، وليستوحش من الكريمِ الجائعِ واللئيم الشبعانِ، فإنّما يصولُ الكريمُ إذا جاعَ، واللئيم إذا شبعَ»(1).

یری ابن المقفع في أول كلامه إنّ من واجبات الوالي معرفة وتفقد ما تحتاجه الرعیة في صغائر الءمور وکبارها. وهو بذلك اعتمد كلياًّ علی ما جاء في عهد أمیر المؤمنین علیه السلام لمالك الأشتر(رضوان الله عليه) في هذا الشأن: «ثُمَّ تَفَقَّدْ منْ أُمُورِهِمْ مَا یَتَفَقَّدُ اَلْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا، وَلاَ یَتَفَاقَمَنَّ فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ قَوَّیْتَهُمْ بِهِ، وَلاَ تَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعَاهَدْتَهُمْ بِهِ وَإِنْ قَلَّ، فَإِنَّهُ دَاعِیَةٌ لَهُمْ إِلَی بَذْلِ اَلنَّصِیحَةِ لَكَ، وَحُسْنِ اَلظَّنِّ بِكَ. وَلاَ تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطِیفِ أُمُورِهِمُ اِتِّکَالاً عَلَی جَسِیمِهَا، فَإِنَّ لِلْیَسِیرِ مِنْ لُطْفِكَ مَوْضِعاً یَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَلِلْجَسِیمِ مَوْقِعاً لاَ یَسْتَغْنُونَ عَنْهُ»(2).

فأغلب النصِّ العلوي ضمّنه ابن المقفع بنصّه، ولكن كعادتهِ؛ فهو يرغب في أن یغیّر شکلیًا في فقرات کلام الإمام علیه السلام - هذا أو غيره - إذ نجد هذه الطريقة في مقاطع عدّة من أولِ نصّهِ المذكور، فقد أبدل: «ولا تدع تفقد لطیف أمورهم»ب «أن يتفقّد الوالي لطيف أمور رعیّته».

و«اتکالاً علی جسیمها»ب «فضلاً عن جسیمها».

و«فإنّ للیسیر من لفطك موضعاً»ب «فإنّ للطیف موضعًا».

و«ینتفعون بهِ»ب «ینتفع بهِ».

ص: 295


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 77 - 78
2- نهج البلاغة 506 - 505

و«للجسيم موقعَا»ب « للجسيم موضعًا». و«لا یستغون عنه»ب «لا یستغنی عنه»(1).

ومثلما بیّنا سابقاً إنّ من مناورات ابن المقفع مع كلام أمير المؤمنين علیه السلام هي أن يعمد إلى الاسم الظاهر فيحوّله إلى ضمير، أو بالعكس، ونجد هذا هنا في قوله: «أن يتفقد الوالي لطيف أمور رعيته» ولفظة «رعیته» عائدة علی الضمیر الموجود في قول الإمام علیه السلام:

«ولا تدع تفقد لطيف أمورهم».

فالضمير «هم» هنا عائد علی الرعیّة، لأنّه علیه السلام ذکرها سابقاً.

وأما الإسم «تفقد» في قول الإمام علیه السلام، فقد حوّله ابن المقفع إلى مصدر مؤول من أن والفعل فقال: «أن یتفقد» ولو أرجعنا المصدر لأصله لقلنا كما قال الإمام علیه السلام «تفقد».

ومن مناوراته العدّة هي التقدیم والتأخیر في کلام أمیر المؤمنین علیه السلام، فما افتتح به الإمام المقطع المذکور: «ثمّ تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من

ص: 296


1- وهنا ومن النصوص التي تأتي نؤكد ثانية إن عهد أمير المؤمنين علیه السلام لمالك الأشتر کان موجوداً وكان مؤثراً وبالتالي بطلان الشكوك والاتهامات التي تقول بأن العهد لم يكن موجوداً في زمن الشريف الرضي ولو كان موجوداً لأثبته الطبري في تأريخه بينما هنا تبين أنه موجود قبل الطبري والرضي بمئات السنين

ولدهما» أخّره ابن المقفع إلی المقطع الثاني: «ليتفقد الوالي، ما يتفقد من أمور رعیته». غیر إنّ ابن المقفع قصر كثيراً لمّا أبدل «الوالدان»ب «الوالي»، لأنّ في تعبیر الإمام علیه السلام علیه السلام «کنایة عن نهایة الشفقة»(1). وممّا زاد في نهایة الشفقة - مثلما یری الباحث - هو إنّ أمير المؤمنين علیه السلام لم یقل: ما تفقد الوالد، بل قال: «الوالدان»، لأنّ طبیعي لو اشتراك الوالدان معاً في رعاية أبنائهم وتفتيش أمورهم لكان ذلك أكثر إمعاناً والتفاتاً لصغار الأمور وكبارها، وأقدر على توفية احتياجاتهم، لما لکُلٍّ منهما - أي الوالدان - من نظرة خاصة ومجال عملٍ خاص مكلَّف به تجاه أولادهِ، وبالتالي تكون النتيجة هي تلبية جميع احتياجات الأبناء، وهكذا أراد أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) للوالي أن يكون.

يذكر إن الإمام علیه السلام استعمل اسمي المکان: «موضع» مع اللطیف الیسیر، و»موقع» للجسيم العظيم، وهذا لم يكن بمحض الصدفة، ولعل السبب الذي نراه في ذلك هو إنّ اللطيف اليسير بمعناهما الإيجابي، وبدلالتهما الهادئة یناسبهما کلمة «موضع»، في حين إن الجسيم وما فيه من دلالة الشدّة والمشقّة تخیّر لها علیه السلام ما یناسبها، لأنّ الموقع أو الواقعة أو الموقعة توحي إلی ذلك. ولهذا جعل (صلوات الله عليه) لكل أمرٍ ما يناسبه. ولكن أنّى لابن المقفع هذا، إذ جعل «الموضع» مع اللطیف والجسیم.

وفي نهاية كلامه المذكور استدل ابن المقفع على نصيحته التي وجهها بحكمة علوية ضمّنها حرفیًّا جاءَ فیها: «احذَرُوا صولَةَ الکریمِ إذا جاعَ، واللئیمِ إذا شَبعَ»(2).

ص: 297


1- شرح نهج البلاغة لابن ميثم 5 / 346
2- نهج البلاغة 561. ولتوثيق الحكمة ينظر: حكم الإمام علي علیه السلام ومواعظه دراسة وتحقیق من شروح نهج البلاغة حتى نهاية القرن السابع الهجري 41. وأشار إلى تضمين ابن المقفع لهذه الحكمة الباحث عبد الحسين العمري في رسالته للماجستير (أدب ابن المقفع دراسة أسلوبية) 51

علّق الشيخ عباس القمي على هذهِ الحكمة قائلاً: «یراد بالکریم شریف النفس، ذو الهمة العالية، وبجوعه ضيمه وامتهانه، وشدة حاجته. ذلك مستلزم لثوران غضبه وحمیّتهِ عند التفات الناس إليه، وشبع اللئيم كناية عن غناه وعدم حاجته، وذلك يستلزم تمرّدهِ وأذيته لمن كان تحت يده.. فربَّما كان جوعه سبباً لتغیّر أخلاقه وتجويدها»(1).

5 - وصیة وحدیث:

لم تسلم حتى مقدمة الأدب الكبير من الأثر العلوي، وبالتحديد كان التأثر بوصیة أمیر المؤمنین لولدهِ الحسن علیهم السلام، وابن المقفع وفي هذا المكان بالذات کان مصیباً بهذا التأثّر، لأنّه في تلك المقدمة أوصى بالتوجه نحو ثلّة متميزة والسير على هديها في كل شيءٍ، والوصية في جزءٍ منها توصي بالإقتداء بالصالحين، وأخذ ما توصَّلوا إليه من آراءٍ نخيلة. فمنها قوله علیه السلام:

«فَبَادَرْتُكَ بِالْأدَبِ قَبْلَ أَنْ یَقْسُوَ قَلْبُكَ، وَیَشْتَغُلَ لُبُّكَ، لِتَسْتَقْبِلَ بِجِدِّ رَأْیِكَ مِنَ اَلْأَمْرِ مَا قَدْ کَفَاكَ أَهْلُ اَلتَّجَارِبِ بُغْیَتَهُ وَتَجْرِبَتَهُ، فَتَکُونَ قَدْ کُفِیتَ مَؤونَةَ اَلطَّلَبِ، وَعُوفِیتَ مِنْ عِلاَجِ اَلتَّجْرِبَةِ... أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي وَإِنْ لَمْ أَکُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ کَانَ قَبْلِي، فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهمْ، وَفَکَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ، وَسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ؛ حَتَّی عُدْتُ کَأَحَدِهِمْ؛ بَلْ کَأَنِّي بِمَا اِنْتَهَی إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهمْ إِلَی آخِرِهِمْ، فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذَلِكَ مِنْ کَدَرِهِ، وَنَفْعَهُ مِنْ

ص: 298


1- شرح حكم أمير المؤمنين علیه السلام 12 - 13

ضَرَرِهِ، فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ کُلِّ أَمْرٍ نَخِیلَهُ... وَرَأَیْتُ حَیْثُ عَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا یَعْنِي اَلْوَالِدَ اَلشَّفِیق»(1).

إن من أهم ما يتمركز عليه النص وأكد عليه أمير المؤمنين هو انّه علیه السلام من أهم أهل التجارب، وأدّقهم نظراً للأحداث، وأبعدهم سبراً للواقع حتى كأنّه عمَّر مع آخرهم، وبالتالي استخلص »من کل أمرٍ نخیله» أي المختار منه(2)، ثمّ وظّف علیه السلام تلك المقدرة علی استخلاص الصفوِ من الکدر، وهما كنايتان: الأولى عن الخير، والثانية عن الشر(3)، وبثَّ ما استخلصه من تلك التجارب لينتفع بها الإمام الحسن علیه السلام وکلّ من قرأها.

وقال علیه السلام في بیان ما یمتلکه من علم:

«علّمني رسولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم ألفَ بابٍ من العلمِ یُفتَحُ لي من کلِّ بابٍ ألفَ بابٍ»(4).

نظر ابن المقفع إلى المعاني المذكورة وتفاصيلها، وبعض العبارات بنصها، حتى قال في الأدب الكبير: «ووجدناهم لم یرضوا بما فازوا به من الفضلِ الذي قُسِمَ لأنفسهم حتى أشركونا معهم في ما أدركوا من علمِ الأولى والآخرةِ فكتبوا به الكتبَ الباقية، وضربوا الأمثالَ الشافيةَ، وكفونا به مؤونة التجارب والفطنِ.

وبلغَ من اهتمامهم بذلكَ أن الرجلَ منهم. كان يفتحُ له البابُ من العلم، أو الكلمة من الصوابِ... فكان صنيعهم في ذلك صنيع الوالدِ الشفيقِ على ولدهِ،

ص: 299


1- نهج البلاغة 459
2- ينظر: لسان العرب مادة (نخل)
3- ينظر: شرح نهج البلاغة لابن ميثم 5 / 263
4- نشأة التشيع والشيعة 112. وينظر: رسائل المرتضى 1 / 215

«الرحيمِ البر بهم»(1).

وبمقارنة بعض الفقرات ببعضها بين النصين يتضح كيف اعتمد ابن المقفع على كلام أمير المؤمنين علیه السلام المذکور.

فقد أبدل جملة الإمام «کفاك»ب «کفونا».

و«أهل التجارب بغيته وتجربته»ب «مؤونة التجارب».

و«وقد کفیت مؤونة الطلب»ب «إرادة ألاّ تکون علیهم مؤونة في الطلب».

و«وعناني ما یعني»ب «صنیعهم في ذلك صنیع».

و«الوالد الشفیق»ب «الوالد الشفیق».

فهنا ضمّن ابن المقفع عبارة الإمام الأخيرة بنصها، أمّا التي قبلها، وإن كان غیّر في الفاظها، إلاّ إنّه استعمل التكرار »صنیعهم.. صنیع» مثلما وجده عند الإمام: «عناني.. یعني».

والملفت إن ابن المقفع لم يمدح هؤلاء الناس الذين تأثر بهم ودوَّن كلامهم فحسب، بل اعتمد على كلامهم ووصفهم لمنزلتهم ليمدحهم به.

فقوله: «یُفتح له الباب من العلم» مشکّل کلمةً کلمة من حدیث المرتضی علیه السلام:

«علمني... ألف بابٍ من العلم يُفتح لي من كلِّ باب..».

6 - نصین من العهد:

ومن هذا النوع من التلفيق قول ابن المقفع: «إن استطعتَ أن تجعل صحبتكَ لمن قد عرفك بصالحِ مروءتكَ وصحة دينكَ وسلامةِ أموركَ قبلَ

ص: 300


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 63 - 64

ولايتهِ فافعل فإنّ الوالي لا علم لهُ بالناسِ إلا ما قد علم قبلَ ولايته. أما إذا ولي فكل الناسِ يلقاهُ بالتزينِ والتصنعِ وكلهم يحتالُ لان يثني عليه عندهُ بمال ليس فيهِ. غير أن الأنذال والأرذال هم أشدٌ لذلكَ تصنعاً وأشد عليهِ مثابرةً وفيه تمحلاً. فلا يمتنعُ الوالي، وإن كان بليغَ الرأي والنظرِ، من أن ينزل عندهُ كثیرٌ من الأشرار بمنزلةِ الأخيارِ، وكثیرٌ من الخانةِ بمنزلةِ الأمناءِ، وكثیرٌ من الغدرة بمنزلةِ الأوفياء، ويغطى عليهِ أمرُ كثیرٍ من أهل الفضل الذينَ يصونونَ أنفسهم عنِ التمحل والتصنعِ»(1).

فکُلِّ هذهِ المعاني، وبعض الألفاظ قد وردت في مقطعين متباعدين من مقاطع عهد أمیر المؤمنین علیه السلام لمالك الأَتر «رضوان الله علیه»، إلاّ أنّ ما قام بهِ ابن المقفع هو دمجهما معاً، وتداخلهما أيضاً من خلال التقديم والتأخير.

المقطع الأول:

کان أمیر المؤمنین علیه السلام مهتمّاً اهتماماً بالغاً في تخیّر الكتاب، لما لهم من سلطة فاعلة وقوّة مقتدرة على التأثير في المجتمع، لا تقل عن سلطة الإعلام ودورهِ في وقتنا الراهن، لذا أعطى علیه السلام طریقة مُثلی تُتَّبع من أجل تخیّر هذه الثلَّة المهمة، لا تقوم هذهِ الطريقة على أساس التفرس والتصنّع الذي يجيده عامة الناس، بل على وفق ضوابط وأسس فصّلها علیه السلام منها:

«لا یمُنِ اختیارِكَ إیّاهم علی فِراستك، واستِنامَتِك، وحُسْنِ الظَّنِّ منكَ»(2).

الفراسة هي حسن النظر في الأمور وقوّة الظن، والاستقامة هي السكون

ص: 301


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 81
2- نهج البلاغة 512

والثقة، والمعنى لا يكون انتخابك لكتابك نابعاً من ميلك الخاص(1)، لأنّ ومثلما قال علیه السلام: «الرّجالُ یَتعرّفونَ لفراساتِ الولاةِ بتصنُّعهم وحسن خدمتهم»(2).

وهذا ما وجدناه في قول ابن المقفع: «فکُلَّ الناس یلقاه بالتزین والتصنع».

وکان علیه السلام قد حذر من أنَّ كلّ هؤلاء المتصنعين يكذبون، وتصنعهم هذا ما هو إلاّ حُبالة لاصطیاد ودِّ الوالي فقال (صلوات الله عليه): «ولیس وراء ذلك - أي التصنع - من النصيحة والأمانة شيء»(3).

وعن هذا قال ابن المقفع لمَّا وصفَ المتصنعين: «وکُلّهم یحتال لأن یُثنيَ علیه عنده بما لیس فیه...».

وبعد هذه التحذيرات جاءَ المقياس الحقيقي عند أمير المؤمنين علیه السلام الذي یحدِّد تسنّم هذا المنصب فقال: «ولكن أختبرهم بما وُلُّوا للصالحين قبلك، فاعمد لأَحسنهم كانَ في العامّةِ أثراً، وأعرفهم بالأمانة وجهاً»(4).

وهذا المقياس قدّمه ابن المقفع إلى أول كلامه المذكور. ولكن هذهِ الإرشادات التي حدَّدها أمیر المؤمنین علیه السلام لتخير الكتاب وضّفها ابن المقفع مع مَنْ يُصحب من الولاة.

المقطع الثاني:

وفيه نهى أمير المؤمنين علیه السلام والیَه عن الحتجاب منَ الرعیّة فقال: «وأما بعدُ، فلا تطوِّلَّنَ احتجابَكَ عن رعیّتك»(5).

ص: 302


1- ينظر شرح نهج البلاغة لمحمد عبده 3 / 468
2- نهج البلاغة 512
3- م. ن 512
4- م. ن 512
5- م. ن 516

وهذا ما وجدناه في قول ابن المقفع: «فلا یمتنع الوالي». وبإیضاح أکثر فإن لفظة «احتجابك» مکونة من الاحتجاب، والضمير «الکاف» الدال علی الولي، وابن المقفع أبدل الاحتجاب ب «يمتنع» والمعنی واحد، وأبدل الضمیر بالاسم الظاهر »الوالي».

والذي نلحظه في دقة كلام أمير المؤمنين علیه السلام هنا انّه لم ینه عن الاحتجاب مطلقاً، لأنّه مدرك بأنّ للوالي مشاغل تحتِّم عليه الاحتجاب عن الرعية، ولكنه نهی عن طول الاحتجاب «لا تطوِّلنَّ»، ثم بعد ذلك برّر علیه السلام نهیه الوالي عن الاحتجاب بقوله:

«فَإِنَّ اِحْتِجَابَ اَلْوُلاَةِ عَنِ اَلرَّعِیَّةِ... یَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا اِحْتَجَبُوا دُونَهُ، فَیَصْغُرُ عِنْدَهُمُ اَلْکَبِیرُ، وَیَعْظُمُ اَلصَّغِیرُ، وَیَقْبُحُ اَلْحُسَنُ، وَیَحْسُنُ اَلْقَبِیحُ، وَیُشَابُ اَلْحَقُّ بِالْبَاطِل»(1). إذاً باحتجاب الوالي تفلت الموازين ويصبح عزيز القوم ذليلهم «ولا خیر في قومٍ یذلُّ کرامهُم»(2)... موصلاً هذا المعنى عن طريق تلك المقابلات المؤثرة ذات الفقرة المتوازية، وهذا النوع من التخاطب له القابلية على أن «یکشَّف دلالة المعنى، ويضاعف من الطاقة الشعورية بشعرية النسق الإيقاعي القائم على الضد... لیخلق جوَّا إیقاعیًّا... یوصلُ الفکرة»(3).

وعلى أية حال فابن المقفع وهو يحذو حذو أمير المؤمنين علیه السلام برَّرَ رفضه

ص: 303


1- نهج البلاغة 516
2- البيت لأبي هلال العسكري وتمامه: لا خير في قومٍ يذِلُّ كرامهم ويعظم فيهم نذلهم ويسود ينظر: معجم الأدباء 8 / 261 - 262
3- المستويات الجمالية في نهج البلاغة 74

لاحتجاب الوالي بما برّره الأمام علیه السلام. وذلك في قوله: «من أن ینزل عنده کثیر من الأشرار بمنزلة الأخيار، وكثير من الخانة منزلة الأُمناء، وكثير من الغدرة بمنزلة الأوفياء... إلى آخر قوله«.

ومثلما اتضح فإن ّهذا الأتِّباع لم يكن بالمعنى فحسب، بل نجد إنّ ابن المقفع يعمد إلى فن المقابلة عند أمير المؤمنين علیه السلام:

فيصغر عندهم الكبير - ويعظم الصغير.

يقبح الحسن - يحسن القبيح.

ليحوّله إلى ما يشبهه وهو الطباق:

الأشرار - بمنزلة الأخيار.

الخانة - بمنزلة الأمناء.

الغدرة - بمنزلة الأوفياء.

ثالثاً: البسط

البسط مثلما سلف آلية أو مظهر من مظاهر تأثر الأديب تقوم على التوسع والزيادة. ونری أنّ هذا المظهر یقوم علی أساسین:

الأول:

أن يتميّز الكلام الذي يُراد بسطه بمضمونٍ عالٍ، وصياغة فنية متمیّزة - لأنَّ بعض الصياغات لها تأثير مباشر على المعنى سلباً أو إيجاباً - فإذا فقد النص هذهِ الخاصية تعسّر بسطه، وحتى إن أمكن يكون دون جدوی.

ص: 304

الثاني:

يخص الأديب المتأثر، إذ عليه أن يجعل البسط أمراً إيجابياً من خلال الإتيان بمعنى جديد، أو إظهار معنى موجودٍ لكنّه مبهم، أو يعرض الكلام الأصل بطريقة تفوق الأولى. إمّا إذا فقدنا هذهِ الأسس فإنّ البسط لا يكون، وإن كان فلربما يعد نفلاً من القول غير محموداً، ولربّما يُعد محاولة من الأديب المتأثر للتمويه على الكلام الذي تأثّره وقام ببسطهِ.

أمّا ورود البسط عند ابن المقفع فهذا مما عرفه عنه بعضهم فقيل عنه: «لا يتناول معنى من المعاني، إلاّ ويتتبعهُ حتى نهايته، وحتى يفيه حقّه من الوضوح.

وكثیرًا ما يفصّل، ويشرح حتى لا يدع للقارئ مجالاً لاعمال الذهن. ولقد انتقد بعض النقاد هذه الناحية، فقالوا إنّ ابن المقفع، إمّا أن لا يكون يثق بالقارئ، وإمّا أنه يخشى أن لا يكون مفهومًا، وكلا الحالتين سيء، لأنّه يوقع الكاتب في خطأ الاسهاب في بعض الأحیان»(1). وقیل أیضًا: «إنّه أفاد ممّا سمع، وزاد عليه من عنده، وتوسَّع في الكلمة الصغيرة، واللفتة القصيرة»(2).

ولكن أصحاب هذا الرأي لم يخبرونا قط عن هذهِ الكلمة الصغيرة التي توسع عليها ابن المقفع لمن هيَ.

وفي مقدمة أدبه المذكور أشار ابن المقفع صراحة إلى أنّه اعتمد هذهِ الآلية وقد بقيت أشياءُ من لطائفِ الأمورِ فيها مواضعُ لصغارِ الفطنِ، مشتقةٌ من جسام حكمِ الأولینَ وقولهم، فمن

ص: 305


1- دراسات في الأدب العربي 54
2- آثار ابن المقفع 30

ذلك بعضُ ما أنا كاتبٌ في كتابي هذا»(1). إذاً فهو کان یعتمد علی حکم الأولين ويشتق منها صغار الفطن وطبعاً هذا الاشتقاق لا يحدث إلاّ بعد أن يزيد ما يراه مناسباً على الحكمة التي يتأثر بها وهذا هو معنى البسط بعينه. أمّا من هم الذين اشتقَّ ابن المقفع من حكمهم؟ فبعد مقارنة الأدب الكبير ببعض کلام أمیر المؤمنین علیه السلام تمَّ تحدید کثیراً من الحكم العلوية قام ابن المقفع ببسطها ومنها قوله علیه السلام:

«لا قُربَةَ بالنَّوافِل إذا أضرّتْ بالفرائِضِ»(2).

النّفل هو الزيادة على الأصل(3). والنوافل جمع نافلة، وهي ما يُتطوَّعُ بهِ من الأعمال الصالحات زيادةً على الفرائض المكتوبة(4).

وكلامه هذا يمكن أن يحمل على الحقيقة، وعلى المجاز أيضاً، فإن حُمِلَ على الحقيقة فيعني أنّ التنفل لا يصح ممّن عليه قضاء فريضةٍ فاتته لا في الصلاة ولا في غيرها، أمّا لو حُمِلَ على المجاز فيعني وجوب الابتداء بالأهم(5).

وسواءً حُمِل على الحقيقة أم المجاز فإنّ صداهُ واضحٌ في قول ابن المقفع، لكن بتوسع وتفصیل کبیر: «یا طالبَ الأدبِ [العلم] إن کنتَ نوعَ العلمِ تریدُ فاعرفِ الأصولَ والفصول. فإن کثیراً من الناسِ یطلبونً الفصول مع إضاعةِ الأصول فلا یکونُ درکهم درکاً. ومن أحرز الأصول اکتفی بها عنِ الفصولِ. وإن أصابَ

ص: 306


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 65
2- نهج البلاغة 559
3- ينظر: لسان العرب 11 / 671 مادة (نفَلَ)
4- نهج البلاغة 559 . (الهامش)
5- ينظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 18 / 294

الفصل بعد إحرازِ الأصلِ فهو أفضلُ. فأصل الأمرِ في الدينِ أن تعتقد الإيمان على الصواب، وتجتنبَ الكبائرَ، وتُؤدي الفريضةَ... وأصلُ الأمرِ في صلاح الجسد إلا تحمل عليه من المآكلِ والمشارب... إلا خُفاقاً، ثم إن قدرت على أن تعلم جميعَ منافعِ الجسد ومضارهِ والانتفاع بذلك كله فهو أفضلُ...»(1).

فابن المقفع هنا منطلقاً من المعنى العلوي في إحراز الأصل أولاً، ثمَّ التنفّل عند الاستطاعة ثانیًا، إلاّ أنه أبدل «النوافل»ب» الفصول» وکلاهما فروع، أو مستحبات، أو ليس عملهن بالأولى. وأبدل «الفرائض»ب «الأصول». ثمّ قال: إنّ من عمل عملاً ما وهو متمسِّكُ بالفروع دون الأصول فإن إدراك ذلك لا يكون دركاً، وهذا ما وجدناه في قول أمير المؤمنين علیه السلام: «لا قربة بالنوافل».

ثم بعد ذلك أخذ ابن المقفع يفصل، ويضرب الأمثلة: ما هو الأصل في الدين، وما هو الأصل في إصلاح الجسد، وما هو الأصل في الشجاعة..... وهذه الطريقة من التوسع القائمة على ضرب الأمثلة استعملها ابن المقفع كثیرًا مع كلام الإمام علیه السلام، وسیتضح ذلك.

وبمثل هذه الطريقة تعامل ابن المقفع مع حكمة أمير المؤمنين علیه السلام التي تقول:

«إِنَّ لِلْقُلُوبِ شَهْوَةً وَإِقْبَالاً وَإِدْبَاراً، فَأْتُوهَا مِنْ قِبَلِ شَهْوَتِهَا وَإِقْبَالِهَا، فَإِنَّ اَلْقَلْبَ إِذَا أُکْرِهَ عَمِيَ»(2).

بیّن علیه السلام طريقة رائدة نتعاطى من خلالها مع القلب ومسايرته بإسلوب

ص: 307


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 65 - 66
2- نهج البلاغة 586

رياضي خوفاً من نفوره. وبما إنّ القلب هو المرتكز هنا فقد أكد عليه مرّتين ألأولى من خلال تقديمه على إسم إنّ «إنّ للقلوبِ شهوةً «، والثانیة بإن المسبوقة بالفاء التعلیلیة «فإن للقلب»، ثم استعارَ له لفظة العمی المعروفة العواقب والمؤثرة في استعمالها، وما صاحب ذلك من فنون بديعية كالسجع والطباق والتكرار.

محذراً علیه السلام :«إذا تواصل إكراه القلب على أمر لا يحبه و لا يؤثره تعب لأنّ فِعلَ غير المحبوب مُتعب. وإذا أُتعِبَ القلب وأعيا عجز عن إدراك ما نكلَّفه إدراكه، لأنَّ فعله هو الإدراك... فإذا عجز القلب عن فعله الخاص به وهو العلم و الإدراك فذاك هو عماه»(1). وطبيعي عنى الإمام علیه السلام بالشهوة والإقبال، الرغبة في الأمور التي يرتضيها الدين الحنيف لا كُلّ شهوةٍ يُقبل القلب عليها.

نظر ابن المقفع إلى هذهِ الحكمة وبخاصة إلى ما ورد في آخرها فقال مؤکدًّا: «اعلم أنّكَ إن جاوزتَ الغايةَ في العبادةِ صرتَ إلى التقصیرِ، وإن جاوزتها في حملِ العلمِ لحقتَ بالجُهّالِ، وإن جاوزتها في تكلِّفِ رضى الناسِ والخفّةِ معهم في حاجاتهم كُنتَ المحشود المصنع»(2).

والمعنى مشترك غير إنّ ابن المقفع لم يذكر القلب الذي ورد ذكره بالحكمة العلوية، لكنّه ذكر ما هو نابعٌ من القلب والقلب وعاءُ له كذكرهِ للعلم والعبادة. کما إنّه لم يذكر الإكراه، بل ذكر ما يعطي دلالته «جاوزت الغایة». وهذا الإکراه أو مجاوزة الغاية يولدان «عمي» القلب عند أمیر المؤمنین علیه السلام، والتقصیر عند ابن المقفع.

وبهذا الأسلوب أيضاً نظر ابن المقفع إلى حكمة أمير المؤمنين علیه السلام التي تقول:

ص: 308


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 19 / 7 - 8
2- الأدب الصغير والأدب الكبير 121

«لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء َلسانه»(1).

وقد علق الرضيّ على الحكمة بقوله: «وهذا من المعاني العجیبة الشریفة، والمرادُ به إنّ العاقل لا يطلق لسانه، إلاّ بعد مشاورة الرّویّة ومؤامرة الفكرة.

والأحمق سبق حذقات لسانِه وفلتات كلامه مُراجعة فكره، ومما خصّه رأيه فكأنّ لسان العاقل تابع لقلبهِ، وكأنَّ قلب الأحمق تابعٌ للسانهِ»(2).

أخذ ابن المقفع هذه الحكمة وتوسع فيها فقال: «اعلم أن لسانك أداةٌ مُصلتةٌ، يتغالبُ عليهِ عقلكَ، وغضبكَ وهواك وجهلكَ. فکُل غالبٍ مستمتعٌ به وصارفهُ في محبتهِ، فإذا غلبَ عليهِ عقلكَ فهو لكَ، وإن غلبَ عليه شيءٌ من أشباهِ ما سميتُ لك فهو لعدوِّكَ»(3).

وبنظرة على مقدمة كلامه يتبين إنّه متَحفّزٌ لترسيخ هذا المعنى من خلال المقدمة التي غالباً ما يقدم بها لكلام أمير المؤمنين علیه السلام والمتمثلة بفعل الأمر وإنّ التوکیدیة، أو ما يدل دلالتهما، ثم بعد ذلك ذكر لفظة اللسان، ومثلما وجدها عند أمیر المؤمنین علیه السلام، وهذهِ اللفظة هنا مجازية ذات علاقة آلية(4)، لأنّه ذكر اللسان وأراد ما يجري عليه من كلمات بالخير أو الشرِّ. أمّا لفظة «وراءِ» في كلام أمير المؤمنين علیه السلام والتي هي استعارة لما یعقل، من تأخّر لفظ العاقل عن رویته ومن تأخر روية الأحمق وفكره عند قوله من غير مراجعته لعقله(5)، فقد

ص: 309


1- نهج البلاغة 559
2- م. ن 559
3- الأدب الصغير والأدب الكبير 106
4- ينظر: الأثر القرآني في نهج البلاغة 137
5- ينظر: شرح نهج البلاغة لابن ميثم 5 / 405

عبر عنها ابن المقفع بقوله: «يتغالبُ عليهِ عقلكَ وغضبكَ وهواك وجهلكَ». فإذا جعل المرء لسانه وراء قلبه، أي مكنّ القلب من أن يغلب اللسان فهذا هو «لسان العاقل» بحسب الحكمة العلوية، وبحسب قول ابن المقفع: «غلبَ علیه عقلك».

وإذا جعل المرء «قلبه وراء لسانه» أي جعل اللسان ينطق دون الرجوع إلى الروية والتفكر القلبي، فهذا هو «لسان الأحمق» بحسب الحکمة العلویة، وبحسب قول ابن المقفع: غلبة «غضبك وهواك وجهلك» وعلى الرغم من إنّ روح كلام ابن المقفع ومحرِّك نصِّه هذا هو الحكمة العلوية المذكورة، إلاّ أنها عند مبتدعها لها رونق خاص ووقع متمیّز تمثّل بمعناها العظيم، وإيجازها الوسيم، وسبكها الملتحم، وفنونها البلاغية التي جاءت علی غير تكلف كالتكرار فقد كرّر علیه السلام لفظة «اللسان» مرّتین: الأولی افتتح بها الحكمة، وبالثانية ختمها فهو بهذا جعل اللسان أوّلاً وآخرًا، لأنّ الحكمة جاءت من أجله، ومن أجل القلب، لذا كرّره مرتين أيضاً. والسجع «قلبه - لسانه» والطباق «العاقل - الأحمق». فضلاً عن إنّها جاءت مكوّنة جميعها من أسماء بدون أي فعلٍ أو حرف.

ومن كلام أمير المؤمنين علیه السلام الذي کان له بالغ الأثر في أدب ابن المقفع لاسیما في الأدب الكبير عهده لمالك الأشتر (رضوان الله عليه)، وممّا جاء فيه:

.»وأمضِ لکلِّ یومٍ عمله، فإنّ لکلِّ یومٍ ما فیه»(1).

وهذا جدول عمل منظَّم، ودستور متقدّم، حريٌّ به أن يطّبق في کُلِّ مرافئ

ص: 310


1- نهج البلاغة 516

الحياة؛ فهو ينهانا عن الذهاب إلى اليوم القابل ونحن محمَّلين بأعمال اليوم الماضي، لأنَّ اليوم الجديد له عمل جديد أيضاً، والتقصير في عمل اليوم الماضي سيؤثر على اللاحق، وهكذا حتى تتراكم الأعمال وبالتالي تُصاب نتيجة العمل بخللٍ جرّاء ذلك التقصير.

ورد هذا المعنى في الأدب الكبير وبطريقة البسط: «إذا تراکمت علیكَ الأعمالُ فلا تلتمسِ الروح في مدافعتها بالروغانِ منها. فإنهُ لا راحة لكَ إلا في إصدارها، وإن الصبر عليها هو الذي يخففها عنكَ، والضجر هو الذي يُراكمُها عليكَ»(1).

فهو ينهى عن مدافعة الأعمال أي تأخيرها إلى الغد، وهذا من أول كلام الإمام علیه السلام. ثم توسع ابن المقفع لمّا رغب بأن «لا راحة» إلا في إصدار الأعمال بيومها والطريقة المثلى لإصدارها في يومها هو «الصبر علیها» لأنهُ «یخفِفها» والضجر «یراکمها». وكلُّ هذا روحه الكلام العلوي السالف.

وفي بعض مقاطعه كان علیه السلام یعطي منهاجاً دقیقاً لتوخي الأصدقاء، ومن ذلك قوله علیه السلام:

«والصَقْ بأهلِ الوَرَعِ والصِّدْقِ»(2).

وعلى هذا سار ابن المقفع متوسِّعاً فقال: «اعرف الفضل في أهل الدینِ والمروءةَ في كل كورةٍ وقريةٍ وقبيلةٍ. فيكونوا هم إخوانكَ وأعوانك وأخدانكَ وأصفياءك وبطانتك وثقاتكَ وخلطاءكَ»(3).

فلفظة «الصق» التي وصفها ابن أبي الحديد بأنها لفظة فصيحة والتي تعني

ص: 311


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 120
2- نهج البلاغة 504
3- الأدب الصغير والأدب الكبير 70

اجعل أهل الورع خاصّتك، وخلصاءك(1). توسع عليها ابن المقفع كثيراً في قوله: «فليكونوا هم إخوانكَ وأعوانك وأخدانكَ وأصفياءك...» والأهم إنّ ما جاء في الأدب الكبير هنا أكثر تفصيلاً حتى من شرح ابن أبي الحديد السالف لكلام أمير المؤمنين علیه السلام.

وبعدما أمر أمير المؤمنين علیه السلام بملاصقة أهل الورع والصدق قال بعد ذلك مباشرة:

ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَی أَلاَّ یُطْرُوكَ وَلاَ یَبْجَحُوكَ بِبَاطِلٍ لَمْ تَفْعَلْهُ، فَإِنَّ کَثْرَةَ اَلْإِطْرَاءِ تُحْدِثُ اَلزَّهْوَ، وَتُدْنِي مِنَ اَلْعِزَّةِ»(2).

أي «عودهم ألاّ يمدحوك في وجهك و لا يجعلوك ممن يبجح أي يفخر بباطل لم يفعله كما يُبجّح أصحاب الأمراء الأمراء بأن يقولوا لهم: ما رأينا أعدل منكم و لا أسمح»(3).

وهذا أيضاً نجده بتوسع عند ابن المقفع، لكنّه قدّمه على فقرته السابقة بمعنى انه عمل عکس ماعمل أمیر المؤمنین علیه السلام لمّا أمرَ بملاصقة أهل الورع، ثم أمر بتعویدهم على الإبتعاد عن المدح الزائد، فقال في الأدب الكبير: «وإیاكَ إذا کُنتَ والياً، أن يكونَ من شأنك حبّ المدحِ والتزكية وأن يعرفَ الناسُ ذلك منكَ، فتكونَ ثلمة من الثلم يتقحمونَ عليك منها، وباباً يفتتحونك منهُ، وغيبةً يغتابونك بها ويضحكون منك لها. واعلم أن قابل المدحِ كمادحِ نفسهِ. والمرءُ جديرٌ أن يكونَ حبهُ المدحَ هو الذي يحملهُ على ردهِ. فإن الرادّ لهُ محمودٌ، والقابل

ص: 312


1- ينظر: شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد 17 / 32
2- نهج البلاغة 504
3- شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد 17 / 32

«له معيبٌ»(1).

وبعد هذا التقديم والتأخير الذي عمله ابن المقفع على كلام أمير المؤمنین علیه السلام جعل في أثر كلِّ مقطع من المقطعين السابقين حكمة علوية، وبطريقة التوسع، فقال بعد أن نهى الوالي عن حب المدح: «لتکن حاجتُكَ في الولاية إلى ثلاثة خصالٍ: رضى ربكَ ورضى سلطانٍ، إن كانَ فوقك، ورضى صالحِ من تلي عليهِ»(2).

ففي هذا بسط لبعض ما جاءَ في الحكمة العلوية:

«من الحکمة طاعتُكَ لَمنْ فوقَكَ، وإجلالُك مَنْ هو في طبقتِك، وإنصافُك لَمنْ هو دونَك»(3).

فهنا جعل أمير المؤمنين علیه السلام جانباً من الحکمة یتحقق في ثلاث أمور هي طاعة من هو أعلى منزلة، واحترام وإجلال من هو مساوٍ في المنزلة، وإنصاف مَن هو دون فيها. مستعملاً أسلوب التقديم والتأخير إذ قدم الجار والمجرور» من الحکمة» وجعل لها الصدارة في الكلام، لأنه أراد لها صدارة المعنى. وبطريقة مشابهة عمل ابن المقفع لمّا افتتح كلامه مؤکّداً بلام ألأمر.

وأما بؤرة البسِط هنا فتكمن في قول ابن المقفع: «ورضی ربّك ورضی سلطانٍ إن کان فوقك» فقد یراه الباحث بسطاً لما وردَ في الحکمة العلویة: «طاعتك لمن فوقك»، لإنَّ لفظة «فوق» في حکمة الإمام علیه السلام مفتوحة الدلالة، فیمکن

ص: 313


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 69
2- الأدب الصغير والأدب الكبير 69
3- غرر الحكم ودرر الكلم 112

أن تنطبق على الله تعالى، ويمكن أن تنطبق على السلطان الشرعي، بل على کُلِّ من هو أعلى منزلة، ومن ثم فإنّ بوسعها اختزال ما قاله ابن المقفع في هذا الصدد، ولكن توسعه هذا كان على حساب القسم الثاني الذي أمر فيه أمير المؤمنین علیه السلام ب «إجلال من في طبقتك».

وهذا ما يؤاخذ عليه ابن المقفع، لأنّه أوصی بمن هو فوق «ربّكَ، سُلطان»، ومن هو دون «من تلي علیه»، وأهمل من هو مساوٍ في المنزلة.

أمّا قوله الذي وجه فيه إلى مصاحبة أهل الدين والمروءة والالتصاق بهم فقد قال بعده: «إنك إن تلتمس رضى جميع الناس تلتمس ما لا يدركُ. وكيف يتفقُ لك رأي المختلفینَ، وما حاجتكَ إلى رضى من رضاهُ الجورُ، وإلى موافقةِ من موافقتهُ الضلالةُ والجهالةُ؟ فعليك بالتماسِ رضى الأخيارِ منهم وذوي العقلِ. فإنّك متى تصب ذلك تضع عنكَ مؤونة ما سواهُ»(1).

وما هذا إلاّ بسطاً لحكمة أمير المؤمنين علیه السلام التي عدَّ فیها رضی الناس غایةً بعيدة المنال، لأنّ كثيراً من الناس يقيسون بمقياسٍ منحرف، وعليه سيفترقون في حكمهم على شخصٍ ما. ولكن هذا لا ينبغي أن يكون حاجزاً ومثبّطاً عن فعل الخير، فقال علیه السلام:

«رضی النّاسِ غایةٌ لا تُدرَكُ فتَحَرَّ الخیْرَ بجُهْدِكَ و لا تُبالِ بسخَط مَنْ یُرضیه الباطلُ»(2).

فنجد ابن المقفع قد قام بتغيرات شكلية على الحكمة وذلك لما أبدل قول الإمام علیه السلام «رضی الناس»ب «رضی جمیع الناس»

ص: 314


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 70
2- شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد 20 / 459

و«غایة لاتدرك»ب «تلتمس ما لا یدرك».

ونجده أيضًا لم يكتف بالبسط الذي أجراه على باقي الحكمة، بل أخّرَ وقدّم فیه، فقوله: علیه السلام الذي أمر فيه بتحرِّ الخير وجعله هدفًا منشوداً «فتحرِّ الخیر بجهدك» أخّره ابن المقفع، ثمَّ بسطه لمّا قال: «ولا تبال بسخط من یرضیه الباطل» قدّمه ابن المقفع، ثم بسطه أيضًا بقوله: «وما حاجتك إلی رضی من رضاه الجور وإلی موافقة مَن موافقته الضلالة والجهالة».

وبالطريقة نفسها تأثر ابن المقفع بحكمة علوية أمر فيها أمير المؤمنين علیه السلام بالإتّكال على الباري - سبحانه وتعالى - واليأس عمّا في أيدي الخلق، وهذا اليأس عن الخلق والتوجيه للخالق يمثل قمة الإيمان، فقال علیه السلام:

«الغنی الأکبرُ الیأسُ عمّا في أیدي النّاسِ»(1).

ضّمن ابن المقفع هذه الحكمة متوسعاً فيها، فقال: «عوّد نفسكَ السخاءَ واعلم أنه سخاءان: سخاوةُ نفسِ الرجلِ بما في يديه، وسخاوتهُ عما في أيدي الناسِ. وسخاوةُ نفسِ الرجلِ بما في يديهِ أكثرهما وأقربهما من أن تدخل فيه المفاخرةُ. وتركهُ ما في أيدي الناسِ أمحضُ في التكرمِ وأبرأ من الدنسِ وأنزهُ. فإن هو جمعهما فبذلَ وعف فقدِ استكمل الجودَ والكرمَ»(2).

فافتتاحية ابن المقفع هذه عبارة عن تركيب أشبه ما يكون جاهزاً يقدِّم به لکلام أمیر المؤمنین علیه السلام الذي یتأثر بهِ، ویکون أیضاً بمثابة مدخلیة. وابن المقفع

ص: 315


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 19 / 144
2- الأدب الصغير والأدب الكبير 111 - 112

هنا يقدِّم قبل أن يضمن الحكمة تقديماً من صلب الموضوع لما يريد أن يقوله، فقبل تضمين الحكمة أمر بتعويد النفس على السخاء، ثمّ فرّع السخاء إلى فرعين:

الأول أن يجود الرجل بما يملكه، والثاني أن يرغب عمّا في أيدي الناس، وهنا في الثاني تجلت الحكمة العلوية، إذ أبدل ابن المقفع «الیأس»ب «سخاوته»، بینما باقي الحکمة «عمّا في أیدي الناس» ضمنه ابن المقفع بنصّهِ «عّما في أيدي الناس».

ثم اخذ بعد التفريع يقارن بين السخاءين، إذ بالأول تدخل المفاخرة «أکثرهما من أن تدخل فیه المفاخرة»، وبالثاني يصان ماء الوجه «أمحض في التکرّم، وأبرأ من الدنس»، والأفضل عنده الجمع بینهما.

ولا يختلف تعامل ابن المقفع عن تعامله السابق مع حكمة أمير المؤمنين علیه السلام التي تقول:

«الحسد خُلُقٌ دنيءٌ ومن دناءتِه أنّه موکّلٌ بالأقربِ فالأقربِ»(1).

یخبرنا علیه السلام بأنّ الحسد من الأخلاق الذمیمة الدنیئة، ومما زاد في دناءته هذه وقوعه بين الأقرب فالأقرب.

اعتمد ابن المقفع هذه الحكمة اعتماداً كلياًّ، مع تقدیم لها وشرحٍ وتفصیل طویل علیها فقال: «لیکن مما تصرفُ به الأذی والعذابَ عن نفسكَ ألا تكونَ حسوداً. فإن الحسد خلقٌ لئیمٌ. ومن لؤمهِ أنهُ موكلٌ بالأدنى فالأدنى من الأقاربِ والأكفاء والمعارفِ والخُلطاء والإخوانِ فليكن ما تُعاملُ به الحسد أن تعلم أن خير ما تكونُ حینَ تكونُ مع من هو خیرٌ منكَ، وأن غنماً ما حسناً لكَ أن يكونَ عشیرُكَ، وخليطُكَ أفضل منكَ في العلمِ، فتقتبسَ من علمهِ، وأفضلَ

ص: 316


1- شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد 20 / 455

منكَ في القوة، فيدفع عنكَ بقوتهِ، وأفضلَ منكَ في المالِ، فتفيد من مالهِ، وأفضل منكَ في الجاهِ، فتصيبَ حاجتكَ بجاههِ، وأفضلَ منكَ في الدينِ، فتزداد صلاحاً بصلاحهِ»(1).

فکُلُّ هذا الكلام منبته ونواته الحكمة السالفة، وقبل أن يضمنها ابن المقفع قدّم لها بجملة عدَّ فيها الحسد يجلب النصب والعذاب للنفس، مفتتحاً هذا التقديم بطريقته التي باتت معروفة إمّا بفعل الأمر أو بلام الأمر، ثم حوّرَ طفيفاً في الحكمة حيث أبدل قول الإمام علیه السلام:

«الحسد خلق دنيء»ب «الحسد خلق لئیم». و«أنه موکلّ» أوردها بنصِّها «أنّه موکّل».

و«الأقرب فالأقرب»ب «الأدنی فالأدنی».

و«الأقرب» هذا في کلام الإمام قابل للبسط والشرح، فهو یمکن أن یکون الأقرب من ناحية النسب، أو الأقرب من ناحية العمل، أو الأقرب من ناحية الأفكار... وفي هذه العبارة المكتنزة بمدلولاتها وجد ابن المقفع ضالته فبسطها بقوله: «بالأدنی فالأدنی من الأقارب، والأکفاء، والمعارف والخلطاء والإخوان».

ثم بعد ذلك اتّخذَ هذه الحكمة... منطلقاً ليبث إرشادتهِ حول خصلة الحسد، مبیّناً إنّ أفضل من ينبغي أن تكون على مقربة منه منْ هو أفضل منك، وإنّ عشيرتك إذا كانوا أعلى منك منزلة فذلك الغنم بعينه،.. وبكلِّ هذا ينبغي تجنّب حسد هؤلاء بل الإفادة منهم مادیّاً «فتفید من ماله»، ومعنویّاً فتفید من جاههِ

ص: 317


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 112

«فتصیب حاجتك «به، ومن دینه «فتزداد صلاحاً بصلاحهِ».

وبعد هذا انتقل ابن المقفع إلى كيفية معاملة العدو قائلاً: «لیکن مما تنظرُ فيه من أمرِ عدوكَ وحاسدكَ أن تعلمَ أنهُ لا ينفعكَ أن تخبر عدوكَ وحاسدكَ أنكَ لهُ عدو، فتنذرهُ بنفسك وتؤذنهُ بحربكَ قبل الإعداد والفرصةِ»(1).

وصفوة كلامه هذا لا تواجه أعداءَك قبل إعدادك، وبالتالي فهذا أشبه ما يكون بسطاً للحكمة العلوية التي تقول:

«لا تُوقعْ بالعَدوِّ قبلَ القدرةِ»(2).

أمّا حكمته علیه السلام التي قال فیها:

«أَقِیلُوا ذَوِي اَلْمُرُوءَاتِ عَثَرَاتِهِمْ، فَمَا یَعْثُرُ مِنْهُمْ عَاثِرٌ إِلاَّ وَیَدُهُ بِیَدِ اَللهِ یَدُ اَللهَّ بِیَدِهِ یَرْفَعُهُ»(3).

والتي من خلالها «رغّب في إقالة ذوي المروءات عثراتهم التي وقوعها نادراً کبیعهم لما يلحقهم الندم عليه... واستعار لفظ العثرات لما يقع منهم خطأ ًومن غير تثبّت»(4).

فقد اعتمدها ابن المقفع - لمّا رغّب أيضاً في إقالة هؤلاء عثراتهم - اعتماداً كلیّاً وبالتحديد الفقرة الأولى منها، فقال: «واعلم أنكَ واجدٌ رغبتكَ من الإخاء عند أقوامٍ قد حالت بینكَ وبینهم بعضُ الأبهةِ التي قد تعتري بعض أهلِ لمروءاتِ

ص: 318


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 112 - 113
2- غرر الحكم ودرر الكلم 119
3- نهج البلاغة 553
4- شرح نهج البلاغة لابن ميثم 5 / 396 - 397

فتحجزُ عنهم كثيراً ممن يرغبُ في أمثالهم. فإذا رأيتَ أحداً من أولكَ قد عثر بهِ الدهرُ فأقله»(1).

فهو إذاً ضمّن كلمات الحكمة الأربع الأُول، ووزّعها في قولهِ المذكور جاعلاً منها ركائز لقولهِ، مع التقديم لها، والتوسع عليها، والتحوير فيها تحويراً أقل من القليل، إذ أبدل «اقیلوا»ب «فأقله» و«ذوي المروءات»ب «أهل المروءات» و«عثراتهم»ب «عثر به الدهر» وبطريقة مماثلة تعامل مع حكمةٍ لأمير المؤمنين علیه السلام، قال فیها: «أْحیُوا الْمعرُوفَ بإماتَتِهِ، فإنَّ المنَّةَ تهْدِمُ الصَّنیعةً»(2).

والمعنى إذ أردت لمعروفك أن يحيا ويدوم فعليك بإماتته، وهذه كناية عن عدم ذكره؛ لأنَّ ذكره أشبه ما يكون بالمنّة، وهذهِ المنّة ُ تهدم ما بُنيَ من معروف.

ضمّن ابن المقفع هذه الكلمات بتمامها وكمالها جاعلاً منها عماداً لمقالٍ طويل ألفه في هذا المعنی، فقال: «إذا كانت لكَ عند أحدٍ صنيعةٌ، أو كان لك عليه طول فالتمس إحياءَ ذلك بإماتتهِ، وتعظيمهُ بالتصغیرِ لهُ. ولا تقتصرنّ في قلّةِ المنّ بهِ على أن تقولَ: لا أذكرهُ ولا أصغي بسمعي إلى من يذكرهُ، فإنّ هذا قد يستحيي منهُ بعضُ من لا يوصفُ بعقلٍ ولا كرمٍ. ولكن احذر أن يكونَ في مُجالستكَ إياّهُ، وما تكلمهُ به، أو تستعينهُ عليهِ، أو تجاريه فيه، شيءٌ من الاستطالة، فإن

ص: 319


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 102
2- غرر الحكم ودرر الكلم 154

«الاستطالةَ تهدمُ الصنيعةَ وتكدرُ المعروفَ»(1).

ولعل هذه المرة الأولى التي لم يفتتح فيها ابن المقفع حديثه المتأثر بكلام أمير المؤمنین علیه السلام بفعل أو لام الأمر، ولكنه سرعان ما عاد إلى ذلك بعد أن شرع في تضمين الحكمة، ومن جانب البسط فقبل أن يضمنها أيضاً قدّم حديثاً عامًا عن موضوعها، ثم شرع في تضمينها، ولكن لم يجعلها في مكانٍ واحدٍ بل افتتح ببعضها، ثم عادَ ليختتم ببعضها الأخر. وما ذلك إلاّ لتكون عنده حریّة واسعة للحديث عن هذا الموضوع من خلال الربط بين كلمات الحكمة والتعليق على مقاطعها، وحتى تكون هذهِ الكلمات بمثابة ركائز يرتكز عليها وعظه، مجرياً عليها بعض التحويرات الشكلية تمامًا. فأوّل الحكمة: «أحیو المعروف بإماتتِه» ووجدناها في أول كلام ابن المقفع: «إحیاء ذلك بإماتتهِ». و«ذلك» اسم إشارة أشارَ به ابن المقفع إلى «الصنیعة»و «الطول» الذین ذکرهما في مقدمة كلامه، وعليه يكون كلامه إحياء الطول بإماتته وبالتالي لا يوجد اختلاف يذكر عن كلام الإمام علیه السلام. ولفظة «المعروف» التي أبدلها ابن المقفع بما ذکر عاد وذكرها في آخر كلامه المذكور مثلما وجدها عند الإمام علیه السلام. أمَّا باقي الحکمة: «فإنّ المنّة تهدم الصنیعة». فقد ألفيناها آخراً عند ابن المقفع: «فإنّ الاستطالة تهدم الصنیعة». وهو ما بین هذین المقطعین تحدّث بما شاء عن إسداء المعروف وفضل تناسیه.

وعلى هذا الأساس بُنيت كثیرُ من موضوعات الأدب الكبير، إذ كان ابن المقفع یعمد إلی حکمة أمیر المؤمنین علیه السلام الموجزة فيبسط القول فيها،

ص: 320


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 108 - 109

ويفرّع منها فروعاً، ويوظفها في المكان الذي يراه مناسباً، فمرّةً مع السلطان، وأخری مع الوالي، وثالثة مع الصديق وهكذا. وفي هذهِ المرّة نجد ابن المقفع يأتي على حكمة أمير المؤمنين علیه السلام التي تقول:

«مَا أَضْمَرَ أَحَدٌ شَیْئاً إِلاَّ ظَهَرَ فِي فَلَتَاتِ لِسَانِهِ، وَصَفَحَاتِ وَجْهِهِ»(1).

الفلتة: الأمر الذي يقع من غير تروٍّ، وصفحة الوجه: بشرته أي أنَّ المرء لم يتمكن من حفظ ما أضمره كلياًّ، لأنّ مراعاة الحفظ يكون للعقل، فإذا انشغل العقل في مهم آخر يغفل عمّا أضمره، فينفلت ذلك في فلتات القول(2).

استعار ابن المقفع هذه الحكمة ليضمِّنها في باب تحذيره من احتقان القلب على الوالي، فقال: «إیاك یقع في قلبك تعتبٌ علی الوالي أو استزراءٌ لهُ. فإنهُ إن وقعَ في قلبك بدا في وجهكَ، إن كنت حليماً، وبدا على لسانكَ، إن كنتَ سفيهاً. فإن لم يزد ذلكّ على أن يظهر في وجهكَ لآمنِ الناس عندك فلا تأمنن أن يظهرّ ذلك للوالي. فإنّ الناس إلى السلطان بعوراتِ الإخوانِ سراعٌ»(3).

فهو ينهى من وقوع التعتب والإستزراء على الوالي - ملجئاً ظهره تماماً إلى الحكمة العلوية - لأنّ ذلك التعتب وإن خفي لا بدَّ من ظهوره، إمّا على صفحات الوجه من خلال تلوِّنها، وإمّا على اللسان من خلال فلتاته. إلاّ إنّ ابن المقفع لم يذكر لفظة الإضمار صراحة بل ذكر آلة الإضمار أو مكمنها وهو القلب لمّا قال: «إياك أن يقع في قلبك تعتبٌ على الوالي أو استزراءٌ لهُ».

ص: 321


1- نهج البلاغة 554
2- ينظر: شرح نهج البلاغة لابن ميثم 5 / 398
3- الأدب الصغير والأدب الكبير 84

وکُلُّ هذا بسط لأول الحکمة: «ما أضمر أحد».

وبعد هذا لا فرق مطلقاً بين قول الإمام علیه السلام: «ظهر في لسانه» وبین قول ابن المقفع: «بدا علی لسانك» فقد كان الأخير هنا دقيقاً في تحويراته حيث جعل:

الفعل مقابل الفعل: ظهر بدا والحرف مقابل الحرف: في - على والاسم مقابل الاسم: لسان - لسان والضمير مقابل الضمير: الهاء - الكاف ومثلها العبارة التي قبلها «بدا في وجهك»، إلاّ أنّه زاد علی الأولی «إن کنت حلیماً»، وعلی الثانیة «إن کنت سفیها». واستمر ابن المقفع بالتفصيل عن هذا الموضوع محذِّراً من إنّ هذه الفلتة حتى وإن لم يكتشفها إنسان تأمنه، ولم تظهر هي أمامه، فلا تأمن ظهورها أمام الوالي.

وتجدر الإشارة إلى إنّ هذه الحكمة وجلَّ حكم أمير المؤمنين علیه السلام لم یوجِّهها إلى فئة أو طائفة بعينها، بل يجعلها مفتوحة بحيث كل من يقرؤها يجدها تنطبق عليه سواء كان مولى أو عبداً، وهذا ممّا زاد في تأثيرها وفاعليتها «ما أضمر أحد» أیًّا كان هذا الأحد، بينما ابن المقفع يضیّق كثيراً من دلالة هذهِ الحكم لمّا يجعلها مختصة بجهة ما، ومثل ذلك ما فعله في قولهِ المذكور لمّا نهى عن هذا الأمر أمام الوالي «إیاك أن يقع في قلبك تعتبٌ على الوالي».

ومثلما سلف فإنّ ابن المقفع كان قد اتخذَ كلام أمير المؤمنين علیه السلام شعاراً یعظ به کُلَّ الجهات التي كان يخاطبها دون استثناء، فإن كان وظّف الحكمة السابقة مع

ص: 322

الوالي وطريقة معاملته القلبية، فقد وظّفَ في باب منع التطاول على الأصحاب حكمة علوية أيضاً، جاء فيها:

«لیسَ یضرُّكَ أن تری صدیقك عندَ عدوِّك، فإنّه إنْ لم ینفعْك لم یضُرَّكَ»(1).

فإنَّ الصديق قد يتكدّر إذا رأی صدیقه عند عدوّه إشفاقاً من العدوِّ علی الصديق، أو تهیّباً من قطع حبل الوصل بسبب وشاية من ذلك العدو، ولكنّ أمیر المؤمنین علیه السلام نهى عن ذلك وعدَّ هذهِ المقاربة أمراً ايجابياً.

اعتمد ابن المقفع هذه الحكمة كسابقاتها من التغير الطفيف على بعضها، ثم البسط عليها، والتفريع منها، فقال: «إن رأیتَ صاحبكَ مع عدوكَ فلا يغضبنّكَ ذلك، فإنّما هو أحدٌ رجلين: إنْ كان رجلاً من أخوانِ الثقةِ فأنفعُ مواطنهِ لك أقربها من عدوكَ لشرٍ يكفّهُ عنكَ، أو لعورةٍ يسترها منكَ، أو غائبةٍ يطلعُ عليها لكَ، فأمّا صديقكَ فما أغناكَ أن يحضرهُ ذو ثقتك. وإن كان رجلاً من غیرِ خاصةِ إخوانكَ فبأي حقٍ تقطعهُ عنِ الناسِ وتكلفهُ ألا يتصاحبَ ولایُجالسَ إلا من تهوی»(2).

فهو نهى عمّا نهى عنه أمير المؤمنين علیه السلام وبّرر بما برّر به علیه السلام، فأول کلامه: «إن رأیت صاحبك مع عدوِّك فلا يغضبك ذلك» من أوّل الحکمة «لیس یضرّك أن تری صدیقكَ عندَ عدوِّك» بلا زيادة ولا نقصان عدا تحويرات شكلية للغاية فقد أبدل «صدیقك»ب «صاحبك»، و»یضرّك»ب «یغضبك»، «وعندَ عدوك»ب «مع عدوّك».

ولمّا عدَّ أمير المؤمنين علیه السلام تلك المقاربة أمراً إیجابیاً برّرها بأنها لا تخلو من

ص: 323


1- موسوعة الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام 5 / 272
2- الأدب الصغير والأدب الكبير 100 - 101

أمرين: إمّا أن تعود تلك المقاربة بنفع على ذلك الصديق الغاضب ولكنه علیه السلام لم یحدد ما هو النفع وأین یکمن حتی لا تکون دلالة هذهِ الکلمة «النفع» محدودة بجانب ما وهذهِ سمة واضحة في حکمه علیه السلام. أمّا ابن المقفع فقد أخذ هذه التفریع من الحکمة وبسطه بأنّ بیّن بعض مواطن النفع تلك وذلك لما قال: «فإنما هو أحد رجلين: إن كان رجلاً من إخوان الثقة فأنفع مواطنهِ لك أقربها من عدوِّك إلى قولهِ يطّلع عليها لك».

وإمّا أن لا تعود تلك المقاربة بنفع ولكنها خالية من الضرر، لأنّ الصديق الصدوق وإن جالس العدوّ لم يفرط بصديقه. ولكن هذا أجری علیهِ ابن المقفع تغیراً بیِّنًا في فقرتهِ الأخیرة. وأری في ذلك تحایلاً عمیقاً للخروج عمّا تبقی من تسلسل حکمة أمیر المؤمنین علیه السلام وهذهالمحاولة التمويهية مهدّ لها لما قسم الأصدقاء علی «إخوان الثقة»و» رجالاً من غیر خاصة إخوانك» وهذا لربما لا يتفق مع مقدمة كلامه التي تحدّثَ فيها عن الصاحب، ومطالبته بعدم الاكتراث منه إذا جالس العدو، أما إذا كان ذلك الصاحب بعيد الصلة بصاحبه، وهو ليس من الخاصة فلا يهم إذاً إن اقترب أو ابتعد عن العدو، ولا يوجد داعي من أن ينهى ابن المقفع عن الغضب من هذا الفعل.

أمّا موعظته علیه السلام لمعسكره وقد سمع بعضهم يسبون أهل الشام أيام حرب صفين، والتي قال فيها:

«إِنِّي أَکْرَهُ لَکُمْ أَنْ تَکُونُوا سَبَّابِینَ، وَلَکِنَّکُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ، وَذَکَرْتُمْ حَالَهُمْ، کَانَ أَصْوَبَ فِي اَلْقَوْلِ، وَأَبْلَغَ فِي اَلْعُذْرِ»(1).

أمر أتباعه باجتناب السب، لأنه لغة المفلسين من الدليل، لكنّه وجّههم

ص: 324


1- نهج البلاغة 374

إلى وصف أعمال الشاميين وما هم عليه من ضلال؛ ففي ذلك الحجّة البالغة، والقول الصائب.

فأخذ ابن المقفع هذا لما تحدّث عن كيفية معاملة العدو، فقال: «لا تدعْ، مع السكوتِ عن شتم عدوكَ، إحصاءَ مثالبهِ ومعايبهِ واتّباعَ عوراتهِ، حتى لا يشذ عنكَ من ذلك صغیرٌ ولا كبیرٌ، من غیرِ أن تشيعَ ذلك عليه في فیتّقیكَ بهِ، ويستعدّ لهُ، أو تذكرهُ في غیرِ موضعهِ فتكونَ كمستعرضِ الهواء بنبلهِ قبل إمكانِ الرمي. ولا تتخذن اللعنَ والشتمَ على عدوكَ سلاحاً، فإنهُ لا يجرحُ في نفسٍ ولا منزلةٍ ولا مالٍ ولا دينٍ»(1).

فكل هذا يدور في فلك المعنى العلوي بدقة. فقول الإمام علیه السلام:

«أكره لكم أن تكونوا سبابين».

كرّره ابن المقفع مرتين وذلك لما أفتتح حديثه بهِ «السکوت عن شتم عدوِّك»، ولما ختمه بهِ أیضاً «لا تتخذن اللعن والشتم علی عدوِّك سلاحاً» مبدلاً السب بالشتم.

أما قوله: «لا تدع... إحصاء مثالبه ومعایبه وإتباع عوراته» فهو من قول الإمام علیه السلام:

«لكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم».

أي قولوا: «إنهم فُسَّاق، وإنّهم أهل ضلالٍ وباطل»(2) وبشرح ابن أبي الحدید هذا یتضح إنّ ابن المقفع یتحول في أحایین کثیرة إلی شارحٍ لکلام أمیر

ص: 325


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 114
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11 / 18

المؤمنين علیه السلام.

ومن طرفٍ خفي يلحظ إنّ ابن المقفع حاول التمويه على كلام الإمام علیه السلام لمّا جعل الشقّة تبعد بين الفعل «تدع» وبین المفعول بهِ «إحصاء».

وللنساء نصيبٌ من الحديث في الأدب الكبير، فقد ذكرهنّ فيه مرّتين وفي مقطعين متتالين، وفي المقطعين كليهما أثر واضح لكلام أمير المؤمنين علیه السلام.

فقد روي عنه أنّه حذّرَ جنوده من الغرام بالنساء - لما شيَّعهم في إحدی الغزوات - قائلاً: «أعذِبُوا عنِ النِّساءِ ما استطعتُم»(1).

شرح الشريف الرضي هذهِ الكلمات بقوله: «ومعناه أصدفوا عن ذکر النساء، وشغل القلوب بهن، وامتنعوا من المقاربة لهن، لأنَّ ذلك يفت في عضد الحمية، ويقدح في معاقد العزيمة، ويكسر عن العدو، ويلفت عن الإبعاد في الغزو، فكل من امتنع من شيء فقد أعزب عنه، والعازب والعزوب الممتنع من الأكل والشرب»(2).

ففي نهيه عن الغرام بالنساء ونتائج هذا الغرام، نظر ابن المقفع باسطا - حتى كأنّه سبق الرضي إلى شرح هذا المعنى - فقال: «اعلم أن من أوقعِ الأمورِ في الدينِ وأنهكها للجسدِ وأتلفها للمالِ وأقتلها للعقلِ وأزراها للمروءةِ وأسرعها في ذهابِ الجلالةِ والوقارِ الغرامِ بالنساء»(3).

وفي حديث ذي صلة قال أمير المؤمنين علیه السلام في خطبته المعروفة بالوسیلة:

«إذا رَأی أَحَدُکُم إمَرأةً تُعجِبُهُ فَلْیَلْقَ أهْلَه فإنَّ عندها مثلُ الذي رأی، ولا

ص: 326


1- نهج البلاغة 598
2- م. ن 598
3- الأدب الصغير والأدب الكبير 117

یَجْعَلَ للشیطانِ علی قلبهِ سبیلاً، ولْیَصرِفْ بَصَرَهُ عنها».

وورد عنه علیه السلام بإختلاف یسیر، وذلك قوله لما کان جالسًا ومعه أصحابه فمرّت بهم أمرأة جمیلة، فرمقها القوم بأبصارهم:

«إِنَّ أَبْصَارَ هَذِهِ اَلْفُحُولِ طَوَمِحُ؛... فَإِذَا نَظَرَ أَحَدُکُمْ إِلَی اِمْرَأَةٍ تُعْجِبُهُ فَلْیُلاَمِسْ أَهْلَهُ، فَإِنَّمَا هِيَ اِمْرَأَةٌ کَامْرَأَتِهِ».

أکّد أمیر المؤمنین علیه السلام علی أنّ النساء أشباه النساء، ومادام الأمر هکذا فعَلی الرجل إذا رأی امرأة تعجبه فلیلاقِ أهله حتی لا يجعل للشيطان على نفسه سبیلاً. جعل ابن المقفع هذا المعنى في إثر كلامه السابق، ولكن ببسطٍ كبير جداً فقال: «ومن البلاء على المغرمِ بهن أنهُ لا ينفكّ يأجمُ ما عندهُ وتطمحُ عيناهُ إلى ما ليسَ عندهُ منهن. إنما النساء أشباهٌ، وما يتزينُ في العيونِ والقلوبِ من فضلِ مجهولاتهن على معروفاتهن باطلٌ وخدعةٌ، بل كثيرٌ مما يرغبِ عنهُ الراغبُ ممّا عندهُ أفضلُ ممّا تتوقُ إليهِ نفسهُ منهنّ، وإنّما المرتغبُ عمّا في رحلهِ منهنّ إلى ما في رحالٍ الناسِ كالمرتغبِ عن طعامِ بيتهِ إلى ما في بيوتٍ الناسِ: بل النساءُ بالنساء أشبهُ من الطعامِ بالطعامِ، وما في رحالٍ الناسِ من الأطعمةِ أشد تفاضلاً وتفاوتاً مما في رحالهم من النساء». ولو أطال ما أطال فإن الجذوة التي كان منطلقاً منها هي ذلك السطر من الخطبة أو الحکمة العلویة. فقوله: «ومن البلاء إلى قوله عنده منهن» بسط لکلام الإمام علیه السلام: «إذا رأی احدکم امرأة تعجبه». وبعد ذلك عدَّ أمیر المؤمنین علیه السلام . 1) تحف العقول 148 ) . 2) نهج البلاغة 629 ) . 3) الأدب الصغير والأدب الكبير 117 )

ص: 327

النساء «مثل» النساء، وهذه «المثل» حولها ابن المقفع إلی شبه لما قال: «إنما النّساء أشباه»، وكلامه هذا لا يختلف مطلقاً عن شرح ابن ميثم للنصالعلوي الثاني، «فإنّما أهل الرجل امرأة تشبه المرأة المرئیة»(1).

ثم زاد كلامه بسطاً لما أدخل طَرَفاً آخر في تقريب صورة التشبيه هذه وهو الطعام، وذلك في قوله: «النّساء بالنساء أشبه من الطعام بالطعام» وکأنه یقول: «والنساء یشبهن النساء أكثر مما يشبه الطعامُ بالطعامَ»(2).

وقد عُدّ هذا التركيب والتشبيه من طرائف ابن المقفع اللطيفة(3)، والأهم فيه - التشبيه - إنّهُ من توسعات ابن المقفع الكثيرة على كلام أمير المؤمنين علیه السلام. لقد لحظنا - في النص الأخير - إنّ ابن المقفع تأثّر بخطبة علوية وليس بحكمة ولا رسالة وهذه حالة نادرة جداً عنده - أي تأثره بالخطب العلوية - فهو لم يتأثر إلاّ بخطبتين فقط. الأولى مرّت سلفاً. وتأثر بخطبة ثانية صنّف فيها أمير المؤمنین علیه السلام الناس إلى أربعة أصناف قال في الرابع منها:

«وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْعَدَهُ عَنْ طَلَبِ اَلْمُلْكِ ضُؤولَةُ نَفْسِهِ، وَاِنْقِطَاعُ سَبَبِهِ، فَقَصَرَتْهُ اَلْحَالُ عَلَی حَالِهِ، فَتَحَلَّی بِاسْمِ اَلقَنَاعَةِ، وَتَزَیَّنَ بِلِبَاسِ أَهْلِ اَلزَّهَادَةِ، وَلَیْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي مَرَاحٍ وَلاَ مَغْدًی»(4).

الضؤولة: من ضأل الشيء إذا صغر وضعف(5).

ص: 328


1- شرح نهج البلاغة لابن ميثم 5 / 500
2- بنية الجملة ودلالتها البلاغية في الأدب الكبير دراسة تركيبية تطبيقية 26
3- م 0 ن 26
4- نهج البلاغة 64
5- ينظر: لسان العرب 11 / 388 مادة (ضأل)

ومعناه: «إنّ الإنسان قد تنقطع أمامه سبُل الوصول إلى الملك والثروة فيخلد إلى القناعة، ويتحلى بحلية الزهاد في اللذّات الدنيوية... وليس بزاهدٍ في الحقیقة»(1).

أخذ ابن المقفع هذا وتوسع علیه، فقال: «إنْ رأیتَ نفسك تصاغرت إلیها الدنیا، أودعتكَ إلی الزهادةِ فیها علی حالِ تعذرٍ من الدنيا عليكَ فلا يغرنّكَ ذلك من نفسكَ على تلكَ الحال، فإنها ليست بزهادةٍ، ولكنها ضجرٌ واستخذاءٌ وتغیرُ نفسٍ عندما أعجزكَ من الدنیا وغضبٌ منكَ علیها مما التوی عليكَ منها. ولو تمت على رفضها وأمسكتَ عن طلبها أوشكتَ أن تری من نفسكَ من الضجرِ والجزعِ أشد من ضجركَ الأوَلِ بأضعافِ. ولکن إذا دعتكَ نفسكَ إلی رفضِ الدنیا وهي مقبلةٌ علیكَ، فأسرع إلی رفضِ الدنیا وهي مقبلةٌ علیكَ، فأسرع إلی إجابتها»(2).

والمعنى واحد بين النصين فابن المقفع يقول: إذا أدبرت عنك الدنيا وأنت أقبلت على الزهادة فيها، فهذه ليست بزهادة حقيقية، وعند أمير المؤمنین علیه السلام: «لیس من ذلك في مراحٍ ولا مغدی» و»ذلك» أسم إشارة إلى ما سبق من كلامه: «تحلی باسم القناعة وتزین بلباس أهل الزهادة»، والمعنی: ليس من القناعة والزهادة في شيء وعليه تبين القرب القريب بين الجملتين، ولکنها - هذهِ الزهادة - جاءت نتيجة «تعذر من الدنیا علیك» ونتیجة «ضجر واستخذاء وتغیّر نفس عندما أعجزك من الدنيا وغضبُ منك عليها مما التوی علیك منها» ولا شك إن هذا بسط لقول الإمام علیه السلام: «أبعد عن طلب لملك ضؤولة نفسه وانقطاع سببه». ثم توسع ابن لامقفع أکثر في آخر کلامه لمّا بین

ص: 329


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2 / 381
2- الأدب الصغير والأدب الكبير 130

إنّ الزاهد الحقيقي هو من يرغب عن الدنيا في وقتٍ الدنيا راغبة فيه، وهذا لم یذکره أمیر المؤمنین علیه السلام لأنه كان في وصف صنف معیّن من الناس صفاتهم التي ذكرها لا معالجة هذهِ الحالة بدقائقها.

وفي ختام البسط في الأدب الكبير نعود إلى ما قدمناه من حديث ابن المقفع عن البسط لما قال: إنه کان یعمد إلی حکم «الأولین» ویشتق منها ما شاء، إذاً فالبسط الذي اسماه ابن المقفع بالاشتقاق لا ینفصل عنده عن حكم الأولين، لأنّه معتمد عليها كلياً، ولمّا عرفنا إنّ هذه الحكم التي بُسطت تتصدرها حكم أمیر المؤمنین علیه السلام سنعرف - بهذه الطريقة - إنّ أمير المؤمنين علیه السلام - علی الأقل - یتصدر هؤلاء الذين اسماهم ابن المقفع ب«الأولین».

رابعاً: الإیجاز

لما عرفنا أنّ الإيجاز هو اداء المقصود من المعاني بأقل كلمات، كان من الأهمية الإشارة إلى أنّ هذا المظهر شكل أرضية خصبة لآلية التكثيف الذي یعني: «إيجاز النص وتكثيف بنيته»(1). فإنّ آلیة التناص هذه تقترب بشدّة من دائرة الاختزال.

و لمّا عرفنا فيما سبق الإيجاز هو نقض البسط، فكذلك ورد عند ابن المقفع في الأدب الکبیر بالنسبة لکلام الإمام علیه السلام نقیض البسط أیضاً، إذ لم يرد إلاّ في مواطن قلیلة جداً ومن ذلك قوله: «فإنّ المعاتبة مقطعةٌ للودّ»(2). فهو ینهی عن عتاب الصديق لأنّه يری العتاب قاطعاً للمودة، وهذا یشبه بشدة بعض ما جاء في وصية أمير المؤمنين لولده الحسن علیهم السلام: «ولا تکثر العتاب فإنّه یورث الضغینة

ص: 330


1- التناص في الشعر الأندلسي 56
2- الأدب الصغير والأدب الكبير 123

ویجرُّ إلی البغضة»(1). فأبدل «العتاب»ب «المعاتبة» وأوجز «يورث الضغينة ويجر البغضة»ب «مقطعة للودِّ».

وبحسب ظن الباحث إنّ ابن المقفع جانب الصواب لمّا نهى عن كلِّ العتاب وجعله صارماً لحبل المودّة، لأنّ في العتاب حلاوة لا توجد إلاّ فيه، وهو محبذ وله وقع خاص في النفوس الطيبة، ولكن الصواب ما نهى عنه المُصيب أمير المؤمنین علیه السلام لما عدّ المذموم من العتاب كثرته «لا تکثر العتاب».

ومما ورد في الوصية أيضاً قول الإمام علیه السلام:

«قَطِیعَةُ الجاهلِ تعدِلُ صِلةَ العاقِل»(2).

و «هذا حقٌّ، لأنّ الجاهِلَ إذا قطعَكَ انتفعت ببعده عنك كما تنتفع بمواصلة الصدیق العاقل لك»(3).

وبعبارة أخری کما أن صلة العاقل غنیمة فإنّ قطیعة الجاهل غنیمة أیضاً.

ورد هذا المعنى في الأدب الكبير بطريقة مكثفة وذلك في حديث ابن المقفع الذي وجّه فيه إلى ملاقاة المعتذر بوجه مشرق ولسان طلق، مستثنيا: «إلا أن يكون ممّن قطيعته غنيمة»(4). فقول ابن المقفع «قطیعتهُ» إختزال لقول أمیر المؤمنین علیه السلام: «قطیعة الجاهل»، فذکر لفظة، «قطيعة» بنصها وأبدل الاسم الظاهر «الجاهل» بالضمیر «الهاء». وأما قوله «غنیمة» اختزال ل «صلة العاقل» التي هي بلا شكٌ غنیمة.

ص: 331


1- تحف العقول 107
2- نهج البلاغة 471
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16 / 284
4- الأدب الصغير والأدب الكبير 107

ولكنّ اختزال ابن المقفع هذا ضیّع جلَّ محاسن هذهِ الفقرة من الوصية التي تمثلت بالتشبيه والمقابلة والسجع، ثم كيف جاءت كلمة «تعدل» في هذا المكان بالذات بطريقة ملفتة حينما عادلت المعنى بين قطيعة الجاهل وصلة العاقل. وحينما عادلت أيضاً تماماً بين مقطعي الحكمة: «قطیعة الجاهل تعدل صلة العاقل». ولو كانت بدلها كلمة أخری مثل تشبه أو حرف کالکاف لذهب کثیر من وقعها.

وقال أمیر المؤمنین علیه السلام في عهده لملك الأشتر:

«ثُمَّ اَللهَ اَللهَ فِي اَلطَّبَقَةِ اَلسُّفْلَی مِنَ اَلَّذِینَ لاَ حِیلَةَ لَهُمْ مِنَ اَلْمَسَاکِینِ، وَاَلْمُحْتَاجِینَ، وَأَهْلِ اَلْبُؤْسَی، وَاَلزَّمْنَی، فَإِنَّ فِي هَذِهِ اَلطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَرّاً... وَاِجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَیْتِ مَالِكِ... فَإِنَّ لِلْأَقْصَی مِنْهُمْ مِثْلَ اَلَّذِي لِلْأَدْنَی، وَکُلٌّ قَدِ اِسْتُرْعِیتَ حَقَّهُ، وَلاَ یَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ، فَإِنَّكَ لاَ تُعْذَرُ بِتَضْیِیعِكَ اَلتَّافِهَ لِإِحْکَامِكَ اَلْکَثِیرَ اَلْمُهِمَّ»(1).

أمرُ أمیر المؤمنین علیه السلام هذا یدور حول معنیین:

الأول:

والذي أفتتحه بتكرار لفظ الجلالة رغبةً منه في التوكيد اللفظي المشدد على إعطاء ذوي الحقوق حقوقهم وهم: المساكين...، وأهل البؤسى وهم الذين مسّهم الفقر بشدّة، والزَّمنى أي المصابون بالعاهة، والقانع وهو السائل، وأخيرا المعترِّ وهو المتعرض للعطاء بلا سؤال(2).

ص: 332


1- نهج البلاغة 513 - 514
2- ينظر: شرح نهج البلاغة لمحمد عبده 3 / 470

الثاني:

أمرَ واليه بإحكام الأمور وأن لا يهتم بالجليل المهم دون الحقير التافه، لأنّه وإن احكم المهم لا يعذر بتضييع التافه.

وليس من الصدفة مطلقاً أن يجتمع هذان المعنيان أو قريب منهما عند ابن لا تتركن مُباشرة جسيمِ أمركَ فيعودَ شأنكَ صغيراً، ولا تُلزمن نفسكَ مباشرةَ الصغیراً، في الكبیرُ ضائعاً. وأعلم أنّ مالكَ لا يغني الناسِ كلهم فاخصص به أهل الحق»(1).

والفرق إنّ ابن المقفع أوصى السلطان مباشرة الجسيم مزرياًّ بصغائر الأمور مُكرِّراً هذا المعنى بجملتين وهذا التكرار لا طائل منه لأنّه أوضحهُ في الجملة لا الأولى. بينما أمير المؤمنين علیه السلام لا یعذر والیه إذا أضاع التافه حتی بإتقانهِ المهم. وأمّا «أهل الحق» الذین طلب ابن المقفع إعطاءهم حقوقهم، فهو اختزال لما عدّده الإمام علیه السلام من البؤسی، والزَّمنی والمحتاجين، ولكن على ابن المقفع هنا أن يذكرهم - وإن كان أهل الحق معروفين - لأنّ ذكرهم وتذكير الناس بهم يعد حسنة بحد ذاته.

ص: 333


1- الأدب الصغير والأدب لكبير 71

ص: 334

المبحث الثاني: في رسالة الأدب الصغیر

اشارة

الأدب الصغير عبارة عن رسالة تتضمن طائفةً من الحكم والوصايا في أغراض شتى منها: الدينية، والسياسية، والعسكرية وغيرها حرصَ ابن المقفع فيها على إرشاد الناس إلى معاشهم ومعادهم وما بين ذلك من أعمال. وتعد هذهِ الرسالة «من بدائع ابن المقفَّع أملاها عقله الفیّاض على قلمه السیّال فجاءت كالماء الزلال بل كالسحر الحلال»(1). والحقیقة لولا کلام أمیر المؤمنین علیه السلام لم تكن هذه الرسالة بهذه المنزلة الأدبية.

لا تختلف هذه الرسالة عن رسالة الأدب الكبير في الهدف والمضمون والمنهج، بل ما هي إلاّ صورة مصغّرة لها. ومن أهم ما في الأدب الصغير تلك المقدمة

ص: 335


1- الأدب الصغير 23

التي جاءت كمقدمة الأدب الكبير من الاعتراف بأنّ جانباً كبيراً من الرسالة نُقِل عن أولئك الأشخاص الذين اكتفى ابن المقفع بوصفهم وذكر بعض محامدهم.

وفي هذهِ المرّة لم يصفهم بالقدماء بمعنى أنَّ الحجة الدّاحضة - مثلما عرف في الأدب الكبير - التي أعتمد عليها من اعتمد في أنّ ابن المقفع كان يقصدُ القدماء الفرسَ لم تكن موجودة هنا.

قال ابن المقفع في الأدب الصغير مؤكداً على تأثرهِ بالصالحين، وتضمين کلامهم: «وقد وضعتُ في هذا الكتاب من كلام الناسِ المحفوظِ حروفاً فيها عونٌ على عمارةِ القلوبِ وصقالها وتجليةِ أبصارها، وإحياءٌ للتفكیرِ وإقامةٌ للتدبير، ودليلٌ على محامدِ الأمور ومكارمِ الأخلاقِ إن شاء اللهُ»(1). وکان لا یری في الأخذ من هؤلاء والسیر علی هدیهم ضیرا، لأنّهم مصیبون وصالحون وکلامهم حسن مثلهم، بل ذهب إلى ابعد من هذا لمّا عدَّ الأخذ عنهم وحفظ كلامهم يحتاج إلى توفيق وعون وهداية، وبهذا الأخذ يبلغ الأديب الغاية، ومن أخذ كلامًا حَسَنًا من غيرهِ فتكلَّم به في موضعهِ وعلى وجههِ، فلا تَرَیَنَّ عليه في ذلك ضؤولةً. فإنّ من أُعين على حفظِ كلام المصيبين، و هُديَ للإقتداء بالصّالحين، وَوُفِّق للأخذِ الحكماء، ولا عليهِ أنْ لا یزداد، فقد بلغ الغایة»(2).

فابن المقفع يصرح بأنّه أخذ عن أولئك الحكماء. ويؤكد على أنّ هذا الأخذ تضمینٌ حرفي «من أخذ کلاماً.. فتکلَّم بهِ.. علی وجه» أي دون تغيير، مشجّعاً على أخذِ المزيد من هذا الكلام، لأنّ فيه بلوغ الغاية «ولا علیه أن لا یزداد،

ص: 336


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 15
2- م 0 ن 13

فقد بلغَ الغایة». وعنده أيضًا ومهما بلغ الأديب من الفضل والمنزلة فلا يزال مديناً لهم، ملتجئاً إلى كلامهم؛ لأنّهم مبدعون مخترعون، ومن جاء بعدهم واصفون ناظمون كمنْ يجدُ فصوصاً من الجواهر مُعَدَّة فينظمها ويضعُ كلَّ فصٍّ موضعه(1).

ومثلما هو موجود لم يصرِّح ابن المقفع بذكر اسم الشخص أو الأشخاص الذين تأثّرَ بهم، بل اكتفى بتعداد بعض صفاتهم ومنها: - كلامهم حسن. - صالحون. - مصيبون. - حكماء. - مخترعون. - مبدعون. - في كلامهم عمارةُ القلوب وصقالها وتجلية أبصارها. - فيه إحياءٌ للتفكير. - فيه إقامة التدبير. - فيه محامد الأمور. - فيه مكارم الأخلاق.

وهذهِ الصفات هي صفاتٌ إسلامية كانت متوفّرة عند الصفوة من الإسلاميين وأمیرُ المؤمنين علیه السلام من أهمِّ مصادیقها.

هذه هي فحوری مقدمة الأدب الصغير. ولكن الغريب عنها ما صرّحَ بهِ الدكتور محمد مهدي البصير بعد أن عرّفها لنا، إذ قال: «مجموعة عظات ونصائح نقلها المترجم عن الفارسية كما ينصُّ على ذلك هو في مقدمتها»(2).

ویری الباحث أنَّ في هذا الكلام تقوّلاً واضحاً على ابن المقفع، إذ إنه لم ينص مطلقاً على أنهُ نقل عن الفارسية ولم يلمح إلى ذلك أيضاً لا من قريب ولا من بعيد، بل كل الذي قاله الرجل ما ذكرناه عنه. ولا أدري من أين جاء المرحوم الدكتور بهذا التصريح.

وعلى أية حال وبعد عرض ما جاء في رسالة الأدب الصغير على مجموعة

ص: 337


1- ينظر: الأدب الصغير والأدب الكبير 12 - 13
2- في الأدب العباسي 16

واسعة من کلام أمیر المؤمنین علیه السلام وجد الباحث نصيباً كبيراً من تلك الحروف التي تحدث عنها ابن المقفع للإمام علي علیه السلام، الذي توکّأ ابن المقفع کثیراً علی کلامه. وبدون مغالاة فإني لم أجد ولا صفحة واحدة من صفحات الأدب الصغير تخلو من اثر لكلام أمير المؤمنين علیه السلام ولکن سأقتصر علی بعضها وبالمظاهر الآتیة:

أولاً: التضمین

ضمن ابن المقفع حكماً كثيرة جداً لأمير المؤمنين علیه السلام ولکن هذهِ الحکم العلوية لم يوردها ابن المقفع بمفردها دون أُختٍ لها، أو دون توسع عليها. إلاّ من الندرة النادرة. ومن هذهِ الندرة في الأدب الصغير قول ابن المقفع في باب توصیة الملك بالحزم: «الظفر بالحزمِ، والحزمُ بإجالة الرأي بتحصينِ الأسرارِ»(1).

وهذا بنصّه من حكمة أمير المؤمنين علیه السلام:

«اَلظَّفَرُ بِالْحَزْمِ، وَاَلْحَزْمُ بِإِجَالَةِ اَلرَّأْيِ، وَاَلرَّأْيُ بِتَحْصِینِ اَلْأَسْرَار»(2).

إجالة الرأي إعماله(3)، والباءات للإلصاق والاستعانة(4). وفي الحکمة «یشیر الإمام علیه السلام بهذا إلی أن التخطیط شرط أساسي للظفر و النجاح، و إنَّ أيَّ عمل من غير تصميم و تخطيط يذهب سدی، وربّما کان ضرراً محضًّا. وهذه الحقیقة سمة العصر الحدیث...

ص: 338


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 53
2- نهج البلاغة 561. وينظر: أدب ابن المقفع دراسة اسلوبية 50
3- ينظر: شرح ابن ميثم 5 / 408
4- ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة 21 / 87

إنهم يخططون لكل شيء... حتى الكذب... له عندهم تخطيط ودراسة. والشرط الأساسي في التخطيط الحزم، و فسّره الإمام بإجالة الرأي أي بالدراسة العلمية على أن تبقى هذه الدراسة طي الكتمان»(1).

وبفعل تلك الموسوعية الهائلة التي يحملها أمير المؤمنين علیه السلام فهو لم یغفل شيئاً لم يوصِ به، حتى المسافة التي ينبغي الإلتزام بها والوقوف عندها بين الجيشين. فمن حكمةٍ له يأمر فيها صاحب الجند بعدم الإبتعاد المفرط، كما أمره بعدم الإقتراب المفرط من معسكر العدو، فقال: «قارب عدوك بعض المقاربة تنل حاجتك و لا تفرط في مقاربته فتذل نفسك و ناصرك و تأمل حال الخشبة المنصوبة في الشمس التي إن أملتها زاد ظلها و إن أفرطت في الإمالة نقص الظل»(2).

استعمل أمير المؤمنين علیه السلام هذا التشبیه الضمني الرائع في توضیح ما أراد، فقد شبّه المعسكر بالخشبة الشاخصة إن أملتها قليلاً زاد ظلّها؛ لأنّ الشمس تضرب بأشعتها على جانب هذه الخشبة فيصبح ظلّها مديداً.

ووجه الشبه من هذا هو إذا التزم الجند بالبعد المطلوب من المسافة عن العدو کان لهم ظلاًّ أكثر ويترتّب على هذا هيبة ووقع أكثر للجيش بسبب عدم معرفة العدو بالعدة والعدد الفعلي لذلك الجيش.

أما لو أفرطت في إمالتها فإنَّ طولها سيتلاشى على الأرض، لأنّ الشمس تكون عمودية عليها، وبالتالي فإنّ ظلّها سيكون تحتها لا يستبين منه إلاّ القليل، ولربما يختفي تماماً وستكون الخشبة على حقيقتها فلا تزداد

ص: 339


1- في ظلال نهج البلاغة 4 / 247
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 20 / 487

من الظلِّ أي طولٍ وهذا هو وجه الشبه إذ إنّ الجند لو اقتربوا أكثر من معسكر عدِّوهم ستُعرف مقدرتهم الحقيقية، ولربّما تزول هيبتهم في نفوس عدوِّهم بفعل هذه المعرفة.

ضمَّن ابن المقفع هذه الحكمة في الأدب الصغير مبيِّنًا أنّها ليست له، فقال: «وکان یقالُ: قاربْ عدوكَ بعض المقاربة، تنل حاجتك، ولا تقاربهُ كل المقاربةِ، فيجترئ عليك عدوك وتذل نفسك ويرغب عنك ناصركَ. ومثلذلك مثل العود المنصوبِ في الشمسِ، إن أملتهُ قليلاً زاد ظلهُ، وإن جاوزتهُ الحد في إمالتهِ، نقص الظل»(1).

ومن قبيل هذا الإعتراف قال ابن المقفع أيضاً: «وکان یقال: عمل الرجلِ فیما یعلم أنه خطأ هوی، والهوی آفةُ العِفافِ. وترکهُ العمل بما یعلم أنه صوابٌ تهاونٌ، والتهاونُ آفةُ الدین. وإقدامُهُ علی ما لا یدري أصوابٌ هو أم خطأ جماح، والجماح آفة العقلِ»(2).

وهذا الذي قال هو أمير المؤمنين علیه السلام:

»عَمَلُ الرّجُلِ بِمَا یَعْلمُ أنَّه خَطَأ هَوًی، والهَوَی آفَةُ العَفَافِ، وَتركُ العَمَل بمَا یَعْلمُ أنَّهُ صَوَابُ تَهاوُنِ، والتَّهاوُنُ آفةُ الدِّینِ، وإقْدَامَهُ علی مَا لا یَدْري أصَوابٌ هوَ أمْ خَطَأ لجِاجٌ، واللِّجَاجُ آفةُ العَقْلِ»(3).

وقال ابن المقفع في أدبه الصغير: «قال رجلٌ لحکیمٍ: ما خیرُ ما یؤتی المرء؟ قال: غريزةُ عقلٍ. قال: فإن لم يكن؟ قال: فتعلمُ علمٍ. قال: فإن حرمهُ؟ قال:

ص: 340


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 52
2- الأدب الصغير والأدب الكبير 43
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 20 / 451 - 452

صدقُ اللسانِ قال: فإن حرمهُ؟ قال: سكوتٌ طويلٌ. قال: فإن حرمه؟ قال:

ميتةٌ عاجلةٌ»(1).

وهذا الحكيم هو حكيم الإسلام أمير المؤمنين علیه السلام وذلك هو جوابه، فقد سُئل:

«ما أفضل ما أعطي الإنسان؟ قال غَریزَةُ في عَقْلٍ، فإنْ لمْ یَکُنْ؟ قال فأخٌ مستشیرٌ، قیلَ فإنْ لمْ یَکُنْ؟ قال: فصَمْتٌ في المَجالِسِ، قیل، فإنْ لمْ یَکُنْ؟ قال: فموتٌ عاجلٌ»(2).

ومثلما هو واضح، فإنّ ابن المقفع ضمّن هنا النص العلوي بطريقة التحوير، فقد أبدل قول الإمام علیه السلام:

«ما أفضل ما أعطي الإنسان».

ب«ما خیرُ ما يؤتى المرء».

وأبدل «ميتة عاجلة».

ب«موت عاجل».

وأبدل «فصمت في المجالس».

ب«سكوت طويل».

وبطريقتهِ التي يأبى مفارقتها إلاّ نادرًا مع النص العلوي، تلك الطريق القائمة على الزيادة، فهو ها قد زاد على الحكمة «فتعلم علم»و «صدق لسان».

ومن التضمين الذي ورد في الأدب الصغير: «أصل العقل التثبت وثمرته

ص: 341


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 49
2- جامع الأحاديث 194

السلامة»(1).

فهذا تضمين لحكمة أمير المؤمنين علیه السلام:

«أصلُ العقل الفِکْرُ وَثَمَرَتُهُ السَّلامة»(2).

فلم يبدل ابن المقفع سوی «الفکر»ب «التثبت» والأولی خاصة بالعقل وأکثر مواءمة له من الثانية، وعليه فإنّ إبدال ابن المقفع هذا لم يكن في محلِّهِ.

ثانیاً: التلفیق

كان ابن المقفع كاتبًا حكيمًا تغلب عليهِ الحكمة في كلِّ شيء(3)، وبما إنّ أمير المؤمنین علیه السلام مثلما قال البروفسور فيليب يقوم في التراث الإسلامي مقام سليمان الحكيم... وله من الحكم والمواعظ عددٌ لا يحصی(4)، فقد وجد ابن المقفع ضالته في کلمات أمیر المؤمنین علیه السلام الحکیمة تلك، فلفق كثيرا منها. وقد ورد التلفيق في الأدب الصغير مكون من:

1 - حکمتین علویتین:

ومن هذا قول ابن المقفع في الأدب الصغير: «أحقُّ النّاسِ.. بالفضل أعودَهم علی النّاس بفضله.. وأحقُّهم بالنِّعمِ أشکرهم لما أوتي منها»(5).

فأول كلامه الذي أكدّ فيه على أنّ المتفضل على الناس هو أجدرهم بأن يدومَ

ص: 342


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 45
2- غرر الحكم ودرر الكلم 198
3- ينظر: ابن المقفع 62
4- ينظر: وعَّاظ السلاطين 183
5- الأدب الصغير والأدب الكبير 33 - 34

له ذلك الفضل. وعلة دوام ذلك الفضل هو التفضّل على الناس من السعي في قضاء حوائجهم، والاهتمام بأمورهم لهُ شبه بليغ بجانبَ من حكمةٍ لأمير المؤمنین علیه السلام بیّن فيها لجابر بن عبد الله الأنصاري أنّ الله سبحانه وتعالى قد أسبغ نعمه على خلقه، فمن أراد لهذهِ النعم الدوام والبقاء عليه أن يقوم بها بما يرضي الله، ويقضي حوائج الناس، وَمنْ لم يفعل هذا عرّض نعمته للزوال فقال:

«یَا جَابِرُ، مَنْ کَثُرَتْ نِعَمُ اَللهَّ عَلَیْهِ کَثُرَتْ حَوَائِجُ اَلنَّاسِ إِلَیْهِ، فَمَنْ قَامَ بِمَا یَجِبُ للهَّ فِیهَا عَرَّضَ نِعْمَةَ اَللهَّ لِدَوَامِهَا، وَمَنْ ضَیَّعَ مَا یَجِبُ للهَّ فِیهَا عَرَّضَ نِعْمَتَهُ لِزَوَالِهَا للهَّ فِیهَا بِمَا یَجِبُ فِیهَا عَرَّضَهَا لِلدَّوَامِ وَاَلْبَقَاءِ، وَمَنْ لَمْ یَقُمْ فِیهَا بِمَا یَجِبُ عَرَّضَهَا لِلزَّوَالِ وَاَلْفَنَاءِ»(1).

أمّاَ قول ابن المقفع الأخیر: «وأحقهم بالنعم أشکرهم لما أوتي منها» فيكاد يكون بنصه عن حكمة أمير المؤمنين علیه السلام التي تقول:

وأحقُّ النَّاس بِزِیادَةِ النِّعمةِ أَشْکَرُهُمْ لَما أُعُطيَ مِنْها»(2).

فقوله «وأحقهم» أي «أحقُّ النّاسَ» مثلما ذکر هو في بدایة حدیثه، وهذا بنصه من أوّل الحکمة «وأحق الناس»، والباقي بنصهِ سوی أنّ ابن المقفع حذف لفظة «بزیادة»، وأبدل الفعل الماضي المبني للمجهول «اُعطيَ» بآخر مثله معنی وصیاغة «أُوتيَ».

وبطريقة مماثلة تعامل ابن المقفع مع حكمتين لأمير المؤمنين علیه السلام فرَّق بهما بين مودّة الأخيار وبين مودة الأشرار من حيث الديمومة والرسوخ.

فالأولى ثابت أصلها وارف فرعها، والثانية سريع إنقطاعها، فقال في ذلك:

ص: 343


1- نهج البلاغة 620
2- غرر الحكم ودرر الكلم 359

«مودَّة ذوي الدِّين بطيئةُ الإنْقِطَاعِ دائِمةُ الثَباتُ والبَقَاءُ»(1).

«مودَّة الحمقى تزول كما يزول السَّرابُ وتَقشَعُ كَما یَقْشَعُ السَّحاب»(2).

لفق ابن المقفع بين الحكمتين، فقال: «والمودة بین الأخیار سریع اتصالها بطئ الانكسار هين الإصلاح. والمودة بين الأشرار سريع انقطاعها بطئ اتصالها، كالكوز من الفخار يكسره أدنى عبث ثم لا وصل له أبداً»(3).

فأبدل ابن المقفع «مودّة ذوي الدین»ب «المودة بین الأخیار».

وأبدل «موّدة الحمقی»ب «المودة بین الأشرار».

وقوله علیه السلام: «بطیئة الإنقطاع» فمثله التام في قول ابن المقفع: «بطييءُ إنقطاعها» أمّا تشبيه أمير المؤمنين علیه السلام لمودة الحمقی وزوالها بالسراب وتقشع السحاب فقد أراد من ذلك وجه الشبه المتمثل بسرعة زوال هذهِ الموّدة وتصرّمها، وابن المقفع اقتنص وجه الشبه هذا لمّا قال: «سریعٌ إنقطاعها». وبطريقته التي لا یکاد یقارقها مع كلام أمير المؤمنين علیه السلام وهي التوسع بطرق شتی وهو هنا ضرب مثالاً بعد ُ كلِّ من الحكمتين اللتين لفقهما.

ومن نحو هذا أیضاً قول ابن المقفع: «... ومن لا إخوانَ لهُ فلا أهلَ لهُ...، ومن نحو لا عقلَ لهُ فلا دنيا لهُ ولا آخرة»(4).

ص: 344


1- عيون الحكم والمواعظ 489
2- م. ن 487
3- الأدب الصغير والأدب الكبير 54
4- م. ن 55

فمقطعهُ الأول الذي بیّن فيه منزلة الأخوان بنصّهِ من قول الإمام علي علیه السلام: «مَنْ لا إخوانَ له لا أهْلَ لَهُ»(1).

وأما الثاني فلا يعدو تقديماً وتأخيراً بين كلمات حكمة الإمام علي علیه السلام التي تقول: «مَنْ لم یؤْثِر الآخرةَ علی الدُنْیَا فَلاَ عَقْلَ لَهُ»(2).

وبمثل هذه الطريقة تعامل ابن المقفع مع حكمتين آخرتين لأمير المؤمنين علیه السلام قال في الأولى مشفقاً على ولدهِ محمد بن الحنفية من الفقر:

«یَا بُنَيَّ إِنِّي أَخَافُ عَلَیْكَ اَلْفَقْرَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْهُ، فَإِنَّ اَلْفَقْرَ مَنْقَصَةٌ لِلدِّینِ، مَدْهَشَةٌ لِلْعَقْلِ، دَاعِیَةٌ لِلْمَقْتِ»(3).

قال ابن ميثم: «أمّا کونه منقصةً للدین فللإشتغالِ بهمّةِ وتحصیل قوام البدن عن العبادة، وکونه مدهشةً للعقل: أي محل دهشة العقل وحیرته وضیق الصدر به ظاهر، وکذلك کونه داعیة مقت الخلق لصاحبة»(4).

وقال علیه السلام في الثانیة:

«..وَمَنْ کَثُرَ کَلاَمُهُ کَثُرَ خَطَؤُهُ، وَمَنْ کَثُرَ خَطَؤُهُ قَلَّ حَیَاؤُهُ، وَمَنْ قَلَّ وَرَعُهُ، وَمَنْ قَلَّ وَرَعُهُ مَاتَ قَلْبُهُ دَخَلَ اَلنَّارَ..»(5).

لفّقَ ابن المقفع الحكمتين وذلك في حديثه عن الفقر، فقال: «والفقرُ داعیةٌ إلی صاحبهِ مقتَ الناسِ، وهو مسلبةٌ للعقلِ والمروءةِ، مذهبةٌ للعلمِ والأدبِ،

ص: 345


1- غرر الحكم ودرر الكلم 636
2- م. ن 651
3- نهج البلاغة 610
4- شرح نهج البلاغة لابن ميثم 50 / 4770
5- نهج البلاغة 614

ومعدنٌ للتهمةِ، ومجمعةٌ للبلايا. ومن نزل به الفقرُ والفاقةُ لم يجد بُدّاً من ترْكِ الحياءِ، ومَنْ ذَهبَ حياؤهُ ذهبَ سرورهُ، ومن ذهبَ سرورهُ مقتَ، ومن مقتَ أو ذي، ومن أوذي حزنَ، ومن حزنَ فقد ذهبَ عقلهُ»(1).

فالحكمة التي أمر فيها أمير المؤمنين علیه السلام ولَدهِ بالإستعاذة من الفقرِ بالله العزیز نجد منها عبارات واضحة في كلام ابن المقفع مع تقديم وتأخير، فقول الإمام علیه السلام:

«فإنّ الفقر.. داعية للمقت» جعله ابن المقفع في مقدّمة کلامه: «والفقر داعیة إلی صاحبه مقتَ النّاس».

وقوله علیه السلام: «مدهشة» أدقُّ في وصف عقل الفقیر من «مسلبة»، فالذي يصيبه الفقر یُدهش فكره، ويصاببِحَیرَةٍ من أمرهِ لا یُسلب عقله.

ومثلما عرفنا سلفاً - وكما نعرف لاحقاً - لا تكاد تمرّ حكمة واحدة من حكم أمیر المؤمنین علیه السلام عند ابن المقفع - إلاّ نادراً جدًّا - دون أن یتوسع علیها، أو یقدم لها، أو یفرّع منها، أو یضرب مثالاً علیها. وهو هنا بعد أن ذکر ما قاله الإمام توسع علیه بقوله: «مذهبةٌ للعلم ومعدن للتهمة، ومجمعة للبلایا».

أمّا حکمة الإمام الثانیة لا یَقل أثرها عن الأولی من حیث المفردات، والمعاني والتركيب، فقوله علیه السلام:

«..، وَمَنْ قلَّ حیاؤه قلَّ ورعه».

لها صدی بیّن في قول ابن المقفع: «ومَنْ ذهَبَ حیاؤه ذهب سروره» وهو في استعماله الفعل «ذهب» بدلاً من الفعل «قلَّ» عادَ إلی المبالغة غیر المحمودة

ص: 346


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 55 - 56

لأنَّ مَنْ يفتقر لا يعني أنّ حياءَه قد ذهب، ومثلما أكدّ على ذلك هو «لم یجد بدّاً من ترك الحیاء»، بل الحياء لربَّما يقلُّ إذا افتقر حامله، وعليه لو استعمل الفعل «قلَّ» مثلما وجده عند أمير البيان علیه السلام لکانَ أصوب.

أما صياغة الجملة وتركيبها القائم على افتتاحها ب «مَنْ» واتباعها بفعلٍ ماضٍ ثمّ اختتامها بنتيجةٍ معیّنه كقوله علیه السلام.

«... ومَنْ قلَّ وَرعُه ماتَ قلبُه».

فالجملة مكوّنّه من:

من الشرطية + فعل الشرط الماضي مع فاعله + جواب الشرط وفاعله وهو ماضٍ أيضاً.

فكل هذا نجده تماماً في قول ابن المقفع «ومَنْ ذهبَ حیاؤه ذَهَبَ سروره». الاّ أنّه وفي بعض الجمل تخلَّصَ من الفاعلین لأنه جاء بالفعل الماضي مبنیّاً للمجهول کقوله: «وَمَنْ مَقُتَ فقد أُذي».

وتجدر الإشارة إلى أنّ التشابه بين كلام ابن المقفع «ومَنْ نَزَلَ بهِ الفقر إلی قولهِ ذهبَ عقله» وبين حكمة الإمام الثانية أشار إليه - أيضاً - الدكتور محمد مهدي البصیر في قوله: «يخيلُ إليَّ أنّ ابن المقفّع يجاري بكلامه هذا كلاماً بليغاً للإمام علي - ثم ذكر الدكتور الحكمة - ولكن كم بين كلام الإمام علي وهذر ابن المقفع من فرق»(1).

وفي حكم عدة كان أمير المؤمنين علیه السلام ینهی عن الإستهانة بالخیر واستقلال الصغير والقليل منه، ومن ذلك قوله:

ص: 347


1- في الأدب العباسي 20 (الهامش)

«اِفْعَلُوا اَلْخَیْرَ وَلاَ تَحْقِرُوا مِنْهُ شَیْئاً، فَإِنَّ صَغِیرَهُ کَبِیرٌ وَقَلِیلَهُ کَثِیرٌ»(1).

وفي حکمةٍ أخری نهی عن تحقیر الخیر والشرِّ معاً؛ لإنّ الخیرَ وإنْ كان صغيراً فصغيره يسرُّ، والشر وإن كان ضؤولاً فضآلته تضرُّ، فقال في ذلك:

«لا تُحَقِّرَنَّ شّیْئاً مِنَ الخَیرِ وإِنْ صَغُرَ، فإنَّكَ إذا رَأیْتَهُ سَرَّكَ مَکَانُه، وَلا تُحَقِّرَنَّ شَیْئًا مِنَ الشَّرِّ وإنْ صَغُرَ، فإنَّكَ إذا رأیتَهُ سَاءَكَ مَکَانُه»(2).

نجد مضمون الحكمتين معاً وبعضاً من تراكيبهما في قول ابن المقفع «وعلی العاقل أن لا يستصغر شيئاً من الخطأ في الرأي، والزللِ في العلمِ، والإغفال في الأمور، فإنهُ من استصغر الصغير أوشكَ أن يجمعَ إليه صغيراً وصغيراً، فإن الصغير كبیرٌ.. ولم نر شيئاً قط إلا قد أتي من قبلِ الصغير المتهاونِ به، قد رأينا الملكَ يؤتى من العدو المحتقر به، ورأينا الصحة تؤتى من الداء الذي لا يحفلُ به، ورأينا الأنهار تنبشقُ من الجدول الذي يستخف بهِ»(3).

فنهي الإمام علي علیه السلام عن تحقیر الشر: «و لا تَحَقِّرَّنَّ شَیْئًا مِنَ الشَّرِّ». لا یختلف عنه رفض ابن المقفع لإستصغار الخطأ والزلل: «لا یستصغر شیئاً من الخطأ».

أمّا قول الإمام علي علیه السلام: «فإنَّ صغیره کبیر».

ضمّنه ابن المقفع بتحوير طفيف لما قال: «فإنَّ الصغیر کبیر».

ص: 348


1- نهج البلاغة 629
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 20 / 420
3- الأدب الكبير والأدب الصغير 23

وكعادته التي يأبى ابن المقفع مفارقتها مع كلام الإمام علي علیه السلام إلاّ نادراً. فهو لم يكتفِ بالتضمين، ولا التلفيق وحدهما، بل عمدَ إلى التوسع أيضاً على الحكمة العلوية. ومن طرقه بالتوسع ضرب الأمثال وهي هنا ثلاثة، لكنّها بمعنى واحد تماماً، ومنها قوله: «ورأینا الأنهار تنبثق من الجدول الذي يستخفُّ به». ومعنی امثل: لا تحقروا ولا تستصغروا الصغیر النافع لأنّ فیه نتیجة تسرُّ. وبالتالي فإن ابن المقفع قد استوحى هذا المثل تماماً ممّا لاجاء في الحكمة الثانية: «لا تُحَقِّرَنَّ شّیْئاً مِنَ الخَیرِ وإِنْ صَغُرَ، فإنَّكَ إذا رَأیْتَهُ سَرَّكَ مَکَانُه».

2 - وصیة وحکمة:

فمّما جاء في وصية أمير المؤمنين لولدهِ الحسن علیهم السلام:

«یَا بُنَيَّ اِجْعَلْ نَفْسَكَ مِیزَاناً فِیمَا بَیْنَكَ وَبَیْنَ غَیْرِكَ، فَأَحْبِبْ لِغَیْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاِکْرَهْ لَهُ مَا تَکْرَهُ لَها، وَلاَ تَظْلِمْ کَمَا لاَ تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ، وَأَحْسِنْ کَمَا تُحِبُّ أَنْ یُحْسَنَ إِلَیْكَ، وَاِسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُهُ مِنْ غَیْرِكَ، وَاِرْضَ مِنَ اَلنَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ، وَلاَ تَقُلْ مَا تَعْلَمُ، وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تُحِبُّ أَنْ یُقَالَ لَكَ»(1).

فهو يريد من ولدهِ الحسن علیه السلام أن یکون عادلاً بینهُ وبین غیره کما المیزان عادل لا یفضّل إحدی کفّتیهِ علی الکفة الأخری إلاّ بوزنٍ حقٍّ. وقال علیه السلام في هذا المعنی:

«أعْدلُ السیرَةِ أنْ تُعامِلَ النّاسَ بما تُحِبُّ أنْ یُعامِلوكَ بهِ»(2)

ص: 349


1- نهج البلاغة 462 - 463
2- غرر الحكم ودرر الكلم 203

لا یخرجُ قول ابن المقفع: «أعْدلُ السَّیرِ أنْ تقیسَ النّاسَ بنفسكَ، فلا تأتي إلیهم إلا ما ترضی أنْ یؤتی إلیكَ»(1) عن دائرة النصيين العلويين، فأول قوله: «أعْدلُ السَّیرِ أنْ تقیسَ النّاسَ» عن كلام الإمام علیه السلام:

«أعْدلُ السیرَةِ أنْ تُعامِلَ النّاسَ».

فقد أبدل ابن المقفع «تعامل»ب «تقیس». إلاّ أنّ التحویر الذي أجراه ابن المقفع على مفردة «السیرة» وحولها إلی «السیر» لم یکن محموداً بنظر الباحث، کون هناك فرق شاسعٌ بين السيرة التي هي السُّنّة والطريقة(2)، وبين السير الذي هو الذهاب(3).

وبالتالي فإنَّ المعنى عند الطرفين لا تستقيم معه مفردة «السیر» بقدر مفردة «السیرة».

وباقي كلامه أخذه من الوصية إلاّ أنّهُ حذف منها «المیزان» الذي أعطی لوصية الإمام بعداً تصويریّاً جميلا إلاّ بوزنٍ حقٍّ. وكذلك لم نجد في كلام ابن المقفع طرق ومقاييس العدل تلك التي وجدناها في كلام الإمام علي علیه السلام:

- أن تُحب لغيرك ما تحبُّ لنفسك أن لاتَظْلِم كما تحب أن لاتُظلَم أن تستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك وتنبغي الإشارة بعد هذا إلى أن ما جاء في نهاية المقطع المذكور من الوصية:

«ولا تقل ما لا تعلم وإن قلَّ ما تعلم». لم یذکره ابن المقفع مع کلامه السابق، بل

ص: 350


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 40
2- ينظر: تاج العروس 6 / 559 مادة (سیر)
3- ينظر: لسان العرب 1 / 393 مادة (سیر)

أخره قلیلاً، فقال: «ومن ورع الرجل أنْ لا يقول ما لا يعلم»(1).

3 - حکمتین ورسالة:

قال أمير المؤمنين في إحدی حکمه:

«وَمَنِ اِقْتَصَرَ عَلَی بُلْغَةِ اَلْکَفَافِ فَقَدِ اِنْتَظَمَ اَلرَّاحَةَ، وَتَبَوَّأَ خَفْضَ اَلدَّعَةِ. وَاَلرَّغْبَةُ مِفْتَاحُ اَلنَّصَبِ، وَمَطِیَّةُ اَلتَّعَبِ»(2).

وقال في أخری: «مَنْ سألَ فوقَ قَدْرِهِ استَحَقَّ الحِرْمانَ»(3).

وقال في رسالة كتبها على عبد الله بن عباس:

«اَلدُّنْیَا دَارُ دُوَلٍ، فَمَا کَانَ مِنْهَا لَكَ أتَاكَ عَلَی ضَعفِكَ، وَمَا کَانَ مِنْهَا عَلَیْكَ لَمْ تَدْفَعْهُ بِقُوَّتِكَ»(4).

أتى ابن المقفع على هذه النصوص الثلاثة بتمامها ونظمها في عقد واحد، فقال: «اقتصارُ السعي إبقاءٌ للجمامِ، وفي بعد الهمةِ يكون النصب، ومن سأل فوق قدرتهِ استحق الحرمانَ، وسوءُ حملِ الغنى أن يكونَ عند الفرحِ مرحاً، وسوءُ حملِ الفاقةِ أن يكون عند الطلبِ شرهاً، وعارُ الفقر أهونُ من عار الغنى، والحاجةُ مع المحبةِ خیرٌ من الغنى مع البغضةِ. الدنيا دولٌ، فما كان لك منها أتاكَ على ضعفكَ، وما كان عليك لم تدفعهُ بقُوتكَ»(5).

ص: 351


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 43
2- نهج البلاغة 619
3- غرر الحكم ودرر الكلم 624
4- نهج البلاغة 542
5- الأدب الصغير والأدب الكبير 26

فالحكمة الأولى ضمنها ابن المقفع وجعلها في أوّلِ كلامه مع تحويرات طفيفة فقد أبدل «من اقتصر»ب «اقتصار السعي»، وأبدل «أنتظم الراحة» ب «إبقاء الجمام» والمعنی واحد تماماً في النصيين بخاصّة إذا عرفنا إبقاء الجمام بمعنى الراحة(1)، إلا أنّ ابن المقفع لم يبيِّن إلى أيِّ حدّ ينبغي معه الاقتصارفي السعي، لأنّ الاقتصار قد يصل إلى التقصير، وهذه الدرجة سلبية وليست إيجابية، وابن المقفع بهذا يكون حذف محوراً من حكمة الإمام لا غنى عنه لمن أراد الإجاة في هذا المعنی، وهو وقله «الکفاف». وعلى أية حال فالذي اقتصر واكتفى بما يكفيه من كدِّ يده ولم يجعل نفسه وجسده يلهثان خلف الدنيا أورث «الراحة» بحسب تحوير ابن المقفع. أو «الجمام» بحسب تحویر ابن المقفع.

وفي حال لم یقتصر الساعي علی ما یکفیه وانتقاد إلی «الرغبة» بحسب تعبیر الإمام علیه السلام والتي حولها ابن المقفع إلى «بعد الهمة»، فحینئذ تکون النتیجة بإتفاق الطرفین هي «النصب» أي التعب الشدید.

وبطبيعة الإمام لم يترك معناه بدون فنٍّ بلاغيٍّ جميل وهو هنا «استعار للرغبة في الدنيا لفظ المفتاح باعتبار فتحه لباب التعب على الرّاغب، وكذلك لفظ المطية باعتبار استلزامها كالمطیّة المُتعِب رکوبها»(2).

أما حکمة الإمام الثانیة «مَنْ سألَ فئقَ قَدْرِهِ استَحَقَّ الحِرْمانَ»، فقد ضمّنها ابن المقفع لما قال: «من سأل فوق قدرته استحقَّ الحرمان»، ولیته لم ینله النصب لمّا أبدل «قدره»ب «قدرتهِ». وبالنسبة للنص الثالث فقد ضمنه ابن المقفع بنصِّه في آخر كلامه المذكور.

ص: 352


1- ينظر: لسان العرب 12 / 105 مادة (لجم
2- شرح نهج البلاغة لابن ميثم 5 / 490

4 - نصوص عدّة متفرقة من العهد:

خصَّ ابن المقفع السلطان بنصيبٍ كبير من المواعظ في الأدب الصغير، وكان إنّ هناك خصال أربع ينبغي على السلطان إحرازها والتوثّق منها كيما تدول دولته، وتنفذ کلمته، فقال: «ولایةُ الناسِ بلاءٌ عظیمٌ، وعلی الوالي أربعُ خصالٍ هي أعمدةُ السلطانِ، وأركانهُ التي بها يقومُ وعليها يثبتُ: الاجتهادُ في التخیرِ، والمبالغةُ في التقدمِ، والتعهد الشديدُ، والجزاءُ العتيد»(1).

وبعد أن عدد هذه الأركان الأربعة بدأ بتفصيل کُلِّ منها. وهذه عن بكرة أبیها من عهد أمیر المؤمنین علیه السلام لمالك الأشتر (رضوان الله عليه) بالنص أو بالمعنى.

فقال ابن المقفع عن التخیّر: «فأما التخیُر للعمالِ والوزراء فإنهُ نظامُ الأمرِ ووضعُ مؤونةِ البعيد المنتشر... ولعل عُمّالَ العاملِ وعمّالَ عُمّالهِ يبلغونَ عدداً كثيراً، فمن تبیّن التّخیّرَ فقد أخذ بسببٍ وثيقٍ، ومن أسَّس أمرهُ على غیرِ ذلك لم يجدِ لبنائه قواماً»(2).

فالعمال كثيرون، ولا يمكن استعمالهم بأجمعهم ولكن السبب الوثيق هو تخیّرهم، وهذا كقول أمير المؤمنين علیه السلام في عهدهِ للأشتر:

«ثمُّ انْظُرْ في أُمُورِ عُمَّالِكَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ [اِخْتِیَاراً] اِخْتِبَاراً، وَلاَ تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وَأَثَرَةً»(3).

وهذا التَّخیّر يحتاج إلى توكيد حتى يتم بنجاح، قال ابن المقفع: «وأما التقدیم

ص: 353


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 25
2- م. ن 25
3- نهج البلاغة 509

.والتّوکیدُ، فإنّهُ ليس کُلُّ ذي لُبٍّ أو ذي أمانةٍ يعرفُ وجوهَ الأمورِ والأعمالِ»(1).

فهو یری هنا أنّ العقل والأمانة غير كافيتين للتعّرف على وجوه الأمور الصحيحة وتأدية الأعمال بشكلها الحسن. وكأنه هنا أراد أن يقول ما قاله أمير المؤمنین علیه السلام بعد أن أمر بتخیّر العمال أيضًا:

«وَتَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ اَلتَّجْرِبَةِ، وَاَلْحَیَاءِ، مِنْ أَهْلِ اَلْبُیُوتَاتِ اَلصَّالِحَةِ، وَاَلْقَدَمِ فِي اَلْإِسْلاَمِ اَلْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّهُمْ أَکْرَمُ أَخْلاَقاً، وَأصَحُّ أَعْرَاضاً، وَأَقَلُّ فِي اَلْمَطَامِعِ إِشْرَاقاً، وَأَبْلَغُ فِي عَوَاقِبِ اَلْأُمُورِ نَظَراً»(2).

وبعد التوكيد قال ابن المقفع عن التّعهُّدِ: «وأما التعهدُ، فإن الوالي إذا فعلَ ذلكَ كان سميعاً بصيراً، وإن العامل إذا فُعل ذلك به كان متحصناً حريزاً»(3).

وبعد أسطرٍ معدودات كرّرَ القول مجدداً في التعهَد قائلاً: «ثم علی الملوكِ،.. تعاهدُ عمالهم وتفقد أمورِهِمْ»(4).

وهذا الكلام نظيره قول أمير المؤمنين علیه السلام:

«ثُمَّ تنقَّدْ من اُمُورِهم ما یتفقَّدُ الوَلَدِان مِنْ وَلَدِهِما... ولا تحقرَنَّ لطفًا تعاهدتم به وإن قلَّ»(5).

فالمعنى واحد بين الكلاميين وهو التأكيد على تعهُّد وتفقُّد الولاة لما في التعهد

ص: 354


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 25
2- نهج البلاغة 509
3- الأدب الصغير والأدب الكبير 25
4- م. ن 26
5- نهج البلاغة 506 - 507

والمحاسبة من مردود إيجابي على إدارة الدولة ونجاح أعمالها. وليس المعنى هو نقطة الأشتراك الوحيد بين النصوص، بل ثمة هناك جمل علوية نجدها في حديث ابن المقفع، کقول الإمام: «تفقَّدْ من اُمُورِهم» وعند ابن المقفع: «وتفقد أمورِهِمْ» والفرق أنّ التفقد جاءَ في كلام الإمام علیه السلام فعلُ أمرِ لزیادة التأکید علیه، بینما جاء عندَ ابن المقفع اسم وهو مبتدأ مؤخر وخبره شبه الجملة «علی الملوك». ولعله فعل هذا التقديم والتأخير طمعاً في التأكيد أيضاً.

وکقوله علیه السلام: «تعاهدتهم» فالضمير «الهاء» هنا عائدٌ علی العُمّال أو الأصحاب والميم علامة الجمع، أي تعاهدْتَ عمالك أو اصحابك، وبالتالي لا فرق فيه عن قول ابن المقفع: «تعاهُدُ عُمّالِهم». فتراه عمد إلى الضمير الذي ورد في كلام الإمام وأرجعه إلی الإسم الصریح، وما أکثر تعامل ابن المقفع بهذه الطریقة مع کلام أمیر المؤمنین علیه السلام.

أمّا رابع الأركان السلطانية فهو الجزاء وإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقّه، فجاء في الأدب الصغیر: «وأما الجزاء فإنهُ تثبيتُ المحسنِ والراحةُ من المسيء»(1). ثم بعد أسطرٍ قليلة عاد ابن المقفع وكرّر هذا المعنى بتفصيلٍ أكثر، قائلاً: «ثم علیهم، بعد ذلكَ، أن لا يتركوا محسناً بغیرِ جزاءٍ، ولا يقروا مسيئاً، ولا عاجزاً على الإساءةِ والعجزِ، فإنهم إن تركوا ذلك، تهاونَ المحسنُ، واجترأ المسيءُ، وفسد الأمرُ، وضاعَ العملُ»(2).

ومن دون أدنى شكّ فإن هذا الكلام علوي المنبع والأصل، إذ وردنا عن الدوحة العلوية بطريقين:

ص: 355


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 25
2- م. ن 26

الأول:

ما رواه أبو هلال العسكري (ت 395 ) في كتابه الصناعتين وبسندٍ متصل إلى أمیر المؤمنین علیه السلام - سبق أن تحدّث عنه الباحث - فقال: «ومن حسن الإتباع أیضاً قول إبراهيم بن العباس حيث كتب: إذا كان للمحسن من الثواب ما يقنعه، وللمسيئ من العقاب ما يقمعه، ازداد المحسن في الإحسان رغبة، وانقاد المسئ للحق رهبة. أخذه من قول عليّ بن أبي طالب (رضى الله عنه) أخبرنا به أبو أحمد، قال أخبرنا أبو بكر الجوهري، قال: أخبرنا أبو يعلى المنقري، قال: أخبرنا العلاء بن الفضل بن جرير قال: قال علي بن أبي طالب رضى الله عنه: يجب على الوالي أن يتعهّد أموره، ويتفقّد أعوانه، حتى لا يخفى عليه إحسان محسن، ولا إساءة مسيء. ثم لا يترك واحداً منهما بغير جزاء، فإنْ ترك ذلك تهاون المحسن، واجترأ المسيء، وفسد الأمر، وضاع العمل»(1).

وعليه فإن ما جاء في قولِ ابن المقفع الأخير معتمدٌ اعتماداً كلیّاًا على قول الإمام المذكور.

الثاني:

ما رواه الرضي (رضي الله عنه) في نهج البلاغة. فقد ورَدَ في العهد:

«وَلاَ یَکُونَنَّ اَلْمُحْسِنُ وَاَلْمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِیداً لِأَهْلِ اَلْإِحْسَانِ فِي اَلْإِحْسَانِ، وَتَدْرِیباً لِأَهْلِ اَلْإِسَاءَةِ، وَأَلْزِمْ کُلاًّ مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ»(2).

ص: 356


1- الصناعتين 220
2- نهج البلاغة 504

نهی علیه السلام واليه أن يكون المحسن والمسيء بمنزلةٍ سواء، وسِرُّ ذلك إنَّ أكثرَ فعلِ الإحسان إنّما یکون طلبًا للمجازاة خصوصًا من الولاة. فإن رأی المُحسِنُ مساواة منزلته بمنزلة المسيء انصرف عن الإحسان والجد والإجتهاد إلى الراحة، وكذلك أكثر التاركين للإساءة إنّما يتركونها خوافاً من الولاة(1). لا بدافع ذاتي وإيمان باطني بالفضيلة. وابن المقفع حينما إجترحَ أن لا يتركَ المحسن ولا المسيء من دون جزاءٍ يستحقّه سارَ تماماً على نصيحة أمير المؤمنين علیه السلام في ذلك.

ثالثاً: البسط

لقد كان ابن المقفع مولعاً ببسط كلام أمير المؤمنين علیه السلام حتی یمکن عدَّ هذا المظهر من أبين مظاهر تأثر ابن المقفع بكلام الإمام علیه السلام، حیث کان یأتي علی الحكمة العلوية فيجعلها في مقدمة كلامه، ثمَّ يتوسَّع فيها كثيراً وكأنه يشرحها، أو يجعلها منطلقاً لتفرعات عدّة، أو يضرب عليها أمثلة توضيحية. وشواهد هذا كثيرة جدّاً منها قوله:

«أفضلُ ما یُورثُ الآباءُ الأبناء، الثناءُ الحسنُ والأدبُ النافعُ والإخوانُ الصالحون»(2).

فصدر كلامه تضمين لحكمة أمير المؤمنين علیه السلام:

«خَیْرَ مَا وَرَّثَ الآباءُ الأبْنَاءَ الأَدَبُ»(3).

وأول ما فعله ابن المقفع أبدل اسم التفضیل «خیر» في حکمة الإمام بإسم

ص: 357


1- ينظر: شرح نهج البلاغة لابن ميثم 5 / 339
2- الأدب الصغير والدب الكبير 34
3- غرر الحكم ودرر الكلم 359

تفضیل أیضاً «أفضل»، وهذا الذي هو أفضل إرث يقدمه الأب لابنه، وهو «الأدب» بحسب تعبير الإمام توسَّع عليه ابن المقفع لما قال: «الثناءُ الحسنُ والأدبُ النافعُ والإخوانُ الصالحون».

وبطريقة مماثلة تعامل ابن المقفع مع حكمة لأمير المؤمنين علیه السلام نهی فیها عن عيب معيب متمثِّل بخفاء عيوب المرء على نفسه، فقال:

«مِنْ أشدِّ عُیُوبِ المَرْءِ أنْ تخفَی عَلَیْهِ عُیُوبُه»(1).

ضمن ابن المقفع هذه الحكمة، ثمَّ توسَّع عليها، فقال: «من أشد عیوبِ الإنسانِ خفاءً عيوبهُ عليه. فإن من خفي عليه عيبه خفيت عليه محاسنُ غيره، ومن خفي عليه عيبُ نفسه ومحاسنُ غيرهِ فلن يقلعَ عن عيبهِ الذي لا يعرفُ، ولن ينال محاسنَ غيرهِ التي لا يبصرُ أبداً»(2).

فعسى أن لا يكون ابن المقفع قد تكلّف في تغييراته التي أجراها على جانب من الحکمة وبخاصة لمّا أبْدَلَ «المرء»ب «الإنسان»، ولما أبدلَ المصدر المؤول في کلام الإمام «أن تخفی» والذي هو في محل تقدير خفاء ب «خفاءً». ثمَّ ما أجراه من تقدیم وتأخیر علی ذیل الحکمة «عليه عيوبه» لیجعله «عیوبه علیه» أمّا قوله علیه السلام: «من أشد عیوب» فقد أبقاه ابن المقفع على حاله «من أشد عيوب»، ثمّ بعد ذلك انطلق ابن المقفع من الحكمة المذكورة ليبیّن إنّ مَنْ لا يستطيع تحديد عيبه لا يتمكن من معرفة محاسن غيره، و مَنْ كان هكذا لا إصلاح ذاتي ولا تأثر خارجي، فسيكون بؤرة للعيوب.

ومن شدّة تأثرهِ بکلام أمیر المؤمنین علیه السلام فعل كما فعل في الأدب الكبير، إذ

ص: 358


1- م. ن 673
2- الأدب الصغير والأدب الكبير 50

جعل ابن المقفع مسكَ ختام الأدب الصغير حكمةً علوية جاءَ فيها: «لا یَزَالُ المَرْءُ مُسْتَمِراً مَا لَمْ یَعْثرْ فإذا عَثَرَ مَرَّة لجَّ به العِثَارُ وَلوْ کانَ في جَدَدٍ»(1). الجدد يعني الأرض المستوية(2).

فإن كان ابن المقفع قد ضمّن الحكمتين السالفتين دون الإشارة إلى أنَّها ليست له، فهو هنا ضمن الحكمة المذكورة، ثم توسّعَ عليها، مشيراً إلى أنّها ليست له فقال: «لا یزال الرجلُ مستمراً ما لم یعثر، فإذا عثر مرة واحدةً في أرضِ الخبارِ لج بهِ العثارُ، وإن مشى في جدد لأن هذا الإنسان موكلٌ به البلاءُ، فلا يزالُ في تصرفٍ وفي تقلبٍ لا يدومُ له شيءٌ ولا يثبت معهُ، كما لا يدومُ لطالعِ النجومِ طلوعُهُ ولا لآفلها أفولهُ. ولكنها في تقلبٍ وتعاقُبٍ: فلا يزال الطالعُ يکُونَ آفلاً طالعاً»(3).

وبعد أن ضمن الحكمة علل ابن المقفع ما ورد فيها، وذلك لما أکّدَ على أنّ الإنسان غرض للبلاء، ومن البلاء أنّه لا يقرُّ على حالةٍ واحدة، بل هو في انقضاء وتقلب من حالٍ إلى آخر مثل النجوم: فلا طالعها يبقى طالعاً ولا آفلها يبقى آفلاً. وبهذا التعليل - الذي يفوق الحكمة حجماً - يكمن البسط الذي أجراه ابن المقفع على حكمة أمير المؤمنين علیه السلام.

ومن تلك المواعظ العلوية التي تردد صداها عند ابن المقفع وبطريقة البسط أيضًا ما جاء في كتابٍ لأمير المؤمنين علیه السلام بعثه إلی عبد الله بن عبّاس، قال فيه:

ص: 359


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 20 / 446
2- ينظر: لسان العرب 3 / 107 مادة (جدد)
3- الأدب الصغير والأدب الكبير 60

«أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اَلْمَرْءَ قَدْ یَسُرُّهُ دَرْكُ مَا لَمْ یَکُنْ لِیَفُوتَهُ، وَیَسُوؤُهُ فَوْتُ مَا لَمْ یَکُنْ لِیُدْرِکَهُ، فَلْیَکُنْ سُرُورُكَ بِمَا نِلْتَ مِنْ آخِرَتِكَ، وَلْیَکُنْ أَسَفُكَ عَلَی مَا فَاتَكَ مِنْهَا؛ وَمَا نِلْتَ مِنْ دُنْیَاكَ فَلاَ تُکْثِرْ بِهِ فَرَحاً، وَمَا فَاتَكَ مِن دُنْیَاكَ فَلاَ تُکْثِرْ بِهِ فَرَحاً، وَمَا فَاتَكَ مِنْهَا فَلاَ تَأْسَ عَلَیْهِ جَزَعاً، وَلْیَکُنْ هَمُّكَ فِیمَا بَعْدَ اَلْمَوْتِ»(1).

وكان ابن عبّاس يقول عن هذه الحكمة: «ما انتفعت بکلامٍ بعد رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم کانتفاعي بهذا الکلام»(2).

وحاصل كلامه علیه السلام النهي عن شدَّة الفرح بما یحصل من المطالب الدنیویة وأشار إلی هذا بقوله: «إنّ المرء إلی قوله لیدرکه» وهو خبر في معنی النهي، کما نهی أیضاً عن شدة الأسف علی ما یفوت من تلك المطالب، ولفظ «ما» في الموضعین یراد به المطالب الدنیویة(3).

اعتمد ابن المقفع على هذا المعنى وبعض ألفاظه، فقال: «وعلی العاقلِ أن لا یحزن علی شيءٍ فاتهُ من الدنیا أو تولی، وأن ینزلَ ما أصابهُ من ذلك ثم انقطعَ عنهُ منزلةَ ما لم يصب، وينزل ما طلبَ من ذلك ثم لم يدركهُ منزلة ما لم يطلب، ولا يدع حظهُ من السرورِ بما أقبل منها، ولا يبلغنّ ذلك سُكراً ولا طغياناً، فإن مع السكر النسيانَ، ومع الطغيانِ التهاونَ، ومن نسي وتهاون خسر»(4).

أجری ابن المقفع عدّة تحویرات علی رسالة أمیر المؤمنین علیه السلام المذکورة، وأولها التقدیم والتأخیر. فما ختم به الإمام رسالته:

ص: 360


1- نهج البلاغة 441
2- نهج البلاغة 441
3- ينظر: شرح نهج البلاغة لابن ميثم 4 / 223 - 224
4- الأدب الصغير والأدب الكبير 21

«وَمَا فَاتَكَ مِنْهَا فَلاَ تَأْسَ عَلَیْهِ جَزَعاً».

جعله ابن المقفع أولاً: «أن لا یحزن علی شيء فاته من الدنیا أو تولی».

ولم يكتفِ ابن المقفع بأن قدم وأخر بل عمد - في الفقرة المذكورة - إلى المقطع نفسه وقدم وآخّر فیه أیضاً، فقول الإمام: «وما فاتك منها» أي الدنيا أخّره ابن المقطع، فقال: «فاته من الدنیا». وأمّا قوله علیه السلام: «فلا تأس» قدّمه ابن المقفع وأبدله ب«لا تحزن».

ثم زاد على المقطع العلوي لفظة واحدة وهي» تولّی» ولعلها تشیر إلی ما کان بحیازة الفرد ثم فُقِدَ، أما «فات» فمعناه ما یمّر علی الإنسان من خیرات الدنیا دونما یدرك منه الإنسان شیئاً.

وقبل هذا المقطع وجدنا الإمام قد قال: «وَمَا نِلْتَ مِنْ دُنْیَاكَ فَلاَ تُکْثِرْ بِهِ فَرَحاً» ومعناه واضح: لا تكثروا السرور بما أقبل عليكم من دنياكم. وهذا لم يقدمه ابن المقفع بل بسطه بسطاً واضحاً لما قال: «ولا یدع حظهُ من السرورِ بما أقبل منها، ولا یبلغن ذلك سُکراً ولا طغياناً، فإنَّ مع السكر النسيانَ، ومع الطغیانِ التهاونَ، ومن نسي وتهاون خسر». فقبل أن يتوسع على المقطع العلوي المذكور ضمّن ابن المقفع كلماته - أي المقطع - كلمة كلمة ولكن بتغيير ترتيبها وثوبها فقط، إذ حافظ على أصل المعنى تماما كمحافظته على الصياغة أيضا وذلك لما أبدل:

الاسم «الفرح»ب الاسم «سرور».

وما الموصولة والفعل »ما نلت» بما الموصولة والفعل »ما أقبل».

وشبه الجملة «من دنیاك» بشبه الجملة «منها».

ص: 361

وهنا انكشف تلاعب ابن المقفع أكثر فقبل قليل - في هذهِ الحكمة - لما وجد الإمام علیه السلام قال: «منها» قال هو: «من الدنيا»، وهنا قال الإمام علیه السلام: «من دنیاك» قال هو: «منها».

والحرف ولا الناهية والفعل المضارع «فلا تکثر» بالحرف ولا الناهیة والفعل المضارع «ولا یبلغنَّ».

و «به»ب «ذلك» وهما معاً إشارة إلى ما أقبل من خيرات الدنيا.

وبعد هذه التغيرات الشكلية توسع ابن المقفع بما هو مذكور، وذلك لما نهى عن وصول الفرح إلى درجة شديدة أسماها بالسكر والطغيان، عادًّا الأوّل یجرُّ إلی النسیان والثاني يجرُّ إلى الطغيان، وهما معاً يورثان الخسران.

ويبدو أنّ ابن المقفع قد أطال النظر في رسالة أمير المؤمنين علیه السلام هذه، إذ لم يهمل منها جانباً، وفي الوقت نفسه لم يترك ما أخذه من دون تغيير شكلي بحت، ففضلاً عمّا ذكر بقيت تراكيب وألفاظ في الرسالة لم يفرط ابن المقفع بها، بل غيّر ثوبها، فقد أبدل «لیدرکه» وهو بمعنی یصیبه ب«أصابه»، وأبدل «لیفوته» ب«إنقطع عنه». ومثلما وجد أمیرَ المؤمنين علیه السلام قد استعمل الترکیب «ما لم + فعل مضارع» مرتين استعمله هو مرتين أيضا وذلك لما قال: «ما لم یصب» و « ما لم يطلب».

وما أن انتهى ابن المقفع من الرسالة العلوية السالفة، اتجه بعدها إلى جانب من وصیة أمیر المؤمنین علیه السلام - رواها الطوسي (ت 450 ه) بسندٍ تام - لولدهِ الحسن علیهم السلام، منها:

«یا بنيَّ لِلْمؤْمِنِ ثَلاَثُ سَاعَاتٍ: سَاعَةٌ یُنَاجِي فِیهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٌ یُحاسِبُ

ص: 362

فِيها نَفْسَه، وَسَاعَةٌ یُخَلو فیهَا بَیْنَ نَفْسِهِ وَلَذَّتِهَا فِیمَا یَحِلُّ وَیَجْمُلُ، وَلَیْسَ لِلْمؤمنِ یَدٌ من أنْ یَکُونَ شَاخِصاً فِي ثَلاثٍ: مَرَمَّةٍ لِمَعَاشٍ أَوْ خُطْوَةٍ فِي مَعَادٍ أَوْ لَذَّةٍ فِي غَیْرِ مُحَرَّمٍ»(1).

وهذا التقسيم الجامع بين الدين والدنيا، والمانع من تشتيت الوقت الذي يمّكن عدّه أفضل منهاج عملٍ للمرء العاقل، ضمّنه ابن المقفع بطريقته المفضلة القائمة على التوسع، فقال: «علی العاقل، ما لم یکن مغلوباً علی نفسه، أن لا یشغلهُ شغلٌ عن أربعِ ساعاتٍ: ساعةٍ يرفعُ فيها حاجتهُ إلى ربهِ، وساعةٍ يحاسبُ فيها نفسهُ، وساعةٍ يفضي فيها إلى إخوانهِ وثقاته الذين يصدقونه عن غيوبهِ ويصونوهُ في أمرهِ، وساعةٍ يُخلي فيها بين نفسهِ وبين لذتها مما يحل ويجملُ، فإن هذه الساعةَ عونٌ على الساعات الأخرِ، وإنّ استجمام القلوبِ وتوديعها زيادةُ قوةٍ لها وفضل ثلاثٍ: تزودٍ لمعادٍ، أو مرمةٍ بلغةٍ. وعلى العاقلِ أن لا يكونَ راغباً إلا في إحدی ثلاثٍ: تزود لمعادٍ، أو مرمةٍ لمعاش، أو لذّةٍ في غیر محرمٍ»(2).

فأول الزيادات إن ابن المقفع جعل الساعات أربعاً بدلاً من ثلاث مع تغيير على الأولى فقط.

أمّا الساعة الأولى التي وجه الإمام علي علیه السلام إلی أن تکون لمناجاة الله - سبحانه وتعالى - حوّرَ فيها ابن المقفع تحويراً لم يكن ممدوحاً وذلك لما عدها لرفع الحاجة؛ فكأنّه إذا لم تكن حاجة إلى الله - تعالى - فإنّ ساعة الإتصال بهِ ستنتفي أي بإنتفاء سببها، وهذا النوع من العبادة أسماها أمير المؤمنين علیه السلام بعبادة التّجار، لما قال:

ص: 363


1- أمالي الطوسي 147
2- الأدب الصغير والأدب الكبير 22

«إنّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجّار..»(1).

أما الساعة الثانية عند ابن المقفع فهي ساعة الإمام علي علیه السلام الثانیة بنصّها، وهنا ابن المقفع وجد مجالاً ليزيد الساعة التي دعا فيها إلى الإفضاء إلى الإخوان والأصدقاء. وبالنسبة للساعة الرابعة فهي تضمين لساعة أمير المؤمنين علیه السلام الثالثة، وفيها أيضاً يكمن التوسع الآخر الذي قام بهِ ابن المقفع وذلك لما عدّ هذه الساعة ممیّزة، فهي عنده عون على الساعات الآخر لما فيها من راحة للقلوب واطمئنان لها.

وبهذه الطريقة المميزة والغريبة - القائمة على تجزئة الحكمة والتوسع عليها - تعامل ابن المقفع مع الحكمة العلوية التي تقول:

«مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً فَلْیَبْدَأْ بِتَعْلِیمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِیمِ غَیْرِهِ، وَلْیَکُنْ تَأْدِیبُهُ بِسِیرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِیبِهِ بِلِسَانِهِ؛ وَمُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَمُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالْإِجْلاَلِ مِنْ مُعَلِّمِ اَلنَّاسِ وَمُؤَدِّبِهِمْ»(2).

فقد أوردها بتمامها في الأدب الصغير، فقال: «ومن نصبَ للناسِ إماماً في الدينِ، فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه وتقويمها في السيرة، والطعمةِ، والرأي، واللفظ، والأخدانِ، فيكن تعليمهُ بسيرته أبلغَ من تعليمه بلسانهِ، فإنه کما أن کلام الحکمةِ یونقُ الأسماعَ، فكذلكَ عملُ الحكمةِ يروقُ العيونَ والقلوبَ. ومعلمُ نفسه ومؤدبها أحق بالإجلالِ والتفضيلِ من معلمِ الناسِ ومؤدبهم»(3).

ص: 364


1- نهج البلاغة 592
2- نهج البلاغة 562
3- الأدب الصغير والأدب الكبير 24

ومثلما بانَ فإنّ ابن المقفع قد جعل الحكمة ثلاثة مقاطع يفصل المقطع عن أخيه بزيادة معينة.

فأوّل کلامه: «من نصبَ نفسهُ للناسِ إِماماً في الدين» بنصه عن الحكمة: «مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً» غیر إنّ ابن المقفع زاد على مقطع الحكمة شبه الجملة «في الدین»، وهذه الزیادة لم تكن موفّقة؛ لأنّها ضیّقت دلالة هذا المعنى الجميل وحصرته بأئمة الدين فقط. فإمام الدين في نظر ابن المقفع هو وحده من يبدأ بتعليم نفسه ثمّ يعلّم الآخرين، بینما أمیر المؤمنین علیه السلام ذکر کلمة «إماماً» دون أن يقرنها بعمل معیّن، أو بتخصّص ما، بل جعلها مفتوحة الدلالة؛ لأنّه أراد لكلِّ إمام - في أيّ مكانٍ حلِّ وأيّ عملٍ عمل في الدین أو غیره - أنْ یکون قدوةً یُقتدی بهِ من خلال تعليم نفسه أوّلاً، ثمَّ تعليم غيرهِ تعليماً صائباً ثانياً. ومن البسط أيضاً على هذه الفقرة من الحكمة أنْ بیّن ابن المقفع بعض الطرق التي يمكن للإمام أنْ يكون قدوة فيها كتقويم النفس «في السيرة، والطّعمة، والرأي، واللفظ، والأخدان».

وبعد هذا البسط عادَ للحكمة ثانيةً ليضمن منها قول الإمام علیه السلام:

«وَلْیَکُنْ تَأْدِیبُهُ بِسِیرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِیبِهِ بِلِسَانِهِ».

وبتحوير أقل من القليل: «فیکون تعلیمه بسیرته أبلغ من تعلیمه بلسانه».

ثم بسط هذا أيضاً، وذلك لمّا ضرب مثلاً توضيحیّاً على أنَّ التعليم بالفعل أبلغ أثراً من التعلیم بالقول: «فإنّه کما أنّ کلام الحکمة مفاده إذا كان قول الحكمة يعجب الأسماع؛ فإنّ فعلها يستهوي القلوب.

ثم عادَ ثالثة إلى الحكمة ليضمِّن ما تبقى منها حرفیّاً، ويختم به كلامه.

ص: 365

وهكذا كان ابن المقفع يتخیّر ما شاء من حكم أمير البيان علیه السلام، ویتوسَّع علیها بما شاء. وهذهِ المرّة أتی علی جانب من حکمة للإمام علي علیه السلام - أوصی بها کمیل بن زیاد - جاء فیه:

«یَا کُمَیْلُ اَلْعِلْمُ خَیْرٌ مِنَ اَلْمَالِ، اَلْعِلمُ یَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ اَلْمَالَ. وَاَلْمَالُ تَنْقُصُهُ اَلنَّفَقَةُ، وَاَلْعِلْمُ یَزْکُوا عَلَی اَۀْإِنْفَاقِ، وَصَنِیعُ اَلْمَالِ یَزُولُ بِزَوَالِهِ. یَا کُمَیْلَ بْنَ زِیَادٍ مَعْرِفَةُ اَلْعِلْمِ دِینٌ یُدَانُ بِهِ، بِهِ یَکْسِبُ اَلْإِنْسَانُ اَلطَّاعَةَ فِي حَیَاتِهِ، وَجَمِیلَ اَلْأُحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ. وَاَلْعِلْمُ حَاکِمٌ وَاَلْمَالُ مَحْکُومٌ عَلَیْهِ»(1).

فَضَّلَ الإمام علي علیه السلام العلم على المال، وقد برّر ذلك بتبريرات عدة: فالعلم يحرس حامله في حياته ويطيب ذكره بعد وفاته، بينما المال عاجز عن حراسة نفسه فيحتاج إلى مَنْ يحرسه، والعلم يزداد نماءً وسعة إذا أُنفق، بينما المال ينقص بقدر الإنفاق منه.

فهذه المعاني وبعض ألفاظها وإن كان ابن المقفع قد قدّم وأخر وحوّر فيها إلاّ أنّها تبقی روح قوله: «القسم الذي يقسمُ للناس ويمتعونَ به نحوان: فمنهُ حارسٌ ومنهُ محروس، فالحارسُ العقلُ، والمحروس المالُ، والعقلُ، بإذن اللهِ، هو الذي يحرزُ الحظ، ويؤنسُ الغربةَ، وينفي الفاقةَ، ويعرفُ النكرة، ويثمرُ المسبكبة، ويطيبُ الثمرةَ، ويوجهُ السوقةَ عند السلطانِ، ويستنزلُ للسلطانِ نصيحةَ السوقةِ، ويكسبُ الصديقَ، ويكفي العدو»(2).

فالقَسْم مصدر قَسَمَ الشيءَ يقسمه قسًما، وقسَّمه جزّأه، والقَسْم النصيب

ص: 366


1- نهج البلاغة 579
2- الأدب الصغير والأدب الكبير 28

والحظ(1)، وهو مثلما رآه ابن المقفع قسمان: منهُ «حارس» یحرُسُ غیره وهو العقل «فالحارسُ العقلُ»> وهذا عن كلام أمير المؤمنين علیه السلام:

«العلم يحرسك».

ومنه «محروس» وهو المال «والمحروس المال» بمعنى المال يحتاج إلى من يحرسه وهذا عن كلام أمير المؤمنين علیه السلام:

«وأنت تحرس المال».

غير أنّ ابن المقفع عمل تغیَرا طفيفاً حين أبدل الأفعال التي جاءت في كلام أمير المؤمنين علیه السلام بالمفاعیل:

يحرُس - حارس «اسم فاعل».

تحرُس - محروس «اسم مفعول».

ولمّا أبدل أیضاً «العلم»ب «العقل» بإعتبار العقل وعاء العلم، ثم أخذ يعدد محامد العقل، وقد جعل لها نصيباً یِمثل أكثر من نصف كلامهِ: «والعقل بإذن الله، هو الذي یحرز الحظ ويؤنس الغربة، ويفني الفاقة ويثمر المكسبة.. إلى آخر قوله».

وهذا هو مكمن التوسع الذي أجراه ابن المقفع على ما ذكره الإمام علي علیه السلام من محامد العلم:

«مَعْرِفَةُ اَلْعِلْمِ دِینٌ یُدَانُ بِهِ، بِهِ یَکْسِبُ اَلْإِنْسَانُ اَلطَّاعَةَ فِي حَیَاتِهِ، وَجَمِیلَ اَلْأُحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ».

وأما ما جاء في آخر حكمة الإمام علیه السلام:

ص: 367


1- ينظر: لسان العرب 12 / 478 مادة (قَسَمَ)

«وَاَلْعِلْمُ حَاکِمٌ، وَاَلْمَالُ مَحْکُومٌ عَلَیْهِ».

فقد قدمّه ابن المقفع إلى صدر حديثه لما قال: «فمنه حارِس، ومنه محروس».

رابعًا - الإیجاز

لقد وردت بعض الحكم العلوية بشكل موجزٍ في الأدب الصغير كورودها في الأدب الكبير، أي قليلة جدّاً، ومنها قوله علیه السلام:

«اِعْقِلُوا اَلْخَبَرَ إِذَا سَمِعْتُمُوهُ عَقْلَ رِعَایَةٍ لاَ عَقْلَ رِوَایَةٍ، فَإِنَّ رُوَاةَ اَلْعِلْمِ کَثِیرٌ، وَرُعَاتَهُ قَلِیلٌ»(1).

فهو ينهى عن كثرة رواية الكلام بدون هضمه، ويأمر بعقل الخبر عقل معرفة، مؤكِّداً على أنّ من یُراعي العلم ويتدبره قليل(2).

نظر ابن المقفع إلى الفقرة الثانية من الحكمة وأوجزها بصدر قوله:

«الواصفون أكثرُ من العارفين، والعارفون أكثرُ من الفاعلینَ»(3).

فقول ابن المقفع: «الواصفون» وهم مکثروا الکلام(4) إیجاز لکلام الإمام علیه السلام: «رواة العلم». وهؤلاء استعمل لهم الإمام صیغة المبالغة «کثیر» للدلالة علی کثرتهم، وهکذا ابن المقفع فقد استعمل لهم اسم التفضیل «أکثر» للدلالة علی كثرتهم أيضاً. أمّا «العارفون» وهم الذین عرفوا وهضموا ما يتكلمون، ففيه إيجاز لكلام الإمام علیه السلام: «رعاة

ص: 368


1- نهج البلاغة 567
2- ينظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 18 / 344 - 345
3- الأدب الصغير والأدب الكبير 16
4- ينظر: الأدب الصغير والأدب الكبير 16 (الهامش)

العلم» وهم الذین حملوا العلم حمل معرفة وتفکر وهؤلاء «قليل» بحسب وصف الإمام علیه السلام لهم، وبحسب وصف ابن المقفع هم أقل علی اعتبار إنّ الواصفین أکثر منهم، فهم إذاً أقلُّ من الواصفین.

وقال الإمام علي في وصیته لولدهِ الحسن علیهم السلام:

«اِعْلَمْ أَنَّ اَلْإِعْجَابَ ضِدُّ اَلصَّوَابِ وَآفَةُ اَلْأَلْبَابِ»(1).

فنهي الإمام علي علیه السلام هذا عن الإعجاب والذي یعني استحسان الفرد لعمله مطلقاً، وهو من أعظم الأخلاق مصيبة ومن اشد الآفات ضرراً على معتقدهِ(2) ضمّنه ابن المقفع بشكل موجز، فقال: «العُجبُ آفةُ العقلِ»(3).

فابن المقفع هنا - كعادتهِ مع كلام أمير المؤمنين علیه السلام - غیّر شکلیّاً لما أبدل «الإعجاب»ب «العجب» ولمّا حوّل «الألباب» إلی مرادفها «العقل». وعلى الرغم من إنّ المعنى واحد والكلمات هي هيَ إلاّ أنّ ابن المقفع بإيجازه هذا ضيّع ذلك التناغم الصوتي والوقع المحبّب المتأتّي من سجع الألفاظ في الحكمة العلوية «الإعجاب - الصواب - الألباب».

وللموّدّةِ نصيبٌ في وصايا الوصيِّ علیه السلام، فقد عدّها أي الموّدة غنیّةً عن القرابة والقرابة فقيرةُ إليها. وأكد هذا في غير ما حكمةٍ

ص: 369


1- نهج البلاغة 463
2- ينظر: شرح نهج البلاغة لمحمد عبده 3 / 427
3- الأدب الصغير والأدب الكبير 34

من حكمه، ومنها قوله:

«...وَاَلْقَرَابَةُ إِلَی اَلْمَوَدَّةِ أَحْوَجُ مِنَ اَلْمَوَدَّةِ إِلَی اَلْقَرَابَةِ»(1) أوجز ابن المقفع هذهِ الحكمة بوضوح فقال: «والقرابةُ تَبعٌ للمودّة»(2) ولكن لا أری في حکمة ابن المقفع تلك الدقة العلویة.

نعم فالقرابة تحتاج إلى الموّدة - مثلما قال أمير المؤمنين علیه السلام - کي تثمر وتترسخ، ولكن ليست القرابة تبع للموّدة مثلما قال ابن المقفع، فالمودة لا تؤثر بالقرابة، لأن القرابة تبع للنسب، بل تأثيرها ينحصر على العلاقة ودوامها.

هذا ما عثرنا عليه من إيجاز لكلام أمير المؤمنين علیه السلام في الأدب الصغير، وهو بهذا قد ورد تماماً كورودهِ في الأدب الكبير أي قليل جدّاً، بينما البسط على العكس من ذلك إذ ورد في الأدبين بكثرة حتى إنَّ ابن المقفع بنفسه قد أشار إلى ذلك. ونری إنّ السبب الذي يقف وراء هذه الظاهرة عائدٌ لكلام أمير المؤمنين علیه السلام، فهو کلام مکتنز على صعيد المعنى، ومنظوم نظًما خاصّاً، وعليه فإنّ إيجازه غير ممكن لأنّ الأخير - الإيجاز -يستوجب الحذف، ولا يوجد في كلام أمير المؤمنين علیه السلام ما یمکن حذفه دون أن يحدث خللاً ما في النص. ولكن غزارة المعنى ودقّة الصياغة هذهِ في کلامهِ علیه السلام استوجبت - من اجل أن يفهم النص العلوي أكثر - الزيادة، وهذا ما أدركه ابن المقفع، فتوسع في كلام الإمام علي علیه السلام کثیراً. ولهذا السبب أیضاً کثُر شرح کلام الإمام علي علیه السلام، لا سيما ماجُمِع منه في كتاب (نهج البلاغة).

ص: 370


1- نهج البلاغة 608
2- الأدب الصغير والأدب الكبير 45

وبعد هذه نعود للأدب الصغیر لنبیّن - تبياناّ هاماً - إنَّ من هذه الحروف أو كلام الصالحين الذي تحدّث عنه ابن المقفع وأقرَّ بتأثرهِ بهِ عائد للرسول الأکرم صلی الله علیه وآله وسلم فمن وصية له أوصى بها الإمام علي علیه السلام منها:

«یا عليُّ إنّه.. لا عَقْلَ کالتَّدْبِیرِ، وَلاَ حَسَبَ کَحُسنِ الخُلُق..»(1).

ضمّن ابن المقفع هذهِ المقطع من الوصية قائلاً: «وسمعت العلماء قالوا: لا عقل کالتدبیر، ولا ورع کالکف، ولا حسبَ کحسنِ الخلقِ»(2).

ومن هذه الحروف عائد للإمام السجاد، فوصّيتهِ التي أوصى بها هشام بن الحكم:

يا هِشامُ إنَّ العاقِلَ لا یُحدِّثَ مَنْ یخافُ تکذیبَهُ، ولا یسألُ من یخافُ مَنَعَهُ، ولا یَعِدُ ما لا یَقْدِرَ عَلَیهِ، ولا یرجو ما یُعنّفَ برجائهِ، ولا یَقدُمُ علی ما یخافُ فوتهُ بالعجْز عَنْهُ»(3) نجد لها حیّزاً في الأدب الصغیر: «لا تجدُ العاقلَ يحدثُ من يخافُ تكذيبهُ، ولا يسألُ من يخافُ منعهُ، ولا يعدُ بما لا يجدُ إنجازهُ، ولا يرجو ما يعنفُ برجائهِ، ولا یقدُمُ علی یخافُ العجزَ عنهُ...»(4) ومنها عائد للإمام جعفر بن محمد الصادق علیه السلام، فحکمته:

«العاقل لا يستخف بأحد. وأحق من لا يستخف به ثلاثة: العلماء، والسلطان

ص: 371


1- تحف العقول 27. وينظر: البصائر والذخائر 13
2- الأدب الصغير والأدب الكبير 57
3- الكافي 1 / 21. وینظر: بحار الأنوار 75 / 304. وهذا الحدیث یرویه ابن أبي الحدید عن الصادق علیه السلام، ینظر: شرح نهج البلاغة 18 / 310
4- الأدب الصغير والأدب الكبير 47

والإخوان، لأنه من استخف بالعلماء أفسد دينه، ومن استخف بالسلطان أفسد دنياه، ومن استخف بالاخوان أفسد مروته»(1) نجدها في الأدب الصغير بتحوير طفيف: «لا یستخفُ ذو العقلِ بأحدٍ. وأحق من لم يستخف به ثلاثةٌ: الأتقياءُ والولاةُ والإخوانُ، فإنهُ من استخف بالأتقياء أهلك دينهُ، ومن استخف بالولاةِ أهلك دنياهُ، ومن استخف بالإخوانِ أفسد مروءتهُ»(2) وفي حكمة أخری قال الصادق علیه السلام:

«إذا هَمَمْتَ بِخیْرٍ فَبَادِر، فإنَّكَ لا تدري»(3).

فهذا الكلام الذي ُ عُدَّ جامعاً لوجوه المبادرة إلى فعل الخير قبل أن يحول حائل دون ذلك كالهرم المستلزم لضعف العقل والنية، والمرض، وفجأة الموت، ووسوسة الشيطان وغيرها(4)، ضمّنه ابن المقفع بنصّه، ثمَّ توسّع عليه، فقال: «إذا هممت بخیرٍ فبادر هواكَ، لا يغلبك، وإذا هممتَ بشرٍ فسوف هواك لعلك تظفرُ. فإن ما مضى من الأيامِ والساعاتِ على ذلك هو الغنمُ»(5) ومن شدة تأثر ابن المقفع بهذا الكلام عاد وكرّرهُ بمعناه، فقال: «اغتنم من الخير ما تعجلت، ومن الأهواء ما سوفت»(6).

ص: 372


1- تحف العقول 352
2- الأدب الصغير والدب الكبير 46
3- الكافي 2 / 142
4- ينظر: شرح أصول الكافي 8 / 416
5- الأدب الصغير والأدب الكبير 35
6- م 0 ن 46

وما دام ورد ذكر إمامنا الصادق علیه السلام فلا بُدَّ من معرفة إنّ ابن المقفع کان یجّلهُ ویقدسّهُ علیه السلام ففي خبر طويل - وبسند متّصل - ذكرهُ الشيخان الكليني، والصادق منه:» إنّ ابن المقفع رأي الصادق علیه السلام في الکعبة وهي مزدحمة بالحجاج فقال: ترون هذا الخلق - وأومأ بيدهِ إلى موضع الطواف - ما منهم أحد أوجب له إسم الإنسانية إلاّ ذلك الشيخ الجالس - يعني أبا عبد الله جعفر بن محمد علیهم السلام - فأمّا الباقون فرعاع وبهائم»(1).

وعلى أیّةِ حال، فإنّ الذي يهمنا هنا أكثر من غيره هو أنّ في هذه التأثرات بأئمة الهدی وبجدهم المصطفى، دليل تأكيد آخر على إسلامية الأشخاص الذين تأثر بهم ابن المقفع وأطری علیهم في مقدمتي الأدبين الكبير والصغير لا على أنّهم فرس أو يونانيّون.

ص: 373


1- الکافي 1 / 75. وینظر التوحید 126

ص: 374

المبحث الثالث: في رسالتي الصحابة

اشارة

ورسائل أخری

أولاً: أثره في رسالة الصحابة

رسالة الصّحابة، وسمِّيتْ بالهاشمية في بعض المصادر نسبةً لبني هاشم أجداد بني العباس(1)، رسالة ألّفها ابن المقفع وأرسلها إلى المنصور الدوانيقي. وتَعَدُّ هذه الرِّسالة - مثلما يراها الفاخوري - «من أروع ما کتبه ابن المقفّع في الحقلين الفكري والإجتماعي، وأنَّها من أجمل الدساتير المكتوبة بالّلغةِ العربیّة»(2) وکان موقف الکاتب فیها «موقف المصلح الّذي لا تفوته شاردة ولا

ص: 375


1- ينظر ابن المقفع بين ناقديه قديًما وحديثاً 53
2- ابن المقفع 26

واردة، المُصلح الّذي يعلِّل أسباب الداء و یُقدِّم الدواء، وذلك كلُّه في تقيَّةٍ ولينٍ وتحفظ»(1).

ولعلَّ كلمات ابن المقفّع التّي سطّرها في هذه الرسالة مع ما تحمله من إصلاحاتٍ جذریّة، أسهمت في توسيع هوّة الخلاف بينه وبين السلطة العباسية، وأنتجت التفكير في تصفيته جسدیّاً، وإلى هذا ذهب طه حسين بقوله: «لإبن المقفّعِ رِسالَةٌ أخشى أن تكون هي الّتي قتلته لأنها توشِكُ أنْ تكون برنامج ثورة، وهي موجّهةً إلى المنصور»(2).

تعرّضَ ابن المقفع في رسالته هذه إلى موضوعاتٍ عدة منها دينية إذ كان ينهى عن استعمال القياس والرأي في الدين، مشدّدَّا في ذلك ومؤكداً على أتَّباع الإمام الذي كان يراه منصَبًا إلهیًا، ومنها اقتصادية كالإهتمام بالخراج ومنبع الخراج الذي هو الأرض، ومنها عسكرية كالإهتمام بأمر الجند وتوفير ما يستحقونه، وغيرها من الأفكار العميقة والآراء الجريئة التي كان يمني نفسه بأن يأخذ الخليفة بها، لكن الخليفة فضّلَ التخلّص من منشئِها دون الأخذ بإصلاحاتهِ الجذرية.

وابن المقفع - مثلما يری الباحث - سارَ في مواطن کثیرة جدّاً من هذه الرسالة مقتَفیاً أثر العهد الخالد الذي کتبه أمیر المؤمنین علیه السلام إلى مالك الأشتر، وغير العهد، وأمامنا في هذا دليلان:

الأول: التشابهات الكبيرة والكثيرة في الأفكار العميقة وغير المبتذلة.

ص: 376


1- الجامع في تأريخ الأدب العربي 1 / 535
2- من حديث الشعر والنثر 46 - 47

الثاني: اعتراف ابن المقفع بأنّه لم يبقَ أمامه وأمام غيرهِ من الكتاب «في جلیلِ الأمر ولا صغيرهِ لقائلٍ بعدهم مقالٌ. وقد بقيت أشياءُ من لطائفِ الأمورِ فيها مواضعُ لصغارِ الفطنِ، مشتقةٌ من جسام حكمِ الأولینَ وقولهم»(1).

وكان على رأس هؤلاء الأولين أمير المؤمنين علیه السلام مثلما عرفنا ذلك في الأدبین الكبير والصغير وما سنعرفه لا حقاً في اليتيمة وغيرها. ومن تأثر بهذهِ الرتبة ويعترف بتلك الإعترافات طبيعي أن لا يكون تأثُّره في نتاج دون آخر، أوفي رسالة دون أُخری.

ورسالة الصحابة إحدی رسائله التي برزت بینهما وبین کلام الإمام علي علیه السلام تشابهات جمة. فمن حکمةٍ له علیه السلام بیّنَ فیها مَنْ هلكَ فیه من الناس، فقال:

«یهلِكُ فيَّ رجُلانِ: مُحِبٌّ مُفْرِطٌ، وباهِتٌ مُفتَرٍ»(2).

فقد شكا علیه السلام من الذین أفرطوا في حبّهِ حتی ألَّهوه، ثمَّ الذین بهتوه أي قالوا عليه ما لم يفعل(3) وكلاهما هالكان.

قال الرضي: «وهذا مثلُ قوله علیه السلام:

هَلَكَ فيَّ رجُلانِ: مُحِبٌّ غالٍ، ومبغضٌ قالٍ»(4).

أخذَ ابن المقفّع هذا، فقال: «فإنّ في ذلك الیومِ أخلاطاً: من

ص: 377


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 65
2- نهج البلاغة 636
3- ينظر: شرح نهج البلاغة لمحمد عبده 4 / 597
4- نهج البلاغة 636

رأسٍ مفرطٍ غالٍ، وتابعٍ متحیِّرٍ شاكٍّ»(1).

فما ابتدأ بهِ ابن المقفع «.. مفرطٍ غالٍ» تضمين من بداية حكمتي الإمام علیه السلام «محبٌّ غالٍ»، لكن ابن المقفع أهمل لفظة (محب) وهي ضرورية هنا، لأنّها توضِّح طبيعة هذهِ المغالاة والإفراط هل هي بإتجاه الحبِّ أم البغض؟ ثم بعد ذلك أبدل قول الإمام علیه السلام: «مبغضٍ قال» ب«متحیِّر شاكٍ» ولکن حتى وإن غير في الشق الثاني من كلامه إلاّ إنّ صياغة الحكمة العلوية مسيطرة تماماً على كلام ابن المقفع المذكور وذلك لمّا شکّله من ستَة أسماء منوّنة لا غير، وعند الإمام أربعة أسماء منوّنة لا غير وطبيعي هذا من دون المقدّمة التي قدم بها كلٌّ منهما لكلامه.

وتبقى أغلب التأثّرات في رسالة الصحابة هيَ بعهد الإمام علیه السلام لمالك الأشتر، فمّما جاء فيه:

«فَالْجُنَودُ بِإِذْنِ اَللهَّ، حُصُونُ اَلرَّعِیَّةِ، وَزَیْنُ اَلْوُلاَةِ، وَعِزُّ اَلدِّینِ، وَسُبُلُ اَلْأَمْنِ، وَلَیْسَ تَقُومُ اَلرَّعِیَّةُ إِلاَّ بِهِمْ. ثُمَّ لاَ قِوَامَ لِلْجُنُودِ إلاَّ بِمَا یُخْرِجُ لَهُمْ مِنَ اَلْخَرَاجِ اَلَّذِي یَقْوَوْنَ بِهِ عَلَی جِهَادِ عَدُوِّهِمْ، وَیَعْتَمِدُونَ عَلَیْهِ فِیَما یُصْلِحُهُمْ، وَیَکُونُ مِنْ وَرَاءِ حَاجَتِهِمْ»(2).

فقد نبّه علیه السلام إلى أهمية الجنود، وأهميتهم تكمن في ما عدد لهم

ص: 378


1- جمهرة رسائل العرب 3 / 33
2- نهج البلاغة 505

من أعمال فهم «حصون الرعیة» مستعيراً لهم لفظ الحصون باعتبار حیاطتهم وحفظهم للرعية بمثابة الحصن(1)، وهم «عِزُّ الدّین» لولاهم لم يكن للدين عِزٌّ ولا منعة، وهؤلاء الجنود هُم الآخرون يحتاجون إلى قوام حتى يؤدّوا واجِباتهم بصورة ناصعة، وقوامهم هذا يأتي من الخراج، والخراج لا يكون وفيراً - مثلما قال الإمام علیه السلام في مواطن أُخری من العهد ستتضح لا حقاً - إذا لم یکن للأرض إصلاحٌ وعِمارةُ.

ورَدَ في رسالة الصحابة ما يشبه هذا كثيراً، إذ قال ابن المقفع: «وأنّ لكلِّ شيءٍ دِرَّةً وغزارةً، وإنَّما دُرُورُ خراج العراقِ بارتفاع الأسعار، وإنّما يحتاجُ الجندُ اليومَ إلى ما يحتاجونَ إليه من كثرةِ الرِّزقِ، لغلاءِ السعر، فمن حُسنِ التقدير إن شاء الله أنْ لا يدخلَ على الأرض ضرَرٌ.. إلاّ دخلَ ذلك عليهم في أرزاقهم»(2).

فابن المقفع لا يختلف عموماً مع ركائز نص الإمام علیه السلام، إذ رأی فیما رآه أنّ للجنود نصيباً مفروضاً من المال، فإذا دخل (على الأرض ضرر) سيصيب بيت المال النقصانُ، ومن ثمَّ سيدخل ذلك النقص على مستحقات الجند. وهذا ما عبّر عنه الإمام علیه السلام بقوله:

«ثمَّ لا قوام للجنود إلاّ بما یُخرِجُ الله لهم من الخَرَاج».

ومن وصایاه البالغة التي وردت في العهد قوله علیه السلام الذي شدَّدَ فيه على تخيّر الوزراء:

ص: 379


1- ينظر شرح نهج البلاغة لإبن ميثم 5 / 344
2- جمهرة رسائل العرب 3 / 37

«ثُمَّ لاَ یَکُنِ اِخْتِیَارُكَ إِیَّاهُمْ عَلَی فِرَاسَتِكَ، وَاُسْتِنَامَتِكَ، وَحُسْنِ اَلظَّنِّ مِنْكَ، فَإِنَّ اَلرِّجَالَ [یَتَعَرَّضُونَ] یَتَعَرَّفُونَ لِفِرَاسَاتِ اَلْوُلاَةِ بِتَصَنُّعِهِمْ وَحُسْنِ [حَدِیثِهِمْ] خِدْمَتِهِمْ، وَلَیْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ اَلنَّصِیحَةِ وَاَلْأَمَانَةِ شَيْءٌ، وَلَکِنِ اِخْتَبِرْهُمْ بِمَا وُلُّوا لِلصَّالِحینَ قَبْلَكَ، فَاعْمِدْ لِأَحْسَنِهِمْ کَانَ فِي اَلْعَامَّةِ أَثَراً، وَأَعْرَفِهِمْ بِالْأَمَانَةِ وَجْهاً»(1).

فأمیر المؤمنین علیه السلام ينهى عن الإختيار القائم على التفرّس وحسن الظنّ والثّقة، مبرّراً هذا بأنَّ الرجال يخدعون فراسة الوالي بتصنعهم الذي يجيدونه وحسن خدمتهم له، بينما هم في الحقيقة لا في مراحٍ ولا مغدی من تلك النصیحة التي الحقیقي القائم علی ما عدده الإمام علیه السلام من توليتهم من قبل الصالحين، وهذا غير كافٍ أيضاً، بل ينبغي توظيف أحسنهم أثراً في العامة، وأعرفهم وجهاً بالأمانة.

ولا یخفی استعمال الإمام علیه السلام لإسمي التفضيل (أحسن، أعرف) مِن أنّه يريد تسنيم المناصب للأحسن لا المحسن، والأعرف لا العارف.

أخذَ ابن المقفع هذا المعنى بشقيهِ، مقدِّماً الأخير على الأول، فقال: «وإنْ كان صاحب السُّلطانِ مِمَّن لم يعرف النّاسَ قبل ان يَلیَهم، ثمَّ لم يزل يسألُ عنهم من يعرِفَهم، ولم يستثبتْ في استقضائهم، زالت الأمور عن مراكزها، وتَرکت الرِّجالُ عن منازِلها، لأنّ النّاس لا يلقونه إلاّ متصنِّعين بأحسن ما يقدرون عليه من الصمت والكلام، غير أنّ أهل النقص هم أشدُّ تصنّعاً..»(2).

وحاصل كلامه إنّ على صاحب السلطان أن لا يولِّي من الناس قبل معرفتهم

ص: 380


1- نهج البلاغة 512
2- جمهرة رسائل العرب 3 / 39

والسؤال عنهم. متخوّفاً من التصنع المقدور عليه من الناس. ومن ثم وقوع الوالي في حبالة هذا التصنع. وهذا بدقائقه موجود في نص أمير المؤمنين علیه السلام المذکور.

ومن توجيهات الإمام علي علیه السلام التي وردت في العهد قوله:

«فَافْسَحْ فِي آمالِهمْ، وَوَاصِلْ فِي حُسْنِ اَلثَّنَاءِ عَلَیْهِمْ، وَتَعْدِیدِ مَا أَبْلَی ذَوُو اَلْبَلاَءِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ کَثْرَةَ اَلذِّکْرِ لِحُسْنِ أَفْعَالِهمْ تَهُزُّ اَلشُّجَاعَ، وَتُحَرِّضُ اَلنَّاکِلَ إِنْ شَاءَ اَللهُ. ثُمَّ اِعْرِفْ لِکُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ مَا أَبْلَی، وَلاَ تَضُمَّنَّ بَلاَءَ اِمْرِئٍ إِلَی غَیْرِهِ، وَلاَ تُقَصِّرَنَّ بِهِ دُونَ غَایَةِ بَلاَئِهِ..»(1).

فمن باب العدل أن یُلصق بكلِّ أمریءٍ ما أبلاه من عمل، حسنٍ أو قبیح، لأنّ ذلك من شأنهِ ترغيب المحسن وتشجيعه في أن يزداد ويبدع في عمله من جهة. وتحريض المتأخِّر وحثّه على التقدم من جهة أخری.

لم يغفل ابن المقفع هذا المعنى وبعض ألفاظه، إذ كان بیّناً في قوله: «فإن في إذن الخليفةِ والمدخلِ عليه والمجلسِ عنده، وما يجري على صحابته من الرزق والمعونةِ، وتفضيل بعضهم على بعض في ذلك حُکماً عظيماً على النّاس في أنسابهم وأخطارهم وبلاءِ أهل البلاء منهم وليس ذلك كخواصِّ المعروف ولطيف المنازل.. ولكنّهُ بابٌ من القضاءِ جسيم عامٌّ يُقضى فيه للماضين من أهل السوابق والمآثر من أهل الباقين، وأهل البلاءِ والغناء بالعدل..»(2).

فابن المقفع یری ما رآه الإمام علیه السلام قبله، من تفضيل بعض الصحابة أو الجنود على أساس مآثرهم، وسبقهم للفضيلة، وما عمله أهل البلاء

ص: 381


1- نهج البلاغة 507 - 508
2- جمهرة رسائل العرب 3 / 44

منهم. وليس المعنى هو سيد الموقف بيَن النّصين، بل نجد إنّ ابن المقفع ضمّن قول الإمام علي علیه السلام:

«وَتَعْدِیدِ مَا أَبْلَی ذَوُو اَلْبَلاَءِ مِنْهُمْ» مع تحویر طفیف لمّا قال: «وبلاء أهل البلاء منهم».

ويبدو أنّ ابن المقفع متأثراً بهذهِ المعاني كثيراً ولذا كرّرها في موطن آخر من رسالة الصحابة موصياً منْ سماه الإمام بأن «یأخذ أهل القوّة والغناء.. ولا يفضّل أحدًا منهم على أحد، إلاّ على خاصّة معلومة..»(1).

وهو بهذا يدعوا أميره أن لا يفضل أحداً من الجنود على غيره «إلاّ علی خاصّةٍ معلومة» أي ما عُلم عنه وما عُرف به من بلاء أبلاه. وهذا كقول أمير المؤمنين علیه السلام السابق:

«ثُمَّ اِعْرِفْ لِکُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ مَا أَبْلَی، وَلاَ تَضُمَّنَّ بَلاَءَ اِمْرِئٍ إِلَی غَیْرِهِ».

وبعد أن تعرَّضَ الإمام علي علیه السلام لأمر الّذین هم قوام الدولة، عادَ ليؤسس نظرية مثلى شأنها صلاح الخراج ووفرته، فقال:

«وَتَفَقَّدْ أَمْرَ اَلْخَرَاجِ بِمَا یُصْلِحُ أَهْلَهُ، فَإِنَّ فِي صَلاَحِهِ وَصَلاَحِهِمْ صَلاَحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ، وَلاَ صَلاَحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلاَّ بِهِمْ، لِأَنَّ اَلنَّاسَ کُلَّهُمْ عِیَالٌ عَلَی اَلْخَرَاجِ وَأَهْلِهِ، وَلْیَکُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ اَلْأَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اِسْتِجْلاَبِ اَلْخَرَاجِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لاَ یُدْرَكُ إِلاَّ بِالْعِمَارَةِ؛ وَمَنْ طَلَبَ اَلْخَرَاجِ بِغَیْرِ عِمَارَةٍ أَخْرَبَ اَلْبِلاَدَ،

ص: 382


1- م. ن 3 / 43

وَأَهْلَكَ اَلْعِبَادَ»(1).

ففي زمنٍ لم يكن فيه للصناعة مقدرة اقتصادية تُذْکر أکّد عليه السلام على أمر الخراج، وعدّه المحرّك الإقتصادي الأكبر في البلاد، إذ بدونه تهلك العباد وتخرب البلاد. وكلّما أراد الوالي وفرة الخراج فلا عليه إلاّ بزيادة إعمار الأرض، لأنّها سبيله الوحيد. وعرفت هذهِ القاعدة في عصرنا الحديث بقاعدة «لیس للخراج أن یعرقلَ الإنتاج»(2). ومعناها: لا يجدر بالحكومة وضع العراقيل كالضرائب المجحفة أمام الفلاّح لِتَحولَ دون السعي والإنتاج وتنقص ثَمَرات المساعي الشعبية بتخريب وإهمال الأراضي الزراعية(3).

وقول الإمام علیه السلام في هذا الصدد لم يغفله ابن المقفع، بل نجد شبيهاً له في قوله: « وممّا یُذّكر به أمير المؤمنين، أمرُ الأرضِ والخراج فإنّ أجسمَ ذلك وأعظمه خَطَراً، وأشدَّه مؤونةً وأقربه من الضياع، ما بين سهله وجبله.. فليس للعمّالِ أمرٌ ينتهون إليه، ولا يحاسبون عليه، ويحول بينهم وبين الحكم على أهل الأرض بعدما يتأنّقَون لها في العمارةِ، ويرجونَ لها فضلَ ما تعملُ أيديهم.. حتى لا يؤخذَ رجلٌ إلاّ بوَظيفةٍ قدْ عرَفها وضمنها، ولا يجتهد في عمارةٍ إلاّ كان له فضلُها ونفعها، رجونا أنْ يكون في ذلك صلاحٌ للرَّعية، وعمارةٌ للأرض..»(4).

وخلاصة كلامه إنّ للأرض والخراج أمراً جسيماً، لأن الأخير ينتج فيما ينتج «صلاح الرعیة» وهذا ما عبّر عنه الإمام علي علیه السلام بقوله:

ص: 383


1- نهج البلاغة 510
2- الراعي والرعية 296
3- ينظر: م. ن 296
4- جمهرة رسائل العرب 3 / 45 - 46

«فَإِنَّ فِي صَلاَحِهِ - أي الخراج - وَصَلاَحِهِمْ صَلاَحاً لَمِنْ سِوَاهُمْ»> وسواهم هنا تعود على الخراج وأهله. أي صلاحاً لعامة الرعية.

ولا یکونُ خراجٌ، ولا صلاح رعیّة إلاّ ب«عمارة الأرض»، وهذا ما نجده في قول الإمام علیه السلام السالف:

«وَلْیَکُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ اَلْأَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اِسْتِجْلاَبِ اَلْخَرَاجِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لاَ یُدْرَكُ إلاَّ بِالْعِمَارَةِ».

وبعد تشديده على الخراج، عادَ ابن المقفع إلى تخیّر العمال وتفقدهم، وهي وصية طالما كرّرها في الأدب الصغير، وأکّدها في رسالة الصحابة في غير ما موطن، منها قوله: «وليس بعد هذا في أمرِ الخراج إلاّ رأيٌ قد رأينا أمير المؤمنین أخذ به، ولم نَرَه من أحدٍ قبله، من تخیُّرِ العُمَّالِ وتفقُّدِهم والاستعتابِ لهم، والإستبدالِ بهم»(1).

والجدير بالذكر هنا قول ابن المقفع عن تخیّر العمال وتفقدهم إنّه لم يرَ من فعل ذلك قبل أمیره: «لم نره من أحدٍ قبله «.

فهذا إن دلَّ على شيءٍ فإنّه يدلُّ على أنّ باقي ركائز رسالة الصحابة كانَ قد رآها ابن المقفع عند حكامٍ سبقوا أميره فتأثرّ بها ونقلها، وإلاّ لماذا هذهِ الفقرة بالذّات قال عنها إنّه لم يرها من قبل، ولم يقل هذا الكلام في مكان آخر من رسالة الصحابة الطويلة والغنیّة بالموضوعات والأفكار، ولا في غيرها من رسائلهِ المتعددة؟ علماً إنّ وصيته في تخیّر العمال وتفقدهم ذكرها بالتفصيل في رسالة الأدب الصغير.

ومهما يكن من شيءٍ فإنّ تخيُّر العمال من أهم وأشد ما كان يأمر به الإمام

ص: 384


1- جمهرة رسائل العرب 3 / 46

علي علیه السلام ويفعله أيضا، ومن ذلك قوله:

«ثُمَّ اُنْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ [اِخْتِیَاراً] اِخْتِبَاراً، وَلاَ تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وَأَثَرَةً»(1).

وكذلك التفقّد إذ قال فيه:

«ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا یَتفَقَّدُ اَلْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا»(2).

أمّا استبدال العمال والوزراء فهو الآخر من أوليات أمير المؤمنين علیه السلام فعلاً وقولاً. ومنه ما وَرَدَ في العهد:

«إِنَّ شَرَّ وُزَرَائِكَ مَنْ کَانَ لِلْأَشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِیراً.. وَأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَیْرَ اَلْخَلَفِ..»(3).

ولم يكتف الإمام علي علیه السلام بحسن الإختیار وإن شرَطها الخطوة الأولی في تقريب العامل من العمل لدی الدولة، إذ بعد الإختیار القائم علی الإختبار أوصی علیه السلام بمنْ یجتازون هذه العقبة، فقال:

«ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَیْهِمُ اَلْأَرْزَاقَ، فَإنَّ ذَلِكَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَی اِسْتِصْلاَحِ أَنْفُسِهِمْ، وَغِنیً لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أَیْدِیهِمْ، وَحُجَّةٌ عَلیهِمْ إنْ خَالَفُوا أَمْرَكَ أَوْ ثَلَمُوا أَمَانَتَكَ. ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ، وَاِبْعَثِ اَلْعُیُونَ مِنْ أَهْلِ اَلصِّدْقِ وَاَلْوَفَاءِ عَلَیْهِمْ، فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي اَلسِّرِّ لِأُمُورِهِمْ حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَی اِسْتِعْمَالِ اَلْأَمَانَةِ، وَاَلرِّفْقِ بِالرَّعِیَّةِ»(4).

ص: 385


1- نهج البلاغة 509
2- م. ن 506 - 507
3- م. ن 503
4- نهج البلاغة 509 - 510

وهذه القوانين من أجلِّ الدساتير وأروعها لو طُبِقَّت بالشكل الذي أراده الإمام علیه السلام، فهو یطلب توسیع الأرزاق علی موظّفي الدولة، لأنّ في تلك التوسعة المادیّة عوناً للموظف أو العامل على استصلاح نفسه أولاً، وغنیً له عن التطاول على الذي أُئُتُمِن عليه من أموال وغيرها ثانيا، ثمَّ إنَّ الوالي إذا فعل هذا يكون في حلّ إذا أقام الحدّ على مَنْ يثلم الأمانة ثالثاً.

وبعد هذه نلمس في كلامه علیه السلام فکرة متقدمة أخری وذلك لما أمر بأن یکون للمراقب السِّري الصادق الوفي «وابعث العیون من أهل الصدق والوفاء» دورٌ فاعل لأنّ العامل «حین یعلمُ أنّ ثمّةَ عیناً ترقبُ أفعاله یحذر من الخروج عن لجادّة، ويحرصُ على اتِّباع ما يصلح بلاده، وهذا التدبير الّذي نهجه الإمام هو نظام التفتيش المعمول به الآن في الدُّولِ المعاصرة»(1).

وليس من الصدفة، أو من باب توارد الخواطر أن تجتمع تلك المعاني العميقة وبعض ألفاظها في قول ابن المقفّع: «وفي کلِّ قومٍ خواصُّ رجالٍ عندهم.. معُونةٌ، إذا صُنعوا لذلك، و تُلُطِّفَ لَهمْ، وأُعينوا على رأيهم، وقُوُّوا على معاشِهم ببعضِ ما يُفرِّغُهم لذلك ويبسطُهم له، وخطرُ هذا جسيمٌ في أمرين: أحدهما رجوع أهلِ الفسادِ إلى الصلاحِ، وأهلِ الفُرقةِ إلى الألفة 0 والأمر الآخر أنْ لا يتحرّك متحرّك في أمرٍ من أمورِ العامَّةِ إلاّ وعینٌ ناصِحَةُ ترمُقُه.. وإذا كان ذلك لم يقدِرْ أهلُ الفسادِ على تربيضِ الأمور وتلقيحها، وإذا لم تُلَقَّحْ كان نِتاجُها بإذن الله مأمونا»(2).

فابن المقفّع هنا يطلب برفد بعض العمّال بأمور منها: تقويتهم على

ص: 386


1- دراسات في نهج البلاغة 97
2- جمهرة رسائل العرب 3 / 46 - 47

معاشهم «وقُوُّوا علی معاشهم». وهذا ما نجده في قول الإمام علي علیه السلام «وأسبغ عليهم الأرزاق». وخطر هذا مثلما رآه ابن المقفع جسیم في أمرین:

الأول: «رجوع أهل الفساد إلی الصلاح «وهذا من قول ألإمام علي علیه السلام «فإنّ ذلك قوّةً لهم علی استصلاح أنفسهم».

الثاني: «لا يتحرّك متحرّك.. إلاّ وعين ترمقُه «وهذا من قول ألإمام علي علیه السلام «فإنّ ذلك قوّةً لهم علی استصلاح أنفسهم».

الثاني: «لا یتحرّك.. إلاّ وعین ترمقُه «ولا اختلاف في هذا عن قول الإمام علي علیه السلام:

«وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم».

فأمير المؤمنين علیه السلام وبعمق نظر ولحساسیّة هذا المَنْصَب شرط في العیون» الصدق والوفاء»، وابن المقفع لم يذهب بعيداً عن هذا عندما اشترط فيهم النصيحة، ولا فرقَ إذ لا نصيحةَ بدون صدق ووفاء.

هذهِ بعض آثار العهد التي تلمستها الدّراسة في رسالة الصحابة.

لم يكن العهد وحده من أثَّر في هذه الرسالة، بل هناك خطبة للإمام علي علیه السلام ذكر فيها فضله، وفضل عترة النبي الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم مشدِّداً علی التمسك بهم والسیر علی هدیهم. ثمّ بعدَ أنْ بیّنَ بعض هذهِ الفضائل نهی علیه السلام عن استعمال الرأي، لأنّ کثیرا من الأمور وبخاصة الجسمیة منها لا یصلها المرء برأیه مهما أوتي من بصیرة نافذة، فقال في ذلك:

«.. فَأَیْنَ یُتَاهُ بِکُمْ؟! وَکَیْفَ تَعْمَهُونَ وَبَیْنَکُمْ عِتْرَةُ نَبِیِّکُمْ؟! وَهُمْ أَزِمَّةُ اَلْحَقِّ، وَأَعْلاَمُ اَلدِّینِ، وَأَلْسِنَةُ اَلصِّدْقِ! فَأَنْزِلُوهُمْ بِأَحْسَنِ مَنَازِلِ اَلْقُرْآنِ، وَرِدُوهُمْ وُرُودَ اَلْهِیمِ اَلْعِطَاشِ. أَیُّهَا اَلنَّاسُ... فَلاَ تَقُولُوا بِمَا لاَ تَعْرِفُونَ، فَإِنَّ أَکْثَرَ اَلْحَقِّ فِیمَا تُنْکِرُونَ، وَأَعْذِرُوا مَنْ لاَ حُجَّةَ لَکُمْ عَلَیْهِ وَهُوَ أَنَا، أَلَمْ أَعْمَلْ فِیکُمْ بِالثَّقَلِ اَلْأَکْبَرِ!

ص: 387

وَأَتْرُكْ فِیکُمُ اَلثَّقَلَ اَلْأَصْغَرَ! قَدْ رَکَزْتُ فِیکُمْ رَایَةَ اَلْإِیمَانِ، وَوَقَفْتُکُمْ عَلَی حُدُودِ اَلْحَلاَلِ وَاَلْحَرَامِ، وَأَلْبَسْتُکُمُ اَلْعَافِیَةَ مِنْ عَدْلِي، وَفَرَشْتُکُمُ اَلْمَعْرُوفَ مِنْ قَوْلِي وَفِعْلِي، وَأَرَیْتُکُمْ کَرَائِمَ اَلْأَخْلاَقِ مِنْ نَفْسِي، فَلاَ تَسْتَعْمِلُوا اَلرَّأْيَ فِیمَا لاَ یُدْرِكُ قَعْرَهُ اَلْبَصَرُ، وَلاَ تَتَغَلْغَلُ إِلَیْهِ اَلْفِکَرُ»(1).

في الخطبة معانٍ غزيرةٍ، وفنون بلاغية ممتعة منها: قوله علیه السلام «وهم أزمة الحق». فقد جعل للحق زمام، وعروة هذا الزمام بيد العترة الطاهرة. وقال ابن أبي الحديد: «وقد نبّه الرسول الأکرم صلی الله علیه وآله وسلم علی صدق هذه القضیّة بقوله: وأدِرْ الحقَّ معهُ حيث دار»(2).

أمّا قوله: «فأنزِلوهم منازل القرآن «ف «تحتهُ سرٌّ عظیم وذلك أنّه أمرَ المُکلّفِین بأن یُجرْوا العترةَ في إجلالها وإعظامها و الانقیاد لها والطاعة لأوامرها مجری القرآن»(3).

ثمّ أمرَ الناس أن تُسرِعَ إلى بحار علومهم كما تُسرِعَ الهيم العطاش إلى الماء(4).

وعلى كلِّ الأحوال فإننا نجد هاتين الركيزتين من التمسك والإقتداء بالأئمة، والإبتعاد عن استعمال الرأي قبال أمرهم في قول ابن المقفع: «وقد علمنا علماً لا يخالطهُ شكُّ أنّ عامّةً قط لم تصلُح من قِبَلَ أنفسِها، وأنَّها لمْ ولم يأتها الصَّلاحُ إلاّ مِن قبل خاصَّتها، وأنَّ خاصّةً قط لم تصلحْ مِن قِبَلَ أنفسِها، وأنَّها لمْ يأتيها الصلاحُ إلاّ من قبلِ إمامها، وذلك لأنَّ عددَ النّاس في ضَعفتِهم

ص: 388


1- نهج البلاغة 130
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6 / 430
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6 / 430 - 431
4- م. ن 1 / 137

وجُهَّالتهم الّذين لا يستغنونَ برأي أنفُسهم، ولا يحملونَ العلمَ، ولا يتقدَّمون في الأمور، فإذا جعلَ الله فيهم خواصَّ من أهلِ الدينِ والعقولِ.. جعلَ اللهُ ذلك صلاحاً لجماعتهم.. وحاجةُ الخاصَّةِ إلى الإمام الّذي یُصلِحُهم اللهُ بهِ كحاجةِ العَامَّةِ إلى خواصهم وأعظم من ذلك، فبالإمام يجمع اللهُ أمرهم، ويكبتُ أهل الطعنِ عليهم، ويجمع رأیَهم وكلمتَهُم..»(1).

فكلام ابن المقفع يدور حول أمرين غاية في الأهمية، روحهما كلام الإمام علي علیه السلام السالف:

الأول:

في حديثه عن الإمام اتضح بأنّه يؤيد فكرة الإمامة، فإذا أُريد صلاح المجتمع فينبغي إصلاح العامة وال«عامة قط لم تصلح من قبل أنفسها» بل صلاحها یأتي من «صلاح خاصَّتها»، والخاصة هذه لم تستطع أيضًا إصلاح نفسها ولا غيرها إلاّ إذا كان هنالك إمامٌ يسيِّرها بالسيرة الصحيحة «إلا من قبل إمامها». إذاً فالإمام ينبغي أن يكون على قمّة الهرم، ولا غنًى للخاصّة، والعامة عنه مطلقاً لأنهما - أي الخاصة والعامّة - «لا یحملون العلم ولا یتقدمون في الأمور» وهذا يعني - بوضوح - إنّ هاتين الصفتين يحملهما الإمام لذا رأی ابن المقفع الرجوع إلیهِ، والإمام وسيلة ربّانیّة بينه تعالى وبين خلقه، إذ وبهِ «يجمع الله أمرهم»، وبهِ یکون اجتماع «رأیهم» وبهِ یکون توحید «کلمتهم». وهذا کلّه کقول الإمام علي علیه السلام في بدایة خطبته حینما أمرَ بالإقتداء بالأئمة الأطهار علیه السلام:

«فَأَیْنَ یُتَاهُ بِکُمْ؟! وَکَیْفَ تَعْمَهُونَ، وَبَیْنُکُمْ عِتْرَةُ نَبِیِّکُمْ، وُهمْ أَزِمَّةُ

ص: 389


1- جمهرة رسائل العرب 3 / 47

اَلْحَقِّ، وَأَعْلاَمُ اَلدِّینِ، وَأَلْسِنَةُ اَلصِّدْقِ».

الثاني:

ما دام الإمام موجوداً فقد نهى ابن المقفع عامة النّاس عن الإستغناء برأيهم «لا یستغنونَ برأي أنفسهم». وهذا يشبه بشدة بالغة ما أمر به الإمام علي علیه السلام فبعد أن بیّنَ منزلته العظمى ومقامه السامي، نهى عامة الناس عن استعمال الرأي «فلا تستعملوا الرأيَ فیما لا يُدرِكُ قعرَه البصرُ، ولا تتغلغلُ إلیه الفِکرُ»، لأنّ ما يدركه الإمام علیه السلامببصیرته الثاقبة لا یدرکه الناس بآرائهم.

وتجدر الإشارة إلى أنَّ للفاخوري تعليقاً على نصِّ ابن المقفع المذكور يتلاءم مع ما يثبته الباحث، قال فيه: «وأخیراً یصلُ ابن المقفّع إلی موضوعٍ يستقيه من فكرةٍ شيعیّة، ويقدِّمه في لباقةٍ عجيبة. فالناس في حاجةٍ إلى من يهديهم سوّيَ السبيل، إلى إمامٍ يُنير،..»(1). أمّا یوسف أبو حلقة فيری في حدیث ابن المقفع عن الإمام حدیثاً غامضاً، کونه یعمد إلی اللفِّ والدّوران خوفاً من الاحکام المتسلِّح بالحکم المطلق(2).

ولم یکن حدیث ابن المقفع هذا الوحيد عن الإمام ووجوب طاعته، بل أكد على ذلك مراراً وتكراراً، ففي نصٍّ آخر يذهب إلى أنّ ما يتمتع بهِ الأئمة من نفاذ الأمر والرأي هو منصب أو جعل إلهي وليسَ لأحدٍ غيرهم أن يأمر و یُطاع، فقال في ذلك: «فأمّا إثباتُنا

ص: 390


1- الجامع في تأريخ الأدب العربي 1 / 535
2- ينظر: عبد الله ابن المقفع دراسة وتحليل 20

للإمام الطاعةِ فيما لا یُطاعُ فيه غيرهِ، فإنّ ذلك في الرأي والتدبير والأمر الذي جعلَ الله أزمّته و عُراه بأيدي الأئمّة، وليس لأحدٍ فيه أمرٌ ولا طاعة»(1).

وبرأي ابن المقفع هذا الذي أکّد فيه إنّ للأئمة مقاماً سامياً «ليس لأحدٍ فيه أمرٌ ولا طاعة» غیرهم، وبرأیه إنّ هذاالأمر والصلاحيات التي من خلالها يدبّرون أمور الرعية ليست هيّ منّة من أحد، بل هي جعلٌ إلهي بصريح عبارته: «جعل الله أزمتّه وعُراه بأیدي الأئمة». فبآرائه هذه قد دخل في صميم معتقدات طائفة الشيعة الإمامية، وحجتهم في ذلك القرآن الكريم، إذ لم ترد لفظة «الإمام» ومشتقاتها، إلاّ ومعها کلمة «جعل» ومشتقاتها، ومنه قوله تعالى:

«وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ»(2).

إذاً فهذا «الجعل لیس بأمرٍ من البشر، بل بأمر الله (بأمرنا)»(3). وقال الدکتور الوائلي:

«تظافرت الأدلة من الكتاب والسنّة على أنّ الإمامة بجعل من الله»(4).

وهكذا تطفوا أفكار ابن المقفع الحقيقية شيئاً فشيئاً، بتصريحات تدل على أنّ عقيدته بالإمامة عقيدة متكاملة ابتداءً من أدوارهم علیه السلام في عصرهِ وإنتهاءاً

ص: 391


1- جمهرة رسائل العرب / 34 - 35
2- الأنبياء 73
3- بنور فاطمة اهتديت 123
4- هوية التشيع 110

بخاتمهم، فابن المقفع - فضلاً عمّا سبق - لم يتغافل حتمية خاتم الأئمة عجل الله تعالی فرجه الشریف، ففي موطن آخر من مواطن حديثه عن الإمام وبعد أن حثّ من أسماه أمير المؤمنين على النظر في ما وقع من اختلاف السّنن في زمانه، واختلاف الأحكام، فمنهم من يحكم بالخطأ، ومنهم بالصواب، وتوحيد أهلها على الصواب، قال:

«ثمَّ يكون ذلك من إمام آخَرَ آخِرَ الدهر إن شاء الله»(1).

وهذا تصريح واضح بإيمان ابن المقفع بدولة العدل الإلهي التي تكون في آخر الزَّمان بقيادة الإمام الثاني عشر الحجة بن الحسن علیه السلام. وهذا الإمام برأي ابن المقفع يوحد السنن، ويجمع الأمر، ويبدل الحكم المتخبط والمتذبذب بين الصواب والخطأ بحکمٍ واحدٍ مصیب. ونری أيضاً إنّ رأيه هذا مشتقٌّ من حديث رسول الله صلی الله علیه وآله في الإمام المهدي علیه السلام:

«لَوْ لَمْ یبقَ من الدنیا إلاّ یوم واحدٌ لطوَّلَ الله ذلك الیوم حتَّی یَبْعَثَ اللهُ فیه رَجُلاً من أهلِ بَیْتي یملؤهُا عدلاً کما مُلِئَت ظلما»(2).

ومن أفكار ابن المقفع هذهِ نستنتج أمرين:

الأول:

إن أفكاره هذهِ تؤيد بشدة تأثره السابق بكلام أمير المؤمنين علیه السلام وتأثره بکلام أمير المؤمنين يشهد ويؤكد على إيمان ابن المقفع بدور الإمام ونهجه في معالجة الأمور كافة. وبعبارة أخری إنّ العلاقة بین أفکار ابن المقفع هذهِ وبین تأثره

ص: 392


1- جمهرة رسائل العرب 3 / 40
2- مناقب الإمام أمير المؤمنين علیه السلام 2 / 173، وینظر: مسند أحمد 18 / 62، وینظر: المستدرك علی الصحیحین:4 / 488

بکلام أمیر المؤمنین وباقي الأئمة علیه السلام علاقة تلازم، وعلاقة تأكيد، وعلاقة شاهد ومشهود.

الثاني:

إنّ ابن المقفع بفكره هذا ركب مركبا صعبا، وذلك لمّا دعا إلى تفعيل فكرة الإمامة، على الرغم من إنّه يعيش بين أروقة الخلافة المناهضة لهذه الفكرة. وهذا المركب هو الذي كلّف ابن المقفع حياته، بخاصة إذا علمنا أنّ هذه الرسالة (رسالة الصحابة) موجّهةللمنصور العباسي، وهذا الأخير كان قد أدرك جسامة هذه الأفكار التي وجهت له - تقريبا - من عقر داره، ولذا رأيكمن بالتخلص من حاملي هذهِ الأفكار، ومنهم ابن المقفع، وبعده إمامه الصادق علیه السلام.

ثانیاً: أثر في الرِّسالة الیتیمة:

تُعدُّ اليتيمة من أهم رسائل ابن المقفع، وتتكون هذهِ الرسالة من مقدمة، ومجموعة من الأسئلة. ولكن مما يؤسف له إنّ هذهِ الرسالة لم تصلنا كاملةً، بل الذي وصلَنا منها الجزء الأقل والمتمثَّل بمقدمتها، وجواب ابن المقفع عن سؤال النّاس عن الزّمان، أي الإجابة عن سؤالٍ واحدٍ فقط.

أما منزلتها الأدبية، فإنّ الذي قيلَ في هذه الرِّسالة لم يقل في جميع ما كتبه ابن المقفع غيرها، ومن ذلك قول ابن طيفور (ت 280 ه) - وهو ناقلها و ِ من الرّسائل المفردات اللَّواتي لا نظیرَ لها ولا أشباه، وهي أركان البلاغة، ومنها استقى البُلغاءُ، لأنّها نهاية في المختار من كلام، وحسن التأليف والنِّظام،.. فإنّ النّاسَ جميعاً مجمعون أنّهَ لم يعبِّرْ أحدٌ عن مثلها، ولا تقدِّمها من الكلامِ شيءٌ قبلها، ولم نكتبها على تمامها لشهرتها وكثرتها في أيدي الرُّواة لها فمن

ص: 393

«فصولها..»(1).

والباحث یری في كلام ابن طيفور شيئاً من المبالغة غير الممدوحة لوجوه منها: إذا كانت الرِّسالة بهذهِ المنزلة الأدبية الّتيلا تُدانى، لماذا اقتطع منها جزءاً قليلاً ودونه دون باقي أجزائها؟ بل كان عليه أن ينقلها كاملةً لما ذكرَ لها من قيمة في الأوساط الأدبية.

أما حجته بأنّه لم یکتبها «على تمامها لشهرتها وكثرتها في أيدي الرّواة» مردود لأن الرسالة لا توجد في کتابٍ قدیم غیر کتابه «المنثور والمنظوم»(2) إذاً أين كثرة رواتها؟ هذا من جهة، ومن جهةٍ أخری فإنّ قوامَ الرسالةِ - بمقدمتها وجواب ابن المقفع فيها للسائل - حكمٌ وفقراتٌ من خطبٍ للإمام علي علیه السلام بالنص، أو بتحوير طفيف، إذاً كيف «الناس جمیعاً مجمعون أنّه لم یعبر أحد عن مثلها، ولا تقدّمها من الكلام شيءٌ قبلها»؟.

فمن حكمِ أمير المؤمنين علیه السلام التي ضُمّنتْ بالکامل في هذهِ الرسالة قوله:

«اَلْأَقَاوِیلُ مَحْفُوظَةٌ، وَاَلسَّرَائِرُ مَبْلُوَّةٌ... وَاَلنَّاسُ مَنْقُوصُونَ مَدْخُولُونَ إِلاَّ مَنْ عَصَمَ اَللهُ؛ سَائِلُهُمْ مُتَعَنِّتٌ، وَمُجِیبُهُمْ مُتَکَلِّفٌ، یَکَادُ أَفْضَلُهُمْ رَأْیاً یَرُدُّهُ عَنْ فَضْلِ رَأْیِهِ اَلرِّضَی واَلسُّخْطُ، وَیَکَادُ أَصْلَبُهُمْ عُودا تَنْکَؤُهُ اَللَّحْظَةُ، وَتَسْتَحِیلُهُ اَلْکَلِمَةُ اَلْوَاحِدَةُ»(3).

ص: 394


1- جمهرة رسائل العرب 3 / 48
2- كتاب يقع في أربعة عشَر مجلداً لم يبق منه إلّا جزآن هما الحادي عشر وقد طبعت قطعة منه باسم (بلاغات النساء)، والآخر الثاني عشر، مخطوط ينظر: الأعلام / 141، والدّرة الیتیمة منقولة عن المخطوط
3- نهج البلاغة 613

السرائر: ما أُسِرَّ في القلوب مما يخفى من أعمال الجوارح، وبلاؤها تعرُّفها(1).

المدخول: من أصيب بالدخل وهو مرض العقل والقلب(2).

و«أصلبهم عوداً» کنایة عن تمسکه بدینه وعلی الرغم من هذا «تنكؤه اللحظة» يقال نكأَ القُرحة وينكؤها إذا قشّرها قبل أن تبرأ(3)، أراد الإمام إنّ النظرة تكشف مكنون ذلك الرجل.

و«تستحيله الكلمة» تحوِّلُه عمّا هو علیه(4) من عودٍ صلب.

ضَمّنَ ابن المقفع هذهِ الحكمة برمتها بين النص والتحوير والتوسيع والتقديم والتأخير، ثمَّ عزّزها بفقرات من خطب وحكم علوية أخری وجعل ذلك مقدّمة لرسالتهِ التي لم يتقدمها «من الکلام شيء»!، فقال: «وقد أصبح النّاس - إلاّ مَنْ عصمَ الله - مدخولين منقوصين، فقائِلُهم باغٍ، وسامعُهم عيَّابُ سائِلُهم متعنِّتٌ، ومجيبهُم متكلِّف، وواعظُهم غیرُ محقِّقٍ لقولِه بالفعل.. يتقارضونَ الثّناء، ويترقبون الدّوُلَ، ويعيبونَ بالهمزِ، يكادُ أحزَمُهم رأياً یلفِتُهُ عن رأيه أدنى الرِّضا وأدنى السُّخطِ، ويكادُ أمتنُهم عوداً أن تسحَرُه الكلمةُ، وتُسكرُه الّلحظةُ، وقد ابتُليتُ أنْ أكون قائلاً، وابتُليتُم أنْ تكونوا سامعين، ولا خير في القول إلاّ ما أنتُفِعَ بهِ..»(5).

فقوله: «سائلهم متعنت، ومجيبهم متكلّف»هو قول الإمام علیه السلام:

ص: 395


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 19 / 150
2- شرح نهج البلاغة لمحمد عبده 2 / 334
3- ينظر: لسان العرب 1 / 174 مادة (نکأ)
4- شرح نهج البلاغة لمحمد عبده 4 / 573
5- جمهرة رسائل العرب 3 / 48 - 49

«سَائِلُهُمْ مُتَعَنِّتٌ، وَمُجِیبُهُمْ مُتَکَلّیفٌ» بنصّه> أما قوله علیه السلام:

«وَاَلنَّاسُ مَنْقُوصُونَ مَدْخُولُونَ إِلاَّ مَنْ عَصَمَ اَللهُ».

قدم وأخر فيه ابن المقفع لما قال: »وقد أصبح النّاس - إلاّ مَنْ عصمَ الله - مدخولين منقوصين».

وهكذا بقية الحكمة تجدها منتشرة في كلام ابن المقفع مع تحوير طفيف مشوبٌ بحذرٍ شديد إذ نجده يحوّرُبعض الألفاظ دون أن يمس ميزان اللفظة، ولا معناها.

فأنظر إلى هذه المقارنة:

أمير المؤمنين علیه السلام: «یکاد أفضلهم رأیاً».

ابن المقفع: «یکاد أحزمهم رأیاً».

فالجملتان تتكونان من فعل مضارع ناقص + اسم الفعل بصيغة اسم تفضيل + خبر الفعل وهكذا قولاهما:

أمير المؤمنين علیه السلام: «ویکاد أصلبهم عوداً».

ابن المقفع: «ویکاد أمتنهم عوداً».

أمير المؤمنين علیه السلام: «یردّه عن رأیه».

ابن المقفع: «یلفته عن رأیه».

وهذه سمة تسجّلها الدراسة على ابن المقفع، إذ ورد من قبيل هذا التحوير كثیرٌ جدا أمّا لو عدنا إلى تأثر ابن المقفع في غير الحكمة المذكورة

ص: 396

فسنجد قوله: «یتقارضونَ الثناء، ویترقبون الدّوُلَ». من خطبة لأمیر المؤمنین علیه السلام یصف فيها المنافقين منها:

«يتقارضونَ الثّناءَ، ويتراقبونَ الجزاء»(1).

ومعناهُ: كلٌّ منهم يثني على صاحبه ليثني صاحبه عليه كأنّ كلَّ واحدٍ منهم يقرض صاحبه دين ينتظر إرجاعه إليه، والجزاء عليه(2).

وبالنسبة لقوله: «وواعظُهم غیرُ محقِّقٍ لقولِه بالفعل» فهو یشبه کلام أمیر المؤمنین علیه السلام:

«فهو بالقولِ مُدِلٌّ، منِنَ العَمَلِ مُقِلٌّ»(3).

وهكذا قوله: «ولا في القول إلاّ ما أنتُفِعَ به» فإنّه لا یختلف عمّا جاء في وصیة الإمام لولدهِ الحسن علیه السلام:

«وتَفَّهم وصیّتي.. فإنَّ خیرَ القَوْلَ مَا نَفَعَ»(4).

هذا بالنسبة لمقدّمة الرسالة اليتيمة. أمّا ما جاء بعدها من جواب ابن المقفع عن سؤالٍ وُجِّه له: «أمّا سؤالكم عن الزّمانَ، فإنّ الزّمان النّاسُ، والنّاسُ رجُلان: وَالٍ ومُوَلَّی عليه، والأزمنةُ أربعةُ على اختلاف حالات الناس..»(5). فإنّهُ من دونِ أدنی شكٍّ إعادة صیاغةٍ لخطبةٍ علویّةٍ قسّم فیها الإمام علي علیه السلام الراعي والرعیة

ص: 397


1- نهج البلاغة 356
2- ينظر: شرح نهج البلاغة لمحمد عبده 2 / 334
3- نهج البلاغة 581
4- م 0 ن 458
5- جمهرة رسائل العرب 3 / 50

من حيث الصلاح والفساد على ثلاثة أقسام:

القسم الأول:

وفيه يصلح الراعي والرعية معا. قال علیه السلام:

«ثُمَّ جَعَلَ - سُبْحَانَهُ - مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقاً اِفْتَرَضَهَا لِبَعْضِ اَلنَّاسِ عَلَی بعضٍ، وَأَعْظَمُ مَا اِفْتَرَضَ - سُبْحَانَهُ - مِنْ تِلْكَ اَلْحُقُوقِ حَقُّ اَلْوَالِي عَلَی اَلرَّعِیَّةِ، وَحَقُّ اَلرَّعِیَّةِ عَلَی اَلْوَالِي، فَرِیضَةٌ فَرَضَهَا اَللهُ - سُبْحَانَهُ - لِکُلٍّ عَلَی کُلٍّ، فَجَعَلَهَا نِظَاماً لِأُلْفَتِهِمْ وَعِزّاً لِدِینِهِمْ، فَلَیْسَتْ تَصْلُحُ اَلرَّعِیَّةُ إِلاَّ بِصَلاَحِ اَلْوُلاَةِ، وَلاَ تَصْلُحُ اَلْوُلاَةُ إِلاَّ بِاسْتِقَامَةِ اَلرَّعِیَّةِ؛ فَإِذَا أَدَّتْ اَلرَّعِیَّةُ إِلَی اَلْوَالِي حَقَّهُ، وَأَدَّی اَلْوَالِي إِلَیْهَا حَقَّهَا عَزَّ اَلْحَقُّ بَیْنَهُمْ، وَقَامَتْ مَنَاهِجُ اَلدِّینِ وَاِعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ اَلْعَدْلِ،.. فَصَلَحَ بِذَلِكَ اَلزَّمَانُ، وَطُمِعَ فِي بَقَاءِ اَلدَّوْلَةِ، وَیَئِسَتْ مَطَامِعُ اَلْأَعْدَاءِ»(1).

فأمیر المؤمنین علیه السلام یری أنّ أیْدَ الدولةِ وهیبتها تکمن في صلاح الراعي والرعیّة معاً، وأن يؤدي كلُّ منهما ما عليه من حقوق تجاه الآخر.

نظر ابن المقفع إلى هذا وجعله الزّمان الأول قائلاً: «فخیارُ الأزمنةِ» ما اجتمعَ فیه صلاحُ الرّاعي والرَّعیة، فکان الإمام مؤدیةً إلی الإمامِ حقَّه في المودّةِ والمناصَحَةِ،.. وتركِ المنازعة في أمرهِ، والصبر عندَ مکروهِ طاعتهِ.. فإذا اجتمعَ ذلك في الإمام والرعیّةِ، تمَّ صلاحُ الزّمان»(2).

ص: 398


1- نهج البلاغة 386
2- جمهرة رسائل العرب / 49 - 50

فابن المقفع سارَ خطوة بخطوة في کلامه مقتفیًّا أثر كلام أمير المؤمنين علیه السلام حتى خَتَمَ حديثهُ بنتيجة علوية أيضًا، إذ أنّه عدَّ صلاح الرّاعي والرعیّة ينتجان «صلاح الزمان» وهذا من قول أمیر المؤمنین علیه السلام:

«فصلح بذلك الزّمان».

ونسَبةُ الصلاح إلى الزّمان عن طريق المجاز، لأنَّ الصلاح في الحقيقة يعود إلى حال أهل الزَّمان، وإنّما يوصف بالصَّلاح والفساد باعتبار وقوعهما فيه(1).

القسم الثاني:

فساد الرعية أو عصيانهم. قال علیه السلام:

«وإذا غلبَتِ الرَّعیّةُ والَيها..»(2).

أشارَ هنا إلى عصيان الرعیّة للإمام(3).

وهذا القسم جعله ابن المقفع الزّمان الثاني فقال: «ثمَّ إنّ الزّمان الّذي یلیه:

«أنْ يَصلُحَ الإمام ویَفْسُدُ النّاسُ..»(4).

القسم الثالث:

فساد الوالي. قال علیه السلام:

«أو أجحفَ الوالي برعیّتِهِ..»(5) أي ظلمهم(6).

ص: 399


1- ينظر: شرح نهج البلاغة لابن ميثم 4 / 30
2- نهج البلاغة 386
3- ينظر: شرح نهج البلاغة لابن ميثم 4 / 30
4- جمهرة رسائل العرب 3 / 50
5- نهج البلاغة 386
6- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 12 / 65

أخذ ابن المقفع هذا جاعالً منه الزمان الثالث. فقال: «والزّمانُ الثالثُ صلاحُ النّاسِ وفسادُ الوالي..»(1).

أمّا الزّمان الرابع عند ابن المقفع والذي قال عنه: «وشرُّ الأزمان: ما اجتمع فيه فسادُ الوالي والرّعیّة، وتلكَ كارثةٌ لم يتقادم عهدُ كونها، ولم تعفُ عنکم آثارُها»(2). فهذا لم يوجد صراحة في خطبة الإمام علیه السلام، لکنّ ثمرةَ هذا الزمان من كونهِ كارثة تحلُّ بالأمة نجد نظيرها عند الإمام بعدَ أن ذكر إجحاف الوالي، أو غلبة الرعية، فقال:

«اِخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ اَلْکَلِمَةُ، وَظَهَرَتْ مَعَالِمُ اَلْجَوْرِ، وَکَثُرَ اَلْإِدْغَالُ فِي اَلدِّینِ، وَتَرَکَتْ مَحَاجُّ اَلسُّنَنِ فَعُمِلَ بِالْهَوَی، وَعُطِّلَتِ اَلْأَحْکَامُ...»(3) ولعل هذا الزمان الرابع عند ابن المقفع يدخل ضمن طريقته التي يتعامل بها مع كلام أمير المؤمنين علیه السلام - ولا یفارقها إلاّ نادراً - وهي تلك الطریقة القائمة على التوسع والزيادة.

ثالثاً: في رسائل أدبیة أخری لابن المقفّع

ورَدت لابن المقفع رسائل أدبية متعدِّدة، كان يراسلُ بها بعض أصدقائه وإخوانه، معزِّیًا ذي المُصيبة ومهنِّئًا ذي النعمة، وكان الطابع الغالب على هذه الرسائل - كسابقتها - طابع الوعظ والإرشاد. أما حجمها فقد تميزت بالقصر. أمّا تأثُّر بکلام أمیر المؤمنین فقد كان جلیًا. فمن حكمةٍ لهُ علیه السلام حثَّ فیها علی تعلُّم العلم ممّنْ هم أعلى مرتبة، ثم تعليم مَنْ هم أدنى مرتبة، فقال:

ص: 400


1- جمهرة رسائل العرب 3 / 50
2- م. ن 3
3- نهج البلاغة 386

«تَعلَّم عِلْمَ مَنْ یعلَمُ، وعَلِّمْ عِلِّمكَ مَنْ یجْهلُ، فإذا فَعَلْتَ ذَلِكَ عَلِمْتَ ما جَهِلْتَ وانْتَفَعْتَ بِمَا عَلِمْتَ»(1).

كتبَ ابن المقفع هذا، وأرسله إلى بعض إخوانه:

«أمّا بعدُ، فتعلّم العلمَ ممّنْ هو أعلمُ بهِ منكَ، وعلِّمهُ مَنْ أنتَ أعلَمُ بهِ منه، فإنّكَ إذا فعلتَ علمتَ ما جهلْتَ، وحفظتَ ما عملتَ»(2).

ومن كلامٍ للإمام علیه السلام عزّی فیه الأشعث بن قیس بعدَ أن رُزِئ بأحد أولاده، قال فیه:

«یَا أَشْعَثُ، إِنْ تَحْزَنْ عَلَی اِبْنِكَ فَقَدِ اِسْتَحَقَّتْ ذَلِكَ مِنْكَ اَالرَّحِمُ، وَإِنْ تَصْبِرْ فَفِي اَللهَّ مِنْ کُلِّ مُصیبَةٍ خَلَفٌ. یَا أَشْعَثُ إِنْ صَبَرْتَ جَرَی عَلَیْكَ اَلْقَدَرُ وَأَنْتَ مَأْجُورٌ، وَإِنْ جَزِعْتَ جَرَی عَلَیْكَ اَلْقَدَرُ وَأَنْتَ مَأْزُورٌ»(3).

یقول علیه السلام تدعوك صلة الرحم إلى الحزن على ولدك، ولكن عليكَ بالصبر حتى يقول تنال الأجر، ولا تجزع فيصيبك الوزر، فإنّ القدَر جارٍ في الحالتين كلتيهما أصبرت أم جزعتْ. فكان هذا المعنى مهيمنًا تماماً على رسالةٍ كتبها ابن المقفع يعزّي فيها عن ولد» «إنما يستوجب على اللهِ وعدُه، َ منْ صبَر للهِ بحقِّه، فلا تَجمَعَنَّ إلى ما فُجعتَ بهِ من ولدِك، الفجيعة بالأجرِ عليه والعِوَضِ منه، فإنها أعظمُ المصيبتين عليك، وأنكى المرْزِئتینِ لك..»(4) وهكذا كان ابن المقفع يأتي على المعنى العلوي ويكتبه إلى من يشاء من إخوانه.

ص: 401


1- غرر الحكم ودرر الكلم 324 - 325
2- جمهرة رسائل العرب 3 / 54
3- نهج البلاغة 606
4- جمهرة رسائل العرب 3 / 56

ففي حكمةٍ لأمير المؤمنين علیه السلام علیه السلام نهی فیها عن الزهد بالمعروف لقلّةِ شاکریه، إذ لا بُدَّ لمن یفعل المعروفِ من تحصُّله علی شکرٍ وفیر، ولو من طرفٍ غیر مستفید من ذلك المعروف، فقال:

«لاَ یُزَهِّدَنَّكَ فِي اَلْمَعْرُوفِ مَنْ لاَ یَشْکُرُهُ لَكَ، فَقَدْ یَشْکُرُكَ عَلَیْهِ مَنْ لاَ یَسْتَمْتِعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَقَدْ تُدْرِكُ مِنْ شُکْرِ اَلشَّاکِرِ أَکْثَرَ مِمَّا أَضَاعَ اَلْکَافِرُ»(1).

كتب ابن المقفع بهذا المعنى كتاباً إلى بعض إخوانه جاءَ فيه: «أمّا بعدُ، فإنَّ مَنْ قضى الحوائجَ لإخوانه، واستوجبَ بذلك الشكرَ عليهم فلنفسهِ عَمِل لا لهم، والمعروفُ إذا وُضِعَ عِندَ منْ لا يشكره فهو زرعٌ لا بُدَّ لزارعه من حصادهِ، أو لِعَقِبه من بعده»(2).

وما دمنا في رسائل ابن المقفع فينبغي ذكر رسالةً له متوسطة من حيث الطول صاغها على شكل مجموعة من الحكم والمواعظ القصار. كان لأثر کلام الإمام علیه السلام نصيبٌ موفورٌ فيها سواءً على صعيد التضمين الحرفي، أو المحور، أو المعنى.

فمثلاً حكمته علیه السلام:

«مَنْ عَذُبَ لسانُهُ کثُرَ إخوانُهُ»(3).

أوردها ابن المقفع بنصِّها في رسالته، فقال: «مَنْ عَذُبَ لسانُهُ کثُرَ إخوانُهُ»(4).

ص: 402


1- نهج البلاغة 587
2- جمهرة رسائل العرب 3 / 58
3- غرر الحكم ودرر الكلم 578
4- آثار ابن المقفع 341

أمّا حكمته علیه السلام:

«أحسَنُ العفوِ ما کانَ عن مقدرة»(1).

فلم يغير ابن المقفع إلاّ في ذيلها: «أحسَنُ العفوِ ما کانَ عن عظیمِ الجرُمِ»(2).

بينما الشق الثاني من حكمة الإمام علیه السلام:

«ثمرَةُ القَنَاعَةِ الرَّاحَةُ، و ثَمَرَةُ التَّوَاضُعِ المَحَبَّةُ»(3).

فلا يختلف عنه ما ورد في رسالة ابن المقفع تلك: «التّواضُعُ یورث المحبَّةَ»(4) سوی أنّ الإمام علیه السلام جعل التواضع یثمر محبةً، وعند ابن المقفع یورث محبة!.

وبالنسبة لحكمة أمير المؤمنين علیه السلام:

«اَلظَّفَرُ بِالْحَزْمِ، وَاَلْحَزْمُ بِإِجَالَةِ اَلرَّأْيِ، وَاَلرَّأْيُ بِتَحْصِینِ اَلْأَسْرَارِ»(5).

فقد ذكرناها عندما ضمَّنها ابن المقفع حرفیًّا في الأدب الصغیر. أمّا في هذهِ الرِّسالة فقد أعادَ ترتيب ما أخذه منها لا غير: «بالحزم یتمُّ الظَّفرُ، بإجالةِ الرّأي تظفرُ بالحزمِ»(6).

أمّا حکمته علیه السلام التي قال فیها:

ص: 403


1- غرر الحكم ودرر الكلم 204
2- آثار ابن المقفع 341
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 20 / 452
4- آثار ابن المقفع 341
5- نهج البلاغة 561
6- آثار ابن المقفع 342

«أحبِبْ حبیبكَ هوناً مَا، عَسی أنْ یکونَ بغیضَكَ یَوماً مَا، وأبغِضْ بغیضَكَ هَوْنًا مَا، عَسَی أنْ یکوُنَ حَبیبَكَ یومًا مَا»(1).

فنجد جانباً من معناها القائم على احتمال تحوّل الحبيب بغيضاً، والبغيضُ حبيباً في قول ابن المقفع: «ربُما تحولت البغضاءُ مودة، والمودة بغضاء»(2).

وقال علیه السلام:

«مَنْ أُعْطِيَ أَرْبَعًا لَمْ یُحْرَمْ أَرْبَعًا: مَنْ أُعْطِيَ اَلدُّعَاءَ لَمْ یُحْرَمِ اَلْإِجَابَةَ، وَمَنْ أُعْطِيَ اَلتَّوْبَةَ لَمْ یُحْرَمِ اَلْقَبُولَ، وَمَنْ أُعْطِيَ اَلاِسْتِغْفَارَ لَمْ یُحْرَمِ اَلْمَغْفِرَةَ، وَمَنْ أُعْطِيَ اَلشُّکْرَ لَمْ یُحْرَمِ اَلزِّیَادَةَ»(3).

أخذ ابن المقفع هذا بتمامه، فقال: «من رزق أربعاً لم یحرم أربعاً: من رزق الشکر لم یحرم الزیادة، من رزق الإستغفار لم یحرم المغفرة، ومن رزق الدعاء لم يحرم الإجابة، ومن رزق التوبة لو يحرم القبول»(4).

وتجدر الإشارة إلى أنَّ الشائع والمتداول إنّ ابن المقفع ورث هذه الطريقة من التقسيم في الكلام - كقوله المذكور، وقوله: إنما أنت أحد رجلين، وقوله:

العلم علمان - ورثها من اليونان(5)، ولكن الدراسة بينت إن ابن المقفع اعتمدها - التقسيمات - بنصها عن أمير المؤمنين علیه السلام.

ص: 404


1- جمهرة الأمثال 1 / 183، وینظر: نهج البلاغة 602
2- آثار ابن المقفع 342
3- نهج البلاغة 577
4- بلاغة الكتاب في العصر العباسي 219
5- ينظر: دراسات في الأدب العباسي 54

ونختِمُ هذا الأثر العلوي العميق في ابن المقفع بنصين كليهما من وصية أمير المؤمنين لولده الإمام الحسن علیه السلام، فکان ممّا جاء فیها قولهِ:

«أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي وَإِنْ لَمْ أَکُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ کَانَ قَبْلِي، فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالهِمْ، وَفَکَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ.. فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذَلِكَ مِنْ کَدَرِهِ، وَنَفْعَهُ مِنْ ضَرَرِهِ، فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ کُلِّ أَمْرٍ نَخِیلَهُ..»(1).

قدّم الإمام علیه السلام مجموعةَ صفاتٍ أمتاز بها حتی یؤکد لولده إنّك لا تسمع ولم یأتك، إلاّ المنتخل من الآراء، والنخل هو التصفیة، ویقال نخلتُ له النصيحة بمعنى أخلصتها(2). وقد وردَ مثل هذا في قول ابن المقفع: «أخذتُ من کل شيءٍ أحسنَ ما فيه حتى من الخنزير والكلب والفهد»(3).

وفي نهاية الوصية المذكورة قال علیه السلام:

«وَإِیَّاكَ وَمُشَاوَرَةَ اَلنِّسَاءِ فَإِنَّ رَأْیَهُنَّ إِلَی أَفْنٍ، وَعَزْمَهُنَّ إِلَی وَهْنٍ. وَهْنٍ. وَاُکْفُفْ عَلَیْهِنَّ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ بِحِجَابِكَ إِیَّاهُنَّ، فَإِنَّ شِدَّةَ اَلْحِجَابِ أَبْقَی عَلَیْهِنَّ، وَلَیْسَ خُرُوجُهُنَّ بِأَشَدَّ مِنْ إِدْخَالِكَ مَنْ لاَ یُوثَقُ بِهِ عَلَیْهِنَّ، وَإِنِ اِسْتَطَعْتَ أَلاَّ یَعْرِفْنَ غَیْرَكَ فَافْعَلْو وَلاَ تُمَلِّكِ اَلْمَرْأَةَ مِنْ أَمْرِهَا مَا جَاوَزَ نَفْسَهَا، فَإِنَّ اَلْمَرْأَةَ رَیْحَانَةٌ، وَلَیْسَتَ بِقَهْرَمَانَةٍ، وَلاَ تَعْدُ بِکَرَامَتِهَا نَفْسَهَا، وَلاَ تُطْمِعْهَا فِي أَنْ تَشْفَعَ لِغَیْرِهَا. وَإِیَّاكَ وَاَلتَّغَایُرَ فِي غَیْرِ مَوْضِعِ غَیْرَةٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ یَدْعُو اَلصَّحِیحَةَ إِلَی اَلسَّقَمِ، وَاَلْبَرِیئَةَ إِلَی اَلرِّیَبِ»(4).

ص: 405


1- نهج البلاغة 459
2- لسان العرب 11 / 651 مادة (نخل)
3- ثمار القلوب في المضاف والمنسوب 2 / 59
4- نهج البلاغة 471 - 472

اقتطع ابن المقفع هذا المقطع من الوصية، فقال: «إیاك ومشاوَرَةَ النساءِ فإنّ رأيهنَّ إلى أفنٍ وعزمهنَّ إِلَى وهنٍ. وَ اُكففْ علَيهنَّ مِنْ أَبصَارِهِنَّ بِحِجَابِكَ إِیَّاهنَّ، فَإِنَّ شدَّةَ اَلْحجابِ خیرٌ لكَ منْ الإرتِیابِ، و لَیسَ خروجهنَّ بِأَشدَّ مِنْ دخول مَنْ لاَ تثَقُ بِهِ عَلَیْهِنَّ، فإِنِ اِستطعت أَلاَ یعرِفن غیركَ فافعلْ. وَلاَ تمُلکَّنَّ امرأَةَ مِنْ الأَمر مَا جَاوَزَ نَفْسَهَا فَإِنَّ ذلك أنعمُ لحالها، وأرخی لبالها، وأدومُ لجمالها؛ تشفعَ لغیرها، ولا تطل الخلوةَ مع النساء فیمللنكَ وتملّهُنّ، واستبقِ من نفسكَ بقیةً، فإنَّ إمساکك عنهنَّ وهنَّ یردنك باقتدار خیرٌ من أن یهجمنَ علیك علی إنکسار. وَإِیَّاكَ وَاَلتغایرَ في غیرِ موضعِ غیرَةٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ یدعو اَلصَّحیحَةَ منهنَّ إِلَی اَلسَّقَمِ»(1).

وتجدر الإشارة هنا إلی إنّ قول ابن المقفع: «لا تطل الخلوةَ إلی قوله علی انکسار» لم یرد في الوصیة التي أثبتها الشریف الرضي في نهج البلاغة، لکنه وردَ في کتبٍ أخری روت الوصیة هذه، وکانت سابقة للنهج زماناً(2).

ص: 406


1- أمراء البيان 1 / 138
2- ينظر: تحف العقول 110

المبحث الرابع: تکرار ابن المقفع

لکلام الإمام علي علیه السلام التكرار هو الإعادة، والتكرار مظهر مهم جدّاً من مظاهر التأثر لأنّهُ «یکشف تسليط الضوء على نقطة حساسة... ويكشف عن اهتمام المتكلم بها، وهو بهذا المعنى ذو دلالة نفسية قیّمة تفيد الناقد الأدبي الذي يدرس الأثر ويحلل نفسية کاتبة»(1). وإذا كان تكرار لفظة واحدة أو اثنتين يكشف عن عناية المنشئ بأمرِ ما ومن أجل تلك العناية لجأ إلى تكرار هذه أو تلك(2)؛ فإنّ من يعمد إلى تكرار العشرات من اللفظة واللفظتين، بل مقاطع بأكملها لا بدّ وأنّه تأثر بها غاية التأثر، وهذا بعینه ما صنعه ابن المقفع مع کلام أمیر المؤمنین علیه السلام، فبدون مغالاة إن أغلب كلام ابن المقفع السابق - إنْ لم نقل جميعه، بل وأكثر من السابق لأنّ منه متأثر ولم ندونه - الذي أخذه عن کلام أمیر المؤمنین علیه السلام قام بتكراره، وكان قد اتبع طرقاً

ص: 407


1- قضايا الشعر المعاصر 242
2- ينظر: قضايا الشعر المعاصر 242

عدة لهذا التكرار، فمرة يكرر النص العلوي في الرسالة نفسها، وثانية بين رسالة وأخری(1)، وهو في هذا یکرر الحکمة حرفیًا مرّة، وأخری بالمعنی، وثالثة یکرر الحکمة نفسها حرفیًا مرّة، ومرّة المعنى، وغير ذلك من الطرق الملتوية.

قد عرفنا فيما سبق إنّ ابن المقفع اعتمد اعتماداً واضحاً على عهد أمير لمالك الأشتر. والأهم من هذا إنّ النصوص التي اعتمدها من العهد قام بتكرارها عن بكرة أبيها، سواء في الرسالة الواحدة، أو بين رسالةٍ وأخری.

فممّا قاله الإمام علیه السلام في العهد:

«ولا تدع تفقد لطیف أمورهم اتکالاً علی جسیمها»(2).

ذكر ابن المقفع هذا في ثلاثة مواطن، إذ ضمّنه في أدبه الكبير، فقال: «حق الوالي أن يتفقد لطيفَ أمورِ رعيتهِ، فضلاً عن جسيمها»(3).

وفي موطن آخر ذكر ذلك بمعناه وبعض ألفاظه مقدِّماً الشقِّ الثاني على الأول، فقال: «لا عيبَ على الملكِ... إذا تعهد الجسيم من أمرهِ بنفسهِ، وأحكمَ المهم، وفوض ما دون ذلك إلى الكفاةِ»(4).

وهكذا تماماً فعل في موطنٍ ثالث، فقال: «لا تترکن مُباشرة جسیمِ أمركَ فیعودَ شأنكَ صغیراً، ولا تُلزمن نفسكَ مباشرةَ الصغیرِ، فیصیرَ الکبیرُ ضائفاً»(5)

ص: 408


1- وهذا السبب - أي تكرار ابن المقفع النص العلوي في رسائل عدّة - جعلنا نؤخر هذا المظهر من التأثر في آخر هذه الرسائل
2- نهج البلاغة 507
3- الأدب الصغير والأدب الكبير 77
4- الأدب الصغير والأدب الكبير 76
5- م. ن 71

فالتغير يكمن في قولي ابن المقفع الأخيرين، إذ ما جاء في آخر قول الإمام علیه السلام لما نهی عن الإتِّکال علی جسام الأمور «اتکالاً علی جسیمها» جعله ابن المقفع أوّلاً لما قال: «تعهد الجسیم من أمرهِ «و «لا تترکنَّ مباشرة جسیم أمرك».

أمّا قوله علیه السلام:

«لا تدع تفقد لطيف أمورهم».

أخذه ابن المقفع بمعناه وجعله آخراَ لما قال: «وفوض ما دون ذلك إلی الکفاةِ «و أشار ب» ذلك» إلی الجسیم و» دون» الجسام من الأمور هي صغائرها ولطائفها، ثم ذكر هذا المعنى بلفظ آخر لمّا قال: «ولا تلزمنّ نفسكَ مباشرة الصغیر» أي لا تهتم بصغائر الأمور فقط.

وفي العهد أيضاً شدّد أمير المؤمنين علیه السلام علی تخیر الوزراء، فقال:

«لا یَکُنْ اِخْتِیَارُكَ إِیَّاهُمْ عَلَی فِرَاسَتِكَ وَاِسْتِنَامَتِكَ، وَحُسْنِ اَلظَّنِّ مِنْكَ، فَإِنَّ اَلرِّجَالَ یَتَعَرَّضُونَ [یَتَعَرَّفُونَ] لِفِرَاسَاتِ اَلْوُلاَةِ بِتَصَنُّعِهِمْ، وَحُسْنِ حَدِیثِهِمْ خِدْمَتِهِمْ، وَلَیْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ اَلنَّصِیحَةِ وَاَلْأَمَانَةِ شَيْءٌ، وَلَکِنِ اِخْتَبِرْهُمْ بِمَا وُلُّوا لِلصَّالحِینَ قَبْلَكَ...»(1).

فنهي أمير المؤمنين علیه السلام عن اعتماد التفرس في اختیار الوزراء، وتحذیره من التصنع الذي يخدع الفراسة، ثم وضعهِ شروط القياس والحكم الصائب لهذا المنصب، فکلُّ هذا ذکرهُ ابن المقفع في الأدب الکبیر، فقال: «إن استطعتَ أن تجعل صحبتكَ لمن قد عرفك بصالحِ مروءتكَ... فإن الوالي لا علم لهُ بالناسِ إلا ما قد

ص: 409


1- نهج البلاغة 512

علم قبلَ ولايته. أما إذا ولي فكل الناسِ يلقاهُ بالتزينِ والتصنعِ وكلهم يحتالُ لان يثني عليه عندهُ بمال ليس فيهِ. غير أن الأنذال والأرذال هم أشدٌ لذلكَ تصنعاً».

ثم كرّر ذلك في رسالة الصحابة، فقال قبل أن یَلِیَهم، ثم لم يزل يسألُ عنهم مَنْ يعرِفهم رفهم ولم يستثبت في استقضائِهم، زالت الأمور عن مراكزها، وَنَزَلت الرجالُ عن منازِلها، لأنّ الناس لایَلقونه إلا متصنِّعين بأحسن ما يقدرون عليه من الصمت والكلام، غير أن أهل النقص هم أشدُّ تصنعاً»(1).

فقول الإمام علیه السلام:

«فَإِنَّ اَلرِّجَالَ یَتَعَرَّفُونَ لِفِرَاسَاتِ اَلْوُلاَةِ بِتَصَنُّعِهِمْ، وَحُسْنِ خِدْمَتِهِمْ».

ذكره ابن المقفع في الأدب الكبير بين اللفظ والمعنى لمّا قال: «فکل الناس یلقاه بالتزیین والتصنع«. وکرر هذه في رسالة الصحابة لمّا قال: «الناس لا یلقونه إلاّ متصنِّعين«.

وبطريقته، لابُدّ من أن يزيد على كلام أمير المؤمنين علیه السلام، وزیادته في أدبه الکبیر هي قوله: «غیر أن الأنذال هم أشدٌ لذلك تصنّعاً»(2).

ومن إرشادات أمیر المؤمنین علیه السلام التي وردت في عهدهِ للأشتر تلك المفاضلة ومن إرشادات أمير المؤمنين التي أجراها بين خوّاص السلطان، وبين العامة من الشعب. مرجِّحَا كفَّة العامة لأسباب بیّنها في قوله:

ص: 410


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 81
2- جمهرة رسائل العرب 3 / 39

«فَإِنَّ سُخْطَ اَلْعَامَّةِ یُجْحِفُ بِرِضَی اَلْخَاصَّةِ، وَإِنَّ سُخْطَ اَلْخَاصَّةِ یُغْتَفَرُ مَعَ رِضَی اَلْعَامَّةِ. وَلَیْسَ أَحَدٌ مِنَ اَلرَّعِیَّةِ أَثْقَلَ عَلَی اَلْوَالِي مَؤونَةً فِي اَلرَّخَاءِ، وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي اَلْبَلاَءِ، وَأَکْرَهَ لِلْإِنْصَافِ، وَأَسْأَلَ بِالْإِلْحَافِ، وَأَقَلَّ شُکْراً عِنْدَ اَلْإِعْطَاءِ، وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ اَلْمَنْعِ، وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ اَلدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ اَلْخَاصَّةِ، وَإِنَّمَا عَمُودُ اَلدِّینِ، وَجِمَاعُ اَلْمُسْلِمِینَ، وَاَلْعُدَّةُ لِلْأَعْدَاءِ اَلْعَامَّةِ، فَلْیَکُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ، وَمَیْلُكَ مَعَهُمْ»(1).

بين الإمام علیه السلام لوالیه: «إنّ قانون الإمارة الاجتهاد في رضی العامة فإنه لا مبالاة بسخط خاصة الأمير مع رضى العامة فإما إذا سخطت العامة لم ينفعه رضى الخاصة... لأنهم يثقلون عليه بالحاجات و المسائل و الشفاعات فإذا عُزِل هجروه و رفضوه حتى لو لقوه في الطريق لم يسلموا عليه»(2). أمّا العامة فهم العدّةَ للأعداء، وهم السواد الأعظم. وهم عمود الدين، واستعارة لفظ العمود لهم لأنّ قيام الدين بهم كقيام البيت بالعمود(3)، ولذا فضّلهم، وأمر أن يكون صغو الوالي لهم. والصِّغو بالكسر والفتح: الميل(4).

قال ابن المقفع في الأدب الكبير ما يشبه هذا بشدّة: «البس للناسِ لباسینِ لیس للعاقلِ بدٌّ منهما، ولا عیشَ ولا مروءةَ إلا بهما: لباسَ انقباضٍ واحتجازٍ من الناسِ، تلبسهُ للعامةِ فلا یلقونكَ إلا متحفظاً متشدداً متحرزاً مستعداً، ولباسَ انبساطٍ واستئناسٍ، تلبسهُ للخاصةِ الثقاتِ من أصدقائك فتلقاهمُ

ص: 411


1- نهج البلاغة 502
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 17 / 26
3- ينظر: شرح نهج البلاغة لابن ميثم 5 / 337
4- ينظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 17 / 26

بذاتِ صدركَ وتفضي إليهم بمصونِ حديثكَ وتضعُ عنكَ مؤونةَ الحذرِ والتحفظِ في ما بينكَ وبينهم»(1).

وكان ابن المقفع قد أورد هذا في أدبه الصغير، فقال: «وعلی العاقلِ أن یجعل الناسَ طبقتینِ متباينتینِ، ويلبس لهم لباسینِ مختلفینِ، فطبقةٌ من العامة يلبسُ لهم لباسَ انقباضٍ وإنحجاز وتحفظٍ في كل كلمةٍ وخطوةٍ، وطبقةٌ من الخاصة يخلعُ عندهم لباسَ ويلبسُ التشدد لباس الأنسة واللطف والبذلة والمفاوضة»(2).

وعلى أيَّة حال فإنّ التقسيم بين كلام الإمام نفسه، والمعنى نفسه أيضاً، فضلاً عن تكرار بعض الألفاظ في النصوص الثلاثة.

إلاّ أنّ ابن المقفع أوصى بالعامة ما أوصاه أمير المؤمنين علیه السلام للعامة. ولعلَّ السبب في ذلك عائدٌ إلى توظيف ابن المقفع هذهِ الفقرة المذکورة من العهد مع الصدیق، والصداقة تبتغي تقریب الخواص، والتحرُّز من العوام.

أمّا تكراره لحكم أمير المؤمنين علیه السلام فکان قد شکّل علامة بارزة جدّاً في رسائله. ومن هذا إن لأمیر المؤمنین علیه السلام حکمةً بیّن فیها حسن الفعل إذا رجح علی القول، وقبح القول إذا قصر عن الفعل، فقال:

«إنَّ فَضْلَ القَوْلِ علی الفعْلِ لُهجْنَةٍ، وإنَّ فضْلَ الفِعْلِ علی القوْلِ لَجمالٌ وزینةٌ»(3).

ص: 412


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 106
2- م. ن 22
3- غرر الحكم ودرر الكلم 137. وینظر: میزان الحکمة 3 / 463

ضمّن ابن المقفع هذهِ الحكمة في أدبه الكبير، فقال:» فإن فضل القولِ علی الفعلِ عارٌ وهُجنةٌ، وفضلَ الفعلِ علی القولِ زینةٌ»(1).

والملفت هنا إنّ ابن المقفع قد زاد لفظة «عار» على حكمة الحكيم أمير المؤمنين علیه السلام، لکنّه لما کررها حذف هذهِ اللفظة، مع قلبه للحکمة، فقال: «واعلم أن فضلَ الفعلِ علی القولِ زینةٌ، وفضل القولِ علی الفعلِ هُجنةٌ»(2).

وقال أمير المؤمنين في وصيته لولدهِ الحسن علیه السلام:

قطيعة الجاهل تعدلُ صلة العاقل»(3).

فكما أنّ من يواصل العاقل يغتنم من عقله فكذلك من يقاطع الجاهل يغتنم السلامة من جهله.

فكَّكَ ابن المقفع هذا المعنى وأورده في موضعين، مرّةً في الأدب الكبير، فقال موصِیًا بقبول عذر المعتذر، ومستثنياً: «إلاّ أن یکون قطیعته غنیمة»(4). وهذه هي «قطیعة الجاهل» في حکمة الإمام علیه السلام.

والأخری في الأدب الصغیر حیث قال: «ولقاء الأخوان، وإن کان یسیراً، غنم حسن»(5). وهذه هي «صلة العاقل» في حکمة الإمام علیه السلام.

وقال علیه السلام مشبِّهاً صاحب السلطان براکب الأسد، لما في هذا المنصبّ من خوف واضطراب:

ص: 413


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 103
2- م. ن 120
3- نهج البلاغة 471
4- الأدب الصغير والأدب الكبير 107
5- م. ن 29

«صَاحِبُ اَلسُّلْطَانِ کَرَاکِبِ اَلْأَسَدِ: یُغْبَطُ بِمَوْقِعِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَوْضِعِهِ»(1).

كرّر ابن المقفع هذهِ الحكمة ثلاث مرات، فقال في الأدب الكبير مخاطباً السلطان الذي لم یضبط أمور جنوده:» فإنما أنت في ذلك كراكبِ الأسدِ الذي يهابهُ من نظر إليه، وهو لمركبهِ أهيبُ»(2).

ثمّ كرّر هذا في الأدب الكبير أيضاً، ولكن بالمعنى، فقال: «اعلم أنّ أکثرَ الناسِ عدواً جاهداً حاضراً جريئاً واشياً وزيرُ السلطانِ ذو المكانةِ عندهُ. لأنهُ منفوسٌ عليه مكانهُ بما ينفسُ على صاحبِ السلطانِ، ومحسود كما یُحسَدُ. غير أنّهُ يُجْتَراُ عليه، ولا يجترأ على السلطان»(3).

ثمّ عاد ثالثةً، ولكن عدل عن المعنى ليعود إلى التضمين، فقال في رسالة الصحابة: «... فهو كراكب الأسد الذي يُوجَل من رآه، والرّاكبُ أشدُّ وجلاً»(4).

وفي حكمة له علیه السلام نهی فیها عن المنِّ بعد إسداد معروف لأحدٍ، فقال:

«أحْیُوا المعروفَ بإماتَتِهِ، فإنّ المنّةَ تَهدِمُ الصَّنیعةَ».

ضمّن ابن المقفع هذه الحكمة بتمامها في أدبه الكبير لكنّه نثرها بمقطع نثري

ص: 414


1- نهج البلاغة 601
2- الأدب الصغير والأدب الكبير 601
3- م. ن 85
4- جمهرة رسائل العرب 3 / 33

طويل، منه موطن الشاهد: «إذا کانت لكَ عند أحدٍ صنیعةٌ... فالتمس إحیاءَ ذلك بإماتتهِ...، فإن الاستطالةَ تهدمُ الصنیعةَ»(1).

وفي أدبه الصغير ذكر هذا ولكن بإيجاز، فقال: «لا یری العاقلُ معروفاً صنعهُ، وإن کن کثیراً»(2).

وقال أمير المؤمنين علیه السلام:

«مَا أَضْمَرَ أَحَدٌ شَیْئاً إِلاَّ ظَهَرَ فِي فَلَتَاتِ لِسَانِهِ، وَصَفَحَاتِ وَجْهِهِ»(3).

أخذ ابن المقفع هذا المعنى وبعض ألفاظه، فقال في أدبه الكبير: «إیاك أن یقع في قلبك تعتبٌ على الوالي أو استزراءٌ لهُ. فإنهُ إن وقعَ في قلبك بدا في وجهكَ، إن كنت حليماً، وبدا على لسانكَ، إن كنتَ سفيهاً»(4).

ثمّ كرّر هذا في أدبه الكبير أيضًا، فقال يعرفهُ من نفسهِ، وقد كان يطمعُ في إخفائهِ عن الناسِ، فيعيرهُ به معیرٌ عند السلطانِ أو غيرهِ، إلا كاد يشهدُ بهِ عليهِ وجههُ وعيناهُ ولسانُهُ، للذي يبدو منهُ عندَ ذلكَ»(5).

فالمعنى بين حكمتي ابن المقفع وأمهما حكمة أمير المؤمنين علیه السلام واحد تماماً، وهو لا يستطيع أحدٌ أن يبقي ما أضمره مضمراً، لأنّ ما يضمره القلب يتبیّن على

ص: 415


1- الأدب الصغير والأدب الكبير 108 - 109
2- الأدب الصغير والأدب الكبير 59
3- نهج البلاغة 554
4- الأدب الصغير والأدب الكبير 84
5- م. ن 116

صفحات الوجه بتلوّنها، وعلى اللسان بفلتاته، فضلاً عن تكرارهِ ألفاظٍ علوية بنصها من نحوِ: «وجهك، ولسانك «في حكمته الأولى. و «أحد، وجهه، لسانه «في حکمته الثانیة. وألفاظ أخری حوّر في ثوبها دون معناها، فقد أبدل «ظهر» «وقع في قلبك» في الأولی وب«إخفائه» في الثانیة.

ومن طرق ابن المقفع الملتوية بالتكرار هي أنّه كان يأتي على الحكمة العلوية فيضمِّنها، ثمَّ يذكرها ثانية بالمعنى، وثالثةً يقرُّ بأنها ليست لهُ فيقول: كان یُقال. وما أظنّ ذلك إلاّ ليضیّع مصدرها الأصل الذي لم يكن محبَّبًا لدی أسیاد ابن المقفع.

فمن الحكم العلوية التي فعل ابن المقفع هذا معها قوله علیه السلام:

«وَکَانَ إِذَا بَدَهَهُ أَمْرَانِ ینَظَرَ أَیُّهُمَا أَقْرَبُ إِلَی اَلْهَوَی فَیُخَالِفُهُ»(1).

ضمّن ابن المقفع هذا في أدبه الكبير، فقال: «إذا بدهكَ أمرانِ لا تدري أیهما أصوبُ فانظر أیُهما أقربُ إلى هواكَ فخالفهُ»(2).

ثم كرّر هذهِ في أدبه الصغير، فقال: «العاقل إذا اشتبه علیه أمرانِ فلم یدرِ في أيهما الصوابُ أن ينظر أهواهما عندهُ، فيحذرهُ»(3).

وثالثةً ذكر هذا لكن بمعناه، فقال: «وکان یقالُ: إذا تخالجتك الأمور فاشتغل بأعظمها خطراً»(4).

ص: 416


1- نهج البلاغة 605
2- الأدب الصغير والأدب الكبير 126
3- م. ن 24
4- م. ن 42

وبطريقة مماثلة تعامل ابن المقفع مع حكمة أمير المؤمنين علیه السلام التي تقول:

«من الحِکْمةِ طاعتُك مَنْ فوقَك، وإجلالُكَ مَنْ في طبقتك، وإنصافُكَ لَمنْ دونك»(1).

فضمّنها في أدبه الصغير مع تحوير جزئي وشكلي، فضلاً عن التأخير والتقديم بين فقرتيها الأخيرتين، فقال: «وکان یقالُ: وقّر من فوقك، ولن لمن دونك، وأحسن مؤاتاة أكفائك»(2).

أمّا في الأدب الکبیر فقد أحذ المعنی المذکور، فقال: «لتكن حاجتُكَ في الولایة إلی ثلاثة خصالٍ: رضي ربكَ ورضی سلطانٍ، إن کانَ فوقك، ورضی صالحِ من تلي علیهِ»(3).

ومن طرقه الأخری بالتکرار هي تقدیمه وتأخیره في ألفاظ الحکمة العلویة، فمن حکمة لأمیر المؤمنین علیه السلام، قال فیها:

«اَلظَّفَرُ بِالْحَزْمِ، وَاَلْحَزْمِ بِإِجَالَةِ اَلرَّأْيِ، وَاَلرَّأْيُ بِتَحْصِینِ اَلْأسْرَارِ»(4).

ضمّن ابن المقفع هذهِ الحكمة في ادبه الصغير بنصها، فقال: «الظفر بالحزم، والحزم بإجالة الرأي، والرأي بتحصين الأسرار»(5).

ثمّ عاد في رسالة أخری وکأنه بعثر کلمات الحکمة لما قال: «بالحزم یتمُّ الظفر،

ص: 417


1- عيون الحكم والمواعظ 473
2- الأدب الصغير والأدب الكبير 43
3- م. ن 69
4- نهج البلاغة 561
5- الأدب الصغير والدب الكبير 53

بإجالة الرأي تظفر بالحزم»(1) وكان ابن المقفع في بعض الأحيان يعمد إلى نصيين علويين أو أكثر فيلفقهما ويوردهما في رسالة، ثمّ يكرر هذا التلفيق في رسالة أخری. فمن ذلك إنّه أتی علی حکمة أمیر المؤمنین علیه السلام التي تقول:

«اَلْأَقَاوِیلُ مَحْفُوظَةٌ، وَاَلسَّرَائِرُ مَبْلُوَّةٌ «وَکُلُّ نَفْسٍ بِمَا کَسَبَتْ رَهِینَةٌ»، وَاَلنَّاسُ مَنْقُوصُونَ مَدْخُولُونَ إِلاَّ مَنْ عَصَمَ اَللهُ، سَائِلُهُمْ مُتَعَنِّتٌ، وَمُجِیبُهُمْ مُتَکَلِّفٌ، یَکَادُ أَفْضَلُهُمْ رَأْیاً یَرُدُّهُ عَنْ فَضْلِ رَأْیِهِ اَلرَّضَی وَاَلسُّخْطُ، وَیَکَادُ أَصْلَبُهُمْ عُوداً تَنْکَؤُهُ اَللَّحْظَةُ، وَتَسْتَحِیلُهُ اَلْکَلِمَةُ اَلْوَاحِدَةُ»(2).

وعلی خطبة طویلة لأمیر المؤمنین علیه السلام وصف فیها المنافقین منها:

«وَصْفُهُمْ دَوَاءٌ، وَقَوْلهُم شِفَاءٌ... یَتَقَارَضُونَ اَلثَّنَاءَ، ویَتَرَاقَبُونَ اَلْجَزَاءَ»(3).

فلفّقهما في الأدب الصغير قائلاً: «الناسُ، إلا قلیلاً ممن عصم اللهُ، مدخولونَ في أمورهم: فقائلهم باغٍ، وسامعهم عيابٌ، وسائلهم متعنتٌ، ومجيبهم متكلفٌ، وواعظُهمُ غیرُ محققٍ لقولهِ بالفعلِ، ... والحازم منهم غير تارك لتوقعُ الدوائر يتناقضُون الأنباء، ويتراقبون الدول»(4).

أدّخر ابن المقفع تلفيقه هذا وجعله مقدِّمة لرسالتهِ الدرّة اليتيمة فقال: «وقد أصبح الناس - إلا قليلا ممن عصم الله - مدخولين منقوصين، فقائلهم باغٍ،

ص: 418


1- آثار ابن المقفع 342
2- نهج البلاغة 613
3- م. ن 355 - 356
4- الأدب الصغير والأدب الكبير 29 - 30

وسامعُهم عيَّاب؛ سائلُهم متعنِّت ومُجيبهم متكلِّف، وواعظُهم غير محقِّقٍ لقوله بالفعل،... يتقارضون الثناء، ويترقبون الدُّول، ويعيبون بالهمز، يكاد أحزمهم رأياً يلفتهُ عن رأيه أدنى الرضا وأدنى السُّخْط»(1).

ونلاحظ هنا - كما لاحظنا سابقاً - إنَّ ابن المقفع قد ضمّن النص العلوي تعديلاً شكلياً على بعضهِ الآخر، ثم يأتي على نصهِ الذي حوّر فيه ویحور فیه ثانیةً، فمثلاً قول الإمام علیه السلام: «یکاد أفضلهم رأياً يردّه عن رأيه الرِّضى والسخظ». حوّر فيهِ ابن المقفع طفيفاً لما قال في الدّرة اليتيمة: «یکاد أحزمهم رأیاً یلفته عن رأیه أدنی السخط». ولكن في الأدب الكبير ذكر الفكرة بمعناها لمّا قال: «والحازم منهم غیر تارك لتوقع الدوائر».

هذا هو فيضٌ من غيض من تكرارات ابن المقفع لكلام الإمام علي علیه السلام، لأنّ القائمة تطول جدّاً بهذهِ التكرارات، ولولاها لذهب جانب كبير من كمية نتاجات ابن المقفع.

ولهذا دلالات على الرغم من إنّها كاشفة عن نفسها إلا أنّ منها:

1 - إنّ هذا التكرار دليل لا يضلُّ على الكشف بوضوح إنّ ابن المقفع كان وإستحضارهِ لهذا الكلام في جميع رسائلهِ المشهورة بلا استثناء 2 - إنّ هذا التكرار يكشف إنّ ابن المقفع كان يری في کلام أمیر المؤنین علیه السلام زينةً يزدان بها الكلام، وركيزة يرتكز عليها القول - بفنونه وأغراضه المتعددة - ولذا رغب في أن يزين كلامَه بهذه الزينة إذا أنَّ «من عادة النفس سرعة الالتفات

ص: 419


1- جمهرة رسائل العرب 3 / 48 - 49

إلى ما أنسته وعرفته»(1).

3 - يستجلي هذا التكرار عمق إيمان ابن المقفع بأنّ في كلام أمير المؤمنين وأفکارهِ علیه السلام الطريقة المثلى في تحديد المشكلات، وتقديم الحلول الناجحة لها.

4 - إنّ تكرار ابن المقفع لهذهِ الحكم العلوية دليلٌ آخر على أنّ هذهِ الحكم هي ليست لابن المقفع، وإلاّ لو كانت له لما حوّرَ فيها هنا، وأعادها بنصِّها هناك، ثمَّ نسبها للحكيم في مكانٍ ثالث.

ص: 420


1- معايير الحكم الجمالي 234

الخاتمة و النتائج

ص: 421

ص: 422

الخاتمة والنتائج

كانت هذه رحلة شاقة وشیّقة استجلينا من خلالها الأثر المهيب الذي تركه کلام أمیر الکلام علیه السلام على كلِّ من الحسن البصري وابن المقفع، ومن خلال هذه الرحلة توصلنا إلى حقائق عدّة غُطیّت - طوعًا أو كرها - مئات السنين، منها:

1 - تبیّن بوضوح أنّ كلام أمير المؤمنين علیه السلام کان مدوَّنًا ومحفوظًا ومشهوراً منذ القرن الأوّل الهجري، ولهذا سلكت الدراسة طريقين يدعم بعضهما بعضًا:

الأول:

الاعترافات الصريحة بذلك من نحو شهادة الجاحظ وغيره، وكذلك أسماء الكتب التي ذكرها ابن نديم والطوسي وغيرهم، والتي اختصت بجمع كلامه علیه السلام.

الثاني:

التأثير المهيب الذي تركه كلامه علیه السلام علی النثر العربي في ذلك القرن والقرن

ص: 423

الذي بعده بطريقةٍ تدلّل على أنّ الكتاب كانوا يقرؤُون كلامهيشاؤون من جملةٍ، أو مقطع، ولربما رسالة أو خطبة كاملة.

2 - تبیّن إبطال الشك في عهد أمير المؤمنين علیه السلام لمالك الأشتر، ذلك الشك القائم على الطول، وعلى أنّ العهد لم يكن موجودًا في زمن الطبري، ولو كان موجودًا في زمنه لدّونه في تأريخهِ، في حين إنّ الدراسة أثبتت أنَّ ابن المقفع معتمدٌ اعتمادًا مباشرًا على وصايا العهد، فقد أخذ منه عشرات النصوص بين التضمين الحرفي، والمحوّر، والأخذ بالمعنى وغير ذلك، وعلى هذا فإنّ العهد كان موجودًا ومقروءًا ومؤثّرًا قبل الطبري بأكثر من مائتي عام.

3 - من آثار كلام أمير المؤمنين علیه السلام علی الأدیبین المذکورین، هو ذلك التفاوت في حجم النص النثري، من الطول المهيب، بحيث وصل إلى درجة - التشكيك - إلى الطول، إلى التوسط، إلى الإيجاز الشديد بحيث لا تتجاوز الرسالة السطر الواحد أو بعضه، وهذه هي طريقة علوية بامتياز سارَ عليها الأديبان سیرًا واضحًا لا لبس فيه، فقد وجدنا عند البصري رسالة تربو على المائة سطر، وأخر لا تتجاوز سطرًا واحدًا، وكذلك الأمر عند ابن المقفع.

4 - بطلان الشكوك التي أثيرت حول علم الكلام أو علم التوحيد، ذلك العلم الذي برع بهِ أمیر المؤمنین علیه السلام، وذلك لمّا رأينا أنّ هذا الفن من الكلام كانَ هناك من أخذه عنه علیه السلام وتأثَّر بهِ في القرن الأول الهجري کالإمام زین العبدین علیه السلام.

5 - وجدنا أنّ أصحاب المعجمات اللغوية قد وثقوا الخطبة الشقشقية، وذلك

ص: 424

لما استشهدوا بألفاظٍ ومقاطع كثيرة منها، و صرّحوا بمبدعها، وهذا الاستشهاد دليلٌ جازم على صدورها من المنبع العربي الأصيل والمؤسس للكلام العربي.

6 - من التهم التي وجهت لكلام أمير المؤمنين علیه السلام وجود التقسیمات العددیة فيه، وهذا تبیّن بطلانه من خلال أثر هذا الإسلوب الحرفي على الحسن البصري وابن المقفع وغيرهما.

والغريب إنّ هذا الأمر تعامل معه بعض الأدباء بمعايير فيها ازدواجية، عدوه أمرًا مكذوبًا عليه، بينما عند البصري - وبحكمهم - ميزة من ميزات نثره، ولا ننسى أنّ الجميع - إلى درجة لا يختلف فيها اثنان - متفق على كون البصري ذي ثقافة إسلامية عربية محضة، و لمّا وصلوا إلى إبن المقفع رأوا بأنّ هذا الأخير أتى بهذا الفن النثري من اليونان.

هذا كلّه أمر مجانب للصواب جملةً وتفصيلاً، لأنّ هذه التقسيمات أخذها الأديبان بالنص أو المعنى عن أمير المؤمنين، وسنذكِّر ببعضها هنا.

من نحو قول: البصري «... وإنّما إذا فکرت فیها الدنیا ثلاثة أیام...» الذي أخذه من الحکمة العلویة: «وإلا إنَّ الأیام ثلاثة...».

ومن نحو قول ابن المقفع «.. إنما أنت أحد رجلين»، فقد أخذه من عهد الإمام لمالك: «.. إنما أنت أحد رجلین».

ومن نحو قول ابن المقفع أيضًا: «من ذهب حیاؤه ذهب سروره، ومن ذهب سروره مقت، ومن مقت أوذي...»، فکان قد استوحی هذا مما ورد في حكمة أمیر المؤمنین «.. ومن كثر كلامه فقد كثر خطؤه، ومن كثر خطؤه قلَّ حياؤه، ومن

ص: 425

قلَّ حياؤه قلَّ ورعه..».

أمّا قوله علیه السلام: «الصبر صبران: صبرٌ على ما تكره، وصبر على ما تُحب»، فقد أخذه الأديبان كلاهما، حيث قال البصري: « الصبر صبران: صبر عند المصیبة، وصبر عن المعصیة»، وقال ابن المقفع: «واعلم أنَّ الصبر صبران: صبر المرء علی ما يكره، وصبره عما يحب».

وغير هذا كثير أشرنا له في طیّات الرسالة.

7 - لم تخلُ أيّ رسالة أو خطبة عند البصري من أثر علوي بالغ، وكذلك رسائل ابن المقفع الأربع المشهورة (الأدب الكبير، الأدب الصغير، رسالة الصحابة، الدّرة اليتيمة) وأكثر من هذا إذ لم أجد ولا صفحة واحدة من صفحات الأدب الصغير تخلوا من أثرٍ لكلام الإمام علیه السلام.

يوضح دون ريب واقع ّ ية المقولة التي  8 - إنّ هذا الأثر الذي تركه كلامه علیه السلام یوضح دون ریب واقعیّة المقولة التي دونها الشيخ المفيد (لولا كلام علي بن أبي طالب وخطبه وبلاغته في منطقه ما أحسن أحد أن يكتب إلى أمير جند ولا إلى رعیّة). فهذه الشهادة وما شابهها من شهادة كثيرة جدًّا من قِبَل النقاد والأدباء تبیَّن الآن وبالدلیل أنها لم تکن من باب المبالغة، بل هي حقيقة ملموسة كان قد تُنُبِّه إليها قديًما، فجاءت هذهِ الدراسة تؤيد تلك الشهادات، والشهادات تشهد من جانها على صحة هكذا دراسات.

ولا مغالاة فلولا كلامه علیه السلام لم یصلنا نتاج البصري وابن المقفع - لا کمًّا ولا نوعاً - کما وصلنا في هذهِ الحلة.

9 - ثبت أنّ جميع كلام البصري أو جلّه من كلام أمير المؤمنين علیه السلام بالحرف أو

ص: 426

المعنى أو بينهما، وعليه لم يثبت من الآراء القديمة حول مرجعية ثقافة البصري الأدبية إلاّ رأي الشريف المرتضى، الذي عدَّ كلَّ كلام البصري أو غالبيته من كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام.

10 - كان البصري عندما يتحدّث یُسأل عن بعض الأحاديث لمن هي، فينهر السائل ولم يُجبه، فأثبتت الدراسة أنّ تلك الأحاديث تعود لأمير المؤمنين علیه السلام.

11 - من المؤسف أسفًا شديدًا إنّ البصري وعلى الرغم من تأثره الكامل بأمیر المؤمنین علیه السلام لم يذكر اسمه ولا مرّة واحدة، في حين يذكر أسماء الآخرين الذين يستشهد بكلامهم، إبتداءً من لقمان الحكيم، وانتهاءً بالخلفاء الراشدين الثلاثة الأوائل.

12 - لم يكن للحسن البصري أي أسلوب ممیّز مقارنة بكلام أمير المؤمنين علیه السلام، إذ كان الأسلوب العلوي مهيمنًا هيمنة تامة على نثر البصري، سواء من ناحية الشكل أم المضمون.

13 - وجدنا إنّ من النصوص العلوية هي نصوص قرآنية، أجر بعض التغيرات، فكان البصري قد تأثر ببعض هذهِ دون أن يتأثر بالنص الأصل.

14 - إنّ الأديبين وعلى الرغم من كونهما يكتبون مدّة حياتهم لسلطات تخالف مشروع أمير المؤمنين علیه السلام الفکري إلاّ أنّهم بقوا مأسورین لکلامهِ علیه السلام.

15 - إنّ الأديبين عاشا في العصر الذهبي للنثر العربي، وكانا يتطلعان إلى جلب أسماع متلقيهم، فعمدوا إلى التفتيش عن لباب الحكم وأبكار المعاني، فوجدوها في كلام أمير المؤمنين علیه السلام.

ص: 427

16 - إنّ اغلب - ولربما جميع - تأثر الأديبين الذي شخصته الدراسة هو يا، بمعنى إنّهما لم يبدلا استبدالات جريئة في النص العلوي - وإن أقدموا علی هذه الخطوة يقصِّرون - وهذا عائدٌ إلى إيمانهم بأنّ النص العلوي نصٌّ متكامل لا يمكن التجديد فيه تجديدًا حسنًا.

17 - من الطرق التي اشترك فيها الأديبان هي التقديم والتأخير بين مكوِّنات النص العلوي الذي يوردانهِ.

18 - كان البصري يجمع نصوصًا علوية عدّة ويسكبها في نصٍّ واحد، ولكن هذا النص الواحد - لأنّه ملفّق من نصوص عدة - بانَ عليه عدم الانسجام، وفي محاولةٍ من البصري لتذليل عدم الانسجام هذا جعل يربط بين المقطع والآخر بعبارة يخترعها هو من نحو تكرار (يا ابن آدم)، أو تكرار (احذرها) مخاطبًا الدنيا، أو تكرار اسم صريح بعينه وغير ذلك، ولكن هذا الرابط لم يشفع للبصري فقد بقيت نصوصه الطوال ينتابها عدم الانسجام، والسبب هو ما بیّنّاه لا غیر.

19 - كثیرًا ما كان الأديبان يكرِّران بعض كلام أمير المؤمنين علیه السلام، ولیس مرّة واحدة فحسب، بل لربما يكرِّران المقطع العلوي الواحد أكثر من خمس مرات، وهذا التكرار أو حضور النص العلوي الواحد في نصوص عدة - وبفنون مختلفة - للأديبين عائد بالدرجة الأساس إلى كثرة قراءة ذلك النص وترديده وحضوره في ذهن الأديب أولاً، وثانیًا إيمان الأديب الذي قام بهذهِ العملية بأنَّ هذا الكلام - المُکرَّر - هو زينة يزدان بها النص الإبداعي، وذي قابلية على التأثير على المتلقي ولذا قاما بتكرارهِ، أي طمعًا بنفعهِ الذي سيعود بهِ على النص المتأثِّر.

20 -تبعا الأديبان - وهما يكرران كلام أمير المؤمنين علیه السلام - طرقاً عدّة فمرّة یضمّنان النص العلوي حرفیًّا ويكرِّرانه حرفیًا أيضًا، أو يكرِّرانه بتحوير طفيف،

ص: 428

أو يكرّرانه بالمعنى، وفي مرّات عدّة كان قد اتّبعا هذا كله، مع النص العلوي الواحد، بمعنى إنهما يضمِّنانه بنصه، ثم يكرّرانه بنصّه أيضًا، ثم بتحوير طفيف، ثم بالمعنى... وهکذا.

21 - من طرق الحسن البصري في تكرارهِ كلام الإمام علیه السلام هي أخذه للعبارة العلوية وتكرارها في مكانٍ واحدٍ، وفي أحيانٍ كثيرة بدون أي فاصل يذكر بين النص الأصل وتكراره، وهكذا تكرار يذمّه النقاد لخلوِّه من الجدّة.

22 - من طرق ابن المقفع التي كان يكرر بها كلام أمير المؤمنين علیه السلام هي ذکره لذلك الكلام منسوبًا لمن أسماه بالحكيم، ويكرّره ثانية - مع تغيير جزئي وطفيف - ولكن دون أن ينسبه لذلك الحكيم.

23 - صرح ابن المقفع مرارًا وتكرارًا بتأثّرهِ الكبير، فقال: إنّ جميع كلامه - إلاّ اشتقاقاتٍ صغار - مأخوذ من أُناسٍ لم يذكر أسماءهم الصريحة، بل أسهب في ذكر صفاتهم الخلقیّة والخُلُقیّة، والآن بیّنت الدّراسة بالدليل تصدر أمير المؤمنین علیه السلام لهؤلاء الموصوفین.

24 - وجدت الدراسة أيضًا إنّ ابن المقفع كان قد تأثر تأثّرًا نصِّیًّا بالرسول الأکرم صلی الله علیه وآله وببعض أئمة أهل بيت النبوة كالإمام زين العابدين، والإمام الصادق علیه السلام.

ومن هذهِ النتائج انكشف بطلان النظريات التي اتهمت ابن المقفع - بسبب مدحهِ للقدماء وتأثّرهِ بهم - وعدّته لا أخلاقیًّا، ویرید الجمود، ویجلّ الفرس ويعلّي من شأنهم، وينكلّ بالعرب، فبعد أمد طويل تبیّن إنّ ابن المقفع لم يكن يقصد إلاّ أناسًا عربًا أقحاحًا، بل من سادات العرب وأشرفهم في الجاهلية والإسلام.

ص: 429

25 - كان ابن المقفع يورد الحكمة وينسبها للحكيم، هذا الحكيم فُسِّر - من غير دليل - بالفارسي، والآن بينت الدراسة إنّ الحكيم هو أمير المؤمنين علیه السلام.

26 - كان ابن المقفع يورد الحكمة ويقدّم لها بقوله «کان یقال»، أو «سمعت العلماء قالوا»، فوجدت الدراسة إن غالبية هذهِ الحكم للإمام علي علیه السلام.

27 - صرح ابن المقفع باشتقاقه أفكارًا من كلام الذين أسماهم ب»الأولین»، وهذا الاشتقاق - أو ما أسميناه بالبسط - هو من كلام أمير المؤمنين علیه السلام، فقد كان ابن المقفع يأتي على الحكمة العلوية الموجزة فيتوسع عليها توسعًا كبیرًا حتى وجدنا بعض الزيادات التي يجريها ابن المقفع على النص العلوي مطابقة تمامًا لشرح ذلك النص من قِبل شرّاح (نهج البلاغة).

و لمّا عرفنا بأنّ ذلك الكلام المشتق منه هو لأمير المؤمنين علیه السلام، کان من العدل والرشاد أن نقول: إنّ عليّ بن أبي طالب يقف على رأس هؤلاء «الأولین» لا علی أنّهم من الفرس أو الیونان.

28 - قلّل ابن المقفع من إيراد الحكمة العلوية بطريقة الإيجاز إلى درجة لا تكاد تكون هنالك نسبة عددية بين الحكم التي أوجزها والأخر التي بسطها، وما ذلك إلاّ لأنّه كان على يقين بأنّ كلام أمير المؤمنين علیه السلام مسبوك سبکًا خاصًا على صعيدي الشكل والمضمون، وعليه فإنّ أيّ شيءٍ يحذف منه سيهدّ جزءًا لا يُستغنى عنه، بمعنى أنّ تأثیرًا سلبیًا - حتمیًّا أو شبه حتميٍّ - سیکون من جرّاء عملية الإيجاز لو حصلت، لذا ابتعد ابن المقفع عنها.

29 - كثیرًا ما كان ابن المقفع يقدم للمقطع العلوي الذي يضمنه بفعل الأمر أو لام الأمر، وما ذلك إلاّ رغبةً منه للتأكيد أو للفت الإنتباه إلى ما سيورده.

ص: 430

30 - كثيرًا ما كان ابن المقفع يحوّر شكلیًّا في کلام أمیر المؤمنین علیه السلام، ومن ذلك استعماله الضمير بدلاً من الإسم الصريح، أو بالعكس.

31 - إنّ من بواعث التأثير العلوي على ابن المقفع هو تلك الموسوعية الهائلة التي اتصف بها أمیر المؤمنین علیه السلام قولاً وفعلاً، فهو المحارب العظيم، وهو المنظم العسكري، وهو الفيلسوف، وهو العابد الزاهد، وهو الاقتصادي، وهو السياسي.... فهذه الموسوعية وظّف ابن المقفع جانبًا كبیرًا منها فوجدناه - بشهادة كلامهِ - واعظاً، وسیاسیًا، واقتصادیًا، وداعیًّا إلى الزهد، فكان في هذا كلهِ منظمًا دقيقًا يذكر المشكلة ويعطي دواءها، ونحن والكلّ يعرف إنّ ابن المقفع لم يمارس هذه الأمور والمهمّات الجسام حتى تكون له تلك المقدرة والموسوعية الواسعة على تشخيص الداء ووصف ما يناسبه من دواء، ولكن العلة الكامنة وراء ذلك هي جمعه لكلام أمير المؤمنين علیه السلام ونظریاته الخالدة في هذه الموضوعات المتعددة.

32 - كان ابن المقفع يشدد على النهي عن استعمال الرأي إذا كان الإمام موجودًا، لأن الإمام - بنظر ابن المقفع - له المقدرة العلمية التي تعينه على استنباط الحل الأمثل لكل معضلة، في حين لم يصل إلى هذه الدرجة عامة الناس بآرائهم، ولذا نصحهم ابن المقفع بالتخلي عن آرائهم والامتثال لأوامر الإمام.

ص: 431

ص: 432

المصادر و المراجع

ص: 433

ص: 434

المصادر والمراجع

1 - القرآن الكريم.

2 - الإبداع في الفن، أ. د. قاسم حسين صالح، دار دجلة، المملكة الأردنية، ط 1، 2007 م.

3 - ابن المقفع، حنا الفاخوري، دار المعارف، مصر، د. ت.

4 - الإتجاه الأسلوبي في النقد الأدبي، د. شفيع السيد، دار الفكر العربي، الكويت، 1986 م.

5 - الإتجاهات الفكرية عند الإمام علي علیه السلام، د. رحیم محمد سالم، مرکز الشهیدین الصدرين للدراسات والبحوث، ط 1، 2007 م.

6 - الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين السيوطي (ت 911 ه)، تحقيق سعيد المندوب، دار الفكر، لبنان، ط 1، 1996 م.

7 - الأثر العربي في أدب سعدي (دراسة أدبية نقدية مقارنة)، د. أمل إبراهيم دار

ص: 435

الفكر العربي، 2003.

8 - أثر القرآن الكريم في اللغة العربية، أحمد حسين الباقوري، دار المعارف، مصر، ط 4، 1987 م.

9 - أثر القرآن في الأدب العربي في القرن الأول الهجري، د. ابتسام مرهون الصفار، مطبعة اليرموك، بغداد، ط 1، 1974 م.

10 - الأثر القرآني في نهج البلاغة (دراسة في الشكل والمضمون)، د. عباس علي حسين الفحّام، من إصدارات العتبة العلوية المقدّسة، 2011 م.

11 - الاحتجاج، العالم الفقيه أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي (من أعلام القرن السادس الهجري)، تعليق محمد باقر الموسوي الخرساني، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت - لبنان، ط 1، 2004 م.

12 - الإختصاص، الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد بن النعمان العكبري المشهور بالمفيد (ت 413 ه)، تحقيق علي أكبر الغفاري، السيد محمود الزرتدي، دار المفيد، بيروت - لبنان، ط 2، 1993 م.

13 - الأدب الإسلامي في عهد النبوة وخلافة الراشدين، د. نايف معروف، معروف، دار النفائس، بيروت - لبنان، ط 3، 2005 م.

14 - الأدب الصغير، ابن المقفع، شرح وتحقيق الأستاذ أحمد زكي باشا، دار ابن حزم، بيروت - لبنان، ط 1994، 1 م.

15 - الأدب الصغير والأدب الكبير، ابن المقفع (ت 142 ه) دار صادر، بيروت، ط 2، 2005 م.

16 - أدب العرب، مارون عبود، دار الثقافة، بيروت، 1960 م.

ص: 436

17 - الأدب المقارن، مجدي وهبة، الشركة المصرية العالمية للنشر (لونغمان)، 1991 م.

18 - الأدب المقارن د. محمد غنيمي هلال، دار العودة، بيروت - لبنان، ط 5، د. ت.

19 - الأدب المقارن فان تيجم، دار الفكر العربي، د. ت.

20 - الأدب وفنونه دراسة ونقد، د. عز الدين إسماعيل، دار الفكر العربي، ط 2، 1958 م.

21 - الأساليب الأدبية في النثر العربي القديم من عصر علي بن أبي طالب علیه السلام إلى عصر ابن خلدون، د. كمال اليازجي، دار الجيل، بيروت - لبنان، ط 1، 1986 م.

23 - الأسس الجمالية في النقد الأدبي، د. عز الدين إسماعيل، دار الفكر العربي، القاهرة، ط 2، 1968 م.

24 - إشكاليات القراءة والتأويل، نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، ط 4، 1996 م.

25 - الإعجاز العلمي عند الإمام علي علیه السلام، د. لبیب بیضون، مؤسسة الأعلمي، بیروت - لبنان، ط 1، 2005 م.

26 - الأعلام، خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت - لبنان، ط 5، 1980 م.

27 - أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين (ت 1371 ه) تحقيق وتخريج حسن الأمين، دار التعارف، بيروت - لبنان، د. ت.

ص: 437

28 - الأغاني، أبو الفرج الأصفهاني (ت 357 ه)، تحقيق سمير جابر، دار الفكر، بيروت، لبنان، ط 2، د. ت.

29 - الإغتراب وأنواعه، عبد اللطيف محمد خليفة، دار غريب، القاهرة، 2005 م.

30 - الإقتباس والتضمين في نهج البلاغة (دراسة أسلوبية)، د. كاظم عبد فريح المولى الموسوي، 2006 م.

31 - أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد)، علي بن الحسين الملقب بالشريف المرتضى (ت 436 ه)، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ذوي القربى، قم - إيران، ط 2، 32 - الأمالي، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ت 450 ه)، تحقيق قسم الدراسات الإسلامية، دار الثقافة، قم، ط 1، 1414 م.

33 - الأمالي، الإمام أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان الملقب بالشيخ المفيد (ت 413 ه)، تحقيق حسين الإستادولي، علي أكبر غفاري، بيروت - لبنان، ط 2، 1993 م.

34 - الإمام علي أسد الإسلام وقدِّيسه، روكس بن زائد العزيزي، مطبعة النعمان، النجف الأشرف، 1967 م.

35 - الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، جورج جرداق، ذوي القربى، قم، ط 1، 1381 ه.

36 - الإمام علي في الفكر المسيحي المعاصر، راجي أنور هيفا، دار العلوم، ط 1، 2005 م.

ص: 438

37 - آثار ابن المقفع (كليلة ودمنة، الأدب الصغير، الأدب الكبير، الدرة اليتيمة، رسالة الصحابة، الآثار الأخری)، دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان، ط 1، 1989 م.

38 - آداب الحسن البصري وزهده ومواعظه، جمال الدين أبو الفرج ابن الجوزي (ت 597 ه)، تحقيق سليمان الحرش، دار النور، دمشق - سورية، ط 3، 2007 م.

39 - أمراء البيان، محمد كرد علي، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1937 م.

40 - بحار الأنوار، العلامة محمد باقر المجلسي (ت 1111 ه)، تحقيق علي أكبر غفاري، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، ط 3، 1983 م.

41 -البخلاء، أبو عثمان عمر بن بحر الجاحظ (ت 255 ه)، علق عليه إحسان الطيبي، دار المعرفة، بيروت - لبنان، ط 2، 2008 م.

42 - البداية والنهاية، الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي (ت 774 ه)، حققه ودّقق أصوله وعلق على حواشيه علي شيري، دار إحياء التراث العربي، ط 1، 1988 م.

43 - البديع في ضوء أساليب القرآن، د. عبد الفتاح لاشين، دار المعارف، القاهرة، ط 1979، 1 م.

44 - البديع في النقد الشعر، أسامة بن منقذ (ت 584 ه)، تحقيق د. أحمد بدوي، د. حامد عبد المجيد، مراجعة الأستاذ إبراهيم مصطفى، مطبعة مصطفى البابي، مصر، 1960 م.

ص: 439

45 - البصائر والذخائر، أبو حیّان التوحيدي (ت 400 ه )، تحقيق وتعليق احمد أمين، السيد أحمد صقر، لجنة التأليف والترجمة، القاهرة، ط 1، 1953 م.

46 - البعد الفكري والتربوي في نهج البلاغة، العلامة الدكتور عبد الرسول الغفاري، مؤسسة أنصاريان، قم - إيران، ط 1، 2010 م.

47 - البلاغة العربية، أسسها وعلومها وفنونها، عبد الرحمن الميداني، دار القلم، دمشق، ط 1، 1996 م.

48 - البلاغة الفنية، علي الجندي، مكتبة الإنجلومصرية، ط 1966، 2 م.

49 - بلاغة الكتاب في العصر العباسي (دراسة تحليلية نقدية لتطور الأساليب)، د. محمد نبيه حجاب، مكتبة الطالب الجامعي، ط 1986، 2 م.

50 - بنور فاطمة اهتديت، عبد المنعم حسن، دار المعروف، قم، ط 1، 1998 م.

51 - بنية الجملة ودلالتها البلاغية في الأدب الصغير دراسة تركيبية تطبيقية، أ. د. محمد كراكبي، علم الكتاب الحديث، أربد، الأردن، 2008 م.

52 - بيان إعجاز القرآن. حمد بن محمد الخطابي (ت 388 ه)، ضمن (ثلاث رسائل في إعجاز القرآن)، تحقيق: محمد خلف الله، د. محمد زغلول سلام، دار المعارف بمصر، ط 2، 1968 م.

53 - البيان في تفسير القرآن، آية الله العظمى أبو القاسم الخوئي الموسوي (ت 1411 ه)، دار الزهراء، بيروت - لبنان، ط 4، 1975 م.

54 - البيان والتبيين، أبو عثمان عمر بن بحر الجاحظ (ت 255 ه)، تحقيق د.

درويش جويدي، المكتبة العصرية، بيروت - لبنان، ط 1، 2010 م.

ص: 440

55 - تاج العروس من جواهر القاموس، السيد محمد مرتضى الحسيني الزبيدي، دراسة وتحقيق علي شيري، دار الفكر، بيروت، 1994 م.

56 - تاريخ آداب العرب، مصطفى صادق الرّافعي، راجعه واعتنى به د.درويش الجويدي، المكتبة العصرية، بيروت - لبنان، 2005 م.

57 - تاريخ الأدب الإسلامي، د. عباس الترجمان، دار التبليغ الإسلامي، ط 2011، 1 م.

58 - تاريخ الأدب العربي، أحمد حسن الزيات، ضبطه وخرّج نصوصه وصحّحه يوسف علي بدوي، مكتبة الصفاء، الإمارات العربية، ط 2، 2008 م.

59 - تاريخ الأدب العربي، بروكلمان، نقله إلى العربية د. عبد الحليم النجار، دار الكتاب الإسلامي، ميدان العلم، قم، ط 2، 2008 م.

60 - تاريخ الأدب العربي (العصر الإسلامي)، د. شوقي ضيف، ذوي القربى، قم، ط 2، 1427 ه.

61 - تاريخ الأدب العربي (العصر العباسي الأول)، د. شوقي ضيف، ذوي القربى، قم، ط 2، 1427 ه.

62 - تاريخ الأدب العربي (العصر الأموي)، د. قصي الحسيني، دار ومكتبة الهلال، بيروت - لبنان ن 2002 م.

63 - تاريخ بغداد، الحافظ أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي (ت 463 ه)،دراسة وتحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، 1997 م.

64 - تاريخ التمدّن الإسلامي، جرجي زيدان، مراجعة وتعليق د. حسين مؤنس،

ص: 441

دار الهلال 1958 م.

65 - تاريخ الطبري (تاريخ الملوك والأمم)، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (ت 310 ه)، مراجعة وتصحيح لجنة من العلماء، مؤسسة الأعلمي، بيروت - لبنان، د. ت.

66 - تاريخ مدينة دمشق، أبو القاسم علي بن الحسين بن هبة الله المعروف بابن، عساكر (ت 571 ه)، تحقيق علي شيري، دار الفكر، بيروت - لبنان، ط 1، 1998 م.

67 - تاريخ النقد الأدبي عند العرب، د. إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت - لبنان، ط 4، 1983 م.

68 - التبيان في تفسير القرآن، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ت 460 ه)، تحقيق وتصحيح أحمد حبيب قصير، د. ت.

69 - تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن، ابن أبي الأصبع المصري (ت 654 ه)، تقديم وتحقيق د. حفني محمد شرف، القاهرة، 1963 م.

70 - التحرير والتنوير، الأستاذ محمد الطاهر بن عاشور، دار سخنون للنشر، تونس، 1997 م.

71 - تحف العقول عن آل الرسول الشيخ الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحراني (من أعلام القرن الرابع)، عنى بتصحيحه علي أكبر الغفاري، مؤسسة الفكر الإسلامي، لبنان، ط 1، 2004 م.

72 - تذكرة الحفّاظ، أبو عبد الله محمد بن أحمد الذهبي (ت 748 ه)، تحقيق محمد

ص: 442

البجاوي، دار المعرفة، بيروت - لبنان، د. ت.

73 - التذكرة الحمدونية، محمد بن الحسن بن محمد بن علي بن حمودن، تحقيق د.

إحسان عباس، بكر عباس، دار صادرة، بيروت، ط 1، 1996 م.

74 - تذكرة الخواص، العلامة سبط بن الجوزي (ت 654 ه)، منشورات الشريف الرضي، قم، 1418 ه.

75 - تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي، أنيس المقدسي، دار العلم للملايين، بيروت لبنان، ط 1، 1960 م.

76 - التعازي والمراثي، أبو العباس محمد بن يزيد المبرد (ت 286 ه)، حققه وقدم له محمد الديباجي، مطبعة زيد بن ثابت، دمشق، 1976 م.

77 - التعاريف (التوقيف على مهمات التعاريف)، محمد عبد الرؤوف المناوي، تحقيق محمد رضوان الداية، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1410 ه.

78 - التعريفات، علي بن محمد الجرجاني (ت 826 ه)، حققه وعلق عليه نصر الدين التونسي، شركة القدس، القاهرة، ط 1، 2007 م.

79 - تفسير القرآن العظيم،الإمام أبو الفداء إسماعيل بن كثير (ت 774 ه)، تحقيق سامي بن محمد، دار طيبة، ط 2، 1999 م.

80 - التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني، (ت 852 ه)، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1989 م.

81 - التوحيد، محمد بن علي بن بابويه القمي المعروف بالصدوق (ت 381 ه)، تحقيق وتعليق السيد هاشم الحسيني الطهراني، منشورات جماعة المدرسين

ص: 443

في حوزة قم، د. ت.

82 - الثقات، ابن حبّان، (ت 354 ه)، دار المعارف العثمانية، حيدر آباد، الهند، ط 1، 1393 ه.

83 - ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي (ت 429 ه)، شرح وتعليق خالد عبد الغني محفوظ، دار الكتاب العلمية، بيروت - لبنان، 1997 م.

84 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن، أبو حعفر بن جرير الطبري (ت 310 ه)، مطبعة مصطفى البابي، مصر، ط 2، 1954 م.

85 - الجامع في تاريخ الأدب العربي، حنّا الفاخوري، منشورات ذوي القربى، ط 3، 1427 ه.

86 - الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (ت 671 ه)، اعتنى به وصححه الشيخ هشام سمير البخاري، دار الأصمعي، الرياض، ط 1، 2002 م.

87 - جدلية الإفراد والتركيب في النقد العربي القديم، محمد عبد المطلب، الشراكة المصرية العالمية للنشر (لونجمان)، ط 1، 1995 م.

88 - جمهرة الأمثال، أبو هلال العسكري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر، ط 2، 1988 م.

89 - جمهرة خطب العرب، أحمد زكي صفوت، المكتبة العلمية، بيروت - لبنان، د. ت.

90 - جمهرة رسائل العرب في عصور العربية الزاهرة أحمد زكي صفوت، المكتبة

ص: 444

العلمیة، بیروت - لبنان، 1937 م.

91 - حقائق التأويل في متشابه التنزيل، الشريف الرضي محمد بن الحسين الموسوي، شرح العلامة الأستاذ محمد رضا آل كاشف الغطاء، دار المهاجر، بيروت - لبنان، د. ت.

92 - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني (ت 430 ه)، دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان، ط 4، 1405 ه.

93 - الحياة الأدبية بعد ظهور الإسلام، محمد عبد المنعم خفاجي، مكتبة الحسين التجارية، ط 1، 1949 م.

94 - الحياة الأدبية في عصر صدر الإسلام، د. محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتاب، بيروت - لبنان، ط 2، 1980 م.

95 - حياة الحسن البصري ومسيرته العلمية، د. روضة جمال الحصري، دار الكلم الطيب، دمشق، ط 1، 2002 م.

96 - خزانة الأدب، ابو بكر بن علي بن عبد الله (ت 837 ه)، تحقيق محمد نبيل، أصيل بديع، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1998 م.

97 - خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، أبو الحسن محمد بن الحسین الموسوي (ت 406 ه)، مؤسسة الأعلمي، بيروت - لبنان، ط 1، 1986 م.

98 - خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعیب النسائي (ت 303 ه)، تحقيق أ. د.حمزة النشرتي وآخرون، ط 2، د. ت.

99 - خصام ونقد، د. طه حسين، دار العلم للملايين، بيروت، ط 3، 1963 م.

ص: 445

100 - الخطابة العربية في عصرها الذهبي، إحسان النص، دار المعارف، القاهرة، 1963 م.

101 - ذخائر العقبى، أحمد عبد الله الطبري (ت 694 ه)، مكتبة القدسي، القاهرة، 1356 ه.

102 - دراسات في الأدب العربي، أنعام الجندي، دار الأندلس، بيروت، ط 2، 1967 م.

103 - دراسات في الأدب المقارن التطبيقي، د. داوود سلوم، دار الحرية للطباعة، بغداد، 1984 م.

104 - دراسات في النحو، صلاح الدين الزعبلاوي، المعارف، القاهرة، د. ت.

105 - دراسات في نهج البلاغة، آية الله الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وثّق أصوله وحققه وعلّق عليه الأستاذ سامي الغريري، مطبعة ستار، قم، ط 1، 2007 م.

106 - الدر المنثور في التفسير بالمأثور، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت 911 ه)، دار المعرفة، بيروت - لبنان، د. ت.

107 - دستور معالم الحكم ومأثور مكارم الشيم، الإمام القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة (ت 454 ه)، شرح محمد سعيد الرافع، مكتبة المفيد، قم، د. ت.

108 - دفاتر عباسية في الشعر والنثر والحضارة والأعلام، د. يوسف عيد، المؤسسة الحديثة للكتاب، طرابلس - لبنان، 2008 م.

109 - دلائل الإعجاز في علم المعاني، الإمام عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني (ت 471 ه)، تحقيق د. عبد الحميد هنداوي، دار الكتاب العلمية، بيروت

ص: 446

- لبنان، ط 1، 2001 م.

110 - ديوان الأعشى الكبير (ميمون بن قيس)، شرح وتعليق د. محمد محمد حسين، مكتبة الآداب بالجماميز،د. ت. 111 - ديوان البحتري، شرح وتعليق د. يحيى شامي، دار الفكر العربي، بيروت - لبنان، 2005 م.

112 - ديوان زهير بن أبي سلمى، شرحه وقدم له الأستاذ علي حسين فاعور، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1988 م.

113 - ديوان صفي الدين الحلي، شرحه وضبط نصوصه د. عمر فاروق الطباع، دار الأرقم للطباعة والنشر، بيروت - لبنان، ط 1، 1429 م.

114 ديوان معروف ال ّ رصافي، مكتبة النهضة، بغداد، 1972 م.

115 - الراعي والرّعية، توفيق العكيكي، صححه وضبط متونه سيد آباد الحسيني، مطبعة الغدير، ط 1، 2006 م.

116 - ربيع الأبرار وفصوص الأخيار، أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري (ت 538 ه)، تحقيق طارق فتحي السيد، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط 1، 2006 م.

117 - رسائل البلغاء، محمد كرد علي، دار الكتب العربية الكبری، القاهرة، 1912 م.

118 - الرسائل الفنية في العصر الإسلامي حتى نهاية العصر الأموي، غانم جواد رضا، دار التربية، بغداد، 1976 م.

ص: 447

119 - رسائل المرتضى، الشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي (ت 436 ه)، تقديم السيد أحمد الحسيني، إعداد السيد مهدي الرجائي، مطبعة سيد الشهداء، قم، 1405 ه.

120 - روائع البيان في خطاب الإمام، د. رمضان عبد الهادي، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، ط 1، 2002 م.

121 - روائع نهج البلاغة، جورج جرداق، مركز الغدير، مطبعة باقري، ط 2، 1997 م.

122 - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، أبو الفضل شهاب الدين محمود الآلوسي (ت 1270 ه)، ضبطه وصححه علي عبد الباري عطية، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، ط 1، 2001 م.

123 - الروض المعطار في خبر الأقطار محمد بن عبد المنعم الحميري (عاش في النصف الثاني من القرن السابع الهجري)، تحقيق د. إحسان عباس، مؤسسة ناصر للثقافة، بيروت، ط 2، 1980 م.

124 - زهر الآداب وثمر الألباب، أبو إسحاق إبراهيم بن علي الحصري (ت 453 ه)، ضبط وشرح د. زكي مبارك، دار الجيل، بيروت - لبنان، ط 4، 1972 م.

125 - سبيل الهدی والرّشاد في سیرة خیر العباد، محمد بن یوسف الصالحي الشامي (ت 942 ه)، تحقيق وتعليق عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي محمد معوض، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط 1، 1993 م.

126 - السرقات الأدبية دراسة في ابتكار الأعمال الأدبية وتطبيقها، د. بدوي

ص: 448

طبانة، مكتبة الإنجلوا مصرية، ط 4، د. ت.

127 - سنن الترمذي، محمد بن عيسى بن سورة الترمذي (ت 279 ه)، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، دار الفكر، بيروت - لبنان، ط 2، 1983 م.

128 - السنن الكبری، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعیب النسائي، تحقیق د. عبد الغفار سليمان، سيد كسروي، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط 1، 1991 م.

129 - سير أعلام النبلاء، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت 748 ه)، تحقيق شعيب الأرنؤوط، حسين الأسد، مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، ط 9، 1993 م.

130 - السيرة الحلبية، علي بن ابراهيم بن احمد الحلبي (ت 1044 ه)، دار المعرفة، بيروت، 1400 ه.

131 - سيكولوجية الفروق الفردية في الذكاء، أ. د. سليمان الحضري، دار المسيرة للنشر والتوزيع، جامعة عين شمس - القاهرة، ط 2008، 1 م.

132 - الشافي في الإمامة، علي بن الحسين الموسوي الملقب بالشريف المرتضى (ت 436 ه)، تحقيق عبد الزهرة الخطيب، راجعه السيد فاضل الميلاني، مؤسسة الصادق، طهران، ط 2، 1986 م.

133 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب، الفقيه الأديب أبو فلاح عبد الحي الحنبلي (ت 1089 ه)، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان ن د. ت.

134 - شرح أصول الكافي، المولى محمد صالح المازندراني (ت 1081 ه)، ضبط وتصحيح السيد علي عاشور، تعليق الميرزا أبو الحسن الشعراني ن دار

ص: 449

التراث العربي، بيروت - لبنان، ط 2000، 1 م.

135 - شرح حكم أمير المؤمنين علیه السلام، الشیخ عباس القمي، العتبة العلویة المقدسة، 2012 م.

136 - شرح ديوان المتنبي، وضعه عبد الرحمن البرقوقي، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 2001 م.

137 - شرح المائة كلمة للإمام علي بن أبي طالب علیه السلام، شرح العالم الربّاني میثم بن علي بن ميثم البحراني (ت 679 ه)، تقديم جلال الدين الحسيني الأرموي، مؤسسة العروة الوثقى، ط 1، 2010 م.

138 - شرح نهج البلاغة، الشيخ محمد عبده، خرّج مصادره فاتن محمد خليل اللبون، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، ط 1، 2001 م.

139 - شرح نهج البلاغة، عز الدين أبو حامد عبد الحميد بن هبة الله المدائني الشهير بابن أبي الحديد (ت 656 ه)، قدّم له وعلّق عليه الشيخ حسين الأعلمي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت - لبنان، ط 2009، 3 م.

140 - شرح نهج البلاغة، عز الدين أبو حامد عبد الحميد بن هبة الله المدائني (ت 656 ه)، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، ط 1، 1959 م.

141 - شرح نهج البلاغة، كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني (ت 679 ه)، مؤسسة الآداب الشرقية، النجف الأشرف - العراق، ط 1، 2009 م.

142 - الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي أبو الفضل عياض اليحصبي (ت 544 ه)، دار الفكر العربي، بيروت - لبنان، 1988 م.

ص: 450

143 - صبح الأعشى في صناعة الإنشا، أحمد بن علي القلقشندي (ت 821 ه)، تحقيق د. علي يوسف الطويل، دار الفكر، دمشق، ط 1، 1987 م.

144 - صحيح مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري (ت 261 ه)، دار الجيل، بيروت، د. ت.

145 - الصحيفة السجّادية الكاملة، الإمام زين العابدين عليُّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب علیه السلام (ت 95 ه)، تقدیم السید محمد باقر الصدر، دار العلوم، لبنان، ط 1، 2008 م.

146 - الصناعتين (الكتابة والشعر) أبو هلال الحسن بن عبد الله العسكري(ت 395 ه)، تحقيق علي محمد البجاوي، محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي، ط 2، د. ت.

147 - ضحى الإسلام، أحمد أمين مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط 7، د. ت.

148 - طبقات الفقهاء، محمد بن جلال الدين المكرم (ت 230 ه)، تحقيق د.إحسان عباس، دار الرائد العربي، بيروت - لبنان، ط 1، 1968 م.

150 - الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز، يحيى بن حمزة العلوي (ت 749 ه)، مطبعة المقتطف، مصر، 1914 م.

151 - طرائق المقال في معرفة طبقات الرجال، العلامة السيد علي أصغر بن السيد محمد البروجردي، تحقيق السيد مهدي الرجائي، تقديم آية الله العظمى المرعشي النجفي، مكتبة المرعشي، قم، ط 1، 1410 ه.

ص: 451

152 - عبد الله بن المقفع (الأدب الكبير، الأدب الصغير، رسالة الصحابة)، دراسة وتحليل، تقديم يوسف أبو حلقة، مكتبة دار البيان، بيروت - لبنان، د. ت.

153 - عبد الله بن المقفع، جورج غريب، دار الثقافة، بيروت - لبنان، د.ت.

154 - عبقرية الشريف الرضي، زكي مبارك، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، د. ت.

155 - العبقريات الإسلامية، عباس محمود العقاد، دار الكتاب المصري، القاهرة، ط 1، 2009 م.

156 - العقد الفريد، أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي (ت 328 ه)، تحقيق محمد عبد القادر شاهين، المكتبة العصرية، صيدا - بيروت، 2009 م.

157 - علماء في رضوان الله، محمد أمين نجف، منشورات الإمام الحسين علیه السلام، بهمن، ط 2، 2009 م.

158 - علم الأدب، الأب لويس شيخو اليسوعي، مطبعة الآباء اليسوعيين، بيروت - لبنان، ط 2، 1926 م.

159 - علوم نهج البلاغة، د. محسن باقر القزويني، دار العلوم، بيروت - لبنان، ط 1، 2003 م.

160 - علي إمام البررة، آية الله العظمى أبو القاسم الخوئي، قدّم له آية الله العظمى علي الحسيني البهشتي، شرح السيد محمد مهدي الخرسان، دار الهادي للطباعة والنشر، ط 1، 2003 م.

161 - علي سلطة الحق، عزيز السيد جاسم، تحقيق وتعليق صادق جعفر

ص: 452

الروازق، الغدير، قم، ط 1، 2000 م.

162 - علي كما وصف نفسه، السيد طاهر عيسى درويش، دار ومكتبة الهلال، بيروت، ط 1، 2004 م.

163 - علي من المهد إلى اللحد، العلامة السيد كاظم القزويني، مؤسسة النشر الإسلامي، بيروت.

164 - العمدة في محاسن الشعر وآدابه، أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني (ت 456 ه)، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت - لبنان، ط 4، 1972 م.

165 - عيار الشعر، محمد بن أحمد بن طباطبا العلوي (ت 322 ه)، تحقيق د. طه الحاجري، محمد زغلول سلام، المكتبة التجارية الكبری عيون الأخبار، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت 276 ه)، شرحه وضبطه ورتب فهارسه د. يوسف علي الطويل، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، د.ت.

167 - عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي (من أعلام القرن ، السادس الهجري)، تحقيق الشيخ حسين الحسيني، دار الحديث، ط 1، 1376 ه.

168 - الغارات، إبراهيم بن محمد الكوفي (ت 283 ه)، تحقيق السيد جلال الدين الحسيني، بهمن، د. ت.

169 - غريب الحديث، أبو عبد القاسم بن سلام (ت 224 ه)، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد، ط 1، 1965 م.

ص: 453

170 - غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدي التميمي (ت 550 ه)، تحقيق السيد مهدي الرجائي، مؤسسة الكتاب الإسلامي، مطبعة ستار، ط 3، 2008 م.

171 - الفتوحات المكية، محيي الدين بن عربي (ت 638 ه)، دار صادر، بيروت - لبنان، د. ت.

172 - الفتنة الکبری، د. طه حسين، دار المعارف، القاهرة - مصر، 1959 م.

173 - فجر الإسلام، احمد أمين، دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان، ط 1، 1969 م.

174 - فحولة الشعراء، أبو سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي (ت 216 ه)، تحقيق ستارلس توري، دار الكتاب الجديد، 1971 م.

175 - فضائل الإمام علي علیه السلام محمد جواد مغنية، منشورات دار ومكتبة الحياة، بيروت، 1962 م.

176 - فن الأدب، توفيق الحكيم، مكتبة الدب ومطبعتها، المطبعة النموذجية، سكة الشابوري، د. ت.

177 - الفن ومذاهبه في النثر العربي، د. شوقي ضيف، دار المعارف، كورنيش النيل، القاهرة، ط 1971، 6 م.

178 - فنون الأدب، تشارلتن، ترجمة زكي نجيب محمود، القاهرة، 1945 م.

179 - الفهرست، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ت 460 ه)، تحقيق الشيخ جواد القيومي، مؤسسة النشر الإسلامي، ط 1، 1417 ه.

ص: 454

180 - الفهرست، أبو الفرج محمد إسحاق النديم (ت 438 ه)، دار المعرفة، بيروت - لبنان، 1978 م.

181 - فوات الوفيات محمد بن شاكر الكتبي (ت 764 ه)، تحقيق علي محمد بن يعوض، عادل احمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 200 م.

182 - في الأدب العباسي، د. محمد مهدي البصير، مطبعة النعمان، النجف الأشرف، ط 3، 1970 م.

183 - في الأدب المقارن مقدمات للتطبيق، د. نجم عبد الله كاظم، عالم الكتاب الحديث، إربد - الأردن، ط 1، 2008 م.

184 - في رحاب نهج البلاغة، مرتضى المطهري، العتبة العلوية المقدّسة، 2011 م.

185 - في النقد الأدبي، د. شوقي ضيف، دار المعارف، مصر، 1962 م.

186 - القاموس المحيط، القاضي مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي (ت 817 ه)، دار العلم، بيروت - لبنان، د. ت.

187 - قضايا بالحداثة، عبد القاهر الجرجاني، د. محمد عبد المطلب، مطابع المكتب المصري، القاهرة، ط 2، 1995 م.

188 - قضايا الشعر المعاصر، نازك الملائكة، مكتبة النهضة، بغداد، ط 2، 1965 م.

189 - الكافي، الشيخ محمد بن يعقوب الكليني (ت 329 ه)، تحقيق علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، طهران، ط 3، 1367 ه.

ص: 455

190 - كتاب العين، أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 175 ه)، تحقيق د. مهدي المخزومي، د. إبراهيم السامرّائي، دار الهجرة، إيران، 1409 ه.

191 - الكنى والألقاب، المحقق الشيخ عباس القمي، تقديم محمد هادي الأميني، مكتبة الصدر، طهران، د. ت.

192 - كنز الفؤاد، أبو الفتح محمد بن علي الكراجكي (ت 449 ه)، الغدير، قم، ط 2، 1369 ه. ش.

193 - لباب النقول، جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (ت 911 ه)، تحقيق أحمد عبد الشافي، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت.

194 - لسان العرب، محمد بن مكرم بن منظور (ت 711 ه)، أدب الحوزة، قم، 1405 ه.

195 - لغة الشعر بين جليين، د. إبراهيم السامرّائي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط 2، 1980 م.

196 - ما هو نهج البلاغة، العلامة اليسد هبة الدين الشهرستاني، مطبعة النعمان، النجف الشرف، ط 3، 1400 ه.

197 - المجازات النبوية، الشريف الرضي محمد بن الحسين (ت 406 ه)، تحقيق وشرح د. طه محمد الزيني، مؤسسة الحلبي، القاهرة، 1967 م.

198 - مجمع البيان في تفسير القرآن، أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي (من أعلام القرن السادس الهجري)، تحقيق لجنة من العلماء، قدّم له السيد محسن الأميني العاملي، مؤسسة الأعلمي، بيروت - لبنان، ط 1،1995 م.

ص: 456

199 - المجموعة الكاملة للإمام علي بن أبي طالب علیه السلام، عبد الفاتح، عبد المقصود، مؤسسة المختار، القاهرة، ط 1، 2006 م.

200 - محاضرات الأدباء ومحاورات والبلغاء، أبو القاسم حسين بن محمد الراغب الأصبهاني (ت 502 ه)، منشورات مكتبة الحياة، بيروت - لبنان، د. ت.

201 - المحرقة الكبری لکتب البشریة، الفکر الإسلامي د. نجاح الطائي، دار الهدی لإحیاء التراث، ط 2009، 1 م.

202 - مختصر تاريخ الأدب العربي في ضوء المنهج الإسلامي، د. محمود السيتاني، مشهد، إيران، 1381 ه. ش.

203 - مروج الذهب ومعان الجوهر، أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي (ت 346 ه)، تقديم يوسف أسعد داغر، قم - إيران، ط 2، 1984 م.

204 - المسبار النقدي (دراسة في نقد النقد للأدب القديم والتناص)، أ. د. حسين جمعة، اتحاد الكتاب، دمشق، 2003 م.

205 - المستدرك على الصحيحين ن محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري (ت 405 ه)، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، ط 1، بيروت - لبنان، ط 1، 1990 م.

206 - المستطرف في كلّ فنٍ مستظرف، شهاب الدين محمد الأبشيهي(ت 850 ه)، تحقيق عبد الله أنيس الطباع، شركة الأرقم، د. ت.

207 - المستويات الجمالية في نهج البلاغة (دراسة في شعرية النثر)، د. نوفل أبو رغيف، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 2008 م.

208 - مسند أحمد، الإمام أحمد بن حنبل (ت 241 ه)، تحقيق شعيب الأرنؤوط

ص: 457

وآخرون، مؤسسة الرسالة، ط 1999، 2 م.

209 - مشاكلة الناس لزمانهم، أحمد ن إسحاق اليعقوبي (ت 292 ه)، تحقيق وليم ملوَرد، دار الكتاب الجديد، بيروت، ط 1، 1962 م.

210 - مشكاة الأنوار في غرر الأخبار، أبو علي الفضل بن حسن الطبرسي، تحقيق مهدي خوشمند، دار الحديث، ط 1، د. ت.

211 - المشككون بنهج البلاغة والرد عليهم، علي الفتال، دار المحجة البيضاء، بيروت، ط 1، 2005 م.

212 - مصادر نهج البلاغة وأسانيده، عبد الزهراء الحسيني الخطيب، مطبعة القضاء، النجف الأشرف، ط 1، 1966 م.

213 - المصنف، عبد الرزاق الصنعاني (ت 211 ه)، تحقيق وتخريج حبيب الرحمن الأعظمي، منشورات المجلس العلمي، د. ت.

214 - المصنف، عبد الله بن محمد أبي شيبة (ت 235 ه)، ضبطه وعلق عليه الأستاذ سعيد اللحام، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1989 م.

215 - مطالب السؤول في مناقب آل الرسول، محمد بن أحمد الشافعي (ت 652 ه)، طبع بإشراف السيد عبد العزيز الطباطبائي، مؤسسة البلاغ، لبنان، ط 1، 1999 م.

216 - المعارف، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت 276 ه)، تحقيق د. ثروت عكاشة، دار المعارف، القاهرة، د. ت.

217 - معاني الأخبار، الشيخ الصدوق محمد بن علي (ت 381 ه)، تحقيق وتعليق علي اكبر الغفاري، مؤسسة النثر الإسلامي، قم، 1338 ه. ش.

ص: 458

218 - معايير الحكم الجمالي في النقد الأدبي، د. منصور عبد الرحمن، المعارف، القاهرة، ط 1، 1981 م.

219 - معجم آيات الاقتباس، حكمت فرج البدري، الحرية للطباعة، بغداد، 1980 م.

220 - معجم الأدباء، ياقوت الحموي (ت 626 ه)، دار المشرق، بيروت - لبنان، د. ت.

221 - المعجم الأوسط، أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني (ت 360 ه)، تحقيق طارق بن عوض الله بن محمد، عبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، دار الحرمين، القاهرة، 1415 ه.

222 - معجم البلدان، ياقوت الحموي، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، 1997 م.

223 - معجم رجال الحديث، آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي الموسوي، طبعة منقحة ومزيدة، ط 5، 1992 م.

224 - المعجم الكبير، أبو القاسم سليمان بن احمد الطبراني، تحقيق حمدي بن عبد المجيد السلفي، مكتبة العلوم، ط 2، 1983 م.

225 - معجم مقاييس اللغة، أبو الحسين أحمد بن فارس (ت 395 ه)، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مكتب الإعلام الإسلامي، 1404 ه.

226 - معجم المؤلفين، رضا كحالة، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، د. ت.

227 - المعجم الوسيط، د. إبراهيم أنيس وآخرون، مكتب الثقافة الإسلامي،

ص: 459

ط 4، 1412 ه.

228 - المعجم الوسيط، إبراهيم مصطفى وآخرون، أشرف على طبعه عبد السلام هارون، تقديم د. إبراهيم مدكور، المكتبة العلمية، طهران، د. ت.

229 - مع المشككين في نهج البلاغة، (مناقشة الشبهات والمؤاحذات)، عادل الأسدي، مكتبة العزيري، أميران، 2007 م.

230 - مع نهج البلاغة دراسة ومعجم، د. إبراهيم السامرّائي، دار الفكر للنشر والتوزيع، عمّان، ط 1987، 1 م.

231 - المفردات في غريب القرآن، أبو الحسين بن محمد (ت 502 ه)، دار نشر الكتاب، ط 1404، 2 ه.

232 - مقامات الحريري، أبو محمد القاسم بن علي الحريري (ت 510 ه)، دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون، لبنان، ط 2005، 4 م.

233 - من أروع ما قاله الإمام علي علیه السلام، محسن عقیل، دار المحجة البیضاء، بيروت - لبنان، ط 2001، 1 م.

الحافظ محمد بن سليمان الكوفي (من ، 234 - مناقب الإمام أمير المؤمنين علیه السلام، الحافظ محمد بن سلیمان الکوفي (من أعلام القرن الثالث)، تحقيق العلامة محمد باقر المحمودي، مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، ط 1، 1412 ه.

235 - مناقب الخوارزمي، الموفق بن أحمد الخوارزمي (ت 568 ه)، تحقيق الشيخ مالك المحمودي، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط 2، د. ت.

236 - المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي،(ت 597 ه)، دراسة وتحقيق محمد عبد القادر عطا، مصطفى عبد القادر

ص: 460

عطا، راجعه وصححه نعيم زرزور، دار الكتب العلمية، بيروت ن ط 1، 1992 م.

237 - من حديث الشعر والنثر، د. طه حسين، دار المعارف، مصر، ط 1، 1961 م.

238 - منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، المحقق حبيب الله الهاشمي الخوئي، تصنيف المحقق محمد باقر، تصحيح وتهذيب السيد إبراهيم الميانجي، المطبعة الإسلامية، إيران، ط 4، د. ت.

239 - منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي (ت 574 ه)، تحقيق السيد عبد اللطيف الكوهكمري، نشر مكتبة آية الله المرعشي، قم، 1406 ه.

240 - موسوعة الإمام علي بن أبي طالب محمد الريشهري، بمساعدة السيدين محمد كاظم الطباطبائي، ومحمود الطباطبائي، تحقيق مركز بحوث دار الحديث، دار الحديث للطباعة 1425 ه. ، والنشر، قم، ط 2 241 ميزان الإعتدال في نقد الرجال، محمد بن أحمد الذهبي (ت 748 ه)، تحقيق محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت - لبنان، د. ت.

242 - ميزان الحكمة، محمد الريشهري، دار الحديث، قم، ط 1، 1997 م.

243 - الميزان في تفسير القرآن، العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، مؤسسة الأعلمي، بيروت - لبنان، ط 1، 1997 م.

244 - النثر الفني في القرن الرابع الهجري، د. زكي مبارك، المكتبة العصرية

ص: 461

للطباعة والنشر، بيروت - لبنان، 2006 م.

245 - نشأة التشيع والشيعة، الأستاذ السيد طالب الخرسان، منشورات الشريف الرضي، ط 1، 1991 م.

246 - نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، د. علي سامي النشار، دار المعارف كلية الآداب جامعة الأسكندرية، ط 1، 2008 م.

247 - نظرية الإعجاز القرآني وأثرها في النقد العربي القديم، أحمد سيد محمد عمار، دار الفكر، دمشق، 1998 م.

248 - النظرية النقدية عند العرب، د. هند حسين طه، دار الرشيد، الجمهورية العراقية، 1981 م.

249 - نهاية الأرب في فنون الأدب، شهاب الدين احمد بن عبد الوهاب النويري (ت 733 ه)، المؤسسة المصرية للتأليف والترجمة والطباعة، كوستاستوماس، القاهرة، د. ت.

250 - النهاية في غريب الحديث والأثر، أبو السعادات المبارك بن محمد (ت 606 ه)، تحقيق طاهر أحمد الزاوي، محمود محمد، المكتبة العلمية، بيروت، 1979 م.

251 - نهج البلاغة، جمعهُ الشريف الرضي محمد بن الحسين الموسوي (ت 406 ه)، مؤسسة أنصاريان، إيران، ط 4، 2006 م.

252 - نهج البلاغة لمن، الشيخ محمد حسن آل ياسين، المكتبة العالمية، بيروت، ط 4، 1978 م.

253 - نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، محمد باقر المحمودي، مطبعة

ص: 462

النعمان، النجف الأشرف، ط 1، 1965 م.

254 - نوادر وقصص من شرح نهج البلاغة، عبد الرسول زين العابدين، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت - لبنان، ط 1، 2008 م.

255 - نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، محمد بن عفيفي الخضري، تحقيق هيثم هلال، دار المعرفة، بيروت - لبنان، ط 1، 2004 م.

256 - هوية التشيع، الشيخ د. أحمد الوائلي، دار الصفوة، بيروت - لبنان، ط 3، 1994 م.

257 - الوافي بالوفيات، صلاح الدين بن أيبك الصفدي (ت 764 ه)، تحقيق أحمد الأرنؤوط، تركي مصطفى، دار التراث، بيروت، 2000 م.

258 - الوساطة بين المتنبي وخصومه، علي بن عبد العزيز الجرجاني (ت 366 ه)، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، علي محمد البجاوي، المكتبة العصرية، بيروت، ط 1، 2006 م.

259 - وعاظ السلاطين، د. علي الوردي، دار دجلة والفرات، بيروت - لبنان، ط 1، 2009 م.

260 - وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، أبو العباس شمس الدين أحمد بن خلكان (ت 681 ه)، تحقيق د. إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، 1971 م.

261 - يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر، أبو منصور عبد الملك الثعالبي (ت 429 ه)، شرح وتحقيق د. مفيد محمد قميحة، دار الكتب العالمية، بيروت - لبنان، ط 1، 1983 م.

ص: 463

الأطاریح والرسائل 1 - ابن المقفع (حياته آثاره)، دلارا سينغ سندها، رسالة لنيل شهادة أستاذ في العلوم، كلية العلوم، الجامعة الأمريكية، بيروت، 1956 م.

2 - أبو العلاء المعري والشعر العربي في الأندلس (دراسة تحليلية في التأثير والتأثر) علي كاظم محمد علي المصلاوي، اطروحة دكتوراه، كلية التربية - ابن رشد - جامعة بغداد، 2006 م.

3 - أدب ابن المقفع بين ناقديه قديًما وحديثاً (تحليل وموازنة) أكرم علي عنبر، رسالة ماجستير، كلية التربية، جامعة المستنصرية، 2004 م.

4 - أدب عبد الله بن المقفع دراسة أسلوبية، عبد الحسين عبد الرضا العمري، رسالة ماجستير، كلية الآداب، جامعة المستنصرية، 2004 م.

5 - أثر الأدب النبوي في الأدب العربي حتى نهاية العصر الأموي، فؤاد جميل وهيب المجمعي، اطروحة دكتوراه مقدمة إلى مجلس كلية الآداب، جامعة بغداد، 1997 م.

6 - الأثر الدلالي للقرآن الكريم في نهج البلاغة، هادي شندوخ حميد، أطروحة دكتوراه، كلية الآداب، جامعة البصرة، 2008 م.

7 - التأثير والتأثر في النص النقدي العربي إلى آخر القرن السابع الهجري، أنوار سعيد، أطروحة دكتوراه، كلية الآداب، جامعة بغداد، 2006 م.

8 - التناص في شعر أحمد مطر، عبد المنعم جبار عبيد، أطروحة دكتوراه، كلية التربية - ابن رشد، جامعة بغداد، 2009 م.

ص: 464

9 - التناص في الشعر الأندلسي في عهد دولة بني الأحمر (650 - 898 ه)، أسراء عبد الرضا، أطروحة دكتوراه، كلية التربية للبنات، جامعة بغداد، 2006 م.

10 - حكم الإمام علي علیه السلام ومواعظه، تحقیق من شروح نهج البلاغة حتی نهایة القرن السابع الهجري، قاسم خلف مشاري السكيني، اطروحة دكتوراه، كلية الآداب، جامعة المستنصرية، 2008 م.

11 - الخطاب في نهج البلاغة بنيته وأنماطه ومستوياته (دراسة تحليلية)، عبد الحسين عبد الرضا العمري، اطروحة دكتوراه، كلية الآداب، جامعة بغداد، 2008 م.

12 - الإغتراب عند الإمام علي علیه السلام من خلال نهج البلاغة، محمد مشعالة دامخي، اطروحة دكتوراه، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة الحج خضر، باتنة، 2009 م.

13 - الخطاب في نهج البلاغة دراست موضوعية فنية، إيمان عبد الحسين علي، رسالة ماجستير، كلية التربية، جامعة بابل، 2008 م.

14 - مصطلحات السرقة الأدبية في التراث النقدي إلى نهاية القرن السابع الهجري، سندس محسن العبودي، رسالة ماجستير، كلية التربية (ابن رشد)، جامعة بغداد، 1996 م.

15 - النثر عند الحسن البصري، سلافة صائب خضير العزّاوي، رسالة ماجستير، كلية التربية (ابن رشد)، جامعة بغداد، 1994 م.

16 - نهج البلاغة في ضوء علم اللغة الاجتماعي، نعمة دهش فرحان الطائي، أطروحة دكتوراه، كلية التربية (ابن رشد)، جامعة بغداد، 2011 م.

ص: 465

المجلات 1 - سجع أم فواصل، د. أحمد الحوفي، مجلة اللغة العربية بالقاهرة، ع 27، س 1971 م.

2 - ما قيل في نهج البلاغة، عبد العزيز الطباطبائي، مجلة تراثنا، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، ع 1414، 1ه.

ص: 466

المحتویات

ص: 467

ص: 468

المحتویات

المقدمة...7

التمهيد: مفهوم الأثر و...15

الفصل الأول کلام الإمام علي علیه السلام من حيث التوثيق والتأثير

المبحث الأول: نظرة توثيقية...29

أولاً: جمعه المبكر و...29

ثانیاً: التشكيكات فيه...40

الوقفة الأولى: مع المشككين...44

الوقفة الثانية: مع شبهة الطول...53

ص: 469

الوقفة الثالثة: شبهة الصيغ الفلسفية...61

الوقفة الرابعة: شبهة السجع...69

المبحث الثاني: إضاءة تمهيدية...75

أولاً: الجانب الوراثي...77

ثانیاً: الأثر النبوي...79

ثالثاً: الأثر القرآني...82

رابعاً: الشمولية في كلامه...87

خامساً: الإلهام الغيبي و...90

سادساً: هضمه لتراث العرب...95

سابعاً: سداد الرأي و...98

ثامنًا: المحن التي...104

الفصل الثاني أثر کلام الإمام علي علیه السلام في نثر الحسن البصري

توطئة...119

المبحث الأول: في خطب الحسن...127

المبحث الثاني: في رسائل الحسن...155

المبحث الثالث: أثر خطبة المتقين...189

ص: 470

المبحث الرابع: في مواعظ و...215

أولاً: التضمين...216

ثانیاً: البسط والزيادة...221

ثالثاً: الإيجاز...234

رابعاً: العكس...241

الفصل الثالث أثر كلام الإمام علي علیه السلام في نثر ابن المقفع

توطئة...251

المبحث الأول: في رسالة الأدب الكبير...265

أولاً: التضمين...266

ثانیاً: التلفيق...287

ثالثًا: البسط...304

رابعاً: الإيجاز...330

المبحث الثاني: في رسالة الأدب الصغير...235

أولاً: التضمين...238

ثانیاً: التلفيق...242

ثالثاً: البسط...257

ص: 471

رابعاً: الإيجاز...368

المبحث الثالث: في رسالتي الصحابة...375

أولاً: أثره في رسالة الصحابة...275

ثانیاً: أثره في رسالة الدرة اليتيمة...393

ثالثًا: في رسائل أدبية أخری...400

المبحث الرابع: تكرار ابن المقفع...407

الخاتمة النتائج...423

المصادر والمراجع...435

المحتويات...469

ص: 472

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.