القيام الفاطمي في خطاب المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)

هویة الکتاب

القيام الفاطمي في خطاب المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)

الكاتب: آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي

لسان: العربية

الناشر: دار الصادقين - النجف اشرف - العراق

ص: 1

اشارة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

أسماء السيدة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ)

أسماء السيدة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) (1)

س1: ما العلاقة بين الاسم والمسمى؟، وبتعبير آخر: ما هي المناسبة بين الاسم ومن يحمل الاسم؟

ج: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين كثيراً ما تطلق الأسماء على الأشخاص من دون مناسبة كتسمية الشخص (كريم) وهو (بخيل) ويسمّى (خالد) وهو فإن زائل ويسمى (عبد الله) وهو عبد الشيطان وأهواء النفس الأمّارة بالسوء، فمثل هذه التسمية الارتجالية لا علاقة لها بالمسمّى ويكون الاسم مجرد مشير إلى المسمى لكي يعرف به ويشار إليه به.

أما الاسم الحقيقي فهو ما تطابق مع المسمى كما عرّفه أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لأبي الأسود الدؤلي عندما وجهه بوضع علم النحو قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الاسم ما أنبأ عن المسمى) أي ما أخبر عن المسمى، كما أن اسم الكتاب وعنوانه يخبر عن محتوياته قبل أن تقرأه، لذا يتأمل المؤلف كثيراً قبل أن يسمي الكتاب لأنه يختصر الكتاب كله.

ص: 3


1- حوارية أجرتها قناة النعيم الفضائية مع سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) بمناسبة ذكرى استشهاد الصديقة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) ليلة الجمعة 2/ج2/ 1432 المصادف 6/ 5/ 2011.

س2: هل اهتم الشارع المقدس بقضية تسمية الأبناء.؟

ج: لاسم الشخص انعكاس مهم على شخصيته ونفسيته وسلوكه، فإن الاسم الجميل يعطي ثقة بالنفس لحامله ويجعله مرفوع الرأس، بعكس من كان اسمه قبيحاً فإن صاحبه يشعر بعقدة الحقارة كما يسميها علماء النفس والاجتماع، ويشعر دائماً بأنه مهان ومنبوذ اجتماعياً وخصوصاً إذا كان الآخرون يسخرون من اسمه، ويدعوه ذلك إلى الانزواء والابتعاد عن الناس أو الانتقام من المجتمع كردة فعل.

وإن الاسم قد يؤثر في صناعة شخصية الإنسان وسلوكه من خلال محاولة الشخص ليكون مطابقاً لاسمه، كشخص يكون اسمه (محمداً) أو (علياً) فيحترم هذا الاسم ويسعى لأن يكون أهلاً لحمله، أو امرأة تسمى فاطمة فتكون أمينة على هذا الاسم، بعكس ما لو كانوا على خلاف صفات صاحب الاسم فإن الآخرين ينتقدونها بأن اسمها فاطمة أو زينب وهي سافرة أو غير متدينة وهكذا، ولعل جزءاً من تكوّن شخصية البطش والعنف والصدام لدى المقبور صدام كانت بدافع من اسمه.

لذا جعل الشارع المقدس من حق الابن على أبيه أن يحسن تسميته فعن الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (أول ما يبرُّ الرجل ولده أن يسميه باسم حسن، فليحسن أحدكم اسم ولده) وروى الإمام جعفر الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (في وصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: يا علي حق الولد على والده أن يحسن اسمه وأدبه ويضعه موضعاً صالحاً)، ويظهر أن تأثير الاسم يمتد إلى يوم القيامة أيضاً، فعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):

ص: 4

استحسنوا أسماءكم فإنكم تدعون بها يوم القيامة قم يا فلان بن فلان إلى نورك، وقم يا فلان بن فلان لا نور لك).(1)وكان من عادة أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن يأتوا بالوليد إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ليسمّيه تبركاً وطلباً لحسن الاسم، وتفاؤلاً لمستقبله أن يكون كما سمّاه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، ونذكر في هذه المناسبة أن الحاكم النيسابوري صاحب المستدرك على الصحيحين روى بسنده عن عبد الرحمن بن عوف قال (كان لا يولد لأحد مولود إلا أُتي به النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فدعا له، فأدخل عليه مروان بن الحكم فقال هو الوزغ الملعون ابن الملعون)(2) ورويت مثلها عن أئمتنا (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في مصادرنا.(3)

س3: هل يوجد استحباب شرعي لبعض الأسماء حتى يراعيها الآباء في تسمية أبنائهم؟

ج: أفضل الأسماء هي أسماء النبي وأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين) لأن معانيها حسنة بل في منتهى الحسن، مضافاً إلى حث أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) على التسمية بها، روى الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من ولد له ثلاثة بنين ولم يسمِّ أحدهم محمد فقد جفاني) وعن الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (إذا سميتم الولد محمداً فأكرموه وأوسعوا له في المجلس ولا تقبّحوا له وجهاً) وقال الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)

ص: 5


1- هذه الروايات في وسائل الشيعة، كتاب النكاح، أبواب أحكام الأولاد، باب22.
2- معجم رجال الحديث للسيد الخوئي (قدس سره): ج18 ص138.
3- مجمع البحرين للطريحي، مادة (وزغ).

(واعلم أنه ليس في الأرض دار فيها اسم محمد إلا وهي تُقدّس كل يوم)(1) وقال الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (لو ولد لي مائة لأحببتُ أن لا اسمي أحداً منهم إلاّ علياً)(2)، ودخل رجل ولدت له بنت على الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): ما سميتها؟ قال: فاطمة فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (آه آه آه ثم وضع يده على جبهته –إلى أن قال- أما إذا سميتها فاطمة فلا تسبّها ولا تلعنها ولا تضربها).(3)فالتسمية بأسماء أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) تتحقق بها أمور عديدة ففيها طاعة لتوجيهاتهم (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وبركة لجميع عائلة الوليد، وفيها إحياء لذكرهم (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، ونشر لوجودهم الشريف وردٌ على أعدائهم الذين حاولوا بشتى الوسائل طمس ذكرهم حتى منعوا من التسمية بعلي، وهذا وجه لما تقدّم من حديث الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، مضافاً إلى ما في ذلك من البر بهم والوفاء لهم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حتى عُدَّ عدم التسمية جفاءً لهم، مضافاً إلى ذلك فهي أسماء حسنة تبعث الراحة والانشراح والرفعة لمن يتسمى بها.

بعكس أسماء أعداء أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فإنها مذمومة كمعاوية الذي يعني كلاباً تعاوت وأبوه صخر بن حرب وأمثالها من الأسماء المثيرة للاشمئزاز والكراهية.

ص: 6


1- الرواية وما قبلها في وسائل الشيعة، أبواب أحكام الأولاد، باب24.
2- المصدر السابق، باب25.
3- المصدر السابق، باب87.

س4: نعود إلى صاحبة الذكرى: السيدة فاطمة الزهراء فنسأل: كم عدد أسماء الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ)؟

ج: إذا قصدنا بالاسم اسم الذات فاسمها (فاطمة) كما ذكرت في خطبتها الشهيرة (أيها الناس: اعلموا أني فاطمة وأبي محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ))، لكن الاسم يراد به هنا ما هو أعم من ذلك فيشمل اللقب كالزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) والكنية كأم أبيها، وبهذا اللحاظ فإن أسماءها عديدة.

وقد اختلفت الروايات في تعدادها، ففي كتب الشيخ الصدوق (رضی الله عنه) الأمالي وعلل الشرائع والخصال بسنده عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (لفاطمة تسعة أسماء عند الله عز وجل، فاطمة، والصديقة، والمباركة، والطاهرة، والزكية، والراضية، والمرضية، والمحدَّثة، والزهراء)(1)، ثم قال: أتدري أي شيء تفسير فاطمة؟ قلت أخبرني يا سيدي، قال فطمت من الشر) وفي الحديث عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (فمن عرف فاطمة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) حق معرفتها فقد أدرك ليلة القدر، وإنما سميت فاطمة لأن الخلق فطموا عن معرفتها)، وروي عن أبي هريرة أنه قال (إنما سميت فاطمة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ)، فاطمة لأن الله فطم من أحبها من النار).

وتوجد روايات تشير إلى عدد أكبر من الأسماء للسيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) كعشرين أو أكثر حتى تصل إلى تسعة وتسعين اسماً، وهذا واضح لأن الحديث المتقدم لم يتضمن أسماء مشهورة كالكوثر وأم أبيها وغيرها، قال ابن شهراشوب في المناقب (وصحّ في الأخبار: (لفاطمة عشرون اسماً، كل اسم

ص: 7


1- راجع المصادر في الموسوعة الكبرى عن فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ)18/ 329.

يدل على فضيلة) ذكرها ابن بابويه في كتاب مولد فاطمة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ)(1). ويمكن فهم هذا الاختلاف في الإعداد باعتبار أن الروايات ليست بصدد حصر كل الأسماء فالحديث الأول يذكر الأسماء التي سماها الله تبارك وتعالى بها، والثاني يعدد الأسماء التي تكشف عن فضائلها وصفات كمالها، باعتبار أن كل صفة تعبِّر عن فضيلة من فضائلها، وهكذا فهي لا تنفي وجود أسماء أخرى.

وقد تضمنت نصوص زيارتها الكثير من الأسماء، وقد نظم أحد العلماء الأعلام أرجوزة شعرية في أسمائها (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) ومما قال:

ألقابها تذكر في الكتابِ *** كما أتت في كتب الأصحابِ

معصومة رضية مرضية *** صديقة ميمونة زكيّة

ذات صفات من أبيها مورثة *** والبعض من ألقابها محدَّثة

والدرة البيضاء والمباركة *** سيدة النسا بلا مشاركة

أم أبيها قيل من كُناها *** وليُطلَبُ التحقيق في معناها(2)

س5: هل في هذه الأسماء إشارة إلى معاني معينة.؟

ج: هذه الأسماء صدرت من الله تبارك وتعالى ومن رسوله الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أو أطلقها عليها أولادها المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فهي مطابقة للحقيقة، وهي عين الواقع كما في الحديث السابق (لفاطمة تسعة أسماء عند الله عز وجل)، وهي أما تعبير عن فضيلة تتصف بها –كما في الحديث السابق- أو منقبة حبيت بها، أو تكريم منحت إياه، وكلها تعبّر عن حقائق مقدسة في سيدة العالمين، وشرحت

ص: 8


1- المصدر السابق:18/ 438.
2- المصدر السابق:18/ 347 وتوجد منظومة أخرى في18/ 355.

الأحاديث الشريفة معانيها.فسميت بالطاهرة لأنها من أهل البيت الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا بنص القرآن الكريم، وسميت بالبتول لانقطاعها إلى عبادة الله تعالى كما في مجمع البيان للطبرسي، أو لانقطاعها عن نساء زمانها، أو عن نساء الأمة فضلاً وديناً وحسباً وعفافاً كما روي عن الزمخشري.

وسميت الكوثر لأنها الواسطة في تكثير نسل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبقائه، قال الرازي في تفسير الكوثر في سورة الكوثر (الكوثر أولاده، لأن هذه السورة نزلت رداً على من عابه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بعدم الأولاد، فالمعنى أنه يعطيه نسلاً يبقون على مرّ الزمان).

وفي الكافي بسنده عن الإمام موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إن فاطمة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) صديقة شهيدة)، وعن الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حديث عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (يا علي إني قد أوصيت فاطمة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) ابنتي بأشياء وأمرتها أن تلقيها إليك فأنفذها، فهي الصادقة الصدوقة).

ومن ألقابها (أم الهناء) لأنها رأس كل هنيئة في الدنيا والآخرة.(1)

س6: لفت انتباهي ما ذكرتم في أسماء الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) (أم أبيها) فماذا يعني هذا الاسم.؟

ج: هذه الكنية للزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) رواها العامة والخاصة، فمن العامة الطبراني في المعجم الكبير بسنده عن مصعب بن عبد الله الزبيري وابن الأثير في أسد الغابة، وأبو الفرج في مقاتل الطالبيين، وابن حجر في الإصابة وفي تهذيب التهذيب

ص: 9


1- راجع في مصادر النصوص والكلمات: الموسوعة الكاملة عن فاطمة الزهراء:18/ 320- 442.

وفي كتاب تاريخ مدينة دمشق، وهي أشهر كنى الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ).وقد كنّاها بذلك أبوها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ويمكن أن يكون لهذه الكنية أكثر من منشأ.

1-إن حب فاطمة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) لأبيها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وشفقتها وحنوها عليه كان كالذي تُغدقه الأم على ولدها، مع الالتفات إلى انه ليس مبنياً على العاطفة المجردة وإنما على المعرفة التامة التي تناسب مقامها المقدس الكامل.

2-وتأتي الأم بمعنى الأصل كما في قوله تعالى (وَإنَّهُ في أُمِّ الكِتابِ لَدَينا) (الزخرف:4) يعني في أصل الكتاب أي اللوح المحفوظ، فالزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) أصل أبيها لأن كل نسله وذريته منها فهي أصل امتداده (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلى يوم القيامة، وهي أصل امتداد رسالته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلى يوم الساعة لأنها (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) بموقفها وتضحيتها حافظت على خط الإسلام الأصيل وحفظته من الانحراف والتحريف.

3-وتطلق الأم على خالصة الشيء وعصارته ومجمع محتوياته كما تسمى منطقة الدماغ من الإنسان (أم الرأس) فيقال ضربه على أم رأسه، وكما تسمى مكة أم القرى وتسمى سورة الحمد أم الكتاب لأنها اشتملت على ما في القرآن الكريم من المبادئ العامة، فالزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) أم أبيها بهذا المعنى لأنها جمعت الخصال الكريمة لأبيها، واعترف لها بذلك أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمهات المؤمنين، قالت عائشة (ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ولا هدياً وحديثاً برسول الله في قيامه وقعوده من فاطمة).(1)

4-ويمكن أن يكون الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قد كنّاها بذلك ليقطع الطريق على

ص: 10


1- راجع المصادر من العامة: كتاب: السيدة فاطمة الزهراء: دراسة تاريخية: 521.

من تشعر من أزواجه بأن لها شرفاً وتفضيلاً على فاطمة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) باعتبار أنهن أمهات المؤمنين بنص قوله تعالى: [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ] (الأحزاب/6). فكنى فاطمة أم أبيها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لتتقدم على أزواجه.

كما أنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لمّا آخى بين المهاجرين والأنصار في المدينة لم يجعل لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أخاً كالآخرين ولما سأله أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): ادخرتُك لنفسي وآخاه.

س7: هل من دروس عملية تتضمنها الأسماء المباركة؟

ج: قال تعالى: [وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] (النحل:60)، فالمثل الأعلى الذي يكون الوصول إليه هو الهدف والغاية هو الله تبارك وتعالى، ولذا ورد في الحديث الشريف (تخلّقوا بأخلاق الله) أي اسعوا للاتصاف بأوصاف الله تعالى التي تعبّر عنها أسماؤه الحسنى، قال تعالى: [وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا] (الأعراف: 180) وقد نفهم [فَادْعُوهُ بِها] أي فنادوه بها كما ينادى أي مسمى باسمه، وقد يكون بمعنى فاسألوه بها أي من الدعاء بمعنى فتوسلوا إليه بأسمائه المباركة، والأدعية حافلة بذلك كدعاء كميل (اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء وبقوتك التي قهرت بها كل شيء) وغيرها من الدعوات المباركة الكثيرة.

فالأسماء الحسنى تعبّر عن حالة سامية تمثل القمة التي يسعى الإنسان الوصول إليها، وأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) مظهر من مظاهر الصفات الإلهية في فضائلهم وخصالهم وسلوكهم على أرض الواقع، وأسماؤهم لم تطلق عليهم اعتباطاً وإنما بمصداقية تامة.

فهذه الأسماء للزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) هي صفات وخصائص تستحق أن تُجعل أسوة

ص: 11

حسنة لكل من يتوق إلى الكمال والسعادة.فمن اسم (فاطمة) يتعلم الإنسان أن يفطم نفسه من الشر والمعاصي والانحراف، ومن (الصدّيقة) يأخذ درساً في الصدق، ومن اسم (الطاهرة) يستلهم معاني تطهير النفس من الأهواء والطمع، وتطهير القلب من الغل والحسد والحقد وغيرها من الرذائل ومن اسم (الراضية) يحصل على الطمأنينة بقضاء الله وقدره، ومن أسم (المباركة) يتحفز لأن يكون وجوده مباركاً ومحضره محضر خير دائماً وكلامه فيه هدى وصلاح ورشد كما قال تعالى: [وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ] (مريم:31)، وهكذا الأسماء المباركة الأخرى، وهذا باختصار، وإلا فإن كل اسم يمكن الكلام فيه مفصلاً كما تحدثنا في كتاب (شكوى القرآن) عن صفات القرآن ومعانيها وآثارها.

س8: على هذا تكون الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) قدوة وأسوة للرجال والنساء معاً وليس فقط للنساء؟.

ج: هذا صحيح وهي (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) كذلك، بل هي حجة على الخلق أجمعين، وفي ذلك روي عن الإمام الحسن العسكري قوله (نحن حجج الله على خلقه، وجدّتنا فاطمة حجة الله علينا)(1). وكان الأئمة يفخرون ويتشرفون بأنهم أولاد فاطمة الزهراء ويعلنون ذلك على الملأ، ولا يفخر المعصوم الكامل إلا بمن هو أسوة ومثل أعلى للخلق أجمعين وفي ذلك يقول الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) في إحدى رسائله (وفي ابنة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لي أسوة حسنة).(2)

ص: 12


1- راجع المصادر في كتاب السيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ)، دراسة تاريخية517.
2- نفس المصدر السابق.

القرآن الكريم ومقامات السيّدة الزهراء وأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)

القرآن الكريم ومقامات السيّدة الزهراء وأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)(1)

بمناسبة ميلاد السيّدة الطاهرة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) نحاول أن نتعرّف على بعض مقاماتها وملامح عظمتها من خلال استقراء الآيات الكريمة وبمعونة الأحاديث الشريفة وهي كثيرة نعجز عن استقصائها، ونفس أسمائها وألقابها كاشفة عن مقاماتها (الطاهرة، المعصومة، الراضية، المرضيّة، أمّ أبيها، سيّدة نساء العالمين، الكوثر، المحدَّثة، البتول) وغيرها.

لكنّنا نشير اليوم باختصار إلى مقاماتها (سلام الله عليها) الّتي نتعرّف عليها من خلال الاقتران والتلازم بين القرآن الكريم وأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) –وهي منهم-، هذا التلازم الّذي أفاده حديث الثقلين الذي أجمع الفريقان(2) على صحّته وصدوره عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، ففي مسند أحمد بن حنبل (5/ 181 ح21068) بسنده عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (إنّي تارك فيكم خليفتين كتاب الله حبل مدود ما بين السماء والأرض- أو ما بين السماء إلى الأرض- وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض) ورووه عن جمع غفير من الصحابة.

وقد بيّن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالقول وبالفعل المقصود من أهل البيت في مواطنٍ

ص: 13


1- كلمة سجّلها سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) لقناة النعيم الفضائية بمناسبة ذكرى ميلاد السيّدة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) يوم 20/ج2/ 1434 الذي وافق1/ 5/ 2013.
2- لمعرفة مصادره من كتب العامّة راجع (فضائل الخمسة من الصحاح الستّة: 2/ 52).

كثيرة وهُم علي وفاطمة والحسن والحسين (صلوات الله عليهم أجمعين)، ففي مستدرك الصحيحين روى بسنده عن أمّ سلمة أنّها قالت: في بيتي نزلت هذه الآية (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب/33) قالت: فأرسل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلى علي وفاطمة والحسن والحسين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فقال: (اللهمّ هؤلاء أهل بيتي) قالت أمّ سلمة: يا رسول الله ما أنا من أهل البيت؟ قال: إنّك إلى خير. وهؤلاء أهل بيتي اللهمّ أهل بيتي أحق).(1)ولا حاجة بعد هذا للدخول في مناقشات لغوية في معنى أهل البيت ومن هو المشمول بها بعد أن حدّد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بنفسه المراد بهذا العنوان.

فالسيّدة فاطمة الزهراء من أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) الذين هم –بموجب حديث الثقلين- صنو القرآن وعدل القرآن ولا يفترقان حتّى يردا الحوض يوم القيامة، ومن هذا الاقتران والملازمة نستنتج خصائص كثيرة ومقامات رفيعة لأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وللصدّيقة الطاهرة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) ولأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لتضاف إلى الأدّلة على إمامته وتقدّمه على الخلق أجمعين بعد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) منها:

1-مقام العصمة، لأنّ القرآن (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلّت/42) وكذلك السيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) معصومة بغضّ النظر عن الأدلة الأخرى على عصمتها كآية التطهير وغيرها.

2-مقام العلم والإحاطة بكل شيء ممّا علمهم الله تبارك وتعالى فقد وصف الله تعالى كتابه الكريم بقوله (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ)

ص: 14


1- راجع مصادر الحديث في المصدر السابق:1/ 269.

(النحل/89) وقال تعالى (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ) (الأنعام/38) فالسيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) لها هذا المقام من العلم والإحاطة بمعرفة كلّ شيء وهو فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده، قال تعالى (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء) (البقرة/255).3-والقرآن له مقام الإمامة والقيادة والحجة ولزوم الطاعة على الخلق أجمعين (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) (الحشر/7) وقال تعالى (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم/3-4) وللقرآن مقام الإمامة، قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (عليكم بالقرآن فاتخذوه إماماً وقائداً) فكذلك السيّدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) لها مقام الإمامة والقيادة ولزوم الطاعة على الخلق أجمعين، لذا روي عن الإمام العسكري قوله (نحن حجج الله على خلقه وجدّتنا فاطمة حجّة الله علينا).(1)

4-والقرآن هو الحق والحقّ معه (هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ) (الجاثية/29) (فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ) (الذاريات/23) وهكذا السيّدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) فإنّ الحقّ يدور معها حيث دارت.

5-وللقرآن القيمومة(2) العليا المطلقة على الخلق قال تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا* قَيِّماً) (الكهف/1-2) كما

ص: 15


1- خطاب المرحلة: 7/ 52.
2- شرحنا معاني هذه الصفات للقرآن في فصل (القرآن يصف نفسه) في كتاب (شكوى القرآن).

أنّ القيّم على الأسرة أو المجتمع له الولاية عليهم يقودهم ويدلّهم على ما يصلحهم ويسعدهم، فكذلك الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) لها القيمومة على الناس ومنهجها هو المنهج القيّم والمستعلي على المناهج كلّها، وقد علّلت الآية علّة القيمومة بأنّ لا عِوَجَ له.6-والقرآن مبارك (وَهَ-ذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ) (الأنعام/92) (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ) (ص/29) فهو كثير البركة والخير والعطاء ومبارك في آثاره على النفس والمجتمع لأنّه مصدر الهداية والإرشاد والسعادة والحياة المطمئنة للبشرية ومصدر العلوم كلّها، وهكذا الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) كثيرة البركة وعطائها لا ينفد، حتّى أنّ الله تعالى سمّاها الكوثر الذي يعني الخير الكثير.

7-والقرآن عصمة للأمة من التفرّق والتشتّت والضياع (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً) (آل عمران/103) والقرآن وأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) هم الحبل الممدود الذي يعصم الأمّة، وفي هذا قالت السيّدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) (وجعل إمامتنا نظاماً للملّة وأماناً من الفرقة).

8-والقرآن عزيز يصعب مناله في كتابٍ مكنون لا يمسّه إلاّ المطهّرون، وعزيز لأنّه قاهرٌ غالب على من خاصمه، وهو عزيز يندر وجود مثله، وعزيز لأنّه يمتنع عن النيل بسوء، وعزيز لأنّه مطلوب وكلّ مفقودٍ مطلوب، وهكذا السيّدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) عزيزة بكل هذه المعاني.

9-والقرآن موعظة وشفاء وهدى ورحمة للعالمين كما وصف نفسه وهكذا السيّدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ).

ص: 16

10-وللقرآن مقام الشفاعة كما وصفه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (فعليكم بالقرآن فإنّه شافعٌ مشفّع).(1)

وللزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) الشفاعة يوم القيامة حتّى ورد في الرواية أنها (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) تلتقط مواليها ومحبّيها يوم المحشر كما يلتقط الطير الحبّ الجيّد من الحبّ الرديء.

11-والقرآن مخاصم لمن هجره وأعرض عنه ولم يعمل به وحجّته غالبة ومصدّقة من دون بيّنة أو دليل كما وصفه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بأنّه (ما حل مصدّق) أي مخاصِم مصدّق فيما يقول وهكذا السيّدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) ستخاصم من ظلمها وأنكر حقّها وجحد ولايتها، وهي مصدّقة في دعواها.

12-والقرآن خالد محفوظ إلى يوم القيامة (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر/9) وهكذا الحجج من أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) باقون ببقاء القرآن وهذا دليل على وجود الإمام المنتظر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وذكر فاطمة وأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) باقٍ إلى يوم القيامة ونورهم باقٍ مهما حاول الحاسدون والمنافقون والمبغضون إطفاءه والقضاء عليه وإزالته (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (الصف/8).

13-وفي التمسّك بالقرآن النجاة من الفتن، عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (إنّها دار بلاء وابتلاء وانقطاع وفناء، فإذا التبست عليكم الأمور كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، من جعله أمامه قاده إلى الجنّة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار)، فالتمسك بهدى الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) ينجي من الفتن ويقود إلى الهداية.

14-والقرآن يصف نفسه (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ) (الطارق/13-

ص: 17


1- ميزان الحكمة: 7/ 238 وكذا الأحاديث التالية في نفس المصدر.

14) وهكذا كلمات فاطمة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) كلّها فاصلة ليس فيها هزل لا محصّل من ورائه أو هزيلة خالية من المعاني.15-والقرآن أنيس، يقول الإمام زين العابدين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لو مات من بين المشرق والمغرب لما استوحشتُ بعد أن يكون القرآن معي) وهكذا ذكر السيّدة الزهراء وأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فإنّه أنيس للمحبّين والموالين وبلسم لنفوسهم المتعبة).

16-والقرآن لا يبلى ولا يُملُّ بكثرة التكرار، قال امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لا تُخلقهُ كثرةُ الرّد وولوجُ السمع) وهكذا ذكر الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) كلما يتكرّر يزدادُ اقبالاً وبهجة حتى لو استمر طيلة أيام السنة وعلى مدى السنين.

17-ولمن حمل القرآن وتعلّمه وعلّمه أجر عظيم، روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله: (حملة القرآن هم المحفوفون برحمة الله، الملبوسون بنور الله عزّ وجل) فلمن أحيا ذكر الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) ونشر فضائلها ومناقبها ومظلوميتها مثل هذا الأجر العظيم.

18-وإنّ على حامل القرآن أن يتّصف بالخير، روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (إنّ أحقّ الناس بالتخشّع في السرّ والعلانية لحامل القرآن، وإنّ أحقّ الناس في السر والعلانية بالصلاة والصوم لحامل القرآن) فعلى الموالين للسيّدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) ان يكونوا على مثل هذه الخصال الكريمة.

19-وللقرآن ارتباط وثيق بليلة القدر وكان نزوله فيها (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر/1) (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ) (الدخان/3) وللسيّدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) ارتباط وثيق بليلة القدر؛ ورد في الحديث عن الإمام

ص: 18

الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فمن عرف فاطمة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) حقّ معرفتها فقد أدرك ليلة القدر)(1)، وقد شرحنا في بعض أحاديثنا وجوهاً لهذا الحديث.20-ومن آداب تلاوة القرآن أن يُقرأ بالحزن، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال (اقرأوا القرآن بالحزن فإنّه نزل بالحزن)، وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (اقرأوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا)، ومن وصف أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) للمتّقين (أمّا الليل فصافون أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن يرتّلونها ترتيلا يحزّنون به أنفسهم ويستثيرون به دواء دائهم) فكذلك السيّدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) لا تُذكر إلاّ ويفيض القلب حزناً لذكراها، فضلاً عمّا لو ذُكرت مظلوميتها، روي أن رجلاً دخل على الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقد وُلدت له بنت فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ما سمّيتها؟ قال: فاطمة فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (آه آه آه ثم وضع يده على جبهته – إلى أن قال- أما إذا سمّيتها فاطمة –فلا تسبّها ولا تلعنها ولا تضربها).(2)

وهذه الخصائص التي ذكرناها للزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) ثابتة للأئمة الأطهار (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لكونهم من أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وإنّما خصصنا السيّدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) بالذكر لأنّها صاحبة المناسبة.

إن ما قمنا به من بيان هذه المقامات لأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فيه دعوة لإتباع هؤلاء السادة الهداة تلبية لدعوة الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (قال الرضا(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): رحم الله عبدا أحيا أمرنا ، فقيل له : وكيف يُحيي أمركم ؟.. قال : يتعلّم علومنا ويعلّمها الناس ، فإنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا)(3)

ص: 19


1- راجع مصادره في الموسوعة الكبرى عن فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ):18/ 438.
2- وسائل الشيعة كتاب النكاح، أبواب أحكام الأولاد، باب 87.
3- جواهر البحار، الجزء الثاني، كتاب العلم، عن كتاب: معاني الأخبار.

الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ): الأسوة الحسنة

الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ): الأسوة الحسنة(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

س1: ما الذي يضيفه وجود الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) على الرسالة الإسلامية في مجتمع يرى الرجل مقدّماً على المرأة في أغلب الأمور؟

سماحة الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سادة الخلق أجمعين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين.

بُعث النبي الأمين (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في مجتمع جاهلي مليء بالفواحش والمنكرات وقد أعطينا صورة عن حاله في كتاب (الأسوة الحسنة)، ومن تلك المنكرات: احتقار المرأة وامتهانها ووصل بهم الأمر إلى قتلها ودفنها وهي حيّة للتخلص منها، وقد وصف الله تبارك وتعالى مشاعرهم عندما تولد لهم بنت بقوله: [وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ] (النحل:59).

وقد عالج الشرع المقدس هذا الظلم بعدة أشكال منها:

1- التأكيد في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة على حقيقة المساواة بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات، والثواب والعقاب، ومنها قوله

ص: 20


1- لقاء قناة الفرقان الفضائية مع سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الشريف) الذي أذاعته ليلة 3/ج2/ 1430.

تعالى: [فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى] (آل عمران:195).2- ضرب الأمثلة من نساء فضليات لكي يتأسى بها الرجال والنساء وليعلم الرجال قبل النساء أن المرأة يمكن أن تبلغ مراتب سامية يغبطها عليها الرجال كمريم ابنة عمران وامرأة فرعون، قال تعالى: [وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ] (التحريم:11-12) والآية تصرّح أنهما ضُربتا مثلاً لكل الذين آمنوا سواء كانوا من الرجال أو النساء.

3- التهديد والوعيد لمن يقتل المرأة مادياً بوأدها أو معنوياً بإهانتها وظلمها وسحق شخصيتها قال تعالى: [وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ] (التكوير:8-9) وفي الحديث الشريف عن النساء: (ما أكرمهنّ إلا كريم وما أهانهن إلا لئيم)(1).

4- منح الدرجات الرفيعة لمن فرح بكون المولودة بنتاً وأكرم المرأة وأحسن رعايتها، فقد روي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بسند عالي الصحة قال: (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): من عال ثلاث بنات أو ثلاث أخوات وجبت له الجنة، فقيل: يا رسول الله واثنتين؟ فقال: واثنتين، فقيل: يا رسول الله وواحدة؟ فقال:

ص: 21


1- فقه السنة، الشيخ سيد سابق: ج2، ص185.

وواحدة)(1) وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أيضاً: (البنات حسنات، والبنون نعمة، والحسنات يثاب عليها، والنعمة يسأل عنها(2)) وعن الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (إن الله تبارك وتعالى على الإناث أرق منه على الذكور، وما من رجل يدخل فرحة على امرأة بينه وبينها حرمة إلا فرّحه الله تعالى)(3).5- جعل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهو أكرم الخلق وسيدهم أبا بنات، ففي رواية صحيحة عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (كان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أبا بنات)(4) بل جعل ذريته من بنته الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) وسماها بالكوثر التي تعني الخير الكثير، قال تعالى: [إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ] (الكوثر:1).

وأهم تلك المعالجات ما منَ الله تبارك وتعالى على المسلمين بل جميع الناس بسيدة كريمة هي أكمل الخلق أجمعين بعد أبيها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وزوجها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهي الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ)، فهي سيدة العالمين من الرجال والنساء، ولا يتوهم أحد أنها سيدة نساء العالمين، وإنما هي سيدة العالمين جميعاً من الرجال والنساء لكنها من النساء، وأذكر دليلاً واحداً على ذلك، فقد ذكرت الآيتان في الفقرة (2) أعلاه أن الله تبارك وتعالى جعل مريم ابنة عمران وامرأة فرعون مثلاً وأسوة لجميع الذين آمنوا، ولا شك أن الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) هي أفضل منهما وأحرى بالتأسي بها.

ص: 22


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب أحكام الأولاد، باب 4، ح3.
2- المصدر، باب 5، ح7.
3- المصدر، باب 7، ح1.
4- المصدر، باب 4، ح3.

س2: يتردد على ألسنة الخطباء وفي بعض الكتب أن الزهراء سميت فاطمة لأنها فُطمت هي ومحبوها من النار، فهل هذا معنى يمكن قبوله وأن مجرد حب فاطمة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) ينجي الشخص من دون عمل؟

سماحة الشيخ: يمكن الجواب على عدة مستويات:-

1- إن هذا المعنى قد ورد في روايات معتبرة وإذا كان الأمر كذلك فعلينا التسليم والقبول لما يصدر عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وآله المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ولو كان سند الحديث غير معتبر لشككنا في صدوره، ومن الطرق المعتبرة ما رواه محمد بن مسلم قال: (سمعت أبا جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول: لفاطمة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) وقفة على باب جهنم، فإذا كان يوم القيامة كتب بين عيني كل رجل: مؤمن أو كافر فيؤمر بمحب قد كثرت ذنوبه إلى النار فتقرأ فاطمة بين عينيه محباً فتقول: إلهي وسيدي سمّيتني فاطمة وفطمت بي من تولاني وذريتي من النار ووعدك الحق وأنت لا تخلف الميعاد، فيقول الله عز وجل: صدقتِ يا فاطمة إني سميتك فاطمة وفطمت بك من أحبك وتولاك وأحب ذريتك وتولاهم من النار ووعدي الحق وأنا لا أخلف الميعاد، وإنما أمرت بعبدي هذا إلى النار لتشفعي فيه فأشفّعك وليتبين لملائكتي وأنبيائي ورسلي وأهل الموقف موقفك مني ومكانتك عندي فمن قرأتِ بين عينيه مؤمناً فخذي بيده وأدخليه الجنة)(1).

2- إن نقل هذا الحديث لم يقتصر على علماء الشيعة بل نقله علماء السنة أيضاً بطرق متعددة، وقد ذكر منها صاحب كتاب (فضائل الخمسة من الصحاح

ص: 23


1- علل الشرائع للشيخ الصدوق (رضوان الله عليه):1/ 142: العلة التي من أجلها سميت فاطمة فاطمة، ح6.

الستة: 3/ 151) عدة مصادر كتاريخ بغداد للخطيب البغدادي في ترجمة غانم بن حميد الشعيري: 6772 بسنده عن ابن عباس وفي ذخائر العقبى وكنز العمال.3- لماذا نستكثر على الله تبارك وتعالى، أن يعطي من غير استحقاق إكراماً لأكمل عباده ولتعريف الخلائق بقرب منزلة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) منه تبارك وتعالى، والله تعالى متفضّل منّان يبتدئ بالنعم من غير استحقاق، نَعم المنافي لعدله أن يعاقب من غير ذنب، أما التفضّل بالعطاء من غير استحقاق فهذا مناسب لكرمه.

وأضرب لك مثلاً من عملكم في الفضائيات، فإن لبعضها برامج مسابقات وإعطاء الجوائز للفائزين، وأحياناً تريد إدارة القناة إعطاء الجوائز بأي شكل لغرضٍ ما كالترويج لها أو لمساعدة الناس، فتسأل الشخص سؤالاً ما فلا يجيب فتبسّط له السؤال فلا يجيب، إلى أن تسأله: ما اسمك؟ وهو يعرفه قطعاً فإذا أجاب هللوا له فرحاً واعتبروه فائزاً وأعطوه الجائزة.

4- إن الحب الوارد في الرواية لا يراد به الميل العاطفي الذي ربما ينشأ من تعصّب لموروث اجتماعي أو تقليد الآباء والأجداد وهذه مناشئ لا قيمة لها، وإنما يراد به الحب المبني على المعرفة والذي تقترن به ملازماته من اتباع سيرة المحبوب وإدخال الرضا عليه، كما قال الشاعر:

تعصي الإله وأنت تزعم حبه *** هذا لعمرك في الفعال بديعُ

لو كان حبّك صادقاً لأطعته *** إن المحبَّ لمن أحبَّ مطيعُ

س3: هل تعد الامتيازات التي حظيت بها الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) حكراً عليها باعتبارها ابنة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أم أن من الممكن أن توجد هذه الصفات (الامتيازات) في امرأة أخرى؟

ص: 24

سماحة الشيخ: إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لا يحابي أحداً أو يجامله على حساب الحق، لأنه كما وصفه ربه: [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى] (النجم:3-4) وقال تعالى: [وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ،لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ] (الحاقة:44-46). وإن موازين التكريم والتفضيل محددة في كتاب الله تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] (الحجرات:13) أما النسب فلا اثر له بذاته قال تعالى: [فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ] (المؤمنون:101-103).

وقد نزلت سورة كاملة في ذم أبي لهب عم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

فالزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) لم تحظَ بهذه المنزلة الرفيعة لمجرد بنوتها لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وإنما نالتها بما وصلت إليه من درجات الكمال.

نعم إن كونها بنتاً لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وفّر لها ظروفاً للتكامل من طيب الولادة إلى الأجواء الصالحة داخل الأسرة إلى حسن التربية إلى الرعاية المباشرة من لدن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

وفي ضوء ذلك فإن فرصة التكامل غير المتناهي متوفرة برحمة الله ولطفه لكل الناس، لكن سبق في علمه تبارك وتعالى أن لا يصل إلى مرتبة الزهراء إلا هي (سلام الله عليها).

س4: من بين جميع الأمور التي اتصفت بها الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) هو كثرة نقلها لأحاديث أبيها، في حين يعتقد البعض أن هذا الجانب مغيّب من

ص: 25

حياة الصديقة فما رأيكم؟سماحة الشيخ: هذا صحيح فإن الزهراء (سلام الله عليها) استفادت علماً جمّاً من أبيها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مباشرة ومن خلال استنطاق ولديها الحسنين يومياً عند عودتهما من مسجد جدهما رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عما نزل عليه من القرآن وما تحدث به في المسجد، وكانت لديها صحائف تدون فيها تلك الإفادات النبوية الشريفة، ولكن لم يصل إلينا إلا النادر، وبقي هذا المجموع من الصحائف الذي عُرف ب-(مصحف فاطمة) متوارثاً عند أولادها الحجج الميامين (سلام الله عليهم) ويأخذون منه ويحتجّون به، وقد ورد عن الإمام العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (نحن حجج الله على الناس، وجدتي فاطمة حجة الله علينا)ولكنه أُخفي عن الأمة كما أُخفي قبر الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) وحرموا من هذه البركات العظيمة.

وممن اطلع عليه الصحابي الجليل عبد الله الأنصاري ورأى فيه أسماء الأئمة الاثني عشر منصوصاً عليهم بالأسماء. ففي رواية معتبرة عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن جابر قال: (دخلت على فاطمة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) وبين يديها لوح فيه أسماء الأوصياء من ولدها فعددتُ اثني عشر آخرهم القائم ثلاثة منهم محمد وأربعة منهم علي)(1).

س5: كثر الأخذ والرد والشبهات على شيء اسمه فاطمة؟ هل يوجد مثل هذا الكتاب؟ وهل هذا الكتاب موجود في وقتنا الحاضر؟ ما هو هذا الكتاب إن وجد؟ وما هي مضامينه؟

ص: 26


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 33، ح20.

سماحة الشيخ: قد أوضحنا في جواب السؤال السابق معنى مصحف فاطمة وأنه كتاب دوّنت فيه الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) ما استفادته من أبيها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من تفسير الآيات و بيان للأحكام و مواعظ وأخبار ما سيقع في المستقبل و نحوها. وليس هو مصحفاً أي قرآناً غير هذا الذي في أيدنا والذي تلقيناه جيلاً بعد جيل حتى زمان المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) الذين أمرونا أن نقرأ كما يقرأ الناس ونتلوه في صلواتنا ومساجدنا ونطهّر بتلاوته قلوبنا ونفوسنا، وقد استشهدت في كلامي الآن بآيات عديدة فهل وجدت فيها شيئاً غير ما في هذا المصحف الكريم؟ وأما الذي يلقي هذه الشبهات لتمزيق صف المسلمين و [حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ] (البقرة: 109) فليس عليه إلا أن يذهب لأي مسجد أو مكتبة أو دار لأتباع أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أو يستمع لمقرئيهم فهل يجد عندهم قرآناً غير هذا المتداول؟

إن اهتمام أئمتنا (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بالقرآن وصدور مئات الأحاديث عنهم في تعظيمه والحث على تلاوته والتدبر في آياته والعلوم المكنونة فيه وشكواه (القرآن) من هجرانه، وحادثة الإمام العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الذي وقف بحزم بوجه فيلسوف العرب إسحاق الكندي الذي ألف في متناقضات القرآن حتى مزّق ما كتب.

كل هذا ينفي أي تشكيك في كون هذا القرآن المتداول هو ما أنزله الله تبارك وتعالى على نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

نعم كانت للصحابة مصاحب فيها اختلاف عما هو موجود كمصحف أم المؤمنين حفصة ومصحف عبد الله بن مسعود الذي حذف المعوذتين اجتهاداً منه بأنهما ليستا سورتين من القرآن وإنما هما تعويذتان نزلتا على رسول الله

ص: 27

(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ليعوّذ بهما الحسنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، ونقل المؤرخون أن الخليفة عثمان أحرق كل تلك المصاحف وأبقى على نسخة واحدة هي المتداولة.س6: تعوّدنا منك سماحة الشيخ ومن خلال كتبكم (الأسوة الحسنة) و(دور الأئمة في الحياة الإسلامية) وغيرهما أن تركّزوا على الدروس المستفادة من سيرتهم (صلوات الله عليهم أجمعين) باعتبارهم المثل الأعلى الذي يُتأسّى به ولا تكتفون بالسرد التأريخي لحياة المعصومين فهل يمكنكم الإشارة إلى مثل هذه الدروس من حياة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ)؟

سماحة الشيخ: تحدثنا في ذلك الكتاب عن أهمية الأسوة الحسنة في أية رسالة إصلاحية ومنها رسالة الإسلام لإقناع الناس بها وإلا ما قيمة أن يعرض الإنسان كلاماً طيباً لكنه يخالفه في العمل، ولذا كان دور أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) عظيماً في تثبيت عقائد الإسلام وأحكامه والحفاظ عليه لأنهم جسّدوا الشريعة على أرض الواقع.

وهكذا كانت فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) أسوة حسنة للعالمين جميعاً من الرجال والنساء، وسيرتها المباركة غنية بالدروس والعبر، وفيها الكثير مما يطلبه التواقون إلى الصعود في مدارج الكمال:

(الأول) فناؤها في ربّها وإخلاصها في طاعته تبارك وتعالى وبلوغها أعلى مراتب المعرفة، لأن منازل الناس تتفاوت في الجنان على قدر معرفتهم بربهم –كما في الحديث الشريف- وقد بلغت أعلى المراتب بعد أبيها وزوجها (صلوات الله عليهما) وكانت تفرّغ لعبادتها الكثير من وقتها، روى الإمام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لأخيه الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (رأيت أمي فاطمة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) قامت في محرابها

ص: 28

ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح)(1).ويقول الحسن البصري: (ما كان في هذه الأمة أعبد من فاطمة كانت تقوم حتى تورم قدماها)(2).

ومن كلماتها (سلام الله عليها): (من أصعد إلى الله خالص عبادته أهبط الله عز وجل عليه أفضل مصلحته)(3).

ومن نتائج هذه المعرفة المتكاملة بالله تعالى الإعراض عما سواه كما وصف أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) المتقين: (عظُم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم)(4) لذا عاشت فاطمة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) زاهدة في دنياها ورسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يشجعها على ذلك؛ عن الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (حدّثتني أسماء بنت عميس قالت: كنت عند فاطمة جدتك إذ دخل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وفي عنقها قلادة من ذهب كان علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) اشتراها لها من فيء له فقال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): لا يغرّنك الناس أن يقولوا بنت محمد وعليك لباس الجبابرة، فقطّعتها وباعتها واشترت بها رقبة فأعتقتها فسرّ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)بذلك)(5).

(الثاني) الالتزام الدقيق بسنة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهو أبوها، قالت أم المؤمنين عائشة: (ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاّ ً وهدياً برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في قيامها

ص: 29


1- علل الشرائع للصدوق (رضوان الله عليه)، ج1/ 182، باب145، ح1.
2- بحار الأنوار: ج43، الباب 4، ح7.
3- بحار الأنوار: 67/ 249.
4- نهج البلاغة، الخطبة193 في وصف المتقين.
5- بحار الأنوار: 43، باب 3، ح28.

وقعودها من فاطمة بنت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ). قالت: وكانت إذا دخلت على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)قام غليها فقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته في مجلسها)(1).وكانت (صلوات الله عليها) لا تكتفي بإتيان ما ترغب فيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) واجتناب ما يكرهه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بل إنها تتحرك للامتثال لمجرد علمها برغبته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وإرادته وإن لم يعبّر عنها، فقد روي أن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قدم من سفر وكان أول ما يأتي إلى دار فاطمة فيسلم عليها وكانت (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) قد علّقت ستراً وزينة احتفالاً بقدوم أبيها وزوجها (صلوات الله عليهما) فعرفت في وجهه عدم الرضا فتصدقت بالستر والزينة، فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (فعلت فداها أبوها -ثلاث مرات-، ليست الدنيا من محمد ولا من آل محمد ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى فيها كافراً شربة ماء)(2).

(الثالث) طاعتها لإمامها وهو زوجها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ودفاعها عن حقه ونصرته بكامل ما تملك ومواقفها بعد وفاة أبيها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) خير دليل على ذلك.

(الرابع) علاقتها بأسرتها، فقد جسّدت في علاقتها مع زوجها الحديث الشريف: (جهاد المرأة حسن التبعّل) وبذلت غاية الوسع في خدمة البيت والأسرة وكان أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يذكر لها ذلك، واستشهدته عندما دنت

ص: 30


1- فضائل الخمسة من الصحاح الستة: 3/ 152، وقد نقله عن صحيح الترمذي وأبي داود ومستدرك الصحيحين.
2- بحار الأنوار، ج43، باب 3، ح7.

منها الوفاة وقالت له: (يا ابن العم هل عهدتني كاذبة أو خائنة مذ عاشرتني؟ قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): أنت أبرّ وأوفى من أن أوبّخك بكلمة يا بنت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ولقد عزّ علي فراقك)(1).وأحسنت تربية أولادها وكانت تبعث الحسنين (عَلَيْهِما السَّلاَمُ) مع أبيهما أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى مسجد جدهما رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتسألهما إذا عادا عن كل ما قال أو فعل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وكانت تعينهما على طاعة الله تبارك وتعالى، ففي كتاب مفاتيح الجنان في أعمال ليلة القدر أنها كانت تنيمهما في النهار مقداراً ليقويا على إحياء الليل بالعبادة، وكانت تخاطبهما: يا ولدي ويا قرة عيني، فخلقت أجواء غاية في السعادة والانسجام داخل الدار مع صعوبة الحياة يومئذٍ وشدة الحاجة والمحن التي مرّت على المسلمين في صدر الإسلام.

(الخامس) وضربت أروع الأمثلة في العفة والحياء فقد روي عن الإمام موسى بن جعفر (عَلَيْهِما السَّلاَمُ) عن آبائه (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) قال: (قال علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): استأذن أعمى على فاطمة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) فحجبته، فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لها: لم حجبتيه وهو لا يراك؟ فقالت (عَلَيْهِا السَّلاَمُ): إن لم يكن يراني فإني أراه وهو يشم الريح، فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): أشهد أنك بضعة مني).

وبهذا الإسناد قال: (سأل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أصحابه عن المرأة: ما هي؟ قالوا: عورة، قال: فمتى تكون أدنى من ربها؟ فلم يدروا، فلما سمعت فاطمة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) ذلك قالت: أدنى ما تكون من ربها أن تلزم قعر بيتها، فقال رسول الله

ص: 31


1- بحار الأنوار: 43 الباب 7، ح20.

(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): إن فاطمة بضعة مني)(1).وروى علماء الشيعة والسنة أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال لها: (أي شيء خير للمرأة؟ قالت: أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل، فضمها إليه وقال: ذرية بعضها من بعض)(2).

(السادس) إظهار كرامة المرأة في الإسلام، ومن معالم ذلك كفاية مؤونتها على الرجل، قال الإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعاء مكارم الأخلاق: (واكفني مؤونة الاكتساب، وارزقني من غير احتساب، فلا أشتغل عن عبادتك بالطلب، ولا أحتمل إصر تبعات المكسب) وبهذا الصدد روى الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن أبيه الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (تقاضى علي وفاطمة إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في الخدمة، فقضى على فاطمة بخدمة ما دون الباب، وقضى على علي بما خلفه، قال: فقالت فاطمة: فلا يعلم ما داخلني من السرور إلا الله بإكفائي رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تحمل رقاب الرجال)(3).

(السابع) اعتماد أسلوب الحوار والمحاججة والوسائل السلمية للمطالبة بالحقوق عند من يحترم هذه الأساليب وهذا ما تكشفه خطبها على أصحاب أبيها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) المملوءة بالحجج الدامغة المستندة إلى كتاب الله وسنة رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

(الثامن) تقديم المصلحة العليا وحفظ كيان المسلمين ودولة الإسلام على

ص: 32


1- بحار الأنوار: 43، الباب 4 ح16
2- بحار الأنوار: 43 الباب 4، ح7.
3- بحار الأنوار: 43، الباب 4، ح1

المصالح الشخصية فعندما غُصبت حقوقها وزوجها (سلام الله عليه) ولم تُجدِ الخطابات عُرضت عليهما النصرة بالخيل والرجال لكن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) علم أن مراد هؤلاء الفتنة وشق الصف في وقت كانت الأعداء والمرتدّون يتربصون بالمدينة وأهلها لنقض عرى الإسلام بمساعدة المنافقين في داخلها.(التاسع) الإيثار على نفسها، ومن الشواهد على ذلك ما أنزل الله تعالى فيه سورة (هَلْ أَتَى) حيث تصدّقوا (سلام الله عليهم) بطعامهم وبقوا طاوين من الجوع ثلاثة أيام، وما ورد عن الإمام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهو يتحدث لأخيه الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن أمهما فاطمة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ): (وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسمّيهم وتكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: يا أماه لِمَ لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بني الجار ثم الدار)(1).

وغيرها كثير، ويجب أن نعترف بوجود التقصير الكبير مضافاً إلى القصور في التعريف بالزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) ولو أجريت كشفاً بما كتب عن الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) للتعريف بها وبسيرتها المباركة والتأسي بها لوجدت أنه مقدار ضئيل، مضافاً إلى التقصير العملي وأعني تجسد حياة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) على أرض الواقع.

لكنني متفائل بهذه الصحوة العالمية المباركة تجاه قضية الزهراء ولا شك أنها فتح عظيم وتساهم بدرجة كبيرة في إعادة الحق على نصابه والتمهيد للدولة الكريمة والله ولي التوفيق.

ص: 33


1- المصدر، باب 4، ح3.

الزهراء العارفة بالسر المكنون تدلّنا على سبيل توحيد المسلمين

الزهراء العارفة بالسر المكنون تدلّنا على سبيل توحيد المسلمين(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

ليس بدعاً من الأمم أن تحتفل أمتنا بذكرى الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، فإنها سنّة عقلائية جارية أن تحتفل الأمم بعظمائها وبناة حضارتها وتشيد بمآثرهم وفاءاً لحقهم واستنهاضاً لهمم الأجيال اللاحقة لكي يسيروا على هداهم ، ولا يتخلف عن هذه السُنة إلا الأمم المتخلّفة المتوحشة لأنها لا حضارة لها ولا تاريخ حتى تهتم به وتجدده.

والزهراء فاطمة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) من القمم الشامخة التي يتضاءل أمامها كل العظماء وتفخر بها البشرية جمعاء ، يكفي أنها من أهل البيت الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا بنصّ الآية الشريفة [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً] (الأحزاب:33).

وخصّ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أهل البيت بنفسه الشريفة وعلي وفاطمة والحسن والحسين (صلوات الله عليهم أجمعين) وعندما سألته أم المؤمنين أم مسلمة أن تكون منهم قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : لستِ من أهل البيت ولكنك على خير لجلالة قدرها

ص: 34


1- تقرير للحوار الذي أجرته فضائية (العراقية) مع سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) وعُرِض بمناسبة ذكرى استشهاد الصديقة الزهراء (عليها السلام) يوم 3/ج2/ 1428 المصادف19/ 6/ 2007.

وعظم شأنها.ومن خصائص أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) المعرفة الكاملة بالحقائق الإلهية التي أودعها الله بارك وتعالى في كتابه الكريم وجعل ألفاظه كالأمثال التي لها تأويل وحقائق قال تعالى: [وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ] (العنكبوت:43).

وقد وصف الله تبارك وتعالى هذه الحقائق والمعارف بأنها [فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ] (الواقعة:78-79).

فهذه المعارف الإلهية لا يمسّها ولا يصلها ويعرف كنهها إلا المطهرون من الرجس والدنس والدرن وهم من عرفّتهم الآية الشريفة المتقدمة في آهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) [وَيُطَهِّرَكُم تَطْهِيراً].

فكفى بفاطمة شرفاً وعظمة أنها ممن عنتهم الآية وأعطتهم هذه المنزلة الرفيعة ، لذلك لا نستغرب من وجود حديث قدسي عن الله تبارك وتعالى مضمونه (إنني ما خلقت الكون إلا لأجل هذه الأنوار الخمسة) لان الله تبارك وتعالى خلق الكون وما فيه لكي يُعرف ويعبد قال تعالى: [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات:56)، وفسرها الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ب-(ليعرفوه) ولم يتحقق هذا الهدف كاملاً إلا عند هؤلاء الخمسة، وتحقق بدرجات متفاوتة عند الآخرين من كرام الخلق وعلى رأسهم الأنبياء والرسل ثم العلماء والصالحين وهكذا، لذا ورد في الحديث الشريف إن درجات الخلق في الجنة تتفاوت بحسب معرفتهم فأكمل الخلق أكملهم معرفة وهو رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومعه أهل بيته.

ص: 35

وأُقرّب هذه الفكرة بمثال لدفع الاستغراب، فمثلا تحتاج الدولة ضمن خطّتها إلى ألف من الأطباء والمهندسين وهي تعلم أن ليس كل من ينتمي إلى المدارس يصل إلى هذه النتيجة فتقبل مئة ألف طالب في الدراسة الابتدائية وباستمرار الدراسة يتناقص العدد حتى يتحقق في النهاية العدد المطلوب فيصّح عندئذٍ أن تقول الدولة أنني ما أسست تلك المدارس وأنفقت تلك الأموال الطائلة إلا من أجل هؤلاء الألف لأنهم حققوا الهدف النهائي.فعظمة فاطمة في ذاتها وصفاتها وليس لأنها البنت الوحيدة لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بدليل قولها سلام الله عليها في خطبتها على أصحاب أبيها صلوات الله عليه (أيها الناس اعلموا: أني فاطمة وأبي محمد(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)إلى أن قالت (فإن تعزوه وتعرفوه: تجدوه أبي دون نسائكم) وليس لأنها الزوجة المثالية لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وليس لأنها أم السبطين الحسن والحسين عليهم الإسلام والأئمة المعصومين وإن كان كل ذلك شرفاً ما بعده شرف.

وهذا يفسّر لنا سر اهتمام رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بفاطمة والإشادة بفضائلها على المنبر وأمام الملأ لأجل هذا الكمال المتجسد فيها وليس لأنها ابنته فقط.

والاحتفال بذكرى الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) سبب لنزول البركات ونيل الألطاف الإلهية امتثالاً لقوله تعالى: [وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الوسيلة] (المائدة:35)، ومن أعظم من الزهراء وسيلة وهي التي (يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها) حسب ما نصّ عليه الحديث الشريف حتى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقصد فاطمة كما في حديث الكساء المعروف الذي يُروى عن الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) حين اشتكى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ضعفاً في بدنه فقصدها وطلب أن تغطيه بالكساء اليماني إلى آخر الحديث

ص: 36

الشريف.وما أحوجنا اليوم للتوسل إلى الله تبارك وتعالى بأحب الخلق إليه ليكشف ما بنا من ضرّ ومحن ولا كاشف له إلا هو تبارك وتعالى.

وسأكتفي هنا بالإشارة إلى درسين نأخذهما من معين الزهراء الذي لا ينضب لمعالجة ما نعانيه من مشاكل:

الأول: يتعرض الإسلام لحملة تشويه واسعة من أعدائه مستغلين بعض الممارسات الشائنة لمنتحلي اسم الإسلام فخلطوا الأوراق على الناس ليضّلوهم ويبعدوهم عن الإسلام ويكون الرد عليهم في بعض أشكاله(1) ببيان الصورة الناصعة للإسلام التي جسدها المصطفون الأخيار وببيان فلسفة أحكام الإسلام وأسرار تشريعاته ليتميز الخبيث من الطيب، وقد أشارت الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) في خطبتها في مسجد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلى مفاتيح هذه الأسرار ، ومما قالت (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) (فجعل الله الإيمان: تطهيراً لكم من الشرك ، والصلاة: تنزيها لكم عن الكبر ، والزكاة: تزكية للنفس ونماء في الرزق ، والصيام: تثبيتاً للإخلاص).

ثم عدّدت الكثير من أحكام الإسلام وتشريعاته واعتقد إننا لو استطعنا تقديم نموذج الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) في مسلسل تلفزيوني أو فيلم يعرض سيرة الزهراء لتأثر بها ليس فقط نساء العالمين بل الرجال أيضاً ولاعترف الجميع بأنها سيدة نساء العالمين حقاً.

الثاني: إن دعوات –لا أتهم إخلاصها وصدق نواياها- انطلقت في العالم

ص: 37


1- ذكرنا في بيان مستقل الأسباب التي تدفع الغرب إلى شن هذه الحملة المسعورة للإساءة إلى شخص رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأشرنا إلى الخطوات العملية المتكاملة للرد عليهم.

الإسلامي منذ ثلاثينيات القرن الماضي تدعوا إلى توحيد المسلمين ونبذ الخلاف وأسسوا في الأربعينات داراً للتقريب بين المذاهب الإسلامية سعت بمقدار ما تتيسر له لتحقيق هذا الهدف السامي ولا زالت المساعي مستمرة، ولكن يؤسفني أن أقول أنها لم تحقق الثمرة المنشودة وأحياناً يحصل العكس فحينما تثار نقاط الخلاف من أجل تسويتها وردم الهوة بينها يتم التركيز على هذا الخلاف وتفشل الحلول في التقريب بينها حتى صرنا نرجو أحياناً أن لا تنعقد مثل هذه اللقاءات والندوات والمؤتمرات حتى لا نستثير كوامن الاختلاف.وتعل-ّمنا الزهراء (سلام الله عليها) العلاج الصحيح للفرقة بين المسلمين والسبيل إلى لم شملهم وتوحيد كلمتهم كما أراد الله تعالى لهم ذلك ، قال تبارك وتعالى: [وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ] (آل عمران:103)، فقالت سلام الله عليها (فجعل الله طاعتنا نظاماً للملة، وإمامتنا أماناً للفرقة) فالوحدة والاجتماع يتحقق بالرجوع إلى مصادر الإسلام الأصلية كتاب الله وسنة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الثابتة عنه غير المكذوبة عليه والمأخوذة عن طريق الثقات من أهل بيته وأصحابه النجباء.

كنت قبل أيام في اتصال هاتفي مطول مع أحد علماء فلسطين (1) من المهتمين بالتقريب بين المسلمين وتوحيد كلمتهم حتى يتمكنوا من إعزاز دينهم ودحر الأعداء المتكالبين عليه وناقشنا ما تقدم من عدم تحقق الثمرة من مؤتمرات التقريب وقلت له أن على إخواننا أبناء أهل السنة أن يتخذوا خطوتين

ص: 38


1- هو الشيخ محمود عبد العزيز جودة المقيم في غزة.

على الطريق الصحيح:الأولى: فتح باب الاجتهاد لاستخراج الأحكام الشرعية من مصادرها الأصلية وهي الكتاب والسنة الشريفة لأنهما المصدران للتشريع أما كلمات الفقهاء فمع إجلالنا إلا أنها تمثل فهمهم وما بلغه نظرهم في الدليل الشرعي وان الأدوات المتوفرة لدى الأجيال اللاحقة أعظم من السابقين تبعاً لتطور العلوم وتعميقها ثم أن الحوادث متجددة ومتنوعة وان كثيراً منها لم يتعرض لها السلف الصالح.

فالانغلاق على مذاهب عمرها أزيد من ألف عام يجمّد الفكر ويفتح الباب واسعاً أمام كل من يشتهي أن يطبق ما يشاء من الفتاوى والنصوص على الحادثة المعينة ليحقق مبتغاه لذا نرى التضارب والتشتت وعدم الانضباط في إصدار الفتاوى التي لا تتورع عن سفك الدم الحرام فلابد من ضبط الحالة وفق مقاييس علمية دقيقة ومؤهلات وهذا ما يتوفر لدى مراجع شيعة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) حيث لا يحق لأحد إصدار الفتوى إلا بعد بلوغه هذه المرتبة العلمية السامية ونضج علمي وعملي لا يتيسر إلا للأفذاذ.

الثاني: عدم تسييس الدين وامتناع الفقهاء من السير في ركاب السلطة وإضفاء الشرعية على تصرفاتها المبنية على المصالح الدنيوية الضيقة وهي متقاطعة بين متسلط وآخر مما يولد نفوراً من الدين وتعارضاً بين مواقف العلماء وتصل إلى التشاجر والقتال، ولو تسامى الفقهاء عن حب الدنيا وعملوا مخلصين لله تبارك وتعالى وتكون علاقتهم بالحكام من أجل التوجيه والإرشاد والموعظة وتصحيح المسيرة وإصلاح الخط والفساد وتقديم المشورة وهذا

ص: 39

الشرط أساسي في مراجع الشيعة وسموه (بالعدالة) .ولتحقيق هاتين الخطوتين يتطلب الأمر إجراء تعديلات في مناهج دراسة العلوم الدينية لتنتج مجتهدين، وأن تؤسس هذه الحواضن للدراسات الدينية بعيداً عن تدخل السلطات الحاكمة كالحوزات العلمية الشيعية المستقلة عبر أكثر من ألف عام عن تدخل الحكومات، وأأمل أن يمنّ الله تبارك وتعالى على بغداد الحبيبة بالأمن والاستقرار والاستقلال والحرية لتكون هي الحاضنة لهذا الصرح العلمي العظيم كما كانت في عصورها المزدهرة، فقد كانت للشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي كما كانت لأبي حنيفة والشيباني والغزالي والكيلاني.

وكان طلاب العلم في كل من المدرستين يأخذ علوم المدرسة الأخرى وقد يكون بارعاً فيها فلا يعرف انتماؤه لأي منهما وأل-ّف الشيخ الطوسي كتاب الخلاف الذي يستعرض فيه أراء علماء المسلمين من جميع المذاهب ويذكر أدلتهم ثم يختار ما هو الصحيح.

وحينئذ سيجد الباحث (كما وجدت أنا من خلال البحث الذي القيه في الحوزة العلمية في النجف الأشرف واخترت له المسائل الخلافية) أن المصدر واحد وان كثيراً من الأحاديث التي نستند إليها متطابقة بحيث لا تشعر عندئذ بوجود فرق وإنما هو بحث علمي مستند إلى أدلة معتمدة وتستغرب حينئذ من هذا التباعد والاختلاف بين طوائف المسلمين.

ص: 40

المرأة تشارك الرجل في أهم قضايا الأمة

المرأة تشارك الرجل في أهم قضايا الأمة(1)

فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) نموذجاً

بسم الله الرحمن الرحيم

قال المرحوم السيد صالح الحلي:

قد ورثت زينب من أمّها *** كلّ الذي جرى عليها وصارْ

وزادت البنت على أمها *** من دارها تُهدى إلى شرّ دارْ

وقال المرحوم السيد رضا الهندي:

بأبي التي ورثت مصائب أمها *** فغدت تقابلها بصبر أبيها

لم تلهو عن جمع العيال وحفظهم *** بفراق إخوتها وفقد بنيها

لم ترث العقيلة زينب (سلام الله عليها) سيدة البيت النبوي بعد أمها فاطمة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) سيدة نساء العالمين من أمها مصائب بالمعنى المتعارف بل ورثت مواقف خالدة يعجز أشجع الرجال وأشدهم صلابة عن تحملها.

كانت فاطمة سلوة أبيها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في محنته وسنده الذي يأوي إليه خلال عمر الرسالة: تُؤنسه وتزيل عنه الهموم وتخفّف عنه الآلام وهكذا كانت العقيلة

ص: 41


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع مواكب العزاء التي تجمّعت في النجف الأشرف لتنطلق في مسيرة عزائية مشياً على الأقدام من الكوفة يوم الثلاثاء11/رجب/1432 المصادف14/ 6/ 2011 إلى كربلاء المقدسة لإحياء ذكرى وفاة العقيلة زينب (سلام الله عليها) وزيارة النصف من رجب.

زينب لأبيها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعد أمها فاطمة ولأخيها الحسين ولولده السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).هُجّرت فاطمة قسراً من مكة مع أبيها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأرغموها على مفارقة وطنها وأهلها، وهاجرت العقيلة زينب مع أخيها الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من مدينة جدهم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلى مكة ثم إلى العراق بسبب ظلم يزيد وتعقبه للإمام بالقتل.

شاركت الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) مع أبيها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في ميادين الجهاد تضمّد جراح أبيها وتمسح علق الدم عن ذي الفقار، سيف زوجها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أُحد والأحزاب وكذا العقيلة زينب (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) شهدت مع أخيها الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كربلاء، وما أدراك ما كر بلاء وما تلاها.

وقفت الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) في مسجد أبيها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تدافع عن إمامها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وتثبّت الحق لأهله، وترد على الافتراءات بالحجج الدامغة، لتصحيح المسيرة وتحمي الدين وأهله من الضلال والانحراف، ووقفت العقيلة زينب (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) في الكوفة والشام وكل مراحل السبي وألقت الخطب الرصينة لتفضح المدّعين لخلافة المسلمين زوراً، الذي لا يتورعون عن ارتكاب أفظع الجرائم وانتهاك أعظم المقدسات ومنها قتل ريحانة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

وصور المقارنة كثيرة، لكن الذي جرى على العقيلة في كل هذه المواقف أمضّ وأألم مما جرى على الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ)، فإن الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) لم تُسبَ من بلد إلى بلد لتُهدى إلى شر خلق الله تعالى، وكانت حرمتها محفوظة عندما خرجت إلى المسجد، ولم تحرق خيامها وتفرّ في البيداء، وغيرها من المصائب التي صارت أعظم غصة في قلوب أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وأشدها إيلاماً.

ص: 42

إن موقف الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) لم يكن يستطيع أحدٌ أن يؤديه حتى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لأن خصومه سيقولون عنه أنه شاب مغامر يهوى السلطة والنفوذ على مشايخ قومه فيخلطون الأوراق وتضيع الحقيقة، لكن الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) كانت فوق أي تهمة أو إشكال، وما ثبت حق أمير المؤمنين وإمامته بعد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لو لا تلك النهضة الفاطمية المباركة.وهكذا العقيلة زينب فإن مبادئ الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأهداف حركته المباركة ما كانت لتعرف وتنتشر لولا خطب العقيلة زينب التي كانت غاية في المتانة والوضوح والحجة البالغة، فإن الإعلام الأموي كان من القوة والتأثير بدرجة تقلب الحقائق تماماً، وقد جعلوا من الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأصحابه مجموعة من الخارجين على الدولة المتمردين على النظام المطالبين للشغب والفتنة فاستحقوا القتل، وهكذا تذهب دماؤهم هدراً في الصحراء حيث لا ناقل للحقيقة إلاّ الجيش الأموي الظالم المجرم.

إن قضية (الإمامة) والخلافة بعد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهي أعظم قضايا الإسلام بعد التوحيد، وأخطرها وأمضاها تأثيراً في الأمة تولّت بيانها وإرساء قواعدها، ونفي الزيف عنها امرأتان هما فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) سيدة نساء العالمين وابنتها زينب عقيلة الهاشميين.

والنتيجة التي نريد أن نصل إليها أن للمرأة دوراً لا يقلّ عن الرجل في التصدي لأخطر قضايا الأمة وأعظم التحديات التي تواجهها جنباً إلى جنب الرجل، ولا تقعد بها همتها لمجرد أنها امرأة، لكن طبعاً مع مراعاة الدور الذي يناسبها، وساحة العمل التي تتحرك فيها.

ص: 43

والمجتمع يواجه اليوم مشاكل وتحديات كثيرة يكون للمرأة دور مهم في مواجهتها كقضية تبليغ الأحكام الشرعية ونشر تعاليم مدرسة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الناس أمور دينهم، فإن الجهل قد تفشى وخفيت على الناس خصوصاً النساء أكثر مسائل الحرام والحلال وضوحاً، وفي ذلك مخالفة صريحة لما أراده الله ورسوله والأئمة المعصومون (سلام الله عليهم أجمعين).وللمرأة دور في إنقاذ المجتمع من مشاكله وعقده الاجتماعية ومنها ظاهرة الطلاق التي ازدادت بشكل مرعب في السنوات الأخيرة، حيث تشير إحصائيات بعض المحاكم إلى بلوغها نسبة 30 أو 40 أي أن ثلث حالات الزواج تقريباً تنتهي إلى الطلاق، وهذه نتيجة مقلقة لأن الله تعالى يبغض الطلاق بقدر حبّه للزواج، وقد جاء في الحديث عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): ما بني بناء في الإسلام أحب إلى الله عز وجل من التزويج)(1) فالطلاق تهديم لأحب بناء إلى الله عز وجل، وآثاره الاجتماعية السيئة على المجتمع وخصوصاً الأطفال مما لا يخفى على أحد.

فلا بد من حركة واسعة يشترك فيها الرجال والنساء ممن يغضبون لغضب الله تبارك وتعالى، ويحبّون ما يحبّه الله تعالى، لإجراء استبيان شامل ومعرفة أسباب تزايد هذه الظاهرة، ومنها ما يعود إلى ما قبل الزواج كعدم حسن الاختيار بسبب عدم ملاحظة العناصر الحقيقية لبناء زوجية صالحة سواء في الرجل حيث ورد الحديث (إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلاّ

ص: 44


1- وسائل الشيعة، كتاب النكاح، أبواب المقدمات، باب1، ح4.

تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)(1) وورد في اختيار الزوجة عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (ما استفاد امرئ مسلم فائدة بعد الإسلام أفضل من زوجة مسلمة تسرّه إذا نظر إليها وتطيعه إذا أمرها، وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله).(2)أما بناء الزواج على المال الكثير أو الوظيفة الجيدة أو الجمال الظاهري من دون ملاحظة الدين وحسن الخلق والعفاف والمعدن الطيب والأسرة الكريمة فهو أصل المشاكل.

أما القسم الثاني من الأسباب فهو ما حصل بعد الزواج من سوء الاستغلال الرجل لقيمومته على المرأة وتأثره بالتقاليد الاجتماعية من ضرورة التشديد على المرأة إلى حد الظلم. أما من جانب المرأة فقد يكون السبب عدم صبرها على ظروف زوجها وعدم تقديرها لحاله، أو المبالغة في بعض السلبيات أو نقل أخبار بيتها إلى أهلها وتدخلهم في شؤونها، أو اعتدادها بنفسها إلى حد التعالي على زوجها ونحوها من الأسباب.

وعلى أي حال فالقضية خطيرة وتستحق الكثير من الوقت للتأمل والدراسة والتشخيص ووضع الحلول، والسعي والحركة تشارك فيها قطاعات واسعة من الحوزة الدينية والقضاة والباحثين الاجتماعيين والنفسيين والأطباء وغيرهم.

وما أعظم أن يغضب الإنسان لغضب الله تبارك وتعالى ويرضى لرضاه [فَاستَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُم أنّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنكُم مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنثَى] (آل عمران:195).

ص: 45


1- وسائل الشيعة، كتاب النكاح، أبواب المقدمات، باب 28، ح1.
2- وسائل الشيعة، كتاب النكاح، أبواب المقدمات، باب9، ح10.

سنّ الزيارة المخصوصة إلى مرقد أمير المؤمنين علیه السلام في ذكرى وفاة الصديقة الزهراء سلام الله علیها

للصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) فضل كبير على الأمة؛ لأنها دافعت بقوة وبشجاعة عن المسار الصحيح لحركة الإسلام ووقفت في وجه الانحراف ولولا ذلك الموقف العظيم لما بقي رسم للنهج المحمدي الأصيل ولعبثت به أيدي التزوير والحقد والحسد.

وخلدت ذاك الموقف بمظلوميتها وتشييعها ودفنها سراً وإعفاء موضع قبرها ليبقى هذا التساؤل المؤلم شاخصا في أذهان الأجيال:

ولأي الأمور تدفن ليلاً *** بضعة المصطفى ويُعفى ثراها؟

وهي التي ورد فيها ما ورد من الثناء والتبجيل والتقديس والتطهير والتفضيل في كتاب الله وسنة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ولذا كانت الزهراء سببا لهداية الأجيال واستبصارهم وفيئهم لنور الحق وقد ألفّ احدهم كتاب (بنور فاطمة اهتديت).

وبمقدار احتفالنا بالصديقة الطاهرة (سلام الله عليها) واستعادة مظلوميتها واستذكار مواقفها المشرفة فإننا نساهم في حفظ مسار الأمة من الانحراف.

لذا ينبغي لمحبي فاطمة والمفجوعين بمصابها و الراجين شفاعتها حيث تلتقط شيعتها ومحبيها يوم المحشر كما يلتقط الطير الحب الجيد من الحب الرديء – بحسب منطوق الرواية الشريفة – أن يتهيأوا ويتعبأوا لإقامة سنة شريفة مباركة ينطبق عليها الحديث الشريف (من سن سنة حسنة كان له أجرها

ص: 46

واجر من عمل بها إلى يوم القيامة) وهي زيارة أمير المؤمنين في ذكرى استشهادها على الرواية الثالثة المعمول بها لدى المحققين وهي في الثالث من جمادى الثانية التي تصادف هذا العام بإذن الله تعالى يوم الخميس29/ 6/ 2006 ملتفتين إلى ما يلي: 1- أن زيارة أمير المؤمنين من المستحبات الأكيدة في كل زمان وعلى كل حال، فالدعوة إليها والالتزام بها شيء محمود عند الله تبارك وتعالى.

2- أن سلفنا الصالح قد سنوا مثل هذه الزيارة قبل ثمانين عاما تقريبا في يوم وفاة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) باعتبار أن أمير المؤمنين هو المعزى بوفاة حبيبه وابن عمه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبالرغم من أنها لم تنل الاهتمام الكافي فيما سبق إلا أنها في السنين المتأخرة أصبحت تحظى باهتمام كبير وحشود مليونية، فأصبحت مشروعاً معطاءً أو صدقة جارية لأولئك الذين سنوها وأقاموها، فليبادر أبناء هذا الجيل لإقامة هذه السنة الشريفة لتكون لهم صدقة جارية عبر الأجيال، والمناسبتان مشتركتان في المعنى فقد عظم على أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مصابه بفاطمة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) لأنها كانت سلوته عن مصابه برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

3- أن لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مواسم زيارة موزعة على أرباع السنة ففي الربع الأول في ذكرى وفاة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وفي الربع الثالث في المبعث النبوي الشريف وذكرى استشهاده (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وفي الربع الرابع بمناسبة عيد الغدير ويخلو الربع الثاني منها فتكون هذه المناسبة فرصة لاستمرار التواصل مع أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

4- أن هذه المناسبة لو نظمت بشكل جيد وخرج الزائرون بموكب مهيب

ص: 47

ويتقدمهم نعش رمزي للزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) يحمله السادة العلويون خصوصا المرتدون للزي الديني فسيكون حقيقة ثورة في وجه الظلم والانحراف واستعادة لكل تلك التساؤلات التي تركتها الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) حجة على الأمة. 5- إننا بهذه الفعالية الشريفة ندخل السرور على قلب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وآله الطاهرين وخصوصاً بقية الله الأعظم (أرواحنا له الفداء) وإحياء أمرهم وإدامة ذكرهم (احيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا).

6- إننا جربنا تأسيس مثل هذه السنّة الشريفة في موسم الحج فقد أوصيت إخواني حينما ذهبت إلى موسم الحج عام 1424 أن ترتفع أصواتهم بالدعاء لصاحب الأمر الإمام المهدي المنتظر بمجرد أن يسمعوا احدهم يقرأ بصوت مرتفع (اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن...) أثناء الطواف ليلفتوا أنظار كل المسلمين إلى إمامهم الحق، وقد قاموا بهذا العمل المبارك جزاهم الله خيرا فكانت أصوات الموالين للعترة الطاهرة من حجاج مختلف الدول تتجاوب معنا أثناء السيل الهادر من الطائفين حول الكعبة الشريفة واتسعت هذه السُنّة المباركة هذا الموسم (1426) لتبلغ مدىً عظيما اقلق الحاسدين فأصابهم الذهول، لكنهم لم يكونوا يستطيعوا فعل شيء لهذا الموج الهائل، كما أن هذه الأصوات المباركة دعت المسلمين من كافة أرجاء الأرض إلى السؤال والتحقيق عن المقصود بالدعاء فوسَّعَ دائرة الإعلام بقضية الإمام المهدي المنتظر (أرواحنا له الفداء).

7- أن الأمة مقصرة بحق الصديقة الطاهرة ولا يرتقي مستوى اهتمامها

ص: 48

بالمناسبة إلى المقام الأقدس لسيدة نساء العالمين وها هي مناسبتها تمر بفعاليات ضعيفة ومن دون اهتمام أكثر الناس فلا بد من تحريك ضمير الأمة بحركة قوية. 8- أنا نعيش ببركة الزهراء ونأمل شفاعة الزهراء ويدفع الله عنا الكثير من البلاء بإقامة شعائر الزهراء وهو مجرب تأريخياً، فلنعمل على استنزال بركة أكثر ورحمة أوسع ولنسأل الله تعالى أن يرفع عنا البلاء بالإحياء الواسع الفاعل لمناسبة الصديقة الكبرى (سلام الله عليها).

وسيكون من المناسب للخطباء والمبلغين والمثقفين أن يستثمروا الذكرى الثانية الآتية لوفاة السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) في (13-15/جمادى الأولى) لتعبئة الأمة ووضع برامج السفرة والموكب الكبير، وأن

تعلن المؤسسات الدينية والاجتماعية والسياسية والثقافية استعدادها للمشاركة و المواظبة على إقامة هذه السنة الشريفة وتقديم ما يليق بها من أشكال الدعم والمشاركة.

[وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ].

محمد اليعقوبي – النجف الأشرف

22 ع2 1427 - 20/ 5/ 2006

ص: 49

تأييد مرجعي وجماهيري لمراسم إحياء ذكرى شهادة الصديقة الطاهرة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ)

تأييد مرجعي وجماهيري لمراسم إحياء ذكرى(1) شهادة الصديقة الطاهرة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ)

قامت اللجنة التحضيرية المركزية لإقامة شعائر ذكرى شهادة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) في النجف الأشرف بزيارة إلى عدد من مراجع الدين العظام في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة، وقدموا بخدمتهم شرحاً لهذا المشروع الذي يراد له أن يظهر الأجواء اللائقة بهذه الفاجعة الكبيرة ولاستلهام المواقف العقائدية البطولية التي حفظت من خلالها الصديقة الطاهرة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) المسار الصحيح للإسلام العظيم ووضعت للأمة معالم تدله على هذا الطريق، وقد رحّب العلماء الإعلام بهذه الحركة المباركة وتمنوا لها النجاح.

كما أبدى رؤساء العشائر ووجهاء النجف الأشرف استعدادهم لخدمة زائري أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الوافدين من مختلف المدن العراقية وبذل الوسع لإخراج المناسبة بالشكل اللائق، وقد أصدرت اللجنة عدداً من التوجيهات لتنظيم هذه المناسبة ومنها:

1-تشكل لجان محلية في كل محافظة من المكاتب الدينية والسياسية والاجتماعية والعشائرية، لتوفير وسائل النقل وجمع التبرعات والحقوق الشرعية لتغطية التكاليف والمحافظة على أمن المواكب وتنظيم حركتها وإقامتها في النجف الأشرف.

ص: 50


1- نُشر في العدد (43) من صحيفة الصادقين التي صدرت بتأريخ15/حزيران/2006

2-ستبدأ فعاليات المناسبة في الساعة العاشرة من صباح يوم الخميس 3/ج2/ 1427 المصادف 29/ 6/ 2006 بإذن الله تعالى في ساحة ثورة العشرين في النجف الأشرف وتنتهي في الصحن الحيدري الشريف.

3-لأبناء المدن الجنوبية البعيدة المجيء بإذن الله تعالى مساء الأربعاء، وستقدم لهم خدمات الضيافة والإطعام في سرادقات منصوبة في ساحة الصدرين في مدخل مدينة النجف الأشرف من جهة الكوفة.

4-ستقدم وجبات طعام الغداء للزائرين الكرام يوم الخميس في مناطق متعددة من مركز مدينة النجف الأشرف.

5-تقتصر شعارات ومراثي المواكب على المعاني المستوحاة من الحركة الرسالية للصديقة الطاهرة(عَلَيْهِا السَّلاَمُ):ومن كلمات أبيها الرسول العظيم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)وأمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)في حقها. ويمنع رفع أي صورة أو اسم لشخصية أو جهة معينة مهما كانت.

6-ضرورة الالتزام بالأخلاق العالية والسلوك النظيف الذي يميّز أتباع أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ)ويليق بهذه المدينة المقدسة.

ص: 51

إحياء مراسم العزاء الفاطمي في النجف الأشرف

لبّى عشرات الآلاف من عشاق الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) دعوة المرجعية الرشيدة لإقامة سُنّة شريفة بجعل ذكرى شهادة الزهراء فاطمة يوم الثالث من جمادى الثانية زيارة لأمير المؤمنين وتقديم التعازي له بهذه الفاجعة الأليمة، وقد بدأ الآلاف من التوّاقين لنيل شفاعة الزهراء(عَلَيْهِا السَّلاَمُ):من محافظات بغداد والبصرة والناصرية والعمارة بالتوافد على النجف الأشرف منذ عصر الأربعاء الثاني من شهر جمادى الثانية، وباتوا ليلتهم في سرادقات أُُعدت لهم، ثم التحقت بهم مواكب العزاء من أنحاء العراق صباح يوم الخميس الثالث من الشهر الموافق 29/ 6/ 2006 وابتدأت المراسم في تمام الساعة العاشرة صباحا بتلاوة آياتٍ من الذكر الحكيم. ثم ألقى سماحة آية الله الشيخ اليعقوبي خطاباً بالآلاف المحتشدة في ساحة ثورة العشرين ثم حمَل طلبة العلوم الدينية والفضلاء من السادة العلويين نعشاً رمزياً للصديقة الطاهرة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) وتبعهم عموم الفضلاء و طلبة العلوم الدينية في الحوزة العلمية في النجف الأشرف وفروع جامعة الصدر الدينية في مختلف المحافظات، وتلتهم مواكب المحافظات في منظر حزين مهيب، وانتهت المسيرة عند الصحن الحيدري الشريف .

وقد كان المشاركون على درجة عالية من الانضباط وحسن السلوك وطاعة النظام مما جعلهم موضع إشادة وثناء من أبناء مدينة النجف الأشرف ووجهائها وشيوخ عشائرها الذين بذلوا جهوداً مشكورة في تقديم الخدمات وحسن الضيافة لزائري أمير المؤمنين ع، وكذا قامت الدوائر الرسمية المعنية

ص: 52

بالخدمات والأمن وتنظيم المرور بوظائفها خير قيام، فظهرت المناسبة بصورة رائعة من التنظيم والتعاون يمكن أن تكون نبراساً لتنظيم الزيارات والمناسبات المليونية الأخرى. نسأل الله تعالى بحق الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) أن يتفضل على الجميع بالقبول والجزاء الحسن وأن يفرج الكرب والبلاء عن هذا الشعب المظلوم ويحقق أمانيهم في الدنيا والآخرة.

ص: 53

فاطمة الزهراء: ميزان الحق

فاطمة الزهراء: ميزان الحق(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

[إنّا أَعطَينَاكَ الكَوثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانحَر، إنَّ شانِئَكَ هُ-و الأبتَر]

السلام عليك يا رسول الله، السلام على أمين لله على وحيه وعزائم أمره. الخاتم لما سبق والفاتح لما استُقبِل والمهيمن على ذلك كله ورحمة الله وبركاته.

السلام عليك يا سيدي يا أمير المؤمنين ومولى المتقين علي بن أبي طالب ورحمة الله وبركاته.

عظّم الله لكما الأجر باستشهاد الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) ويهنيكم اجتماعكم في المقام المحمود في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر.

يا سادتي إن قلوب المؤمنين حرّى، وجمرة حزنهم ولوعة مصابهم متّقدة لا تنطفئ أبداً حتى ينتصف المظلوم من الظالم ويعود الحق إلى أهله ويرثَ الأرض ومن عليها عبادُ الله الصالحون أو يختار الله لنا لقاءكم ومرافقتكم.

ص: 54


1- نص الخطاب الذي ألقاه سماحة الشيخ اليعقوبي على الآلاف من عشّاق الزهراء الذين تجمّعوا من مختلف المدن العراقية في ساحة ثورة العشرين في النجف الأشرف ليقيموا العزاء الفاطمي في ذكرى شهادة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) يوم الخميس 3/جمادى الثانية/1427 المصادف 29 / 6 / 2006 ، تلبية للدعوة التي أطلقها سماحته بسن زيارة مخصوصة لأمير المؤمنين (عليه السلام) في ذكرى استشهاد السيدة الزهراء (عليها السلام).

أيها الأحبة:

لا يعرف قدر فاطمة إلا خالقها حين جعلها من أهل البيت الذين أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وإلا أبوها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الصادق الأمين الذي قال فيه الله تبارك وتعالى:[وَمَا يَنطِقُ عَن الهَوَى، إنْ هُوَ إلا وَحيٌ يُوحَى] (النجم:3-4) [وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ، لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ] (الحاقة: 44-46) الذي قال فيها (فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها) وقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مخاطباً إياها (إن الله يغضب لغضبكِ ويرضى لرضاك)، فهي ميزان الحق وبها يُعرف طريق الهدى ويُنال رض الله تبارك وتعالى، فلا يصل إلى الهدف المنشود من لم يوالي فاطمة ويسير على نهج فاطمة ويجعل فاطمة معياراً لتمييز الحق من الباطل، وهكذا أرادها الله تعالى ورسوله الكريم أن تكون للأمة حتى لا تضلّ وتشتتها الأهواء.

لكن الأمة الغافلة الطائعة لهواها المستسلمة إلى أمراضها النفسية وعُقَدِها الاجتماعية أعرضت عن هذا كله، ولم تصغِ إلى موعظة الزهراء وتذكيرها وإنذارها لهم بين يدي عذاب شديد (فنعم الحكَم الله والزعيم محمد(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون ولا ينفعكم إذ تندمون، ولكل نبأ مستقرٌ وسوف تعلمون من يأتيه عذابٌ يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم) وقالت (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) (ويحكم أفمن يهدي إلى الحق أحقُّ أن يُتّبع أمن لا يهدِّي إلا أن يهدى فمالكم كيف تحكمون؟! أمَا لعمري لقد لُقِحتْ، فَنَظِرَةٌ ريثما تُنتج، ثم احتلبوا ملء القُعب دماً عبيطاً وذعافاً مبيداً، هنالك يخسر المبطلون ويعرف التالون غبَّ ما أسس الأولون، ثم طيبوا عن دنياكم نفساً، وطامنوا للفتنة جأشاً، وأبشروا

ص: 55

بسيفٍ صارم، وسطوة معتدٍ غاشم، وبِهَرَجٍ شامل، واستبداد من الظالمين يدع فيئكم زهيداً، وجمعكم حصيداً فيا حسرتا لكم! وأنّى بكم وقد عميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون).فصدقَ عليهم قول رب العزة والجلال [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ] (آل عمران: 144).

بل عدَتِ الأمة على دارها التي شرّفها الله تبارك وتعالى وأغلق جميع الأبواب الشارعة إلى مسجد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلا بابها، ولم يكن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يدخل إلى هذه الباب إلا بعد الاستئذان إعلاء لشأنها، فأحرقوا الباب وضربوا سيدة نساء العالمين وأسقطوا جنينها واغتصبوا إرثها من أبيها، ونكثوا بيعة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فخرجت مطالبة بحقها مدافعةً عن إمامها وقائدها الحق فاضحة للأئمة المتقدسين الذين خدعوا الأمة بمعايير زائفة، وخلّفوا وراء ظهورهم ميزان الحق: فاطمة الزهراء مظهر الرضا والغضب الإلهي بنصّ الأحاديث النبوية الشريفة المتقدمة.

ولم تسكت الزهراء عن الظالمين والمنحرفين والفاسدين والمتاجرين بالدين والمتسلطين على رقاب الأمة بغير حق، وخلّدت هذه الثورة بتساؤلات تدفع كل باحث عن الحقيقة إلى التحقيق والتمحيص حتى يهتدي بنور فاطمة، لماذا تغادر فاطمة الدنيا وهي ابنة ثمانية عشر عاماً في عمر الزهور؟

ولماذا تدفن سراً في الليل ولا يحضر دفنها كل أصحاب أبيها عدا عدد الأصابع ممن اختارتهم هي وأمير المؤمنين! ولماذا يُعفى موضع قبرها؟

ص: 56

أي جريمة ارتكبتها الأمة في حقها وحق أبيها حتى حُرِموا من هذه النعمة؟ وهل يمكن أن يكون جزاء النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في وديعته هذا الصنيع وهو القائل لأمته بنصّ القرآن الكريم) [قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى] (الشورى23).أيها الأحبة:

إن احتفالنا بذكرى استشهاد الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء ليس إثارةً لتأريخٍ مضى وأصبح إرشيفاً، وإنما يعني الاهتداء لطريق الحق الذي رسمته ورضيت عنه صلوات الله عليها ما دام رضاها علامة على رض الله تبارك وتعالى ورفضها دليلا على غضبه سبحانه.

ويعني العودة إلى التوحيد الخالص والتحرر من عبودية الذات والأطماع والهوى والأنانية والمصالح وطاعة الطواغيت وتقديس السلف وغيرها من الأصنام التي تغلّ العقل والقلب عن الانفتاح على الحرية الحقيقية.

ويعني رفض الظلم والفساد والانحراف والتسلط على رقاب الأمة بغير حق.

ويعني الوحدة الحقيقية للأمة تحت راية القيادة الحقّة حيث قالت(عَلَيْهِا السَّلاَمُ):(وجعل الله طاعتنا نظاماً للملّة وإمامتنا أماناً من الفرقة).

ألا ترون إلى هذه البشرية الضالة التائهة التي مزّقتها الحروب وتفشّى فيها القتل، ونحن في العراق نفقد يوميا العشرات من الأبرياء ولم تنفع ألف مصالحة وطنية ومؤتمر للوفاق وآخر للحوار ومؤتمرات للوحدة وغيرها من الأسماء والمسميات الخاوية لأنها غير مبتنية على أساس صحيح؟ ولأنها لا تصدر عن نوايا صادقة ولا تراعي المبادئ الإنسانية العليا، وإنما تُقَنن لترعى المصالح

ص: 57

الشخصية والفئوية وترسخ الأنانيات وتحكّم شريعة الغاب حيث لا مكان إلا للعنف والعدوان والظلم.يا أحباب الزهراء:

إنكم بفعاليتكم المباركة هذه تسنّون للأجيال القادمة شعيرة مقدسة نحيي فيها كل معاني الحركة الرسالية لفاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ)، ونجدد قضية الزهراء لنعرضها للعالم، فقد آن الأوان إلى أن تُنصِف الأمة فاطمة الزهراء، وكفى الإهمال والتضييع لأكثر من ألف وأربعمائة عام، فاصبروا وصابروا وجاهدوا لترسيخ هذه السُنة الشريفة فإن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عدّها من أقسام الجهاد قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وأما الجهاد الذي هو سنّة فكل سنّة أقامها الرجل وجاهد في إقامتها وبلوغها وإحيائها فالعمل والسعي فيها من أفضل الأعمال لأنها إحياء سنة وقد قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء).

فلنبدأ من اليوم عملاً دؤوباً مستفيدين من كل وسائل الاتصال والإعلام والتبليغ لنعرّف البشرية جميعاً طريق الحق الذي رسمته فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ)، وستلقون من الله تبارك وتعالى تأييداً ونصرةً وقبولاً، فإنكم ترون العالم اليوم مقبلاً على تعاليم أهل البيت السامية وقد فتح أعينه على إسلام جديد غير الصورة البشعة التي سنّها من ظلمَ الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) وغصَبها حقها وسار على نهجه من هم على شاكلته إلى اليوم.

ففرص الهداية إلى طريق الحق اليوم عظيمة فاغتنموها ببركة قضية الزهراء.

وتذكّروا قول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لعليّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مرغّباً (يا علي لئن يهدي الله بك

ص: 58

رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وما غربت).يا شيعة أمير المؤمنين وكفى بهذا العنوان فخراً وعزّاً.

اجتمعنا هذا اليوم هنا في ارض النجف الشريف لنعزّيَ أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الذي جلس في مثل هذا اليوم على قبر الزهراء يخط التراب بأنامله، وقد فاضت عيناه بالدموع وهو يقول: (السلام عليك يا رسول الله عني وعن ابنتك النازلة بجوارك والسريعة اللحاق بك. قلَّ يا رسول الله عن صَفّيتك صبري، ورقَّ لها تجلدي، إلا أن لي في التأسي بمصيبتك موضع تعزٍ إذ وسّدتك في ملحودة قبرك بيدي وفاضت نفسك بين نحري وصدري.

بلى، وفي كتاب الله لي أنعُم القبول. إنا لله وإنا إليه راجعون. لقد استرجعت الوديعة، وأخذت الرهينة واختُلست الزهراء، فما أقبح الخضراء والغبراء.

يا رسول الله، أما حزني فسرمد، وأما ليلي فمُسهّد، وهمٌّ لا يبرح من قلبي، أو يختار الله لي دارك التي أنت فيها مقيم.

وستنبئك ابنتك بتضافر أمتك على هضمها، فأحفّها السؤال واستخبرها الحال، فكم من غليلٍ معتلجٍ بصدرها، لم تجد إلى بثه سبيلا، وستقول ويحكم الله وهو خير الحاكمين. فبعين الله تدفن ابنتك سرّاً، وتهضم حقّها، ويمنع إرثها، ولم يتباعد العهد، ولم يخلُ منك الذكر، وإلى الله يا رسول الله المشتكى، وفيك يا رسول الله أحسن العزاء، وصلى اللهُ عليك وس والرضوان. فإن أنصرف فلا عن ملالة وإن أُقِم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين).

يا أحباب الزهراء، أيها التوّاقون لشفاعتها والمفجوعون بمصيبتها.

قوموا لنرفع الظُلامة عن فاطمة الزهراء وننصرها ونظهر عزّتها وكرامتها

ص: 59

ونشيّعها نهاراً جهاراً، ولنرغم أنوف ظالميها وشانئيها، وتوسّلوا إلى الله تعالى بفاطمة الزهراء لقضاء حوائجكم، وأن يكشف البلاء عن هذا البلد الكريم وشعبه الأبيّ، وأقسِموا على الإمام المهدي الموعود (عجّل الله فرجه الشريف) بجدّته فاطمة، فإنه لا تُردُّ لكم حاجة، وأسأل الله تعالى أن لا يضيّع لكم جهداً أو عناء ويدخلكم في شفاعة الزهراء حين تلتقط شيعتها ومحبّيها يوم المحشر كما يلتقط الطير الحب الجيد من الحب الرديء ولا يشفعون إلا لمن ارتضى. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيد خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 60

الاستعداد لإحياء ذكرى استشهاد الصديقة الزهراء

الاستعداد لإحياء ذكرى استشهاد الصديقة الزهراء(1)

يفصلنا أسبوعان أو ثلاثة عن ذكرى استشهاد الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء في (13-15) جمادى الأولى على رواية (75 يوماً) وهي المشهورة لدى عامة الناس وبعدها بعشرين يوماً تحل ذكرى استشهادها يوم (3) جمادى الثانية على رواية (95) وهي المعتمدة لدى المحققين والتي أحياها المؤمنون في العام الماضي عند مرقد أمير المؤمنين. لقد وصف الله تبارك وتعالى يوم بدر بأنه يوم الفرقان لأنه الفيصل بين الحق والباطل على صعيد التنزيل وكان يوم فاطمة الزهراء يوم الفرقان على صعيد التأويل حيث أوضحت معالم الجماعتين ونحن نروي أن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال لعلي (أنا قاتلت على التنزيل وستقاتل أنت على التأويل) لان الحق على مستوى التنزيل أصبح واضحاً على يد رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وإنما دخلت الشبهة والتضليل والانحراف على مستوى التأويل أي داخل هذا الحق, قال تعالى: [فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ] (الجاثية:17). ولترسيخ هذا الحق في حياة الأمة لا بد من الاهتمام بقضية فاطمة الزهراء وإحياء شعائرها بالمقدار الذي ييسره الله تبارك وتعالى. لقد كانت المناسبة التي أحياها المؤمنون في العام الماضي في النجف الأشرف ناجحة بكل المقاييس ولكن هذا لا يكفي لتثبيت هذه الشعيرة المقدسة في أذهان

ص: 61


1- من حديث سماحة الشيخ مع هيئة الفرقان في مدينة ببغداد يوم 22/ربيع الثاني/1428 الموافق10/ 5/ 2007 ونشر في العدد (56) من صحيفة الصادقين.

الأمة لطول الغفلة عنها ولعدم الشعور بأهميتها حتى تتحول إلى مصاف الشعائر الكبرى لشيعة أهل البيت فلا بد من بذل أقصى الجهود لتحقيق هذه النتائج بإذن الله تعالى ولتثبيت هذه ألسُنة الشريفة وينال المؤسسون لها فضيلة الحديث الشريف (من سنَ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة). ولأجل إعطاء زخم للمناسبة وإيجاد فرصة لأبناء المحافظات لإحيائها في مدنهم والاستعداد للذكرى الأخيرة فنحن ندعوهم إلى استغلال مناسبة الاستشهاد القريبة (13-15 جمادى الأولى) لإقامة الشعائر في مدنهم بشتى أنواع الفعاليات وليتذكر أحبتي المؤمنون إن المناسبة هي ذكرى استشهاد ومصيبة وعزاء فليكثروا من مظاهرها وليشارك الشعراء بقصائدهم وأهازيجهم والمواكب بطرقهم العزائية المعروفة فقد رأيت أكثر المشاركين في العام الماضي وكأنهم في مسيرة أو مظاهرة لهدف سياسي ونحوه والأمر مختلف خصوصاً في ذكرى استشهاد الصديقة الطاهرة المظلومة صرخة الحق المدَوية فاطمة الزهراء (سلام الله عليها).

ص: 62

يوم الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) يوم الفرقان

يوم الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) يوم الفرقان(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين حمداً لا ينقطع أبداً، ولا يحصي له الخلائق عدداً، حمداً هو أهله وكما يستحقه حمداً كثيراً. والصلاة والسلام على أشرف خلقه وأحبّهم إليه محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

(السلام على الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء وعلى أبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها).

وصف الله تبارك وتعالى يوم بدر بالفرقان في قوله تعالى: [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] (الأنفال:41)؛ لأن النصر الذي منّ الله به تبارك وتعالى على عباده المؤمنين في معركة بدر كان فيصلاً فرّق بين الحق والباطل: الحق المتمثل بعقيدة الإسلام والانقياد لله تبارك وتعالى فيما يأمر وينهى وإقامة نظام الحياة على أساس شريعته المباركة، والباطل المتمثل بعبادة الأهواء وطاعة الطواغيت والانسياق وراء الشهوات واتخاذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله تبارك وتعالى. فأعزّ الله تبارك وتعالى الحق وجنده ونصرهم وأخزى الباطل وجنده وخذلهم.

ليس ذلك فحسب وإنما كان يوم بدر فرقاناً في تاريخ الإسلام والمسلمين

ص: 63


1- المقطع الأول من الخطاب الذي ألقاه سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على عشرات الآلاف من المؤمنين الذين تجمّعوا لإحياء ذكرى استشهاد الزهراء (عليها السلام) في النجف الأشرف يوم 3/ج2/ 1428 المصادف19/ 6/ 2007.

فانتقلوا من مرحلة الخوف والاستضعاف والتشتت إلى مرحلة القوة والعزّة والمنعة والدولة وانطلق المسلمون بعدها ليبنوا حضارة البشرية كلها.وكان فرقاناً ميّز أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بين من حمل الإيمان في قلبه واطمأنت به جوانحه وثبتت عليه جوارحه فصدقوا ما عاهدوا الله عليه، وبين من كان الإيمان عنده لقلقة لسان وطقوس سطحية يؤديها فإذا محّصوا بالبلاء قل الديانون.

وكان فرقاناً بين فهمين للعوامل الحقيقية للنصر فبعد أن كان الاعتقاد بان الفوز حليف الكثرة العددية و القوى المادية المتنوعة حتى قال قائلهم [إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَ-ؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فإن اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] (الأنفال:49)، أصبح معيار النصر هو الإيمان والصبر والثبات على الحق فتهاوى جبروت قريش وعددها وعدتها بين إقدام المسلمين المعدمين إلا من النزر اليسير قال تعالى: [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ] (آل عمران:123).

هكذا كان يوم بدر يوم فرقان على جميع الصُعُد في معركة العقيدة، معركة تنزيل القران أي على مستوى الإيمان به والتصديق بما انزل الله تبارك وتعالى على نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وكان الرسول الأكرم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هو قائد هذه المعركة.

ثم كانت حاجة لمعركة أخرى تلتها على مستوى السلوك والتطبيق لهذه التعاليم هي معركة التأويل أي الالتزام بحقيقة ما انُزِل على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعدم تحريفه عن حدوده والتصرف في الشريعة تبعاً للأهواء والمصالح والاستحسانات، وكان قائد هذه المعركة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إذ قال فيه رسول

ص: 64

الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (وإنه المقاتل على التأويل إذا تركت سنتي ونُبِذت، وحُرِّف كتاب الله، وتكلم في الدين من ليس له ذلك، فيقاتلهم علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)على إحياء دين الله عز وجل) (1) وروي عن أبي جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه ذكر الذين حاربهم علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال: (أما إنهم أعظم جرماً ممن حارب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، قيل له: وكيف ذلك يا ابن رسول الله؟ قال: أولئك كانوا جاهلية وهؤلاء قرأوا القرآن، وعرفوا أهل الفضل فأتوا ما أتوا بعد البصيرة) (2) ولما سأل علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فقال: يا رسول الله على ما أقاتل القوم؟ قال: على الإحداث في الدين).فلم تكن هذه المعركة تنّفك عن تلك بل أن علياً لو لم يقاتل على التأويل لما بقي التنزيل ولحُرّف الدين وانتهى كل شيء كما كانت نتيجة الديانات السابقة لان كلمات التنزيل تبقى مجملة وعرضة للتلاعب والتحريف إذا لم توضع النقاط على الحروف فكان عليٌّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تلك النقطة التي تحركت على حروف كلمات التنزيل فأوضحت معانيها وثبتت حدودها وصانتها من عبث وتحريف أهل الأهواء والمصالح، لذا قال أمير المؤمنين في حرب صفين (والله ما وجدت من القتال بُداً أو الكفر بما أنزل على محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ))(3).

وكان في حرب التأويل يوم فرقان كيوم بدر ذلك هو يوم الزهراء (سلام الله عليها) حيث وقفت (سلام الله عليها) في مسجد أبيها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وأصحابه منصتون وهي تثبّت الحق وتعيده إلى نصابه بحجج بالغة وتدفع عنه التأويل

ص: 65


1- الإرشاد للمفيد:1/ 124.
2- مناقب آل أبي طالب: 3/ 19.
3- مناقب آل أبي طالب: 3/ 18.

والالتفاف على النصوص المباركة.كان يوم الزهراء فرقاناً أوضح معالم وصفات الإمام الحقّ وميّزته عن المتقمص لها ومن كلماتها سلام الله عليها (وما الذي نقموا من أبي الحسن ع؟! نقموا والله نكير سيفه، وقله مبالاته لحتفه، وشدة وطأته، ونكال وقعته، وتنمّره (أي غضبه) في ذات الله، والله لو ما لوا عن المحجة اللائحة، وزالوا عن قبول الحجة الواضحة لردّهم إليها، وحملهم عليها، ولسار بهم سيراً سُجُحا (أي سهلاً) لا يكلم حشاشه، ولا يكِلُّ سائره، ولا يملّ راكبه، ولأوردهم منهلاً نميرا، صافياً، روياً، تطفح ضفتاه ولا يترنّق جانباه ولأصدرهم بطاناً، ونصح لهم سراً وإعلاناً، ولم يكن يتحلى من الدنيا بطائل، ولا يحظى منها بنائل، غير ريّ الناهل، وشبعة الكافل، ولبان لهم: الزاهد من الراغب والصادق من الكاذب [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَ-كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ] (الأعراف:96). [فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ] (الزمر:51).

وكان يوم الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) فرقاناً لتمييز المنقلبين على الرسالة من الثابتين عليها الشاكرين من أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ] (آل عمران:144).

ومن ذلك اليوم تميّز في تاريخ الإسلام خطان الأول مستقيم [فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ] (هود:112)، يمثل نقاوة الإسلام وأصالته، وخط انحرف

ص: 66

عن جادة الصواب، وكلما طال الزمن ازداد الانحراف والابتعاد عن الخط الأصيل حتى صار خلفاء المسلمين كما يسمّونهم يشربون الخمر على منابرهم هذا ولا زال أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أحياء.وكانت فاطمة فرقاناً يميّز الحق عن الباطل إذ قال فيها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (فاطمة يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها) فما رضيت عنه فاطمة فهو حق وما غضبت عليه فهو باطل لأنها معصومة وممن عرفت الله تبارك وتعالى فعرفت ما يرضيه وما يسخطه وما يصدر منها إلا ما يوافق رضا الله تبارك وتعالى.

وما أحوجنا اليوم إلى هذا الفرقان ليميّز لنا الحق من الباطل، والهدى من الضلال في كل عقيدة أو دعوة أو فكرة.

وما أحوجنا إلى هذا الفرقان ليفرّق لنا بين الصحيح والخطأ في آرائنا وتصوراتنا.

وما أحوجنا إلى هذا الفرقان ليميز لنا السلوك والتصرف الذي يرضي الله تبارك وتعالى من الذي يسخطه حيث اختلطت الأوراق وكثر المدّعون واشتبهت الأمور.

فاجعلوا الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) نصب أعينكم فيما يصدر منكم من فعل أو قول أو موقف أو فكرة تعتقدونها في عقولكم أو ضميمة تضمرونها في قلوبكم، واسألوا أنفسكم عن كل ذلك فحينما لا تلتزم المرأة بحجابها أو لا يؤدي الشاب الصلاة لربه أو لا يدفع التاجر خمس أمواله، أو يقصّر المسؤولون في خدمة شعبهم أو يقوم أحد بتصرف من دون الرجوع إلى المرجعية الرشيدة، فاجعلوا الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) حكما عليكم في خلواتكم هل ترضى بذلك أم تسخط

ص: 67

فإن رضاها رضا الله تبارك وتعالى وسخطها سخط الله تبارك وتعالى.وإذا سألتم كيف ندرك ذلك؟ وكيف ينبلج نور الفرقان هذا في قلوبنا حتى نستطيع به هذا التمييز، فإن الله تبارك وتعالى يجيبكم من قبل أن تسألوه تفضّلا منه وكرما، قال تبارك وتعالى: [يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ] (الأنفال:29)، إنها تقوى الله تبارك وتعالى التي تفجّر ينابيع المعرفة في القلب، لأن التقوى تزيل تأثير الهوى الذي يصدّ عن الحق ويحجب القلب عن رؤيته بما يجعل من الحجب فتعمى القلوب التي في الصدور، قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (إن أخوف ما أخاف على أمتي الهوى وطول الأمل، أما الهوى فانه يصدُّ عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة، وهذه الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وهذه الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فإن استطعتم أن تكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فافعلوا، فإنكم اليوم في دار عمل ولا حساب وانتم غداً في دار حساب ولا عمل).

إن القلب ما لم يعمر بالتقوى وينفض عنه غبار الهوى وأغلال الشهوات لا يمكن أن يهتدي إلى الحق ولو أقمت له ألف دليل [وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ] (البقرة:145)؛ لأن الدليل مهما كان مفحماً ومسكتاً فانه لا يكون مؤثراً إذا لم تسكن إليه النفس ويطمئن به القلب.

إن من لا يمتلك هذا الفرقان يتخبط ويسير على غير هدى ويضلّ نفسه والآخرين ولا يميّز بين ما يضرُّه وما ينفعه ولا بين العدو وغيره كالثور المستعمل في حلبات مصارعة الثيران يجعل همّه في نطح قطعة القماش الحمراء غافلاً عن عدوّه المصارع الذي يطعنه بالخناجر حتى يصيب مقتله.

ص: 68

أعداء الشعب ثلاثة: الاحتلال، الإرهاب، فساد الحكومة:

قبل أيام قام المجرمون المتواطئون مع أجهزة متنفذة في الحكومة بتفجير ما تبقى من الروضة العسكرية الشريفة في سامراء وقد استنكر الجميع هذا الفعل الآثم، واكتفى بهذا الاستنكار العجزة المشلولون القابعون في سجونهم الاختيارية التي حاصروا بها أنفسهم وانعزلوا عن الشعب المظلوم.

فما قيمة هذا الاستنكار وقد مرّت سنة وأربعة أشهر على تفجير القبة الشريفة ولم تفلح الحكومة حتى في تشكيل لواء العسكريين(1) لتأمين الطريق إلى سامراء وحماية الزائرين والروضة العسكرية الشريفة علماً بأن وسائل الإعلام المحلية تنقل لنا باستمرار طيلة هذه المدة عن تشكيل ألوية وأفواج وتجهيزها وتخريج دفعات من الضباط وعودة الآلاف من الضباط السابقين فلماذا لم يتشكل لواء العسكريين؟! مع إعلان آلاف الشباب الرسالي المتحمسين للدفاع عن مقدساتهم والتطوع في مثل هذا اللواء ومع تعاون أهالي سامراء الكرام أول المفجوعين بهذا المصاب الجلل حين انطلقوا في مظاهرات استنكارية حاشدة.

وكيف لا نتوقع منهم هذا الاستخفاف بحماية العتبات المقدّسة ونحن نرى انتهاك أقدس المقدسات وهو الإنسان الذي كرّمه الله تبارك وتعالى فجعله خليفته على أرضه [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً] (الإسراء:70).

ص: 69


1- شكّل اللواء لاحقاً وساهم في بسط الأمن من بغداد حتى سامراء مما أتاح للمؤمنين التوجه إلى زيارة الإمامين العسكريين تدريجياً.

حيث جعلوا دم الإنسان العراقي المضطهد المحروم ورزقه وتاريخه وحضارته وعزّته وكرامته ثمناً لصفقاتهم ولصراعهم على الغنائم وعلى المصالح وتقاسم النفوذ والهيمنة. وإن كل واحد من المشاركين في ظلم الشعب العراقي بأي درجة من الدرجات سيلاقي عاقبة بغيه فإن ظلم العباد بعضهم لبعض من الذنوب التي لا يتركها الله سبحانه، ولو بغى جبل على جبل لتدكدك.ففي كل يوم تسفك دماء بريئة من التي وصفها الحديث الشريف (إن دم المؤمن أشد حرمة عند الله من الكعبة)، وفي كل يوم يُضاف عدد جديد إلى الملايين الأربعة من المهجرين في داخل العراق وخارجه الذين أجبروا على التخلي عن وطنهم ومساكنهم وحصيلة جهود السنين المتطاولة، وفي كل يوم تنضمّ أعداد جديدة إلى جيوش العاطلين عن العمل حيث تتعطل المصانع وتتوقف الزراعة والتجارة والأعمال.

وكم رأينا وسمعنا عن جسر يُدمّر أو بناية تُخرَّب أو مشروع خدمي يتعطل من دون أن تقوم الحكومة بإصلاح شيء منها فها هي أنقاض تفجير الروضة العسكرية لم ترفع منذ سنة وأربعة أشهر فضلاً عن إعماره، وها هو جسر الصرافية(1) على حاله يحكي قصة القطيعة التي يريدون فرضها على أبناء

ص: 70


1- كان جسر الصرافية هو المنفذ للتنقل بين الكرخ والرصافة خصوصاً لمحبي أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) الذين يتوجهون من شرق بغداد لزيارة الإمامين الكاظمين بعد تعذر المرور عبر الجسور الأخرى بسبب اشتداد الفتنة الطائفية، فكان تفجيره وسقوط قطعة كبيرة منه في نهر دجلة ذا بعد

الشعب، وها هو شارع المتنبي(1) يندب الثقافة والأدب والعلم والفكر، وفي كل مرة نسمع بتشكيل لجان تحقيقية من دون أن نعرف نتيجة واحد منها رغم وضوح أسباب بعض الجرائم كاستشهاد ألف من المؤمنين المعزين بذكرى استشهاد الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على جسر الأئمة قبل سنتين ولم تظهر النتائج إلى الآن.نعم كل الذي نسمعه فضائح سرقة أموال الشعب حتى تصدّر العراق بلدُ الحضارة والأئمة والعلماء قائمةَ الدول التي استشرى فيها الفساد في تقرير منظمة الشفافية العالمية، وها هي سنة 2007 ينتهي نصفها ولم نرَ من ميزانيتها الانفجارية البالغة (41) مليار دولار شيئاً على ارض الواقع ولا من الأحد عشر مليار دولار التي خصصت للمشاريع الاستثمارية لتشغيل العاطلين، بلى وجدنا العكس حيث رأى العالم كله على شاشات التلفزيون تلكم النسوة والأطفال الذين يبحثون في حاويات القمامة عن طعام يسدّ رمقهم من دون أن يرفّ لهؤلاء جفن أو تحركوا لإنقاذ هؤلاء البائسين المحرومين، وبين أيديهم نهج البلاغة وفيه يقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عقب غارة لجند معاوية على الأنبار فقاموا بسلب النساء المسلمات وغير المسلمات ما تمتنع منهم إلا بالاسترجاع والاسترحام فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (فلو أن امرأ مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به

ص: 71


1- استهدف تفجير شارع المتنبي في بغداد الذي يمثل نافذة بغداد الثقافية والتأريخية وأحرقت العديد من المكتبات والمعالم الأثرية وأزهقت الأرواح.

ملوماً بل كان به عندي جديراً) (1) .أيها الشعب العراقي النبيل: إن الاحتلال والإرهاب خطران عظيمان يواجهان العراق وشعبه وسببان للمصائب والويلات التي حلّت بهما لكنهما لا يفسران كل ما حصل في العراق من كوارث؛ لأن الأخطر منهما حاضراً ومستقبلاً والذي يوفر لهما عناصر البقاء والنمو هو العنف السياسي الناشئ من الصراع على السلطة، والاستئثار بثروات الشعب، والاستبداد بالقرار، ونظر الكتل السياسية بعضها إلى بعضها على أنهم خصوم وليسوا شركاء في بلد واحد وركاب سفينة واحدة، والتسابق إلى حيازة المغانم على حساب حرمان الشعب من ابسط حقوقه، واعتبار السلطة على أنها وسيلة للإثراء غير المشروع وليست وسيلة لخدمة المواطن وإعمار البلد، وتوزيع المناصب على أساس الولاء للكيان لا على أساس الكفاءة والنزاهة والإخلاص للوطن والشعب، وهذا هو الذي مزّق الشعب وخرّب الدولة وجعل الكتل السياسية منشغلة عن الشعب وهمومه بعقد الصفقات والتسابق على قضم اكبر مقدار ممكن مما يسمونه بالكعكة وسحق الخصوم حتى لو احتاج الأمر إلى التواطؤ مع الجهات الخارجية.

إن الشرعيةَ المكتسبةَ من صناديق الاقتراع مشروطةٌ بالوفاء بالبرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي وعدوا بها الناخبين فإذا لم يفوا بها ويخدموا الشعب ويوفروا له حقوق الحياة الحرة الكريمة فعليهم التنحي طوعاً أو كرهاً [وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] (محمد:38).

ص: 72


1- نهج البلاغة: ج1 الخطبة 27 ص58.

أيها الأحبة: إن أبا ذر (رضوان الله عليه) من القلة الذين تشرفوا بتشييع الطاهرة الزهراء مع أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)ليلاً، كان يقول وقد رأى اقل مما رأيتم (عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج شاهراً سيفه) وهو نداءٌ إليكم والى كل المحرومين عبر الأجيال.وإنكم أيها الموالون للزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) العارفون بقدرها المجتمعون على مودّتها وتعظيم شأنها أكثر الناس استحقاقاً لنور الفرقان في قلوبكم ومعرفة الحق فطوبى لكم وحسن مآب.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ص: 73

إحياء الذكرى الفاطمية (عَلَيْهِا السَّلاَمُ)

إحياء الذكرى الفاطمية (عَلَيْهِا السَّلاَمُ)(1)

أقيمت في النجف الأشرف يوم السبت 3/جمادى الثانية/1429 المصادف 7/ 6/ 2008 مراسم إحياء ذكرى استشهاد الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ).

ومنذ ظهر يوم الجمعة فقد بدأت مواكب المحافظات تتوافد إلى النجف الأشرف إلى المخيمات التي أُعدت لضيافتهم، حيث بدأت عصر نفس اليوم فعاليات فنية تضمنت عدة عروض مسرحية ومهرجانات شعرية للإشادة بفضل الصديقة الطاهرة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) ودورها في حفظ العقائد والآداب الإسلامية وللتذكير بمظلوميتها التي تركت لوعة وأسى في قلوب محبيها لم تبرد حرارتها بمرور الزمن.

وفي الصباح الباكر توجّه عشرات الآلاف من الزوار إلى ساحة ثورة العشرين والتحق بهم آلاف آخرون قدموا صباحاً حيث استمعت الحشود إلى خطاب سماحة الشيخ اليعقوبي بالمناسبة وقد ألقاه فضيلة الشيخ محمد الهنداوي، وكانت الجماهير تؤيد فقراته بالشعارات والهتافات الإيمانية والموالية لأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وبعد أن انتهى الخطاب اُخرج من مقر جامعة الصدر الدينية نعش رمزي للصديقة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) وسارت خلفه مواكب العزاء يتقدمها موكب مهيب ضمّ المئات من فضلاء وأساتذة وطلبة الحوزة العلمية في النجف الأشرف والمحافظات، وتبعته مواكب المعزّين المفجوعين متتالية

ص: 74


1- نُشرت في العدد (71) من صحيفة الصادقين.

بحسب تسلسل المحافظات وكان لمحافظات ديالى وصلاح الدين وكركوك حضور لافت إلى جانب محافظات الوسط والجنوب ثم تجمع المشاركون إلى جوار مرقد أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حيث أقيم مجلس العزاء ورُدِّدت فيه المراثي الحزينة للطاهرة الزهراء وقد أثنى وجهاء وأهالي مدينة النجف الأشرف الذين استضافت مواكبهم الزوار بدقّة التنظيم والانضباط العالي والوعي والحكمة وإخلاص العمل لله تبارك وتعالى وحب المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) إذ لم تُرفع على طول المسيرة التي امتدت عدة كيلومترات أي صور أو عنوان لجهة دينية او سياسية نسأل الله تعالى أن يتقبل عمل الجميع ويدخلهم في شفاعة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) وأن يوفقهم للعمل الصالح ولما يحبّ ويرضى..

ص: 75

فاطمة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) الكوثر

فاطمة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) الكوثر(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين

السلام عليك يا سيدي ومولاي يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته..

السلام عليكم أيها المؤمنون المفجوعون باستشهاد الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء ورحمة الله وبركاته..

فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) عطاءٌ متنوع

ثمانية عشر عاماً هو العمر الذي قضته الزهراء فاطمة بنت رسول الله (صلوات الله عليهما) في هذه الدنيا، وهو قصير في عمر الزمن، إلا أنه كان حافلاً بالعطاء والسمو والكمال.

ص: 76


1- نص الخطاب الذي وجهه سماحة الشيخ اليعقوبي إلى عشرات الآلاف من المؤمنين المجتمعين في ساحة ثورة العشرين في النجف الأشرف قدِموا إليها من مختلف المحافظات بما فيها صلاح الدين وكركوك قبل انطلاقهم في مواكب العزاء إلى الحرم العلوي المطهّر بمناسبة ذكرى استشهاد الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) في 3 جمادى الثانية1429 هج-، المصادف 7/ 6/ 2008 م. وألقاها بالنيابة عنه فضيلة الشيخ محمد الهنداوي، وقد قاطعته الحشود في عدة مواضع بهتافات (نعم نعم للإسلام، نعم نعم يا ربي، هيهات منا الذلة، لبيك لبيك يا علي، لبيك يا زهراء، الله أكبر لا إله إلا الله، نِعمَ الحكم الله ونعم الخصيم محمد).

منذ بداية وجودها وتكوّنها وهي تؤدي وظيفتها الرسالية بمؤانسة أمها خديجة الكبرى وردّ الوحشة عنها حيث عاشت عزلة ومقاطعة من نساء قريش بسبب إيمانها بما جاء به زوجها الكريم محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فكانت خديجة تفرح بذلك وتذكره لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فيفرح أيضاً ويخبر زوجته بعظمة شأن هذه الوليدة.وتحمّلت مع أبيها (صلوات الله عليهما) وهي في السنين الأولى من عمرها أذى قريش فكانت تواسيه وتسلّيه وترفع عنه الأذى وتحمّلت معه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) المعاناة والألم والجوع في شِعب أبي طالب ثلاث سنين حين فرضت قريش على بني هاشم ومن آمن برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مقاطعةً اقتصادية واجتماعية وعزلتهم في الشعب، وما انتهت هذه السنوات العجاف إلا بوفاة عضدي رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وركنيه عمّه أبي طالب وزوجته خديجة فسمي عام الحزن فعاشت الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) اليتم وفقدان هذه الأم العظيمة وهي لم تكمل ثمان سنين.

ولم يفتّ ذلك في عزيمتها وإرادتها في نصرة أبيها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومؤازرته بل أغدقت عليه من العواطف والحنان والرحمة ما عوّضه عن أمه وزوجته حتى سمّاها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ب-(أم أبيها) فكان (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يجد عندها قلب الوالدة الرحيمة ودفء عواطف الزوجة الودودة وأنس الخليل المؤالف.

وعندما عزمت قريش على استئصال وجود رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في مكة وأمره ربه بالهجرة إلى المدينة فخرج (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وخلّف علياً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في فراشه للتمويه على الأعداء ثم لحقه بالفواطم نهاراً على مرأى ومسمع من طواغيت قريش الذين شعروا بالذل والهوان من هذا التحدي فأخرجت مجموعة مقاتلة

ص: 77

لإعادة علي والنساء إلى مكة فواجههم أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقتل مقدمتهم فولّوا منهزمين وكانت الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) في ذلك الركب وتلك الرحلة الشاقة المحفوفة بالمخاطر.وفي المدينة المنوّرة توسّعت المسؤولية وتنوعت أكثر فقد بدأ الجهاد من أجل بناء الدولة الإسلامية وبناء الأمة الإسلامية وبناء الأسرة الصالحة والمواجهة المسلحة مع أعداء الرسالة والدولة الفتية، وكانت الزهراء في قلب هذه المسؤوليات وقطب الرحى منها:

فهي المجاهدة التي تخرج مع أبيها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وزوجها أمير المؤمنين في المعركة لتداوي الجرح وتخفف الألم وتقدم المساعدة وتجهّز عدة القتال.

وهي الأم التي تعين ولديها سبطي رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وسيدي شباب أهل الجنة وتيسّر لهم سبل الكمال، ففي كتاب مفاتيح الجنان أنها كانت توفّر لهما قسطاً من الراحة في النهار ليتقويا على إحياء الليل بالعبادة خصوصاً في ليالي العشر الأواخر من شهر رمضان بالعبادة.

وهي الزوجة الصالحة المتكاملة وقد شهد لها بذلك أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حين سألته وهي توصي في ساعاتها الأخيرة: (يا ابن العم هل عهدتني كاذبة أو خائنة أو خالفتك منذ عاشرتني) فكان جوابه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (معاذ الله أنت أبرّ وأوفى وأتقى من أن أوبّخك بمخالفتي) وقد لفتت (سلام الله عليها) بسؤالها أذهاننا إلى أصل كل أسباب الخلافات التي تحصل بين الزوجين وتؤدي إلى انهيار بيت الزوجية.

ص: 78

وهي المتابعة لتعاليم أبيها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتوجيهاته وهمومه أولاً بأول فكانت كلما يعود ولداها الحسن والحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من مسجد جدهما رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تسألهما عما حدث من نزول وحي أو صدور أمر أو جواب مسألة وغيرها.وهي العابدة التي تزهر في محرابها أنساً بلقاء ربها؛ قال الإمام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (رأيت أمي فاطمة قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسمّيهم وتكثر الدعاء لهم ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: يا أماه لمَ لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بني الجار ثم الدار)(1).

وهي المبادِرة لعمل كل ما يرضي الله ورسوله ويريده الله ورسوله وإن لم يصدر به أمر وإنما تندفع إلى العمل بمجرد علمها بإرادة الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) له؛ (دخل عليها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للسلام عليها بعد قدومه من سفرٍ له وفي عنقها قلادة من ذهب كان اشتراها لها علي بن أبي طالب من فيء وغنيمة أصابها فقال لها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): يا فاطمة لا يقول الناس إن فاطمة بنت محمد تلبس لباس الجبابرة فقطعتها وباعتها واشترت بها رقبة فأعتقتها فسُرَّ بذلك رسول الله ص)(2).

وهي المصونة العفيفة، روى الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (تقاضى علي وفاطمة إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في الخدمة فقضى على فاطمة بخدمة ما دون الباب

ص: 79


1- علل الشرائع، ص182، الباب145، ح1.
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، ج2، ص44، باب31، ح161.

وقضى على عليٍ بما خلفه، قال: فقالت فاطمة فلا يعلم ما داخلني من السرور إلا الله بإكفائي رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تحمّل رقاب الرجال)(1).وكان التحدي الأكبر ينتظرها بعد رحيل أبيها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقد أعدّها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لمواجهته وأنبأها بما سيحصل ولخّصه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأهل بيته وخاصته بقوله: (أنتم المستضعفون بعدي).

فمن جهة كان عليها أن تدافع عن الإمامة الحقّة المتمثلة بأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وتثبت حقه بخلافة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتدمغهم بالحجج الواضحة.

ومن جهة ثانية تنوّر بصائر الأمة وترفع عنهم الغشاوة وتبين الازدواجية في المعايير التي يتبعها القوم إذ ترث الأزواج من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتحرم البنت بحجة أنهم سمعوه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول: (إنا معاشر الأنبياء لا نورّث) ويحتجّون على الأنصار وغيرهم بأنهم أحق بالخلافة لأنهم شجرة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ويتركون ثمرته وهم أهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

ومن جهة ثالثة عليها أن تديم الثورة والرفض لكل ظلم وانحراف بالوسائل المتيسرة فألقت الخطب التي كانت تنزل كالصواعق على أصحاب أبيها في المسجد الشريف وعلى نساء الأنصار اللواتي نقلن كلامها إلى رجالهن، ومن خلال حزنها وبكائها المتواصل الذي انتشر وذاع في أرجاء المدينة مما سبب حرجاً لظالميها فطلبوا من علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن ينشئ لها بيتاً خارج المدينة تبثّ فيه حزنها وشكواها إلى الله تبارك وتعالى.

وبقي عطاؤها (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) مستمراً لا ينفد بعد استشهادها إلى قيام يوم الساعة

ص: 80


1- بحار الأنوار للمجلسي: ج43، ص81، عن قرب الإسناد، ص52، ح170.

حينما أوصت بدفنها سراً ليلاً وأن يُعفى موضع قبرها، ولا يحضر تشييعها من ظلموها لتهدي البشرية إلى الحق ولتحميه من الاندراس والضياع وتميّزه عن الباطل.أيها الأحبة..

هكذا باختصار تنوّع عطاء الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) وهكذا نهضت بمسؤولياتها العظيمة التي تناسب عظمة شخصيتها:

على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ *** وتعظُم في عين الصغير صغارها

وتأتي على قدر الكرام المكارمُ *** وتصغرُ في عين العظيم العظائمُ

والزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) أسوة حسنة للرجال قبل النساء فلنستلهم من الصديقة الطاهرة الهمّة والعزيمة في الوفاء بما عاهدنا الله تبارك وتعالى من الإيمان به وبما جاءت به رسله ونزلت به كتبه والعمل بما يحبّ ويرضى مما فيه صلاح الأمة وخيرها فإننا مساءلون غداً عن كل شيء قال تعالى: [وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ] ويأتيهم التوبيخ والازدراء [مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ، بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ] (الصافات: 24-26) وهذا ما ذكّرتنا به الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ): (فنعم الحكم الله ونعم الخصيم محمد) الحكم هو الله تبارك وتعالى الذي [لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ ولا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ] (سبأ: 3) والخصيم الذي يرفع دعوى الظلامة هو الذي لا تُرجى النجاة إلا بشفاعته فكيف ينجو من كان شفعاؤه خصماءه.

ص: 81

الشعب يصرخ في وجه قادته الدينيين والسياسيين:

ليجعل كل واحد منّا هذه التحذيرات نصب عينيه خصوصاً الذين يتولون أمر الأمة وشؤون البلاد وبيدهم مقدّرات الشعب سواء كانوا قيادات دينية أو سياسية أو اجتماعية فإن كل واحد من هذا الشعب المضطهد المحروم يصرخ في وجوههم بلوعة وأسى ويردد ما قالته الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ): (فنعم الحكم الله ونعم الخصيم محمد) على كل حرمان من حقوق الحياة الكريمة في المأكل والملبس والمسكن والزواج.

وعلى كل سوء في الخدمات كالماء والكهرباء بلغ حد الانهيار.

وعلى كل فقير جائع حتى بلغت نسبة العراقيين تحت خط الفقر 40 أي حوالي 12 مليون إنسان.

وعلى كل مريض يعاني الألم حتى يفقد حياته ولا يجد في المستشفيات وسائل الرعاية اللازمة والدواء الكافي.

وعلى كل مهجّر على رغم إرادته في داخل العراق وخارجه حتى بلغوا الملايين وأصبحوا مشكلة عالمية.

وعلى كل يتيم لا يجد من يمسح رأسه بعد أن فقد أبويه بسبب الصراع الدموي المحموم على السلطة بين الفرقاء السياسيين.

وعلى كل دمٍ بريء سفك من غير حقّ ولا شأن له بما يجري غير أن المتخاصمين جعلوا بيوت الأبرياء ساحة لمعركتهم الظالمة.

هذه هي المعايير المزدوجة التي فضحتها الصديقة الطاهرة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) والتي نعيشها اليوم وتعاني منها الأمم وعلى مرّ الأجيال فكيف يحاكِم مجرماً ما

ص: 82

على فعلِه من يرتكب نفس الجريمة ففي الحديث الشريف: (لا يقيم الحد من لله عليه حد)، وهذه هي الازدواجية في المعايير والنظر بعين واحدة التي حذّر منها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وجعلها سبباً لهلاك الأمم فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد)(1).

تنوع التحديات التي نواجهها:

أيها الأحبة..

هذا أول التحديات التي نواجهها ويستمر معنا ما دمنا في هذه الدنيا إنه الصراع مع أهواء النفس وأنانيتها والسعي الحثيث لضبط شهواتها ونزواتها وإنصاف الآخرين منها وأن نحب للناس ما نحب لها ونكره لهم ما نكره لها إن لم نرتقِ أكثر ونؤثر الآخرين على أنفسنا تأسّياً بالزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) التي أطعمت المسكين واليتيم والأسير وبقيت هي وبعلها أمير المؤمنين وولداها الحسن والحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) طاوين بلا طعام ثلاثة أيام فنزلت سورة (هل أتى) لتسجيل هذه المكرمة لهم وبيان فضلهم وكرامتهم.

وأمامنا تحديات أخلاقية واجتماعية، فإنكم ترون أنه كلما استقر الوضع وحصل شيء من الدعة والاسترخاء انتشرت المعاصي والموبقات وحينما تقرر بعض الإدارات المحلية(2) منع تجارة الخمور والتداول العلني لها استناداً إلى

ص: 83


1- سنن ابن ماجة والنسائي وأبي داوود وابن حجر في فتح الباري.
2- في إشارة إلى قرار المنع الذي اتخذته الحكومة المحلية في البصرة يومئذ.

الدستور الذي منع إقرار أي مخالفة لثوابت الإسلام تنتفض وسائل الإعلام وتعقد الندوات لهذا الاعتداء السافر على الحريات الشخصية - بحسب ما يزعمون- بشكل يثير العجب أن تنال قضية محلية جزئية كل هذا الضجيج ويكشف عما وراء ذلك من أهداف. أوَليس من حق الحكومات أن تحمي شعوبها من كل المخاطر والأضرار؟ وتمنع التدخين في الأماكن العامة وتحرم المخدرات وتعتبرها جريمة يعاقب عليها القانون وتمنع الدول الغربية تناول الخمور ممن هم دون (18) سنة أو أثناء قيادة السيارات، فلماذا هذا الضجيج على قرار تلك الحكومة المحلية وما الفرق بين هذه القرارات، أوَليست الخمر (أم الخبائث) كما ورد في الحديث الشريف؟ فما لكم كيف تحكمون.إنهم يريدون بذلك أن يهزموا إسلامنا العظيم ويريدون أن تتخلوا عن الإسلام وتشعرون بالحياء والحرج من إعلان انتمائكم لدينكم.

وأمامنا أيها الأخوة تحديات اقتصادية فيوشك أن تفتح الأسواق العراقية للاستثمارات الأجنبية فتغزوه الشركات العملاقة العابرة للقارات وسوف لا يجد أبناء هذا البلد فرصة للتنافس معهم بل قد لا يجدون فرصة للعمل كأُجراء في مشاريع هذه الشركات على أرضهم لوجود أيدي عاملة أرخص تأتي بهم هذه الشركات من دول العالم المتخمة بالموارد البشرية(1) أو تفرض تلك الشركات على من يعمل فيها أن يترك صلاته أو المرأة حجابها أو أن يلتزموا بسياقات

ص: 84


1- وقد وقعت كل هذه الأمور التي حذر منها سماحته حيث أغرقت السوق بعد ذلك بالعمالة الأجنبية خصوصاً من دول جنوب شرق آسيا بينما يفترش العراقيون العاطلون الأرصفة حتى تعالت صيحات الاحتجاج والرفض.

العمل التي تفرض عليها أشياء محرمة فيكون العامل بين خيارين (أحلاهما مرّ) إما أن يتخلى عن دينه أو عن عمله ومصدر رزقه، والحكومة ماضية في تقليل الدعم للبطاقة التموينية والمشتقات النفطية وخصخصة الشركات العامة والمؤسسات الصناعية استجابة لشروط البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية.وأما الفتن السياسية(1) التي تعصف بنا فإنها أهلكت الحرث والنسل وخرّبت البلاد وأهدرت المليارات وصارت أرواح الناس الأبرياء وممتلكاتهم مرهونة بجرّة قلم تشعل المواجهة أو جرّة قلم توقفها ولا رأي للشعب المغلوب على أمره، هذا غير الاتفاقيات(2) والصفقات التي تُنَظَّم في الظلام من دون إطلاع الشعب وقادته المخلصين ولا يعلم مخاطرها إلا الله تبارك وتعالى.

العراق ساحة لمواجهات فاصلة في التاريخ ترسم معالم المستقبل:

أيها الأحبة.. لقد تنوع عطاء الزهراء بتنوع المسؤوليات التي تحمّلتها والتحديات التي واجهتها فصدر منها هذا الخير الكثير حتى فُسّر قوله تعالى: [إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ] (الكوثر:1) بالزهراء فاطمة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) لأن الكوثر هو الخير الكثير وقد كانت الزهراء كذلك فتركت للأجيال ما يغنيهم في طريق السمو والكمال ويرسّخ عقائدهم ويثبّت أقدامهم في مواجهة الفتن والتحديات المتنوعة فلا مشكلة إلا وحلّها عند الصديقة الطاهرة وأبيها وبعلها وبنيها صلوات الله عليهم

ص: 85


1- في إشارة إلى ما حل بالبلاد نتيجة المغامرات العبثية التي أدت إلى معارك (صولة الفرسان) وأمثالها.
2- يشير سماحته إلى الاتفاقية الإستراتيجية آلت كانت تجري مناقشة بنودها بين الأمريكان والقوى السياسية الحاكمة التي تدعمهم.

أجمعين.لقد اختاركم الله تعالى أيها الشعب الكريم: يا أحباب الزهراء ويا شيعة الزهراء أيها السائرون على درب الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) يا من اجتمعتم اليوم لزيارة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وتعزيته بانهداد ركنه بضعة النبي المصطفى (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فتكتب لكم بذلك زيارتها لقول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (ومن زار علي بن أبي طالب فكأنما زار فاطمة)(1) لتعويضكم عما فقده غيركم من نعمة زيارة قبرها، اختاركم واختار هذه الأرض الطيبة المعطاء لتكون ساحة لعدة مواجهات فاصلة في التأريخ تحدد معالم حركة التأريخ في المستقبل:

الأولى: المواجهة الحضارية بين الغرب المادي الذي يريد أن (يعولم) الشعوب ويصبغها بلون ثقافته وسلوكه وعقيدته ونمط حياته وتوجهاته الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، وبين الشرق المسلم الذي يريد أن يحافظ على دينه وأخلاقه وأصالته وأعرافه.

الثانية: بين الأنظمة الدكتاتورية والمستبدة الحاكمة في المنطقة التي تسلّطت على شعوبها بالقوة وصادرت إرادتهم واستعبدتهم واستأثرت بخيراتهم وكرّست الجهل والخنوع والاستسلام في نفوسهم، وبين حياة حرّة كريمة تحترم إرادة الأمة وتجعل القيمة العليا للإنسان وتكون الدنيا وما فيها من أجله ويكون هو لله تبارك وتعالى فلم تعد الشعوب آلات يحقق بها الحاكم شهواته ومطامعه ونزواته [مَا أُرِيكُمْ إلا مَا أَرَى] (غافر:29) [أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى] (النازعات:24).

ص: 86


1- بحار الأنوار للمجلسي، ج43، ص58، عن كتاب بشارة المصطفى، ص137.

الثالثة: المواجهة بين أدعياء الإسلام زوراً الذين شوّهوا صورة الإسلام والمسلمين بما ارتكبوا من جرائم مشينة باسم الجهاد والتكفير والمقاومة وليس السبب في الحقيقة إلا الاختلاف في الرأي فسوّدوا صحائف التأريخ، والمتقمصين ظلماً وعدواناً لإمامة الأمة وقيادتها وبين أتباع الإمامة الحقة التي عيّنها الله تبارك وتعالى وبلّغ بها رسوله الكريم وما زالوا منذ أربعة عشر قرناً يدفعون على هذا الطريق دماءً زكية قدّسها الله تعالى ورفع من شأنها.إنها مواجهات لإحقاق الحق والدفاع عن عزة الأمة وكرامتها وضمان سلامة مسيرتها، [إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ] (الصافات:60-61) [خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ](المطففين:26).

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 87

فاطمة: يغضب الله لغضبها

فاطمة: يغضب الله لغضبها(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده، والحمد حقه كما يستحقه حمداً كثيراً، وأفضل الصلاة والسلام وأتمهما وأحسنهما وأزكاهما وأنماهما وأطيبهما وأطهرهما على سادة الخلق أجمعين: أبي القاسم محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والتسعة المعصومين أجمعين.

السلام عليكم أيها الحشد المبارك ورحمة الله وبركاته.

لقد وصف الأئمة المعصومون (سلام الله عليهم) فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأعظم الأوصاف وأنزلوها أعظم المنازل ورتّبوا عليها أعظم البركات والآثار، روي عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله: (إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء، ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب وتحل المكاسب وترد المظالم وتُعمر الأرض ويُنتصف من الأعداء ويستقيم الأمر)(2).

وعن أبي جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ص: 88


1- خطاب الزيارة الفاطمية الذي ألقاه سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) على الآلاف الذين تجمعوا في ساحة ثورة العشرين في النجف الأشرف قبل الانطلاق في التشييع الرمزي للزهراء فاطمة (عليها السلام) في ذكرى استشهادها يوم 3 جمادى الثانية1430 المصادف 28/ 5/ 2009.
2- وسائل الشيعة، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب1، ح6.

خَلْقان من خَلْقِ الله، فمن نصرهما أعزّه الله، ومن خذلهما خذله الله)(1).وفي مقابل هذه الآثار المباركة على الأمة التي تقوم بالفريضة، فإن عواقب وخيمة تنزل بها إن تقاعست وتخاذلت، روي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال: (لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر والتقوى، فإذا لم يفعلوا ذلك نُزعت منهم البركات وسُلّط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء)(2).

وعن الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهُنَّ عن المنكر أو ليُستَعملَنَّ عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم)(3).

وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (ما قُدِّست أمة لم يؤخذ لضعيفها من قويّها غير مُتَعتَع)(4).

وخطب أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أما بعد فإنه إنما هلك من كان قبلكم حيثما عملوا من المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار عن ذلك، وأنهم لما تمادوا في المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار

ص: 89


1- وسائل الشيعة، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب1، ح 20.
2- وسائل الشيعة، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب1، ح18.
3- وسائل الشيعة، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب1، ح18.
4- وسائل الشيعة، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب1، ح 4.

عن ذلك نزلت بهم العقوبات، فأْمُ-رُوا بالمعروف وانهَوا عن المنكر واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لن يقرّبا أجلاً ولن يقطعا رزقاً)(1).وهذا كله في آيات كثيرة من كتاب الله تبارك وتعالى، قال سبحانه: [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] (آل عمران:104) وقال عز من قائل: [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ] (آل عمران:110) وقال تعالى: [وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ] (المائدة:62-63).

أيها الأحبة:

إن هذه الفريضة المباركة العظيمة تحركها على أرض الواقع صفتان قلبيتان متلازمتان إذا ضمّهما القلب حرَّك الأعضاء هما: الغضب لله إذا عصي، والرضا إذا أُطيع، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من حديث: (إذا رأى المنكر ولم ينكره وهو يقوى عليه فقد أحبَّ أن يُعصى الله، ومن أحبَّ أن يُعصى الله فقد بارز الله بالعداوة، ومن أحب بقاء الظالمين فقد أحب أن يعصى الله، إن الله تبارك وتعالى حمد نفسه على إهلاك الظالمين، فقال: [فَقُطِعَ دَابِرُ القَومِ الذِينَ ظَلَمُوا وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ])(2).

ص: 90


1- المصدر، باب1، ح9، 7.
2- المصدر، باب1، ح25.

وعن أبي عبد الله الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لا يحلّ لعين مؤمنة ترى الله يعصى فتطرف حتى تغيّره)(1).وعن أبي جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (أوحى الله إلى شعيب النبي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أني مُعذِّب من قومك مائة ألف أربعين ألفاً من شرارهم، وستين ألفاً من خيارهم، فقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): يا رب هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ فأوحى الله عز وجل إليه: داهَنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي)(2).

وعن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن الله عز وجل بعث ملكين إلى أهل مدينة ليقْلباها (على أهلها)، فلما انتهيا إلى المدينة فوجدا فيها رجلاً يدعو ويتضرع (إلى أن قال:) فعاد أحدهما إلى الله، فقال: يا رب إني انتهيت إلى المدينة فوجدت عبدك فلاناً يدعوك ويتضرع إليك، فقال: امضِ لما أمرتك به، فإن ذا رجل لم يتمعّر وجهه غيظاً لي قط)(3).

ويكون المنكر أفظع والغضب الدافع لتغييره أشد إذا أُعطي مشروعية ممن يتزيى بزيّ الدين ويلبس لباس الإسلام وحينئذٍ يختلط الحق بالباطل وتعصف الفتن والشبهات بالأمة ويصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، ويقوم علماء السوء هؤلاء بتزييف الأحكام وإفراغها من محتواها لتخدم مصالحهم وأغراضهم الدنيوية، ويعود الإسلام النقي الأصيل غريباً مستضعفاً تحوم حوله الشكوك.

ص: 91


1- المصدر، باب 8، ح1.
2- المصدر، باب 6، ح2.
3- المصدر، باب17، ح9.

عن الإمام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن ممن ينتحل مودتنا أهل البيت مَن هو أشد فتنة على شيعتنا من الدجال، فقلت: بماذا؟ قال: بموالاة أعدائنا، ومعاداة أوليائنا إنه إذا كان كذلك اختلط الحق بالباطل، واشتبه الأمر فلم يُعرف مؤمن من منافق)(1).وعن أبي جعفر الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (يكون في آخر الزمان قوم يُتّبَعُ فيهم قومٌ مراؤون يتقرّؤون ويتنسّكون حدثاء سفهاء لا يوجبون أمراً بمعروف ولا نهياً عن منكر إلا إذا أمنوا الضرر يطلبون لأنفسهم الرخص والمعاذير يتّبعون زلات العلماء وفساد عملهم، يُقبلون على الصلاة والصيام وما لا يكْلِمُهُم في نفسٍ ولا مال، ولو أضرّت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها كما رفضوا أسمى الفرائض وأشرفها)(2).

وروي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله: (كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟ فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله، فقال: نعم، وشرّ من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ فقيل له: يا رسول الله ويكون ذلك، قال: نعم، وشر من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً؟)(3).

وروي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله: (ليجيئنّ أقوام يوم القيامة لهم حسنات

ص: 92


1- فروع الكافي: كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح1.
2- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب1، ح12.
3- بحار الأنوار: 74/ 186.

كأمثال الجبال فيأمر بهم إلى النار، فقيل: يا نبي الله أمصلون كانوا؟ قال: نعم، كانوا يصلون ويصومون ويأخذون وهناً من الليل، لكنهم إذا لاح لهم شيء من أمر الدنيا وثبوا عليه)(1).ويكون وجوب هذه الفريضة أأكد حينما يتعلق الأمر بهداية الناس إلى أعظم قضية في الإسلام وهي إمامة الأمة وخلافة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) التي أمر الله تبارك وتعالى نبيه إعلانها بأشد لهجة بقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] (المائدة:67) لأن بها عصمة الناس من الانحراف والأخذ بأيديهم نحو السعادة والكمال وإرشادهم إلى الصواب، وقد أولى الله تبارك وتعالى الدفاع عن هذه القضية كل اهتمام بحيث أن مجرد الجلوس في مجلس ينتقص فيه من أئمة الإسلام فإنه يعرّض صاحبه لعذاب الله تبارك وتعالى، عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (من قعد في مجلس يسَبّ فيه إمام من الأئمة يَقدِر على الانتصاف فلم يفعل ألبسه الله الذل في الدنيا وعذّبه في الآخرة، وسلبه صالح ما منَّ به عليه من معرفتنا)(2).

وعن مثل هذه المجالس قال الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (فمن ابتلي من المؤمنين بهم، فإذا خاضوا في ذلك فليقم ولا يكن شرك شيطان ولا جليسه،

ص: 93


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 38، ح10
2- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 38، ح12.

فإن غضب الله لا يقوم له شيء ولعنته لا يردّها شيء، ثم قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): فإن لم يستطع فلينكر بقلبه وليقم ولو حلب شاة أو فواق ناقة)(1).ويقول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (فإذا رأيتهم يخوضون في ذكر إمام من الأئمة فقم، فإن سخط الله ينزل هناك عليهم)(2).

أيها المحبّون للزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) المجتمعون لنصرتها:

لمواجهة كل هذه الفتن والانحرافات، وللنهوض بهذا الواجب العظيم ولإحياء هذه الفريضة المباركة ولنصرة إمامها الحق أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) خرجت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) حين خرجت (في لُمَّةٍ من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى دخلت على حشد المهاجرين والأنصار وغيرهم)(3) في مسجد أبيها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ولم يكن خروجها للمطالبة بنخيلات فدك، وقد كانت فدك تحت يدها في حياة أبيها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أكثر من ثلاث سنين وما سمعنا أنها تنعمت بشيء من حطام الدنيا وإنما وجدناها كما وصفها زوجها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (أنها استقت بالقربة حتى أثّر في صدرها، وطحنت بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرّت ثيابها، وأوقدت النار تحت القدر حتى دكنت

ص: 94


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 38، ح13.
2- الاحتجاج للطبرسي:1/ 132.
3- علل الشرائع للصدوق (قدس سره): 2/ 366.

ثيابها، فأصابها من ذلك ضرر شديد) (1).وهي وزوجها وولداها الحسنان (صلوات الله عليهم أجمعين) الذين أطعموا المسكين واليتيم والأسير طعامهم وبقوا طاوين على الجوع ثلاثة أيام فنزلت في حقهم سورة (هل أتى).

وهي التي لما علمت أن أباها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قد انتابه شعور من الترفع والزهد لم يعلم أصحابه معناه حين دخل دارها فوجدها قد صنعت مسكتين من ورق - أي فضة- وقلادة وقرطين وستراً لباب البيت لقدوم أبيها وزوجها (صلوات الله عليهما) فتصدقت بها جميعاً، فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (فعلت، فداها أبوها - ثلاث مرات- ليست الدنيا من محمد ولا من آل محمد ولو كانت الدنيا تعدل عند الله من الخير جناح بعوضة ما سقى فيها كافراً شربة ماء) (2).

فهل ترى الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) غضبت لغصبهم فدكاً منها ومن زوجها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) القائل: (بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلّته السماء، فشحّت عليها نفوس قوم، وسَخَتْ عنها نفوس قومٍ آخرين، ونعم الحكم الله، وما أصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانُّها في غدٍ جَدَثٌ، تنقطع في ظلمته آثارها، وتغيب أخبارها، وحفرةٌ لو زِيد في فُسحتها وأوسعت يدا حافرها، لأضغطها الحجر والمدر، وسدّ فُرَجَها التراب المتراكم) (3).

ص: 95


1- بحار الأنوار: 43، 20 عن أمالي الصدوق.
2- نهج البلاغة، من كتاب له (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى عثمان بن حنيف، تسلسل 285.
3- الحديث مجمع عليه عند الشيعة وتجد نصوصه وأسانيده في مصادرهم ومنها كتاب بحار الأنوار: 43/ 19، وقد رواه علماء السنة في صحاحهم (راجع كتاب فضائل الخمسة من الصحاح

إنها (سلام الله عليها) وقفت ذلك الموقف الخالد لتعيد الحق إلى نصابه ولتقوّم مسيرة الأمة، وكان غضبها كل غضبها لله تبارك وتعالى ورضاها كل رضاها لله تبارك وتعالى، لذا كان من الطبيعي أن يقلّدها أبوها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وساماً رفيعاً يعلّم الأجيال إلى يوم القيامة ويأخذون منه الدروس والعبر، وهو قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (إن الله ليغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها)(1) لأنها (سلام الله عليها) لم تغضب إلا له تبارك وتعالى ولم ترضَ إلا له سبحانه. وترى كل همّها ومحور خطابها إيصال هذه الرسالة، وأداء هذه الأمانة وهداية الأمة إليها وهي رسالة الأنبياء جميعاً [إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصلاح مَا اسْتَطَعْتُ] (هود:88). وتجد اللوعة كل اللوعة تعتصر قلبها الرحب الرحيم حين تعود إلى دارها والأمة مصرّة على الانقلاب على وصية نبيّها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعدم الاستجابة لما يحييها مخلّفة وراء ظهورها قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ] (الأنفال: 24).

وتجد الأسى بادياً على كلماتها (سلام الله عليها) حينما تزورها نساء المهاجرين والأنصار يتفقدن حالتها في مرضها ولما سألنها: (كيف أصبحت من علّتك يا بنت رسول الله؟) لم تُجب بما هو المتعارف من الشكوى وبيان الحال وإنما أجابت (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) بهدفها الأسمى فقالت بعد الحمد والثناء على الله تبارك وتعالى والصلاة على أبيها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (ويحهم أنّى زعزعوها! عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوة والدلالة، ومهبط الروح الأمين، والطبين بأمور

ص: 96


1- الاحتجاج للطبرسي:1/ 148.

الدنيا والدين؟! ألا ذلك هو الخسران المبين! وما الذي نقموا من أبي الحسن؟! نقموا والله منه نكير سيفه وقلة مبالاته لحتفه وشدة وطأته ونكال وقعته)(1) إلى آخر كلامها (سلام الله عليها).وبذلك فقد شخّصت الصديقة الطاهرة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) داءً عظيماً ابتليت به الأمم وستظل تعاني منه وهو سبب كل معاناتها وكوارثها وهو سوء اختيار من يحكمهم ويتولى أمورهم والإعراض عن القيادة الصالحة والالتفاف حول من يريدهم للدنيا، قالت (سلام الله عليها): (استبدلوا والله الذنابى بالقوادم، ويحهم أفمن يهدي إلى الحق أحقّ أن يتّبع أم من لا يهدِّي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون) فهم بدل أن يحلّقوا نحو الأعلى ونحو الكمال بالقوادم، هبطوا نحو الأسفل بالذنابى.

هذا الانحراف الخطير في التفكير الناشئ من حب الدنيا واتباع الشهوات والجهل والتعصب الذي ابتليت به الأمم عبر التأريخ فاستبدلت معاوية بأمير المؤمنين علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، واستبدلت يزيداً بالحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، واستبدلت الطغاة والجبابرة بالأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) والعلماء الصالحين، عبّر عنها الله تبارك وتعالى بقوله: [يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ] (يّ-س:30).

وكانت صرخة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) صدى لتلك الحسرة ومظهراً لذلك الغضب الإلهي.

ولم يكن أحدٌ قادراً على إطلاق ذلك الصوت المدويّ في أعماق التأريخ

ص: 97


1- الاحتجاج للطبرسي:1/ 148.

إلا الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) في طهارتها وشجاعتها وسمو منزلتها وقربها من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، ولو كان أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الذي قالها لقالوا إنه رجل طامع في الخلافة وطامح إلى السلطة أو كما قالوا: إنه يجرُّ النار إلى قرصه.ولما قام الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعدئذٍ بمواصلة هذا الدور قالوا إنه قُتل بسيف جده. أما الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) فلم يستطع أحد من الأولين والآخرين أن يرد عليها بكلمة، وغاية ما فعلوه هو التشكيك بوقوع بعض تفاصيل المظالم على الطاهرة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ). لذا فإن إحياء مواقف الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) والانتصار لمظلوميتها من أعظم الوسائل لنشر مدرسة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وإقناع الناس باستحقاقهم إمامة الأمة وقيادتها.

أيها التواقون لشفاعة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ):

إن في حياتها الشريفة الكثير مما يمكن أن تتعلمه البشرية وتتأسى به، وها نحن أمام درس منها: وهو الغضب لله تبارك وتعالى إذا عصي وإنكار المنكر وبذل الوسع لتغيير الواقع الفاسد على جميع الصُعُد والوقوف في وجه الظلم والانحراف عسى الله أن يدخلنا في شفاعة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ)، ولا يُنال ذلك بالكسل والتقاعس عن أداء المسؤولية، وقد روي في حديث معتبر عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال: (إن الله عز وجلّ ليُبغِضُ المؤمن الضعيف الذي لا دين له، فقيل: وما المؤمن الذي لا دين له؟ قال: الذي لا ينهى عن المنكر)(1).

ص: 98


1- فروع الكافي: كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح15، ووسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب1، ح23 بتغيير طفيف.

وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (من ترك إنكار المنكر بقلبه ولسانه ويده فهو ميت بين الأحياء)(1).وعن الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لا يحل لعين مؤمنة ترى الله يعصى فتطرف حتى تغيّره)(2).

فتأسّوا بالزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) وأدخلوا السرور على قلبها الشريف بإحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل الدؤوب لإعلاء كلمة الله تبارك وتعالى وإصلاح الناس وهدايتهم، وليكن عملكم هذا خالصاً لوجه الله تبارك وتعالى ومنضبطاً بتوجيهات المرجعية الرشيدة كما أوصاكم أئمتكم (سلام الله عليهم): (غير طالبين سلطاناً ولا باغين مالاً ولا مريدين بظلمٍ ظفراً)(3) فقد وعدكم الله تبارك وتعالى النصر والتثبيت ما دمتم في طاعته ونصرة دينه وأوليائه قال تعالى: [إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] (محمد: 7).

وإن تقاعس أحدٌ أو مال إلى الراحة والأنانية وحب الدنيا فسوف يسلبه الله تبارك وتعالى هذه الكرامة: [وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] (محمد:38) [وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ] (التوبة:46).

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعترته الطيبين الطاهرين.

ص: 99


1- المصدر، باب 3، ح4.
2- المصدر، باب1، ح25.
3- فروع الكافي: كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح1.

هل تريد أن تكون مع الصديقة الزهراء سلام الله علیها في درجتها؟

بسم الله الرحمن الرحيم(1)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

قد يبدو توجيه السؤال غريباً ومعروف الجواب سلفاً، إذ لا يوجد عاقل لا يريد أن يكون مع الصديقة الطاهرة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) في درجتها، ولكن وجه السؤال هو معرفة ما يصل به الإنسان إلى تلك الدرجة.

وأين هي درجة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ)؟ إنها مع أبيها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبعلها وبنيها (صلوات لله عليهم أجمعين) [فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ] (القمر:55) [أُوْلَ-ئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَ-ئِكَ رَفِيقاً] (النساء:69)، بل هم (صلوات الله عليهم وسلامه) الجنة الحقيقية، قال تعالى: [وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ] (التوبة: 72) ورضا الله تعالى رضاهم كما ورد في الحديث النبوي المتواتر: (إن الله يرضى لرضا فاطمة ويغضب لغضبها) وقال الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (رضا الله رضانا أهل البيت).

وقد أخبر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن هذه المعيّة والملازمة بينه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبينهم

ص: 100


1- الخطاب الذي ألقاه سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) على الآلاف من المؤمنين الذين احتشدوا في ساحة ثورة العشرين في النجف الأشرف صباح يوم الثلاثاء 3/ج2/ 1431 لمصادف18/ 5/ 2010 قبل انطلاق التشييع للنعش الرمزي للصديقة الطاهرة الزهراء في الزيارة الفاطمية.

(صلوات الله عليهم أجمعين) في حديث الثقلين المشهور عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (إني تاركٌ فيكم الثقلين كتاب الله عز وجل وعترتي، كتاب الله حبلٌ ممدودٌ من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإن اللطيف أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض فانظروا بمَ تخلّفوني فيهما)(1).وفي حديث النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مع أمير المؤمنين علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (وأنت معي في قصري في الجنة مع فاطمة ابنتي)(2) وحينما يقول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في ابنته الزهراء :(فاطمة بضعة مني فمن أغضبها فقد أغضبني)(3) فإنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لا يريد أن الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) ابنته وتولدت منه فهي جزء منه، لأن هذا المعنى عام يشترك فيه كل الناس ولا خصوصية لفاطمة من هذه الناحية حتى تستحق البيان، فكل ابن وبنت هما بضعة من والديهما، وإنما يريد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، أن فاطمة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) جزء من وجوده المعنوي وامتداد مبارك له وأنها شعاع من شمسه المنيرة. لذا فرّع على هذا المعنى أن من أغضبها فقد أغضبه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

وقد أكّد الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هذا المعنى في خطابه الذي ألقاه في مكة المكرمة قبل خروجه إلى العراق ومما قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله لحمته، بل هي

ص: 101


1- الحديث من مسند أحمد بن حنبل، وتجد مصادره من كتب العامة في كتاب (فضائل الخمسة من الصحاح الستة): 2/ 52-62.
2- كنز العمال: 5/ 400 الحديث 36345 ومصادر الحديث من كتب العامة في (فضائل الخمسة من الصحاح الستة): 3/ 129-131.
3- هذا نص البخاري في صحيحه وتوجد مصادره في المصدر السابق.

مجموعة له في حظيرة القدس تقرّ بهم عينه، وينجز بهم وعده)(1).أيها الأحبة:

لقد كفانا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مؤونة البحث عن إجابة السؤال الذي جعلناه عنواناً للخطاب، ودلّنا على ما يوجب اللحوق به (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وببضعته الطاهرة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) في أحاديث عديدة، كالذي رواه الترمذي في صحيحه وأحمد بن حنبل في مسنده وغيرهم من علماء العامة عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه (أخذ بيد حسن وحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال: من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة)(2) ولكن هذه الأحاديث يجب أن تُفهم في سياقاتها الطبيعية أي المعنى الحقيقي للحب ولوازمه وآثاره.

من كفل يتيماً كان مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ):

والذي نريد أن نجعله محوراً لكلامنا اليوم ما رواه الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه (صلوات الله عليهم أجمعين) عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (من كفل يتيماً وكفل نفقته كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وقرن بين إصبعيه المسبّحة والوسطى)(3).

وفي رواية أخرى قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة إذا اتقى الله عز وجل) وأشار بالوسطى والتي تليها)(4)، والحديث مشهور، وإن كان ينقل

ص: 102


1- مقتل الحسين (عليه السلام): للسيد المقرم:193.
2- تجد مصادر الحديث في كتاب (فضائل الخمسة من الصحاح الستة:1/ 299-300.
3- بحار الأنوار: 75/ 3 عن قرب الإسناد بسند مقبول.
4- تفسير نور الثقلين: 5/ 597.

من دون جزئه الأخير الذي هو شرط قبول الأعمال، قال تعالى: [إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ] (المائدة:27) لكنه هنا شرط لكون كافل اليتيم في درجة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وليس شرطاً لإعطاء الجزاء، لأن أعمال البر والإحسان يثاب عليها الإنسان ولو لم يقصد بها وجه الله تعالى.إذن هذا سبيل يوصلك لتكون مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في درجته بلطف الله تبارك وتعالى وكرمه، وقد تواترت الأحاديث في فضل كفالة اليتيم ورعايته منها ما روي عن رسول الله قوله: (إن في الجنة داراً يقال لها دار الفرح لا يدخلها إلا من فرّح يتامى المؤمنين)(1) وقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (من قبض يتيماً من بين المسلمين إلى طعامه وشرابه أدخله الله الجنة ألبتة إلا أن يعمل ذبناً لا يغفر)(2).

وعن أبي الدرداء قال: (أتى النبيَّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) رجل يشكو قسوة قلبه، قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): أتُحبُّ أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك)(3).

وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (ما من مؤمن ولا مؤمنة يضع يده على رأس يتيم إلا كتب الله له بكل شعرة مرّت يده عليها حسنة)(4).

وعن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن آبائه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): من عال يتيماً حتى يستغني عنه أوجب الله عز وجل له بذلك الجنة كما أوجب الله لآكل

ص: 103


1- كنز العمال: ح6008.
2- الترغيب والترهيب: 3/ 347.
3- الترغيب والترهيب: 3/ 349.
4- بحار الأنوار: 75/ 4.

مال اليتيم النار)(1).

الأيتام المعنويون:

ويوجد أيتام من نوع آخر هم أكثر عدداً يكاد يمثلون أغلب الناس، وكفالتهم لا تحتاج إلى المال، بل إلى الجهد والهمة والإخلاص، وكافلهم يكون أقرب إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من الأول، تعرّفهم لنا جملة من الأحاديث الشريفة(2) وتبين منزلتهم (الكافلين) عند النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأهل بيته المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) عن الإمام أبي محمد الحسن العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال: أشد من يُتم اليتيم الذي انقطع عن أبيه يتم يتيم انقطع عن إمامه ولا يقدر على الوصول إليه ولا يدري كيف حكمه فيما يبتلى به من شرائع دينه ألا فمن كان من شيعتنا عالماً بعلومنا وهذا الجاهل بشريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا يتيم في حجره ألا فمن هداه وأرشده وعلمه شريعتنا كان معنا في الرفيق الأعلى)(3).

وعن أبي محمد العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (قال الحسن بن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): فضل كافل يتيم آل محمد المنقطع عن مواليه الناشب في رتبة الجهل يخرجه من جهله، و يوضح له ما اشتبه عليه، على فضل كافل يتيم يطعمه ويسقيه كفضل

ص: 104


1- بحار الأنوار: 75/ 4.
2- هذه المجموعة من الأحاديث أثبتها العلامة المجلسي (قدس سره) في بحار الأنوار: 2/ 2-6 في الباب 8 من كتاب العقل والعلم والجهل، أبواب العقل والجهل، عن التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السلام) وكتاب الاحتجاج للطبرسي.
3- الأحاديث من بحار الأنوار الباب المذكور على التسلسل:1، 4، 5، 9،10،11.

الشمس على السها(1)).وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (قال الحسين بن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من كفل لنا يتيماً قطعته عنا محبتنا(2) باستتارنا فواساه من علومنا التي سقطت إليه حتى أرشده وهداه، قال الله عز وجل: يا أيها العبد الكريم المواسي أنا أولى بالكرم منك، اجعلوا له يا ملائكتي في الجنان بعدد كل حرف علّمه ألف ألف قصر، وضموا إليها ما يليق بها من سائر النعم).

وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (قال موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): فقيه واحد ينقذ يتيماً من أيتامنا المنقطعين عنا وعن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه أشد على إبليس من ألف عابد؛ لأن العابد همّه ذات نفسه فقط، وهذا همّه مع ذات نفسه ذات عباد الله وإمائه لينقذهم من يد إبليس ومردته، فذلك هو أفضل عند الله من ألف ألف عابد، وألف ألف عابدة).

وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (قال علي بن موسى الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): يقال للعابد يوم القيامة: نِعم الرجل كنت همتك ذات نفسك وكفيت الناس مؤونتك فادخل الجنة، ألا إن الفقيه من أفاض على الناس خيره، وأنقذهم من أعدائهم، ووفّر عليهم نعم جنان الله وحصل لهم رضوان الله تعالى. ويقال للفقيه: يا أيها الكافل لأيتام آل محمد الهادي لضعفاء محبيهم ومواليهم قف حتى تشفع لمن أخذ عنك، أو

ص: 105


1- السها في لغة العرب كويكب صغير خفي الضوء، والناس يمتحنون به أبصارهم لصغره وخفائه.
2- أي كان سبب انقطاعه عنا رغبتنا في الاستتار رعاية لحكمة إلهية عظمى. وفي نسخة (محنتنا) وهو أظهر.

تعلَّم منك فيقف فيدخل الجنة معه فئاماً وفئاماً وفئاماً(1) حتى قال عشراً).وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (قال محمد بن علي الجواد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): من تكفل بأيتام آل محمد المنقطعين عن إمامهم المتحيرين في جهلهم، الأُسراء في أيدي شياطينهم، وفي أيدي النواصب من أعدائنا فاستنقذهم منهم، وأخرجهم من حيرتهم، وقهر الشياطين برد وساوسهم، وقهر الناصبين بحجج ربهم ودليل أئمتهم لَيُفضّلون عند الله تعالى على العباد بأفضل المواقع بأكثر من فضل السماء على الأرض و العرش والكرسي والحجب على السماء، وفضلهم على هذا العابد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كوكب في السماء).

الصديقة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) تكفل كلا النوعين من الأيتام:

وقد كانت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) تحذو حذو أبيها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في أقواله وأفعاله وخصاله الكريمة وهديه وسمته، ومع أن علم الله تعالى سابق بأنها (صلوات الله عليها) في درجة أبيها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في الجنة إلا أنها مع ذلك كانت حريصة (صلوات الله عليها) على أن تقوم بكل ما يقربها إلى الله تعالى ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ويجعلها معه في درجته ولم تتكل على ذلك الاستحقاق والعطاء السابق، بل عزّزته بالمثابرة والعمل الدؤوب وتحمّل كل المشاق في القيام بمسؤولياتها والصبر عليها، فتأكد استحقاقها لتلك الدرجة الرفيعة، وقد ورد في زيارتها (سلام الله عليها) يوم الأحد (السلام عليك يا ممتحنة، امتحنك الذي خلقك قبل أن يخلقك، وكنت لما امتحنك به صابرة) فقد أدت ما عليها

ص: 106


1- فئام: الجماعات الكبيرة من الناس، وطبقت في بعض الموارد –كيوم الغدير- على مئة ألف.

ووفت بما عاهدت ربها عليه من الالتزامات فنجحت في الامتحان بأعلى درجات النجاح.ومن مورد صدقها فيما امتُحنت به كفالة الأيتام بالمستويين اللذين ذكرناهما.

أما الأول فقد شهد الله تبارك وتعالى لها ولزوجها أمير المؤمنين وولديها الحسن والحسين (صلوات الله عليهم) في القرآن الكريم بإطعامهم اليتيم مع حاجتهم للطعام حباً لله تبارك وتعالى وإخلاصاً لوجهه الكريم [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُوراً] (الإنسان: 8-9).

ونقرأ في سيرتها (صلوات الله عليها) أنها طحنت بالرحى حتى مجلت يداها وأشعلت التنور حتى دكنت ثيابها وما ذلك لإطعام زوجها وبنيها لأنهم خمص البطون، وكانوا يكتفون من الطعام بما يسد رمقهم، وإنما كان ذلك لكثرة من تطعمهم وتتكفل بهم كما تشهد به روايات أخر، ولم تغب عنها الوصية بالأيتام وهي تودع الحياة الدنيا، روي أنه جاء في وصيتها (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالحسن والحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (يا أبا الحسن ولا تَصِحْ في وجهيهما فإنهما سيصبحان يتيمين من بعدي، بالأمس فقدا جدهما واليوم يفقدان أمهما)(1).

وأما على المستوى الثاني لكفالة الأيتام فقد كانت لها حركة دؤوبة وهمة لا تعرف التواني والتقصير، روي عن الإمام أبي محمد العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال: (حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) فقالت: إن لي والدة ضعيفة

ص: 107


1- بحار الأنوار: 43/ 178.

وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بعثتني إليك أسألك، فأجابتها فاطمة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) عن ذلك، فثنت فأجابت ثم ثلثت إلى أن عشّرت فأجابت ثم خجلت من الكثرة فقالت: لا أشق عليك يا ابنة رسول الله، قالت فاطمة: هاتي وسلي عما بدا لك، أرأيت من اكترى يوماً يصعد إلى سطح بحمل ثقيل وكراه مائة ألف دينار يثقل عليه؟ فقالت: لا. فقالت: اكتريت أنا لكل مسألة بأكثر من ملء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤاً فأحرى أن لا يثقل عليّ، سمعت أبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول: إن علماء شيعتنا يحشرون فيخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجدهم في إرشاد عباد الله حتى يخلع على الواحد منهم ألف ألف حلة من نور ثم ينادي منادي ربنا عز وجل: أيها الكافلون لأيتام آل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الذين هم أئمتهم، هؤلاء تلامذتكم والأيتام الذين كفلتموهم ونعشتموهم فاخلعوا عليهم خلع العلوم في الدنيا فيخلعون على كل واحد من أولئك الأيتام على قدر ما أخذوا عنهم من العلوم حتى أن فيهم يعني في الأيتام لمن يخلع عليه مائة ألف خلعة وكذلك يخلع هؤلاء الأيتام على من تعلم منهم، ثم إن الله تعالى يقول: أعيدوا على هؤلاء العلماء الكافلين للأيتام حتى تتموا لهم خلعهم، وتضعفوها لهم فيتم لهم ما كان لهم قبل أن يخلعوا عليهم، ويضاعف لهم، وكذلك من يليهم ممن خلع على من يليهم. وقالت فاطمة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ): يا أَمَة الله إن سلكة من تلك الخلع لأفضل مما طلعت عليه الشمس ألف ألف مرة وما فضل فإنه مشوب بالتنغيص والكدر)(1).وروي عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (قال علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): من قوّى مسكيناً في

ص: 108


1- بحار الأنوار: الموضع السابق، ح3.

دينه ضعيفاً في معرفته على ناصب مخالف فأفحمه لقنه الله يوم يُدلى في قبره أن يقول: الله ربي، ومحمد نبيي، وعلي وليي، والكعبة قبلتي، والقرآن بهجتي وعدتي، والمؤمنون إخواني. فيقول الله: أدليت بالحجة فوجبت لك أعالي درجات الجنة فعند ذلك يتحول عليه قبره أنزه رياض الجنة)(1).

مسؤوليتنا عن كفالة كلا النوعين من الأيتام:

أيها الأخوة والأخوات: لنتأسّ بالصديقة الطاهرة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) حتى نكون معها ومع أبيها الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما) في درجتهما في الجنة بكفالة كلا النوعين من الأيتام.

فبلدنا اليوم يعج بمئات الآلاف من الأيتام بسبب ما تعرض له من جرائم القتل والبطش والحروب والمقابر الجماعية في عهد صدام ولجرائم القتل المنظم والإرهاب والفوضى المتعمدة والقتل العشوائي في عهد الاحتلال، وهؤلاء الأيتام في الوقت الذي يشكّلون فيه مسؤولية على الأمة جميعاً تقتضي احتضانهم ورعايتهم وتربيتهم، وإلا تحولوا إلى جيل كامل من المجرمين والقتلة والمرضى النفسيين والمنحرفين أخلاقياً والحاقدين على المجتمع، في الوقت نفسه هم يمثلون فرصة عظيمة للطاعة امتثالاً للتوجيهات النبوية الشريفة المتقدمة.

أما النوع الثاني من اليتيم فهو صفة أكثر الناس فإنهم بين جاهل بالشريعة لا يعرف حتى الأحكام الأساسية التي يبتلى بها يومياً كالوضوء والصلاة والغسل

ص: 109


1- بحار الأنوار: الموضع السابق، ح14.

وبعض المعاملات، وبين مفتون قد اضطربت في ذهنه الأفكار وعصفت به الضلالات، وبين متورط في المعاصي بسبب غفلته وعدم وجود من يعظه ويذكره بالله تعالى، وبين إمّعةٍ ينعقون مع كل ناعق -كما وصفهم الحديث الشريف- وبين ضعيف أو مستضعف يحتاج إلى من يقوي فيه عقائده ويشدّ إيمانه، ولعلكم تعرفون أكثر مني مصاديق ذلك من خلال احتكاككم بالناس واطلاعكم على البيئة التي تعيشون فيها، ولعل بعضكم اطلع على الكثير مما ذكرت من خلال التجمعات الكبيرة التي تحصل في بعض المناسبات الاجتماعية والدينية وغيرها.فأمامكم فرصة واسعة لنيل القرب من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء برعاية الأيتام من النوع الأول وكفالتهم بالمساعدات المالية ورعايتهم وتربيتهم وإنشاء مؤسسات الحضانة والتعليم والترفيه لهم ونحوها، وقد أذنت المرجعية بصرف قسم كبير من الحقوق الشرعية لكفالة الأيتام.

والفرصة الأوسع التي أمامكم هي كفالة الأيتام من النوع الثاني وهي متاحة للجميع إذ ما من أحد منا إلا ويعرف مسألةً شرعيةً أو حديثاً شريفاً أو نصيحةً مفيدةً فلنُنظّم جميعاً ببركة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) حملة واسعة نقوم خلالها بتعليم الناس كل كلمة مفيدة أو موعظة تسمعونها أو مسألة شرعية تتعلمونها أو عمل صالح تهتدون إليه، أو نصيحة ترشدهم وتصحح أخطاءهم وغيرها كثير.

فلا تبخلوا بكل ذلك على الناس سواء داخل الأسرة أو لزملائكم في العمل أو المنطقة أو رفقائك في السفر، وانقلوها لأكبر عدد منهم ليزداد أجركم وتحظون برضا الله تبارك وتعالى والمنزلة الرفيعة عند رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأمير

ص: 110

المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والصديقة الطاهرة الزهراء (صلوات الله عليها)، فهذه الوظيفة ليست حكراً على الحوزة العلمية ونحوها بل هي مسؤولية كل من تعلم ولو مسألة واحدة وأنتم شيعة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فاحفظوا وصيته بالأيتام عند وفاته (صلوات الله عليه) وقد رويت في الكافي بسند صحيح ومما جاء فيها: (الله الله في الأيتام؛ فلا تغبّوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم، فقد سمعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول: من عال يتيماً حتى يستغني أوجب اله عز وجل له بذلك الجنة كما أوجب الله لآكل مال اليتيم النار)(1).وتأسّوا بإمامكم المهدي الموعود (صلوات الله عليه) فإنه مع ما يعانيه من ألم الغيبة عن ممارسة دوره الكامل في حياة الأمة فإنه لم يغفل لحظة عن رعاية شيعته، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (نحن وإن كنا ناوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسب الذي أرانا الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الفاسقين، فإننا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يعزب عنا شيء من أخباركم، ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم، مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون. إنا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء فاتقوا الله جل جلاله..)(2).

ص: 111


1- الكافي: 7/ 51-52 باب صدقات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفاطمة والأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ووصاياهم، ح7.
2- الاحتجاج للطبرسي: 2/ 323.

إحياء المناسبات الفاطمية لا يقتصر على ذكر مظلوميتها (عَلَيْهِا السَّلاَمُ):

أيها الأحبة:

إننا نركز في إحيائنا لقضية الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) على جانب المظلومية، وهي لعمري صفحة مهمة في حياتها لأنها تلقي الضوء على كثير من قضايا الأمة وتميز الحق والباطل وتؤسس للمعتقدات الحقة والمسار الصحيح الموصل إلى رضا الله تبارك وتعالى وقد اهتدى من خلالها خلق كثير، لكن الاقتصار عليها يحرم الأمة من الصفحات الأخرى من حياة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) التي هي بحق مدرسة لكل الناس، وسفر خالد تنهل منه الأجيال، فلا تحرموا أنفسكم من الاستفادة من هذه المدرسة المباركة بإذن الله تعالى وبفضله وبرحمته.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 112

السيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) توقظ الأمة لمعرفة قادتها

السيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) توقظ الأمة لمعرفة قادتها(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سادة الخلق أجمعين أبي القاسم محمد وآله الطاهرين.

ورد في حديث مشهور (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا)(2) فالناس وإن تراهم يعملون ويأكلون ويتحدثون إلا أنهم في نومٍ هو نوم الغفلة عن حقيقة وجودهم، وما يراد منهم والهدف الذي يجب أن يتوجهوا إليه، وما الذي ينتظرهم بعد موتهم والنتيجة التي سيحصلون عليها من السعادة أو الشقاء، فإذا ماتوا اكتشفوا أنهم كانوا في هذه الغفلة، وفوجئوا بعدم الاستعداد لتلك الحياة الجديدة الدائمة التي لا يستطيع أحد مهما أوتي من علم أن يدعي معرفة حقيقتها إلا من عرّفهم الله تعالى، وحينئذٍ سيصاب بالذهول وتأخذه الحسرة

ص: 113


1- كلمة سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) بمناسبة ذكرى استشهاد الصديقة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) يوم السبت 3/ج2/ 1432 الموافق 7/ 5/ 2011، التي ألقاها على الجموع القادمة لزيارة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في المناسبة.
2- نسبه العلامة المجلسي (قدس سره) في بحار الأنوار (4/ 43 وفي 50/ 134) إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونسبه ابن ميثم البحراني في (شرح مائة كلمة لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، الكلمة الثانية) إلى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، ولم يذكر مصدراً لذلك فلعلها كلمة مشهورة مستفادة من أحاديث المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) التي سترد في الخطبة، ولعلها مستفادة من قول الإمام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (أهل الدنيا كركب يسار بهم وهم نيام) (نهج البلاغة، ج4).

والندامة كما قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (اجتمعت عليهم سكرة الموت وحسرة الفوت)(1)، قال تعالى في ذلك: [وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ، وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ، لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ] (ق:19-22).لقد كنت في الدنيا غافلاً عن هذه المشاهد وهذه العاقبة منهمكاً في مشاغلها من مالٍ ومتعة ولهو ولعب وعبث وصراعات وجدلٍ فارغ من غير استعداد لهذا اليوم، وبالموت انكشف عنك غطاء الغفلة فصرت ترى بعين البصيرة النافذة الحادة حقيقة أمرك وعاقبتك بعد زوال الحجاب عنها، فما كنت تعتقد أنه حقيقة من مشاغل الدنيا ولهوها ومتعها وجدت أنه خيال ووهم زائل وسراب كنت تتعلق به يحسبه الظمآن ماءً، وما كنت غافلاً عن الاستعداد له ولا تحسب حسابه –وهو الموت وما بعده من أهوال الآخرة- قد وجدته حقيقة ثابتة، فالغفلة باتجاهين [وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ] (الزمر:47).

وبقراءة ما بين سطور الآية الشريفة نستنتج أن هذه الحقائق موجودة في هذه الدنيا؛ لأن الغفلة لا تكون إلا عن شيء موجود، لكن الإنسان لا يرى تلك الحقائق بالعين وإن كانت مفتوحة وإنما بالبصيرة والقلب الطاهر من الرجس فإذا ضرب عليه بحجاب من الغفلة والقساوة والرين فإنه سوف لا يكون مرآةً قابلة لانعكاس الحقائق الموجودة في اللوح المحفوظ.

وفي غرر الحكم عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (انتباه العيون لا ينفع مع غفلة

ص: 114


1- نهج البلاغة، خطبة109.

القلوب)، والخطاب في الآية الشريفة [لَقَد كُنتَ في غَفلَةٍ] لا يشمل من بلغوا من المعرفة أقصاها وزالت عن بصائرهم حجب الجهل والغفلة وغشاوتها لأنهم مبصرون وليسوا غافلين، لذا فهم يرون العالم الآخر ويتحدثون عنه كرسول الله(1) (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فترى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) استعمل نفس تعبير الآية الشريفة حينما قال: (لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً)(2)؛ لأنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لم يكن في غفلة عن هذه الحقائق بل كانت حاضرة عنده (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).إن الغفلة –وكذا النسيان- وإن كانت أمراً خارجاً عن إرادة الإنسان ظاهراً، إلا أن الإنسان هو الذي يوقع نفسه فيها لقلة تحفظه وانتباهه وبارتكابه مقدماتها وإيجاده الأسباب الموجبة لها، والتي نعرفها من مضاداتها أي علاج الغفلة التي ذكرها الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).

فالإنسان إذن هو الذي يحرم نفسه من معرفة الحقيقة ويحبسها في سجن الغفلة، حينما يرتكب ما يبعده ويشغله عن الله تعالى حتى يقسو قلبه فلا يتقبل المعرفة، عن الإمام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (الغفلة تركك المسجد وطاعتك المفسد)(3) وهذه بعض مصاديق ما يوجب الغفلة، وعن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إياك والغفلة ففيها تكون قساوة القلب)، وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في غرر الحكم: (من غلبت عليه الغفلة مات قلبه) (دوام الغفلة تعمي البصيرة).

ص: 115


1- والشواهد على ذلك كثيرة كتكليم النبي (صلی الله علیه و آله) لقتلى بدر وحكايته عما جرى لسعد بن معاذ من ضغطة القبر ولعبد الله والد جابر الأنصاري من النعيم بعد موتهما، ولعمرو بن لحي وغيرهم.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب:1/ 317.
3- بحار الأنوار: 78/ 115.

ولقد ورد التحذير من الغفلة عن الله تبارك وتعالى قال سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ] (الحشر:19)؛ لذا وصفها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بأن (الغفلة أضرُّ الأعداء) لأن (الغفلة ضلال النفوس وعنوان النحوس) وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (ويل لمن غلبت عليه الغفلة فنسي الرحلة ولم يستعد).ومن هنا حرص الشارع المقدس على إيقاظ الناس من غفلتهم قبل فوات الأوان قال تعالى: [أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ] (الحديد:16)، وفي غرر الحكم عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (ضادّوا الغفلة باليقظة) (ألا مستيقظ من غفلته قبل نفاد مدته) (تداوَ من داء الفترة في قلبك بعزيمة، ومن كرى الغفلة في ناظرك بيقظة).

وبينوا (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لنا ما يوقظ من نوم الغفلة كالقيام بالأعمال الصالحة ولو على مستوى النية وإن لم يفعلها فعن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (يا أبا ذر: همّ بالحسنة وإن لم تعملها لكي لا تكتب في الغافلين)(1)، وتلاوة القرآن فقد روي عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (من قرأ عشر آيات في ليلة لم يكتب من الغافلين ومن قرأ خمسين آية كتب من الذاكرين)(2)، وتقوى الله تبارك وتعالى فعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في نهج البلاغة: (أوصيكم بتقوى الله.. أيقظوا بها نومكم واقطعوا بها يومكم) والإكثار

ص: 116


1- بحار الأنوار: 77/ 88.
2- أصول الكافي، كتاب فضل القرآن، باب ثواب قراءة القرآن، ح5.

من ذكر الله تعالى فعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في غرر الحكم (بدوامك ذكر الله تنجاب الغفلة) وذكر الموت، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (أوصيكم بذكر الموت وإقلال الغفلة عنه) واستماع المواعظ ومطالعة كتب الموعظة والتذكير بالآخرة، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (بالمواعظ تنجلي الغفلة) (أغفل الناس من لم يتعظ بتغير الدنيا من حال إلى حال)(1)، وترك اللهو والعبث والأمور الفارغة والاشتغال بما هو مفيد، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إن كنتم للنجاة طالبين فارفضوا الغفلة واللهو والزموا الاجتهاد والجد) والالتزام بالصلاة والمحافظة على أوقات فضيلتها، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (أيما مؤمن حافظ على الصلوات المفروضة فصلاها لوقتها فليس هذا من الغافلين)، وقد تضمنت الأدعية المباركة طلب اليقظة من الغفلة كقولهم (عَلَيْهِم السَّلاَمُ): (اللهم نبهني من نومة الغافلين).أيها الإخوة المؤمنون:

هذه الغفلة عن الله تعالى ترتبط بها غفلة أخرى لا تقل عنها ضرراً هي عدم الاهتداء إلى الحجة المنصوب من الله تعالى لأن بها الضلال عن الدين كما في الدعاء المعروف: (اللهم عرّفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني) وفي ذلك يقول الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (معرفة الله هي معرفة كل أهل عصر إمامهم).

فأخطر النوم الذي سيعرف الإنسان حقيقته عندما ينكشف عنه غطاء الغفلة بالموت، هو النوم عن معرفة السبيل الذي يوصله إلى معرفة ربّه ويهديه إلى الصراط المستقيم وفي دعاء الندبة (وقلتَ ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء

ص: 117


1- بحار الأنوار: 77/ 112.

أن يتخذ إلى ربه سبيلاً، فكانوا هم السبيل إليك والمسلك إلى رضوانك).والغفلة عن القيادة الحقة للأمة قد تكون غفلة كاملة باتباع قيادة مناقضة تماماً لها كمن اتبع معاوية ويزيد ونظراءهما وعادى علي بن أبي طالب والحسن والحسين وأولادهم المعصومين (سلام الله عليهم أجمعين)، وقد تكون على نحو الانحراف عنها باختيار غير الأكفأ والأقدر على تحمل المسؤولية.

وبحسب نوع الغفلة ودرجتها تتفاوت الآثار(1) المترتبة على ذلك ومقدار الابتعاد عمّا أمر الله تعالى، وإن كان الحق واحداً وصراطه مستقيم، وإنما تتكثر طرق الضلالة والانحراف [أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ] (يونس:35) [فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ] (يونس:32).

أيها الإخوة المجتمعون على محبة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) ونصرتها:

لم تكن السيدة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) حين خرجت إلى مسجد أبيها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) راغبة في أن تخرج من دارها؛ لأنها القائلة حين سأل أبوها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عما هو خير للنساء فأجابت: أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل، وحينما تزوجها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وانتقلت من دار أبيها رسول الله إلى دار زوجها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، قسّم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) العمل بينهما فجعل على علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ما خلف باب الدار وعلى فاطمة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) ما دون الباب، فقالت فاطمة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ): (فلا يعلم ما داخلني من

ص: 118


1- يوجد تفصيل لهذه الآثار في خطاب (ماذا خسرت الأمة حين ولّت الأمة من لا يستحق) المنشور في كتاب (من وحي الغدير).

السرور إلا الله بإكفائي رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تحمّل رقاب الرجال)(1).لكنها خرجت مرغمة لأداء واجبها في إيقاظ أمة أبيها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من الغفلة التي اعترتهم والتفريط في وصية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فأرادت أن ترفع عنهم حجاب الغفلة، وتحذّرهم يوم يكشف الغطاء عنهم، وتذكرهم بلزوم طاعة الإمام الحق أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، وكانت كلماتها (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) تقع كالصاعقة عليهم كقولها (عَلَيْهِا السَّلاَمُ): (معاشر الناس المسرعة إلى قيل الباطل، المغضية على الفعل القبيح الخاسر، أفلا تتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها؟ كلا بل رانَ على قلوبكم ما أسأتم من أعمالكم فأخذ بسمعكم وأبصاركم، ولبئس ما تأوّلتم، وساء ما به أشرتم، وشرٌّ ما منه اعتضتم(2) (اغتصبتم)، لتجدنَّ –والله- محمله ثقيلاً وغبَّه وبيلاً إذا كشف لكم الغطاء وبان ما وراءه الضراء وبدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون، وخسر هنالك المبطلون).

وبيّنت (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) للأمة من خلال نساء الأنصار اللواتي زرنها صفات المستحق لإمامة الأمة وقيادتها (ويحهم، أنّى زحزحوها! عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة والدلالة، ومهبط الروح الأمين، والطبين(3) بأمور الدنيا والدين، ألا ذلك هو الخسران المبين. وما الذي نقموا من أبي الحسن؟ نقموا منه –والله- نكير سيفه وقلة مبالاته بحتفه وشدة وطأته ونكال وقعته وتنمّره(4) في ذات الله عز وجل.

ص: 119


1- بحار الأنوار: 43/ 81 عن قرب الإسناد: 52/ح170.
2- اعتضتم: من الاعتياض وهو أخذ العوض والمقصود هنا الاستبدال.
3- الطبين الحاذق الفطن العارف.
4- التنمر: الغضب، والمقصود من ذات الله أي لوجه الله عز وجل.

والله لو تكافّوا(1) عن زمام نبذه رسول الله إليه لاعتقله ولسار بهم سيراً سُجُحاً(2) لا يكلم خِشاشُه(3) ولا يتعتع (4) راكبه، ولأوردهم منهلاً نميراً صافياً رويّاً فضفاضاً تطفح ضفتاه ولا يترنّق جانباه(5). ولأصدرهم بِطاناً(6) ونصح لهم سراً وإعلاناً، ولم يكن يحلى (7) من الغنى بطائل ولا يحظى من الدنيا بنائل، غير ريِّ الناهل وشبعة الكافل(8). ولَبان لهم الزاهد من الراغب والصادق من الكاذب [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَ-كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ]).

ص: 120


1- تكافّوا: صرف بعضهم بعضاً، والزمام مقود البعير أو الخيط الذي يشد في ثقب أنف البعير، وفي رواية أخرى (لو تكافئوا على زمام نبذه رسول الله إليه لاعتقله..).
2- السير السجح: السهل اللين.
3- لا يكلم: لا يجرح، والخشاش: الخيط الذي يدخل في أنف البعير.
4- يتعتع راكبه: يقلق ويتحرك حركة عنيفة.
5- المنهل: محل ورود الماء، والنمير: الماء العذب السائغ النامي للجسد، والرويّ: الكثير، والفضفاض: الواسع، ويترنّق: يتكدر.
6- البطان: جمع بطين وهو عظيم البطن، وأوردهم: جاء بهم إلى الماء وأصدرهم: أي أرجعهم بعد الري.
7- يحلى: يصيب ويستفيد، والطائل: كثير فائدة.
8- الناهل: العطشان أو الشارب الذي روى فاعتزل فيكون شربه قليلاً بعدها، ويحتمل أن يكون الناهل بمعنى الذي ينهل قليلاً من الماء فالنهل هو أول الشرب، والكافل المسؤول عن العيال الذي يؤثرهم على نفسه فيقلل طعامه، وفي اللغة أيضاً أن الكافل هو الذي لا يأكل أو الذي يواصل الصيام. والتمثيل واضح أنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سوف لن يتناول من الدنيا إلا بما يقيم أوده كما فعلها في فترة حكومته (سلام الله عليه)، وفي اللغة أيضاً أن الكافل هو الذي لا يأكل أو الذي يواصل الصيام.

وحذّرتهم (سلام الله عليها) من عاقبة فعلتهم حينما صرفوا الأمر إلى غير أهله فقالت: (أما لعمري لقد لقحت فنَظِرةٌ ريثما تُنتج(1)، ثم احتلبوا ملء القعب دماً عبيطاً(2)، وذعافاً مبيداً(3)، هنالك يخسر المبطلون، ويعرف التالون غبّ(4) ما أسسه الأولون، ثم طِيبوا عن دنياكم أنفساً(5)، واطمئنوا للفتنة جأشاً(6)، وأبشروا بسيفٍ صارم وسطوة معتدٍ غاشم، وهرْجٍ(7) شامل، واستبداد من الظالمين يدعُ فيئكم زهيداً وجمعكم حصيداً. فيا حسرةً لكم، وأنّى بكم؟ وقد عميت عليكم(8)، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون؟).وهذا ما سار عليه أولادها المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فقد كانوا يوقظون الأمة وينبهونها إلى الإمام الحق، ومما ورد في كتاب الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى أهل

ص: 121


1- لقحت الفتنة إذا استثيرت، تشبيهاً بتلقيح الدابة، وتنتج: تلد، والنظِرة: المهلة، أي انتظروا حتى تلد الفتنة قصدت بها (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) ما ينتظر هذه الأمة من ويلات بسبب الفتنة التي حصلت يومها.
2- القعب: إناء ضخم، والدم العبيط: الطري.
3- الذعاف: السم السريع الإفناء، والمبيد المهلك.
4- الغب: العاقبة أو الجزاء.
5- طابت نفسه عن الشيء: أي نسيه ولم يفكر فيه، إشارة إلى أنكم ستخسرون أنفسكم وهو تعبير للسخرية منهم ولتهويل خسارتهم.
6- هذا هو الموجود في المصدر الذي بين يدي، والأصل ربما (وطامنوا للفتنة جأشاً) يعرف ذلك من خبر اللغة وهو كلام سائر في كلام العرب وطامن القِدر وطأمنه أي سكّنه والجأش: القلب أو النفس من الاضطراب والروعان، وسبيل هذا التعبير من التشبيه سبيل سابقه من التهويل والاستهزاء نظير قوله تعالى: [فبَشّرهُمْ بعَذَابٍ أَلِيمٍ].
7- الهرج: الفوضى أو الفتنة.
8- أنى لكم: من أين لكم الهداية، أو: أين تذهبون وتتيهون مثل قوله تعالى: [فَأنّى يُؤفَكُونَ].

الكوفة يعْلمهم بإرسال ابن عمه مسلم بن عقيل: (فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب والآخذ بالقسط والدائن بالحق والحابس نفسه على ذات الله)(1).وحذّرهم (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) يوم كربلاء من مغبة اتباع القادة الضالين المنحرفين وترك أئمة الحق والهدى الذين تجب على الجميع نصرتهم ومن أقواله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (تبّاً لكم أيتها الجماعة وترحاً، أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم (2) موجفين(3) سللتم علينا سيوفاً لنا في أيمانكم وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدونا وعدوكم، فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم، فهلا –لكم الويلات- تركتمومنا والسيف مشيم والجأش طامن والرأي لما يستحصف(4)... ويحكم أهؤلاء تعضدون وعنا تتخاذلون، أما والله لا تلبثون بعدها إلا كريثما يُركب الفرس حتى تدور بكم دور الرحى وتقلق بكم قلق المحور، عهدٌ عهده إليّ أبي عن جدي رسول

ص: 122


1- مقتل الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) للسيد المقرّم:165.
2- استصرخ: استنجد، وأصرخ: لبى الاستصراخ وأنجد المستصرخ، والواله: هو المتحير أو الخائف.
3- الوجيف سرعة السير، وربما يطلق على المشي الشديد ويستعمل في المشي بجد وقصد قال تعالى: [فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ] (الحشر: 6).
4- السيف مشيم: أي مغمد، والجأش طامن: تقدم المعنى، وهو تشبيه للنفس أو القِدر بأنه مطمئن كناية عن استقرار الأمر وهمود الفتنة، والرأي لما يستحصف: لم يصبح حصيفاً واضحاً جازماً بعد: أي رأي أعدائه في قتله أي لم يكونوا ليتجرأوا عليه ولكنكم سهلتم له ذلك (فتطايرتم عليها تطاير الدبا (وهو الجراد) وتهافتم عليها كتهافت الفراش).

الله)(1).وترجم الشهيد زهير بن القين هذا المعنى في خطبته التي وجهها إلى جيش الأمويين يوم عاشوراء ومما جاء فيها: (فإنكم لا تدركون منهما –أي يزيد بن معاوية وعبيد الله بن زياد- إلا سوء عمر سلطانهما، ليَسملان أعينكم ويقطعان أيديكم وأرجلكم ويمثلان بكم ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقرّاءكم أمثال حجر بن عدي وأصحابه وهاني بن عروة وأشباهه)(2).

وهذا ما حصل ويحصل في كل زمان حتى يومنا الحاضر حيث لم تحصد الأجيال من تسلط وزعامة غير المؤهلين لقيادة الأمة إلا الفتن والضلال وتمزيق الشمل، والصراعات التي أهلكت الحرث والنسل، وتشويه صورة الإسلام، وضعف الوازع الديني بحيث لا يبقى من المتدينين إلا النزر اليسير، وتلكؤ حركة الإسلام لهداية البشرية، وحرمان الناس من ثروته المعنوية الهائلة، واستعباد الناس والاستئثار بثروات الأمة وهدرها على نزوات وأطماع المتسلطين وفسادهم، وغيرها من الكوارث العظيمة.

يا أنصار الزهراء..

إننا نشهد اليوم ازدهار النهضة الفاطمية المباركة وانتصار موقفها، فبعد أربعة عشر قرناً من محاولات فقهاء السلطة إخضاع الناس لإرادة السلطان الذي يسمي نفسه أمير المؤمنين، وإجبار هم على طاعته باعتباره عندهم هو المقصود بأولي الأمر في الآية الشريفة [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي

ص: 123


1- مقتل الحسين للسيد المقرم: 286-288.
2- مقتل الحسين للسيد المقرم: 283.

الأَمْرِ مِنكُمْ] (النساء:59) وحرّموا الخروج عليهم مهما بلغ فسقهم وفجورهم وظلمهم حتى قالوا عن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سبط النبي الأكرم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (أنه قُتل بسيف جده) لأنه خرج طلباً للإصلاح في الأمر وليصحح الانحراف في مسيرة الحكام.ووقفت الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) من أول يوم لانقلاب الأمة لتكشف الانحراف ولتوقظ الناس من غفلتهم وترشدهم إلى الإمام الحق، وأن القيادة لا تكون بالادعاءات وإنما بالاستحقاق والمؤهلات التي يريدها الله تبارك وتعالى لكن تزوير الحقائق الذي مارسه فقهاء السلطة عبر القرون رسخ في أذهان أتباعهم فرسّخوا عقيدة أن من يتسلط على رقاب الناس ولو بالسيف والقهر والانقلابات العسكرية هو ظل الله في الأرض وخليفته، وأن الله تعالى يأمر بطاعتهم ولا يزال الكثير منهم يرددها.

لكن شعوب المنطقة اليوم بثورتها على حكامها الطواغيت ونزوعها إلى الحرية، رفضت ذلك التزوير للحقائق الذي مارسه علماء السوء فاضطر بعضهم إلى مجاملة حركة الشعوب وتأييدها، فأثبت الواقع على الأرض دحض نظرية أعداء السيدة الزهراء من أمويين وعباسين وأمثالهم، وآمن الجميع –شاؤوا أم أبوا- بصحة ما طالبت به الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) من تسليم الأمر إلى أهله ومستحقيه.

بل النصر أوسع من ذلك فإن ما يدور في أروقة الأكاديميات السياسية في أمريكا وأوربا هو فشل نظرياتهم في الحكم؛ لأن أساس الحكم هو العدل والهدف منه توزيع الحقوق والواجبات على الناس بالقسط والعدل، وهذا ما لم تستطع تحقيقه كل أنظمة الحكم الوضعية التي صنعتها البشرية لنفسها، ففشلت

ص: 124

الدكتاتورية أولاً؛ لأنها تجمع الامتيازات بيد الفرد على حساب الأمة، فنادوا بالديمقراطية واعتبروها أعظم الإنجازات البشرية في الحكم ثم ثبت لديهم فشلها لأنها ترعى مصالح النصف زائداً شيء على حساب النصف ناقصاً شيء، فعدلوا إلى فكرة الشراكة في الحكم ثم وجدوها بائسة تشلّ الحياة لأنها تتحول إلى محاصصة على حساب المهنية والكفاءة والنزاهة، وضاعت مؤسسات الدولة في أتون صراعات السياسيين ونخرتها أنانياتهم. فاقتنعوا الآن بما أسسه أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بأمر الله تبارك وتعالى من ضرورة قيمومة شخص يمثل القمة في العلم والنزاهة والاستقامة والصفات الكريمة على السلطة ليوجّه عملها ويقوّم اعوجاجها ويصلح ما فسد من أمورها وهو عين ما نعتقده في من يستحق التصدي لهذا الموقع الشريف من الأنبياء والرسل والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين)، ومن بعدهم الفقهاء الجامعون لشرائط النيابة عن المعصوم (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).لقد أذعنت تلك الأكاديميات بصحة مذهب أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في السلطة والحكم وحمّلوا شيعتهم مسؤولية بيان هذه الحقائق وإيصالها إلى العالم كله، فإن البشرية ستؤمن بها إذا وعتها.

وهذه من أعظم المسؤوليات التي يتوجب علينا القيام بها اليوم؛ لأن معركة الحق والباطل على مدى التأريخ تتجلى بوضوح في معركة الحاكمية والقانون الذي يجب أن يحكم في الأرض، فالله تبارك وتعالى يريد لشريعة الحق والعدل أن تسود ويتصدى المصطفون الأخيار لقيادة البشرية، بينما يريد أولياء الشيطان وأتباع الهوى والأطماع، واللاهثون وراء السلطة والجاه والنفوذ أن يستأثروا ويستبدوا، ويتدافع هذان المعسكران عبر التأريخ بلا كلل أو ملل، قال

ص: 125

أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في جواب رجل قال له في وقعة صفين: ترجع إلى عراقك ونرجع إلى شامنا، قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لقد عرفتُ إنما عرضتَ هذا نصيحةً وشفقة.. إن الله تبارك وتعالى لم يرضَ من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فوجدت القتال أهون عليّ من معالجة الأغلال في جهنم) (1).وامتداداً لهذه المواجهة خرجت الصديقة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) إلى مسجد أبيها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وألقت خطابها على المسلمين وخصمتهم بالحجج الدامغة، والتزاماً بهذا الواجب توجّه الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى كربلاء حيث عبّر عن غرضه في عدة مواضع وأنه ما خرج إلا طلباً للإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتصحيح الانحراف وتقويم اعوجاج السلطة، ومن كلماته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في ذلك: (أيها الناس إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله ناكثاً عهده مخالفاً لسنة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله) (2). وقال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه) ثم قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (اللهم إنك تعلم أنه لم يكن ما كان منا تنافساً في سلطان ولا التماساً من فضول الحطام ولكن لنحيي المعالم من دينك ونُظهر الإصلاح في بلادك ويأمن المظلومون من عبادك ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك. فإنكم إن لا تنصرونا وتنصفونا قوي الظلمة عليكم وعملوا في

ص: 126


1- نهج السعادة: 2/ 226.
2- مقتل الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) للسيد المقرم: 218.

إطفاء نور نبيكم وحسبنا الله وعليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير) (1).فهنيئاً لكم أيها السائرون على النهج الذي اختطته الصديقة الطاهرة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) فقد عرفتم الحق منذ عرفتم الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) وتمسكتم بها، فحافظوا على هذه النعمة، وكونوا يقظين، ولا تأخذكم غفلة عن معرفة قادتكم الحقيقيين الذي يأخذون بأيديكم إلى الهدى والصلاح ورضا الله تبارك وتعالى [وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ] (الأنبياء:73).

ص: 127


1- تحف العقول:172.

السيدة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) وتثبيت الأمة على الصراط المستقيم

السيدة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) وتثبيت الأمة على الصراط المستقيم(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المخلوقات وسادتهم أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

السلام عليكم أيها الإخوة المؤمنون ورحمة الله وبركاته

ثلاثة أيام في الإسلام أراد الله تبارك وتعالى لها أن تثبّت عقيدة الأمة وتصحح مسيرتها وتحفظ الإسلام نقياً ناصعاً سليماً من الزيغ والانحراف الذي يريده طلاب الدنيا لتحقيق مصالحهم الذاتية، ومثّلت هذه الأيام أهم منعطفات في حياة الأمة:

الأول: يوم الغدير وبيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إماماً للأمة وخليفة لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومكملاً لرسالته المباركة، فجعله الله تعالى يوم إكمال الدين وإتمام النعمة؛ لأنه يوم خلود الرسالة وعدم اندثارها بموت صاحبها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

الثاني: يوم القيام الفاطمي حينما انقلبوا على الأعقاب بعد وفاة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كما أخبر به الله تعالى: [أفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ] (آل

ص: 128


1- الخطاب السنوي الذي يلقيه سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على عشرات الآلاف من المؤمنين الذين توافدوا لإحياء شعائر الزيارة الفاطمية عند أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في النجف الأشرف يوم 3/جمادى الثانية/1433 الموافق 25/ 4/ 2012.

عمران:144)، وهو يوم الفرقان في معركة التأويل التي خاضها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعد وفاة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بحسب ما ورد في حديث النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (تقاتل على التأويل كما قاتلتُ على التنزيل)(1) أي تخوض حربَ تصحيح المفاهيم والسلوكيات وتقويم الانحراف ووضع النقاط على الحروف وبيان التفاصيل.الثالث: يوم عاشوراء، يوم التضحية بالقرابين النفيسة لفضح الحكام المستبدين الفاسقين المحاربين لله ولرسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، ومن بعد يوم عاشوراء تميّز خط الإمامة والخلافة الإلهية عن خط الملك والسلطنة والصراع على الحكم [لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ] (الأنفال:42) وانتهى عصر خلط الأوراق وتداخل الخنادق.

ولو أطاعت الأمة ربّها وما أنزله على رسوله الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في ما بلَّغ في اليوم الأول (يوم الغدير) لما احتاجت إلى اليوم الثاني وهو يوم القيام الفاطمي الذي دفعت فيه الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) حياتها ثمناً له وهي في عمر الزهور حيث لم تتجاوز ثمانية عشر ربيعاً.

ولو استُمعت نصيحة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) في قيامها المبارك وأعادت الأمة الحق إلى نصابه ودفعته إلى أهله وأذعنت لحق أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، لما حصل الانحراف والانحدار بالأمة حتى تطلَّب تقويمُ المسار سفكَ دم سبط رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وسيد شباب أهل الجنة وسبي عقائل النبوة من بلدٍ إلى بلدٍ يتصفح

ص: 129


1- بحار الأنوار: 37/ 191، وفي السنن الكبرى للنسائي: 5/ 154: (علي يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلتُ على تنزيله).

وجوههن الأعداء.ولأجل الحفاظ على الإسلام النقي الأصيل لا بد من إحياء هذه الأيام الثلاثة بما تستحقه، وإظهار معانيها الحقيقية، وقد مرّت قرون على الأمة لم يشهد فيها اليومان الأولان حقهما من الاهتمام الواسع إما تقيةً أو مجاملة لئلا تجرح مشاعر الآخرين (والحق أحق أن يُتَّبع) [وَاللهُ أحَقُّ أنْ تَخشَاهُ].

وبقي يوم الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وحده معطاءً كريماً حفظ عقيدة الأمة وحماها من الانحراف والزيغ، فلو نال اليومان الآخران ما ناله يوم الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لاتسعت البركات ولتحقق الفتح بإذن الله تعالى، وهو ما نشهد علائمه وطلائعه اليوم.

فالأمة مدينة بصلاحها واستقامتها وثباتها على الدين وسعادتها في الدنيا والآخرة بعد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأمير المؤمنين ولفاطمة الزهراء (صلوات الله عليهما) وللقلة القليلة التي ثبتت معهم وحفظت نهجهم وآثارهم للأجيال، وهم قليلون بالعدد إلا أن عطاءهم كبير عمّ ببركاته كل الأجيال.

لقد كان للسيدة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) الأثر الحاسم في تثبيت الأمة عندما انزلقت يوم الانقلاب على الأعقاب، ولم يستطع أحد أن يقف موقفها فقد ضعفت الهمة وجبنت القلوب وخارت القوى وارتفع صوت الشيطان، وعمّت الشبهات وتبلّدت العقول فلم تدرك خطورة الموقف والنتائج الكارثية المترتبة عليه، وكان كل همّها (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) أن تحفظ مسيرة الإسلام على الصراط المستقيم.

أيها الأحبة:

إن مفردة الثبات والتثبيت من القضايا التي اهتم القرآن الكريم بمعالجتها

ص: 130

لأن الإنسان يتعرض في هذه الدنيا إلى ابتلاءات كثيرة ومزالق خطيرة لا ينجيه منها إلا طلب التثبيت من الله تعالى والعمل على تحصيل ذلك، لذا كان مطلب المؤمنين في ساحات المواجهة مع الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء والأعداء من الناس هو [رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] (البقرة:250) [وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ، وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] (آل عمران:147).وكانت صفة الثبات عند مزالّ الأقدام هي من الصفات البارزة في رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) التي وصفه بها أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعاء الصباح: (والثابت القدم على زحاليفها في الزمن الأول)(1)، وجسّد هذا الثبات في حياته الشريفة حيث لم يجامل ولم يداهن ولم يضعف ولم يقصّر، والشواهد على ذلك كثيرة.

وتأسى به أهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين) والصالحون من أتباعه، وكان ديدنهم الثبات والمداومة والصبر والمصابرة حتى آخر نفس ولا معنى ل-(التقاعد) في حياتهم، وبهذا أمرت الأحاديث الشريفة بحيث جاء عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم

ص: 131


1- الزحاليف: جمع زحلوفة وهو المكان شديد الزلق لانحداره وملسه، والزمن الأول بحسب الظاهر هو زمن الخلق والإشهاد وأخذ العهد [وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُرِهِم ذُرِّيَّتَهُم وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِم أَلَستُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أنْ تُقُولُوا يَومَ القِيَامَةِ إنّا كُنَّا عَن هذا غَافِلِينَ] (الأعراف:172).

حتى يغرسها فليغرسها)(1).ونحن في هذا الزمان بأمسّ الحاجة إلى التثبيت لكثرة الشبهات وانتشار الضلال والفساد واجتماع الأعداء وتفرّق الإخوان، ولا يتحقق الفوز وحسن الخاتمة إلا بالثبات على الاستقامة، عن الإمام زين العابدين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (من ثبت على ولايتنا في غيبة قائمنا أعطاه الله أجر ألف شهيد، مثل شهداء بدر وأحد) وعن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: والذي بعثني بالحق بشيراً، إن الثابتين على القول به في زمان غيبته لأعز من الكبريت الأحمر)(2).

ولا ينال ذلك إلا بالألطاف الإلهية الخاصة والعمل الجاد لتحصيلها، عن الإمام الصادق(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن الله عز وجل إن شاء ثبّتك فلا يجعل لإبليس عليك طريقاً)(3)، وفي الرواية عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (ستصيبكم شبهة فتبقون بلا علم يرى ولا إمام هدى، لا ينجو منها إلا من دعا بدعاء الغريق قلت: وكيف دعاء الغريق؟ قال: تقول: يا الله يا رحمن يا رحيم، يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)(4)، ومن أدعية القرآن الكريم [رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا] (آل عمران:8) وفي مجمع البيان: (قيل: لما نزلت آية [وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ] (الإسراء: 74) قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عينٍ أبداً)(5).

ص: 132


1- ميزان الحكمة: 2/ 1410.
2- الحديثان في ميزان الحكمة:1/ 180.
3- الكافي: 2/ 425.
4- ميزان الحكمة:1/ 181.
5- تفسير الصافي: 4/ 436.

فلا يجوز لنا أن نغترّ بمقدار الإيمان الذي نحن عليه والالتزامات الظاهرية التي نؤديها ما لم تقترن بالثبات على الإيمان والاستقامة في موارد الامتحان والابتلاء عندما تتعرض الأقدام للانزلاق بسبب اتباع الهوى والركون إلى الدنيا والتفرّق عن الهادين إلى الحق. وقد دلّتنا الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) على ما يثبّت الإيمان في قلوبنا ويدفعنا إلى العمل الصالح وهو اتباع أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والسير على نهجه والتمسك بولايته، عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (ما ثَبَّتَ الله حبَّ علي في قلب مؤمن فزلَّت به قدم إلا ثبَّتَ الله قدماً يوم القيامة على الصراط)(1).

وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (أثبَتُكم على الصراط أشدُّكم حباً لأهل بيتي)(2)، وورد عن الإمامين الباقر والصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير قوله تعالى: [وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً] (النساء:66) عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (ولو أن أهل الخلاف فعلوا ما يوعظون به في علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ))(3).

ولقد أمرنا الله تعالى بالثبات والصمود على الدوام ودعانا إلى تحصيل أسباب الثبات والاستقامة على الإيمان، بطاعة الله تبارك وتعالى وطاعة رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والصبر وترك التنازع والخلاف المؤدي إلى الانهيار والفشل والإحباط [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ، وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ

ص: 133


1- ميزان الحكمة:1/ 136.
2- ميزان الحكمة: 2/ 1610.
3- تفسير الصافي: 2/ 266 عن أصول الكافي.

الصَّابِرِينَ] (الأنفال: 45-46) [وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً] (النساء:66).ومن الوسائل الوثيقة لتحصيل الثبات هي التقوى، قال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق)(1).

والورع عن محارم الله تعالى، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقد سئل عما يثبت الإيمان في العبد، قال: (الذي يثبته فيه الورع، والذي يخرجه منه الطمع)(2).

ولا يثبت الإيمان ويؤتي ثماره إلا بالعمل الصالح، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (ولا يثبت الإيمان إلا بعمل)(3) وعن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (مرّ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) برجل يغرس غرساً في حائط له، فوقف له وقال: ألا أدُلّك على غرس أثبت أصلاً وأسرع إيناعاً وأطيب ثمراً وأبقى؟ قال: بلى فدُلَّني يا رسول الله، فقال: إذا أصبحت و أمسيت فقل: سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر، فإن لك إن قلته بكل تسبيحة عشر شجرات في الجنة من أنواع الفاكهة وهن من الباقيات الصالحات)(4).

وعن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (من زهد في الدنيا، ولم يجزع من ذلها، ولم

ص: 134


1- نهج البلاغة: 3/ 171 من كتاب له (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وهو عامله على البصرة وقد بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها.
2- ميزان الحكمة:1/ 200.
3- الفصول المهمة في أصول الأئمة للحر العاملي:1/ 434.
4- الكافي: 2/ 506.

ينافس من عزها، هداه الله بغير هداية من مخلوق، وعلمه بغير تعليم، وأثبت الحكمة في صدره وأجراها على لسانه) وفي الحديث (من زار الحسين في بقيعه ثبته الله على الصراط يوم تزل فيه الأقدام)(1).إن التثبيت على الإيمان والاستقامة لطفٌ يؤتيه الله من يشاء من عباده [وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً] (الإسراء:74) [قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ] (النحل:102) [وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ] (الأنفال:11) [كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ] (الفرقان: 32).

ولكنه مع ذلك ينطلق من داخل النفس المطمئنة بالإيمان والمحبة لله تبارك وتعالى الذين ذكرهم في كتابه الكريم ووصفهم بأنهم يقومون بأفعال الخير انطلاقاً من رغبتهم النفسية في التثبيت والمداومة على الطاعة: [وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فإن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] (البقرة: 265).

فإذا صدق العبد مع ربّه وسعى بالدعاء والعمل للثبات على الإيمان والهدى ثبّته الله تعالى وآمنه وأسعده في الدنيا والآخرة [يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ] (إبراهيم: 27)، وورد في تفسيرها عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إن الشيطان ليأتي الرجل من أوليائنا عند موته عن يمينه وعن شماله ليضلّه عما هو عليه فيأبى الله

ص: 135


1- الحديثان في ميزان الحكمة: 2/ 1172.

عز وجل له ذلك)(1).وهذا الخير للأمة هو ما أرادته الصديقة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) في خطبتيها فدعتهم إلى أن يأووا إلى الركن الشديد الثابت أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وحذَرت من مخالفته: (ويحهم أنّى زعزعوها عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوة والدلالة، ومهبط الروح الأمين، والطَبِين بأمور الدنيا !والدين، ألا ذلك هو الخسران المبين) [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَ-كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ] (الأعراف:96) وقد حذّرتهم من عاقبة انقلابهم وأنهم بذلك يؤسسون لواقع فاسد وفتنة عظيمة تحرق بشررها كل الأجيال اللاحقة: (أما لعمري لقد لَقِحت، فَنَظِرَةٌ ريثما تُنتج(2)، ثم احتلبوا ملء القُعْب(3) دماً عبيطاً وزعافاً مبيداً، هنالك يخسر المبطلون، ويعرف التالون غبَّ ما أسس الأولون).

وأنتم أيها الفاطميون الموالون بإحيائكم للشعائر الفاطمية ونصرتكم لله تعالى ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وإظهار المودة لأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) تتمسكون بحبل وثيق من التثبيت الإلهي عند المزالق في الدنيا، وعلى الصراط في الآخرة، قال تعالى: [إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] (محمد:7).

وأي نصرة لله تعالى أعظم من نصرة أوليائه وإظهار حقّهم، وإنصافهم من ظالميهم، فنصرة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) وإنصافها من أعظم موارد الحديث الشريف عن

ص: 136


1- تفسير الصافي: 4/ 239 عن الفقيه وتفسير العياشي.
2- تنتج أي تلد والنتاج هو الوضع أو الولادة للبهائم. لسان العرب: مادة (نتج).
3- القُعْب: القدح الضخم، وقيل: قدح من خشب مقعّر، وقيل: هو قدح إلى الصغر. لسان العرب: مادة (قعب)، واللوحة التشبيهية التي رسمتها الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) بليغة للغاية صورّت فيها الفتنة وكأنها دابة ستولد بعد حين من لقاح الفتنة ثم يكون جميع ما يجنونه ويحتلبونه منها الدم العبيط.

رسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (من مشى مع مظلوم حتى يثبت له حقه، ثبّت الله تعالى قدميه يوم تزل الأقدام)(1).وقد منّ الله تعالى عليكم بسبب فاعل آخر للتثبيت وهو انتظار فرج إمامنا المهدي المنتظر (أرواح العالمين له الفداء) والأمل بإقامة الدولة الكريمة على يديه، روى علي بن يقطين عن الإمام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (قال لي أبو الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): الشيعة تُربّى بالأماني منذ مائتي سنة) وشرحها علي بن يقطين بقوله: (فلو قيل لنا: إن هذا الأمر لا يكون إلى مائتي سنة أو ثلاث مائة سنة لقست القلوب ولرجع عامة الناس عن الإسلام، ولكن قالوا: ما أسرعه وما أقربه تألّفاً لقلوب الناس وتقريباً للفرج))(2).

ولكم أيها الثابتون على الحق في زمان الغيبة وردت البشرى من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في كتب الشيعة والسنة قال: (سيأتي قومٌ من بعدكم، الرجل الواحد منهم له أجر خمسين منكم، قالوا: يا رسول الله نحن كنّا معك ببدر وأُحُد وحنين ونزل فينا القرآن! فقال: إنكم لو تُحمَّلون ما حُمِّلوا لم تصبروا صبرهم)(3).

ص: 137


1- ميزان الحكمة:1/ 659.
2- الكافي:1/ 369 والغيبة للطوسي: 207 وعنهما البحار: 52/ 102.
3- الغيبة للطوسي: 275 والخرائج: 284 وعن الطبراني الكبير:10/ 225 وسنن أبي داود: 4/ 123 وابن ماجة: 2/ 1330 والترمذي: 5/ 257 وغيرها.

الصدّيقة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) تحمل هذا الدين وتحميه

الصدّيقة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) تحمل هذا الدين وتحميه(1)

الحمد لله وحده كما يستحقه حمداً كثيراً، والصلاة والسلام على أمينه على وحيه وسيد خلقه أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

السلام على أمير المؤمنين عبد الله وأخي رسوله، وعلى الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) الممتحنة الصابرة الشهيدة المحتسبة المهتضم حقها، ورحمة الله وبركاته.

السلام عليكم أيها المؤمنون ورحمة الله وبركاته.

روي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال: (يحمل هذا الدين في كل قرن عُدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين كما ينفي الكير خبث الحديد)(2).

والقرن هم أبناء الجيل الواحد باعتبارهم مقترنين في الزمان، فمعنى الحديث الشريف أنه يوجد في كل جيل من الأجيال من يحمل رسالة الإسلام المحمدي الأصيل ويحميه من الشبهات والبدع والتحريف والضلالات

ص: 138


1- الخطاب الذي وجّهه سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) إلى عشرات الآلاف من المؤمنين الذين اجتمعوا في ساحة ثورة العشرين في النجف الأشرف قبل أن ينطلقوا في التشييع الرمزي للسيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) في ذكرى استشهادها ضمن فعاليات الزيارة الفاطمية صباح يوم الأحد 3/ج2/ 1434 الموافق14/ 4/ 2013.
2- رجال الكشي: 2، وروى البرقي في المحاسن مثله وفيه (فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) (بحار الأنوار: 2/ 92 عن بصائر الدرجات:1/ 30، باب 6، ح 7).

والأهواء وينقي الإسلام مما علق به من تلك البدع والشبهات كما يفعل الحداد حين يصنع الحديد في النار وينفخ فيها ليزيل عنه الشوائب.وفي هذا الحديث الشريف تطمين وتحذير ودعوة.

أما التطمين فلأنه يطمئن الناس بأن الله تعالى لا يخلي الأرض من العلماء العاملين المخلصين الواعين الذين يؤدون هذه الأمانة الإلهية فإنهم موجودون في كل جيل، فلا يقلق الناس من هذه الناحية، أو يبررون ضلالهم وانحرافهم وسوء اختيارهم لمسلكهم في الحياة بعدم وجود مثل هؤلاء العلماء.

وفي الحديث إخبار وتحذير بأن المبطلين والمدعين والمنحرفين وأهل الأهواء وطلاب الدنيا من المتلبسين بالعناوين الدينية ومن ينخدع بهم من الجهلة والسذّج سوف لا يتوانون عن تحريف هذا الدين وإدخال البدع والضلالات تحت أي عنوان وقد تُعطى البدعة عنواناً دينياً مقدساً، ولا يتوقفون عن خداع الناس بمكرهم ودجلهم، وأنهم موجودون في كل جيل ويعملون باستمرار كما أن العلماء العاملين موجودون في كل جيل ويواجهونهم.

وفي الحديث أيضاً دعوة للناس للالتفات إلى هذا الصراع وهذه المواجهة، والالتفاف حول مثل هؤلاء العلماء الذين وصفهم الحديث الشريف لاتّباعهم والالتزام بما يصدر منهم، وعدم الانخداع بمن يدّعون القداسة والقيمومة على الدين والمؤسسة الدينية ليطلبوا بها الدنيا؛ لأن عملية التأويل والتحريف وخداع الناس لا تكون إلا ممن أعطى لنفسه عناوين دينية كبيرة، ووضع له حاشيته والمستفيدون منه هالة مقدسة وجعلوه صنماً يعبد ويطاع من دون الله تعالى.

لذلك يؤكد الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) على أن نختار بوعي ودراية وبصيرة وليس بتقليد

ص: 139

الأسلاف أو بالسلوك الجمعي مع عامة الناس ونحوها.روى علي بن سويد قال: (كتب إليّ أبو الحسن الأول –أي الإمام موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- وهو في السجن: وأما ما ذكرت يا علي: ممن تأخذ معالم دينك، لا تأخذن دينك عن الخائنين الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم، إنهم ائتمنوا على كتاب الله جل وعلا فحرّفوه وبدّلوه فعليهم لعنة الله ولعنة رسوله وملائكته ولعنة آبائي الكرام البررة ولعنتي ولعنة شيعتي إلى يوم القيامة)(1).

وروى البرقي في المحاسن من مواعظ السيد المسيح (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله: (كونوا نقّاد الكلام، فكم من ضلالة زخرفت بآية من كتاب الله كما زخرف الدرهم من نحاس بالفضة المموهة، النظر إلى ذلك سواء والبصراء به خبراء)(2).

ولأن هذه المواجهة موجودة في كل جيل فقد بدأت بشكل علني بعد وفاة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مباشرة وجسده الشريف لا زال مسجّىً لم يدفن، حيث عمد زعماء الانقلاب إلى التأويل والتحريف والادعاءات الباطلة.

وكانت الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) أول هؤلاء العدول الذين يحملون هذا الدين وينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين، وواجهتهم ودحضت ادعاءاتهم الخائبة، في كل الاتجاهات التي غيّروا وبدّلوا فيها.

فعلى صعيد تلاعبهم بكتاب الله تعالى قالت (سلام الله عليها): (كيف بكم وأنّى تؤفكون، وكتاب الله بين أظهركم، أمورُه ظاهرةٌ وأحكامُه زاهرةٌ،

ص: 140


1- بحار الأنوار: 2/ 82 عن رجال الكشي كذلك.
2- بحار الأنوار: 2/ 96، ح 39، عن المحاسن: 299-230.

وزواجرُه لائحةٌ، وأوامرُه واضحة، وقد خلّفتمُوهُ وراء ظهوركم، أرغبةً عنه تريدون؟ أم بغيره تحكمون؟ [بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً] (الكهف: 50) [وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ] (آل عمران : 85)).وقالت (عَلَيْهِا السَّلاَمُ): (يا ابن أبي قحافة، أفي كتاب الله ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فريّاً، أفعلى عمدٍ تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول: [وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ] (النمل:16)، وقال فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريا إذ قال: [فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً] (مريم : 5-6)، وقال: [وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ] (الأنفال:75)، وقال: [يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ] (النساء:11)).

إلى أن قالت (عَلَيْهِا السَّلاَمُ): (أفخصّكم الله بآية أخرج أبي منها؟ أم هل تقولون: إنا أهل ملّتين لا يتوارثان؟ أولستُ أنا وأبي من أهل ملة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟).

وفي موضوع الإمامة وانقلابهم على وصية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في الخليفة من بعده وإقصاء أمير المؤمنين قالت (عَلَيْهِا السَّلاَمُ): (ويحهم! أنى زعزعوها؟ عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوة والدلالة، ومهبط الروح الأمين، والطبين –أي الفطن الحاذق العالم بكل شيء- بأمور الدنيا والدين؟ [أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ] (الزمر: 15)) (وتالله لو مالوا عن المحجة اللائحة، وزالوا عن قبول الحجة الواضحة لردّهم إليها، وحملهم عليها) (ولأوردهم منهلاً نميراً صافياً رويّاً، [وَلَوْ

ص: 141

أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَ-كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ] (الأعراف : 96)، ويحهم! [أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ] (يونس: 35) هنالك يخسر المبطلون، ويعرف التالون غبّ –أي عاقبة- ما أسس الأولون).وردّت على افترائهم على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتزويرهم حديثاً عنه زعموا أنه قال: ((نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ذهباً ولا فضة)) إلخ فقالت (عَلَيْهِا السَّلاَمُ): (سبحان الله! ما كان أبي رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن كتاب الله صادفاً، ولا لأحكامه مخالفاً، بل كان يتبع أثره، ويقفوا سوره، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالاً عليه بالزور والبهتان، وهذا بعد وفاته شبيه بما بغي له من الغوائل في حياته، هذا كتاب الله حكماً عدلاً، وناطقاً فصلاً) (ما أزاح به علة المبطلين وأزال التظني والشبهات في الغابرين، كلا [بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ] (يوسف:18).

أسباب الانحراف والتأويل:

وهنا لا بد أن نقف عند تحليل السيدة الزهراء (سلام الله عليها) وتشخيصها لأسباب هذا الانحراف والتغيير في الدين والتخاذل والنكوص عن الحق ومساندة الباطل، وكيف تعطى له الفرص ليستفحل ويتجذّر في المجتمع، ومن كلماتها (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) في ذلك (معاشر المسلمين، المسرعة إلى قيل الباطل، المغضية على الفعل القبيح الخاسر، أفلا تتدبرون القرآن [أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] (محمد :

ص: 142

24) كلا بل ران على قلوبكم ما أسأتم من أعمالكم، فأخذ بسمعكم وأبصاركم، ولبئس ما تأوّلتم).وقالت (عَلَيْهِا السَّلاَمُ): (أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض –أي الراحة وسعة العيش- وأبعدتم من هو أحقّ بالبسط والقبض، وخلوتم بالدعة –وهي الراحة- ونجوتم بالضيق من السعة، فمججتم ما وعيتم، ودسعتم الذي تسوغّتم- أي قاؤوا ما شربوه بسهولة- فإن [تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ] (إبراهيم : 8)).

وقالت (عَلَيْهِا السَّلاَمُ): (وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم فألفاكم لدعوته مستجيبين وللغرّة فيه ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً، وأحمشكم فألفاكم غضاباً –أي استفزّكم فغضبتم له- فوسمتم غير إبلكم، ووردتم غير مشربكم) (ابتداراً، زعتم خوف الفتنة ألاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ] (التوبة : 49)).

وتبيّن (سلام الله عليها) لهم العاقبة (فنِعمَ الحكمُ الله والزعيم محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، ولا ينفعكم إذ تندمون، و [لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ] (الأنعام:67) و [سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ] (هود : 39)).

فإذن يتحصل من خطاب السيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) أن الأسباب عديدة والمسؤولية يتحملها طرفان:

الأول: بعض رجال الدين بانقيادهم لأهواء النفس وميلهم لحب الدنيا وتزيين الشيطان وحسدهم لأهل الحق وتصدّيهم لمواقع ليسوا مؤهلين لها

ص: 143

(فوسمتم غير إبلكم ووردتم غير مشربكم) حتى طُبع على قلوبهم فحرموا من التدبر في الآيات الكريمة والروايات الشريفة فأخذوا يأوّلونها ويحرفون معانيها.الثاني: عامة الناس بجهلهم وحماقتهم وسذاجتهم وميلهم إلى الدعة والراحة وتخاذلهم عن نصرة من تجب طاعته وسكوتهم عن المنكر والباطل، ونعيقهم مع كل ناعق وخوضهم مع الخائضين وإسراعهم إلى الشبهات والقيل والقال وتصديق المدّعين وعدم تصحيحهم للأخطاء التي يقعون فيها وعدم توبتهم من الذنوب التي يرتكبونها.

وهذه الأسباب لحصول الانحراف وابتعاد الناس عن الحق موجودة في كل زمان، لذا يعلن الحديث النبوي الشريف أن الله تعالى يهيئ في كل جيل من يواجه هذا الانحراف، وكانت الصدّيقة الطاهرة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) على رأس من اجتباهم الله تعالى لأداء هذا الدور العظيم، فكانت هذه واحدة من الوظائف المباركة التي قامت بها الصدّيقة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ)، وتحمّلت بسبب قيامها هذا الكثير من المشقة والمعاناة والظلم فهتكوا حرمة دارها التي أذِن الله لها أن ترفع، وقام القوم بإيذائها جسدياً ومعنوياً ومنعها من البكاء على أبيها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى قضت شهيدة صابرة محتسبة في مدة قصيرة.

ووقف أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عند دفنها مخاطباً رسول الله، ومما قال في إدانة الانقلابيين وتجريمهم: (وسَتُنبِّئُك ابنتك بتضافر(1) أمتك على هضمها، فأحْفها

ص: 144


1- لاحظ التعبير عن اشتراك أكثر الأمة بهضمها لأنهم بين من قام بالعدوان أو رضي به أو سكت عنه.

السؤال، واستخبرها الحال)(1).أيها الأحبة:

إن الصدّيقة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) أسوة لنا جميعاً بل هي حجة علينا جميعاً، فلنأخذ منها هذا الدرس الشريف ونسير على هديها ونعمل جميعاً على حمل رسالة الإسلام ومذهب أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) إلى الدنيا بأسرها، ونحميها من الانحراف والبدع والضلالات والشبهات وندافع عنها، ولا يقول أحدٌ: إن هذه وظيفة الحوزة العلمية ورجال الدين، فهذا تفكير غير صحيح، والفرصة متاحة للجميع أن يكونوا من هؤلاء المدافعين عن الدين ضمن الإطار الذي تضعه المرجعية الدينية الرشيدة العارفة بطبيعة الظروف.

والحديث النبوي الشريف يدعوكم جميعاً لكي تكونوا من حماة الدين وحملته بعد أن تهذّبوا أنفسكم وتتعلموا من العلوم والمعارف الدينية ما يؤهلكم لأداء هذا العمل المبارك، لأن الحديث لم يخصص هذه الوظيفة الشريفة –أي حمل الدين وحمايته- بشخص أو فئة أو شريحة معينة كالحوزة العلمية والمؤسسة الدينية، ولا بالرجال دون النساء، وإنما وصفت هؤلاء الذين يحملون الدين ويحمونه أنهم عدول موجودون في كل قرن، فابذلوا وسعكم لتكونوا منهم وتلتحقوا بالركب الذي قادته الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) على نهج أبيها وزوجها أمير المؤمنين (صلوات الله عليهما وآلهما).

والفرصة أوسع ما تكون هذا الزمان لسهولة الحصول على المعلومة وسهولة إيصالها إلى أي شخص أو جهة في أنحاء العالم نتيجة التطور الهائل في تقنيات

ص: 145


1- نهج البلاغة: خطبة 202.

الاتصال، كما أن الحجة اليوم أكبر على الجميع للقيام بمسؤولياتهم في إيقاظ الآخرين وتوعيتهم وإرشادهم وهدايتهم، حيث لا يقتصر المدعوون اليوم على غير المسلمين لهدايتهم إلى الإسلام، ولا على غير أتباع أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من المسلمين لهدايتهم إلى ولاية أهل البيت والأخذ منهم، بل ابتلينا داخل إطار مدرسة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بالبدع والضلالات والتجهيل والتخلف وتسطيح العقول، كما ابتلينا أيضاً بصناعة القيادات غير الصالحة وغير المؤهلة لهذه المواقع الشريفة وأصحاب الدعاوى الضالة الباطلة، واستخدم في الترويج لذلك المال والإعلام والمكر والأساليب الخادعة.لقد وضع الأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) معالم القيادة والمرجعية التي تتبعونها في أحاديث بعضها معروف لديكم، ومنها ما رواه الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن جدّه أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (اعرفوا الله بالله، والرسول بالرسالة، وأولي الأمر بالأمر بالمعروف والعدل والإحسان)(1).

فتثبّتوا ممن ترجعون إليه أن يكون حاملاً للرسالة الإلهية مدافعاً عنها حامياً لها، وآمراً بالمعروف والعدل والإحسان صائناً لها من الانحراف والتأويل والبدع.

وفي الرواية عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): إن لكم معالم فاتبعوها، ونهاية فانتهوا إليها)(2). وفقنا الله تعالى وإياكم لما يحب ويرضى.

ص: 146


1- أصول الكافي، ج1، كتاب التوحيد، باب: أنه لا يعرف إلا به، ح1.
2- بحار الأنوار: 2/ 99، ح52، عن المحاسن: 272.

السيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) وإقامة حكم الله تعالى

السيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) وإقامة حكم الله تعالى(1)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيد خلقه أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

ورد في أحاديث شريفة عديدة عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله: (إن لكل شيء حقيقة)(2) وهذه الحقيقة تمثل روح ذلك الشيء ومضمونه الفعلي ومحتواه الذي يتقوّم به، ولا تتحقق للشيء مصداقية إلا به، ولا يكون الشيء بدون هذه الحقيقة إلا عبارة عن شكل وظاهر بلا محتوى.

فالصلاة لها حقيقة وهي المناجاة مع الله تبارك وتعالى والارتقاء إليه والانتهاء عن الفحشاء والمنكر، وتنقص قيمة الصلاة وحقيقتها بمقدار خلوّها من هذه الحقيقة، عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بُعداً)(3).

وقولنا في سورة الفاتحة [إِيَّاكَ نَعبُدُ] له حقيقة هي الطاعة التامة لله تعالى والتسليم والانقياد المطلق له تبارك وتعالى في سائر أمورنا وحركاتنا وسكناتنا.

وكل حقيقة تحتاج إلى دليل يبرزها ويؤكدها ويثبت وجودها، ومن دونه

ص: 147


1- الخطاب الفاطمي السنوي لسماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) في الآلاف من الجموع التي جاءت لزيارة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في ذكرى استشهاد الصديقة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) يوم الثالث من جمادى الآخرة، عام 1435 الموافق 3/نيسان/2014 قبل انطلاقهم في التشييع الرمزي .
2- راجعها في ميزان الحكمة: 1/ 285.
3- ميزان الحكمة: 5/ 109.

تكون الأشياء مجرد دعاوى، ويؤكد هذا الأمر الإمامُ الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في وصيته لهشام بن الحكم، قال (سلام الله عليه): (يا هشام لكل شيء دليل ودليل العاقل التفكر ودليل التفكر الصمت)(1) فلا بد أن لا نسلّم بالأمور والدعاوى حتى نتحقق من الدليل، ولا نسترخي للأوصاف التي ندّعيها لأنفسنا ونثبتها في هويتنا كالإسلام والتشيع وولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من دون أن نراقب أنفسنا ونتفقدها باستمرار ونمتحنها لنتلمس الدليل على صدق هذه الدعاوى.هذه المقدمة تلقي الضوء على واقع مؤسف نعيشه نحن المسلمين وهو أننا ندعي عناوين كثيرة من دون تقديم الدليل على وجود حقائقها بل قد نقوم بالعكس من ذلك، فتخالف أقوالنا أفعالنا، لذا يعلمنا الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الدعاء المروي عنه في يوم عرفه الاعتراف بهذا التقصير أمام الله تبارك وتعالى: (ومن كانت حقائقه دعاوى فكيف لا تكون دعاواه دعاوى)(2) ويعلمنا الائمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ان نسال الله تعالى (استحقاق حقائق الايمان) (3).

وأهم تلك العناوين التي يجب أن نتأكد من وجود حقيقتها هو الإيمان بالله تبارك وتعالى لأنه أصل الدين وأساس الفوز والسعادة في الدنيا والآخرة، وتأكيداً لهذه الأهمية فقد كان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) يلفتون نظر الناس إلى تفقد هذه الحقيقة فيسألون من يقولون: (نحن مؤمنون) ويقولون لهم: (فما حقيقة إيمانكم) أو يبدؤونهم بالبيان كقول الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لا

ص: 148


1- تحف العقول: 246.
2- مفاتيح الجنان، 315.
3- في الدعاء الذي اوله (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ إِخْبَاتَ الْمُخْبِتِينَ)

يبلغ أحدكم حقيقة الإيمان حتى يكون فيه ثلاث خصال.. إلى آخر الحديث)(1).وقد بينت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة ما تكتمل به حقيقة الإيمان، قال تعالى: [فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً] (النساء : 65).

فيقسم الله تبارك وتعالى على هذه الحقيقة [فَلا وَرَبِّكَ] ويحصر الإيمان بها [لا يُؤمِنُونَ حَتى يُحَكّمُوكَ] ويعطينا قاعدة مهمة من قواعد العقيدة في الإسلام، وهي أن أهم مظهر للتوحيد والإيمان بالله هو إقامة حكم الله تبارك وتعالى في الأرض، وتطبيق شريعته في شؤون الحياة والرجوع إليه في الحكم والالتزام بمنهجه في الحياة، وإن هاتين القضيتين متلازمتان، وإن جوهر الصراع بين الإيمان وخصومه هو في من له حق الحاكمية والتشريع ورسم المنهج الذي تسير عليه البشرية، هل هو الله تعالى خالق الكون والانسان والعالم بما يصلحه ويسعده، أم الإنسان بقصوره وفقره وعجزه ومصالحة المتصارعة وأهوائه المتقلبة [وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ] (المؤمنون:71)؟.

لذا فإن الآية الكريمة تؤكد على أن الإيمان الحقيقي يكتمل بثلاثة عناصر:-

1-الرجوع إلى شريعة الله تعالى التي بلّغها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والأئمة المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ومن بعدهم العلماء العاملون المخلصون [حَتَّى يُحَكِّمُوكَ]

ص: 149


1- ميزان الحكمة: 1/ 286.

أي يرجعون إليك في كل أمورهم ويأخذون الحكم منك ولا يحكمون غيرك وغير من نصبتهم من الحجج، وإن كل قانون يضعه البشر لم يؤخذ من الشريعة فإنه باطل وينافي أصل الإيمان بالله تعالى ولا يجوز لأحد أن يشرّع ويقنن خارج النصوص الشرعية.2-أن يسلّموا بتلك الأحكام ويذعنوا إليها ويؤمنوا بها سواء أدركوا المصلحة فيها وعرفوا أسرار تشريعها أو لم يدركوا ذاك، وأن لا يشعروا بالحرج والضيق إذا عاب أحد عليهم هذه الأحكام أو انتقصها أو زعم أنها تخالف حقوق الإنسان وتنافي الحرية والعدالة والمساواة، أو أنها رجعية وتخلف ولا تواكب الزمان الحاضر، ونحو ذلك من التهم والاستفزازات.

3-أن يلتزموا بتلك الأحكام ويطبقوها في حياتهم من دون تبعيض وانتقائية للأحكام التي توافق رغباتهم وأهوائهم ومصالحهم، ويعرضون عنها إذا كانت لا تحقق مصالحهم الضيقة وتصطدم مع أهوائهم وشهواتهم، وإنَّ صدق الإيمان يظهر عندما يكون الحكم على خلاف الهوى والمصلحة ومع ذلك يسلِّم له ويطبقه ولا يجد في نفسه حرجاً منه.

روى الشيخ الكليني في الكافي بسند صحيح عن عبد الله بن يحيى الكاهلي قال: قال أبو عبد الله الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لو أن قوماً عبدوا الله وحده لا شريك له، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجوا، وصاموا شهر رمضان، ثم قالوا لشيء صنعه الله أو صنعه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): ألا صنع خلاف الذي صنع؟ أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين، ثم تلا هذه الآية: [فلا وربك لا يؤمنون..] ثم قال

ص: 150

أبو عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): عليكم بالتسليم)(1).ولقد أكد القرآن الكريم هذه الحقيقة في آيات كثيرة، قال تعالى: [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ] (الأحزاب : 36) وقال تعالى: [وَأَنَّ هَ-ذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ] (الأنعام: 153)، وقال تعالى: [إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ](آل عمران:19)، وقال تعالى: [وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ] (آل عمران:85) وغيرها.

والروايات الشريفة حافلة أيضاً بهذه المعاني، وقد حظيت أحكام ما يعرف اليوم بالأحوال الشخصية باهتمام كبير من الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ولم يعذروا من يطبق القوانين الوضعية ولا يرجع إلى الأحكام الشرعية لأنها تنظم أموراً أساسية في حياة الأفراد كالزواج والطلاق والمواريث وأي خلل فيها يعني وقوع الناس في المحرمات في ذرياتهم وأموالهم، ولا مجال فيها للاعتذار بالتقية ونحوها لأنها قضايا شخصية لا تتعارض مع السلطات، وتحركوا بالوسائل المتاحة لهم (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ليقنعوا الأمة بها(2).

ص: 151


1- الكافي: 1/ 321، ح2.
2- ويصل الاهتمام إلى درجة أن الإمام يسعى لإقامتها ولو بالقوة، في رواية صحيحة في الكافي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (لا يستقيم الناس على الفرائض –أي المواريث- والطلاق إلا بالسيف) ومثلها عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ). وفي رواية أخرى عن أحدهم قال: (سألت أبا عبد الله الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن النساء هل يرثن من الرباع –أي الأراضي-؟ فقال: لا، ولكن يرثن قيمة البناء، قال: قلت: فإن الناس لا يرضون بذا؟

أيها الأحبة المجتمعون لنصرة الصديقة الطاهرة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ):إن السيدة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) حينما قامت بأمر الله تعالى في وجه الانحراف والظلم وطالبت بحقها في فدك وحاججتهم بآيات المواريث إنما أرادت أن تنطلق من هذا الحكم المتعلق بالأحوال الشخصية إلى مطلب أوسع وأعظم وهو إقامة شريعة الله تعالى في الأرض وعلى رأسها اتباع الإمام الحق والقيادة الصالحة المصلحة المتعيّنة بأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، والقوم قد فهموها هكذا؛ لذا أرادوا قطع الطريق من أوله على مشروع السيدة الزهراء ((يقول ابن أبي الحديد المعتزلي في أمر فدك: وسألت علي بن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد –وهو من علماء العامة- فقلت له: أكانت فاطمة(عَلَيْهِا السَّلاَمُ):صادقة؟ قال نعم. قلت: فلِمَ لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة؟ فتبسّم ثم قال: لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها لجاءت إليه غداً وادعت لزوجها الخلافة، وزحزحته عن مقامه، ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشيء؛ لأنه يكون قد أسجل على نفسه أنها صادقة في ما تدعي كائناً ما كان من غير حاجة إلى بينة ولا شهود. قال ابن أبي الحديد: وهذا كلام صحيح))(1).

وهذا ما يقوم به الأعداء على طول التأريخ منذ أن صدع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالدعوة الإسلامية المباركة فيعملون على إجهاض كل حركة لإيقاظ الناس وتفعيل دور الدين في حياة الأمة ويسعون لإبقاء الأغلال التي تكبّل الأمة

ص: 152


1- شرح نهج البلاغة: 16/ 284.

ويحيطون الحركة بالتشويه والتسقيط والشبهات كما حصل اليوم في مواجهة القانون الجعفري لتبقى الغشاوة على عيون الناس وإلحاق الهزيمة بالإسلام، وهذا يفسّر اجتماع كل القوى في الداخل والخارج على معارضة القانون وهو ما يزال مسودّة لم يعرض للنقاش أصلاً؛ لأنهم يخشون من آثاره المباركة اللاحقة على الأمة.لقد كانت الصديقة الطاهرة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) حازمة وصريحة في وعظهم وتحذيرهم بأنهم يعودون إلى جاهليتهم الأولى إذا خالفوا حكم الله تعالى، قالت (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) في خطبتها: (وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا، أفحكم الجاهلية تبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون؟ أفلا تعلمون؟ بلى قد تجلى لكم كالشمس الضاحية أني ابنته)(1).

فتذكرهم (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) بقوله تعالى: [أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ] (المائدة:50) ويفسّرها الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بقوله: (الحكم حكمان حكم الله وحكم الجاهلية وقد قال الله عز وجل: [وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ] واشهدوا على زيد بن ثابت لقد حكم في الفرائض –أي المواريث- بحكم الجاهلية)(2)، والكلام شامل لغير زيد ممن خالفوا حكم الله تعالى.

أيها الأحبة:

إن تطبيق الأحكام الشرعية وتنظيم شؤون الحياة على أساسها قضية حدية

ص: 153


1- الاحتجاج: 1/ 131.
2- الكافي: 7/ 407.

فاصلة لا تقبل المساومة والمداهنة والتبعيض أو التأجيل بحجة أن الوقت غير مناسب أو أي عذر آخر، فلا تسويف لأمر الله تعالى فإما أن يُطبَّق حكم الله تعالى وإما أن يكون الحكم حكم أهل الجاهلية، روي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله: (الحكم حكمان: حكم الله وحكم الجاهلية فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهلية)(1).إن فهم هذا الصراع والنهوض بمسؤولية الدفاع عن الإسلام وإقناع البشرية به وبقدرته على قيادة الحياة –كما عبّر السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) حينما عنون أحد كتبه بذلك- هو سر انقسام المرجعية الدينية والحوزة العلمية إلى خطين وقيادتين متباينتين في المنهج والسلوك، أولهما عالم فاعل عامل لا يكتفي بتنميق الكلمات على الأوراق فقط بل يتحرك ويواصل الليل بالنهار ليعيد للإسلام هيبته وعزته وللمسلمين كرامتهم وحريتهم وثقتهم بأنفسهم ويدلّهم على معالم هويتهم المسلوبة من خلال ما يقدّم من نظريات وتشريعات ومنظومات فكرية ومعرفية تثبت أن دين الإسلام هو أصلح نظام للبشرية اليوم وغداً كما كان بالأمس، فألّف الشهيد الصدر الأول (قدس سره) اقتصادنا وفلسفتنا ومجتمعنا والأسس المنطقية للاستقراء والبنك اللاربوي وغيرها، مما أبهر عقول خصومه وأصدقائه على حد سواء؛ لذا لا نستغرب قيام الحكومة الروسية رمز النظام السياسي والاقتصادي الذي استهدفه في كتبه بنصب تمثال(2) للسيد

ص: 154


1- التهذيب: 6/ 218، ح5، باب من إليه الحكم وأقسام القضاة والمفتين.
2- وُضع التمثال النصفي في جامعة موسكو الحكومية للعلاقات الدولية التابعة لوزارة الخارجية الروسية ورفع الستار عنه يوم الجمعة 28/ 2/ 2014 في احتفال حضره مثقفون وأكاديميون وسياسيون روس، ورؤساء عدد من البعثات الدبلوماسية.

الشهيد الصدر الأول العالم العربي المسلم الوحيد الذي يكرَّم بهذا الشكل في قلب عاصمة الاتحاد السوفيتي سابقاً وفي أهم صروحها العلمية في موسكو باعتباره صاحب إنجازات إنسانية عظيمة، بينما تُعرض الحوزة النجفية عنه وعن آثاره والاحتفال به –ونحن نعيش ذكرى استشهاده الرابعة والثلاثين- وكأنه ليس مفخرتها وجوهرتها ووجهها الناصع (1).إن من أهم أشكال النصرة للسيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) وللمعصومين جميعاً لنكون صادقين في قولنا لهم عند زيارتهم (عَلَيْهِم السَّلاَمُ): (ونصرتي لكم معدة) هو السعي الدؤوب لهداية الناس وإرشادهم، والضغط المستمر لإقرار القوانين التي تنظم حياتهم وفق الشريعة الإلهية خصوصاً في الأحوال الشخصية كالزواج والطلاق والميراث والوصية والوقف لأنها لا تتنافى مع حق أحد ولا تسلب حرية أحد ولا تكره أحداً على خلاف ما يعتقد.

إن الله تبارك وتعالى حذّرنا بشدة من العمل بالقوانين الوضعية التي تتنافى وأحكام الدين، قال تعالى: [وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ] [وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] [وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ] (المائدة:44، 45، 47).

ويؤكد الله تعالى على نبيه أن لا يتأثر بالمغريات والتهديدات والتسقيط الإعلامي ونحو ذلك من الضغوط لترك العمل بالقوانين الإلهية، قال تعالى:

ص: 155


1- بعد ايام من هذا النقد اللاذع اقام السيد جعفر نجل السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) مجلسا تأبينيا حوزويا وليس سياسيا كما اعتاد عليه السياسيون في السنوات السابقة، واُقيم المجلس في جامع الطوسي في النجف الاشرف يوم الاربعاء 9- 4- 2014 وحضره سماحة المرجع اليعقوبي ومراجع الدين وممثلوهم وعلماء وفضلاء الحوزة واعداد غفيرة من المؤمنين .

[وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ] (المائدة:49) ثم يبين الله تعالى أن أحسن الأحكام وأصلحها للبشر وأكثرها ملاءمة لطبيعة تكوينه الفردي والاجتماعي هي أحكام الله، قال تعالى: [أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ] (المائدة:50).فلنراجع واقعنا ولننظر هل مناهج التعليم المتبعة موافقة للشريعة؟ وهل العلاقات الاجتماعية القائمة بيننا منضبطة بتعاليم الإسلام؟ وهل السنائن العشائرية التي يحكمون بها مأخوذة من الشريعة؟ وهل وهل .. مما يطول ذِكره.

لقد سجّلت المؤمنات الرساليات من حرائر العراق المتأسّيات بالسيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) والعقيلة زينب (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) موقفاً مشهوداً في نصرة دين الله تعالى حين عقدن تجمعات حاشدة بالآلاف في مختلف المدن العراقية للمطالبة بتصحيح مواد قانون الأحوال الشخصية وفق الأحكام الشرعية، ووجّهن صفعة شديدة لمن يريد إبقاء المجتمع العراقي المسلم المؤمن يعمل على وفق قوانين الجاهلية.

وأعادت هؤلاء النسوة للمرأة عموماً الثقة بنفسها وبقدرتها على إحداث التغيير والإصلاح وانتزاع الحقوق، تلك القدرة التي سُلبت منها عبر الأجيال نتيجة لعوامل عديدة، وساعدت نفس المرأة على استلابها باستكانتها واستسلامها وخضوعها للأعراف والتقاليد والثقافات التي لا تمت إلى الإسلام بصلة، وتناست المرأة أن من أهم ثمرات ونتائج القيام الفاطمي والزينبي هو إعادة الثقة للمرأة بنفسها وأنها قادرة على انتزاع الحقوق وإيقاظ الأمة وإعادة

ص: 156

الأمور إلى نصابها، فقامت هذه النسوة بتذكير الأمة بهذه الثمرة المباركة للقيام الفاطمي الزينبي العظيم.وها هي الانتخابات البرلمانية مقبلة بإذن الله تعالى، وتشكل النساء نصف عدد الناخبين تقريباً فهن إذن الرقم الصعب القادر على قلب الطاولة على رؤوس كل دهاقنة السياسة وتجار الحروب وأصحاب الأجندات الظالمة الفاسدة من الداخل والخارج.

لقد كان من بركات هذه اليقظة وهذا الحراك الفكري والاجتماعي وإثارة مكامن القوة الإنسانية في الشريعة الإسلامية التفات المسلمين إلى المطالبة بحقهم في تشريع القوانين الخاصة بهم وجاءت ثمرتها في بريطانيا قبل أيام حيث اعتمدت لأول مرة في محاكمها الشريعة الإسلامية في الإرث والوصية لتنظيم شؤون المسلمين فيها؛ وقد وجدت الحكومة البريطانية(1) في إعطاء هذا الحق للمسلمين خطوة تساعد على شعور المسلمين بالمواطنة وعدم الإقصاء والتهميش، فأتاح الله تبارك وتعالى هذا القرار في عنفوان الجدل حول القانون الجعفري ليكون حجة دامغة على المهزومين والمنبهرين بالغرب وسائر المعترضين على إقرار القانون الجعفري.

أليس من الغريب أن يكون الإسلام بهذه الدرجة من التأثير في بلاد غير المسلمين بينما يستضعفه أبناؤه في بلادهم ويشعرون بالهزيمة الداخلية ويخجلون من إعلان هويتهم والتحرك بمشروعهم!.

فأحيوا أيها الأحبة خصوصاً الشباب والمثقفين وطلبة الجامعات- في

ص: 157


1- اعلنت وزارة الخارجية البريطانية ذلك على موقعها باللغة العربية يوم 22-3-2014 ووصف بعض ذوي الشأن القرار بأنه (مدهش) ويساعد على دمج المسلمين في المجتمع البريطاني

نفوسكم الشعور بالفخر والاعتزاز ورفعة الرأس وأنتم تنتمون إلى هذا الدين العظيم، وأحسِّوا بقيمة كلمة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إلهي كفى بي عزّاً أن أكون لك عبداً، وكفي بي فخراً أن تكون لي ربّاً، إلهي أنت كما أحب فاجعلني كما تحب) في حين يتخذ غيرهم ارباباً من اهوائهم وشهواتهم وفراعنتهم او موروثاتهم فيطيعونها من دون الله .أيها الإخوة والأخوات المجتمعون على ولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ):

اعلموا أنكم بنصرتكم للسيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) والقانون الجعفري ساهمتم في رفع جزء من البلاء والتيه الذي كان ستقع فيه الأمة لو أجمعت على خذلان دين الله تعالى ولم يجد الدين انصار مثلكم، قال الله عز وجل: [وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ] (هود:117) وقال تعالى: [وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَ-كِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ] (البقرة:251) وقال تعالى: [فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ] (يونس:98).

نسأل الله تعالى أن يمدّ المؤمنين والمؤمنات بنصره ويزيد في توفيقهم ويكلل جهودهم بالنجاح ببركة إحيائكم لهذه الشعيرة المقدسة والله ولي التوفيق

ص: 158

السيدة الزهراء سو وراثة المستضعفين

السيدة الزهراء سو وراثة المستضعفين(1)

قال الله تبارك وتعالى (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص :5-6)

لما عقد المنقلبون على الاعقاب عزمهم على نبذ كتاب الله تعالى وراء ظهورهم ومخالفة وصية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في الخليفة من بعده وإقصاء أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن مقامه، وواجهوا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بذلك الكلام القاسي الذي فيه إعلان الحرب على الله تعالى ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في رزية يوم الخميس عندما أراد أن يؤكد الوصية ويكتب لهم كتاباً لن يضلّوا بعده أبداً، وقال قائلهم (إن الرجل ليهجُر)، جمع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أهل بيته خاصة ونظر اليهم وبكى وقال لهم (أنتم المستضعفون بعدي).(2)

وظاهر الحديث وبقرينة الظروف التي صدر فيها أنه إخبار بأمرٍ محزن ومؤلم بأن زعماء الإنقلاب سيظلمونهم ويعتدون عليهم بألوان الإيذاء، ولا

ص: 159


1- الخطاب الفاطمي السنوي العاشر الذي القاه سماحة المرجع اليعقوبي دام ظله على جموع المعزّين بذكرى استشهاد الصديقة الزهراء (عليها السلام) يوم 3/ج2/ 1436 المصادف 24/ 3/ 2015
2- تفصيل الواقعة في بحار الأنوار: 22/ 469 عن كتاب (إعلام الورى بأعلام الهدى:140-143) و (الإرشاد:96-100) وأورد الحديث الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): 2/ 72 باب31 ح303.

يتورعون عن قتلهم وفعل اي شيء يتطلّبه مشروعهم، وفي الحديث إشارة إلى أن فعل القوم بأهل بيت النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سيشابه فعل فرعون ببني إسرائيل حينما استضعفهم كما في قوله تعالى (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص/4) وهكذا فعل القوم بآل بيت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقد كان شعارهم الذي صرّحوا به في يوم عاشوراء (لا تبقوا لأهل هذا البيت من باقية) روى في تفسير القمي عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (لقي المنهال بن عمرو علي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال له: كيف أصبحت يابن رسول الله، فقال: ويحك أما آن لك أن تعلم كيف أصبحت، أصبحنا في قومنا مثل بني إسرائيل في آل فرعون يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا) (1).

واستشهد أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بقول هارون أخي موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي) (الأعراف/150) عندما أجبروه على بيعة أبي بكر فقال: إن أنا لم أفعل فمه؟ قالوا إذاً والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك، قال: إذاً تقتلون عبد الله وأخا رسوله) فالتفت إلى قبر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وخاطبه بقول هارون لأخيه موسى في الآية الشريفة(2).

ولما كانت الآيات القرانية لا تختص بزمان دون زمان وإنما تعالج حالات وظواهر وتبيّن سنناً قابلة للتكرار في كل زمان إذا توفرت أسبابها وظروفها، فإن الآية التي تليها وهي قوله تعالى (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي

ص: 160


1- تفسير القمي: 2/ 110
2- الدرر السنية: الفصل الثاني عشر.

الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص/5-6) تعطي للحديث معنىً آخر ملؤه التفاؤل والأمل وفيه وعد بالنصر والتمكين في الأرض ووراثتها ومن عليها واستعادة الحق لأهله وجعل الأئمة والقادة منهم لأن الإرادة الإلهية تعلقت بذلك (ونريد) فلا تتخلف (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ)(الروم6)، فوصف النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أهل بيته بالمستضعفين فيه إشارة الى انطباق الآية عليهم (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ولعلهم مقصودون أكثر من موسى وهارون (عَلَيْهِما السَّلاَمُ) بالوعد الإلهي لورود كلمة (منهم) فيها وليس (منه) أو (منهما) فيما لو كان المقصود موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أو هو وأخاه هارون، بل أن لفظ الحديث يفيد حصر الوصف بهم (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) كما لا يخفى على المتأمل في الحديث، ويجعلهم أيضاً المقصودين بالآية الشريفة. هذه سنة الهية ثابتة، في عباده المستضعفين واعدائه المستكبرين قال تعالى (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ) (الأعراف137).

وكان الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) يصرِّحون بهذا المعنى في عدة روايات ليطمئنوا شيعتهم ويزرعوا الأمل فيهم ويدفعوهم الى العمل المثمر وليردعوا أعداءهم عن الظلم، ففي معاني الأخبار للصدوق بسنده عن المفضّل قال سمعت أبا عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول (إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نظر إلى علي والحسن والحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فبكى، وقال: أنتم المستضعفون بعدي) قال المفضّل فقلت له: وما معنى ذلك يا

ص: 161

ابن رسول الله قال معناه: أنكم الأئمة بعدي إن الله عز وجل يقول (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) فهذه الآية جارية فينا إلى يوم القيامة).(1)وفي مجمع البيان.. صحت الرواية عن أمير المؤمنين علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال (والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لتعطفنّ الدنيا علينا بعد شماسها –أي امتناعها- عطف الضروس(2) على ولدها، ثم تلى الآية.

وفي كتاب الغيبة للطوسي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في تفسير الآية قال (هم آل محمد يبعث الله مهديهم بعد جهدهم فيعزَّهم ويذل عدوهم)(3).

والآية جارية بعد الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)في شيعتهم، روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله (من أراد أن يسأل عن أمرنا وأمر القوم- اي خصومهم - فإنا وأشياعَنا يوم خلق الله السماوات والأرض على سنة موسى وأشياعه، وإن عدونا وأشياعه يوم خلق الله السماوات والأرض على سنة فرعون وأشياعه فنزلت فينا هذه الآيات)(4).

وقال سيد العابدين علي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (والذي بعث محمداً بالحق بشيراً ونذيراً، ان الأبرار منا أهل البيت وشيعتهم بمنزلة موسى وشيعته، وان

ص: 162


1- معاني الأخبار: 79 باب31 ح1.
2- وهي الناقة سيئة الخلق تعض حالبها فإذا كانت كذلك حامت عن ولدها، وقيل الضروس الناقة يموت ولدها أو يذبح فيحشى جلده فتدنو منه وتعطف عليه.
3- نور الثقلين: 4/ 110
4- بحار الانوار: 24/ 170 ح8

عدونا وأشياعهم بمنزلة فرعون وأشياعه).(1)فالخصم قد تكون له جولة يغلب فيها وتكون بيده السلطة ويحكم قبضته على أولياء الله تعالى، ويستضعفهم وقد تطول مدة فرعنته ولكن الدولة والنصر والغلبة يكون في النهاية لأهل الحق الذين استضعفوا ويذهب ما سواه جفاءاً كالزبد.

وإنما سموا مستضعفين لأن أعدائهم يتوهمون فيهم الضعف بعد أن يسلبوهم كل أسباب القوة الظاهرية من السلطة والمال والنفوذ ويحاصروهم ويطوقوهم فيستكبرون عليهم ويظلمونهم، وهم ليسوا ضعفاء في ذاتهم بل انهم يملكون اسباب القوة، لكن لهم دين وورع وأخلاق وخوف الله تعالى يجعلهم يقدمون المصالح العليا للدين والمجتمع على المصالح الشخصية، ويمنعهم عن اتباع أساليب المكر والخداع لتحقيق مآربهم، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (ولكن الله سبحانه جعل رسله أولي قوة في عزائمهم، وضعفةً فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعةٍ تملأ القلوب والعيون غنى، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذىً).(2)

وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال في الثناء على أحد أصحابه المخلصين (كان لي فيما مضى أخ في الله وكان ضعيفاً مستضعفاً، فإن جاء الجدّ فهو ليث غاب، وصلّ واد).(3)

أيها الأحبة المفجوعون بمصيبة بضعة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وروحه التي بين جنبيه:

ص: 163


1- مجمع البيان: 4/ 375.
2- نهج البلاغة، الخطبة :192.
3- نهج البلاغة، الحكمة 289.

لقد أرادت السيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) بمواقفها الرسالية أن تهدي الامة الى المنهج الذي يوصلهم الى نيل هذا المنّ الإلهي ليتخذ منهم قادة العالم ويمكنهم في الأرض ويجعلهم الوارثين باتباعهم علياً والأئمة من بعده والسير على هداهم، قالت (سلام الله عليها) في بعض كلماتها (أما والله لو تركوا الحق على أهله واتبعوا عترة نبيّه لما اختلف في الله اثنان ولورثها سلف عن سلف وخلف بعد خلف حتى يقوم قائمنا التاسع من ولد الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، ولكن قدموا من أخره الله، وأخروا من قدمه الله، حتى إذا الحدوا المبعوث وأودعوه الجدث المجدوث إختاروا بشهوتهم وعملوا بآرائهم، تباً لهم أولم يسمعوا الله يقول (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(القصص68) بل سمعوا ولكنهم كما قال الله سبحانه (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)(الحج46) هيهات بسطوا في الدنيا آمالهم، ونسوا آجالهم فتعساً لهم وأضل أعمالهم، أعوذ بك ياربّ من الحور بعد الكور)(1).فالصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) تدلّ الامة على ان وراثتهم الارض وتمكينهم فيها حتى تكون يدهم العليا وغيرها من البركات تتحقق بوحدتهم خلف قيادتهم الحقة وطاعتهم لها والتجرد عن الاهواء والتعصبات والانفعالات والتحزّبات والانانيات، وبذلك يحبطون خطط المستكبرين في استضعاف الناس من خلال تمزيق وحدتهم وجعلهم جماعات وأحزاباً ويضرب بعضهم بعضاً،

ص: 164


1- موسوعة المصطفى والعترة للشاكري: 4/ 363 عن عوالم المعارف:11/ 228، الجدث: القبر، والمجدوث: المحفور، والحور بعد الكور أي النقصان بعد الزيادة.

قال تعالى (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً)(القصص4) اي فرقاً مختلفة فيفقدون قوتهم في صراعاتهم الداخلية ويسهل استضعافهم لانهم لم يقيموا الدين في حياتهم وتخاذلوا على تطبيقه وتركوا فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً)(الروم32) (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ)(الأنعام65) .وتبين السيدة الزهراء س، ان حركة الامة نحو وراثة الارض والتمكين فيها لابد ان يقف على راسها القائد الجامع للشروط قالت (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) في خطبتها على نساء المهاجرين والأنصار وهي تذكر بركات اتباعهم أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ولأوردهم منهلاً -وهو محل ورود الماء- نميراً –الماء العذب السائغ النامي للجسد- صافياً روياً -كثير- فضفاضاً -واسعاً- تطفح ضفتاه، ولا يترنّق –لا يتكدر- جانباه، ولأصدرهم بطاناً –أي أرجعهم مرتوين مملوئين- ونصح لهم سراً وإعلاناً (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَ-كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) (الأعراف96) (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ)(الزمر51)) (1).

ولا بد ان نعلم ان التمكين في الارض ووراثتها له درجات متفاوتة لا يقتصر على تسلم السلطة والحكم فهذه وسيلة لا غاية وان التمكين الحقيقي هو ظهور وانتشار مشروعهم الالهي واقتناع الناس به فهذا هو المهم لان غرض الرسالات السماوية اصلاح الناس وهدايتهم وارشادهم الى السعادة والفلاح قال تعالى (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً

ص: 165


1- المصدر السابق : 4/ 324

يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)(النور55) .في تفسير العياشي عن أبي الصباح الكناني قال: (نظر أبو جعفر الى أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال: هذا والله من الذين قال الله (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)) فالامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كان من اهل هذه الاية ولم يكن جزءا من السلطة لكنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) استطاع بحكمته وتسديد الله تعالى له بسط مشروعه المبارك.

هذا ولكن علينا أن نأخذ قضية تمكين المستضعفين من أهل الحق كسائر القضايا بحدودها وشروطها ونضعها في موضعها الصحيح من منظومة المعارف والقوانين الإسلامية والسنن الإلهية لأنها من مقتضيات العدل والرحمة الآلهية، أما مجرد تعرضهم للإستضعاف وألوان العذاب لا يجعل صاحبها موعوداً بالنصر والتمكين.

فقد وصُفِت مجاميع اخرى بالاستضعاف لكنها أُنذرت وحُذِّرت لتقصيرهم وتكاسلهم وظلمهم أنفسهم ولانهم رضوا بحياة الخنوع والذل والاستضعاف والاستكانة، وربما داهنوا اهل الباطل ومضوا معه، قال تعالى (ِإنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَ-ئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً) (النساء/97) .

وَوُبِّخَ مستضعفون آخرون لأنهم كانوا قاصرين ولم يبحثوا عن طريق المعرفة بالله تعالى والفقه في الدين والقيادة الحقة، قال تعالى (إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ

ص: 166

مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَ-ئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً)(النساء/98-99) أما الذين وُعدوا بالنصر والتمكين ووراثة الأرض فلهم خصائص وخصال توفرت فيهم لأن الظلم والعذاب والأضطهاد الذي تعرضوا له لم يدفعهم الى التنازل عن مبادئهم وأخلاقهم والتزامهم بالحق، بل حافظوا على وجودهم وعقيدتهم واخلاقهم والالتزام باتباع قيادتهم وما زادهم الاستضعاف الا هدى وصلاحاً ونضجاً.

وقد وردت أوصاف الذين يُمَكّنون في الأرض في عدة آيات منها قوله تعالى (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج/41)، بعد قوله تعالى في وعدهم بالنصر (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (الحج/39).

فتمكينهم في الأرض تكون له بركات وآثار تكشف عن صدق نياتهم وإخلاصهم في أهدافهم وثباتهم على الاستقامة التي أمرهم الله تعالى بها وعدم انخداعهم بالدنيا البرّاقة التي تتزيّن لهم إذا مُكّن لهم في الأرض وهذه الخصائص هي:

1-(أقاموا الصلاة) فهم لا يكتفون بأداء الصلوات المفروضة عليهم كتكليف شخصي، وإنما يبذلون جهدهم لحث الناس جميعاً على الالتزام بها والمواظبة عليها وجعل الصلاة وجوداً اجتماعياً مؤثراً في حياة الناس ورادعاً لهم عن الفحشاء والمنكر ويشعر الجميع بمسؤوليتهم عن إقامته والمحافظة

ص: 167

عليه، وأوضح مصداق لهذا الوجود صلاة الجمعة التي لا تؤدّى إلا جماعة وبحضور امة كبيرة من الناس مما يجعل لها كياناً مؤثراً في حياتهم، وهذا ما جرّبه المجتمع العراقي عندما أقيمت فيه صلاة الجمعة المباركة.2-(وآتوا الزكاة) بأن أخرجوا ما في ذممهم من حقوق شرعية وأقنعوا الآخرين بفعل ذلك وحثّوهم عليه وساعدوهم في إيصال هذه الأموال إلى مستحقّيها وانشئوا بها المشاريع الاقتصادية التي تؤدي إلى رفاه الناس وتوفير فرص العمل المناسبة والحياة الكريمة لهم.

(وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر) فلم يتركوا أهل المنكر يفعلون ما يشاؤون بل وعظوهم وزجروهم واتخذوا الإجراءات الكفيلة بردعهم حتّى لو اقتضى الأمر معاقبتهم، ولم يجاملوا أو يداهنوا كما يفعل الكثير من المتصدين اليوم تحت عناوين مخادعة كالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني وفصل الدين عن الدولة والحداثة والعصرنة والتقدم ونحوها من الخدع والأباطيل.

3-(وأمروا بالمعروف) وهو كل أمر مستحسن شرعاً وعقلاً وأقرّهُ العرف، ونشروه بين الناس وعرّفوهم به وأيقظوهم من غفلتهم وأرشدوهم إلى ما يصلح دنياهم وآخرتهم وعلموهم أحكام الدين وفضائل أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ومناقبهم وسيرتهم العطرة، واقنعوهم باتباع القيادة الحقّة.

هؤلاء هم من ينصرهم الله تعالى ويعزّهم ويؤيدهم ويمكن لهم في الأرض.

إن كثيراً ممن مكنهم الله تعالى ليبتليهم وينظر في سيرتهم تنكّروا لتلك الشروط والصفات المطلوبة فانحرفوا وأفسدوا، فأوعدهم الله بعذابه (فَهَلْ عَسَيْتُمْ

ص: 168

إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ . أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) (محمد:22-23).كالذي نشهده اليوم من تخلّي الكثيرين ممن وصل إلى السلطة عن أهدافهم وشعاراتهم والخصائص التي أشرنا إليها، حتّى آل الأمر إلى هذا الواقع التعيس الذي يعاني منه الكثيرون، وهذا كفر عظيم بالنعمة.

لكن بوادر النهضة والانبعاث تفجرّت من جديد هذه الايام وكانت الهجمة الوحشية لخوارج العصر ومن يقف وراءهم الضارة النافعة التي وحّدت الامة وابرزت مكامن قوتها فتحققت الانتصارات التي اذهلت القريب والبعيد.

ايها الاحبّة:

علينا ان نعترف بالعجز عن شكر الله تعالى على التوفيق لاقامة الشعائر الفاطمية وتشييع السيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) للمرة العاشرة وهذا لا ينال الى بنظرة كريمة منها (سلام الله عليها) اذ لم تأذن لاي احد في تشييعها الا لبضعة افراد من الموالين المخلصين ونأمل ان تكون هذه النهضة خطوة حقيقية على طريق اقامة دولة الحق والعدل (وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً)(الإسراء81).

ص: 169

السيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) والكرامة المطلقة للإنسان

السيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) والكرامة المطلقة للإنسان(1)

قال الله تبارك وتعالى (ولقد كرمنا بني آدم) (الإسراء:70)

تأكيد بعد تأكيد: باللام و (قد) وصيغة التفعيل(2) لهذه الحقيقة الإلهية وهي الكرامة المطلقة للإنسان التي تعتبر من أهم الأصول التي تستند إليها القوانين والتشريعات، هذا التكريم الذي أعلنه الله تعالى لكل الخلائق في الحفل الذي أقيم عند بدء الخلقة الإنسانية للتعريف بخليفة الله تعالى في الأرض حيث أمر الله تعالى ملائكته بالسجود لآدم.

قد حسد إبليسُ الإنسان على هذا التكريم الإلهي، قال تعالى حكاية عن إبليس: [قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَ-ذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً] (الإسراء: 62) أراد اللعين سلب تلك الكرامة منهم بصدهم عن سبيل الحق، فالكرامة الحقيقية هي الوعي بالحق وهو الطريق الذي

ص: 170


1- الخطاب الفاطمي السنوي الحادي عشر الذي القاه سماحة المرجع اليعقوبي(دام ظله) على جموع المعزّين بذكرى استشهاد الصديقة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) في ساحة ثورة العشرين في النجف الاشرف يوم 3/ج2/ 1437 المصادف13/ 3/ 2016
2- ثم أردفها بقوله تعالى: [وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً]، قال السيد الطباطبائي: (وهذا أيضاً أحد مظاهر التكريم فمثل الإنسان في هذا التكريم الإلهي مثل من يدعى إلى الضيافة وهي تكريم ثم يرسل إليه مركوباً يركبه للحضور لها، وهو تكريم ثم يقدم له أنواع الأغذية والأطعمة الطيبة اللذيذة وهو تكريم) (الميزان في تفسير القرآن:15/ 154).

يسلك به الإنسان إلى الله تعالى.وتتفاوت درجات الكرامة عند الله تعالى بحسب درجة التقوى التي يتحلى بها الانسان قال تعالى : {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات : 13] وإن الإنسان يزداد كرامة عند الله تعالى حتى يفوق مقامه الملائكة، ففي الحديث عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (ما شيء أكرم على الله من ابن آدم)(1)، وفي الرواية عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (ما خلق الله عز وجل خلقاً أكرم على الله عز وجل من المؤمن، لأن الملائكة خدام المؤمنين)(2).

وتشرح رواية عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تعليل ذلك فيما نقله عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن الله عز وجل ركّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركب في بني آدم كلتيهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شر من البهائم).

لقد تجلى هذا التكريم في كل أبعاد الإنسان، فجعل جسده [فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] (التين:4) وفي الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (صورة الآدميين وهي أكرم الصور على الله)(3).

وزوده بالعقل وأدوات العلم والمعرفة ليبني الحياة ويعمّرها ويطوّرها وينمّيها بينما المخلوقات الأخرى في دورة حياة ثابتة وسلوك واحد من لدن خلقها إلى قيام يوم الساعة.

ص: 171


1- ميزان الحكمة:1/ 333.
2- ميزان الحكمة:1/ 333.
3- نور الثقلين: 3/ 387، ح 308 عن تفسير القمي.

وجعل ما في الأرض في خدمة الإنسان [وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ] (الجاثية:13) وعلّمه كيف يتمتع بالطيبات ويتفنن في صنعها والاستفادة منها. ومن مظاهر تكريم الإنسان إعطاؤه حرية الاختيار والإرادة والقابلية على التكامل والسمو والارتقاء ثم بعث إليه الأنبياء والرسل وأنزل معهم الشرائع الإلهية ليدلّوه على طريق السعادة والفلاح وليستطيع التمييز بين الخير والشر والهدى والضلال، ولتحفظ كرامة الإنسان وحقوقه.

ان أوضح دليل على صحة وسلامة المنهج المتبع – أيً منهج حتى الاديان – هو سعيه لتحقيق كرامة الانسان وحفظ حقوقه بحيث يجد الانسان انسانيته فيه، اما مناهج التكفير والعنف والاستغلال والاستعباد والاستئثار بثروات الشعوب وقهرها فهي خارجة عن الدين وان تسمّت باسمه وادّعت الدفاع عنه، لان الاديان السماوية شُرّعت لحفظ انسانية الانسان وكرامته وسعادته.

روي عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (يقول الله تعالى: لم أخلقك لأربح عليك، إنما خلقتك لتربح علي، فاتخذني بدلاً من كل شيء، فإني ناصر لك من كل شيء)(1).

إن بيان القرآن لهذه الحقيقة يستهدف:-

1-تأسيس هذه القاعدة الأساسية التي تبنى عليها كل القوانين والأنظمة والتشريعات حتى الدين نفسه وهي كرامة الإنسان التي هي فوق كل شيء وأي قانون أو تشريع يتعارض مع هذا الأصل أو يتنافى مع حقوق الإنسان

ص: 172


1- ميزان الحكمة:1/ 334.

التي وهبها الله تعالى لبني آدم يجب أن يُلغى أو يُعدَّل.2-إلفات نظر الإنسان إلى عظمة مكانته عند الله تعالى وما حباه الله من نعم ليحترم نفسه ويحافظ على طهارتها ونقائها ولا يبيعها بثمن بخس، في الحديث الشريف: (من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهوته)(1).

فالتفات الإنسان إلى هذه الحقيقة يعطيه الثقة بنفسه ويعينه على الثبات والاستقامة، وهذه من الوسائل المهمة في التربية الصالحة.

3-لا تخلو الآية من عتاب للإنسان على تمرده وعصيانه على ربه الذي أكرمه بأفضل ما يكون الإكرام وأغدق عليه من النعم حتى صار الإنسان يقيِّم ربَّه على أساس ما يعطيه من نعم مادية [فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ] (الفجر:15-16).

وهذه الكرامة للإنسان هبة من الله تعالى وإن الإنسان قد يحافظ عليها ويعطيها حقها، وقد يستخف بها ويتنازل عنها قال تعالى: [وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ] (الحج:18) لذا على الإنسان أن يحفظ كرامة نفسه وأن يحفظ كرامة الآخرين بنفس الدرجة، فليس له أن يتنازل عن كرامته أو أن يذل نفسه أو أن يتخلى عن حقوق الإنسانية، في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن الله تبارك وتعالى فوَّض إلى المؤمن كل شيء إلا إذلال نفسه) وعنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه) فقيل له: وكيف يذل نفسه؟ قال

ص: 173


1- نهج البلاغة: ج4، ح449.

(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (يتعرض لما لا يطيق) وفي رواية أخرى (يدخل فيما يُعتذر منه)(1).ويوصينا الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) دائماً بحفظ كرامتنا وعزتنا والترفع عن فعل ما ينافيهما وإن بدا محبباً إلى النفس وموافقاً للشهوات، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (أكرم نفسك عن كل دنية وإن ساقتك إلى رغبة، فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضاً، ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً)(2).

إن كرامة الإنسان تتوفر بتمتعه بحقوقه في الحياة من الحرية والأمن والاستقرار والرفاء وسائر مستلزمات الحياة الكريمة، لكنها تكتمل بأمرين:

1-الالتزام بالدين، عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن الله قد أكرمكم بدينه وخلقكم لعبادته، فانصبوا أنفسكم في أداء حقه)(3)، وروي عنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله: (كل عز لا يؤيده دين مذلّة).

2-طاعة الإمامة الحقة والقيادة المنصوبة من الله تعالى بالحجة الشرعية، فقد جاء في الآية التالية لآية التكريم هذه قوله تعالى: [يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَ-ئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً](الإسراء:71) وهذا شاهد على ارتباط كرامة الإنسان وانسانيته باتباع الإمامة الحقة(4).

ص: 174


1- ميزان الحكمة: 3/ 364.
2- تحف العقول: 77.
3- ميزان الحكمة:1/ 334.
4- روى الكليني بسنده عن علي بن الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن ابيه الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) انه اجاب رجلا سأله فقال : (أما قولك: أخبرني عن الناس، فنحن الناس ولذلك قال الله تعالى ذكره في كتابه: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) فرسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)الذي أفاض بالناس. وأما قولك: أشباه الناس، فهم شيعتنا وهم موالينا وهم منا (وهم اشباهنا ل خ) ولذلك قال إبراهيم(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (فمن تبعني فإنه مني) ، وأما قولك: النسناس، فهم السواد الاعظم واشار بيده إلى جماعة الناس ثم قال:(إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) الكافي : ج8، ص244، ح339.

وقد وصف الله تعالى عباده المكرمين بقوله: [بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ] (الأنبياء:26-27) فهذه هي صفاتهم: متنزهون عن اتباع الشهوات التي تذل الإنسان وتهينه، دائبون في طاعة الله تعالى فاستحقوا منه المقام الرفيع [يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ] (يس:26-27). إن اعتداء الإنسان على كرامة أخيه الإنسان وسلبه حقوقه تبدأ من حين تخلي الإنسان عن كرامته الشخصية واتباعه لشهواته ورضاه بعبودية نفسه الأمّارة بالسوء أو طاعة غيره من العبيد، عن الإمام الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (من هانت عليه نفسه فلا تأمن شرّه) وعن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: (أذلّ الناس من أهان الناس).

إن كرامة الناس كل الناس لا تتحقق إلا في دولة الإنسان وذلك عندما يسود القانون الكريم على يد القائد الكريم وحينما تقام الدولة الكريمة التي تحفظ للجميع حقوقهم وتقوم على أساس المبادئ الإنسانية العليا، فدولة الإنسان أسمى وأرقى من دولة القانون؛ عندما لا يكون القانون صالحا وانما يشرّعه الناس لرعاية مصالحهم الضيقة ووفق رؤيتهم المحدودة والقاصرة ، ولا يكون صالحا الا اذا حفظ كرامة الانسان، لذا كان من الدعاء الذي علّمه الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لشيعته: (اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة)، أما الدولة التي لا تقوم

ص: 175

على أسس الكرامة الإنسانية فإنها تؤول إلى تسلط الأشرار والفاسدين واستعباد الناس ومصادرة حرياتهم والاستئثار بأموالهم وحرمانهم من مظاهر الحياة الكريمة.أيها المؤمنون الموالون:

لقد كان موقف السيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) نوعياً بكل معنى الكلمة وفي مرحلة استثنائية من حياة الأمة التي قُدّر لها أن تقود البشرية جميعاً، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران : 110]، تلك المرحلة التي شكّلت فيصلاً بين خط الكرامة الإنسانية التي وهبها الله تعالى للبشر، وخط الذلة والهوان والفساد والانحراف الذي يزداد انحطاطاً كلما مرّ الزمن.

فوقفت السيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) موقفها العظيم في ذلك الجو الرهيب لتحفظ كرامة الإنسان والأمة التي جاء بها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من الله تعالى، لكن الفترة التي قضاها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في أمته لم تكن كافية لتطهير مجموع الأمة من رواسب الجاهلية وأغلالها وعصبياتها، وإن الأصنام المنصوبة في الكعبة وإن حُطّمت يوم الفتح، إلا أن الأصنام المصنوعة في النفس الأمارة بالسوء من التعصب والجهل والانانية كانت موجودة ومحرّكة لسلوكيات الكثيرين، فكان القيام الفاطمي معزّزاً بعناصر التأثير والصدمة(1) التي أحدثتها السيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) مكمِلاً لرسالة الإصلاح والتطهير التي أداها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من أجل تحرير الإنسان وتكريمه.

ومن أهم معالم الحياة الإنسانية الكريمة التي دافعت عنها الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ)

ص: 176


1- كهيئة خروجها من المسجد وانينها وبكائها وفصاحتها في الخطاب وحججها البالغة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ).

استمرار دولة الإنسان الكريمة التي أسسها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وضَمِن ديمومتها بالقيادة الربانية التي اختارها الله تعالى المتمثلة بأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ومما قالت (سلام الله عليها) في وصف الحياة الإنسانية الكريمة في ظل هذه القيادة الإلهية وما تنعم به الأمة من بركات فيما لو انصاعوا للحق ووّلوا امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) : (ولسار بهم سيراً سُجحاً –أي سهلاً- لا يكلم حشاشه ولا يكل سائره، ولا يمل راكبه، ولأوردهم منهلاً نميراً صافياً، روياً، تطفح ضفّتاه، ولا يترنق –أي يتكدر- جانباه ولأصدرهم بطاناً –أي شبعانين- ونصح لهم سراً وإعلاناً، ولم يكن يتحلى من الدنيا بطائل ولا يحظى منها بنائل غير ري الناهل وشبعة الكافل) (1) أي لا يبقي لنفسه شيئاً دون الأمة كالأب الرحيم الكافل للعائلة فانه يكتفي بالقوت ويعطي ما عنده لعائلته .وبالمقابل حذرتهم من تداعيات الابتعاد عن منهج الكرامة الإلهية ومما قالت (عَلَيْهِا السَّلاَمُ): (وأبشروا بسيف صارم وسطوة معتدٍ غاشم، وبهرج شامل، واستبداد من الظالمين، يدع فيئكم زهيداً، وجمعكم حصيداً، فيا حسرة لكم! وأنى بكم وقد عميت عليكم! [أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ] (هود : 28)) فهذه هي نتائج عدم إقامة الدولة الكريمة : فتن وصراعات وهدر للأموال وفوضى عارمة واستبداد الحكام وفقدان للأمن والاستقرار والنظام.

أيها الأحبة:

لاحظوا المصداقية الكاملة لكلام السيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) فيما نعيشه اليوم وفي كل يوم، وهكذا يجب أن نتدبر في كلماتها (عَلَيْهِا السَّلاَمُ)ونستفيد منها في معالجة

ص: 177


1- الاحتجاج:1/ 139.

مشاكلنا ووضع البرامج الصحيحة لحياتنا، أما الاقتصار على ذكر مظلومية الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) دون التعرض لبيان أهداف حركتها فإنه تقصير في حقها وفي فهم رسالتها المقدسة، فقد كانت (سلام الله عليها) مكمّلة لدور أبيها وبعلها (صلوات الله عليهما) في مشروع بناء دولة الإنسان التي تكون فيها القيمة العليا للإنسان وتُراعى حقوقه في كل القوانين والأنظمة والدساتير، ولا مجال فيها للاستبداد والاستئثار والتخلف والجهل، وتتحقق نصرتنا للسيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) بمقدار مساهمتنا في إنجاح مشروعها العظيم.وإننا إذ نعيش هذه المرحلة الاستثنائية في حياة البشرية وهذه الانطلاقة المباركة للعقيدة التي آمنا بها بعد قرون طويلة من القهر والاضطهاد والحصار يكون المطلوب من السائرين على نهج الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) القيام بالعمل النوعي الذي أرست دعائمه، وعلينا أن نصنع لأنفسنا هذا الدور كالأفذاذ في كل جيل، وليس ننتظر أن يصنعه غيرنا ثم يكلّفنا به، ولا يُنال ذلك الا بتوفيق الله الكريم .

ص: 178

السيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) تبشّر بالوعد الإلهي بالاستخلاف والتمكين

السيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) تبشّر بالوعد الإلهي بالاستخلاف والتمكين(1)

قال الله تبارك وتعالى: [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ] (النور : 55).

يتعرّض المؤمنون في حياتهم إلى ضغوط عديدة من قبل أعدائهم وخصومهم في الفكر والعقيدة، وهذه الضغوط قد تكون على نحو الاستهداف بالقتل والتشريد والسجن والإرهاب، وقد تكون على نحو صناعة المشاكل الاجتماعية والانحرافات الأخلاقية والشبهات العقائدية، وقد تكون على نحو التجويع والحصار الاقتصادي وحرمان الإنسان من حقه في حياة حرة كريمة، وغير ذلك.

ولا يتوقف الخصوم والأعداء عن هذه الممارسات التي تأخذ أشكالاً متعددة قوية عنيفة تارة وناعمة خفية تارة أخرى؛ حتى يهيمنوا على المؤمنين ويتسلّطوا عليهم ويجرّدوهم من عقيدتهم وأخلاقهم ويحبطوا مشروعهم الإصلاحي ويذوّبوا هويّتهم على طريقة العولمة التي يتحدثون اليوم عنها، قال تعالى: [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ]

ص: 179


1- الخطاب الفاطمي السنوي الذي القاه سماحة المرجع الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على عشرات الآلآف من الزوار المحتشدين في ساحة ثورة العشرين لاحياء مراسيم استشهاد الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) يوم الخميس 3/ج2/ 1438 المصادف 2/ 3/ 2017

(البقرة:217) وقال تعالى: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] (البقرة:120) وهم ينطلقون في ذلك من أنانيتهم واستكبارهم وحبهم للدنيا واتباعهم للشهوات وحسداً للمؤمنين على طهارتهم وسموّهم عن الرذائل والموبقات، قال تعالى: [وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ] (البقرة:109).ويساعد على نجاح خطط هؤلاء الأعداء الخارجيين من داخل المجتمع المسلم حمقى ومنافقون وجهلة وطلاب الدنيا وعُبّاد الشهوات.

وفي ظل هذه الضغوط يعيش المؤمنون حالة من الضيق والقلق والخوف واليأس من نجاح مشروع الهداية والإصلاح فيأتي هذا الوعد الإلهي المذكور في الآية ليطمْئنهم ويعيد إليهم الثقة بالنفس ويزرع في قلوبهم التفاؤل والأمل حتى يثبتوا على إيمانهم ويستمروا في أداء رسالتهم، ولا شك أن هذا الوعد حق لا يمكن أن يتخلف [ وَعْدَ اللّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً] (النساء : 122) [لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ] (الروم:6) [إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ] (آل عمران : 9) (الرعد:21).

نعم قد تطول المدة حتى يتحقق هذا الوعد الإلهي ولو في بعض مراتبه؛ لأن بناء المجتمع الصالح يحتاج إلى جهود مضنية وعمل دؤب مع صبر ومصابرة ومرابطة وإلى زمن لتتحقق شروطه وظروفه ومقوماته، فعلى المؤمنين أن يستمروا بعملهم والقيام بمسؤولياتهم وليس عليهم توقيت النتائج أو استعجال حصولها.

والوعد الذي تشير إليه هذه الآية التي نزلت في المدينة ذكرته آيات

ص: 180

سبق نزولها في مكة(1) كالذي تضمنه قوله تعالى: [وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ] (القصص:5-6) وقد كان المسلمون يومئذٍ قلة معدمين تلاحقهم قريش فتعذبهم وتحاصرهم وتصادر أموالهم وتقتلهم [وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] (الأنفال: 26)، فوعد الله تعالى المؤمنين بالأمور التي ذكرتها الآية:1-الاستخلاف في الأرض بأن تكون بأيدي المؤمنين الصالحين العاملين الإمكانيات المادية والمعنوية التي يستطيعون بها إعمار الأرض وتوفير الحياة الكريمة للبشرية جمعاء.

2-تمكين الدين الذي ارتضاه تعالى لهم وهو الإسلام والانقياد لله تعالى: [وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً] (المائدة:3) ويتحقق تمكين الدين بثباته واستقراره في القلوب والنفوس وعندما تكون له القيمومة والسيادة على الأنظمة والقوانين والدساتير التي وضعها البشر بقصورهم وتقصيرهم.

3-الحرية في الإيمان بالعقائد الحقة وممارسة العبادة الخالصة لله تعالى ونبذ الشركاء جميعاً سواء كانوا أصناماً حجرية أو بشرية أو طواغيت أو أهواء أو عصبيات أو تقاليد، ويقترن ذلك بالأمن من الخوف وزوال الضغط

ص: 181


1- كقوله تعالى: [وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ] (الأنبياء:105) وقوله تعالى: [وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ، وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ] (الصافات:171-173).

والإرهاب عنهم وتأثير الشبهات والضلالات عليهم.هذا في الدنيا أما في الآخرة فينبئك الله بتحقق وعده [وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ] (الزمر:74).

لكن الوعد الإلهي بتحقيق هذه الأمور لا يتم بمجرد ادعاء الإيمان أو الاكتفاء بممارسة العبادات والشعائر الظاهرية من دون أن يتحول إلى حركة فاعلة دائبة تنطلق من منهج متكامل للحياة فيجعل المرجعية للدين الحق في كل شؤون الحياة وتفاصيلها وفي كل عوالم الإنسان وسلوكه حتى في مشاعره وعواطفه وميوله فيجعل الله تعالى نصب عينيه ويجعل هدفه الوحيد تحقيق مرضاة الله تعالى وتجنب معصيته وغضبه سبحانه، لذا ذكرت الآية [منكم] أي ليس كلكم وإنما بعضكم الذي توفّرت فيه هذه الصفات.

أما من ينتسب إلى الإسلام وربما الانتماء لأهل بيت النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وربما يقيم الصلوات ويشارك في إحياء الشعائر الدينية لكنه يظلم الناس ويتجاوز على حقوقهم ولا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر ولا يطبق أحكام الله تعالى في القضايا والوقائع فإنه ليس مشمولاً بهذا الوعد الإلهي لأن الخطاب موجّه إلى الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر [قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ] (الحجرات:4).

روي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه كان جالساً مع أصحابه فجاء خبر إلى أحدهم بأن امرأته قد ولدت فتغيّر وجه الرجل فسأله النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): عما أصابه، فقال:

ص: 182

خرجتُ والمرأة في حالة مخاض وولادة وأخبرت الآن أنها ولدت أنثى، فسأله النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): كم سنة مضت عليك في الإسلام، قال: سبع عشرة سنة، فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): كل هذه المدة ولم يدخل الإيمان قلبك(1).فهذا الرجل رغم أنه من السابقين إلى الإسلام والمهاجرين الذين تحملوا الأخطار والمشاق، إلا أن هذه المشاعر القلبية منه سلبته حقيقة الإيمان وإن كان مؤمناً بحسب الظاهر.

أيها الأحبة:

إن هذا الاستخلاف والتمكين ليس من الضروري أن يكون مقترناً بالوصول إلى السلطة والحكم(2)، وإن كانت السلطة والحكم من العناصر المساعدة على الوصول إلى الهدف الأسمى أي تكون وسيلة وليست غاية وهي من مصاديق القوة التي أمر الله تعالى بإعدادها [وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ](الأنفال:60).

فالملحوظ في تحقق الوعد الإلهي هو حصول النتائج التي ذكرتها الآية الكريمة، فبالرغم من أن السيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) والأئمة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) كانوا في مظلومية دائمة ومستمرة وإقصاء كامل إلا أنهم كانوا القدر المتيقن من المقصودين بآية الوعد الإلهي، وقد أكد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هذه الحقيقة بصراحة

ص: 183


1- الحادثة مروية في المصادر مثل وسائل الشيعة:15/ 101 ح2 لكن ذيلها لم نعثر عليه في حدود البحث الذي أجريناه.
2- بل قد تكون السلطة وبالاً على أصحابها عندما ينظرون اليها على انها غنيمة يحوزونها بجشع واستئثار.

ووضوح حينما جمع أهل بيته (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) قبيل وفاته وقال لهم: (أنتم المستضعفون بعدي) وهي تعني فيما تعنيه أنتم المقصودون بالوعد الإلهي للمستضعفين بالاستخلاف والتمكين ووراثة الأرض ولو على يد حفيدهم المهدي الموعود (عجل الله فرجه الشريف) وقال أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في بعض كلماته: (ونحن على موعود من الله تعالى حيث قال عز اسمه [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ)(1).لقد كانت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) على ثقة تامة بهذا الوعد الإلهي رغم أنها بحسب الظاهر كانت امرأة مستضعفة ومسلوبة الحقوق وزوجها مكبّل وقد فقدت الناصر والمعين وهي تواجه خصماً بيده السلطة مدججاً بالسلاح ومحفوفاً بالأعوان المتأهبين لفعل كل شيء بلا رادع لكنها تخاطبهم بكل شجاعة وثبات وثقة بالنفس واطمئنان بالنتائج بقولها (عَلَيْهِا السَّلاَمُ): (وأبشروا بسيف صارم يدع فيئكم زهيداً وجمعكم حصيداً، فيا حسرة لكم! وأنّى بكم وقد عميت عليكم! [أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ] (هود:28))(2).

إنها ليست لغة الأسير المستضعف بل لغة الواثق بالنصر والذي يرى هزيمة خصمه عين اليقين، فتحذّرهم من سوء العاقبة والمصير.

وقد ورثت ابنتها العقيلة زينب (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) هذه الثقة بالوعد الإلهي فقالت مخاطبة يزيد الطاغية المتفرعن المغرور بالنصر الذي توهّمه: (فكِد كيدك واسعَ

ص: 184


1- نهج البلاغة، من كلمته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لعمر بن الخطاب لما استشاره في الخروج إلى العراق لقتال الفرس.
2- الاحتجاج للطبرسي:1/ 140.

سعيك وناصب جهدك، فوالله لا تمحونَّ ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحَضُ عنك عارها، وهل رأيك إلا فند، وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي [ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ] (هود : 18))(1).أيها الإخوة والأخوات:

إننا نتلمّس اليوم بوضوح جملة من علامات تحقق هذا الوعد الإلهي بإظهار الدين الذي ارتضاه على كل الأنظمة الوضعية المصطنعة وتمكين المؤمنين الصالحين من أخذ دورهم في إعمار الأرض بما ينفع البشرية كلها ويعبّد لها طريق الهداية والصلاح، ومن تلك العلامات:

1-وصول صوت أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) إلى جميع الشعوب حتى تتعرف على المبادئ الإنسانية السامية التي يريدون إقامتها مما ولّد مقبولية واسعة لهذه المدرسة المباركة لدى الشعوب وإقبالاً متزايداً على الانتماء لها.

2-تصاعد مستوى الشجاعة والتضحية في سبيل الله وحماية المقدسات وامتلاك المبادرة والإقدام والشعور بالمسؤولية لدى المستضعفين، وقد تجلّى كل ذلك في العمليات التي تخوضها قواتنا المسلّحة بكل صنوفها وأبطال الحشد الشعبي وقوافل الدعم اللوجستي خصوصاً في معارك الموصل الأخيرة حيث اعترف قادة جيش أقوى دولة في العصر الحديث بأن هذه المعركة تصعب على أي جيش في العالم مع ما رافقها من النبل وسمو الأخلاق والتضحية من أجل الإنسان أي إنسان بغضّ النظر عن دينه وطائفته وقوميته.

ص: 185


1- راجع مصادر الخطبة في كتاب الصحيح من مقتل سيد الشهداء وأصحابه:1125.

3-تنامي حالة الوعي واليقظة لدى الأمة وإدراك تحديات المرحلة ومتطلباتها وهذه الحالة وإن كانت في بداياتها إلا أنها تبشّر بخير بإذن الله تعالى.

4-ظهور علامات الضعف والضمور والتفكك عند الدول المستكبرة وازدياد مشاكلها التي تعجز عن حلّها فتحاول التخلص منها بتصديرها إلى الخارج.

أيها المؤمنون:

لكي نساهم في تحقق هذا الوعد الإلهي واكتماله بظهور منقذ البشرية بقية الله في أرضه وحجته على خلقه إمامنا المهدي الموعود (أرواحنا له الفداء) فعلينا أن نبذل قصارى جهودنا في إدامة وتعزيز هذه العلامات المذكورة، وقد ذكرت آية كريمة أخرى صفات وأعمال الذين يُمكَّنُ لهم في الأرض، قال تعالى: [الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ] (الحج:41).

وعلينا أيضاً أن نتجنب كل ما يعرقل هذه الحركة المباركة نحو التكامل من عصيان وتمزق وتشتت وصراعات وخوض في الباطل واتباع للشهوات والأهواء وأن نعي مؤامرات الأعداء ونحذر منها وهي كثيرة وخطيرة ومعقدة لكنها لا تخفى على القيادة الرشيدة وأهل البصائر، تبدأ من نشر مظاهر الفسق والفساد وتجريد المسلمين من عناصر هويتهم العقائدية والأخلاقية، وتنتهي بانقلاب القيم والأفكار حتى يستحي المسلم من إعلان هويته والدعوة إلى مشروعه ويتباهى بتبعيته وذوبانه في المشروع المعادي(1).

ص: 186


1- وننقل هنا نموذجاً مما يريدون فعله أنقله من قراءة وترجمة أحد الإخوة -وهو المغترب العراقي المقيم في هولندا عزيز الدفاعي- لكتاب (محو العراق: خطة متكاملة لاقتلاع عراق وزرع

وهذا مما حذّر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أمته منه في الحديث المشهور (كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟ فقيل له: ويكون هذا يا رسول الله؟ فقال: نعم، وشرٌّ من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ فقيل له: يا رسول الله، ويكون ذلك؟ قال: نعم، وشرٌ من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً)(1).إن هذه التحديات الهائلة تضاعف علينا المسؤولية، فليستمد المؤمنون من هذا الوعد الإلهي العزيمة والهمّة والقدرة غير المحدودة على مواصلة العمل الرسالي حتى تحقيقه بإذن الله [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] (محمد:7) [إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً، وَنَرَاهُ قَرِيباً] (المعارج: 6-7).

ص: 187


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب1، ح12.

السيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) تنبّه الى المعية الإلهية ... الثمرات والمراتب

السيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) تنبّه الى المعية الإلهية ... الثمرات والمراتب(1)

قال الله تبارك وتعالى (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الحديد:4)

تنبّه الآية الكريمة إلى حقيقة قرآنية عظيمة تزيد الانسان كمالاً ومعرفة بربّه كلما ازداد ايماناً بها واستحضرها في وجدانه فعلاً.

تلك الحقيقة هي ان الله تعالى معكم في جميع مراحل تكوّنكم في الدنيا والآخرة وفي كل مكان تكونون فيه ومهما اعتقدتم انكم في خلوة وانفراد فانه معكم، وهو تعالى معكم في كل زمان وفي كل حالة من حالاتكم ومطلّع عليكم ومحيط بكم (لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) (سبأ:3) فالمعيّة الإلهية متحققة من جميع الجهات، وان لفظ (اين ما) الوارد في الآية لا يحدّدها بالمعية المكانية، ولعل ذكرها باعتبار ان المعية المكانية هي الاوضح في الاذهان للتعبير عن الاقتران وكذا الغيبة المكانية أوضح في التعبير عن الافتراق.

ولذا جاءت الفقرة التالية لها (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) كالنتيجة لهذه الحقيقة لان لازم حضوره معكم وعدم احتجابكم عنه وإحاطة علمه بكم أن يكون

ص: 188


1- الخطاب الذي القاه سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على آلاف المؤمنين والمؤمنات الذين احتشدوا في ساحة ثورة العشرين في النجف الاشرف قبل الانطلاق في موكب التشييع الرمزي نحو حرم امير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم الثلاثاء 3/ج2/ 1439 الموافق 20/ 2/ 2018

بصيراً بأعمالكم عالماً بنيّاتكم وأغراضكم أي يعلم ظاهر الاعمال وباطنها. وقد تكرر هذا المعنى في آيات كريمة أخرى كقوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (المجادلة:7) وقال تعالى (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ) (النساء:108).

وقد استلهم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هذه الحقيقة وقدّم توجيهاً تربوياً في وصيته لأبي ذر (رضوان الله تعالى عليه) بقوله (أعبد الله كأنك تراه فان كنت لا تراه فأنه يراك)(1) والعبادة تسري في كل شؤون الحياة.

إن الايمان بهذه الحقيقة له عدة آثار في حياة الانسان:

1- سيشعر انه ليس وحيداً في مواجهة الصعوبات والمحن والبلاءات وانما يكون معه رب رؤوف رحيم يشفق عليه ويرعاه ويدفع عنه ويحميه ويستجيب لدعائه وطلباته و اذا تأخرت الإجابة فلمصلحته لانَّ ربه يختار له الخير ويكافئه على الاحسان ويعفو عن الإساءة وينصره عند الضعف والانقطاع (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الشعراء:62) (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (الشعراء:78-82) فهي معيّة الايجاد والهداية ومعيّة الاطعام والسقي ومعيّة الشفاء من المرض ومعيّة البعث والنشور. وبذلك يتحول عجز الانسان وضعفه إلى قوة واقتدار ويتبدل خوفه

ص: 189


1- مكارم الاخلاق للطبرسي: 626

وقلقه بفضل الله تعالى إلى أمن وطمأنينة قال تعالى (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) (محمد:35) وقال تعالى (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا) (التوبة:40). روى الشيخ الصدوق عن إمامنا الْعَسْكَرِيِّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (أَنَّهُ سُئِلَ إمامنا الصَّادِقُ عَنِ اللَّهِ؟ فَقَالَ لِلسَّائِلِ:" يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، هَلْ رَكِبْتَ سَفِينَةً قَطُّ "؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: " فَهَلْ كُسِرَ بِكَ حَيْثُ لَا سَفِينَةَ تُنْجِيكَ، وَلَا سِبَاحَةَ تُغْنِيكَ "؟ -أي حالة انقطاع أسباب النجاة- قَالَ: بَلَى. قَالَ: " فَهَلْ تَعَلَّقَ قَلْبُكَ هُنَاكَ أَنَّ شَيْئاً مِنَ الْأَشْيَاءِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُخَلِّصَكَ مِنْ وَرْطَتِكَ "؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ الصَّادِقُ: " فَذَلِكَ الشَّيْ ءُ هُوَ اللَّهُ الْقَادِرُ عَلَى الْإِنْجَاءِ حِينَ لَا مُنْجِيَ، وَعَلَى الْإِغَاثَةِ حِينَ لَا مُغِيثَ ")(1) لاحظوا عظمة النعمة بحضور الله تعالى معنا، وأي وحشة وعجز وضعف يحسّ به المنكر للخالق.

وتزداد معية التوفيق والتأييد كلما ازداد العبد قرباً من ربّه (وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي) (المائدة:12) أي ان بعض مراتب المعيّة العالية مشروطة بالإيمان والعمل الصالح.

وفي الحديث الشريف (انا عند المنكسرة قلوبهم)(2) أي ان الالطاف الإلهية

ص: 190


1- التوحيد للصدوق: 231، معاني الأخبار: 4 / ح 2، بحار الانوار:64/ 137
2- منية المريد، ص123، وفيه: (أنا عند المنكسرة قلوبهم) ودعوات الراوندي: ص 276، وفيه: روي أن داود (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: إلهي هل يذكر أحد الأموات حين درست قبورهم؟ قال: يا داود إني لم أنسهم أحياء مرزوقين، فكيف أنساهم أمواتاً مرحومين! كلما قطعت لهم إرباً غفرت لهم ذنباً وأغفر لهم بكل شعرة سقطت وبكل عظم بلي وأنا أرحم الراحمين.

الخاصة تحضر عند انكسار القلب لاي سبب كان سواء من خشية الله تعالى او عند التعرض لمظلومية وعدوان وغير ذلك . 2- وسيشعر أيضاً أنه ليس مطلق السراح في اتباع شهواته ونزواته واهوائه ويفعل ما يشاء من جرائم ومنكرات وظلم للآخرين وإنما هو تحت الرقابة الإلهية التي لا تحيط فقط بظاهر الاعمال بل تنفذ إلى باطن العمل فتعلم النية والغرض، فقد يكون العمل حسناً بحسب الظاهر الا انه في حقيقته سيئ لان نية صاحبه سيئة كما لو قام به رياء او طلباً للسمعة والجاه ونحو ذلك ولم يكن يبتغي به وجه الله تعالى لان الناقد بصير وهيهات لن يخدع الله عن جنته كما ورد في كلمات أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

وهذا الشعور يدفع العباد إلى القيام بالمزيد من الاعمال الصالحة وتخليص النيات من الشوائب وتجنب الاعمال السيئة والظلم والعدوان، فهذه الرقابة الإلهية لمصلحة الإنسان وهي توجّه بوصلة حياته نحو الخير وتضبط استقامته وليست شيئاً قسرياً مفروضاً عليه.

وهي رقابة داخلية تستقر في ضمير الانسان وتكون حاضرة اذا غابت عنه رقابة الأجهزة والقوانين الحكومية أو الأعراف الاجتماعية.

ولأهمية هذه الحقيقة فقد ورد في الحديث الشريف عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (من أفضل ايمان المرء أن يعلم أن الله تعالى معه حيث كان)(1).

أيها الاحبّة:

لقد أرادت السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) أن ترسّخ هذه الحقيقة في

ص: 191


1- سند أبي داود ح1582، الدر المنثور: 6/ 171

قلوب وعقول الأمة لما رأت غفلة الكثيرين عنها وأن سلوكهم كان لا ينمّ عن إيمان حقيقي بها وإن اعتقدوا بها ظاهراً فخاطبت جمعهم بقولها (أنتم عباد الله نصب أمره ونهيه) وقالت (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) (فاتقوا الله حق تقاته ولا تموُّتن الا وانتم مسلمون، واطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه)(1). وتحذّر (سلام الله عليها) من عدم الالتفات إلى هذه الحقيقة والعمل بها فقالت (لتجدنّ والله محمله ثقيلاً، وغّبه -- أي عاقبته -- وبيلا اذا كشف لكم الغطاء، وبان ما وراءه الضراء، وبدا لكم من ربّكم مالم تكونوا تحتسبون وخسر هناك المبطلون)(2).

من هذا نعرف الخسارة العظمى التي تحل بالإنسان حينما يغفل عن هذه الحقيقة او ينفيها او يتسافل اكثر فينكر وجود الخالق ونعرف حجم الخسارة التي تحل بالأمة حينما يروّج البعض فيها إنكار هذه الحقيقة ويدعو إلى الالحاد ونبذ الدين ونحو ذلك، لا لشيء الا لكي يطلقوا العنان لشهواتهم واتباع اهوائهم ولكي لا يؤنّبهم ضميرهم وليغطّوا على الشعور بالذنب والخطيئة (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (النمل:56) فيخدعون أنفسهم بإنكار هذه الحقيقة العظمى أعني وجود الخالق فيكون حالهم كالوصف المنقول عن النعامة أنها اذا أحدق بها الخطر دفنت رأسها في التراب لكي لا تراه وتخدع نفسها بالتخلص منه.

هذا هو الدافع الحقيقي لمن يقف وراء دعوات الالحاد ونبذ الدين اما

ص: 192


1- الاحتجاج للطبرسي:1/ 128
2- الاحتجاج للطبرسي:1/ 136

التابعون لهم فهم مخدوعون ببعض الشعارات والادعاءات، وإلا فإن دعاوى إنكار الخالق أو الشرك به أوهام باطلة من صنع خيالات فاسدة ولا يساعد عليها عقل ولا منطق عقلائي بل أن العقل السليم يسخر من هذه الأفكار لان أبسط جهاز أو آلة حولنا لا يمكن أن نصدّق انه وُجد بلا صانع عاقل فكيف بالكون المترامي الذي يتحرك بنسق متناهي الدقة ووفق قوانين محكمة أتاحت المجال لعلماء الفلك أن يحسبوها ويستفيدوا منها في الرحلات الفضائية.فأحذروا أيها الأحبة من كل سبب يؤدي الى الغفلة عن الله تعالى، وحذّروا الناس من كل الدعوات التي تريد تغييب الله تعالى عن الحياة وعزله والتحلل من هذا الالتزام معه سبحانه وتعالى، واعملوا على ترسيخ حقيقة أن الله معنا لدى عموم الناس، وادعوا بالحكمة والموعظة الحسنة المتأثرين بما ينشر في مواقع التواصل لتنقذوهم من ضلالهم حتى يستشعروا هذه النعمة العظيمة والمسؤوليات تجاهها، وذلك بعد ان تتسلحوا بالعلم والمعرفة ولو على المستوى الفطري والعقلائي الذي لا يحتاج إلى دراسات معّمقة ومتخصصة.

وقد ورد في رواية (1) عن السيدة الزهراء فيمن يقوي الايمان و الدين وينصر المؤمنين ويدحض شبهات المضلّين والمنحرفين ان الله تعالى يضاعف له ما اعدَّ له من المنزلة الكريمة المستحقة له في الجنان الف الف ضعف، فعلى الجميع ان لا يتقاعسوا عن نصرة الدين وهداية الناس وخدمتهم، وقد حذّرت السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) من ان حب الراحة والدعة واللامبالاة والكسل أسباب حقيقية لتضييع الحق وحذّرتهم من خذلانه فقالت (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) (الا

ص: 193


1- بحار الانوار : 2/ 8، ح15

وقد أرى أن قد اخلدتم إلى الخفض -- أي الحياة المرفّهة -- وأبعدتم من هو أحقّ بالبسط والقبض، وخلوتم بالدعة -- أي الراحة والسكون --)(1).وفقنا الله تعالى وإياكم لنصرة الدين وإعلاء كلمة الله رب العالمين ونشر شريعة سيد المرسلين (صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين).

ص: 194


1- الاحتجاج:1/ 133.

السيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) تدعو إلى الرجوع إلى الله تعالى والانقياد له

السيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) تدعو إلى الرجوع إلى الله تعالى والانقياد له(1)

قال الله تبارك وتعالى (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ) (الزمر:54)

هذه وصية من ربكم أوصلها إليكم من خلال رسالته العظيمة إلى الناس، أعني القرآن الكريم وهو مليء بالموعظة لأنه كتاب هداية وصلاح وحياة للقلوب والموعظة أهم ادواتها، ومنها هذه الآيات الكريمة في سورة الزّمر الحافلة بهذه المواعظ وهي تحذّر من عاقبة الافعال السيئة. وتتضمن الوصية حركتين:

الأولى: قوله تعالى (وَأَنِيبُوا) أي ارجعوا عن ذنوبكم واخطائكم وغيّروا طريقة حياتكم البعيدة عن الله تعالى ولا تغرّنكم الحياة الدنيا بشهواتها واطماعها وزخارفها فأنها كلها أوهام زائلة، وعودوا (إِلَى رَبِّكُمْ) واختيار هذا الوصف للتذكير بصفة الربوبية والرعاية والتربية والتنشئة من عالم إلى عالم ومن حال إلى حال.

وباب التوبة هذه والرجوع إلى الله تعالى مفتوحة لكل أحد مهما عظم ذنبه وقد أطلقت الآية السابقة هذه الحقيقة لتفتح الباب على مصراعيه امام الجميع

ص: 195


1- الخطاب الفاطمي السنوي الذي القاه سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) في ساحة ثورة العشرين في النجف الاشرف قبل انطلاق التشييع الرمزي في ذكرى شهادة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) يوم السبت 3 /ج2/ 1440 المصادف 9/ 2/ 2019.

(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر:53) فهذه الانابة والتوبة هي الخطوة الأولى وهي ممهدة للتالية.الثانية: (وَأَسْلِمُوا لَهُ) أي اطيعوا رّبكم وانقادوا لأحكامه ولا تجعلوا لغيره نصيباً في قلوبكم ولا تأثير لغيره في افعالكم سواء كان هذا الغير الذي تطيعونه وتتبعونه هي انانيتكم وأهواءكم واطماعكم أو اعرافكم الاجتماعية أو العشائرية أو الرموز التي تتبعونها أو الجماعات والأحزاب التي تنتمون اليها وغير ذلك.

هاتان الخطوتان تضمنان لكم السعادة والفوز والنجاة من عذاب معصية الله تعالى والتمرد على طاعته والابتعاد عن دينه فبادورا اليهما الآن وفي هذه اللحظة لأن المستقبل غير مضمون والموت يأتي بغتة وبشكل مفاجئ ولا يعلم وقته الا الله تعالى.

(مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ) لأن الانسان اذا لم يتدارك أمره ويعود إلى ربه فانه قد حكم على نفسه بالشقاء والتعاسة وعندما يموت يغلق عليه باب العمل، ويحرم من الفرص الكثيرة التي اتاحها الله تعالى له.

(ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ) لا ينصركم شيء مما كرستم له حياتكم من مال أو أولاد أو منصب أو جاه أو اتباع أو غير ذلك (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ) (البقرة:166).

ولا ينفع الندم وتمني العودة والرجوع (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) (الفرقان:27) من وصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأبي ذر (رضوان الله تعالى عليه) (يا أبا ذر اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك

ص: 196

قبل موتك)(1) ومن كلام لأمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في المبادرة إلى التوبة والعمل الصالح (أيها الناس! الآن الآن ما دام الوثاق مطلقاً -- أي الحياة وفرصة العمل موجودة -- والسراج منيراً، وباب التوبة مفتوحاً، من قبل أن يجفَّ القلم وتُطوى الصحف، فلا رزق ينزل، ولا عمل يصعد، المضمار اليوم والسباق غداً وانكم لا تدرون إلى جنة أو إلى نار ! ! ! وأستغفر الله لي ولكم)(2).ثم تبيّن الآية التالية ما أجملته الآية السابقة (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم) (الزمر:55) وهو هذا القرآن العظيم الذي فيه تبيان كل شيء فعليكم العمل به وتدبر معانيه واتخاذه هادياً ومرشداً وقائداً ولكن عقولنا تقصر عن الإحاطة بتفاصيله فيأتي دور كلام المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في بيانه.

وتتكرر المطالبة بالمبادرة والمسارعة واغتنام الفرصة قبل فواتها (مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) (الزمر:55) فإن باب التوبة قد يغلق (فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ) (غافر:85).

وحينئذٍ لا ينفع الندم ولا الحسرة ولا التأسف لأن هذه الحقيقة قد بيّنها الله تعالى للناس وحذرهم منها فلا عذر لهم (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ) (الزمر:56) في كل ما يرتبط بالله تعالى من دين وأئمة وقادة هداة، وسيندم على استخفافه واستهزائه بهذا كله (وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) (الزمر:56) فقد كان يسخر ممن يدعوه إلى الله تعالى ويسخّف كلامه ويتهم دعوته بأنواع الأوصاف المنفرّة، فاذا طلبت منهم، إقامة شريعة الله

ص: 197


1- مكارم الاخلاق للطبرسي: 626
2- أمالي الشيخ الطوسي: 686

تعالى والالتزام بقوانينها عارضوك ووصفوها بأنها رجعية وتخلّف أو أن الوقت غير مناسب لتطبيقها، لاحظوا معي هذا المشهد لهم يوم القيامة (وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الأنعام:27).فكل إعراض عن الشريعة وصدُّ عنها وعن العمل بها هو تفريط في جنب الله تعالى، وكل نكران لنبوة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وإمامة آله الكرام هو تفريط في جنب الله ففي الكافي بسنده عن موسى بن جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (جنب الله أمير المؤمنين)(1)، وفي بصائر الدرجات عن أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول (أنا عين الله، وأنا جنب الله، وأنا يد الله، وأنا باب الله)(2) وعن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (انا شجرة من جنب الله فمن وصلنا وصله الله)(3) وفي المناقب بسنده عن ابي ذر في خبر عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (يا ابى ذر يؤتى بجاحد علي يوم القيامة أعمى أبكم يتكبكب في ظلمات يوم القيامة ينادي (يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ) وفي عنقه طوق من نار)(4) .

فالله تعالى يدعونا دائماً إلى تذكر هذه الحقائق ونحن في هذه الدنيا لنستطيع معالجة الخلل وتدارك التقصير قبل فوات الأوان، ورد في الحديث عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (أكثروا من ذكر هادم اللذات، فأنكم إن كنتم في ضيق وسعه

ص: 198


1- الكافي: ج1 ص145
2- بصائر الدرجات:19
3- بصائر الدرجات:19
4- مناقب آل أبي طالب 3: 64

عليكم فرضيتم به فأثبتم، وإن كنتم في غنى بغضّه اليكم فجُدتم به -- أي أنفقتم منه -- فأُجِرتم، ألا إن المنايا قاطعات الآمال، والليالي مدنيات الآجال، وان المرء عند خروج نفسه وحلول رمسه يرى جزاء ما قدَّم وقلة غنى ما خلَّف، ولعله من باطل جمعه ومن حق منعه)(1).إن هذه الآيات الكريمة فيها قانون عظيم لإصلاح المجتمع بفتحه باب العودة إلى الصواب والاندماج في المجتمع من جديد مهما كان خطؤه عظيماً، لأن كثيراً ممن يرتكبون مثل هذه الأخطاء يفقدون الأمل ويظنون ان باب التوبة اغلق في وجوههم فيقدمون على الانتحار للتخلص من آلام تأنيب الضمير أو يندفعون نحو الجريمة أكثر لإسكات صوت الضمير وإماتته، وما يريده الله تعالى من الانسان اعترافه بخطئه ورجوعه عنه إلى طاعة الله تعالى، وسيقبله ويمحو ما سبق منه.

أيها المؤمنون الموالون للصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ)

لقد ارادت السيدة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) بقيامها المبارك أن تعيد الأمة إلى رشدها وأن تعمل بهذه الوصية من ربها لأنهم ارتكبوا اثماً عظيماً بانقلابهم على اعقابهم ومخالفتهم لنبيّهم وعصيانهم لإمامهم وأسسّوا خطاً باطلاً منحرفاً ويزيد ابتعاده عن الحق كلما مرّ عليه الزمن، تأملوا في قولها سلام الله عليها (وكيف بكم وانى تؤفكون وكتاب الله بين اظهركم، اموره ظاهرة واحكامه زاهرة واعلامه باهرة وزواجره لائحة وأوامره واضحة، وقد خلّفتموه وراء ظهوركم، أرغبة عنه تريدون؟ ام بغيره تحكمون؟ بئس للظالمين بدلا (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ

ص: 199


1- ارشاد القلوب:1/ 48

الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85) (أفحكم الجاهلية تبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون؟! أفلا تعلمون؟)(1) .وتذكّر الأمة بأن الانابة إلى الله تعالى والإسلام له يتحققان بطاعة ولي الأمر الذي فرض الله طاعته، قالت (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) (أما والله لو تركوا الحقّ على أهله، واتبعوا عترة نبيّه، لما اختلف في الله اثنان، ولورثها سلف عن سلف، وخلف بعد خلف، حتّى يقوم قائمنا التاسع من ولد الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).. ولكن قدّموا من أخّره الله، وأخّروا من قدّمه الله، حتّى إذا ألحدوا المبعوث -- أي دفنوا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وأودعوه الجدث المجدوث، اختاروا بشهوتهم وعملوا بآرائهم، تبّاً لهم! أوَلم يسمعوا الله يقول (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (القصص:68) بل سمعوا ولكنّهم كما قال الله سبحانه (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج:46) هيهات! بسطوا في الدنيا آمالهم ونسوا آجالهم فتعساً لهم وأضلّ أعمالهم، أعوذ بك يا ربّ من الحَوَر بعد الكور)(2) .

أيها الأحبَّة

لا يمكن ان يجتمع حب فاطمة وموالاتها وطلب شفاعتها مع ما انحدر اليه المجتمع من مفاسد وانحراف وانحلال بلغ مديات غير معقولة من فساد مالي

ص: 200


1- الاحتجاج للطبرسي:1/ 131
2- موسوعة المصطفى والعترة للشاكري: 4/ 362، عن عوالم المعارف:11/ 228، والحور بعد الكور أي النقصان بعد الزيادة.

تحَّول إلى ثقافة عامة فأدى إلى تخريب مؤسسات الدولة وشمل حتى الخدمات الحيوية كالصحة والتعليم والقضاء والأمن ومن تجارة للمخدرات وادمان عليها إلى احتفالات الفسق والفجور إلى العلاقة المشبوهة بين الجنسين مما أدى إلى كثرة حالات الطلاق والانتحار، وازدادت الصراعات العشائرية التي تخلّف ضحايا وخسائر بالأموال وتغذيها أحياناً بعض الأحزاب المتنفذة للحفاظ على مصالحها الشخصية، وانتشرت الملاهي ومحلات بيع الخمور بشكل غير مسبوق وأصبحت متاحة حتى للصبيان وتمارس عملها بشكل علني وبحماية السلطة وبعض الجهات المتنفذة، والتشكيك في العقائد الحقة والثابتة بل الاستهزاء بها والدعوات إلى نبذها أصبحت علنية بلا حياء ولا مراعاة لمقدسات المجتمع وحرماته.هل من المعقول أن يحصل كل هذا على أرض ضمت الأجساد الطاهرة لأمير المؤمنين والحسين والكاظمين والعسكريين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وفي ظل حكومات يتسيّدها الإسلاميون وتدعي الالتزام بتوجيهات المرجعية الدينية؟

وهل يمكن أن نرجو شفاعة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) ونعدُّ أنفسنا من شيعتها الذين تلتقطهم يوم المحشر لتشفع لهم، ونحن نرى كل هذا الظلم والانحراف ولا نتحرك بالشكل الكافي لمواجهته. روى الشيخ الطوسي في مجالسه بسنده قال (كان يقال: لا يحل لعين مؤمنة ترى الله يُعصى فتطرف حتى تغيّره)(1) .

وقد جعلت سلام الله عليها معياراً لمن يستحق عنوان شيعة فاطمة قالت

ص: 201


1- وسائل الشيعة:16 /125 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الباب1 ح 25.

(عَلَيْهِا السَّلاَمُ) (إن كنت تعمل بما أمرناك، وتنتهي عما زجرناك عنه فأنت من شيعتنا)(1).ان الله تعالى يستنهض عباده المؤمنين خصوصاً النخبة العاملة الرسالية الواعية للدفاع عن المحرومين والمستضعفين الذين لا حول لهم ولا قوة الا بالله العلي العظيم(2) ويدعوهم الى التحرك لإنقاذ إخوانهم من ضعاف الايمان والعقيدة والجاهلين بأحكام الشريعة فيرفعون عنهم الشبهات والشكوك ويعلمونهم الاحكام الدينية ويطلعونهم على سيرة المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وأخلاقهم وتعاليمهم وليغيّرون الظلم والفساد، قال تعالى (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104).

كما يستنهضهم لدفع الظلم والحرمان والاضطهاد عن المؤمنين الذين لا حول لهم ولا قوة فيطلبون النجدة من إخوانهم (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَ-ذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً) (النساء:75).

ويستنكر في أحاديث شريفة على المتقاعسين عن هذه الواجبات كالحديث المروي عن الامامين الباقر والصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (ويل لقوم لا يدينون الله بالأمر

ص: 202


1- بحار الأنوار: 68/ 155
2- راجع خطاب تفسير قوله تعالى (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَ-ذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً) (النساء:75)

بالمعروف والنهي عن المنكر)(1) وعن الامام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال (بئس القوم قوم يعيبون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)(2) وروي الامام الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن جده رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (اذا أمتي تواكلت -- أي اتكّل بعضهم على بعض فتركوا فريضته -- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من الله)(3) .أيها الأخوة والاخوات

إذن نحن بحاجة إلى أن نحيي في أنفسنا هذه الغيرة الفاطمية ونستمد من القيام الفاطمي العزم والقوة للتحرك في جميع الساحات وبكل الوسائل الفاعلة والمؤثرة للعمل بما أمرت به هذه الآية الشريفة اداءً لرسالة الصلاح ولمكافحة الفساد والانحراف والضلال والظلم أسوة بالأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين).

ص: 203


1- وسائل الشيعة:16 /111-118 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باب1.
2- وسائل الشيعة:16 /111-118 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باب1.
3- - وسائل الشيعة:16 /111-118 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باب1.

السيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) تحث على نشر الاحكام الشرعية والعلوم الدينية

السيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) تحث على نشر الاحكام الشرعية والعلوم الدينية(1)

روي في تفسير العسكري قال: (حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء(عَلَيْهِا السَّلاَمُ):فقالت: إن لي والدة ضعيفة وقد لبس عليها في أمر صلاتها شي ء، وقد بعثتني إليك أسألك. فأجابتها فاطمة(عَلَيْهِا السَّلاَمُ):عن ذلك ثم ثنّت، فأجابت، ثم ثلثت فأجابت إلى أن عشرت(2) فأجابت، ثم خجلت من الكثرة، فقالت: لا أشق عليك يا بنت رسول الله. قالت فاطمة س: هاتي و سلي عما بدا لك، أرأيت من اكترى(3) يوما يصعد إلى سطح بحمل ثقيل، و كرائه مائة ألف دينار أ يثقل عليه؟ فقالت: لا. فقالت(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): اكتريت أنا لكل مسألة بأكثر من مل ء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤا فأحرى أن لا يثقل عليَّ، سمعت أبي رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)يقول: إن علماء شيعتنا يحشرون، فيخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم، و جدِّهم في إرشاد عباد الله. حتى يخلع على الواحد منهم ألف ألف خلعة من نور. ثم ينادي منادي ربنا عز وجل: أيها الكافلون لأيتام آل محمد، الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الذين هم أئمتهم، هؤلاء تلامذتكم والأيتام الذين كفلتموهم ونعشتموهم، فاخلعوا عليهم (كما

ص: 204


1- القاها سماحة المرجع الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على طلبة البحث الخارج بمناسبة ذكرى ميلاد السيدة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) يوم 20/جمادي الثانية/1438 المصادف19/ 2/ 2017
2- أي ان المرأة سألت سؤالاً ثانياً ثم ثالثاً الى العشرة
3- أي استأجر بهذا المبلغ الضخم إذ ان الدينار يساوي مثقال من الذهب

خلعتموهم) خلع العلوم في الدنيا، فيخلعون على كل واحد من أولئك الأيتام على قدر ما أخذوا عنهم من العلوم، حتى أن فيهم يعني في الأيتام لمن يخلع عليه مائة ألف خلعة وكذلك يخلع هؤلاء الأيتام على من تعلم منهم. ثم إن الله تعالى يقول: أعيدوا على هؤلاء العلماء الكافلين للأيتام حتى تتموا لهم خلعهم وتضعفوها، فيتم لهم ما كان لهم قبل أن يخلعوا عليهم، ويضاعف لهم، وكذلك من بمرتبتهم ممن يخلع عليه على مرتبتهم. و قالت فاطمة س: يا أمة الله إن سلكا من تلك الخلع لأفضل مما طلعت عليه الشمس ألف ألف مرة ، و ما فضل فإنه مشوب بالتنغيص والكدر)(1) . يظهر من الرواية ان الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) كانت تمارس وظيفة التبليغ الديني والإرشاد الاجتماعي للمجتمع النسوي من دون كلل او ملل، لذا لما اشفقت عليها المرأة من كثرة الأسئلة طيّبت خاطرها وأشعرتها ان السائل هو المتفضل على المجيب لأنه وفر له فرصة عظيمة للطاعة ونيل الأجر والقرب من الله تعالى حيث ذكرت هذا الثواب العظيم في الآخرة لمن أجاب عن مسألة دينية أو حل مشكلة أو أرشد أحداً وهداه بحيث لا يمكن المقايسة بين الجهد المبذول في هذا العمل وبين الأجر الي يعطاه.

فعلينا نحن طلبة الحوزة العلمية ان نعرف عظمة النعمة التي منَّ الله تعالى بها علينا حين مكننا من التفقه في الدين وفتح لنا فرصة الارشاد والتبليغ والتعليم، اما من لم يتفقه في الدين فالفرصة مفتوحة امامه بأن يستفيد من أحدى مؤسسات الحوزة العلمية في النجف الاشرف أو المدن الأخرى أو

ص: 205


1- بحار الانوار:2/ 3.

الجامعة المفتوحة ليكون مؤهلاً لممارسة هذا الدور الإلهي العظيم، وعلينا ان لا ندخّرجهداً في القيام بهذا العمل الرسالي لان الحديث الفاطمي يشير الى ان التفاوت في المنازل عند الله تعالى يكون بحسب الجد والاجتهاد في العمل بالعلم الذي حصله وارشاد الناس وهدايتهم الى الحق والإصلاح.

ولابد من الالتفات الى ان العمل الديني لا يكون محصّلاً لهذه الثمرة المباركة الا مع الاخلاص، فلو طلب العلم وعلَّمه ليستأكل بيه ويطلب الدنيا أو ليكون له جاه وشأنية بين الناس أو ليماري به ويجادل ويتغلب على الخصوم فأنه لا نصيب له في الآخرة لأنه لم يطلبها، وقد استنفد غرضه وحصّل مراده في الدنيا ثم خلّفه وراءه لما خرج منها والعياذ بالله تعالى.

ص: 206

موقف السيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) دليل على إمامة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)

موقف السيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) دليل على إمامة أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)(1)

إن موقف السيدة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) من الانقلاب الذي حصل بعد وفاة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وإظهارها لرفضها وغضبها مما حصل له دلالات عديدة، نسجّل هنا واحدة من تلك الدلالات على إمامة أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كما يعتقده اتباع أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)، ويتكون الدليل من عدة مقدمات:

1- ورد في الحديث النبوي الشريف المشهور لدى عموم المسلمين (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة الجاهلية)(2).

2- إن فاطمة الزهراء من أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) الذين طهرهم الله تعالى من كل دنس ورجس(3) في قوله تعالى (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب:33).

3- ان السيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) رفضت بيعة السقيفة وغضبت على من أقصى علياً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن الخلاّفة وخرجت إلى المسجد وخطبت امام جمع المهاجرين

ص: 207


1- من حديث سماحة المرجع الديني الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع طلبة مدرسة قرآنية في العمارة يوم الأربعاء 20 / الجمادي الأولى /1439 المصادف 7 / 2 / 2018
2- كمال الدين وتمام النعمة - الشيخ الصدوق - ص 409 - 410 / كتاب السنة: لعمرو بن أبي عاصم ص 489/ الجواهر المضيئة: للملا علي القاري الحنفي
3- مستدرك الصحيحين ج 3 ص 147/ السيوطي: في الدر المنثور، في ذيل تفسير آية التطهير/ مسند الإمام أحمد بن حنبل ج 6ص 296

والانصار لتثيّبت موقفها هذا ودعتهم إلى إعادة الحق إلى أهله حتى لحقت بأبيها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بعد بضعة أشهر.والنتيجة: انه لا يستطيع أحد أن يقول ان السيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) ماتت على الجاهلية وإنها لم تعرف الامام الحق لأنه خلاف ما نصَّ عليه القرآن الكريم، من تطهيرها من كل رجس ومنه رجس الجاهلية، فلابد من الإذعان بانها عرفت امام زمانها ومضت على يقين بإمامة علي بن ابي طالب كما أعلنت الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) وآمنت به وعرّفته للأمة.

ومثل هذه الأدلة الوجدانية واليقينية نستطيع توفيرها لتثبيت العقائد الحقة وردّ الشكوك والشبهات حولها وعلى المجتمع -- خصوصاً النخب الشبابية والمثقفة -- المطالعة والمتابعة لمعرفتها لأن العقيدة هي الأساس في حياة الانسان وهي المحرّكة له، فان كانت سليمة كان ما يصدر منه من أفعال صالحاً مستقيماً بإذن الله تعالى.

ص: 208

ثواب عظيم ببركة الزهراء(عَلَيْهِا السَّلاَمُ):لمن ينصر الدين بالحجة والبرهان

ثواب عظيم ببركة الزهراء(عَلَيْهِا السَّلاَمُ):لمن ينصر الدين بالحجة والبرهان(1)

بمناسبة الايام الفاطمية وباعتباركم مؤسسة اعلامية دينية، ولخلق مزيد من الحوافز على عملكم انقل لكم رواية عن الصديقة الطاهرة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) في ثواب من يحاور بالحجة والبرهان لنصرة الدين وتقوية المؤمنين في مناظراتهم مع اهل العقائد والافكار المنحرفة ودفع شبهات المضلين، رواها في كتاب الاحتجاج وفي تفسير العسكري قال : (اختصم الى فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) امرأتان فتنازعتا في شيء من امر الدين احداهما معاندة والأخرى مؤمنة ففتحت على المؤمنة حجتها فاستظهرت على المعاندة ففرحت فرحا شديدا فقالت فاطمة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) ان فرح الملائكة باستظهارك عليها اشد من فرحك وان حزن الشيطان ومردته بحزنها اشد من حزنها، وان الله تعالى قال لملائكته اوجبوا لفاطمة بما فتحت على هذه المسكينة الاسيرة من الجنان الف الف ضعف مما كنت اعددت لها واجعلوا هذه سنة في كل من يفتح على اسير مسكين فيغلب معاندا مثل الف الف ما كان معدا له من الجنان) (2) وببركة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) جُعل هذا الثواب سنة جارية لكل من ساهم في هذه المواجهة الفكرية والعقائدية .

ص: 209


1- كلمة قصيرة القاها سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) على وفد ضم الكوادر العاملة في المقر العام لقناة النعيم الفضائية ومكاتبها الفرعية يوم الاحد 1/ج2/ 1439 الموافق 18-2-2018
2- بحار الانوار : 2/ 8،ح15

المرجع اليعقوبي يدعو إلى تأسيس مركز للدراسات الفاطمية

المرجع اليعقوبي يدعو إلى تأسيس مركز للدراسات الفاطمية(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

دعا المرجع الديني سماحة الشيخ محمد اليعقوبي إلى إنشاء مركز مشترك بين الحوزة العلمية والجامعات الأكاديمية يتخصّص بالدراسات المتعلقة بالصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ).

جاء ذلك في كلمته التي ألقيت بالنيابة عنه في المؤتمر الحاشد الذي أقامته(2) جامعة الصدر الدينية في قاعة جامعة الكوفة تحت شعار (الحوزة والجامعة نهوض متواصل لبناء المجتمع الصالح) وحضره حشد كبير من أساتذة وفضلاء الحوزة العلمية وممثلي المرجعيات الدينية ورؤساء الجامعات وعمداء الكليات والأساتذة، وعدد من الشخصيات الحكومية والبرلمانية.

وقال سماحته (... نحن مدعوّون لإحياء مواقف الطاهرة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) والتأمل في كلماتها الشريفة والاستفادة من سيرتها المباركة، وما مؤتمركم هذا إلا مظهر من مظاهر تلك الحركة المباركة، فالمأمول منكم أن لا تقفوا عند هذا الحد، بل تديموا هذه الفعاليات بأنواعها، ومنها إنشاء مركز مشترك بين الحوزة العلمية وأساتذة الجامعات متخصص بالدراسات الفاطمية، وستجدون حينئذٍ أن

ص: 210


1- نشر في العدد (112) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 5/جمادى الآخرة/1433 الموافق 27/ 4/ 2012.
2- عقد يوم السبت 29/ج1/ 1433 الموافق 21/ 4/ 2012

سيرة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) وكلماتها لا تختص بالقضايا الأخلاقية والعقائدية والفقهية، بل إنها تتسع لتشمل المعارف الإنسانية والعلمية [وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ] (المطففين: 26).

ص: 211

تحية إلى محيي الزيارة الفاطمية عند أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)

تحية إلى محيي الزيارة الفاطمية عند أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)(1)

لأمِّ أبيها.. لخيرِ النساءِ *** لفاطمة الطهرِ.. طهر السماءِ

سأرسلُ قلباً كَواهُ الجوى *** فإنّ هواها جرى في دمائي

مِنَ اللهِ فرضٌ غدا حُبّها *** كحبَِ أبيها، وأهل الكساءِ

فيا مَن إليها دَعاكَ الولاءُ *** تمهَّل ولو لحظةً في دُعائي

ظَلامَتها أن في مَوتها *** شهادةُ قديسةُ الأنبياءِ

فَهل تنصِفوها ولو بعد حينٍ *** بيوم حِدادٍ وحفلِ عزاءِ

نُعزّي علياً وطه الرسولِ *** وأبناءَهُ صَفوةً الأولياءِ

فيا عاشقيها، هَلمّوا إليها *** لكي نَفتَديها بصدقِ الوَلاءِ

سلامٌ عليها على حُرّةٍ *** كساها الإله بثوبِ الحياءِ

فقلبُ أبيها يُصلّي عليها *** وهَل كأبيها سما للعَلاءِ

تموتُ وفي قلبها غُصّةً *** وتُدفنُ مقهورةً في خفاءِ

ص: 212


1- قالها فضيلة الأديب السيد عبد الأمير جمال الدين عشية استشهاد الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) مُحيياً المؤمنين المبادرين لإحياء الزيارة الفاطمية عام1433، ونشرت في العدد (112) من صحيفة الصادقين.

أمُّ أبيها..

أمُّ أبيها..(1)

ماذا أقولُ بفاطم الزهراءِ *** والشعرُ كمْ يَعصي على الشعراءِ؟!

أأقولُ فيها نفحةٌ قدسيةً *** أنسية من معجزِ الإسراءِ

أمِنَ الملائكِ وهي أعلى منهمُ *** شرفاً سَمَتْ فيهِ على الجوزاءِ

هيَ بضعةُ الهادي الرسول وروحهُ *** فيها استقرّت فهيَ نبعُ ضياءِ

يؤذيهِ مَن يؤذي الزكيّة والذي *** يؤذيهِ يُؤذي اللهَ بالبَغضاءِ

هيَ كَوثرٌ يَروي القلوبَ نميرُهُ *** عذبٌ غدا يجري بأطهرِ ماءِ

وهي البتولُ وفاطمٌ وهي التي *** تسمو بمحتدِها على العذراءِ

الله شرَّفها وعظّمَ شأنها *** بينَ النساءِ بأجملِ الأسماءِ

أمُّ النبي وأمُّ سادات الورى *** تزهو بثوبِ الطهر خيرِ رِداءِ

ما كانَ لولاها وجودُ أئمةٍ *** تُنمى لخير الخلقِ في الأمناءِ

أوتادُ هذي الأرض بل عُمّارُها *** بالدين والإيمان دونَ مِراءِ

كُلٌ لهُ فيها مقامٌ شامخٌ *** مُتَضَوِّعٌ بالعطرِ واللألاءِ

هُم جَنةُ الدنيا وبهجة أنسها *** بل جَنةُ المأوى بدار بَقاءِ

لهمُ الخلودُ على المدى وعدوّهُم *** ألقت بهِ الدنيا لشرِّ فناءِ

ص: 213


1- القصيدة التي انشدها فضيلة الأديب السيد عبد الأمير جمال الدين في المؤتمر العلمي المشترك بين الحوزة العلمية و الجامعات حول السيدة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) الذي أقيم على قاعة رئاسة جامعة الكوفة يوم السبت 29/ج1/ 1433 الموافق 21/ 4/ 2012، ونشرت في العدد (112) من صحيفة الصادقين.

أعطتهمُ الزهراء سرَّ نقائها *** إرثاً من الآباءِ للأبناءِ

ويلٌ لمن عاداهمُ ولأمهمْ *** أخفى العداء بخسَّةِ الجبناءِ

ما كان أجرأهُم على ربِّ السما *** في ظلمها وبقيَّةِ الأرزاءِ

في الليل تُدفنُ وهوَ أعظمُ شاهدٍ *** ماذا جرى في الليلة الظلماءِ؟!

زهراءُ يا زهراءُ يا بنتَ الهدى *** يا لحنَ حزنٍ قد جرى بدمائي

أنا ذلك المكسورُ قلباً مثلما *** كسرَ العِدا ضلعاً من الزهراء

يا منصفَ الزهراء(1) من أعدائها *** يحميك ربُّكَ من أذى الأعداءِ

ألزمتَ نفسك أن تسير بنهجها *** قمراً يضيء بليلةٍ ظلماءِ

واليومُ أنتَ نصيرُها ومحبّها *** وغداً تنالُ شفاعةَ الزهراءِ

فاصدح بنهجكَ وهو نهجُ محمدٍ *** بعقيدةٍ علويةٍ ومضاءِ

فالله آثرها على كلِّ الورى *** لمّا حباها أشرفَ الأبناءِ

ص: 214


1- توجّه الشاعر بهذا الخطاب إلى سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله).

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.