دور الأئمة في الحیاة الإسلامیة
ملخص: صدر، محمد
الكاتب: آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي
لسان: العربية
الناشر: دار الصادقين - النجف اشرف - العراق
قانون الكونجرس:BP 36/5 /ص4 د9028
ص: 1
ص: 2
دور الأئمة في الحیاة الإسلامیة
تلخيص:صدر، محمد
نويسنده:یعقوبی، محمد
ص: 3
ص: 4
تقريض بقلم سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني قدس سره كتبه عام 1985 بعد اطلاعه على مسودة الكتاب: «الكتاب محاولة جيدة جداً لإبراز نقاط القوة الرئيسية المنظورة لتربية الائمة للناس وطرق سلوكهم معهم أصدقاء كانوا أو أعداء فجزاك الله خير جزاء المحسنين وأرجوه تبارك وتعالى أن يوفر لهذا الكتاب فرصة الانتشار إنه ولى التوفيق».
وقال قدس سره في بعض تعليقاته على هذا الكتاب: «إننا ينبغي أن نفهم من أهدافهم عليهم السلام ما هو ناجح فعلاً وهذا البحث كفيل بإبراز جانب مهم من ذلك فعلاً».
ص: 5
ص: 6
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلي الله تعالى على محمد وآله الطيبين الطاهرين
كثيراً ما يسألني الفضلاء وطلبة العلم والشباب الواعون الرساليون: ما هو تكليفنا في هذه المرحلة؟ وهو سؤال نابع من الشعور بالمسؤولية تجاه الله تبارك وتعالى وتجاه الامة وقادتها وتجب إثارته ليس في هذه المرحلة بل في كل مرحلة لان التكاليف تتنوع بحسب اختلاف الظروف كما ان الاحكام تختلف بحسب تعدد الموضوعات.
والمصدر الذي ننطلق منه لمعرفة تكليفنا ودورنا وعملنا هي سيرة المعصومين عليهم السلام لانهم إعدال الكتاب وصنوه كما نصّ عليه حديث الثقلين المشهور - وانهما لا يفترقان فاذا كان القرآن لم يفرّط في شيء(1) يمكن أن يستفاد منه في هداية الانسان وتكميله وإصلاحه وتهذيبه وسعادته واستقامه وأن فيه تبياناً لكل شيء(2) كما نطقت به الآيات الشريفة - فإن سيرة أهل البيت عليهم السلام كذلك لم تترك حالة أو واقعة أو موقفاً إلاّ وتجد في سيرتهم عليهم السلام حكمه ورأي الشريعة فيه حتى ورد عنهم عليهم السلام: (ما من واقعة إلاّ ولله فيها حكم)، وروى سماعة عن الامام أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام في حديث قال: فقلت: أصلحك الله أتى رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم الناس بما يكتفون به في عهده؟ قال عليه السلام: (نعم وما يحتاجون اليه الى يوم القيامة) فقلت: فضاع من ذلك شيء؟ فقال عليه السلام: (لا هو عند أهله)(3). وهي تجسيد عملي على ارض الواقع لكلمات القرآن وما علينا الا استقراء مفردات حياتهم عليهم السلام واستثارة كوامنها وتحليلها
ص: 7
وفهم المغزى منها ونظم هذه المفردات في منهج متكامل نتعرف من خلاله على (دور الائمة في الحياة الاسلامية) ليكون نبراساً لنا في معرفة دورنا نحن بمقدار ما نفهم وما نستطيع تطبيقه من هذه الاعمال والفعاليات الضخمة التي كان يقوم بها الإمام عليه السلام فكان هذا الكتاب قراءة تحليلية لسيرة الائمة عليهم السلام لاستنباط هذه الادوار المتنوعة لكنها تنتظم ضمن أهداف محددة وهي تلك التي سعى الائمة عليهم السلام لتحقيقها وأنجز منها بمقدار ما وُفقّت الامة له وعليها أن تسعى لإتمام المسيرة حتى يقام العدل الكامل على يد بقية الله الاعظم (أرواحنا له الفداء). ولا أدعي أنني استقصيت ما كان يقوم به الائمة من نشاطات في حياة الأمة وأنى لمثلي ذلك وكل ما فعلت هو إثارة جملة من النقاط في هذه المسيرة الطويلة المباركة تكون كافية لايضاح معلم هذا المنهج التحليلي في دراسة سيرة المعصومين عليهم السلام أمام المفكرين والباحثين والعلماء.
فهذا الكتاب مما لا يستغني عنه القادة ليعرفوا كيف يتصرفون في المواقف وما هي مسؤولياتهم ووظائفهم.
والمربّون ليتعلموا الطرق السليمة والمنافذ الدقيقة لتربية الامة وإصلاح مفاسدها.
والعلماء والفقهاء ليتعرفوا على الاتجاه العام لسيرة الائمة عليهم السلام والمنهج الذي ساروا عليه والذوق الذي من خلاله نقيّم ما يمكن نسبته اليهم عليهم السلام أو عدم نسبته.
والرساليون الذين حملوا همّ العمل الاسلامي المبارك وسعوا الى نشر راية الاسلام وبسط نظامه العادل السعيد في كل مكان.
وتعود أصل فكرة هذا الكتاب الى اربعين سنة حين أقامت جمعية الرابطة الادبية في النجف الاشرف موسماً ثقافياً سنة 1386 ه -- 1966 وشارك فيه نخبة من العلماء والمفكرين والادباء من بلدان عربية واسلامية عديدة ونشرت نصوص بحوثهم وكلماتهم وقصائدهم في العدد الاخير من مجلة الايمان النجفية وهو العدد (7-10) من السنة الثالثة.
ص: 8
وكان منها بحث قيم ومبتكر للسيد الشهيد الصدر الاول قدس سره بعنوان (دور الائمة في الحياة الاسلامية) اعقبه نفس السيد قدس سره بمحاضرات أخر تدور حول نفس المحور ونشرت لاحقاً في كتاب (حياة الائمة: تنوع أدوار وهدف مشترك).
وكان مما يسّر لي الله تبارك وتعالى الاطلاع عليه اثناء فترة اختفائي في البيت ابتداءً من عام 1982 لامتناعي عن المشاركة في جيش صدام المجرم الذي كان يخوض حرباً عدوانية شرسة ضد جمهورية ايران الاسلامية هو البحث الاول واعجبت بفكرته وعزمت على توسيعه وذكر الشواهد عليه واستقراء المفردات التفصيلية في حياة الائمة عليهم السلام لاستنباط المزيد من الادوار المشتركة مستفيداً مما توفّر لدي من ثقافة دينية وتاريخية ومن مصادر قليلة نسبياً حيث كان الكتاب الاسلامي يومئذ محظوراً ويتعرض لاقسى العقوبات من يضبط عنده، لذا فإنك تجد اكثر المصادر التي اعتمدتها هي مصادر ليست أصلية وإنما ناقلة (سيرة الائمة الاثني عشر، الشيعة والتشيع، منتهى الآمال، مجلة الايمان،...) ولم تتيسر لي المصادر الأصلية (أصول الكافي، وسائل الشيعة، عيون الأخبار،...).
والآن وبعد أن توفرت لم تسمح لي كثرة مشاغلي بتخريج الاحاديث والروايات من جديد وعلى أي حال فقد بدأت بالعمل حتى تجاوز البحث - الذي أصله عشر صفحات تقريباً - مائتي صفحة ومنّ الله تبارك وتعالى في عام 1985 بالاتصال سراً عن طريق المكاتبة مع السيد الشهيد الصدر الثاني قدس سره الذي كان هو الآخر في إقامة جبرية ومراقبة من قبل جلاوزة صدام.
فعرضت مجموع ما كتبت عليه قدس سره فعلّق على أصل البحث وعلى تعليقاتي وإضافاتي مع تقريض من عدة اسطر للكتاب رفع من همّتي وأكّد لي ما أحسّه من أهمية الكتاب، وكان من تعليقاته قدس سره أن تعدّد الهوامش وكثرتها وطولها يشوش القارئ ويشتت ذهنه فتارة يقرأ في المتن (والذي هو أصل بحث السيد الشهيد الاول قدس سره) وأخرى في شرحه وبيانه في الهامش وأخرى في التعليقات وذكر
ص: 9
الشواهد في هامش منفصل آخر، ورفعاً لهذا الاشكال ارتأيت أن يكون الكتاب بقسمين:
الاول: كتابة المتن أي أصل بحث السيد الشهيد الاول قدس سره وتعليقات السيد الشهيد الصدر الثاني قدس سره عليه وتخريج شواهده التاريخية.
وهذه التعليقات للسيد الشهيد الصدر الثاني قدس سره على اختصارها إلاّ أنها تعبّر عن اراءه قدس سره في جملة من القضايا المهمة التي قد يختلف فيها مع السيد الشهيد الاول قدس سره، وهو من تراثه الذي لم يُنشر ولم يتعرف عليه القرّاء فجاء هذا القسم مزيجاً من عطاء هذين المرجعين القائدين المصلحين المفكرين أقدّمه وفاءً لهما وإحياءً لذكرهما وتراثهما فإن بحثاً يكتبه مثل السيد الشهيد الصدر الاول قدس سره ويعلّق عليه مثل السيد الشهيد الصدر الثاني قدس سره لحقيقٌ بأن يكون محلاً للنظر والتأمل والتدقيق.
وسنرمز لتعليقة السيد الشهيد الصدر الثاني بوضع الحرف (ص) في نهايتها تمييزاً لها عن بقية الهوامش والتعليقات.
الثاني: الكتاب الذي ألفته في ضوء النقاط التي أثارها السيد الشهيد الصدر الاول في بحثه.
ولم يتيسر لي تنفيذ هذه الصياغة وإعادتها لضخامة العمل وتكثّر المسؤوليات وشعوري بعدم الجدوى من إنجازه سريعاً مادام البطش الصدامي وإخراس الالسن والاقلام موجوداً، حتى بدأ الغزو الامريكي البريطاني على العراق لاسقاط صدام ليلة الخميس 16 / محرم/ 1424 الموافق 2003/3/20 وبدأت بالقائه على شكل محاضرات يومية ثم اسبوعية على فضلاء وطلبة الحوزة العلمية الشريفة لتحقق الحاجة اليه وكان نبراساً للكثير من الحاجات والتحديات التي استجدّت وكانت هذه المحاضرات فرصة لاضافة معلومات مفيدة وقد كنت خلال المحاضرات أحاول تطبيق بعض الافكار على ما تعيشه الامة من تحديات وقضايا مما لم اذكره في هذا الكتاب للمحافظة على عموميته.
ص: 10
هذه هي قصة الكتاب وهذا هو هدفه وقد لمستُ بركاته في حياتي ولازلت انهل منه واجد في طيّاته ما احتاج لم تصبني حيرة او تردد برغم المشاكل المعقدة التي تعيشها الامة الاسلامية والاضطراب الذي يعاني منه العراق في ظل الاحتلال المتغطرس وتخريب المنافقين والمتحجرين والمرتزقة وحماقات الجهلة والنزقين.
ولا يمكن لقائد أن يتصدى لمسؤولية تربية الامة وإصلاحها دون أن يعيش في أجواء المدرسة القرآنية المباركة وينهل من سيرة المعصومين عليهم السلام قادة الاسلام العظيم وقد توفرت لي هذه الفرص بمقدار ما يناسب عجزي وقصوري وتقصيري وقد شرحت هذه التجارب في كتب (شكوى القرآن) (الاسوة الحسنة في بناء الذات وإصلاح المجتمع) المستفادة من سيرة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و (دور الائمة في الحياة الاسلامية) الخاص بسيرة الائمة عليهم السلام.
فالحمد لله على ما أنعم وله الشكر على ما ألهم ونسأله تعالى التوفيق لما وفق له محمد وآل محمد صلى الله عليهم أجمعين.
محمد اليعقوبي
جمادى الاولى / 1425
ص: 11
ص: 12
ص: 13
ص: 14
والصلاة والسلام على القادة من حملة الرسالة الكبرى محمد وآله الطاهرين الذين نعيش الآن ايها الاخوة الاعزاء يوماً من أيامهم العظيمة، يوم مولد القائد الثاني من قادة الرسالة(1) والامام الاول من أئمة أهل البيت علي بن ابي طالب عليه أفضل الصلاة والسلام ومن الطبيعي لنا أن نلتقي مع هذا اليوم وغيره من أيامهم العظيمة التي تمرّ بنا في كل عام إلتقاءً روحياً مخلصاً والتقاءً فكرياً واعياً لكي نعمّق باستمرار صلتنا الروحية بقادة الرسالة ونبلور اكثر فاكثر مفهومنا ودراستنا عنهم، ونستمد دائماً من تاريخهم العظيم قبساً ينير لنا الطريق.
وعلى هذا الاساس أودّ أن أجعل من هذه المناسبة التي نعيشها الآن مجالاً للتعبير عن اتجاه معين من دراسة حياة الأئمة عليهم السلام وسوف لن يتسع لحديثي معكم أيها الاخوة الاعزاء في حدود هذه الفرصة أن يرسم اتجاهاً معيناً ويجسده أو يخطط له وإنما كل ما أحاوله هو إثارة التفكير حول هذا الاتجاه، وإعطاء بعض الملامح العامة عن حياة الائمة عليهم السلام.
وهذا الاتجاه الذي اريد أن اتحدث اليكم عنه هو الاتجاه الذي يتناول كل إمام ويدرس تاريخه عليأساس النظرة الكلية بدلاً من النظرة التجزيئية أي ينظر إلى الائمة عليهم السلام ككل مترابط ويدرس هذا الكل ويكتشف ملامحه العامة وأهدافه المشتركة ومزاجه الأصيل، ويفهم الترابط بين خطواته، وبالتالي الدور الذي مارسه الائمة عليهم السلام جميعاً في الحياة الاسلامية ولا اريد بهذا أن نرفض دراسة الائمة على أساس النظرة التجزيئية أي دراسة كل إمام بصورة مستقلة بل إن هذه الدراسة
ص: 15
التجزيئية نفسها ضرورة لانجاز دراسة شاملة للائمة ككل إذ لابد لنا أولاً: أن ندرس الأئمة عليهم السلام بصورة مجزأة ونستوعب إلى اوسع مدى ممكن حياة كل إمام بكل ما تزخر به من ملامح وأهداف ونشاط(1) حتى نتمكن بعد هذا أن ندرسهم ككل ونستخلص الدور المشترك للائمة عليهم السلام جميعاً وما يعبّر عنه من ملامح وأهداف وترابط.
وإذا قمنا بدراسة سيرة الائمة عليهم السلام على هذين المستويين فسوف نواجه على المستوى الأول اختلافاً في الحالات وتبايناً في السلوك وتناقضاً من الناحية الشكلية(2) بين الأدوار التي مارسها الائمة عليهم السلام فالحسن عليه السلام هادن معاوية بينما حارب الحسين عليه السلام يزيداً حتى قتل، وحياة السجاد عليه السلام طافحة بالدعاء بينما كانت حياة الباقر عليه السلام طافحة بالحديث والفقه.
وأما على المستوى الثاني حين نحاول اكتشاف الخصائص العامة والدور المشترك للأئمة ككل فسوف تزول كل تلك الاختلافات والتناقضات لأنها تبدو على هذا).
ص: 16
المستوى مجرد تعابير مختلفة عن حقيقة واحدة وإنما اختلف التعبير عنها وفقاً لاختلاف الظروف والملابسات التي مر بها كل إمام وعاشتها القضية الاسلامية والشيعية في عصره عن الظروف والملابسات التي مرت بالرسالة في عهد إمام آخر.
ويمكننا عن طريق دراسة الائمة على اساس النظرة الكلية أن نخرج بنتائج اضخم(1) من مجموع النتائج التي تتمخض عنها الدراسات التجزيئية، لاننا سوف نكشف الترابط بين اعمالهم، وسوف استخدم مثالاً بسيطاً لتوضيح الفكرة فنحن نقرأ في حياة أمير المؤمنين عليه السلام أنه جمع الصحابة في خلافته واستشهدهم على نصوص الامامة فشهد عدد كبير بالسماع من الرسول الاعظم صلي الله عليه و آله و سلم(2).
ونقرأ في حياة الامام الحسين عليه السلام أنه جمع في عرفة على عهد معاوية من تبقى من الصحابة والمهاجرين وعدداً كبيراً من التابعين وطلب منهم أن يحدثوا بنصوص النبي صلي الله عليه و آله و سلم في علي عليه السلام وأهل البيت عليهم السلام(3).).
ص: 17
ونقرأ في حياة الامام الباقر عليه السلام أنه قام بنفس العملية واستشهد التابعين وتابعي التابعين(1).].
ص: 18
وحين ندرس الائمة عليهم السلام ككل ونربط بين هذه النشاطات بعضها ببعض ونلاحظ أن العمليات الثلاث وُزّعت على ثلاثة أجيال نجد انفسنا أمام تخطيط مترابط يكمل بعضه بعضاَ يستهدف الحفاظ على تواتر النصوص عبر أجيال عديدة حتى تصبح في مستوى من الوضوح والاشتهار بتحدى كل مؤامرات الاخفاء والتحريف.
وفي عقيدتي ان وجود دور مشترك مارسه الائمة عليهم السلام ليس مجرد افتراض نبحث عن مبرراته التاريخية وإنما هو مما تفرضه العقيدة نفسها وفكرة الإمامة بالذات(1) لأن الامامة واحدة في الجميع بمسؤولياتها وشروطها فيجب ان تنعكس انعكاساً واحداً في سلوك الأئمة وادوارهم مهما اختلفت الوانها الظاهرية بسبب الظروف والملابسات، ويجب ان يشكّل الأئمة عليهم السلام مجموعهم وحدة مترابطة الاجزاء يواصل كل جزء في تلك الوحدة دور الجزء الآخر ويكمله.ك.
ص: 19
وقد لا نحتاج إلى شيء من البحث لكي نتفق بسرعة على نوعية الدور المشترك الذي اسند إلى الائمة في تخطيط الرسالة فكلنا نعلم ان الرسالة الاسلامية بوصفها رسالة عقائدية قد خططت(1) لحماية نفسها من الانحراف وضمان نجاح التجربة خلال تطبيقها على مرّ الزمن فأوكلت امر قيادة التجربة وتنويرها تشريعياً، وتوجيهها سياسياً إلى الائمة عليهم السلام بوصفهم الاشخاص العقائديين الذين بلغوا في مستواهم العقائدي إلى درجة العصمة عن الانحراف والزلل والخطأ.
غير اننا حين نحاول أن نحدّد الدور المشترك الذي مارسه الائمة عليهم السلام ككل في تاريخهم المرير لا نعني هذا الدور القيادي في تزعّم التجربة الاسلامية لأننا نعلم جميعاً أن الاحداث المؤلمة التي وقعت بعد وفاة الرائد الاعظم صلي الله عليه و آله و سلم قد اقصت الائمة عليهم السلام عن دورهم في تزعم التجربة، وسلمت مقاليد الرسالة ومسؤولية تطبيقها إلى أشخاص آخرين انحرف معهم التطبيق(2) واشتد الانحراف على مرّ الزمن(3).
ص: 20
وإنما نريد بالدور المشترك في تاريخ الأئمة عليهم السلام الموقف العام الذي وقفوه في خضمّ الاحداث والمشاكل التي اكتنفت الرسالة بعد انحراف التجربة واقصائهم عن مركزهم القيادي في زعامتها.
وهنا نجد تصوراً شائعاً لدى الكثير من الناس الذين اعتادوا أن يفكروا في الائمة عليهم السلام بوصفهم اناساً مظلومين فحسب قد اقصواعن مركزالقيادة وأقرّت الأمة هذاالاقصاء وذاقوا بسبب ذلك الوان الاضطهاد والحرمان، فهؤلاء الناس يعتقدون ان دور الائمة عليهم السلام في حياتهم كان دوراً سلبياً على الاغلب(1) نتيجة لاقصائهم عن مجال الحكم فحالهم حال من يملك داراً فتغصب منه وينقطع أمله(2) في امكان استرجاعهاص)
ص: 21
وهذا التفكير بالرغم من انه خاطئ يعتبر خطراً من الناحية العملية لأنه يحبب إلى الانسان السلبية(1) والانكماش والابتعاد عن مشاكل الامة ومجالات قيادتها ولهذا اعتقد ان من ضروراتنا الاسلامية الراهنة ان نثبت خطأ ذلك التفكير وندرس حياة الائمة عليهم السلام على أساس نظرة كلية لنتبين ايجابيتهم الرسالية على طول الخط ودورهم المشترك الفعال في حماية الرسالة والعقيدة.
إن الائمة عليهم السلام بالرغم من التآمر على اقصائهم عن مجال الحكم كانوا يتحملون باستمرار مسؤوليتهم في الحفاظ على الرسالة وعلى التجربة الاسلامية(2) وتحصينها).
ص: 22
ضد التردي(1) إلى هاوية الانحراف والانسلاخ من مبادئها وقيمها إنسلاخاً تاماً فكلما كان الانحراف يطغى ويشتد وينذر بخطر التردي إلى الهاوية كان الائمة عليهم السلام يتخذون التدابير اللازمة ضد ذلك وكلما وقعت التجربة الاسلامية(2) او العقيدة في محنة او مشكلة وعجزت الزعامات المنحرفة(3) عن علاجها بحكم عدم كفاءتها بادر الائمة عليهم السلام إلى تقديم الحل ووقاية الامة من الاخطار التي كانت تهددها.
وبكلمة مختصرة كان الائمة عليهم السلام يحافظون على المقياس العقائدي والرسالي في المجتمع الاسلامي ويحرصون على ان لا يهبط إلى درجة تشكل خطراً ماحقاٌ(4) وهذا).
ص: 23
يعني ممارستهم جميعاً دوراً ايجابياً فعالاً في حماية العقيدة وتبنّي مصالح الرسالة والامة.
تمثل الدور الايجابي في إيقاف الحاكم عن المزيد من الانحراف كما عبّر عنه الامام علي عليه السلام حين صعد عمر على المنبر وتساءل عن ردالفعل لو صرف الناس عمّا يعرفون الى ما ينكرون فردّ عليه الامام عليه السلام بكل وضوح وصراحة إذن لقومنّاك بسيوفنا(1).
وتمثل في تعرية الزعامة المنحرفة اذا اصبحت تشكل خطراً ماحقاً(2)
ولو عن طريق الاصطدام المسلح بها والشهادة في سبيل كشف(3) زيفها وشل تخطيطها كما صنع الامام الحسين عليه السلام مع يزيد.).
ص: 24
وتمثّل في مجابهة المشاكل التي تهدد كرامة الدولة الاسلامية وتعجز الزعامات المنحرفة عن حلها كما في المشلكة التي أحدثها كتاب ملك الروم إلى عبد الملك بن مروان إذ عجز عبد الملك عن الجواب على كتاب في مستواه فملأ الامام زين العابدين عليه السلام هذا الفارغ وأجاب بالشكل الذي يحفظ للدولة كرامتها وللأمة الاسلامية هيبتها(1).
وتمثّل في إنقاذ الدولة الاسلامية من تحدٍ كافر يهددّ سيادتها كالتحدي الذي واجهه هشام من الروم بشأن النقد وعجز عن الرد عليه وكان الامام الباقر عليه السلام في مستوى الرد على هذا التحدي فخطط للاستقلال النقدي(2).).
ص: 25
ص: 26
وتمثل الدور الايجابي للائمة عليهم السلام ايضاً في تلك المعارضة القوية العميقة التي كان الائمة عليهم السلام يواجهون بها الزعامات المنحرفة بارادة صلبة لا تلين وقوة نفسية صامدة لا تتزعزع فإن هذه المعارضة بالرغم من انها اتخذت مظهر السلبية والمقاطعة في اكثر الاحايين بدلاً من مظهر الاصطدام الايجابي(1) والمقابلة المسلحة غير ان المعارضةة.
ص: 27
حتى بصيغتها السلبية كانت عملاً إيجابياً عظيماً في حماية الاسلام والحفاظ على مُثله وقيمه لأن انحراف الزعامات القائمة كان يعكس الوجه المشوه للرسالة فكان لابد للقادة من أهل البيت عليهم السلام ان يعكسوا الوجه النقي المشرق لها وان يؤكدوا عملياً باستمرار المفارقات بين الرسالة والحكم الواقع وهكذا خرج الاسلام على مستوى النظرية سليماً من الانحراف وإن تشوهت معالم التطبيق(1).
ويمكنني أن اذكر بهذا الصدد مثالاً جزئياً ولكنه يعبّر عن مدى الجهود التي بذلها الائمة عليهم السلام في سبيل الحصول على هذا المكسب.
تصوّروا أيها الاخوة ان الامام موسى بن جعفر عليهما السلام سجين قد هدّ السجن صحته وأذاب جسمه حتى اصبح حين يسجد لربه كالثوب المطروح على الارض(2) فيدخلث.
ص: 28
عليه رسول الزعامة المنحرفة فيقول: (إن الخليفة يعتذر(1) اليك ويأمر باطلاق سراحك على ان تزوره وتعتذر اليه وتطلب رضاه(2) فيشمخ الامام عليه السلام وهو يجيب بالنفي بكل صراحة ويتحمل مرارة الكأس إلى الثمالة لا لشيء الا لكي لا يحقق للزعامة المنحرفة هدفها في ان يبارك الامام خطها(3) فتنعكس معالم التشويه من التطبيق المنحرف على الرسالة نفسها.
وتمثّل الدور الايجابي للأئمة عليهم السلام في تموين الامة العقائدية بشخصيتها الرسالية والفكرية ومقاومة التيارات الفكرية التي تشكل خطراً على الرسالة وضربها في بدايات تكونها من ناحية أخرى، وللإمام من علمه المحيط المستوعب ما يجعله قادراً على الاحساس بهذه البدايات وتقدير أهميتها ومضاعفاتها والتخطيط للقضاء عليها، وقد نفسّر على هذا الضوء اهتمام الامام العسكري عليه السلام وهو في المدينة بمشروع كتاب يصنّفه الكندي وهو في العراق حول متناقضات القرآن اذ اتصل به عن طريق بعض المنتسبين إلى مدرسته وأحبط المحاولة وأقنع مدرسة الكندي بأنهاعلى خطأ(4).).
ص: 29
وفي الواقع ان حياة الائمة عليهم السلام زاخرة بالشواهد على إيجابية الدورالمشترك الذي كانوا يمارسونه فمن ذلك علاقات الائمة عليهم السلام بالامة والزعامة الجماهيرية الواسعة النطاق التي كان إمام أهل البيت عليهم السلام يتمتع بها على طول الخط، فإن هذه الزعامة لم يكن إمام أهل البيت عليهم السلام يحصل عليها صدفة او على اساس مجرد الانتساب الى الرسول صلي الله عليه و آله و سلم - والمنتسبون الى الرسول صلي الله عليه و آله و سلم كثر - بل على اساس(1) العطاء والدور الايجابي الذي يمارسه الامام عليه السلام في الامة بالرغم من اقصائه عن مركز الحكم فإن الامة لا تمنح على الاغلب الزعامة مجاناً ولا يمتلك الفرد قيادتها ويحتل قلوبها بدون عطاء سخي منه تستشعره الامة في مختلف مجالاتها وتستفيد منه في حل مشكلاتها والحفاظ على رسالتها.
ص: 30
إن تلك الزعامة الواسعة التي كانت نتيجة لايجابية الائمة عليهم السلام في الحياة الاسلامية هي التي جعلت من علي عليه السلام المثل الاعلى للثوار الذين قضوا على عثمان(1) وهي التي كانت تتمثل في مختلف العلاقات التي عاشها الائمة عليهم السلام مع الامة.).
ص: 31
انظروا إلى الامام موسى بن جعفر عليهما السلام كيف يقول لهارون الرشيد(1) انت إمام الأجسام وأنا إمام(2) القلوب، انظروا إلى عبد الله بن الحسن حين اراد لابنهم.
ص: 32
محمد(1) ، كيف يقول للإمام الصادق عليه السلام: (واعلم فديتك إنك اذا اجبتني لم يتخلف عني احد من اصحابك ولم يختلف عليّ اثنان من قريش ولا غيرهم(1).).
ص: 33
ولاحظوا مدى ثقة الامة بقيادة ائمة اهل البيت عليهم السلام نتيجة لما يعيشونه من دور ايجابي في حماية الرسالة ومصالح الامة(1).).
ص: 34
لاحظوا المناسبة الشهيرة التي انشد فيها الفرزدق قصيدته في الامام زين العابدين عليه السلام كيف ان هيبة الحكم وجلال السلطان لم يستطع أن يشقّ لهشام طريقاً لاستلام الحجر بين الجموع المحتشدة من افراد الامة في موسم الحج بينما استطاعت زعامة أهل البيت عليهم السلام ان تكهرب تلك الجماهير في لحظة وهي تحسّ بمقدم(1) الامام القائد وتشق الطريق بين يديه نحو الحجر(2).).
ص: 35
لاحظوا قصة الهجوم الشعبي الهائل الذي تعرض له قصر المأمون نتيجة لاغضابه الامام الرضا عليه السلام فلم يكن للمأمون مناص عن الالتجاء إلى الامام لحمايته من غضب الامة، فقال له الامام عليه السلام: (اتقِ الله في امة محمد وما ولأك من هذا الامر وخصّك به فإنك قد ضيّعت امور المسلمين وفوّضت ذلك إلى غيرك يحكم فيها بغير حكم الله عز وجل(1).
إن كل هذه النماذج والمظاهر للزعامة الشعبية التي عاشها أئمة أهل البيت عليهم السلام على طول الخط تبرهن على إيجابيتهم وشعور الامة بدورهم الفعال في حماية الرسالة.3.
ص: 36
ويمكننا أن ننظر من زاوية جديدة لنصل إلى نفس النتيجة من زاوية علاقات الزعامات المنحرفة مع إمام أهل البيت عليهم السلام على طول الخط فإن هذه العلاقات كانت تقوم على أساس الخوف الشديد من نشاط الائمة عليهم السلام ودورهم في الحياة الاسلامية حتى يصل الخوف لدى الزعامات المنحرفة أحياناً إلى درجة الرعب وكان محصول ذلك باستمرار تطويق إمام الوقت(1) بحصارٍ شديد ووضع رقابة محكمة عليه ومحاولة فصله عن قواعده الشعبية ثم التآمر على حياته شهيداً بقصد التخلص من خطره، فهل كان من الصدفة أو مجرد تسلية أن تتخذ الزعامات المنحرفة كل هذه الاجراءات تجاه أئمة أهل البيت عليهم السلام بالرغم من أنها تكلّفها ثمناً باهضاً من سمعتها وكرامتها أو كان ذلك نتيجة لشعور الحكام المنحرفين بخطورة الدور الايجابي الذي يمارسه أئمة اهل البيت عليهم السلام وإلاّ فلماذا كل هذا القتل والتشريد والنفي والسجن.
ص: 37
يبقى سؤال واحد قد يتبادر إلى الاذهان وهو ان ايجابية الائمة هل كانت تصل الى مستوى العمل لاستلام زمام الحكم من الزعامات المنحرفة او تقتصر على حماية الرسالة ومصالح الامة من التردي الى الهاوية وتفاقم الانحراف.
والجواب على هذا السؤال يحتاج الى توسع في الحديث يضيق عنه هذا المجال، غير ان الفكرة الاساسية في الجواب المستخلصة من نصوص وأحاديث عديدة: ان الائمة عليهم السلام لم يكونوا يرون الظهور بالسيف والانتصار المسلّح آنياً كافياً لإقامة دعائم الحكم الصالح على يد الامام، إن إقامة هذا الحكم وترسيخه لا يتوقف في نظرهم على مجرد تهيئة حملة عسكرية بل يتوقف قبل ذلك على إعداد جيش عقائدي يؤمن بالإمام وعصمته إيماناً مطلقاً ويعي أهدافه الكبيرة ويدعم تخطيطه في مجال الحكم ويحرس ما يحققه للأمة من مكاسب.
وكلكم تعلمون قصة ذلك الخراساني الذي جاء الى الامام الصادق عليه السلام يعرض عليه تبني حركة الثوار الخراسانيين، فأجل جوابه ثم أمره بدخول التنور فرفض، وجاء ابو بصير(1) فأمره بذلك فسارع إلى الامتثال، فالتفت الامام إلى الخراساني وسأله كم له من امثال ابي بصير وكان هذا هو الرد العملي من الامام على اقتراح الخراساني.
ص: 38
وعلى هذا الاساس(1) تسلم امير المؤمنين عليه السلام زمام الحكم في وقت توفر فيه ذلك الجيش العقائدي الواعي متمثلاً في الصفوة من المهاجرين والانصار والتابعين من اصحابه رضي الله عنهم.
عرفنا ان الدور المشترك الذي كان الائمة عليهم السلام يمارسونه في الحياة الاسلامية هو دور الوقوف في وجه المزيد من الانحراف وإمساك المقياس عن التردي إلى الصفر والهبوط إلى الهاوية غير ان هذا في الحقيقة يعبّر عن بعض ملامح الدور المشترك وهناك جانب آخر في هذا الدور المشترك لم نشر اليه حتى الآن وهو جانب الاشراف المباشر على الشيعة بوصفهم الجماعة المرتبطة بالامام والتخطيط لسلوكها وحماية وجودها وتنمية وعيها وامدادها بكل الاساليب التي تساعد على صمودها وارتفاعها الى مستوى الحاجة الاسلامية الى جيش عقائدي وطليعة واعية.
ولدينا عدد كبير من الشواهد من حياة الائمة عليهم السلام على انهم كانوا يباشرون نشاطاً واسعاً في مجال الاشراف على الكتلة المرتبطة بهم حتى ان الاشراف كان يصل احياناً الى درجة تنظيم اساليب لحل الخلافات الشخصية بين افراد الكتلة ورصد الاموال لها كما يحدث بذلك المعلّى بن خنيس(2) عن الامام الصادق عليه السلام
ص: 39
وعلى هذا الاساس يمكننا ان نفهم عدداً من نصوص الائمة عليهم السلام بوصفها تعليم اساليب للجماعة التي يشرفون على سلوكها وقد تختلف الاساليب باختلاف ظروف الشيعة والملابسات التي يمرّون بها.
أحسّ ايها الاخوة ان ما قدّمته كافٍ لاثارة النقاط التي احببتُ إثارتها والتي يجب ان يرتكز عليها الاساس في دراساتنا للأئمة عليهم السلام أرجو أن يكون هذا منطلقاً للباحثين في حياة أهل البيت عليهم السلام.
وختاماً ابتهل الى المولى سبحانه وتعالى أن يرجعنا جميعاً من اتباع الائمة والسائرين على هداهم والملتزمين بكل حدودهم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ابتدأت بتدوينه صباح يوم الخميس 16 / محرم / 1424 ه -
الموافق 2003/3/20 م
وهو اول ايام الهجوم الامريكي البريطاني على العراق، وانتهيتُ من كتابته مساء اليوم التالي، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
ص: 40
سلسلة محاضرات تجاوزت العشرين
القيت على طلبة الحوزة العلمية
الشريفة في النجف الاشرف
عام 1424 ه -
ص: 41
ص: 42
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله كما يستحقه حمداً كثيراً هو أهله وصلى الله على الهداة إلى طاعته والادلاء على سبيله محمد وآله الطاهرين.
لشخصية الرسالي والذي تمثل الحوزة العلمية الشريفة بعلمائها وفضلائها وطلبتها المصداق الأوضح له - ثلاثة أبعاد:
1 - البعد الأخلاقي ونعني به الجهاد المتواصل في تهذيب النفس وضبط شهواتها وأهوائها وتنقية القلب من الرذائل وتحليته بالفضائل والعمل على إخلاص النية لله تبارك وتعالى حتى يكون هو الهدف ولا يُرى شئ إلا ويرى الله قبله وبعده وفيه ولا يجعل لغيره تبارك وتعالى عليه سبيلا وحينئذ تذوب أنانيته وتسمو أهدافه ولا يبقى مكان في قلبه لغير الله تبارك وتعالى فتنضبط سيرته وتجري الحكمة على لسانه ويكون مصدر إشعاع وهداية لغيره.
2 - البعد العلمي: فلابد من امتلاء عقله بالعلوم والمعارف التي يحتاجها في أداء مسؤولياته ووظيفته في الإصلاح والهداية خير قيام وتشمل الفقه والأصول والتفسير والتاريخ وعلوم العربية والأدب والمنطق والفلسفة والحكمة والعقائد وعلم الكلام ويضمّ إليها الثقافة العامة والعلوم العصرية ويتفاوت المقدار المطلوب لدى الرسالي بحسب موقعه فان المطلوب من خطيب المنبر غير ما يشترط في وكيل المرجعية الشريفة وهكذا يرتقي المطلوب حتى يصل درجة الاجتهاد في القائد وولي أمر المسلمين.
3 - البعد الحركي والاجتماعي: بمعنى انه يحمل وعياً اجتماعياً وتفاعلاً مع هموم الأمة وآلامها وآمالها وما تحيط بها من تحديات والوسائل والأدوات المناسبة لمواجهة هذه المشاكل والتحديات فيمتلك رؤية مرحلية (تكتيكية) وثابتة
ص: 43
(استراتيجية) لكيفية الارتقاء بالمجتمع وإصلاحه وضمان سعادته وتلبية احتياجاته وحمايته من الانحراف.
والعقيدة هي محور هذه الأبعاد بل أن هذه الأبعاد نشاطات وأوجه لها فالعقيدة فيها جنبة أخلاقية تؤثر في سلوك الإنسان وتوجهه فهذا هو البعد الأول كما أن لها جانباً علمياً يتضمن الأدلة على صحتها ورد الشبهات والاشكالات الموجهة لها سواء على مستوى الدين أو المذهب وتقنين أفعال الفرد وفق الشريعة المعبّر عنه بالفقه وسائر مقدماته وأدواته فهذا هو البعد الثاني كما أنها تنظم علاقات الأمة فيما بينها ومع الأمم الأخرى وتوزّع وظائف أفرادها وتشعرهم جميعاً بالمسؤولية فهذا هو البعد الثالث.
ورغم أن مسؤولية القائمين بشؤون الحوزة الشريفة هي تربية الشخصية الرسالية على جميع الأبعاد وبعلاقة مطردّة أي أنه كلما ارتقى مستواه العلمي لابد أن يرتقي معه وبنفس المقدار مسؤوليته الأخلاقية (المعبّر عنها فقهياً بالعدالة) والاجتماعية فالعدالة المطلوبة في الشهود ليست كالمطلوبة في إمام الجماعة وهذه ليست كالمطلوبة في مرجع التقليد أو ولي أمر المسلمين الذي بيده أزمّة أموال ونفوس وأعراض ملايين المسلمين وكذا الوعي الاجتماعي يزداد عمقاً وتركيزاً كلما تقدم الموقع.
لكن المناهج المتداولة لا تتعرّض للبعدين الأول والثالث وتكتفي بالتربية العلمية فقط بل هي غير مستوعبة للحاجة حتى في هذا المجال فلا تجد فيها دروساً إلزامية في التاريخ والتفسير والحكمة وعلوم القرآن والعلوم العصرية وقد تفاقمت المشكلة في العقود الأخيرة وبدأ النقص واضحاً وظهرت آثاره السلبية مما حدا بالعلماء الواعين المخلصين ومنهم السيدان الشهيدان الصدران الأول والثاني (قدس سرهما) إلى معالجة هذا النقص فعلى الصعيد العملي فكر الأول قدس سره في وضع شروط لقبول الطلبة في الحوزة بحيث يكونون حملة شهادات أكاديمية وذوي ذهنية متفتحة وثقافية جيدة وإدخال العلوم العصرية في مناهج الدراسة وإضافة المناهج الضرورية التي تفتقدها الدراسات المعروفة ونفّذ الثاني قدس سره هذا المشروع.
ص: 44
أما البعدان الآخران فحاولا (قدس سرهما) تغطيتهما باستثمار المناسبات الدينية لإلقاء محاضرات في الأخلاق والوعي الاجتماعي ولكن الاتجاه الأكثر وضوحاً في محاضرات السيد الأول قدس سره هو الوعي الحركي والاجتماعي عكس الثاني قدس سره حيث غلب على محاضراته في المناسبات الدينية الموعظة والأخلاق وربما كان ذلك ناشئاً من تشخيصهما المختلف لحاجة الحوزة والمجتمع.
وهذا البحث للسيد الأول قدس سره يمثل خطوة مهمة في بناء الوعي الاجتماعي للحوزة وللامة معاً وقد عبّر عن هذا الاستغلال الواعي للمناسبات الدينية بقوله (ومن الطبيعي لنا أن نلتقي مع هذا اليوم - وهو يوم ميلاد أمير المؤمنين عليه السلام - وغيره من أيامهم العظيمة التي تمر بنا كل عام التقاءا ًروحياً مخلصاً، والتقاءاً فكرياً واعياً) لكنه قدس سره في هذا البحث أشار إلى الالتقاء الثاني دون الأول فلم يتطرق إلى سعيهم عليهم السلام في بناء ذواتهم وتكامل شخصياتهم وتعميق صلتهم عليهم السلام بالله تعالى ومعه حق باعتبار انه قدس سره عنون بحثه بدور الأئمة في حياة الأمة أي العمل الاجتماعي لهم عليهم السلام وليس مطلق الأدوار المشتركة ولكنني استغل هذه الفرصة للإشارة إلى نقصٍ غالباً ما يتوفر في تفكير قادة الوعي الإسلامي حيث ينهمكون في العمل الاجتماعي وتربية الناس عليه ويتركون بناء الأمة أخلاقياً وكانت من نتائج ذلك فشل الكثير في المواقف الحاسمة أو سقوطهم في رذائل الأنانية وحب الحياة والعنوان والتحزب والفئوية والتقاطع في العمل مع الآخرين إلى حد المعاداة والخصومة(1).
ص: 45
ولكي يكون هذا البحث تاماً عليَّ أن أضيف إليه مطلبين:
الأول: أخلاقي في إعداد المتصدي للمسؤولية الاجتماعية نفسه لهذا الموقع العظيم باستقراء واقع أئمة أهل البيت عليهم السلام.
الثاني: عقائدي في بيان أصل الإمامة والتعريف بها وحدودها وصفات الإمام وشروطه.
لكنني سأترك الأول إلى سلسلة محاضرات (الأسوة الحسنة في بناء الذات وإصلاح المجتمع) المستفادة من استقراء سيرة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم وإلى المحاضرات الأخرى التي طبعت في كتاب (من وحي المناسبات) وكتاب (نحن والغرب) خصوصاً محاضرة (عناصر شخصية المسلم في آثار أهل البيت عليهم السلام.
وأترك الثاني إلى الكتب العقائدية المتخصصة وهي كثيرة خشية الإطالة وسأكتفي بإذن الله تعالى بشرح وتفصيل المطالب التي تعرض لها السيد قدس سره في أصل البحث.).
ص: 46
تدرس حياة الأئمة وتعرض في ضوء نظرتين:
الأولى: تجزيئية بأن تُعرض حياة كل إمام على حده ابتداءاً من ولادته حتى وفاته مروراً بتفاصيل حياته الشخصية وهو ما دأبت عليه كتب السيرة والرجال والتاريخ عموماً.
الثانية: الكلية وتتحقق بالنظر إلى مجموع حياة الأئمة عليهم السلام نظرة كلية واستخلاص الأهداف المشتركة التي كانوا عليهم السلام يسعون لتحقيقها وإن اختلفت الأساليب وآليات العمل بحيث تبدو وفق النظرة الأولى وكأنها متباينة إلا أنها بالنظرة الثانية تبدو أنها اوجه مختلفة لعملة واحدة كما يعبرون - وسنكشف حينئذ الترابط الوثيق بين أعمالهم.
والعمل الثاني لاحق للأول ومبتني عليه إذ تتم أولاً الدراسة التجزيئية فيحاط بتفاصيل حياة الأئمة ومواقفهم إزاء القضايا المختلفة وباستقراء هذه المواقف المتعددة تستخلص الأدوار المشتركة لهم عليهم السلام وهو ما دعا له السيد قدس سره ويوجد لهذا النمط من الدراسة موردان مشابهان:
الأول: التفسير الموضوعي للقرآن الكريم الذي عرضه السيد قدس سره نفسه في أواخر حياته(1).
الثاني: الفقه الاجتماعي الذي بيّنت أسسه ومعالمه ومبرراته والشواهد عليه(2) في مناسبة سابقة.
وتترتب على هذه النظرة الكلية لحياة الأئمة عليهم السلام ثمرات عديدة تعتبر مبررات هذا العمل الجبار وقد أشار السيد قدس سره في البحث إلى بعضها: -
ص: 47
الأولى: فهم التباين في السلوك والتناقض الظاهري في حياة الأئمة عليهم السلام فبينما يهادن الإمام الحسن عليه السلام معاوية يحارب الإمام الحسين عليه السلام يزيداً ويقدّم تلك التضحيات الجسيمة ويعتزل الإمام السجاد عليه السلام الحياة ويتفرغ للدعاء والتضرع ويتصدى الإمامان الباقر والصادق لنشر علوم أهل البيت عليهم السلام بأوسع الأشكال وبهذه النظرة الكلية (ستزول كل تلك الاختلافات والتناقضات لأنها تبدو على هذا المستوى مجرد تعابير مختلفة عن حقيقة واحدة وإنما اختلف التعبير عنها وفقاً لاختلاف الظروف والملابسات التي مرّ بها كل إمام وعاشتها القضية الإسلامية والشيعية في عصره عن الظروف والملابسات التي مرّت بالرسالة في عهد إمام آخر).
الثانية: الإجابة عن عدة تساؤلات قد لاتفي النظرة التجزيئية بالإجابة عليها لذا لم يتمكن الكثيرون من اتخاذ الموقف المناسب ومن تلك التساؤلات المهمة: هل سعى الأئمة عليهم السلام لتسلم الحكم وهل صحيحٌ ما يقال من عزوف الأئمة عليهم السلام عن العمل السياسي بعد فاجعة كربلاء وأنهم تفرغوا للعلم والعبادة فقط وقد ترتبت على ذلك آثار سلبية كالانكماش وترك العمل الاجتماعي والعمل بالتقية أزيد مما ينبغي وعدم استثمار الفرص المتاحة.
الثالثة: الاطلاع على ضخامة الدور وجسامة المسؤوليات التي كان يضطلع بها الامام عليه السلام ومنه تعرف الابعاد الحقيقية للإمامة ولدور الامام في الحياة الاسلامية مقابل المسؤوليات الهزيلة التي أعطاها علماء مذاهب غير الإمامية للخليفة(1) ولنرد على التصور الشائع (لدى الكثير من الناس الذين اعتادوا أن يفكروا في الأئمة عليهم السلامن.
ص: 48
بوصفهم أناساً مظلومين فحسب قد أقصوا عن مركز القيادة وأقرّت الأمة هذا الإقصاء وذاقوا بسبب ذلك الوان الاضطهاد والحرمان فهؤلاء الناس يعتقدون أن دور الأئمة في حياتهم كان دوراً سلبياً على الأغلب نتيجة لإقصائهم عن مجال الحكم وهذا التفكير بالرغم من انه خاطئ يعتبر خطراً من الناحية العملية لأنه يحبّب إلى الإنسان السلبية والانكماش والابتعاد عن مشاكل الأمة ومجالات قيادتها. ولهذا أعتقد أن من ضروراتنا الإسلامية الراهنة أن نثبت خطأ ذلك التفكير وندرس حياة الائمة عليهم السلام على أساس نظرة كلية لنتبين إيجابيتهم الرسالية على طول الخط ودورهم المشترك الفعال في حماية الرسالة والعقيدة).
الرابعة: إثراء الفكر الإسلامي والإنساني عموماً بنظم ورؤى ناضجة ومتكاملة لمختلف قضايا البشرية النفسية والأخلاقية والاجتماعية والفكرية ومواجهتها بالأساليب المتعددة لنستفيد منها عند مواجهتنا لنفس تلك القضايا بدلا من أن تلهث البشرية حتى تتعب للوصول إلى نظام يكفل لها السعادة حتى يتراءى لها أنها قد وجدته فإذا هو سراب بقيعةٍ يحسبه الضمآن ماءاً أما الدراسة التجزيئية فتقدم رؤية ناقصة ومشوشة(1).
الخامسة: اكتشاف الترابط الوثيق بين أعمالهم عليهم السلام وأن بعضهم يكمل دور بعض بما يشبه العمل المؤسسي وليسوا أفراداً متفرقين يعمل كل منهم بغض النظر عمّا أنجزه الآخر وحققه.
السادسة: وهي من تعليقات سيدنا الأستاذ قدس سره (إذا أخذنا بالنظرة التجزيئية منفصلة عن النظرة الكلية فإننا عندئذ سنسيئ الفهم ونخلط بين الموضوعات ومن ثم نخلط بين الأحكام كما هو واضح لمن يفكر) والفقيه خير من يفهم ذلك عند تعامله مع نصوص الأحكام
والالتفات إلى هذه النتائج مهم بالنسبة إلى العلماء الذين هم ورثة الأنبياء والأئمة عليهم السلام والمواصلون لدورهم والمتحملون لمسؤوليتهم في حدود ما هو متاح لهم وماي.
ص: 49
أحوج المرجعية الشريفة في هذا العصر: عصر صراع الحضارات وحوارها وعصر الظلم والانحراف وعصر العلم والتكنلوجيا إلى تحقيق هذه النتائج واستيعابها والاستفادة منها لتحقيق الوراثة الحقيقية لهم عليهم السلام لأنهم لا يستطيعون فهم كل ما يجب عليهم إلا إذا عرفوا كل الأدوار التي مارسها الأئمة عليهم السلام لأن بعض الأئمة قد تتسنى له فرصة القيام بعددٍ منها ولا يتحقق موضوع أدوار أخرى لكن دراسة المجموع سيعطي إطاراً كاملاً لكل ما يمكن أن يواجه القادة والمصلحين من مشاكل وتحديات.
وقد ذكر السيد قدس سره مثالاً لهذا الدور المترابط وهو حرص الأئمة في الأجيال المتعاقبة على (الحفاظ على تواتر النصوص عبر أجيال عديدة حتى تصبح في مستوى من الوضوح والاشتهار يتحدى كل مؤامرات الاخفاء والتحريف) فالإمام علي عليه السلام يستنشد الصحابة سنة 36 ه - الذين سمعوا حديث الغدير في حقه فشهدوا له أمام من لم يسمع ثم يجمع الإمام الحسين عليه السلام سنة 58 ه - بقية الصحابة والتابعيين يستشهدهم على هذا الحق فشهدوا له وكذلك يفعل الإمام الباقر عليه السلام المستشهد سنة 114 ه - وهكذا تناقلت الأجيال هذا الحق الصريح وبلغ حد التواتر(1) ويعقب السيد قدس سره ب - (أن وجود دور مشترك مارسه الأئمة عليهم السلام جميعاً ليس مجرد افتراض نبحث عن مبرراته التاريخية وإنما هو مما تفرضه العقيدة نفسها وفكرة الامامة بالذات لأن الإمامة واحدة في الجميع بمسؤولياتها وشروطها فيجب أن تنعكس انعكاساً واحداً في سلوك الأئمة عليهم السلام وأدوارهم مهما اختلفت الوانها الظاهرية بسبب الظروف والملابسات ويجب أن يشكّل الأئمة عليهم السلام مجموعهم وحدة مترابطة الاجزاء يوصل كل جزء في تلك الوحدة دور الجزء الآخر ويكمله) ولأجل هذا اقتضى كمال البحث شرح فكرة الإمامة وشروطها ومسؤولياتها وكيفية تعيين الإمام ونحوها من المطالب لكننا اوكلناها).
ص: 50
الى كتب العقائد وعلم الكلام وربما سنحت الفرصة لتناولها باختصار لشعوري باهميتها.
وهنا أريد أن أجيب عن تساؤل حاصله أن الأئمة عليهم السلام عرفوا بألقاب وصفات متعددة فالإمام علي بن أبي طالب عليه السلام بالشجاعة والامام الحسن عليه السلام بالكرم والإمام الحسين عليه السلام بالصبر والتضحية والإمام السجاد عليه السلام بالعبادة والباقر والصادق عليهما السلام بالفقه والحديث وموسى بن جعفر عليه السلام بكظم الغيظ وهكذا فهل يعني هذا تفوق كل واحد منهم بهذه الصفة وكماله من هذه الجهة وهذا يعني إشكالين:
أحدهما: أن الإمام هو أكمل أهل زمانه من جميع الجهات وبكل الصفات فلا معنى لكمال صفة اكثر من أخرى.
وثانيهما: أنهم جميعاً مشتملون على هذه الكمالات فلا معنى لتفوق أحد منهم عليهم السلام على غيره بصفة دون أخرى وإن كنا لا ننفي تفاوتهم في المنزلة، فنورهم واحد وطينتهم واحدة(1) والجواب أنهم مشتركون ومتحدون فعلاً في جميع الفضائل إلا أن الذي أثار هذا الإشكال أمور:
الأول: أن هذه الصفات إنما تظهر للآخرين بآثارها ولا تحصل آثارها إلا إذا توفرت موضوعاتها والمواقف التي تبرزها وتكشف عنها فلما كان أمير المؤمنين في زمن حرب وقتال في عهد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم وفي عهد خلافته بدت شجاعته بوضوح وكذا شجاعة الإمام الحسين عليه السلام حيث كان تكليفه مقاومة الفاسقين بينما كان تكليف الآخرين التقية والصبر والمداراة وهم جميعاً أشجع أهل زمانهم أما الباقر والصادق عليهما السلام فقد أتيحت لهما فرصة نشر علوم آل محمد صلي الله عليه و آله و سلم حيث عاشا ضعف دولتين هما الأموية في آخر أيامها والعباسية في أوائل عهدها فخفّت قبضة الحكام عليهما ولو أتيحت نفس الفرصة لغيرهما لأدّى نفس الدور، وقد تظهر آثار الكرم والسخاء وكثرة الصدقات وعتق العبيد عند الإمام السجاد عليه السلام لسعة ذات يده أوة.
ص: 51
لكثرة الفقراء في بلده دون الباقي وهم جميعاً أكرم الناس وقد تكون العبادة عند إمام اظهر منها عند غيره لقلة اطلاع الناس على حال الآخر أو قصر عمره وغير ذلك وكلهم اعبد أهل زمانه وقد يظهر الحلم لكثرة ما يبتلى به من أنواع الأذى ووقاحة الأعداء وهكذا.
الثاني: أن السؤال أصلاً ليس بصحيح لأن الصفات والفضائل التي نقلت عن بعضهم خاصة نقلت مثلها عن الآخرين فإثارة الإشكال نابع من الجهل بتفاصيل حياة الأئمة عليهم السلام فمثلاً عرف عن السجاد عليه السلام صدقة السر وانه يجوب بيوت الفقراء والمحتاجين ليلاً وكان يعول بأكثر من أربعمائة بيت في المدينة وتم التركيز عليها في حياته عليه السلام دون الآخرين ولكن لو تحريّنا سيرتهم عليهم السلام لوجدنا في تاريخ الإمام الحسين عليه السلام مثله(1) والإمام الصادق عليه السلام(2) والكاظم عليه السلام(3) وكثير من الروايات التي تنقل الخصال الكريمة لهم تُنسب إلى أكثر من واحد لاتفاق الجميع فيها.
الثالث: أن هذا السؤال مبني على ضيق في فهم الصفات والملكات الحميدة فهل أن الشجاعة هي فقط الضرب بالسيف؟ أليس الإمام السجاد عليه السلام في قمة الشجاعة وهو يقف أسيراً مكبلاً بين يدي يزيد في عاصمة ملكه وقد ملأته نشوة الانتصار وزهوه ثم يخطب تلك الخطبة الجليلة يعرّف فيها فضل أهل البيت عليه السلام ويفضح اعلام بني امية المضلل أو ينشد الإمام الهادي عليه السلام بين يدي المتوكل العباسي في قمة أمجاد تلك الدولة وقد أخذت الخمرة في رأسه أبياتاً في الموعظة والتحذير من هذه الدنيا الفانية أو يسأل المهدي العباسي الإمام الكاظم عليه السلام عن حدود فدك ليردّها إلى ذرية فاطمة عليها السلام فيجيبه الامام عليه السلام بكل شموخ وثقة: حدودها الأندلس غرباً والصين شرقاً واليمن جنوباً وبلاد الروم شمالاً ليفهمه أن حقنّا هو إمامة المسلمين جميعاً وسياسة بلادهم كلها وأنت غاصب لهذا الحق وهكذا نفهم الصفات الأخرى.3.
ص: 52
الرابع: توجد روايات تدل على ان هذه الالقاب قد اقترنت بهم واضيفت عليهم من قبل الله تبارك وتعالى فهي منصوصة و (توقيفية) فقد روي عن البزنطي انه قال: قلت لابي جعفر محمد بن علي بن موسى عليه السلام: ان قوماً من مخالفيكم يزعمون أن أباك عليه السلام إنما سمّاه المأمون (الرضا) لما رضيه لولاية عهده، فقال عليه السلام: كذبوا والله وفجروا، بل الله تبارك وتعالى سمّاه (الرضا) لأنه كان راضياً لله تعالى في سمائه ورضياً لرسوله والائمة من بعده صلوات الله عليهم في ارضه، قال: فقلت له: ألم يكن كل واحد من آبائك الماضين عليهم السلام رضياً لله تعالى ولرسوله والائمة عليهم السلام؟ فقال: بلى، فقلت: فلم سُمّي أبوك عليه السلام من بينهم الرضا؟ قال: لأنه رضي به المخالفون من أعدائه كما رضي به الموافقون من أوليائه ولم يكن ذلك لأحد من آبائه فلذلك سمّي من بينهم الرضا(1).
وروى ابن بابويه والقطب الراوندي ان علي بن الحسين عليه السلام سُئل مَنِ الامام بعدك؟ قال: محمد ابني، يبقر العلم بقراً ومن بعد محمد جعفر اسمه عند أهل السماء الصادق، قلت: كيف صار اسمه الصادق وكلكم الصادقون؟ قال: حدثني أبي عن أبيه، ان رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم قال: اذا ولد ابني جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب فسمّوه الصادق فان الخامس الذي من ولده الذي اسمه جعفر يدّعي الامامة اجتراءً على الله وكذباً عليه فهو عند الله جعفر الكذاب المفتري على الله(2).2.
ص: 53
إن من يستقرأ تفاصيل حياة الأئمة عليهم السلام يصاب بالذهول لسعة النشاط الذي كان يمارسه الأئمة عليهم السلام ودقته فيجد نفسه أمام كمّ هائل وكيان زاخر بالعمل الدؤوب وكل تصرف يكشف عن موقف معين يمكن أن يستفاد منه في الواقع المشابه وهذا نابع من موقعهم كهداة للبشرية ومصلحين فان كلامهم حكم وفعلهم حكم وسكوتهم أيضاً حكم لذا فإننا لا نستطيع أزيد من الإشارة إلى بعض هذه الأدوار المشتركة التي استطعنا بقصورنا وتقصيرنا أن نفهمها من حياة المعصومين عليهم السلام وسنترك التعرض لعلاقتهم وأدوارهم المشتركة على جهتين مع الله تبارك وتعالى والثانية مع أنفسهم رغم أهميتها لما ذكرناه سابقاً من أن عنوان البحث لم يشملهما واكتفاءاً بما كتبناه في المصادر التي تقدم ذكرها ولأنها لوحدها تحتاج إلى جهد ضخم مستقل وسنكتفي بالحديث عن جهة واحدة وهي علاقتهم مع الآخرين ويمكن أن نصنّف تفاصيلها على عدة محاور:.
الأول: دورهم في حياة الأمة عموماً
الثاني: دورهم في حياة شيعتهم خاصة
الثالث: علاقتهم مع الدولة الإسلامية والحكام المتصدين لشؤونها
الرابع: هل كان الأئمة عليهم السلام يسعون لتسلّم الحكم
وسأحاول أن أجعل الكلام مختصراً وإلا فهذا الباب واسع وكلما زادت مسؤولية الشخص في حياة الأمة كان فهمه أوسع. وأترك الفرصة للمفكرين والمثقفين والواعين كي ينهلوا من هذا المورد العذب الذي لا ينفد وحسبي أنني وضعت لهم هذه المعالم في الطريق.
ص: 54
ويمكن أن نستكشف فيه عدة نقاط:
وهي اعظم المسؤوليات الملقاة على الائمة عليهم السلام لانهم اعلم الناس بالرسالة وقد أخذوها من معادنها الاصيلة وكثيراً ما كانوا عليهم السلام يرددون (حديثي حديث ابي وحديث ابي حديث جدي وحديثه حديث امير المؤمنين عليه السلام عن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم عن جبرئيل عن الباري تبارك وتعالى) واذا كان هدف الرسالة الاسلامية هو إصلاح البشرية وهدايتها والاخذ بيدها نحو الكمال فلابد ان يمثلها من كمل نفسه اولا من جميع الجهات وهذه هي عقيدتنا فيهم عليهم السلام فانهم اكمل الخلق من جميع الجهات اما الناقص - مهما كانت درجته - فانه قاصر عن اداء هذا الدور كاملاً قال تعالى:[أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ] (1) ، ويعبر الامام الباقر عليه السلام عن هذه المسؤولية وقيامهم بها مهما كلف الثمن (بلية الناس علينا عظيمة إن دعوناهم لم يستجيبوا لنا وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا(2) وقد حمّل رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم الامة المسؤولية في أن تأخذ منهم وحدهم بحديث الثقلين (إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ابدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي وقد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض يوم القيامة وإني سائلكم عنهما(3) لذا وصفهم الامام السجاد عليه السلام: (المتقدم لهم مارق والمتأخر عنهم زاهق واللازم لهم لاحق)(4).
ص: 55
وقد سار كل إمام بطريقته الخاصة التي تنسجم مع الظروف المحيطة به لتزويد الامة باصول دينها وفروعها فسيرة الامام أمير المؤمنين عليه السلام مشهورة في ذلك خصوصاً في فترة خلافته فهذا اثره الخالد (نهج البلاغة) وسائر خطبه حافلة بانواع العلوم من عقائد وأخلاق وموعظة وإدارة واجتماع وغيرها ويقول عليه السلام فيه (ولقد ادبتكم بما أدبت به الانبياء اممهم) اما الامامان الحسن والحسين عليهما السلام فقد كانت لهما حلقات درس في مختلف العلوم الاسلامية يعقدانها في المسجد فعن ابي سعيد الخدري قال: «رأيت الحسن والحسين عليهما السلام وقد صليا مع الامام صلاة العصر في الكعبة ثم اتيا الحجر فاستلماه وطافا في البيت سبعاً وصليا ركعتين وقد أحاط بهما الناس حتى لا يستطيعان أن يمضيا» الى أن قال: «وكان - أي الامام الحسين عليه السلام - حيث يوجد يلتف حوله الناس كالحلقة هذا يستفتيه في امر دينه وهذا يأخذ من فقهه وهذا يستمع الى روايته وهذا لحاجته» وقد وصفه معاوية لبعض من سأله عنه «اذا وصلت مسجد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم فرأيت حلقة فيها قوم كأنّ على رؤوسهم الطير فتلك حلقة أبي عبد الله الحسين عليه السلام مؤتزراً الى أنصاف ساقيه»(1).
وكان للامام الحسن عليه السلام حلقة علمية في مسجد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم يدرس فيها - وهو شاب - تفسير القرآن ففي مجمع البيان روي ان رجلاً دخل مسجد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم يريد أن يسأل فسأل صاحب حلقة ثم سأل آخر يقول الرواي: فجزتهما الى غلام كأن وجهه الدينار وهو يحدّث عن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم فقلت أخبرني عن شاهد ومشهود فقال: نعم، أما الشاهد فمحمد صلي الله عليه و آله و سلم واما المشهود فيوم القيامه اما سمعت الله سبحانه يقول:«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً» وقال: ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود فسألت - يقول الراوي عنه فقالوا: الحسن بن علي عليهما السلام(2).
أما دور الامام السجاد عليه السلام فكان مغايراً لذلك فإنه بعد مأساة كربلاء والفضائع التي ارتكبها الامويون في أهل البيت عليهم السلام فقد سلك عليه السلام اسلوباً توجيهياً وتربوياً في0.
ص: 56
تموين الامة بالمعارف والعلوم وذلك من خلال الدعاء والمناجاة مع الله تبارك وتعالى وهي طريقة لا تثير السلطات بأي شكلٍ من الاشكال، وقد احتوت الصحيفة السجادية المباركة على ستين دعاءً ضمت شتات العلوم الاسلامية من الاخلاق والإلهيات والواجبات بين الراعي والرعية ودعوة الناس الى العودة الى كتابهم وإسلامهم وإنصاف المظلوم وتقويم الحكّام وفضل آل محمد صلي الله عليه و آله و سلم وتقدمهم على الناس جميعاً. ثم بعد أن سنحت له الفرصة كان الامام السجاد عليه السلام يعظ كل جمعة في مسجد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم يندد فيها بالسلطة من خلال ذم الظلم وبيان عاقبته الوخيمة ويدعو الناس إلى معرفة ربهم ونبيّهم وإمامهم(1).
اما الامامان الباقر والصادق عليهما السلام فقد عاشا في فترة انهيار وضعف الدولة الاموية وبداية نشوء الدولة العباسية فاستغلا تخفيف قبضة الدولتين عنهما ليؤسسا جامعة أهل البيت الكبرى التي شملت انوارها العالم الاسلامي وانجبت الآلاف من العلماء في مختلف العلوم والفنون على قصر عمرها حيث لم تتجاوز أربعة عقود وقد بلغ عدد المنتمين اليها اربعة آلاف كما أحصاهم ابو العباس احمد بن عقدة المتوفى سنة 230 ه - في كتاب مستقل، وأيدّه الشيخ نجم الدين في المعتبر وأدرك منهم الحسن بن علي الوشا وكان من اصحاب الرضا عليه السلام تسعمائة شيخ كانوا يجتمعون في مسجد الكوفة يحدّثون عن جعفر بن محمد ويتدارسون فقهه وذلك بعد اكثر من عشرين عاماً مضت على وفاة الامام الصادق عليه السلام(2).
وقد كانت للائمة الآخرين وسائل أخرى كمجالس المناظرة والمكاتبة حتى رويت الكثير منها عنهم(3).ا.
ص: 57
ولذلك كانت الأمة تفزع اليهم اذا استعصت عليهم مسألة فيبيّنون لهم الاحكام(1) التي لا توجد عند غيرهم من دون أن يسألوهم عن مصدرها(2) لأنهم يعلمون أصالة علم الأئمة وكثيراً ما كانوا عليهم السلام يوصفون بانهم (قوم زُقّوا العلم زقّا) ففي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ان عمر بن الخطاب نزلت به نازلة فقام لها وقعد وقال لمن عنده من الحضور: يا معشر من حضر ما تقولون في هذا الامر فقالوا يا أمير المؤمنين: أنت المفزع فغضب وقال: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا أما والله إني وإياكم لنعلم ابن بجدتها والخبير بها، فقالوا كأنك اردت علي بن ابي طالب فقال: وأنى يعدل بي عنه وهل طفحت حرة بمثله؟ فقالوا دعوته يا امير المؤمنين فقال: هيهات ان هناك شمخاً من هاشم واثرة من علم ولحمة من رسول الله، إن علياً يؤتى ولا يأتي فامضوا بنا اليه فمضوا نحوه فألفوه في حائط (أي بستان) له وهو يركل مسحاته ويقرأ أيحسب الإنسان أن يُترك سدى ودموعه تنهمل على خديه فأجهش الناس لبكائه فسأله ابن الخطاب عن تلك الواقعة، فأصدر جوابها، فقال عمر بن الخطاب: اما والله لقد ارادك الحق ولكن ابى قومك، فقال: يا ابا حفص: خفض عليك: من هنا ومن هنا ان يوم الفصل كان ميقاتا(3).
وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: بينا أمير المؤمنين في الرحبة والناس عليه متراكمون فمن بين مستفتي ومن بين مستعدي، إذ قام اليه رجل فقال: السلام عليك يا امير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، من أنت؟ قال: أنا رجل من رعيتك وأهل بلادك، فقال له: ما أنت برعيتي وأهل بلادي ولو سلّمت عليَّ يوماً واحداً ما خفيت عليَّ، فقال: الأمان يا امير المؤمنين، فقال: هل احدثت منذ دخلت مصري هذا؟ قال: لا، قال فلعلك من رجال الحرب؟ قال: نعم قال:1.
ص: 58
اذا وضعت الحرب اوزارها فلا بأس، قال: انا رجل بعثني اليك معاوية متغفلا لك، أسألك عن شيء بعث به ابن الاصفر (أي ملك الروم) اليه، وقال له: ان كنت احق فهذا الامر والخليفة بعد محمد فأجبني عما أسألك، فإنك إن فعلت ذلك اتبعتك وبعثت اليك بالجائزة فلم يكن عنده جواب وقد اقلقه فبعثني اليك لاسألك، فقال امير المؤمنين: قاتل الله ابن آكلة الاكباد، وما أضله واعماه ومن معه، حكم الله بيني وبين هذه الامة، قطعوا رحمي وأضاعوا أيامي ودفعوا حقي وصغروا عظيم منزلتي، واجمعوا على منازعتي، يا قنبر عليَّ بالحسن والحسين ومحمد فاحضروا، فقال: يا شامي هذان ابنا رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم وهذا ابني فاسأل ايهم احببت، فقال: أسأل ذا الوفرة يعني الحسن عليه السلام فاجابه الحسن عليه السلام على جميع الاسئلة فكتبها الشامي وذهب بها الى معاوية فبعثها الى ابن الاصفر، فكتب اليه ابن الاصفر: يا معاوية لِمَ تكلمني بغير كلامك، وتجيبني بغير جوابك، اقسم بالمسيح ما هذا جوابك وما هو الا من معدن النبوة وموضع الرسالة واما أنت فلو سألتني درهما ما عطيتك(1).
ونذر المتوكل العباسي وقد أصيب بوعكة أن يتصدق بمال كثير ولم يعين مقداره فلما اراد الوفاء بنذره جمع الفقهاء ليحددوا له مصداق الكثير فاختلفوا ولم ينتهوا الى نتيجة فأشار عليه بعض خواصه باستشارة الامام الهادي عليه السلام فأرسل اليه من يسأله فقال الإمام يكفي لتحقق الكثير ثمانون ولما سأله الرسول عن الدليل قال: ان الله عز وجل يقول في كتابه: لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين...» فعددنا تلك المواطن فكانت ثمانين(2).
وأقرّ سارق عند المعتصم بالسرقة على نفسه وطلب تطهيره بالحد فجمع الفقهاء لذلك وقد احضر الامام الجواد عليه السلام معهم فسألهم عن القطع في أي موضع يجب أن تقطع يد السارق؟ فقال ابن ابي داود (قاضي القضاة) من الكرسوع لقول الله في التيمم «فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ» واتفق معه جماعة، وقال آخرون: بل يجب القطع من2.
ص: 59
المرفق والدليل أن الله تعالى لما قال:«وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ» في الغسل دلّ على ان حد اليد هو المرفق، فالتفت الى الامام الجواد عليه السلام فقال: ما تقول في هذا يا ابا جعفر؟ فقال: قد تكلم القوم فيه يا امير المؤمنين قال: دعني مما تكلموا به أي شيء عندك؟ قال اعفني عن هذا يا امير المؤمنين قال: أقسمت عليك بالله لما اخبرت بما عندك فيه، فقال: اما اذا اقسمت عليًّ بالله إني اقول: إنهم اخطأوا فيه السنة، فان القطع يجب أن يكون من مفصل اصول الأصابع فتترك الكف، قال وما الحجة في ذلك؟ قال: قول رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: السجود على سبعة أعضاء: الوجه واليدين والركبتين والرجلين فاذا قطعت يده من الكرسوع او المرفق لم يبق له يد يسجد عليها، وقال الله تبارك وتعالى «وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلّهِ» يعني هذه الاعضاء السبعة التي يسجد عليها «فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً» وما كان لله لم يقطع فأعجب المعتصم ذلك وأمر بقطع يد السارق من مفصل الاصابع دون الكف(1).
ولعل من اوائل تلك الافكار المضللة القول بالجبر والذي يتتبع نشوء مسألة الجبر، يجد أن الغرض من خلقها وبثها كان سياسيا وهو إيجاد مستند شرعي لتسلط الحكام بغير حق فحينما كان الثوار يطالبون عثمان بالتخلي عن السلطة وإرجاعها الى من يستحقها كان رد حاشيته انه لا ينزع قميصا ألبسه الله تعالى وهم يعلمون ان الله تعالى لم يلبسه إياها إنما ألبسه الناس على خلاف ما اراده الله تعالى ثم حاول عمرو بن العاص (العقل المدبر لمكائد معاوية) أن يدسها في العقيدة الاسلامية فقد قال يوما أين أجد أحدا أحاكم اليه ربي؟ فقال ابو موسى الاشعري: انا ذلك المتحاكم اليه؟ فقال عمرو: او يقدر علي شيئا ثم يعذبني عليه؟ قال: نعم قال عمرو: لِمَ؟ قال: لانه لا يظلمك فسكت عمرو ولم يحر جوابا، وقال الشهرستاني صاحب (الملل والنحل) بعد ما ذكر انتساب ابي الحسن علي بن اسماعيل الاشعري مؤسس مذهب الاشاعرة الى
ص: 60
ابي موسى «وسمعت من عجيب الاتفاقات أن أبا موسى الاشعري كان يقرر عين ما يقرره الاشعري ابو الحسن في مذهبه» ثم ذكر مناظرة ابن العاص(1).
ويبدو ان هذه الشبهه لم تتأخر طويلا في التسرب الى عقول الناس - وما اكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين - حيث طلع علينا أول مضلل بهذه العقيدة ويصفه الرواة بانه شيخ شامي في جيش الامام علي عليه السلام - ولعله من جواسيس معاوية الذين دسهم لتمزيق جيش الامام عليه السلام وخلخلته - فقد سأل الامام عليه السلام عن مسيرهم الى أهل الشام اهو بقضاء الله وقدره؟ فأجاب الامام عليه السلام: نعم فقال الشيخ: عند الله احتسب عنائي فنهره الامام عليه السلام ورد شبهته بحجج قوية(2).
وعندما دخلت نساء الحسين عليه السلام وأطفاله سبايا على عبيد الله بن زياد ومعهم الامام السجاد عليه السلام سأله عبيد الله عن اسمه فقال: علي بن الحسين فقال: اليس الله قد قتل علياً فقال عليه السلام: كان لي أخ اسمه علي قتله الناس.
وكان للامامين الباقر عليه السلام والصادق عليه السلام (ومن تلاهما من الائمة عليهم السلام) اثر كبير في التصدي للتيارات الفكرية الخطيرة فقد عاشوا في زمن توسع الدولة الاسلامية توسعاً مذهلاً واطمأن المسلمون واستقروا من هذه الجهة فالتفتوا الى الفكر والعلم وانفتحوا على الحضارات المختلفة التي اتصلوا بها، وترجمت كتب كثيرة الى العربية فبرزت اتجاهات كان اكثرها يؤدي الى الالحاد والكفر والشرك وبالتالي تهديد اساس العقيدة الاسلامية بحيث كان الزنادقة والدهرية ونظرائهم يمثلون شريحه واسعة معلنة لافكارها ومتحدية لافكار المسلمين ويستهزؤن علناً بمشاعر المسلمين وشعائرهم(3) وكان للحكام دور فعال في دعم ونشر هذه التيارات وتأجيج الصراعات الفكرية لإشغال المسلمين وخصوصا الطبقة المفكرة منها بمشاكل هامشية وجانبية ليتسنى لهمب.
ص: 61
تمرير أهدافهم الهدامة ولتحوك السلطة مؤامراتها بمنأى عن الرقيب هذا من جانب ومن جانب آخر وجدت تلك الحكومات مبررا لتصرفاتها وجرائمها وتلميع صورتها في بعض تلك النظريات الجديدة كمسألة الجبر التي تضع عنهم مسؤوليات جرائمهم وتلقيها على قضاء الله وتعالى وكالإرجاء الذي يجعلهم في صفوف المؤمنين وكالتفويض الذي هو شرك بالله تعالى. وشجع الحكام أيضا المسائل المذهبية خصوصا الإمامة ونظرية عدالة الصحابة وغيرها.
وقد استخدم الائمة اسلوب المناظرات والاحتجاجات لتبكيت الخصوم ولترسيخ دعائم العقيدة وتطهيرها أو القاء النظريات الاسلامية الاصيلة فقد اشتهرت كلمتهم عليهم السلام (لا جبر ولا تفويض وإنما أمر بين امرين) وأن القائل بالجبر كافر وبالتفويض مشرك التي ردوا بها على كلا الاتجاهين.
وشجعوا أصحابهم على المناظرة ودربوا من له القابلية على ذلك كهشام بن الحكم ومؤمن الطاق والذي يراجع كتاب الاحتجاج للطبرسي/ الجزء الثاني يجد الكثير من هذه المناظرات ويتعرف على اشكال التيارات الفكرية التي عصفت بالمجتمع آنذاك وقد استعمل الائمة كل الوسائل والآليات المناسبة في هذه المواجهة ومن ذلك اجادتهم لمختلف اللغات والاطلاع على مختلف الثقافات للتمكن من تفنيد افكارها وتدعيم اسس الاسلام ومذهب الإمامية(1) وفي كتاب التوحيد من أصول الكافي تجد المناظرات مع مختلف الاتجاهات الفكرية) واذا كان علم الامام إلهامياً - كما نعتقد نحن الإمامية - فالذي نستفيده هنا ان ولي امر المسلمين يجب ان يكون كذلك - باعتباره وارثهم عليهم السلام - او يوفر عنده من يقوم بذلك لكي لا يكون اختلاف اللغات حاجزاً دون الاطلاع على شؤون المسلمين في مختلف انحاء العالم وكذا بالنسبة لاختلاف الثقافات خصوصاً في هذا العصر الذي اعلن فيه الغرب (صراع حضارات) مع الاسلام والذي يشهد ثورة عارمة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ويلاحظ هنا أن الامام في مناظراته مع الخصوم كان يطلع على نفسية الخصم للدخول الى قلبه7.
ص: 62
من أسهل الطرق ويأخذ عليه جميع الجهات لذا غالباً ما تنتهي المناظرات بايمان هؤلاء بالاسلام وبالامامة أحيانا.
وألف الكثير من اصحابهم في الرد على هذه الافكار المنحرفة فألف هشام بن الحكم كتاباً رد فيه على الزنادقة والملحدين وآخر في الرد على الثنوية وألّف غيرهما في الامامة والجبر والقدر والرد على ارسطاطاليس وبعض فلاسفة اليونان والهند وألف أبان بن عثمان كتاباً في المبدأ والمبعث(1) ، وغيرها كثير مما ذكر في معاجم الرجال والكتب.
ولابد من الالتفات الى أن البراهين العقلية التي أدلى بها الائمة لافحام الخصوم وإثبات العقائد الاسلامية النقية لا تعني بالضرورة الاهتمام بها ذاتها والتوسع بها وإنما الذي نستفيده ان الامام (أو نائبه بالحق) يجب ان يواجه الفلسفات والتيارات الفكرية التي تعصف بالمجتمع بما يفندها ويعري زيفها من الاصول الاسلامية ولكل زمان ما يناسبه من الادلة التي تنسجم مع الاتجاهات الفكرية العامة فيه وتستند على المبادئ الاصيلة للدين الحنيف فإذن بعض ما يذكر في فلسفة التوحيد التي أتى بها الائمة عليهم السلام للرد على بعض الشبهات التي كانت مثارة في زمنهم عليهم السلام ليست بذاتها مطلوبة للدراسة والتوسع الآن إذ يصبح ذلك ترفا فكريا بعد أن أهملت بعض هذه المطالب في زوايا النسيان، ولم يعد يوجد من يتبنى تلك الضلالات وحتى في عصرنا الحاضر فان بعض ما كتب قبل اربعين أو خمسين عاماً أو ثلاثين لمواجهة تحديات فكرية واقتصادية واجتماعية واخلاقية يومئذٍ ليس من الضروري استنساخها الآن لتغيّر التحديات. نعم، يؤخذ منها ما يثار في العصر الحاضر وأيضاً ما يفيدنا في مواجهة المشاكل الفكرية الاخرى التي تتحدى الامة الاسلامية اما من يكتب للمسلمين طلباً لتثبيت ايمانهم وتعزيز قناعتهم بمعتقداتهم فهو في غنى عن كل ذلك ويكفيه الادلة التي تخاطب الفطرة وهو صريح حديث الباقر عليه السلام: (كفى لأولي الالباب بخلق الربّ المسخّر، وملك الرب القاهر، وجلال الرب الظاهر، ونور الرب الباهر، وبرهان الرب9.
ص: 63
الصادق، وما أنطق به ألسن العباد، وما ارسل به الرسل، وما أنزل على العباد دليلاً على الرب(1).
ومن الملاحظ تنوع المشاكل الفكرية التي تعصف بالمجتمع وتمزقه وما إن تضمحل مشكلة حتى تثار أخرى ففي عصر الامام الصادق عليه السلام كانت مسألة إثبات وجود الصانع وتوحيده وفي عهد الرضا عليه السلام التجسيم والرؤية وفي زمان الامام الجواد عليه السلام خلق القرآن(2) مما يؤيد أنّ إثارة هذه المشاكل من دسائس السلطات الحاكمة وسيأتي في الفصل الثالث الاشارة الى ذلك بإذن الله تعالى.
ولم يقف الائمة عليهم السلام عند هذا الحد بل قاوموا ايضا الاتجاهات الفكرية التي كان مصدرها علماء المسلمين انفسهم بحسن نية منهم او غيرها لكن الامام عليه السلام يعلم ان فيها خطرا على الرسالة فالعمل بالقياس للتوصل الى الاحكام الشرعية كان له منشأ في صدر الاسلام الا انه بدأ يتبلور وتتضح معالمه في عصر الامام الصادق عليه السلام وكان وراء ذلك دوافع عدة:
1 - سياسي فقد كان الحكام يريدون التحرر من مصادر التشريع الحقيقية وهي كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه و آله و سلم لانهما يكشفان عدم استحقاقهم لهذا الموقع وتعريهم وتكشف زيفهم امام الناس فشجعوا مصادر بديلة للتشريع تقنّن لهم الاحكام حسب ما يشتهون.
2 - الغاء دور أهل البيت عليهم السلام في إمامة الامة لانهم عليهم السلام باعتراف الجميع اعلم الناس بكتاب الله وسنة جدهم رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم واليهم تفزع الامة في معرفة احكامهما فاذا تم الاستغناء عنهما فسيتحجم دور الائمة عليهم السلام وبالتالي يمكن اقصاءهم.
3 - حب الجاه وتصدر الناس عند بعض العلماء السائرين في ركاب السلطة ولجهلهم بمنابع التشريع الاصلية ففكروا في سد نقصهم بالقياس والاستحسان وإعمال الرأي. وقد قال زعيم أهل القياس للامام الصادق عليه السلام وقد أفحمه وأثبت له بطلانل.
ص: 64
العمل بالقياس: (لا أتكلم بالرأي والقياس في دين الله بعد هذا المجلس)، فقال له الامام عليه السلام: (كلا ان حب الرئاسة غير تاركك كما لم يترك من كان قبلك)(1).
وقد حاول الحكام فعلا وضع شريعة مقابل شريعة الله تعالى فقد قال مرة سليمان بن عبد الملك أن المرأة لا ترث فاعترض عليه عمر بن عبد العزيز بأن هذا مخالف لكتاب الله فانها ترث وللذكر مثل حظ الانثيين فقال سليمان، لا عليّ بما تقول: ائتوني بصحيفة عبد الملك بن مروان لانظرما فيها.
وقد احتاجت الامة العمل بالرأي والاستحسان بعد رحيل رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم وابعاد أهل البيت عليهم السلام عن قيادة الامة فهُجر كتاب الله تعالى بهجرهم(2) فلجأوا الى الاجتهاد حتى مع وجود النصوص الشرعية لتبرير الافعال المخالفة لشريعة الله سبحانه(3) فوقف الائمة عليهم السلام بحزم في وجه من يتأول برأيه من دون الاستناد الى دليل شرعي صحيح بأحاديث شديدة (من افتى برأيه فليتبوأ مقعده من النار) (أكبه الله على منخريه في نار جهنم).
ومن أخطر هذه الاتجاهات الفكرية العمل بالقياس لاستنباط الحكم الشرعي فانه ماحق للدين كما وصفه الامام عليه السلام فحذّر الامام الصادق عليه السلام علماء المسلمين وخصوصا أبا حنيفة رأس مدرسة القياس من الاخذ به وأبطل ادلته ووضح له التناقض الذي يقع فيه العامل بالقياس وقال كلمته المشهورة (اذا قيست السنة محق الدين) وقوله عليه السلام (أول من قاس ابليس، قال: خلقتني من نار وخلقته من طين والنار خير من الطين فكان عاقبته أن لعنة الله عليه والملائكة والناس اجمعين) وروي ان الامام الصادق عليه السلام قال لابي حنيفة في بعض مجالسه معه: بما تفتي أهل العراق يا ابا حنيفة؟ قال: بكتاب الله، قال: وإنك لعالم بالكتاب ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه، قال: نعم قال: فأخبرني عن قول الله تعالى: وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين،ص.
ص: 65
أي موضع هذا، قال: هو ما بين مكة والمدينة وتأمنون على دمائكم واموالكم فقالوا لا فقال: يا ابا حنيفة ان الله لا يقول الا حقاً، أخبرني عن قول الله تعالى من دخله كان آمنا أي موضع هو، قال ذلك بيت الله الحرام فالتفت ابو عبد الله الصادق عليه السلام الى جلسائه وقال: نشدتكم بالله هل تعلمون أن عبد الله بن الزبير وسعيد بن جبير(1) دخلاه ولم يأمنا القتل فقالوا: اللهم نعم، فقال ابو حنيفة: ليس لي علم بالكتاب إنما انا صاحب قياس فقال الامام: فانظر الى قياسك إن كنت مقيسا أيهم اعظم عند الله القتل أو الزنا؟ قال القتل اعظم قال عليه السلام: فكيف رضي بالقتل بشاهدين ولم يرضَ في الزنا الا باربعة شهود، وأيهما أفضل الصلاة أم الصيام قال: بل الصلاة افضل، قال: فيجب على قياسك ان تقضي الحائض ما فاتها من الصلاة حال حيضها دون الصيام حين أن الله قد اوجب عليها قضاء الصوم دون الصلاة، ثم قال له: البول اقذر أم المني؟ قال: البول أقذر فقال عليه السلام يجب على قياسك ان يغتسل الانسان من البول دون المني فقال: إنما أنا صاحب رأي قال: فما ترى في رجل كان له عبد فتزوج وزوج عبده في ليلة واحدة فدخلا بزوجتيهما في ليلة واحدة ثم سافرا وتركا زوجتيهما في بيت واحد وولدتا غلامين فسقط البيت عليهم فقتل المرأتين وبقي الغلامان أيّهما في رأيك المالك وأيهما المملوك وايهما الوارث وايهما الموروث فقال: إنما انا صاحب حدود، قال: فما ترى في رجل اعمى فقأ عين صحيح، واقطع قطع يد رجل كيف يقام عليهما الحد فقال: إنما انا رجل عالم ببعث الانبياء قال: فأخبرني عن قوله تعالى لموسى وهارون حيث بعثهما الى فرعون لعله يتذكر او يخشى اليست لعل شك؟ قال: نعم قال: فهل هي من عند الله شك؟ قال: لا اعلم فقال الامام عليه السلام: تزعم انك صاحب رأي وكان الرأي من رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم صواباً ومن غيره خطأ لأن الله يقول (فاحكم بينهم بما اراك الله) ولم يقل ذلك لغيره. وتزعم بانك صاحب حدود ومن انزلت عليه اولى بعلمهاة.
ص: 66
منك: وتزعم أنك عالم بمباعث الانبياء وخاتم الانبياء أعلم بمباعثهم منك ولولا أن يقال أن ابا حنيفة دخل على ابن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم ولم يسأله ما سألتك عن شيء(1).
لاحظ شعور الامام عليه السلام بمسؤوليته تجاه الامة من خلال الفقرة الاخيرة من كلامه عليه السلام ولولا هذه الوقفة الحازمة من الامام عليه السلام لسرى هذا الاتجاه من التفكير الى اصحاب الامام عليه السلام نفسه وستكون النتيجة تضييع الدين بين احكام القياس التي لا ضابط لها فيحدثنا أبان بن تغلب وهو من اكبر فقهاء أصحاب الامام عليه السلام قال: قلت له - أي الامام الصادق عليه السلام - ما تقول في رجل قطع اصبعا من اصابع المرأة كم فيها؟ قال عليه السلام: عشر من الابل، قلت: قطع اثنتين قال عشرون، قلت: قطع ثلاثا قال: ثلاثون، قلت: قطع اربعا قال عليه السلام: عشرون، قلت: سبحان الله! يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون ويقطع اربعاً فيكون عليه عشرون!؟ إن هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنتبرأ ممّن قاله، ونقول: الذي جاء به شيطان فقال: مهلاً يا أبان! هذا حكم رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم إن المرأة تعاقل (أي توازن) الرجل الى ثلث الدية فاذا بلغت الثلث رجعت الى النصف (وثلث العشر أصابع بين الثلاث والاربع) يا أبان: إنك اخذتني بالقياس، والسنة اذا قيست محق الدين(2) ولاحظ اصرار الائمة عليهم السلام على هذا الموقف في مناظرة الامام الكاظم عليه السلام مع تلميذ ابي حنيفة محمد بن الحسن الشيباني بمحضر هارون العباسي وهم بمكة، ومما قال له: (إن احكام الله تعالى يا محمد لا تقاس، فمن قاس بعضها على بعض فقد ضلّ عن السبيل فسكت محمد بن الحسن لا يرجع جواباً(3).
وقد التزم المتأدبون بتعاليمهم فهذا السفير الثالث للامام المهدي عليه السلام الحسين بن روح يقول: (لئن أخِرُّ من السماء فتخطفني الطير أو تهوي بي الريح في مكان سحيق أحبّ اليّ من أن أقول في دين الله برأيي)2.
ص: 67
(ومن عند نفسي بل ذلك عن الاصل ومسموع من الحجة صلوات الله عليه وسلامه(1).
ومن أجل حماية الأمة من الوقوع في الشبهات العقائدية والفكرية فقد نهوا عليهم السلام عن الدخول في المسائل المتشابهة، فقد نقل صاحب مفاتيح الجنان عن المحدّث النوري ما ملخصه أن امير المؤمنين عليه السلام قد مرّ على قومٍ من أخلاط المسلمين وهم قعود في بعض المساجد وهم يخوضون في امر القدر وغيره قد ارتفعت اصواتهم واشتدّ فيه محكمهم وجدالهم فوقف عليهم وسلم فردوا عليه واوسعوا له وقاموا اليه يسألونه القعود فلم يحفل بهم ثم قال لهم وناداهم: يا معاشر المتكلمين فيما لا يعنيهم ولا يرد عليهم الى ان قال عليه السلام: فأين انتم منهم يا معاشر المبتدعين أما علمتم أن اعلم الناس بالقدر اسكتهم عنه وأن أجهلهم به أكثرهم كلاماً فيه... الخ(2). وراجع نهي السجاد عليه السلام عن الدخول في مسائل فلسفية(3).
رغم ان الامة اقصتهم عليهم السلام عن موقعهم الحقيقي وخلفتهم عليهم السلام وراء ظهورهم الا انهم عليهم السلام وحرصا منهم على كيان الامة الاسلامية والدولة الممثلة للاسلام لم يتركوا الامة سدى فتحملوا عنها اعباء التحديات والمشاكل التي واجهتها وهذه الحاجة الحقيقية لهم هي اكبر دليل على امامتهم كما ينسب ذلك الى الخليل بن احمد الفراهيدي انه سئل ما الدليل على إمامة علي بن ابي طالب بعد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم قال: احتياج الناس اليه وعدم احتياجه الى الناس.
واول تحّدٍ للأمة كان بعد وفاة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم اذ لعبت الاهواء والمطامع وحب الرئاسة بنفوس البعض وسولّ لهم التجاوز على حق امير المؤمنين عليه السلام الذي بلّغه رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم يوم الغدير ونزل فيه قوله تعالى [يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ]
ص: 68
[رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ] (1) ، ولم تنفع كل محاولاته صلي الله عليه و آله و سلم في الزام الامة بهذا الامر وكان آخرها قبل وفاته بأربعة أيام فيما يعرف برزية يوم الخميس فحصل الذي حصل من الخلاف بعد وفاته صلي الله عليه و آله و سلم فانبرى عليه السلام ومعه الزهراء عليها السلام والثلة المخلصة من الصحابة(2) ولما لم تنفع معهم الادلة والبراهين والمواعظ وكاد الجدال يتحول الى جلاد بالسيف يذهب هذا الدين الفتي أمر أصحابه بالصبر وقال كلمته المعروفة) لأسلمن ما سملت امور المسلمين (.
ويمكن أن نثبت بهذا المجال تصدي الامام علي عليه السلام للأسئلة والاستفسارات التي كان يثيرها علماء اليهود والنصارى عقب وفاة الرسول صلي الله عليه و آله و سلم وكانت الخلافة آنذاك تعجز عن الاجابة عليها مما كان يهدد كرامة الدولة الاسلامية ويشكك في اصالتها ومصدرها ومن ذلك ما روي في الارشاد أن بعض احبار اليهود جاء الى أبي بكر فقال: أنت خليفة نبي هذه الأمة؟ فقال له: نعم فقال: إنا نجد في التوارة أن خلفاء الانبياء أعلم اممهم فأخبرني عن الله تعالى أين هو أفي السماء ام في الارض؟ فقال ابو بكر: هو في السماء على العرش فقال اليهودي فارى الارض خالية منه وأراه على هذا القول في مكان دون مكان، فقال له ابو بكر: هذا كلام الزنادقة اعزب عني وإلا قتلتك فولّى الحبر متعجباً يستهزئ بالاسلام فاستقبله أمير المؤمنين عليه السلام وطلب منه إعادة السؤال ثم أجابه فأذعن الحبر وشهد بصحة الجواب(3).
فلا يمكن فهم هذه المحاولات المتكررة من اليهود والنصارى بسذاجة على أنها لمجرد السؤال والجدال العلمي وإنما هي مؤامرة منسقة ومتتالية الحلقات وذات نهج خبيث التجأ اليها اعداء الاسلام بعد فشل المواجهات العلنية والمباشرة مع الدين الجديد مستغلين رحلة الرائد الاعظم صلي الله عليه و آله و سلم وتولي مكانه من قبل ناس ليس لهم كفاءةي.
ص: 69
مواصلة دوره القيادي ويؤكد رأينا هذا ذهاب المخلصين من صحابة النبي صلي الله عليه و آله و سلم والحريصين على مصلحة الاسلام الى أمير المؤمنين عليه السلام بسرعة وإخباره بحراجة الموقف فكان الامام عليه السلام بالمرصاد لأمثال هذه المؤامرات وغيرها وكان بحق القيّم على هذا الدين بعد رحيل القائد الاعظم صلي الله عليه و آله و سلم.
ومن القضايا المصيرية الهامة التي عصفت بالأمة ما واجهته في بداية خلافة امير المؤمنين عندما انقسم اصحاب النبي صلي الله عليه و آله و سلم ومن خلفهم بقية الناس الى فئات يضرب بعضها رقاب بعض وكلٌ يجر النار الى قرصه ولم تكن قد حدثت مثل هذه الحالة من قبل وليس بين يدي الامة حادثة في حياة النبي صلي الله عليه و آله و سلم مثلها وإن كان معدن العلم وأهل بيت الوحي يعلمونها والتزم الحياد عدد منهم - كسعد بن ابي وقاص - زاعمين ان الموقف غامض وأنه لو وجد سيفا يفرق بين المؤمن والكافر لقاتل به وهنا أرسل الامام علي عليه السلام قوله الخالد وقلبه يتقطع ألماً على هذه الامة المضللة المغرر بها «ولقد ضربت أنف هذا الامر وعينه وقلبت ظهره وبطنه فلم أرَ فيه الا القتال او الكفر بما جاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم به»(1) وقال «وقد قلبت هذا الامر بطنه وظهره حتى منعني النوم فما وجدتني يسعني الا قتالهم او الجحود بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكانت معالجة القتال أهون علي من معالجة العقاب، وموتات الدنيا أهون علي من موتات الآخرة»(2) فلم يكن امام ابي الحسن عليه السلام الا القتال حتى يفيئ الباغي وترتفع الفتنة ويعود الحق الى مقره فشرع الامام بذلك حكم البغاة وما تفرع عليه من أحكام أخرى كقتال البغاة الذين لهم فئة - كاصحاب معاوية - والذين ليس لهم فئة - كاصحاب الجمل - وسلبهم والاجهاز على جريحهم فيجوز في الاول دون الثاني حتى قال احد ائمة المذاهب (لولا قتال علي عليه السلام لأهل الجمل وصفين لما عرفنا حكم البغاة(3).0.
ص: 70
ومشكلة أخرى عانت منها الامة وهي تحديد موقعها من بيعة رجل فاسق متجاهر بمعارضة الاسلام ابتداءاً كيزيد بن معاوية ولم تسبق مثل هذه الحالة وظلت حائرة تيمم بصرها شطر ابي عبد الله الحسين عليه السلام فما كان منه - بأبي هو وامي - الا ان يتحمل المسؤولية كاملة ويعلن رأي الاسلام بصراحة «من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله ناكثاً عهده مخالفاً لسنة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله(1).
واستشهد هو والصديقون من اصحابه في سبيل هذا التشريع وعلم بذلك واجب المسلمين تجاه الحكام المنحرفين وحكم بيعة المكره وعلى هذا أفتى مالك بعدم لزوم بيعة المضطر لمن استفتاه في الخروج مع محمد ذي النفس الزكية ضد ابي جعفر المنصور(2).
وقال ابو حنيفة لامرأة قالت له: انك افتيت ابني بالخروج مع ابراهيم (ابن عبد الله المحض شهيد باخمرا) فخرج فقُتِل فقال لها ليتني كنت مكان ابنك وكتب الى ابراهيم: اما بعد فاني جهزّت اليك اربعة الاف درهما ولم يكن عندي غيرها ولولا امانات الناس عندي للحقت بك فاذا لقيت القوم وظفرت بهم فافعل كما فعل ابوك في أهل صفين: اقتل مدبرهم واجهز على جريحهم ولا تفعل كما فعل ابوك في اهل الجمل فإن القوم لهم فئة»(3).
ومن التحديات الاجتماعية ما حصل من انحراف اللسان العربي وتفشي اللحن فيه منذ زمن أمير المؤمنين عليه السلام بسبب اتساع رقعة الفتوحات الاسلامية وهجرة الأقوام غير العربية الى بلاد العرب، وهو لو استمر فانه سيفقد العرب قدرتهم على تفهم الكتاب1.
ص: 71
والسنة فيضيعوهما فانبرى أمير المؤمنين عليه السلام لوضع علم النحو والقاه الى تلميذه ابي الاسود الدؤلي(1).
وما ذكره السيد الشهيد الصدر في أصل البحث من انقاذ الامام السجاد عليه السلام الدولة الاسلامية من تحد كافر يهدد سيادتها بشأن النقد وعجز الحاكم الاموي عن الرد عيه فخطط عليه السلام للاستقلال النقدي، وقد مرّ في القسم الاول. وكذا مشكلة وضع الحجر في مكانه بعد ان احترقت الكعبة في حادثة ابن الزبير واعيد بناؤها واختلفوا فيمن يضع الحجر وينال هذا الشرف فكان الامام السجاد عليه السلام كجدّه رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم.
وادعت(2) امرأة في زمان المتوكل انها العقيلة زينب بنت امير المؤمنين وقد بعثها الله تبارك وتعالى الآن ولم يستطيعوا دحض مدعاها فاستدعى المتوكل الامام الهادي ليحلّ المشكلة وكانت للمتوكل حفرة كبيرة وعميقة فيها سباع يلقي اليها معارضيه فقال له الامام عليه السلام ألقي هذه المرأة الى السباع فإن كانت صادقة فلا يضرها شيء لان الله تعالى حرم لحوم آل رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم على السباع فصاحت المرأة الله الله بدمي يا ابا الحسن عليه السلام فلست زينب بنت فاطمة الزهراء عليها السلام، هنا استغل المتوكل الفرصة وقال للامام عليه السلام لنجرب هذه المقولة معك فنزل الامام الى السباع وما كان منها الا ان مرغت وجوهها بين يدي الامام عليه السلام.
وفي زمن احد الملوك العباسيين كان عالم نصراني يدعو فيستجاب له ويستسقي السماء فتمطر مما اربك عقيدة المسلمين وظنوا أن الحقّ مع عقيدته، فلجأوا الى الامام الهادي عليه السلام او العسكري عليه السلام فقال اذا مد يده للدعاء فخذوا ما في يده ففعلوا فوجدوه يسأل الله تعالى بجزء من بدن إنسان فقال له الامام عليه السلام ألست قد أخذت هذا من قبر أحد الانبياء عليهم السلام فان الله تبارك وتعالى آلى على نفسه أن لا يسأله بذلك أحد الا أجاب دعوته.م.
ص: 72
ومن مجموع النقاط الثلاث المتقدمة يظهر لنا دور مهم للائمة عليهم السلام في حياة الامة وهي إعادة الثقة بنفسها ودينها وقادتها الحقيقيين بعد ان اهتزت وضعفت بسبب عدة نقاط:
1 - ضعف الحكام وعجزهم وكذا العلماء المرتبطين بهم عن مواجهة المشاكل والتحديات التي تواجد الامة.
2 - دقة تنظيم الهجمات والبريق الظاهر لها فهي مزينة ومدعومة بعلوم وفلسفات مقننة.
3 - عدم استثارة نقاط القوة عند الامة سواء على صعيد عقيدتها اعني الاسلام الاصيل أو على صعيد اعطاء الفرصة لقادتها الحقيقيين.
من هنا كان دور الائمة في استعادة هذه الثقة من خلال عدة نقاط:
1 - عرض شمول الاسلام وسعته لكل نواحي الحياة وتقديم الدين كمنظومة محكمة متكاملة لادارة الحياة.
2 - إثارة مختلف العلوم والفنون التي بثها الائمة عليهم السلام مما يرتبط بالدين مباشرة (كالعلوم العقلية والنقلية) او التي حثوا عليها كالعلوم التجريبية والتطبيقية واهمها الطب والفلك وباشر الائمة عليهم السلام جزءاً من العلوم بانفسهم وفتحوا ابواب البعض الاخر ولهم بذلك آثار موجودة في الطب (كتاب توحيد المفضل للامام الصادق عليه السلام) والكيمياء (رسائل جابر بن حيان للامام الصادق عليه السلام) وغيرها.
3 - عرض نقاط الضعف والخلل في تلك الفلسفات والنظريات المستوردة من خلال المناظرات والاحتجاجات.
4 - تزويد الامة بعقيدتها النقية بعد أن اختلط الحابل بالنابل وتهذيبها من الشوائب والانحرافات المنسوبة لها.
ص: 73
5 - بناء القواعد المؤمنة الواعية المزودة بالعقيدة والعلم القادرة على مواجهة هذه التحديات والمحافظة على الرسالة حيث عبّروا عن ذلك بقولهم (إن في كل خلف منا عدولاً ينفون عن هذا الدين زيغ المبطلين).
وقد ادى هذه الادوار عدد من العلماء والمفكرين على مدى الاجيال حتى وصلت الامانة الينا اعاننا الله عليها. وعلينا ان نستفيد من هذه الدروس كيفية مواجهة الهجمات الشرسة التي يتعرض لها الاسلام والمسلمون بعد تشخيصها وتحليلها.
وقد بدأت هذه المهمة عندما عزم القوم على سلب امير المؤمنين عليه السلام حقه وشاركته فاطمة الزهراء عليها السلام بنت رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم وألقت تلك الخطبة العظيمة على اصحاب رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم في مسجده الشريف ثم القت اخرى على نساء الانصار لمّا جئن لزيارتها لينقلن الكلام الى ازواجهن ولم تترك لهم عذراً بل افحمتهم بالحجج الدامغة(1) وكذا فعل امير المؤمنين عليه السلام والصحابة المخلصون فقد سئل الامام الصادق عليه السلام هل انكر احد من اصحاب رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم تصدي القوم للخلافة من بعد، فقال: نعم اثنا عشر رجلاً ستة من المهاجرين وستة من الانصار ثم ذكر عليه السلام نصوص كلماتهم(2).
وبعد خمس وعشرين سنة عندما مات الكثير من هؤلاء الصحابة وبدأت التشكيكات في صحة هذا الأمر جمع الصحابة المتبقين واستنشدهم على هذا الامر وشهدوا له امام من لم يسمع وقد تقدم تفصيل هذا الامر في متن البحث.
ص: 74
وحتى(1) حينما يكرهون على تسليم امر سياسة البلاد الى غيرهم فانهم كانوا يدلون بحقهم ومظلوميتهم امام الملأ لئلاّ يظن جاهل أو غافل انهم تنازلوا عن حقهم الشرعي فيندرس الحق بمرور الزمن فعندما جيئ بأمير المؤمنين للبيعة مكرها رد عليهم بكلام أفحمهم به لتسالم الجميع على صحة حججه وكان مما قال عليه السلام: يا معشر المهاجرين والانصار أنشدكم بالله أسمعتم رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم يقول يوم غدير خم كذا وكذا وفي غزوة تبوك كذا وكذا فلم يدع ما قاله فيه عليه السلام علانية للعامة الا ذكره فقالوا الله نعم، ثم التفت الى قبر النبي صلي الله عليه و آله و سلم ونادى قبل أن يبايع (يا ابن أمّ أن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني) ثم تناول يد الخليفة فبايعه(2).
وعندما اضطرت الظروف الامام الحسن عليه السلام للهدنة مع معاوية وتسليمه أمر البلاد واجتمعا في الكوفة لاجراء مراسيم الهدنة قال الامام الحسن عليه السلام: ان معاوية زعم لكم اني رأيته للخلافة أهلا ولم أرَ نفسي أهلا لها، لقد كذب معاوية نحن اولى الناس بالناس في كتاب الله وعلى لسان نبيه، ولم نزل أهل البيت مظلومين منذ قبض الله نبيه فالله بيننا وبين من ظلمنا وتوثب على رقابنا وحمل الناس علينا(3).
ولم يتوانوا عليهم السلام عن استخدام أية وسيلة لإعلان حقهم ومظلوميتهم وتوعية الامة وبيان ظلم وطغيان الحكومات المنحرفة والمفاسد التي سببوها في المجتمع المسلم ومن هذه الوسائل:
1 - الشعر الهادف المخلص الذي كان منبرا اعلامياً ناجحاً ومؤثراً واهتموا عليهم السلام برعاية الشعراء المخلصين وتشجيعهم واكرامهم والدعاء لهم اقتداءا بجدهم1.
ص: 75
المصطفى صلي الله عليه و آله و سلم الذي جعل من الشعر في معركته مع الشرك وسيلة يرد بها الشتيمة ويوري العزيمة ويسجل به النصر حيث كان يردد بارتياح لمن ينشد بحضرته شعرا قوله (لا يفضض الله فاك) وقوله صلي الله عليه و آله و سلم لحسان بن ثابت وقد نظم أبياتا في مناسبة غدير خم اولها:
يناديهم يوم الغدير نبيهم *** بخم وأسمع بالنبي مناديا
فقال صلي الله عليه و آله و سلم: (لا تزال يا حسّان مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك) وكان صلي الله عليه و آله و سلم يضع لحسان منبرا في مسجده الشريف يقوم عليه مفاخرا عن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم.
وعندما أنشد الكميت الاسدي هاشمياته بين يدي الامام الباقر عليه السلام ووصل الى قوله في قصيدته الميمية:
وقتيل بالطف غودر منهم *** بين غوغاء أمةٍ وطغام
بكى الامام عليه السلام ثم قال (يا كميت لو كان عندنا مال لأعطيناك ولكن لك ما قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم لحسان بن ثابت: لا زلت مؤيداً بروح القدس ما ذببت عنا أهل البيت). ولما مدح الكميت الامام السجاد بقصيدته التي اولها:
منْ لقلبٍ متيّم مستهام *** غير ما صبوةٍ ولا أحلام
قال الامام عليه السلام: (ثوابك نعجز عنه ولكن ما عجزنا عنه فان الله لا يعجز عن مكافأتك اللهم اغفر للكميت)، ثم قسط له على نفسه وعلى أهله اربعمائة الف درهم وقال له: خذ يا ابا المستهل فقال له: لو وصلتني بدانق (جزء من الدرهم) لكان شرفا لي ولكن إن احببت أن تحسن اليَّ فادفع اليَّ بعض ثيابك التي تلي جسدك اتبرك بها. فقام عليه السلام فنزع ثيابه ودفعها اليه كلها ثم قال (اللهم ان الكميت جاد في آل رسولك وذرية نبيك بنفسه حين ضنَّ الناس وأظهر ما كتمه غيره من الحق فأحيه سعيدا وأمته شهيدا وأره الجزاء عاجلا وأجزل له جزيل المثوبة آجلا فانا قد عجزنا عن مكافآته) قال الكميت (ما زلت اعرف بركة دعائه) حتى استشهد سنة 126 ه -. وموقف الفرزدق الشاعر الذي تقدم في المتن وأغضب هشام فأمر بسجنه ومن سجنه أرسل بيتين الى
ص: 76
هشام يذمه فيها ووصله الامام السجاد عليه السلام بصلة قال الفرزدق ما قلت الذي قلت طلبا لحطام الدنيا وإنما غضبا لله تعالى وحبا لرسوله، وقصائد دعبل الخزاعي التي سار بها الركبان خصوصا تائيته المشهورة وأنشدها بمحضر الامام الرضا عليه السلام واصبحت حياته مهدده بسبب تلك المواقف حتى قال (لا زلت احمل خشبتي على ظهري ثلاثين سنة أطلب من يصلبني عليها في حب اهل البيت عليهم السلام).
وقد بلغ اهتمام الائمة بالشعر أكثر من ذلك فقد كانوا يتابعون ما يقال هنا وهناك مما يمسّ قضيتهم فعندما قال حكيم الاعور - ذو الميول الأموية - بعد استشهاد زيد بن علي رضى الله عنه:
صلبنا لكم زيداً على جذع نخلةٍ *** ولم نرَ مهدياً على الجذع يُصلبُ
وقستم بعثمانَ علياً سفاهةً وعثمانُ خيرٌ من عليّ وأطيبُ
رفع الامام الصادق عليه السلام يديه وهما تنتفضان رعدة وقال: اللهم إن كان كاذباً فسلط عليه كلباً. فخرج حكيم من الكوفة فأدلج - أي سار الليل كله - فافترسه الاسد(1).
ولأهمية الشعر في خدمة القضية كان الائمة عليهم السلام يرون في اعلانه والاحتفاء به والاصغاء اليه عبادة تقصر عنها غيرها وتستحق صرف الوقت الثمين من اجلها فهذا الامام الصادق عليه السلام يقدم إنشاد الشعر واستماعه على العبادة والدعاء في أشرف الاوقات واعظم المواقف لما دخل عليه الكميت بهاشمياته في أيام التشريق بمنى فقال له: جعلت فداك ألا انشدك؟ قال (عليه السلام): انها ايام عظام، قال: انها فيكم، فلما سمع الإمام (عليه السلام) مقاله بعث إلى ذويه فقربهم اليه وقال: هاتِ فانشده لاميته من الهاشميات فحظي بدعائه عليه السلام والف دينار وكسوة(2).
2 - إقامة مآتم العزاء التي تذكر المصائب والمظالم التي مرت بهم عليهم السلام والتي لم تقتصر على إثارة العاطفة فقط وإنما كانت مدارس للتوعية وبيان حقهم عليهم السلام وشحن الامة بالثورة ضد الظالمين ولفت الانظار الى مظلوميتهم عليهم السلام وحقهم المضاع2.
ص: 77
خصوصاً الشعائر الحسينية ومآتم العزاء والبكاء على مصيبة سيد الشهداء وليس ذلك لآن مصيبة الحسين عليه السلام لم يشهد لها التاريخ نظيراً فحسب بل للمحافظة على الحسين عليه السلام كقضية في اذهان الامة تشعرها بوخز الضمير كلما تقاعست وتخاذلت عن اداء دورها في تقويم اي انحراف في تطبيق الاسلام وأي تشويه لمعالمه وتدعوهم الى تفضيل الموت بعز على الحياة مع الذل، قال الامام الباقر عليه السلام: (رحم الله عبداً اجتمع مع آخر فتذاكر في أمرنا فإن ثالثهما ملك يستغفر لهما، وما اجتمع اثنان على ذكرنا الاّ باهى الله بهما الملائكة فاذا اجتمعتم فاشتغلوا بالذكر فان في اجتماعكم ومذاكرتكم احياءنا وخير الناس بعدنا من ذاكر بأمرنا ودعى الى ذكرنا). ويقول الصادق عليه السلام للفضيل بن يسار: (اتجلسون وتتحدثون) قال: نعم فقال عليه السلام: (أما إني أحب تلك المجالس فأحيوا أمرنا فإن من جلس مجلساً يحيي فيه امرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب) وكان الامام السجاد عليه السلام يبكي على أبيه حتى قيل له: إنا نخاف ان تكون من الهالكين. وكان لا يأكل ولا يشرب الا ذكر أباه الحسين عليه السلام وكلما اجتمع عنده ناس ذكرهم بأبيه عليه السلام وهو يمشي في السوق يرى قصاباً يريد أن يذبح كبشاً فيقول لصاحبه هل سقيت الكبش ماءاً فيتوجه الى جهة كربلاء ويذكر القصاب قائلاً انتم معاشر القصابين لا تذبحون الكبش حتى تسقوه ماءاً فقال القصاب: نعم، يا ابن رسول الله وما أيسر ذلك فقال عليه السلام: ولكن ذبح ابي الحسين عليه السلام عطشاناً الى جنب الفرات وشاركته عمته العقيلة زينب وسائر آل النبي صلي الله عليه و آله و سلم في هذه الثورة العاطفية الواعية مما أوصل حال الناس في المدينة الى الثورة فكتب واليها عمرو بن سعيد الاشدق الى يزيد ينبئه بهذا الخطر ويصف العقيلة زينب بأنها فصيحة عاقلة لبيبة فكتب يزيد يأمره بعزلها عن الناس وهكذا كانت تفعل ام البنين زوجة أمير المؤمنين عليه السلام ام العباس وأخوته، فقد كانت تذهب الى البقيع وتندب أبناءها بأشجى ندبة يتفجع الناس لها حتى مروان بن الحكم كان يبكي حينما يسمعها(1) ، ولم تدم الحال طويلاً حتى انفجرت المدينة بثورة الحرة بعد مأساة كربلاء بسنتين.ن.
ص: 78
ومن قبلها كانت فاطمة الزهراء عليها السلام تبكي وتثير الناس ضد ظالميها حتى قالوا لزوجها امير المؤمنين لقد آذتنا قاطمة ببكائها فاما أن تبكي ليلاً وتسكت نهاراً او بالعكس فعمل لها علي عليه السلام بيتاً خارج المدينة سماه بيت الاحزان كانت تذهب اليه لتبكي على أبيها.
وكان الائمة عليهم السلام يعقدون هذه المآتم ويحرصون عليها وبذلك حفظوا قضية الحسين عليه السلام خاصة وأهل البيت عليهم السلام عامة شوكة في عيون الظالمين وبركاناً في نفوس المستضعفين يتفجر بين الفينة والأخرى ولذا لم يأل الحكام جهدا في حرب الحسين عليه السلام بعدوفاته وزائريه وطمس آثار مرقده والقضاء على شعائره ومآتم عزائه وليس أدلّ على ذلك مما فعله المتوكل العباسي فقد كان شديد البغض لعلي وأهل بيته وأمر بمصادرة اموال وقتل من يتولى علياً والحسين عليهما السلام(1) وفرض عقوبات على زائريه تراوحت بين الغرامات المالية الباهضة الى قطع الايدي الى القتل ومع ذلك ظلت سيول الموالين والسائرين على درب الحسين عليه السلام تفد الى مرقده الطاهر متحدية السلطة الغاشمة فالتجأ الى إغراق القبر وحرثه فلم يفلح إذ كان الماء يطوف حول البقعة الطاهرة ويغوص في الارض ولذا سمي بالحائر الحسيني، وقال الشاعر واصفاً هذه الاساليب المليئة بالحقد:
تالله إن كانت امية قد أتت *** قتل ابن بنت نبيها مظلوما
فلقد أتته بنو أبيه بمثله فغدا لعمرك قبره مهدوما
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا في قتله فتتبعوه رميما
وكان من وصية الامام الباقر عليه السلام لولده الصادق عليه السلام أن يجعل له نوادب يندبنه عشر سنين بمنى أيام الموسم وكانت وفاة الامام الباقر عليه السلام سنة 114 ومنه يتضح لك كيف أن هذا العمل دفع المسلمين الى الثورة على الامويين (زيد الشهيد سنة 121 ه - ثم ولده يحيى حتى انهارت الدولة الاموية سنة 132 ه -).2.
ص: 79
وهي من اسس وركائز المجتمع المسلم فلا غرو أن يحافظ عليها الائمة عليهم السلام أيما محافظة ويضحون من اجلها بالغالي والنفيس تمسكاً بقوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) وقد فسر النبي صلي الله عليه و آله و سلم لهذا الامة الحبل الذي إن تمسكوا به حفظوا وحدتهم من التفرق وهما كتاب الله وعترة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم(1) فالامام علي عليه السلام تنازل عن حقه في سياسة امور العباد من أجل حفظ هذه الوحدة وهو القائل لما عزموا على بيعة عثمان: «لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري، ووالله لأسلمنْ ما سلمت امور المسلمين ولم يكن فيها جورٌ الا علي خاصة، التماسا(2) لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه»(3).
ومما كتب الامام الحسين عليه السلام الى رؤساء الاخماس بالبصرة: «أما بعد فإن الله اصطفى محمدا صلي الله عليه و آله و سلم من خلقه وأكرمه بنبوته واختاره لرسالته ثم قبضه اليه وقد نصح لعباده وبلّغ ما ارسل به صلى الله عليه وآله وكنا اهله واولياءه واوصياءه وورثته واحقّ
ص: 80
الناس بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومنا فرضينا وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية ونحن نعلم أنّا أحقّ بذلك الحق المستحق علينا ممّن تولاّه»(1).
وكانوا عليهم السلام يتوسلون بمختلف الطرق للتقريب بين وجهات النظر وإقناع المنحرفين عن محبتهم والاتصال بمبغضيهم إما جهلاً او لحقد موروث لا مبرر له او للتضليل الاعلامي الذي اتبعته السلطات المتعاقبة ضدهم فمن ذلك ما روي ان الامام الحسين عليه السلام واثناء مسيره الى كربلاء نزل بالقرب منه زهير بن القين البجلي وكان غير مشايع له ويكره النزول معه لكن الماء جمعهم فارسل الامام عليه السلام عليه يطلب مقابلته فرفض وبعد اصرار زوجته قابل الامام الحسين عليه السلام فحادثه الامام الى ان ذكّره بموقف له في فتوح آذربيجان وكان معهم سلمان الفارسي فأخبرهم بما سيحدث لآل محمد عليهم السلام وسعادة من سيقتل معهم فاستجاب زهير والتحق بركب الامام عليه السلام حتى استشهد معه(2).
ويُروى أن رجلا من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذي الامام الكاظم عليه السلام ويشتم عليا عليه السلام فقال له بعض حاشيته: دعنا نقتله فنهاهم عن ذلك أشد النهي وزجرهم اشد الزجر وسأل عن العمري يوماً فقيل له انه يزرع بناحية من نواحي المدينة فركب اليه الامام عليه السلام فوجده في مزرعته فدخل بحماره فصاح العمري: لا تطأ زرعنا فاستمر في طريقه حتى انتهى اليه فنزل وجلس عنده وجعل يضاحكه، ثم قال له: كم غرمت في زرعك هذا؟ قال مائة دينار قال: فكم ترجو أن تصيب منه؟ قال: إنا لا نعلم الغيب، فقال له الامام: إنما قلت لك كم ترجو أن يجيئك منه، قال: ارجو أن يجيئني مائتا دينار فأعطاه ثلاثمائة دينار، وقال: هذا زرعك على حاله فقام العمري وقبّل رأسه وانصرف فذهب الامام الى المسجد فوجد العمري جالسا فلما نظر اليه7.
ص: 81
قال: الله أعلم حيث يجعل رسالته وجعل يدعو لأبي الحسن عليه السلام كلما دخل وخرج(1).
وبغض النظر عن تفاصيل الرواية فانها في الجملة شاهد على اهتمامهم بحفظ روح الالفة والمودة مع جميع المسلمين وكانوا عليهم السلام ينهون عن سب الشيخين لأن آثارة هذه المشكلة من دسائس القوى المعادية للاسلام لتفريق المسلمين ولا تترتب عليها أية فائدة دينية بل العكس فانها تجر على الامة الويلات، والتاريخ يحكي - بكل أسف وحزن - الفتن الدامية التي كانت تحدث بسبب هذه الامور ولابد أن الذين يشعلون فتيلها من غير المسلمين او من جهلتهم وعوامهم الذين لا يمكن بأي حال من الاحوال السماح لهم بالتأثير في توجهات الامة واهتماماتها بعيداً عن مسؤوليتها ودورها فضلا عن قيادتها وكان للسلطات دور بارز في إذكائها لعدة مصالح شيطانية:
1 - القاء الفتنة بين المسلمين حتى تصل الى القتال فيضعفوا وتسهل السيطرة عليهم.
2 - إشغالهم بهذه النزاعات عن النظر في ظلم اولئك الطواغيت الذين لا يحبّون كلّ مسلم واع سنياً كان أو شيعياً.
3 - إقناع معارضيهم وهم من الشيعة غالباً بأن هؤلاء الحكام لا ذنب لهم فيما يحصل من مظالم وإنما السبب الوحيد هو اولئك الاوائل الذين غصبوا حقّ عليّ عليه السلام.
وانطلت هذه المؤمرات على الجهلة والمتعصبين من الطائفتين رغم ان القرآن صريح في المنع من سبّ الذين كفروا فضلاً عن غيرهم قال تعالى:[وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّوا اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ] (2) ، ولو التزم كلٌ بتعاليم الاسلام وقادته لما حدث ما حدث، فيروى أن جماعة من أهل العراق دخلوا على الامام علي بن(3) الحسين بن علي وذكروا أبا بكر وعمر وعثمان بسوء ونالوا منهم، فقال لهم: ألا3.
ص: 82
تخبروني من أنتم، أنتم من المهاجرين الاولين الذين أخرجوا من ديارهم واموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله اولئك هم الصادقون قالوا: لا، قال: أفانتم من الذين تبوّأوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر اليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما اوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فقالوا: لا، فقال: أما أنتم فقد تبرأتم من أن تكونوا من هذين الفريقين وأنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله في حقهم:«وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا» أخرجوا عني فلا بارك الله فيكم(1) وكأنه عليه السلام فهم منهم أنهم منافقون او متملقون فلا خير فيهم.
مرّ امير المؤمنين عليه السلام باثنين من أجلاء اصحابه وهما حجر بن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي وهما يسبّان أهل الشام فنهاهما عن ذلك، فقالا: اولسنا على الحق، قال: نعم ولكن أكره لكم أن تكونوا لعانين شتامين تشتمون وتبرأون، ولكن لو وصفتم مساوئ اعمالهم فقلتم من سيرتهم كذا وكذا، ومن اعمالهم كذا وكذا، لكان اصوب في القول وأبلغ في العذر، وقلتم مكان لعنكم إياهم وبرائتكم منهم: اللهم احقن دماءهم ودماءنا وأصلح ذات بينهم وبيننا، واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق منهم من جهله، ويرعوي من الغي والعدوان منهم من لجّ به، لكان أحب الي وخيراً لكم. فقال حُجر: يا امير المؤمنين نقبل عظتك ونتأدب بأدبك(2).
وهكذا كان المتأدبون بأدب الامام علي عليه السلام والائمة من ولده رغم ما تعرضوا له من مظالم كأبي ذر الغفاري وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود ونظرائهم والاجيال التي تلتهم ولسان حالهم: لنسلّمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور الا علينا خاصة طلبا لمرضاة الله تعالى والتماسا لمثوبته، وزهداً في غيرهما.1.
ص: 83
ومن هؤلاء المتأدبين بأدب اهل البيت عليهم السلام الحسين بن روح النوبختي السفير الثالث للامام المهدي عليه السلام فانه رغم عظمته في التشيع الا أن أحدا من العامة لم يصدق انه من غيرهم لحسن تصرفاته وحكمته وحدث ان تنازع اثنان فقال أحدهما أن ابا بكر أفضل الناس بعد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم وبعده عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان ويأتي علي بن ابي طالب من بعده، وقال الثاني: إن علياً أفضل الخلق بعد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم واشتد النزاع بينهما في مجلسه وفيه حشود من السنة والشيعة - وكانت الفتن الطائفية في أوجها آنذاك - فحسم النزاع بالاسلوب الحكيم الذي اعتاد عليه الذي يظهر منه شيء لأول وهله لكن التأمل الدقيق يظهر انه موافق لمذهبه وقال: الذي اجمعت عليه الصحابة هو تقديم الصديق وبعده الفاروق وبعده عثمان ثم علي الوصي واصحاب الحديث على ذلك وهو الصحيح عندنا، فتعجب الحاضرون من قوله ورفعه العامة على رؤوسهم وطعنوا على من يرميه بالرفض (أي سب الشيخين).
وبلغه أن بواباً على بابه قد لعن معاوية وشتمه فأمر بطرده وصرفه من خدمته ولم يقبل شفاعة احد فيه(1).
والذي يراجع كتب التاريخ كالبداية والنهاية لابن الأثير يعتصر قلبه الالم لما حلّ بالامة من التدمير بسبب الفتن الطائفية، ليس بين السنة والشيعة فقط بل بين طوائف السنة انفسهم كالفتنة بين الاشاعرة والحنابلة سنة 447 ه -، وعلى العكس من ذلك فإن الأمة مرّت بحالات صحوة ووعي فحصل الصلح والوئام كما في سنة 442 ه - وسنة 486 ه - (راجع البداية والنهاية).
يقول: الدكتور الشيبي في المصدر السابق وهي من الالتفاتات الرائعة: (كلما أمعنّا في تقصي الاسباب والنفوذ الى الدوافع الحقيقية المختفية وراء هذه الفتن وجدنا2.
ص: 84
أمامنا عبارة المجاعة أو النهب أو هجوم جيش على بلد وعلى العكس من ذلك نجد رخص الاسعار وكثرة المحصول والرخاء مقترناً بسنيّ الصلح والوحدة(1).
وهذه نتيجة طبيعية فإن الوحدة والوئام تؤدي الى الانتعاش الاقتصادي والعلاقات الاجتماعية الطيبة وارتفاع الهمّة والحماس للعمل والبناء عكس أيام الفتن والحروب ومن هنا نفهم أحدى المصالح التي ارادها الائمة عليهم السلام للامة من هذه التوجيهات.
والوحدة مع الاتجاهات الاخرى من المسلمين لا يعني تخلّي الشخص عن قناعته ومعتقداته التي ثبتت عنده بدليل قطعي معتبر، وانما تبتني على أسس ثلاثة:
الاول: تناسي الخلافات وعدم إثارة النعرات الطائفية وتعنيف من يقوم بذلك.
الثاني: الالتفات الى القواسم المشتركة التي تجمع المسلمين كلهم فربُّهم واحد وكتابهم واحد وقبلتهم واحدة.
الثالث: احترام كل طرف قناعة الطرف الآخر ما دام قد استند فيها الى حجة ودليل معتبر شرعاً، والحوار بالتي هي أحسن للوصول الى الحقيقة التي هي مطلب كل عاقل.
وعلى هذا لم يسمحوا بأن يكفّر بعض المسلمين بعضاً لمجرد اختلافهم في بعض التفاصيل بعد اتفاقهم في أصول الاسلام وهنا أودّ الفات النظر الى فرقٍ بين نمط مناظرات الائمة عليهم السلام مع اخوانهم المسلمين ومناظراتهم عليهم السلام مع غير المسلمين فإن مناظراتهم عليهم السلام مع المسلمين من غيرالإمامية تتركز على إثبات سلامة طريق التشيع واطمئنانهم الى ادلته دون التعرض لبطلان الاراء الاخرى فليس هذا موضع الحاجة؛ إذ إنّ مثل هذا الشيء نحتاجه مع النظريات والافكار غير الاسلامية من الزنادقة والملحدين والمجوس واليهود والنصارى والذي يراجع كتاب الاحتجاج يجد هذا الفرق واضحا وكانوا عليهم السلام يصرحون بندائهم ان الجنة ليست حكراً على الشيعة بل هي تستقبل كل مسلم مخلص شيعياً كان أم غيره، فعن زرارة قال: سئل ابو عبد الله عليه السلام وأنا جالس عن قول الله تبارك وتعالى:«مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها» يجري7.
ص: 85
لهؤلاء ممن لا يعرف منهم هذا الامر (يعني ولاية أهل البيت عليهم السلام)؟ فقال: إنما هي للمؤمنين خاصة، قلت له: أصلحك الله ارأيت من صام وصلّى واجتنب المحارم وحسن ورعه ممّن لا يعرف ولا ينصب (العداوة لأهل البيت عليهم السلام)؟ فقال: ان الله يدخل اولئك الجنة برحمته(1).
وكان بعض أصحاب الائمة عليهم السلام ربما لم يستوعبوا مثل ذلك باعتبار أن أولئك لا يعرفون ما نعرف فيجيب الامام عليه السلام وها نحن نعرف ما لا تعرفون.
وفي رواية اخرى سئل الامام عليه السلام نفس السؤال فأجاب نعم وأضاف: إن أم(2) سلمة (أم المؤمنين) لا تعرف ما تعرفون وأشهد أنها على خير.
لذا وجدت الامة فيهم قلباً رحيماً يتعاطف معها وصدراً رحيباً يضمها ويحنو عليها وسيفا صارما تنتصف به لحقها ولم يأل الائمة عليهم السلام جهداً في التخفيف عن آلام المحرومين والمظلومين ومساعدتهم والسعي لرد الحق اليهم سواء على صعيد الفرد أو المجتمع ما امكنهم ذلك وكان شعارهم دائماً، «من اصبح لا يهتم بامور المسلمين فليس بمسلم»(3) فقد كان امير المؤمنين وابو الائمة عليهم السلام «للمؤمنين أباً رحيما اذ صاروا عليه عيالا وغيثاً وخصباً، وعلى الكافرين عذاباً صباً وغلظة وغيظا، كالجبل لا تحركه العواصف ولا تزيله القواصف، لم يكن لأحدٍ فيه مهمز ولا لقائل فيه مغمز يوجد
ص: 86
الضعيف الذليل عنده قوياً عزيزاً حتى يأخذ له بحقه والقوي العزيز عند ضعيفاً ذليلاً حتى يأخذ منه الحق، القريب والبعيد عنده سواء شأنه الحق والصدق»(1).
وكان قلبه عليه السلام يتقطّع ألماً وهو يسمع بغارات معاوية على المسلمين والذميين في حدود الانبار فيقتل ويسلب والامام عليه السلام يستنهض اصحابه ولا من مجيب فقال عليه السلام: «فلو أن امرءاً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً بل كان به عندي جديراً، فيا عجباً عجباً - والله - يميت القلب ويجلب الهم من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم»(2) ومن وصف ضراربن ضمرة الكناني للإمام عليه السلام عند معاوية «كان فينا كأحدنا يجيبنا اذا سألناه ويبتدؤنا إذا أتيناه ويأتينا أذا دعوناه» وقال عليه السلام وهو على رأس دولة كبيرة مترامية الاطراف تجبى اليه الاموال من الشرق والغرب «وإنما هي نفسي اروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الاكبر وتثبت على جوانب المزلق، ولو شئت لاهتديت الطريق الى مُصفّى هذا العسل ولباب هذا القمح ونتائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي الى تخير الاطعمة ولعل بالحجاز او اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرى، أو أكون كما قال القائل:
وحسبك داءاً أن تبيت ببطنةٍ *** وحولك اكبادٌ تحنّ الى القدّ
إذن لم يكن الامام يفكر ويحسّ بآلام من حوله فحسب وإنما رمى ببصره الى الحجاز واليمامة، وماذا بعد يا امير المؤمنين ويا مثل الانسانية الاعلى «أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا امير المؤمنين ولاأشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش»(3) وهل تكتفي يا سيدي بمواساة المحرومين والمظلومين وتترك أركان البغي يعيثون في الارض فساداً؟ «سأجهد في أن أطهرّ الارض من هذا الشخص0.
ص: 87
المعكوس، والجسم المركوس، حتى تخرج المدرة من بين حب الحصيد(1)»، «ولأنقبنّ الباطل حتى يخرج الحق من جنبه»(2) إذن لماذا لم تتول الخلافة يا امير المؤمنين بعد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم وهو حقك نصاً وعقلاً ثم توليتها بعدئذٍ «فوالله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الامر من بعده - صلى الله عليه وآله وسلم - عن أهل بيته، ولا أنهم مُنحُّوه عني من بعده! فما راعني الا انثيال الناس على فلان يبايعونه فامسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام يدعون الى محق دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم فخشيت إن لم أنصر الاسلام وأهله أن ارى فيه ثلماً او هدماً تكون المصيبة عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان، كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب، فنهضت في تلك الاحداث حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه.
ويشرح عليه السلام كيفية ذلك بقوله: «إني والله لو لقيتهم واحداً وهم طِلاعُ الارض كلها - أي ملء الارض - ما باليت ولا استوحشت، وإني من ضَلالهم الذي هم فيه والهدى الذي أنا عليه لعلى بصيرة من نفسي ويقين من ربي، وإني الى لقاء الله لمشتاق وحسن ثوابه لمنتظرٌ راج ٍ، ولكنني آسى أن يليَ أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجّارها، فيتخذوا مال الله دُوَلا - متداولاً - وعباده خَوَلاً - عبيداً - والصالحين حرباً والفاسقين حزباً، فإن منهم الذي قد شرب فيكم الحرام(3) ، وجُلِد حداً في الاسلام، وإنّ منهم من لم يُسلم حتى رُضِخت له على الاسلام الرضائخ(4) - العطايا - فلولا ذلك ما اكثرتُ تأليبكم وتأنيبكم، وجمعكم وتحريضكم، ولتركتكم إذ أبيتم وونيتم»(5) وماذا بعدُ يا1.
ص: 88
أمير المؤمنين هل من دوافع أخرى لتوليك الخلافة غير صيانتها من أن تصل الى غير أهلها فيسومون العباد سوء العذاب ويسعون في الارض فساداً ويهلكون الحرث والنسل «وايم الله لأنصفنّ المظلوم من ظالمه، ولأقودنّ الظالم بخزامته حتى اورده منهل الحق وإن كان كارها»(1) ، «أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كِظّة ظالم ولا سَغَب مظلوم، لألقيتُ حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ولألفيتم دنياكم هذه ازهد عندي من عفطة عنز - أي ما ترسله من أنفها -»(2).
هذا عليّ وهذه سيرته وهذه قيمة الخلافة عنده اذ لم تكن تساوي عنده اكثر من عفطة عنز الا أن يقيم حقاً ويهدم باطلاً وهكذا كانت رعايته للأمة واذا تكلمنا كثيراً وأكثرنا من الشواهد من سيرة علي عليه السلام ومنهجه فلأن الكلام في ذلك نعمة ولطف من الله تعالى ونبراس لكل من كان في موقع رعاية الامة حيث ان الامام عليه السلام توفرت له من الفرص ما لم تتهيأ لغيره من الائمة عليهم السلام فعكس الصورة المشرقة والمشرّفة للرعاية التي كانت الامة ستنالها لو ملّكتهم ناصيتها، يقول الامام الحسن عليه السلام: «وأقسم بالله لو أن الناس بايعوا أبي بعد رسول الله لاعطتهم السماء قطرها والارض بركتها»(3) ولكن [وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] (4) ، لذا اقتصرت رعاية الائمة عليهم السلام للامة على حالات اضيق نطاقاً ومنها قضاء حوائج الناس وردّ الحقوق الى اصحابها ومساعدة الفقراء والمحتاجين والانفاق عليهم ولم يكن هذا الانفاق - بنظرهم عليهم السلام - حلاّ ً لمشكلة الحرمان والفاقة التي يعانيها المجتمع بل هو اجراء مرحلي مؤقت من باب (الميسور لا يُترك بالمعسور) اذ كان هدفهم يتركز على بناء المجتمع الكامل القائم على اساس الاسلام وهو الحل الجذري الشامل وبه تزول كل8.
ص: 89
المشاكل، لأنه «ما جاع فقيرٌ الا بما مُتّع به غني»(1)[وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ] (2).
وكان من رحمتهم بالامة ان الامام الحسين عليه السلام يبكي يوم عاشوراء على تلك الفئة الضالة التي اجتمعت لقتاله ولم تنفع معها الموعظة ولما سُئِل عن سبب بكائه، قال: أبكي لهؤلاء فانهم يدخلون النار بسببي وكان عليه السلام يقول لمن يلقاه في الطريق ولا يستجيب لدعوته: اذهب ولا ترني وجهك فإن من سمع واعيتنا أهل البيت ولم يجبنا أكبّه الله على منخريه في نار جهنم(3) ، ولما استبطأ الناس القتال مع معاوية واصحابه سألوا الامام علي عليه السلام فأجاب: «فوالله ما دفعت الحرب يوماً الا وأنا أطمعُ أن تُلحق بي طائفة فتهتدي بي، وتعشو الى ضوئي، وذلك أحبّ اليّ من أن اقتلها على ضلالها، وإن كانت تبوء بأثامها»(4) وهكذا كان رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم يرميه قومه بالحجارة والفرث ويدموه وهو يقول اللهم اغفر لقومي فانهم لا يعلمون.
كانت بيوت في المدينة تعيش على صدقات علي بن الحسين عليه السلام ولا تدري من أين تعيش فلما توفي الامام عليه السلام فقدوا ما كان يأتيهم فعلموا بأنه هو الذي كان يعيلهم، وقالوا: ما فقدنا صدقة السرّ حتى فقدنا علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام(5) ورآه مرة ابن شهاب الزهري في ليلة باردة وعلى ظهره دقيق وهو يمشي فقال: يا ابن رسول الله ما هذا؟ قال: اريد سفراً(6) أعددت له زاداً أحمله الى موضع حريز، ولمة.
ص: 90
يرضَ أن يعينه أحدٌ على حمله(1) وكان عليه السلام يفرح اذا جاءه محتاج ويقول: أهلاً بمن يحمل زادي الى معادي. والشواهد في ذلك كثيرة(2).
وكانت رعاية أمير المؤمنين عليه السلام للأيتام مشهورة فيجلسهم في حجره ويمسح على رؤوسهم ويلحسهم العسل ويلقمهم الطعام الجيد حتى أن بعض اصحابه تمنى لو كان يتيماً حتى ينال هذه الحظوة من أمير المؤمنين عليه السلام وجعل العناية بالايتام جزءاً من وصيته لأولاده ليلة وفاته عليه السلام وكان ينشد:
ما إن تأوّهت من شيء رزئت به *** طراً كما تأوّهت للأيتام في الصغرِ
قد مات والدهم من كان يكفلهم
في النائبات وفي الاسفار والحضرِ ***
ومرّ عليه السلام بامرأة تخبز وحولها أطفالها يبكون وهي حائرة لا تدري ماذا تفعل فسألها عليه السلام - وهي لا تعرفه - عن زوجها قالت إنه استشهد في صفين فبكى الامام عليه السلام واسترجع وقال لها: إما أن تخبزي وأنا اسكت الاطفال أو العكس فاختارت أن تخبز واخذ الامام عليه السلام يلاعب الاطفال ويلاطفهم فاستأنسوا حتى انتهت امهم من عملها.
وعُر ِف عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه كان يحفر الآبار ويوقفها صدقة جارية على المسلمين جميعاً.
ويسأل الامام الباقر عليه السلام شخصاً عن سبب عدم تزويجه فيشتكي له قلة ذات اليد فيعطيه الامام سبعة دنانير ليتزوج بها ويقطع الامام عليه السلام طوافه ليقضي حاجة المحتاج.
وشملوا برفقهم حتى غير المسلمين(3) بل حتى الحيوانات(4) والذي يراجع عهد الامام علي عليه السلام الى مالك الاشتر لما ولاّه مصر يجد فيه منهجاً متكاملاً لرعايةل.
ص: 91
الانسانية جميعاً مهما كانت أجناسهم ومعتقداتهم فانهم (صنفان: إما أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الخلق(1).
بسبب اقصاء ائمة أهل البيت عليهم السلام وتشتت أمر الناس كانت تظهر بين الفينة والاخرى صور خاطئة لفهم الاسلام وتطبيقات منحرفة للدين وتُصوّر على أنها الدين بعينه مما ينعكس بأثر سيئ على الدين إذا نُظِر اليه من خلال هذه الممارسات باعتبار أنّ لها منشأ ً شرعياً كما يتوهمون.
ولذا كان الائمة عليهم السلام يقفون في وجهها بإظهار التطبيق الصحيح ومن الشواهد على ذلك: وأحد تلك الاتجاهات ما كان يفعله الصوفية من طقوس وشعائر ومظاهر خارجية وأفعال خارجة عن أصل الدين(2) وغالباً ما كانوا يبتغون من وراء ذلك خداع العامة وكسب ودّهم وإكرامهم وتقديسهم وكانوا يلبسون الصوف والخشن من الثياب كشعارٍ لهم ورياءً أمام العامة(3). وللرد عليهم كان الامام عليه السلام يلبس أفخر الثياب
ص: 92
ص: 93
وأغلاها كان الامام السجاد عليه السلام يشتري كساء الخز بخمسين ديناراً ثم يبيعه بعد فصل
ص: 94
الشتاء ويتصدق بثمنه على الفقراء وفي الصيف يلبس أفخر الثياب ويقول: قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق، ويُروى أن ابن عيينة قال لابي عبد الله الصادق عليه السلام: إن جدّك على بن ابي طالب عليه السلام كان يلبس الخشن وأنت تلبس القهوي المروي، فقال: ويحك يا ابن عيينة إن علياً كان في زمن ضيق فاذا اتسع الزمان فابرار الزمان اولى به(1) ، وكان الحسن بن علي عليهما السلام اذا قام الى الصلاة لبس اجود ثيابه فقيل له: يا ابن رسول الله لم تلبس اجود ثيابك فقال: إن الله جميل يحبّ الجمال فاتجمّلُ لربّي وهو يقول:[خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ] (2) ، فأحب أن البس اجود ثيابي. وقد أصيب الامام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء وعليه جبّة خزّ. وروي أن سفيان الثوري مرّ في المسجد الحرام فرأى ابا عبد الله عليه السلام وعليه اثواب كثيرة قيّمة حسان فقال: لآتينّه ولأوبخنّه فدنا منه، فقال: يا ابن رسول الله، والله ما لبس رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم مثل هذا اللباس ولا علي ولا أحدٌ من آبائك! فقال ابو عبد الله عليه السلام: كان رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم في زمان قتر مقتر وكان يأخذ لقتره وإقتاره، وإن الدنيا بعد ذلك أرخت عزاليها وأحقّ أهلها بها ابرارها ثم تلا:[قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ] (3) ، فنحن أحقّ من أخذ ما اعطاه الله، يا ثوري ما ترى علي من ثوب إنما لبسته للناس ثم اجتذب بيد سفيان فجرّها اليه ثم رفع الثوب الاعلى وأخرج ثوباً تحت ذلك على جلده غليظاً ثم قال: هذا لبسته لنفسي وما رأيته للناس، ثم جذب ثوباً على سفيان اعلاه غليظاً خشناً وداخل ذلك الثوب ليّن، فقال: لبست هذا الاعلى للناس ولبست هذا لنفسك تسترها(4).
والفقرة الأخيرة من الرواية تبيّن عدم التعارض بين سلوك الامام الظاهر والباطن فإنهم عليهم السلام إنما كانوا يعارضون الظهور بلبس الخشن وتحميل الناس عليه وعلى ترك3.
ص: 95
التمتع بالطيبات وترك الامور المهمة كالمعرفة بالله تعالى والاهتداء الى الائمة الحقيقيين وجوهر الاسلام وكان اغلب هؤلاء المتصوفة مرائين يفعلون ذلك لاستمالة قلوب العامة وقد قال امير المؤمنين عليه السلام: «افضل الزهد اخفاء الزهد»(1) ومنهم من يفعل جهلاً بمنهج الاسلام الاصيل الذي يضع الامور في مواضعها المناسبة لذا قام الائمة عليهم السلام بدورهم كقادة حقيقيين للامة بتوضيح هذه الامور للامة اما هم بينهم وبين الله تعالى فيلبسون الخشن - دون تحريم للتمتع بالطيبات - لانه أقرب للتواضع ويحقق الخشوع، رُئي على امير المؤمنين عليه السلام أزار خَلِق مرقوع فقيل له في ذلك، فقال: يخشع له القلب وتَذِلّ به النفس ويقتدي به المؤمنون. إن الدنيا والآخرة عدوان متفاوتان وسبيلان مختلفان، فمن أحبّ الدنيا وتولاّها أبغض الآخرة وعاداها، وهما بمنزلة المشرق والمغرب وماشٍ بينهما، كلما قُربَ من واحدٍ بَعُدَ(2) من الآخر، وهما بعدُ ضرّتان»(3) وعُر ِف عنهم عليهم السلام قولهم: «إن الله اذا أنعم على عبدٍ أحبّ أن تظهر عليه» وقال تعالى:[وَ أَمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ] (4).
ووبّخ الامام السجاد عليه السلام الحسن البصري عندما رآه يعظ الناس بما لا ينسجم مع إتجاه الاسلام(5).
وربما كان لظهور الصوفية منشأ آخر هو أنه جاء رداً سلبياً ساذجاً على ترف الحكام، وأنهماكهم في ملذات الدنيا وإهمالهم للرعية فقد قدّم معاوية لأحد ضيوفه2.
ص: 96
طعاماً مركباً من مخ العصفور مخلوطاً بكذا ومحشواً في أمعاء الوز ويصف سليمان بن عبد الملك ترفه بأنه أكل الطيبات حتى صار لا يفرّق بين لون وآخر ونكح النساء حتى صار لا يفرّق بين واحدة وأخرى أما الليالي الحمراء للحكّام العباسيين فقد سار بها الركبان علماً أن هذا الاتجاه قد بدأ في صدر الاسلام حيث نقلت الاخبارالى عمر بن الخطاب: أن عامله على الشام معاوية بن ابي سفيان قد حولّ الامارة الى كسروية وقيصرية فاستدعاه للمساءلة فقدّم اعذاره التي لا أساس لها من الاسلام وكان ردّ أبي ذرّ رضى الله عنه وهو التلميذ المخلص لأمير المؤمنين عليه السلام واعياً وهو المطالبة بالعدالة وعدم الاستئثار بالفيئ والتطبيق الكامل لتعاليم الاسلام والتزهيد في الدنيا الفانية والتحرّر من العبودية لها وإنما تكون العبودية لله تعالى وحده والتحذير بالعقوبة الشديدة لمن يتجاوز على حقوق الآخرين.
الثاني: فهم الزهد على أنه الانعزال في البيت وترك الكسب وطلب الرزق والعيش عالة على(1) الناس على أساس أن ذلك يفرغهم للعبادة وهو فهم خاطئ ومنحرف.
نعم، قد يقتضي الزهد التقليل من الكسب والرضا بالقليل بحسب ما يقتضيه حال السائر الى الله تعالى.
وربما كان أحد مناشئه في الخوف في القلب الزائد على الرجاء بينما يقول الرسول صلي الله عليه و آله و سلم: «في قلب المؤمن نوران لو وزن أحدهما لما رجح على الآخر: الخوف والرجاء»، وفسّرا في حديث آخر نقلاً عن مواعظ لقمان الحكيم: بأنك لو أتيته بذنوب الثقلين لرجوت أن يغفر لك ولو جئته بعمل الثقلين لخفت ان يعذبك.. وكان الائمة عليهم السلام يشتغلون بطلب الرزق والتكسب ويعتبرون ذلك جزءاً لا غنى عنه منب.
ص: 97
العبادة مادام يطلب بكسبه هذا أغراضاً إلهية كالانفاق على العيال والبذل في سبيل الله وقضاء حاجة المحتاجين والتمكن من الحج والعمرة والزيارة والتعفف عن الآخرين، وهو من أوجه النشاط التي يمكن أن نعتبرها رداً عملياً على هذا الفهم الخاطئ.
عن الصادق عليه السلام ان محمد بن المكندر كان يقول: ما كنت أرى ان مثل علي بن الحسين يدع خلفاً لفضل علي بن الحسين حتى رأيت ابنه محمد بن علي عليهما السلام فأدرت أن اعظه فوعظني، خرجت الى بعض نواحي المدينة في ساعة حارّة فلقيت محمد بن علي عليهما السلام وكان رجلاً بديناً وهو متكئ على غلامين له فقلت شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة على مثل هذا الحال في طلب الدنيا لأعظنّه فدنوت منه وسلّمتُ عليه فسلّم عليّ بنهر وقد تصبّب عرقاً فقلت: اصلحك الله شيخ من اشياخ قريش في هذه الساعة على مثل هذه الحالة في طلب الدنيا لو جاءك الموت وأنت على هذه الحالة، قال: فخلّى عن الغلامين يديه ثم تساند وقال: لو جاءني والله الموت وأنا على هذه الحال جاءني وأنا في طاعة من طاعات الله أكفّ بها نفسي عنك وعن الناس وإنما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على معصية من معاصي الله فقلتُ يرحمك الله اردت أن اعظك فوعظتني(1). يشير بالمعصية(2) الى ترك التكسب معرضاً بابن المنكدر، أو بالذين يتظاهرون بالاعراض عن الدنيا وترك طلبها والتفرغ للعبادة وهم انما يريدون الجاه والسمعة عند الناس فهم يطلبون الدنيا بترك الدنيا ظاهراً وقد قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: «ملعون ملعون من القى كلّه على(3) الناس ووصف رجلاً يكسب وينفق على أخيه الذي ترك العمل وتفرّغ للعبادة بأن الاول أعبد من الثاني. وقال رجل للإمام الصادق عليه السلام: إني أحبّ الدنيا، فقال له الإمام: تصنع بها ماذا؟ قال: أتزوج منها).
ص: 98
وأحجّ وأنفق على عيالي وأنيل أخواني، فقال الامام عليه السلام: ليس هذا من الدنيا بل هو من الآخرة(1).
وقد عُرف عن عدد من الائمة عليهم السلام إشتغالهم بالزراعة والتجارة كالامام علي عليه السلام والباقر عليه السلام والصادق عليه السلام وكان الصادق عليه السلام لا يدعو بالرزق لمن لم يسعَ ويقول: «أرأيت لو أنّ رجلاً دخل بيته وأغلق بابه أكان يسقط عليه شيء من السماء»(2). وهناك أحاديث جمّة حول هذا الموضوع مبثوثة في جوامع الحديث. على ان الزهد - بحسب المصطلح القرآني وفي منظور أهل البيت عليهم السلام - لا يتعارض مع كسب الرزق الحلال وقد لخّص الامام علي عليه السلام معنى الزهد بقوله: «الزهد كلّه بين كلمتين من القرآن، قال الله سبحانه:[لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ] (3) ، ومن لم يأسَ على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه»(4).
وقال الصادق عليه السلام: «أزهد الناس من ترك الحرام»، وفي القرآن الكريم:[وَ ابْتَغِ فِيما آتاكَ اللّهُ الدّارَ الْآخِرَةَ وَ لا تَنْسَ(5) نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللّهُ إِلَيْكَ وَ لا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ] (6).).
ص: 99
وفي الحقيقة فإن هذا الاتجاه له جذوره القديمة من زمان الرسول صلي الله عليه و آله و سلم وكان بسبب الخوف الزائد وغير المتوازن مع الرجاء، فقد روي: ان(1) النبي صلي الله عليه و آله و سلم جلس يوماً فذكّر الناس ووصف القيامة فرقّوا وبكوا واجتمع عددٌ منهم واتفقوا على صوم النهار وقيام الليل وتجنّب النساء وأكل اللحم ولبس المسوح والسياحة في الارض فعلم الرسول صلي الله عليه و آله و سلم بخبرهم فرقى المنبر وقال: «ما بال أقوام حرّموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا أما إني لستُ آمركم أن تكونوا قُسساً ورهباناً فإنه ليس في ديني ترك اللحم ولا النساء ولا اتخاذ الصوامع، وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وحُجّوا واعتمروا واقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان واستقيموا يستقم لكم فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شدّدوا على انفسهم فشدّد الله عليهم فاولئك بقاياهم في الديارات والصوامع، فانزل الله تعالى الآية:[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَ كُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّباً وَ اتَّقُوا اللّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ] (2).
وزار أمير المؤمنين عليه السلام العلاء بن زياد الحارثي - وهو من أصحابه - بالبصرة يعوده فقال له العلاء: يا امير المؤمنين أشكوا اليك أخي عاصم بن زياد، قال: وما له؟ قال: لبس العباءة وتخلّى عن الدنيا، قال عليه السلام: عليّ به، فلما جاء قال: «يا عديّ - تصغير عدو - نفسه! لقد استهام بك الخبيث! أما رَحِمتَ أهلك وولدك! أترى الله أحلّ لك الطيبات، وهو يكره أن تأخذها، أنت أهونُ على الله من ذلك! قال: يا امير المؤمنين: هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك! قال: ويحك، إني لست8.
ص: 100
كأنت، إن الله تعالى فرض على أئمة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضَعَفَةِ الناس، كيلا يتبيّغَ بالفقير فقره - أي لكيلا يهيج به الم الفقر -»(1).
الثالث: ومن نتائج الخوف هذا والتشديد نتج سلوك خاطئ آخر هو الوسواس والشك وعدم اطمئنان الانسان لصحة الاعمال والفرائض التي يؤديها مما يؤدي الى نتائج وخيمة اولها التمزق النفسي وينتهي الى أحد أثنين: أما الامراض النفسية، او ترك الدين بالمرة وهو من اساليب الشيطان وذلك بإبعاد الناس عن دينهم من خلال دينهم أو ظنهم بانه من الدين فوضع الائمة عليهم السلام علاجاً للشكوك وإذا زادت عن الحد الطبيعي فلا شكّ لكثير الشك وكانوا عليهم السلام ينهون أصحابهم عن الوسواس ويخبرونهم بأنه من عمل الشيطان. وقد وصف رجل عند الامام الصادق عليه السلام بأنه عاقل، قال عليه السلام: وكيف قالوا: يعيد وضوءه وصلاته مرات، قال عليه السلام: فاسألوه أن ما يفعله هل هو من الرحمن أم من الشيطان وهو عليه السلام متأكد من انه لا يجيب بأن هذا من الرحمن.
الرابع: طلب الحسنة بالسيئة والثواب بالمعصية ومن ذلك: ما روي عن الصادق عليه السلام أنه قال: قوله عز وجل: إهدنا الصراط المستقيم، يقول: ارشدنا للزوم الطريق المؤدي الى محبتك والمبلغ الى جنتك من أن نتّبع أهوائنا فنعطب ونأخذ بآرائنا فنهلك فأن من اتبع أهواءه واعجب برأيه كان كرجل سمعت غثاء الناس تعظمه وتصفه فأحببت لقائه من حيث لا يعرفني لا نظر مقداره ومحله فرأيته في موضع قد احدقوا به جماعة من غثاء العامة فوقف منتبذاً عنهم، متغشياً بلثام انظر إليه واليهم، فما زال يراوغهم حتى خالف طريقهم وفارقهم» إلى أن يقول «فلم يلبث أن مرَ بخبازٍ فتغفله فأخذ من دكانه رغيفين مسارقة ثم مرَ بعده بصاحب رمان فما زال به حتى تغفله فأخذ من عنده رمانتين مسارقة ثم لم أزل اتبعه حتى مرَ بمريض فوضع الرغيفين والرمانتين بين يديه» فسأله الامام عليه السلام عن سر فعله هذا فاتّهمه بجهله للقرآن يقول الامام عليه السلام: «قلت وما الذي جهلت؟ قال: قول الله عز وجل «من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى ألا مثلها» واني لما سرقت الرغيفين كانت4.
ص: 101
سيئتين ولما سرقت الرمانتين كانت سيئتين، فهذه أربع سيئات فلما تصدقت بكل واحدة منها كانت أربعين حسنة، انقص من أربعين حسنة أربع سيئات، بقي ست وثلاثون، قلت: ثكلتك أمك! أنت الجاهل بكتاب الله! أما سمعت قول الله عز وجل:[إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ] (1) ، انك لما سرقت رغيفين كانت سيئتين، ولما سرقت الرمانتين كانت سيئتين، ولما دفعتها إلى غيرها من غير رضا صاحبها كنت إنما أضفت أربع سيئات إلى أربع سيئات، ولم تضف أربعين حسنة إلى أربع سيئات، فجعل يلاحيني فانصرفت وتركته»(2) وكم يوجد أمثال هذا الرجل في زماننا وكل زمان حيث يتوهمون أنهم يقومون بمستحبات وقربات إلى الله - حسبما يظنون - بينما هم يتورطون بمعاصي ربما تصل حد الكبائر، بتسويل من الشيطان وأنفسهم الأمارة بالسوء فيقدحون في كرامة المؤمنين ويفترون عليهم بحجة أن المصلحة الدينية تقتضي ذلك وكأنهم القيّمون على أمر هذه الامة والدين ليحدّدوا المصلحة لهما.
أو على الأقل أن السلطة لا تعتبرهم اعداءاً وتتعرض لهم بسوء ودفعهم إلى الحياة العامة، فان شريحة كبيرة من المجتمع كانت لا تتلقى شيئاً من أهل البيت عليهم السلام أو شيعتهم ولا تتصل بهم لوجود حساسية في ذلك وهذا نابع من حرص الائمة عليهم السلام على هداية الأمة التي حرمت نفسها من الاستفادة من علوم أهل البيت عليهم السلام ولم يعرفوهم حق المعرفة فدفعوا عدداً من العلماء والفقهاء إلى المساجد ودور العلم ليثقفوا الأمة ومن أولئك عبد الله بن عباس الذي لا ينكر فضله في نقل العلوم الإسلامية حتى قيل فيه انه حبر الأمة وترجمان القرآن وقد تزود بعلمه من أمير المؤمنين علي عليه السلام ولما سئل عن علم علي عليه السلام قال: ما علمي وعلم جميع
ص: 102
أصحاب رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم في علم علي ألا كقطرة في بحر(1) ومنهم سعيد بن المسيب وزرارة بن أعين وابان بن تغلب الذي كان إذا دخل على الإمام الصادق عليه السلام صافحه واعتنقه وأمر له بوسادة ورحبَ بقدومه وإذا دخل مسجد النبي صلي الله عليه و آله و سلم أخليت له سارية النبي صلي الله عليه و آله و سلم وتقوضت إليه الحلق وقال له الإمام الباقر عليه السلام: اجلس في مسجد المدينة وافتِ الناس فإني احب أن يرى في شيعتي مثلك(2). وقد أحصى السيد شرف الدين مئة من علماء الشيعة في إسناد الحديث لدى أهل السنة(3) ولولا هذه الرحمة التي شمل بها أهل بيت النبي صلي الله عليه و آله و سلم الذي أرسل رحمة للعالمين لتاهت في ضلال الابتعاد عن المعدن الأصيل لشريعة الله تبارك وتعالى خصوصاً بعد أن سعت السلطات بكل ما تمتلك لإقصاء فقه أهل البيت عليهم السلام وكان أحدٌ لا يجرؤ على الإفتاء برأي احدهم عليهم السلام وإلا كان مصيره القتل والتشريد والتعذيب كما حصل لجماعة مثل سعيد بن جبير ويحيى بن ام الطويل(4) من التابعين وغيرهما لذا كان العلماء إذا أفتوا بشيء موافق لأهل البيت عليهم السلام لا يذكرون المصدر فيُنسب الرأي لهم وكأنهم يفتون من عند أنفسهم والحقيقة غير هذه أو ينقلون عن أمير المؤمنين عليه السلام باسم (ابي زينب) للتمويه(5) بل كان الامر ازيد من ذلك إلى حدٍ لم يفهمه الكثير من الأصحاب فقد صدر من الإمام الصادق عليه السلام ذم في حق زرارة وهو من اعظم الاصحاب فظن كثيرٌ السوء به حتى دخل عليه ولد زرارة وأراد أن يستفهم الحق في هذا الأمر فأثنى الامام عليه السلام على زرارة وفضله على الأمة وتحمله لفقه أهل البيت عليهم السلام إلاّ أن ذلك كان تخطيطاً لحمايته اولاً ولكي تتلقى الأمة المعاندة من عمله الأصيل بعد أن يسمعوا ذم الامام عليه السلام له وتبريه منه فلا يحسب عليه.4.
ص: 103
وقال الامام الصادق عليه السلام في تفسير هذا الموقف: (إني إنما اعيبك دفاعاً مني عنك فإن الناس والعدو يسارعون الى كل من قرّبناه وحمدنا مكانه لادخال الاذى في من نحبّه ونقرّبه ويرمونه لمحبتنا له وقربه ودنوّه منا، ويرون إدخال الاذى عليه وقتله ويحمدون كل من عبناه نحن فإنما أعيبك لانك رجل اشتهرت بنا وبميلك الينا وأنت في ذلك مذموم عند الناس غير محمود الاثر بمودتك لنا ولميلك الينا فأحببتُ أن اعيبك ليحمدوا أمرك في الدين بعيبك ونقصك ويكون بذلك منا دافع شرهم عنك، يقول الله عز وجل:[أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً] (1) ، والله ما عابها الا لكي تسلم من الملك ولا تعطب على يديه ولقد كانت صالحة ليس للعيب فيها مساغ والحمد لله، فافهم المثل يرحمك الله فانك والله احبّ الناس الي وأحب أصحاب ابي حياً وميتاً فانك افضل سفن ذلك البحر القمقام الزاخر وإن من ورائك ملكاً ظلوماً غصوباً يرقب عبور كل سفينة صالحة ترد من بحر الهدى ليأخذها غصباً ثم يغصبها وأهلها ورحمة الله عليك حياً ورحمته ورضوانه عليك ميتاً(2).
من خلال تجسيد هذه الاخلاق عملياً في واقعهم فان من الوسائل المهمة في التربية هي القدوة والاسوة الحسنة حسب تعبير القرآن الكريم فان التعليم والتأديب وحده لا يؤثر إذا لم يقترن بالعمل والتطبيق(3) وغالباً ما يتوفر على مدى الاجيال حملة كثيرون للعلم ووعاظ وخطباء ألا أن اثرهم محدودٌ في المجتمع لعدم اقتران القول بالفعل بشكل دقيق ولم تتحقق الدقة في التطبيق ألا في سيرة المعصومين عليهم السلام بل أن العصمة على التحقيق لا تعني ألا ذلك ولأهمية هذه الملازمة كان الائمة عليهم السلام يحثون على العمل واشتهرت توصيتهم عليهم السلام «كونوا لنا دعاة صامتين»، وقد فسر الدعوة
ص: 104
الصامتة بقوله: «تعملون بما امرناكم به من طاعة الله وتعاملون الناس بالصدق والعدل وتؤدون الامانة وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ولا يطلع الناس منكم ألا على خير» وهم عليهم السلام لا يأمرون بأمرٍ ألا كانوا أول المبادرين إليه ولا ينهون عن شيء ألا كانوا اول المنتهين عنه(1) وهم بذلك يعكسون صورة الاسلام النقية وكان هذا التصرف مهماً لأن أمماً كثيرة دخلت إلى الاسلام دون أن تعلم بمنابعه الأصيلة ولم تكن تشاهد أمامها ألا النماذج المشوهة المنحرفة من المسلمين الممثلة بالمتسلطين والحكام بغير حق وهذا خطر على هؤلاء لانه سيتراءى لهم أن الاسلام هو هذا فإما أن يعتنقوه كما هو امامهم أو يرتدوا عن الاسلام لعدم القناعة بهذه النماذج.
وهكذا كان التناقض واضحاً بين سلوك الائمة عليهم السلام المطابق للاسلام والحكام المنحرفين عنه واستطاعوا بذلك الحفاظ على شريعة الاسلام كما هي فكراً وتطبيقاً وبعد أن وعت الأمة ذلك القت بزمامها اليهم وبدأت لا تعير تلك الحكومات أذناً صاغية في كل ما يتعلق بالاسلام وتعاليمه حتى قال سفيان الثوري: الملك في الشام والخلافة في المدينة وهو تعبير دقيق عن قطبي الخير والشر والحق والباطل.
وكنموذج لهذا الدور المشترك نستعرض جانباً من تعاملهم مع الناس من خلال العفو والصفح عن المسيء الذي تميزوا به حتى مع اعدائهم وبهذا السلوك علموا الأمة كيف تحيا متآلفة متحابة كأنها الجسد الواحد وكسبوا بسيرتهم هذه الاعداء قبل الاصدقاء محولين قوله تعالى:[وَ لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَ ما يُلَقّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَ ما يُلَقّاها إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] (2) ، إلى واقع عملي فقد عفا أمير المؤمنين عليه السلام بعد انتصاره في معركة الجمل عن مروان بن الحكم وعن عبد الله بن الزبير وعن عمرو بن العاص وغيرهم ممن خرج لقتاله ونكث بيعته وألب الناس ضده وقد قال عليه السلام: (إذا ظفرت5.
ص: 105
بعدوك فليكن العفو احلى الظفرين(1) وقال الإمام السجاد عليه السلام: ما تجرعتُ جرعة أحبَ اليَ من جرعة غيظٍ لا أكافئ بها صاحبها» ووقف عليه رجل من بني عمومته فأسمعه كلاماً مراً وشتمه فلم يكلمه فلما انصرف قال لجلسائه: قد سمعتم ما قال هذا الرجل وانا أحبُ أن تبلغوا معي حتى تسمعوا ردي عليه، فمضوا معه وهو يقول والكاظمين الغيظ والعافين عنه الناس والله يحبُ المحسنين فخرج الرجل متوثباً للشر وهو لا يشك انه إنما جاءه مكافئاً له على بعض ما كان منه، فقال له علي بن الحسين عليه السلام: أخي أنت كنت قد وقفت علي آنفاً وقلت ما قلت فإن كنت قد قلت مافيَ فأني استغفر الله منه وإن كنت قلت ما ليس فيَ فغفر الله لك، فأقبل عليه الرجل معتذراً وقال: لقد قلت ما ليس فيك وأنا أحق به(2).
وكانت جارية تصبُ الماء للأمام السجاد عليه السلام فسقط من يدها الأبريق على وجه الامام عليه السلام فشجه وسال الدم منه فقالت له الجارية: إن الله يقول والكاظمين الغيظ فقال: قد كظمت غيظي فقالت: والعافين عن الناس، فقال: عفا الله عنك، فقالت: والله يحبُ المحسنين، فقال: أنت حرة لوجه الله(3).
وكان هشام بن اسماعيل المخزومي والياً على المدينة لعبد الملك بن مروان وقد أساء للامام السجاد عليه السلام ولحقه منه اذى شديد فلما توفي عبد الملك عزله الوليد بن عبد الملك واوقفه للناس لكي يقتصوا منه فقال والله إني لا اخاف ألا من علي بن الحسين فمرَ عليه الامام عليه السلام وسلم عليه وأمر خاصته أن لا يتعرض له أحد بسوء وارسل له: أن كان اعجزك مالُ تؤخذ به فعندنا ما يسعك ويسد حاجتك فطب نفساً منا ومن كل من يطيعنا، فقال له هشام بن اسماعيل: الله اعلم حيث يجعل رسالته(4) إلى غير هذه النماذج - وما اكثرها - التي تطفح بها سيرة أهل البيت عليهم السلام والتي وسعت2.
ص: 106
كل المسلمين فكانوا بذلك دعاة صامتين - إلى جانب الدعوة الناطقة - ومظهر آخر نحب ايراده لهذه الدعوة الصامتة وهو ما روي أن صالح بن وصيف - وكان مكلفاً بحبس الإمام العسكري عليهم السلام - قال لجماعة طلبوا منه التضييق على الإمام: ما اصنع به وقد وكلت به رجلين أشرمن قدرت عليه فقد صارا من العبادة والصلاة إلى امر عظيم، ثم أمر باحضار الموكلين به، فقال لهما: ويحكما ما شأنكما في أمر هذا الرجل، فقالا له: ما تقول في رجل يصوم نهاره ويقوم ليله كله لا يتكلم ولا يتشاغل بغير العبادة، وإذا نظر الينا ارتعدت فرائصنا وداخلنا ما لا نملكه من انفسنا، وكُلِف آخر بالتشديد على الإمام وكان شديد العداوة لآل محمد صلي الله عليه و آله و سلم غليظاً عليهم فما أقام ألا أياماً حتى وضع خديه له وكان لا يرفع بصره إليه اجلالاً وإعظاماً وخرج من عنده وهو أحسن الناس بصيرة واجودهم قولاً فيه(1).
وقد تعددت اساليبهم عليهم السلام في تربية المجتمع وتعليمه اخلاق الاسلام خذ لذلك مثلاً اسلوب الإمام السجاد عليه السلام في تحرير العبيد بعد تثقيفهم وتنمية روح التحرر والاستقلالية في نفوسهم ألا لله تعالى قبل اعتاقهم كخطوة اساسية نحو التحرر الكامل ألا من العبودية لله تعالى فان الحرية الشكلية لا تنفع إذا لم يكن الشخص في نفسه متحرراً من عبودية الشهوات والطواغيت وذوي المصالح والنفوذ فأن الكثير ممن هم (احرار) ظاهراً ألا انهم عبيد لغيرهم فالتحرير الكامل لا يكون ألا بالتحرر الحقيقي من الحاجة والعبودية للآخرين والى هذه المرحلة أشار أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته لولده الحسن عليه السلام: (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً) والمرحلة الثانية هي التي عُبِر عنها (كيف استعبدتم الناس وقد وضعتهم امهاتهم احراراً) والاقتصار عليه نصف الحل وغير كافٍ للقضاء على هذا المرض الاجتماعي الوبيل والشواهد على فشل مثل هذه الحلول كثيرة كفشل الرئيس الامريكي ابراهام لنكولن في القضاء على الرق أما الاسلوب الذي اتخذه الإمام السجاد عليه السلام في احترام الموالي وتكريمهم فقد شمل المرحلتين وساعد على توفير معلمين ونقلة للحديث ولفكر الإمام السجاد عليه السلام7.
ص: 107
وآدابه واخلاقه إلى الأمة وكان لذلك تأثير بالغ في اعطائهم الثقة بأنفسهم بحيث اصبح في يوم ما بعد وفاة الإمام السجاد عليه السلام جلُ فقهاء العالم الاسلامي من الموالي.
الذي تعيشه الأمة وخلق البديل الافضل ورفع الظلم والحيف عن المسلمين بالعودة إلى تطبيق النظام الاسلامي الأصيل، وكانت هذه القيادة من خلال عدة اشكال تختلف باختلاف الظروف والملابسات المحيطة بالامام عليهم السلام وللمستوى العقائدي الذي يتحلى به الجيل المعاصر للامام عليهم السلام وسنزيد هذا الامر ايضاحاً في فصل لاحق بإذن الله تعالى، ويمكن الاشارة إلى بعض هذه الاشكال:
الاول: تسلم الحكم مباشرة - لو توفرت ظروفه الآتية - وتطبيق نظام حكومة العدل الالهي وقد حدثت مثل هذه الفرصة لأمير المؤمنين عليه السلام واستطاع - رغم قصر مدة خلافته والفتن الرهيبة التي مزقت العالم الاسلامي في عصره وتكالب مختلف القوى المعادية للحق المتسترة به لإحباط مساعيه الاصلاحية - استطاع أن يعرض عظمة الاسلام في ادارة شؤون الحياة وصلاحيته لقيادة البشر في كل زمان ومكان وسنستغني عن كل الكلمات التي قيلت في عدله ومنهج حكومته القويم بما قاله عليهم السلام عن ذلك وهو الصادق المصدق الذي يفعل ما يقول من خلال بعض النصوص الموجودة في أثره الخالد (نهج البلاغة) قال عليه السلام فيما ردّه على المسلمين من قطائع عثمان(1): «والله لو وجدته قد تُزوج به النساء وملكِ به الاماء لرددته، فإن في العدل سَعَة، ومن ضاق عليه العدل، فالجور عليه أضيق»(2) وقال عليه السلام: ايُها الناس إن لي عليكم حقاً ولكم عليَ حق، فأما حقكم عليَ فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم وتعليمكم كيلا تجهلوا وتأديبكم كيما تعلموا، واما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة والنصيحة في المشهد والمغيب والاجابة حين ادعوكم والطاعة حين آمركم»(3).
ص: 108
وقال عليه السلام: لما عوتب على التسوية في العطاء «أتأمروني أن اطلب النصر بالجور فيمن وُليت عليه! والله لا أطوُر به - أي لا أمرُ به ولا أقاربه - ما سمر سمير - مدى الدهر - وما أمَ نجمُ في السماء نجماً! لو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وانما المال مال الله»(1) وقال عليه السلام: «اللهم إنك تعلم انه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنردَ المعالم من دينك، ونظهر الاصلاح في بلادِك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلّة من حدودك. اللهم اني أولُ من أناب وسمع فأجاب لم يسبقني ألا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بالصلاة. وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والاحكام وإمامة المسلمين: البخيل فتكون في أموالهم نهمتَه، ولا الجاهل فيضُلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، والحانق - أي الظالم - للدُول أي الاموال التي تَتَداول - فيتخذَ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع - أي الحدود التي عينها الله تعالى - ولا المعطِل للسنة فيهلك الأمة»(2) وقال عليه السلام: «ولقد أحسنتُ جواركم وأحطتُ بجهدي من ورائكم واعتقتكم من ربَق الذل وحَلَق الضيم شكراً مني للبرِ القليل وإطراقاً عما ادركه البصر وشهده البدن من المنكر الكثير»(3) وقال متبرئاً من الظلم بكل أشكاله «والله لأن أبيت على حَسَك السعدان - الشوك - مسَهدا، أو أُجَرَ في الاغلال مصفدا أحبَ اليَ من أن القى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد وغاصباً لشيءٍ من الحطام وكيف أظلم أحداً لنفس يسرع إلى البلى قفولها، ويطول في الثرى حلولُها؟! والله لقد رأيتُ عقيلاً وقد أملق حتى أستماحني من بُركم صاعاً ورأيت صبيانه شُعث الشعور، غُبَر الالوان من فقرهم، كأنما سُوِدت وجوههم بالعظلم - سواد يصبغ به - وعاودني مؤكداً، وعليَ القولَ مردداً، فأصغيت إليه سمعي، فظن أني أبيعه ديني وأتبع قياده مفارقاً طريقي،4.
ص: 109
فأحميتُ له حديدة ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضجَ ضجيج ذي دنف - مرض - من ألمها، وكاد أن يحترق من ميسمها - المكواة - فقلت له: ثكِلتك الثواكل يا عقيل! أتئِنُ من حديدة أحماها إنسانها لِلَعبه وتُجرني إلى نارٍ سجّرها جبارها لغضبه، أتِئنُ من الأذى ولا أئِنُ من لظى؟! واعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفةٍ في وعائها، ومعجونةٍ شَنِئَتها كأنما عُجنت بريق حيةٍ أو قيئها فقلتُ: أصِلَةُ أم زكاةٌ أم صدقة؟ فذلك محرمٌ علينا أهل البيت فقال: لاذا ولا ذاك، ولكنها هدية فقلت هِبلتك الهَبول - المرأة التي لا يعيش لها ولد -! أعن دين الله أتيتني لتخدعني؟ أمختبطٌ أنتَ أم ذو جنةٍ أم تهجر؟ والله لو اعطيتُ الاقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملةٍ أسلبها جُلبَ شعيرة ما فعلته وإن دنياكم عندي لأهونُ من ورقةٍ في فم جرادةٍ تقضمها ما لعليٍ ولنعيمٍ يفنى ولذةٍ لا تبقى! نعوذ بالله من سبات العقل وقبح الزلل وبه نستعين»(1).
وقال عليه السلام: «ومن استهان بالأمانة ورتع في الخيانة ولم ينزه نفسه ودينه عنها فقد أحلَ بنفسه الذل والخزي في الدنيا وهو في الآخرة أذل وأخزى وإن أعظم الخيانة خيانة الأمة، وافظع الغش غش الأئمة»(2) وقال عليه السلام: «ألا وإن لكل مأمومٍ إماماً، يقتدى به ويستضيء بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه - الطمر: الثوب الخلق - ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع وأجتهاد وعفةٍ وسداد فوالله ما كنزتُ من دنياكم تِبرا، ولا ادخرتُ من غنائمها وفرا ولا أعدتُ لبالي ثوبي طمرا ولا حُزتُ من أرضها شبرا»(3) ومن عهده الخالد إلى مالك الأشتر حين ولاه مصر نختار بعض الفقرات - بالرغم منا خشية الإطالة وإلا فهو عسجد ذهبي من أي إطرافه أخذت اهتديت - ومما جاء فيه «وأشعِر قلبك الرحمة للرعية، والمحبةَ لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبُعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنهم صنفان إما أخُ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، يفرطُ منهم الزلل وتعرضُ لهم9.
ص: 110
العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطِهم من عفوك وصفحك مثل الذين تحبُ أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك» ومنه «أنصفِ الله وأنصفِ الناس من نفسِك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوىً من رعيتك، فإنك إلا تفعل تظلِم! ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته» ومنه «ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة وأجتمعت بها الألفة وصلحت عليها الرعية، ولا تُحدثنَ سنةً تضرُ بشيءٍ من ماضي تلك السنن فيكون الأجر لمن سنها والوزرُ عليك بما نقضت منها، وأكثر مدارسة العلماء ومناقشة - أي محادثة - الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك وإقامة ما استقام به الناس قبلك»، ومنه: «وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد وكن في ذلك صابراً محتسباً، واقعاً ذلك من قرابتك وخاصتكَ حيث وقع وابتغِ عاقبته بما يثُقُل عليك منه فأن مغبة ذلك محمودة»(1).
الثاني: قيادة الثورات ذات الاهداف الاصلاحية ومثل هذا الدور أداه الإمام الحسين عليه السلام لأن حالة التردي والخنوع والاستسلام التي وصلت اليها الأمة يومئذ كانت تحتاج إلى دمٍ نفيس زكي غالٍ على كل افراد الامة ليستيقظ ضميرها وتنتعش إرادتها وتنتفض ضد الظلم والطغيان والانحراف فلم يكن أمامهُ إلا بذل دمه:
إن كان دين محمدٍ لم يستقم *** إلا بقتلي يا سيوف خذيني
وقد صرح بهذا الهدف لمسيرته في كتابه إلى أخيه محمد بن الحنفية «وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وانما خرجتُ لطلب الاصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله»(2) وسيأتي إن شاء الله تعالى في فصل لاحق تفصيل هذا الدور ويمكن أن تكون ثورة الحسين عليه السلام قد فشلت(3) بالحسابات العسكرية المجردةر.
ص: 111
وعند غير اولي البصائر لكن النصر الحقيقي كان حليفهُ وما زلنا نشهد ثمار هذه الثورة الإلهية المباركة الخالدة.
ظنوا بأن قتل الحسين يزيدُهم *** وَهموا فقد قتل الحسينُ يزيدا
الثالث: إصلاح الأمة من خلال نشر المعارف والعلوم والاخلاق الإسلامية الرفيعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتجسيد واقع الشخصية الحقيقية للمسلم قولاً وفعلاً وبأختصار بناء المسلم من الداخل لان علة الانحراف الذي أصاب الأمة هو ضعف هذا البناء فتغيرت الدنيا بأهلها وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت ايدي الناس ولا يغير الله ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم، قال أمير المؤمنين عليه السلام «وأيمُ الله ما كان قومٌ قطٌ في غضِ نعمة من عيش فزال عنهم ألا بذنوب اجترحوها لأن الله ليس بظلام للعبيد ولو أن الناس حين تنزل بهم النقم وتزول عنهم النعم فزعوا الى ربهم بصدقٍ من نياتهم وولهٍ من قلوبهم، لرد عليهم كل شارد وأصلح لهم كل فاسد وإني لأخشى عليكم أن تكونوا في فترة - جهالة وغفلة -»(1) وقد مر تفصيل الكلام في النقاط المتقدمة.
4 - دعم الثورات المخلصة التي تنشد الاصلاح ومدها بما يزيد من قوتها مادياً ومعنوياً وسنزيد هذه النقطة إيضاحاً في فصلٍ لاحق إن شاء الله تعالى.3.
ص: 112
استغلالهم أية مناسبة ليظهروا فيها وراثتهم الفعلية للرسول صلي الله عليه و آله و سلم وإتصال قيادتهم بقيادة النبي صلي الله عليه و آله و سلم وكونهم الأجدر والاولى بمواصلة دوره صلي الله عليه و آله و سلم من خلال الظهور بمظاهر رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم وهذه الامور على بساطتها وسذاجتها ألا أن لها هذا المدلول الكبير الذي يجر البساط من تحت اقدام الخلفاء غير الشرعيين لأن الانسان مجبول على التأثر بالحسّيات وقد لاحظها الله تبارك وتعالى في تشريعاته للبشر فرمز للتوحيد بكعبة يدور حولها جميع المسلمين لتعبر عن محورية التوحيد في عقيدة وسلوك المسلم وان علمهم التفصيلي بمواريث رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم وطريقة حياته الخاصة تكشف بالاولوية عن علمهم بحياته العامة سواء على صعيد تبليغ الاحكام أو ولاية امر الناس.
ومما يمكن الاستشهاد به لهذه النقطة قول الصادق عليه السلام: وإن عندي سيف رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم وإن عندي لراية رسول الله صلى الله عليه وآله ودرعه ولامته ومغفره، وقال: إن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم لما قبض ورث علي عليه السلام علمه وسلاحه وما هنالك ثم صار إلى الحسن ثم صار إلى الحسين عليه السلام قال - الراوي عمر بن أبان - فقلت له ثم صار إلى علي بن الحسين عليه السلام ثم صار إلى أبنه ثم انتهى اليك، قال عليه السلام: نعم(1) وعن صعصعة بن صوحان: لما عقد علي بن ابي طالب الالوية لأجل حرب صفين أخرج لواء رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم ولم يُرَ ذلك اللواء منذ قبض رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم فعقده عليٌ ودعا قيس بن سعد بن عبادة فدفعه إليه واجتمعت الانصار واهل بدر فلما نظروا إلى لواء رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم بكوا فأنشأ قيس بن سعد يقول: - وروي أن الحادثة وقعت قبل معركة الجمل والمنشد هو خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين:
هذا اللواء الذي كنا نحف به *** مع النبي وجبريلٌ لنا مددُ
ما ضر من كانت الأنصار عيبته أن لا يكون له من غيرهم أحدُ
ص: 113
قومٌ إذا حاربوا طالت أكفهم *** بالمشرفية حتى يفتح البلد(1)
وركب الحسين عليه السلام فرس رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم يوم عاشوراء وتقلد سيفه ولبس درعه وعمامته صلي الله عليه و آله و سلم واستشهدهم على ذلك(2) ولما عقد المأمون بولاية العهد للرضا عليه السلام جلس المأمون ووضع للرضا عليه السلام وسادتين عظيمتين حتى لحق بمجلسه وفرشه واجلس الرضا عليه السلام في الحضرة وعليه عمامة وسيف ثم أمر ابنه العباس بن المأمون أن يبايع له في أول الناس فرفع الرضا عليه السلام يده فتلقّى بها وجهه وببطنها وجوههم فقال له المامون: ابسط يدك للبيعة، فقال الرضا عليه السلام: أن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم هكذا كان يبايع فبايعه الناس ويده فوق ايديهم(3) [يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ).
وروى انه لما حضر العيد وكان قد عقد للرضا عليه السلام الأمر بولاية العهد بعث المأمون إليه في الركوب إلى العيد والصلاة بالناس والخطبة لهم فاستعفى الامام عليه السلام لكن المأمون الحّ فأجابه الإمام: أن أعفيتني فهو احب الي وان لم تعفني خرجت كما خرج رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم وأمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام فقال له المأمون: اخرج كيف شئت وأمر القواد والحجاب والناس أن يبكروا إلى باب الرضا عليه السلام قال الراوي: فقعد الناس لابي الحسن عليه السلام في الطرقات والسطوح واجتمع النساء والصبيان ينتظرون خروجه وصار جميع القواد والجند إلى بابه فوقفوا على دوابهم حتى طلعت الشمس فاغتسل ابو الحسن عليه السلام ولبس ثيابه وتعمم بعمامة بيضاء من قطن ألقى طرفا منها على صدره وطرفا بين كتفه ومس شيئا من الطيب واخذ بيده عكازة، وقال لمواليه: افعلوا مثل ما فعلت فخرجوا بين يديه وهو حاف قد شمر سراويله إلى نصف الساق وعليه ثياب مشمرة فمشى قليلا ورفع راسه إلى السماء وكبّر وكبّر موالوه معه ثم مشى حتى وقف على الباب فلما رآه القواد والجند على تلك الصورة سقطوا كلهم من الدواب الى الارض وتحفوا وكبر الرضا عليه السلام على الباب9.
ص: 114
وكبر الناس معه فخيل إلينا أن السماء والحيطان تجاوبه، وتزعزعت مرو بالبكاء والضجيج لما راوا أبا الحسن عليه السلام وسمعوا تكبيره وبلغ المأمون ذلك فقال له الفضل بن سهل: يا أمير المؤمنين إن بلغ الرضا المصلى على هذا السبيل فُتن به الناس وخفنا كلنا على دمائنا فأرسل المأمون إلى الرضا عليه السلام يعفيه ويأمره بالرجوع فدعا ابو الحسن بخُفهِ فلبسه وركب ورجع(1).
ولم يغفل الحكام عن خطورة هذا الانتساب وأثره في التفاف الناس حول أهل البيت عليهم السلام وكان يقض مضجعهم مخاطبة الناس لأهل البيت بأبن رسول الله لذلك عملوا على إشاعة أن ابن البنت ليس أبناً وصنعوا شاعراً خيالياً لا يُعرف اسمه نسبوا له هذا البيت:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا *** بنوهنَ أبناءُ الرجال الأباعِدِ
وكان العباسيون أشد صولةً في هذا الأمر فأضاف شاعرهم:
أنى يكون وليس ذاك بكائنٍ *** لبني البنات وراثة الأعمامِ
فبنوا عليه نظريتهم وكانوا يدعون أحياناً أن قرابتهم من رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم هي نفس قرابة الائمة عليهم السلام فكلاهما أولاد عم الرسول صلي الله عليه و آله و سلم وأستهدفوا من ذلك عدة أمور:
1 - إزالة المكانة القدسية التي يتمتع بها الائمة عليهم السلام بانتسابهم لرسول الله صلي الله عليه و آله و سلم وكان أحدهم يقال له: يا ابن رسول الله ولم يُدعَ أحَدُ من غير ولد فاطمة عليها السلام بذلك.
2 - لقد كان استياء الناس من الحكام عظيماً بسبب ظلمهم لأهل البيت عليهم السلام واحد أسباب الأستياء هو انتماؤهم للرسول صلي الله عليه و آله و سلم هذا فكيف يقال لهم أبناء رسول الله والسلطة التي تدعي خلافة الرسول صلي الله عليه و آله و سلم تطاردهم تحت كل شجر ومدر قتلاً وسجناً وتشريدا.
3 - وللعباسيين هدف آخر هو إثبات قرابتهم الوشيجة للرسول صلي الله عليه و آله و سلم وبالتالي حقهم المشروع في خلافته كما سيتضح من سلام هارون العباسي على قبر النبي صلي الله عليه و آله و سلم.1.
ص: 115
وقد تراوحت ردود الائمة عليهم السلام على هذه المؤامرات بين التصريح والتلميح كما يظهر من الأمثلة التالية:
1 - بلغ الإمام الباقر عليه السلام ما أشيع عن أن الحسن والحسين عليهما السلام ليسا أبني رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم فقال لأبي الجارود - أحد أصحابه يا أبا الجارود ما يقولون في الحسن والحسين عليهما السلام قال: ينكرون عليهما أنهما أبنا رسول الله، قال: فبأي شيء أحتججتم عليهم قال: بقول الله في عيسى «ومن ذريته داود - إلى قوله - وكل من الصالحين» فجعل عيسى من ذرية إبراهيم وأحتججنا عليهم بقوله تعالى:[فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ] (1) ، قال: فأي شيء قالوا، قال: قالوا قد يكون ولد البنت من الولد ولا يكون من الصلب، فقال الإمام عليه السلام والله يا أبا الجارود لأعطينكم من كتاب الله آيةً تسميهما إنهما لصلب رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم لا يردها الا كافر، قال: جعلت فداك وأين؟ قال: حيث قال «حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم (إلى قوله) وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم» فسلهم يا أبا الجارود وهل يحل لرسول الله نكاح حليلتيهما؟ فأن قالوا: نعم فكذبوا والله وإن قالوا: لا فهما أبنا رسول الله لصلبه، وما حرمن عليه إلا للصلب(2).
2 - لما دخل هارون العباسي المدينة توجه لزيارة النبي صلي الله عليه و آله و سلم ومعه الناس، فقدم إلى قبر النبي صلي الله عليه و آله و سلم فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا ابن العم، مفتخرا بذلك على غيره وموهما الناس بجدارته لخلافة الرسول صلي الله عليه و آله و سلم فقدم ابو الحسن موسى بن جعفر إلى القبر فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا ابه، فتغير وجه هارون وتبين الغيظ فيه(3) وفي عيون اخبار الرضا للصدوق أن هارون قال للامام الكاظم عليه السلام: كيف جوزتم أن ينسبوكم إلى رسول الله ويقولوا لكم: يا ابناء رسول الله وانتم بنو علي، وانما ينسب المرء إلى ابيه لا إلى امه؟! فقال له الإمام لو أن النبي2.
ص: 116
نشر وخطب اليك كريمتك، هل كنت تجيبه؟ قال هارون: سبحان الله وكيف لا اجيبه؟ قال الإمام عليه السلام: ولكنه لا يخطب الي ولا اجيبه؟ قال الرشيد: ولم؟ قال: لانه ولدني ولم يلدك(1).
وفي مناسبة اخرى اثار هارون عدة اسئلة حول هذا الموضوع وما يتعلق به فاجاب الإمام الكاظم عليه السلام عليها جميعا باستدلالات قرآنية متينة، والحديث طويل اعرضنا عن ايراده خشية الاطالة(2).
ويبدو أن التفات الحكام إلى هذه النقطة كان مبكرا حيث نقل تعصب الحجاج الثقفي (الوالي من قبل عبد الملك بن مروان) ضد من يخاطب أهل البيت عليه السلام وكان يقول أي شخص يفعل ذلك ولا ياتيني بآية غير [فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا...] قطعت راسه.
وقد اعطى الائمة هذه الفريضة قيمة كبيرة ودفعوا الامة إلى الالتزام بها بعدة طرق:
1 - بيان المكاسب الكثيرة التي تتحقق للفرد وللامة باداء هذه الفريضة فعن الإمام الباقر عليه السلام انه بها (تحل المكاسب وتامن المذاهب وتقام الفرائض(3) وتمنع المظالم وتعمر الأرض وينصف المظلوم من الظالم.
2 - التحذير من النتائج السيئة والخطيرة التي تترتب على ترك هذه الفريضة (إذا تركتم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر سلط عليكم شراركم ونزعت عنكم البركات ولم يكن لكم ناصر في الارض ولا في السماء ثم تدعون فلا يستجاب لكم)، وقال عليه السلام: «ويل لقوم لا يدينون الله بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر».
ص: 117
3 - التطمين مما يمكن أن يلحق القائم بهذه الفريضة من ضرر غير ما كتب الله تعالى له، قال الصادق عليه السلام: «مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، فان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يقربا اجلا ولم يبعدا رزقا»(1).
وتاتي اهمية هذه الفريضة من كونها صمام الامان للمجتمع المسلم من الانحراف وتضييع الرسالة ولا تقل اهميتها عن الجهاد فان دورهما واحد سوى أن الجهاد هو حماية كيان الاسلام من الاعداء الخارجيين أما هذه الفريضة فتحميه من الاعداء الداخليين الذين يشيعون الفساد والانحراف لينخروا البناء من الداخل. بل يمكن دعوى(2) زيادة اهمية هذه الفريضة على الجهاد من وجوه:
1 - استمرار التكليف به لكل زمان ومكان لتحقق موضوعه دائما وهو وجود المنكر والجهل بالشريعة بينما لا يكون موضوع الجهاد منجزا إلا نادرا.
2 - شمول وجوب الفريضة لكل المكلفين بحسب المراتب المذكورة بينما لا يجب الجهاد إلا على شريحة محدودة من القادرين عليه.
3 - إن النصر لا يتحقق في الجهاد إلا بعد انتصار المجتمع المسلم على نفسه بفريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالصبر كما إن أي هزيمة تحصل في الجهاد يعود سببها إلى التقصير في هذه الفريضة قال تعالى:[إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا] (3) ،[وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ] (4). ففريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر علة لنتائج الجهاد والعلة مقدمة رتبة على المعلول.0.
ص: 118
4 - أن المجتمع المسلم لا ينطلق إلى الجهاد إلا بعد أن يبني نفسه ومن ركائز بنائه الاساسية هذه الفريضة فيكون الامر بالمعروف والنهي عن المنكر اسبق رتبة من الجهاد من ناحية عملية، ولا قيمة لاي انتصار عسكري مما يسمونه (جهاداً) إذا لم يكن مخلصا لله تعالى و (معروفاً).
ولاجل هذه القيمة الكبرى للفريضة دعا القرآن الكريم اليها في عدد من الآيات الشريفة وحذر الامة من مغبة تركها وبين لهم عاقبة السوء التي حاقت بالأمم التي توانت عن أدائها وبالمقابل فقد بين البركات والنعم التي تهطل عليهم لو اقاموها وبين صفات القائمين بهذه الفريضة حق قيامها لا لكي يسقط الفريضة عن غير المتصفين بها كما ربما يتوهم الكثير بل لكي يدفع غير المتصفين إلى الأتصاف بها أو قل: أن هذه الأوصاف شروط للواجب لا للوجوب حتى يسقط التكليف بها. وربما سنتوسع في بيان هذه الامور في بحث مستقل بإذن الله تعالى.
والله تبارك وتعالى يحرص على إقامة مجتمع يساعد على الطاعة ويزيد من فرصها ويقلل من فرص المعصية ويمنع من وجودها في المجتمع لذا منع حتى على الذميين الممارسة العلنية للأعمال التي تنافي شريعة الاسلام فما بالك بالمسلمين لكي لا تنغص حياة المسلمين أي مخالفات أو محرمات أو تكدر صفو حياتهم الإيمانية، قال تعالى:[قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ] (1) ، فعلى غير(2) المسلمين كما على المسلمين عدم التظاهر بالمحرمات كشرب الخمر وأكل المال بالباطل والتحللهم
ص: 119
الخلقي لئلا يؤدي ذلك إلى اشاعتها والاسترسال فيها وكسر هيبة حدود الله تعالى فيجترئ ضعاف النفوس على المعصية وليفعلوا بينهم في الخفاء ما يريد الشيطان والنفس الأمارة بالسوء. قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: مبيّنا مراحل إنهيار الأمة بسبب فقدانها لأهم سلاح لتقويم الإنحراف قال صلي الله عليه و آله و سلم: «كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم، ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر، فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله قال صلي الله عليه و آله و سلم: نعم، فقال: كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ فقيل له: يا رسول الله ويكون ذلك؟ قال صلي الله عليه و آله و سلم: نعم وشرُ من ذلك كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً»(1).
وقد إتّبع الأئمة عليهم السلام مختلف الوسائل والأدوات لهذه الفريضة امتثالا لأمره تعالى «اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ومن اشهر ما يمكن ذكره في هذا المجال ما روي أن الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام دخلا المسجد فوجدا شيخاً يتوضأ لكنه لا يحسنه فلم يجرحا مشاعره ويخطئاه بل قالا له: يا عم أريد أن أتوضأ أمامك أنا وأخي وأنت الحكم بيننا أينا أحسن وضوءاً فتوضأ أمامه فضرب الشيخ على رأسه وقال يا أبني أخي كلاكما يحسن الوضوء وإنما أنا الذي لا أحسنه.
وكانوا يستعملون مختلف المؤثرات النفسية والعقلية والقلبية في الاصلاح، مثلاً: يأتيهم شخص يطلب منهم الموعظة وكانت له بعض التصرفات السيئة فيقول له احدههم (عليهم السلام): (لا تكذب) فقط فكان هذا الشخص كلما أراد وهم أن يفعل معصية تركها وقال لنفسه أني سأقدم على الإمام عليه السلام ويسألني هل فعلت معصية: فإن صدقت فوا خجلتاه وإن كذبت أكون قد خالفت موعظته ونصيحته التي عاهدته عليها.
وإسلوب الإمام الكاظم عليه السلام مع بشر الحافي هزه من الاعماق بكلمتين وقلب كيانه من فاجر فاسق اتخذ بيته مجمعاً للموبقات إلى عارفٍ بالله عظيم يفتخر به2.
ص: 120
السائرون إلى الله تعالى حيث مر على دار شاهقة في بغداد أيام كان مسجوناً فيها لكنه يسمح له أحياناً بالتجول في المدسنة مع تسجيل حضور يومي لدى الشرطة وتنبعث من هذه الدار أصوات اللهو والمجون فخرجت جارية ترمي فضلات مائدة الخمر فسألها الإمام عليه السلام لمن هذه الدار قالت لمولاي بشر قال عليه السلام: مولاك حرٌ أم عبد؟ قالت باستغراب: حر قال: نعم لو كان عبداً لأستحيا من سيده ومولاه ولما عادت الجارية سألها بشر عن سبب تأخرها فأخبرته بلقائها بالامام عليه السلام وما دار بينهما ووصفته له فقال بشر: ذاك سيدي ومولاي موسى بن جعفر عليه السلام فخرج حافياً حاسراً باكياً حتى أدرك الإمام عليه السلام وتاب على يديه وأنقلبت حياته ببركة كلمات الإمام.
ومن تلك الوسائل المحاربة العملية لبعض الظواهر المنحرفة بعمل الضد الصحيح لها علناً وبصراحة فمثلاً: كان العرب - بفعل الرواسب الجاهلية التي غذاها الأمويون - يشعرون بالتعالي على القوميات الأخرى التي فتحوا بلادها وأخضعوها للدولة الإسلامية ويعتبرونهم مواطنين من الدرجة الثانية بالمصطلح الحديث فكانوا لا يزوجونهم ولا يتزوجون منهم فتزوج عددٌ من أئمة أهل البيت عليهم السلام إماءاً وولدت أئمة ودخل زيد الشهيد بن الإمام السجاد عليه السلام على هشام بن عبد الملك فعيره بأن أمه أمة وهذا مانع من استحقاق الخلافة؟ فقال زيد: إن النبوة أشرف من الخلافة وقد كانت أم إسماعيل أمة وتوجد مراسلات بين الإمام السجاد عليه السلام والحكام الأمويين تبين امتعاض أولئك من تصرفات الإمام عليه السلام ورده عليهم(1).
هذه الأعمال المهمة في حياة الأمة التي كان الأئمة عليهم السلام يعيشونها جعلتهم في صميمها واوجبت لهم مكانة خاصة في القلوب فكانوا بحق استجابة دعوة جدهم إبراهيم الخليل عليه السلام [فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ] (2) ، وكانت لهم قاعدة جماهيرية واسعة يمكن الالتفات إلى عدة منبهات عليها.7.
ص: 121
1 - محبة الناس لهم عليه السلام واحترامهم وتعظيمهم ومن أمثلة ذلك ما ذكر في المتن من إنفراج الناس عن الإمام السجاد عليه السلام حين جاء لاستلام الحجر الاسود في حين لم يستطع الملك الأموي هشام بكل جبروته وطغيانه إن يحصل على ذلك ومن ذلك ما ورد في تسيير المأمون العباسي للإمام الرضا عليه السلام إلى مرو بذريعة تسليمه ولاية العهد وأمر القائد المكلف بهذه المهمة أن يسير على طريق البصرة فالأهواز لقلة الشيعة والموالين ولكن الذي حصل هو استقبال الالاف من الناس في كل مدينة وحينما طلب منه أهالي نيسابور أن يحدثهم بحديث عن آبائه عن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم المعروف بحديث سلسلة الذهب كان هناك اربعة الاف راوٍ يكتبون الحديث مما أهال المأمون وأغاظه.
2 - التجاء الحكام اليهم عليهم السلام لتهدئة الجماهير الثائرة والغاضبة أو لاقناعها بوجهة نظرٍ ما لأن كلامهم (عليهم السلام) يقع موقع التأثير في قلوب الناس ومن ذلك ما ورد في المتن من التجاء عثمان إلى أمير المؤمنين عليه السلام كلما حاصره الثوار وضغطوا عليه وطالبوه بعزل حاشية السوء وإصلاح الحال والحكم بالعدل فلم يجد الخليفة بُداً من الارسال إلى علي عليه السلام لكي يقنع الجماهير بفك الحصار وقام علي عليه السلام بمساعي حميدة بين عثمان والجماهير الثائرة وكانت تفلح دائماً وعاد الثوار إلى أمصارهم لكن بطانة السوء والمنتفعين من الاحداث أشعلوا فتيل الثورة من جديد وعاد الإمام عليه السلام إلى وساطته حتى قال (ولقد دافعت عن عثمان حتى خشيت أن أكون آثماً ثم طلب منه عثمان الابتعاد عن المدينة ليقلَ الهتاف باسمه فأمتثل الإمام عليه السلام أمره)(1).
والمورد الآخر ما ذكره في المتن أيضاً من (الهجوم الشعبي الهائل الذي تعرض له قصر المأمون لإغضابه الإمام الرضا عليه السلام فلم يكن للمأمون مناص عن الالتجاء إلى الإمام لحمايته من غضب الأمة فقال له الإمام: (اتق الله في أمة محمد وما ولاك من9.
ص: 122
هذا الأمر وخصك به فأنك قد ضيعت أمور المسلمين وفوضت ذلك إلى غيرك يحكم فيها بغير حكم الله عز وجل(1).
وعن معمر بن خلاد قال: قال لي ابو الحسن الرضا عليه السلام: (قال لي المأمون: يا أبا الحسن لو كتبت الى بعض من يطيعك في هذه النواحي التي قد فسدت علينا، قال عليه السلام: قلت له: يا أمير المؤمنين، إن وفيتَ لي وفيتُ لك، إنما دخلتُ في هذا الامر الذي دخلت فيه على أن لا أأمر ولا أنهى ولا أولّي ولا اعزل وما زادني هذا الامر الذي دخلت فيه في النعمة عندي شيئاً ولقد كنت بالمدينة وكتابي ينفذ في المشرق والمغرب ولقد كنت اركب حماري وأمرّ في سكك المدينة وما بها أعزّ مني وما كان بها أحدٌ منهم يسألني حاجة يمكنني قضاؤها له الا قضيتها له، قال: فقال لي: أفي لك)(2).
وحدث في خلافة المهتدي أن خرج صاحب الزنج بمن معه من العبيد والفقراء والمستضعفين وإستطاع أن يسيطر على البصرة وكثر أنصاره وكاد أن يستولي على عاصمتهم بغداد بعد معارك ضارية وكان يدعي انتسابه إلى أهل البيت عليهم السلام مما ساهم في انتشار دعوته وكثرة مؤيديه مما دعا الحكام أن يطلبوا من الإمام العسكري عليه السلام أن يبين رأيه في هذا الادعاء فقال الإمام عليه السلام (إن صاحب الزنج ليس من أهل البيت عليهم السلام) وكان يكرر عدم إنتساب صاحب الزنج إلى أهل البيت عليهم السلام بعد أن قتل الشيوخ والأطفال وسبى النساء وأحرق المدن والمنازل وغير ذلك من الفضائع(3).
3 - رجوع الثائرين الذين خرجوا على الحكومات المنحرفة إليهم عليهم السلام فالمختار الثقفي استأذن الإمام السجاد عليه السلام في الثورة على الأمويين والطلب بثأر الحسينب.
ص: 123
عليه السلام وقد مر في المتن كلام عبد الله المحض بن الحسن المثنى حين أراد البيعة لأبنه محمد يقول للأمام الصادق عليه السلام (واعلم فديتك إنك إذا أجبتني لم يتخلف عني أحدٌ من أصحابك ولم يختلف عليَ إثنان من قريش ولا من غيرهم(1) وطلب عمرو بن عبيد ورؤساء المعتزلة من الإمام الصادق عليه السلام أن يؤيد حركة محمد النفس الزكية، وقالوا له فيما قالوا: (وقد أحببنا أن نعرض ذلك عليك فتدخل معنا فانه لا غنى بنا عن مثلك لموضعك وكثرة شيعتك(2).
4 - وبسبب هذه الجماهيرية كان الحكام يحسبون الف حساب قبل الاقدام على أي عمل يسيء إلى الأئمة لئلا ينقلب الرأي العام ضدهم ويحدث عكس ما يشتهون وهذه بعض النماذج:
أ - لما أراد هارون العباسي إعتقال الإمام الكاظم عليه السلام موه على سفرته بنية الحج وفي المدينة أمر جلاوزته فأخذوه من المسجد وأدخلوه عليه فأستدعى قبتين جعله في احدهما على بغل وجعل القبة الأخرى على بغل آخر وأخرج البغلين من داره وعليهما القبتان مستورتان ومع كل واحدةٍ منهما جماعة من جنده على خيولهم وأمرهم أن يتجهوا بالبغلة التي عليها الإمام عليه السلام إلى البصرة ويتجهوا بالبغلة الثانية إلى الكوفة(3).
ب - أرسل المتوكل قائده يحيى بن هرثمة وقوة عسكرية لاعتقال الإمام الهادي عليه السلام وتفتيش بيته والمجيء به إلى سامراء، يقول ابن هرثمة: فلما دخلنا المدينة ضج أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس بمثله خوفاً على ابي الحسن عليه السلام وقامت الدنيا على ساق فجعلتُ اسكنهم وأحلف لهم بأني لم أؤمر فيه بسوء ولا مكروه وإنه لا بأس2.
ص: 124
عليه، وقال للمتوكل: وإن أهل المدينة خافوا عليه لما وردت المدينة وضجوا بأجمعهم ولم يهدؤا إلا بعد أن حلفت لهم بأن الأمير لا يريد به سوءاً(1).
ج - وكان الحكام عندما يرتكبون جرائمهم بقتل الائمة عليهم السلام يتصنعون الحزن والبكاء ويموهون على الرأي العام بمختلف الوسائل لتبرئتهم ولا يعلمون أن هذه الاساليب تؤكد للناس اشتراكهم بالجريمة ومسؤوليتهم الكاملة عنها فلما قضى هارون على حياة الإمام الكاظم عليه السلام بالسم بواسطة رئيس شرطته السندي بن شاهك أدخل السندي على الإمام وهو مسجى جماعة من فقهاء بغداد وأعيانها وقال لهم: أنظروا إليه هل ترون به أثراً لضربة سيف أو لطعنة رمح؟ فقالوا: لم نجد به شيئاً من ذلك وطلب منهم أن يشهدوا بموته حتف أنفه فأجابوه لذلك(2).
وسم المامون العباسي الإمام الرضا عليه السلام عن طريق ماء الرمان فدخل عليه وهو يعالج الموت وقال: والله ما ادري أي المصيبتين اعظم علي، فقدي لك وفراقي إياك أو تهمة الناس لي اني اغتلتك وقتلتك وسار وراء جنازته حافيا حاسرا وهو يبكي ويقول: اعزز علي يا اخي بان اعيش ليومك وقد كان بقاؤك املي واغلظ علي من ذلك واشد أن الناس يقولون: اني سقيتك سما وانا إلى الله من ذلك برئ(3).
ودعا المعتمد العباسي - عندما احضرت جنازة الإمام العسكري وقد قتل مسموما - بعض العلويين والعباسيين والقواد والكتاب والقضاة، وقال: هذا الحسن بن علي بن محمد الرضا قد مات حتف انفه على فراشه واشهدهم على ذلك(4).
وقد اطلت بذكر الشواهد لتطلع على خبث أولئك الحكام ومظلومية أهل البيت عليهم السلام.2.
ص: 125
كان الائمة يعتنون بالشيعة عناية خاصة باعتبارهم الصق شرائح الامة بهم وقد وعوا قضيتهم وتصدوا للدفاع عنها والمحافظة عليها بالغالي والنفيس ولا زال هذا الولاء يكلف الشيعة التضحيات الجسيمة وليس غريبا أن يحيط صاحب أي قضية أو رسالة الاشخاص المستوعبين لافكاره والمتفهمين لخطواته والمعتقدين بصحة منهجه بعناية خاصة غير الرعاية العامة التي كانت تحظى بها الامة كلها، وكانوا عليهم السلام يقولون: (شيعتنا أصبر منّا لاننا صبرنا على ما نعلم وهم صبروا على ما لا يعلمون).
ويمكن أن نشير إلى عدة نقاط على هذا المحور:
الاول: وضع معالم نظام المرجعية والتقليد حيث يكون المرجع هو ولي امور الامة نيابة عن الإمام المعصوم ويقوم بجميع مسؤوليات الإمام ويستمد شرعية طاعته من وجوب طاعة الإمام وقد وضع الإمام العسكري عليه السلام حدود وضوابط المرجعية والتقليد بوصفه آخر إمام كان على اتصال مباشر بالشيعة وفي حديث له عليه السلام رد فيه على من ساوى بين تقليد الامة لعلمائها وتقليد اليهود لعلمائهم فشرح اوجه التشابه والاختلاف والنتائج التي تترتب على كل منها ثم بين شروط العالم الذي ترجع إليه الامة في عصر الغيبة لتنظيم حياتها ومما جاء فيه «وكذلك عوام امتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر والعصبية الشديدة والتكالب على حطام الدنيا وحرامها، واهلاك من يتعصبون عليه وان كان لاصلاح امره مستحقا، وبالترفرف بالبر والاحسان على من تعصبوا له وان كان للاذلال والاهانة مستحقاه فمن قلد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمهم الله تعالى بالتقليد لفسقة فقهائهم، فاما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه، مخالفا على هواه، مطيعا لامر مولاه، فللعوام أن يقلدوه، وذلك لا يكون ألا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم، فأنه من ركب القبائح والفواحش مراكب فسقة العامة فلا تقبلوا منا عنه شيئاً، ولا كرامة، وانما كُثر التخليط فيما يُتحمل عنا أهل البيت لذلك لأن الفسقة يتحملون عنا فيحرفونه بأسره بجهلهم، ويضعون
ص: 126
الاشياء على غير وجهها لقلة معرفتهم، وآخرون يتعمدون الكذب علينا ليجرّوا من عرض الدنيا ما هو زادهم إلى نار جهنم، ومنهم قومُ (نصاب) لا يقدرون على القدح فينا، يتعلمون بعض علومنا الصحيحة فيتوجهون به عند شيعتنا، وينتقصون بنا عند نصابنا، ثم يضيفون إليه أضعاف أضعافه من الأكاذيب علينا التي نحن براء منها، فيتقبله المستسلمون من شيعتنا، على أنه من علومنا، فضلوا وأضلوا وهم أضر على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد على الحسين بن علي عليه السلام واصحابه، فأنهم يسلبونهم الازواج والاموال وهؤلاء علماء السوء الناصبون المتشبهون بأنهم لنا موالون، ولا عدائنا معادون، ويدخلون الشك والشبهة على ضعفاء شيعتنا فيضلونهم ويمنعونهم عن قصد الحق المصيب، لا جرم أن من علم الله من قلبه من هؤلاء القوم أنه لا يريد إلاّ صيانة دينه وتعظيم وليه لم يتركه في يد هذا المتلبس الكافر، ولكنه يقيض له مؤمناً يقف به على الصواب، ثم يوفقه الله للقبول منه، فيجمع الله له بذلك خير الدنيا والآخرة، ويجمع على من أضله لعناً في الدنيا وعذاب الآخرة، ثم قال: قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: أشرار علماء أمتنا: المضلون عنا، القاطعون للطرق الينا، المسمون أضدادنا بأسمائنا، الملقبون أندادنا بألقابنا، يصلون عليهم وهم للعن مستحقون، ويلعوننا ونحن بكرامات الله مغمورون، وبصلوات الله وصلوات ملائكته المقربين علينا عن صلواتهم علينا مستغنون»(1).
الثاني: تشجيع الحركة الفكرية من خلال فتح باب الاجتهاد لذوي الكفاية والقابلية ليتمكن المسلمون من تطبيق شريعة الاسلام في كل زمان ومكان ومواكبة تطورات الحياة والحث على طلب العلم وتكريم العلماء، والقاء الاصول وترك مهمة التفريع على المجتهدين وفق ضوابط وحدود وضعوها لهم(2) قال الإمام الصادق عليه السلام وقد0.
ص: 127
ذكر عنده عدد من اصحابه المقربين «لولا هؤلاء ما كان أحدُ يستنبط هذا الفقه، هؤلاء حفاظ الدين وأمناء أبي عليه السلام على حلاله وحرامه وهم السابقون الينا في الدنيا والآخرة»(1) وأحالوا شيعتهم إلى مثل هؤلاء الفقهاء في حالة عدم الوصول اليهم، قال ابن ابي يعفور للامام الصادق عليه السلام: ليس كل ساعة القاك وأتمكن من القدوم عليك ويحيى الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كل ما يسألني عند، قال عليه السلام فما يمنعك من محمد بن مسلم الثقفي فإنه قد سمع من أبي وكان عنده وجيهاً»(2) وعن أحمد بن أسحق بن سعد القمي قال: دخلت على ابي الحسن علي بن محمد الهادي عليه السلام في يوم من الأيام وقلت له ياسيدي أنا أغيب واشهد ولا يتهيأ لي الوصول اليك إذا شهدت في كل وقت فقول من نقبل وأمر من نمتثل، فقال لي: هذا ابو عمر و (عثمان بن سعيد العمري) الثقة الأمين ما قاله لكم فعني يقوله وما أداه لكم فعني يؤديه، يقول الراوي فلما مضى ابو الحسن صرت إلى إبنه ابي محمد الحسن العسكري ذات يوم فقلت له مثل قولي لأبيه من قبل، فقال لي: هذا ابو عمرو الثقة الأمين ثقة الماضي وثقتي في المحيا والممات فما قال لكم فعني يقول وما أدى اليكم فعني يؤديه(3).
أما حُثه عليه السلام على طلب العلم وتكريم العلماء فقد بلغ حداً بعيداً ومعاجم الحديث حافلة بأقوامهم وقد أشتهر عنهم قولهم عليهم السلام: طلب العلم فريضة على كل مسلم وقد بين الإمام الهادي عليه السلام دور العلماء المخلصين في صيانة الدين ونقله عبر الاجيال لهداية الناس قال عليه السلام: لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم عليه السلام من العلماء الداعين إليه والدالين عليه والذابين عن دينه بحجج الله والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب لما بقي أحدٌ إلاّ إرتدَ عن دين الله،2.
ص: 128
ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها، أولئك هم الأفضلون عند الله عز وجل(1).
الثالث: الحث على التدوين والتأليف لديمومة الرسالة وصيانتها فأن الحفظ وحده لا يكفي لأنه عرضة للنسيان والتلاعب والاشتباه في النقل، ولأن الأحاديث الشريفة ضمّت تفصيلات الشريعة عقيدةً وسلوكاً ونظاماً في حين احتوى القرآن على مجملاتها، فلابد من انضمامهما لتكون الصورة واضحة وهذا معنى حديث الثقلين المشهور: (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي أبدا(2).
وقد حاول الذين أرادوا طمس آثار أهل البيت عليهم السلام وتضييع حقهم المنع من تدوين الحديث وكانوا يقولون حسبنا كتاب الله(3) ، وكانوا يعاقبون من يجدونه يكتب حديثاً حتى اتيحت مثل هذه الفرصة في نهاية القرن الاول الهجري في ملك عمر بن عبد العزيز. ولكن أئمة أهل البيت عليهم السلام رفضوا الانصياع لهذا المنع الذي هو قرار مجحف بحق الأمة وواصل الامام علي عليه السلام والحسن عليه السلام واصحابهما وكذا بقية الائمة عليهم السلام تدوين الحديث(4).
وكانوا عليهم السلام يطلعون بأنفسهم على الكتب التي يجمع فيها تلامذتهم أحاديثهم فيمضون الصحيح منها ويأمرون شيعتهم بالرجوع إليهم(5).
وقد وصلت حركة التدوين قمتها في عهد الإمامين الباقر والصادق عليه السلام فقد ألف أصحابهما أربعمائة كتاب سميت بالأصول الأربعمائة تحوي نصوص أحاديثهم8.
ص: 129
عليهم السلام أما كتب أصحاب الأئمة جميعاً من جوامع للحديث أو تعليقات وشروح له فقد بلغت ستة آلاف وستمائة كتاب(1) كما نشطت حركة التأليف في زمن الإمامين الهادي والعسكري عليهما السلام في المناطق الآمنة من رقابة السلطة فكان محمد بن مسعود العياشي الذي عاصر الإمامين العسكريين عليهما السلام قد انفق ثروة أبيه بكاملها على نشر آثار أهل البيت وكانت داره في بلاد ما وراء النهر كالمسجد تجمع العشرات ما بين ناسخ ومقابل وقارئ ومعلق وكانت تلك الكتب تعرض على الأئمة عليهم السلام لإمضائها عندما يتاح لأصحابها الاتصال بهم(2).
وكانت مدينة قم تتصدر المراكز الشيعية في هذه الحركة الفكرية وبلغت منزلتها أن تُعرض الكتب - بأمر الإمام عليه السلام - على علمائها للتأكد من صحتها ومطابقتها لأصول المذهب كما أرسل الحسين بن روح السفير الثالث للحجة عليه السلام كتاب التأديب للشلمغاني المعروف بأبي العزاقري إلى علماء الشيعة ورواة حديثهم هناك لينظروا فيه ففعلوا وبعثوا بنتيجة رأيهم إليه(3).
الرابع: التحاكم إلى قضاة من أصحابهم لحل الخصومات فيما بينهم وعدم الرجوع إلى قضاة السلطة لحلها وتحريم إتباع أقضية السلطات الجائرة وإن كان منسجماً مع حقهم وإن ما يؤخذ بهذه الطريقة سحت، فعن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام: عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحلً ذلك؟ قال عليه السلام: من تحاكم اليهم في حق أو باطل فانما تحاكم الى الجبت والطاغوت المنهي عنه، وما حكم له به فإنما يأخذ سحتاً وإن كان حقه ثابتاً له لأنه أخذه بحكم الطاغوت، ومن أمر الله عز وجل أن يكفر به، قال الله عز وجل «يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ(4).ء.
ص: 130
الخامس: وضع شروط وضوابط الأحاديث الواردة عنهم والأخبار المتعارضة في الروايات عنهم عليهم السلام للتمكن من الوصول إلى الرأي الفعلي في ضوء فقه أهل البيت عليهم السلام فقد كثُر الوضع والدس والتشويه لأسباب متعددة، منها: جني مكاسب شخصية، او لتأييد اتجاه فكري أو اجتماعي معين او لتشويه سمعة أهل البيت عليهم السلام أو للرفع او الحط من شخصيات معينة أو للتلاعب في الاحكام. أو لتبرير أفعال معينة وهكذا وليس هذا بيان تفصيلاته، لذا سعى الائمة عليهم السلام لوضع المعايير التي تستطيع الأمة من خلالها التمييز بين الصحيح والسقيم، فعن الصادق عليه السلام في حديث طويلٍ مرَ جزء منه إلى أن وصل إلى معايير الترجيح عند تعارض روايتين قال: ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما، المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به من حكمهما ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه، وانما الامور ثلاث: أمر بَيَن رشده فيُتبع، وأمر بين غيُه فيُجتنب، وأمر مشكل يرد حكمه إلى الله عز وجل والى رسوله، حلال بين، وحرام بين، وشبهات تتردد بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات أرتكب المحرمات، وهلك من حيث لا يعلم، قلت - أي الراوي عمر بن حنظلة - فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال: ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة، وخالف العامة(1) فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة، قلتُ: جُعِلت فداك أرأيت إن كان حكمه من الكتاب والسنة ثم وجدنا أحد الخبرين يوافق العامة والآخر يخالف بأيهما نأخذ من الخبرين؟ قال: ينظر إلى ما هم إليه يميلون فإن ما خالف العامة ففيه الرشاد. قلت: جعلت فداك فإن وافقهم الخبران جميعاً؟ قال: أنظروا إلى ما تميل إليه حكامهم وقضاتهم فاتركوه جانباً وخذوا بغيره، قلت: فإن وافق حكامهم الخبرين جميعاً، قال: إذا كان كذلك فأرجه وقف عنده،ا.
ص: 131
حتى تلقى إمامك فأن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات والله هو المرشد(1).
وإذا اجتمعت للخبرين شرائط الصحة ولم يُعلم أيُهما الحق فموسعٌ على الشخص أيهما يأخذ كما ورد عن الرضا عليه السلام(2) وسبب مخالفة العامة ما قاله الصادق عليه السلام: خذ بما فيه خلاف العامة لأنه يحتمل أن يكون قد ورد مورد التقية وما خالفهم لا يحتمل ذلك(3).
وعند عدم الاطمئنان بالحكم بل مطلقاً فقد حثوا عليهم السلام على الاحتياط في جميع الأمور ما أمكنهم ذلك، قال الصادق عليه السلام «وخذ بالاحتياط في جميع امورك ما تجد إليه سبيلا»(4).
السادس: التنبيه على المندسين في صفوفهم ممن ليسوا منهم فيعملون على دس الأحاديث المكذوبة وتحريف الصحيح وبث الأفكار الفاسدة والعقائد المنحرفة فيها مما يعود بنتائج سيئة على فكر مدرسة أهل البيت عليهم السلام وتطبيقاتها العملية فقام الائمة عليهم السلام بفضحهم ولعنهم على رؤوس الأشهاد والتحذير من اتباعهم، قال الصادق عليه السلام(5): والله ما الناصب لنا حرباً بأشد علينا مؤونة من الناطق علينا بما نكره وبما لم نقله في أنفسنا، قال: إن الناس قد أولعوا بالكذب علينا وإني أحدث أحدهم بالحديث فلا يخرج من عندي حتى يتأوله على غير وجهه وذلك انهم كانوا لا يطلبون بأحاديثنا ما عند الله، وإنما يطلبون الدنيا وكلُ يحب أن يكون رأساً، وقال: إنّا أهل بيت لا يزال الشيطان يدخل فينا من ليس منا ولا من أهل ديننا فاذا رفعه ونظر الناس إليه أمره الشيطان فيكذب علينا، وقال له بعض أصحابه: يا إبن رسول الله قد بلغنا عنك إنك قلت: إذا عرفتم فاعملوا ما شئتم، فقال عليه السلام: إني قلت إذا عرفتم فاعملوا من الطاعات2.
ص: 132
ما شئتم فانه يقبل منكم، وممن لعنهم الصادق عليه السلام المغيرة بن سعيد قال عليه السلام: إن أصحاب المغيرة المتسترين باصحاب أبي كانوا يأخذون كتب أصحاب أبي ويدفعونها إلى المغيرة فيدُس فيها الكفر والزندقة والالحاد ويسندها إلى أبي، ثم يدفعها إلى أصحابه ويأمرهم أن يبثوها في الشيعة فكل ما كان في كتب أبي من الغلو فذاك مما دسه المغيرة بن سعيد في كتبهم ومؤلفاتهم وقال محذراً منه ومن أصحابه: لعن الله المغيرة بن سعيد ولعن يهودية كان يختلف إليها يتعلم منها السحر والشعبذة والمخاريق، إن المغيرة كذب على أبي فسلبه الله الإيمان.
وسئل الإمام العسكري عن كتب بعض الشيعة من غير الإمامية المعتقدين بالأئمة الاثني عشر عليهم السلام، لكنهم ثقات قال عليه السلام: (خذوا ما رووا وذروا ما رأوا)(1) ، وهي كلمات تكشف عن درجة عالية من الانصاف والموضوعية في تقييم الآخرين حتى لو لم يكونوا معتقدين بإمامتهم عليهم السلام وخرج توقيع من الإمام المهدي عليه السلام في شأن الشلمغاني وقد إعتنق اراءاً فاسدة بعد أن كان ممن يعتمد عليه يقول فيه إن محمد بن علي المعروف بالشلمغاني قد إرتد عن الاسلام والحد في دين الله وادعى ما كفر معه بالخالق، وافترى كذباً وزوراً وقال بهتاناً وإثماً عظيماً، وإننا قد برئنا إلى الله ورسوله منه ولعناه، عليه لعائن الله من الظاهر والباطن في السر والعلن وفي كل وقت وعلى كل حال وعلى من شايعه وتابعه ومن بلغه هذا القول منا وأقام على موالاته»(2).
وقد وضع اصحاب الائمة عليهم السلام كتباً في علم الرجال تعرّف برواة الاحاديث وتقييمهم وإمكانية الأخذ منهم.
السابع: ضرورة اهتمام بعضهم بأمور البعض الآخر إنطلاقاً من حديثهم عليهم السلام الشامل لكل الأمة «من أصبح ولا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم»(3) ، وتعطى2.
ص: 133
اولوية خاصة بمن يشاطرهم العقيدة ومن هذه الرعاية ما ورد عن الصادق انه قال لبعض شيعته: ما بال أخيك يشكوك فقال: يشكوني أن استقصيتُ عليه حقي، فجلس مغضباً ثم قال: كأنك إذا استقصيت عليه حقك لم تسيء إليه أرأيتك ما حكى الله عن قوم يخافون سوء الحساب، أخافوا أن يجور الله عليهم؟ لا ولكنهم خافوا الاستقصاء فسماه الله سوء الحساب فمن استقصى على أخيه فقد أساء الله(1) وقال عليه السلام لنفرٍ عنده «مالكم تستخفون بنا؟» فقام إليه رجل من أهل خراسان فقال: معاذ الله أن تستخف بك! فقال له: «ويحك الم تسمع فلاناً ونحن بقرب الجحفة وهو يقول لك: احملني قدر ميل فقد والله أعييت والله ما رفعت له رأساً، لقد استخففت به، ومن استخف بمؤمنٍ فبنا استخف، وضيع حرمة الله عز وجل»(2) وقال ابو الحسن عليه السلام: من قصد إليه رجل من إخوانه مستجيراً به في بعض أحواله، فلم يجره بعد أن يقدر عليه فقد قطع ولاية الله عز وجل» وقال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم «من اصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم»(3).
الثامن: التأكيد على مراعاة العلاقات الاجتماعية بينهم لزيادة التقارب والالفة ومن هذه المناسبات عيادة المرضى والتهنئة بالافراح وتشييع الجنازة والتعزية بالمصائب وإطعام الطعام وإفشاء السلام(4) ، يروى أن صعصعة بن صوحان العبدي مرض فجاء إليه أمير المؤمنين عليه السلام عائداً زائراً ومما قال له عليه السلام: لا تتخذن زيارتنا إياك فخراً على قومك، فأجابه: لا يا أمير المؤمنين ولكن ذخراً وأجراً(5) ودخل أمير المؤمنين عليه السلام على العلاء بن زياد الحارثي بالبصرة يعوده فلما رأى سعة داره قال: ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا؟ وأنت اليها في الآخرة أحوج؟ وبلى إن شئت بلغت1.
ص: 134
الآخرة: تقري فيها الضيف وتصل فيها الرحم وتُطلع منها الحقوق مطالعها - أي تظهرها حيث يجب أن تظهر - فأذا أنت قد بلغت بها الآخرة»(1).
ومشى الإمام الكاظم عليه السلام في جنازة فلما أنزل الميت إلى قبره قال: إن شيئاً هذا آخره لحقيقُ أن يُزهَد في أوله وإن شيئاَ هذا اوله لحقيق أن يخاف من آخره. وعزى أمير المؤمنين عليه السلام قوماً عن ميت مات لهم فقال عليه السلام: إن هذا الامر ليس لكم بدأ ولا اليكم انتهى وقد كان صاحبكم هذا يسافر فعدوه في بعض أسفاره، فأن قدِم عليكم والإ قدمتم عليه(2).
وهنأ بحضرته رجلٌ رجلاً بغلام ولد له فقال له: ليُهنئك الفارس، فقال عليه السلام: لا تقل ذلك ولكن قُل: شكرت الواهب وبورك له في الموهوب، وبلغ أشدهُ ورُزقت بره(3) وعزى الاشعث بن قيس عن ابن له فقال: يا اشعث إن تحزن على إبنك فقد أستحقت منك ذلك الرحم وإن تصبر ففي الله من كل مصيبة خَلَف. يا اشعث، إن صبرتَ جرى عليك القدر وأنت مأجور، وإن جَزِعت جرى عليك القدر وأنت مأزور يا اشعث إبنك سَرَك وهو بلاء وفتنة وحزنك وهو ثواب ورحمة (9).
ومحل الشاهد من نقل هذه الأحداث هي الاستفادة مما فيها من مواعظ وتقديم الشواهد على مشاركة الائمة عليهم السلام، في المناسبات الاجتماعية المختلفة ليعلّموا شيعتهم هذا السلوك الايجابي الفعال في بناء العلاقة بين أفراد الأمة على التآلف والمحبة والودّ.
وهو مفصل مهم يجب أن يوجهه ولي الأمر ولا يُترك سدى لتقدير الناس أنفسهم فان توجهاتهم مختلفة تتراوح بين المواجهة التي تصل حد الانتحار والإلقاء في
ص: 135
التهلكة في أحيان كثيرة وبين الانخراط في سلك الحكام مما يؤدي إلى تضييع الدين وتمييع العقيدة وكلا الحدين مخالف للشريعة وهنا يكون دور الإمام ضرورياً لرسم التصرف الآني الذي يرضي الله تبارك وتعالى وتقوم عليه الحجة الشرعية بأمر الإمام خصوصاً وإن المواقف التي صدرت من الائمة عليهم السلام في هذا الاتجاه متنوعة تبعاً لاختلاف الموارد كما سترى إن شاء الله تعالى ضمن النقاط التالية: فقد يشتبه على الأمة أمرها وتختلط عليها الاوراق فتضع التصرف في مورده غير المناسب وهذا ما يحصل باستمرار عندما تبتعد الأمة عن قيادتها الحقيقية فتتيه في أودية الفتن، ويمكن ملاحظة عدة تصرفات:
(الاول): عدم الركون الى الظالمين ورفض ولايتهم قال تعالى:[وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ] (1) ، وهو امر اهتم به القرآن كثيرا لعلمه ان المسلمين سوف يعرضون عنه مما جرّ على الامة الويلات بسبب مداهنة الحكام والتملق لهم قال تعالى:[وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَ فَسادٌ كَبِيرٌ] (2).
قال الامام الكاظم عليه السلام لصفوان الجمال: يا صفوان كل شيء منك حسن جميل ما خلا شيئا واحدا، فقال: جعلت فداك أي شيء هو؟ قال: إكراؤك جمالك لهارون، فقال: والله ما اكريته اشرا ولا بطرا ولا لصيد او لهو، ولكني اكريته لطريق مكة ولا اتولاها بنفسي، وانما ابعث معها غلماني، فقال لي: يا صفوان الست تحب بقاءهم الى ان يخرج كراك منهم؟ قلت: نعم يا ابن رسول الله، قال فمن احب بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم فقد ورد النار(3) ، فتصوروا ان الامام عليه السلام يمنعه حتى من الميل القلبي لبقائهم حتى يحصل على أجرة عمله وهو أمر طبيعي الحصول في القلب ولا يخلو منه2.
ص: 136
أي شخص مرتبط مالياً بالدولة الجائرة كالموظف الذي ينتظر راتبه الشهري أو المقاول الذي ينتظر صرف أجور العمل وهكذا.
وقال الامام الجواد عليه السلام: العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء. وقال الامام زين العابدين عليه السلام لمحمد بن مسلم الزهري(1) بعد ان حذره من اعانة الظلمة على ظلمهم «اوليس بدعائهم اياك حين دعوك جعلوك قطبا اداروا بك رحى مظالمهم وجسرا يعبرون بك الى بلاياهم وسلما الى ضلالتهم وداعيا الى غيهم سالكا سبيلهم يدخلون بك الشك على العلماء ويقتادون قلوب الجهال اليهم فلم يبلغ اخص وزرائهم ولا اقوى اعوانهم الا دون ما بلغت من اصلاح فسادهم واختلاف الخاصة والعامة اليهم فما اقل ما اعطوك في قدر ما اخذوا منك وما ايسر ماعمروا لك في جنب ما خربوا عليك فانظر لنفسك فانه لا ينظر لها غيرك وحاسبها حساب رجل مسؤول»(2) وجاء في حديث الإمام الصادق في الإلزام بالمقاطعة لما في معونة الظالمين من بقائهم وميل المعاون اليهم (وذلك ان ولاية الجائر دروس الحق كله وأحياء الباطل كله وإظهار الظلم والجور والفساد»(3).
(الثاني): جواز وأحيانا وجوب الاشتراك والانخراط في أعمالهم اذا كان في ذلك تحقيق الخير للاسلام والمسلمين على شرط ان يكونوا في سلامة من امر دينهم ودنياهم، كان علي بن يقطين وزيرا لهارون العباسي فاستاذن الامام الكاظم عليه السلام بترك العمل معه فلم يأذن وقال له: عسى ان يجبر الله بك كسرا، ويكسر بك نائرة المخالفين من أوليائه، يا علي كفارة اعمالكم الاحسان الى إخوانكم، ولما قدم الامام عليه السلام الى العراق قال علي بن يقطين: أما ترى حالي وما انا فيه؟ فقال عليه السلام يا علي ان لله تعالى اولياء مع أولياء الظلمة ليدفع بهم عن أوليائه وأنت منهم يا علي(4).2.
ص: 137
ويمكن ان نذكر ضمن هذه النقطة اذن الائمة عليهم السلام للكثير من اصحابهم في الانضمام إلى جيوش المسلمين التي انطلقت لنشر الاسلام وفتح البلدان وكان فيها عيون الشيعة كسلمان الفارسي وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وابي ايوب الانصاري ما دام في ذلك رفعة الاسلام وفي بعض الروايات ان الامامين الحسن والحسين عليهما السلام شاركا في جيوش الفتح في آذربيجان وشمال افريقيا(1) ، وقد تقلد الامارة بعض منهم في الكوفة والمدائن لما عرفت السلطات منهم نكران الذات وعدم ارادة الشقاق.
(الثالث): فضح السلطة وتعريتها والكشف عن وجهها الحقيقي والتصدي لمؤامراتها العلنية والخفية ولو كلف ذلك تقديم الضحايا لابقاء ضمير الامة حياً ويقظاً ولتوعيتها بما يدور حولها لتعرف اين هي من الاحداث وهو تكليف يدخل ضمن اشكال وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تقدم الكلام فيها وفي الحالات التي يتنجز هذا الوجوب كان الائمة عليهم السلام يرفضون الخوف ويعتبرون السكوت عن هذه المظالم إعانة للعدو لانه يشجعه على الاستمرار على الظلم ما دام قد أمن من العقاب والاعتراض ويكون الساكت أول ضحاياه، قيل للإمام الرضا عليه السلام: أما تخاف هؤلاء - يعني السلطة - فقال: (لو خفتُ عليها كنت عليها معيناً)(2).ل.
ص: 138
(الرابع): استرداد الحقوق(1) من السلطة واستنقاذها والحصول على ما يمكن الحصول عليه بالطرق المشروعة وقد كان الائمة عليهم السلام يتقبلون الهدية او الصلة من الحكام لانه حقهم وحق المسلمين جميعاً وأخذهم إياها خيرُ من بقائها بأيدي اولئك الظلمة يستخدمونها في نشر الظلم والفساد وكل ما يسخط الله بشرط ان لا يكون في ذلك إمضاء وتصحيح لوجودهم او تغرير بالناس لمتابعتهم وقد قبل الامام الكاظم عليه السلام هدية من هارون فقيل له في ذلك فقال عليه السلام: لولا أني أريد ان أزوج بها شباب آل أبي طالب ليكثر نسلهم لما قبلتها.
(الخامس): عدم التعرض للتهلكة ولغضب السلطة فيتسبب في إزهاق الأرواح وإتلاف الأموال بدون مبرر كاف او هدف مشروع ومن حديث لأمير المؤمنين عليه السلام: «وآمرك أن تستعمل التقية في دينك فإن الله يقول: وإياك ثم إياك ان تتعرّض للهلاك، وأن تترك التقية التي أمرتك بها فإنك شائط بدمك ودماء إخوانك معرض لزوال نعمك ونعمهم، مذلّهم في أيدي اعداء دين الله وقد أمرك الله بإعزازهم(2) ، وقد أشتهر قولهم في هذا المجال (لا دين لمن لا تقية له) فقد يؤدي جهل او حماقة احد إلى إثارة سخط الحكام وغضبهم لذا أوصوا أصحابهم بالحذر وعدم إعطاء أي ذريعة للسلطات للأضرار بهم وكلما حاول الحكام ضبط أي وثيقة إدانة او سلاح في بيتج.
ص: 139
الإمام الذي يداهمونه لعلهم يتذرعون بها فلم يجدوا الا المصلى والمصحف والمطهرة.
وضمن هذا التخطيط للائمة عليهم السلام نذكر هذه الرواية لعلي بن يقطين وكان من خيرة أصحاب الإمام الكاظم عليه السلام لكنه يخفي مذهبه لانه كان يتولى الوزارة لهارون فأهدى إليه هارون جملة ثياب بينها دراعة خز سوداء من لباس الملوك مطرزة بالذهب فانفذ ابن يقطين جل تلك الثياب الى الإمام عليه السلام ومن جملتها الدراعة ومبلغ من المال، فلما وصل ذلك الى الإمام عليه السلام قبل المال ورد الدراعة على يد الرسول لعلي بن يقطين، وكتب اليه: احتفظ بها ولا تخرجها من يدك فسيكون لك بها شأن تحتاج أليها معه، فأرتاب بردها عليه ولم يدر السبب في ذلك. وبعد أيام تغير على غلام له كان يتولى خدمته ويعرف ميوله إلى الإمام وما كان يحمله إليه من الأموال والهدايا فسعى به الغلام الى هارون وأخبره بأنه يقول بإمامته ويحمل اليه خمس ماله في كل سنة وقد أرسل إليه فيما أرسله الدراعة التي أكرمته بها فأستشاط هارون غضباً، وقال لأكشفنَ هذا الامر فإن صح عليه ذلك أزهقت نفسه، واستدعاه اليه في الحال، فلما مثل بين يديه قال له: ما فعلتَ بالدراعة التي كسوتك بها، فقال يا أمير المؤمنين هي عندي في سفط مختوم فيه طيب قد احتفظت بها وكلما أصبحت فتحت السفط ونظرت اليها تبركاً بها وقبلتها ثم رددتها الى موضعها، فقال له هارون: عليك أن تحضرها الساعة فأستدعى بعض خدمه وقال له: إمضِ الى البيت الفلاني في داري وخذ مفتاحه من خازني وافتحه، ثم أفتح الصندوق وجئني بالسفط الذي فيه بختمي فلم يلبث الغلام أن جاء بالسفط مختوماً فوضعه بين يدي هارون ففتحه ووجد الدراعة بحالها مدفونة بالطيب فسكن غضب هارون وقال له: ردها الى مكانها وانصرف راشداً فلن أصدقَ عليك بعد اليوم ساعياً وأمر بضرب الساعي ألف سوط فمات تحت السياط(1).2.
ص: 140
كأسلوب للتعامل مع الآخرين سواء كانت السلطات او المخالفين في المذهب او الفكر لصيانة النفس والمال والعرض من التلف عندما لا يكون المبرر كافياً للتضحية بها والتقية تعني العمل بالممكن وضمن الفرصة المتاحة من دون اندفاع أزيد وإخفاء العمل الازيد من ذلك انتظاراً لإتاحة الفرصة له، وقد كثر التقول على الشيعة بسبب هذا المبدأ لجهلهم بمفهومه وأصل تشريعه فأنه تشريع إسلامي بحت نص عليه القرآن الكريم في قوله تعالى:[لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْ ءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ] (1) ، كما إنها سيرة عقلائية يقوم بها الناس في ظروفها الموضوعية وإنما كانت من المعالم البارزة في مذهب التشيع لانه لا يُرى مشروعية السلطات المتعاقبة ولم يَسِر في ركابها مما عرضه لانواع البلاء الذي يستوجب هذا السلوك ولو أبتلي غيرهم بأقل مما أبتلوا لعمل أكثر مما عملوا، وقد أخذ بها المسلمون في بدء الشريعة كعمار بن ياسر عندما كان يعذبه ووالديه المشركون وضغطوا عليهم ان يذكروا هبل بخير فلم يفعل والدا عمار حتى استشهدا واعطاهم عمار ما يريدون فلما وصل الخبر الى رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم ترحم على والدي عمار وبشرهما بالجنة ولم يعنف عماراً ونزل قوله تعالى:[إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ] (2).
وروي ان اثنين تعرضا لمثل هذا الموقف فثبت أحدهما ولم يعطِهم ما يريدون واعطاهم الآخر فعلق المعصوم عليه السلام بأن الاول استعجل الرواح الى الجنة والثاني أفقه من صاحبه.
ص: 141
وتوجد مصادر عديدة دافعت عن الشيعة وبينت مفهوم التقية وظروف العمل بها وادلة مشروعيتها(1) فلا أدخل في هذه التفاصيل، وهي على أقسام من حيث حكمها الشرعي:
1 - الواجبة: وهي التي لا محيص عن العمل بها ومن يتركها فقد أهلك نفسه وغيره وذلك عندما يكون إظهار العمل محرماً وفيها ورد قولهم عليهم السلام: (لا دين لمن لا تقيه له) لان مخالفتها تؤدي الى محق الدين وأهله ومن مظاهرها عدم التجاهر بما يخالف الحكام وأشياعهم والاكتفاء بإعلان ما يوافقهم فقط أي ما يشترك به معهم ولا يثير حفيظتهم كقراءة القرآن مثلاً، قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: «لا تسبوا أهل الشرك» وفيه «ولولا أنا نخاف عليكم أن يُقتل رجل منكم برجل منهم ورجل منكم خير من ألف ألف رجل لأمرناكم بالقتل لهم»(2) ومن الشواهد على ذلك ما روي إن علي بن يقطين كتب إلى الإمام الكاظم عليه السلام يستفتيه في بعض مسائل الوضوء بما يخص مسح الرجلين فرجع اليه الجواب يأمره فيه بغسل الرجلين في الوضوء بدلاً من مسحهما فتعجب من ذلك لأنه خلاف ما يعهده من مذهب أهل البيت ولكنه التزم بما أمره به في وضوئه وبعد ذلك بأيام وشى احد خصومه به الى هارون وقال له: انه رافضي يخالفك في المذهب ويقول بإمامة موسى بن جعفر فقال لبعض خاصته لقد كثر القول في علي بن يقطين وميله الى الرفض ولستُ ارى في خدمته تقصيراً وقد امتحنته مراراً فلم أقف منه على شيء، فقيل له: ان الرافضة تخالف الجماعة في الوضوء فتخففه ولا ترى غسل الرجلين فإمتحنه من حيث لا يعلم بالوقوف على وضوئه، فاستحسن هارون هذا الرأي وتركه مدة ثم كلفه عمل معه في داره وكان إذا أشتغل في الدار يخلو الى حجرة فيه لوضوئه وصلاته فلما دخل وقت الصلاة ووقف الرشيد يترصد كيف يتوضأ بحيث لا يراه أحد فتمضمض ثلاثاً وأستنشق ثلاثاً وغسل وجهه وخلل شعر لحيته ثمو.
ص: 142
غسل يديه الى المرفقين ومسح رأسه وأذنيه وغسل رجليه ثلاثاً كما أمره الامام عليه السلام في كتابه اليه هذا وهارون ينظر اليه فلما رآه قد فعل ذلك لم يملك نفسه حتى أشرف عليه وناداه: كذب يا علي بن يقطين من زعم إنك من الرافضة، وبعد ذلك كتب إليه الامام يأمره بأن يعود الى ما كان عليه في وضوئه وأن يمسح مقدم رأسه وظاهر قدميه الى الكعبين كما عليه مذهب أهل البيت عليهم السلام(1) فنلاحظ كيف يوجه الامام اصحابه الى وجوب العمل بالتقية ولذا افتى الفقهاء ببطلان الوضوء على الشكل الاعتيادي لو خالف في هذا المورد لعدم مشروعيته.
2 - الجائزة: بمعنى ورود الرخصة في العمل بها في بعض الموارد ليس على نحو العزيمة والالزام بحيث يبقى الباب مفتوحاً لعدم الاستفادة من هذه الرخصة والاقدام على ما يمكن أن يتسبب جراء ذلك من اضرار بحسب مراتب الناس في الايمان والتضحية (لا يكلف الله نفساً الا وسعها) كما في الحالتين التي ذكرناهما عن عمار ووالديه والرجلين الآخرين فمن يلتزم بالتقية ويأخذ بالرخصة فقد برأت ذمته وليس عليه شيء ومن أحب أن يصاب في سبيل الله فالأجر على قدر المشقة، ومنها الأذن الذي أعطاه أمير المؤمنين لاصحابه بأن يسبوه اذا تعرضوا لخطر الموت بتركه.
3 - المحرمة: وهي حالة الجبن والضعف عن إتخاذ الموقف الشرعي المطلوب والامتثال للتكليف الواجب من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرهما وارتكاب المنافيات للشريعة من جرائم الظلم والعدوان والقتل والفساد بحجة إنه مجبر ومكره على ذلك خصوصاً اذا بلغت القتل وقد ورد في حديث (إن التقية في كل شيء حتى اذا بلغت الدم فلا تقية) فأن بعض الذين خرجوا لحرب الحسين عليه السلام كانوا مكرهين وكان خروجهم تحت ضغط القتل والسجن وتقطيع الايدي والارجل وسمل العيون ومع ذلك لم يكن هذا مبرراً للقيام بأي عمل منافٍ للشريعة ولحقتهم اللعنة الى الابد.2.
ص: 143
وكنموذج على القسمين الأخيرين من التقية نذكر قول أمير المؤمنين عليه السلام «أما إنه سيظهر عليكم بعدي رجلُ رحب البلعوم، مندحق البطن - أي عظيمها - يأكل ما يجد ويطلُبُ ما لا يجد، فاقتلوه، ولن تقتلوه، ألا وإنه سيأمركم بسبي والبراءة مني، فأما السبُ فسبوني، فإنه لي زكاة، ولكم نجاة، وأما البراءة فلا تتبرأوا مني فأني ولدتُ على الفطرة، وسبقتُ الى الايمان والهجرة»(1).
وتمييز الاقسام لا يخلو من دقة فإنها احكام فقهية لها أصولها المعتبرة وتحتاج الى (الموازنة بين الضرر النازل على الفاعل والضرر المأمور به ظلماً على الشخص الآخر فيختار الإنسان أخفهما ولو وقع على نفسه ويرتفع وجوب التقية وإذا كان كلاهما هو القتل فيجب أن يقدم الإنسان المأمور نفسه للقتل لا أن يباشره»(2).
وقد كان الائمة عليهم السلام يفتون أصحابهم أحياناً بغير مذهبهم موافقة للعامة حفاظاً على أرواحهم ولكن لا يعسُر على الفقيه الظليع بمذهب أهل البيت عليهم السلام تمييز الحكم الواقعي من الحكم الثانوي على سبيل التقية ومن هنا جعلوا أحد موازين الأخذ بأحد الخبرين المتعارضين هي مخالفة العامة، قال الصادق عليه السلام: «من عرف من أمرنا أن لا نقول الا حقاً فليكتفِ بما يعلم منا، فأن سمع منا خلاف ما يعلم فليعلم ان ذلك دفاعٌ واختيار له»(3).
التي تنشأ ضمن إطار التشيع وهي منحرفة عنه بل إن بعضها مروق عن الدين كله ومن هذه التيارات الغلو في الائمة والنظر اليهم على انهم إله متجسد في إنسان وكمذهب الواقفة الذين قالوا بحياة الامام الكاظم عليه السلام فتوقفوا إلى إمامته وقد سلك الائمة عليهم السلام مختلف الطرق للقضاء على هذه الافكار والمعتقدات الفاسدة وهي في
ص: 144
مهدها فلعنوا اصحابها وتبرأوا منهم وأظهروا قلقهم وخوفهم من هذه الحركات وتأثيرها في الشيعة وأوصوا أصحابهم بمقاطعتهم.
قال الصادق عليه السلام لأبي بصير: يا أبا محمد إبرأ ممن يرى إننا أرباب أنبياء فقال أبو بصير: برئت إلى الله منهم، ثم قال الامام عليه السلام من قال إننا أنبياء فعليه لعنة الله. وقال عليه السلام «وإما قوله - يعني أبا الخطاب أحد رؤوس الغلاة - أني اعلم(1) الغيب فو الله الذي لا اله الا هو ما اعلم الغيب ولا آجرني الله في امواتي ولا بارك لي في احيائي ان كنت قلت له ذلك، وقال عليه السلام للمفضل بن يزيد وقد ذكر اصحاب ابي الخطاب والغلاة، يا مفضل لا تقاعدوهم ولا تواكلوهم ولا تصافحوهم ولا توارثوهم، وقال عليه السلام اللهم إلعن أبا الخطاب فإنه خوّفني قائماً وقاعداً وعلى فراشي اللهم اذقه حر الحديد، وقال عليه السلام لبشار الشعيري: أخرج عني لعنك الله، لا والله لا يظلني وأياك سقف ابداً، فلما خرج قال ابو عبد الله: ويله الا قال بما قالت اليهود، ألا قال بما قالت النصارى. الا قال بما قالت المجوس او بما قالت الصابئة، والله ما صغر الله تصغير هذا الفاجر أحد من الناس، إنه شيطان وإبن شيطان خرج من البحر ليغوي اصحابي فاحذروه وليبلغ الشاهد الغائب: فإني عبد الله وابن عبد الله ضمتني الاصلاب والارحام وإني لميت ومبعوث ثم مسؤول والله لأسألنَ عما قال فيَ هذا الكذاب وادّعاه، ماله غمه الله فلقد افزعني واقلقني عن رقادي(2).2.
ص: 145
وبلغ الائمة عليهم السلام في محاربة هذه التيارات أن أمدوا أصحابهم بالمال والسلاح لقتل اصحابها فقد أمر الامام الهادي عليه السلام بقتل فارس بن حاتم وضمن لمن قتله الجنة وقال فيه: فارس لعنه الله يعمل من قبلي فتاناً يفتن الناس ويدعوهم الى البدعة ودمه هدر لكل من قتله، فمن يريحني منه ويقتله وأنا ضامن له على الله الجنة ثم استدعى شخصاً يقال له جنيداً واعطاه مقداراً من الدراهم ليشتري بها سلاحاً وأمره ان يعرض السلاح عليه بعد شرائه، وقد إشترى جنيد سيفاً فأمره برده وأخذ مكانه ساطوراً وعرضه عليه فارتضاه، فمضى جنيد واعترض فارس بن حاتم وهو خارج من المسجد بين المغرب والعشاء فضربه على رأسه ضربة وقع منها ميتاً (1).
وناظر الائمة عليهم السلام بعض أولئك المنحرفين ممن لم تكن له نية سوء وغير مسخر للسلطة التي شجعت مثل هذه الحركات الانفصالية لتشويه عقيدة الشيعة وتنفير الناس منهم ولإلقاء الفرقة والخلاف بينهم حتى يتشتت أمرهم، وافلحوا في إعادة جمع منهم الى حظيرة الإسلام والتشيع فبعد وفاة الإمام الكاظم عليه السلام في السجن وغيابه فيه مدة طويلة ادعى بعض المقربين من أنصار الإمام الكاظم عليه السلام رجوعه بعد غيبته كما رجع موسى بن عمران وسميت هذه الفرقة بالواقفة لانهم توقفوا عند الكاظم عليه السلام فبذل الرضا عليه السلام عدة محاولات لاقناع أقطاب هذه الفرقة بخطأ ادعائهم وارشادهم الى نفسه عليه السلام واقام الحجج والبراهين على ذلك وفي أحدى هذه المحاولات اجتمع عندالرضا عليه السلام بعض رؤساء الواقفة ومنهم علي بن ابي حمزة فقال للامام: ما فعل ابوك؟ قال: مضى موتاً، فقال له: الى من عهد من بعده؟ فقال: عهد الي، فقال له: فأنت امام مفترض الطاعة من الله، قال: نعم، قال ابن السراج وابن المكاري - من اقطاب الواقفة ايضاً - قد والله امكنك من نفسه، قال: ويلك وبما امكنته اتريد ان آتي بغداد واقول لهارون: انا إمام مفترض الطاعة والله ما ذلك عليُ وانما قلت ذلك لكم عندما بلغني من اختلاف كلمتكم وتشتت امركم لئلا يصير سركم في يد عدوكم.
ص: 146
فقال له ابن ابي حمزة: لقد اظهرت شيئاً ما كان يظهره احد من آبائك ولا يتكلم به، فقال: بلى لقد تكلم خير آبائي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم لما أمره الله تعالى أن ينذر عشيرته الاقربين، فلقد جمع اهل بيته اربعين رجلاً وقال لهم: انا رسول الله اليكم، فكان اشدهم تكذيباً له وتأليباً عليه عمه ابو لهب، فقال لهم النبي صلي الله عليه و آله و سلم: إن خدشني خدش فلست بنبي، فهذا أول ما أبدع لكم من آيات النبوة، وانا اقول إن خدشني هارون خدشاً فلست بإمام فهذا ما أبدع لكم من آية الامامة، ثم قال علي بن ابي حمزة: إنا روينا عن آبائك ان الامام لا يلي امره الا امام مثله، فقال له ابو الحسن الرضا عليه السلام: اخبرني عن الحسين بن علي عليه السلام كان إماماً أم لا؟ فقال: لقد كان إماماً، فقال له الرضا: فمن ولي أمره؟ قال: ولده علي بن الحسين، قال: لقد كان علي بن الحسين أسيراً في يد عبيد الله بن زياد في الكوفة فخرج وهم لا يعلمون الى كربلاء حتى ولي أمر أبيه ورجع. ثم أضاف الرضا عليه السلام: ان الذي أمكن علي بن الحسين أن يأتي كربلاء فيلي أمر أبيه يمكن صاحب هذا الأمر أن يأتي بغداد ليلي امر ابيه وهو ليس في حبس ولا أسر(1).
وبعد هذه المناظرات وامثالها رجع منهم عدد كبير وقالوا بإمامته عليه السلام وأصر عليها جماعة لعنهم الامام وتبرأ منهم ووصفهم بالالحاد والزندقة.
وذلك من خلال عدة أمور:
الاول: تعزيز الوحدة الاسلامية، وقد مر الكلام في هذا الموضوع ضمن الفصل الاول لكن الذي ينبغي إضافته هنا أمرهم عليهم السلام للشيعة بأن يجاملوا الطوائف الأخرى ويحضروا مناسباتهم الاجتماعية ويصلوا معهم عليهم السلام صفوفهم الاولى ورصدوا لمن فعل ذلك ثواباً جسيماً(2).
ص: 147
الثاني: ممارسة الدعوة الصامتة، قال الصادق عليه السلام لاصحابه: اوصيكم بتقوى الله واداء الامانة لمن ائتمنكم وحسن الصحبة لمن صحبتموه وان تكونوا لنا دعاة صامتين، فقالوا: يا ابن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: كيف ندعو الى الله ونحن صامتون، فقال عليه السلام: تعملون بما أمرناكم به من طاعة الله وتعاملون الناس بالصدق والعدل وتؤدون الامانة وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ولا يطلع الناس منكم الا على خير، فإذا رأوا ما أنتم عليه علموا فضل ما عندنا فعادوا الينا(1).
الثالث: ممارسة الدعوة إلى أهل البيت عليهم السلام باللسان، فقد روى اسماعيل بن عبد الخالق، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لأبي جعفر الاحول وأنا أسمع، أتيت البصرة؟ فقال: نعم، قال: كيف رأيت مسارعة الناس الى هذا الامر ودخولهم فيه؟ قال: والله إنهم لقليل ولقد فعلوا وإن ذلك لقيل، فقال: عليك بالاحداث فانهم أسرع الى كل خير، ثم قال: ما يقول أهل البصرة في هذه الآية:[قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى] ؟(2) قلت: جعلت فداك إنهم يقولون: إنها لأقارب رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم فقال: كذبوا إنما أنزلت فينا خاصة في أهل البيت عليهم السلام في علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام أصحاب الكساء(3).
فتراهم يرسلون الدعاة الى حقهم ويوجهونهم ويتابعون نتائج أعمالهم ويناقشون معهم العراقيل ومعوّقات العمل الاسلامي ويرشدونهم إلى وسائل تفعيل الدعوة ككسب الشباب لأنهم يسارعون الى الخير ورقيقو الافئدة فيسرعون الى القناعة ويضمون من أجلها لأن قلوبهم ما زالت نقية صافية لم تتكدر بكثرة العلائق بالدنيا فتكون استجابتها للحق سريعة، وقد حددوا عليهم السلام حد اليأس من متابعتها(4).د.
ص: 148
وكانوا عليهم السلام يحثّون كل من تعلم شيئاً على تبليغ احكام الاسلام وأخلاقه في شرق الارض وغربها، قال الامام الصادق عليه السلام: (إن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم خطب الناس في مسجد الخيف فقال: نضّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وابلغها من لم يسمعها فربّ حامل فقه غير فقيه وربّ حامل فقه الى من هو أفقه منه)(1).
الرابع: التشجيع على تعلم فن المناظرة وتلقن الحجج الدامغة للدفاع عن آرائهم ومعتقداتهم وإبطال العقائد الاخرى أو لاقناع الاخرين بما هم عليه وكان الائمة عليهم السلام يفرحون بفوز اصحابهم بالمناظرات ويستعيدون أقوالهم وحججهم ويلقنونهم الادلة اذا اعيتهم، لاحظ الرواية التي نقلناها عن الامام الباقر عليه السلام في اثبات ان ابن البنت هو ابن حقيقة، وروي ان الامام الصادق عليه السلام قال لعبد الرحمن بن الحجاج البجلي: ناظر اهل الاراء والبدع فإني أُحِبُ ان يروا في شيعتي مثلك، وقال له حمزة الطيار: بلغني إنك تكره الخصومة مع الناس ومناظراتهم فقال: أما كلام مثلك من إذا طار أحسن أن يقع وإذا وقع أحسن أن يطير فلا أكره مناظرته للناس(2).
عن يونس بن يعقوب انه قال: كنت عند ابي عبد الله الصادق عليه السلام فورد عليه رجل من أهل الشام فقال له: إني رجل صاحب فقه وكلام وفرائض وقد جئت لمناظرة اصحابك فقال له الامام عليه السلام كلامك هذا من كلام رسول رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم او من عندك، فقال: من كلام رسول الله بعضه ومن عندي بعضه، فقال له الامام عليه السلام: فأنت إذن شريك رسول الله؟ فقال: لا، قال: سمعت الوحي من الله تعالى، قال: لا. قال: فتجب طاعتك كما تجب طاعة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، قال: لا، ثم التفت أليَ ابو عبد الله الصادق عليه السلام وقال: هذا خصم نفسه قبل أن يتكلم، ثم قال: يا يونس لو كنت تحسن الكلام كلمته، قال يونس: فيالها من حسرة، ثم قال: سمعتك يا أبا عبد الله تنهى عن الكلام وتقول: ويل لاصحاب الكلام يقولون هذا ينقاد وهذا لا ينقاد، وهذا ينساق وهذا لا ينساق، وهذا نعقله وهذا لا نعقله فقال الامام عليه السلام: إنما قلت ويل لقوم تركوا2.
ص: 149
قولي بالكلام وذهبوا الى ما يريدون، قم فأخرج الى الباب فمن ترى من المتكلمين فأدخله، فخرجت فوجدت حمران بن أعين ومحمد بن النعمان الأحول وهشام بن سالم وقيس الماصر وكان قد تعلم الكلام من علي بن الحسين فأدخلتهم، فلما استقر بنا المجلس وكنا في خيمة لأبي عبد الله في طرف جبل على طريق الحرم وذلك قبل الحج بأيام فأخرج ابو عبد الله رأسه من الخيمة فأذا هو ببعير يخب قال: هشام ورب الكعبة، وكنا ظننا أن هشاماً رجل من ولد عقيل، وكان شديد المحبة لآبي عبد الله عليه السلام فأذا هو هشام بن الحكم وهو أول ما اختطت لحيته وليس فينا الا من اكبر منه سناً، فوسّع له ابو عبد الله عليه السلام وقال: ناصرنا بقلبه ولسانه ويده، ثم قال لحمران: كلم الشامي فكلمه حمران وظهر عليه ثم التفت الى محمد بن النعمان الاحول وقال كلمه فكلمه وظهر عليه وأمر بقية اصحابه ان يكلموه ويجادلوه والامام الصادق عليه السلام يبسم لحوارهم مع الشامي، ثم قال للشامي كلم هذا الغلام إن شئت يعني بذلك هشاماً فظهر عليه هشام، وفي النهاية اعترف الشامي بإمامة الصادق عليه السلام(1).
وكان الائمة عليهم السلام يجرون التمرينات على المناظرة بين اصحابهم بحضرتهم، روى الكشي ان جماعة من اصحاب الصادق عليه السلام منها جميل بن دراج وعبد الرحمن بن الحجاج وجماعة غيرهما يبلغون نحواً من خمسة عشر رجلاً او يزيدون اقترحوا على هشام بن الحكم ان يناظر هشام بن سالم في التوحيد وصفات الله سبحانه وكلاهما من البارزين بين اصحاب الصادق عليه السلام في الفقه والكلام والفلسفة وغيرهما من العلوم فعقدوا مجلساً لهذه الغاية ودار بينهما الجدل والحوار على جميع الافتراضات التي يمكن ان تكون موضع جدل وحوار بينهم وبين خصومهم من الزنادقة والمنحرفين(2).
ولم يسمحوا عليهم السلام لغير ذوي الكفاية من التعرض للمناظرة لما في ذلك من الخذلان والانهزام أمام الخصوم مما يعود بالضرر على أصل العقيدة وثقة الناس بها فيتزعزع إيمانهم ولا تختص الهزيمة بنفس المناظر فقط كما أن غير الكفوء قد يخلط2.
ص: 150
الحق والباطل ويأتي بأمور مخالفة للحقيقة مما يشوّه صورة الحق، فعن ابي خالد الكابلي قال: رأيت ابا جعفر صاحب الطاق في الروضة وقد قطع اهل المدينة أزراره وهو دائب يجيبهم ويسألونه فدنوت منه وقلت له: ان ابا عبد الله نهانا عن الكلام، فقال: لقد أمرك أن تقول لي، فقال: لا والله ولكنه امرني ان لا أكلم أحداً، قال: فأذهب وأطعه فيما أمرك، قال الكابلي: فدخلت على ابي عبد الله الصادق عليه السلام فأخبرته بقصة صاحب الطاق وما قلت له وما اجابني به، فتبسم ابو عبد الله عليه السلام وقال: يا ابا خالد إن صاحب الطاق يكلم الناس فيطير وينقض وانت اذا قصوك لن تطير(1).
وحثوا العلماء على مساعدة ضعيفي الحجة وانقاذهم من خصومهم، قال الرضا عليه السلام: افضل ما يقدمه العالم من محبينا وموالينا أمامه ليوم فقره وفاقته، وذله ومسكنته أن يغيث في الدنيا مسكيناً من محبينا من يد ناصبٍ عدو لله ولرسوله(2).
الخامس: الاهتمام بأمور المسلمين ككل، وقد مر كلام كافٍ وكلماتهم مليئة بالوصايا في هذا المجال حيث امروا اصحابهم بحسن الصحبة والجوار والتعاون واداء الامانة واجتناب الخيانة والايثار والاحساسُ بآلام الآخرين ومساعدة الضعيف والمحتاج وادخال السرور عليهم والعمل لخير الناس اجمعين لانهم كما قال امير المؤمنين عليه السلام صنفان (إما أخ لك في الدين او نظير لك في الخلق)، (راجع: كتاب تحف العقول للحراني، والمجلد الحادي عشر من وسائل الشيعة وقد صنّفنا هذه العلاقة في عدة محاور في محاضرة «عناصر شخصية المسلم في آثار أهل البيت عليهم السلام» المنشورة في كتاب «نحن والغرب»).
السادس: الشعور بمسؤولية ووجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجاه الامة جميعاً وليس ضمن اطار التشيع فقط وقد مر تفصيل الكلام فيه.2.
ص: 151
السابع: الاستفادة من التقية في التعامل مع الآخرين للحفاظ على الالفة والتقارب وعدم إثارة الخلافات لصيانة الارواح من الغوغاء والهمج الرعاع الذين ينعقون مع كل ناعق واستعمال التورية في الكلام كأسلوب لتحقيق ذلك.
وقد كان الائمة عليهم السلام يعلمون شيعتهم التورية في الكلام، قال رجل من خواص الشيعة للامام الكاظم عليه السلام - وهو يرتعد بعد ما خلا به - يابن رسول الله ما أخوفني أن يكون فلان بن فلان ينافقك في إظهاره اعتقاد وصيتك وإمامتك، فقال الامام عليه السلام: وكيف ذاك؟ قال: لأني حضرت معه اليوم في مجلس فلان وكان معه رجل من كبار أهل بغداد فقال له صاحب المجلس: أنت تزعم أن صاحبك موسى بن جعفر إمام دون هذا الخليفة القاعد على سريره، فقال له صاحبك هذا: ما اقول هذا، بل أزعم ان موسى بن جعفر غير إمام، وإن لم اكن اعتقد انه غير إمام فعليَ وعلى من لم يعتقد غير ذلك لعنه الله والملائكة والناس أجمعين، فقال له صاحب المجلس: جزاك الله خيراً ولعن من وشى بك اليَ، فقال الامام الكاظم عليه السلام ليس كما ظننت، ولكن صاحبك أفقه منك، انما قال موسى غير امام، أي ان الذي هو غير امام فموسى غيره، فهو إذن إمام، فإنما أثبت بقوله هذا امامتي ونفى إمامة غيري(1) يا عبد الله متى يزول عنك هذا الذي ظننته بأخيك هذا من النفاق! تب الى الله(2).
وعن اثنين من الشيعة قالا: حضرنا عند الامام الحسن العسكري عليه السلام فقال له بعض اصحابه: جاءني رجل من اخواننا الشيعة قد امتحن بجهال العامة يمتحنونه في الامامة ويحلفونه، فكيف يصنع حتى يتخلص منهم؟ فقلت له: كيف يقولون قال يقولون: «اتقول ان فلاناً هو الامام بعد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم؟ فلا بد لي ان اقول نعم وإلا اثخنوني ضرباً فإذا قلت: نعم قالوا لي: قل (والله) فقلت لهم: (نعم) واريد به (نعماً) من2.
ص: 152
الانعام: (البقر والابل والغنم). قلت: فاذا قالوا: والله فقل ولى تريد عن امر كذا فانهم لا يميزون وقد سلمت. فقال لي: فإن حققوا عليَ فقالوا: قل (والله) وبين الهاء فقلت: قل والله برفع الهاء فانه لا يكون يميناً اذا لم يخفض، فذهب ثم رجع اليَ فقال: عرضوا عليَ وحلفوني فقلت كما لقنتني، فقال له الامام عليه السلام: أنت كما قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم «الدال على الخير كفاعله(1).
وهو مطلب لكل من يريد السير والسلوك الى الله تعالى ولا شك أن هذا المنهج لا يضعه إلا من بلغ القمة في الكمال ومن غيرهم عليهم السلام يستطيع ذلك كما أن الذي يتصدى له لا بد أن يكون حكيماً حاذقاً في وصف الجرعات التربوية لأن إعطاء أزيد من استحقاق الفرد ظلم له وكذا إعطاء الأقل وهم عليهم السلام وان لم يعطوا ذلك بشكل واضح ومحدد بسبب التباين الكبير بين قابليات البشر واستعدادهم النفسي للتكامل فلا يمكن تقديم وصفة موحدة للجميع ومن هنا كانت طريقتهم عليهم السلام بإلقاء الوصايا والنصائح والمواعظ الكثيرة وفي مختلف الاتجاهات والأساليب ليأخذ منها كل شخص بحسب استحقاقه تطبيقاً لقوله تعالى (فسالت أودية بقدرها) فأن قلوب الناس وعقولهم أوعية وأودية تختلف في استيعاب ماء المعرفة النازل عليها من سماء الرحمة واللطف الإلهيين.
ويوجد هذا المنهج او قل يمكن استخلاصه من عدد كبير من الخطب (كالموجودة في نهج البلاغة ومنها خطبته عليه السلام في وصف المتقين وخطبة الوسيلة في روضة الكافي) والادعية (كالصحيفة السجادية وخصوصاً دعاءه في طلب مكارم الاخلاق ودعاء الامام الحسين عليه السلام يوم عرفه وغيرها) والرسائل الموجهة الى الشيعة وعلمائهم وهي قد تكون مختصرة (رسالة الامام العسكري عليه السلام إلى والد الشيخ الصدوق) او مطولة (كرسالة الامام الصادق عليه السلام الى جماعة الشيعة وهي موجودة
ص: 153
في نهاية روضة الكافي) ودروس عملية كثيرة في تهذيب النفس وتطهير القلب من خلال احاديث كثيرة موجودة في مجاميع الحديث (تحف العقول، الخصال، ثواب الاعمال وعقاب الاعمال، صفات الشيعة، ج 10 و ج 11 من وسائل الشيعة، روضة الكافي). وأكتفي هنا رعاية للاختصار بنقل رسالة الامام الحسن العسكري عليه السلام إلى والد الشيخ الصدوق وجه الشيعة وفقيههم في قم وتوفي سنة 329 ه - وهذا نصها: (بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، والجنة للموحدين، والنار للملحدين، ولا عدوان إلاّ على الظالمين، ولا إله إلاّ الله أحسن الخالقين، والصلاة على خير خلقه محمد وعترته الطاهرين.
أما بعدُ: اوصيك يا شيخي ومعتمدي وفقيهي أبا الحسن علي بن الحسين القمي وفقك الله لمرضاته وجعل من صلبك أولاداً صالحين برحمته بتقوى الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فإنه لا تقبل الصلاة من مانعي الزكاة، وأوصيك بمغفرة الذنب وكظم الغيظ وصلة الرحم ومواساة الاخوان والسعي في حوائجهم في العسر واليسر، والحلم عند الجهل، والتفقه في الدين، والتثبت في الامور، والتعاهد للقرآن، وحسن الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال الله تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ(1) ، واجتناب الفواحش كلها، وعليك بصلاة الليل فإن النبي صلي الله عليه و آله و سلم أوصى علياً عليه السلام فقال: يا علي عليك بصلاة الليل ثلاث مرات ومن استخفّ بصلاة الليل فليس منا، فاعمل بوصيتي وأأمر شيعتي حتى يعملوا عليه، وعليك بالصبر وانتظار الفرج ولايزال شيعتنا في حزن حتى يظهر ولدي الذي بشّر به النبي صلي الله عليه و آله و سلم أنه يملأ الارض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً، فاصبر يا شيخي وأأمر جميع شيعتي بالصبر (فإن الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة4.
ص: 154
للمتقين) والسلام عليك وعلى جميع شيعتنا ورحمة الله وبركاته وحسبنا الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير(1).
وقد كان بعض الواعين من الشيعة يعرضون معتقداتهم واعمالهم على الائمة عليهم السلام لينظروا فيها كالسيد عبد العظيم الحسني مع الامام الجواد عليه السلام.
من مال الامام نفسه او من الحقوق الشرعية التي تجبى اليه وغيرها لتنظيم شؤون الشيعة كفصل الخصومات وتزويج الأيامى ودعم المجاهدين والانفاق على عوائلهم ومساعدة الفقراء والمحتاجين ونحو ذلك، ففي دعم المجاهدين ورعاية أسرهم يقول الامام الصادق عليه السلام (لوددت أن الخارجي يخرج من آل محمد وعليَ نفقة عياله) وفي رواية ان الامام الباقر عليه السلام سأل شخصاً عن سبب تأخر زواجه فأعتذر بقلة ذات اليد فدفع إليه الإمام، سبع دنانير ليتزوج بها(2) وفي تاريخ الغيبة أن الامام عليه السلام اعطى لعدد من رجاله وسفرائه لكل واحد ثمانين ألف دينار ولا شك إن هذا المبلغ الضخم لتغطية عدد من النشاطات الاجتماعية وليست لحوائجهم الشخصية.
ويروي المعلى بن خنيس ان الإمام الصادق عليه السلام أعطاه مقداراً من المال ليصلح بين اثنين من شيعته كانت بينهما خصومة مالية.
والدفاع عنها والمطالبة بها اينما كانوا وهو ما يشبه رعاية الحكومات والدول في العصر الحديث لرعاياها وجالياتها في الدول الاخرى ومن الشواهد على ذلك.
1 - كان سعد بن سرح مولى حبيب بن عبد شمس من شيعة علي بن ابي طالب فلما قدم زياد بن سمية الكوفة والياً عليها أخافه وطلبه فأتى الحسن بن علي فوثب
ص: 155
زياد على أخيه وولده وأمرأته وحبسهم وأخذ ماله وهدم داره، فكتب الحسن عليه السلام الى زياد: من الحسن بن علي الى زياد، أما بعدُ: فأنك عمدت الى رجل من المسلمين له مالهم وعليه ما عليهم فهدمت داره وأخذت ماله وعياله فحبستهم، فأذا أتاك كتابي هذا فأبن له داره واردد عليه عياله وماله فإني قد أجرته فشفعني فيه، فردَ زياد بكتاب وقح ولم يستجب لطلبه فكتب الامام عليه السلام الى معاوية وارفق معه جواب زياد عندئذٍ امر معاوية واليه زياد لينفذ طلب الامام عليه السلام ففعل(1).
2 - حزم الامام الصادق عليه السلام ومطالبته بأخذ القصاص ممن قتل المعلى بن خنيس بأمرٍ من والي المدينة داود بن علي وقد بالغ في ايذاء العلويين وتتبع أنصارهم وطلب من المعلى بن خنيس ان يخبره بحالهم فامتنع المعلى فهدده بالقتل وأصر على امتناعه فأمر قائد شرطته بقتله ولما بلغ الامام الصادق عليه السلام ما جرى على المعلى تأسف عليه وأشتد به الغضب ومشى بنفسه الى مقر الوالي ولم يكن ذلك من عادته فقال له: لقد قتلت مولاي وأخذت مالي، أما علمتَ أن الرجل ينام على الثكل ولا ينام على الضيم وطلب منه القصاص فتنصل من المسؤولية وبعد جدال عنيف نفذ اولياء القتيل حكم القصاص - وقيل نفذه الامام نفسه - بالقاتل(2).
وسيأتي بأذن الله تعالى ذكر رسالة الامام الحسين عليه السلام ذات اللهجة الشديدة - كما يعبرون - الى معاوية يندد فيها بعدد من جرائمه ومنها قتل بعض اعيان الشيعة كحجر بن عدي وعمر بن الحمق الخزاعي.
ممن بلغوا درجة كافية من العلم تؤهلهم للجلوس في المساجد والافتاء وذلك لتعليم الناس وتزويدهم بعقيدتهم من منبعها الاصيل وانقاذهم من الضلالات والافكار المنحرفة التي تتقاذف المجتمع ولمقاومة مؤامرات الحكام في طمس فقه اهل البيت
ص: 156
عليهم السلام والقضاء عليه بتشجيع عددٍ من العلماء الموالين لهم وفرضهم على الحواضر الاسلامية بالقوة كما فعل الامويون حين رفعوا من شأن بعض الفقهاء وتركوا لهم امر الافتاء وبيان الاحكام كسليمان بن موسى الاشدق وعبد الله بن ذكوان احد مواليهم وراوي احاديث ابي هريرة ونافع مولى ابن عمر وسليمان بن يسار الذي كان ملازماً لقصورهم وعكرمة مولى ابن عباس(1) وغير هؤلاء من علماء الموالي الذين قربوهم وأغدقوا عليهم الاموال ولم يسمحوا لاحد ان يحدث عن اهل البيت او يسند لعلي ولغيره من ولده رأياً في الفقه او غيره من المواضيع الاسلامية وحاول المنصور العباسي فرض موطأ مالك على الناس بالسيف وجعل له السلطة في الحجاز على الولاة وجميع موظفي الدولة فازدحم الناس على بابه وتهيبه الولاة والحكام وحينما وفد الشافعي عليه تشفّع بالوالي لكي يسهل له امر الدخول عليه فقال له الوالي: أن أمشي من المدينة الى مكة حافياً راجلاً اهون عليَ من المشي الى باب مالك، ولست ارى الذل حتى اقف على باب داره(2) ، ومنع هارون العباسي من الرواية عن أمير المؤمنين علي عليه السلام.
وممن دفع بهم الائمة عليهم السلام الى المساجد أبان بن تغلب وكان مقدماً في كل فن كالفقه والحديث والادب واللغة والنحو وقال له الباقر عليه السلام: إجلس في مسجد المدينة وإفتِ الناس فإني احب ان يُرى في شيعتي مثلك(3) وعبد الرحمن البجلي الكوفي فقد قال له الامام الكاظم عليه السلام: كلم أهل المدينة فإني احب ان يرى الناس في رجال الشيعة مثلك(4).
وقال الرضا عليه السلام في هؤلاء العلماء: فقيه واحد ينقذ يتيماً من ايتامنا المنقطعين عن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج اليه أشد على ابليس من الف عابد، لأن العابد همه ذات2.
ص: 157
نفسه فقط، وهذا همه مع ذات نفسه ذات عباد الله وإمائه لينقذهم من يد ابليس ومردته ولذلك هو افضل عند الله من الف عابد(1).
ان تعيين البديل من اهم المسؤوليات التي يتحملها الامام وقد بينا مناشئ هذه الاهمية في بحث (كيف خطط رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم للخلافة من بعده)(2) وهي باختصار:
[1 - ديمومة الرسالة واستمراريتها في اداء دورها فان اية رسالة مهما كانت تمتلك من نقاط قوة - كرسالة الاسلام - تموت بموت صاحبها فانه من المقطوع به ارتباط الرسالات والدعوات بحامليها المقيمين عليها المدافعين عنها المستوعبين لاسرارها لذلك فانها تنتهي بنهاية صاحبها الا ان يواصل الطريق من هو جدير بحملها وانت ترى الرسالات السماوية - وهي اكمل الدعوات - حُرِّفت وشُوِّهت بعد فترة يسيرة من غياب اصحابها(3).
2 - قطع الطريق امام غير المؤهلين لهذا المنصب الالهي فان الامرة والزعامة خصوصاً الزعامة الدينية بما لها من قدسية وهيبة وجاه من اهم ما تنزع اليه النفس الامارة بالسوء ففي الحديث (آخر ما ينزع من قلوب الصديقين حب الجاه(4) اذن سيكون المتربصون بها كثيرين والحالمون بها والساعون الى تحصيلها اكثر. وقد اعترفوا انه ما عانت الامة من شيء كما عانت من مسألة الامامة والخلافة وهذا واضح تاريخياً.
ص: 158
3 - صيانة الامة من التشتت وحمايتها من التمزق فان من شأن تعدد المتصدين لهذا المنصب ان تتعدد الاحزاب والفرق الموالية لهم وكل يجرُّ النار الى قرصه فيتمزق امر الامة وتصبح طرائق قددا وها هي الاجيال بعد الاجيال تدفع ثمن التيه والضياع وآل امرها الى الانحلال لذا قال تعالى:[وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا] (1) ،[فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ] (2) ، وحبل الله الممدود الى الخلق هما الثقلان كتاب الله واهل بيت نبيه صلوات الله عليهم اجمعين كما دلت عليه النصوص الشريفة(3). وقد اشارت الزهراء سلام الله عليها الى هذه الفكرة المهمة في خطبتها فقالت: (وجعل امامتنا نظاماً للملة(4) اي بها تنتظم امورهم وتستقر.
4 - ان حامل الرسالة لا يستطيع ان يستمر بمشروعه حتى النهاية ويقدم كل ما عنده قبل ان يطمئن الى وجود البديل لانه قبل ذلك يخشى على مستقبل الرسالة فاذا احرز اجتماع الشروط في الشخص البديل استطاع ان يتقدم بلا تردد او خوف على مستقبل الرسالة، هذا الخوف الذي اشار اليه نبي الله موسى عليه السلام لذا كان اول دعاء له:[وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي] (5) ، وفي كلمات امير المؤمنين عليه السلام: (لم يُوجِس موسى عليه السلام خيفة على نفسه بل اشفق من غَلَبَة الجُهال ودِوَلِ الضلال(6).
هذه امور يدركها كل عاقل ويزداد الامر وضوحاً كلما ازدادت اهمية الرسالة كدين الاسلام الذي جاء رحمة للعالمين وخالداً الى يوم القيامة فهو - اي الاسلام - بهذه السعة والشمول طولاً وعرضاً، وكلما تعاظم منصب الشخص الراحل والغائب عن).
ص: 159
الساحة ازدادت المسؤولية والأخطار حول المنصب واشرف موقع هو امامة المسلمين وولاية امورهم وخلافة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم التي قدّر لها ان تشمل شرق الارض وغربها كما بشر بذلك رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم عندما كان يحفر مع المسلمين في الخندق وضرب على صخرتين فاضاءتا له(1) ، ولهم واكدها القرآن [وَعَدَكُمُ اللّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً] (2) ،[وَ أُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللّهِ وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ] (3) فكيف لا تتناوشه المطامع وتتجاذبه الاهواء](4).
وقلنا هناك ان هذه الاهمية تكتشف ايضاً من جعل هذا الامر في كفة والرسالة كلها في كفة في قوله تعالى:[يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ] (5) ، وقد نزلت الآية في تنصيب امير المؤمنين إماماً وهادياً وقائداً بعد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم ليواصل القيادة الرسالية ولذا خاطب النبي صلي الله عليه و آله و سلم بوصف (الرسول) لأن هذا الامر من وظائف الرسالة مسؤولياتها وتحمل الائمة عليهم السلام هذه المسؤولية وأدوها فكان كل إمام ينص على الامام اللاحق امام عدد من اصحابه ليشهدوا على هذا الامر وقد جمع الشيخ الكليني رضى الله عنه وهو قريب العهد من المعصومين عدداً وافراً من هذه النصوص.
ولكن تعيين الامام تعرض لعدة مصاعب اوجب تشتت الشيعة ونشوء فرق متعددة منها:
اولاً: المحن العصيبة التي مرت بالائمة عليهم السلام جعلتهم لا يبوحون احياناً بهذا الامر الا للقلة المخلصة التي لا تتجاوز عدد الاصابع وربما موهوا بالتعيين كالذي حصل عند استشهاد الامام الصادق عليه السلام فإن ابا جعفر المنصور كتب الى والي المدينة يأمره7.
ص: 160
بقتل من اوصى اليه جعفر بن محمد من دون أن يراجعه لكن الامام الصادق عليه السلام تحسب لهذا الامر فأوصى الى خمسة هم ولده موسى عليه السلام وولده عبد الله وزوجته ووالي المدينة وابو جعفر المنصور فلما بلغه الخبر قال: ليس الى قتل كل هؤلاء من سبيل(1).
ثانياً: تدخل السلطات في تعيين إمام الشيعة ممن يوافق رغباتهم ويسير على اهوائهم ويحقق مصالحهم وهو ما سنناقشه في فصل لاحق بإذن الله تعالى.
ثالثاً: جهل العوام من الشيعة وعدم المعرفة بشروط هذا المنصب الالهي العظيم وظروفه فبعضهم لا يعلم انه بالنص والتعيين وإنما هو بمن يقتنعون به هم ويرونه أهلاً لذا قال بعض بإمامة محمد المعروف بإبن الحنفية ابن امير المؤمنين عليه السلام بعد أخويه الحسن والحسين عليهما السلام وهم الكيسانية وقال بعض بإمامة عبد الله الافطح واسماعيل ابني الامام الصادق وهم الفطحية والاسماعيلية ومحمد ابن الامام علي الهادي عليه السلام وبعضهم اقتنع بعد الامام السجاد عليه السلام بإمامة من يقوم بالسيف ويواجه السلطة الحاكمة وهم الزيدية فقالوا بإمامة زيد الشهيد وولديه يحيى وعيسى، وكأن هذا المنصب الشريف يخضع لاهوائهم ومقاساتهم الخاصة وهو ما نشاهده في كل جيل مع الأسف.
رابعاً: النفوس الامارة بالسوء وحب الدنيا والجاه والتسلط وهذا ما ناقشناه مفصلاً في بحث (كيف خطط رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم للخلافة من بعده) و (ماذا خسرت الامة حينما ولّت أمرها من لا يستحق) المنشورين في كتاب (من وحي الغدير) وإن بعض الأئمة عليهم السلام كانوا يحذّرون اولادهم الطامحين بغير حق ويشيرون الى صاحب الحق فقد روي ان الامام الصادق عليه السلام كان يلوم عبد الله ولده ويعاتبه ويعظه ويقول: (ما منعك أن تكون مثل أخيك - أي الامام موسى عليه السلام - فوالله إني لأعرف النور في وجهه؟ فقال عبد الله: لِمَ، أليس ابي وأبوه واحداً وأمي وأمه واحدة؟ فقال له أبو عبد3.
ص: 161
الله عليه السلام: إنه من نفسي وأنت ابني(1) ، ومنها ما ورد ان سبب نشأة الواقفة أن عدداً من اصحاب الامام الكاظم عليه السلام كان قد اودع عندهم اموالاً ضخمة فلما قضى عليه السلام في السجن بعد غيبة طويلة لم يَرُق لهؤلاء تسليم هذه الاموال الى خليفته الرضا عليه السلام فقالوا بعدم وفاة الامام عليه السلام وانه غاب كما غاب موسى بن عمران ووقفوا على امامته ولم يقولوا بامامة من بعده عليه السلام ومن ذلك تصدي جعفر بن الامام الهادي عليه السلام للامامة بعد أخيه الامام الحسن العسكري عليه السلام واستعانته بالسلطة العباسية لدعم موقفه مستغلاً خفاء وجود ولد لأخيه العسكري هو الحجة ابن الحسن عليه السلام وكاد أن يخدع الأمة لولا الموقف الحازم والشجاع للإمام المنتظر عليه السلام في وقوفه للصلاة على أبيه وإقامته الدلائل المتعددة على إمامته. وقد سعى جعفر الى المعتمد العباسي لتثبيت إمامته، وقال لوزيره ابن خاقان: اجعل لي مرتبة ابي واخي واوصل اليك في كل سنة عشرين الف دينار مسلّمة فزبره ابن خاقان وقال له: يا أحمق ان السلطان - اعزّه الله - جرّد سيفه وسوطه في الذين زعموا أن أباك وأخاك أئمة ليردّهم عن ذلك فلم يقدر عليه ولم يتهيأ له صرفهم عن هذا القول فيهما، وجهد أن يزيل أباك وأخاك عن تلك المرتبة فلم يتهيأ له ذلك فإن كنت عند شيعة أبيك وأخيك إماماً فلا حاجة بك الى السلطان يرتبك مراتبهم ولا غير السلطان وإن لم تكن عندهم بهذه المنزلة لم تنلها بنا(2).
خامساً: عدم استطاعة الامام الحقيقي الاعلان عن نفسه لتربص السلطات الحاكمة بمن يتصدى لهذا الامر كما حصل للامام موسى بن جعفر عليه السلام فلم يستطع البوح للمخلصين من اصحابه فضلاً عن غيرهم كما يروي هشام بن سالم وقد مرت الرواية ص 183 عن الإمام الرضا عليه السلام والواقفة وانه لم يكن يستطيع اعلان هذا الامر بمجرد استشهاد ابيه الكاظم عليه السلام. لكن هذين الامامين نفسيهما كشفا عن الحقيقة وصرّحا2.
ص: 162
بالامامة في الوقت المناسب، قال الامام الكاظم عليه السلام: (إن الارض لا تخلو من حجة وأنا والله ذلك الحجة(1).
وروى محمد بن زيد الطبري قال: كنت قائماً على رأس الرضا عليه السلام بخراسان وعنده عدة من بني هاشم وفيهم اسحاق بن موسى بن عيسى العباسي فقال: يا اسحاق بلغني ان الناس يقولون إنا نزعم أن الناس عبيد لنا لا وقرابتي من رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم ما قلته قط ولا سمعته من أحد قاله ولا بلغني من أحدٍ من آبائي قاله، ولكني اقول: الناس عبيد لنا في الطاعة، مَوالٍ لنا في الدين فليبلغ الشاهد الغائب(2). هذا وهو في بلاط العباسيين وتحت قبضتهم.
ومع كل هذه الصعوبات فقد وصلت الينا نصوص صحيحة وصريحة تعين الائمة عليهم السلام واحداً بعد واحد وقد جمعها وصنفها الشيخ الكليني قدس سره في اصول الكافي وكانوا عليهم السلام حريصين على بيان هذا الامر لحفظ وحدة الطائفة وعدم تشتتها وهدايتها الى المسار الصحيح دون المسارات المنحرفة، قال الامام الرضا عليه السلام للواقفة لما سألوه عن سبب إظهاره الامر بعد كتمانه قال عليه السلام: «اتريد ان آتي بغداد واقول لهارون: انا إمام مفترض الطاعة والله ما ذلك علي وانما قلت ذلك لكم عندما بلغني من اختلاف كلمتكم وتشتت امركم لئلا يصير سركم في يد عدوكم».
وفي خضم هذه الصعوبات كان الائمة عليهم السلام لا يتركون الشيعة سدى وانما كان الامام السابق ينص إشارة او صراحة على ولي الامر من بعده، ويوجبون على الأمة السعي لمعرفة إمامها ولا يعذرون من قصّر في هذا البحث.
يسأل الفقيه محمد بن مسلم الامام الصادق عليه السلام: (أفيسع الناس اذا مات العالم ألاّ يعرفوا الذي بعده؟ فقال: أما أهل هذه البلدة فلا - يعني المدينة - وأما غيرها من البلدان فبقدر سيرهم، إن الله يقول:[وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ]0.
ص: 163
[يَحْذَرُونَ] (1) ، قال: قلت: أرأيت من مات في ذلك؟ فقال: هو بمنزلة من خرج من بيته مهاجراً الى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله(2).
كما كان الامام المعين يرشد الناس الى نفسه عند اختلاط الامور ولكن في الحدود التي تسمح بها الظروف وقد يتطلب الامر إقامة بعض المعاجز والدلائل على الامامة فيقيمها الائمة عليهم السلام وسنذكر شواهد على هذه النقاط فقد ظن جماعة ان الامام بعد الامام الصادق عليه السلام هو ولده اسماعيل لكن الله تبارك وتعالى شاء ان يتوفى اسماعيل في حياة ابيه عليه السلام وقد شيعه ابوه عليه السلام بحضور الوالي محمد بن سليمان وعدد كبير من الناس وكان كلما سار المشيعون بالنعش مسافة قصيرة يتقدم الامام ويكشف عن وجهه للناس ومع ذلك فقد قال بعض الشيعة بامامته ورحب المنصور واعوانه بهذه الفكرة وأشاعوا بأن الوالي على البصرة كتب اليهم يخبرهم بوجوده فيها وأنه مرّ على مريض مزمن فدعا له وبرئ من مرضه(3).
وكان الائمة عليهم السلام من جانبهم يرشدون الى انفسهم في الحدود المتاحة لهم وفي الرواية التالية تبين مدى الحيرة التي حصلت للشيعة بعد استشهاد الامام الصادق عليه السلام والجور الذي مارسه المنصور العباسي ضدهم - فعن هشام بن سالم قال: كنا في المدينة بعد وفاة ابي عبد الله الصادق عليه السلام: انا ومحمد بن النعمان صاحب الطاق - وهو وهشام من أجلاء اصحاب الامام الصادق عليه السلام - والناس مجتمعون على عبد الله بن جعفر على انه صاحب الامر بعد ابيه فدخلنا عليه والناس عنده فسألناه عن الزكاة في كم تجب، فقال: في مائتي درهم خمسة دراهم فقلنا له: ففي مائة، قال: درهمان ونصف، قلنا والله ما تقول المرجئة هذا، فقال: والله ما ادري ما تقول المرجئة.
فخرجنا من مجلسه - والكلام ما زال لهشام بن سالم - ضلالاً لا ندري الى اين نتوجه والى من نقصد فبينما نحن كذلك واذا برجل شيخ لا اعرفه يومي الي بيده2.
ص: 164
فخفتُ ان يكون عيناً من عيون ابي جعفر المنصور وقد كان له بالمدينة جواسيس يتحرون له من يجتمع الناس عليه بعد جعفر بن محمد عليه السلام لياخذه ويضرب عنقه فخفت ان يكون منهم، وقلت للاحول: تنح فإني خائف على نفسي وعليك وهو لايريد سواي، فتنحى الاحول عني بعيداً وتبعت الشيخ لظني بأني لا اقدر على التخلص منه، فما زلت اسير معه وفي ظني اني اسير الى الموت حتى ورد على باب ابي الحسن موسى عليه السلام ثم تركني ومضى فإذا خادم الباب فقال لي: ادخل رحمك الله فدخلت فاذا ابو الحسن موسى عليه السلام فقال لي ابتداءً منه: الي لا الى المرجئة ولا الى القدرية ولا الى المعتزلة ولا الى الزيدية، فقلت له: جعلت فداك مضى ابوك، فقال: نعم، قلت: مضى موتاً، قال: نعم، فقلت له: جعلت فداك فمن لنا من بعده قال: هداك الله الى ما تريد، قلت: جعلت فداك فمن بعد ابيك قال: إن شاء الله أن يهديك هداك، قلت جعلت فداك فانت هو قال: لا اقول ذلك، فقلت في نفسي لم اصب طريق المسألة، قلت له: عليك امام، قال: لا فدخلني شيء لا يعلمه الا الله إعظاماً وهيبة، ثم قلت له: جعلت فداك اسالك كما كنت اسال اباك، قال: تخير ولا تذع فإن اذعت فهو الذبح، فسألته فاذا هو بحر لا ينزف، ثم قلت له: ان شيعة أبيك ضلال فالقي إليهم هذا الأمر وأدعوهم إليك فقد أخذت علي الكتمان - قال: من آنست منهم رشداً فألق اليه وخذ عليه الكتمان فإذا أذاع فهو الذبح وأشار بيده إلى حلقه.
ولما خرجت من عنده لقيت ابا جعفر الأحول، فقال لي: ما وراءك؟ قلت: الهدى وحدثته بما جرى معي، ثم التقينا(1) زرارة وابا بصير فدخلا عليه وسمعا كلامه وسألاه وقطعا عليه وكل من دخل عليه قطع بإمامته الا طائفة عمار الساباطي، ولم يبق الى جانب عبد الله الافطح الا القليل من الناس واخذ أمر الإمام ينتشر ويتسع حتى اهتدى اليه اكثر الشيعة ورجعوا اليه.
ولما توفي الإمام الحسن العسكري عليه السلام استغل أخوه جعفر - بمساعدة السلطات الحاكمة - وعدم معرفة الناس بوجود ولد للامام عليه السلام فهيأ نفسه للإمامة بعد أخيهث.
ص: 165
فوقف على باب دار الإمام - وهو ما يزال مسجّى - يتلقى التعزية بوفاة اخيه والتهنئة بالامامة فلم يكن للإمام المهدي عليه السلام بُد من الظهور وتوجيه الناس إليه عليه السلام وإلاّ ستصاب وعقائدها بصدمة كبيرة لان جعفر معروف بالفسق وشرب الخمر فلما تقدم جعفر للصلاة خرج الإمام عليه السلام وجذب رداء عمه وقال: تنح يا عم فأنا اولى بالصلاة على ابي فدهش الناس واسقط ما في يدي جعفر والسلطة من ورائه.
وروى ابو الاديان - وكان يحمل كتب الامام العسكري ورسائله الى الشيعة في الامصار ويرجع باجوبتها اليه - يقول ابو الاديان: لما دفن الامام قال لي ولده القائم. يا بصري هات اجوبة الكتب التي معك فدفعتها اليه وقلت في نفسي هذه بينتان: الصلاة على ابيه وعلمه بما احمله من اجوبة الكتب ولم يكن قد علم بذلك احد من الناس ثم خرجت الى جعفر بن علي وجلست عنده وبينما نحن جلوس واذا بنفر من قوم يقصدون الامام ابا محمد ولم يكونوا قد عرفوا بوفاته الا بعد دخولهم سامراء، فقالوا: فمن نعزي فاشار الناس الى اخيه جعفر فدخلوا عليه وعزوه باخيه وهنوه بالامامة، قالوا له: ان معنا كتبا واموالا فاذا اخبرتنا ممن الكتب وعن مبلغ المال دفعناها اليك، فقام جعفر ينفض ثيابه وهو يقول: تريدون منا ان نعلم الغيب فلم يدفعوا اليه شيئا.
وفيما هم في حيرة من امرهم واذا بالخادم يخرج من دار الامام فقال لهم: معكم كتب فلان وفلان وهميان فيه الف دينار، عشرة دنانير منها مطلية فدفعوا اليه الكتب والاموال وقالوا: ان الذي اخبرك بذلك هو الامام بعد أبي محمد(1).
وربما حذر بعض الائمة من احد ولده اذا علم منه تمردا وانشقاقا كما فعل الامام الهادي عليه السلام عندما قال لبعض اصحابه: تجنبوا ولدي جعفر فانه مني بمنزلة ابن نوح الذي قال الله فيه: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ(2) ، وكان الإمام الهادي عليه السلام منذ ولادة جعفر له متشائما من هذا المستقبل المنحرف فقال لامراة6.
ص: 166
لاحظت هذا التشاؤم في وجهه ويفترض ان يكون مستبشرا، قال عليه السلام: هوني عليك وسيضل به خلق كثير(1).
تحت شتى الظروف والمضايقات للاستفادة منهم عليهم السلام او لإيصال الحقوق المالية اليهم او اللقاء بهم واذا اقتضت الظروف المحيطة بالإمام عدم إمكانية اللقاء بشيعته مباشرة فهناك عدة طرق للاتصال:
1 - الإحالة إلى الثقات والعدول من العلماء والفقهاء للإجابة على المسائل الفقهية والشرعية وقد مر ما يناسب المقام.
2 - تعيين الوكلاء لقبض الأموال والحقوق من مختلف الأصقاع الشيعية وإحضارها للامام وكان الامام بدوره يوثق هؤلاء الوكلاء ويطلب من شيعته التعامل معهم، عن محمد بن إسماعيل وعلي بن عبد الله الحسنيين قالا: دخلنا على ابي محمد الحسن العسكري عليه السلام بسر من رأى وبين يديه جماعة من أوليائه وشيعته فدخل عليه بدر خادمه وقال: يا مولاي بالباب قوم شعت غبر، فقال له: هؤلاء نفر من شيعتنا باليمن فامض وائتنا بعثمان بن سعيد العمري، قالا: فما لبثنا الا يسيرا حتى دخل عثمان فقال له ابو محمد: امض يا عثمان فانك الوكيل والثقة المامون على مال الله واقبض من هؤلاء اليمنيين ما حملوه من المال، وجاء في تتمة الحديث: ثم قلنا باجمعنا يا سيدنا والله ان عثمان لمن خيار شيعتك ولقد زدتنا علما بموضعه من خدمتك وانه وكيلك وثقتك على مال الله تعالى، فقال نعم واشهدوا علي ان عثمان بن سعيد وكيلي وان ابنه محمدا وكيل ابني مهديكم(2).
وتميز وكلاء قبض الاموال بالحذر والتفنن في التمويه على السلطة، فقد لقب عثمان بن سعيد بالسمان لانه كان يتجر بالسمن ويتجول في تجارته في الاوساط
ص: 167
الشيعية حتى لا يظهر امره للحاكمين، فاذا دفع اليه احد الشيعة مبلغا من المال وضعه في زقاق السمن واخفاه عن الناس.
3 - الاجابة على الاسئلة والاستفسارات بواسطة الرسائل والكتب لعدم امكانية الاتصال مباشرة خصوصا اثناء فترة الاقامة الجبرية وممن فعل ذلك الامام الجواد عليه السلام والهادي عليه السلام والعسكري عليه السلام واحيانا يوجد اشخاص معينون يتولون جلب الكتب والرسائل الى الامام والعودة باجوبته مثل ابي الاديان بالنسبة للامام العسكري عليه السلام، لذا فإن كثيراً من الروايات عن الائمة الثلاثة اعلاه وصلت عن طريق المراسلة وتسمى بالمكاتبة.
4 - تنصيب الوكلاء والسفراء كوسطاء بين الامام والجماهير الشيعية فخلال الغيبة الصغرى للامام المهدي عليه السلام تولى السفارة فيها اربعة اختارهم لهذه المهمة وعهد اليهم بان يكونوا واسطة بينه وبين الشيعة في مختلف المناطق، واختار جماعة من ثقات الشيعة اوكل اليهم مساندة سفرائه في بعض المهمات لتذليل الصعوبات التي كانت تعترض تحركاتهم بواسطة مراقبة الحكام واجهزتهم، وكانت مهمة الوكيل محدودة بالقياس الى مهمة السفير، ذلك لان السفير كان يتصل يالامام مباشرة ويأخذ منه التعليمات والتواقيع. ويقوم بأكثر مسؤولياته حسب التوجيه الذي يتلقاه منه، في حين ان مسؤولية الوكيل في الغالب في حدود منطقته كقبض الاخماس وتسهيل اتصال الشيعة بالسفراء ليرفعوا اليهم حوائجهم وتبليغ الاحكام والتوجيه ونحو ذلك، والسفراء الاربعة في الغيبة الصغرى هم: عثمان بن سعيد العمري ومحمد بن عثمان بن سعيد المعروف بالخلاني، والحسين بن روح النوبختي وعلي بن محمد السمري اما الوكلاء فكثيرون وتوجد تفاصيل ذلك في الموسوعة القيمة عن الامام المهدي عليه السلام لسيدنا الاستاذ (قده)، وكان الوكلاء ينصبون بأمر الحجة عليه السلام وبتوقيع منه فعن محمد بن ابراهيم بن مهزيار الاهوازي انه بعد وفاة السفير الاول ابي عمرو عثمان بن سعيد خرج توقيع جاء فيه: ان ابنه - محمد - لم يزل ثقتنا رضي الله عنه وارضاه ونضر
ص: 168
وجهه يجري عندنا مجراه ويسد مسده وعن امرنا يأمر وبه يعمل تولاه الله فانته الى قوله وعرف شيعتنا بذلك(1).
اما في عهد الغيبة الكبرى فان مسؤوليات الامام يقوم بها نائبه بالحق وهو الفقيه الورع العدل وقد مرت الاشارة اليه.
وكان الائمة عليهم السلام يعقدون الاجتماعات العامة بشيعتهم ويستغلون المناسبات الدينية كالحج للالتقاء بأكبر عدد ممكن من الشيعة وإحاطة علمائهم واقطابهم ووكلاء الامام في الآفاق بعناية خاصة، لمناقشة الامور العامة والخاصة ومعرفة ما يدور هنا وهناك وللاجابة على اسئلتهم واستفساراتهم وحل مشاكلهم وقد تقدم ذكر بعضها ص 83 وغيرها.
بل كان يرى الائمة عليهم السلام ان من لوازم الحج ان يعرجوا على الامام عليه السلام ويجددون العهد معه ويعرضون نصرتهم عليه، فعن الفضيل قال: نظر أبو جعفر الباقر عليه السلام إلى الناس يطوفون حول الكعبة فقال: هكذا كانوا يطوفون في الجاهلية، إنما أمروا أن يطوفوا بها ثم ينفروا الينا فيعلمونا ولايتهم ومودتهم ويعرضوا علينا نصرتهم ثم قرأ هذه الآية: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ(2) ، وفي رواية أخرى قال عليه السلام: وما أمروا إلاّ أن يقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم فيمروا بنا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرتهم(3).
ومن خلال هذه اللقاءات كان الائمة عليهم السلام يرفعون من همّة أصحابهم ويعلمونهم فضل ما هم عليه من ولاية أهل البيت عليهم السلام مما يعيد اليهم الثقة بالنفس في تلك المعاناة والضيق والحصار المضروب عليهم فكانت تلك الكلمات تحفزهم على مواصلة السير والالتزام اكثر بتعاليم هذا الخط وربما قصدهم الامام عليه السلام بنفسه الى اماكن تجمّعهم وألقى عليهم توجيهاته فعن الامام الصادق عليه السلام قال: (مررتُ انا وابو2.
ص: 169
جعفر عليه السلام على الشيعة وهم ما بين القبر والمنبر فقلت لابي جعفر عليه السلام: شيعتك ومواليك جعلني الله فداك، قال: أين هم؟ فقلت: أراهم ما بين القبر والمنبر فقال: اذهب بي اليهم فذهب فسلّم عليهم ثم قال: والله إني لأحب ريحكم وارواحكم فاعينوا مع هذا بورع واجتهاد، إنه لا ينال ما عند الله الا بورع واجتهاد وإذا ائتممتم بعبد فاقتدوا به أما والله إنكم لعلى ديني ودين آبائي ابراهيم واسماعيل وإن كان هؤلاء على دين اولئك فاعينوا على هذا بورع واجتهاد(1).
لان اتباع كل فكرة او مذهب يعكسون بتصرفاتهم وسلوكهم صورة أئمتهم وفكر مدرستهم وأي تشوه يظهر في سلوكهم إنما يعود بنتائج سيئة على الائمة انفسهم لانهم ينسبون اليهم وعلى العقيدة التي يؤمنون بها، قال الامام العسكري عليه السلام لجماعة من شيعته اوصيكم بتقوى الله والورع في دينكم وصدق الحديث واداء الامانة الى من ائتمنكم من بر او فاجر وطول السجود وحسن الجوار فبهذا جاء محمد صلي الله عليه و آله و سلم: صلوا عشائركم واشهدوا جنائزكم وعودوا مرضاكم وأدوا للناس حقوقهم، فان الرجل منكم اذا ورع في دينه وصدق في حديثه وادى للناس الامانة وحسن خلقه معهم وقيل هذا شيعي يسرني ذلك(2).
وقال الباقر عليه السلام لجماعة عنده: ايدخل احدكم يده في جيب صاحبه فيأخذ منها مايريد وهو لا يعلم؟ فقالوا: لا يابن رسول الله فقال: اذهبوا فلستم اخواننا كما تزعمون. قال عليه السلام مخاطباً من يدعي التشيع: والله ما شيعتنا الا من اتقى الله واطاعه وما كانوا يعرفون الا بالتواضع والتخشع واداء الامانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة
ص: 170
والبر بالوالدين وتعهد الجيران من الفقراء وذوي المسكنة والغارمين والايتام وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكف الالسن عن الناس الا من خير.
وقال عليه السلام: انما شيعة علي المتباذلون في ولايتنا المتحابون في مودتنا المتزاورون لاحياء الدين، اذا غضبوا لم يظلموا واذا عارضوا لم يسرفوا، بركة على من جاوروا وسلم لمن خالطوا.
وعن الامام العسكري عليه السلام قال: لما جعل المامون الى علي بن موسى الرضا عليه السلام ولاية العهد دخل عليه آذنه فقال ان قوما بالباب يستاذنون عليك يقولون «نحن من شيعة علي عليه السلام فقال: انا مشغول فاصرفهم، فصرفهم الى ان جاؤوا هكذا يقولون ويصرفهم شهرين، ثم ايسوا من الوصول فقالوا «قل لمولانا انا شيعة ابيك علي بن ابي طالب عليه السلام قد شمت بنا اعداؤنا في حجابك لنا، ونحن ننصرف عن هذه الكرة، ونهرب من بلادنا خجلا وانفة مما لحقنا، وعجزا من احتمال مضض ما يلحقنا من اعدائنا» فقال علي بن موسى عليه السلام: ائذن لهم ليدخلوا، فدخلوا عليه فسلموا عليه فلم يرد عليهم، ولم ياذن لهم بالجلوس، فبقوا قياما، فقالوا: يا بن رسول ما هذا الجفاء العظيم، والاستخفاف بعد هذا الحجاب الصعب، أي باقية تبقى منا بعد هذا؟ فقال الرضا عليه السلام: اقرأوا:[وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ] (1) ، والله ما اقتديت الا بربي عز وجل ورسوله وبامير المؤمنين ومن بعده من آبائي الطاهرين عليهم السلام عتبوا عليكم فاقتديت بهم، قالوا: لماذا يا ابن رسول الله؟ قال لدعواكم انه شيعة امير المؤمنين! ويحكم ان شيعته: الحسن والحسين وسلمان وابوذر والمقداد وعمار ومحمد بن ابي بكر الذين لم يخالفوا شيئا من اوامره وانتم في اكثر اعمالكم له مخالفون، وتقصرون في كثير من الفرائض وتتهاونون بعظيم حقوق اخوانكم في الله، وتتقون حيث لا تجب التقية، وتتركون التقية حيث لا بد من التقية، لو قلتم: انكم مواليه ومحبوه، والموالون لاوليائه والمعادون لاعدائه لم انكره من قولكم، ولكن هذه مرتبة شريفة ادعيتموها ان لم تصدقوا قولكم بفعلكم هلكتم الا ان0.
ص: 171
تتدارككم رحمة ربكم، قالوا: يا بن رسول الله! فاذا نستغفر الله ونتوب اليه من قولنا بل نقول كما علمنا مولانا: نحن محبوكم ومحبوا اوليائكم، ومعادوا اعدائكم، قال الرضا عليه السلام: «فمرحبا بكم اخواني واهل ودي ارتفعوا: فما زال يرفعهم حتى الصقهم بنفسه، ثم قال لحاجبه كم مرة حجبتهم؟ قالوا ستين مرة: قال: فاختلف اليهم ستين مرة متوالية، فسلم عليهم واقرأهم سلامي فقد محوا ما كان من ذنوبهم باستغفارهم وتوبتهم واستحقوا الكرامة لمحبتهم لنا ولموالاتهم، وتفقد امورهم وامور عيالاتهم، فاوسعهم نفقات ومبرات وصلات ودفع معرات»(1).
وهكذا كان الائمة عليهم السلام يحذرون من فهم احاديث فضل الشيعة ومنزلتهم الرفيعة يوم القيامة فهما خاطئاً وذلك بالركون الى ظاهرتلك الاحاديث دون تحقيق العمل الصالح الذي يؤهلهم لتبوء تلك المرتبة السامية، لما دخل زيد بن الامام الكاظم عليه السلام(2) على الامام الرضا عليه السلام: قال له: ويحك يا زيد ما الذي غرك حتى ارقت الدماء وقطعت السبيل، اغرك حديث سمعته عن رسول الله ان فاطمة عليها السلام احصنت فرجها فحرم الله ذريتها على النار، ويحك يا زيد ان ذلك ليس لي ولا لك، لقد عنى رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم بذلك حسنا وحسينا، والله ما نالا ذلك الا بطاعة الله، فان كنت ترى انك تعصي الله وتدخل الجنة فانت اذن اكرم على الله منهما ومن ابيك موسى بن جعفر، والله يا زيد لا ينال احد ما عند الله الا بطاعته، فقال له زيد: انا اخوك وابن ابيك، فقال له الرضا عليه السلام: انت اخي ما اطعت الله عز وجل، ان نوحا قال: رب ان ابني من اهلي وان وعدك الحق وانت ارحم الراحمين، فقال له الله عز وجل: يا نوح انه ليس من اهلك انه عمل غير صالح، فاخرجه الله من ان يكون من اهله بمعصيته لله(3) وقد شرحت (عناصر شخصية المسلم في آثار اهل البيت عليهم السلام) في بحث نشر في كتاب (نحن والغرب).2.
ص: 172
باسم الشيعة والفكر الشيعي لئلا ينسب اليه ما ليس منه وقد عرض عدد كبير من الكتب التي دون فيها اصحاب الائمة ما سمعوه او رووه عن المعصوم عليه السلام عليهم وكانوا يمضون ما فيها اويعلقون عليها وقد تقدمت الاشارة الى ارسال الحسين بن روح السفير الثالث كتاب التاديب للشلمغاني المعروف بابي العزاقري الى علماء الشيعة ورواة حديثهم في قم لينظروا فيه ففعلوا وبعثوا رايهم اليه(1).
ويمكن ملاحظة عدة اشكال لهذا التخطيط:
1 - تشريع التقية وقد مر الحديث عنه.
2 - استعمال العلوم الغيبية التي تعلموها عن جدهم صلي الله عليه و آله و سلم او الهموها كقصتي علي بن يقطين المتقدمتين.
3 - الدعاء لهم بالحفظ وافشال خطط الاعداء بلطفهم ورعايتهم كما ورد في رسالة الامام المهدي عليه السلام الى المفيد رضى الله عنه والتي فيها: (إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الاعداء(2).
4 - القاء الاختلاف بينهم في المواقف تجاه القضايا الاجتماعية مما يشغل الاعداء عن التفكير في ظلمهم للاكتفاء بالذي يحصل بينهم وعدم وضوح الموقف المعين للطائفة وهو مفاد حديث عن الامام الصادق عليه السلام في رسالة بعثها الى زرارة يبيّن فيها فلسفة بعض تصرفاته عليه السلام: (فلا يضيقن صدرك من الذي امرك ابي وأمرتك به وأتاك ابو بصير بخلاف الذي امرناك به، فلا والله ما أمرناك ولا أمرناه الا بأمر وسعنا ووسعكم الأخذ به، ولكل ذلك عندنا تصاريف ومعانٍ توافق الحق ولو أذن لنا لعلمتهم أن الحق في الذي امرناكم فردّوا الينا الأمر وسلّموا لنا واصبروا لأحكامنا
ص: 173
وارضوا بها، والذي فرّق بينكم فهو راعيكم الذي استرعاه الله خلقه وهو أعرف بمصلحة غنمه في فساد أمرها فان شاء فرّق بينها لتسلم، ثم يجمع بينها ليأمن من فسادها وخوف عدوها(1).
5 - ذم بعضهم ظاهرا للايحاء بانهم غير محسوبين عليهم وليسوا من شيعتهم فينصرف الاعداء عن اذاهم كالذم الوارد في زرارة وقد بين الامام الصادق عليه السلام وجهه لولد زرارة، وهي من التصرفات الدقيقة للإمام وقد خفيت فلسفتها حتى على اعاظم الاصحاب، عن عبد الله بن زرارة قال: قال لي ابو عبد الله عليه السلام: (اقرأ مني على والدك السلام وقل له: إني إنما أعيبك دفاعاً مني عنك فإن الناس والعدو يسارعون الى كل من قرّبناه وحمدنا مكانه لادخال الاذى في من نحبّه ويرمونه لمحبتنا له وقربه ودنوّه منا، ويرون إدخال الاذى عليه وقتله ويحمدون كل من عبناه نحن فإنما اعيبك لانك رجل اشتهرت بنا وبميلك الينا وأنت في ذلك مذموم عند الناس غير محمود الاثر بمودتك لنا ولميلك الينا فأحببتُ أن أعيبك ليحمدوا أمرك في الدين بعيبك ونقصك ويكون بذلك منا دافع شرهم عنك، يقول الله عز وجل:[أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً] (2) ، والله ما عابها الا لكي تسلم من الملك ولا تعطب على يديه ولقد كانت صالحة ليس للعيب فيها مساغ والحمد لله، فافهم المثل يرحمك الله فانك والله احبّ الناس الي وأحب أصحاب ابي حياً وميتاً فانك افضل سفن ذلك البحر القمقام الزاخر وإن من ورائك ملكاً ظلوماً غصوباً يرقب عبور كل سفينة صالحة ترد من بحر الهدى ليأخذها غصباً ثم يغصبها وأهلها ورحمة الله عليك حياً ورحمته ورضوانه عليك ميتاً(3).7.
ص: 174
التي لا تتحملها اذهان العامة(1) فيقعون في رذيلتي الافراط والتفريط فاما ان يؤلهوا الائمة او ان يكفروا بهم خصوصا لمن لا يعرف عن اهل البيت عليهم السلام عصمتهم وتفانيهم في حب الله وطاعته الذي يؤهلهم للشمول بالحديث القدسي المشهور (عبدي اطعني تكن مثلي اقول للشيء كن فيكون) وهم عليهم السلام اوضح مصداق له وعدّ الائمة عليهم السلام هذا السلوك عارا عليهم فامروا بان لا يفرطوا في الامر ففي ملكاتهم النفسية والخلقية وسلوكهم ودورهم في الحياة ما يبلغهم اقصى المراتب في قلوب الناس، قال الامام السجاد عليه السلام: يا أيها الناس احبونا حب الاسلام فوالله ما برح حبكم لنا حتى اصبح علينا عارا(2) وبغضتمونا الى الناس»(3).
وروى يحيى بن هرثمة الذي كلفه المتوكل بجلب الهادي عليه السلام من المدينة الى سامراء قال: بينما نحن نسير والسماء صاحية والشمس طالعة اذ وضع الامام عليه ما يقيه المطر - ولم يكن الموسم موسم مطر وكان الامام عليه السلام قد جلب معه عدة المطر من المدينة - وقد عقب ذنب دابته فعجبت من فعله فلم يكن بعد ذلك الا هنيهة حتى جاءت سحابة فارخت عزاليها ونالنا من المطر امر عظيم جدا فالتفت الي وقال: «انا اعلم انك قد انكرت ما رايت وتوهمت اني من الامر ما لاتعلمه وليس ذلك كما ظننت، ولكني نشات بالبادية فانا اعرف الرياح التي يكون في عقبها المطر، فلما أصبحت هبّت ريح شممت منها رائحة المطر فتأهبت لذلك وكان الأمر كما رايت»(4) فاجاب الامام وفق القوانين الطبيعية بعد ان قرأ في عيني ابن هرثمة الشك والارتياب رغم ان مثل هذا العلم بالغيب ليس مستحيلا على مثلهم عليهم السلام كما قال امير المؤمنين
ص: 175
(وما سوى ذلك - أي علم الغيب الذي ادخره الله سبحانه لنفسه كعلم الساعة - فعلم علمه الله نبيه فعلمنيه ودعا لي بان يعيه صدري وتضطم عليه جوانحي)(1).
وضمن هذا المجال ركز الائمة عليهم السلام على النظر اليهم على انهم بشر وليسوا بدعا من الناس ويمكن تقليدهم والاقتداء بهم في جميع اعمالهم لان بدون هذه النظرة تولدت عند البعض فكرة عدم امكانية بل وعدم وجوب الاقتداء بهم في كل تفاصيل حياتهم وحجتهم ان اولئك ائمة معصومون ونحن ناس عاديون وشتان بيننا وبينهم وفي هذا من الخطأ الجسيم ما لا تحمد عقباه ويؤدي الى التقاعس والتخاذل عن كثير من المسؤوليات والأعمال الكبيرة وخسارة لعنصر مهم من عناصر التربية وهو الاقتداء بالأسوة الحسنة.
التي لا يحتملها الناس دون اعداد وتخطيط مسبقين كفكرة الامام المهدي عليه السلام فلم يكن بامكان العامة استيعاب غياب الامام ووجوده هذه المدة الطويلة حتى يؤذن له بالظهور وكيفية الاستفادة منه في غيبة ولا الحاجة الى مثل هذا الامر(2).
ولأهمية هذه الفكرة - وهي فكرة اسلامية بحتة لا تختص بالشيعة والتشيع ولكنها اصبحت تبدو وكأنها من مختصاتهم بعد ان اعرض عنها الآخرون عمليا لاسباب شتى(3) - فقد بدأ النبي صلي الله عليه و آله و سلم الاعداد لها ثم مارس الائمة عليهم السلام دورا مكثفا في تبليغها حتى اصبحت على مستوى كاف من الوضوح قبل ميلاد المهدي عليه السلام بمدة طويلة فقد لقب المنصور ولده محمد بالمهدي لايهام العامة انه المهدي المنتظر، وعن عبد العظيم الحسني قال: دخلت على سيدي محمد (الجواد) بن علي بن موسى بن جعفر
ص: 176
اريد ان اسأله عن القائم أهو المهدي او غيره؟ فابتدأني وقال: «يا ابا القاسم ان القائم منا هو المهدي الذي يجب ان ينتظر في غيبته ويطاع في ظهوره وهو الثالث من ولدي والذي بعث محمدا صلي الله عليه و آله و سلم بالنبوة وخصنا بالامامة لو لم يبق من الدنيا الا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه فيملا الارض قسطا وعدلا لما ملئت ظلما وجورا، وان الله ليصلح له امره في ليلة كما اصلح امر كليمه موسى اذ ذهب يقتبس نارا فرجع وهو رسول نبي وإن افضل اعمال شيعتنا انتظار الفرج»(1).
والذي يراجع الكتب الخاصة عن المهدي عليه السلام يجد أن لكل إمام عددا وفيرا من النصوص وليست هذه الحملة المستمرة من قبل الائمة لتوضيح فكرة الامام المهدي عليه السلام هي لكي يؤمن الناس بها فحسب بل كان يرافقها تدرج في تهيئة الامة عمليا لكي تعتمد على نفسها بعد ان يغلق باب التشريع والقيادة المباشرتين وغير المباشرتين ففي عهد النبي صلي الله عليه و آله و سلم كان هناك وحي وقيادة مباشرة وفي عهد الائمة توقف الوحي وبقيت القيادة المباشرة وفي نهاية هذه المرحلة بدأ الاعداد العملي للغيبة، قال المسعودي وروي ان ابا الحسن (الهادي عليه السلام) صاحب العسكر احتجب عن كثير من الشيعة الا عن عدد يسير من خواصه، فلما افضى الامر الى ابي محمد (الحسن العسكري عليه السلام) كان يكلم شيعته الخواص وغيرهم من وراء الستر الا في الاوقات التي يركب فيها الى دار السلطان وان ذلك إنما كان منه ومن أبيه قبله مقدمة لغيبة صاحب الزمان لتالف الشيعة ذلك ولا تنكر الغيبة وتجري العادة بالاحتجاب والاستتار(2) ثم في الغيبة الصغرى أصبحت القيادة غير مباشرة عن طريق السفراء الاربعة وفي الغيبة الكبرى اصبحت الامة تعتمد على نفسها بشكل كامل وفق التخطيط الذي وضع الائمة عليهم السلام معالمه للمرجعية الدينية بعد ان انتهت السفارة، وهكذا أُعدت الامة بتخطيط الهي لكي تتحمل الأعباء والمسؤوليات وكان هذا التخطيط فخراً حقيقياً لمذهب أهل البيت واسلوباً تربوياً وتنظيمياً ناجحاً افلح في الحفاظ على أصول الدين2.
ص: 177
وفروعه بكل تفصيلاته ودقائقه إلى الآن والى ان يأذن الله تعالى للمصلح الاعظم عجل الله فرجه الشريف حتى كأنه انزل علينا الساعة وهذا هو إعجاز الإسلام في خلوده وبقائه. وقد تعرض الاسلام - وسيتعرض - خلال الغيبة الكبرى لمؤامرات هدامة ودسائس تهدف الى تمييعه وتحريفه كالأديان السابقة ولكن جهود العلماء المخلصين وجهادهم بالمرصاد لها ولم يؤثر عليهم غيبة إمامهم وكثرة عدوهم وشدة الفتن بهم وتظاهر الزمان عليهم وهم الذين قال فيهم امير المؤمنين عليه السلام للحسين عليه السلام وقد سأله عن غيبة ولده المهدي عليه السلام يا امير المؤمنين وإن ذلك - أي غيبة الامام عليه السلام - لكائن، فقال عليه السلام: أي والذي بعث محمداً بالنبوة واصطفاه على جميع البرية، ولكن بعد غيبة وحيرة لايثبت فيها على دينه الا المخلصون المباشرون لروح اليقين الذين أخذ ميثاقهم بولايتنا وكتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه(1).
وقال الامام السجاد عليه السلام: (إن اهل زمان غيبة القائلين بامامته والمنتظرين لظهوره افضل اهل كل زمان لأن الله تعالى ذكره أعطاهم من العقول والافهام والمعرفة ما صارت الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم بالسيف، اولئك المخلصون حقاً وشيعتنا صدقاً، والدعاة الى دين الله سراً وجهراً)، وقال عليه السلام: (انتظار الفرج من اعظم الفرج(2).
قال امير المؤمنين عليه السلام: «والله لو شئت ان اخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت ولكن اخاف ان تكفروا فيَ برسول الله صلى الله عليه وآله، ألا وإني مفضيه الى الخاصة ممن يؤمن ذلك منه، والذي بعثه بالحق واصطفاه على الخلق، ما انطق الا صادقاً، وقد عهد اليَ بذلك كله، بمهلِكِ من يهلِك، ومنجى من
ص: 178
ينجو، ومآل هذا الامر، وما أبقى شيئاً يمرُ على رأسي الا افرغه في أذني وافضى به الي»(1).
وقال عليه السلام «إن امرنا صعب مستصعب، لايحمله الا عبدٌ مؤمن امتحن الله قلبه للايمان، ولا يعي حديثنا الا صدور امينة واحلام رزينة»(2) وكان لأمير المؤمنين عليه السلام خاصة يسمَّون بالحواريين كميثم التمار ورشيد الهجري وعمرو بن الحمق الخزاعي وحبيب بن مظاهر الاسدي يُلقي اليهم علوم البلايا والمنايا وهم بدورهم ينقلون جزءاً من ذلك الى الناس كلما سنحت الفرصة وتهيأت المناسبة (كالحوار الذي دار بين ميثم بن يحيى التمار وحبيب وشاركهما رشيد في كيفية مقتلهما) وهكذا كانوا في توزيع المسؤوليات والتكاليف، قال الامام الصادق عليه السلام لأحد اصحابه عمر بن حنظلة: «يا عمر لا تحملوا على شيعتنا وارفقوا بهم فإن الناس لا يحتملون ما تحملون»(3) ، وضمن هذا التخطيط يمكن ان نذكر امرهم بأن يعرف كلٌ قدر نفسه وإلا اوردها موارد الهلكة فلا يتعرض لما ليس هو له بأهل إذ ستكون النتيجة ضلاله وإضلاله، فنهوا عن التصدي لأية مسؤولية اجتماعية ودينيه والسعي لها إذا لم يكن مؤهلاّ لها، قال الكاظم عليه السلام «والله ما ذئبان ضاريان في غنم غاب عنها رعاتها بأضر في دين المسلم من حب الرئاسة(4) ونهوا عن التصدي للافتاء، قال الصادق عليه السلام موصياً لأحد اصحابه «واهرب من الفتيا فرارك من الاسد ولا تجعل رقبتك للناس جسراً»(5) ولا إشكال في أن نهي الائمة عليهم السلام هذا مُوَجهٌ لمن ليس له الكفاية والقابلية، اما من توفرت فيه هاتان الصفتان فيجب عليه التصدي للرئاسة والافتاء لرفع الظلم والحيف عن الامة وقيادتها الى ما يضمن سعادتها الدنيوية والأخروية، اما من2.
ص: 179
توفرت فيه الشروط للقيام بإي مسؤولية ومنها قيادة الأمة فعليه أن يقوم بأعبائها وهكذا سائر المواقع قال امير المؤمنين عليه السلام «أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كِظه ظالم ولا سَغَب مظلوم، لأ لفيتُ حبلَها على غاربها...»(1).
باعتبارهم الفئة التي اهتدت الى الحق وآمنت به ووعت مسؤولياتها تجاهه مما حمّلها الكثير من التضحيات والعنت والمشقّة والاضطهاد والحرمان فلابد من صدور كلمات من قبل القادة تثبّت إيمانهم وتخفف آلامهم وتزيد من الثقة بأنفسهم وتسرُّ قلوبهم لكيلا يتزلزلوا أمام الهجمات الشرسة التي تستهدفهم والتي يكفي بعضها لإبادتهم ومحق وجودهم لولا لطف الله تبارك وتعالى الذي يريد للحق ان يبقى، وقد أشرت الى هذا المعنى في (عناصر شخصية المسلم في آثار اهل البيت عليهم السلام) وقد بدأ هذا الثناء رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم فقد نقل السيوطي في الدر المنثور في تفسير قوله تعالى في نهاية سورة البينة (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات اولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدنٍ تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ابداً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه) (البينة 7-8) عن جابر بن عبد الله الانصاري قال: كنا عند النبي صلي الله عليه و آله و سلم فأقبل علي عليه السلام فقال النبي صلي الله عليه و آله و سلم: (والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة)، ونزلت:[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ] (2) فكان اصحاب النبي صلي الله عليه و آله و سلم اذا اقبل علي عليه السلام قالوا: جاء خير البرية(3) يقول الامام الصادق عليه السلام لشيعته (أما والله إني لأحبّ ريحكم وارواحكم(4) ،
ص: 180
ويقول الامام الرضا: عليه السلام (شيعتنا ينظرون بنور الله ويتقلبون في رحمة الله ويفوزون بكرامة الله ما من أحدٍ من شيعتنا مرض الا مرضنا ولا اغتم الا اغتممنا لغمه ولا يفرح الا فرحنا لفرحه ولا يغيب عنا احد من شيعتنا اين كان في شرق الارض او غربها) وقال شخص دخلنا على ابي عبد الله عليه السلام في زمن مروان (وهو الملقب بالحمار آخر ملوك بني أمية) فقال عليه السلام: من انتم فقلنا من أهل الكوفة فقال: مامن بلدة من البلدان اكثر محبةً لنا من أهل الكوفة ولا سيما هذه العصابة، إن الله جلَ ذكره هداكم لأمر جهله الناس واحببتمونا وأبغضنا الناس واتبعتمونا وخالفنا الناس وصدقتمونا وكذبنا الناس فأحياكم الله محيانا وأماتكم مماتنا فأشهد على ابي انه كان يقول: ما بين احدكم وبين أن يرى ما يقر الله به عينه وأن يغتبط الا ان تبلغ نفسه هذه - وأهوى بيده الى حلقه -(1).
وعن الامام الصادق عليه السلام قال: (خرجت انا وابي حتى اذا كنا بين القبر والمنبر اذا هو بأناس من الشيعة فسلم عليهم ثم قال: انتم شيعة الله وانتم انصار الله وانتم السابقون الاولون والسابقون الآخرون والسابقون في الدنيا والسابقون في الآخرة الى الجنة، قد ضمنا لكم الجنة بضمان الله عز وجل وضمان رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم) في حديث طويل لكنه عليه السلام قال (واعلموا ان ولايتنا لا تُنال الا بالورع والاجتهاد من ائتم منكم بعبد فليعمل بعلمه)(2) وفي ذلك عدة نتائج
1 - زيادة ثقة الشيعة بأنفسهم وتعزيز إيمانهم بهذه العقيدة.
2 - التخفيف عن الالام والمظالم التي تحيق بالشيعة من السلطة وغيرهم على طول الخط فتكون هذه البشارات بلسماً يداوي جروحهم.
3 - حث غيرهم من الطوائف على اعتناق هذا المذهب الشريف الذي يمثل المنبع الاصيل للاسلام عندما يستمعون الى ما اعد الله تعالى من الكرامة لاتباع اهل البيت عليهمي.
ص: 181
السلام خصوصاً وان عدداً كبيراً من تلك الروايات صادر عن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم ومثبتة في الكتب المعتمدة عند العامة.
بالتوفيق والتسديد والمعفرة والرحمة والتعجيل بالفرح، قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم يوماً لاصحابه: حياتي خير لكم ومماتي خيرُ لكم، قيل يا رسول الله أما حياتك فقد عرفنا ذلك فكيف يكون مماتك خيراً لنا، قال صلي الله عليه و آله و سلم لانه تعرض عليَ أعمالكم في كل يوم فما وجدتُ فيها من الحسنات استزدت الله تعالى وطلبت منه لكم القبول وما وجدت من السيئات استغفرته لكم وهو معنى قوله تعالى:[وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ] (1) ، قال الباقر عليه السلام: نحن المؤمنون آل محمد صلي الله عليه و آله و سلم(2) ، وروى ابو بصير عن الامام الصادق عليه السلام حديثاً فيه صعوبة تحمّل علمهم الا من شيعتهم العارفين بحقهم وفي نهايته يقول ابو بصير: (ثم رفع يده وبكى وقال: اللهم إن هؤلاء لشرذمة قليلون فاجعل محيانا محياهم ومماتنا مماتهم ولا تسلط عليهم عدواً لك فتفجعنا بهم، فإنك إن أفجعتنا بهم لم تعبد أبداً في أرضك وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليماً(3) ، واقرأ أيضاً دعاء الامام الصادق عليه السلام وهو ساجد ويبكي لشيعته الذين يزورون قبر جده الحسين عليه السلام(4). ومن كتاب للإمام المهدي عليه السلام الى الشيخ المفيد (رض) جاء فيه «نحن وإن كنا ناوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسب الذي أرانا الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين، فإنا نحيط علماً بأنبائكم ولا يعزب عنا شيءٌ من أخباركم ومعرفتنا بالذل
ص: 182
الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم الى ما كان السلف الصالح عنه شاسعا، ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون.
إنا غير مهملين لمراعاتكم ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء - الشدة والضيق في المعيشة - او اصطلمكم - استأصلكم - الإعداء فاتقوا الله جل جلاله وظاهرونا على انتياشكم - إنقاذكم - من فتنة قد أنافت - طالت و ارتفعت - عليكم يهلك فيها من حم - قرب - أجله ويحمى عنها من أدرك أمله، وهي إمارة لازوف - اقتراب حركتنا ومباثتكم بأمرنا ونهينا، والله متم نوره ولو كره المشركون، اعتصموا بالتقية من شب نار الجاهلية...» وفيه «فليعمل كل امرئٍ منكم بما يقرب به من محبتنا، ويتجنب ما يدينه من كراهتنا وسخطنا، فإن امرنا بغتة فجأة حين لا تنفعه توبة ولا ينجيه من عقابنا ندم على حوبة»(1).
ومن كتاب آخر «ولو ان اشياعنا وفقهم الله لطاعته على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا ولتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم الا ما يتصل بنا مما نكرهه ولا يؤثره منهم»(2).
وصدق بقية الله الاعظم عليه السلام فاين نحن من اولئك، نحن الذين اصبحنا - الا من عصم الله تعالى - لا نعرف من الاسلام الا اسمه ومن القرآن الا رسمه، نأمر بالمعروف ولا نعمل به وننهى عن المنكر ونفعله بل عاد المعروف منكراً والمنكر معروفاً - والعياذ بالله - وابتعدنا كثيراً عن خط النبي صلي الله عليه و آله و سلم وآله الاطهار الذي رسموه بدمائهم وبكل غالٍ ونفيس وسار عليه معهم السلف الصالح رضي الله عنهم وارضاهم ويكفينا كلام امير المؤمنين عليه السلام في صفة الجيلين فقال عليه السلام في وصف الجيل المتقدم «انظروا اهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم، واتبعوا اثرهم، فلن يخرجوكم من هدىً، ولن يعيدوكم في ردىً، فإن لَبَدوا - اقاموا - فالبدوا وان نهضوا فانهضوا، لا تسبقوهم2.
ص: 183
فتضلوا، ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا. لقد رأيتُ اصحاب محمد صلى الله عليه وآله، فما ارى احداً يشبههم منكم، لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً وقد باتوا سُجداً وقياما، يراوحون بين جباههم وخدودهم ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم كأن بين اعينهم رُكب المعزى من طول سجودهم، اذا ذكر الله هملت اعينهم حتى تَبُل جيوبهم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف، خوفاً من العقاب ورجاءاً للثواب»(1).
وقال في وصف الاجيال المتأخرة «وقد اصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه الا إدباراً، ولا الشرُ فيه الا اقبالا، ولا الشيطان في هلاك الناس الا طمعاً، فهذا أوان قويت عُدَتُه وعَمت مكيدته وامكنت فريسته، اضرب بطرفك حيث شئت من الناس فهل تبصر الا فقيراً يكابد فقره، او غنياً بدل نعمة الله كفرا، او بخيلاً اتخذ البخل بحق الله وفرا، او متمرداً كأن في اذنيه عن سمع المواعظ وقرا» وفيه «فإنا لله وإنا اليه راجعون ظهر الفساد فلا منكرٌ مغير، ولا زاجرٌ مزدجر، افبهذا تريدون ان تجاوروا الله في دار قدسه وتكونوا اعز اوليائه عنده؟ هيهات: لا يخدع الله عن جنته. ولا تنال مرضاته الا بطاعته، لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له، والناهين عن المنكر العاملين به»(2)[ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ] (3) ، وبعد هذا [أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ وَ ما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَ لا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ] (4).
ندعو الله تعالى ان يجعلنا من المتمسكين بولاية النبي صلي الله عليه و آله و سلم واهل بيته والسائرين على طريقهم وان يحشرنا معهم ولا يفرق بينهم وبيننا في الدنيا والاخرة (وفي ذلك6.
ص: 184
فليتنافس المتنافسون) وعندئذٍ يحُق لنا ان نفرح بنعمة الله تعالى علينا ان شرفنا بولايتهم ومعرفة حقهم وان نعض عليها بالنواجذ وتزول الجبال ولا نزول عنها (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء).
فحقاً هم خيرٌ لنا احياءا وامواتاً، يراقبوننا عن كثب، يفرحون إذ نطيع الله فيطلبون الزيادة والاجر، ويحزنون اذ يُعصى الله فيستغفرون ويطلبون العفو والعصمة عن العود، ويتألمون لالمنا إذ تتكالب قوى الشر والبغي والعدوان لتمحو دين الله وتقضي على اهل طاعته.
ص: 185
ونجعل الكلام في جهتين بأذن الله تعالى
الجهة الاولى: علاقتهم عليهم السلام بالحكام
الجهة الثانية: علاقة الحكام بهم عليهم السلام.
ويمكن ملاحظة عدة نقاط: -
- على تعبير السيد الاول قدس سره - والوقوف في وجه المخالفات للشريعة كما عبّر عنه الامام علي عليه السلام حين صعد عمر على المنبر وتساءل عن رد الفعل لو صرف الناس عما يعرفون الى ما ينكرون فرد عليه الامام عليه السلام بكل وضوح وصراحة (إذن لقومناك بسيوفنا) وربما كان هذا الموقف من عمر لاختبار ردود الفعل وجس نبض كما يقولون قبل ان يبدأ ببعض التغييرات المهمة المخالفة علناً لكتاب الله ولسنة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم كتحريم زواج المتعة والغاء حق ذوي القربى من الخمس وغيرها(1).
وتكرر نفس الموقف للامام علي عليه السلام مع عثمان حين قال «لنأخذ حاجتنا من هذا الفيء وإن أرغمت أنوف أقوام»، فقال له علي عليه السلام «إذن تُمنع من ذلك ويحال بينك وبينه»(2).
وقد التزم بهذا الموقف اصحاب امير المؤمنين عليه السلام المخلصون واوضحهم الصحابي الجليل ابو ذر الغفاري رضى الله عنه فان مواقفه في تصحيح الانحراف في مسار الخلافة مشهورة، روى عبد الملك بن ابي ذر الغفاري، قال: بعثني امير المؤمنين عليه السلام يوم مزق عثمان المصاحف، فقال: ادعُ أباك، فجاء ابي اليه مسرعاً، فقال: يا ابا
ص: 186
ذر أتى اليوم في الاسلام امر عظيم! مزق كتاب الله، ووضع فيه الحديد، وحق على الله ان يسلط الحديد على من مزق كتابه بالحديد، قال: فقال: ابو ذر: سمعت رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم يقول: ان اهل الجبرية من بعد موسى عليه السلام قاتلوا اهل النبوة فظهروا عليه فقتلوهم زماناً طويلاً، ثم ان الله بعث فتية فهاجوا، الى غير آبائهم، فقاتلهم، فقتلوهم، وانت بمنزلتهم، يا علي فقال علي عيه السلام: قتلتني يا ابا ذر، فقال ابو ذر: اما والله لقد علمتُ انه سيبدأ بك(1).
وضمن هذا التخطيط كان صلح الامام الحسن عليه السلام مع معاوية فما كان باستطاعة الامام الحسن عليه السلام ان يقاتل بجيش مهزوز قوامه المنافقون والخوارج والمهزومون روحياً وعملاء معاوية والمتزلفون له والقليل من المخلصين ولو قاتل الامام لكان بين اثنين (أما) ان يقتل ومعه اهل بيته وشيعته وفيه القضاء على حملة الرسالة وخلو الساحة من القوام على الشريعة على ان قتل الامام يأتي بنتيجة عكسية إذ سيصبح عرضة للوم الناس فقد إدعى معاوية - وهو بعدُ لم يُفتضَح ولم تُكتشف نواياه واهدافه - إنه وعد الامام بأنه الخليفة بعده واعطاه كل ما يريد لكن الحسن - على حد قول معاوية والناس وفق هذا الفرض - ابى الا القتال فنال عاقبة بغيه وعندئذٍ يخسر الامام كل شيء.
(وإما) الاسر وعندئذٍ سيطلقه معاوية ويكون هو وآل الرسول صلي الله عليه و آله و سلم طلقاء معاوية وبذلك يسدي خدمة كبيرة لمعاوية حيث يمحو العار عنه وعن أبيه وغيرهما من طلقاء النبي صلي الله عليه و آله و سلم يوم فتح مكة وتصبح سبةً عليه وعلى ذرية الرسول صلي الله عليه و آله و سلم الى آخر الدهر، وفي خضم هذا الموقف الحرج لم يكن امام الحسن عليه السلام الا التنازل لمعاوية عن الخلافة ولكن هل تنازل دون مقابل كلا فقد أخذ عليه عهود ومواثيق وشروط وهو يعلم ان معاوية لا يفي بشيء منها ولكن الامام الحسن عليه السلام اراد ان يحول الهزيمة
ص: 187
المحتومة الى نصر ساحق فقد افتضح معاوية وظهر زيف ادعاءاته واقواله الباطلة باعترافه هو فقد خطب الناس في الكوفة عند مجيئه اليها لتسلم السلطة من الحسن عليه السلام حيث قال «إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا، إنكم لتفعلون ذلك ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وقد أعطاني الله ذلك وانتم له كارهون الا واني كنت منيت الحسن أشياءاً وأعطيته أشياءاً وجميعها تحت قدميَ لا أفي بشيء منها له»(1) وكان من شروط وعهود وثيقة الصلح على ان يسلم معاوية للحسن عليه السلام ولاية امر المسلمين وعلى ان يعمل فيهم بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الخلفاء الصالحين وان الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله وعلى ان اصحاب علي بن ابي طالب آمنون على انفسهم واموالهم ونسائهم واولادهم وعلى معاوية بذلك عهد الله وميثاقه وما أخذ الله على احدٍ من حقه بالوفاء وبما اعطى الله على نفسه وعلى ان لا يبغي للحسن بن علي ولا لاخيه الحسين عليه السلام ولا لاحد من اهل بيت رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم غائلة سراً وجهراً ولا يخيف احداً منهم في افق من الآفاق وكفى بالله شهيداً(2) ولكن معاوية - وكما أخبر هو نفسه - لم يفِ بشيء بل عمل العكس فقد قتل الامام الحسن عليه السلام بالسم وجعل ولاية العهد بالاكراه لولده الفاسق يزيد وخالف كتاب الله وسنة نبيه صلي الله عليه و آله و سلم واذا قيل له ان رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم نهى عن كذا قال أما أنا فلا ارى فيه بأساً(3).
وكتب الى عماله في الآفاق وامرهم بتتبع شيعة علي عليه السلام تحت كل حجر ومدر بالقتل والحبس والتشريد وقطع ارزاقهم وهدم دورهم ومحا اسماءهم من الدواوين وامر بسب علي عليه السلام على المنابر وتعليم الصبيان ذلك حتى اصبح سب امير المؤمنين عليه السلام سنةً لاهل الشام(4) وارتكب الموبقات وولغ في دماء صلحاء الأمة والابرار من2.
ص: 188
اصحاب النبي صلي الله عليه و آله و سلم مما سيأتي ذكره في رسالة الامام الحسين عليه السلام لمعاوية ان شاء الله تعالى في المكان المناسب حتى قال عبد الله بن عمر - وهو احد المتخاذلين عن نصرة الامام علي عليه السلام والقاعدين عن بيعته - ما ندمت على شيء كندمي على عدم قتالي الفئة الباغية مع علي عليه السلام(1) وعندئذٍ ظهر ان طلب معاوية بدم عثمان لم يكن الا وسيلة لتحقيق اغراضه اللامشروعة واطماعه الدنيئة وللتمويه على طغام اهل الشام. وبذلك مهد الامام الحسن عليه السلام لثورة الامام الحسين عليه السلام ووضع الامة امام مسؤولياتها التاريخية ووعت الامة ذلك ولكنها كانت تبحث عمن يفجر بركان الثورة فكان الامام الحسين عليه السلام ذلك المفجر فانتشرت حينئذٍ حمم البركان لتصنع ثورة المدينة والتوابين وحركة المختار في الكوفة وعبد الله بن الزبير في عددٍ من الاقطار الاسلامية وتوالت بعدها الثورات والانتفاضات.
وبذلك نفهم الترابط الوثيق بين صلح الامام الحسن عليه السلام وثورة الامام الحسين عليه السلام في تعرية السلطات المنحرفة ونجد انفسنا امام ترابط وثيق ذي حلقات متسلسلة ومتعاقبة يكمل بعضها بعضاً.
التزاماً بقول جدهم الاعظم صلي الله عليه و آله و سلم افضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر و (الحمل الثقيل لا يقوم به الا اهله) وقد تنوعت المواقف بين المواجهة الصريحة وبين التعريض والتلميح ومن تلك المواقف:
1 - لما استاثر بنو أمية بالفيئ واستبدوا بالامور في عهد عثمان واستعبدوا الناس وفيهم بقية الصحابة الاجلاء والتابعين لهم باحسان كان منادي اهل البيت عليهم السلام يقول «سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: اذا بلغ بنو أبي العاص(2) ثلاثين رجلاً اتخذوا دين الله دخلاً وعباد الله خولاً ومال الله دولاً»(3).
ص: 189
2 - رسالة الامام الحسين عليه السلام الى معاوية والتي جاء فيها: «اما بعد فقد بلغني كتابك تذكر فيه انه انتهت اليك عني امور انت لي عنها راغب وانا لغيرها عندك جدير فإنما رقاه اليك الملاقون المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الجميع وكذب الغاوون ما اردت لك حرباً ولا عليك خلافاً. واني لا اخشى الله في ترك ذلك منك ومن الاعذار فيه اليك والى اوليائك القاسطين الملحدين حزب الظلمة واولياء الشيطان، الست القاتل حجر بن عدي اخا كندة واصحابه المصلين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ويسفظعون البدع ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ولا يخافون في الله لومة لائم ثم قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما اعطيتهم الايمان المغلظة والمواثيق المؤكدة لم تاخذهم بحدث كان بينك وبينهم جرأة على الله واستخفافاً بعهده.
اولست القاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم العبد الصالح الذي ابلته العبادة فنحل جسمه واخضر لونه فقتلته بعد ما أمنته واعطيته من العهود والمواثيق ما لو فهمته العصم (العجم) لنزلت (من) رؤوس الجبال.
اولست المدعي زياد بن سمية المولود على فراش عبيد بن ثقيف فزعمت انه ابن ابيك وقد قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر، فتركت سنة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم تعمداً وتبعت هواك بغير هدىً من الله، ثم سلطته على اهل الاسلام يقتلهم ويقطع ايديهم وارجلهم ويسمل اعينهم ويصلبهم على جذوع النخل كأنك لستَ من هذه الامة وليسوا منك.
اولست صاحب الحضرميين الذين كتب فيهم ابن سمية انهم على دين علي عليه السلام، فكتبت اليه ان اقتل كل من كان على دين علي فقتلهم ومثل فيهم بأمرك ودين علي عليه السلام وهو دين ابن عمه محمد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم الذي كان يضرب عليه اباك ويضربك لترجعا عن ضلالكما، وبهذا الدين جلست مجلسك الذي انت فيه، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشم الرحلتين رحلة الشتاء والصيف، وقلت فيما قلت: انظر لنفسك ولدينك ولامة محمد صلي الله عليه و آله و سلم واتقِ شق عصا المسلمين وان تردهم الى فتنة وإني لا أعلم فتنة اعظم على هذه الامة من ولايتك عليها، ولا اعظم نظراً لنفسي ولديني
ص: 190
ولامة محمد صلي الله عليه و آله و سلم افضل من ان اجاهدك، فإنه قربة الى الله وإن تركت فإني استغفر الله لديني واسأله توفيقه لارشاد امري.
وقلت فيما قلت: ان انكرتك تنكرني وان كدتك تكدني، فكدني ما بدا لك فإني ارجو الله ان لا يضرني كيدك وان لايكون على احد اضر منه على نفسك، لانك قد ركبتَ جهلكَ وتجرأتَ على نقض عهدك ولعمري ما وفيت بشرط، ولقد نقضت عهدك بقتل هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والايمان والعهود والمواثيق ولم تفعل ذلك بهم الاّ لذكرهم فضلنا وتعظيمهم حقنا فقتلتهم مخافة امر لعلك لو لم تقتلهم متَ قبل ان يفعلوا او ماتوا قبل ان يدركوا، فأبشر يامعاوية بالقصاص واستيقن بالحساب واعلم ان لله تعالى كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا احصاها وليس الله بناسٍ لاخذك اولياءه على الظنة والتهمة ونفيهم من دورهم الى دار الغربة واخذك للناس ببيعة ابنك وهو غلام حدث يشرب الشراب ويلعب بالكلاب ما اراك الا خسرت نفسك وغششت رعيتك وسمعت مقالة السفيه الجاهل واخفت الورع التقي»(1).
ولما ادخل الامام السجاد عليه السلام وسبايا آل الرسول صلي الله عليه و آله و سلم على يزيد دار بينهما كلام فتلى يزيد - معرضاً بقتل الحسين عليه السلام الآية الكريمة «ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» فقال له الامام زين العابدين عليه السلام: يا ابن معاوية وهند وصخر لم تنزل النبوة والامرة إلاّ لآبائي واجدادي من قبل ان تولد!!! ولقد كان جدي علي بن ابي طالب في بدر واحد والاحزاب في يده راية رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم وابوك وجدك في ايديهما راية الكفر، ويلك يا يزيد لو تدري ما صنعت ومالذي ارتكبت من ابي واهل بيته لهربت في الجبال وافترشت الرماد ودعوت بالويل والثبور فابشر بالخزي والندامة اذا اجتمع الناس ليوم الحساب(2).2.
ص: 191
استدعى المنصور الامام الصادق عليه السلام يوما واجلسه الى جانبه يحادثه بكل اجلال واحترام فوقع الذباب على وجه المنصور حتى ضجر منه فقال: لم خلق الله الذباب يا ابا عبد الله، فقال الصادق عليه السلام: ليذل به انف الجبابرة فوجم المنصور ولم ينبس ببنت شفة(1) وعاتبه المنصور على قطيعته له وكان قد زار المدينة ولم يدخل عليه الامام الصادق عليه السلام فيمن زاره من الوجوه والاشراف فقال له: لم لم تغشانا كما يغشانا الناس، فاجابه الامام عليه السلام ليس لنا من امر الدنيا ما نخافك عليه، ولا عندك من امر الآخرة ما نرجوه منك، ولا انت في نعمة نهنئك بها ولا في نقمة فنعزيك. فقال له المنصور: تصحبنا لتنصحنا فرد الامام عليه السلام: ان من يريد الدنيا لا ينصحك ومن يريد الآخرة لا يصحبك(2). ويحاول المهدي العباسي ان يرد فدكا الى الامام الكاظم عليه السلام ليظهر امام الناس عدله ورفع الظلم عن آل بيت النبي صلي الله عليه و آله و سلم فرفض الامام عليه السلام قبولها ولما الح عليه المهدي قال: لا اقبلها الا بحدودها، قال: وما حدودها؟ قال: الحد الاول: عدن فتغير وجهه، والحد الثاني سمرقند، فاربد وجهه والحد الثالث افريقية فقال له المهدي والحد الرابع، قال سيف البحر مايلي الخزر وارمينية، فقال له: لم يبق لنا شيء فتحول الى مجلسي، فرد عليه الامام بقوله: لقد اعلمتك باني ان حددتها لم تردها(3) وارسل الامام الكاظم عليه السلام من سجنه الى هارون العباسي: يا هارون ما من يوم ضراءٍ انقضى عني الا انقضى عنك من السراء مثله حتى نجتمع انا وانت في دار يخسر فيها المبطلون»(4).
وكان الرضا عليه السلام - اثناء ولاية العهد - يكثر وعظ المأمون العباسي اذا خلا به ويخوفه بالله ويقبح ما يرتكبه من خلافه فكان المأمون يظهر قبول ذلك منه ويبطن
ص: 192
كراهته واستثقاله، ودخل الرضا عليه السلام يوماً فرآه يتوضأ للصلاة والغلام يصبُ على يده الماء، فقال عليه السلام: لاتشرك يا امير المؤمنين بعبادة ربّك أحدا، فصرف المأمون الغلام وتولى تمام وضوئه بنفسه وزاد ذلك في غيظه ووجده(1).
وقال الامام الرضا عليه السلام للمأمون عندما حوصر قصره وطلب من الرضا عليه السلام إقناع الناس بفك الحصار «اتق الله في امة محمد صلي الله عليه و آله و سلم وما ولاك من هذا الامر وعصبك به فإنك قد ضيعت امور المسلمين وفوضت ذلك الى غيرك يحكم فيها بغير حكم الله عز وجل»(2).
ومثله ما رواه الامام الرضا عليه السلام نفسه، قال: (قال لي المأمون: يا أبا الحسن لو كتبت الى بعض من يطيعك في هذه النواحي التي قد فسدت علينا، قال عليه السلام: قلت له: يا أمير المؤمنين، إن وفيتَ لي وفيتُ لك، إنما دخلتُ في هذا الامر الذي دخلت فيه على أن لا أأمر ولا أنهى ولا أولّي ولا اعزل وما زادني هذا الامر الذي دخلت فيه في النعمة عندي شيئاً ولقد كنت بالمدينة وكتابي ينفذ في المشرق والمغرب ولقد كنت اركب حماري وأمرّ في سكك المدينة وما بها أعزّ مني وما كان بها أحدٌ منهم يسألني حاجة يمكنني قضاؤها له الا قضيتها له، قال: فقال لي: أفي لك(3).
ومن ذلك قول امير المؤمنين عليه السلام لعثمان لما طلب منه الاخير رد الثائرين عليه واقناعهم بعدول الخليفة عن اعماله التي أثارت غضبهم: «ان الناس الى عدلك احوج منهم الى قتلك واني لارى القوم لا يرضون الا بالرضا وقد كنت اعطيتهم في المرة الاولى عهد الله لترجعن عن جميع ما نقموا فرددتهم عنك، ولم تفِ لهم بشيء من ذلك فلا تغرنني هذه المرة من شيء فإني معطيهم عليك الحق»(4). وقال عليه السلام له من كلام: (وإن شرّ الناس عند الله إمام جائر ضلّ وضُلّ به فأمات سنة مأخوذة وأحيا بدعة).
ص: 193
متروكة، وإني سمعت رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم يقول: «يؤتى يوم القيامة بالامام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر فيُلقى في جهنم فيدور فيها كما تدور الرحى ثم يرتبط في قعرها»، ثم يقول: «فلا تكوننّ لمروان سيِّقة يسوقك حيث شاء بعد جلال السن وتقضّي العمر، فقال له عثمان: «كلّم الناس في أن يؤجلّني حتى أخرج اليهم من مظالمهم، فقال عليه السلام: «ما كان بالمدينة فلا أجل فيه وما غاب فأجله وصول امرك اليه»(1).
وعندما شهد اهل الكوفة على واليهم من قبل عثمان: الوليد بن عقبة بن ابي معيط انه قد شرب الخمر وتقيأه في محراب الصلاة فنزعوا خاتمه واتوا به عثمان فاستدعاه الى المدينة وثبتت عليه الدعوى لكن أحداً لم يجرؤ على إقامة الحد عليه لانه ابن عم عثمان فأخذه الامام وأقام عليه الحد.
وذهب أربعة من أهل الكوفة بينهم ابو بكرة بن عبيد وأخوه لأمه زياد بن سمية ليشهدوا عند عمر بن الخطاب: أن واليه على الكوفة المغيرة بن شعبة رأوه يزني بامرأة تدعى ام جميل رأي العين، وقبل أن يدلوا بالشهادة قال عمر كلاماً يستشعر منه عدم رغبته بثبوت الحد على المغيرة، لكن ثلاثة منهم اصروا على الشهادة امام زياد فوصف العملية، لكنه لم يدع أنه رآه يدخل كالميل في المكحلة، فكبّر عمر ودرأ الحد عن المغيرة وجلد الثلاثة حد القذف، فلما نُفّذ فيهم أصرّ ابو بكر على إعادة الشهادة، فأراد عمر إعادة حد القذف عليه، لكن امير المؤمنين عليه السلام قال له: «إن فعلت رجمت صاحبك - يعني المغيرة -» لتمامية اربع شهادات فتراجع عمر.
رغم ان الائمة عليهم السلام كانوا يذكرون الامة باستمرار باستحقاقهم منصب ولاية الامر وان الذين تصدوا له قد تقمصوا الخلافة وهم يعلمون من هو صاحب الحق الا ان الائمة عليهم السلام لم يبخلوا بالنصح لاولئك الحكام ما داموا في اتجاههم العام مع الاسلام
ص: 194
ولم يصطدموا به بشكل سافر وان وجدت مخالفات في التفاصيل لان المهم عندهم هو رفعة الاسلام وعز المسلمين وإعلاء كلمة الله تبارك وتعالى في الارض وقد تجردوا بشكل كامل عن الانانية وشهوة الحكم والتسلط كمشورة الامام علي عليه السلام على عمر بعدم الخروج بنفسه لقتال الفرس فعندما وصل خبر اجتماع الفرس وتعاقدهم على غزو البلاد الاسلامية الى عمر فزع لذلك ثم جمع المهاجرين والانصار في مسجد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم فأطلعهم على الامر طالباً المشورة فقام جماعة من وجوه المهاجرين وتكلموا وكلهم اشاروا عليه بقيادة المعركة بنفسه فقال امير المؤمنين عليه السلام الحمد لله حتى اتم التحميد والثناء على الله والصلاة على رسوله صلي الله عليه و آله و سلم ثم قال: اما بعدُ: فإنك ان اشخصت اهل الشام من شامهم سارت الروم الى ذراريهم وان اشخصت اهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة الى ذراريهم، وان اشخصت من هذين الحرمين انتقضت عليك العرب من اطرافها واكنافها حتى يكون ما تدع وراء ظهرك من عيالات العرب اهم اليك مما بين يديك، فأما ذكرك كثرة العجم ورهبتك من جموعهم فإنا لم نكن نقاتل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله بالكثرة وإنما كنا نقاتل بالنصر، وأما ما بلغك من اجتماعهم على المسير الى المسلمين فإن الله لمسيرهم اكره منك لذلك وهو اولى بتغيير ما يكره، وإن الاعاجم اذا نظروا اليك قالوا هذا رجل العرب فان قطعتموه فقد قطعتم العرب وكان اشد لكلبهم وكنتَ قد ألبتهم على نفسك وأمدهم من لم يكن يمدهم ولكني أرى ان تقر هؤلاء في امصارهم وتكتب الى اهل البصرة فليتفرقوا على ثلاثة فرق فلتقم فرقة منهم على ذراريهم حرساً لهم ولتقم فرقة على اهل عهدهم لئلا ينتقضوا ولتسر فرقة منهم الى اخوانهم مدداً لهم، فقال عمر: اجل هذا الرأي وقد كنت احب ان اتابع عليه، وجعل يكرر قول امير المؤمنين عليه السلام وينسقه اعجاباً به واختياراً له(1).8.
ص: 195
ومن ذلك اقتراح الامام علي عليه السلام بتحديد هجرة الرسول صلي الله عليه و آله و سلم بداية للتاريخ الاسلامي والذي اصبح ساري المفعول بعدئذٍ وكانت البداية عندما جاء رجل الى عمر بن الخطاب يخاصم آخر بدين له عليه ومعه صك مكتوب فيه استحقاق اصل المال وانه يستحق في شعبان، فلما القى بصره عليه ادرك مواضع النقص وتوجه الى الدائن يسأله أي شعبان هذا؟ أشعبان هذه السنة او التي بعدها، واجابه الطرف الاخر ولكنه لم يكن يطمئن لقوله مادام كل منهما يدّعي أمراً والكتابة لم تنصّ بصراحة على تاريخ الاداء والناس يومذاك لم يكن لديهم تاريخ خاص فكان بعضهم يؤرخ بعام الفيل، وآخرون يعتمدون تاريخ الدولة المجاورة لهم فاجمع راي ابن الخطاب على ان يضع للمسلمين تاريخاً يعتمدونه في امورهم فجمع الصحابه ليقف على رأيهم في هذا الموضوع واختلفت آراؤهم في ذلك اشد الاختلاف وكادوا ان يتفرقوا بدون ان ينتهوا الى نتيجة حاسمة لولا ان علياً قد اقبل عليهم بالمعهود من رأيه السديد، واتجه اليه ابن الخطاب يسأله، فقال عليه السلام نؤرخ بهجرة الرسول صلي الله عليه و آله و سلم من مكة الى المدينة فاعجب عمر بن الخطاب برايه وهتف يقول: لازلت موفقاً يا ابا الحسن(1) ولم يكتف (عليه السلام) بهذا المقدار بل ارسل ولديه الامامين الحسن والحسين عليهما السلام وبعض اقربائه مع جيوش الفتح الاسلامي فقد شاركا (عليهما السلام) في فتوح آذربيجان وشمال افريقيا(2) وأذن لاصفيائه وخيرة اصحابه بالمشاركة معهم ونجد اسماء كبار الشيعة من الصحابة في جيوش الفتح كسلمان الفارسي وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وابي ايوب الانصاري ما دام في ذلك رفعة الاسلام وعز المسلمين.2.
ص: 196
وقد تقدمت الاشارة الى حزمهم في رفض الركون الى الظالمين وولايتهم وقد علل الامام عليه السلام ذلك بأن في (ولاية الجائر دروس الحق كله واحياء الباطل كله وإظهار الظلم والجور والفساد(1).
اما المداهنة فقد توعدوا عليهم السلام من يداهن اهل المعاصي الذين تعتبرمداهنتهم امضاءاً لانحرافهم الشخصي فكيف بمداهنة السلطات التي يكون الضرر والخطر في انحرافها عاماً. قال الامام الصادق عليه السلام من حديث «واذا رأى المنكر ولم ينكره وهو يقوى عليه فقد احب ان يُعصى الله، ان الله تبارك وتعالى حمد نفسه على اهلاك الظالمين فقال:«فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ»(2) ويقول للفضيل بن عياض: «يا فضيل والله لضرر هؤلاء على هذه الامة اشد من ضرر الترك والديلم»(3) وكانوا يرونهم كقتلة الحسين عليه السلام لانهم رضوا بفعلهم وساروا على نهجهم عن محمد بن الارقط عن ابي عبد الله عليه السلام قال: قال لي تنزل الكوفة؟ فقلت نعم، فقال: ترون قتلة الحسين عليه السلام بين أظهركم؟ قال: قلت: جعلت فداك ما بقي منهم احد، قال: فأنت اذن لا ترى القاتل الا من قتل او من ولي القتل؟ الم تسمع الى قول الله «قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» فأي رسول قتل الذين كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين اظهرهم، ولم يكن بينه وبين عيسى رسول، وانما رضوا قتل اولئك فسموا قاتلين»(4).
ص: 197
وروي انه قيل للامام موسى الكاظم عليه السلام بعد ان مكث مدة طويلة في حبس هارون: لو كتبت الى فلان ليكلم هارون فيك فقال عليه السلام: حدثني ابي عن آبائه ان الله اوحى الى داود انه ما اعتصم عبد من عبادي بأحدٍ من خلقي دوني الا قطعت عنه اسباب السماء واسخت الارض من تحته»(1).
وعندما فكر المأمون العباسي في اعطاء المشروعية لحكومته من خلال اعطاء الامام الرضا عليه السلام ولاية العهد رفض الامام عليه السلام باصرار لانه عليه السلام يعلم بالنوايا الحقيقية للمأمون وان تظاهر بحسن النية وأعادة الحق الى اهله لكن المأمون هدده بالقتل ان لم يقبل وقال له: «انك تتلقاني أبداً بما اكرهه وقد امنت سطوتي فبالله اقسم لئن قبلت ولاية العهد والا اجبرتك على ذلك فإن فعلت والا ضربت عنقك»(2).
وقبل الامام عليه السلام ولاية العهد بعد ان اتضح للجميع رفضه لهذه المؤامرة المفضوحة وكشف زيفها حين اشترط على المأمون ان لا يأمر ولا ينهي ولا يعزل أحداً ولا يولي أحداً»(3).
وقد مرت الاشارة الى هذه النقطة ضمن الفصل الاول واشار السيد الشهيد الصدر الاول قدس سره في المتن الى موردين منها عجز عبد الملك بن مروان عن الاجابة على كتاب ملك الروم بكتاب في مستواه فملأ الامام زين العابدين هذا الفراغ واجاب بالشكل الذي يحفظ للدولة كرامتها وللامة الاسلامية هيبتها ومن قبله ما تقدم ص 72 من عجز معاوية عن اجابة اسئلة ملك الروم فارسل رجلاً متخفياً الى امير المؤمنين متظاهراً انه من جنده عليه السلام فلم يبخل عليه الامام عليه السلام بالاجوبة الشافية.
ص: 198
والمورد الاخر الذي ذكره السيد قدس سره في المتن هو انقاذ الدولة الاسلامية من تحدٍ كافر يهدد سيادتها كالتحدي الذي واجهه هشام من الروم وعجز عن الرد عليه وكان الامام الباقر عليه السلام في مستوى الرد على هذا التحدي فخطط للاستقلال النقدي.
وذكرنا هناك امثلة عديدة وهي تكشف عن الامامة الحقيقية التي تشعر بالمسؤولية تجاه الامة وكيان الدولة الاسلامية في حين كان كل ما يهم السلطات الحاكمة الاموية والعباسية هو تثبيت سلطتهم وتكريس استبدادهم ويتحركون بمقدار احساسهم بالخطر على ملكهم بحيث ان هارون العباسي يقول لولده المأمون ان الملك عقيم ولو نازعتني فيه لاخذت الذي فيه عيناك.
ولكي يتم تعرية جرائم الحكام بشكل كامل ويُكشف عن زيفهم كان الائمة عليهم السلام لا يعطون أي ذريعة للحكام لكي يقنعوا الامة في تبرير افعالهم الاثيمة عند النيل من الائمة عليهم السلام او اصحابهم فكانت مظلومية الائمة عليهم السلام واضحة ويمكن ملاحظة عدة منبهات في هذه النقطة:
1 - رغم ان كل الثورات الاصلاحية التي كانت تنفجر في وجه السلطات الحاكمة كانت تنطلق من تعاليم اهل البيت في رفض الظلم والطغيان والاستبداد والثورة عليه ووجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والاصلاح بكل الوسائل حتى المواجهة المسلحة بحيث ان الامام عليه السلام كان يقول «لوددت ان الخارجي يخرج من آل محمد وعليّ نفقة عياله» الا ان السلطات التي قمعت تلك الثورات بقساوة لم تستطع ان تحصل على أي دليل يثبت ارتباط الائمة عليهم السلام بهم حتى اشد القادة قسوة كمسلم (الذي سموه بعدئذٍ مجرم) ابن عقبة المري الذي قاد جيش يزيد بن معاوية لقمع ثورة الصحابة والتابعين في المدينة وابادهم في واقعة الحرة واستباح نفوسهم واعرافهم واموالهم لم يستطع ان يمس الامام السجاد عليه السلام بسوء.
2 - اعلان الائمة عليهم السلام ما يشعر تنصلهم من تلك الثوراة وعدم تأييدهم لها كالاخبار عن انتهائها بقتل اصحابها وعدم الجدوى منها بمعنى عدم قدرتها على ازالة
ص: 199
الحكام المعاصرين لكن الثوار يعلمون ان الهدف الذي يريدونه هو ايقاظ الامة وشحذ همتها وابقاء جذوة الحق في نفوسهم والاصلاح والامر بالمعروف والنهي عن المنكر اما ازالة الحاكم وغيرها من النتائج فهي بيد الله تعالى مسبب الاسباب ومنتج النتائج فلم يكونوا يفهمون هذا الموقف من الائمة عليهم السلام بإخبارهم بمقتلهم مانعاً منهم عليه السلام عن الثورة بل هو الى التعاطف معهم اقرب كما تشهد الرواية بوقوف الامام الصادق عليه السلام يبكي وهو يرى جلاوزة المنصور يركبون بني عمه من ذرية الامام الحسن عليه السلام ورسالته عليه السلام الى بني الحسن في السجن رغم انه عليه السلام بين لهم هذه النتائج في الاجتماع الذي عقده الهاشميون من علويين وعباسيين قبيل انهيار الدولة الاموية وكان من بين الحضور الامام الصادق عليه السلام وعبد الله المحض شيخ بني الحسن عليه السلام وابو جعفر المنصور وطالبوا بمبايعة محمد النفس الزكية بن عبد الله المحض فأخبرهم الامام عليه السلام بمقتله وان الخلافة ستصل الى ابي جعفر فلم يفهم الثوار إذن هذا الكلام من الامام مانعاً عن حركتهم وان بدا هكذا امام الحكام.
3 - عدم الاحتفاظ باي وثيقة او رسالة تتصل بشؤون السلطة او سلاح وكانت قوات السلطة تداهم باستمرار دور الائمة ويطالب الحاكم بان يفتش بيت الامام وياتي به على الهيئة التي يجده عليها جلاوزته فلا يجدون في الدار غير المصلاة والمصحف والمطهرة.
وقد تصل درجة التقية بالامام عليه السلام حينما تكون الكلمات مكتوبة خشية وقوعها بيد السلطات - أن يطلب من الثائر العلوي إنهاء ثورته والدخول في طاعة الخليفة كما كتب الامام الكاظم عليه السلام الى يحيى بن عبد الله صاحب الديلم ومما جاء فيه: (وانا متقدم اليك احذرّك معصية الخليفة واحثّك على برّه وطاعته وأن تطلب لنفسك أماناً قبل ان تأخذك الاظفار ويلزمك الخناق من كل مكان فيؤمنك ويرحمك ويحفظ فيك أرحام رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم).
ص: 200
يقول الرواي: فبلغني أن كتاب موسى بن جعفر عليه السلام وقع في يدي هارون فلما قرأه قال: الناس يحملوني على موسى بن جعفر عليه السلام وهو برئ مما يرمى به(1).
وقد فهم اصحاب الائمة عليهم السلام المقربون والمعروفون لدى الامة بانهم يمثلون الخط العام لتوجّهات الامام عليه السلام هذا المعنى فابتعدوا عن المشاركة الفعلية في الثورات المسلحة وبارك الامام عليه السلام لهم هذا الموقف، يروي ابو جعفر الاحول وهو من كبار اصحاب الامام الصادق عليه السلام والدعاة اليه قال: إن زيد بن علي بن الحسين بعث اليه وهو مستخفٍ قال: فأتيته فقال لي: يا ابا جعفر، ما تقول إن طرقك طارق منا أتخرج معه؟ قال: فقلت له: إن كان أباك أو أخاك خرجت معه، قال: فقال لي: فأنا اريد أن أخرج أجاهد هؤلاء القوم فاخرج معي قال: قلت لا ما أفعل جُعلت فداك، قال: فقال لي: أترغب بنفسك عني، قال: قلت له: إنما هي نفس واحدة فإن كان لله في الارض حجة فالمتخلف عنك ناج ٍ والخارج معك هالك، وإن لا تكن لله حجة في الارض فالمتخلف عنك والخارج معك سواء، قال: فقال لي: يا ابا جعفر: كنت أجلس مع أبي على الخوان فيلقمني البضعة السمينة ويبرد لي اللقمة الحارة حتى تبرد عليّ شفقة عليّ ولم يشفق عليّ من حر النار إذ أخبرك بالدين ولم يخبرني به، فقلت له: جُعلت فداك من شفقته عليك من حر النار لم يخبرك، خاف عليك ان لا تقبله فتدخل النار وأخبرني أنا فإن قبلتُ نجوتُ وإن لم أقبل لم يبالِ أن أدخل النار، ثم قلت له: جعلت فداك أنتم افضل ام الانبياء؟ قال: بل الانبياء، قلت: يقول يعقوب ليوسف عليهما السلام يا بني لا تقصص رؤياك على اخوتك فيكيدوا لك كيداً، لِمَ لم يخبرهم حتى لا يكيدونه؟ ولكن كتمهم ذلك فكذا ابوك كتمك لأنه خاف عليك، قال: فقال: اما والله لئن قلت ذلك لقد حدثني صاحبك بالمدينة، أنّي أقتل وأصلب بالكناسة وأن عنده الصحيفة فيها قتلي وصلبي، فحججتُ فحدّثت ابا عبد الله عليه السلام بمقالة زيد وما قلت9.
ص: 201
له، فقال لي: أخذته من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوق رأسه ومن تحت قدميه ولم تترك له مسلكاً يسلكه(1).
وبسبب هذا السلوك الاجرامي الغليظ والقاسي الذي تعامل به الحكام مع الائمة عليهم السلام فقد كانوا عليه السلام حذرين ومتيقظين لألاعيب الحكام وشراكهم التي كانوا ينصبونها للائمة عليهم السلام لايقاعهم في قفص الاتهام حيث كانوا مراقبين من قبل اجهزة السلطة وتحصى عليهم كل حركاتهم وسكناتهم وربما استدعي احدهم عليهم السلام عدة مرات للتحقيق فقد استدعي الامام الصادق عليه السلام نحو ثمان مرات الى المنصور وفي احداها ارسل اليه محمد بن الربيع وامره ان ياتي به عليه السلام على الحالة التي يجده بها، قال محمد بن الربيع: لقد دخلت عليه الدار فوجدته يصلي ولما فرغ من صلاته قلت له: اجب امير المؤمنين، فقال: دعني البس ثيابي فقلت: ليس الى تركك من سبيل لاني مأمور ان احملك على الحالة التي تكون عليها، فجئت به على حالته وادخلته على المنصور وهو حاقد عليه فلما نظر اليه قال يا جعفر اما تدع حسدك وبغيك على اهل هذا البيت من بني العباس، وما يزيدك ذلك الاشدة الحسد، ولستَ ببالغ ما تقدره، ثم قال: هذه كتبك الى اهل خراسان تدعوهم الى نقض بيعتي وان يبايعونك دوني وضرب يده على السيف فسلَ منه مقدار شبر ثم رده وقال: يا جعفر اما تستحي مع هذه الشيبة وهذا السن ان تنطق بالباطل وتشقّ عصا المسلمين اتريد ان تريق الدماء وتثير الفتنة بين الرعية، فقال الامام: والله ما فعلت ولا هذه كتبي ولا خطي ولا خاتمي وما زال يحلف له ويتبرّأ مما نسب اليه حتى سكن المنصور وقال: اظنك صادقاً»(2).
وكتب والي المدينة من قبل المتوكل العباسي اليه يحذره من وجود الامام الهادي عليه السلام في المدينة وان الامام يجمع الرجال والسلاح للثورة عليه فارسل المتوكل قائده يحيى بن هرثمة وقوة عسكرية واوصاهم بتفتيش الدار تفتيشاً دقيقاً، يقول ابن هرثمة: ثم دخلت منزله وفتشته كما امرني المتوكل فلم اجد فيه الا مصاحف وادعية وكتب5.
ص: 202
العلم(1) وبعد فرض الاقامة الجبرية عليه في سامراء سعى احد المرتزقة بالإمام الى المتوكل وقال: ان عنده اموالاً وسلاحاً فأمر المتوكل سعيد الحاجب ان يهجم عليه ليلاً ويأخذ ما عنده من الاموال والسلاح ويقول سعيد: فذهبت الى دار ابي الحسن بالليل ومعي سلم فصعدت على السطح ونزلت من الدرجة الى بعضها في الظلمة فلم ادر كيف اصل الى الدار فناداني ابو الحسن عليه السلام ياسعيد مكانك حتى يأتوك بشمعة، فلم البث ان اتوني بشمعة فنزلت ووجدت عليه جبة صوف وقلنسوة من صوف وسجادته على حصير بين يديه وهو مقبل على القبلة فقال لي: دونك البيوت فدخلتها وفتشتها فلم اجد فيها شيئاً(2).
وبعد اتضاح صورة الحصار والمراقبة التي فرضت عليه نعرض بعض المواقف التي تدل على يقظتهم وحذرهم في التعامل مع الحكام:
1 - حاول المنصور ان يلصق تهمة قبض الاموال والاستعداد للثورة بالامام الصادق عليه السلام وجماعة من اهل بيته ليكون مبرراً للقضاء عليهم فقال لمحمد بن الاشعث: يا محمد ابغ لي رجلاً له عقل يؤدي عني، فقال له محمد: اني اصبته لك هذا ابن المهاجر خالي، قال: فائتني به، فلما أتاه، قال له ابو جعفر المنصور: يا ابن المهاجر خذ هذا المال وائت المدينة واقصد عبد الله بن الحسن وجعفر بن محمد وعين جماعة من العلويين غيرهما وامره ان يدفع اليهم المال ويقول لهم بأنه من شيعتهم في خراسان فأذا قبضوا المال فقل اني رسول واحب ان يكون معي خطوطكم بقبضكم ما قبضتم، فأخذ المال وذهب الى المدينة ثم رجع الى ابي جعفر المنصور فقال: ما وراءك؟ قال: اتيت القوم وهذه خطوطهم بقبضهم خلا جعفر بن محمد فأني اتيته وهو يصلي في مسجد النبي صلي الله عليه و آله و سلم فجلست خلفه وقلت ينصرف فأذكر له ما ذكرت لاصحابه فتعجل وانصرف فتبعته والتفت الي وقال: يا هذا اتق الله ولا تُغرِ اهل بيت محمد فانهم قريبو العهد من دولة بني مروان وكلهم محتاج، قلت له: وما ذاك اصلحك الله؟ فأدنى راسه2.
ص: 203
مني واخبرني بكل ما جرى بيني وبينك فقال المنصور: يا ابن المهاجر اعلم انه ليس من اهل بيت نبوة الا وفيهم محدث وان جعفر بن محمد محدثنا اليوم(1).
2 - وكانت تجبى الاموال الطائلة الى الائمة عليهم السلام من مختلف الاصقاع الاسلامية وكان الاحتفاظ بها في بيت الامام يشكل خطراً عليه وفرصة لاتهامه فكان الامام يوزعها على اصحابه ويحول المستحقين اليهم او يتصرفون فيها بإذنه فقد اودع الامام الكاظم عليه السلام عند علي بن ابي حمزة البطائني (ثلاثين) الف دينار وزياد بن مروان القندي سبعين الف دينار وعثمان بن عيسى الرواسي ثلاثين الف دينار واحمد بن ابي بشر السراج عشرة الاف دينار وعند غيرهم كثير، قال يونس بن عبد الرحمن «مات ابو الحسن موسى بن جعفر عليه السلام وليس من قومه احد الا وعنده المال الكثير»(2).
3 - عن احد الشيعة من سجستان قال: رافقت ابا جعفر الجواد عليه السلام في السنة التي حجَ فيها في اول خلافة المعتصم فقلت وانا معه على المائدة وهناك جماعة من اولياء السُلطان: إن والينا جعلت فداك رجل يتولاكم اهل البيت ويحبكم وعلي في ديوانه خراج فإن رأيت جعلت فداك أن تكتب اليه كتاباً بالاحسان اليَ فقال عليه السلام: لا اعرفه، ثم كتب له بصيغة تصون الوالي من التلبس بتهمة محبة اهل البيت عليهم السلام وبالتالي قتله وحرمان الناس من فضله وخيره خصوصاً مع وجود اولياء السلطان على المائدة.
4 - بسبب تضييق الخناق الذي اتبعه الحكام مع الائمة عليهم السلام فقد كان الاتصال بهم عليهم السلام مباشرة في غاية الصعوبة والخطورة لذا كانت العلاقة بين الامام وشيعته تجري عن طريق المكاتبة والرسائل ويبدو ان عدد الرسائل وصل الى حد يثير شبهة اجهزة السلطة المراقبة للامام فكتب الامام الهادي عليه السلام الى احد شيعته وقد سأله عن الفطرة2.
ص: 204
وتفاصيل احكامها: الفطرة قد كثر السؤال عنها وانا اكره كل ما ادى الى الشهرة فاقطعوا ذكر ذلك واقبض ممن دفعها وامسك عمن لم يدفع(1).
5 - مرض المتوكل فنذرت امه ان تهدي عشرة الاف دينار الى الامام الهادي عليه السلام ان عوفي ابنها فتحقق لها ذلك بدواء وصفه عليه السلام بنفسه للمتوكل فأرسلت اليه بدرة فيها المبلغ المذكور ولما علم احد المتملقين وشى بالامام واخبر المتوكل ان الامام يجمع المال ويعد العدة للثورة عليه فأرسل المتوكل من يكبس الدار على الامام ويفتشه ولم يعثر الا على البدرة فحملها الى المتوكل فوجد خاتم امه عليها فأخبرته فردها الى الامام عليه السلام ولولا ان الامام احتفظ بختم المتوكل على المال لحدث ما لا تحمد عقباه.
كان الحكام ينفذون كل ما يعتقدون انه ضروري لحفظ سلطتهم ولا يهمهم بعد ذلك مصير الرسالة ولا الأمة بل قد يفعلون ما ينافي الشريعة اذا كان ذلك يحقق اهدافهم من خلال بث الفرقة او تمييع العقيدة والاخلاق التي ترفض ظلمهم وطغيانهم فمثلاً شعر الامويون بقوة وهيبة الحرمين الشريفين مكة والمدينة وتوجه افئدة المسلمين اليها لقدسيتها اولاً ولوجود بقية الصحابة والتابعين فيها والاهم من ذلك وجود اهل بيت النبوة فحاولوا اضعاف هذه القوة بعدة اساليب احدهما تشجيع الفسقة والعابثين ومجالس اللهو والمجون بحيث ان القرن الاول الهجري لم ينته بعد وشاعر الغناء والخلاعة عمر بن ابي ربيعة المخزومي يتسكع في الشوارع وتتحلق حوله مجموعة من الفاسقات ويحيي مجالس اللهو والطرب غير ما يفعل الحكام انفسهم في قصورهم فكان رد الائمة عليهم السلام حازماً حيث حرموا الغناء والحضور في مجالسه وقالوا عليهم السلام (ان الغناء ينبت النفاق ويورث الفقر(2) وقاموا بتحذير المغنين والشعراء
ص: 205
المتهتكين(1) ، كما انهم عليهم السلام بثو المواعظ والدعاء والخوف من عقاب الله تعالى والتذكير بالآخرة وكذا حاول الحكام افساد المجتمع عموماً بنشر ادواته وزيادة فرصه وتقليص فرص الدعوة الى الله تعالى او تمييعها واشاعوا شرب الخمور بل حاول بعضهم استصدار فتوى شرعية بعدم حرمتها كما يظهر من محاولة المهدي العباسي مع الامام موسى بن جعفر عليه السلام فقد روى علي بن يقطين قال: سأل المهدي ابا الحسن عليه السلام عن الخمر هل هي محرمة في كتاب الله فان الناس يعرفون النهي عنها ولا يعرفون التحريم لها، فقال له ابو الحسن: بل هي محرمة في كتاب الله يا امير المؤمنين، فقال له: في أي موضع محرمة هي في كتاب الله جل اسمه يا ابا الحسن؟ فقال: قول الله عز وجل:[قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ] (2) فاما قوله: ماظهر: يعني الزنا المعلن.. الى ان قال: واما الاثم فانها الخمر بعينها وقد قال عز وجل في موضع آخر (ويسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما اثم كبير ومنافع للناس) فاما الاثم في كتاب الله فهي الخمر والميسر واثمهما كبير كما قال الله عز وجل، فقال المهدي: يا علي بن يقطين فهذه فتوى هاشمية، قال: قلت له: صدقت والله يا امير المؤمنين، الحمد لله الذي لم يخرج هذا العلم منكم اهل البيت، قال: فوالله ما صبر المهدي إن قال لي: صدقت يا رافضي(3).
فهذا هو الشكل الاول من اشكال المواجهة والرد الايجابي وهو المنع المباشر وهناك شكل ثانٍ غير مباشر لكنه يزيل هذه المفاسد من اساسها وذلك باشاعة الفضائل الخلقية والسلوك الاسلامي الاصيل وتبوء مكان الاقتداء في المجتمع من خلال الوصايا والنصائح الذهبية التي لا يوازي الواحدة منها مليء الارض ذهبا ولو ضربت اليها آباط الابل لكانت جديرة به حيث كانوا يجسدونها عمليا في سيرتهم بين الناس حيث كانوا لا يامرون بامر الا كانوا اول المبادرين اليه ولا ينهون عن شيء الا كانوا3.
ص: 206
اول المنتهين عنه(1) وهم بذلك يعكسون صورة الاسلام النقية بعد ان شوهتها السلطات المنحرفة واذنابها باعماله المنافية لتعاليم الاسلام التي هي على طرفي نقيض معه وكشفوا بذلك زيفها فنمى بذلك وعي لدى الامة بان امامتها الحقيقية في المدينة المنورة فالقت زمامها اليهم وبدأت لا تعير تلك الحكومات اذنا صاغية في كل ما يتعلق بالاسلام وتعاليمه وقد مر قول سفيان الثوري «الملك في الشام والخلافة في المدينة» ومن تلك المؤامرات التي نفذتها السلطات بث الفرقة بين صفوف الامة من خلال تفضيل قبيلة كقريش على غيرها وقومية كالعربية على غيرها الذين يسمون بالموالي وشريحة كالمهاجرين والانصار في العطاء على غيرهم فيقول بعض الامويين (انما هذا الفيء بستان قريش) رغم ان الحكم الشرعي واضح بان الفيء ملك للمسلمين جميعا وكانوا يستهجنون زواج العرب من الموالي او تزويجهم كما توحي بعض مراسلات الحكام الامويين الى الامام السجاد عليه السلام ورده عليهم(2) فتزوجوا من الموالي وزوجوهم وهم اشرف الخلق مما ادى الى تذويب هذه الحالة الجاهلية ولما سئل امير المؤمنين عن مساواته بالعطاء بين المهاجرين والانصار وغيرهم خلافا لما فعله السابقون قال عليه السلام «لو كان المال مالي لقسمته بالسوية فكيف والمال مال الله» وقال عليه السلام في مناسبة اخرى: «اني فتشت في كتاب الله فلم اجد فيه فضلا لاحد من ولد آدم على غيره».
وحاول الحكام تغيير الشريعة بما يوافق رغباتهم فبثوا العلماء الذين يدورون في فلكهم الذين كانوا يفتون بما ينسجم مع ذوق السلطات فواجه الائمة عليهم السلام هذه الحركة بعدة اشكال:
1 - بث الفقهاء المخلصين والاشادة بهم وتوجيه الناس عليهم.ه.
ص: 207
2 - جعل موافقة الفقهاء العامة مانعا عن قبول الفتوى التي تنسب اليهم عليهم السلام اذا عارضتها فتوى اخرى لا توافقهم فجعل مخالفة العامة مرجحا لقبول الفتوى عند التعارض.
3 - الوعيد بالعذاب الاليم في الآخرة لمن يفتي بغير علم او يقضي بين الناس وهو ليس اهلا حتى لو اصاب الواقع او يجامل السلطة في الفتوى ونحوها لان خطرمثل هؤلاء العلماء عظيم لانهم وسيلة مؤثرة في اضلال الناس. وقد تقدم في الفصلين السابقين كلمة الامام السجاد عليه السلام الى محمد بن شهاب الزهري وغيرها.
ولا ننسى محاولات الحكومات لتبديل مظاهر المجتمع المسلم الى مجتمع جاهلي لا يعرف حتى اهم الواجبات الاسلامية. يقول السيد الخوئي قدس سره - بعد أن بيّن وجوب الخمس في مطلق ما يستفيده الانسان حتى من ارباح تجارته وذكر الادلة من كتبهم العامة عليه لكن ذكر الموانع التي حالت دون وصول الاحكام الينا بوضوح - قال قدس سره: (وقد تخلّل بيننا عصر الامويين الذين بدّلوا الحكومة الاسلامية حكومة جاهلية ومحقوا أحكام الدين حتى ان كثيراً من الناس لم يعرفوا وجوب الزكاة الثابت بنصّ القرآن كما يحكيه لنا التاريخ والحديث، بل في صحيح ابي داود وسنن النسائي: أن اكثر اهل الشام لم يكونوا يعرفون أعداد الفرائض وعن ابن سعد في الطبقات: ان كثيراً من الناس لم يعرفوا مناسك حجهم.
وروى ابن حزم عن ابن عباس أنه خطب في البصرة وذكر زكاة الفطرة وصدقة الصيام فلم يعرفوها حتى أمر من معه أن يعلم الناس(1).
وقد كانت تثير السلطات المشاكل الفكرية والاجتماعية والاخلاقية لتحصيل عدة اغراض:
1 - اشغال العلماء والمفكرين ونخبة المجتمع بهذه المشاكل الهامشية من خلال التفكير بها ومناقشتها والرد عليها مما يقلل اهتمامهم بالمشاكل والقضايا المصيرية التي7.
ص: 208
تهدد كيان الامة كالظلم والاستبداد وضياع المبادئ والقيم ومصادرة الحقوق والحريات.
تمزيق وحدة صف المسلمين وبث الفرقة بينهم حيث يتبنى كل قوم بعض هذه الرؤى والاطروحات ويخاصم الاخر الى حد القتال بالسلاح وازهاق الانفس وتلف الاموال مما يؤدي الى اضعاف الجميع وتبقى قوة الحاكم هي المسيطرة ولا تخاف قوة الجماهير التي قوامها الوحدة.
ايجاد المبررات لافعالها من خلال بعض الافكار كنظرية الجبر والارجاء وقد تقدمت الاشارة اليها.
عن انحرافهم وطغيانهم وبعث الهمة والارادة في نفوس الامة فقد اعلن الامام الحسين عليه السلام ثورة مسلحة في وجه يزيد ابن معاوية رغم قلة العدد وخذلان الناصر وعندما سئل الامام السجاد عليه السلام عن مشروعية حركة المختار الثقفي في الكوفة للثأر من الامويين وقتلة الحسين عليه السلام قال الامام السجاد عليه السلام لو ان عبداً حبشياً دعا الى هذا الامرلوجبت نصرته) وقد بالغ الائمة عليهم السلام في الثناء على زيد بن علي السجاد وخروجه غضباً لله ولرسوله وطلباً لارجاع الحق الى اهله وقد قال الامام الرضا مثل هذه الكلمات في وجه المأمون العباسي بكل شجاعة وقد تقدمت في المتن وقد لخص الامام الصادق عليه السلام هذه الرغبة وهذا التأييد بقوله عليه السلام (لوددت ان الخارجي - أي الذي يخرج ضد الحكام - يخرج من آل محمد صلي الله عليه و آله و سلم وعلي نفقة عياله) وعندما جاءه علي بن الحسين الحسني صاحب فخ وشهيدها ليعلمه بعزمه على الثورة ودعه الامام عليه السلام وهو يبكي وقال له (أحِدَّ السيف فأن القوم فساق(1).
ص: 209
لا يخفي الحكام اعترافهم باستحقاق الائمة عليهم السلام لهذا الموقع وانما تقمصوه هم بشكل او بآخر وقد تقدمت كلمات أجيال منهم كعمر بن الخطاب الذي يقول لابن عباس: والله ان صاحبك - يعني علياً عليه السلام - لاولى الناس بالامر بعد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم الا اننا خفناه على اثنتين خفناه لحداثة سنه ولحبه لبني عبد المطلب. وقال: اما والله لو وليها علي بن ابي طالب لحملهم على المحجة البيضاء والحق الواضح(1) - وقال عمر بن عبد العزيز وقد سأل جلاسه من أشرف الناس فقال: اشرف الناس هذا القائم من عندي - يعني الامام السجاد عليه السلام - آنفاً، من احب الناس ان يكونوا منه ولم يحب ان يكون من احد)(2) وقال المنصور «اعلموا انه ليس من اهل بيت نبوة الاّ وفيهم محدث وان جعفر بن محمد محدثنا اليوم»(3) (وقد ذكر السيد قدس سره في المتن كلمة هارون العباسي ومع كل ذلك ورغم ان الائمة عليهم السلام لم يعلنوا ثورة مسلحة ضد الامويين والعباسيين عدا ثورة الامام الحسين عليه السلام الا ان الحكام كانوا يتخذون اساليب ضد الامام عليه السلام وقد ذكر منها السيد قدس سره في المتن (تطويق امام الوقت بحصار شديد ووضع رقابة محكمة عليه ومحاولة فصله عن قواعده الشعبية ثم التآمر على حياته ووفاته شهيداً بقصد التخلص من خطره) تم تساءل قدس سره (فهل كان من الصدفة او مجرد تسلية ان تتخذ الزعامات المنحرفة كل هذه الاجراءات تجاه أئمة اهل البيت عليهم السلام بالرغم من انها تكلفها ثمناً باهضاً من سمعتها وكرامتها او كان كل ذلك نتيجة لشعور الحكام المنحرفين بخطورة الدور الايجابي الذي يمارسه ائمة اهل البيت عليهم السلام والا فلماذا كان هذا القتل والتشريد والنفي والسجن).
ص: 210
ويمكن استخلاص عدة اسباب تدفع السلطات لممارسة هذه الجرائم الوحشية بحق الائمة عليهم السلام:
1 - التباين الكبير بين سلوك الائمة عليهم السلام ونفسياتهم والمبادئ التي يؤمنون بها ويعملون لتحقيقها وبين ما يقابلها عند تلك الحكومات فنفسية الائمة تميزت بالعصمة والقداسة واخلاقهم ترجمة عملية للقرآن واستنساخ لسنة جدهم صلي الله عليه و آله و سلم اما اولئك فهم ظلمة طغام همهم التكبر والاستعلاء والاستبداد والبطش بمن تشم منه رائحة عدم الرضا على سلوكهم وبينما كان الائمة عليهم السلام يعرضون الصورة المشرقة للاسلام الاصيل فكراً وتطبيقاً كان اولئك بتصرفاتهم الشائنة واعمالهم القبيحة المنكرة ينفرون الناس عنهم فلم يكونوا يلتقون على شيء لان الائمة عليهم السلام في قمة الكمال وهم في حضيض الفساد والانحراف والانصياع للشهوات فوجود الائمة عليهم السلام كان حرباً عليهم وان لم يعلنوها وهي حرب الحق والباطل وحرب الخير والشر حرب اعداء الاسلام - وان تسموا به - مع الاسلام «وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لاَ النَّصارى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ» حرب الرذيلة على الفضيلة.
2 - ايمان عدد كبير من الناس بامامتهم وحقهم الشرعي في تسلم الحكم ونظرهم الى اولئك الحكام على انهم غاصبون لحق الائمة عليهم السلام وهو وتر حساس في نفوس الحكام كان يدق عليه كل من تسول له نفسه التزلف لهم وارضاء حقدهم بالوشاية بهم عليهم السلام فهذا علي بن اسماعيل بن جعفر الصادق عليه السلام (وقيل اخوه محمد) طمع في جائزة هارون فوشى بعمه موسى عليه السلام ودخل على هارون وقال: ما ظننت ان في الارض خليفتين حتى رايت عمي موسى بن جعفر يُسلم عليه بالخلافة(1) وقال عندما سأله عن عمه: خليفتان في عمر واحد عمي موسى بن جعفر في الحجاز وانت يا امير المؤمنين وقد تركت الناس تسلم عليه بالخلافة(2) وقال عيسى بن جعفر لهارون العباسي حين توجه من الرقة الى مكة: اذكر يمينك التي حلفت بها في آل ابي طالب2.
ص: 211
فانك حلفت ان ادعى احد الامامة بعد موسى بن جعفر ان تضرب عنقه صبرا وهذا علي ابنه يدعي هذا الامر ويقال له ما يقال في ابيه فنظر اليه هارون مغضباً وقال: ماتريد اتريد ان اقتلهم جميعاً(1).
وكان يردد هذه النغمة كل الحكام الذين يريدون اتهام الائمة عليهم السلام زوراً وبهتاناً تمهيداً للقضاء عليهم وقد تقدم كلام ابي جعفر المنصور مع الامام الصادق عليه السلام ونحوه ما روي عن الامام الكاظم عليه السلام، انه قال: لما أدخلت على الرشيد سلمت عليه فردّ عليّ السلام ثم قال: يا موسى بن جعفر خليفتان يجبى اليهما الخراج؟ فقلت: «يا أمير المؤمنين: أعيذك بالله أن تبوء بإثمي وإثمك فتقبل الباطل من أعدائنا علينا، فقد علمت بأنه قد كذب علينا منذ قبض رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم»(2).
لذلك لم يسمح احد من اولئك الحكام ان يرى غيره يدعى له بالامامة وهو شعور بعقدة الحقارة - في مصطلح علماء النفس - تجاه الائمة الحقيقيين لانهم قبل غيرهم يعترفون بامامة اهل البيت عليهم السلام الشرعية لذلك اخذوا يحاربونها بكل ما اوتوا من قوة.
3 - فشل جميع المؤامرات التي تستهدف ازالة المكانة القدسية التي يتحلون بها في انظار الناس خصوصاً في مسألتي العصمة والاعلمية بل على العكس كان الفقهاء والعلماء من مختلف الملل والنحل اول من يذعن لهم او يعترف بتفوقهم البعيد وكانوا يرون فيهم عليهم السلام الامتداد الشرعي لرسول الله صلي الله عليه و آله و سلم والاحق بمقامه وكثيراً ما كانوا يرددون (الله اعلم حيث يجعل رسالته) مما سياتي ذكره ان شاء الله تعالى ولم يبق امام الحكام الا استعمال الاساليب الاجرامية والقضاء عليهم عليهم السلام.
4 - الصفات الذاتية للحكام كالحقد المتأصل في نفوسهم على علي عليه السلام وولده وقد قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم يا علي لا يحبك الا مؤمن ولا يبغضك الا منافق(3) وتعدى حقدهم الحدود المعقولة الى نبش القبور وصلب أجساد الشهداء ورضها حدث هذا8.
ص: 212
للامام الحسين عليه السلام والشهداء من اصحابه حيث احتزت رؤوسهم ووطئت الخيل أجسادهم، ودُفن زيد الشهيد في مجرى نهر حتى لا يصلب أو يحرق ولكنهم عرفوا به بعد ذلك فأخرجوه ومثلوا به وارسلوا رأسه الى الشام ومنها الى المدينة واما جسده فبقي مصلوباً خمسين شهراً كما جاء في مروج الذهب وغيره ولما جاء عهد الوليد بن يزيد بن عبد الملك كتب الوليد الى عامله على الكوفة: أن يحرقه بخشبته ففعل به ذلك(1). وقام المتوكل باغراق قبر الحسين عليه السلام وحرثه وفرض عقوبات على زائريه حتى قال الشاعر:
تالله إن كانت امية قد أتت *** قتل ابن بنت نبيها مظلوما
فلقد أتته بنو أبيه بمثله فغدا لعمرك قبره مهدوما
أسفوا على ان لا يكونوا شاركوا في قتله فتتبعوه رميما(2)
وكان الحسد يأكل قلوبهم وهم يرون شعبية الائمة عليهم السلام وجماهيريتهم وتفاني الناس في حبهم مما آثار حفيظتهم ودفعهم الى الانتقام منهم عليهم السلام هذا غير الفرق الشاسع - الذي تقدم ذكره - الذي يفصل بين شخصيتهم من حيث المواهب والملكات وانتماء الائمة عليهم السلام العضوي للرسول صلي الله عليه و آله و سلم، قال الشاعر معبراً عن هذا الشعور:
ان يحسدوك على علاك فإنما *** متسافل الدرجات يحسد من علا
ولم يخف المنصور العباسي حسده وغيظه حين ارسل على الصادق عليه السلام وحاول ان يكتم شدة حنقه على الامام فأخذ يتكلم باسلوب الناصحين لكن الشر يتطاير من عينيه وكلماته فقال: يا جعفر قد علمت أن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم قال لابيك علي بن ابي طالب لولا ان تقول فيك طوائف من امتي ما قالت النصارى في المسيح لقلت فيك قولاً لا تمر بملأ من الناس الا واخذوا التراب من تحت قدميك وقال علي: يهلك في2.
ص: 213
اثنان ولا ذنب لي محبٌ غالٍ ومبغض مفرط، وانما قال ذلك اعتذاراً لانه لا يرضى بما يقوله فيه المحب والعدو وانت تعلم ما يقال فيك، وقد زعم اوغاد الحجاز ورعاع الناس انه حبر الدهر وحجة المعبود وترجمانه وعيبة علمه فقل فإن اول من قال الحق جدك واول من صدقه عليه ابوك، وانت حريٌ ان تقتفي آثارهما وتسلك سبيلهما، فقال الامام عليه السلام: انا فرع من تلك الزيتونة، فقال المنصور: لقد احالني على بحر لا يدرك طرفه ولا يبلغ عمقه، هذا هو الشجى المعترض في حلوق الخلفاء الذي لا يجوز نفيه ولا يحل قتله(1). لاحظ الصراع النفسي الذي يعيشه الحكام المنحرفون والذي عبّر عنه بالشجى المعترض في حلوق الخلفاء فإن فضل أهل البيت عليهم السلام مما لا ينكر وقدسيتهم لا تُمسّ وفي نفس الوقت فإن حب الملك والتسلط لا يسمح للطواغيت بإبقائهم.
5 - ولا ننسى اثر الوشايات المغرضة التي كان بعض ضعفاء النفوس يقومون بها من اجل متع رخيصة وتلبية لاهواء منحرفة وتزلفاً لاولئك الحكام الطغاة. لما أخذ المعتصم بقول الامام الجواد عليه السلام في شأن قطع يد السارق واهمل اقوال الفقهاء والعلماء ومنهم ابن ابي داود قاضي القضاة فقامت قيامته وظل يجيل الرأي ثلاثة أيام، ويقاوم نفسه الامارة بالسوء فجاء الى المعتصم وقال: ان نصيحة امير المؤمنين علي واجبة وانا اكلمه بما اعلم اني ادخل به النار، قال: وما هو؟ قال: اذا جمع امير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيته وعلماءهم لامر واقع من امور الدين فسألهم عن الحكم فأخبروه بما عندهم من الحكام في ذلك، وقد حضر المجلس بنوه وقواده ووزراؤه وكتابه وقد تسامع الناس بذلك من وراء بابه ثم يترك اقاويلهم كلهم لقول رجل يقول شطر هذه الامة بامامته ويدعون انه اولى منه بمقامه ثم يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء؟ فتغير لونه وانتبه لما نبهه له وقال: جزاك الله عن نصيحتك خيراً، فخرج ابن2.
ص: 214
ابي داود ينوء بتبعة الجريمة وقال لصاحبه وهو مغتم وددتُ اني قد مُتُّ منذ عشرين سنة(1).
وقال يحيى بن خالد البرمكي لهارون مضيفاً الى وشاية ابن اخي الامام موسى بن جعفر عليه السلام: ان الاموال تجبى اليه - أي الامام الكاظم عليه السلام - من المشرق والمغرب وقد اشترى ضيعة بثلاثين الف دينار وسماها اليسيرة وقال له بائعها وقد احضر له المال: لا أأخذ هذا النقد ولا اقبل الا نقداً معيناً سماه له فاسترجع منه النقد الذي دفعه واعطاه ثلاثين الف دينار من النقد الذي سماه له(2) وكتب والي المدينة الى المتوكل العباسي يحذره من وجود الامام الهادي عليه السلام فيها: ان كان لك بالحرمين حاجة فاخرج منهما علي بن محمد فانه قد دعا الناس الى نفسه وتبعه خلق كثير(3) فاستدعى المتوكل الامام عليه السلام الى سامراء بحجة الاشتياق الى رؤيته حتى قضى فيها شهيدا مسموما بعد ان فرضت السلطة الاقامة الجبرية عليه.
وهكذا قضى الائمة شهداء بالسيف او السم فقد استشهد امير المؤمنين بالسيف في محراب مسجد الكوفة وقضى الامام الحسن عليه السلام بالسم واستشهد الامام الحسين عليه السلام ومن معه في فاجعة مؤلمة في كربلاء وكذا استشهد بقية الائمة قال الامام الصادق عليه السلام (ما منا الا مقتول او مسموم(4) فمن لم يقتل بالسيف يقضي شهيدا بالسم وللحديث الشريف ما يؤكده من الاحداث التي تكتنف حياة الائمة عليهم السلام وموقف الحكام منهم والملابسات والظروف الغامضة التي تحيط حادثة وفاة الائمة عليهم السلام الى جانب الحركة التمويهية التي يقوم بها مرتكبوا الجريمة لتبرئهم منها وهم بذلك يلصقون التهمة بانفسهم اكثر.).
ص: 215
وقد نال شيعة اهل البيت عليهم السلام ما نال أئمتهم ابتداءاً من جيل الصحابة الاجلاء فأبو ذر يطرد على بعير بغير وطاء وحيداً الى الربذة حتى يموت فيها غريباً(1) ويُركل عمار بن ياسر حتى تفتق مثانته وكذا ما حل بعبد الله بن مسعود وما فعله معاوية بحيث يأمر عماله انه كل من كان على دين علي يُمحى اسمه من ديوان العطاء وتهدم داره وتقطع اشجاره وهكذا استمرت ملاحقة شيعة اهل البيت والقضاء على من تثبت عليه هذه التهمة فقطعت الايدي والارجل(2) وطيف بالرؤوس(3) وصلب الاجساد(4) وهدمت الدور واكتظت السجون(5) ونحو ذلك من الطرق الوحشية التي تتقزز منها الابدان وقد اعترف المأمون بما فعل سلفه بالعلويين وانصارهم فقال لمن اعترض على تنصيب الرضا عليه السلام ولياً لعهده مذكراً اياه بما اقترفوه من آثام بحق آباءالرضا عليه السلام وشيعتهم «ويحكم ان بني امية انما قتلوا منهم من سلَ سيفاً وإنّا معشر بني العباس قتلناهم جملا فلتُسألنَ اعظم الهاشمية بأي ذنب قتلت ولتُسألن نفوس القيت في دجلة والفرات2.
ص: 216
ونفوس دفنت ببغداد والكوفة احياء»(1) ويصف الامام الباقر عليه السلام تلك الرزايا التي نزلت بالشيعة بقوله: (وقتلت شيعتنا بكل بلدة وقطعت الايدي والأرجل على الظنة والتهمة وكان من يذكر بحبّنا او الانقطاع الينا سجن أو نهب ماله وهدمت داره(2).
وحبس المنصور بني الحسن في سرداب مظلم لا يعرف فيه الليل من النهار ولا يعرفون وقت الصلاة الا بتسبيح علي بن الحسن بن الحسن المثنى وباجزاء يقرأها وقد استشهد اكثرهم في الحبس، منهم من دفن حياً كابراهيم الغمر بن الحسن المثنى ومنهم من طرح عليه البيت كعبد الله المحض بن الحسن المثنى وردموا السجن على بعض آخر فماتوا ولما جيئ بهم الى المنصور ونظر الى محمد بن ابراهيم بن الحسن فقال: انت الديباج الاصفر؟ قال: نعم، قال: اما والله لا قتلنك قتلة ما قتلتها احداً من اهل بيتك عليهم السلام ثم امر باسطوانة ففرقت ثم ادخل فيها فبنيت عليه وهو حي(3).
واوصى المنصور الى ولده المهدي قبل وفاته بخزانة وأخذ عليه ان لا يفتحها الا بعد وفاته ووضع المفاتيح عند زوجة المهدي.
ولما فتح الخزانة بعد موت المنصور وجد فيها اجساد زكية طاهرة وعلى كل جسد اسم صاحبه ونسبه وكانوا علويين(4) ، وكانت هذه نصيحة المنصور لولده لكي يحتفظ بملكه وعليه فهمها.
وذاك الذي سأله هارون بم تفديني فأجابه: بمالي، فلم يكترث له فأعاد عليه السؤال فقال: افديك بنفسي فلم يعبأ به، الى ان قال: بديني، فكلّفه بقتل ستين علوياً.
وارتكبت السلطات مذابح جماعية بشعة بحق الشيعة منها ما ذكره صاحب الكامل في التاريخ: ان العباسيين قتلوا في مدينة قم مركز الشيعة من العلماء والمحدثين ونقلة آثار اهل البيت عليهم السلام في زمن العسكري عليه السلام مقتلة عظيمة(5).2.
ص: 217
كان الهم الرئيسي لدى الحكام هو حماية سلطتهم من التهديد الذي يمثله وجود الائمة عليهم السلام وكانوا لا يفكرون مباشرة بقتل الامام عليه السلام وتصفية وجوده بل كانوا يتخذون اساليب اخرى للحد من هذا الخطر ومنها:
(الاول): تحجيم موقعهم المقدس في الشريعة وبالتالي في نفوس الناس من خلال:
1 - المنع من تدوين الحديث الشريف الذي يضم احاديث كثيرة في فضلهم عليهم السلام وقد بدأ هذا المنع في وقت مبكر بعد وفاة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم وكان عمر يتوعد بالعقوبة من يفعل ذلك ولم يحصل تدوين الحديث الا على راس المئة الاولى في ملك عمر بن عبد العزيز.
2 - عقاب من يتحدث بفضائل اهل البيت عليهم السلام بحيث ان مثل ابن السكيت (يعقوب بن اسحاق توفي سنة 244 ه -) العالم اللغوي الكبير كان مؤدباً لولدي المتوكل العباسي المعتز والمؤيد فذكر يوماً فضل امير المؤمنين عليه السلام فقال له المتوكل ايهما احب اليك ولديَ ام الحسن والحسين عليهما السلام ولدي امير المؤمنين عليه السلام فقال ابن السكيت: والله ان قنبر خادم امير المؤمنين عليه السلام افضل منك ومن ولديك فأمر بأن يستل لسانه من قفاه(1).
3 - التعتيم على فضائلهم ومناقبهم بشكل او بآخر فمثلاً كانت احدى ابواب مسجد الكوفة تسمى باب الثعبان لانه انسل منها ثعبان عظيم جاء الى امير المؤمنين عليه السلام رسولاً من الجن فهمس في اذنيه(2) فربط معاوية في ذلك الباب فيلاً فاصبح الناس يسمونه(3) باب الفيل حتى غلب عليه ولم يعد يذكر اسمه السابق وصنعوا الاساطير في شجاعة عنترة بن شداد ليلهوا الناس عن الحديث عن شجاعة امير المؤمنين عليه السلام التي
ص: 218
تعدّ نبراساً ورمزاً للبطولة وسارت بها الركبان وصنعوا للخنساء امجاداً وهمية بأن لها اربعة بنين استشهدوا في القادسية فلم تجزع عليهم ليجعلوه موقفاً بديلاً عن مآثرة ام البنين زوجة امير المؤمنين عليه السلام التي قالت حين بلغها خبر استشهاد اولادها الاربعة وهم العباس واخوته بين يدي اخيهم الامام الحسين عليه السلام: «الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم دفاعاً عن ابي عبد الله الحسين عليه السلام»(1).
4 - تحريف الاحاديث والدس فيها فقد جعل معاوية اربعمائة الف درهم لسمرة بن جندب كي يروي حديثاً عن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم ان قوله تعالى:[وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ] (2) نزل في قاتل علي بن ابي طالب وان قوله تعالى:[وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اللّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ] (3) ، نزل في علي عليه السلام نفسه كما وضعوا احاديث في فضائل الذين تقمصوا الخلافة دون علي بن ابي طالب او في معاوية وذريته(4).
ويروي احد الشاميين انه لا يعرف قرابة لرسول الله صلي الله عليه و آله و سلم غير معاوية وولده.
5 - استدراج بعض اقرباء الائمة عليهم السلام الى الفسق والفجور لتشويه صورة الائمة انفسهم فعن ابي الطيب يعقوب بن ياسر ان المتوكل كان يقول لحاشيته وخواصه ويحكم لقد اعياني امر ابن الرضا(5) وجهدت ان يشرب معي وينادمني فامتنع وجهدت ان اجد فرصة في هذا المعنى فلم اجدها، فقال بعض من حضر: ان لم تجد من ابن الرضا ما تريده من هذا الحال فهذا اخوه موسى (كذا وكذا ووصفه بالقبائح) فاحضره واشهره فان الخبر يشيع عن ابن الرضا بذلك فلا يفرق الناس بينه وبين اخيه ومن عرفه بشخصه قد يتهم اخاه بمثل فعاله. فامر المتوكل بالكتابة اليه واشخاصها.
ص: 219
معززاً مكرماً وعزم ان يتلقاه بنفسه وجميع بني هاشم والقواد وسائر الناس ليصنع منه اماماً من ائمة اهل البيت عليه السلام، فلما وافى موسى بن محمد الجواد عليه السلام تلقاه اخوه الهادي عليه السلام فسلم عليه وقال له: ان هذا الرجل قد احضرك ليهتكك ويضع منك، فلا تقر له انك شربت نبيذاً قط واتق الله يا اخي ان ترتكب محضوراً فقال موسى وانما دعاني لهذا فما حيلتي فكرر عليه ابو الحسن مقالته الاولى ولكن موسى لم يستجب لطلبه فلما راى الخلاف منه قال له: ان المجلس الذي تريد الاجتماع معه عليه لا تجتمع عليه انت واياه ابداً، وكان كما قال الامام حتى قتله المتوكل بعد ثلاث سنين حيث لم يجتمعا على مجلس شراب ابداً(1) وهكذا حاولوا استدراج جعفر اخي الامام العسكري عليه السلام الى بلاط السلطة لينفر منهم الناس.
6 - نفي وراثتهم لرسول الله صلي الله عليه و آله و سلم وبالتالي عدم استحقاقهم لمقامه الشريف كاشاعتهم ان ابن البنت ليس ابناً وهم ابناء فاطمة الزهراء عليها السلام فلا يعدون ابناءاً لرسول الله صلي الله عليه و آله و سلم وقد تقدمت ص 143 الاشارة الى ذلك.
(الثاني): عقد مجالس المناظرة والسؤال بمختلف الاديان والمذاهب والعلوم واللغات التي كانت تستهدف من ورائها اسقاط عقيدة الشيعة فيهم بانهم اعلم البشر جميعاً وانهم معصومون من الخطأ وبهذه المناظرات والاسئلة المتشعبة لابد - لغير المعصوم - ان يتعثّر في الاجابة ولو على سؤال واحد وبذلك تتحقق امنية الحكام في ان ينظر الناس اليهم على انهم فقهاء وعلماء كغيرهم لا كما يدعيه شيعتهم لهم من الاعلمية والعصمة والاحاطة بكل تفاصيل الشريعة فضلاً عن ادعائهم الاعلمية لهم في جميع الشؤون وهم عليهم السلام بانفسهم صرحوا بذلك كقول امير المؤمنين عليه السلام «نحن شجرة النبوة ومحط الرسالة ومختلف الملائكة ومعادن العلم وينابيع الحكمة» وقوله عليه السلام «اين الذين زعموا انهم الراسخون في العلم دوننا كذباً وبغياً علينا ان رفعنا الله ووضعهم واعطانا وحرمهم وادخلنا واخرجهم بنا يستعطى الهدى ويُستجلى العمى، ان2.
ص: 220
الائمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح على سواهم ولا تصلح الولاة من غيرهم».
وقال زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام «وذهب آخرون الى التقصير في امرنا واحتجوا بمتشابه القرآن فتاولوا بارائهم واتهموا مأثور الخبر فينا» الى ان قال «فالى من يفزع خلف هذه الامة وقد درست اعلام هذه الامة. ودانت الامة بالفرقة والاختلاف يكفر بعضهم بعضاً والله تعالى يقول «وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ» فمن الموثوق به على ابلاغ الحجة وتأويل الحكم الا اعدال الكتاب وابناء ائمة الهدى ومصابيح الدجى الذين احتج الله بهم على عباده ولم يدع الخلق سدى من غير حجة هل تعرفونهم او تجدونهم الا من فروع الشجرة المباركة وبقايا الصفوة الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا»(1) لكن الائمة عليهم السلام كانوا يخرجون من تلك الاختبارات بأعلى صور النجاح واذا كنّا نجد لذلك تفسيرا طبيعياً في مثل الامام الصادق عليه السلام فيقال انه رجل بذل جهداً فائقاً فألمّ بالعلوم وقد تجاوز عمره الستين فما رأيك في مثل الامام الجواد عليه السلام وهو ابن ثمان سنين فأنّى له في ضوء القوانين الطبيعية أن يجيب عن كل ما يسأله عنه كبار الفقهاء والعلماء بل يأخذ هو عليه السلام زمام المبادرة ويوجّه اليهم اسئلة يعجزون عن إجابتها، فهل لذلك تفسير غير ما نعتقده نحن الامامية فيهم من حيازة الكمالات كلها في اشخاصهم المقدسة وأن علمهم لدنيُّ ينكته الله تبارك وتعالى في قلوبهم لوجود الاستعداد والقابلية فيهم. وتوجد جملة من هذه المناظرات في كتاب (تحف العقول) لابن شعبة الحرّاني، وسجل الطبرسي عدداً ضخماً منها في كتاب (الاحتجاج) وكذا كتاب الحجة من اصول الكافي.
وقد حاولت الحكومات بدلاً من الاصطدام مع الائمة عليهم السلام وما في هذا من اداء الثمن غالياً من سمعتها وكرامتها ووجودها ارتأت أن تسلك طريقاً يسيراً وهو تعريض الائمة عليهم السلام لشيء من الامتحان في بعض ما يملكه العصر من معارف وبخاصة ما9.
ص: 221
يتصل منها بغوامض الفقه والتشريع ليسقط دعواها في الاعلمية من الاساس والى شيء من الامتحان في الاخلاق والسلوك ليسقط ادعاءهم العصمة خصوصاً مع الائمة عليهم السلام الذين تولوا هذا المنصب الآلهي وهم دون سن البلوغ كالجواد والهادي عليهما السلام وعمر كل منهما ثمان سنين.
ولو كان هؤلاء الائمة عليهم السلام في زوايا او تكايا وكانوا محجوبين عن الرأي العام كما هو الشأن في أئمة الاسماعيلية او بعض الفرق الباطنية لكان لاضفاء الغموض والمناقبية على سلوكهم من الاتباع مجال، ولكن ما تصنع السلطة وهم مصرحون بأفكارهم وسلوكهم وواقعهم تجاه السلطة وغيرها من خصومهم في الفكر والتاريخ حافل بمواقف السلطة منهم ومحاربتها لافكارهم وتعريضهم لمختلف وسائل الاغراء والاختبار ومع ذلك فقد حفل التاريخ بنتائج اختباراتهم المشرفة وسجّلها بإكبار»(1).
وأذكر بعض الشواهد على ذلك:
1 - قال ابو حنيفة: ما رأيت افقه من جعفر بن محمد لقد قال لي المنصور: إن الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمد فهيئ له من المسائل الشداد واسأله عنها فهيأتُ له اربعين مسألة وكان المنصور في الحيرة قد أعدَّ مجلساً حشد فيه الوجوه والأعيان وبعث اليَّ فدخلت عليه وجعفر بن محمد جالس عن يمينه فلما بصرتُ به دخلتني من الهيبة ما لم يدخلني من المنصور فسلمّتُ عليه وجلست فقال لي المنصور يا ابا حنيفة ألقِ على ابي عبد الله مسائلك فجعلت القي عليه مسألة مسألة وهو يقول في جوابها: انتم تقولون: كذا، وأهل المدينة يقولون: كذا ونحن نقول: كذا، فربما خالفنا وربما خالفهم وأحياناً يوافقنا أو يوافقهم حتى اتيتُ على الاربعين مسألة ما أخلّ منها بمسألة واحدة، ثم قال ابو حنيفة: اعلم الناس اعلمهم باختلاف الناس(2).
2 - قدم سليمان المروزي متكلم خراسان على المأمون فأكرمه ووصله ثم قال له: ان ابن عمي علي بن موسى الرضا عليه السلام قدم عليَّ من الحجاز - يحب الكلام - واصحابه2.
ص: 222
فعليك أن تصير الينا يوم التروية لمناظرته، فقال سليمان: يا أمير المؤمنين إني أكره أن أسأل مثله في مجلسك في جماعة من بني هاشم فينتقص عند القوم اذا كلمني ولا يجوز الاستقصاء عليه. قال المأمون: إنما وجّهت اليك لمعرفتي بقوتك وليس مرادي الا أن تقطعه عن حجة واحدة فقط(1) ، فقال سليمان: حسبك يا امير المؤمنين: إجمع بيني وبينه وخلّني وإيّاه، فوجّه المأمون الى الرضا عليه السلام فقال له: إنه قدم علينا رجل من اهل مرو وهو واحد خراسان من اصحاب الكلام فإن خفّ عليك أن تتجشم المصير الينا فعلت فحضر الامام وجرى بينه وبين سليمان حوار انتقل من علم لآخر وفي كل منها يبين انقطاع سليمان واعترافه بصحة ما يقول الامام عليه السلام(2).
(الثالث): اشخاصهم عليهم السلام من مركز إقامتهم في المدينة المنورة الى عاصمة الدولة والاحتفاظ بهم عليهم السلام قريباً من السلطة حتى استشهادهم عليهم السلام وهم يريدون بذلك تحقيق عدة امور:
1 - فصل الامام عليهم السلام عن قواعده المهمة من العلماء والفقهاء والوجهاء من ذريّات المهاجرين والانصار وبني هاشم في المدينة المنورة ويمثلون قوة عظيمة للامام عليه السلام فيحرمون الامام عليه السلام من هذه القوة ويحرمون الأمة من توجيهات الامام وتعاليمه وقيادته عليه السلام، لأن هؤلاء المحيطين بالامام كانوا من الفقهاء والعلماء والمتكلمين الذين يبلّغون رسالات ربهم ولا يخشون فيه منهم أحداً.
2 - ان وجود الامام عليه السلام في المدينة المنورة يعطيه حصانة اجتماعية إضافية لما للمدينة من قدسية وهيبة في نفوس المسلمين بحيث ان حادثاً بسيطاً يقع فيها يمكن ان يكون استفزازاً لمشاعر كل المسلمين فكيف بمن يمسّ ابن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم بسوء.
3 - مراقبة تحركات الامام عليه السلام عن قرب فقد كانت تأتي الوشايات المستمرة لملوك الدولة عن نشاطات الائمة عليهم السلام لكنهم عند كبس دار الامام وتفتيشها لا يجدون ما يدل على ذلك فاقتضى الأمر ضبط تحركاته عن كثب.4.
ص: 223
4 - إعطاء المشروعية لسلطتهم فإن الملوك حينما يستدعون الائمة عليهم السلام كانوا يدخلونهم معهم في بلاطهم بل ان المأمون أعطى ولاية العهد للامام الرضا عليه السلام وزوّج ابنته ام الفضل من الامام الجواد عليه السلام وكان الامام الهادي عليه السلام يحضر موائد العباسيين ويجلس مجالسهم ويخرج في مواكبهم(1) ، لكن ينبغي الالتفات الى ان الائمة عليهم السلام كانوا يشعرون الامة بأن تصرفاتهم هذه لا تعني الموافقة على اعمال السلطة ومشروعيتها وكان الملوك يفهمون ذلك لذلك لم يكتفوا بها وانتهوا الى القضاء على حياة الامام عليه السلام. وتجد اكثر قبورهم في مناطق بعيدة عن وطن جدهم رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم فالامام الحسين عليه السلام في كربلاء والامام الكاظم عليه السلام وحفيده الجواد عليه السلام في بغداد والامام الرضا عليه السلام في طوس والهادي والعسكري عليهما السلام في سامراء مما يعني انهم شُرّدوا وأبعدوا عن ديارهم حتى استشهدوا.
وكان الائمة عليهم السلام يعرفون النوايا الشريرة للحكام في استدعائهم لذا كانوا يرفضون بشدة ويعرفون أن في تركهم لمدينة جدّهم صلي الله عليه و آله و سلم خسارة للأمة وحرمان لهم من العمل الاسلامي المثمر الواسع وأنّ نهايتهم ستكون بهذه الرحلة وأن سفرهم هذا بداية النهاية بالنسبة لهم ولكن الحاح السلطة وتهديدها لم يترك لهم الخيار، ففي كتاب عيون أخبار الرضا للصدوق عن السجستاني قال: لما ورد البريد باشخاص الرضا عليه السلام الى خراسان - بحجة تسليمه ولاية العهد - كنت انا بالمدينة فدخل المسجد ليودع رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم فكان يقف على القبر مودعاً باكياً ويخرج ثم يرجع اليه، فعل ذلك مراراً ويعلو منه البكاء والنحيب فتقدمت اليه وسلمت عليه وهنأته فردّ عليّ السلام وقال: ذرني فاني اخرج من جوار جدي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم وأموت في غربة(2) وفي مكة ودّع البيت وحجّ وعدل الى المقام فصلى عنده وكان معه ابنه الامام الجواد عليه السلام على عتق احد غلمانه يطوف به فنزل عن عنقه وجلس في حجر ابراهيم وأطال2.
ص: 224
وبان على وجهه الغم فجاءه الرضا عليه السلام وقال له: قم يا بني، قال: وكيف اقوم وقد ودّعت البيت وداعاً لا رجوع بعده(1).
وقد يكتفي الحكام باستدعاء الامام عليه السلام الى عاصمة الملك لفترة ما واعادته الى بلده كما حصل للامام السجاد عليه السلام والباقر عليه السلام والصادق عليه السلام(2).
(الرابع): السجن لمنعه عليه السلام من ممارسة نشاطاته وفصله عن شيعته وعن عموم الامة والضغط عليه حتى يحقق للسلطة ما تريد وقد تعرّض الائمة عليهم السلام للسجن ابتداءً من الامام السجاد عليه السلام(3) وتفاوتت فترات السجن وكان اشق حبس واطوله ما تعرض له الامام الكاظم عليه السلام حيث سجن لاكثر من عشر سنين وكان أحدها في طامورة ظلماء لا يعرف فيها الليل من النهار حتى انه كان يدعو (يا مخلّص اللبن من بين فرث ودم، يا مخلص الجنين من بين مشيمة ورحم، خلّصني من حبس هارون) وما تخلص عليه السلام الاّ بالشهادة(4).
وتعرّض عددٌ من الائمة عليهم السلام للإقامة الجبرية خصوصاً الامام الحسن العسكري(5).
(الخامس): القضاء على حياة الامام عليه السلام وقتله للتخلص من خطره من وجهة نظرهم المادية الشيطانية كآخر حل يلجأون اليه لانهم كانوا يخشون غضبة الجماهير وهم مهما أخفوا صلتهم بمقتل الامام عليه السلام الا ان الجماهير كانت توجّه اصابع الاتهام للسلطة مباشرة وقد عزّز الائمة عليهم السلام هذا الشعور بقولهم: «ما منّا الا مقتول او مسموم» وقد تعددّت اشكال القتل واساليبه فمن القتل بالسيف الى سقي السم وتكفي مراجعة2.
ص: 225
واحدة لكتاب (مقاتل الطالبيين) لابي الفرج الاصفهاني لتطّلع على كثرة من قتل منهم ومن ذويهم وبشاعة طرق القتل.
(السادس): التدخل في مسألة تنصيب الامام اللاحق بعد استشهاد السابق لتحصيل عدة امور:
1 - تشتيت امر الشيعة بتكثير الائمة بين محق ومبطل وخلق المنازعات بينهم.
2 - تشويه مكانة هذا المنصب الآلهي العظيم بتصدي غير الكفوئين اليه فان الذي تتعامل معه السلطة وترشحه لابد ان يكون من أهل الدنيا وطلابها.
3 - التدخل في امر الشيعة من خلال التحكم بإمامها وتوجيهه بما يناسب مصالحهم ورغباتهم، لكن الائمة عليهم السلام كانوا ملتفتين طبعاً لهذه المؤامرة فاتخذوا كل التدابير اللازمة لافشالها وقد تقدم الكلام في ذلك(1) وقد فشلت السلطات فعلاً في تلك المحاولات رغم انها تعلم مسبقاً أن لا جدوى من مسعاها إذ لما توفي الامام العسكري عليه السلام جاء جعفر الى ابن خاقان وزير المعتمد العباسي وقال له: اجعل لي مرتبة ابي وأخي واوصل اليك في كل سنة عشرين الف دينار فزبره أبي وأسمعه ما كره وقال له: يا احمق ان السلطان اعزّه الله جرّد سيفه وسوطه في الذين زعموا أن أباك وأخاك إمامان ليردّهم عن ذلك فلم يقدر عليه وجهد أن يزيل أباك وأخاك عن تلك المرتبة فلم يتهيأ له ذلك، فان كنت عند شيعة ابيك وأخيك إماماً فلا حاجة بك الى سلطان يعطيك مراتبهما ولا غير سلطان، وإن لم تكن عندهم بهذه المنزلة لم تنلها(2).2.
ص: 226
تنبيه: هذا الموضوع مهم جداً خصوصاً في عالم اليوم الذي غابت فيه الحكمة والتعقل واصبح العنف ولغة السلاح الذي يفترض ان يكون آخر العلاج او ليس علاجاً أصلاً أصبح هو اداة التعامل وتحوّل الحوار والجدال بالحكمة والموعظة الحسنة الى حرب تهلك الحرث والنسل واختلطت الاوراق على الناس بمن فيهم المسلمون ولم يعودوا يعرفون متى تستخدم القوة وفي أي مورد ومن أجل ماذا فتخبطوا وهلكوا وأهلكوا وتبادلوا التهم الى حد تكفير بعضهم بعضاً مما ولّد حاجة اكيدة للبحث في مصادر التشريع حتى تؤسس (فقه استخدام القوة في مدرسة أهل البيت عليهم السلام) ليضع النقاط على كل حروف هذه المسألة ويجيب عن تساؤلاتها وإشكالاتها ويحل متناقضاتها. وقد فكّرت في إعادة صياغة هذا الفصل بما يلائم هذا (الفقه) - الذي هو أحد تطبيقات الفقه الاجتماعي الذي شرعت في بيان اسسه العامة ومعالمه(1) - الا انني وجدت ان هذا التغيير سيفقدنا جزءاً من اراء هذين السيدين الشهيدين الصدرين الاول والثاني اللذين هما من اقطاب الحركة الاسلامية خصوصاً وان اراء السيد الشهيد الثاني قد كتبت كتعليقات على الكتابة الاصلية التي كتبتها شرحاً لبحث السيد الشهيد الاول قدس سره في منتصف الثمانينات فأي تغيير فيها يعني عدم بقاء موضوع تلك التعليقات، لذا آثرت إبقاء البحث الأصلي على ما هو عليه الا بشيء طفيف وهو بذلك يغطي جانباً مهماً من هذا المشروع الكبير ويعرض توجهات هذين العلمين الى ان يتفضلّ الله تبارك وتعالى باتمام هذا الفقه بإذنه تبارك وتعالى.
وقبل أن أتعرض لشرح كلام السيد الشهيد الاول قدس سره في هذا البحث أودّ أن أنقل كلاماً له قدس سره مرتبطاً بالمقام ذكره في موضع(2) آخر. قال قدس سره: «حاول بعض
ص: 227
المحققين التمييز بين نحوين من التشيع أحدهما التشيع الروحي(1) والآخر التشيع السياسي، واعتقد هذا البعض ان التشيع الروحي اقدم عهداً من التشيع السياسي وأن ائمة الشيعة الامامية من ابناء الحسين عليه السلام قد اعتزلوا بعد مذبحة كربلاء السياسة وانصرفوا الى الارشاد والعبادة والانقطاع عن الدنيا.
والحقيقة ان التشيع لم يكن في يومٍ من الأيام منذ ولادته مجرد اتجاه روحي بحت وإنما ولد التشيع في احضان الاسلام بوصفه اطروحة مواصلة الامام علي عليه السلام لقيادة النبي صلي الله عليه و آله و سلم الفكرية وقيادته السياسية للدعوة على السواء ولم يكن بالامكان فصل الجانب الروحي عن الجانب السياسي في اطروحة التشيع تبعاً لعدم انفصال احدهما عن الآخر في الاسلام نفسه.
فالتشيع إذن لا يمكن ان يتجزأ الا اذا فقد معناه كأطروحة لحماية مستقبل الدعوة بعد النبي صلي الله عليه و آله و سلم وهو مستقبل بحاجة الى المرجعية الفكرية والزعامة السياسية للتجربة الاسلامية(2) معاً، وقد كان هناك ولاء واسع النطاق للامام علي في صفوف المسلمين باعتباره الشخص الجدير بمواصلة دور الخلفاء الثلاثة(3) في الحكم، وهذا الولاء هو الذي جاء به الى السلطة عقيب مقتل عثمان، ولكن هذا الولاء ليس تشيعاً روحياً ولا سياسياً بهذا الشكل والفهم منقسم الى عدة اقسام عقائدية او فكرية الى أن يصل الأمر الى الاعتراف باثني عشر إماماً. وقد انقرضت اغلب الفرق الاخرى وستنقرض الفرق الأخرى المبطلة ايضا عاجلاً او آجلاً.
الا ان هذا الانقسام ليس محل الحديث فعلاً وإنما نقطة الحديث هو انقسامه الى (روحي) وسياسي.
يا مولاي: ان التشيع واحد منذ زمن النبي صلي الله عليه و آله و سلم والى يوم القيامة يقترن فيه دائماً المعنى الفكري بالمعنى العملي فهو - باصطلاحكم - روحي وسياسي معاً. غير ان القناعات من الناحية التطبيقية تختلف، فان الأصل في الدين هو القيام في وجه الظلم والظالمين الا اذا دلّ الدليل على خلافه، والمحك في ذلك من الناحية الدينية هو حكم التقية، فبينما كان الائمة المعصومون عليهم السلام من اولاد الحسين عليه السلام يؤكدون على التقية مراراً وتكراراً كان الثوار من اولاد الحسن عليه السلام، يضربون بهذه التعاليم عرض الجدار عن عذر او عن غير عذر - الله أعلم - وعن مصلحة دينية تارة ومصلحة دنيوية أخرى، على اختلاف اشخاصهم واتجاهاتهم، ومن هنا كان الاغلب على جانب الحسنيين جانب التحرك السياسي مع العلم ان اولاد الحسن عليه السلام ينطوون ضمناً على الجانب الفكري بطبيعة الحال وهو الذي حداهم على الثورة - بغضّ النظر عن التقية - كما أن المعصومين عليهم السلام يحتوون ضمناً على الجانب السياسي وما اكثر ما احتوى هذا البحث على صور منه، حتى انهم ليعرضون انفسهم للقتل لكن لا عن طريق جمع الجيوش وحمل السلاح.
هذا وهناك تفريق آخر بين الشكلين من المواقف الشيعية - لو صح انقسامها - وهو المصلحة الشخصية، فمن فضل مصلحته كان ساكتاً وساكناً، ومن فضّل المصلحة العامة - عند صحتها - كان متحركاً تحركاً اجتماعياً.
أما هذا القسم (الثالث!!) الذي عبّرت عنه بأنه ليس تشيعاً روحياً ولا سياسياً، فإنه ناتج - حسب فهمي القاصر - بعد تسليم هذه الجهة نظرياً: وهي: ان التشيع واحد لا يختلف وان الاختلاف عملي صرف، فانه ناتج عن شعور مجتمع صدر الاسلام بعد نهاية عصر عثمان بالحرمان من الخلافة الحقيقية والحكم العادل، هذا الشعور الذي خلّفه الشعور بالمظالم الكثيرة التي خلفها حكم الذين سبقوا أمير المؤمنين عليه السلام وهذا الشعور هو الناتج من فشل هذا الحكم (بالتمحيص) بعد أن عاش تجربته الطويلة خلال حوالي العشرين عاماً.
وعندئذٍ أجمع الناس على مبايعة امير المؤمنين عليه السلام لوجوه من القناعة:
منها: انه هو المستحق لها رأساً ومن اول الأمر.
ومنها: انه خير من بقي في المجتمع بعد ذهاب المشايخ الثلاث.
ومنها: الأمل في عدله ورفع الظلم الحاصل من سابقيه.
ومنها: الأمل بالتخلص من بعض (الامارات) والشخصيات التي كانت تكبر تدريجياً بفعل عثمان وغيره على غير الحق ممن لا يخفى عنكم عددٌ منهم فلعل امير المؤمنين عليه السلام يستطيع تصفيتهم خلال خلافته الى غير ذلك من التعللات، وإنما اسميتها بالتعللات لانها جميعاً تحتوي على رتوش حتى المسلك الاول اذا كان الفرد الشيعي يرى فرقاً بين الامام قبل مبايعته وهو بعد المبايعة مع العلم انه ولي الله وحجته على الخلق اجمعين وعلى طول الخط.(4) وإنما التشيع الروحي والسياسي داخل إطاره فلا يمكن ان نعتبره مثالاً على
ص: 228
ص: 229
التشيع المجزأ كما أن الامام كان يتمتع بولاء روحي وفكري من عدد من كبار الصحابة في عهد أبي بكر وعمر من قبيل سلمان وأبي ذر وعمار وغيرهم ولكن هذا لا يعني ايضاً تشيعاً روحياً منفصلاً عن الجانب السياسي بل إنه تعبير عن إيمان اولئك الصحابة بقيادة الامام علي عليه السلام للدعوة بعد وفاة النبي صلي الله عليه و آله و سلم فكرياً وسياسياً وقد انعكس إيمانهم بالجانب الفكري من هذه القيادة بالولاء الروحي المتقدم وانعكس إيمانهم بالجانب السياسي منها بمعارضتهم لخلافة ابي بكر وللاتجاه الذي أدى الى صرف السلطة عن الامام الى غيره(1).
ص: 230
ولم تنشأ في الواقع(1) النظرة التجزيئية الى التشيع الروحي بصورة منفصلة عن التشيع السياسي ولم تولد في ذهن الانسان الشيعي الا بعد أن استسلم للواقع وانطفأت جذوة التشيع في نفسه كصيغة محددة لمواصلة القيادة الاسلامية في بناء الأمة وإنجاز عملية التغيير الكبيرة التي بدأها الرسول صلي الله عليه و آله و سلم وتحولّت الى مجرد عقيدة يطوي الانسان عليها قلبه ويستمد منها سلوته وأمله.
وهنا نصل الى ما يقال من ان أئمة أهل البيت عليهم السلام من أبناء الحسين عليه السلام اعتزلوا السياسة وانقطعوا عن الدنيا فتلاحظ ان التشيع بعد أن فهمناه كصيغة لمواصلة القيادة الاسلامية، والقيادة الاسلامية لا تعني الا ممارسة عملية التغيير التي بدأها الرسول الكريم صلي الله عليه و آله و سلم لتكميل بناء الأمة على أساس الاسلام فليس من الممكن ان نتصور تنازل الائمة عليهم السلام عن الجانب السياسي الا اذا تنازلوا عن التشيع(2).
غير ان الذي ساعد على تصور اعتزال الائمة عليهم السلام وتخليهم عن الجانب السياسي من قيادتهم ما بدا من عدم إقدامهم على عمل مسلح ضد الحاكم مع اعطاء الجانب السياسي من القيادة معنى ضيقاً لا ينطبق الا على عمل مسلح من هذا القبيل، ولدينا نصوص عديدة عن الائمة عليهم السلام توضح ان امام الوقت دائماً كان مستعداً لخوض عمل مسلح إذا وجدت لديه القناعة بوجود الانصار والقدرة على تحقيق الاهداف الاسلامية من وراء ذلك العمل المسلح(3).
ص: 231
ونحن اذا تتبعنا سير الحركة الشيعية نلاحظ ان القيادة الشيعية المتمثلة في أئمة أهل البيت عليهم السلام كانت تؤمن بأن تسلّم السلطة وحده لا يكفي ولا يمكّن من تحقيق عملية التغيير إسلامياً ما لم تكن هذه السلطة مدعمة بقواعد شعبية واعية تعي أهداف تلك السلطة وتؤمن بنظريتها في الحكم وتعمل في سبيل حمايتها وتفسير مواقفها للجماهير وتصمد في وجه الاعاصير(1).).
ص: 232
وفي نصف القرن الاول بعد وفاة النبي صلي الله عليه و آله و سلم كانت القيادة الشيعية بعد اقصائها عن الحكم تحاول باستمرار(1) استرجاع الحكم بالطرق التي تؤمن بها لأنها كانت تؤمن بوجود قواعد شعبية واعية أو في طريق التوعية من المهاجرين والانصار والتابعين لهم باحسان(2).م.
ص: 233
ولكن بعد نصف قرن وبعدأن لم يبق من هذه القواعد الشعبية شيء مذكور ونشأت اجيال مائعة في ظل الانحراف لم يعد تسلّم الحركة الشيعية للسلطة محققاً للهدف الكبير لعدم وجود القواعد الشعبية المساندة بوعي وتضحية وامام هذا الواقع كان لابد من عملين (احدهما) العمل من أجل بناء هذه القواعد الشعبية الواعية التي تهيئ ارضية صالحة لتسلّم السلطة، (والآخر) تحريك ضمير الأمة الاسلامية وارادتها والاحتفاظ للضمير الاسلامي والارادة الاسلامية بدرجة من الحياة والصلابة تحصّن الأمة ضد التنازل المطلق عن شخصيتها وكرامتها للحكام المنحرفين.
ص: 234
والعمل الاول هو الذي مارسه الائمة عليهم السلام بأنفسهم والعمل الثاني هو الذي مارسه ثائرون علويون كانوا يحاولون بتضحياتهم اليائسة أن يحافظوا على الضمير الاسلامي والارداة الاسلامية وكان الائمة عليهم السلام يسندون المخلصين منهم(1).ض.
ص: 235
ص: 236
ص: 237
قال الامام علي بن موسى الرضا عليه السلام للمأمون وهو يحدّثه عن زيد بن علي الشهيد انه كان من علماء آل محمد غضب لله فجاهد أعدائه حتى قتل في سبيله، ولقد حدثني ابي موسى بن جعفر انه سمع أباه جعفر بن محمد عليه السلام يقول: رحم الله عمي زيداً إنه دعا الى الرضا من آل محمد صلي الله عليه و آله و سلم ولو ظفر لوفى لله من ذلك إنه قال ادعوكم الى الرضا من آل محمد صلي الله عليه و آله و سلم(1)ى.
ص: 238
وفي رواية(1) انه ذكر بين يدي الامام الصادق عليه السلام من خرج من آل محمد صلي الله عليه و آله و سلم فقال: لا ازال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد صلي الله عليه و آله و سلم ولوددتُ ان الخارجي من آل محمد صلي الله عليه و آله و سلم خرج وعليّ نفقة عياله(2).
فترك الائمة عليهم السلام إذن لممارسة العمل المسلح بصورة مباشرة ضد الحكام المنحرفين لم يكن يعني تخلّيهم عن الجانب السياسي من قيادتهم وانصرافهم الى2.
ص: 239
العبادة وإنما كان يعبّر عن اختلاف صيغة العمل السياسي التي تحددها الظروف الموضوعية وعن إدراك معمق لطبيعة العمل التغييري واسلوب تحقيقه» انتهى كلام السيد الشهيد الصدر الاول قدس سره ولنا بعدُ بقية من كلام يزيد ما نقلناه عن السيد الشهيد قدس سره إيضاحاً فنقول:
إن أية ثورة يراد لها النجاح لا بد ان تستند الى مقومات:
1 - وجود واقع فاسد وشعور عام لدى الامة به وإرادة جدّية لتغييره وقد عبّر عن هذا الشعور أحد الشعراء بقوله:
فليت جور بني مروان عادلنا *** وليت عدل بني العباس في النار
وقال آخر:
تالله ما فعلت اميّة فيهم *** معشار ما فعلت بنو العباس
وقد كانت جرائم الطواغيت من امويين وعباسيين اوضح واشهر من أن تحتاج الى تعريف الأمة بها وقد حفلت المصادر التاريخية بما يسوّد وجه الأمة التي انجبت مثل هؤلاء الأشرار فلقد عاثوا في الارض فساداً من قتل وتشريد وتدمير بيوت وقطع ارزاق وقلع اشجار وانتهاك اعراض وهتك مقدسات حتى البيت الحرام رمي بالمنجنيق في حادثة عبد الله بن الزبير واحترقت استار الكعبة وفي واقعة الحرة في المدينة قتل عشرة آلاف من صحابة النبي صلي الله عليه و آله و سلم وذراريهم وحملت آلاف النساء بلا أزواج فكان من يتزوج لا يشترط البكارة يومئذٍ وذاق العلويون فيها اشد صنوف العذاب فقد قتل هارون العباسي في يوم واحد ستين علوياً وكانت العلويات لا تمتلك رداءً تستر جسدها فكنّ يشتركن في رداء واحد تلبسه من تخرج وكان الرجل يقال له يهودي او نصراني، ولا يقال له علوي، واسجّل هنا ما قرأته اليوم في كتاب الكامل في التاريخ لابن الاثير(1) ، قال: وكان السبب في سرعة إجابة القراء الى بيعة عبد الرحمن بن محمد بن الاشعث لعزل الحجاج ان عمال الحجاج كتبوا اليه ان الخراج قد انكسري.
ص: 240
وان اهل الذمة قد أسلموا ولحقوا بالامصار، فكتب الى البصرة وغيرها ان من كان له أصل من قرية ليخرج اليها، فاخرج الناس لتؤخذ منهم الجزية فجعلوا يبكون وينادون يا محمداه يا محمداه ولا يدرون اين يذهبون وجعل قراء البصرة يبكون لما يرون) وإلى اليوم فإن الطواغيت (اشخاصاً ودولاً) ماضية في استعبادها للبشر وظلمها وحرمانها من حقوقها الا لمن سار في ركابهم وخضع لهم وسبح بحمدهم وامثلتهم كثيرة في التاريخ وتتكرر ما دامت النفوس الأمّارة بالسوء والمحبّة للدنيا وحب التسلط والانانية موجودة ومنهم بنو امية الذين قال فيهم الحديث الشريف: (اذا بلغ بنو أمية ثلاثين رجلاً اتخذوا مال الله دولا وعباده خولاً) أي عبيد أذلاّء ومثل هذا الظلم مستمر.
2 - النظرية التغييرية التي تزيل الواقع الفاسد وتأتي ببديل قادر على تحقيق السعادة والصلاح للأمة.
3 - القيادة الواعية الملتزمة بنظرية الثورة فكراً وسلوكاً.
4 - القواعد الشعبية المؤمنة بقيادتها والمطيعة لها.
وفي الثورات الاصلاحية المخلصة كانت نظرية الثورة تتركز على العودة الى منهج الاسلام الأصيل وإعادة الحق الى محله وقد عبّر عن ذلك كل قادة الحركات الإصلاحية المخلصة. وقد مرّت كلمات الامام علي عليه السلام والحسين عليه السلام وكذلك من حاول الاقتداء بهما عليه السلام من الثوار العلويين كالحسين بن علي صاحب فخ لما أراد أن يأخذ البيعة قال: ابايعكم على كتاب الله وسنة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم وعلى أن يطاع الله ولا يعصى وادعوكم الى الرضا من آل محمد صلي الله عليه و آله و سلم وعلى أن نعمل فيكم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله والعدل في الرعية والقسم بالسوية وعلى أن تقيموا معنا وتجاهدوا عدونا فإن نحن وفينا لكم وفيتم لنا وإن نحن لم نفِ لكم فلا بيعة لنا عليكم(1).9.
ص: 241
ولما وافى محمد بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم الغمر الكوفة لإعلان ثورته مع ابي السرايا(1) أخذ يسأل عن أخبار الناس وتحسسها فبينما هو في بعض الايام يمشي في أزقة الكوفة إذ نظر الى عجوز تتبع احمال الرطب فتلقط ما يسقط منها فتجمعه في كساء عليها رث فسألها عما تصنع بذلك فقالت: إني امرأة لا رجل لي يقوم بمؤونتي ولي بنات لا يعدن على انفسهن بشيء فأنا اتتبع هذا من الطريق واتقوّته انا وولدي فبكى بكاءاً شديداً وقال: انت والله واشباهك تخرجوني غداً حتى يسفك دمي(2).
أما القيادة الواعية فقد تمثلت في الائمة عليهم السلام أعدال الكتاب وبعد عصرهم في نوّابهم بالحق من العلماء الفقهاء العدول الذين لهم الكفاءة في قيادة أمر الأمة والدراية الكافية في شؤونها وأي محاولة لابعاد القيادة الحقيقية عن مكان الصدارة يجعل الثورة منحرفة عن الغايات الحقيقية سواء حقّقت نجاحاً عسكرياً وتسلّمت سلطة او لا، لذلك عارض الامام الصادق عليه السلام دعوة المعتزلة الى بيعة محمد النفس(3) الزكيةه.
ص: 242
انه الامام رغم انه ممن لا ينكر فضله ولا يعاب بشيء وكذا معارضتهم لمن يدعو الى نفسه كائناً من كان وفي الأمة من هو أحقّ منه. وفي هذا الصدد يوصي الامام الصادق عليه السلام شيعته بقوله: (عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له وانظروا لأنفسكم، فوالله إن الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فاذا وجد رجلاً هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه ويجيئ بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها، والله لو كانت لاحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرّب بها ثم كانت الاخرى باقية يعمل على ما قد استبان لها، ولكن له نفس واحدة اذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة فأنتم أحق ان تختاروا ولأنفسكم إن أتاكم آتٍ منّا فانظروا على أي شيء تخرجون، ولا تقولوا خرج زيد، فإن زيداً كان عالماً وكان صدوقاً ولم يدعكم الى نفسه، وإنما دعاكم الى الرضا من آل محمد صلي الله عليه و آله و سلم ولو ظهر لوفى بما دعاكم اليه إنما خرج الى سلطان مجتمع لينقضه فالخارج منّا اليوم الى أي شيء يدعوكم؟ الى الرضا من آل محمد صلي الله عليه و آله و سلم فنحن نشهدكم انا لسنا نرضى به وهو يعصينا اليوم وليس معه أحد، وهو اذا كانت الرايات والالوية أجدر أن لا يسمع منا(1).1.
ص: 243
دخل رؤساء المعتزلة على الامام الصادق عليه السلام وفيهم عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وحفص بن سالم وغيرهم وعرضوا عليه فكرة بيعة محمد بن عبد الله المحض المتقدم ذكره ودعوة الناس اليه وقتالهم على ذلك ودار حوار اثبت فيه الامام عليه السلام تناقض رأيهم في من يتولى الامور وعدم كفاية الجميع للامامة الا من نصّبه الله تعالى والله اعلم حيث يجعل رسالته، وفي الختام قال: اتقِ الله يا عمرو وانتم ايها الرهط فاتقوا الله فإن أبي حدثني وكان خير أهل الارض وأعلمهم بكتاب الله وسنة رسوله ان رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم قال: «من ضرب الناس بسيفه ودعاهم الى نفسه وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضال متكلّف»(1).
تبقى الركيزة الأخيرة للثورة وهي القواعد الشعبية ومع توفر سابقاتها فتكون هذه هي العامل المؤثر في نجاح الثورة وتتمثل في توفّر العدد الكافي من الافراد الذين بلغوا في مستواهم الايماني وتربيتهم لانفسهم درجة تؤهلهم لوعي أهداف قيادتهم مطيعين لأوامرها صابرين على ما ينزل بهم كما يوصي امير المؤمنين اصحابه عند القتال: «ورايتكم فلا تميلوها ولا تخلّوها ولا تجعلوها الا بأيدي الشجعان منكم فان الصابرين على نزول الحقائق هم الذين يحفّون براياتهم ويكتنفونها حفافيها وورائها وأمامها لا يتأخرون عنها فيسلموها ولا يتقدمون عليها فيفردوها»(2).
وقد نهى الائمة عليهم السلام عن القتال والسعي لتسلم السلطة من دون اجتماع مقوّمات العمل وإعداد العدة اللازمة ووضوح الهدف وشرعيته، قال امير المؤمنين عليه السلام: «الزموا الارض واصبروا على البلاء ولا تحركوا بأيديكم وسيوفكم في هوى السنتكم ولا تستعجلوا لما لم يعجّله الله لكم، فإن من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حقٍ من ربه وحق رسوله وأهل بيته مات شهيداً، ووقع أجره على الله، واستوجب ثواب ما نوى من صالح عمله، وقامت النية مقام إصلاته لسيفه، وإن لكل شيء مدّة5.
ص: 244
وأجلاً»(1) ، وقال الامام الصادق عليه السلام: (إن الله لا يعجل لعجلة العباد، ولازالة جبل عن موضعه أهون من إزالة ملك لم ينقض أجله(2). ولا يكون هذا مبرراً للتقاعس والتخاذل عن القيام بالمسؤوليات(3) الملقاة على عاتق كل مسلم في مجال الاصلاح الاجتماعي كما لا يوجد تعارض بين هذا القول وثورات العلويين التي كانت تُؤيَّد من قبل الائمة عليهم السلام في حينها لأن مقابل هذا القول يوجد كلام الامام الحسين عليه السلام: «أيها الناس ان رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله ناكثاً عهده مخالفاً لسنة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله ان يدخله مدخله، وتبقى مسؤولية توزيع الادوار وإعطاء كل فرد الدور الذي يناسبه الى القيادة الشرعية بحيث تصبُّ كل هذه الادوار في الهدف الاساسي وهو إقامة حكومة العدل الآلهي(4) ولا يجوز لأحد أن يخلد الى هواه واطماعه لتحدد له ما يعمل.
وقد عرض غير واحدٍ على الائمة عليهم السلام الدعوة لهم ونصرتهم ولكنهم عليه السلام كانوا يعلمون عدم إخلاص هذه الدعوات ورساليتها وأنها لا تعدو كونها سعياً وراء المناصب والتسلط فقد كتب ابو مسلم الخرساني قائد الجيوش التي قضت على الدولة الاموية وأتت بالعباسيين كتب الى الامام الصادق عليه السلام: «إني قد أظهرت الكلمة ودعوت الناس عن موالاة بني امية الى موالاة اهل البيت فإن رغبت فيه فلا مزيد»ه.
ص: 245
فكتب الصادق عليه السلام: «ما انت من رجالي ولا الزمان زماني»(1) وعن الفضل الكاتب قال: كنت عند ابي عبد الله عليه السلام، فأتاه كتاب أبي مسلم فقال: ليس لكتابك جواب أخرج عنا فجعلنا يسار بعضنا بعضاً فقال: «أي شيء تسارون يا فضل إن الله عز ذكره لا يعجل لعجلة العباد، ولإزالة جبل عن موضعه أيسر من زوال ملك لم ينقض أجله»(2).
ولما أحسّ ابو سلمة الخلاّل وهو أحد كبار قادة تلك الجيوش بنوايا العباسيين وعزمهم على الاستئثار بالسلطة كتب الى ثلاثة من العلويين: الامام الصادق عليه السلام وعبد الله المحض وعمرو الاشرف وارسل الكتب مع بعض أنصارهم وقال للرسول: اقصد أولاً جعفر بن محمد الصادق عليه السلام فإن أجابك فلا تراجع غيره ومزّق الكتابين(3) وإن لم تجد منه جواباً فاذهب الى عبد الله المحض وسلّمه الكتاب فإذا أجابك فلا تراجع غيره وإلا فاذهب الى عمرو الاشرف فذهب الرسول الى الامام جعفر بن محمد عليه السلام ودفع اليه كتاب ابي سلمة، فقال الامام عليه السلام ما لي ولأبي سلمة وهو شيعة لغيري ثم قال لخادمه: أدن مني السراج فأدناه منه فوضع الكتاب على النار حتى احترق بكامله والرسول ينظر اليه فقال له الامام عليه السلام: هذا جواب كتابه، فمضى الرسول الى عبد الله المحض فدفع اليه الكتاب فقبّله وقرأه وركب من ساعته الى الامام الصادق عليه السلام وقال له: هذا كتاب أبي سلمة يدعوني فيه الى الخلافة وقد وصلني مع بعض شيعتنا من أهل خراسان، فقال له الصادق عليه السلام: ومتى صار أهل خراسان شيعة لك؟ أأنت وجّهت اليها أبا مسلم؟ وهل تعرف أحداً من أهلها باسمه فكيف يكونون شيعتك وانت لا تعرفهم ولا يعرفونك(4).2.
ص: 246
وهكذا سدّ الائمة عليهم السلام الابواب امام كل الدعوات التي لا تحقق الأهداف الالهية التي ينشدها الائمة عليهم السلام وإنما تأتي في كثير من حالاتها تلبية لشهوة الحكم، وعندئذٍ اما يكون شأنها كشأن بقية الانقلابات التي تدبّر بليل والتي لا تحقق آمال الامة او الفشل بشكل ينعكس على الرسالة وقيادتها سلبياً.
لذا آثر الائمة عليهم السلام الالتفات الى بناء الامة من الداخل وتزويدها بما يعيد لها شخصيتها الاسلامية من خلال تهذيب النفوس وتطهيرها وذلك بنشر التعاليم الاسلامية الأصيلة والالتزام بها عملياً مما يعرّي السلطة ويكشف عن زيف ادعاءاتها وابتعادها الكبير عن الاسلام الحقيقي وكذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتنمية الايمان الراسخ والنفوس القوية التي لا محل للخوف فيها، وبذلك مهدّوا للثورة التغييرية الكبرى التي لابد وأن تشمل انوارها هذه الارض التي دنّسها عبّاد الشيطان [وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ] (1) ،[هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ] (2) ولكن باتباع السنة الآلهية «إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ».
أما هذه الدعوات التي تأتي من هذه المجموعة من الناس او تلك وتطلب منه النهوض والسعي لتسلم الحكم فهي دعوات عاطفية اكثر منها واقعية لذا فإنها لا تثبت عند اللقاء ولا تصدق في المواطن أو انها تفشل عند تحميلها المسؤولية قصوراً او تقصيراً أو إنها لا تحقق النتائج الشرعية المطلوبة من إصلاح الأمة وتكميلها وتهذيبها ورفع الظلم عنها، فإن تحمّل اعباء الرسالة يتطلب مواصفات جليلة ولا يكفي الصلاح الظاهري لاصحابها فعند الامتحان والابتلاء يظهر معدن المرء وتنكشف نواياه [«أَ حَسِبَ النّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ...»] وقد كان3.
ص: 247
اصحاب رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم من الاجيال الفريدة في التاريخ(1) ، ومع ذلك فقد كان ينهزم عدد كبير منهم في عددٍ من المعارك وعوتبوا عدة مرات في القرآن: في بدر [وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ] (2) ، وفي معركة أحد:[إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ] (3) ، وفي الاحزاب:[وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللّهِ الظُّنُونَا هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً] (4) ،[وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ] (5) ، وفي كلٍ منها ينسب علة الهزيمة الى خلل في البناء الداخلي للمسلم «إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا».
وتوجد في طيّات هذه الدراسة بعض الاساليب التي اتبعها الائمة عليهم السلام لبناء المسلم من الداخل بيدَ انهم لم يغفلوا الثورات المسلحة لانها هي الأخرى لها دور في تعزيز هذا البناء ولكنهم لم يتبنّوها بشكل مباشر ولم يعثر جلاوزة الطواغيت على كثرة مداهماتهم لبيوت الائمة عليهم السلام واعتقالاتهم لاصحابهم عليهم السلام على ما يثبت ارتباطهم عليهم السلام باصحاب تلك الثورات الا انهم كانوا يعلمون ان التوجيه الفكري الذي يسير عليه أئمة أهل البيت عليهم السلام كافٍ في خلق اولئك الثائرين وإن لم يتبنوهم بشكل مباشر لذا فإن هذه الحركات توقفت بعد وفاة الامام العسكري عليه السلام وانتهاء الدور الظاهري للائمة عليهم السلام وكان الطواغيت يعلمون بهذا الدور الرئيسي للائمة لهذا فانهم كانوا يقضون عليهم بالنهاية ويحجمون دورهم بالسجن والاقامة الجبرية والمراقبة5.
ص: 248
المكثفة وتقريبهم من دوائر السلطة كما حصل للامام الرضا عليه السلام ومن يليه من اولاده الطاهرين وكل هذا قد تقدمت الاشارة اليه.
ورغم ان تلك الحركات المسلحة كانت تنتهي الى الفشل من الناحية العسكرية الا انها لم تخلُ من نتائج إيجابية ككشف زيف الحكام وظلمهم كما انها كانت تترك من ورائها في كل ثورة مجموعة جديدة تحس بالظلم والعدوان وتعمل على مقاومتها وبذلك تزداد قناعة الامة بالحاجة الى القيادة الصالحة المخلصة المتمثلة بائمة اهل البيت عليهم السلام وتعزز سلوك الائمة ومنهجهم ويؤكد هذا التأثير لفكر الائمة عليهم السلام في صنع الثورات خمود(1) جذوتها بعد انتهاء عصر القيادة المباشرة للائمة عليهم السلام وهي حقيقة تاريخية يلحظها كل من استقرأ التاريخ السياسي للمسلمين.ة.
ص: 249
ولم يخف الائمة عليهم السلام عقيدتهم في ان الشريعة الالهية إنما نزلت لتغطي كل نشاطات المجتمع الانساني ولتبسط نفوذها على كل من آمن بها وإنما يرجع تحقيق ذلك الى الامة وصرّحوا بذلك حتى امام السلطات الحاكمة فقد روي ان (المهدي) العباسي عرض على الامام موسى بن جعفر عليه السلام أن يردَّ عليه فدكاً(1) ليتظاهر امام الأمة أنه أعاد للعلويين حقوقهم ورفع الظلم عنه فرفض الامام عليه السلام قبولها ولما ألحّ عليه المهدي قال: لا أقبلها الا بحدودها، قال: وما حدودها؟ قال عليه السلام: الحد الاول: عدن، فتغيّر وجهه، والحد الثاني سمرقند فأربد وجهه، والحد الثالث: افريقية، فقال له المهدي: والحد الرابع قال: سيف البحر ما يلي الخزر وارمينية، فقال له: لم يبق لنا شيء فتحول الى مجلسي فرد عليه الامام بقوله: لقد اعلمتك بأني إن حددتها لم تردّها(2).
وأعود الآن الى ذكر أصل كلام السيد الشهيد الصدر الاول في المتن تحت العنوان الذي جعلناه المحور الرابع.
قال قدس سره: يبقى سؤال واحد يتبادر الى الاذهان وهو ان ايجابية الائمة عليهم السلام هل كانت تصل الى مستوى العمل لاستلام زمام الحكم من الزعامات المنحرفة او تقتصر على حماية الرسالة ومصالح الأمة من التردي الى الهاوية وتفاقم الانحراف.2.
ص: 250
والجواب على هذا السؤال يحتاج الى توسع في الحديث يضيق عنه هذا المجال، غير ان الفكرة الاساسية في الجواب المستخلصة من نصوص واحاديث عديدة: ان الائمة عليهم السلام لم يكونوا يرون الظهور بالسيف والانتصار المسلح آنياً كافياً لإقامة دعائم الحكم الصالح على يد الامام عليه السلام.
إن إقامة هذا الحكم وترسيخه لا يتوقف في نظرهم على مجرد تهيئة حملة عسكرية بل يتوقف قبل ذلك على إعداد جيش عقائدي يؤمن بالامام وعصمته إيماناً مطلقاً ويعي أهدافه الكبيرة ويدعم تخطيطه في مجال الحكم ويحرس ما يحققه للأمة من مكاسب.
وكلكّم تعلمون قصة ذلك الخراساني الذي جاء الامام الصادق عليه السلام يعرض عليه تبنّي حركة الثوار الخراسانيين فأجّل جوابه ثم امره بدخول التنور فرفض وجاء ابو بصير فأمره بذلك فسارع الى الامتثال فالتفت الامام الى الخراساني وسأله كم له من امثال ابي بصير وكان هذا هو الرد العملي من الامام على اقتراح خراسان(1).).
ص: 251
وعلى هذا الاساس تسلّم امير المؤمنين عليه السلام زمام الحكم في وقت توفر فيه ذلك الجيش العقائدي الواعي متمثلاً في الصفوة من المهاجرين والانصار والتابعين من اصحابه رضي الله عنهم(1).).
ص: 252
ص: 253
ص: 254
ص: 255
ص: 256
بسم الله الرحمن الرحيم
الإمام الاول: امير المؤمنين علي بن ابي طالب بن عبد المطلب بن هاشم عليه السلام
ابن عم رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم وزوج ابنته الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء، ولد بعد مولد النبي صلي الله عليه و آله و سلم بثلاثين عاماً يوم الثالث عشر من رجب وامه فاطمة بنت أسد بن هاشم في الكعبة الشريفة وهي منقبة عظيمة للوالدة والولد لم يسبقهما اليها أحد وتربى في احضان النبي صلي الله عليه و آله و سلم، وكان عمره حين البعثة النبوية الشريفة عشر سنين وكان هو وخديجة بنت خويلد زوج النبي الكريم صلي الله عليه و آله و سلم المؤمنين الوحيدين مع رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم قبل إعلان دعوته وتحمل معه صلي الله عليه و آله و سلم أذى قريش ودافع عنه وقد نبّه النبي صلي الله عليه و آله و سلم في وقت مبكر من دعوته الى ان علياً هو وزيره وخليفته من بعده حين نزلت الآية الشريفة:[وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ] (الشعراء: 214). وشارك معه صلي الله عليه و آله و سلم المحن الكبيرة ومنها حصارهم في شعب ابي طالب حتى توفي ابو طالب سيد قريش والمحامي عن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم وتوفيت خديجة فانهدّ ركنان لرسول الله صلي الله عليه و آله و سلم وأذن له بالهجرة الى المدينة المنورة وترك علياً يبيت في فراشه ليوهم رجال قريش الذين حاصروا دار رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم ليقتلوه أن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم موجود حتى غادر صلي الله عليه و آله و سلم مكة وعندما هجموا على الدار وجدوا علياً في فراشه فردوا خائبين ثم لحق برسول الله صلي الله عليه و آله و سلم في المدينة مصطحباً معه النساء على مرأى ومسمع من قريش الذين حاولوا ردّه حفظاٌ لكرامتهم الجريحة فلم يستطيعوا وقتل أحد أبطالهم ثم أذن الله تبارك وتعالى لنبيه بالقتال فكان عليّ بطل المواقف كلها في بدر وفي أحد وفي الخندق وفي خيبر وفي حنين حين انكشف المسلمون عدة مرات وتركوا النبي صلي الله عليه و آله و سلم وسط المشركين وعليٌ عليه السلام يردّ عنه الكتائب والالوية، زوجّه ابنته فاطمة الزهراء عليها السلام في السنة الثانية من الهجرة بعد معركة بدر فولدت له الحسن والحسين عليهما السلام فكان الخمسة هم أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً وكان صلي الله عليه و آله و سلم يحوطهم بعناية خاصة ويثني
ص: 257
عليهم ويبين منزلتهم الرفيعة للمسلمين بحيث يقول ان (علياً مع الحق والحق مع علي) وأن (فاطمة يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها) ويوم فتح مكة والقضاء على مشركي قريش في السنة الثامنة من الهجرة صعد على كتف رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم وكسّر الاصنام وأزالها عن ظهور الكعبة ويوم الغدير بعد ان انهى النبي صلي الله عليه و آله و سلم حجة الوداع قبل وفاته بشهرين وعشرة أيام جمع عشرات الآلاف من الصحابة ونصب لهم علياً أميراً وإماماً وهادياً وخليفة بعده بأمر الله تبارك وتعالى حين نزلت الآية الشريفة [يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ] (1) ، حيث استاء عددٌ من الصحابة من هذا التنصيب حسداً وقد كانت نفوسهم تحلم بالتسلط على رؤوس المسلمين وأجرى رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم عدة اجراءات لحماية هذا القرار من المتآمرين فأمرهم بالخروج في جيش بقيادة اسامة بن زيد بن حارثة لقتال الروم لتنتقل القيادة بهدوء الى علي عليه السلام بعد وفاته لكن القوم عرفوا الهدف فخالفوا امر رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم وبقوا في المدينة حتى لعنهم رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم ونفذوا ما اردوا بالحديد والنار وحاصروا دار علي عليه السلام بمجرد وفاة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم في 28 صفر سنة 11 للهجرة واعتدوا عليه وعلى زوجته الطاهرة وارغموه على بيعتهم وخشي إن خالف ان تقع الفتنة بين المسلمين والاقتتال وتعود الناس الى جاهليتها فصبر وفي العين قذى وفي الحلق شجى وبقي جليس الدار لكنه لم يبخل عليهم بالنصح والارشاد وتبليغ ما خفي عنهم من الاحكام وتقديم الاراء الصائبة التي حفظت الاسلام والمسلمين الى سنة 35 هجرية حيث قتل الخليفة الثالث وبويع الإمام علي عليه السلام بيعة جماهيرية وانثال عليه الناس كما يصف عليه السلام في نهج البلاغة فقام بالامر بعد القاء الحجة عليه وهو يعلم ان الظرف لم يُعد صالحاً فقد تمزقت الامة وانتشر حب الدنيا ولعبت المطامع في عقولهم وعصفت بهم الفتن وضاع الحق في ركام من التحريف والتشويه لذا أعلنت عليه الحرب أقوام متعددة ودخلت الامة خلال خمس سنين من خلافته حروباً طاحنة اهلكت عشرات الآلاف من خيار الامة وفيهم بقية الصلحاء من اصحاب النبي صلي الله عليه و آله و سلم7.
ص: 258
كخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين وعمار بن ياسر وابي الهيثم بن التيهان ومالك الاشتر حتى صار عليه السلام يتمنى الموت على منبر مسجد الكوفة حيث نقل عاصمة خلافته الى هناك بعد معركة الجمل عام 36 ه - ويبكي حتى تخضلّ لحيته الشريفة بالدموع الى ان اغتاله اللعين عبد الرحمن بن ملجم المرادي وهو من الخوارج عند صلاة الفجر من ليلة التاسع عشر من شهر رمضان المبارك سنة 40 ه - وتوفي بعد ليلتين ودفن في النجف الاشرف وأعلن خصمه اللدود معاوية بن ابي سفيان الذي خاض حرباً ضروساً هي (صفين) مع الإمام علي عليه السلام مدى سنة ونصف السنة أعلن وفاة الإمام عليه السلام عيداً في الشام وقويت شوكته حيث استطاع خلخلة جيش الإمام عليه السلام باغتيال قادته وإغراء رموز أخرى فيه وإلقاء الشبهات بينهم فانشق على الإمام عليه السلام آلاف من مقاتليه حكموا بكفر الإمام عليه السلام وقاتلوه في معركة النهروان حيث أباد عليه السلام اكثرهم لكن هذه الاحداث فتّت في عضد الإمام وحرمت الامة نفسها من الاستفادة من علم الإمام وقدرته على تطبيق المنهج الالهي القويم ودفن عليه السلام في النجف الاشرف سراً لكي لا يعلم مرتزقة معاوية بقبره فينبشوه، وكانت مدة إمامته عليه السلام ثلاثين عاماً وعمره الشريف (63) سنة كعمر رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم.
بن ابي طالب وامه فاطمة بنت رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم ولد في النصف من رمضان من السنة الثالثة من الهجرة وسمّاه جده بهذا الاسم الجميل الذي لم يسبق له أحد ونشأ في ذلك البيت الطاهر الذي أذهب الله عنهم الرجس وكان يحضر في مسجد جدّه ويستمع اليه صلي الله عليه و آله و سلم وهو يبلغ عن ربّه ما يوحى اليه عن طريق الامين جبرئيل ويعي بيانه وينقله الى امه الزهراء، وكان النبي صلي الله عليه و آله و سلم يحوطه وأخاه الحسين عليه السلام بمحبة وتكريم خاصين فيحملهما على ظهره ويجلسهما في حجره ويقول: هما ريحانتاي وهما سيدا شباب أهل الجنة وأنهما الإمامان من بعد ابيهما سواء قاما بالأمر أو قعدا عنه لعدم توفر مقوّماته شهدا محنة وفاة جدهما صلي الله عليه و آله و سلم وعدوان القوم على دار امهما الزهراء وإكراه أبيهما على البيعة وغصبه حقه ورغم ذلك فانهما لم يقطعا عطاءهما عن الامة وخرجا
ص: 259
مع جيوش المسلمين في فتوح اذربيجان في العقد الثالث من الهجرة وبعد تسلّم الإمام علي عليه السلام الخلافة شاركاه في معاركه لكنه كان يبخل بهما عن الحرب ويرسل اولاده الآخرين من غير فاطمة الزهراء كمحمد بن الحنفية فقيل له عن ذلك قال: محمد ولدي وهذان ولدا رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم فانا احفظ اولاد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم من القتل وقال محمد يدي وهذان عيناي فأنا ادافع بيدي عن عيني.
اوصى امير المؤمنين عليه السلام له بالإمامة بعد استشهاده وبايعته سائر الامصار الاسلامية عدا معاوية في الشام ونابذه الحرب فجهزا جيوشهما لمعاودة القتال في صفين لكن معاوية استطاع اغراء قائد طلائعه بأموال طائلة فترك قيادة الجيش والتحق بمعاوية وهكذا فعل مع قادة الوحدات العسكرية ورؤساء العشائر فتفكك جيش الإمام عليه السلام وسرت الشائعات في صفوفه وكثر المنافقون فيه حتى انقلبوا على الإمام الحسن عليه السلام وخاطبوا معاوية: إن شئت تسليم الحسن سلّمناه اليك فاضطر الإمام الى مصالحة معاوية بعد تسلّمه الخلافة بعدة اشهر واشترط على معاوية شروطاً لم يفِ بها كما هو شأنه وغادر الإمام عليه السلام الكوفة عائداً الى المدينة مع أخيه الحسين عليه السلام وسائر ذويه وبقي يدافع عن شيعته ويراقب دسائس معاوية ويحاسبه عليها حتى قرر الاخير قتله للتخلص منه لان وجود مثله في الامة لا يجعل لمعاوية نصيباً في قيادتها فاتفق مع زوجة الإمام عليه السلام جعدة بنت الاشعث الكندي على دس السم اليه وقتله مقابل اماني يحققها لها فاستشهد الإمام عليه السلام في السابع من صفر سنة 50 للهجرة ودفن في البقيع مجاور المسجد النبوي الشريف بعد ان ظنّ الحاقدون والحاسدون أن أخاه الحسين عليه السلام يريد دفنه بقرب جدّه صلي الله عليه و آله و سلم ورموا جنازته بالسهام، وكان عمره الشريف (47) عاماً، ومدة إمامته عشر سنوات.
بن ابي طالب وامه فاطمة الزهراء عليها السلام ولد في الثالث من شعبان في السنة الرابعة من الهجرة شارك أخاه الحسن عليه السلام في نشأته وفيما قلناه من رعاية جده وتكريمه ومناقبه ومشاركته اباه حتى استشهاده وبقي الى جنب اخيه الحسن عليه السلام يتجرع
ص: 260
غصص خذلان الامة لهما وتضييعها لحقهما مما جعل معاوية يتلاعب بمقدرات الامة ومقدساتها ويعيث في الارض فساداً ويعطّل شريعة الله تبارك وتعالى ويعيد الناس الى جاهليتها الاولى ويتتبع أهل الحق بالقتل والسجن والتشريد ويجعل سب أبيهما امير المؤمنين عليه السلام سنة على جميع منابر المسلمين حتى قاتل أخاه الحسن ريحانة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم وبقية أهل بيته ولم يكتف بذلك حتى جعل ابنه الفاسق يزيد ولياً للعهد خلافاً لما اشترطه الإمام الحسن في الصلح ان تكون الخلافة بعده للامام الحسن ثم للحسين عليهما السلام وكان الإمام الحسين عليه السلام لايقصّر في وعظه وتوبيخه وتحذيره حتى مات معاوية في رجب سنة 60 للهجرة واراد يزيد أن يأخذ البيعة من الإمام الحسين عليه السلام فامتنع وخرج من المدينة مع أهل بيته الى مكة اواخر رجب وبقي هناك عدة أشهر يبيّن فسق وفجور بني امية وعدم اهليتهم لقيادة الامة وهو ما اتضح جلياً لدى الامة فجاءته الوفود تطالبه بالتحرك ضد السلطة خصوصاً من معقل شيعته الكوفة حيث وصلته الآف الرسائل والتوقيعات بالنصرة فارسل ابن عمه مسلم بن عقيل في النصف من شوال ليستطلع له الحال لكن الاوضاع تغيرت اذ ارسل يزيد عبيد الله بن زياد المعروف بالبطش والقسوة والياً على الكوفة بدلاً من النعمان بن بشير الذي اتهمه بالضعف ففشلت تعبئة مسلم واستشهد بعد ان خذله انصاره في الثامن من ذي الحجة وهو اليوم الذي خرج فيه الإمام من مكة قاصداً العراق حيث وصل كربلاء في الثاني من المحرم عام 61، فبعث عبيد الله الجيوش لقتاله بقيادة عمر بن سعد حتى اكتملت ثلاثين الفاً والإمام في سبعين فقط من اصحابه ودارت معركة رهيبة يوم العاشر من محرم استشهد في نهايتها الإمام الحسين عليه السلام وسبعة عشر من اهل بيته بينهم ولدان له وآخران لأخيه الحسن والباقي لاولاد عمومته وأخذت عائلته الكريمة سبايا وفيهم اخته زينب عقيلة الهاشميين وزوجته وبناته وزوجة أخيه الحسن عليه السلام ونساء الشهداء معه إلى عبيد الله بن زياد في الكوفة ثم الى يزيد في الشام واعيدت النسوة الى كربلاء ثم الى المدينة ومعهن الإمام السجاد زين العابدين ابن الإمام الحسين، وكان مريضاً
ص: 261
جداً فتركه الاعداء ولم يقتلوه. ومدة إمامة الحسين عليه السلام عشر سنين كأخيه الحسن عليه السلام، وعمره الشريف (57) عاماً.
لُقّب بزين العابدين والسجاد لطول عبادته وتهجّده، ولد في الرابع من شعبان سنة 38 للهجرة وأمه بنت كسرى زعيم الفرس عاش مع ابيه وعمه محنتهما وتجّرع الآم معركة الطف حيث كان مريضاً مسجى في الخيمة ويأتيه والده وعمه العباس وعمته زينب لعيادته ولإخباره بما يجري حتى استشهد العباس وسائر اصحاب ابيه فهبّ للدفاع عن إمامه العظيم وبقية النبي صلي الله عليه و آله و سلم لكن الإمام الحسين عليه السلام أوصى اخته العقيلة زينب ان تحبسه لئلاّ تخلو الارض من حجة الله تبارك وتعالى واقتيد مكبلاّ بالحديد مع عماته وأخواته وهو ينظر الى رأس أبيه ورؤوس اصحابه مرفوعة على رؤوس الرماح والاعداء يتصفحون وجوه عقائل النبوة وفيهم زوجته بنت الإمام الحسن عليه السلام وولده محمد الباقر طفل صغير وهي حائرة بين ستر نفسها وحماية ولدها وكانت هذه اعظم المشاهد التي مرّت به وبقي يتجرع مرارتها وعاد مع السبايا الى المدينة بعد مقتل ابيه واستقبله أهلها وكان يوماً كيوم مات فيه رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم واعتزل الناس واتبع أساليب في أداء رسالته لا تعرضه لبطش الامويين المنسلخين من كل دين واخلاق ومبادئ إنسانية واقرأ كمثال ما سجلّه التاريخ من فضائع حين اقتحموا المدينة المنورة بعد واقعة الحرة سنة 63 ه -، وحين وقعت ثورة اهل المدينة على يزيد ودارت معركة الحرّة وقتل فيها الآلاف من اصحاب رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم وأبنائهم خرج بأهله من المدينة وعاد لائذاً بقبر جده صلي الله عليه و آله و سلم فحماه الله تعالى من بطش الجيش الاموي وانتهى ملك يزيد وجاء بعده ابنه معاوية الذي تنازل عن العرش بخطاب اوضح فيه ان اباه وجده غصبوا هذا الموقع من اصحابه الشرعيين وهم علي وبنوه فانتهى عهد آل ابي سفيان وجاء ملك مروان بن الحكم ثم ولده عبد الملك الذي ارسل جيشاً الى مكة للقضاء على عبد الله بن الزبير وقد تحصّن بمكة فحوصر فيها ورميت الكعبة بالمنجنيق حتى احترقت استارها وعاش بطش هذا الرجل وقسوته بحيث إن احدى سيئاته الحجاج بن
ص: 262
يوسف الثقفي اميره على العراق ومن بعد عبد الملك ولده الوليد حيث توفي الإمام مسموماً بأمره وبتحريض من أخيه هشام الحاقد على الإمام خصوصاً بعد حادثة الفرزدق المذكورة.
كانت وفاة الإمام في الخامس والعشرين من محرم سنة 95 ه - ومدة إمامته (34) سنة، وعمره (57) سنة كأبيه الحسين عليه السلام.
بن علي بن الحسين لُقّب بالباقر لوصف جده رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم إياه بأنه يبقر علوم الاولين والآخرين في حديث نقله الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الانصاري وكنيته ابو جعفر، ولد في الاول من رجب سنة (57) هجرية بالمدينة المنورة وأمه فاطمة يقال لها ام عبد الله بنت الإمام الحسن جليلة القدر عظيمة المنزلة وصفها الإمام الصادق عليه السلام بأنها صدّيقة، أجمع على سعة علمه حتى أعداءه قال عنه ابن حجر الهيثمي في الصواعق المحرقة: (أظهر من مخبئات كنوز المعارف وحقائق الاحكام واللطائف ما لا يخفى الا على منطمس البصيرة او فاسد الطوية والسريرة). كان مع ابيه وجده يوم عاشوراء وشهد معركة الطف وذاق مرارة السبي والأسر حتى عاد الى المدينة.
عاش في كنف ابيه وربما قام ببعض المهمات عنه كإجابة بعض الاسئلة وارساله الى الشام لانقاذ الدولة من تبعيتها النقدية الى دولة الروم وبعد استشهاد ابيه استقل بالإمامة وعاصر عدداً من ملوك بني أمية: الوليد بن عبد الملك ثم سليمان بن عبد الملك الذي يكتب له والي مصر ان الضرائب قد أجهدت الرعية حتى لم يبق لهم شيء فلو ارفقت بهم قال له ويلك احلب الدر فإن لم تجد فاحلب الدم، ثم بعده عمر بن عبد العزيز الذي حاول ان يصلح بعض ما أفسد اجداده فرفع السب عن امير المؤمنين علي عليه السلام من على المنابر وألزم الخطباء أن يتلوا بدلاً منها الآية الشريفة:[إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ]
ص: 263
[يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] (1) ، ولم تدم امرته ازيد من سنتين فجاء بعده يزيد بن عبد الملك ثم هشام بن عبد الملك الّذان سخرا من إصلاحات ابن عمهما ووصفاه بأنه مغرّر به فعادا الى جرائم أسلافهم.
استدعاه هشام الى الشام فذهب الإمام ومعه ابنه جعفر الصادق عليه السلام وهناك حاول هشام اهانته والاستخفاف به فطلب ان يرمي بالقوس هدفاً وضع له فاعتذر الإمام وقال: إني قد كبرت عن الرمي فأصرّ هشام فأخذ الإمام سهماً وأصاب قلب الهدف وأخذ ثانياً فشق به الاول ثم استمر حتى العشرة فاعجب هشام وذهل ودار بينهما حديث ومحاججة ثم ارجعه الى المدينة ولم يصبر على وجوده المقدس وبركاته التي عمّت الامة حتى قتله مسموماً في السابع من ذي الحجة سنة 114 هجرية ودفن في البقيع عند ابيه وعمه الإمام الحسن المجتبى عليه السلام وعمره (57) عاماً كأبيه ومدة إمامته (19) عاماً.
ولد في السابع عشر من ربيع الاول وهو يوم مولد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم سنة 83 للهجرة في المدينة لقبّه الصادق جده رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم(2) ، أمه ام فروة بنت القاسم بن محمد بن ابي بكر قال الإمام الصادق عليه السلام في حقّها: (كانت امي ممن آمنت واتقت واحسنت والله يحب المحسنين) حتى قيل للامام الصادق عليه السلام: ابن المكرّمة لجلالة قدرها وأمها اسماء بنت عبد الرحمن بن ابي بكر لذا كان يقول الإمام عليه السلام تأليفاً لقلوب العامة: (ولدني ابو بكر مرتين)، تولّى الإمامة بعد وفاة أبيه وعاصر ملوك بني امية: هشام بن عبد الملك والوليد بن يزيد بن عبد الملك ويزيد بن الوليد بن عبد الملك، وإبراهيم بن الوليد بن عبد الملك ومروان بن محمد بن مروان آخر ملوك بني أمية وفي عصره وقعت ثورة زيد الشهيد وما ارتكبه الامويون من فضائع يندى لها
ص: 264
الجبين وقد أثرت في قلب الإمام عليه السلام وكان يتتبع أخبار زيد بألم وحرقة وبكاء، وعاش فترة ضعف الدولة الاموية وانشغالها بالحروب الداخلية والثورات المتتالية فقصده العلماء وطلاب العلوم من اصقاع الارض وكان له مجلس عام وقوله هو فصل الخطاب وعدّ تلامذته فكانوا اربعة آلاف صار بعضهم أئمة لمذاهب كابي حنيفة ومالك بن أنس وبدأ في زمانه تلاقح الحضارات وترجمة العلوم واشتداد الحوار والجدال والخصومة بين التيارات الفكرية والعقائدية فهيأ مجموعة من تلامذته للدفاع عن العقيدة الحقة ودحض الاراء الفاسدة وقد سجّلت الكتب كالاحتجاج وتحف العقول واصول الكافي عدداً وافراً منها.
وبدأ الهاشميون (علويون وعباسيون) تحركات لاسقاط الملك الاموي وعقدوا اجتماعات متكررة كان الإمام يبعد نفسه عن تأييدها لأنه يعلم مصيرها ونجحت حركتهم في اسقاط الدولة الاموية سنة 132 هجرية وحاول قادة جيوش الثورة استدراج الإمام عليه السلام لقيادتها بعد ان رأوا نية العباسيين في الاستئثار بالسلطة فلم يفلحوا وكان ابو العباس السفاح اول ملوك بني العباس الذي بطش بالامويين وبقي اربع سنين حتى جاء ملك ابي جعفر المنصور الذي انهى معارضة خصومه من العلويين الذين كانوا يشاركونه بالامس اجتماعات الثورة ضد الامويين فقضى عليهم بصور بشعة واولغ في الدماء وكان الإمام عليه السلام يتابع كل تلك الجرائم ويتألم بقدر آلام أهلها كما في خطابه لعبد الله المحض بن الحسن بن الإمام الحسن والد محمد النفس الزكية وابراهيم اللذين قادا ثورتين ضد المنصور، واستدعى السفاح والمنصور الإمام الصادق عليه السلام الى عاصمة ملكهما اكثر من مرة سجلها التاريخ ولم يستقر للمنصور قرار حتى قضى على الإمام الصادق عليه السلام بالسمّ في الخامس والعشرين من شوال سنة 148 هجرية وعمره المبارك (65) عاماً ومدة امامته اربع وثلاثون سنة ودفن بالبقيع الى جنب سلفه الطاهر.
ص: 265
ولد في السابع من شهر صفر سنة (128) للهجرة في الابواء وهو منزل بين مكة والمدينة امه حميدة لقبها الإمام الصادق عليه السلام بالمصفاة وقال فيها: (حميدة مصفّاة من الادناس كسبيكة الذهب ما زالت الاملاك تحرسها حتى أدّيت اليّ كرامة من الله لي والحجة من بعدي(1) وكانت غاية في العلم والفقاهة حتى ان الإمام الصادق عليه السلام كان يأمر النساء بالرجوع اليها في أخذ الاحكام.
تولّى الإمامة بعد وفاة ابيه الصادق عليه السلام في شدة عتو المنصور وطغيانه بحيث يكتب الى والي المدينة: انظر الى من اوصى جعفر بن محمد فاضرب عنقه ولا تراجعني لكنه فشل بلطف الله تبارك وتعالى وبالتخطيط الذي وضعه الإمام الصادق عليه السلام ولم يكن الامام عليه السلام يرشد اصحابه الى نفسه حتى مات المنصور وجاء ابنه محمد الملقب المهدي واستمر في مراقبة تحركات الإمام واستدعائه الى العاصمة بغداد وتوجد حوارات بينهما ذكرنا بعضها في الكتاب حتى هلك فجاء ولده موسى الهادي الذي ملك سنة واحدة وفيها وقعت معركة فخ التي جرّت المآسي على ذرية رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم وتجرّع آلامها الإمام عليه السلام ولما جاءوا موسى الهادي برؤوس الحسين بن علي الحسني واصحابه قال بقي عميدهم وسيدهم موسى بن جعفر عليهما السلام قتلني الله إن لم اقتله لكنه هلك سنة (170) ه - فجاء بعده أخوه هارون الذي شدّد الوطأة على الإمام واعتقله في سجون متعددة مدداً متفاوتة بحيث بلغ مجموع مدة سجونه لدى هارون وسلفه ما لا يقل عن عشر سنين وكان آخر اعتقال له بدأ سنة 179 ه - حينما حج هارون ومهّد لهذا الأمر وكان هارون احياناً يخفف القبضة عليه فيسمح له بالتجول في بغداد ثم يعيده الى السجن وفي احداها حدثت الواقعة المعروفة مع بشر الحافي التي ادت الى انقلابه من الفسق والفجور الى درجة رفيعة من الزهد والصلاح والعرفان وكانت اضيق تلك السجون في حبس السندي بن شاهك وهو مجوسي يريد
ص: 266
أن يتقرب الى ولي نعمته هارون فحبسه في طامورة ظلماء لا يعرف فيها الليل من النهار. نال الشهادة حيث دس له السم في الخامس والعشرين من رجب سنة 183 هجرية وحاول ان يدفنه كالغرباء لكن ثورة عارمة عمّت العاصمة بغداد دفعت رجال البلاط العباسي الى اعلان تشييع عام شاركوا فيه ودفن في مقابر قريش غرب بغداد.
عُرف عليه السلام بكظم الغيظ والاحسان الى من أساء اليه وكان اذا بلغه عن الرجل ما يكره بعث اليه بصرّة دنانير وكانت صراره ما بين ثلاثمائة الى المائتين دينار فكانت صرار موسى مثلاً. وقد اغتنم فرصة سجنه للتفرغ لعبادة ربه وكان يقول: (الهي طالما دعوتك ان تفرغني لعبادتك وقد فعلت).
حاول هارون ان يستميله بشتى الوسائل ومنها إرساله الى السجن بجارية جميلة وضاءة لتخدمه فخرجت منه وهي ذات عبادة وسجود طويل وتشخص ببصرها نحو السماء وترتعد حيث انبهرت بسيرة الإمام عليه السلام وهدده بالقتل واكتفى منه بأن يطلب منه اطلاق سراحه ليطلقه ويعطي لنفسه المشروعية بذلك لكن الإمام رفض ذلك كله فازداد سمواً وكان هارون ربما صعد سطحاً يشرف منه على الحبس الذي حبس فيه أبا الحسن عليه السلام فكان يرى ابا الحسن عليه السلام ساجداً فقال للربيع: يا ربيع ما ذاك الثوب الذي أراه كل يوم في ذلك الموضع فقال: يا امير المؤمنين ما ذاك بثوب وإنما هو موسى بن جعفر عليه السلام له كل يوم سجدة بعد طلوع الشمس الى وقت الزوال، فقال الربيع: فقال لي هارون: أما إن هذا من رهبان بني هاشم قلتُ فما لك قد ضيّقت عليه في الحبس؟ قال هيهات لابد من ذلك.
توفي عليه السلام وعمره (55) عاماً ومدة إمامته (35) سنة.
ولد في الحادي عشر من ذي القعدة سنة (148) في المدينة المنورة بعد وفاة جدّه الصادق عليه السلام بأيام، وكان متلهفاً لرؤيته كما روي عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام أنه قال: (سمعت ابي جعفر بن محمد عليه السلام غير مرة يقول لي: ان عالم آل محمد لفي صلبك وليتني ادركته فانه سمي امير المؤمنين علي عليه السلام) وكان الإمام موسى بن
ص: 267
جعفر يسمي ولده علياً (الرضا) وكان يقول: ادعوا لي ولدي الرضا، وقلت لولدي الرضا، وقال لي ولدي الرضا، واذا خاطبه قال: يا ابا الحسن.
أمه جارية لأم ابيه الإمام الكاظم عليه السلام اسمها تُكَتم وكانت من افضل النساء في عقلها ودينها وإعظامها لمولاتها حميدة المصفّاة زوجة الإمام الصادق عليه السلام فقالت لابنها موسى: يا بني ان تُكَتم جارية ما رأيت جارية قط أفضل منها ولست أشك أن الله تعالى سيطهّر نسلها إن كان لها نسل وقد وهبتها لك فاستوص ِ بها خيراً فلما ولدت له الرضا سماها الطاهرة.
تولّى الإمامة بعد وفاة ابيه وكان في المدينة في اجواء إرهابية وقبضة حديدية لا يسمح هارون العباسي بها بأي تهديد لسلطته ولو احتمالاً وهو الذي يخاطب السحاب (اينما تمطرين ففي ملكي وخراجك اليّ) وإضافة الى ذلك فقد ازدهرت الحياة الاقتصادية للدولة الاسلامية وعاشت ترفاً وبذخاً عظيمين وانتشرت مجالس اللهو والفسق والفجور واصبحت بغداد قبلة الناس وسرت في جسد الامة الامراض الفكرية والعقائدية والاخلاقية وحليت الدنيا في اعين قوم وساهمت كل هذه العوامل في تراجع المستوى الايماني لدى الناس حتى داخل مذهب أهل البيت عليهم السلام وانشقت فرقة سميت بالواقفة لم تقل بامامة الرضا عليه السلام فبدأ الإمام حركة للمّ صف الشيعة ثم بث الوعي الديني والاخلاقي في الامة.
وازداد نشاطه بعد وفاة هارون سنة 193 ه - وحكم ابنه محمد الامين الذي كان مشغولاً باللهو والمجون وما لبث ان عزل اخاه المأمون عن ولاية العهد سنة 195 ه - فخلع المأمون أخاه عن الخلافة وانفصل بخراسان ثم جهّز جيشاً لقتال أخيه واستمرت المعارك حتى انتهت بسقوط بغداد وقتل الامين سنة 198 ه - وتولّى المأمون الخلافة.
عقد للرضا عليه السلام ولاية العهد حدود سنة 200 ه - وأمر بجلبه رغماً عنه فودّع الإمام قبر جده المصطفى صلي الله عليه و آله و سلم بنحيب وبكاء وكذا ودع ولده محمداً الجواد وهو ابن خمس سنين وأمر ذويه ومتعلقيه ان يطيعوا ولده الجواد عليه السلام من بعده وأعلمهم أنه سوف لا يرجع من سفره هذا.
ص: 268
قتله المأمون بالسم في السابع عشر من صفر او آخر صفر سنة (203) هجرية ودفن في طوس وعمره (55) عاماً ومدة إمامته عشرون سنة.
كان عليه السلام يكثر وعظ المأمون وروي ان المأمون كتب الى الرضا عليه السلام فقال: عظني فكتب عليه السلام:
إنّك في دنيا لها مدةٌ *** يقبل فيها عمل العامل
اما ترى الموت محيطاً بها يسلب منها أمل الآمل
تعجّل الدنيا بما تشتهي وتأمل التوبة من قابل
والموتُ يأتي أهله بغتة ما ذاك فعل الحازم العاقل
ولد في العاشر من رجب سنة (195) هجرية في المدينة المشرفة، أمه أم ولد سمّاها الرضا عليه السلام الخيزران وكانت من اهل النوبة ومن قبيلة مارية القبطية ام ابراهيم ابن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم وكانت افضل نساء زمانها، ولما توفي ابوه كان هو بالمدينة وله من العمر ثمان سنين فشكّ كثيرون انه الإمام بعد ابيه وحاولت الدولة المتغطرسة ان تستغل ذلك لتسخيف عقيدة الشيعة الإمامية فعقدوا له المناظرات والمسائل فأجابهم جميعاً وأذعن الجميع له بالتفوق عليهم وأقرّ له بالإمامة من كان في قلبه شكّ لصغر سنه.
حاول المأمون ان يقربه بعد أن سمع الناس يتداولون اتهامه بقتل ابيه الرضا عليه السلام فاستدعاه من المدينة الى بغداد وزوجه ابنته ام الفضل رغم اعتراض بني العباس وكراهتهم لذلك وحذّروه من خروج الملك منهم الى آل علي عليه السلام وطالبوه ان يتصرف كأسلافه فقال لهم المأمون: أما ما بينكم وبين آل ابي طالب فآباؤكم سبب ذلك (ولو انهم لم يغصبوا حقّهم لما وقعت عداوة بيننا وبينهم وهم اولى بالخلافة منّا) وقد اعجب الناس بعلمه ونبوغه فقال له شخص: إن شيعتك تدّعي انك تعلم كل ماء في دجلة وزنه؟ وكنّا على شاطئ دجلة فقال عليه السلام لي: يقدر الله تعالى ان يفوّض علم
ص: 269
ذلك الى بعوضة من خلقه ام لا؟ قلت: نعم يقدر فقال: أنا اكرم على الله تعالى من بعوضة ومن أكثر خلقه.
بقي عند المأمون معززاً مكرماً مهاباً الا ان قلبه عند مدينة جده رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم.
روى الحسين المكاري قال: دخلت على ابي جعفر عليه السلام ببغداد وهو على ما كان من امره - أي من العظمة والحظوة لدى البلاط العباسي - فقلت في نفسي: هذا الرجل لا يرجع الى موطنه ابداً وأنا أعرف مطعمه، قال: فأطرق رأسه ثم رفعه وقد اصفرّ لونه فقال: (يا حسين خبز شعير وملح جريش في حرم جدي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم أحبّ اليّ مما تراني فيه).
وكان يضيق بمعاشرة المأمون فاستأذنه في الذهاب الى الحج وصحب زوجته ام الفضل ومن هناك عاد الى مدينة جده صلي الله عليه و آله و سلم حتى مات المأمون واغتصب الخلافة أخوه المعتصم في رجب سنة 218 هجرية وسمع فضائل ومناقب الإمام اشتعلت في قلبه نار الحسد فاستدعى الإمام الى بغداد فوصلها الإمام في محرم سنة (220) وخطط المعتصم لقتل الإمام عليه السلام فرأى ان افضل وسيلة هي السم بواسطة زوجته ام الفضل التي كانت تضمر العداء والبغض للامام لانه يفضل ام الإمام الهادي عليه السلام - وهي جارية - عليها وطالما اشتكت الى ابيها المأمون لكنه يرد شكايتها لانه عزم على ان لا يمسّ الإمام الجواد عليه السلام بسوء بعد قتل ابيه الرضا عليه السلام لئلاّ يزول ملكه.
وكان السبب المباشر الذي أثار حفيظة المعتصم وشاية الحاسد قاضي قضاته ابن ابي داود عندما ترك المعتصم قوله وأقوال اصحابه من الفقهاء السائرين بركاب السلطة وأخذ بقول الإمام عليه السلام في حادثة قطع يد السارق، فقال القاضي: إن نصيحة امير المؤمنين علي واجبة وأنا أكلمه بما أعلم إني ادخل به النار؟ قال: وما هو، قال القاضي: اذا جمع امير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيته وعلماءهم لأمر واقع من امور الدين فسألهم عن الحكم فيه فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك وقد حضر مجلسه أهل بيته وقوّاده ووزراؤه وكتّابه وقد تسامع الناس بذلك من وراء بابه ثم يترك
ص: 270
أقاويلهم كلهم لقول رجل يقول شطر هذه الامة بإمامته ويدّعون انه اولى منه بمقامه ثم يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء؟!
فتغير لون المعتصم وانتبه وقال: جزاك الله عن نصيحتك خيراً، وعزم على قتل الإمام عليه السلام فسمّه بواسطة زوجته ام الفضل وتوفي الإمام عليه السلام في آخر ذي القعدة سنة (220) هجرية عن عمر (25) سنة ودفن في ظهر جدّه ابي الحسن موسى وكانت مدة إمامته (17) عاماً.
ولد في النصف من شهر ذي الحجة او الثاني من رجب سنة (212) هجرية في موضع قرب المدينة يقال له: (صريا).
يُكنى بأبي الحسن الثالث بعد جدّيه ابي الحسن موسى عليه السلام وأبي الحسن الرضا عليه السلام. امه سمانة المغربية وقال فيها الإمام الهادي: (امي عارفة بحقي وهي من اهل الجنة لا يقربها شيطان مارد ولا ينالها كيد جبار عنيد وهي مكلوء بعين الله التي لا تنام ولا تخلف عن امهات الصديقين والصالحين).
تولى الإمامة بعد وفاة ابيه الجواد عليه السلام وهو ابن ثمان سنين وكان في المدينة وبقي أيام المعتصم حتى مات سنة 227 ه - وشهدت العاصمة العباسية صراعاً سياسياً كان الإمام عليه السلام مطلعاً عليه قبل ان تصل اخباره الى الناس كما يظهر من الحوار التالي: فقد روى الشيخ المفيد في الارشاد عن خيران الاسباطي انه قال: قدمت على ابي الحسن علي بن محمد عليهما السلام المدينة فقال لي: ما خبر الواثق عندك قلت: جعلت فداك خلّفته في عافية أنا من أقرب الناس عهداً به، عهدي به منذ عشرة أيام قال: فقال لي: ان اهل المدينة يقولون انه قد مات، فقلت: انا اقرب الناس عهدا قال: فقال لي: إن الناس يقولون انه مات، فلما قال لي: ان الناس يقولون، علمت انه يعني نفسه ثم قال لي: ما فعل جعفر (الذي لقب بالمتوكل)؟ قلت: تركته أسوأ الناس حالاً في السجن، قال: فقال لي: أما انه صاحب الامر، ثم قال: ما فعل ابن الزيات (وزير الواثق وكان قاسياً وله اساليب وحشية في تعذيب خصومه السياسيين) قلت: الناس معه والامر امره، فقال: اما
ص: 271
إنه شؤم عليه، قال: ثم إنه سكت وقال لي: لابد ان تجري مقادير الله وأحكامه يا خيران، مات الواثق وقد قعد جعفر المتوكل وقد قتل ابن الزيات، قلت: متى جعلت فداك؟ فقال: بعد خروجك بستة ايام، كان ذلك سنة 232 ه -.
وقد عاش الإمام بطش المتوكل وبغضه لأهل البيت عليهم السلام وشدة وطأته على العلويين وشيعتهم اشخصه المتوكل الى سامراء بعد ان توالت عليه الكتب بازدياد شعبية الإمام عليه السلام وتوجّه الناس اليه ومنهم عبد الله بن محمد والي المدينة وبريحة العباسي الذي كتب الى المتوكل (إن كان لك في الحرمين حاجة فأخرج علي بن محمد فانه قد دعا الناس الى نفسه واتبعه خلق كثير) فارسل المتوكل كتاباً في جمادى الثانية سنة 243 كتاباً لطيفاً يطلب زيارة الإمام ومعه من يحب الى بلاط الخليفة ووجّه المتوكل احد قواده وهو يحيى بن هرثمة لجلب الإمام عليه السلام، يقول يحيى: (فلما صرت اليه ضجّ أهلها ضجيجاً - يقول يحيى - ما سمعت مثله فجعلت اسكتهم واحلف لهم اني لم أؤمر فيه بمكروه).
ولما وصل سامراء تجاهل المتوكل امره وحاول الاستخفاف به فانزله دار الصعاليك.
روى الشيخ الكليني عن صالح بن سعيد قال: دخلت على ابي الحسن عليه السلام فقلت له: جعلت فداك في كل الامور ارادوا إطفاء نورك والتقصير بك حتى انزلوك هذا الخان الاشنع خان الصعاليك فقال: ها هنا أنا يا ابن سعيد، ثم اومأ بيده وقال: انظر فنظرت فاذا انا بروضات آنقات وروضات باسرات، فيهن خيرات عطرات وولدان كأنهن اللؤلؤ المكنون، وأطيار وظباء وأنهار تفور، فحار بصري وحسرت عيني، فقال: حيث كنّا فهذا لنا عتيد، لسنا في خان الصعاليك.
تعرضت داره عدة مرات للمداهمة والتفتيش، مرة في المدينة من قبل يحيى بن هرثمة، وأخرى في سامراء من قبل الاتراك بأمر المتوكل وفي كل مرة لا يجدون فيها شيئاً.
وفي احدى غضبات المتوكل كان يردد (والله لاقتلن هذا المرائي وهو الذي يدّعي الكذب ويطعن في دولتي) وهيأ اربعة من الخزر جلاف لا يفهمون شيئاً وأمرهم
ص: 272
بتقطيع اوصال الإمام عليه السلام اذا دخل ولما دخل الإمام عليه السلام اخذتهم هيبته واسقط ما في ايديهم بلطف الله تعالى وكان يتمتم بكلمات لم يسمعوها.
وفي سنة 236 ه - حاول المتوكل هدم قبر الحسين عليه السلام وما حوله ودفع حقده هذا على اهل البيت عليهم السلام ولده المنتصر الى قتله سنة 247 ه - فجلس مكانه وجاء بعده المستعين ومن بعده المعتز وفي أيامه استشهد الإمام الهادي عليه السلام بالسمّ في الثالث من رجب سنة (254) هجرية ودفن في داره في سامراء عن عمر بلغ (42) عاماً وكان مدة إمامته (34) سنة.
ولد في المدينة يوم الثامن من ربيع الثاني سنة (232) هجرية وامه يقال لها (سليل) وكانت غاية في الصلاح والورع والتقوى وكانت في بلدها من الاشراف في مصاف الملوك ويكفي في فضلها أنها كانت مفزعاً وملجأ للشيعة بعد وفاة الإمام الحسن العسكري عليه السلام.
تولّى الإمامة بعد وفاة ابيه الهادي عليه السلام ويظهر من الروايات ان الإمام كان محبوساً دائماً ممنوعاً عن معاشرة الناس فكان دائم العبادة. روى المسعودي في (اثبات الوصية) ان ابا الحسن الهادي عليه السلام احتجب عن كثير من الشيعة الا عدد يسير من خواصه، فلما افضى الامر الى ابي محمد الحسن عليه السلام كان يكلّم شيعته الخواص وغيرهم من وراء الستر الا في الاوقات التي يركب فيها الى دار السلطان وإن ذلك إنما كان منه ومن ابيه قبله مقدمة لغيبة صاحب الزمان لتألف الشيعة ذلك ولا تنكر الغيبة وتجري العادة بالاحتجاب والاستتار.
صار المهتدي خليفة بعد المعتز ثم المعتمد الذي حبس الإمام العسكري عليه السلام وأخاه جعفر وكان كلما سأل عنه قيل له انه يصوم النهار ويصلي الليل فأمر بإطلاق سراحه لكنه عليه السلام رفض الخروج الا واخوه جعفر معه فأمر المعتمد بذلك وقال: قد اطلقتُ جعفراً لك لاني حبسته بجنايته على نفسه وعليك وما يتكلم به، وخلّى سبيله فصار معه الى داره.
ص: 273
كان عليه السلام يؤكد على ضرورة إكرام ذرية رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم ورعايتهم وقضاء حوائجهم وإن كان لبعضهم ما يكون وامتنع عن لقاء بعض كبار شيعته لانهم قصّروا في ذلك وإن كان موقفهم بمسوّغ شرعي لكي يقلع من قصّروا في حقه عن معاصيه وكان تكريمهم لهم لاحقاً بعد وصية الإمام عليه السلام سبباً لهدايتهم.
كان عليه السلام يتفقد شيعته في الامصار ويسأل عن أخبارهم ويدعو لهم وقد انتشر موالوا أهل البيت عليهم السلام في كل مكان واغدق الله عليهم النعم. روى القطب الراوندي وقد سافر الى الحج ومرّ على سامراء فقال للامام عليه السلام: يا ابن رسول الله ان ابراهيم بن اسماعيل الجرجاني وهو من شيعتك كثير المعروف الى اوليائك، يخرج اليهم في السنة من ماله، اكثر من مئة الف درهم وهو احد المتقلبين في نعم الله بجرجان، فقال عليه السلام: شكر الله لابي اسحاق ابراهيم بن اسماعيل صنيعته الى شيعتنا، وغفر له ذنوبه) لاحظ ثروة شيعي واحد وفي تلك البلاد أي جرجان.
توفي الإمام عليه السلام مسموماً في عهد المعتمد يوم الثامن من ربيع الاول سنة (260) للهجرة فصارت سر من رأى ضجة واحدة - مات ابن الرضا - ودفن في داره الى جنب أبيه. وكان عمره (28) سنة ومدة إمامته ست سنوات.
الذي يملأ الارض قسطاً وعدلاً بعد ان يملأها الطغاة والفاسقون والكفار ظلماً وجوراً وُلِد ليلة النصف من شعبان سنة (255) هجرية في سامراء، أمه نرجس جارية رومية من بنات امرائهم القياصرة وقد احاطتها العناية الالهية طول فترة أسرها حتى ارسل الإمام الهادي عليه السلام الى بغداد من يشتريها وهو بشر بن سليمان النخاس من ولد الصحابي الجليل ابي ايوب الانصاري، وقال له: يا بشر انك من ولد الانصار وهذه الموالاة لم تزل فيكم يرثها خلف عن سلف وانتم ثقاتنا اهل البيت وإني مزكّيك ومشرفّك بفضيلة تسبق بها الشيعة في الموالاة بسرّ أطلعك عليه وانفذك في ابتياع أمه.
ص: 274
وقال الإمام الهادي عليه السلام الى اخته حكيمة: ها هي! فاعتنقتها طويلاً وسُرّت بها كثيراً، فقال لها: ابو الحسن عليه السلام: يا بنت رسول الله خذيها الى منزلك وعلميها الفرائض والسنن فانها زوجة ابي محمد وأم القائم عليه السلام.
اخفى الله تبارك وتعالى حمله في بطن امه كما اخفى حمل كليمه موسى بن عمران خوفاً من قتل فراعنة كل زمان وقد تواترت لديهم الاخبار عن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم ان الإمام الثاني عشر سيطهّر الارض من الرجس وعبادة الطواغيت والظلم والحكم بغير ما انزل الله تعالى وحين اعلن نبأ وفاة الإمام الحسن العسكري عليه السلام بعث السلطان الى داره من يفتشها ويفتش حجرها وختم على جميع ما فيها وازداد رعبهم حين تقدم جعفر اخو الإمام الحسن عليه السلام للصلاة عليه فلما همّ بالتكبير خرج صبي جذب رداء جعفر وقال: تأخر يا عم، فانا احق بالصلاة على ابي وهي غير الصلاة الرسمية التي أقامها الخليفة لكن السلطة لما لم تعثر على ولد للإمام قسّمت ميراثه على ام الإمام العسكري وأخيه جعفر، وادعت امه وصيته وثبّتت ذلك عند القاضي وكان الإمام الحسن عليه السلام قد ارسل والدته الى الحج سنة 259 هجرية وأعلمها بوفاته سنة ستين - بعد المئتين -.
تولى الإمامة بعد وفاة ابيه وهو ابن خمس سنين والتقى في حوادث متفرقة مع عدد من الاشخاص نقلوا هذه الحوادث وهي مثبتة في الكتب المتخصصة.
وعيّن له سفراء اربعة كانوا حلقة الوصل بينه وبين شيعته وهم من عظماء فقهاء الشيعة وثقاتهم تتابعوا على هذه السفارة حتى عام 329 حيث انتهت بوفاة السفير الرابع الغيبة الصغرى لوجود علاقة ما ولو غير مباشرة بين الإمام عليه السلام وشيعته وبدأت الغيبة الكبرى الممتدة الى الآن وقد اوصى شيعته بالرجوع الى الفقهاء العدول القادرين على العمل بالكتاب والسنة وعينهم وكلاء ونواب عامين له عليه السلام حتى يأذن الله تبارك وتعالى بالظهور وإقامة شريعة الله تعالى في الارض ونسأله تعالى أن لا يكون بعيداً وأن يجعلنا من شيعته وانصاره والمستشهدين بين يديه.
ص: 275
1 - (ماذا نستفيد من حياة الامام السجاد عليه السلام في مرحلتنا الراهنة)(1)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله كما هو أهله وصلى الله على نبيه محمد وآله الطاهرين.
وصف الله تبارك وتعالى القرآن بأنه [تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ](2) وقال عز من قائل عنه:[ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ](3) ، وما على الانسان الا ان يستثير كوامنه ويستخرج درره وجواهره بالوسائل التي تؤهله لهذا [مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ](4) ، وأولها الاخلاص لله تبارك وتعالى وتطهير القلب من الرذائل والنفس من الاهواء، وثانيها طلب العلم والمعرفة على يد المؤهلين الصادقين [فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ](5).
وقد دلت الاحايث الشريفة بل الآيات المباركة على أن أهل البيت عليهم السلام هم عدل الكتاب وصنوه كما في حديث الثقلين المشهور وأنهما لن يفترقا فحيثما تجد القرآن تجد أهل البيت عليهم السلام وكل ما تريد ان تعرفه من الكتاب تجده في صدور أهل البيت عليهم السلام مجسداً في سلوكهم لذا لما قيل لاحدى امهات المؤمنين صفي لنا رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم قالت: كان خلقه القرآن فلو حولت القرآن إلى سيرة عملية لكانوا هم عليهم السلام ولو دونت سيرتهم عليهم السلام في كتاب لكان هو القرآن فهم عليهم السلام كتاب الله الناطق قال تعالى:[فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ(6) ، أي ان حقائق هذا القرآن ومعارفه في اللوح المحفوظ المكنون ولا يصل إلى هذه الحقائق ويطلع عليها الا
ص: 276
المطهرون الذين أذهب الله عنهم الرجس وهم أهل بيت النبي صلي الله عليه و آله و سلم بنص القرآن الكريم [إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً] (1).
ومحل الشاهد من هذه المقدمة العميقة ان سيرة أهل البيت عليهم السلام كتاب مفتوح تجد فيه العلاج الناجح لكل مشاكلنا وأمراضنا والجواب الشافي لكل هواجسنا وتساؤلاتنا لأن في سيرتهم تبياناً لكل شيء وما علينا الا ان نفهمها فهماً صحيحاً ومعمقاً وجديداً بعد ان نقرأ الواقع الخارجي بدقّة ونشخص مواطن العلة.
وما أحوجنا نحن المسلمين اليوم ان نستلهم من تلك السيرة المباركة ما نواجه به التحديات المتكثرة والمتنوعة واريد ان اتخذ من حياة الامام السجاد زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام في ذكرى مولده مضماراً للشواهد على ذلك.
فنحن على ابواب انفتاح واسع على ثقافات العالم من خلال وسائل الاتصال المتطورة كالبريد الالكتروني والستلايت مما يهدد هوية المسلم في عقيدته واخلاقه اضعاف ما يحصل له في غيرها من الشهور فاذا فشلت لا سامح الله في استغلالها فسوف تكون خسارة عظيمة ولا تتوقع تعويضها في غيرها من الشهور واذا كان الامام المعصوم يقول: (لولا اننا نزداد في كل ليلة جمعة لنفد ما عندنا) فكم نحتاج نحن من هذه الشحنات المتدفقة علماً وإيماناً وحياة للقلب ولا نحتاج الى مؤونة كبيرة في تهيئة الزاد فان كلمات المعصومين عليهم السلام فيها الكثير مما يحيي القلوب ويهذب النفوس والصحيفة السجادية حافلة بالمعاني السامية التي تصف العلاقة بالله تبارك وتعالى فله عليه السلام دعاء في الحمد والثناء على الله تبارك وتعالى، وآخر في اللجوء اليه، وآخر في الرضا بقضائه، وآخر في الشكر، وآخر في التذلل له سبحانه، وآخر في طلب الستر والوقاية، وآخر في الالحاح، وآخر في الاستعاذة ثم يصلي على النبي وآله والملائكة وحملة العرش والانبياء والرسل عليهم السلام.
ولا يترك مناسبة الا احياها فله عليه السلام دعاء في الفطر، والاضحى، وعرفة، ويوم الجمعة، وايام الاسبوع، واستقبال شهر رمضان ووداعه، بل في كل صباح ومساء3.
ص: 277
ليكون العبد على ذكر دائم واتصال مستمر بربه وخالقه ومدبره ومولاه، (واجعل اوقاتي من الليل والنهار بذكرك معمورة وبخدمتك موصولة) وهذا الذكر المتواصل وعدم الغفلة هو صمام الامان للانسان من الوقوع في الخطأ والانحراف فليس من المعقول ان يرتكب الذاكر لله تعالى معصية.
وضمت الصحيفة ايضا دروساً في الاخلاق وتنظيم العلاقات مع الآخرين وبيان حقوقهم فله عليه السلام دعاء لابويه، وآخر لولده، وآخر لجيرانه واوليائه، ودعاء طويل في طلب مكارم الاخلاق وتعليمها بهذا الاسلوب اي الدعاء فمن ذلك قوله عليه السلام: (وأجر للناس على يدي الخير ولا تمحقه بالمن وهب لي معالي الاخلاق واعصمني من الفخر)، ويقول عليه السلام: (ولا ترفعني في الناس درجة الا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزاً ظاهراً الا احدثت لي ذلة باطنة عند نفسي بقدرها اللهم لا تدع خصلة تعاب مني الا اصلحتها، ولا عائبة أؤنب بها الا حسنتها، ولا اكرومة في ناقصة الا اتممتها)، (اللهم صل على محمد وآله وسدّدني لأن أعارض من غشني بالنصح، وأجزي من هجرني بالبر، وأثيب من حرمني بالبذل، وأكافئ من قطعني بالصلة، وأخالف من اغتابني الى حسن الذكر، وأن اشكر الحسنة وأغضي عن السيئة اللهم صل على محمد وآل محمد وحلني بحلية الصالحين، وألبسني زينة المتقين في بسط العدل وكظم الغيظ... والقول بالحق وإن عز واستقلال الخير وإن كثر من قولي وفعلي، واستكثار الشر وإن قلّ من قولي وفعلي).
ومما نستفيده من حياة الامام السجاد عليه السلام في مرحلتنا الراهنة تخطيطه للاستقلال النقدي للدولة الاسلامية عن الروم حينما حاول ملك الروم اذلال المسلمين واخضاعهم لمطاليبه والاّ سكّ الدنانير الرومية التي كانت هي العملة المتداولة في الدولة الاسلامية بسب نبي الاسلام فاضطرب عبد الملك بن مروان وقال: احسب انني اشأم مولود في الاسلام ولم يجد حلاّ لهذه المشكلة فاستنجد بالامام السجاد عليه السلام الذي ارسل له ولده الباقر عليه السلام وشرح له كيفية صبّ عملة جديدة وإلغاء التعامل
ص: 278
بالعملة الرومية ونفذ عبد الملك ذلك، وفرج الله تبارك وتعالى عنه وعن دولة الاسلام ببركة الامام عليه السلام الذي انقذ الدولة وحفظ لها استقلالها وإرادتها.
ص: 279
بسم الله الرحمن الرحيم
إن سيرة أهل البيت عليهم السلام سفر جامع لكل ما تحتاجه البشرية من اراء ومواقف وحلول وبرامج عمل لمختلف القضايا التي تواجهها ولا عجب في ذلك فانهم عدل الكتاب العزيز وصنوه وقد وصف القرآن نفسه بانه:[تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ] (1) و [ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ] (2) فهم كذلك.
وبمناسبة ذكرى وفاة الامام الصادق عليه السلام نريد ان نستلهم من حياته عليه السلام بعض المعالجات لمشاكلنا ونتعلم منه عليه السلام كيف نصمد امام التحديات التي تحاول تقويض شخصيتنا ومسخ هويتنا ونعرض ذلك باختصار من خلال نقاط:
الاولى: ان الفترة التي نعيشها تشابه تلك التي عاشها الامام الصادق عليه السلام من حيث انها شهدت ضعف وانحلال دولة هي الاموية وظهور دولة جديدة هي العباسية فكان اهم عمل قام به في هذه الفترة الانتقالية وتخفيف قبضة الظالمين عنه هو نشر علوم أهل البيت عليهم السلام وتثبيت الركائز الفكرية والعلمية الرصينة لهذه المدرسة حتى لقد نسب المذهب اليه فقيل: المذهب الجعفري لان جهده عليه السلام كان هو الاوضح في تأسيس هذا الصرح الشامخ وقد قطع الامام شوطاً واسعاً في هذا المجال فقد تخرج على يديه اربعة آلاف عالم في مختلف العلوم والفنون فابو حنيفة شيخ أئمة المذاهب من تلاميذه عليه السلام وله كلمته المشهورة: (لولا السنتان لهلك النعمان) وجابر بن حيان مؤسس علم الكيمياء من طلابه عليه السلام وغيرهم كثير وقد انتشر هؤلاء في الامصار ونقلوا معهم ما تعلموه وكان عليه السلام يحث على طلب العلم ويقول: (لوددت ان اصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا) وخاطب عليه السلام اصحابه: (عليكم بالتفقه في دين الله ولا تكونوا اعراباً فانه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر اليه يوم القيامة ولم
ص: 280
يزك له عملاً)، ونقل عليه السلام عن جده رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: (أفٍ لرجل لا يفرغ نفسه في كل جمعة لأمر دينه فيتعاهده ويسأل عن دينه). ونحن اذ نعيش اليوم زوال أيام النظام الجائر الذي حرمنا من كثير من حقوقنا ونشوء دولة جديدة يكون من اولوياتنا تأسيس الحوزات العلمية الشريفة والمؤسسات الثقافية في جميع المدن لخلق واقع جديد من انتشار مراكز العلم والمعرفة يكون اساساً تبنى عليه الحياة الجديدة حتى يتسع الوضع الحالي الذي يفترض وجود الحوزة العلمية في مدينة النجف الاشرف لان مجرد وجود الكيان العلمي الديني في مدينة ما يعني دفعة قوية للحركة الاسلامية والالتزام الديني فضلاً عما لو تحرك هذا الكيان ليبلغ الاحكام ويعظ ويوجه ويرشد فانه سميلأ تلك المدينة ولا يترك فراغاً يمكن ان يشغله غيره ويحاصر الفساد والانحراف ويسد عليه منافذ الحركة.
الثانية: بيان وتوضيح المعالم الصحيحة لشخصية المسلم بعد ان مسخها الحكام الظلمة بما كانوا يصورون للأمة من جوانب مخزية لشخصيتهم وبما كانوا ينشئون في حياة المجتمع الاسلامي من واقع فاسد من فسق وفجور وخيانة وجور وانكباب على الدنيا وتقاتل من أجلها وولع بالخمر وعدوان على أهل الحق وكان وعاظ السلاطين السائرون في ركابهم يرقعون لهم هذه المخازي بضلالاتهم فضاعت الصورة الحقيقية للمسلم خصوصاً عند الاقوام التي دخلت الاسلام جديداً وليس لهم عمق تاريخي فيه وحرموا من التعرف على ائمتهم الحقيقيين فنهض الامام عليه السلام بمسؤولية هذا التعريف وكان يركز اهتمامه اكثر على شيعته باعتبارهم طليعة هذه الامة التي عرفت الحق واتبعته فتكون المسؤولية عليهم أكبر قال عليه السلام: (فان الرجل منكم اذا ورع في دينه وصدق في حديثه وأدى للناس الامانة وحسن خلقه معهم وقيل هذا شيعي يسرني ذلك ويدخل علي منه السرور، ومن كان غير ذلك دخل علي بلاؤه وعاره)، وقال عليه السلام: (والله ما شيعة علي الا من عف بطنه وفرجه وعمل لخالقه ورجا ثوابه وخاف عقابه)، ويروي الامام الصادق عليه السلام قال: (خرجت انا وابي حتى اذا كنا بين القبر والمنبر اذا هو باناس من الشيعة فسلم عليهم ثم قال من كلام: واعلموا ان ولايتنا لا
ص: 281
تنال الا بالورع والاجتهاد من ائتم منكم بعبدٍ فليعمل بعمله)، وقال عليه السلام: (اوصيكم بتقوى الله واداء الامانة لمن ائتمنكم وحسن الصحبة لمن صحبتموه وان تكونوا لنا دعاة صامتين)، ولما سأله احدهم مستغربا: يا ابن رسول الله كيف ندعوا الى الله ونحن صامتون، فقال عليه السلام: (تعملون بما امرناكم به من طاعة الله وتعاملون الناس بالصدق والعدل وتؤدون الامانة وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ولا يطلع الناس منكم الا على خير، فاذا رأوا ما انتم عليه علموا فضل ما عندنا فعادوا اليه).
ومجتمعنا اليوم يتعرض لحملة عالمية منظمة مدعومة بأحدث التقنيات والوسائل الاعلامية كالصحف والمجلات والتلفزيون والستلايت من اجل سلخه عن عقيدته وأخلاقه وإعادته إليالجاهلية التي استنقذهم الله تبارك وتعالى منها، فلكي نحافظ على هويتنا الاسلامية في العقيدة والسلوك علينا ان نحشد طاقاتنا ونبتكر الاساليب والوسائل المناسبة لتلك الحملة المنظمة فنعرف بعناصر شخصية المسلم ومعالمه التي تميزه عن غيره وقد كتبت بحثاً بعنوان: (عناصر شخصية المسلم في آثار أهل البيت عليهم السلام) ونشر في كتاب (نحن والغرب).
الثالثة: الوقوف في وجه التيارات الفكرية التي تنشأ من داخل المجتمع المسلم أو تفد عليه من الخارج والتي تهدد عقيدة الامة او سلوكها فعندما نشأت شبهة القول بالجبر وأن الله قد قهر العباد على افعالهم وساهمت السلطات الحاكمة على ترويجها لتبرير ظلمهم للعباد وقف الامام عليه السلام بحزم لتفنيدها وخصص عدداً من اصحابه للحوار والجدال وانتشرت كلمته التي تعبر باختصار عن مذهب اهل البيت عليهم السلام وهي: (لا جبر ولا تفويض وإنما أمر بين أمرين)، وكذا واجه حملات الالحاد وإنكار الصانع لهذا الكون وقد تبناها عدد من الزنادقة والدهريين وكانوا يصرحون بها ويدافعون عنها ويطلبون من يناظرهم فيها ويستغلون موسم الحج لنشر ضلالاتهم وتسفيه عقائد المسلمين في شعائر الحج وكان الامام الصادق عليه السلام يقف لهم بالمرصاد فيفحمهم ويرد كيدهم الى نحورهم وينصر المؤمنين ويشد على قلوبهم ويعزز ايمانهم.
ص: 282
وكذا وقف بقوة ضد الفقهاء الذين بدأوا العمل بالقياس لاستنباط الاحكام الشرعية وحذرهم مغبة عملهم وقال لهم: (إياكم ان يقف الناس يوم القيامة فيقولون قال الله ورسوله وتقولون قسنا ورأينا)، وقال لهم: (اذا قيست السنة محق الدين)، واثبت بطلان العمل بالقياس بموارد ثابتة من الفقه وتخالف اقيستهم ولولا هذه الوقفة الشجاعة لكانت الاحكام الشرعية الآن مخالفة تماماً لما اراده الله ورسوله بحيث تؤدي الى محق الدين كما عبر الامام عليه السلام وتأسياً بالامام عليه السلام فيجب على العلماء والمفكرين والمثقفين التصدي للشبهات والتيارات الفكرية والاجتماعية التي تهدد كيان الامة كالالحاد، وانكار الخالق، والقول بالصدفة او الطبيعة، وكالعلمانية، ودعوات تحرير المرأة التي لا تعني الاّ تدمير اخلاق المجتمع تحت هذه العناوين البراقة الخادعة ومثل دعوات التغريب التي يراد منها الحاق المجتمع الشرقي المسلم بالغربي بجميع انماط الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية رغم البون الواسع في مرتكزات كل منهما.
الرابعة: التصدي لتصحيح التصرفات المنحرفة التي تنشأ عن جهل فمنها ما روي عن الامام الصادق عليه السلام انه قال: (قوله عز وجل: اهدنا الصراط المستقيم يقول: ارشدنا للزوم الطريق المؤدي الى محبتك والمبلغ الى جنتك من ان نتبع اهوائنا فنعطب ونأخذ بآرائنا فنهلك فان من اتبع أهواءه واعجب برأيه كان كرجل سمعت غثاء الناس تعظمه وتصفه فاحببت لقاءه من حيث لا يعرفني لانظر مقداره ومحله فرأيته في موضع قد أحدق به جماعة من غثاء العامة فوقف منتبذاً عنهم متغشياً بلثام انظر اليه واليهم فما زال يرواغهم حتى خالف طريقهم وفارقهم) الى ان يقول: (فلم يلبث ان مر بخباز فتغفله فاخذ من دكانه رغيفين مسارقة، ثم مر بعده بصاحب رمان فمازال به حتى تغفله فاخذ من عنده رمانتنين مسارقة، ثم لم ازل اتبعه حتى مر بمريض فوضع الرغيفين والرمانتين بين يديه) فسأله الامام عليه السلام عن سر فعله هذا فاتهمه بجهله للقرآن يقول الامام عليه السلام: قلت: (وما الذي جهلت؟) قال: قول الله عز وجل: (من جاء بالحسنة فله عشر امثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الا مثلها) واني لما سرقت الرغيفين كانت سيئتين، ولما سرقت الرمانتين كانت سيئتين فهذه اربعة سيئات، فلما
ص: 283
تصدقت بكل واحدة منها كانت اربعين حسنة، انقص من اربعين حسنة اربعة سيئات بقي ستة وثلاثين، قلت: ثكلتك امك! أنت الجاهل بكتاب الله اما سمعت قول الله عز وجل:[إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ] (1) ، انك لما سرقت رغيفين كانت سيئتين ولما سرقت الرمانتين كانت سيئتين ولما دفعتهما من غير رضا صاحبها كنت انما اضفت اربع سيئات الى اربع سيئات ولم تضف اربعين حسنة الى اربع سيئات فجعل يلاحيني فانصرفت عنه وتركته.)
وكم يوجد مثل هذا الرجل في زماننا وكل زمان حيث يقومون بافعال يضنون انها تقربهم الى الله تعالى وهي لا تزيدهم منه الا بعداً او يحرصون على فعل المستحبات ويتركون الواجبات كالذي ينفق ماله في اقامة الولائم على حب اهل البيت عليهم السلام وهو لا يدفع ما بذمته من الحقوق الشرعية وهو بذلك يسرق حقوق مستحقيها.
الخامسة: حرصه عليه السلام على وحدة المسلمين والتأليف بين قلوبهم فرغم انه عليه السلام وأهل بيته ظلموا وغصبت حقوقهم الا انه لم يثر فتنة وسلم لهم من اجل ان تسلم امور المسلمين كما قال جده امير المؤمنين عليه السلام: (لقد علمتم اني احق الناس بها من غيري ووالله لاسلمن ما سلمت امور المسلمين ولم يكن فيها جور الا عليّ خاصة التماساً لاجر ذلك وفضله زهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه).
وضربوا عليهم السلام لذلك مثلاً في امرأتين تنازعتا في ولد كل واحدة تقول هو لي، وتحير الخليفة الثاني في حل النزاع فالتجأ الى امير المؤمنين عليه السلام فما كان منه عليه السلام الا ان دعا بسيفه وقال: سأقطع الولد نصفين لكل واحدة نصف مراعاة للعدل والانصاف فصاحت ام الولد الحقيقية: لا تفعل يا امير المؤمنين واحفظ الولد سالماً ولتأخذه المرأة الأخرى فقال لها عليه السلام: انت امه الحقيقية ودفعه اليها فكان كل امام7.
ص: 284
يشعر انه ام الولد وعليه ان يضحي حفاظاً لسلامة كيان الامة من التمزق والتشتت وكان الامام الصادق عليه السلام يقول: (ولدني ابو بكر مرتين(1) تأليفاً لقلوب العامة.
السادسة: الاهتمام بامور المسلمين وقضاء حوائجهم ومساعدة ضعفائهم بحيث يصل الى درجة التعبير عمن لم يهتم بامور المسلمين لانه ليس منهم وكان الامام الصادق عليه السلام يطوف بالبيت الحرام فجاء رجل الى احد اصحابه طالبا منه قضاء حاجته فأجله الى حين انتهاء الطواف فلم يرض الامام عليه السلام عليه وطلب منه قطع الطواف حتى يقضي حاجة اخيه المؤمن ويعود الى طوافه. ومر المعلى بن خنيس وهو من خواص اصحاب الامام عليه السلام بمسلمين يتنازعان على مال فدفع منه مالاً يرضيهما ولما استغربا من عظيم صنعه قال: والله ليس هو من مالي وانما وضعه عندي سيدي ومولاي جعفر بن محمد للمساعدة في اصلاح الخلافات بين المؤمنين وحل نزاعاتهم.
شهدت الفترة الاخيرة من الدولة الاموية اجتماعات عديدة كان يعقدها العلويون والعباسيون لاعلان الثورة وقد حاولوا اقناع الامام عليه السلام بالانضمام اليهم الا ان الامام عليه السلام كان يبين موقفه بوضوح باننا لسنا طلاب دنيا وليس لنا مطامع في السلطة وانما نريد الاصلاح وتهذيب النفوس وتكاملها ورقيها وهو ما يجب ان نعمل لاجله ومن دون وصول الامة الى مستوى رفيع من التربية الايمانية لا يمكن ان تنجح فيهم سيرة الامام عليه السلام في الحكم بين الناس وعندما كتب اليه ابو سلمة الخلال احد قادة جيوش العباسيين التي اطاحت بالامويين يعرض عليه الدعوة اليه بعدما تكشفت له نوايا القوم بالاستئثار بالسلطة دون العلويين قال الامام عليه السلام: ما لي ولابي سلمة وهو شيع لغيري ثم قال لخادمه: ادنو مني السراج فدناه منه فوضع الكتاب على النار حتى احترق بكامله
ص: 285
والرسول ينظر اليه فقال له الامام عليه السلام: هذا جواب كتابه، ولما جاء ابو مسلم الخراساني قائد جيوش العباسيين يعرض عليه تسليم الامر بعدما احس بخيانة العباسيين الذين بنوا حركتهم على الدعوة الى الرضا من آل محمد صلي الله عليه و آله و سلم قال عليه السلام: لست من رجالي ولا الزمان زماني فالتصدي للسلطة عند الامام عليه السلام وسيلة لاحقاق الحق واقامة شريعة الله تبارك وتعالى وليست شهوة وغاية في نفسها فلذا نأى بنفسه عن الخوض في هذه الحياة بل تركها لأهلها الذين رضوا بهذه الدنيا الدنية ثمناً لدخولهم نار جهنم وتفرغ هو لبناء النفس المطمئنة والقلب السليم والمجتمع الاسلامي النظيف ولكنه عليه السلام كان يرى ان بعض الثورات كانت تنطلق بين حين وآخر بقيادة العلويين كزيد الشهيد وبني الحسن عليه السلام كانت مخلصة وضرورية لابقاء ارادة الامة حية وتعميق ادامة رفض الظلم والظالمين وهو عليه السلام وان لم يتبناها بشكل مباشر وحرص على ان لا يدان بشيء متصل بها الا ان تعاليمه وخطه الفكري والتربوي والاخلاقي كان يصب في اشعال هذه الثورات لذا كانت السلطات تعتبره المرشد لها وكان عليه السلام يقول: (لا زال الدين بخير ما خرج الخارجي من آل محمد)، اي الثوار الرافضون لظلم الطواغيت ويقول: (لوددت ان الخارجي من آل محمد خرج وعليه نفقة عياله) فهو وان لم يكن يرى ان المقاومة المسلحة هي الحل الامثل لبناء الامة الا انه يراها قوة له وتصب في مصلحة الاسلام العليا، وكتب عليه السلام رسالة تفصيلية الى عبد الله المحض واخوته واولاده وبني عمومته من بني الامام الحسن عليه السلام بعد ان اعتقلهم المنصور العباسي في الهاشمية للضغط على ولد عبد الله محمد النفس الزكية وابراهيم احمر العينين حتى يتركا الثورة ويستسلما وضمّن الرسالة كل معاني المواساة والصبر والمصابرة والتسلية، وحينما قتل قائد شرطة الوالي العباسي على المدينة مولاه المعلى بن خنيس قصد مقر السلطة بنفسه على غير عادته وطالب بالاقتصاص من القاتل وبعد محاولات عديدة للتخلص من الموقف قابلها الامام عليه السلام بالاصرار على اقامة العدل استسلم الوالي وقدم الجاني للقصاص.
ص: 286
بهذه النشاطات الكبيرة والمتعددة التي كان يؤديها الامام عليه السلام ينجح في ادامة الروح الدينية في الامة وتوعيتها وبناء الاسس الرصينة لشخصيتها لذا حضي بتقدير الامة بجميع طبقاتها وصدرت منه اعلى كلمات الثناء والاطراء قال مالك بن انس احد أئمة المذاهب: (ما رأت عين ولا سمعت اذن ولا خطر على قلب بشر افضل من جعفر بن محمد الصادق علما وعبادة وورعاً)، وقال فيه ابو حنيفة: (ما رأيت افقه من جعفر بن محمد)، وقال ابن ابي العوجاء عندما قصد الامام عليه السلام ليناظره وقد قال له الامام عليه السلام: (ما يمنعك من الكلام) فقال له: (اجلالا لك ومهابة منك ولا ينطق لساني بين يديك واني شاهدت العلماء وناظرت المتكلمين فما تداخلني من هيبة احد منهم مثلما تداخلني من هيبتك يا ابن رسول الله). وكان المنصور على شدة عداوته للامام عليه السلام يقول: ان جعفر بن محمد من السابقين بالخيرات ومن الذين اصطفاهم الله من عباده واورثهم الكتاب.
ص: 287
بسمه تعالى
وصلح الامام الحسن (عليه السلام)(1)
الحمد لله كما هو اهله وصلى الله علة نبيه وسيد رسله ابي القاسم محمد وعلى اله المعصومين
يوم العيد هو يوم قادة الاسلام العظام، يزدادون فيه شرفا ومقاماً محموداً عند الله تعالى كما ورد في الادعية الشريفة، ونقف اليوم عند موقفين لأعظم قائدين في الاسلام بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهما امير المؤمنين والحسن المجتبى (صلوات الله عليهما) لنتأمل فيهما ونأخذ منهما درساً حركيا في بناء الامة الصالحة المطيعة لربها.
عندما وقع امير المؤمنين (عليه السلام) في محراب الشهادة في مسجد الكوفة مضمخا بدمه الشريف فقال (فزب ورب الكعبة) كان (عليه السلام) يريد انه فاز ببلوغه المقام المحمود الذي وعده الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) اوانه فاز بلقاء الله تعالى و رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله) والزهراء (صلوات الله عليها)، وفاز لأنه نجح في الامتحان وأنهى كل حياته على الاستقامة التي أرادها الله تبارك وتعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وغيرها من المعاني.
ولكننا ألان نريد أن نبين وجهاً آخر لهذه الكلمة الشريفة، نستفيد منه في العمل الحركي الإسلامي، ومن هذا الوجه ننطلق لفهم موقف الإمام الحسن (عليه السلام) مع معاوية مما سمي صلحاً أو هدنة أو غيرها.
وبيان هذا الوجه يحتاج الى مقدمة ملخصها: إننا نعتقد أن الإمام المعصوم (عليه السلام) أولى من الناس بأنفسهم وأموالهم، وان ولاية أمر الأمة ثابتة له (عليه السلام)
ص: 288
واقعاً سواء قام بالأمر أو قعد عنه لمانع ما، ولذا ورد في الحديث النبوي الشريف (الحسن و الحسين إمامان قاما أو قعدا).
ولان ولاية أمر الأمة ممارسه عملية واسعة تدير شؤون الحياة بكل تفاصيلها فإنها تحتاج الى مؤازرة ونصرة، وقدرة لدى الانصار على تحمل المسؤوليات على مختلف مستوياتها كالعسكرية، و السياسية، والاقتصادية، و الإدارية، و الفكرية، والإعلامية، و الاجتماعية، وغيرها، ومالم يجد الإمام العدد الكافي من القادرين على النهوض بمفاصل المشروع المخلصين له و المطيعين لأوامره، فانه لا يتحرك بمشروعه في ولاية أمر الأمة وإدارة شؤونها مع انه حق حصري به، خوفاً على الرسالة من الفشل و الضياع وتعريضها لضربةً قاضيةً من الأعداء.
لذا نعتقد إن عرض الأمة نصرتها الصادقة للمعصوم (عليه السلام) وقناعته بقدرتها على تحمل المسؤولية شرط ومقدمة لإعمال المعصوم هذا الحق وتنفيذه على الأرض، وقد و الشاهد على ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقم دولته المباركة ويمارس صلاحياته في سياسة أمر الأمة في مكة بل في المدينة المنورة بعد أن بايعه أهلها في العقبة الأولى و الثانية واشترط عليهم أن ينصروه ويحموه كما يحمون نسائهم وأموالهم.
ولما لم يجد امير المؤمنين (عليه السلام) عدداً كافياً من الأنصار بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اعتزل أمر الناس وتركهم لما أرادوا فانقلبوا على أعقابهم مع الاستمرار في وظائف الامامة الاخرى.
ولما وجد الأنصار بعد مقتل الثالث وانثال الناس عليه بالبيعة نهض بالأمر وولي أمر الأمة، وقال (عليه السلام) في خطبته الشقشقية (أما والذي فلق الحبّه وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما اخذ الله على العلماء ألاّ يقارّوا على كظّةِ ظالم، ولا سَغَبِ مظلوم، لألقيت حَبلها على غاربها، ولسقيتُ آخرها بكأس أَوّلِها، وألفيتم دنياكُم هذه ازهد عندي من عفطَة عنز).
وقد ورد في عدة روايات ان الاصحاب كانوا يطلبون من الائمة (عليهم السلام) القيام بالأمر خصوصاً في فترة الامام الصادق (عليه السلام)، وكان الامام (عليه
ص: 289
السلام) يُرجع السبب الى قلة الانصار، وهو لا يعني بالضرورة قلة عدد الاصحاب والمضحين، وانما قد يكون لقلة الاصحاب القادرين على النهوض بمسؤولية بناء الدولة وتطبيق شريعة الله تعالى في كل مفاصل الحياة، وولاية شؤن الامة، ولذا لم يصح مقايسة الامر مع نهضة الامام الحسين (عليه السلام) لان النتائج المطلوبة من الحركتين مختلفة و البحث عميق.
وهذا الشرط كما هو ملاحظ في بداية النهوض بالأمر، كذلك هو مطلوب لاستدامة التصدي، فمتى ما شعرت القيادة الدينية إن الأمة قد تغيرت، وانها لا تريد هذه القيادة وهذا النظام، ولم تعد مستعدة للدفاع عنهما ونصرتهما، بسبب شقوتها وسوء اختيارها ولإنسياقها وراء الشهوات وتزيين الشيطان وتضليل الأعداء، فان الإمام و القائد يعيد إليها أمرها وليتولاه من تشاء إن كانت لها أراده، أو يتولاها من يقهر إرادتها ويتسلط عليها بالقوة.
هذا النكوص و الانقلاب على الأعقاب عاشته الأمة في النصف الثاني من خلافة امير المؤمنين (عليه السلام) بعد أن تثاقلت الى الأرض وأصغت الى المرجفين، وبعد ان استشهد خيارها وصلحائها كعمار بن ياسر وذي الشهادتين وابن التيهان ومالك الاشتر ونظرائهم، وخَفَتَ بريق الحماس و الوهج الذي استُقبِلت به حكومة امير المؤمنين (عليه السلام)، وتقوضت أطراف دولته المباركة وانحسرت سلطته حتى حوصر في الكوفة وسط مجتمع متباين مشكك متردد متخاذل، فمن خطبةً له (عليه السلام) لما تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد وقدم عليه عاملاه على اليمن، فقال (عليه السلام) موبخاً أصحابه لتثاقلهم عن الجهاد (ما هي الا الكوفة: اقبضها وابسطها، وان لم تكوني إلا أنت تهًبُّ أعاصيرك فقبحكِ الله)(1).
وكان هذا الخط التنازلي لطاعة الأمة وصلاحها مستمراً بالهبوط و الانحدار، وانه سيصل في لحظة ما الى الانهيار قال (عليه السلام) في نفس الخطبة (واني والله لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم،25
ص: 290
وبمعصيتكم إمامكم في الحق، وطاعِتهم إمامهم في الباطل، وبأدائهم الأمانة الى صاحبهم وخيانتكم، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم)
ولو وصلوا الى تلك النقطة، فلا يكون أمام امير المؤمنين (عليه السلام) إلا إرجاع أمرهم إليهم وفك الميثاق الغليظ بينه وبينهم بعد أن نكلوا بواجباتهم، وهذا يعني تسلط معاوية على الأمة لأنه متربص بالأمر وأعدَّ له عُدتهَّ من الأموال و الجيوش و المعدات و الإعلام المضلِّل و الدعاوى المقدسة لنفسه - ككونه خال المؤمنين و المطالب بدم الخليفة المقتول عثمان -، وهذا ما كان يخشاه امير المؤمنين (عليه السلام) على الأمة، ويدعو الله تبارك وتعالى أن لا يريه هذا الموقف ففي نفس الخطبة قال (عليه السلام) (اللهم إني قد مللتهم وملوني، وسئمتهم وسئموني، فأبدلني بهم خيراً منهم، وأَبدلِهم بي شراً مني).
وهذا الدعاء منه (عليه السلام) ليس فراراً من تحمل أي ذلة ومهانة ظاهرية في سبيل الله تعالى لأنه (عليه السلام) كان مستعداً لتحمل أي شيء في طاعة الله تعالى كما صبر على عدوان القوم على بضعة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) فاطمة الزهراء (عليها السلام) بنصب عينيه وإنما لان قيامه (عليه السلام) هو شخصياً بهذا الموقف يعرض الاسلام و التشيع الى خطر جسيم، وقد حقق الله تعالى له (عليه السلام) أمنيته واستجاب دعائه فرزقه الشهادة قبل أن يبتلى بهذا الموقف، فقوله (عليه السلام) (فزت ورب الكعبة) أي نجوت بفضل الله تبارك وتعالى من هذا البلاء العظيم، ولم أبقى الى اليوم الذي أرى فيه معاوية يتحكم بأمور المسلمين، وهو (عليه السلام) يرى الموت أهون عليه من رؤية فعل من أفعال معاوية فكيف يطيق تسلطه على رقاب المسلمين، فمن خطبة له (عليه السلام) لما أغارت خيل معاوية على الانبار وقتلوا وسلبوا وعادوا الى أهلهم سالمين قال (عليه السلام) (فلو إن امرءأُ مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوماً، بل كان به عندي جديرا)(1).27
ص: 291
لكن الله تبارك وتعالى ادّخر هذا البلاء العظيم للإمام الحسن السبط المجتبى (عليه السلام)، إذ إن حال الأمة رجع الى التقاعس والخذلان وحب الدعة والسلامة والإخلاد الى الأرض، ولم تنفع في إصلاحه الصدمة القوية باستشهاد امير المؤمنين (عليه السلام)، ولا الجرعة القوية بتصدي الإمام الحسن (عليه السلام) سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيد شباب أهل الجنة الذي لم يستطع حتى معاوية وإعلامه المضلل من التشكيك في أهليته واستحقاقه.
ولم تمض الا عدة أشهر حتى وصل الحال بالإمام الحسن (عليه السلام) الى ما سأل أبوه (عليه السلام) من الله تعالى أن يعفيه منه، حيث استسلم اقرب الناس إليه وقائد جيوشه الى إغراءات معاوية، وكتب بعض قادة جيشه الى معاوية (أن إذا شئت تسليم الحسن سلمّناه إليك) ودبَّ اليأس و الشك و التردد في قواعده الشعبية، وكان تكليفه (عليه السلام) أن يعيد أمر الأمة إليها ويلقي حبلها على غاريها كما عبَّر امير المؤمنين (عليه السلام) ليقودها من يقودها الى الضلال.
وكان معاوية المتربص بالأمر قد قويت شوكته وازداد نفوذه وكثرت أنصاره وأمواله لذا كان من الواضح إن الأمر سيؤول إليه بحسب المعطيات الموجودة على ارض الواقع، وهنا تصرف الإمام الحسن (عليه السلام) بحكمة وشجاعة ورحمة للبقية الباقية من شيعة أبيه (عليه السلام) وأنصاره، فحول هزيمة الامة هذه الى نصر وتحقيق مكاسب، ولم يترك الامر مجاناً ومن دون مقابل يحفظ كيان الاسلام ويحمي ابنائه البررة فعقد اتفاقاً مع معاوية وأملى عليه شروطه التي تقتضي تسليم الأمر بعده الى الامام الحسن (عليه السلام)، وان لا يتعرض لشيعة أبيه بالسوء، وان لا يمنع عنهم أرزاقهم وان يخصّص مبالغ لعوائل الشهداء مع أبيه (عليه السلام)، وان يحكم على طبق كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبذلك فقد صنع الإمام الحسن (عليه السلام) من تقاعس الأمة وخيانتها وتخاذلها نصراً حققه (عليه السلام) له ولشيعته.
واقل ما يتحقق من هذا النصر إذا لم يفِ معاوية بالشروط - والإمام يعلم انه لا يفي بشيء منها - هو فضح معاوية وكشف زيف دعواه ورفع الغشاوة عن أبصار
ص: 292
المضلَلينَ به الى قيام يوم الدين، واحسَّ معاوية في الأيام الأولى بالفضيحة التي أوقعه فيها الإمام الحسن (عليه السلام) لذا كشف عن حقيقته بمجرد دخوله الكوفة بعد توقيعه على شروط الإمام الحسن (عليه السلام) وقال لهم (إني ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا واني اعلم إنكم تفعلون ذلك، وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم)
فموقف الإمام الحسن (عليه السلام) لم يكن صلحاً مع معاوية ولا هدنة ولا أي شيء آخر مما يرتبط بمعادلة الصراع معه، وإنما هو مرتبط بطاعة الأمة و التفافهم حول قيادتهم وبمقومات قيامه بولاية أمر الأمة، واذا ورد لفظ الصلح في الوثيقة فليس هو معنى الصلح بالمصطلح العسكري و السياسي، بل بالمعنى المعروف فقهياً الذي هو الاتفاق بين طرفين على أمر ما.
وهذا المعنى لا يفهمه إلا من مارس القيادة وفهم بمقدار استحقاقه سيرة الأئمة المعصومون (عليهم السلام)، وتعرض لمستوى من المستويات لما تعرضوا له.
ومن نتائج هذا الدرس:
1 - تصحيح فهم موقف الامام الحسن (عليه السلام) ودفع ما قيل من الشبهات.
2 - بيان وحدة الهدف و المسؤولية التي تحملها الائمة المعصومين (عليه السلام)، وان كانت مواقفهم مختلفة ظاهراً بحسب اختلاف ظروفهم ولو كان ايُّ منهم مكان الاخر لاتخذ نفس الموقف.
3 - ايضاح هذا الشرط لإعمال ولاية المعصوم (عليه السلام) ومن بعده نائبه الفقيه الجامع للشرائط وبذلك نجيب عن جملة من الاشكالات كتعدد الولي الفقيه او وجوب طاعته اذا اعلن عن نفسه كولي لأمر المسلمين ونحوها.
4 - اعطاء درس للامة لكي تلتفت الى إن تخاذلها وتقاعسها واستسلامها للشكوك و الظنون يجعل امير المؤمنين يتمنى الموت ويرى ضرب رأسه بالسيف فوزاً، ويدفع تخاذل الأمة الإمام الحسن (عليه السلام) الى اتخاذ ذلك الموقف الذي لم يستطع تحمله الكثير من أصحابه المقربين، والله ولي التوفيق.
ص: 293
اللهم انا نتوب اليك في يوم فطرنا الذي جعلته للمؤمنين عيداً وسرورا ولأهل ملّتك مجمعاً ومحتشدُ من كل ذنب أذنبناه او سوء اسلفناه او خاطِر شرًّ اضمرناه، توبة من لا ينطوي على الرجوع الى ذنب ولا يعود بعدها في خطيئة توبة نصوحاً خلصت من الشك و الارتياب فتقبلها مّنا وارضَ بها عنّا وثبتنّا عليها(1)
[بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ]
[قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ، اَللّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ، وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ] الإخلاص 1-2-3-4)ان
ص: 294
بسم الله الرحمن الرحيم
الإمام الرضا (عليه السلام) في مواجهة الانشقاق الداخلي(1)
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين
في ذكرى الإمام أبي الحسن الرضا (عليه السلام) نشير إلى صفحة من سفر حياته المباركة آلمت قلبه الشريف واستنزفت الكثير من وقته وجهده الثمينين، وهي الفتنة التي قادها جملة من رموز أصحاب أبيه الإمام الكاظم (عليه السلام) المؤثرين في اتباع أهل البيت (عليهم السلام) مما أدى إلى انشقاق داخل الكيان الشريف ونشوء فرقة ضمت عدداً كبيراً من حملة علم أهل البيت (عليهم السلام) عبر أكثر من جيل سُمّوا بالواقفة، لا لسبب الا الطمع في الدنيا وحطامها الزائل وعناوينها الزائفة وجاهها الخادع.
روي عن يونس بن عبد الرحمن - وهو من كبار أصحاب الإمامين الكاظم والرضا (عليهما السلام) والفقهاء الأجلاء - قال: (مات أبو الحسن (عليه السلام) وليس من قوامه أحد إلا وعنده المال الكثير فكان ذلك سبب وقوفهم وجحودهم موته طمعاً في الأموال، كان عند زياد بن مروان القندي سبعون ألف دينار وعند علي بن أبي حمزة ثلاثون ألف دينار).(2)
قال الشيخ الطوسي (قده) في الكلام عن الواقفة (أول من أظهر هذا الاعتقاد علي بن أبي حمزة البطائني وزياد بن مروان القندي وعثمان بن عيسى الرؤاسي، طمعوا في الدنيا، ومالوا إلى حطامها واستمالوا قوماً فبذلوا لهم شيئاً مما اختانوه من الأموال)
ص: 295
وممن بذلوا له يونس بن عبد الرحمن حيث اطمعوه بمبلغ ضخم جداً وهو عشرة آلاف دينار إلا أنه رفض مفارقة الإمام الحق.
وكان الإمام الكاظم (عليه السلام) يقرأ في سلوك ابن أبي حمزة حبّه للدنيا، وتزلفه إلى الإمام (عليه السلام) ليكون له جاه يخدع به الناس، فقد كان يلازم أبا بصير - وهو من كبار أصحاب الإمامين الباقر والصادق وأدرك إمامة الكاظم (عليهم السلام) - ويقوده لأنه كان كفيف البصر، وينقل عنه علوم أهل البيت (عليهم السلام) لذا أخذ عن البطائني كبار الأصحاب لأنهم يجدون عنده ما لا يجدون عند غيره لطول ملازمته، لكن الإمام الكاظم (عليه السلام) كان يشبهه منذ ذلك الوقت المبكر بأنّه كالحمار مطبقاً عليه قوله تعالى في سورة الجمعة [مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً] (الجمعة/ 5) إشارة إلى أن ابن أبي حمزة يحمل علماً جماً إلا أنه لم يستفد منه، ووقع فيما وقع فيه، روى أبو داود المسترق قال: (كنت أنا وعيينة بياع القصب عند علي بن أبي حمزة، فسمعته يقول: قال لي أبو الحسن موسى (عليه السلام) إنما أنت يا علي وأصحابك أشباه الحمير، قال: فقال عيينة أسمعت؟ قال: قلت أي والله قال: فقال: لقد سمعت والله لا أنقل قدمي إليه ما حييت).
وكان الإمام الرضا (عليه السلام) لا يتوقف عن إظهار ألمه لحصول هذا الانحراف لدى اتباعه والتنديد به وبأهله، فعن محمد بن سنان قال (ذكر علي بن أبي حمزة عند الرضا (عليه السلام) فلعنه ثم قال: إن علي بن أبي حمزة أراد أن لا يعبد الله في سمائه وأرضه فأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون ولو كره اللعين المشرك، قلت المشرك؟ قال نعم والله وإن رغم انفه كذلك هو في كتاب الله يريدون أن يطفئوا نور الله وقد جرت فيه وفي أمثاله أنه أراد أن يطفئوا نور الله..).
وعن يونس بن عبد الرحمن قال: (دخلت على الرضا (عليه السلام) فقال لي: مات علي بن أبي حمزة؟ قلت نعم، قال: قد دخل النار! قال: ففزعت من ذلك! قال: أما انه سئل عن الإمام بعد موسى أبي فقال: لا أعرف إماماً بعده!! فقيل لا؟! فضرب في قبره ضربة اشتعل قبره ناراً.).
ص: 296
لكن الإمام (عليه السلام) كان يستغرب في نفس الوقت من الذين انخدعوا بهذه الدعوة الفاسدة أو أصابهم التشكيك والتردد مع وضوح ضلالها وكذب ادعاءاته، روى محمد بن الفضيل عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: (سمعته يقول في ابن أبي حمزة: أما استبان لكم كذبه؟ أليس هو الذي يروي أن رأس المهدي يُهدى إلى عيسى بن موسى وهو صاحب السفياني؟
وقال: إن أبا الحسن - يعني أباه الكاظم (عليه السلام) يعود إلى ثمانية أشهر؟!!) ولم يحصل شيء من ذلك، بينما كان الإمام (عليه السلام) يقيم لهم البينات ويخبرهم بالمغيبات التي يثبت صدقها كإخباره بأن هارون العباسي لا يمسُّه سوء.
وكان (عليه السلام) يصبّر شيعته ويقوي عزيمتهم ليثبتوا على الصراط المستقيم، وأن لا تستفزهم تلك الحركات وأن يقابلوها بالحكمة والموعظة الحسنة والحوار المبني على الدليل، روى محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا قال: (قلت: جعلت فداك إني خلفت ابن أبي حمزة وابن مهران وابن أبي سعيد اشد أهل الدنيا عداوة لك!! فقال لي: ما ضرك من ضل إذا اهتديت انهم كذبوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكذّبوا أمير المؤمنين (عليه السلام) وكذبوا فلاناً وفلاناً وكذبوا جعفراً وموسى عليهم السلام، ولي بآبائي عليهم السلام اسوة قلت جعلت فداك إنا نروي أنك قلت لابن مهران: اذهب الله نور قلبك وادخل الفقر بيتك؟ فقال: كيف حاله وحال بنيه؟ فقلت: يا سيدي أشد حال، هم مكروبون ببغداد لم يقدر الحسين أن يخرج إلى العمرة فسكت) وإنما سكت لأنّه (عليه السلام) لم يكن يحب أن يراهم بهذا الحال.
وقال (عليه السلام) (إنه لما قبض رسول الله (ص) جهد الناس في إطفاء نور الله فأبى الله إلا أن يتم نوره بأمير المؤمنين (عليه السلام) فلما توفي أبو الحسن عليه السلام جهد علي بن أبي حمزة في إطفاء نور الله فأبى الله إلا أن يتم نوره. وإن أهل الحق إذا دخل فيهم داخل سروا به وإذا خرج منهم خارج لم يجزعوا عليه وذلك انهم على
ص: 297
يقين من أمرهم وإن أهل الباطل إذا دخل فيهم داخل سروا به(1) وإذا خرج منهم خارج جزعوا عليه وذلك انهم على شك من أمرهم إن الله جل جلاله يقول: (فمستقر ومستودع) قال: ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): المستقر الثابت والمستودع المعار).
وبقي الإمام (عليه السلام) يحاور أولئك المنحرفين ويقيم عليهم الحجج الدامغة انطلاقاً من مسؤوليته في هداية الخلق جميعاً والأخذ بأيديهم إلى ما يسعدهم في الدنيا والآخرة، خصوصاً إذا كانوا من داخل الكيان الموالي لأهل البيت (عليهم السلام) لأن الخطر عندما ينطلق من الداخل يكون أشد فتكاً في بناء الأمة وقد نجح (عليه السلام) في إرجاع كثيرين إلى جادة الصواب.
روى أحد أصحاب الإمام الرضا (عليه السلام) قال: كنت عند الرضا عليه السلام فدخل عليه علي بن أبي حمزة، وابن السرّاج، وابن المكارى، فقال له ابن أبي حمزة: ما فعل أبوك؟ قال: مضى، قال: مضى موتاً؟ قال: نعم، قال: إلى من عهد؟ فقال: إلىّ، قال: فأنت إمام مفترض الطاعة من اللّه؟ قال: نعم، قال ابن السراج وابن المكارى: قد واللّه أمكنك من نفسه، قال: ويلك وبما أمكنت، أتريد أن آتي بغداد وأقول لهارون أنا إمام مفترض الطاعة، واللّه ما ذلك عليّ وإنّما قلت ذلك لكم عندما بلغني من اختلاف كلمتكم وتشتّت أمركم لئلاّ يصير سرّكم في يد عدوّكم، قال له ابن أبي حمزة: لقد أظهرت شيئاً ما كان يظهره أحد من آبائك ولا يتكلّم به، قال: بلى لقد تكلّم خير آبائي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لمّا أمره اللّه تعالى أن ينذر عشيرته الأقربين، جمع من أهل بيته أربعين رجلاً وقال لهم: أنا رسول اللّه إليكم، فكان أشدّهم تكذيباً له وتأليباً عليه عمّه أبو لهب، فقال لهم النبيّ صلّى اللّه عليه وآله: إن خدشني خدش فلست بنبي، فهذا أوّل ما أبدع لكم من آية النبوة، وأنا أقول: إن خدشني هارون خدشاً فلست بإمام فهذا أوّل ما أبدع لكم من آية الإمامة، فقال له على: إنّا روينا عنم.
ص: 298
آبائك أنّ الإمام لا يلي أمره إلاّ أمام مثله، فقال له أبو الحسن عليه السلام: فأخبرني عن الحسين بن علي عليهما السلام، كان إماماً أو كان غير إمام؟ قال: كان إماماً، قال: فمن ولي أمره؟ قال: علي بن الحسين، قال: وأين كان علي بن الحسين عليه السلام؟ قال: كان محبوساً في يد عبيد اللّه بن زياد في الكوفة، قال: خرج وهم كانوا لا يعلمون حتى وليّ أمر أبيه ثم انصرف، فقال له أبو الحسن عليه السلام: إنّ هذا الذي أمكن علي بن الحسين عليه السلام أن يأتي كربلاء فيلي أمر أبيه فهو أمكن صاحب هذا الأمر أن يأتي بغداد فيلي أمر أبيه ثم ينصرف، وليس في حبس ولا في إساءة، قال له على: إنّا روينا أنّ الإمام لا يمضي حتى يرى عقبه(1) ، قال: فقال أبو الحسن عليه السلام: أما رويتم في هذا الحديث غير هذا؟ قال: لا، قال: بلى واللّه لقد رويتم إلاّ القائم وأنتم لا تدرون ما معناه ولم قيل، قال له على: بلى واللّه إنّ هذا لفي الحديث، قال له أبو الحسن عليه السلام: ويلك كيف اجترأت على شىء تدع بعضه، ثم قال: يا شيخ اتّق اللّه ولا تكن من الصّادين عن دين اللّه تعالى).
وروى الشيخ الصدوق (قدس سره) بسنده عن أبي مسروق قال: (دخل على الرضا عليه السلام جماعة من الواقفة فيهم علي بن أبي حمزة البطائنى، ومحمد بن إسحاق بن عمّار، والحسين بن مهران، والحسن بن أبي سعيد المكارى، فقال له علي بن أبي حمزة جعلت فداك أخبرنا عن أبيك عليه السلام ما حاله، فقال له: إنه قد مضى، فقال له: فإلى من عهد؟ فقال إلىّ: فقال له: إنّك لتقول قولاً ما قاله أحد من آبائك علي بن أبي طالب عليه السلام فمن دونه، قال: لكن قد قاله خير آبائي وأفضلهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، فقال له: أما تخاف هؤلاء على نفسك؟ فقال: لو خفت عليها كنت عليها معيناً(2) ، إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أتاه أبو لهب فتهدّده، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: إن خدشت من قبلك خدشة فأنا كذّاب، فكانت أوّل آيةب.
ص: 299
أنزع نزع بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم، وهي أوّل آية لكم إن خدشت خدشة من قبل هارون فأنا كذّاب، فقال له الحسن بن مهران: قد أتانا ما نطلب أن أظهرت هذا القول، قال: فتريد ماذا؟ أتريد أن أذهب إلى هارون فأقول له: إنّي إمام وأنت لست في شىء، ليس هكذا صنع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في أوّل أمره، إنّما قال ذلك لاهله ومواليه ومن يثق به، فقد خصّهم به دون الناس، وأنتم تعتقدون الامامة لمن كان قبلي من آبائى، ولا تقولون إنه أنّما يمنع علي بن موسى أن يخبر أنّ أباه حيّ تقية، فإنّي لا أتقيكم في أن أقول: إنّي إمام فكيف أتقيكم في أن أدعي أنه حيّ لو كان حيّاً).
هذا ما حصل في زمان الإمام الرضا (عليه السلام) بعد رحيل سلفه الإمام الكاظم (عليه السلام) وحصل مع أجداده من قبل، وفي كل زمان، ما دامت النفوس الأمّارة بالسوء المحبة للدنيا الزائلة الزائفة والطموحة إلى تقمّص هذه المواقع المقدسة [وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ] (آل عمران/ 144). وقد قلنا في كلمة سابقة ان الله تعالى عندما يخاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بوصفه رسولاً - كقوله تعالى يا أيها الرسول بلغ - فإنها ليست خاصة بشخصه الشريف وإنما هي سنة إلهية ترتبط بموقعه المبارك.
ص: 300
بسمه تعالى
التحديات التي واجهها الإمام الرضا (عليه السلام)(1)
لقد واجهت الإمام الرضا (عليه السلام) مجموعة معقدة من التحديات وبمختلف الاتجاهات، أحدها باتجاه السلطة التي بلغت ذروة النفوذ والاتساع في الإمكانات البشرية والمادية والعسكرية في عصري هارون والمأمون العباسيين وكانت ترى في الأئمة (عليهم السلام) الضد النوعي والبديل المعارض فتراقبه وتحاصره وتحسب عليه أنفاسه.
والتحدي الآخر كان الانفتاح الفكري والعلمي على الحضارات الأخرى كالإغريق والرومان والصين والهند والفرس حيث اتسعت حركة الترجمة وتبادل الإرث العلمي وسادت روح الإعجاب بتلك الحضارات ونقل آثارها وتجاربها وكثير منها مناقض للدين ويطرح نظريات تعارض عقيدة الإيمان وتدعو إلى الإلحاد والكفر بالرسالات السماوية وكان لها مروّجون ودعاة، فوقف الإمام (عليه السلام) لهم بالمرصاد وناظرهم وأبطل نظرياتهم، وقد حفل كتاب الاحتجاج للطبرسي بجملة من تلك المناظرات، التي كانت مظهراً من مظاهر (صراع الحضارات) الذي يتبنونه اليوم.
والتحدي الثالث هو انهيار القيم الأخلاقية وانتشار الفساد والخلاعة والمجون ومجالس اللهو والطرب وكانوا يتقربون إلى السلطة بالجواري والمغنين والغلمان ليحظوا بالجوائز والامتيازات ولسعة هذه الحالة في ذلك العصر، ألّف أحدهم كتاباً من عدة مجلدات اسمه (عصر المأمون) يتناول جوانب الحياة في ذلك العصر.
مضافاً إلى ذلك فقد واجهته (عليه السلام) مشاكل وتحديات داخل الكيان الشريف أي من داخل أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وأحدها الانشقاق الداخلي الذي تحوّل إلى فرقة اسمها (الواقفة) انقطعت جزءاً مهماً من علماء المدرسة
ص: 301
ورواتها وقواعدها، وأضيفت إلى قائمة الفرق المنشقة (الزيدية) التي قالت بإمامة زيد بن علي السجاد (عليه السلام) دون الإمام الصادق (عليه السلام)، و (الفطحية) الذين قالوا بإمامة عبد الله الأفطح ابن الإمام الصادق (عليه السلام) دون أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام)، وكانت الواقفة تقول بعدم وفاة الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) وبالتالي فإن علي بن موسى ليس إماماً ولا نسلّم ودائع أبيه الضخمة إليه ولا نرجع إليه في الأحكام والمواقف العامة.
ومن التحديات الداخلية التشكيك بالإمام (عليه السلام) وقراراته فجعلوا من أنفسهم قيمين على الإمام ولا يطيعونه إلا عندما يتبع إرادتهم ويأخذ بمواقفهم، كالذي حصل عند وقوع الصراع بين الأمين والمأمون على السلطة، واستطاع المأمون خداع جملة من الشيعة لينضموا إليه من دون الرجوع إلى الإمام (عليه السلام) من باب دفع الأفسد بالفاسد أو أن المصلحة تقتضي ذلك فجعلوا من أنفسهم وقوداً لهذه الحرب الشيطانية بحماقتهم وغرورهم، ولما انتصر المأمون جازى الشيعة بكل بطش وقسوة وقتل إمامهم و إمام الخلق أجمعين الرضا (عليه السلام).
هذا كله والإمام لا يستطيع أن يقول كل ما عنده وإنما يكتفي بالاشارات والتوجيهات العامة لأن السلطات تتربص به الدوائر وتكيد له، وهو لا يبخل بنفسه على الله تبارك وتعالى لكنه صاحب رسالة ومشروع إلهي ولابد من البقاء للمضي فيه ولم ينتهي دوره حتى يقدم على الشهادة التي أقدم عليها بكل طمأنينة حينما حلّ وقت البديل.
وشككوا بصحة إمامته من جهة عدم وجود ولد له، ولابد للإمام أن يكون له خلف من أهله، وقد تأخرت ولادة الإمام الجواد (عليه السلام) إلى سنة 195 ه - والإمام الرضا (عليه السلام) في السابعة والأربعين من العمر، ثم اتهموه بصحة انتساب ولده الجواد (عليه السلام) وطلبوا التحاكم إلى القافة - من القيافة وهي فراسة احراز التشابه بين شخصين لإلحاقه به وكانوا في الجاهلية يعتمدونها لإثبات الأنساب -، وإذا علمنا أن الإمام الكاظم (عليه السلام) استشهد سنة 183 فهذا يعني أن الإمام الرضا قضى (12) سنة من إمامته بهذه التشكيكات حتى ولد ابنه الجواد (عليه السلام),.
ص: 302
تعرضنا على نحو الاختصار لهذه المحطات من حياة الإمام الرضا (عليه السلام) لنعيش معه همومه وآلامه ومسؤولياته بمقدار فهمنا وادراكنا، ولنعلم أن هذه الأحداث ليست تاريخاً يقرأ على المنابر لاستدرار العواطف وإنما هي دروس نستفيد منها في حياتنا الحاضرة.
فكم من اتباع أهل البيت (عليهم السلام) وقفوا إلى جانب الاحتلال الأمريكي والغربي عام 2003 بحجة دفع الأفسد وهو صدام - بالفاسد ولا أدري ما الذي جعلهم يعتقدون ذلك؟
وكم من اتباع أهل البيت (عليهم السلام) وضعوا أيديهم بأيدي الإرهابيين القتلة بعنوان مقاومة المحتل ونحوه فنشروا الخراب والدمار وأهلكوا الحرث والنسل ونخروا كيان الدولة وضاع الشعب وثرواته ومؤسساته بين هذا وذاك.
أما التشكيك بالمرجعية والقيادة فمستمر. لماذا لم تفعل كذا، ولماذا فعلت كذا؟ وهل تعلم بكذا أو لا تعلم وكأنهم هم القيمون عليها وأن المرجعية أُمرت بطاعتهم لا العكس.
ونتيجة هذا التشكيك التقاعس والتخاذل والتنازع والتمرد وهي أسباب لانهيار الكيان واضمحلاله [وَ أَطِيعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ اصْبِرُوا إِنَّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ] (الأنفال/ 46) والأمة هي التي تدفع ثمن هذه النتائج كما تشهد به وقائع التاريخ.
ص: 303
بسم الله الرحمن الرحيم
كيف نفهم استغفار الأئمة (عليهم السلام) من الذنوب(1)
ورد في دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عرفة: (ثم إني يا إلهي المعترف بذنوبي فاغفرها لي، أنا الذي أخطأت أنا الذي هممت، أنا الذي جهلت..) إلى أن يقول (عليه السلام): (إلهي أمرتني فعصيتك ونهيتني فارتكبت نهيك).
ومثل هذا الاعتراف بالذنب بين يدي الله تبارك وتعالى تكرر كثيراً في أدعيتهم ومناجاتهم (سلام الله عليهم) كقول الإمام السجاد (عليه السلام) في دعاء أبي حمزة: (أنا يا رب الذي لم أستحيك في الخلاء ولم أراقبك في الملأ أنا صاحب الدواهي العظمى أنا الذي على سيده اجترا، أنا الذي عصيت جبار السما، أنا الذي أعطيت على معاصي الدليل الرُشى، أنا الذي حين بُشرت بها خرجت إليها أسعى، أنا الذي أمهلتني فما ارعويت وسترت عليَّ فما استحييت وعملت بالمعاصي فتعديت).
وهنا يُثار سؤال أو إشكال من جهة المنافاة ظاهراً بين ما نعتقده من عصمة الأئمة (عليهم السلام) وعدم صدور الذنب والمعصية منهم وبين الإقرار والاعتراف الوارد في هذه الأدعية والمناجاة.
ويقال في الجواب أحياناً أنهم إنما يتحدثون بلسان الناس الآخرين لأنهم (عليهم السلام) في مقام التعليم للناس فيلقنونهم ما يقولون عندما يقفون بين يدي الله تبارك وتعالى، كما علّم الله تعالى عباده في سورة الحمد ما يقولون عندما يقفون بين يدي الله تبارك وتعالى في الصلاة وغيرها.
وهذا الجواب قد يناسب صدور بعض تلك الأدعية لكنه لا يفسّرها كلها، لأن الإمام (عليه السلام) يعبر فيها فعلاً عن وجدانه وعن مشاعره تجاه الخالق العظيم. ويروى هذا الجواب عن ابن طاووس، فقد قال الأربلي في كشف الغمة: (كنت أرى الدعاء الذي كان يقوله أبو الحسن موسى (عليه السلام) في سجدة الشكر وهو (ربِّ
ص: 304
عصيتك بلساني ولو شئت وعزّتك لأخرستني، وعصيتك ببصري ولو شئتَ وعزتك لأكمهتني.. وعصيتك بجميع جوارحي التي أنعمتَ بها عليّ لم يكن هذا جزاك مني) فكنت أفكر في معناه وأقول كيف يتنزل على ما تعتقده الشيعة من القول بالعصمة وما اتضح لي ما يدفع التردد الذي يوجبه).
فاجتمع بالسيد علي بن طاووس (قدس الله روحه) وسأله عن ذلك فقال: (إن الوزير مؤيد الدين العلقمي رحمه الله سألني عنه فقلت كان يقول هذا ليعلم الناس، ثم إني فكرت بعد ذلك فقلت هذا كان يقوله في سجدته في الليل وليس عنده من يعلّمه).
ومات السيد ابن طاووس رحمه الله فهداني الله إلى معناه ووفقني على فحواه فكان الوقوف عليه والعلم به وكشف حجابه بعد السنين المتطاولة والأحوال المحرمة والأدوار المكررة من كرامات الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ومعجزاته ولتصح نسبه العصمة إليه عليه السلام وتصدق على آبائه وأبنائه البررة الكرام وتزول الشبهة التي عرضت من ظاهر هذا الكلام.
وتقريره أن الأنبياء والأئمة عليهم السلام تكون أوقاتهم مشغولة بالله تعالى وقلوبهم مملوءة به وخواطرهم متعلقة بالملأ الأعلى وهم أبداً في المراقبة كما قال عليه السلام اعبد الله كأنك تراه فإن لم تره فإنه يراك.
فهم أبداً متوجهون إليه ومقبلون بكلهم عليه فمتى انحطوا عن تلك الرتبة العالية والمنزلة الرفيعة إلى الاشتغال بالمأكل والمشرب والتفرغ إلى النكاح وغيره من المباحات عدوه ذنباً واعتقدوه خطيئة واستغفروا منه.
ألا ترى أن بعض عبيد أبناء الدنيا لو قعد وأكل وشرب ونكح وهو يعلم أنه بمرأى من سيده ومسمع لكان ملوماً عند الناس ومقصراً فيما يجب عليه من خدمة سيده ومالكه فما ظنك بسيد السادات وملك الأملاك. وإلى هذا أشار عليه السلام أنه ليران
ص: 305
على قلبي وأني لأستغفر بالنهار سبعين مرة ولفظه السبعين إنما هي لعد الاستغفار لا إلى الرين وقوله حسنات الأبرار سيئات المقربين(1) (
ثم قال: (ونزيده إيضاحاً من لفظه ليكون أبلغ من التأويل ويظهر من قوله (عليه السلام): (وعصيتك بفرجي ولو شئت وعزتك لأعقمتني) أعقمتني والعقيم الذي لا يولد له والذي يولد من السفاح لا يكون ولداً فقد بان بهذا أنه كان يعد اشتغاله في وقت ما بما هو ضرورة للأبدان معصية يستغفر الله منها وعلى هذا فقس البواقي وكلما يرد عليك من أمثالها).
وقد ذكر العلامة المجلسي (قدس سره) هذا الوجه ووجوهاً أخرى لفهم صدور هذه الأقوال منهم (عليهم السلام)، قال (قدس سره): (فأما ما يوهم خلاف ذلك - أي عصمتهم (عليهم السلام) - من الأخبار والأدعية وهي مؤولة بوجوه: -
1 - أن ترك المستحب وفعل المكروه قد يسمى ذنباً وعصياناً بل ارتكاب بعض المباحات أيضا بالنسبة إلى رفعة شأنهم وجلالتهم ربما عبروا عنه بالذنب لانحطاط ذلك عن سائر أحوالهم كما مرت الإشارة إليه في كلام الأربلي رحمه الله.
2 - إنهم بعد انصرافهم عن بعض الطاعات التي أُمروا بها من معاشرة الخلق وتكميلهم وهدايتهم ورجوعهم عنها إلى مقام القرب والوصال ومناجاة ذي لجلال ربما وجدوا أنفسهم لانحطاط تلك الأحوال عن هذه المرتبة العظمى مقصرين، فيتضرعون لذلك وإن كان بأمره تعالى، كما أن أحداً من ملوك الدنيا إذا بعث واحداً من مقربي حضرته إلى خدمة من خدماته التي يحرم بها من مجلس الحضور والوصال فهو بعد رجوعه يبكي ويتضرع وينسب نفسه إلى الجرم والتقصير لحرمانه عن هذا المقام الخطير.
3 - إن كمالاتهم وعلومهم وفضائلهم لما كانت من فضله تعالى، ولولا ذلك لأمكن أن يصدر منهم أنواع المعاصي، فإذا نظروا إلى أنفسهم وإلى تلك الحال أقروا8.
ص: 306
بفضل ربهم وعجز نفسهم بهذه العبارات الموهمة لصدور السيئات فمفادها أني أذنبت لولا توفيقك، وأخطأت لولا هدايتك).
أقول: هذا المعنى ذكره الأئمة (عليهم السلام) في أدعيتهم كما في دعاء الصباح عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (إلهي إن لم تبتدئني الرحمة منك بحسن التوفيق، فمن السالك بي إليك في واضح الطريق؟ وإن أسلمتني أناتك لقائد الأمل والمنى فمن المقيل عثراتي من كبوات الهوى؟ وإن خذلني نصرك عند محاربة النفس والشيطان فقد وكلني خذلانك إلى حيث النصب والحرمان).
4 - إنهم لما كانوا في مقام الترقي في الكمالات والصعود على مدارج الترقيات في كل آن من الآنات في معرفة الرب تعالى وما يتبعها من السعادات فإذا نظروا إلى معرفتهم السابقة وعملهم معها اعترفوا بالتقصير وتابوا منه، ويمكن أن ينزل عليه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وإني لاستغفر الله في كل يوم سبعين مرة)
أقول: هذا معنى مجرَّب في حياتنا فالعالم أو الباحث الذي ينضجّ علمه ويتعمق ويتسع تدريجياً عندما يراجع ما كتبه وما قدّمه قبل سنين فإنه يخجل منه ويعترف بالتقصير إزاءه وربما يطلب إتلافه وتغييبه مع أنه كان يمثل قدراته في ذلك الوقت وكان مقتنعاً به، إلا أنه لما ترقّى صار يراه موجباً للخجل والاعتذار.
أما كونهم (صلوات الله عليهم أجمعين) في ارتقاء وزيادة حتى بعد وفاتهم فهذا ما نطقت به الروايات لذا ورد الحث على الدعاء لهم بطلب الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود والصلاة عليهم، وورد في ذلك قول الإمام الصادق (عليه السلام): (لولا أنّا نزداد لأنفدنا)(1).
5 - إنهم عليهم السلام لما كانوا في غاية المعرفة لمعبودهم فكل ما أتوا به من الأعمال بغاية جهدهم ثم نظروا إلى قصورها عن أن يليق بجناب ربهم عدوا طاعاتهم من المعاصي واستغفروا منها كما يستغفر المذنب العاصي.م.
ص: 307
ومن ذاق من كأس المحبة جرعة شائقة لا يأبى عن قبول تلك الوجوه الرائقة، والعارف المحب الكامل إذا نظر إلى غير محبوبه أو توجه إلى غير مطلوبه يرى نفسه من أعظم الخاطئين، رزقنا الله الوصول إلى درجات المحبين(1)
وهذا المعنى عرفي أيضاً فإن من حلّ به ضيف عالي الشأن وقدّم له غاية جهده إلا أنه يواصل اعتذاره عن التقصير؛ لأنه يرى أن ما قدّمه وإن كان كل ما يستطيع تقديمه إلا أنه بلحاظ مقام ذلك الضيف يرى كل ما قدّمه موجباً للخجل والاعتذار.
ونضيف وجوهاً أخرى إلى ما ذكره (قدس سره) مع المحافظة على الترتيب.
6 - إنهم (عليهم السلام) يستغفرون من الذنوب التي تحسب عليهم بما اجترح أتباعهم، وهذا معنى أخلاقي جرت عليه السيرة العقلائية، فإن المرجع يتحمل أوزار أتباعه إذا أساؤوا، والأب يعتبر نفسه مسؤولاً عما جناه ابنه، والمدير لمؤسسةٍ ما يعتبر نفسه مسؤولاً عن تقصير أحد موظفيه، أو خيانتهم، فيقدم الاعتذار ويتحمّل التبعة وقد يستقيل من موقعه، فالمعصومون (عليهم السلام) يستغفرون الله تعالى من التبعات التي لحقتهم بسبب سوء تصرفات أتباعهم بل هم آباء لهذه الأمة بنص الحديث النبوي الشريف: (يا علي أنا وأنت أبوا هذه الأمة) ووردت في بعض الروايات كما في تفسير القمي بسنده عن عمر بن يزيد قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) قول الله عز وجل في كتابه [لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ] قال (عليه السلام): ما كان له ذنب ولا همَّ بذنب ولكن الله حمّله ذنوب شيعته ثم غفرها له(2)
لذا وردت الوصايا عن المعصومين (عليهم السلام) لشيعتهم: (كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً).
7 - إنهم (عليهم السلام) يعتبرون أنفسهم مذنبين ومقصّرين ما دام يوجد فرد في هذه الدنيا لم يتكامل ولم يحقق العبودية الكاملة في حياته؛ لأن هذا يعني أنهم (عليهم السلام) لم يحققوا هدفهم ولم تنجح وظيفتهم بشكل كامل وهي بسط9.
ص: 308
التوحيد الخالص في الأرض، فكيف إذا كانت أكثر البشرية ضالة [وَ ما أَكْثَرُ النّاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ] ) يوسف: 103)، وهذا النقص في تحقيق الغرض وإن كان بسبب خارج عنهم لأنه في المتلقي أي في قابلية القابل وليس في فاعلية الفاعل كما يعبّرون، إلا أنهم (عليهم السلام) على أي حال يشعرون بالذنب والتقصير وحرقة القلب لعدم اكتمال أهداف رسالتهم، ويطلبون من الله تعالى العفو والصفح ولذا وردت تطمينات من الله تبارك وتعالى لنبيه وعفو عن مسؤولية هذه النتائج المؤسفة، وتطييب لقلبه (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال تعالى:[فَلَعَلَّكَ باخِعٌ(1) نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً] (الكهف: 6) وقال تعالى:[لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ] (الشعراء: 3).
8 - في ضوء الحديث المروي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لم يُعبد الله عز وجل بشيء أفضل من العقل، ولا يكون المؤمن عاقلاً حتى يجتمع فيه عشر خصال) إلى أن قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (والعاشرة وما العاشرة: لا يرى أحداً إلا قال: هو خير مني وأتقى، إنما الناس رجلان فرجلٌ هو خير منه وأتقى، وآخر هو شر منه وأدنى، فإذا رأى من هو خير منه وأتقى تواضع له ليلحق به، وإذا لقي الذي هو شرٌّ منه وأدنى قال: عسى خير هذا باطن وشره ظاهر، وعسى أن يختم له بخير، فإذا فعل ذلك فقد علا مجده، وساد أهل زمانه(2) (.
أقول: عقول المعصومين (عليهم السلام) هي أكمل العقول فهذا التواضع وهذا الشعور بأنه أقل الخلق أمام الله تعالى في أعلى درجاته عندهم (عليهم السلام)؛ لأنهم لا ينظرون إلى أنفسهم ولا يتّكلون على أعمالهم مهما عظمت وخلصت ولا يأمنون مكر الله تعالى وهم يتلون خطاب الله لجدهم المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) سيد الخلق:[وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ]7.
ص: 309
[وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ] (الزمر: 65) ويقول (صلى الله عليه وآله وسلم): (لو عصيت لهويت).
والحكاية المروية عن كليم الله موسى بن عمران (عليه السلام): (إن الله سبحانه أوحى إلى موسى عليه السلام: إذا جئت للمناجاة فاصحب معك من تكون خيراً منه، فجعل موسى لا يعترض (يعرض) أحداً إلا وهو لا يجسر (يجتري) أن يقول: إني خير منه، فنزل عن الناس وشرع في أصناف الحيوانات حتى مر بكلب أجرب فقال: أصحب هذا فجعل في عنقه حبلا ثم جرّ به فلما كان في بعض الطريق شمر الكلب من الحبل وأرسله، فلما جاء إلى مناجاة الرب سبحانه قال: يا موسى أين ما أمرتك به؟ قال: يا رب لم أجده فقال الله تعالى: وعزتي وجلالي لو أتيتني بأحد لمحوتك من ديوان النبوة(1).
9 - إن استغفار المعصومين (عليهم السلام) إنما هو من وجود مقتضيات الذنب والمعصية فيهم وإن كانت عندهم الملكة القدسية الرادعة عن توظيفها إلا في طاعة الله تبارك وتعالى، فتعتبر الشهوة الجنسية شراً بمعنى من المعاني، وكذا الغضب لأنها مناشئ الذنوب، ففي الخصال بسنده عن هشام بن الحكم في تفسير عصمة الإمام قال: (إن جميع الذنوب لها أربعة أوجه لا خامس لها: الحرص والحسد والغضب والشهوة فهذه منتفية عنه(2)
فالأئمة يستغفرون من وجود هذه المقتضيات للذنوب عندهم وإن كانوا بلطف الله تبارك وتعالى لا يستعملونها إلا في ما يرضي الله تبارك وتعالى كما في معاني الأخبار بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (المعصوم وهو الممتنع بالله من جميع محارم الله وقد قال تبارك وتعالى:[وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ] ) آل عمران: 101(3)2.
ص: 310
10 - إن الله تعالى يقول:[وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللّهِ لا تُحْصُوها] (إبراهيم: 34) فإذا كان الإنسان عاجزاً عن معرفة نعم الله وعدّها فكيف يتسنى له شكرها فهو عن أداء الشكر أعجز وفي ذلك ورد في دعاء للإمام السجاد (عليه السلام): (ونعماؤك كثيرة قصُر فهمي عن إدراكها فضلاً عن استقصائها، فكيف لي بتحصيل الشكر وشكري إياك يفتقر إلى شكر، فكلما قلت لك الحمد وجبَ عليَّ لذلك أن أقول لك الحمد)(1).
فإذا ضممنا إلى ذلك مقدمة أخرى مأخوذة من وصية الإمام الكاظم (عليه السلام) المشهورة لهشام بن الحكم وفيها (يا هشام إن كل نعمة عجزت عن شكرها بمنزلة سيئة تؤاخذ بها)(2) ينتج وجه جديد لفهم الذنوب وهو العجز عن أداء شكر النعم، ويكون الشعور بالذنب أكبر كلما كانت النعم أكثر، ولذا يشعر الأئمة المعصومون (عليهم السلام) أنهم أكثر الخلق ذنوباً كقوله (عليه السلام): (وما في الورى شخص جنا كجنايتي) لأنهم حُبوا بأعظم النعم فقد أعطاهم الله تعالى منزلة يغبطهم عليها الأولون والآخرون وخلق الكون لأجلهم.
أيها الأحبة:
حينما نذكر هذه الوجوه التي هي صحيحة وقد يناسب بعضها بعض الموارد وبعضها موارد غيرها، فإنما نريد تحصيل عدة أمور: -
1 - دفع هذا الإشكال والدفاع عن عقيدتنا في عصمة أهل البيت (صلوات الله عليهم) التي هي ثابتة بأدلة قطعية تفوق الحصر والاستقصاء.
2 - أن نتعرف على طبيعة العلاقة مع الله تبارك وتعالى من خلال التأسّي بما كان يقوم به المعصومون (عليهم السلام).
3 - أن نستشعر المسؤولية تجاه أفعالنا بل أفعال كل من يمكن أن تُحسب تصرفاته علينا، وتزداد سعة التبعة بسعة دائرة المسؤولية، فلا بد أن نكون مراقبين متابعين محاسبين حازمين والله المستعان.2.
ص: 311
بسم الله الرحمن الرحيم
الإمام السجاد (عليه السلام) يدعونا إلى استثمار الوقت(1)
هذه الأيام أيام الإمام السجاد (عليه السلام) بامتياز لأن فيها ذكرى استشهاده، ولأنها أيام مصائبه وآلامه التي عجزت الجبال الرواسي عن تحملها، ولأنها أيام مكارمه ومآثره ومواقفه العظيمة في الكوفة والشام والمدينة التي شابهت مواقف جديه رسول الله وأمير المؤمنين وأبيه الحسين (صلوات الله عليهم أجمعين).
وبهذه المناسبة نقول: عندما يتناول الخطباء والمتحدثون ذكر الإمام السجاد (عليه السلام) فإنهم يركزون على جانب المأساة في حياته أي قضية كربلاء وما تلاها من أحداث، وهي لعمري صفحة مؤلمة في تأريخ الإنسانية اهتزت لها مشاعر الأعداء قبل الموالين كما تشهد بذلك جملة من الروايات التأريخية في كربلاء وما بعدها مما اضطر يزيد اللعين أن يتبرأ مما جرى ويرمي بمسؤوليته على ابن زياد.
أي المحاجر لا تبكي عليك دماً *** أبكيتَ والله حتى محجر الحجرِ
فهذا النمط من تناول الأحداث مشكور ومأجور وضروري لإبقاء الوهج والزخم للحادثة ولتوسيع قاعدة المتأثرين به واندفاعهم بسبب ذلك إلى الإيمان بمبادئ الإمام الحسين (عليه السلام) ومدرسة أهل البيت (سلام الله عليهم) عموماً، على أن يخلو من الإسفاف الذي لا يليق بالمقام المقدس للأئمة المعصومين (عليهم السلام) كإنشادهم عن حال الإمام السجاد (عليه السلام):
ويصيح واذلاه أين عشيرتي *** وسراة قومي أين أهل ودادي
في حين أن الله تعالى يقول رداً على المنافقين:[يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَ لِلّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ] (المنافقون: 8) ويقول الإمام السجاد (عليه السلام) في بعض أدعية الصحيفة
ص: 312
السجادية (فأولياؤه بعزته يعتزون) وما خرج الإمام الحسين (عليه السلام) إلا لرفض الذلة وتحصيل العزة حتى أصبحت كلمته شعاراً (هيهات منا الذلة) وقال (عليه السلام): (لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ لكم إقرار العبيد).
فإثارة العاطفة أمر محمود ومنتج بشرط تهذيبه وتصحيحه، وهو من جملة الأمور التي يجب تنزيه المنبر الحسيني عنها.
مضافاً إلى أن الاقتصار عليه يحرمنا الكثير مما ينبغي أن نتعلمه ونتزود به لديننا ودنيانا وآخرتنا، فحياة الإمام السجاد (عليه السلام) حافلة بالعطاء في مختلف شؤون الحياة وكان له تأثير فاعل في حياة الأمة جميعاً وليس فقط في شيعته ومواليه، ففي الحادثة المعروفة التي أنشأ فيها الفرزدق قصيدته الميمية المشهورة، حينما انكشف الناس جميعاً عن الحجر الأسود وأصبحوا صفين ومشى الإمام السجاد (عليه السلام) بهدوء وسكينة ووقار ليلثم الحجر الأسود في حين عجز الملك الأموي بكل جبروته وبطشه وعدته العسكرية وجيوشه أن يتقدم نحو الحجر، وربما لم يكن في ذلك الجمع من الموالين لأهل البيت (عليهم السلام) إلا القليل كما هو المعروف على مرّ السنين، لكن هيبة الإمام السجاد (عليه السلام) فُرضت على الجميع وحبّه ومودته ألقيا في قلوب الجميع فلم يتمالكوا أنفسهم، وهذا شاهد على سعة عطائه وعمق تأثيره في الأمة كلها.
هذا ما يجب إظهاره من حياة الإمام السجاد (عليه السلام)، وإن حالة واحدة من حالاته (عليه السلام) وهي الدعاء تملأ مجلدات من الشرح والبيان، فضلاً عن حالاته المباركة الأخرى سلام الله عليه.
ولنقف الآن عند فقرة من دعائه (عليه السلام) في طلب مكارم الأخلاق المملوء بالمبادئ والأخلاق وبرامج العمل للحياة الإنسانية المثلى التي تجلب السعادة في الدنيا والآخرة، وهي فقرة تعالج مشكلة خطيرة تعاني منها كل المجتمعات حتى المتحضرة فضلاً عن المتخلفة والجاهلة وهي مشكلة الفراغ وتضييع الوقت وملئه بأي شيء بلا تخطيط لجعله منتجاً هادفاً، قال (عليه السلام): (اللهم صلّ على محمد وآله
ص: 313
واكفني ما يشغلني الاهتمام به، واستعملني بما تسألني غداً عنه، واستفرغ أيامي فيما خلقتني له).
فالإمام (عليه السلام) يبين أهمية الوقت ويدلنا على ما يجب أن نملأ أوقاتنا به، وهو ما يحقق الغرض الذي خلقنا لأجله [وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ] ) الذاريات: 56) بالمعنى الواسع للعبادة الذي لا يقتصر على العبادات المعروفة، بل ليجعلوا محور حياتهم في كل حركاتهم وسكناتهم ما يرضي الله تبارك وتعالى ويقرّبهم إليه ويسمو بهم، وهي رسالة الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم) جميعاً [وَ إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ اسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ] ) هود: 61) هذه رسالتهم باختصار التي بلغوها لأقوامهم، توحيد الله تعالى الذي طلب منكم إعمار الحياة وفق المنهج الإلهي لأن فيه سعادتكم وفوزكم وفلاحكم.
هذا ما يجب أن نكرّس له أوقاتنا في حياتنا كلها.
من دعاء أمير المؤمنين (عليه السلام) المعروف بدعاء كميل (يا ربّ أسألك بحقك وقدسك وأعظم صفاتك وأسمائك أن تجعل أوقاتي من الليل والنهار بذكرك معمورة وبخدمتك موصولة) وفي دعاء الإمام السجاد (عليه السلام) يوم الثلاثاء (واجعل الحياة زيادة لي في كل خير والوفاة راحة لي من كل شر) وفي دعائه (عليه السلام) ليوم السبت (وتوفقني لما ينفعني ما أبقيتني).
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (واعلموا أنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها(1).
إن الجنة التي عرضها السماوات والأرض والتي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ثمنها أن تستثمر هذه اللحظات وهذه الساعات، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما، ويأخذان منك فخذ منهما)6.
ص: 314
ويقول (عليه السلام): (إن المغبون من غبن عمره، وإن المغبوط من أنفد عمره في طاعة ربه).
فرأس مال الإنسان في هذه التجارة التي لن تبور: عمره ووقته وإضاعة أي جزء - ولو للحظة - بغير تحصيل الغرض المطلوب خسارة توجب الندامة؛ لأن اللحظة يمكن أن تكون فيها تسبيحة تغرس له بها شجرة في الجنة كما في بعض الأحاديث الشريفة، أو أي حسنة ترجّح كفّة حسناته يوم تنصب الموازين بالقسط.
عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (احذروا ضياع الأعمار في ما لا يبقى لكم، ففائتها لا يعود).
تجد الكثير من الناس يحزن لضياع مال أو تلفه أو فوت فرصة فيها ربح وفير مع أنه يمكن أن يعوضه وأن فائدته هو ما يرتبط بحياته الزائلة، ولا يكترث لفوت شيء من عمره في غير طاعة الله تبارك وتعالى فيه، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (بادروا العمل وخافوا بغتة الأجل، فإنه لا يرجى من رجعة العمر ما يرجى من رجعة الرزق) ومن وصايا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي ذر (رضوان الله تعالى عليه): (يا أبا ذر كن على عمرك أشحَّ منك على درهمك ودينارك).
هذا إذا لم نفترض أن الكثير من الوقت يقضى في معصية الله تبارك وتعالى فتباً لها من صفقة خاسرة.
أذكر لكم باختصار حكاية لنأخذ منها العبرة رواها أحد الفضلاء الأساتذة عن أبيه وهو أحد مراجع الدين في كربلاء المقدسة عن شخص ثري تعرّض لسجن واضطهاد في بعض البلدان وكانت له أموال وتجارات فهاجر مع أهله إلى كربلاء قبل سبعين عاماً تقريباً وبسبب تلك الضغوط والآلام أصيب بلوثة في عقله فكان إذا أراد أن يسخّن الماء ليصنع قدحاً من الشاي يحرق الدنانير - كان كل دينار يعادل مثقالاً من الذهب يومئذٍ - في الموقد إلى أن ينضج الشاي، ثم يحتسي القدح فرحاً منتشياً ويقول هذا القدح من الشاي قيمته عشرة آلاف دينار.
ربما نسخر من هذا ونستقبح فعله ولا نعلم - وشر البلية ما يضحك - أننا أسوأ حالاً منه لأننا نحرق ساعاتنا وأيامنا وليالينا التي هي رأس المال في التجارة التي لن
ص: 315
تبور مع الله تعالى ويمكن أن نحصل بها على الدرجات العليا في الجنان والنعم العظيمة ومصاحبة النبي وآله الكرام (صلوات الله عليهم أجمعين) نحرقها في ما لا قيمة له، بل أحياناً في ما يسخط الله تبارك وتعالى ويوجب عقابه والعياذ بالله.
وإذا كنا دقيقين أكثر فإن علينا أن نقدّم الأهم على المهم والأعلى رتبة على الأقل رتبة وإن كان كل منهما طاعة، تصوروا لو أن شخصاً مريضاً ويجب عليه تناول دواء معين وعنده ثمنه لكنه لا يفعل ذلك بل صرف الثمن على شراء أكلة يشتهيها وترك نفسه عرضة للأوجاع وتداعيات المرض مع أن الأكل في نفسه مفيد، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) (من اشتغل بغير المهم ضيع الأهم) وفي غرر الحكم عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (من شغل نفسه بما لا يجب ضيّع من أمره ما يجب)، ومن أمثلتها عندنا نحن - الحوزة العلمية - اشتغال البعض بمطالب علمية ترفية لا دخل لها في وظيفتنا الإلهية.
هذه هي أهمية الوقت، لكننا نشهد أن أتفه شيء عند الإنسان هو الوقت وآخر ما يحرص عليه وقته، بل إنه يقوم بأفعال عبثية ولهوية كثيرة مما يسمى بالهوايات أحياناً كتربية الطيور أو جمع الطوابع أو حل الكلمات المتقاطعة أو بعض الألعاب المسلية ويقول بصراحة ووضوح إنه يفعل ذلك لقتل الوقت أو حرق الوقت وفي الحقيقة فإنه إنما يقتل نفسه ومستقبله الحقيقي وما يقوم به أسوأ من هذا الرجل الذي حكينا قصته في حرق الدنانير.
ومما يزيد الحالة سوءاً أن البعض لا يكتفي بتضييع وقته وهدر عمره، بل يقوم بتضييع أوقات الآخرين بالأحاديث الفارغة والأعمال العبثية ويدفع الآخرين ليكونوا مثله.
أيها الأحبة:
إننا إذن أمام مسؤولية كبيرة وهي إدراك أهمية عمرنا وما يجب أن نستثمره فيه لنحصل على أرقى الدرجات وهذه حقيقة تكشف لنا واقعنا المؤلم لأن العمر يجري مع كل نفس ولا ينتظرنا، ويمر بسرعة قال تعالى:[وَ يَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ] ) الروم: 55) وقال تعالى:[كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ
ص: 316
عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها] ) النازعات: 46) وفي قصص الأنبياء أن النبي نوح (عليه السلام) وهو الأطول عمراً شبّه عمره الطويل بانتقالته لحظة من الشمس إلى الظل.
وهذا ما يعلمنا إياه الإمام السجاد (عليه السلام) في فقرة من دعاء مكارم الأخلاق فيدعونا إلى أن نصرف أوقاتنا بما نحن مسؤولون عنه يوم القيامة [وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ] (الصافات: 24) وأن نستفرغ أيامنا بالسير في الاتجاه الصحيح نحو الهدف.
ويعلمنا (عليه السلام) كيف يمكننا تحقيق ذلك مع كثرة الخطوط والمسارات وتعدد الخيارات وتداخل الاتجاهات والرؤى والبرامج فيقول (عليه السلام): (واكفني ما يشغلني الاهتمام به) فالطريق أن تصفي ذهنك وبرامج حياتك من كل شيء زائد عما يشغلك الاهتمام به عن السير نحو الغاية، وإلا سيضيع وسط هذه الفوضى ولا يصل إلى النتيجة المطلوبة، وفي غرر الحكم لأمير المؤمنين (عليه السلام) (اشتغال النفس بما لا يصحبها بعد الموت من أكبر الوهن).
لاحظوا الفرق بين ما نحن عليه، وما يريد الله تبارك وتعالى منّا، إننا نضيّع رأس مالنا بما يضرّ ولا ينفع، والله تعالى يريد لنا أن لا نقف عند حدود استثمار أعمارنا بل يدعونا إلى أن نكون مباركين معطائين حتى بعد وفاتنا فنحصل على عمر مديد من العطاء أو قل لنحصل على رأس مال إضافي كالشيخ الطوسي (قدس سره) الذي مر على وفاته ألف عام تقريباً وهو يزداد تألقاً وعطاءً، وكالشيخ الحر العاملي الذي مرّت على وفاته قرون ولا يستطيع فقيه أو عالم الاستغناء عن كتابه وسائل الشيعة، وهذا ما دعانا إليه الحديث النبوي الشريف (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له).
وفي الحديث الشريف المشهور (من سنّ سنّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة) ومن هذا الباب تفضل الله تعالى بكتابة الحسنة لمن نواها ولم يوفَّق لفعلها، وكذلك ما ورد من أن من أحبّ عمل قومٍ أُشرك في أجورهم وحشر معهم.
ص: 317
كل ذلك من أجل مضاعفة الربح لهذه التجارة النفيسة مع الله تبارك وتعالى لمن استثمر عمره ووقته.
ص: 318
بسم الله الرحمن الرحيم
تقييم الحركات المسلحة لمواجهة السلطات(1)
توجد قضيتان تتعلقان بمعارضة السلطات الظالمة المنحرفة المستبدة ومواجهتها بالسلاح: خفي التفريق بينهما على كثير من المتصدين منذ زمان المعصومين (عليهم السلام) وإلى اليوم، فوقع الكثيرون في ما لا ينبغي فعله ولا يجوز لهم التصدي له بما يعني ذلك من خسائر باهظة بالأرواح والممتلكات وكيان الأمة:
إحداهما: الخروج لطلب الإصلاح وإقامة السنن وإماتة البدع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد تتطلب مواجهة مسلحة في النهاية دفاعاً عن النفس - كمافي حركة الإمام الحسين (عليه السلام) - أولاستنقاذ الحق وإعادته إلى أهله - كمافي حركة زيد الشهيد (رضوان الله تعالى عليه) -.
ثانيهما: التحرك لقلب نظام الحكم وانتزاع السلطة بقوة السلاح كالكثير من ثورات العلويين في عصر الأئمة (عليه السلام) وإلى اليوم.
والحركة الأولى ممدوحة سواء قادها الإمام الحق كالإمام الحسين (عليه السلام) أو من يتحرك بإذنه ويعمل تحت رايته كزيد الشهيد (رضوان الله تعالى عليه) وهذا ما يظهر من روايات المعصومين (عليهم السلام) في مدح زيد والثناء عليه كما في الرواية الصحيحة عن الإمام الصادق (عليه السلام) ومنها قوله (عليه السلام): (إن أتاكم آت فانظروا على أي شيء تخرجون، ولا تقولوا خرج زيد، فإن زيداً كان عالماً وكان صدوقاً ولم يدعكم إلى نفسه، وإنما دعاكم إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه إنما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه(2) الحديث.
ص: 319
أما الثانية فقد كان الإمام (عليه السلام) ينأى بنفسه عنها ويحذّر أصحابها من مغبّة عملهم لأنها غالباً ما تكون غير مكتملة المقدمات ولا تؤدي الغرض المطلوب وهو إقامة المجتمع الصالح وحكومة العدل الإلهي وإلى مثل هذه الحركات تشير بعض الروايات الناهية عن التحرك كصحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كل راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت يُعبد من دون الله عز وجل) والرواية عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: (والله لا يخرج أحدٌ منا قبل خروج القائم إلا كان مثله كمثل فرخ طار من وكره قبل أن يستوي جناحاه فأخذه الصبيان فعبثوا به).
وكان البعض يدفعه حب الرئاسة والزعامة - كبعضبني الحسن (عليه السلام) - حيث يجدون أن أولاد عمهم الحسين (عليه السلام) قد استأثروا بالإمامة ويأسوا من الحصول عليها فاختاروا هذا الطريق لتحصيل الزعامة ولو بالمغامرة، فإن المغامرين يرتكبون الأهوال ويضحون بأنفسهم من أجل تحقيق الأرقام القياسية!!.
ولذا كان الأئمة المعصومون (عليهم السلام) لا يقيسون أحداً من أولئك بزيد الشهيد ويفرّقون بينهم في المنهج والأهداف كما في الرواية السابقة وفي الرواية الأخرى عن الرضا (عليه السلام) أنه قال للمأمون (لا تقس أخي زيداً(1) إلى زيد بن علي، فإنه من علماء آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) غضب لله فجاهد أعداءه حتى قتل في سبيله).
وكان الإمام الصادق (عليه السلام) يقول عن مثل هؤلاء: (إنه لا يطيعنا وهو وحده فكيف يطيعنا إذا ارتفعت الرايات والأعلام).
لكن الأئمة (عليهم السلام) كانوا يتألمون لفشل تلك الحركات ويبكون ضحاياها ويتعاطفون معها بالشكل الذي لا يعرضهم لاتهام السلطات الجائرة بانضمامهم إليها أو دعمها و تأييدها كما يظهر في رسالة الإمام الصادق (عليه السلام) لبني الحسن (عليه السلام) المعتقلين في سجون المنصور العباسي، وتألم الإمام الكاظم (عليه السلام)ر.
ص: 320
لضحايا معركة فخ، وكان الأئمة (عليهم السلام) يرون في تلك الحركات إشغالاً للسلطة عن متابعة نشاطاتهم، ومن ذلك ما ورد في مستطرفات كتاب السرائر أنه (ذكر بين يدي أبي عبد الله (عليه السلام) من خرج من آل محمد (صلى الله وآله وسلم) فقال: لا أزال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولوددت أن الخارجي يخرج من آل محمد وعليَّ نفقة عياله).
والكلام في هذه المطالب يطول ولا يسعه المقام(1) ولكن في ما قلناه تذكرة لكثير ممن تقمصّوا غير مواقعهم فسببّوا الكثير من البلايا والمحن لشيعة أهل البيت (عليهم السلام) في عدد من بلاد المسلمين وليس في العراق وحده.
وإذا سألت كيف يمكن التمييز في هذه القضية الملتبسة وفرز أوراق الحق عن الباطل، قلت الجواب سهل وهو الرجوع إلى أولي الأمر الذين أمر الله تعالى بالرجوع إليهم وهم الأئمة المعصومون (عليهم السلام) في زمن حضورهم ونوابهم من العلماء العدول العارفين بالظروف المحيطة بهم والقارئين بعمق لسيرة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ومواقفهم.
وفي ذلك ورد في الرواية الصحيحة عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له وانظروا لأنفسكم فوالله إن الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلاً هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه ويجيء بذلك الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها، والله لوكان لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرّب بها ثم كانت الأخرى يعمل على ما قد استبان لها ولكن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة فأنتم أحق أن تختاروا لأنفسكم).ه.
ص: 321
بسم الله الرحمن الرحيم
مسؤولية المرجعية عن بيان خصائص أتباعها(1)
تسمى الشيعة الأمامية الاثنا عشرية ب - (الجعفرية) نسبة إلى الإمام الصادق جعفر بن محمد (صلوات الله عليهما وعلى آبائهما) وهو شرف عظيم في الدنيا والآخرة [يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً، وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً] (الإسراء: 71-72).
فيُدعى الشيعة بأئمتهم من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ويدعى الآخرون بأئمتهم الذين أطاعوهم واتبعوهم من شياطين الإنس والجن ونعم الحكم الله تبارك وتعالى.
والسؤال هو أنه لماذا اختص الإمام الصادق (عليه السلام) بالانتساب إليه والشيعة أتباع جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) وبقية الأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم.
وقد أجيب هذا السؤال بأن فقه الأمامية وأحكامهم وتفاصيل عقائدهم أخذت بشكل رئيسي من الإمام الصادق (عليه السلام) فيُعدّ هو مشيد أركان هذه الطائفة المباركة.
وهو جواب يشهد له الواقع فإن أكثر الأحكام الفقهية المروية عنه سلام الله عليه، باعتبار الفسحة الواسعة التي سنحت له أبان الدولة الأموية وانهيارها وبداية تأسيس الدولة العباسية وازدهار الحياة العلمية في تلك الفترة.
ص: 322
وذكر سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في إحدى خطبه وجهاً آخر وهو أن تشكل المذاهب الإسلامية والطوائف بدأ في زمان الإمام الصادق وما بعده ومن الطبيعي أن تنسب كل طائفة إلى زعيمها المعاصر فنسبت الشيعة إلى الإمام الصادق (عليه السلام).
وهو وجه مقبول أيضا وبدأت هذه النسبة بالانتشار في نفس زمان الإمام (عليه السلام) بحيث يقال هذا جعفري وقد نشأت من هذه الحالة مسؤولية على الإمام (عليه السلام) أن يبين معالم مدرسته وخصوصياتها وصفات من ينتسب إليها؛ لأن أي حسنة تصدر من أصحابه تحسب له وأي سيئة - والعياذ بالله - تحسب عليه بشكل من الأشكال ويتحمل مسؤوليتها من وجهة نظر البعض، لذا ورد في تفسير قوله تعالى مخاطباً نبيه الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)[لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ] (الفتح: 2)، عدة وجوه احدها أن الله تعالى يزيل عنه أثار التبعات التي تحسب عليه بسبب تصرفات أتباعه وهو برئ عنها ورافض لها.
وقد سبقه جدّه إبراهيم خليل الرحمن (صلوات الله عليه) بقوله:[رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] (إبراهيم: 36).
وفي هذا الصدد وردت روايات عديدة عن الإمام الصادق (عليه السلام):
منها: عن زيد الشحام قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) (اقرأ على من ترى أنه يطيعني منهم ويأخذوا بقولي السلام، وأوصيكم بتقوى الله عز وجل، والورع في دينكم والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأدوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها براً أو فاجراً، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يأمر بأداء الخيط والمخيط، صلوا عشائركم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدى الأمانة وحسن خلقه مع الناس، قيل هذا
ص: 323
جعفري، فيسرّني ذلك ويدخل عليّ منه السرور، وقيل هذا أدب جعفر، وإذا كان على غير ذلك دخل علي بلاؤه وعاره، وقيل هذا أدب جعفر(1) الحديث.
وقال (عليه السلام): (إنما شيعة جعفر من عف بطنه وفرجه، واشتد جهاده وعمل لخالقه ورجا ثوابه، وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك فأولئك شيعة جعفر(2).
ومن خلال هذا الحديث بيّن الأئمة سلام الله عليهم ما يجب أن تتوفر في المسلم من صفات ليكون شيعياً وألّف الشيح الصدوق (رضوان الله عليه) كتاباً في ذلك سماه (صفات الشيعة) وليقيموا الحجّة على المدّعين لهذا الشرف العظيم.
وكانت الحالة تقتضي أحياناً أن يصدر الإمام (عليه السلام) براءة ولعناً صريحين في بعض الأشخاص لعزلهم عن الأمة كالمغيرة بن سعيد الذي قال فيه الإمام الصادق (عليه السلام) (لعن الله المغيرة بن سعيد انه كان يكذب على أبي فأذاقه الله حر الحديد).
وفي الحقيقة فإن الإمام (عليه السلام) حينما يبين صفات شيعته بهذا الوضوح إنما يوجه رسائل لعدة فئات: -
1 - شيعته ليبيّن لهم واجباتهم.
2 - الذين يدّعون الانتساب إليه نفاقا لتحقيق مآربهم وخداع الأمة لفضحهم وكشف زيفهم حينما يقارن الناس بين أفعالهم وبين ما يريده الإمام (عليه السلام) منهم.
3 - الفئات الأخرى من غير أتباعه ليدعوهم إلى هذا الحق الصريح ويقيم الحجة عليهم وليقول لهم أن منهجاً بهذه التفاصيل أحق أن يتّبع.
4 - أعدائه الذين يسعون إلى قتله معنويا ومحاربته وتصفيته جسدياً بأن من كان على هذا الهدى هل يستحق منكم ما تفعلون به؟3.
ص: 324
وهذه مسؤولية لا تختص بالإمام الصادق لان هذه النسبة يمكن أن تحصل باستمرار لكثير من القادة والمرجعيات، فعلى المراجع الذين يُنظر إليهم كامتداد للائمة المعصومين (سلام الله عليهم) أن يعوا هذه المسؤولية ويتحمّلوها أمام الأمة فيوضحوا لهم ما يجب أن يتصفوا به ويتبرأوا ممن لا يلتزم بتلك الأوصاف، وإلا فإن الأخطاء والمظالم والذنوب ستحسب عليهم، كما ترون اليوم أن الذين تلفّعوا بعباءة المرجعية وتصدّوا للحكم فإن الناس لا تقتصر باللوم عليهم لسوء تصرفاتهم وإنما تنتقد المرجعية التي دعت الناس لانتخابهم ثم تخلت عن مسؤولياتها في تقويم المسيرة وردع المسيء وإنصاف المظلوم.
إن الذين يدّعون الانتساب إلى فئة شريفة ولا يلتزمون بتعاليمها هم اشد خطراً عليها من أعدائها الخارجيين لأنهم ينخرون بناءها من داخلها فلابد من فضحهم والبراءة منهم لدفع خطرهم.
ص: 325
بسم الله الرحمن الرحيم
يصون عقيدة الناس من الانحراف(1)
رغم قصر مدة الإمامة الفعلية لأبي محمد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وهي ست سنوات (254-260 ه -) والحصار الصارم والاعتقال الذي فرضه عليه ملوك عصره وتآمرهم المستمر على قتله لقطع نسله حيث كانوا يعتقدون بأن الإمام المهدي الموعود الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً هو ابنه.
ورغم احتجابه عن الناس إلا نادراً إما بسبب الرقابة الشديدة للسلطة أو لتهيئة شيعته لقبول غيبة الإمام القادم وتدريبهم على كيفية التعاطي مع الواقع الجديد إلى درجة أن أقربائه لم يكن يرده، روى الكليني بسنده عن محمد بن علي بن إبراهيم بن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: (ضاق بنا الأمر فقال لي أبي: امضِ بنا حتى نصير إلى هذا الرجل يعني أبا محمد (عليه السلام) فإنه قد وصف عنه سماحته، فقلت: تعرفه؟ قال: ما أعرفه ولا رأيته).
ورغم ابتلائه بالمشككين من شيعته والمقصرين في معرفة حقه حتى روي عنه قوله (عليه السلام) (ما مُني أحد من آبائي بمثل ما منيت به من تشكيك هذه العصابة بي).
أقول: رغم ذلك كله فقد ترشح عنه الكثير من الأعمال المباركة في حياة الأمة، ونقف الآن عند واحد منها وهو حرصه (عليه السلام) على سلامة معتقدات الناس وتحصينهم من الضلالات والشبهات، وتوجد عدة شواهد على ذلك من حياته الشريفة.
ص: 326
(منها) تحركه (عليه السلام) لمنع محاولة أبي إسحاق الكندي الذي سُمي بفيلسوف العراق تأليف كتاب في متناقضات القرآن فَعَلَّم أحد أصحابه كيف يتقرب منه وينال ثقته التامة ثم يسأله: هل يمكن أن يكون مراد المتكلم بالقرآن غير المعاني التي فهمتها أنت فيرتفع التناقض الذي ظننته، وفعل الرجل ذلك وأثّ َرت الكلمة في الكندي فمزّق مسودات الكتاب(1) وقد ذكرتُ تفصيل الحادثة في كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية).
(ومنها) ما حصل حينما تزعزعت عقيدة كثيرين وارتد بعضٌ منهم في زمان المعتمد العباسي - الذي قتل الإمام (عليه السلام) - فقد ذكر المؤرخون أن الناس أصابهم قحط شديد، فأمر المعتمد العباسي بالخروج إلى الاستسقاء ثلاثة أيام فخرجوا ولم يغاثوا، وخرج النصارى ومعهم راهب كلما مدَّ يده إلى السماء هطلت، وفعل ذلك مكرراً، فشكّ بعض الجهلة في دينهم، وارتد البعض الآخر، وشقّ ذلك على المعتمد ففزع إلى الإمام أبي محمد (عليهم السلام)، وكان في سجنه وقال له: أدرك أمة جدك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل أن يهلكوا، فقال له الإمام (عليه السلام) (يخرجون غداً، وأنا أزيل الشك عنهم إن شاء الله تعالى).
وأخرجه المعتمد من السجن، واشترط الإمام أن يطلق سراح أصحابه جميعاً فاستجاب له وأخرجهم، وفي اليوم التالي خرج الناس للاستسقاء، فرفع الراهب يده إلى السماء، فغيّمت ومطرت، فأمر الإمام بتفتيش يده وأخذ ما فيها، وإذا فيها عظم آدمي فأخذه منه وأمره بالاستسقاء فرفع يده إلى السماء فزال ما فيها من غيم، وطلعت الشمس، فعجب الناس من ذلك.
فسأله المعتمد عن سرِّ ذلك، فأجاب الإمام (عليه السلام) (هذا عظم نبيّ ظفر به هذا الراهب من بعض القبور، وما كُشِف عظم نبي تحت السماء إلا هطلت بالمطر).ل.
ص: 327
وتفحّص المعتمد عن ذلك فكان كما أخبر الإمام (عليه السلام) فزالت الشبهات وانتفى الشك(1).
إن هذه الرواية وإن كانت تتضمن منقبة وفضيلة للإمام العسكري (عليه السلام) إلا اننا لا نكتفي بالسرد المناقبي لأهل البيت العصمة (عليه السلام) لأنه أعلى من أن نكتشف مقاماتهم عند الله تعالى بهذه المناقب، فإذا أردنا أن ندخل السرور على قلب الإمام (عليه السلام) ونقول له ان تضحياته وجهوده أثمرت عن معرفة عميقة بمسؤولياتنا أمام الله تعالى، وبرامج عمل نتقرب بها إلى الله تعالى وتصلح بها الأمة وتحيا بها البلاد. وتمهّد لدولة ولده المهدي (عليه السلام) المباركة، إذا أردنا ذلك فعلينا أن نتأمّل في هذه السيرة المباركة ونقتبس منها ما يوجّه بَوْصَلة حياتنا، وهذا هو الإحياء الواعي لشعائر أهل البيت (عليهم السلام) ومناسباتهم.
لقد تضمنت هذه الرواية عدة دروس وعبر ينبغي الالتفات إليها للتأسي بها:
1 - ممارسة الإمام وظيفته في حفظ عقائد الإسلام ودفع الشبهات عنه.
2 - فضح المضللين والماكرين الذين يضلّون الناس عن دينهم بأساليبهم الشيطانية، سواء من داخل الكيان الإسلامي أو من خارجه، ولا يجامل أحداً حتى لو كان من خواصه، كالذي صدر منه (عليه السلام) في عروة بن يحيى الدهقان الذي كان في أول أمره وكيلاً وثقة للإمام (عليه السلام) لكنه انحرف واختلس أموال الإمام (عليه السلام) فصدر من الإمام (عليه السلام) لعنه وأمر شيعته بلعنه والدعاء عليه.(2)
3 - نبل الإمام (عليه السلام) وسمو أخلاقه فلم يرضَ بالإفراج عنه حتى اشترط إخراج جميع أصحابه.
4 - حرصه على هيبة الدولة الإسلامية رغم أن من يملك زمامها مجرمون فاسدون قتلوه وقتلوا آباءه الطاهرين وهو في معتقلهم حينما وقعت الحادثة. إلا أنه (عليهي.
ص: 328
السلام) كان ينظر إلى المصلحة الإسلامية العليا و لهذا الحرص شواهد عديدة في حياة أجداده الطاهرين ذكرنا جملة منها في كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية).
5 - الاهتمام بقضايا الناس وبذل الوسع لقضائها وإدخال السرور عليهم، وفي ذلك روى ابن شهراشوب في المناقب وكذا ورد في كتاب الخرائج والجرائح عن أبي هاشم الجعفري - من نسل الشهيد جعفر الطيار - انه سمع الإمام العسكري (عليه السلام) يقول (إن في الجنة لباباً يقال له المعروف، لا يدخله إلا أهل المعروف)، فقال أبو هاشم: فحمدت الله في نفسي وفرحت مما أتكلَّفه من حوائج الناس، فنظر إليّ أبو محمد (عليه السلام) وقال (نعم فدُمْ على ما أنت عليه، وان أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة).(1)
6 - عدم أهلية المتصدين لولاية أمر الأمة وعجزهم عن مواجهة التحديات، وإقرارهم بذلك، بل واعترافهم بأن أصحاب الحق هم أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، إلاّ أنهم غصبوهم حقهم بالحديد والنار، وتوجد في هذا المجال اعترافات للمتسلطين من لدن زمان أمير المؤمنين (عليه السلام)، كقول قائلهم (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن).
7 - حث الإمام (عليه السلام) الناس على اللجوء إلى الله تبارك وتعالى في جميع أمورهم والتوجه إليه بطلب حوائجهم للدنيا والآخرة مهما كانت ضئيلة أو كبيرة من دون إهمال الأسباب والوسائل الطبيعية التي هيأها الله تعالى للإنسان.
وبهذه المناسبة أقول لكم: قصدني أكثر من شخص خلال الأيام الماضية وشكا من الجدب في هذه السنة وشحّة الأمطار والوضع المزري للزراعة والثروة الحيوانية بسبب ذلك، وطلبوا إقامة صلاة الاستسقاء، فقلتُ له ممازحاً: إن أهل المدن لا يريدون المطر لأنفسهم لما يسبب من إرباك وتعطيل لبعض مصالحهم وتضرّر الطرق فهم لا يتفاعلون مع صلاة الاستسقاء، فلوا أقمتموها عندكم ليتحقق التوجّه والصدق في الدعاء ولو لم تقيموها فإن الدعاء والتوسل بالمعصومين (عليهم السلام) كفيل0.
ص: 329
باستنزال الرحمة الإلهية وقد أغاث الله تعالى الناس بالمطر هذه الأيام عشية ذكرى استشهاد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) صاحب حادثة صلاة الاستسقاء التي ذكرناها.
هكذا ينبغي أن نقرأ سيرة المعصومين (عليهم السلام) ونستفيد منهم، ونحن نعيش اليوم عصر انتشار الضلالات والأفكار المنحرفة وأنواع الادعاءات الماكرة التي يريد منها أصحابها ركوب رقاب الناس والتسلط عليهم، ويكون الخلاص منها والنجاة من لججها المظلمة بركوب سفن النجاة التي أرشدنا إليها الأئمة (عليهم السلام) وهم مراجع الدين الرساليون العاملون العارفون بزمانهم الذين يفنون أعمارهم لإنقاذ الناس من الجهالة وحيرة الضلالة.
وهذه المسؤولية لا تختص بالعلماء والحوزات العلمية الدينية بل هي مسؤولية الجميع وكل شخص بحسبه وبما يناسب من الآليات المؤثرة، وإذا عجز أحدكم فليلجأ إلى من هو أعلى منه معرفة، ولا يتوقف عن أي جهد يستطيع بذله، ولابد أن يسبق هذا تفقه في الدين ولو بالمقدار الذي ينفعه في إصلاح نفسه ومن يليه ليتمكن من أداء هذا الدور المبارك ويحظى بشفاعة الإمام الحسن العسكري وولده المهدي الموعود (عليهما السلام).
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
ص: 330
ص: 331
ص: 332
1 - القرآن الكريم.
2 - نهج البلاغة.
3 - المناقب للخوارزمي.
4 - مقاتل الطالبيين.
5 - الكافي.
6 - الانساب للبلاذري.
7 - النص والاجتهاد للسيد شرف الدين.
8 - نحن والغرب.
9 - الميزان في تفسيرالقرآن.
10 - منهاج الصالحين.
11 - منتهى الآمال للشيخ عباس القمي.
12 - منتهى الآمال للشيخ عباس القمي.
13 - مناقب آل ابي طالب.
14 - الملل والنحل.
15 - مقتل الحسين للمقرم.
16 - مفاتيح الجنان.
17 - معجم رجال الحديث.
18 - مستند العروة الوثقى.
19 - مستدرك الوسائل.
20 - مراقد المعارف.
21 - المراجعات للسيد شرف الدين.
22 - المحجة البيضاء للكاشاني.
23 - مجلة دراسات اسلامية.
ص: 333
24 - مجلة الإيمان.
25 - الكشكول للبهائي.
26 - الكافي للكليني.
27 - الغدير للأميني.
28 - علل الشرائع.
29 - عقيدة الشيعة في الامام الصادق.
30 - ضياء الصالحين.
31 - صفات الشيعة للصدوق.
32 - الشيعة والتشيع.
33 - شكوى القرآن.
34 - شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد.
35 - الشافي في شرح اصول الكافي.
36 - الشافي.
37 - سيرة الائمة الاثني عشر.
38 - وسائل الشيعة.
39 - السيدة سكينة للمقرم.
40 - السقيفة والخلافة.
41 - سفينة البحار.
42 - زينب الكبرى للشيخ جعفر النقدي.
43 - زبدة الافكار.
44 - روضات الجنات.
45 - الدر النظيم.
46 - حديث الروح مع الشهيد الصدر.
47 - جامع السعادات.
48 - التقية اصولها وتطورها للشيبي.
ص: 334
49 - تجاربي مع المنبر للشيخ الوائلي.
50 - تاريخ دمشق.
51 - تاريخ الغيبة الكبرى.
52 - تاريخ الغيبة الصغرى.
53 - تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام للسيد حسن الصدر.
54 - البداية والنهاية.
55 - البحار.
56 - اهل البيت تنوع ادوار ووحدة هدف.
57 - الانوار البهية للشيخ عباس القمي.
58 - اعيان الشيعة.
59 - الاعلام للزركلي.
60 - اصول الفقه للمظفر.
61 - الاصول العامة للفقه المقارن.
62 - الارشاد للشيخ المفيد.
63 - احياء علوم الدين.
64 - الاحتجاج.
65 - اثبات الوصية.
66 - أمالي الصدوق.
67 - تاريخ الامامية واسلافهم من الشيعة للفياض.
68 - الكامل في التاريخ لابن الاثير.
69 - حياة الائمة لعادل الاديب.
70 - الصحيفة السجادية لامام زين العابدين عليه السلام
71 - كشف الغمة في معرفة الائمة.
72 - الخصال للشيخ الصدوق
73 - تفسير القمي
ص: 335
74 - تحف العقول عن آل الرسول
75 - عدة الداعي لابن فهد الحلي.
76 - معاني الاخبار.
ص: 336
المقدمة والتعريف بالكتاب 7
بسم الله الرحمن الرحيم 15
ما هو الدور المشترك للائمة عليهم السلام 20
الايجابية تتكشف 30
في علاقات الائمة عليهم السلام بالامة 30
الايجابية تتكشف في علاقة الائمة عليهم السلام بالحكام 37
هل كان الائمة يحاولون استلام الحكم 38
رعاية الشيعة بوصفها الكتلة المؤمنة بالامام عليه السلام 39
(الاستغلال الواعي للمناسبات الدينية) 43
(دراسة حياة الأئمة عليهم السلام بنظرة كلية) 47
(الأدوار المشتركة للأئمة عليهم السلام في حياة الأمة) 54
المحور الاول: دورهم عليهم السلام في حياة الامة عموماً 55
(الاولى): تموين الامة بالعلم والعقيدة والفكر وشخصيتها الاسلامية الاصيلة. 55
(الثانية): مقاومة التيارات الفكرية التي تشكل خطرا على الرسالة. 60
(الثالثة): مواجهة المشاكل والتحديات التي تواجه كيان الامة ودولتها: 68
إلفات نظر: 73
(الرابعة): تثبيت حقهم عليهم السلام في ولاية امر الامة وحفظه من الضياع. 74
(الخامسة): المحافظة على وحدة المسلمين. 80
(السادسة): معايشة آلام الامة وآمالها والاهتمام بما يجري للقاصي والداني. 86
(السابعة): تحذير الأمة من الممارسات الخاطئة في فهم وتطبيق الاسلام. 92
(الثامنة): توفير بعض خريجي مدرستهم ممن لم يصبغوا بطابع الانتماء لهذه المدرسة. 102
(التاسعة): تربية الأمة على اخلاق الاسلام والالتزام بتعاليمه. 104
ص: 337
(العاشرة): قيادة الحركات الاصلاحية التي تستهدف تغيير الواقع الفاسد 108
(الحادية عشرة): 113
(الثانية عشرة): الاهتمام بوظيفة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. 117
المحور الثاني: رعاية الشيعة خصوصاً 126
(الاولى): تنظيم شؤونهم الداخلية من خلال عدة امور: 126
(الثانية): توجيه علاقاتهم مع الحكام: 135
(الثالثة): تشريع التقية. 141
(الرابعة): مقاومة التيارات الفكرية 144
(الخامسة): رسم علاقاتهم مع الأمة. 147
(السادسة): وضع منهج حياتي متكامل لهم. 153
(السابعة): توفير ما يشبه الصندوق المالي. 155
(الثامنة): صيانة حقوق الشيعة وأرواحهم وممتلكاتهم. 155
(التاسعة): توفير عدد من خريجي مدرستهم 156
(العاشرة): تعيين الإمام. 158
(الحادية عشرة): تسهيل سبل الاتصال بشيعتهم 167
(الثانية عشرة): تفهيمهم المعنى الحقيقي للتشيع وصفات الشيعي 170
(الثالثة عشرة): الاشراف المباشر او تاليف لجنة للاشراف 173
(الرابعة عشرة): حفظ الشيعة والتخطيط لحمايتهم. 173
(الخامسة عشر): النهي عن المبالغة في نقل المناقب والكرامات: 175
(السادسة عشرة): تهيئة الاذهان لقبول الافكار الجديدة 176
(السابعة عشرة): تحميل كل شخص المسؤوليات حسب درجته وقابلياته النفسية والتربوية. 178
(الثامنة عشرة): الثناء عليهم والاشادة بهم وبيان عظيم منزلتهم. 180
(التاسعة عشرة): الدعاء لهم في ظهر الغيب. 182
المحور الثالث: علاقتهم عليهم السلام مع الحكام 186
ص: 338
(الجهة الاولى): علاقتهم عليهم السلام بالحكام 186
(الاولى): ايقاف الحاكم عن المزيد من الانحراف 186
(الثانية): تعرية الزعامة المنحرفة اذا شكلت خطراً. 187
(الثالثة): التنديد بجرائم السلطات واستنكار جرائمها. 189
(الرابعة): قول كلمة الحق في وجوههم بارادة صلبة لاتلين وقوة نفسية. 192
(الخامسة): مسايرة الحكام ما داموا في خط الاسلام في الجملة واسداء النصيحة لهم. 194
(السادسة): عدم الركون اليهم ورفض ولايتهم وعدم مداهنتهم مما يؤدي الى امضاء انحرافهم. 197
(السابعة): التعاون معهم في مجابهة المشاكل التي تهدد كرامة الدولة وتعجز الزعامات عن حلها وتهدد سياسة الدولة. 198
(الثامنة): الحذر من اعطاء أي ذريعة للوقيعة بهم. 199
(التاسعة): مواجهة المؤامرات التي تقوم بها السلطات. 205
(العاشرة): دعم وتاييد الحركات المسلحة كآخر اسلوب لردع الحكام 209
الجهة الثانية: علاقة الحكام بهم 210
(أشكال تصرفات الحكام تجاه الائمة عليهم السلام): 218
المحور الرابع: هل كان الائمة عليهم السلام يحاولون استلام الحكم 227
الملاحق 255
الملحق (1) موجز تواريخ الائمة عليهم السلام: 257
الإمام الثاني: الحسن بن علي عليهما السلام 259
الإمام الثالث: الحسين بن علي عليهما السلام 260
الإمام الرابع: علي بن الحسين عليهما السلام 262
الإمام الخامس: محمد الباقر عليه السلام 263
الإمام السادس: ابو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام 264
ص: 339
الإمام السابع: ابو الحسن موسى بن جعفر عليه السلام 266
الإمام الثامن: ابو الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام 267
الإمام التاسع: ابو جعفر محمد بن علي الجواد عليه السلام 269
الإمام العاشر: ابو الحسن علي بن محمد الهادي عليه السلام 271
الإمام الحادي عشر: ابو محمد الحسن بن علي العسكري عليه السلام 273
الإمام الثاني عشر: الحجة ابن الحسن المهدي الموعود عليه السلام 274
الملحق (2) نماذج تطبيقية للدراسة: 276
1 - (ماذا نستفيد من حياة الامام السجاد عليه السلام في مرحلتنا الراهنة) 276
2 - (صور من نشاط الامام الصادق عليه السلام) 280
المواقف السياسية للامام الصادق عليه السلام 285
درس حركي من كلمة امير المؤمنين (فزت ورب الكعبة) 288
وصلح الامام الحسن (عليه السلام) 288
الإمام الرضا (عليه السلام) في مواجهة الانشقاق الداخلي 295
التحديات التي واجهها الإمام الرضا (عليه السلام) 301
كيف نفهم استغفار الأئمة (عليهم السلام) من الذنو 304
الإمام السجاد (عليه السلام) يدعونا إلى استثمار الوقت 312
تقييم الحركات المسلحة لمواجهة السلطات 319
في ذكرى استشهاد الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) 322
مسؤولية المرجعية عن بيان خصائص أتباعها 322
الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) 326
يصون عقيدة الناس من الانحراف 326
(فهرس المصادر) 333
(فهرس المحتويات) 337
ص: 340