فقه الخلاف بحوث استدلالية في مسائل فقهية خلافية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- القسم الثاني المجلد 9

هوية الكتاب

اسم الكتاب: فقه الخلاف- بحوث استدلالية في مسائل فقهية خلافية

مؤلف: سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دامه ظله)

عدد المجلدات: 12ج

السنة : 1441ه - 2020م

الناشر : دار الصادقين - النجف اشرف - العراق

ص: 1

اشارة

فقه الخلاف بحوث استدلالية في مسائل فقهية خلافية

الجزء الثامن

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -القسم الثاني

المرجع الديني الشيخ

محمد اليعقوبي (دام ظله)

الطبعة الثانية - مزيدة ومنقحة

النجف الأشرف - 1441 ه_/2020م

ص: 2

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر __ القسم الثاني

بحوث في أحكام لاحقة

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

بحوث في أحكام لاحقة

نبحث في هذا القسم عن أحكام جملة من الأمور التي تلحق الفريضة كضمان التالف بها، وأخذ الأجرة عليها وجواز الدخول في ولاية الجائر لإقامة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإذن في الخروج على الحاكم الظالم وتغييره تطبيقاً لهذه الفريضة، وما يجب على الأمة من تمكين الفقيه الجامع للشرائط لإقامة شريعة الله تعالى، ونحو ذلك.

فهنا عدة بحوث:

ص: 5

البحث الأول – ضمان ما يتلف بها

اشارة

مما لا شك فيه أن الشارع المقدس أحاط الإنسان بحرمة عظيمة في دمه وماله وعرضه، وجعل عقوبات مادية ومعنوية على من يتجاوز عليها، فالعقوبات على انتهاكات البدن تذكر في كتاب القصاص والديات، والعقوبات على المال تذكر في كتاب الغصب والضمان، ويُضم إليهما بعض ما في كتاب الحدود، أما العقوبات المعنوية فهي كثيرة ومنتشرة في أبواب عديدة كعقوبة من اغتاب مسلماً أو أهانه أو لم يقضِ حاجته وهو قادر على قضائها، ونحو ذلك.

نعم يجوز التصرف بمال الغير وبدنه بإذنه وبإذن الشارع المقدس لأنه أولى من الناس بأموالهم وأنفسهم.

وهنا يثار سؤال بأنه لو حصل تلف خلال امتثال فريضة الأمر والنهي، فهل يضمن المُتلِف أم لا؟ والمتلف قد يكون المأمور المنهي تمرداً أو دفاعاً عن نفسه ونحو ذلك، وقد يكون الآمر الناهي، فالكلام في مقامين:

المقام الأول: ضمان المأمور المنهي

لم يتعرض الأكثر لذكره ولعله لوضوحه، إذ أنه ضامن قطعاً لإتلافه مال الغير تعدياً وظلماً، ولو أتلف ما يوجب القصاص والدية ألزم بهما، قال السيد الخميني (قدس سره): ((ولو وقع الضرر على الآمر والناهي من قبل المرتكب كان ضامناً وعاصياً))(1)

وقال السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره): ((ولو وقع الضرر من الفاعل على الآمر أو الناهي اقتصادياً أو جسدياً أو معنوياً كان معتدياً وضامناً بلا إشكال))(2).

ص: 6


1- تحرير الوسيلة: 1/33، المسألة (5).
2- منهج الصالحين: 2/246، المسألة (927).

إن قلتَ: ((إن المأمور والمنهي كان يجوز له دفع القتل عن نفسه أو الجرح في حالة استخدام الآمر الناهي مرتبة اليد بمستوى الجرح والقتل مثلاً فيكون من قبيل الدفاع عن النفس والمال، حيث لا ضمان في هذه الحال))(1).

قلتُ: هذا أقرب إلى الوهم منه إلى الإشكال:-

1- للزوم نقض الغرض، وذلك لأن هذا المورد وسائر الموارد التي أذن الشارع المقدس باتخاذ الإجراءات المقررة ضده كإقامة الحدود أو الاقتصاص ونحو ذلك يسقط فيها وجوب الدفاع عن النفس وكذا موارد أخذ المال كجباية الزكاة والضمان فيسقط وجوب الدفاع عن المال بل يجب الإذعان والتسليم لحكم الله تعالى؛ لئلا ينقض الغرض من تشريعها.

2- ولأن المأمور المنهي كان يتمكن من الدفاع عن نفسه وماله بأن يأخذ بمقتضى الأمر والنهي فيفعل المعروف ويجتنب المنكر، فيدفع عن نفسه الإتلاف في النفس والمال(2)

بل يجب عليه ذلك، فإذا عاند وأصر على المعصية بسوء اختياره فقد أهدر حرمته وأسقط حقه الشرعي في الدفاع عن نفسه وماله.

نعم لو أن المأمور المنهي دافع عن نفسه في حال تعدي الآمر الناهي وتجاوزه إلى المرتبة الأشد مع كفاية المرتبة الأخف فلا ضمان عليه لأن هذا الحال غير مأذون به شرعاً.

ص: 7


1- فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 581.
2- راجع ما قلناه (صفحة 398) من القسم الأول من هذا البحث في معنى قوله تعالى: «وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلا تُلقُوا بِأَيدِيكُم إلى التَهلُكَةِ» (البقرة:195).

المقام الثاني: ضمان الآمر الناهي

لعمل الآمر الناهي صورتان:

الصورة الأولى: أن يكون عمله مأذوناً به شرعاًً، ويتحقق ذلك بمراعاة أمور:-

1- أن يكون الفعل مقرراً شرعاً وليس منهياً عنه كما قرّبنا بعض الوجوه في مفهوم اليد.

2- أن يتوقف الأمر والنهي على هذا الإضرار المالي وذلك بأن يكون الفعل ضمن المرتبة المقررة وفق قانون التدرج ومراعاة الأيسر فالأيسر كما لو كان بائع الخمر لا يترك عمله إلا بكسر أوانيه، فلو تعدّى عن المقرر شرعاً اللازم للأمر والنهي ضمن وكان التعدي حراماً.

3- تحصيل الإذن من الحاكم الشرعي في المراتب التي يشترط فيها ذلك.

وحينئذٍ لا ضمان عليه بعدة وجوه وتقريبات:-

1- لعدم صدق التعدي والتفريط عليه وهما ملاكا الضمان.

2- لأن الإذن بالفعل شرعاً ظاهر عرفاً في الإذن بلوازمه وما يتوقف عليه الفعل.

3- ولأن الآمر الناهي محسن للمأمور المنهي باعتباره يقرّبه من الطاعة ويجنّبه المعصية، فيجري في حقه قوله تعالى: «مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» (التوبة:91).

4- واستدل البعض بما يمكن تسميته بالإطلاق المقامي(1) وتقريبه: أن هذا الإتلاف من لوازم الفعل الذي أمر به الشارع المقدس، فلو كان مضموناً لبيّنه الشارع وإلا كان تغريراً بالمكلف وإذكاءً للتنازع، ولما لم يبيّن فهو

ص: 8


1- موسوعة الفقه الإسلامي: 17/244، فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 582.

غير مضمون، وكأن الشارع أسقط حرمة الفاعل في بدنه وماله بمقدار ما يستلزمه الأمر والنهي.

وهذا المعنى جارٍ في غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كإقامة الحدود وجهاد أهل البغي.

أقول: يمكن مناقشة هذا التقريب من عدة جهات:

أولها: أننا قربنا عند شرح معنى المرتبة الثالثة وهي اليد أنه لم يثبت شمول العنوان لما فيه جرح أو كسر أو قتل أي أن الأفعال الموجبة للإتلاف لم يثبت دخولها في مصاديق الأمر والنهي إلا إذا أذن الحاكم الشرعي على خلاف ذكرناه هناك، وبتعبير آخر: إن نصوص الأمر والنهي مجملة من ناحية الإذن باستخدام ما يوجب الجرح والكسر فلا ينعقد لها إطلاق من هذه الناحية، وحينئذٍ لا يثبت إذن الشارع المقدس بالمرتبة الموجبة لإيقاع هذه الأضرار بالمأمور المنهي، ومن باب أولى لا يثبت الإذن بلوازمه، ويتحقق عنوان التعدي والتفريط فتجري أدلة الضمان لعدم وجود ما يبرر الاستثناء منها.

ثانيها: إن الإتلاف هنا ليس من اللوازم الذاتية للأمر والنهي حتى تتم مقدمات الإطلاق المقامي، وذلك لأن موارد الأمر والنهي لها مدى واسع ولا تختص بما يلزم منها الإتلاف وحينئذٍ لا ينعقد إطلاق من عدم بيان الشارع، فقياسهما على الحدود وقتال أهل البغي مع الفارق.

ثالثها: إن الضمان عند الإتلاف على القاعدة ولا يحتاج إلى بيان، وإنما يحتاج إلى البيان إذا أريد عدم الضمان، فإذا لم يبين فالمرجع إلى القاعدة، لذا بيّن الشارع المقدس عدم الضمان عندما أراد ذلك في بعض موارد النهي عن المنكر كقتل من يقتحم الدار للسرقة(1)، ومن يبيع الخمر(2)

وأمر النبي بقلع عذق

ص: 9


1- كما في رواية عن أبي عبد الله عن أبيه (عليهما السلام): (إذا دخل عليك رجل يريد أهلك ومالك فابدره بالضربة إن استطعت، فإن اللص محارب لله ولرسوله، فما تبعك منه شيء فهو علي) (وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 46، ح3 وعدة روايات أخرى.
2- في صحيحة الوشاء عن الإمام الرضا (عليه السلام) في الفقاع حيث أهدر دم بائعه، قال (عليه السلام): (لو أن الدار داري لقتلت بائعه ولجلدت شاربه) وسائل الشيعة: 25/365، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرمة، باب 28، ح1، 2. وقوله (عليه السلام): (الدار داري) بمعنى قول الإمام الصادق (عليه السلام): (لو أن لي سلطاناً على أسواق المسلمين لرفعت هذه الخميرة –يعني الفقاع-) (نفس المصدر: باب 27، ح9).

سمرة بنجندب في قضية (لا ضرر ولا ضرار) ورميه بملاحظة الفرق بين قيمة العذق الحي المثبت والميت المرمي، وإقرار أمير المؤمنين (عليه السلام) كسر الطنبور(1).

فالشارع المقدس بيّن في موارد عدم الضمان ولو في بعضها مع وجود إجماع أو ارتكاز على بعضٍ آخر مما يمنع انعقاد الإطلاق المقامي، بل يكون السكوت دليلاً على عدم الترخيص في الإتلاف؛ لأنه لو كان لا يريد الضمان لبيّنه كما بيّن في بعض الموارد، فمؤدى الإطلاق عكس ما يريده المستدل.

رابعها: إن بين أدلة حرمة إتلاف مال الغير والإضرار ببدنه وبين أدلة الأمر والنهي عموماً من وجه فلا وجه لتقديم الثانية على الأولى، إذ يمكن دعوى العكس، ونتيجته الاكتفاء في الأمر والنهي بما لا يوجب الإتلاف.

وترتفع هذه المناقشات بالشروط التي ذكرناها لجواز الفعل وحينئذٍ تكون أدلة الأمر والنهي حاكمة عرفاً على أدلة حرمة الإتلاف والإضرار؛ لأنها ناظرة إليها ومبطلة لمفعولها(2).

فإذا ثبت إذن الشارع المقدس في فعل معين –

ص: 10


1- في قرب الإسناد عن أبي البختري عن الصادق (عليه السلام) قال: (أتي علي (عليه السلام) برجل كسر طنبوراً لرجل فقال: بُعداً) بحار الأنوار:75/100، ح18.
2- تقدمت تقريبات عديدة لهذه الحكومة (صفحة 384) من القسم الأول لحالة مماثلة وهي تقديم أدلة وجوب الأمر والنهي على أدلة لا ضرر.

كالمذكورة أعلاه- بأي دليل معتبر كالنص أو الإجماع أو السيرة أو حصل الإذن من الحاكم الشرعي بإجراء معين (كأمر الإمام الهادي (عليه السلام) بقتل المبتدع فارس بن حاتم القزويني) فلا ضمان على الآمر الناهي.

فرع: قد يجب الضمان أحياناً على الحاكم الشرعي أي من بيت مال المسلمين، كما لو كان الآمر الناهي منتسباً لهيأة معينة من قبل الحاكم الشرعي لهذا الغرض وبذل وسعه في التعرف على الوسيلة المناسبة للأمر والنهي فقام بها وتسبب في الإتلاف وظهر أن تقديره لم يكن صحيحاً وأن الغرض يمكن تحقيقه بوسيلة أخف، وهذا نظير ما قيل من ضمان خطأ قول(1)

المفتي أو ما يحكم به القاضي خطأً على بيت المال.الصورة الثانية: أن لا يكون فعل الآمر الناهي ماذوناً شرعاً.

ويتحقق ذلك بانتفاء شيء مما ذكرناه من مقومات الإذن الشرعي في الصورة الأولى كما لو امتثل بالمرتبة الأشد مع إمكان تحقيق الغرض بالمرتبة الأخف، أو أنه امتثل المرتبة المقررة كاليد بوسيلة لا يجيزها الشارع وهذا ما شرحناه سابقاً، أو أنه التزم بالمرتبة المقررة لكنها كانت مشروطة بإذن الحاكم الشرعي ولم يحصل عليه.

ص: 11


1- وهذا لم يذكره الفقهاء في وظائف المفتي وموارده عديدة كما لو كان يفتي بجواز التظليل للمحرم إذا كان في الليل مع عدم وجود المطر ثم ظهرله حرمة التظليل مطلقاً، أو أفتى بوجوب الخمس على مكلف في مورد ثم ظهر عدم وجوبه، بل صرّح المشهور –تبعاً لبعض الروايات- أنه إذا قلّم المحرم أظافيره فأدمى اعتماداً على فتوى من جوّزه وجبت الكفارة على المفتي (شرح المناسك من الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي: 28/510).

وهنا يكون ضامناً لما أتلف لصدق التعدي والتفريط عليه؛ لأن الشارع أوجب أصل الفريضة ولم يأذن بما يوجب الإتلاف، فلا يوجد استثناء شرعي من الضمان، فتجري عليه أحكامه من ضمان المال ودية الأعضاء وقصاصها، كما قد يجب عليه الحد والتعزير إذا تحقق موجبهما، وفي هذه الأحكام ردع لمن يريد استخدام الوظيفة لتحقيق مآرب معينة كجلب مصلحة أو للانتقام من الآخر أو للتشفي كما يصدر من بعض الآباء والأزواج والمعلمين ومدراء الدوائر والمسؤولين العسكريين.

فروع في المضمون:-

الفرع الأول: قد يتعلق الضمان بالبدن وأجزائه أو وظائفه كإتلاف عضو أو جرحه وشجّه أو تعييبه بإذهاب بعض صفاته كالحركة أو البصر أو النطق، ويرجع بالضمان هنا إلى كتاب الديات، ولأن الفعل حرام فتلاحظ عقوبته في كتاب الحدود والتعزيرات.

الفرع الثاني: قد يتعلق الضمان بمادة المال المتلف دون هيئته، وذلك حينما يكون المال المتلف محترماً شرعاً بمادته دون هيأته كأواني الذهب والفضة، وهياكل العبادة، وآلات اللهو، ووجهه أن الإذن في إتلاف المنكر مقتصر على الهيئة.

أما ضمان المادة فلأن الفرض عدم توقف إزالة المنكر على إتلافها فهي مضمونة لبقائها على ملك صاحبها ولم يسقط الشارع المقدس ماليتها، ويُشعر كلام صاحب الجواهر (قدس سره) بعدم وجود المخالف في ذلك، فإنه بعد أن نقل قول العلامة في القواعد: ((وإذا كسرت آلات الملاهي فلا ضمان، فإن أحرقت ضمن قيمة الرضاض وكذا الصليب)) علّ_ق(قدس سره): ((بل صرّح

ص: 12

به غيره، بل في الكفاية نسبة ذلك كله إلى الأصحاب))(1)، وسننقل لاحقاً إن شاء الله تعالى حكاية قطع الأصحاب بذلك.

أقول: سيأتي إن شاء الله تعالى ما حكي من خلاف البعض وتوجيه مرادهم من عدم ضمان المادة.وأما عدم ضمان الهيأة فلأن الشارع المقدس لم يجعل لصورة المنكر وعنوانه حرمة ومالية وإن كانت لها مالية عند أهلها كآلات اللهو والقمار وأواني الذهب والفضة، فالواجب شرعاً إتلاف صورتها وهيأتها بالمقدار الذي يخرجها عن الغرض المحرم، ولا ضمان عليه.

بل لا ضمان أيضاً في إتلاف مقدار من المادة إذا استلزمه إتلاف الصورة(2)، لوقوع إتلاف المادة بهذا المقدار في دائرة الإذن الشرعي باعتبار التوقف المذكور، ويمكن تقريب عدم الضمان بإقدام المالك على إيقاع الضرر بماله لعلمه بحرمة الهيئة ووجوب إزالتها عليه وعلى غيره وأن إتلاف الهيئة يتوقف على إتلاف المادة، قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((وكيف كان فلا ريب في بقاء المادة على الملك ولا تخرج عنه بالصورة التي يرفع الشارع احترامها ولم يدخلها في الملك وأوجب على المكلفين إتلافها بلا ضمان حتى لو استلزم

ص: 13


1- جواهر الكلام: 37/111.
2- كحادثة عجل بني إسرائيل «لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً» (طه:97) وكالإجراء الحازم الذي اتخذه النبي (صلى الله عليه وآله) تجاه مسجد ضرار المشار إليه في القرآن الكريم «وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ» (التوبة:107) فقد أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بهدمه وإحراقه (من المصادر: سيرة ابن هشام: 4/128).

إتلاف المادة ويرتفع ضمانهما معاً بل قيل(1)

بجواز إتلافهما معاً بلا ضمان، ومن دون استلزام وإن كان لا يخلو من إشكال أو منع))(2).

أقول: الإشكال والمنع في محله لملكية المادة شرعاً ولعدم الإذن في إتلافها.

ويمكن ذكر عدة تقريبات لتوجيه القول المخالف لقطع الأصحاب بعدم ضمان المادة مطلقاً، منها:-

1- إن الهيئة المحرمة أوجبت سقوط مالية المجموع من المادة والهيأة، أي عدم مالية المادة حال كون هيأتها محرمة، وكأن سقوط مالية المادة حكمي مؤقت باعتبار عدم جواز ترتيب آثار الملك على المادة فلا تباع ولا تشترى ولا توهب ونحو ذلك، فهم لا يقصدون بقايا المادة بعد إزالة الهيأة المعروفة بالرضاض.

2- يمكن أن يكون المخالف في المسألة ناظراً إلى فرض كون الرضاض مما لا قيمة له لا مطلقاً.

3- أن يكون نظرهم إلى حالة استلزام إزالة الصورة إتلاف المادة وإن لم تكن عبارتهم صريحة في ذلك، فتوهم الحاكي إطلاقها، في حين أنهم اعتمدوا على تصريحهم في مواضع أخرى بضمان المادة.

وهذا ما حصل مع السيد الخوئي (قدس سره) فإنه لم يخرج عن هذا التفصيل عند بحثه في آلات القمار واللهو وأواني الذهب والفضة، والتزم (قدس سره) بهذا التفصيل في عدة مواضع عند بحثه، ومنها قوله (قدس سره): ((ولو أتلفت بموادها ضمنها المتلف لمالكها، إلا أن يتوقف إتلاف الهيأة على إتلاف المادة، وإن لم تكن لرضاضها قيمة فلا مانع من إتلاف المادة أيضاً مع الهيأة)) إلا أن البعض أشكل على قوله

ص: 14


1- حكيت النسبة عن جماعة في مفتاح الكرامة: 4/32، 6/245-246.
2- جواهر الكلام: 22/26.

في آلات الملاهي: ((بل من الوظائف اللازمة كسرها وإتلافها حسماً لمادة الفساد وليس في ذلك ضمان بالضرورة))(1) من جهة إطلاقه ((أي سواء توقف النهي عن المنكر على إتلاف المادة أو لا))(2)، وقد ظهر أنه (قدس سره) لا يريد الإطلاق مع أن كلامه غير ظاهر في جواز إتلاف المادة بلا ضمان.

وهنا ذكر (قدس سره) إشكالاً وجوابه فقال: ((لا يقال: إن توقف إتلاف الهيأة على إتلاف المادة لا ينافي ضمان المادة إذا كانت لها قيمة، كما أن جواز أكل طعام الغير بدون إذنه في المجاعة والمخمصة لا ينافي ضمان ذلك الطعام.

فإنه يقال: الفرق واضح بين المقامين إذ الباعث على أكل طعام الغير في المخمصة إنما هو الاضطرار الموجب لإذن الشارع في ذلك، وأما هياكل العبادة فإن الباعث إلى إتلافها ليس إلا خصوص أمر الشارع بالإتلاف فلا يستتبع ضماناً)) (3) .

أقول: قد لا يبدو الفرق الذي ذكره وافياً بالغرض لأن كلا الفعلين بإذن الشارع المقدس، وإن كان يمكن تقريبه على نحو التفريق الذي سنذكره (صفحة 17) وتقدم (صفحة 468 من القسم الأول) من أن إتلاف المادة هنا من مصاديق الأمر والنهي فتعلق به أمر الشارع ذاتاً، أما أكل مال الغير فلم يتعلق به الإذن مباشرة وإنما بوجوب حفظ الحياة، ورفع الضرورة.

لذا فالأولى في الفرق أن يقال أنه في المخمصة مضطر لنفس الأكل وهو يمكن أن يتحقق بالأكل مع الضمان أي مع عدم المجانية فلا موجب لإسقاط حرمة مال المسلم بأزيد مما ترتفع به الضرورة.

ص: 15


1- مصباح الفقاهة من الموسوعة الكاملة للسيد الخوئي: 35/243.
2- موسوعة الفقه الإسلامي: 17/246.
3- مصباح الفقاهة من موسوعة السيد الخوئي: 35/238.

وبتعبير آخر: إن الدليل المرخص لأكل مال الغير هو دليل الاضطرار، والضرورات تقدر بقدرها، وهنا يمكن رفع الاضطرار بالأكل من مال الغير بدون إذنه لكن مع الضمان، فلا توجب حكومة دليل الاضطرار إلا سقوط الإذن والجواز التكليفي للأكل لا سقوط الضمان والجواز الوضعي.

وعلى أي حال فلا خلاف في عدم الضمان بإتلاف الهيأة لإزالة المنكر، والقول بعدم الضمان لا يقتصر على الناهي عن المنكر، بل يشمل الغاصب أيضاً إجماعاً، قال صاحب الشرائع وصاحب الجواهر (قدس الله روحيهما): ((وإن كانت الصنعة محرمة كما في آنية الذهب والفضة والصنم والصليب وغيرهما لم يضمنها بلا خلاف أجده فيه، بل في الكفاية نسبته إلى قطع الأصحاب، لأن الغصب لا يُصيّر ما لا قيمة له شرعاً ذا قيمة، ولا يجعل ما هو محرم –يجب إتلافه على جميع المكلفين من غير فرق بين الغاصب وغيره- قيمياً محترماً))(1).

الفرع الثالث: إذا كان المال محترماً مادةً وهيأة ولم تستلزم إزالة المنكر واجتنابه إتلافهما فهما مضمونان، قال السيد الخميني (قدس سره): ((لو كسر القارورة التي فيها الخمر –مثلاً- أو الصندوق الذي فيه آلات القمار مما لم يكن ذلك من قبيل لازم الدفع ضمن وفعل حراماً))(2).

ثم أعطى (قدس سره) القاعدة في ذلك فقال: ((لو تعدى عن المقدار اللازم في دفع المنكر وأنجرَّ إلى ضرر على فاعل المنكر ضمن، وكان التعدي حراماً))(3).

أما إذا توقف اجتناب المنكر وإزالته على إتلاف الشيء مادة وهيأة فلا ضمان وتقدم قول صاحب الجواهر (قدس سره) في ذلك، وقال السيد الخميني

ص: 16


1- جواهر الكلام: 37/110.
2- تحرير الوسيلة: 1/433، مسالة (6).
3- المصدر السابق، المسألة (7).

(قدس سره): ((لو أنجرّت المدافعة إلى وقوع ضرر على الفاعل ككسر كأسه أو سكينه بحيث كان من قبيل لازم المدافعة فلا يبعد عدم الضمان))(1).

الفرع الرابع: قد يستلزم النهي عن المنكر إتلاف مال له أهمية شرعاً وعقلائياً تفوق أهمية ملاك إزالة المنكر بدرجة يسقط معها وجوب الإتلاف(2)، وهنا يحرم الإتلاف ولو فعل كان ضامناً.الفرع الخامس: قال بعض الأعلام: ((إذا توقف النهي على إضرار الآخرين، كما لو كان إحراق دكان الخمار الرادع له مستلزماً لحرق دكان الجار فإن كان النهي أهم جاز تكليفاً لكن ضمان مال الجار مقتضى القاعدة. نعم لا يبعد القول بأنه في بيت المال، مثل خطأ القضاة لأن ذلك من سبيل الله، ومن مصالح المسلمين))(3).

أقول: ما ذكره من الضمان والضامن صحيح إلا أن جعل الضابطة مطلق الأهمية غير تام فلا بد من تقييده بكون المنكر المراد إزالته مما لا يرضى الشارع بوجوده على أي حال، وقد شرحنا (صفحة 468 من القسم الأول) ما ينفع في التفريق بين هذا الفرع وما سبقه، وملخصه أن حرق دكان بائع الخمر مما يقتضيه نفس الأمر والنهي وهو من مصاديق النهي عن المنكر فيكون داخلاً في الإذن الشرعي، أما حرق دكان الغير فهو من اللوازم وهي كالمقدمات ليست من مصاديق الأمر والنهي والغاية لا تبرر الوسيلة إلا في المورد الذي ذكرناه.

ص: 17


1- المصدر السابق، مسألة (5).
2- كما لو توقف نهيه عن استعمال آنية الذهب والفضة على إتلاف مادتها وهو محتاج إليها.
3- الفقه للسيد محمد الشيرازي: 48/198.

البحث الثاني- أخذ العوض على القيام بالوظيفة

اشارة

هل يجوز للآمر الناهي أخذ الأجرة على القيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ ويترتب على هذا البحث ثمرات عديدة:

منها: إمكان قيام المؤسسة الدينية أو السياسية بتعيين أشخاص لأجل القيام بهذه الوظيفة مقابل عوض مالي.

ومنها: إمكان اتخاذ دفع العوض آلية وأسلوباً لإقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدفع الأجرة لتارك المعروف للقيام بهذا المعروف الواجب عليه أو ترك المحرم ونحو ذلك.

والأجرة معروفة وهي مقدار معلوم يستحقه الأجير بموجب عقد الإجارة مقابل قيامه بعمل معين –وهو هنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر-.

وقد لا يكون ما يأخذه الآمر الناهي بإزاء عمله على نحو عقد الإجارة وإنما على نحو ما يسمى بالارتزاق وهو مقدار غير معلوم يجعله القائم بأمور المسلمين من موارد بيت المال المخصصة للمصالح العامة لمن يلي مصلحة أو أمراً من شؤون المسلمين ومصالحهم لتحفيزه على القيام بهذا العمل أو لكفالة معيشته باعتبار تفرغهلهذا العمل وعدم تمكنه من الكسب ونحو ذلك؛ باعتبار أن بيت المال مخصص لمصالح المسلمين العامة وسد احتياجاتهم.

وعلى هذا تظهر عدة فروق بين الإجارة والارتزاق وردت في كلمات الأصحاب(1):-

ص: 18


1- مجمع الفائدة والبرهان: 8/92، كتاب القضاء للشيخ الأنصاري: 106 من الموسوعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري:ج22،مصباح الفقاهة: 1/415، 731 ومن الموسوعة الكاملة للسيد الخوئي: ج35، وراجع أيضاً موسوعة الفقه الإسلامي: 8/466.

1- إن الأجرة مقدار معلوم في عقد لازم جامع للشروط كتقدير العمل والعوض وضبط المدة يستحقها الأجير مقابل عمله، أما الارتزاق فهو مقدار غير معلوم منوط بنظر الحاكم الشرعي وليس لازماً ولا يكون عوضاً لعمله لذا لا يلحظ فيه أجر المثل ونحوه، وإن كان عمله داعياً لدفع الرزق إليه: ولا فرق بين أن يكون تعيين الرزق قبل قيامه بالوظائف المقررة أو بعده.

2- إن مال الإجارة بعد العمل وقبل القبض يورث، دون الرزق فإنه لا يورث؛ لأنه لا يملك إلا بالقبض.

3- إن الرزق يصرف في الأهم من المصالح فالأهم بخلاف الأجرة.

أقول: الإشكال في جواز أخذ الأجرة على الواجبات –كفريضة الأمر والنهي- جارٍ في الارتزاق أيضاً؛ لجهات سنذكرها إن شاء الله تعالى، فالبحث لا بد أن يتناولهما.

وقد وضع الشيخ الطوسي (قدس سره) في المبسوط ضابطاً عاماً لما يجوز أخذ الأجرة أو الرزق عليه وما لا يجوز، قال: ((كل عمل جاز أن يفعله الغير عن الغير تبرعاً جاز بعقد إجارة كالخياطة والبناء. وكل ما لا يجوز أن يفعله الغير عن الغير، ولكنه إذا فعله عن نفسه عاد نفعه إلى الغير جاز أخذ الرزق، ولا يجوز أخذ الأجرة كالأذان والإقامة والإمامة والقضاء والخلافة.

وكل ما لا يجوز أن يفعله الغير عن الغير وإذا فعله عن نفسه لم يعد نفعه إلى الغير لم يجز أخذ الرزق عليه ولا الأجرة كصلاة الفرض وصلاة التطوع وحِجة الفرض))(1).

وعلى أي حال فالكلام يكون في مقامين:

ص: 19


1- المبسوط للشيخ الطوسي: 8/161.

المقام الأول: الارتزاق

وقد تقدم في كلام الشيخ (قدس سره) ذكر بعض موارد الارتزاق، ومثّل بعض الأصحاب بالإفتاء وتجهيز الميت وتعليم القرآن والآداب كالعربية وعلم الأخلاق الفاضلة ونحوها من الواجبات المستحبة(1).

والوجه في ذلك أن بيت المال في النظام الإسلامي له عدة مصادر كالخمس والزكاة والخراج والمقاسمة والرسوم والضرائب والثروات الطبيعية والاستثمارات العامة وغيرها.

وقد حدد الشارع المقدس مصرف بعض هذه الموارد على الفقراء والمحتاجين ووظف البعض الآخر للمصالح العامة للمسلمين التي بها قوام الدين وانتظام أمور المسلمين وإعمار البلاد كشق الطرق وإنشاء المستشفيات وبناء المدارس واستخراج المعادن ورواتب الموظفين وتموين الجيش والشرطة والإنفاق على من هم في رعاية الدولة كالسجناء والعجزة والأيتام المقطوعين والمرأة الغائب عنها زوجها ودفع دية المقتول في الزحام ونحو ذلك.

ومحل كلامنا ليس القسم الأول لأن مصرفه محدَّد من قبل الشارع المقدس، ولعله أو ما يجب توزيعه على المسلمين بالتساوي هو المقصود بما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه كان يوزعه على مستحقيه من دون تأخير ويكنس البيت ويصلي فيه ركعتين.

أما ما يُنفق منه لمصالح البلاد والعباد فمن التدبير عدم تفريغ بيت المال منه دفعة واحدة لأن احتياجات الدولة والشعب مستمرة، وهو معدّ لمصالح المسلمين، كالموارد التي ذكرنا وكذا غيرها.

ص: 20


1- مجمع الفائدة والبرهان: 8/94.

وهذا هو ديدن العقلاء والمتشرعة في إدارة المجتمعات المتحضرة، وقد أكدت الروايات مسؤولية بيت المال عن تأمين هذه المصارف:

(منها) مرسلة حماد بن عيسى عن العبد الصالح (عليه السلام) الطويلة في الخمس والأنفال والغنائم والأراضي والزكاة وحصة العاملين إلى أن قال: (ويؤخذ الباقي، فيكون بعد ذلك أرزاق أعوانه على دين الله، وفي مصلحة ما ينوبه من تقوية الإسلام وتقوية الدين في وجوه الجهاد وغير ذلك مما فيه مصلحة العامة)(1).

(ومنها) ما في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر لما ولاه مصر وجاء فيه (واعلم أن الرعية طبقات: منها جنود الله، ومنها: كتّاب العامة والخاصة، ومنها: قضاة العدل –إلى أن قال:- ولكلٍ على الوالي حق بقدر ما يصلحه) ثم قال -بعد أمره باختيار أفضل رعيته للقضاء- : (وأكثِر تعاهد قضائه، وأفسح له في البذل مايزيح علته، وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره)(2).

(ومنها) ما في الدعائم عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (لا بد من إمارة ورزق للأمير، ولا بد من عريف ورزق للعريف، ولا بد من حاسب ورزق للحاسب، ولا بد من قاضٍ ورزق للقاضي، وكره أن يكون رزق القاضي على الناس الذين يقضي لهم ولكن من بيت المال)(3).

ص: 21


1- وسائل الشيعة: كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، باب 8، ح2.
2- وسائل الشيعة: كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، باب 8، ح9.
3- مستدرك الوسائل: كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، باب 28، ح3، وأبواب آداب القاضي، باب 8، ح2.

أما الروايات الدالة على الحرمة في بعض الموارد كصحيحة عبد الله بن سنان (عن قاضٍ بين قريتين يأخذ من السلطان على القضاء الرزق؟ فقال: ذلك السحت)(1).

وصحيحة عمار بن مروان (من السحت أجور القضاة)(2).

فإنها لا تنافي جواز الارتزاق لأنها إما ناظرة إلى قضاة الجور من قبل السلطات كالأولى، أو أنها ظاهرة في الإجارة كالثانية بناءً على المشهور من حرمة أخذ الأجرة على الواجبات.

أقول: لا شك أن تخصيص أفراد أو تشكيل هيئات ومؤسسات ولجان للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإرشاد والتبليغ من المصالح المهمة للدين والأمة فيجوز ارتزاقهم من بيت المال. قال الشهيد الثاني (قدس سره): ((بيت المال محله مصالح المسلمين التي من جملتها القاضي لقيامه بنظام النوع وأخذ الحق من الظالم للمظلوم والأمر بالمعروف))(3).

الإشكال من جهتين أو أكثر:

لكن الجواز اشترط في كلمات بعض الفقهاء بشرطين، قال العلامة (قدس سره) في الإرشاد: ((ولا بأس بالرزق من بيت المال على الأذان والقضاء مع الحاجة وعدم التعيين)) فالإشكال في جواز الارتزاق من بيت المال يمكن تصوره من جهتين:

أولاها: تقييد بعض الفقهاء جواز الارتزاق بالحاجة والمراد بالحاجة –كما في مجمع الفائدة- الاحتياجات المتعارفة لا بمعنى توقف الحياة عليها، ووصفه في المسالكبأنه الأشهر، وعلق المحقق الأردبيلي (قدس سره) على كلام العلامة

ص: 22


1- وسائل الشيعة: كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، باب 8، ح1.
2- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب 5، ح12.
3- مسالك الأفهام: 13/348.

السابق بقوله: ((ولا شك في جواز الارتزاق من بيت المال على الكل، مع الحاجة التي هي شرط الآخذ من بيت المال الذي هو للمصالح))(1).

واستدل له الشيخ الأنصاري (قدس سره) في كتاب المكاسب بأن مقتضى القاعدة ذلك، قال (قدس سره): ((مقتضى القاعدة عدم جواز الارتزاق إلا مع الحاجة على وجه يمنعه القيام بتلك المصلحة عن اكتساب المؤونة فالارتزاق مع الاستغناء ولو بكسب لا يمنعه القيام بتلك المصلحة غير جائز))(2).

ولم يذكر خلافه هنا فتوهم البعض أنه يختار عدم الجواز، وقرّب في كتابه عن القضاء أن وجه عدم الجواز ((لأن الآخذ منه مع الغنى لا مصلحة فيه فهو تضييع له مع أنه إذا لم يدخل في باب الحسبة لرفع حاجة القاضي، دخل في باب الأجرة المحرمة بما تقدم من صحيحة ابن سنان))(3).

وفيه: عدم وجود موضوع للتضييع لأن الإعطاء من جهة كونه يقوم بما فيه مصلحة للمسلمين وبيت المال معد لها ولا دخل للحاجة فيه فهي عنوان مستقل لجواز الارتزاق، أما صحيحة ابن سنان وهي المتقدمة (صفحة 22) فقد حملناها على ما لا ينافي الجواز.

لذلك فإنه (قدس سره) منع من هذا التقريب في كتابه عن القضاء وقوّى الجواز مطلقاً، قال (قدس سره): ((وفيه منع ذلك لأنه يوجب زيادة الرغبة فيه وعدم التقاعد عنه والاشتغال بغيره حيث لا يجب إلا كفاية فالأقوى جواز أخذه مع عدم الحاجة بما يراه الإمام (عليه السلام) أو من هو وكيله على بيت المال، حتى أنه لو كان بيد نفس القاضي جاز له أن يأخذ منه مقداراً يعلم أنه لو كان في يد غيره لم يقنع منه بما دون ذلك))(4).

ص: 23


1- مجمع الفائدة والبرهان: 8/94.
2- المكاسب: 2/154 من موسوعة تراث الشيخ الأعظم.
3- القضاء من موسوعة الشيخ الأعظم: 22/104.
4- القضاء: 104.

واختار الجواز مطلقاً أيضاً في المكاسب، قال (قدس سره): ((وأما الارتزاق من بيت المال فلا إشكال في جوازه للقاضي مع حاجته، بل مطلقاً إذا رأى الإمام المصلحة فيه، لما سيجيء من الأخبار الواردة في مصارف الأراضي الخراجية))(1).

وقال السيد الخوئي (قدس سره) في الرد على من اشترط الحاجة في جواز الارتزاق: ((فإنه –أي بيت المال- معد لمصالح المسلمين فيجوز صرفه في أي جهةترجع إليهم وتمس بهم، بل يجوز لهؤلاء المتصدين للجهات المزبورة أن يمتنعوا عن القيام بها بدون الارتزاق من بيت المال إذا كان العمل من الأمور المستحبة، وعليه فلا وجه لاعتبار الفقر والاحتياج في المرتزقة كما ذهب إليه جمع كثير من أعاظم الأصحاب)).

أقول: وعلّل صاحب الجواهر (قدس سره) القول بعدم الجواز مطلقاً من جهة ((عدم الدليل، وإنما المسلم الارتزاق مع الحاجة إليه ولو بسبب القيام بالمصلحة المانع له من التكسب، سواء تعين عليه ذلك أو لا، وليس هو في الحقيقة عوض معاملي، بل لأن بيت المال معد للمحاويج سيما القائمين بمصالح المسلمين الذين يمنعهم القيام بذلك عن التكسب للمعاش))(2).

أقول: تقدم الدليل من الروايات وسيرة العقلاء والمتشرعة وأن الروايات دالة بإطلاقها على الصرف في عموم مصالح المجتمع بغضّ النظر عن الحاجة وعدمها، فهذا التقييد في مصرف بيت المال بكل مصادره خلاف المعروف من مصارف بيت المال كما تقدم فلا وجه للاقتصار على القدر المسلم، وقد اعترف (قدس سره) بإطلاق رواية الدعائم إلا أنه استشكل لعدم وجود الجابر.

ص: 24


1- المكاسب: 1/245 من موسوعة الشيخ الأعظم، ج14.
2- جواهر الكلام: 40/52.

ويظهر من بعض كلماته (قدس سره) أن القول بالاختصاص نشأ من نظره إلى مصادر بيت المال، قال (قدس سره) في موضع آخر: ((مضافاً إلى إمكان دعوى اختصاص بيت المال المجتمع من نحو الزكاة والصدقات وغيرهما بذوي الحاجات لا الأغنياء))(1).

أقول: تقدم ذكر مصادر أخرى لبيت المال لا يتعين صرفها على المحتاجين.

وخلاصة البحث في هذه الجهة أن ما قيل في وجه الاشتراط من عدم الدليل ومن كونه تضييعاً لحقوق المسلمين غير تام.

ثانيها: التعين به إما لأمر الإمام أو نائبه إياه تعييناً أو لعدم وجود آخر جامع للشرائط فيتعين عليه وجوب التصدي وحينئذٍ قد يقال بحرمة أخذ الرزق عليه كالأجرة لحرمة ذلك على الواجبات العينية، هذا مع كونه ذا كفاية أما إذا كان محتاجاً فإنه يجوز له مطلقاً لأن هذا العنوان من موارد الصرف، قال المحقق (قدس سره) في الشرائع: ((وإن تعين للقضاء ولم يكن له كفاية جاز له أخذ الرزق، وإن كان له كفاية قيل: لا يجوز له أخذ الرزق، لأنه يؤدي فرضاً)).

وقال العلامة (قدس سره) في القواعد مع شرح كاشف اللثام: ((وكذا يجوز له الارتزاق منه إذا تعين عليه ولم يكن ذا كفاية لجوازه لغيره ممن لا كفاية له فله أولى،ولو كان ذا كفاية لم يجز له الأخذ منه عليه؛ لأنه يؤدي بالقضاء واجباً ولا أجرة على الواجب))(2)، ووصفه الشهيد الثاني (قدس سره) بأنه الأشهر(3)

ووجّه المنع لأنه بمنزلة الرشوة المنهي عنها.

أقول: تعينه عليه لا يغير في الوجوب شيئاً؛ لأنه أيضاً كان واجباً قبل التعين لكونه من أهم الواجبات النظامية غاية الأمر أنه كان كفائياً وأصبح عينياً، فأصل

ص: 25


1- جواهر الكلام: 40/51.
2- كشف اللثام: 10/23.
3- مسالك الأفهام: 13/348.

الوجوب ثابت في كلا الحالين ولا معنى للتعليل بكونه أصبح واجباً، فكان عليهم التعليل بهذا اللحاظ لو كان مؤثراً.

والصحيح الجواز مطلقاً لأن الرزق شيء يقدمه ولي الأمر لإقامة هذه المصالح العامة وليس عوضاً عن –العمل- كالأجرة حتى تلاحظ هذه الاعتبارات، ولا يؤثر تعيّن الوجوب عليه على الحكم بالجواز.

وذهب الشيخان المفيد في المقنعة والطوسي في المبسوط وغيرهما إلى الجواز مطلقاً حتى مع التعيّن ((لعدم خروجه بالوجوب عن كونه من المصالح بل أهمها، ومنع كون فعل الواجب يمنع من أخذ الرزق عليه مطلقاً، ولهذا يأخذ المجاهدون وهم قائمون بأهم الواجبات))(1).

تتميم: توجد حيثيتان أخريان لعدم جواز الارتزاق، نذكرها بنفس التسلسل:

ثالثها: ما قاله صاحب الجواهر (قدس سره): ((لو قلنا بكون القضاء من العبادات كما عساه يظهر من بعضهم أشكل أخذ العوض عليه مطلقاً أيضاً لما فيه من الجمع بين العوض والمعوض عنه))(2).

أقول: هذا الخلاف مبنائي، وعلى القول به فسيأتي إن شاء الله تعالى في المقام الثاني البحث في مانعية العبادية من أخذ الأجرة.

رابعها: ما اشترطه البعض من عدم وجود المتطوع، قال الشيخ الأنصاري: ((وكذا يجوز إعطاء القاضي الغني إذا علم أنه يتطوع بالقضاء من دون التماس رزق، فإن وجد متطوعاً لم يجز له إعطاء من يطلب عليه الرزق كما صرّح به في المبسوط والسرائر فإطلاق بعضهم جواز إعطاء الغني محمول على ذلك))(3).

ص: 26


1- مسالك الأفهام: 13/348.
2- جواهر الكلام: 40/51.
3- القضاء: 105.

أقول: قد يكون هذا الاشتراط صحيحاً ظاهراً لأن في بذل الرزق مع وجود المتطوع تضييعاً لحقوق المسلمين إلا أنه قد يضر بالمصالح العامة من جهة أخرى لقلة المتطوعين المحتسبين الذين عملهم لوجه الله «لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُوراً» (الإنسان:9) وقلة الحافز على التصدي لهذه الوظائف، فالأولى ربط الحكم في المسألة بقانون مراعاة الأهم، فينظر ولي الأمر فيما تقتضيه المصلحة العامة من بذل الرزق للمتصدين للواجبات النظامية مع وجود المتطوع وعدمه.

ص: 27

المقام الثاني: الإجارة

المسألة صغرى لكبرى جواز أخذ الأجرة على الواجبات التي تبحث مفصلاً في باب المكاسب المحرمة وفي كتاب الإجارة، وبعض التفاصيل في مواضع أخرى وقد تعدّدت الأقوال فيها واختلفت بشكل كبير حتى اعتبروها من مزالّ الأقدام(1)، ومن معضلات الفن عند الفقهاء(2).

وقد تراوحت الأقوال فيها بين عدم الجواز مطلقاً –الذي وصفه الشهيد الثاني (قدس سره) بأنه المشهور بين الأصحاب(3)

بل ادعي الإجماع عليه- وبين الجواز مطلقاً وهو ما اختاره صاحب الجواهر(4)

والسيد الخوئي (قدس الله سريهما) مع استثناء سنذكره إن شاء الله تعالى.

وبينهما أقوال بالتفصيل:

منها: بين التعبدي فلا يجوز، والتوصلي فيجوز.

ومنها: التفصيل في التفصيل السابق بين الكفائي التوصلي فيجوز، وبين غيره فلا يجوز، وكأن كلاً من التعبدية والعينية مانع من الجواز.

ومنها: بين الواجبات التي تجب على الأجير عيناً أو كفايةً وجوباً ذاتياً فلا يجوز، وبين الواجبات الكفائية التوصلية فيجوز، كالصناعات الواجبة كفاية لانتظام المعاش(5).

ص: 28


1- جواهر الكلام: 22/121.
2- تحرير المجلة، للشيخ محمد حسين كاشف الغطاء: 2/156، المادة (570).
3- مسالك الأفهام: 3/130.
4- جواهر الكلام: 22/118، مصباح الفقاهة: 1/698 وهو الجزء (35) من الموسوعة الكاملة.
5- هذا القول للسيد صاحب الرياض (قدس سره) (رياض المسائل: 8/180)، وجعله التوصلي مقابل الذاتي لا يخلو من إشكال إذ أنه يجعل الذاتي بمعنى التعبدي مع أن بعض الواجبات الذاتية ليست تعبدية كوجوب إرضاع اللبا، مضافاً إلى أنه يجعل هذا القول كتفصيل فخر المحققين بين التعبدي والتوصلي وهو ما ردّ عليه المحقق النراقي (قدس سره) قال: ((وتوهم اتحاد القولين الأخيرين باطل، لأن الذاتي قد تكون فيه النية وقد لا تكون كردّ الأمانة وأداء الدين ومضاجعة الزوجة ونحوها)) (مستند الشيعة: 14/176)، لذلك فصّل (قدس سره) في الذاتي بين ما تجب فيه النية أو لا تجب.

ومنها: بين التعبدي فلا يجوز مطلقاً وبين التوصلي وفيه تفصيل بين الكفائي والعيني، فيجوز في الكفائي منه مطلقاً وفصّل في الثاني بين ما كان وجوبه للضرورة أو لحفظ النظام وغيره، فجوَّز في الأول ومنع في الثاني سواء كان الوجوب ذاتياً أو غيرياً.ومنها: التفصيل بين العيني التعييني والكفائي التعبدي فلا يجوز، وبين الكفائي التوصلي والتخييري فيجوز، والتردد في التخييري التعبدي.

وغير ذلك من التفاصيل(1).

إن وجود واجبات أجمعوا على جواز أخذ الأجرة عليها كالواجبات النظامية يعتبر نقضاً على قول المشهور بالحرمة مطلقاً نتيجته أن اعتبار الوجوب هو ملاك الحكم بالحرمة غير دقيق؛ لذا ذهبوا إلى التفاصيل المتقدمة لتقنين الخارج والداخل في جواز أخذ الأجرة وعدمه.

وفي ضوء القول المختار في هذه المسألة يُعرف حكم المورد أي جواز أخذ الأجرة على أداء وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد أن حددنا صفة هذا الوجوب أنه عيني أو كفائي، تعبدي أو توصلي، وهكذا.

ص: 29


1- راجعها في كتاب مكاسب الشيخ الأنصاري: 2/132-133 وهو الجزء (15) من الموسوعة الكاملة. مصباح الفقاهة: 1/697-698.

تنقيح موضوع الحكم وتحرير محل النزاع:

توجد عدة أمور ينبغي الالتفات إليها لتنقيح موضوع الحكم، وتحرير محل النزاع، منها:

(الأول) فرض اشتمال عقد الإجارة على جميع شرائط الصحة كوجود منفعة محللة مقصودة لدى العقلاء، وتحقق المعاوضة ونحو ذلك لينحصر البحث في كون صفة الوجوب مانعة عن أخذ الأجرة.

(الثاني) عدم وجود دليل على اشتراط الإتيان بالواجب الذي تعلق به عقد الإجارة على نحو المجانية، وإلا فلا خلاف في حرمة أخذ الأجرة عليه.

ولمزيد من التوضيح نقول: إن القائلين بالجواز مطلقاً لما نُقض عليهم بواجبات أجمعوا على حرمة أخذ الأجرة عليها كتجهيز الميت ودفنه، حاولوا تنقيح موضوع الجواز وإخراج هذه الموارد ليسلموا من النقض، فاشترطوا في الجواز ((عدم ظهور دليل الوجوب في المجانية)) وأنه لو ((فهم مما دل على الوجوب كونه بصفة المجانية اتجه المنع))(1)

((وأن المناط في المنع هو فهم المجانية من غير فرق بين كونه حقاً أو حكماً بل وجوباً أو استحباباً وعينياً أو كفائياً أو تخييرياً))(2) أي أن ((موضوع البحث في المقام إنما هو جهة العبادة وجهة الوجوب فقط ومانعيتهما عنصحة الإجارة وعدمها، بعد الفراغ عن سائر الجهات والحيثيات التي اعتبرها الشارع المقدس في عقد الإجارة، كأن لا يكون العمل المستأجر عليه مما اعتبرت المجانية فيه عند الشارع))(3).

ص: 30


1- جواهر الكلام: 22/118.
2- حاشية السيد اليزدي على المكاسب: 1/150، التعليقة (213).
3- مصباح الفقاهة: 1/699، وقال مثله في كتاب الإجارة (راجع الموسوعة الكاملة: 30/373).

أقول: يوجد في هذا الطرح إشكال فني؛ لأن في هذا الاشتراط –أي جعل عدم المجانية شرطاً في الجواز- مصادرة على المطلوب؛ لأن اشتراط المجانية تعبير آخر عن حرمة أخذ الأجرة الذي هو محل البحث، كما أن القول بحرمة ترك الصلاة تعبير آخر عن وجوبها، فإثبات

المجانية هو محور هذا البحث لأنه يعني إثبات حرمة أخذ الأجرة على الواجبات، والقائل بحرمة أخذ الأجرة مشترط للمجانية؛ لأنه يرى أن الوجوب مانع عن أخذ الأجرة، كما يرى أنه موجب للمجانية وهو منشأهما معاً، فهذه الحيثية –أي إثبات المجانية- داخلة في محل البحث ولا يصح إخراجها، لذا فإن بعض الوجوه التي قيلت لتوجيه عدم الجواز وتحديد مساحة غير الجائز ناظر إلى هذه العلة، كالمحكي عن الشيخ كاشف الغطاء (قدس سره) في شرحه على القواعد(1)

وسنبينه إن شاء الله تعالى.

نعم، لهم أن يستثنوا من القول بالجواز مطلقاً ما ثبت بدليل خاص حرمة أخذ الأجرة عليه لظهور دليله في المجانية، وفرّق بين جعله شرطاً، واستثنائه من القول بالجواز.

ثم إنهم لم يبينوا لنا كيفية التعرف على هذه المجانية، وإنما هو أمرٌ فهمه المستدل، وتعبير صاحب الجواهر (قدس سره) صريح بذلك، ولم يؤسسوا لنا قاعدة لإخراج هذه الموارد وليس فيها مورد منصوص ثبتت مجانيته بدليل يمكن الوثوق به كما سنبين إن شاء الله تعالى، فاشتراطه تعويل على أمر مبهم؛ لأنها جميعاً محل التردد والبحث مثل ما نحن فيه أي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فلا بد إذن من تقييد القول بالجواز مطلقاً كقول السيد الخوئي (قدس سره): ((وقد ظهر من جميع ما ذكرناه سقوط جميع الأقوال المتقدمة غير ما

ص: 31


1- مكاسب الشيخ الأنصاري (قدس سره): 2/130، مصباح الفقاهة: 1/714.

بنينا عليه من القول بالجواز على وجه الإطلاق))(1)

بموارد المنع وعدم التعويل على الاشتراط المذكور.إلا أن يريد بالجواز في الجملة أي عدم المانعية الذاتية لصفتي الوجوب والعبادية من أخذ الأجرة، ولا ينفي إمكان عدم الجواز بوجه عارض آخر كما سنبين إن شاء الله تعالى، وهذا جواب صحيح إلا أنه يتنافى مع التزامه بالفراغ من الحيثيات الأخرى في كلامه الذي نقلناه في الصفحة السابقة.

(الثالث) ما أورده بعض الأعلام تبعاً لأستاذه المحقق النائيني (قدس سره) من ((أن هذا الذي نقول من عدم جواز أخذ مطلق العوض على الواجبات فيما إذا كان الشيء واجباً بالمعنى الاسم المصدري، وأما إذا كان واجباً بالمعنى المصدري فلا مانع من أخذ الأجرة عليه))(2).

أقول: سيتضح مراده (قدس سره) من هذا الكلام عند إيراد وجهه لتقريب جواز أخذ الأجرة على الواجبات النظامية –وهو السابع- بإذن الله تعالى.

إلفات: توجد أمور أخرى ترتبط بتنقيح الموضوع كوحدة متعلق الإجارة وموضوع الوجوب سنذكرها في التتميم (صفحة 77) إن شاء الله تعالى.

الاستدلال على عدم الجواز:

لا يوجد دليل من النصوص على حرمة أخذ الأجرة على الواجبات كقاعدة كلية، وإنما استدلوا عليها بالإجماع، وقد اعترفوا بذلك كالمحقق الأردبيلي (قدس سره) فإنه بعد أن استظهر عدم الخلاف في الحكم بالحرمة، قال (قدس سره): ((فكأنَّ الإجماع دليله))(3)

وكذلك صاحب الرياض (قدس

ص: 32


1- مصباح الفقاهة: 1/716.
2- القواعد الفقهية للسيد البجنوردي: 2/158، والأصل في منية الطالب: 1/46.
3- مجمع الفائدة والبرهان: 8/89، سواء اعتبرنا (كان) فعلاً أو حرفاً وإن كان على الأول أوضح.

سره) وإن حصر موضوعه بالواجبات الذاتية –أي غير التوصلية- قال (قدس سره): ((بلا خلاف بل عليه الإجماع وهو الحجة))(1)، وبالغ الشيخ كاشف الغطاء (قدس سره) فقال: ((ودعوى المحصَّل غير بعيدة عند المحصِّل))(2)

وفي مفتاح الكرامة ((لم يعرف الخلاف إلا من علم الهدى)) لكن قال: ((حكي عن علم الهدى جواز الأجرة على مثل التكفين والدفن لأنه واجب على الولي ولا يجوز لغيره إلا بإذنه))(3)

((ولذا جوّز استئجاره عليه، وكأنالذي دعاه إلى ذلك ظهور الأدلة في توقف صحة فعل الغير على إذن الولي، فظن أن الوجوب على الولي))(4)

وعلى هذا فإنه لا يكون مخالفاً في المسألة؛ لأن هذه الأعمال غير واجبة أصلاً على غير الولي.

وأول من حكى الإجماع المحقق الكركي (قدس سره) قال: ((فإن الوجوب مطلقاً مانع من جواز أخذ الأجرة وهو صريح كلام الأصحاب))(5)

وردَّ على تفصيل فخر المحققين بين التعبدي والتوصلي بأنه ((مخالف لما عليه الأصحاب)).

لكن جمعاً من الأصحاب شككوا في هذا الإجماع كصاحب الجواهر (قدس سره) قال: ((إلا أني لم أجده وهو إن تم الحجة))(6)

وقال الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((لا يخفى أن الفخر أعرف بنص الأصحاب من المحقق الثاني، ومع هذا فمن أين الوثوق على إجماع لم يصرّح به إلا المحقق الثاني، مع

ص: 33


1- رياض المسائل: 8/180.
2- شرح القواعد: 75، الخامس: ما يجب على الإنسان فعله.
3- مفتاح الكرامة: 4/92، القسم الخامس مما يحرم التكسب به، ما يجب على الإنسان فعله.
4- جواهر الكلام: 22/121.
5- جامع المقاصد: 7/181.
6- جواهر الكلام: 22/116.

ما طعن به الشهيد الثاني على إجماعاته بالخصوص في رسالته في صلاة الجمعة))(1).

ويناقش الإجماع صغروياً أيضاً بذهاب جماعة إلى جواز أخذ الأجرة في بعض الواجبات كالقضاء وبما نقلناه من الاختلاف الواسع في الأقوال فإنه دليل على عدم تمامية دعوى الإجماع على هذا القول أو ذاك أي أن صغراه غير تامة، لكنه لا يمنع من وجود إجماع منقول –تلويحاً أو تصريحاً- على الحرمة في بعض الموارد كالشهادة وتعليم صيغة النكاح أو إلقائها على المتعاقدين كتجهيز الميت ودفنه كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

مضافاً إلى وهن الكبرى بمدركية الإجماع واستناده إلى أمر غير معتبر فلا يكون حجة وذلك بإجراء مراجعة لتأريخ المسألة فقد قال الشيخ المفيد (قدس سره) في المقنعة: ((والتكسب بتغسيل الأموات وحملهم ودفنهم حرام، لأن ذلك فرض على الكفاية أوجبه الله تعالى على أهل الإسلام))(2)

وتبعه على ذلك تلميذه الشيخ الطوسي في النهاية وابن البراج في المهذب وصاحب المراسم(3)، والنص صريح في كونه خاصاً بهذه الواجبات وليس عاماً لكلها والشاهد على ذلك قوله (قدس سره) بعدسطرين: ((ولا بأس بالأجر على الحكم والقضاء بين الناس والتبرع بذلك أفضل وأقرب إلى الله تعالى)) مع أن القضاء من الواجبات أيضاً كفاية أو عيناً مع الانحصار، وذهب إلى مثله الآخرون ممن ذكرنا، فلا يمكن فهم عموم التعليل من قوله (فرض على الكفاية) للشاهد المذكور فيحمل قوله هذا على معنى أن هذا العمل استحقاق كفائي للميت على عموم المسلمين ولا يُعمَّم إلى كل فرض.

ص: 34


1- المكاسب: 2/134.
2- المقنعة: 588.
3- النهاية: 365، كتاب المكاسب. المراسم: 169. المهذب: 1/345.

فيكون معنى تعليله (قدس سره) أن تجهيز ودفن موتى المسلمين من الحقوق التي أوجبها الله تعالى على سائرهم لحفظ كرامتهم أمواتاً كالأحياء، ولا معنى لأخذ الأجر على إعطاء الآخرين حقوقهم.

ولعله (قدس سره) أراد بعبارته ((أهل الإسلام)) الرد على قولٍ كان موجوداً في عصره وحكي عن السيد المرتضى (قدس سره) يذهب إلى ((جواز أخذ الأجرة على مثل التكفين والدفن لأنه واجب على الولي ولا يجوز لغيره إلا بإذنه))(1).

فمن هذه الكلمات انطلق الأصحاب ليعمموا الحكم بعدم الجواز إلى سائر الواجبات بعد الالتفات إلى مقدمتين:-

1- حسن الظن الأكيد بالسلف الصالح بأن كلماتهم مأخوذة من نصوص عن المعصومين (عليهم السلام) وإن لم تصل إلينا وأنهم لا يعتمدون على الظن والاستحسان وتنقيح المناط من غير دليل، فلا بد أن هؤلاء الأعلام من القدماء استظهروا الحرمة من نصوص وصلت إليهم.

2- تجريد المورد عن الخصوصية وعموم التعليل كما صرّح الشيخ كاشف الغطاء (قدس سره) قال: ((وفي الإجماع المنقول من جماعة على المنع في خصوص ما ذكر في المتن –وهو تجهيز ودفن الموتى- كفاية، ويفهم العموم من تعليلهم ذلك بالوجوب الكفائي))(2)

أي قولهم: ((لأن ذلك فرض على الكفاية)).

وكانت النتيجة أن قرأ الأصحاب نص الشيخ المفيد والطوسي والآخرين على أنه كبرى عامة تقتضي حرمة أخذ الأجرة على جميع الواجبات.

ص: 35


1- مجمع الفائدة والبرهان: 8/90.
2- شرح القواعد: 76، القسم الخامس مما يحرم التكسب به.

لكن هذه النتيجة غير صحيحة لعدم تمامية المقدمتين إذ المقدمة الأولى أمرٌ فهموه من بعض النصوص –في أحسن الأحوال- وفهمهم حجة عليهم، والثانية لا دليل عليها، بل نقلنا مخالفة قائليها أنفسهم ونقضهم على التعميم من خلال قولهم بالجواز في بعض الموارد، لذا حملنا عباراتهم على شكل معين من الواجبات.

هذا هو منشأ الإجماع المدعى أو الشهرة بين القدماء فلو سلمنا بوجوده فإن أصله غير تام بل لا أصل له.

واحتمل صاحب الجواهر (قدس سره) أن منشأ الإجماع لدى الأصحاب على حرمة أخذ الأجرة على الواجبات استظهار لزوم إتيانها مجاناً من أدلتها وبتعبيره(قدس سره): ((ظهور الأدلة في وجوب هذه الأعمال مجاناً، إذ قد عرفت أن محل البحث فيما لم يظهر من الدليل مجانيته وإلا حرم التكسب به، لكن للظهور المزبور، لا للمنافاة المذكورة –بين الوجوب وأخذ الأجرة- التي عرفت انتفاءها))(1).

أقول: لا يظهر من كلماتهم ذلك، وهذه الأدلة بين أيدينا ولا نرى فيها دليلاً على المجانية من قريب ولا بعيد، إلا أن يكون مراده (قدس سره) قريباً مما قلناه من أنهم بعد أن استظهروا المجانية من دليل وجوب تجهيز المسلم ودفنه بنكتة استحقاقه ذلك على المسلمين عمموا التعليل، وقد قلنا أن هذا التعميم لا دليل عليه.

نعم سننقل (صفحة 57) عن المحقق النراقي (قدس سره) مثل هذا الاستظهار مع بيان المزيد عن المجانية بإذن الله تعالى.

ص: 36


1- جواهر الكلام: 22/120.

تقريب المنع على مقتضى القواعد:

وعلى أي حال فإنه لما لم يجد الأصحاب نصوصاً تدل على حرمة أخذ الأجرة على الواجبات حاولوا تخريج القول على القواعد بوجوه تعرّضت للنقض والإبرام، وقبل عرضها ومناقشتها يُسجّل على طريقة عرضها عدة إشكالات فنية أهمها أنهم عرضوا عدة وجوه واختار كلٌّ منهم ما يراه من دون تصنيف إلى موانع ذاتية وعرضية(1).

وتظهر الثمرة في التمييز بين مقتضى القاعدة والاستثناء، فإذا كان المانع ذاتياً فيكون الأصل ومقتضى القاعدة حرمة أخذ الأجرة على الواجبات بشكل مطلق، وأما إذا كان المانع عرضياً فإن الأصل يكون هو الجواز ولا يحرم أخذ الأجرة إلا إذا دلّ الدليل عليها.

بيانه: إن مقتضى التحقيق تصنيف الموانع المحتملة عن أخذ الأجرة إلى صنفين:(الأول) الموانع الذاتية: ونبحث فيها ما يفسِّر مانعية نفس صفة الوجوب عن أخذ الأجرة، باعتبار أن عنوان المسألة حرمة أخذ الأجرة على الواجبات، فالمانع من أخذ الأجرة كونه واجباً لا غير، وقد وجدت هذا التعبير عند الشيخ

ص: 37


1- راجع مثلاً مصباح الفقاهة للسيد الخوئي: 1/699-716، ويلاحظ عليه (قدس سره) ومثله السيد الخميني (قدس سره) في المكاسب المحرمة: 2/258 أنه قدّم البحث في مانعية صفة العبادية على البحث في مانعية صفة الوجوب مع أن مقتضى التحقيق لحوق الأول للثاني؛ لأن من وجوه حرمة أخذ الأجرة على الواجبات منافاتها للإخلاص وهي خاصة بالتعبديات، ثم أصبح الثاني مستقلاً لدخول العبادات المستحبة في الإشكال فبينهما عموم من وجه، لكنه (قدس سره) صحّح ترتيب البحث في كتاب الإجارة (راجع الموسوعة الكاملة: 30/375). والإشكال الفني الآخر هو تداخل الوجوه وأجوبتها في كلماتهم بينما تتحلل بالدقة إلى عدة وجوه لأن بعض ما يذكرونه في الجواب يصلح لإشكالات أخرى، لاحظ كمثال وجه الشيخ الأنصاري (صفحة 46)

كاشف الغطاء (قدس سره) وإن لم يصنّف الموانع المحتملة كما قرّبنا، قال (قدس سره): ((ظهر أن المانع الذاتي من المعاوضات جارٍ في الواجبات والمحرمات))(1).

فإذا ثبت مانعية صفة الوجوب فيقال حينئذٍ بعدم الجواز مطلقاً؛ لأن ملاك الحرمة ذاتي وهي صفة الوجوب، وإن لم تثبت المانعية الذاتية، أي أن الوجوب لا يقتضي بذاته حرمة أخذ الأجرة ويكون الأصل عدم الحرمة، وحينئذٍ يأتي البحث في:

(الثاني) وهي الموانع العرضية، كقيام الدليل التعبدي من إجماع ونحوه على الحرمة، أو وجود عناوين في الواجب تمنع من أخذ الأجرة ككونه تعبدياً وأن صفة العبادية مانعة لذا قال بعضهم بالتفصيل بين التعبدي والتوصلي، أو كظهور دليل الوجوب في كونه مجانياً ونحو ذلك، وهذا يعني أنه في أي مورد لم يثبت وجود المانع من أخذ الأجرة فإن الأصل فيه الجواز.

(الصنف الأول) الموانع الذاتية

اشارة

وقد قيلت فيها عدة تقريبات:-

(الأول) إن التنافي بين صفة الوجوب وتمليك الفعل بالإجارة ذاتي؛ لأن وجوب الفعل يعني ملكيته لله تبارك وتعالى ويخرج عن ملك الأجير فكيف يملكه للمستأجر بمقتضى عقد الإجارة، قال المحقق الأردبيلي (قدس سره): ((إنه لما استحق فعله لله لغير غرض آخر، يحرم عليه فعله لذلك الغرض ويحرم الأجر عليه، هذا ظاهر))(2)، وقال الشيخ كاشف الغطاء (قدس سره): ((لأن المملوك والمستحق لا يُملَّك ولا يستحق ثانياً))(3)، وقال المحقق النراقي (قدس سره):

ص: 38


1- شرح القواعد: 77، القسم الخامس مما يحرم التكسب به.
2- مجمع الفائدة والبرهان: 8/89.
3- شرح القواعد: 75.

((إن منافع العبد بأسرها ملك لله سبحانه، وهو وإن أذن له في بعض التصرف فيها بأنحاء التصرفات، إلا أن إيجابه سبحانه لفعل له عز شأنه يوجب عدم الإذن للعبد في التصرف في تلك المنفعة وأخذ العوض عنها ونقلها إلى الغير، بل الإيجاب تفويت تلك المنفعة وإخراجها من يده، لأن إيجاب المنفعة طلب من الله سبحانه هذه المنفعة لنفسه وعدم كونها مملوكة للعبد، فلا يجوز أخذ العوض عنها))(1).ووصف الشيخ الأنصاري (قدس سره) هذا التقريب بأنه أقوى الوجوه التي قيلت في الحرمة، وقال في توضيحه: ((إن الذي يقابل المال لا بد أن يكون كنفس المال مما يملكه المؤجر حتى يملكه المستأجر في مقابل تمليكه المال إياه، فإذا فرض العمل واجباً لله ليس للمكلف تركه، فيصير نظير العمل المملوك للغير، ألا ترى أنه إذا آجر نفسه لدفن الميت لشخص لم يجز له أن يؤجر نفسه ثانياً من شخص آخر لذلك العمل، وليس إلا لأن الفعل صار مستحقاً للأول ومملوكاً له، فلا معنى لتمليكه ثانياً للآخر مع فرض بقائه على ملك الأول، وهذا المعنى موجود فيما أوجبه الله تعالى، خصوصاً فيما يرجع إلى حقوق الغير، حيث إن حاصل الإيجاب هنا جعل الغير مستحقاً لذلك العمل من هذا العامل، كأحكام تجهيز الميت التي جعل الشارع الميت مستحقاً لها على الحي، فلا يستحقها غيره ثانياً))(2).

وقال (قدس سره) في جوابه: ((هذا، ولكن الإنصاف أن هذا الوجه لا يخلو عن الخدشة، لإمكان منع المنافاة بين الوجوب الذي هو طلب الشارع الفعل، وبين استحقاق المستأجر له، وليس استحقاق الشارع للفعل وتملكه

ص: 39


1- مستند الشيعة: 14/177.
2- المكاسب للشيخ الأنصاري: 2/130، وهو الجزء (15) من الموسوعة الكاملة.

المنتزع من طلبه من قبيل استحقاق الآدمي وتملكه الذي ينافي تملك الغير واستحقاقه)).

توضيحه: أن ملكية الواجب لله تعالى في ذمة المكلف بمعنى إلزامه بالإتيان بالفعل واستحقاق العقوبة على تركه وهذا لا ينافي تمليك الفعل لشخص آخر بل هو من قبيل تعدد أسباب الوجوب، نظير ما أجمعوا عليه من جواز نذر الواجب والحلف عليه وأمر الوالد والسيد به وجعله شرطاً في عقد لازم، وإنما تتحقق المنافاة لو كان التملك على نحو الملكية الاعتبارية وهذه لا تحصل بإيجاب الفعل على المكلف كما هو واضح.

أقول: هذا الجواب غير كافٍ لأن عدم المنافاة ليس منشأها كون الأول وهو الوجوب طلباً من الشارع المقدس والثاني تمليك؛ لإمكان وقوع المنافاة بينهما كما لو استأجر شخصاً للعمل من الزوال إلى الغروب فإنه لا يملك عليه الوقت الكافي لأداء صلاتي الظهرين وكذا لو حصل كسوف مثلاً فتحصل المنافاة بين الطلب والتمليك.

والصحيح أن المناط في حصول المنافاة وعدمه كون تمليك المستأجر للعمل في طول طلب الشارع واستحقاقه وعدمه، فعدم حصول المنافاة في المقام لأن الشارع المقدس طلب إيجاد هذا العمل في الخارج لله تعالى، والمستأجر طلب ذلك أيضاً، كما لو قال الوالد لابنه: (صلّ لله تعالى) فإن الصلاة مطلوبة لله تعالى وهي بعنوان كونها مطلوبة لله تعالى مطلوبة للوالد، ومثالها الشرعي ما نحن فيه من مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن الأمر بالمعروف وهو طلب من قبل الآمر لا ينافي طلب الفعل من الله تعالى.ولو فرض كونهما في عرض واحد كما لو قال المستأجر: (اجعل الفعل الواجب لي) وكان تعبدياً حصلت المنافاة لعدم إمكان الإتيان بالفعل بداعيين مختلفين في عرض واحد، وإن كان استحقاق الله تعالى له من باب الطلب واستحقاق المستأجر من باب التمليك.

ص: 40

وعلق السيد اليزدي (قدس سره) على قول الشيخ الأنصاري في تقريبه لكلام المستدل ((لا بد أن يكون مما يملكه..)) بقوله: ((لا يعتبر في متعلق الإجارة كونه مملوكاً للمؤجر بل اللازم أن يكون مما يمكنه تمليكه وإن لم يكن مملوكاً له فعلاً، ولا مملوكاً لمن له عليه ولاية، فإن عمل الحر ليس مملوكاً لنفسه ومع ذلك يجوز له أن يملكه))(1).

(الثاني) وهو أيضاً للشيخ كاشف الغطاء (قدس سره) قال: ((أن الإجارة لو تعلقت به –أي الواجب- كان للمستأجر سلطان عليه في الإيجاد والعدم على نحو سلطان الملاك، وكان له الإبراء والإقالة والتأجيل، وكان للأجير قدرة على التسليم، وفي الواجب يمتنع ذلك))(2).

وردّ صاحب الجواهر (قدس سره) بأن ((السلطان من حيث الإجارة بالإبراء والإقالة ونحوهما متحقق هنا والأجير له قدرة على التسليم في الواجبات التي تعتبر فيها النية))(3).

وبيانه: أن هذه الاستحقاقات التي تقتضيها الإجارة موجودة وللمستأجر الإقالة والإبراء وسائر الحقوق الأخرى، فإذا أقال أو أبرأ انتفى وجوب الوفاء من حيث الإجارة، أي إسقاط الحقوق اللازمة من جهة الإجارة، أما بقاء العمل في ذمة المكلف فهو من حيث الوجوب الشرعي وهذا شيء آخر.

ص: 41


1- حاشية السيد اليزدي على المكاسب: 1/141، الفقرة: 193.
2- شرح القواعد: 75، القسم الخامس مما يحرم الاكتساب به.
3- جواهر الكلام: 22/117.

تذييل: في وقوع الفعل عن الأجير أم المستأجر:

مضافاً إلى ما اعترف به المستدل من اختصاصه بالواجب العيني وحاول تقريبه على الواجب الكفائي قال (قدس سره): ((وهو في العيني بالأصل والعارضواضح، وأما الكفائي فلأنه بفعله يتعين له فلا يدخل في ملك آخر، ولعدم نفع المستأجر فيما يملكه أو يستحقه غيره)) وهذا الذيل سنجعله وجهاً مستقلاً إن شاء الله تعالى.

وأجاب الشيخ الأنصاري (قدس سره) ب_((منع وقوع الفعل له بعد إجارة نفسه للعمل للغير، فإن آثار الفعل حينئذ ترجع إلى الغير، فإذا وجب إنقاذ غريق كفاية أو إزالة النجاسة عن المسجد، فاستأجر واحداً غيره، فثواب الإنقاذ والإزالة يقع للمستأجر دون الأجير المباشر لهما. نعم، يسقط الفعل عنه، لقيام المستأجر به ولو بالاستنابة، ومن هذا القبيل الاستئجار(1)

للجهاد مع وجوبه كفاية على الأجير والمستأجر))(2).

أقول:-

1- هذا إذا قصد المستأجر نيابة الأجير عنه وعود نفعه اليه، أما إذا كان قصده مجرد حصول الفعل خارجاً كما لو قصد بإنقاذ الغريق حفظ النفس لا النيابة ولا تحصيل الثواب فلا يصح كلام الشيخ (قدس سره).

2- إن ما ذكره (قدس سره) من الآثار لا تشمل وقوع الفعل عن المستأجر الذي منعه المستدل (قدس سره)، إذ يمكن استبعاد وقوع الفعل عن المستأجر بأن يكون هو الممتثل ما دام الأجير يؤدي فعلاً واجباً عليه ولو

ص: 42


1- روى الشيخ في التهذيب والحميري في قرب الإسناد بسند فيه ضعف عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهم السلام): (أن علياً (عليه السلام) سُئل عن أجعال الغزو، فقال: لا بأس أن يغزو الرجل عن الرجل ويأخذ منه الجعل) (وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 8، وباب 63.
2- المكاسب: 2/131.

كفاية فيقع تلقائياً عنه، وغاية ما تدل عليه الرواية في نيابة الجهاد –بغض النظر عن ضعف سندها- إجزاء امتثال الأجير عن الآخر وسقوط الوجوب عنه بذاك الامتثال، وتحصيل ثواب الفعل، فما ذكره المستدل من تعيّن العمل للأجير بفعله قريب، إلا أن الكلام في وجه مانعية ذلك من أخذ الأجرة.

وذهب السيد اليزدي (قدس سره) إلى أبعد من ذلك وقال: ((إن الاستئجار في الواجب العيني متصور على الوجهين، إذ قد يكون الشيء واجباً عينياً على كل منهما فيستأجره ليأتي به نيابة عنه، وإذا أتى به كذلك فتفرغ ذمة المستأجر وتبقى ذمة النائب مشغولة بفرد آخر))(1).

أقول: البعد فيه واضح لوقوع الفعل عن فاعله تلقائياً، ولذا قالوا بعدم وقوع صوم غير شهر رمضان في رمضان إلا عن نفسه حتى لو نوى غيره.(الثالث) وهو للشيخ كاشف الغطاء أيضاً في شرح القواعد، قال (قدس سره): ((ولعدم نفع المستأجر فيما يملكه أو يستحقه غيره، لأنه بمنزلة قوله: استأجرتك لتملك منفعتك المملوكة لك أو لغيرك))(2).

وببيان من السيد الخوئي (قدس سره) قال: ((أن من شرائط الإجارة أن تكون منفعة العين المستأجرة عائدة إلى المستأجر، ورتّب عليه بطلان إجارة المكلف لامتثال فرائضه من الصلاة والصوم والحج وغيرها، وبطلان الإجارة للإتيان بالمستحبات لنفسه، كالنوافل اليومية والليلية، وغير ذلك من الموارد التي يكون النفع فيها راجعاً إلى الأجير أو إلى شخص آخر غير المستأجر.

ص: 43


1- حاشية السيد اليزدي على المكاسب: 1/145/ تعليقة: 145.
2- شرح القواعد: 75، القسم الخامس مما يحرم الاكتساب به.

والوجه في ذلك: أن حقيقة الإجارة هي تبديل منفعة معلومة بعوض معلوم فلا بد من وصول المنفعة إلى المستأجر، لأنه الدافع للعوض المعلوم، وإلا انتفت حقيقة الإجارة، إذ يعتبر في التبديل أن يقوم كل من العوض والمعوض مكان الآخر بحيث يدخل كل منهما في المكان الذي خرج منه الآخر، وسيأتي اعتبار ذلك أيضاً في حقيقة البيع.

وفي البلغة أن الإجارة بدون هذا الشرط سفهية، وأكل للمال الباطل، ولذا لا تصحّ الإجارة على الأفعال العبثية، وإبداء الحركات اللاغية، كالذهاب إلى الأمكنة الموحشة، ورفع الأحجار الثقيلة، انتهى ملخص كلامه))(1).

ويرد عليه:-

1- إن هذا الوجه خروج عن محل البحث الذي هو كون مجرد وجوب الشيء من قبل الله تعالى مانعاً من أخذ الأجرة بعد التسليم بالشرائط الأخرى المعتبرة في العمل المستأجر عليه، أي أننا نفرض واجباً يعود نفعه إلى المستأجر كالقضاء العائد نفعه إلى المتحاكمين، وكالإتيان بالواجبات الكفائية الموجب لسقوط التكليف بها عن المستأجر.

2- ما أوردناه في جواب الوجه الثاني من أنه إذا نوى النيابة كان الفعل وما يترتب عليه من آثار للمنوب عنه وهو المستأجر وليس لنفس الأجير.

3- إن المهم في صحة الإجارة وجود منفعة عقلائية مقصودة للمستأجر من العمل، وليس من الضروري رجوع النفع إلى نفس المستأجر أو غيره فله أن يستأجر لخياطة ثوب زيد أو تنظيف داره.

وقال السيد الخوئي (قدس سره) في جوابه: ((والتحقيق أن يقال: إن حقيقة الإجارة لا تقتضي إلا دخول العمل في ملك المستأجر قضاءً لقانون المبادلة، وأما كون المنفعة راجعة إليه فلا موجب له)).

ص: 44


1- مصباح الفقاهة: 1/699-700، وهو المجلد (35) من الموسوعة الكاملة.

1- إن الدليل أخصّ من المدعى لإمكان انتفاع المستأجر من فعل الأجير لما يجب عليه، حتى في مثل الفرائض اليومية، قال السيد اليزدي (قدس سره): ((إن مثل فعل الشخص صلاة الظهر عن نفسه أيضاً يمكن أن يكون متعلقاً لغرض المستأجر، إذ لا أقل من أن يكون قصده أن يكون الله مطاعاً))(1).

وقال السيد الخوئي (قدس سره): ((إن المستأجر قد ينتفع بعود النفع إلى غيره، كما إذا استأجر شخصاً على امتثال فرائض نفسه لكي يتعلم المستأجر منه أحكام فرائضه، أو كان المستأجر من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وأراد باستئجار المكلفين على امتثال فرائضهم إظهار عظمة الإسلام وإخضاع المتمردين والعاصين)).

أقول: مثالها في مسألتنا ما لو كان المستأجر غير قادر على كسر قناني الخمر أو حبس العاصي عن ظلمه ونحو ذلك فيستأجر القادر وهو مشمول بالوجوب أيضاً فينتفع المستأجر بامتثال الواجب وسقوط التكليف عنه وإقامة حكم الله تعالى.

تذييل: علق السيد الخوئي (قدس سره) على كلام صاحب البلغة بقوله: ((وأما حديث سفهية المعاملة فيرد عليه أنه لا دليل على بطلان المعاملة السفهية، وإنما الدليل على بطلان معاملة السفيه، والدليل هو كونه محجور التصرف في أمواله)).

أقول: الظاهر أن هذا الجواب غير تام؛ لأن مراد المستدل بالسفهية غير العقلائية وقيام الإنسان بالواجب الملقى في عهدته لا منفعة فيه للمستأجر نظير بيع المتاع بشيء لا قيمة له فيكون أكلاً للمال بالباطل وهو غير مشروع، فالبطلان من هذه الجهة لا من جهة بطلان معاملات السفيه.

ص: 45


1- حاشية السيد اليزدي على المكاسب: 1/132، فقرة: 183.

أما الآية الشريفة فالظاهر ((كون الباء في قوله تعالى: «وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ» للسببية لا للمقابلة فيراد النهي عن أكل مال الغير بالأسباب الباطلة من القمار والرشا ونحوهما))(1).

(الرابع) ما اختاره الشيخ الأنصاري (قدس سره) في الاستدلال على حرمة أخذ الأجرة على خصوص الواجب العيني(2)

التعييني بقوله: ((لأن أخذ الأجرة عليه مع كونه واجباً مقهوراً من قبل الشارع على فعله، أكل للمال بالباطل، لأن عمله هذا لا يكون محترماً، لأن استيفاءه منه لا يتوقف على طيب نفسه، لأنه يقهر عليه مع عدمطيب النفس والامتناع. ومما يشهد بما ذكرناه: أنه لو فرض أن المولى أمر بعض عبيده بفعل لغرض، وكان مما يرجع نفعه أو بعض نفعه إلى غيره، فأخذ العبد العوض من ذلك الغير على ذلك العمل عد أكلاً للمال مجاناً بلا عوض))(3).

أقول: هذا نموذج لتداخل الاستدلال على الوجوه فقوله: ((ومما يشهد)) يرتبط بوجه آخر، أما أصل استدلاله فموضعه قوله: ((لأن عمله هذا)).

ويجاب هذا الوجه بجوابين، إجمالي وتفصيلي، أما الإجمالي، فلأن المقهور عليه غير المستأجر عليه لأن الأحكام تتعلق بالعناوين وهي غير ما تعلقت به الإجارة وهو المعنون أي الفرد الخارجي.

وبتعبير آخر: إن المقهور عليه هو العنوان الذي تعلق به الوجوب، أما ما يأتي به خارجاً وفاءً بالإجارة فهو المعنون او الفرد وهو ليس مقهوراً عليه،

ص: 46


1- دراسات في المكاسب المحرمة للشيخ المنتظري (قدس سره): 3/179.
2- تقييد المستدل مورد الاستدلال بالواجب العيني التعييني دليل على اعترافه بأن ملاك الحرمة أمر غير أصل الوجوب –وهو ما نبحث عنه- بل صفة عارضة عليه وهي كونه عينياً تعيينياً.
3- المكاسب: 2/135.

ونتيجته جواز أخذ الأجرة حتى على الواجب العيني التعييني لأنه له أفراد عديدة لامتثاله أي أنه واجب تخييري بالتخيير العقلي بين أفراده، وقد جوّز (قدس سره) أخذ الأجرة على الواجب التخييري، فيأخذ الأجرة مقابل اختياره لفرد دون آخر فهذا نقض عليه (قدس سره).

وأما التفصيلي فنقول فيه، إن استدلاله (قدس سره) بكون الفعل مقهوراً عليه يمكن أن يقرِّب بعدة صياغات:-

1- إن الواجبات من الأفعال غير الاختيارية للمكلف لأنه مقهور عليها فهي ضرورية الحصول نظير الأعمال الاضطرارية الصادرة من غير إرادة واختيار كالتنفس وحركة القلب(1)

وأعمال غدد البدن وأجهزته فيكون أخذ الأجرة من أكل المال بالباطل.

وفيه: أنه تجنٍّ على الواقع؛ لأن الواجبات ليست بهذه المثابة وليس الإنسان مسلوب الاختيار بإزائها، وما استحق الثواب والعقاب إلا لأنه مختار فله أن يفعل وله أن يترك، فلا يكون جعل المال بإزائه أخذاً للمال بالباطل لإمكان أن تصير الأجرة محركة للمكلف نحو الفعل بحيث لولاها لا نحتمل تحركه للواجب.

ما سنذكره في الوجه الرابع من الموانع العرضية (صفحة 61) وملخّصه أن المستأجر له أن يلزم الأجير بالفعل ويقهر عليه لأنه واجب عليه ولو من جهة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فدفع الأجرة له على فعل مقهور عليه عبث.

وهذه الصياغة أليق بالمثال الذي ذكره (قدس سره).

وجوابه: بالفرق بين الإلزامين فإن الأول الثابت قبل الإجارة كان نوعياً1- عاماً واجباً على كل الناس من باب الأمر بالمعروف والنهي عن

ص: 47


1- سيأتي (صفحة 50) ميل السيد حسن البجنوردي (قدس سره) لهذا التفسير في القواعد الفقهية.

المنكر، أما ما يثبت بالإجارة فهو حق شخصي يملكه بالعقد وله مقاضاة الأجير إذا أخل به.

2- إن المسلم مقهور على أداء الواجبات ولا خيار له في تركها، وفعلها ليس منوطاً برضاه ولا دخل لإذنه في أدائها فلا يكون عمله محترماً ومع عدم احترامه فلا ضمان بإزائه؛ لأن الضمان مقابل العمل المحترم.

وقد أجيب هذا الوجه بما حاصله ((أن لمال المسلم حيثيتين من الاحترام:

إحداهما: حيثية إضافته إلى المسلم، ومقتضى احترامه بهذه الحيثية أن لا يتصرف أحد فيه بغير إذنه وله السلطنة على ماله وليس لأحدٍ مزاحمته في سلطانه.

ثانيتهما: حيثية ماليته، ومقتضى حرمتها أن لا يذهب هدراً وبلا تدارك، ومن الواضح أن الإيجاب والمقهورية وسقوط إذنه موجبة لسقوط احترامه من الحيثية الأولى دون الثانية، ولذا جاز أكل مال الغير في المخمصة بلا إذنه مع بقائه على احترامه، ولهذا يضمن قيمته بلا إشكال(1).

مضافاً إلى أن هدر المال غير هدر المالية، والمضر الثاني لا الأول، ولهذا يصح المعاملة مع الكافر الحربي مع سقوط احترام ماله من الحيثيتين وذلك لعدم هدر مالية ماله))(2).

وقد رد السيد الخميني (قدس سره) بأنه ((ليس للمملوك إلا إضافة واحدة إلى مالكه هي إضافة المملوكية، ولها أحكام عقلائية وشرعية واحترامات كذلك، ومع الغض عن تلك الإضافة لا حرمة له مطلقاً ضماناً كانت أو غيره،

ص: 48


1- وكذا لا ضمان فيما لا مالية له وإن لم يجز أخذه بدون إذن مالكه كالإناء المكسور والخمر.
2- رسالة (أخذ الأجرة على الواجبات) للشيخ الأصفهاني: 25 وقرّره السيد الخميني (قدس سره) في المكاسب المحرمة: 2/286 عن حاشية الشيخ محمد حسين الإصفهاني على المكاسب: 1/79-80 في المقبوض بالعقد الفاسد.

فالحيثية الثانية في كلامه أي ذات المالية مقطوع الإضافة لا حرمة لها، وعدم الذهاب هدراً من آثار إضافة المال إليه ومن الأحكام العقلائية المترتبة على إضافة المالكية، لا حيثية مقابلة لها. فإضافة المال إلى المسلم أو المال المضاف إليه موضوع تلك الآثار.

وجواز الأكل في المخمصة بلا إذن صاحبه وقهراً عليه ليس من جهة سقوط احترام الإضافة إلى المسلم، لأن لازم سقوط احترامها عدم الضمان بلا ريب، لأن موضوع دليل الضمان الإتلافي وغيره هو مال الغير المتقوم بالإضافة.

وليس الضمان من جهة احترام ذات المال ساقط الإضافة أو مع سلب احترام إضافته، بل لأجل أن حكومة دليل رفع الاضطرار إنما هي على بعض الأحكام المترتبة على إضافة المالكية، وهو حرمة التصرف فيه بلا إذنه ورضاه، دون الحكم الوضعي وهو الضمان، لأن المضطر إنما يضطر إلى الأكل وهو يسد رمقه، لا الأكل المجاني،فليس مضطراً إلى الأكل المجاني. فليس في الأكل في المخمصة سقوط الإضافة إلى المسلم وتحقق الضمان بإتلاف ذات المال بلا إضافة إلى مالكه وهو واضح)).

أقول: جواب الشيخ الإصفهاني صحيح ولا يضره ما قاله السيد الخميني (قدس سره) لأنه مبني على إيهام في التعبير وإلا فإن الشيخ الإصفهاني (قدس سره) لم يفترض الحيثية الثانية منفصلة عن الإضافة إلى المسلم لأنه صرح بأن مقسم الحيثيتين هو مال المسلم فإذن هو يريد بالحيثيات الآثار التي ذكرها السيد الخميني (قدس سره)، فملخص الجواب عندهما أن الإيجاب والإلزام لا ينافي بقاء احترامه وإضافته وصحة الاستئجار عليه.

(الخامس) ما أورده المحقق النائيني (قدس سره) في منية الطالب وحاصله أنه ((يعتبر في الإجارة أن يكون العمل الذي يأخذ الأجير بإزائه الأجرة ملكاً له بأن لا يكون مسلوب الاختيار بإيجاب أو تحريم شرعي، لأنه إن

ص: 49

كان واجباً عليه فلا يقدر على تركه، وإن كان محرماً فلا يقدر على فعله –لنهي الشارع عنه كشهادة الزور- ويعتبر في صحة المعاملة على العمل كون فعله وتركه تحت سلطنته واختياره))(1).

أقول: تقريبه أن القدرة معتبرة في متعلق الإجارة، وحقيقتها القدرة على الفعل والترك معاً، فكما لا تجوز الإجارة على المحرمات لسلب الشارع القدرة على فعلها، فكذلك لا تجوز الإجارة على الواجبات لسلب القدرة على الترك، وعدم القدرة الشرعية كعدم القدرة العقلية التي هي شرط في صحة التكليف.

وأصرّ بعض تلامذته المحققين على هذا الوجه للحرمة، قال: ((يشترط في صحة عقد الإجارة –بل في سائر العقود المعاوضية التي تقع على الأعمال- أمور)) ثم قال: ((الثالث: أن يكون العمل مقدوراً للعامل تكويناً وتشريعاً وفعلاً وتركاً)) ووضحه بأن ((معنى مقدورية فعل من الأفعال هو أن يكون الفعل والترك بإرادته وتحت اختياره، وإلا لو كان الفعل ضرورياً، كحركة الارتعاش في اليد مثلاً، لا يقال أن هذا الفعل مقدوراً له)) وخلص إلى أن ((العمدة في عدم صحة أخذ الأجرة على الواجبات بحيث يكون وافياً بجميع أقسام الواجب هو هذا الوجه))(2).

وجوابه:-

1- أن مثل هذه القدرة غير معتبرة قطعاً، وإنما المعتبر في صحة الإجارة القدرة على تسليم المعوّض وهي حاصلة في الواجبات.1- النقض عليهم بالإجماع على جواز جعل الواجب شرطاً في ضمن العقد أو متعلقاً لنذر أو يمين أو عهد، والقدرة معتبرة فيها جميعاً، فلو صحّ ما

ص: 50


1- منية الطالب: 1/45، مؤسسة النشر الإسلامي، وهي تقريرات الشيخ النائيني (قدس سره) بقلم الشيخ موسى الخوانساري.
2- القواعد الفقهية للسيد حسن البجنوردي: 2/158-159.

قالوه من عدم القدرة لما جاز كل هذا، مع أنه لم يقل أحد ببطلان شيء منها.

أما بطلان الاستيجار على الفعل المحرم فإنه ليس لأنه مسلوب الاختيار وأنه لا يملك فعله لشهادة الوجدان بخلاف ذلك وتملكه لحرية الفعل والترك، وإنما لأن صحة العقد تعني لزوم الوفاء به وهو لا يجتمع مع تحريم العمل.

وهذه النكتة غير موجودة في الواجبات لما قلناه من أن وجوب الفعل لا يخرجه عن تحت اختياره ولا يصيّره ضروري الحصول ولا يجعله مملوكاً للآمر.

نتيجة المناقشة:

تبيّن مما تقدم عدم وجود مانع ذاتي في الواجبات عن أخذ الأجرة، أي أن صفة الوجوب ليست مانعة بنفسها عن أخذ الأجرة.

ومع عدم وجود مانع تكون عمومات الإجارة ووجوب الوفاء بالعقود جارية، واختار هذا القول جملة من الأساطين (قدس الله أسرارهم جميعاً) قال صاحب الجواهر (قدس سره):

((بل هو –أي جواز الإجارة مطلقاً- مقتضى القواعد والضوابط جمعاً بين ما دل على وجوب بذل المال أو العمل، وبين ما دل على احترام القاضي بضمانهما، إذا فرض عدم ظهور دليل الوجوب في المجانية، إذ كما أن الإذن الشرعية في الأموال والأنفس لا تنافي الضمان كذلك الأمر الشرعي بدفع المال أو العمل لا ينافي الضمان، فالمتجه حينئذٍ القول بعدم المنافاة ذاتاً، نعم لو حصل مانع خارجي كالجمع بين العوض والمعوض عنه، ونحوه مما تكون المعاملة به سفهية عبثية، ولو من جانب واحد، أو فُهم مما دل على الوجوب كونه بصفته المجانية، اتجه المنع))(1).

ص: 51


1- جواهر الكلام: 22/118.

ووافقه الشيخ الأنصاري (قدس سره) في تأسيس مقتضى القاعدة في المسألة إلا أنه اختلف معه في الاستثناء الخارج عن القاعدة، قال (قدس سره): ((فالذي ينساق إليه النظر: أن مقتضى القاعدة في كل عمل له منفعة محللة مقصودة، جواز أخذ الأجرة والجعل عليه وإن كان داخلاً في العنوان الذي أوجبه الله على المكلف.

وأما مانعية مجرد الوجوب عن صحة المعاوضة على الفعل، فلم تثبت على الإطلاق))(1).وقال السيد اليزدي (قدس سره): ((فالمناط في المنع هو فهم المجانية من غير فرق بين كونه حقاً أو حكماً. بل وجوباً أو استحباباً وعينياً أو كفائياً أو تخييرياً))(2).

أقول: لكنه خالف نفسه في العروة فقال: ((لا يجوز الإجارة لإتيان الواجبات العينية كالصلوات الخمس، والكفائية كتغسيل الأموات وتكفينهم والصلاة عليهم))(3).

تتميم: ويشهد للقول بالجواز جملة من النصوص والفتاوى الدالة على الجواز في عدة موارد فيكون نقضاً على القائل بالمنع، فإن ((جواز أخذ الأم الأجرة على إرضاع الولد اللبا مع وجوبه عليها، كاستحقاق أخذ العوض عما يدفعه للمضطر من المال، وما يأخذه الوصي عوضاً عن عمله –مع وجوب العمل بها

ص: 52


1- المكاسب: 2/135.
2- الحاشية على المكاسب: 1/150، التعليقة (213).
3- العروة الوثقى: كتاب الإجارة، المسألة (13) بعد فصل إجارة الأرض بما يحصل منها.

عليه-، أوضح شاهد على عدم منافاة صفة الوجوب للتكسب))(1).

مضافاً إلى موارد أخرى كالواجبات النظامية التي أجمعوا على جواز أخذ الأجرة فيها، و ((وجوب إعلاف الملتقط للضالة مع جواز رجوعه في قيمة العلف إلى صاحبها بل وأجرة الإعلاف أيضاً))(2).

وقد حاول القائلون بالحرمة توجيه هذه الموارد لمنع المنافاة بوجوه غير تامة أي لا تصلح لجعل هذه الموارد استثناءً وتخصيصاً للقاعدة التي تقتضي الحرمة وإنما هي شواهد على أن مقتضى القاعدة الجواز. ومن تلك المحاولات قول الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((وأما أخذ الوصي الأجرة على تولي أموال الطفل الموصى عليه، الشامل بإطلاقه لصورة تعيّن العمل عليه، فهو من جهة الإجماع والنصوص المستفيضة على أن له أن يأخذ شيئاً)) (3).

أقول: يرد عليه:-

1- إن المانع عن أخذ الأجرة الذي ذكره ثبوتي فلا يدفع بوجه إثباتي.

2- جعْله (قدس سره) استحقاق الأجرة من جهة حكم الشارع لا من باب المعاوضة مخالف لظاهر النصوص والفتوى كصحيحة هشام بن الحكم قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عمن تولى مال اليتيم ما له أن يأكل منه؟ فقال (عليه السلام): يُنظر إلى ما كان غيره يقوم به من الأجر لهم فليأكل بقدر ذلك)(4).

ص: 53


1- جواهر الكلام: 22/117.
2- دراسات في المكاسب المحرمة للشيخ المنتظري (قدس سره): 3/182.
3- المكاسب: 2/141.
4- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب ما يُكتسب به، باب 72، ح5.

3- مضافاً إلى النقض عليه بأن لازم توجيهه أنه لو مات قبل الأخذ فلا يجوز لوارثه أخذ العوض بناءً على كونه حكماً تعبدياً من الشارع، لكن الفتوى على الجواز وهذا يعني أن الحكم مبني على العوضية.

ثم قال (قدس سره): ((وأما باذل المال للمضطر فهو إنما يرجع بعوض المبذول، لا بأجرة البذل، فلا يرد نقضاً في المسألة)).

وفيه: إن ما ذكره (قدس سره) لا يصلح للتفريق لأن العوض في المقام أيضاً مقابل المبذول الذي هو العمل ((فكما أن الواجب هناك بذل الطعام، والعوض إنما هو في مقابل الطعام، ففي المقام أيضاً الواجب بذل العمل، والعوض في مقابل نفس العمل))(1).

ثم قال (قدس سره): ((وأما رجوع الأم المرضعة بعوض إرضاع اللبأ مع وجوبه عليها –بناءً على توقف حياة الولد عليه- فهو إما من قبيل بذل المال للمضطر، وإما من قبيل رجوع الوصي بأجرة المثل من جهة عموم آية «فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» فافهم))(2).

أقول: اتضح ما في كل منهما.

(الصنف الثاني) الموانع العرضية

اشارة

ويمكن تقريب عدة موانع:

(الأول) قيام الدليل التعبدي على حرمة أخذ الأجرة على العبادات إلا ما استثني.

وفيه: أن الدليل المفروض في كتب الأصحاب أمور:-

1- الإجماع وقد تقدم نقله والرد عليه.

ص: 54


1- حاشية السيد اليزدي (قدس سره) على المكاسب: 1/149، التعليقة: 211.
2- المكاسب: 2/142.

2- جريان السيرة على عدم أخذ الأجرة على الواجبات.

وجوابه: إنكار هذه السيرة لجريان العمل على أخذ الأجرة على كثير من الواجبات كالواجبات النظامية والقضاء وغيرها من الموارد التي ذكرناها.

نعم قد يخص الدليل بالعبادات ويناقش حينئذٍ باحتمال كونها مدركية لاستنادها إلى قول المشهور بالحرمة.

مضافاً إلى أنها دليل لبّي يقتصر منه على القدر المتيقن وهو عدم القيام بها وهو أعم من عدم الجواز.

على أننا لا نجد مانعاً من اتخاذ بذل العوض والمكافأة أسلوباً لتحفيز الآخرين على الطاعة واجتناب المعصية إقامة لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

3- الأصل، قال الشيخ كاشف الغطاء (قدس سره): ((لأن الظاهر عدم الدخول في عمومات المعاملات في الكتاب والسنة، فيبقى على أصل عدم الانتقال عن الحالة الأولى))(1)

وقال المحقق النراقي: ((عموم أدلة الإجارة بحيث يشمل المورد غير معلوم، والأصل في المعاملات الفساد))(2).

ويرد عليه:-

أ - لم يتبين منشأ الشك في دخول المورد في عمومات الإجارة أو العقود حتى يسوغ الرجوع إلى الأصل بعد رد تقريبات المنع فنتمسك بعمومها وإطلاقها.

ص: 55


1- شرح القواعد: 75، القسم الخامس مما يحرم الاكتساب به.
2- مستند الشيعة: 14/177، وتقدم في كلام صاحب الجواهر (صفحة 52) مثله.

ب- المناقشة في الكبرى لأن الأصل وإن كان عدم الانتقال عن الحالة الأولى عند الشك في حصول السبب الناقل، إلا أن هذا السبب متحقق هنا بضم الوجدان القاضي بحصول عقد معاوضة على الفعل الواجب مع الأصل الذي يقتضي الصحة في المعاملات المتعارفة لدى الناس والتي تراضوا عليها إلا إذا ثبت النهي عنها شرعاً وهو منتفٍ.

ج_- لو تنزلنا وقلنا ببطلان عقد الإجارة فإن غايته عدم استحقاق الأجرة المسماة لكنه يستحق أجرة المثل لأن عمله محترم ومضمون ولم يقدم على المجانية.

د- ما ذكره المحقق النراقي (قدس سره) مستدركاً: ((إلا أن ذلك لا يثبت إلا فساد عقد الإجارة في غير ما دل الدليل على صحتها فيه، نحو الصنائع وما يشبهها من الواجبات الكفائية، أو الحج والصلاة ونحوهما من الغير، وأما عدم جواز أخذ الأجرة وحرمتها فلا)).

أقول: تقريب كلامه (قدس سره): أن المنع من أخذ الأجرة من لوازم الأصل في المقام، والأصول لا تثبت لوازمها.

ولكن يرد عليه أن استحقاق الأجرة فرع صحة العقد فإذا ثبت بطلانه بالأصل فيسقط استحقاق الأجرة.(الثاني) فيما لو دل دليل الواجب على أن الفعل يؤتى به على نحو المجانية أي اشتراط الشارع إتيانه بلا مقابل، كما قيل في ((الإفتاء والقضاء حيث أن الظاهر أنهما من شؤون تبليغ الرسالة وقد قال الله تعالى: «قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً» (الأنعام:90) فلا يجوز أخذ الأجرة عليه))(1).

أقول: لا شك أن هذا مانع إذا ثبت بدليل ويمكن تقريب المانعية بأكثر من وجه (منها) سقوط مالية هذا الفعل شرعاً بهذا الشرط فيكون أخذ المال بإزاء هذا

ص: 56


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 30/379، كتاب الإجارة.

الفعل من أكل المال بالباطل أو أن المعاملة تكون سفهية، (ومنها) أن أخذ الأجرة يجعل الفرد المأتي به غير مطابق للمأمور به المقيّد بالمجانية فلا يتحقق الوفاء بالإجارة ونحو ذلك من التقريبات.

لذا أخرج جملة من الأعلام هذا المورد عن محل النزاع كما تقدم، ولكن المشكلة في الدال على المجانية إذ أن أدلة الواجبات لم تتضمن هذا المعنى، وليس هو مما تتضمنه حقيقة الوجوب، نعم توجد موارد ادعي فيها ثبوت المجانية بدليل خاص كالإجماع ونحوه.

أما المحقق النراقي (قدس سره) فقد وسّع دائرة الواجبات المجانية، قال: ((إن المتبادر عن إيجاب شي طلبه مجاناً، ولذا لو أمر المولى عبده بأمر فأخذ الأجر من شخص ولو كان له فيه نفع يذم عرفاً، إلا أن تكون قرينة على جواز الأخذ))(1).

أقول: هذه دعوى لا تلزم إلا مدعيها وما ذكره (قدس سره) من المثال لا يجري في ما نحن فيه للفرق الذي ذكرناه في الأول من الموانع الذاتية، فملكية المولى لعبده ليست كملكية الله تعالى للواجبات في ذمة عباده؛ لذا لم تثبت المجانية عندهم إلا في موارد خاصة وردت فيها روايات أو ادعي عليها الإجماع.

فمن الأمور التي وردت في الروايات قوله (عليه السلام): (السحت أنواع كثيرة منها ما أصيب من أعمال الولاة الظلمة ومنها أجور القضاة)(2)

وقوله (عليه السلام): (لا يصلى خلف من يبغي على الأذان والصلاة الأجر ولا تقبل شهادته)(3)

وما ورد في أخبار فساد دين الناس ودخولهم في الفتن كقوله

ص: 57


1- مستند الشيعة: 14/178.
2- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب 5، ح12.
3- وسائل الشيعة: كتاب الشهادات، باب 32، ح2، 6.

(عليه السلام): (ورأيت الأذان بالأجر والصلاة بالأجر)(1)

وخبر زيد بن علي عن آبائه عن علي (عليه السلام)(أنه أتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين والله إني أحبك لله، فقال له عليه السلام: لكني أبغضك لله، قال: ولمَ؟ قال: لأنك تبتغي في الأذان كسباً، وتأخذ على تعلم القرآن أجراً وسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: من أخذ على تعليم القرآن أجراً كان حظه يوم القيامة)(2).

أقول: بعض هذه الروايات قاصرة سنداً وبعضها دلالة كالأولى الدالة على قضاة الجور؛ لذا لم يستشكل كثيرون على جواز أخذ القاضي الأجرة، وبعضها يحمل على الكراهة، ولو تنزلنا فإنها لا تصلح للخروج بقاعدة كلية تفيد حرمة أخذ الأجرة على عموم الواجبات فلا بد من الاقتصار على مواردها فقط لتخصيص العمومات والإطلاقات.

وبعض الأمور استدلوا على مجانيتها بالإجماع، كتجهيز(3)

الميت، قال الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((ثم إنه قد يُفهم من أدلة وجوب الشيء كفاية كونه حقاً لمخلوق يستحقه على المكلفين، فكل من أقدم عليه فقد أدى حق ذلك المخلوق، فلا يجوز له أخذ الأجرة منه ولا من غيره ممن وجب عليه أيضاً كفاية، ولعل من هذا القبيل تجهيز الميت وإنقاذ الغريق، بل ومعالجة الطبيب لدفع الهلاك))(4)، وقال السيد الحكيم (قدس سره): ((فالعمدة في حرمة أخذ الأجرة هنا ما قد يدعى من أن المستفاد من أدلة وجوب التجهيز أنه حق من حقوق

ص: 58


1- وسائل الشيعة: أبواب آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باب 41، ح6.
2- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب 30، ح1.
3- ورد في كلمات جملة من الأعلام ((إلا ما نص الشارع على تحريمه كالدفن)) (إيضاح الفوائد: 2/263، ونقله من دون تعليق عليه في جامع المقاصد: 7/181، المكاسب: 2/133) ولم نجد مثل هذا النص.
4- المكاسب: 2/137.

الميت على المكلفين الأحياء فهو مملوك له عليهم وليس مملوكاً للفاعل كي يمكن أخذ الأجرة عليه، أو ما يدعى من الإجماع على الحرمة))(1).

ومثل تعليم الزوجين صيغة النكاح وأداء الشهادة قال في جامع المقاصد: ((أما إلقاء الصيغة على المتعاقدين فلا يجوز أخذ الأجرة عليه إجماعاً لأنه من الواجبات الكفائية))(2)

وقال (قدس سره): ((وأما الشهادة تحملاً وأقامةً، فلأنها من الواجبات إما العينية أو الكفائية)).بل عموم الجاهل بالأحكام الشرعية لأفعاله لأن ((الظاهر انعقاد الإجماع على وجوب تعليم الأحكام مجاناً فيما كان محل الابتلاء))(3).

أقول: يمكن المناقشة في هذه الإجماعات لأن الظاهر أنها مدركية خصوصاً في مسألة تجهيز الميت ودفنه؛ لأن مستنده النكتة التي ذكروها وهو كونه حقاً للمخلوق ويناقش بأن هذا الوجوب لم يثبت على عامة المسلمين والظاهر من روايات الباب أنه موجّه إلى الولي أو يأذن هو لغيره وبه قال السيد المرتضى وصاحب الحدائق(4)

(قدس الله سريهما).

ولو سلمنا العموم فإنه غير كافٍ لإثبات مجانيته إلا أن يدل عليها دليل إذ لا مانع من الجمع بين كونه حقاً للغير واستحقاق الأجرة على الإتيان به بمقتضى احترام عمل المسلم، لذا لا نرى تهافتاً في الكلام لو صرّح في نفس دليل الوجوب بعدم المانع من أخذ العوض، فإن أعطي وإلا أجبر الطرف المقابل إن كان له مال وإلا فيبقى في ذمته كما في وجوب بذل الطعام في المخمصة.

ص: 59


1- مستمسك العروة الوثقى: 4/141.
2- جامع المقاصد: 4/37.
3- مستمسك العروة الوثقى: 6/229.
4- الحدائق الناضرة: 18/212.

فالنتيجة أن مجرد كونه واجباً أو حقاً لا يلزم منه المجانية إلا أن تثبت بدليل، وما عدا ذلك فإنه لا يمكن التعرف على المجانية فيجوز أخذ الأجرة للأصل، بل قرّب بعض الفقهاء جواز أخذ الأجرة حتى على أوضح الواجبات في كونها مجانية كالفرائض اليومية وقد تقدم التقريب في كلمة السيد الخوئي (قدس سره) (صفحة 45) وقال الشيخ المنتظري (قدس سره): ((إذا استأجر أحداً ليصلي صلاته في حضور أولاد المستأجر ليتعلموا كيفية الصلاة وآدابها فهذه منفعة محللة مقصودة))(1).

(الثالث) إن الإجارة على فعل واجب تقتضي جمع العوض والمعوض للأجير، وهذا ينافي مقتضى العقد فيكون باطلاً؛ لأن حقيقة الإجارة مبادلة منفعة معلومة بعوض معلوم قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((نعم لو حصل مانع خارجي كالجمع بين العوض والمعوض عنه ونحوه مما تكون المعاملة به سفهية عبثية ولو من جانب واحد اتجه المنع))(2).

أقول: يتحلل كلامه (قدس سره) إلى وجهين، أحدهما ما نحن بصدده والآخر هو الآتي إن شاء الله تعالى.ويرد عليه:-

1- إن فيه خروجاً عن محل البحث الذي هو مانعية الوجوب عن أخذ الأجرة، وليس منه افتراض بطلان العقد لتخلف شرط أو جزء.

2- تقدم في مواضع من هذا البحث أن كون متعلق الإجارة فعلاً واجباً على الأجير لا يعني عدم وجود منفعة فيه للمستأجر وتكون هي المعوض، فهو يقبض منفعة إزاء ما يبذله، وقد ذكرنا أمثلة لتقريب انتفاعه بقيام

ص: 60


1- دراسات في المكاسب المحرمة: 3/180.
2- جواهر الكلام: 22/118.

الأجير بما يجب عليه حتى في مثل الصلوات الخمس المفروضة.

بل لا يشترط في الإجارة أن يكون النفع عائداً للمستأجر حيث يمكن عوده للأجير نفسه أو لطرف ثالث كما لو آجره لخياطة ثوب غيره أو لكنس المسجد أو لخدمة طلبة العلوم الدينية والمهم وجود منفعة محللة مقصودة لدى العقلاء وهي متحققة.

(الرابع) ما احتمله الشيخ الأصفهاني (قدس سره) ونسبه إلى أستاذه –الشيخ الآخوند- في مبحث القضاء وهو أن بذل العوض بإزاء ما تعيّن فعله على الأجير لغو محض فلا يكون مشمولاً للعمومات(1).

أقول: ربما أراد صاحب الجواهر (قدس سره) بالعبثية والسفهية في ذيل كلامه السابق هذا المعنى.

وتقريب الوجه: أن العمل إذا كان واجباً فإن الأجير المكلف به ملزم بإتيانه ويجبر على فعله ولو من دون رضاه لوجوبه عليه شرعاً، وحينئذٍ تصبح الإجارة لغواً وعبثاً ولا جدوى منها، ويكون أخذ الأجرة على الواجب بلا مقابل.

وأجابه الأصفهاني بما مضمونه(2):

أن اللغوية إنما تكون عند اليقين بصدور العمل من المكلف لكن تعيّن العمل عليه شرعاً لا يساوق اليقين بصدوره منه إذ أن مجرد الإيجاب لا يلزم منه صدور الفعل، فلا لغوية حينئذٍ لو أوقع الإجارة معه لدفعه للعمل أو لتعجيله له.

ونضيف: أن الثمرة من الإجارة متحققة متحققة من خلال إيجاد حق مكتسب للمستأجر يقضي بإلزام الأجير بالواجب ويكون دافعاً ومحركاً إضافياً

ص: 61


1- مصباح الفقاهة: 1/716.
2- رسالة (أخذ الأجرة على الواجبات): 19.

للإتيان بالفعل كالدافع الذي يولده الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا قائل هناك باللغوية، ولا أدري كيف غفل القائلون باللغوية هنا عن إيجاب الأمر بالمعروف النهي عن المنكر باعتبار متعلقه واجباً تلقائي الحصول فتشريع الفريضة لغو بناءً على ما قالوه.نعم الفرق أن الدافع في المقام اكتسب بالإجارة واستحق هناك بالأمر والنهي، بل إن السلطة المكتسبة بالإجارة أقوى تنفيذياً من سلطة الأمر والنهي لأنها حق خاص بالمستأجر ومطلق لم يقيد بشيء وله مقاضاة الأجير عليه إذا لم ينفذ، بينما واجب الأمر والنهي عام لا يتعين به ولكل واحد من المكلفين أمره به وأنه مقيد بالشروط المذكورة للوجوب فيكون محدود القدرة على التنفيذ، وبذلك تصلح الإجارة كوسيلة لإقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(الخامس) منافاة أخذ الأجرة للإخلاص في المأمور به.

ويرد عليه: أنه لو تم فإنه أخص من المدعى لاختصاصه بالعبادات المشروطة بقصد القربة دون التوصليات وهو تفصيل فخر المحققين، وهو أعم من جهة أخرى لشموله للمستحبات التعبدية فأصبحت النسبة بين مانعية صفة الوجوب ومانعية صفة العبادية العموم من وجه.

ومن هذا الوجه نشأ بحث مستقل في إشكال أخذ الأجرة على الواجبات العبادية، ووُسّع إلى المستحبات بتقريب ((أنه يعتبر في دواعي امتثال العبادات كونها جهات قربية بحيث تنتهي سلسلة العلل والدواعي فيها بجميع حلقاتها إلى الله تعالى، ومتى كان فيها داعٍ غير قربي خرج العمل عن العبادية وعن تمحضه لله تعالى، وإن لم يكن الداعي غير القربي في عرض الداعي الإلهي))(1).

ص: 62


1- مصباح الفقاهة: 1/702.

وبتقريب آخر: ((إن دليل صحة الإجارة هو عموم «أَوْفُوا بِالعُقُوْدِ» ويستحيل شموله للمقام، لأن الوفاء بالشيء عبارة عن إتمامه وإنهائه، فالوفاء بعقد الإجارة هو الأتيان بالعمل المستأجر عليه أداءً لحق المستأجر وواضح أن هذا لا يجتمع مع الإتيان به أداءً لحق الله تعالى وامتثالاً لأمره، إذن لا بد من قصد أحد الأمرين: إما الوفاء بالعقد، أو الامتثال لأمر المولى، وحيث لا يعقل اجتماعهما في محل واحد فلا بد من رفع اليد من الأمر بالوفاء، فتصبح الإجارة بلا دليل على الصحة))(1).

وبتعبير مختصر إن العبادات يشترط في صحتها أن يؤتى بها بقصد القربة وأخذ الأجرة عليها ينافي القربة والإخلاص؛ لأن الداعي إلى الفعل سيكون أخذ الأجرة وليس الإخلاص، فيلزم من صحة الإجارة فسادها ((فالمانع حقيقة هو عدم القدرة على إيجاد الفعل الصحيح بإزاء العوض))(2).وسلّم الشيخ الأنصاري (قدس سره) بوجود الإشكال مطلقاً قال (قدس سره): ((مورد الإجارة لا بد أن يكون عملاً قابلاً لأن يوفى به بعقد الإجارة ويؤتى به لأجل استحقاق المستأجر إياه ومن باب تسليم مال الغير إليه وما كان من قبيل العبادة غير قابل لذلك))(3).

أقول: يكفي في الرد على هذه التقريبات وإثبات جواز أخذ الأجرة على العبادات في الجملة وقوعها في النصوص والفتاوى.

أما من النصوص ففي عدة طوائف من الروايات:

أولاها: ما دل على صحة النيابة في العبادات كأداء الصلاة والصوم والحج عن الأموات، بل الحج عن الحي كصحيحة عمار وعبد الله بن سنان عن

ص: 63


1- مصباح الفقاهة: 1/705.
2- المكاسب للشيخ الأنصاري (قدس سره): 2/127.
3- المكاسب: 2/129.

أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن أمير المؤمنين صلوات الله عليه أمر شيخاً كبيراً لم يحج قط ولم يطق الحج لكبره أن يجهّز رجلاً يحج عنه)(1).

ورُدّ هذا النقض بالفرق بين الموردين ((فالأجير إنما يجعل نفسه –لأجل استحقاق الأجرة- نائباً عن الغير في إتيان العمل الفلاني تقرباً إلى الله، فالأجرة في مقابل النيابة في العمل المتقرَّب به إلى الله التي مرجع نفعها إلى المنوب عنه، وهذا بخلاف ما نحن فيه؛ لأن الأجرة هنا في مقابل العمل تقرباً إلى الله لأن العمل بهذا الوجه لا يرجع نفعه إلا إلى العامل، لأن المفروض أنه يمتثل ما وجب على نفسه بل في مقابل نفس العمل فهو يستحق نفس العمل، والمفروض أن الإخلاص إتيان العمل لخصوص أمر الله تعالى، والتقرب يقع للعامل دون الباذل، ووقوعه للعامل يتوقف على أن لا يقصد بالعبادة سوى امتثال أمر الله تعالى))(2).

وأُجيبَ بأن ((هذا خلاف الواقع في الخارج، كيف؟ وإلا لزم الاستحقاق للأجرة من دون العمل أيضاً إذا قصد النيابة ولم يفعل شيئاً.

وإن أراد من ذلك النيابة في العمل التي لا تتحقق في الخارج إلا به فرجع إلى أخذ الأجرة على العمل إذ ليست النيابة شيئاً والعمل شيء آخر كما تفطن له في ما بعد))(3)

مضافاً إلى عدم تحقق الإخلاص –أي خلوص النية لله تعالى- على هذا فلا يصح على مبناه.

ص: 64


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب وجوب الحج، باب 24، ح1، 6.
2- المكاسب: 2/128.
3- حاشية السيد اليزدي على المكاسب: 1/135، والمورد المقصود في المكاسب: 2/145 قال (قدس سره): ((وليست النيابة عن الميت في الصلاة المتقرب بها إلى الله تعالى شيئاً ونفس الصلاة شيئاً آخر حتى يكون الأول متعلقاً للإجارة والثاني مورداً للإخلاص.

ثانيها: الروايات الكثيرة التي حثت على الإتيان بعبادات معينة كالصلاة والصوم بكيفيات مخصوصة أو مطلقة لحاجات دنيوية كسعة الرزق وطلب الولد وشفاء المرض وإزالة الهم وقضاء الحوائج ونحو ذلك، ولم يتوهم أحد منافاتها للإخلاص.

بل إن الآيات الكريمة والروايات الشريفة المتواترة التي تحث العباد على الطاعة وتجنب المعصية بذكر الثواب والعقاب تصلح للنقض على الإشكال، لأن الدافع للعبادة سيكون مصلحة راجعة إلى النفس وهي جلب المصلحة ودفع المفسدة، وأكثر عبادات الخلق من هذا القبيل كما في تصنيف أمير المؤمنين (عليه السلام).

وما قيل في التفريق بين ((الغرض الدنيوي المطلوب من الخالق الذي يتقرب إليه بالعمل، وبين الغرض الحاصل من غيره، وهو استحقاق الأجرة من جهة أن طلب الحاجة من الله سبحانه ولو كانت دنيوية محبوب عند الله فلا يقدح في العبادة بل ربما يؤكدها))(1)

لا يفيد لأن نفس الإشكال يأتي عليه لأن العامل لا يكون قاصداً للقربة في هذا الطلب بمعنى أن غرضه ليس امتثال أمر طلب الحاجة من الله، بل مجرد حصول المطلوب.

ثالثها: ما دل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بتقريب أن المعروف لو كان من العبادات ((والمكلف التارك كان غير منبعث عن أمر الله تعالى فأمره والده أو من يحتشم منه أو من يحبه ولا يرضى بمخالفته واقعاً، فأتى بالتكليف الإلهي وامتثل أمر الله إطاعة لوالده أو غيره، لا بد وأن تقع صحيحة، وإلا لزم أن يكون الأمر بالمعروف مُعدماً لموضوعه، بل موجباً لانقلابه بالمنكر، فإن إتيان العمل العبادي لغير الله من المنكرات. وليس المراد بالأمر بالمعروف

ص: 65


1- حكاه في مصباح الفقاهة: 1/708 عن الشيخ الأنصاري في المكاسب وعن غيره من الأعاظم كصاحب البلغة.

الموعظة الحسنة، بل المراد به وما هو الواجب الأمر المولوي لغرض البعث به، ولهذا لا يجب إذا لم يحتمل التأثير، فإن معه لا يمكن الأمر حقيقة.

وبالجملة لا شبهة في وجوب الأمر بالمعروف، فلا بد وأن يكون الانبعاث ببعث الآمر في طول الإتيان بالعمل عبادة وإطاعة لله تعالى غير مضرّ بالعبادية، وهو المقصود))(1).

رابعها: ما دل على وجوب طاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأولي الأمر، قال السيد الخميني (قدس سره): ((ويؤيد عدم مضريّة وقوع الشيء طاعة وامتثالاً مع عدم رجوع جميع السلسلة إلى المطاع أمر الله تعالى بإطاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأولى الأمر (عليهم السلام)، فلو خرج المأتي به بواسطة كونالغاية إطاعة أمر الله تعالى عن طاعة الرسول (صلى الله عليه وآله) وأولي الأمر (عليهم السلام) لزم امتناع تعلق الأمر بها لكونه معدماً لموضوعه.

وليس المراد بإطاعتهم أخذ الأحكام منهم أو العمل بالأحكام الشرعية الإلهية التي كانوا مبينين لها، لأن كل ذلك ليس إطاعة لهم، بل المراد إطاعة أوامرهم السلطانية الصادرة منهم بما هم حكام وسلاطين، كالأمر بالغزو والجهاد وغيرهما من شؤون السلطنة))(2).

وأما في الفتوى فلإجماعهم على صحة تعلق النذر أو العهد أو اليمين بالعبادات وصحة اشتراطها في العقود اللازمة فتصير لازمة بذلك من دون أن يستشكل في ذلك أحد ويتوهم منافاة إتيانها وفاءً بالنذر أو الشرط للإخلاص.

وقد ذكرت عدة تقريبات لإجابة الإشكال وتصحيح أخذ الأجرة على العبادات، نذكر منها:-

ص: 66


1- المكاسب المحرمة للسيد الخميني (قدس سره): 2/278-279.
2- المكاسب المحرمة للسيد الخميني (قدس سره): 2/279.

1- إن الأجير يستحق الأجرة بمجرد العقد وتشتغل ذمته بالعمل، فيكون إتيانه بالعمل لأجل إبراء الذمة وهو دافع لا ينافي الإخلاص، وليس أن الأجير يستحق الأجرة بالعمل حتى يكون إتيانه بالواجب لأجل تحصيل الأجرة(1).

أقول: هذا الجواب نافع في الجملة لكنه قد يخدش من عدة جهات:- أ- إن الأجير حينما يأتي بالعمل إبراءً للذمة بعد استحقاقه الأجرة بالعقد فإن غرضه الكامن في أعماقه تثبيت استحقاق الأجرة وعدم استردادها منه، فرجع الغرض إلى أخذ الأجرة وهو أمر غير قربي بحسب الفرض. ب- إن وجوب الوفاء بالإجارة أمر توصلي فكيف تتحقق العبادية بإتيان الفعل بقصده؟ إلا أن يوجه بجواب الإشكال الذي سنذكره (صفحة 69). ج_- النقض عليه بما لو كان العوض على نحو الجعالة فإنها لا تملك إلا بالعمل وليست هي كالإجارة ومع ذلك فإنه يقول فيها بالجواز ولذا لا بد فيها من التمسك بوجه آخر(2).

إن هذا العقد صحيح لأنه تام الأجزاء والشرائط فالمنفعة المحللة المقصودة للعقلاء موجودة، والأجير قادر على الإتيان به فإذا كان هذا الفرد وذاك غير1- قربي لمنافاته مع الإخلاص فنتيجته عدم صلاحيته للوفاء بمقتضى العقد من دون بطلانه، وعلى الأجير أن يأتي بفرد قربي غيره، نعم لو

ص: 67


1- ممن تبناه السيد الخوئي (قدس سره) في مصباح الفقاهة: 1/707، وفصّله في كتاب الإجارة (راجع الموسوعة الكاملة: 30/380).
2- كعدم اشتراط كون الداعي إلى الداعي القربي قربياً وقد رجع إليه في المصدر السابق: 30/381.

ادعي عدم الانفكاك بين أخذ الأجرة وعدم الإخلاص بحيث كانت المنافاة ذاتية بطل العقد لعدم إمكان الوفاء به والإتيان بمقتضاه لكن من البعيد القول باستحالة إتيان الأجير بفرد قربي لما استأجر عليه. وتأتي هنا أيضاً مناقشة من اشترط في صحة الإجارة بأن لا يكون الأجير مسلوب الاختيار بإيجاب أو تحريم شرعي عليه، وقد تقدمت مناقشته في الخامس من الموانع الذاتية.

2- إن الإجارة تعلقت بالعمل مشروطاً بقصد القربة، وهو عين ما تعلق به الأمر العبادي فلا تنافيها كما لو صلى قربة إلى الله تعالى في مكان معين لبرودته أو توضأ قربة إلى الله تعالى أو لأداء الصلاة وكان غرضه أيضاً من هذا العمل القربي التبريد والتنظيف فإنه لا ينافيه.

نعم لو كانت الأجرة بإزاء ذات الفعل من دون ملاحظة كونه قربياً وأتى الأجير بها على هذا النحو فلا تتحقق به القربة، لكن المفروض على خلافه لتعلق الإجارة بالفعل القربي. تأكد القصد القربي بالإجارة:

تأكُّد القصد القربي بالإجارة:

وإلى هنا يكون الجواب كافياً، لكن جملة من الأعلام تقدموا خطوة وقالوا بتأكد الوجوب والعبادية والإخلاص في المقام ((ووجهه أن أخذ الأجرة حينئذٍ صار سبباً لوجوبها عليه ومعه يتحقق الإخلاص في العمل لكونه حينئذٍ لمجرد الإطاعة والامتثال لله سبحانه وإن صارت الأجرة منشأ لتوجه الأمر الإيجابي إليه وهو واضح))(1).

وعلى هذا تكون ((الإجارة مؤكدة له باعتبار تسبيبها الوجوب

ص: 68


1- رياض المسائل: 8/181.

أيضاً))(1)، حيث أن ((متعلق الأمرين شيء واحد، فلا محالة يندك أحدهما في الآخر ويكون الوجوب مؤكداً))(2)، ((إذ بتعدد سبب الوجوب مع فرض كون الداعي كليهما يتأكدالإخلاص))(3).

وأشكل الشيخ الأنصاري (قدس سره) على تأكد الوجوب من جهة أن وجوب الوفاء بالإجارة توصلي فلا يؤكد اشتراط الإخلاص كما أنه لا يحققه من العامل لأن ما لا يترتب عليه أجر دنيوي أخلص مما يترتب عليه ذلك بحكم الوجدان(4).

ولكن هذا الإشكال غير تام لأن الأمر التوصلي –كالوفاء بالإجارة هنا- وإن لم يشترط فيه قصد القربة بمعنى أنه لا يعتبر في تحقق الامتثال قصد القربة، إلا أنه لا يعتبر فيه عدمه، فإذا أتى به بقصد الامتثال يكون عبادة قطعاً، فهذا التقسيم بين التعبدي والتوصلي ليس للتمايز بينهما وإنما لتصحيح الأعمال التي يؤتى بها من دون قصد القربة أو تقع لا إرادياً كتطهير الثوب.

وحينئذٍ نقول: إن قصد القربة لا ينفك عن العبادات الاستئجارية حين الامتثال لصدور الفعل منه بقصد طاعة الأمر الإلهي وعلى هذا فإنها تكون قربية.

وبتعبير آخر إن امتثال الأجير لما استأجر عليه من العبادات لا بد أن يكون بنية ويكون قربياً؛ لأن الدافع للامتثال ليس إلا أمر الله تعالى، وإلا كان يمكنه أن يدعي الامتثال أمام المستأجر من دون أن يؤدي الفعل، أو لا يأتيه تام الأجزاء والشرائط.

ص: 69


1- جواهر الكلام: 8/556، وقال مثله في مفتاح الكرامة: 4/92 القسم الخامس مما يحرم التكسب به.
2- مصباح الفقاهة: 1/707.
3- حاشية السيد اليزدي على المكاسب: 1/132، فقرة (185).
4- مكاسب الشيخ الأنصاري: 2/127.

وأشكل السيد الخميني (قدس سره) على تأكد الوجوب بالإجارة بما ملخّصه: أن الأجير ((إذا أوجد الصلاة وفاءً بإجارته وقلنا بصحة الاستئجار يكون مصداق الصلاة معنوناً بعنوانين: ذاتي هو الصلاة وعرضي هو الوفاء بالإجارة، وكذا في النذر وإطاعة الوالد ونظائرهما. وما كان هذا شأنه لا يمكن أن يكون مؤكداً؛ لأن موطن تعلق الأوامر موطن اختلاف الموضوعات والمتعلقات، وموطن اتحادها وهو الخارج لا يكون موطن تعلقها))(1).

أقول: هذا الإشكال وارد عليهم (قدس الله أرواحهم) بناءً على ما هو الصحيح من تعلق الأوامر بالطبائع لا بالأفراد أو قل بالعناوين لا بالمعنونات فموطن تعلق الأوامر وهي العناوين تكون فيها الموضوعات والمتعلقات مختلفة كما قربنا، وموطن اتحادها وهو الفعل الخارجي لا يكون متعلقاً للأوامر فكيف يتأكد الوجوب؟.

ولكن الذي يهون الخطب أن المتقرَّب به والمدعى تأكد الإخلاص فيه هو العمل في الخارج وهما متحدان فيه كما اعترف (قدس سره) وحينئذٍ يتحقق التأكد، فالإشكال يأتي على تعبيرهم بتأكد الوجوب، ولو عبّروا بتأكد الباعث والداعي لكان صحيحاً لأنموطنهما متحد، وكلاهما قربيان.

إن قلتَ: ((إن الأمر الإجاري متعلق بعنوان الوفاء بالعقد، وهو أمر توصلي؛ لعدم اعتبار العبادية في متعلقه، ولو قصد الامتثال به يتقرّب بعنوان امتثال أمر الوفاء بالعقد، ولا يعقل أن يكون مجرد ذلك موجباً لامتثال الأمر الصلاتي أو مقرّباً لأجل أمرها، بل لو تعبّد بالأمر الإجاري من غير التعبد بالأمر الصلاتي لا يصير مقرّباً مطلقاً، إذ لم يأت بمتعلق الإجارة ولم يمتثل الأمر الإجاري أيضاً، ومجرد اتحاد العنوانين في المصداق لا يوجب أن يصير إيجاد أحد العنوانين بداعوية أمره موجباً للتقرب بعنوان آخر متحد معه ولو لم يكن مأتياً

ص: 70


1- المكاسب المحرمة: 2/260.

به بداعوية أمره أو بداع قربيّ آخر مربوط به))(1).

أقول: مثاله: ما لو كان مكلفاً بغسل الجنابة وهو تعبدي ووجب عليه غسل مثله ولكن ليس تعبدياً بنذر أو بأمر من تجب طاعته فأتى به بداعي الثاني لا يجزئه عن الأول.

هذا ولكن لا يرد الإشكال لأننا لم نقل بكفاية أحدهما أو بدلية أحدهما عن الآخر حتى يتم ما ذكره (قدس سره) وإنما قلنا بإمكان الجمع بينهما وتأكدهما.

ما أورده المحقق النائيني (قدس سره) في تصحيح النيابة في العبادات الاستئجارية وهي تشترك مع ما نحن فيه من هذه الجهة، قال (قدس سره): ((إن فعل النائب فعل تسبيبي للمستأجر، وقصد المستأجر التقرّب في استئجاره كافٍ في العبادة))(2)، ((وبعبارة أخرى: العمل الصادر من الأجير له نسبتان: نسبة إلى الأجير باعتبار أنه مباشر له ونسبة إلى المستأجر باعتبار أنه مسبب له، فيصح إسناد العمل إلى كل واحد منهما وأن يقال لكل واحد منهما: أنه فاعل لهذا العمل، فله فاعلان: فاعل تسبيبي وفاعل مباشري. وفي وقوع الفعل على صفة العبادية يحتاج إلى قصد القربة من الفاعل، وهاهنا حيث لا يمكن قصد التقرب من الفاعل المباشر فيقصد الفاعل الآخر أي الفاعل المسبب أعني المستأجر ))(3). أقول: مثاله صحة قولنا: (فتح الأمير البلد) مع أن المباشر للفتح هو قائد العسكر، وكصحة التقرب ببناء المسجد مع أنه لم يباشر البناء وأن الباني المباشر لم يقصد إلا أخذ الأجرة وإنما صحّ قصد القربة بصدورها من الفاعل التسبيبي وهو الباذل للأموال.

ص: 71


1- المكاسب المحرمة: 2/262.
2- منية الطالب: 1/51.
3- القواعد الفقهية للسيد البجنوردي: 2/163.

وقد أجاب الشيخ النائيني (قدس سره) نقضاً من حيث ((أنه لا إشكال في1- صحة التبرع عن الغير، مع أن المتبرع عنه غافل عن فعل المتبرع فكيف يكون فعلُ النائب فعلَ المنوب عنه وكيف يقصد المتبرع القربة الكافية من المنوب عنه)).

وفيه: أن المستدل اكتفى بصدور قصد القربة من المستأجر كما يكتفي بصدوره من الأجير، وإنما يصح النقض لو اشترط صدورها من المستأجر خاصة، نعم قد يقال أن الانحصار متحقق فعلاً بتعذر صدور قصد القربة من الأجير للمانع الذي ذكروه.

وأجاب (قدس سره) حلاً بأن ((مجرد كون داعي العامل أمر المستأجر لا يجعل فعله مسبِّباً توليدياً، فإن المسبِّب التوليدي هو الذي لا يكون بين فعل الفاعل والأثر المترتب عليه واسطة اختيارية، نعم قد يطلق المسبِّب التوليدي في مثال الأمير لكنه بالعناية وخارج عن باب المسبِّب التوليدي))(1).

وبتعبير أوضح: إن اتصاف الفعل بكونه قربياً يتطلب تحقق هذا القصد بالمباشرة ومن نفس الفاعل ولا يصح بالتسبيب، ويتوسط فاعل مختار، فهو ليس كنسبة الفعل إلى فاعليه الطوليين.

وأما مثال بناء المسجد فهو أجنبي لأن قصد القربة فيه بنفس البذل وهي متحققة من الباذل.

عدم ورود الإشكال أصلاً لعدم لزوم المنافاة بين قصد القربة وأخذ الأجرة على العمل.

بيانه: أنه لا يشترط في سلسلة دواعي العمل الطولية أن تكون كلها لله تعالى، وإنما يشترط أن يكون الداعي المباشر المحرّك للفعل هو القربة

ص: 72


1- منية الطالب: 1/52.

إلى الله تعالى، أما الداعي إلى هذا الداعي فلا مانع من كونه جلب منفعة أو دفع مضرّة في الدنيا أو الآخرة، وإن البشر جميعاً –عدا من ندر- يعبدون الله تعالى طمعاً في جنته أو خوفاً من ناره أو لتحصيل مطلب معين وهكذا، وهذا لا ينافي الإخلاص ولا يضرّ بصحة العبادة، في الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (العباد ثلاثة: قوم عبدوا الله عز وجل خوفاً فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب فتلك عبادة الأجراء، وقوم عبدوا الله حباً له فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة)(1)

وأصلها مناجاة أمير المؤمنين1- (عليه السلام): (ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك)(2).

ويكون هذا المورد نظير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا أتى المأمور بالفعل عبادياً جامعاً للشرائط ولكنه كان بداعي الخوف من الآمر أو احترامه أو حبّه مراعاة للقوانين المعمول بها فلا إشكال في وقوعه صحيحاً لوقوع الداعي غير القربي في طول القربي، وتحقيق غرض الآمر.

نعم لو كان الداعي عرضياً ودلّ الدليل على فساد العبادة به لم تصح كالرياء الذي ورد فيه أنه لا يدخل عملاً إلا أفسده(3).

وقد اعتمد هذا الوجه جملة من المحققين على اختلاف في بيان التفاصيل، لكن المحقق النائيني (قدس سره)اعتبر هذا الجواب تعزيزاً للإشكال، قال: ((إنه لو كان هذا إشكالاً لكان أولى وأحق من أن يكون جواباً، فإنه لولا الأجرة لما حصل للعامل الداعي إلى إتيان الفعل لله سبحانه، فصار محرّكه إلى

ص: 73


1- وسائل الشيعة: 1/62، أبواب مقدمات العبادات، باب 9، ح1.
2- بحار الأنوار: 67/234، مرآة العقول: 8/89.
3- وسائل الشيعة: 1/70، أبواب مقدمات العبادات، باب 11، 12.

العمل بالآخرة هو الأجرة))(1)

((وبعبارة أخرى: في باب الدواعي الطولية الداعي الحقيقي والعلة الأصلية للعمل هو الداعي الأول فإنه هو المحرك للفاعل على فعله بحيث لو لم يكن لم يقدم على الفعل أصلاً. فإن اعترفت هيهنا أيضاً بأنه لو لم يكن أجرة في البين لما كان يقدم على هذا العمل فقد اعترفت بعدم تحقق الإخلاص ولعمري هذا واضح جلي))(2)

وذكر مثالاً لذلك من ((يحفر القناة لأجل الماء ويريد الماء لأجل الزرع ويزرع لأجل تحصيل الحنطة ويريد تحصيل الحنطة لأجل قوته وقوت عياله ففي الحقيقة العلة المحركة لحفر القناة ليس إلا قوت نفسه وعياله بحيث لو كان قوته وقوت عياله حاصلاً لم يقدم على الحفر أصلاً))(3).

أقول: إن هذه الوجوه إنما نذكرها لتفسير الجواز وفق القواعد لا للاستدلال عليه لأنه قد ثبت شرعاً بمقتضى الروايات الكثيرة المتقدمة، فالرد على هذه الوجوه لا يضر القول بالجواز.

وعلى أي حال فإن جواب هذا الإشكال نقضاً وحلاً:أما نقضاً فلأن من أمر عبده أن يطيع زيداً من الناس فالتزم العبد وأطاع زيداً فإنه يصدق عليه أنه مطيع لزيد وإن كانت طاعته تنتهي إلى طاعة سيده إلا أن هذا لا يلغي صدق طاعته لزيد فالداعي الأول لا يلغي الدواعي الطولية المتتالية

وأما حلاً فمن جهة ما قررناه في هذا الوجه من كفاية إضافة الفعل إلى الله تعالى وإن كان الداعي المحرك لهذا الفعل القربي غير الله تعالى كمحركية الفوز بنعيم الجنة والنجاة من آلام النار إلى فعل الواجبات وترك المحرمات

ص: 74


1- منية الطالب: 1/51.
2- القواعد الفقهية: 2/162.
3- القواعد الفقهية: 2/161.

باعتبارها أموراً مرتبطة بالله تعالى، ولو لم تكن مضافة إلى الله تعالى لما قصدها لذا فقد اجتنب خمر الدنيا والحور العين فيها ونحو ذلك فهو لم يطلبها لذاتها.

قال السيد الخميني (قدس سره): ((لا يعتبر فيها –أي العبادة- إلا كون العمل لله تعالى خالصاً بلا شركة شيء معه، فإذا صار شيء دنيوي سبباً لإيجاد عمل لله تعالى، ولا يكون في إتيان الفعل بداعي الله شريكاً وإن كان الإتيان بداعي الله معلولاً لداعي غير الله، يقع الفعل عبادة))(1).

واعتبر الواقع شاهداً على ذلك إذ ((لا يمكن حصول تلك المرتبة الرفيعة إلا لخلّص أولياء الله تعالى والمحبين المجذوبين له تعالى، بحيث كان تمام نظرهم إليه لا إلى غيره، وكان ما وراءه تعالى من الجنة وغيرها مغفولاً عنها، وهم غافلون عن غير الله ويشتغلون به عن غيره صلى الله عليهم.

وأما غيرهم من متعارف الناس فلا يكون محرّكهم إلا النتائج ومتعلقات الإضافات))(2).

((فلو فرضنا أن مفاتيح الجنة والنار بيد عدو الله الشيطان الرجيم والعياذ بالله، وكان هو معطي الجنة ومُدخل النار، وكانت طاعة الله تعالى وعصيانه بلا جزاء أصلاً، لكنه تعالى أمر أن يعبدوه بلا جزاء وأن لا يعصوه بلا عقاب على عصيانه، وأمر بمخالفة الشيطان ونهى عن طاعته، وكان الشيطان أمر بمخالفة الله تعالى ونهى عن طاعته، وأعطى للمخالفين له تعالى الجنة وأدخل المطيعين له تعالى النار، لعلم أولو الألباب أن المطيع لله تعالى على الفرض كالكبريت الأحمر أو أندر منه.

ولعمري أن هذا واضح لمن تأمل في غايات أفعاله وتدبر في حالات نفسه ومكائدها، وليس هذا معنى دقيقاً عرفانياً خارجاً عن فهم الناس، بل شيء يعرفونه مع التنبيه على المحرك الأصلي في الأعمال وتميّزه عن غيره)).

ص: 75


1- المكاسب المحرمة: 2/273.
2- المكاسب المحرمة: 2/275.

وأثار (قدس سره) منها وجداناً آخر نذكره للاستئناس بإفاداته قال (قدس سره): ((إن في الآيات والروايات ما تدل على أن للأعمال الحسنة آثاراً ولوازم في النشأة الآخرة، كظاهر قوله تعالى: «فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ» (الزلزلة:7).وقد ورد حديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أن هذه الآية أحكم آية في كتاب الله فعليه يكون ظاهرها مراداً بلا تأوّل. والظاهر منها أن عمل الخير بنفسه مورد الرؤية.

ويؤكده قوله: «يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ» (الزلزلة:6).

فيظهر منها أن الأعمال نفسها متجسدة مرئية فيها والناس ملتذ بها.

فلو فرض أن الآتي بالصلاة لله تعالى والمجيب لدعوة «أَقِمِ الصَلاةَ» إنما يأتي بها ويطيعه تعالى طمعاً للوصول إلى الصورة البهية اللازمة لعمله، فهل يمكن أن يقال: عمله باطل؟))(1).

نتيجة البحث في موانع أخذ الأجرة:

ونتيجة ما تقدم وجود الدليل على صحة أخذ الأجرة على العبادات وتقريب عدة وجوه لعدم منافاة ذلك للقربة، وأن المهم صدور الفعل مرتبطاً بالله تعالى، بغض النظر عن الداعي المحرك له وإن كان دنيوياً؛ لأن الله تعالى يريد صلاح العباد ويحرّك كل الدواعي لذلك ما دام لم يرد نهي عنه حتى جعل سهماً من الزكاة للمؤلفة قلوبهم الذين يجلبون للإسلام من خلال الأموال التي تُعطى إليهم واعتبر إسلامهم صحيحاً.

وبذلك ينتهي البحث في ما ذكروه من الموانع الذاتية والعرضية عن أخذ الأجرة على الواجبات، وقد اتضح عدم تمامية شيء منها، نعم من الواضح أن

ص: 76


1- المكاسب المحرمة: 2/277.

العمل حينما يكون مجرداً عن أخذ الأجرة أو أي مصلحة شخصية سواء كانت من قبيل جلب منفعة أو دفع مفسدة في الدنيا والآخرة فإن العمل يكون أخلص وأقرب إلى الله تعالى كما في تصنيف أمير المؤمنين (عليه السلام).

تتميم: في ختام البحث في الأدلة على حرمة أخذ الأجرة على الواجبات توجد عدة مطالب بها تمام البحث:

(الأول) ظاهر استدلالهم على بطلان الإجارة وحرمة أخذ الأجرة عليها أن مورد الحكم ما لو تعلقت الإجارة بنفس ما تعلق به الوجوب، أما إذا كانا متغايرين فلا مانع، ولهذا حصر الشيخ الأنصاري (قدس سره) الحرمة بما إذا كان الوجوب عينياً تعيينياً، هذا ولكن لما كان الوجوب متعلقاً بالعناوين، وهو عالم الاختلاف بينها، فإنه لا يبقى مورد لحرمة أخذ الأجرة.

وهذا المطلب يمثل جانباً من جوانب تنقيح الموضوع وتحرير محل النزاع الذي أشرنا إليه في بداية البحث، وبنفس الوقت يصاغ دليلاً على جواز أخذ الأجرة على الواجبات لتغاير متعلقي الإجارة والوجوب دائماً، قال السيد الخوئي (قدس سره): ((لا مانع من صحّة الإيجار المتعلّق بأحد الفردين فيما إذا كان الواجب تخييريّاً،لوضوح تغاير المتعلّقين، فإنّ الواجب إنّما هو الجامع بين الفردين، ومورد الإجارة خصوص أحدهما المباح اختياره للمكلّف، فلم يكن من أخذ الأُجرة على الواجب ولا ينسحب إليه شيء من وجوه المنع المتقدّمة كما لا يخفى.

كما لا مانع من صحّته فيما إذا كان الواجب كفائيّاً، لأنّ موضوع الوجوب إنّما هو طبيعي المكلّف –كما أنّ متعلّقه هو الطبيعي في الواجب التخييري- لا خصوص هذا الفرد، ومن ثمّ يسقط التكليف بامتثال واحد وإن أثم الكلّ بترك الجميع، فالشخص بما هو شخص لا يجب عليه شيء، فلا مانع له من أخذ الأُجرة)).

ص: 77

أقول: ناقشنا هذا التصور للوجوب الكفائي عند البحث عن حقيقة الوجوب الكفائي.

ثم قال (قدس سره): ((كما لا مانع من صحّته أيضاً في الواجب العيني التعييني فيما إذا كانت له أفراد طوليّة أو عرضيّة وقد وقعت الإجارة على اختيار صنف خاصّ منها، لما عرفت من تعلّق الوجوب بالجامع، وكون المكلّف مخيّراً في التطبيق على أيّ منها شاء بالتخيير العقلي –لا الشرعي- والمفروض تعلّق الإجارة بحصّة خاصّة، فحصل التغاير بين المتعلّقين ولم يجتمعا في مورد واحد، فينحصر مورد الإشكال بما إذا كان الواجب عينيّاً تعيينيّاً وكان متعلّق الإجارة هو متعلّق الوجوب على سعته، أو بما إذا لم يكن له فرد إلاّ ما تعلّقت به الإجارة. وهذا نادر التحقّق جدّاً، بل هو نادر في نادر))(1).

أقول: من هذا يُعلم النظر في ما قاله (قدس سره) عن تأكد الوجوب من أن ((متعلق الأمرين –أي الإجارة والوجوب – شيء واحد فلا محالة يندكّ أحدهما في الآخر ويكون الوجوب مؤكداً))(2).

هذا ولكن بعض الأعلام لا يرى لهذا الشرط وجهاً لأن موضوع المسألة منحصر بما لو تعلقت الإجارة بما تعلق به الوجوب فمورد التغاير خارج عن محل البحث، قال (قدس سره): ((موضوع البحث هو أن يكون معروض الوجوب ومتعلق الإجارة شيئاً واحداً، بحيث لو قلنا بالجواز يحصل للأجير أمران: أحدهما: سقوط الواجب عن ذمته، والثاني: استحقاقه للأجرة))(3).

أقول: أخذ هذه الفكرة من كلام السيد اليزدي (قدس سره) في المطلب التالي، وربما كان وجهه مبنياً على وضع الألفاظ للفرد الصحيح وليس للأعم،

ص: 78


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 30/378-379، كتاب الإجارة.
2- مصباح الفقاهة: 1/707.
3- القواعد الفقهية للسيد البجنوردي: 2/171.

فالواجب في عنوان المسألة يراد به ما يبرئ الذمة، أو أنهم استظهروا من عنوان المسألة أن المراد بالواجب المقابل للأجرة في عقد الإجارة منحصر بما يتحقق به الامتثال أي أن العقد يقع على إتيان المكلف بما يبرئ ذمته من الواجب المطابق للمأمور به.ويرد عليه أن هنا مأمورين بهما: أحدهما من قبل المولى بصفته واجباً، وهذا ظاهر في الصحيح وهو مورد تطبيق كبرى حمل اللفظ على الصحيح، والآخر من قبل المستأجر لتعلق عقد الإجارة به، وهذا ليس مورداً لإجراء الكبرى المذكورة لارتباطه بغرض المستأجر، ولاينحصر في الصحيح إذ قد يتحقق غرض المستأجر بغير الفرد الصحيح الموجب لبراءة الذمة، لذا قلنا بإمكان التفكيك وسيتضح أثر ذلك في المطلب التالي إن شاء الله تعالى.

(الثاني) هل تحصل بهذا الفعل براءة ذمة الأجير من الواجب عليه الذي قبض الأجرة عليه؟ قال الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((ثم إن صلح ذلك الفعل المقابل بالأجرة لامتثال الإيجاب المذكور أو إسقاطه به أو عنده، سقط الوجوب مع استحقاق الأجرة، وإن لم يصلح استحق الأجرة وبقي الواجب في ذمته لو بقي وقته، وإلا عوقب على تركه)).

ووضّح السيد اليزدي (قدس سره) كلام الشيخ الأنصاري (قدس سره) قائلاً: ((أما الامتثال فكما إذا استأجره لدفن الميت عن نفسه –أي الأجير- فدفنه كذلك، وأما الإسقاط به –أي الفعل- فكما إذا استأجره للدفن نيابة عنه، فإنه لو أتى به عنه يسقط عنه الوجوب بسبب هذا الفعل، وأما السقوط عنده فلم أفهم المراد منه))(1).

ص: 79


1- حاشية السيد اليزدي (قدس سره) على المكاسب: 1/145، التعليقة: 198.

أقول: التمثيل بهذا المورد ليس صحيحاً لأن المفروض عدم صحة الإجارة عنده على دفن الميت وتجهيزه فلا يتحقق بها امتثال لعدم مطابقة المأتي به للمأمور به، مضافاً إلى أن افتراض النيابة خروج عن محل البحث الذي هو في الإجارة على ما يجب على نفس الأجير، وليس النيابة على ما يجب على غيره وإن ترتب على فعله سقوط الوجوب عنه، كما لو استأجره للنيابة عن والد الأجير الميت والأجير هو ولده الأكبر.

هذا لكن أصل الإشكال يرجع إلى مشكلة في تعبير الشيخ (قدس سره) لذا وصفه البعض بالاضطراب أو بالغموض، وسيشير إليه المعلّق، وإذا أردنا أن نسير مع التعبير كما هو فيمكن فهم مراد الشيخ (قدس سره) بتصور أن الحالات ثلاثة تترتب عليها الفقرات الثلاثة المذكورة فتارة يسمح المستأجر للأجير أن ينوي به إتيان الواجب عن نفسه فيأتي به الأجير كذلك فيتحقق الامتثال ويستحق الأجرة كما لو أمره بتطهير المسجد بقصد امتثال أمر المولى ففعل، فيكون ممتثلاً للأمر الوجوبي ومستحقاً للأجرة لأن وجوب الوفاء بالإجارة توصلي.

وتارة يطلب المستأجر من الأجير الإتيان بالفعل نيابة عنه، فيفعل، فإنه يستحق الأجرة لقيامه بالفعل ويسقط الوجوب عنه بهذا الفعل لكونه كفائياً.

وقد يسقط الوجوب عند الفعل لا لامتثاله من قبل الأجير أو نيابة عن المستأجر، بل لارتفاع موضوعه كما لو كان الفعل مقيداً بالمجانية وأتى به مقابلأجرة، أو طهر المسجد بماء مغصوب فإن الامتثال لم يتحقق؛ لعدم مطابقة المأتي به للمأمور به، وكذلك فإن الوجوب لم يسقط به لأنه ليس فرداً صالحاً للامتثال الذي يسقط به الوجوب، لكن الوجوب سقط عنده لانتفاء موضوعه.

أما قول الشيخ (قدس سره): ((وبقي الواجب..)) فقد أشكل عليه السيد اليزدي (قدس سره) من جهة عدم تعقل استحقاقه الأجرة على إتيان الواجب مع فرض بقائه في ذمته بعد الإتيان وقال (قدس سره) في بيان ذلك:

ص: 80

((إذا فُرض كون الواجب مما يمكن استحقاق الأجرة به مع كونه باقياً في ذمته، فلا بد أن يفرض فيما كان ذا أفراد بحيث يجب على كل منهما إيجاد فرد؛ فأتى بفرد منه نيابة عن المستأجر، فإنه حينئذٍ يبقى عليه الإتيان بفرد آخر، لكن على هذا يشكل جعله من قبيل أخذ الأجرة على الواجب؛ إذ الفرد الواجب عليه باقٍ بعد، وما أتى به عن غيره ليس من الواجب عليه، ولا ينبغي الإشكال فيه بناءً على قابليته للنيابة، بل لو فرض من قبيل الحج بعد الاستطاعة –حيث إنه يجب عليه في العام الأول- إذا فرض أنه عصى وصار أجيراً لغيره لا يكون من قبيل المقام))(1).

أقول: أخذ الفكرة منه بعض الأعلام وأسس الكبرى التي أوردناها له في المطلب السابق، وبنى عليها الإشكال على ذهاب الشيخ (قدس سره) إلى ((إمكان التفكيك بين الاستحقاق للأجرة وسقوط الواجب عن عهدة الأجير))(2)، وذكر (قدس سره) في موضع آخر منشأ الإشكال، قال: ((فتصوير استحقاق الأجير للأجرة مع عدم سقوط الواجب في غاية الإشكال؛ لأن الإجارة على الفرض وقعت على إتيان ما هو واجب على نفسه، فلو أتى ما هو الواجب على نفسه سقط الوجوب واستحق الأجرة بناءً على الجواز وإلا لم يستحق الاجرة أيضاً، فالتفكيك بينهما لا نعقله))(3).

أقول: يمكن تصوّر التفكيك بين متعلقي الوجوب والإجارة، كما لو تعلق غرض المستأجر بخصوصية في فعل الواجب لا ترتبط بإبراء الذمة وكون الفرد المأتي به صحيحاً، كما لو استأجره لتعليم أولاده الصلاة أو ليتعلم هو الصلاة الخاشعة فأتى بها الأجير تامة الأجزاء والشرائط لكن رياءً فإنه استحق الأجرة لأنه وفى

ص: 81


1- حاشية السيد اليزدي (قدس سره) على المكاسب: 1/145، التعليقة: 199.
2- القواعد الفقهية: 2/172.
3- القواعد الفقهية: 2/170.

بعقد الإجارة وحقق غرض المستأجر لكن ذمته لم تبرأ من الواجب لبطلان العمل ووجب عليه إعادة الصلاة امتثالاً للأمر المتعلق بها، وإنما صحّ التفكيك يبن المتعلقين؛ لأن الأوامر تتعلقبالطبائع وهي كليات ذات أفراد عديدة، أما الإجارة فتتعلق بالأفراد والخصوصيات فالمتعلقان مختلفان.

وقد اتضح لنا الفرق بين الإجارة والنيابة لتعلق الثانية بالفرد الصحيح الموجب لإبراء ذمة المنوب عنه.

(الثالث) أخذ الأجرة على الواجبات النظامية:

اشارة

انتهينا في البحث السابق إلى أن الوجوب بذاته لا يمنع من أخذ الأجرة وكذا العبادية غير منافية، إلا أن يوجد مانع عرضي يُلحظ في كل مورد بحسب دليله والقرائن المتوفرة فيه، لذا لا حاجة إلى البحث في الواجبات النظامية؛ لوجود إجماع على جواز أخذ الأجرة ((توصلاً إلى ما هو المقصود من الأمر بها، وهو انتظام أمر المعاش والمعاد، فإنه كما يوجب الأمر بها كذا يوجب جواز أخذ الأجرة عليها، لظهور عدم انتظام المقصود بدونه، مع أنه عليه الإجماع نصاً وفتوى))(1).

وكذا لا إشكال في الجواز عند من اختار التفصيل في الحكم على نحو يؤدي إلى القول بالجواز هنا كما لو ذهب إلى الجواز في الواجبات التوصلية أو الكفائية، والواجبات النظامية منها.

إلا أن مشهور الأصحاب لما ذهبوا إلى الحرمة مطلقاً وجدوا أنفسهم في مشكلة، قال الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((ثم إن هنا إشكالاً مشهوراً، وهو أن الصناعات التي يتوقف النظام عليها تجب كفاية؛ لوجوب إقامة النظام، بل قد يتعيّن بعضها على بعض المكلفين عند انحصار المكلف القادر فيه، مع أن

ص: 82


1- رياض المسائل: 8/180.

جواز أخذ الأجرة عليها مما لا كلام فيه، وكذا يلزم أن يحرم على الطبيب أخذ الأجرة على الطبابة؛ لوجوبها عليه كفاية، أو عيناً كالفقاهة))(1).

ثم قال (قدس سره): ((وقد تُفصّيَ منه بوجوه:

أحدها- الالتزام بخروج ذلك بالإجماع والسيرة القطعيين)) وقد التزم (قدس سره) به ولذا اختار التفصيل في المسألة بلحاظ قيام الدليل على الجواز، قال (قدس سره): ((إن الواجب إذا كان عينياً تعيينياً لم يجز أخذ الأجرة عليه ولو كان من الصناعات فلا يجوز للطبيب أخذ الأجرة على بيان الدواء أو تشخيص الداء(2)، وأماأخذ الوصي الأجرة على تولي أموال الطفل الموصى عليه الشامل بإطلاقه لصورة تعيّن العمل عليه فهو من جهة الإجماع والنصوص المستفيضة(3)

على أن له أن يأخذ شيئاً))(4).

وفيه: إن عدم الجواز إن كان مبنياً على وجه ثبوتي كالتنافي الذاتي بين الوجوب المقتضي للتملك وأخذ العوض أو كونه آكلاً للمال بالباطل فلا ينفع فيه الدليل الإثباتي.

وبتعبير آخر: إن أدلة المنع تكون حينئذٍ آبية عن التخصيص والتقييد؛ لأن أخذ الأجرة على الواجبات إذا كان أكلاً للمال بالباطل أو أن الواجب مملوك لله تعالى فلا يجوز تمليكه لأحد ونحو ذلك مما قالوه فإنه لا يقبل التخصيص بموارد يجوز فيها ذلك، وإنما يجب إعادة قراءة أدلة تلك الموارد وفهمها على نحو

ص: 83


1- المكاسب: 2/137.
2- إلا أنه بعد ذلك جوّز له ((أخذ الأجرة على حضوره عند المريض إذا تعيّن عليه علاجه، فإن العلاج وإن كان معيناً عليه إلا أن الجمع بينه وبين المريض مقدمة للعلاج واجب كفائي بينه وبين أولياء المريض، فحضوره أداء للواجب الكفائي إلا أنه لا بأس بأخذ الأجرة عليه)) (المكاسب: 2/142) وفيه ما لا يخفى.
3- وسائل الشيعة: 12/184، أبواب ما يُكتسب به، باب 72.
4- المكاسب: 2/141.

لا يتنافى مع ذلك الملاك الثبوتي.

وفصّل الشيخ الأصفهاني (قدس سره) بين وجوه الاستدلال فقال: ((نعم إذا كان العمل مملوكاً لله تعالى وقلنا بأن تمليك مال الغير بإذنه صحيح صح استكشاف الإذن من الشارع المالك للعمل في تمليك العمل، بحيث يكون العوض للعامل))(1).

ويجاب حلاً بأن هذا تهديم لأصل الدليل إذ لا يبقى تملك الله تعالى للفعل بإيجابه في ذمة العبد مانعاً عن أخذ الأجرة كما أراده المستدل ويرجع الدليل إلى وجه آخر وهو قيام الدليل الخاص على المجانية أو عدمها.

ويجاب نقضاً بما ورد في قوله (قدس سره): ((وأما إذا كان إيجاب العمل للغير موجباً لاستحقاق الغير له فلا يصح أصلاً، سواء أكان إذن من مالكه أم لا، وسواء أكان بعوض أو بلا عوض فإن تمليك مال الغير له محال لأنه من باب تحصيل الحاصل)).

وإن كان الوجه إثباتياً كالإجماع أو أي دليل تعبدي فيمكن تخصيصه بالإجماع والسيرة ولزوم اختلال النظام ونحو ذلك، ولا محل للإشكال حينئذٍ، ولكن هذا الوجه لم يثبت كما تقدم مضافاً إلى أن الفرض بعيد بأن يكون أخذ الأجرة حكماً تعبدياً بأمر الشارع وليس من باب المعاوضة.ثانيها- ما في جامع المقاصد من ((أن كل ما كان من الواجبات الكفائية إنما يجوز الاستئجار عليه عند عدم وجوبه بحال)) ((ويمكن حمله على ما إذا عُلِم أو ظُنَّ قيام من فيه كفاية، أو كان المؤجر ممن لا تجب عليه أصلاً))(2).

وفيه:-

1- إنه تسليم بالإشكال في حال عدم العلم أو الظن المقتضي للوجوب.

ص: 84


1- رسالة أخذ الأجرة على الواجبات: 87.
2- جامع المقاصد: 7/182.

2- إنه مبني على كون الوجوب الكفائي وجوباً مشروطاً بعدم قيام الغير، وقد أثبتنا بطلانه في البحث عن حقيقة الوجوب الكفائي.

3- إن مجرد قيام وتصدي من به الكفاية لا يسقط الوجوب إلا إذا أتى بالفعل، فإذا فعل فلا يبقى موضوع حتى نسأل عن جواز أخذ الأجرة عليه.

4- إن ((ظاهر العمل والفتوى جواز الأخذ ولو مع بقاء الوجوب الكفائي بل ومع وجوبه عيناً بالانحصار))(1).

وحكى الشيخ الأنصاري (قدس سره) وجوهاً(2)

أخرى نذكرها بنفس الترتيب:

ثالثها- ((ما في مفتاح الكرامة من أن المنع مختص بالواجبات الكفائية المقصودة لذاتها، كأحكام الموتى وتعليم الفقه، دون ما يجب لغيره كالصنائع))(3)

وكذا عن الرياض.

أقول: هذا ليس تقريباً لحل الإشكال وإنما هو قول بالتفصيل أخرج المورد من دائرة الحرمة وعلى صاحبه أن يقدّم الدليل على هذا القول. قال الشيخ (قدس سره): ((وفيه: أن هذا التخصيص إن كان لاختصاص معاقد إجماعاتهم أو عنوانات كلامهم، فهو خلاف الموجود منها، وإن كان لدليل يقتضي الفرق فلا بد من بيانه))(4).

مضافاً إلى ما حكي من الجواب عن بعض الأعاظم، قال (قدس سره): ((إن فعل الصنائع بالنسبة إلى ما يترتب عليها من حفظ النظام من قبيل المقدمة

ص: 85


1- المكاسب: 2/138.
2- المكاسب: 2/138-141.
3- مفتاح الكرامة: 4/85، 92 (من المصدر)، رياض المسائل: 5/37.
4- المكاسب: 2/138-141.

المتحدة مع ذيها في الوجود، كالإلقاء في النار والإحراق، والضرب والإيلام، ومثل هذه المقدمة ليس لها وجوب، بل هناك وجوب واحد نفسي، إذ لا معنى لإيجاب الشيء للتوصل إلىنفسه ونتيجته أن أخذ الأجرة حينئذٍ من باب أخذ الأجرة على الواجب النفسي الأصلي دون الواجب الغيري التبعي))(1).

وفيه: بناءً على تعلق الأحكام بالعناوين فإن هذه عناوين متغايرة حتى لو كانت متحدة في الوجود، فيصح التفريق المذكور.

رابعها- ((أن المنع عن أخذ الأجرة على الصناعات الواجبة لإقامة النظام يوجب اختلال النظام، لوقوع أكثر الناس في المعصية بتركها أو ترك الشاق منها والالتزام بالأسهل، فإنهم لا يرغبون في الصناعات الشاقة أو الدقيقة إلا طمعاً في الأجرة وزيادتها على ما يبذل لغيرها من الصناعات، فتسويغ أخذ الأجرة عليها لطف في التكليف بإقامة النظام)).

أقول: هذا الوجه مأخوذ من كلام صاحب الرياض المتقدم (صفحة 68) وهو صحيح فإن منع أخذ الأجرة لا يبقي حافزاً للناس كي يتصدوا للواجبات النظامية لحاجتهم إلى المال كي يكفوا به أنفسهم وعيالهم، إلا إذا افترضنا قيام مجتمع تتوفر فيه كل حاجات الإنسان مجاناً.

والإشكال الذي يأتي عليه ما ذكرناه في جواب الوجه الأول من أن أدلتهم على الحرمة آبية عن التخصيص فلا بد أن يعدلوا عن القول بالحرمة مطلقاً ثم يقدموا مثل هذه التقريبات.

وأجاب الشيخ قائلاً: ((وفيه: أن المشاهَد بالوجدان أن اختيار الناس للصنائع الشاقة وتحملها ناش عن الدواعي الأخر غير زيادة الأجرة، مثل عدم قابليته لغير ما يختار، أو عدم ميله إليه، أو عدم كونه شاقاً عليه، لكونه ممن نشأ

ص: 86


1- حكي عن حاشية الميرزا محمد تقي الشيرازي: 1/153.

في تحمل المشقة، ألا ترى أن أغلب الصنائع الشاقة من الكفائيات كالفلاحة والحرث والحصاد وشبه ذلك لا تزيد اجرتها على الأعمال السهلة؟)).

أقول: هذا الجواب لا يضرّ بأصل هذا الوجه لما قلناه في تقريب الصحة سواء كانت هذه الواجبات شاقة أو لا.

خامسها- ((أن الوجوب في هذه الامور مشروط بالعوض. قال بعض الأساطين(1)

– بعد ذكر ما يدل على المنع عن أخذ الأجرة على الواجب-: أما ما كان واجباً مشروطاً فليس بواجب قبل حصول الشرط، فتعلق الإجارة به قبله لا مانع منه ولو كانت هي الشرط في وجوبه، فكل ما وجب كفاية من حرف وصناعات لم تجب إلا بشرط العوض بإجارة أو جعالة أو نحوهما، فلا فرق بين وجوبها العيني، للانحصار، ووجوبها الكفائي، لتأخر الوجوب عنها وعدمه قبلها، كما أن بذل الطعام والشراب للمضطر إن بقي على الكفاية أو تعين يستحق فيه أخذ العوض على الأصح، لأن وجوبه مشروط، بخلاف ما وجب مطلقا بالأصالة كالنفقات، أو بالعارض كالمنذورونحوه، انتهى كلامه رفع مقامه.

وفيه: أن وجوب الصناعات ليس مشروطاً ببذل العوض، لأنه لإقامة النظام التي هي من الواجبات المطلقة، فإن الطبابة والفصد والحجامة وغيرها – مما يتوقف عليه بقاء الحياة في بعض الأوقات - واجبة، بذل له العوض أم لم يبذل)).

أقول: ربما كان قصد صاحب الوجه أن العمل ليس مشروطاً بالمجانية أي أنه يقبل اشتراط الأجرة، لكنه صاغه بعبارة اشتراط الوجوب بالأجرة وهو يعلم بأن الوجوب مطلق ولو لم يبذل بإزائه الأجر، فيكون هذا المعنى قريباً من الوجه الآتي.

ص: 87


1- الشيخ كاشف الغطاء في شرحه على القواعد: 76.

سادسها- ((أن وجوب الصناعات المذكورة لم يثبت من حيث ذاتها، وإنما ثبت من حيث الأمر بإقامة النظام، وإقامة النظام غير متوقفة على العمل تبرعاً، بل تحصل به وبالعمل بالأجرة، فالذي يجب على الطبيب لأجل إحياء النفس وإقامة النظام هو بذل نفسه للعمل، لا بشرط التبرع به، بل له أن يتبرع به، وله أن يطلب الأجرة، وحينئذ فإن بذل المريض الأجرة وجب عليه العلاج، وإن لم يبذل الأجرة – والمفروض أداء ترك العلاج إلى الهلاك - أجبره الحاكم حسبة على بذل الأجرة للطبيب، وإن كان المريض مغمى عليه دفع عنه وليه، وإلا جاز للطبيب العمل بقصد الأجرة فيستحق الأجرة في ماله، وإن لم يكن له مال ففي ذمته، فيؤدى في حياته أو بعد مماته من الزكاة أو غيرها.

وبالجملة، فما كان من الواجبات الكفائية ثبت من دليله وجوب نفس ذلك العنوان، فلا يجوز أخذ الأجرة عليه، بناء على المشهور، وأما ما أمر به من باب إقامة النظام، فإقامة النظام تحصل ببذل النفس للعمل به في الجملة، وأما العمل تبرعاً فلا، وحينئذ فيجوز طلب الأجرة من المعمول له إذا كان أهلاً للطلب منه، وقصدها إذا لم يكن ممن يطلب منه، كالغائب الذي يعمل في ماله عمل لدفع الهلاك عنه، وكالمريض المغمى عليه.

وفيه: أنه إذا فرض وجوب إحياء النفس ووجوب العلاج، لكونه مقدمة له، فأخذ الأجرة عليه غير جائز))(1).

أقول: وبتعبير آخر: إن كون وجوب التطبيب مقدمياً لا يغيّر من الحكم لعموم حرمة أخذ الأجرة على الواجبات بحسب الفرض، ومنه يُعلم النظر في تعليقة السيد اليزدي (قدس سره) بقوله: ((بل يمكن دعوى أن خلافه باطل، لانتفاعه بعمل الغير –الذي هو محترم- بلا دفع عوض، وهو يعدّ من الأكل بالباطل، إذ

ص: 88


1- المكاسب: 2/141.

الأكل في كل شيء بحسبه))(1)، إلا أن يكون كلامه مستقلاً عن هذا السياق ومبنياً على مختاره وهو عدم حرمة أخذ الأجرة على الواجبات.سابعها- ما أورده المحقق النائيني (قدس سره) وبناه على شرطه في صحة عقد الإجارة من كون متعلقها مقدوراً للأجير وتحت سلطنته فعلاً وتركاً، ووجهه التفريق بين تعلق الوجوب بفعل المكلف بالمعنى المصدري وبين تعلقه به بالمعنى الاسم المصدري.

قال (قدس سره): ((إن الواجب على الأجير هو بذل عمله، أي تعلق التكليف أو الوضع بالمعنى المصدري، لا بنتيجة عمله التي هي المعنى الاسم المصدري، فإن الطبيب وإن وجب عليه الطبابة عيناً إلا أنه مالك لعمله، والأجرة تقع بإزاء العمل الذي هو مناط مالية المال، لا بإزاء قوله من حيث الإصدار، وهما وإن لم يكونا أمرين خارجيين متمايزين إلا أنهما شيئان اعتباراً، فللشارع التفكيك بين وجوب المصدر وملكية اسم المصدر، وليس الطبيب والصباغ والخياط كالقاضي، فإن في باب القضاء تعلّق التكليف بنتيجة عمله وهو فصله الخصومة، وهذا إذا خرج عن ملكه فلا يجوز له الأجرة عليه. وأما الصباغ ونحوه فما وجب عليه هو بذل عمله لا أثره))(2).

وبيّنه بعض تلامذته بقوله: ((لو تعلق الوجوب بجهة إصدار فعل عن المكلف لا بما هو الصادر – أي كان المطلوب منه والذي يلزم به هو أن يصدر عنه هذا الفعل وأن لا يمتنع عن الاشتغال به وإلا فنفس الفعل وذاته يقع للفاعل ولا يخرج بهذا الطلب عن حيطة سلطانه - فلا يمنع عن أخذ الأجرة عليه لأن المفروض أن المطلوب في هذا القسم هو اشتغال المكلف بالفعل وعدم امتناعه عنه، وهذا هو الذي ألزم به فما خرج عن تحت قدرته في عالم التشريع ليس إلا

ص: 89


1- حاشية السيد اليزدي على المكاسب: 1/149، التعليقة (209).
2- منية الطالب: 1/46.

صرف الاشتغال وعدم الامتناع عن العمل، وأما نفس العمل الصادر فليس بمطلوب فلم تخرج عن ملكه وحيطة سلطانه فيكون كوجوب بيع الحنطة مثلاً وعدم جواز احتكاره في باب الأموال، فكما أنه هناك وجوب صدور البيع وعدم جواز الاحتكار لا يخرج الحنطة عن ملكه وحيطة سلطانه فكذلك هاهنا وجوب صدور العمل عنه لا يخرج ذات العمل عن ملكه وسلطانه، فيجوز أخذ العوض على العمل الصادر لا على جهة الإصدار.

فما هو الواجب شيء – أي جهة الإصدار والمعنى المصدري - وما هو يؤخذ العوض عليه شيء آخر أي نفس الصادر والمعنى الاسم المصدري.

هذا كله فيما إذا تعلق الوجوب بالمعنى المصدري كجميع الواجبات النظامية التي بتركها عن الجميع وعدم اشتغال من به الكفاية بها يتحقق اختلال النظام.

وأما لو تعلق الوجوب بما هو الصادر أي تعلق بما هو الفعل بالمعنى الاسم المصدري فيخرج ذات الفعل ونفس العمل الصادر عن تحت قدرته تشريعاً ويكون ملزماً بإتيانه، وليس له أن يتركه ولا يأتي به بل يجبر على الفعل إن أراد الترك من باب الأمر بالمعروف))(1).أقول: يرد عليه (قدس سره):-

1- إن هذا التقريب غير مستوعب لأن جملة من موارد جواز أخذ الأجرة يراد بها المعنى الاسم المصدري كإرضاع الأم لظاهر قوله تعالى: «فَإنْ أرضَعنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أجُورَهُنَّ فَرِيضَةً» (الطلاق:6) أو كعمل الوصي حيث يظهر من الروايات أن الأجرة على العمل، وقد تقدم ذلك (صفحة 53).

ص: 90


1- القواعد الفقهية: 2/176-177.

2- إن المانع عن أخذ الأجرة عنده (قدس سره) هو عدم السلطنة والقدرة على الفعل فعلاً وتركاً إذا كان واجباً، وإذا كان السبب واجباً ولا يصح تعلق الإجارة به، فإن المسبَّب عنه –وهو المعنى الاسم المصدري- يكون غير مقدور له فعلاً وتركاً بالتبع له.

3- ((لا معنى محصّل لعدم بخله عن الطبابة عملاً إلا فعل الطبابة))(1)، فلا ثمرة في هذا التفريق.

ثامنها- وهو قريب من سابقه، حاصله ((أن الواجب كفاية فيها ليس هو العمل سواء أراد الغير أم لا كما في الواجبات الكفائية أو العينية الأخرى، بل الاستعداد له بنحو القضية الشرطية، بحيث لو أراده الطالب لوجده، وهذا لا ينافي مع أن يكون الطلب له بأجرة لا مجاناً، فالوجوب هنا وجوب تحصيل العمل بنحو القضية الشرطية لا الفعلية، أي لو طلبه المستأجر ودفع أجره لكان موجوداً، ومثله لا ينافي صحة الإجارة، وإنما المنافي لها –على القول ببطلان الإجارة على الواجبات – الوجوب الفعلي على كل تقدير، سواءً أراده المستأجر أم لا))(2).

ص: 91


1- رسالة أخذ الأجرة على الواجبات للشيخ الأصفهاني: 50.
2- كتاب الإجارة للسيد محمود الهاشمي: 2/290.

نتيجة البحث وخلاصة الاستدلال على الجواز

تحصل من مجموع البحث جواز أخذ الأجرة على الواجبات حتى العبادية منها، لوجود المقتضي وعدم المانع.

أما المقتضي فأمور:-

1- عمومات وإطلاقات الوفاء بالعقود والإجارة وتداول المال بالتراضي، وقد أدّى الأجير عملاً محترماً ووفى بمقتضى العقد فحرمانه من الأجر ظلم وأكل للمال بالباطل بلحاظ حرمانه.

2- النصوص الدالة على الجواز في واجبات عديدة ذكرناها كأخذ الأم الأجرة على إرضاع ولدها اللباء، وأخذ الوصي الأجرة على عمله والواجبات النظامية وغيرها، ولا يمكن فرضها استثناءً من القول بعدم الجواز وتخصيصاً للحرمة؛ لعدم صحة ماذكروه من تقريبات الاستثناء باعتبر أن ملاكات الحرمة آبية عن التخصيص وإنما هي نقض على عدم الجواز وكاشفة عن مقتضى القاعدة وهو الجواز.

3- اختلاف متعلقي الوجوب والإجارة دائماً وشرط الحرمة وحدة المتعلقين، وقد تقدّم بيان ذلك بالتفصيل.

4- دخول المورد في محرمات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بكل الوسائل المتاحة لأن بحثنا في الواجبات وهي داخلة في المعروف، ومن تلك الوسائل بذل العوض سواءً على نحو الإجارة أو الجعالة لحث الآخرين على فعل المعروف واجتناب المنكر ما لم يرد نهي عنه والمفروض عدمه، وبذل هذه الحوافز والمكافئات لجلب الناس إلى الهداية والصلاح أمر معروف من سيرة الشارع المقدّس كجعل المؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة لحثّهم على الإسلام وهو أسلوب ناجح لإقامة هذه الفريضة.

ص: 92

5- أصالة صحة ما تعارف عليه الناس من معاملات وتراضوا عليه ما لم يرد نهي من الشارع؛ لأن دور الشارع المقدس في المعاملات ترشيد وتهذيب وإمضاء ما تعارف عليه الناس والمفروض عدم ثبوت ما يمنع من هذه الإجارة.

أما عدم المانع فلعدم تمامية جميع التقريبات التي ذكروها لحرمة أخذ الأجرة على الواجبات حتى العبادات.

نعم لو ورد دليل على الحرمة في موردٍٍ ما اختُص الحكم بذلك المورد.

وبتطبيق هذه الكبرى على مسألتنا نستنتج عدم وجود مانع من ارتزاق الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من بيت مال المسلمين أو استيجاره للقيام بهذه الوظيفة من قبل ولي الأمر.

نعم إذا فرض استيجاره من قبله فليس له تأجير نفسه لغيره لعدم جواز أن يؤجر نفسه من شخصين مستقلين لعمل واحد بأن يأخذ في قباله أجرتين.

وعرفنا من خلال هذه النتيجة إمكان اعتماد دفع العوض عن القيام بالواجب كوسيلة تحفيزية لإقامة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ص: 93

البحث الثالث: المشاركة في السلطة لإقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

اشارة

تُبحث هذه المسألة في كتاب المكاسب المحرمة بعنوان الولاية للجائر، والبحث في هذه المسألة يؤسس لحل إشكالية أثارت جدلاً واسعاً ومواقف متباينة لفقهاء الإمامية زادهم الله شرفاً وهي ثنائية المقاطعة والموالاة أو الإيجابية والسلبية في التعاطي مع السلطات الحاكمة، المقاطعة التي قد تصل إلى المواجهة المسلحة والعمل على إزالة النظام الحاكم، والموالاة التي قد تصل إلى حد التفريط ببعض المبادئ الثابتة.

ويرد ذكر هذه العلاقة في أبواب عديدة من الفقه كاشتراط وجود السلطان العادل في وجوب إقامة صلاة الجمعة، وجواز شراء ما يأخذه السلطان تحت عنوان الزكاة والخراج والمقاسمة، وإجزاء دفع الزكاة له ونحو ذلك، ومنها ما نحن فيه وهي ولاية بعض الأمور له.

ومن الواضح فقهياً –تبعاً للنصوص- تقسيم السلطان إلى عادل وجائر، وهم (قدس الله أرواحهم) يستعملون المصطلحين من دون أن يعطوا تعريفاً واضحاً لكلٍ منهما بحسب اطلاعي القاصر أكيداً، فهل هذا التقسيم بلحاظ انتمائه العقائدي إلى مذهب الحق وعدمه، أم بلحاظ سيرتهما في الحكم العادل فيكون السلطان العادل منيكفل العدالة الاجتماعية للشعب بغض النظر عن الاعتبار الشرعي، كما يتراءى من بعض قوانين الأنظمة السياسية المتحضرة التي تقترب كثيراً من هذه الناحية من تعاليم الإسلام حتى قال بعضهم: ذهبت إلى الغرب فوجدت إسلاماً ولم أجد مسلمين، وعدت إلى الشرق فوجدت مسلمين ولم أجد إسلاماً، أم بلحاظ آخر. لذا ينبغي تحديد المراد منهما أولاً لأنه شرط في جملة من الأحكام الفقهية كالجهاد وأعمال ولاية الفقيه وإقامة صلاة الجمعة

ص: 94

وإجراء الحدود الشرعية، وسنختصر الكلام لأن محل التفصيل عند البحث في ولاية الفقيه، ومن ثم بيان المطالب المرتبطة بالبحث ضمن جهات:

الجهة الأولى: في المراد بالسلطان العادل والجائر والأصل في مَن له الولاية والحكم والسلطة

اشارة

يتوقف تحديد المراد على تأسيس الأصل في المسألة، وهو يقتضي عدم ولاية أحد على أحد؛ لأن الله تعالى خلق البشر أحراراً متساوين، فكل واحد مستقل في إرادته مسلّط على نفسه ومسؤول عن تصرفاته، ولا يحق لأحد أن يحكم على أحد، بل يكون فيه ظلم وتعدي على الآخرين وسلب لحقوقهم وإرادتهم، من كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنه الحسن (عليه السلام): (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً)(1)، بتقريب أن الخضوع للسلطة شكل من أشكال الرق، كما ورد هذا المعنى في الزوجية.

نعم لله تعالى الولاية المطلقة على خلقه لأنه خالقهم ومالكهم ورازقهم ومدبر شؤونهم وحكمه نافذ فيهم.

قال تعالى: «إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ» (الأنعام:57).

وقال تعالى: «فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ» (غافر : 12).

وقال تعالى: «أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ» (الأنعام : 62).

وقال تعالى: «مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً» (الكهف : 26).

ولما كانت أحكام الله تعالى إنما تصل إلينا عن طريق الأنبياء والرسل (عليهم السلام) فقد أُمرنا بطاعتهم باعتبارين:

ص: 95


1- نهج البلاغة: 3/57، الكتاب (31).

أحدهما: كونهم مبلغين عن الله تعالى ومبينين لأحكامه.

ثانيهما: كونهم ولاة أمور الأمة بتفويض الله تعالى، وتصدر منهم أوامر السلطة والولاية وتجب طاعتهم بإذن الله تعالى على هذا النحو.

ولهم بالاعتبار الأول دور إخباري طريقي كاشف، والثاني موضوعي إنشائي، فطاعتهم ليست شيئاً آخر غير طاعته تبارك وتعالى، وقد قرن الله طاعة رسوله (صلى الله عليه وآله) بطاعته في آيات كثيرة.ثم أمر النبي (صلى الله عليه وآله) باتباع الأئمة الهداة المعصومين (عليهم السلام) من أهل بيته من بعده، قال تعالى: «أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ» (النساء:59)، وقال تعالى: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ» (المائدة:55)، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (إن الناس كلهم أحرار ولكن الله خوّل بعضكم بعضاً)(1)، وفي يوم الغدير أخذ النبي (صلى الله عليه وآله) إقرار الأمة على هذا الاستحقاق للولاية حينما أشهدهم على أنفسهم (ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم) فقالوا: بلى، فقال (صلى الله عليه وآله): (من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه) وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (لأن الأئمة منا مفوَّض إليهم)(2).

وهذا الاستحقاق واضح حتى لدى أعدائهم وما ولوغهم الوحشي في دماء أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم إلا لعقدتهم الباطنية التي يشعرون بها تجاه استحقاقهم (سلام الله عليهم)، وقد اعترف به بعضهم كالخليفة الثاني لعبد الله بن العباس لكنه اعتذر بأن قريشاً كرهت أن تجتمع النبوة والخلافة لبني

ص: 96


1- الكافي: 8/69، الروضة: ح 68.
2- بصائر الدرجات: 384، الجزء الثامن، باب 5، ح3.

هاشم، وكهارون العباسي الذي قال لولده المأمون عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام): ((أنا إمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر وموسى بن جعفر إمام حق والله)) أي بالسيف والمال.

وبعد انتهاء زمن الحضور والقيادة المباشرة للأئمة المعصومين فوضوا (عليهم السلام) الصلاحيات الممكنة إلى نوابهم من المجتهدين الجامعين للشرائط، ومن تلك الصلاحيات ولاية أمر الناس، كما في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) السابق وبيّن الأئمة (عليهم السلام) من هم المخوّلون وشروطهم، فالنبي (صلى الله عليه وآله) يستمد شرعيته من الله تعالى، والأئمة (عليهم السلام) من النبي (صلى الله عليه وآله)، والمجتهدون من الأئمة (عليهم السلام)، ويُبحث هذا المطلب تفصيلاً في مسألة ولاية الفقيه.

فأول شرط للاتصاف بعنوان السلطان العادل هو الانتماء الشرعي لهذا الخط المبارك المتصل بالله تعالى من رسوله إلى الأئمة المعصومين (عليهم السلام) إلى العلماء الجامعين لشرائط ولاية أمر الناس في زماننا الحاضر، الذين فوّض إليهم الأئمة (عليهم السلام) هذا المنصب ويتطلب مواصفات نظرية وعملية أزيد مما يذكر في شروط مرجعية الإفتاء.وقد لخّصتْ رواية تحف العقول المشهورة في المكاسب عن الإمام الصادق (عليه السلام) من ينطبق عليهم عنوان السلطان العادل بقوله (عليه السلام): (ولاية ولاة العدل الذين أمر الله بولايتهم على الناس)(1).

ورواية الدعائم عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) (الإمام المنصوب من قبل الله عز وجل ومن أقامه الإمام من ولاة العدل) إلى آخر الحديث الآتي.

والشرط الثاني: هو العمل بمقتضى الأحكام الشرعية وتحرير القوانين والأنظمة على طبقها، والسعي لتطبيقها وتنفيذها وإقامتها على أرض الواقع، في رواية تحف العقول المتقدمة عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (فوجه

ص: 97


1- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب ما يُكتسب به، باب 2، ح1.

الحلال من الولاية ولاية الوالي العادل، وولاية ولاته بجهة ما أمر به الوالي العادل بلا زيادة ولا نقصان).

فانطباق عنوان الوالي العادل مشروط بالالتزام بحدود الشريعة بلا زيادة ولا نقصان، ولعل العلامة (قدس سره) لاحظ هذين الشرطين معاً حين وصف قسمي السلطان، قال (قدس سره): (السلطان على ضربين، أحدهما: سلطان الحق العادل، والآخر: سلطان الجور الظالم)(1)، أما النظام السياسي العادل وشكل الدولة والسلطة الذي يحكم الناس وينظم أمور حياتهم فيحدّده السلطان العادل بحسب ما يناسب أحوال الناس.

وكل من ولي أمور الناس وتسلط عليهم وأنفذ فيهم أحكامه من دون أن يستمد شرعيته من هذه السلسلة المباركة فهو سلطان جائر –بحسب المصطلح- وإن أقام نظاماً عادلاً في الحكم، وليس له فقهياً ما فُوِّض إلى السلطان العادل، قال الله تعالى: «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ» (القصص:68) وقال تعالى: «اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ» (الأنعام:124) وقال تعالى: «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً» (الأحزاب:36) وقال تعالى: «وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَ_ئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ» (المائدة:44) «وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَ_ئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (المائدة:45) «وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَ_ئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» (المائدة:47).

ومن الثوابت في مدرسة أهل البيت أن ولاية أمر الأمة والتصرف في شؤون الناس والحكم من حقوق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ومن يفوضونه من الفقهاء الجامعين لشرائط الولاية، وقد حمّلوا (عليهم السلام)

ص: 98


1- منتهى المطلب: 15/455.

الأمة مسؤولية إعادة الحق إلى أهله كالذي قام به أمير المؤمنين (عليه السلام) حينما حمل السيدة الزهراء (عليها السلام) ودار على المهاجرين والأنصار وصرّحوا بهذا الاستحقاق في مناسبات كثيرة نقلتها الروايات ومنها:-1- قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في الخطبة الشقشقية: (أما والله لقد تقمصها فلان وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى) إلى أن قال (عليه السلام): (فصبرت وفي العين قضى وفي الحلق شجى أرى تراثي نهباً)(1)، ومحل الاستدلال في أكثر من موضع، وقد صرّح بكون الخلافة والولاية حق له ورثه من رسول الله (صلى الله عليه وآله).

2- ما ورد في كتاب الإمام الحسين (عليه السلام) إلى أهل البصرة طالباً منهم النصرة: (أما بعد فإن الله اصطفى محمداً صلى الله عليه وآله على خلقه وأكرمه بنبوته واختاره لرسالته، ثم قبضه الله إليه، وقد نصح لعباده وبلّغ ما أرسل به، وكنا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته وأحق الناس بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومنا بذلك فرضينا، وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية ونحن نعلم أنا أحق بذلك الحق المستحق علينا ممن تولانا)(2).

3- رواية علي بن أبي حمزة عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيها: (لولا أن بني أمية وجدوا من يكتب ويجبي لهم الفيء ويقاتل عنهم، ويشهد جماعتهم لما سلبونا حقنا)(3).

ص: 99


1- نهج البلاغة: 50، الخطبة (3).
2- تأريخ الطبري: 5/357، البداية والنهاية: 8/157، الكامل: 2/535.
3- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب ما يُكتسب به، باب 47، ح1.

4- ما ورد في رواية الحسن بن الحسين الأنباري عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، قال: (كتبت إليه أربعة عشرة سنة أستأذنه في عمل السلطان)(1)، بتقريب أن الاستئذان لا يكون إلا من صاحب الحق.

5- ومثلها ما أوردها الشيخ المفيد في جامع أحاديث الشيعة أيضاً عن الشيخ المفيد في الروضة عن الفضل بن عبد الرحمن الهاشمي قال: (كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام أستأذنه في أعمال السلطان) الحديث وسيأتي في مجموعة الروايات إن شاء الله تعالى.

6- ما في جامع أحاديث الشيعة عن المجموع الرائق عن صفوان بن مهران قال: (كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) إذ دخل عليه رجل من الشيعة فشكا إليه الحاجة، فقال له: ما يمنعك من التعرض للسلطان فتدخل في بعض أعماله؟ فقال: إنكم حرمتموه علينا، فقال: خبّرني عن حق السلطان لنا أو لهم؟ قال: بل لكم، قال: أهُمُ الداخلون علينا أم نحن الداخلون عليهم؟ قال: بل هم الداخلون عليكم، قال: فإنما هم قوم اضطروكم فدخلتم في بعض حقكم، فقال: إن لهم سيرة وأحكاماً، قال (عليه السلام): أليس قد أجرى لهم الناس على ذلك؟ قال: بلى، قال: أجروهم عليهم في ديوانهم وإياكم وظلم المؤمن).

أقول: لاحظ قوة ارتكاز هذه القضية في أذهان شيعتهم ومواليهم.

7- في بصائر الدرجات واختصاص المفيد عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: من أحللنا له شيئاً أصابه من أعمال الظالمين فهو له حلال؛ لأن الأئمة منا مفوّض إليهم فما أحلوا فهو حلال وما حرّموا فهو حرام)(2).

ص: 100


1- المصدر نفسه، باب 48، ح1.
2- بصائر الدرجات: 384، الجزء الثامن، باب 5، ح3، الاختصاص: 330.

أقول: قوله (عليه السلام): (وما حرموا) أي وما لم يحلّوه، واستعمل التعبير للمقابلة، وستأتي روايات أخر وغيرها بإذن الله تعالى.

وفي ضوء ما تقدم فإنه لا ينظر إلى حكم فلان وفلان ممن تقمصوا الخلافة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) على أنه سلطان عادل مهما قيل عن عدالة النظام الذي أقاموه، وكذا حكم عمر بن عبد العزيز الذي وصفه محبّوه بالعدل وإن كان يذكر له رفع سبّ أمير المؤمنين (عليه السلام) على المنابر(1)؛

لأن هذه السلطنة غصب من صاحب الحق وتصرف غير مأذون فيه فأساسها باطل مبني على الظلم والجور ولا ينفع معها محاولات إقامة العدالة، كمن يسرق ويتصدق بما سرق طلباً للأجر.

ولرفع الاستغراب نقول: أنه ورد مثل هذا التصنيف في القضاء الذي هو من شؤون الولاية فقد ورد النهي عن التحاكم إلى قضاة الجور مطلقاً مع أن المتحاكم قد يكون صاحب حق وهم أيضاً قد يعطونه حقه، ومن ذلك ما ورد بعدة طرق في الكافي والخصال والفقيه والمقنعة والتهذيب عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: (القضاة أربعة، ثلاثة في النار وواحد في الجنة: رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة)(2).

أقول: محل الشاهد الصنف الثالث إذ لم ينجه حكمه بالحق لأنه حكم بغير علم وإن طابق حكمه الواقع وهذا تعبير عن عدم كونه أهلاً للقضاء الذي هو من وظائف ولي الأمر فالتصدي للولاية بغير استحقاق أجدر بهذه العقوبة وإن طابق حكمه الواقع.

ص: 101


1- معجم رجال الحديث: 14/47 وقد نقل كلمة الإمام السجاد (عليه السلام) فيه.
2- وسائل الشيعة: كتاب القضاء، أبواب صفات القاضين باب 4، ح6.

فائدتان:

الأولى: يُطلق عنوان السلطان العادل على الفقهاء الجامعين لشرائط ولاية أمر الأمة المشمولين بأدلة النيابة العامة في زمان الغيبة، ولا تشمل كل مجتهد له أهلية الإفتاء؛لأن العنوان صريح في أهلية ممارسة السلطة والحكم مضافاً إلى صريح تعريف الإمام الصادق (عليه السلام) في رواية تحف العقول المتقدمة وكذا آيات الولاية ورواياتها، فمن كان من الفقهاء لا يرى ثبوت الولاية للفقيه كيف يُعطاها وهو لا يعترف بها؟

ويكون الإطلاق واضحاً حينما تثنى الوسادة لأحدهم، ويمكن للحاذقين منهم أن يؤسسوا لهم وضعاً ومشروعاً سياسياً مناسباً ينتزعون فيه بعض حقهم في الولاية والسلطة حتى في ظل السلطة الوضعية القائمة، وتفصيله في البحث عن النظام السياسي الإسلامي.

وقد أقام عدد من أساطين الفقهاء (قدس الله أرواحهم) مثل هذا الوضع، وقد برر الشيخ كاشف الغطاء (قدس سره) هذا التعاطي الإيجابي لهم مع السلطات الحاكمة بقوله: ((لأن الولاية لهم من قبل الله وإنما أدخلوا أنفسهم تحت هذا الاسم لينالوا بعض منصبهم ليستوفوا بعض حقهم كما يُستعان بالظالم لاستنقاذ الحقوق، فمن كانت ولايته من الأئمة بإذن خاص كابني يقطين وبزيع والنجاشي(1)

ونحوهم، أو عامة كعلم الهدى والخواجة نصير الدين والمحقق الثاني والبهائي والمجلسي ونحوهم يدخلون في ولاة إمام العدل))(2).

ص: 102


1- كان علي بن يقطين ومحمد بن بزيع وزيرين لملوك بني العباس في عهد الإمامين موسى بن جعفر وعلي الرضا (عليهما السلام) والنجاشي والياً لهم على الأهواز في زمان الإمام الصادق (عليه السلام).
2- شرح القواعد للشيخ كاشف الغطاء: 97.

ولا يطلق عنوان السلطان العادل الذي تترتب عليه الآثار الفقهية على الحاكم والسلطان الذي ينصبه ولي الأمر شرعاً، نعم ليس هو من مصاديق السلطان الجائر، قال الشيخ كاشف الغطاء (قدس سره): ((ولو نَصب الفقيه المنصوب من الإمام بالإذن العام سلطاناً أو حاكماً لأهل البيت عليهم السلام لم يكن من حكام الجور كما كان ذلك في بني إسرائيل فإن حاكم الشرع والعرف كليهما منصوبان من الشرع))(1).

أقول: فيه إشارة إلى قول الله تعالى: «إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ، وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً» (البقرة : 246-247)، ونحوها، فالنبي نصب حاكماً مع وجوده بينهم.ونقل صاحب الجواهر (قدس سره) كلام أستاذه مستشهداً به على سعة عنوان السلطان العادل إلا أنه علق بقوله: ((وإن كان فيه ما فيه))(2).

أقول: لعله لما فيه من المجازفة وأنه أقرب لما نحذر وأفوت لما نرجو من هؤلاء السلاطين كما أثبتت التجارب التأريخية حيث أخذوا الشرعية من الفقهاء ثم انقلبوا عليها وتنصّلوا عن مسؤولياتهم وواجباتهم.

الثانية: لا فرق في إطلاق عنوان (السلطان الجائر) على من تصدى لولاية أمر الأمة بغير حق ومستند شرعي سواء أكان كافراً أم مسلماً وسواء أكان مخالفاً لأئمة الحق أو منتسباً لهم كبعض الحكام الشيعة، قال المحقق الأردبيلي في الاستدلال بقول الله تعالى: «وَلاَ تَرْكَنُواْ إلى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ» (هود:113): ((لعل المراد ب_ «الَّذِينَ ظَلَمُوا»: حكام الجور وسلاطينه الذين

ص: 103


1- نفس المصدر السابق: 99.
2- جواهر الكلام: 22/156.

يجعلون أنفسهم قائمين مقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمة (صلوات الله عليهم من بعده))(1)، وكلامه (قدس سره) مطلق، وورد في كلماته (قدس سره) ((حاكم جور مؤمن))(2) فلا يمنع كونه معتقداً للحق من إطلاق عنوان الجائر عليه، وقال الشيخ كاشف الغطاء (قدس سره) في حرمة الولاية للجائر: ((مسلماً أو كافراً، مؤمناً أو مخالفاً)).

ولا شك أن عنوان السلطان الجائر كلي مشكك له مستويات بحسب قربهم من الحق والعدل تبدأ ممن يعتقد الحق وولاية أهل البيت (عليهم السلام) ويتصدى للحكم والسلطة وولاية أمور المسلمين من دون أن يستند إلى حجة شرعية، وهو يظن أنه يحسن صنعاً، وتنتهي بالطواغيت والمستكبرين الذين أهلكوا الحرث والنسل واتخذوا مال الله دولاً وعباده خولاً.

ونتيجة البحث في الجهة الأولى باختصار أن السلطان العادل هو المعصوم (عليه السلام) في زمانه، أما في زمان الغيبة فهم الفقهاء الجامعون لشرائط ولاية أمر الأمة وقيادتها ولهم أهلية السلطة على الناس بالإذن العامة للنيابة عن المعصوم، ولا يكفي فيه شرائط الإفتاء، والسلطان العادل هو الذي يأمر بإقامة الجمعة والجهاد ونصب القضاة وإجراء العقوبات ومنح الشرعية للحكام المؤهلين بعد أخذ التعهدات عليهم بالعمل ضمن الحدود المرسومة لهم، ونحو ذلك من الصلاحيات الممنوحة له.

أما السلطان الجائر فهو الذي لا يملك مستنداً شرعياً للحكم وممارسة السلطة وإن لم يكن جائراً بالمعنى العرفي أي ليس ظالماً مستبداً، مع الاعتراف بأن جماعة في حكومة السلطان الشرعي غير المعصوم قد ترتكب أخطاء ومظالم خلاف الحق كغيرالشرعي، لكن الفرق بينهما من جهة أن من طلب الحق فأخطأه ليس كمن طلب الباطل فأدركه(3).

ص: 104


1- مجمع الفائدة والبرهان: 8/64.
2- نفس المصدر: 8/68.
3- كلمة لأمير المؤمنين (عليه السلام) قالها في النهي عن قتل الخوارج بعده.

الجهة الثانية: حكم الولاية للسلطان العادل

الولاية للسلطان تعني العمل ضمن الجهاز الحكومي للسلطة ومثّل لها صاحب الجواهر (قدس سره) ((بالولاية للقضاء أو النظام والسياسة أو على جباية الخراج أو على القاصرين من الأطفال أو غير ذلك أو على الجميع))(1).

ولا خلاف ولا إشكال في أن حكم الولاية للسلطان العادل هو الجواز بالمعنى الأعم، وفي رواية تحف العقول عن الإمام الصادق (عليه السلام) (فوجه الحلال من الولاية ولاية الوالي العادل، وولاية ولاته بجهة ما أمر الله به الوالي العادل بلا زيادة ولا نقصان، فالولاية له والعمل معه ومعونته وتقويته حلال محلّل)(2).

بل إن هذه الولاية راجحة لما فيها من المعاونة على البر والتقوى، والانضمام إلى المشروع الإلهي الذي يقوده ولي الأمر الذي أمر الله تعالى بطاعته(3)

والاستجابة «لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ» (الأنفال:24)، وتحقيق ما علّمنا الإمام المهدي (عجل الله فرجه) أن ندعوا به (وتجعلنا فيها –أي الدولة الكريمة- من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك) والدولة الكريمة هي المؤسسة التي يقودها ولي الأمر الشرعي سواء كان في السلطة أو خارجها كما في الحديث الشريف (الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا)(4).

ص: 105


1- جواهر الكلام: 22/155.
2- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب ما يُكتسب به، باب2، ح1.
3- في كتاب (الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام: 13، ح14) عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (لَعمل الإمام العادل في رعيته يوماً واحداً أفضل من عبادة العابد في أهله مائة عام).
4- رواه الفريقان، فمن كتب العامة مسند أحمد: 3/3 و 62، سنن الترمذي: 5/614، ح 3768، تأريخ بغداد: 11/90، كنز العمال: 12/112، ح 34246. ومن كتب الإمامية علل الشرائع: 1/211، دعائم الإسلام: 1/37، وذكر العلامة المجلسي في البحار: 43/291 أن أهل القبلة اجتمعوا عليه.

ونعلّق هنا على إطلاق هذا الرجحان المذكور في كلمات الفقهاء الشامل لكل أحد، إذ لا يصحّ اندفاع كل شخص لتولي أمر من أمور المسلمين رغبة في هذا الرجحان، وإنما يجب اشتراط اتصاف المتصدي بالأهلية المناسبة للوظيفة التي يرادإشغالها كوصفي الحفيظ والعليم في تصدي النبي يوسف (عليه السلام) لأمور الخزينة والمالية، وكوصفي القوي الأمين الذين وردا في قصة النبي موسى الكليم (عليه السلام) ومعنى القوي القادر على القيام بالمسؤولية التي يكلّف بها، ومن لا يحرز في نفسه ذلك فلا يكون تصديه للولاية راجحاً بل مضراً. وفي رواية عامية أن (أبا ذر سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله) الإمارة ((وفي رواية أخرى عن أبي ذر: ناجيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليلاً حتى الصبح، فقلت: يا رسول الله: أمِّرني)) فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنها أمانة وإنها يوم القيامة حسرة وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها)(1).

وقد تجب الولاية للسلطان العادل ((عيناً (كما إذا عينه إمام الأصل) الذي قرن الله طاعته بطاعته، (و لم يمكن دفع المنكر أو الأمر بالمعروف إلا بها) مع فرض الانحصار في شخص مخصوص فإنه يجب عليه حينئذٍ قبولها بل تطلبها والسعي في مقدمات تحصيلها حتى لو توقف على إظهار ما فيه من الصفات أظهرها، كل ذلك لإطلاق ما دلّ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتجب مقدماته كما أنه يجب السعي فيها إلى أن يحصل العجز من غير فرق بين ما كان من فعل الغير وعدمه))(2).

ص: 106


1- كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام: 11، ب1، ح6.
2- كلام المحقق الحلي في الشرائع وشرح صاحب الجواهر (قدس سراهما): 22/155.

روى في الدعائم عن جعفر بن محمد (صلوات الله عليهما) أنه قال: (الإمام المنصوب من قبل الله عز وجل ومن أقامه الإمام من ولاة العدل يجب على من استعانه عونه والعمل له إذا استعمله والعمل معه وله بما أمره به، ومعونته في ولايته طاعة من طاعات الله، والكسب منه من وجهه حلال محلل)(1).

وأورد صاحب الجواهر (قدس سره) إشكالاً على تحقق الوجوب بالمورد الثاني وأصل الإشكال للمحقق السبزواري (قدس سره) أورده على وجوب ولاية الجائر إذا توقف عليها إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((ودعوى أن الولاية من مقدمات القدرة التي هي شرط الوجوب، فلا يجب تحصيلها ولا قبولها لعدم إطلاق التكليف بالنسبة إليها.

يدفعها: أن إطلاق الأمر بالمعروف يقتضي وجوب سائر المقدمات، ولا يسقط إلا بالعجز فيندرج فيها الولاية وغيرها بعد فرض القدرة عليها)).

وقال (قدس سره) بعد أن فرّق بين المقام والوجوب المشروط للحج: ((بخلاف المقام الذي لم يعلق وجوبه على لفظ يرجع فيه إلى العرف، بل أطلق الوجوب ومقتضاه عقلاً الامتثال حتى يتحقق العجز، ولا ريب في انتفائه هنا بعد فرض وجود القدرة علىالولاية مثلاً على وجه، لا تنافيه شيء من الأدلة الشرعية التي تقتضي سقوط التكليف بتحصيلها من العسر والحرج والضرر ونحوها كما هو واضح لمن تأمل))(2).

ص: 107


1- الدعائم: 168 بواسطة جامع أحاديث الشيعة: 22/344.
2- جواهر الكلام: 22/156.

أقول: هذا الجواب صحيح، بل قالوا مثله في الولاية للجائر المحرمة إجماعاً في الجملة كما سيأتي(1)، ويلزم منه وجوب الدخول في العمل السياسي على المؤهلين له لأنه مقدمة أكيدة لإقامة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الصعيد الاجتماعي، وقد أعلناها منذ أوائل تغيير النظام المقبور عام 2003(2)، وهي نتيجة خلاف السيرة التقليدية لمشهور الفقهاء (قدس الله أرواحهم).

كما أن هذا المنهج من التفكير يدعم ما اخترناه من كون جملة مما اعتبروه شروطاً للوجوب هي مقدمات للواجب ويجب تحصيلها لأن الوجوب مطلق بلحاظها كاحتمال التأثير فيجب إيجاد الظروف والبيئة المناسبة لإنجاح هذه الفريضة، ففي المقام لا يتمكن من التأثير قبل تصديه للولاية والمفروض سقوط الوجوب عنه، إلا أن التأثير لما أمكن تحصيله بالتصدي للولاية وجب، مع أنه على مبانيهم في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يكن واجباً كما تقدّم في موضعه من الكتاب.

وأشكل السيد الخميني (قدس سره) على وصف الولاية بالوجوب بطروّ هذين العنوانين، قال (قدس سره): ((والظاهر من التعبيرات أن الولاية بما ذكر صارت بعنوانها واجبة أو محرّمة.

فإن كان هذا الظاهر مراداً فهو غير وجيه، لأن الوجوب في الموردين لم يتعلق بذاتها وعنوانها:

ص: 108


1- راجع شرح القواعد للشيخ كاشف الغطاء: 97.
2- راجع كتاب (خطاب المرحلة): 3/371 ضمن خطاب بعنوان (العمل السياسي من الواجبات الشرعية)، وبعض الكلمات السابقة لها.

أما في الأول فلأن الواجب عنوان إطاعة السلطان العادل، لا عنوان الولاية، وهما عنوانان، ولا يلزم من وجوب أحدهما وجوب الآخر وإن كانا منطبقين على الوجود الخارجي.

وقد قالوا نظير ذلك في غير المقام، كوجوب الوضوء والغسل بالنذر والعهد والقسم. ويرد عليهم نظير ما أوردناه في المقام.

وأما في الثاني فمضافاً إلى عدم وجوب المقدمة شرعاً، أنها لو كانت واجبة فالتحقيق أن الوجوب في المقدمة لم يتعلق بما هي مقدمة بالحمل الشايع وبالعناوينالذاتية لها، بل يتعلق بعنوان الموصل بما هو كذلك، كما هو محتمل كلام الفصول(1)، وهو عنوان آخر غير عنوان ذات المقدمة.

فالولاية بعنوانها الذاتي لا تصير واجبة إذا توقف واجب عليه.

ولأن التولية على أمر محرم لا توجب حرمتها ولا تسرى حرمة ذلك المحرم إليها لعدم وجه للسراية، ومقدمات الحرام ليست محرمة لو فرضت كونها من مقدماتها))(2).

أقول:-

1- هذا إفراط منه (قدس سره) في تطبيق هذه الكبرى ويلزم منه إلغاء كثير من الأحكام التي ثبتت لموضوعاتها بواسطة في العروض وهو طروّ العناوين الثانوية عليها، ولا يدّعي أحدٌ كون الولاية واجبة بالعنوان الأولي، لكون الوجوب قد عرض بواسطة العنوانين المذكورين.

ص: 109


1- في المصدر: الفصول الغروية في الأصول الفقهية: 86 التنبيه الأول من تنبيهات مقدمات الواجب.
2- المكاسب المحرمة: 2/162-163.

2- مضافاً إلى عدم إمكان إنكار السراية من العنوان إلى المعنون، ولذا صحّ تسمية الفرد الخارجي –وهو المعنون- بالواجب لسريان عنوان الوجوب إليه

3- ولو تنزّلنا فيمكن تقريب المطلب على أنه من قبيل المقدمة المتحدة مع ذيها في الوجود كالإلقاء في النار والإحراق، والضرب والإيلام، فإن كلاً منهما نفس الآخر، ومثل هذه المقدمة ليس لها وجوب آخر يترشح عليها من ذي المقدمة، بل هناك وجوب واحد نفسي، إذ لا معنى لإيجاب الشيء للتوصل إلى نفسه، وتطبيقه في المقام أن الولاية هي نفس طاعة ولي الأمر إذا أمر بها فيكون وجوب الولاية في المقام وجوباً نفسياً.

4- ويمكن إيقاع التصالح بين الطرفين بجعل موضوع الأحكام الثانوية ذات الموضوع مقيداً بالعنوان الثانوي فنقول: ((الولاية للجائر من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر راجحة)) ونحو ذلك، وهذا الأمر مقبول لدى الطرفين.

وقد التزم (قدس سره) في رسالته العملية بتعبيرات المشهور؛ كقوله (قدس سره): ((لو كان دخوله فيها –أي ولاية الجائر- بقصد الإحسان إلى المؤمنين ودفع الضرر عنهم كان راجحاً، بل ربما بلغ الدخول في بعض المناصب والأشغال لبعض الأشخاص أحياناً إلى حد الوجوب كما إذا تمكن شخص بسببه من دفع مفسدة دينية، أو المنع عن بعض المنكرات الشرعية مثلاً))(1).

ص: 110


1- تحرير الوسيلة: 1/425، المكاسب المحرمة: مسألة (25).

الجهة الثالثة: الولاية للسلطان الجائر

اشارة

وهي حرام في الجملة إجماعاً، أما القدر المتيقن منها ((فلا ريب في أنها تحرم مع الاختيار إذا كانت على محرم كالولاية على ما ابتدعه الظالمون من القمرك ونحوه، بلا خلاف بل هو من الضروريات المستغنية عن ذكر ما يدل عليها من الكتاب والسنة والإجماعات))(1).

الحرمة الذاتية لولاية الجائر

وإنما قلنا: (في الجملة) لوجود خلاف في بعض التفاصيل وأولها: هل أن هذه الحرمة ذاتية أي أن الولاية محرمة وإن لم يقم بعمل محرم في ولايته، أم أنها عرضية لكونها سبباً في التورط في بعض المحرمات فلو اطمأن لخلوها منها جازت.

فهنا قولان:

القول الأول: الحرمة الذاتية، وحكاه في الجواهر عن السيد بحر العلوم (قدس سره) قال: ((مال العلامة الطباطبائي في مصابيحه إلى كون الولاية في نفسها من المحرمات الذاتية مطلقاً، وأنها تتضاعف إثماً باشتمالها على المحرمات لتضمنها التشريع فيما يتعلق بالمناصب الشرعية)) وقال (قدس سره): ((إلا أنه لم أجد له موافقاً عليه، عدا تلميذه في شرحه في الجملة))(2).

أقول: يشير بذلك إلى قول الشيخ كاشف الغطاء (قدس سره): ((وتحرم –أي الولاية- في ذاتها من الجائر لتضمنها للتشريع فيما يتعلق بالمناصب الشرعية ولاشتمالها علىالتبعية والتذلل والخضوع والركون وإعلان الشأن والرفعة لمن

ص: 111


1- جواهر الكلام: 22/156.
2- جواهر الكلام: 22/159-160.

يجب نفي ذلك عنه مع الإمكان، ويتضاعف الإثم بتضمنها ظلم الرعية في نفوسهم أو أعراضهم أو أموالهم أو بإدخال الرعب عليم إلى غير ذلك من غير فرق بين أن يكون خيراً محضاً أو شراً كذلك أو ملفقة))(1).

أقول: لا بد أنه (قدس سره) يريد من تضمنها التشريع إعطاء نفسه الحق في الولاية بغير حجة معتبرة شرعاً وهو خلاف التشريع، ولا يريد بعبارته التشريعات والأحكام المخالفة للشريعة التي يصدرها في ولايته؛ لأن مآل هذا إلى الحرمة العرضية.

وسنذكر عند الاستدلال على هذا القول أنه مختار الشيخ الأنصاري والسيد اليزدي والسيد الخوئي (قدس الله أرواحهم جميعاً).

إلفات: ذكر صاحب الجواهر (قدس سره) لوازم تترتب على هذا القول بقوله: ((وعليه حينئذٍ لا يتصور اشتراط حلّيّتها بالتمكن من التخلص من المحرم، كما وقع من المصنف –أي صاحب الشرائع- وغيره، بل ولا بالتمكن من المعروف، ضرورة عدم الوجه لذلك بعد فرض الحرمة الذاتية كما اعترف هو به))(2)، باعتبار أن الحرمة إذا كانت ذاتية فإنها لا تقبل تبدل الأحكام بتبدل العناوين وأن الذاتي لا ينفك عن الذات، وكأنه بهذا التفريع يلوّح بإشكال على القول بالحرمة الذاتية بأنه لو تمّ للزم عدم إمكان الاستثناء والتخصيص، لكن اللازم باطل للإجماع على الموارد المستثناة فالملزوم مثله.

وتحول هذا التفريع فعلاً إلى إشكال أورده السيد الخوئي (قدس سره) من دون نسبته إلى صاحبه، لكن أحد المصادر حكاه عن المحقق(3)

الإيرواني

ص: 112


1- شرح القواعد: 97.
2- جواهر الكلام: 22/160.
3- حكاه في فقه الصادق: 21/375 عن حاشية الإيراواني على المكاسب: 1/43، وتبنّاه السيد السبزواري (قدس سره) في مهذب الأحكام: 16/181.

(قدس سره) حاصله: أن الولاية من قبل الجائر إذا كانت محرمة لذاتها كالظلم ونحوه فإنها لا تقبل التخصيص ولا ترفع اليد عنها إلا في موارد الضرورة، ولكن ثبت في الروايات جوازها في موارد كالتي ذكرها صاحب الجواهر (قدس سره) وسنتعرض لها إن شاء الله تعالى.

وجوابه:-

1- أنه توهم في فهم المراد بالحرمة الذاتية إذ أنها تعني أن الأصل فيها ذلك وأنها لو خلّيت ونفسها فحكمها الحرمة ولا تعني أن الحرمة ملازمة للذات ولا تنفك عنها والظاهر أن مراد العلمين ذلك للتصريح باستثناء ما لو توقف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليها.

إن من الحرمة الذاتية ما لا تنافي التخصيص والاستثناء ويمكن أن تجتمع معه؛ لأن الكلام في الأمور الجعلية وليس التكوينية، وبيانه: أن الحرمة الذاتية1- تطلق على ما كان قبحه ذاتياً وأنه علة تامة للقبح كالظلم وهو الذي لا يقبل التخصيص لكنه ليس مراداً في المقام، وتطلق أيضاً على ما كان قبحه اقتضائياً كالكذب وهو يقبل ذلك، وموردنا من الثاني الذي يقبل التخصيص من باب تبدل الأحكام بتبدّل العناوين كجواز الكذب للإصلاح، وأكل الميتة عند الضرورة.

2- ولو تمسكنا بالذاتية لأن الولاية للظالمين ظلم لصاحب الحق فإن موارد الجواز خارجة تخصصاً فهي ليست من الظلم والتعدي على حق الغير باعتبار أن القول بالجواز منوط بإذن صاحب الحق فيها فالمورد ليس من التخصيص حتى يستشكل.

القول الثاني: الحرمة العرضية، وحكى السيد صاحب الرياض (قدس سره) الإجماع عليه، قال (قدس سره) في شرح متن المختصر النافع: ((نعم لو تيقّن أو ظن التخلص من المآثم والتمكن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ص: 113

جازت ولو اختياراً إجماعاً))(1)

وبحسب ما يظهر من كلام صاحب الجواهر المتقدم فإنه مختار المشهور إذ خصّ القول بالحرمة الذاتية بهذين العلمين، قال (قدس سره): ((إلا أنه لم أجد له موافقاً عليه عدا تلميذه في شرحه في الجملة بل يمكن تحصيل الإجماع على خلافه فضلاً عما سمعته في المعونة –أي حرمة معونة الظالمين- بل ادعاه غير واحد كما عن المنتهى نفي الخلاف، بل في المحكي عن فقه القرآن للراوندي أن تقلّد الأمر من قبل الجائر جائز إذا تمكن من إيصال الحق لمستحقه بالإجماع المتردد والسنة الصحيحة وقوله تعالى: «اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ» (يوسف:55) ))(2).

أقول: دعواه (قدس سره) الإجماع ليست مبنية على تحصيل ولا حكاية وإنما استنبطها بناءً على الملازمة التي فرّعها آنفاً على القول بالحرمة الذاتية، فمعقد الإجماعات التي نقلها هو جواز ولاية الجائر في الموارد المستثناة المذكورة، ولما كان القول بالحرمة الذاتية يستلزم عدم إمكان التخصيص والاستثناء فهؤلاء المجمعون كلهم لا يقولون بالحرمة الذاتية.

وهو كما ترى استنباط غير تام لما تقدم من النقاش في الملازمة المذكورة.

وفي ضوء هذا ينبغي إعادة النظر في دعوى الإجماع على الحرمة العرضية، وكلمات الأصحاب مختلفة المضمون في ذلك، فقد نفى العلامة (قدس سره) الخلاف عن القدر المتيقن من الحرمة وليس على الحرمة العرضية قال (قدس سره): ((وأما السلطان الجائر فلا تجوز الولاية منه مختاراً إلا مع علم التمكن من الأمر بالمعروفوالنهي عن المنكر أو غلبة الظن بذلك، أما إذا انتفى العلم والظن معاً فلا تجوز الولاية من قبل الجائر بلا خلاف))(3).

ص: 114


1- رياض المسائل: 8/208.
2- جواهر الكلام: 22/160، ونقل الإجماع عنه السيد السبزواري (قدس سره).
3- جواهر الكلام: 22/156.

فإذا أريد بمعقد الإجماع هذا المقدار فإن هذه النسبة ليست بعيدة فقد حُكيت عنهم في مسألة مرتبطة بالمقام وهي معونة الظالمين، قال صاحب الحدائق (قدس سره) عن حرمة معونة الظالمين: ((والمشهور في كلام الأصحاب تقييدها لما يحرم، أما ما لا يحرم كالخياطة لهم والبناء ونحو ذلك فإنه لا بأس به. قال في الكفاية: ومن ذلك معونة الظالمين بما يحرم، أما ما لا يحرم كالخياطة وغيرها فالظاهر جوازه، إه_، لكن الأحوط الاحتراز عنه لبعض الأخبار الدالة على المنع))(1).

أقول: وردت الحرمة العرضية في كلمات جملة من الأعلام، ويستظهر اختيارها من مفهوم اشتراطهم الحرمة بما إذا لم يؤمن الوقوع في الحرام، قال صاحب الجواهر (قدس سره) في شرح كلام المحقق الحلي (قدس سره): ((وتحرم الولاية من قبل الجائر على ما يشتمل على محلل ومحرم، كالحكومة على بعض البلدان المشتملة على خراج وسياسة ونظام ومحرمات من قمرك وغيره، (إذا لم يؤمن اعتماد ما يحرم) أي لم يتخلص من مآثمها وتبعاتها من حقوق الناس وغيرها، ضرورة كونها حينئذٍ كسابقتها في الإقدام على المحرمات وفعلها بالاختيار، نعم في حرمة ما كان منها محللاً كجباية الخراج والنظام بغير المحرم ونحوهما وعدمها وجهان، ينشآن من أنها بمنزلة الولايتين المستقلتين إحداهما على عمل محلل، والأخرى على محرم، فكل منهما له حكمة، إذ الحرام لا يحرم الحلال وقال عز من قائل: «خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً» ومن أنها في الفرض ولاية واحدة، فمع فرض امتزاج عملها بالحلال والحرام تكون محرمة))(2).

ص: 115


1- الحدائق الناظرة: 18/118.
2- جواهر الكلام: 22/156.

الاستدلال على الحرمة الذاتية

أقول: الصحيح هو القول الأول لوجوه:

الوجه الأول: إنه مقتضى الأصل الذي أسسناه لأن ولاية الجائر ومن ولي شيئاً له هو تعدي على حق المستحق الشرعي وظلم له وتصرف في حق الغير بغير إذنه، بغض النظر عن حصول محرمات في هذه الولاية أو عدم حصولها، ولو وقعت فإنها حرام آخر كما ذكر السيد بحر العلوم والشيخ كاشف الغطاء (قدس الله سرهما).ويظهر من بعض القائلين بالحرمة العرضية أنهم يسلّمون بهذا الأصل، أي أنهم يرون أن الولاية على المحلل محرمة بحسب الأصل لكن الأخبار الخاصة جعلت الحكم فيها الجواز فتكون الحلية هي مقتضى الأصل الثانوي لا الأولي؛ قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((إن حلية الولاية على المحلل المحض للإذن من أئمة العدل، وإلا فهي محرمة أيضاً كما أشار إليه أبو جعفر عليه السلام في خبر أبي حمزة بقوله (من أحللنا له شيئاً أصابه من أعمال الظالمين فهو له حلال وما حرمنا من ذلك فهو له حرام) بل يدل عليه غير واحد من النصوص، المعتضدة بما هو معلوم من العقل والنقل، من كون المنصب منصبهم، والولاية ولايتهم والأمر راجع إليهم في جميع هذه الولايات، فليس لأحد الدخول في شيء منها بدون إذنهم))(1).

أقول: هذا الإذن الوارد في الروايات صادر منهم (عليهم السلام) بمقتضى سلطنتهم وولايتهم لأمور الأمة فيحتاج إلى إمضاء من السلطان العادل القائم بالأمور، وليس هو فتوى حتى نغيّر الأصل إلى الجواز.

واختار السيد الخميني (قدس سره) الحرمة الذاتية بناءً على هذا الأصل قال (قدس سره): ((فالسلطنة بشؤونها وفروعها لهم (صلوات الله عليهم

ص: 116


1- جواهر الكلام: 22/157.

أجمعين) من قبله تعالى، ولا يجوز لأحد التصرف فيها وتقلُّدها أصلاً وفرعاً؛ لأن تقلُّدَها غصب والتصرف فيها وفي شؤونها كائنة ما كانت تصرف في سلطان الغير)) ((فلا بد في تقلد شيء من المناصب وشؤون السلطنة من الأذن من ولاة الأمر أو المنصوب من قبلهم))(1).

وأورد السيد الخميني (قدس سره) استدراكاً هنا قال فيه: ((إن الغصب بما أنه الاستيلاء على مال الغير أو حقه عدواناً وعامل السلطان أو من تقلّد من قبله أمر إمارة بلد، أو ولاية ناحية، أو تقلّد أمر القضاوة والوزارة ونحوها ليس مستولياً على شؤون السلطنة، بل الاستيلاء انما هو من السلطان وهو غاصب للخلافة والسلطنة بشؤونهما، وعماله أياديه وليسوا مستولين على شؤونها حتى الأمر الذي كانوا متولين له بنصب من السلطان، بل هو نظير غصب السلطان بلدا بوسيلة عماله، فإن الغاصب له هو السلطان لا غير وأياديه لا يعدون سلطاناً ومستولياً عليه))(2).

أقول: جوابه بوجهين:-

1- إن عنوان الغصب يصدق على عمال الوالي الجائر وولاته كما يصدق عليه لأن كلاً منهم غاصب للموقع الذي هو فيه، فاستحقاق الولي الشرعي للأمر ينحل إلى استحقاق لكل تفاصيل أعماله كالقضاء وإمامة الجمعة.فقد ورد في الأول رواية المشايخ الثلاثة عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لشريح: يا شريح، قد جلست مجلساً لا يجلسه إلا نبي أو وصي نبي أو شقي)(3)

وعن الإمام الصادق (عليه

ص: 117


1- المكاسب المحرمة: 2/160-161.
2- المكاسب المحرمة: 2/160.
3- الحديث والذي يليه تجده في وسائل الشيعة: كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب 3، ح 2، 3.

السلام) قال: (اتقوا الحكومة، فإن الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين، لنبي (كنبي) أو وصي نبي).

وفي صلاة الجمعة والعيدين كان الإمام السجاد (عليه السلام) يدعو بقوله: (اللهم إن هذا المقام لخلفائك وأصفيائك، ومواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها، قد ابتزّوها وأنت المقدر للأشياء، لا يُغالَب أمرك، ولا يجاوز المحتوم من تدبيرك، كيف شئت وأنى شئت، ولما أنت أعلم به غير متّهم على خلقك ولا لإرادتك، حتى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين مقهورين مبتزين، يرون حكمك مبدلاً وكتابك منبوذاً، وفرائضك محرّفة عن جهات إشراعك، وسنن نبيك صلواتك عليه وآله متروكة، اللهم العن أعداءهم من الأولين والآخرين ومن رضي بفعالهم وأشياعهم وأتباعهم)(1).

وروى الكشي في رجاله قال: ((كان المعلّى بن خنيس(2)

رحمه الله إذا كان يوم العيد خرج إلى الصحراء شعثاً مغبراً في زي ملهوف فإذا صعد الخطيب المنبر مدّ يده نحو السماء ثم قال، وذكر دعاء الإمام السجاد (عليه السلام) مع اختلاف يسير في الألفاظ وكان يضيف إلى اللعن (والغادين

ص: 118


1- الصحيفة السجادية: 152 من دعائه (عليه السلام) يوم الأضحى ويوم الجمعة.
2- من موالي الإمام الصادق (عليه السلام) كان يجاهر بفضائل أهل البيت (عليهم السلام) ولعن غاصبي حقهم حتى قتله رئيس شرطة المدينة فغضب الإمام (عليه السلام) وذهب إلى والي المدينة داوود بن علي وأصرّ على الاقتصاص فنفى الوالي أن يكون هو الآمر بقتله فاقتص الإمام من قائد الشرطة، وأقسم الإمام (عليه السلام) بالله أن المعلى دخل الجنة.

والرائحين، والماضين والغابرين، اللهم والعن جبابرة زماننا، وأشياعهم وأتباعهم، وأحزابهم، وأعوانهم، إنك على كل شئ قدير) ))(1).

2- ولو تنزّلنا فإن حرمة ممارسة أي عمل للوالي الجائر من جهة أنه تصرّف في حق الغير وسلطانه من دون إذنه، فالأصل يقتضي الحرمة في هؤلاء أيضاً بعنوانالغصب أو التصرف في حق الغير بدون إذنه، هذا بغض النظر عن الروايات الآتية الدالة على ذلك.

الوجه الثاني: النصوص الدالة على حرمة الولاية للجائر مطلقاً فهي تعني حرمة الولاية في نفسها من دون تقييدها بعمل المعصية، واختار الشيخ الأنصاري (قدس سره) في المكاسب الحرمة الذاتية بناءً على هذا الوجه قال (قدس سره): ((ثم إن ظاهر الروايات كون الولاية محرمة بنفسها مع قطع النظر عن ترتب معصية عليه من ظلم الغير، مع أن الولاية عن الجائر لا تنفك عن المعصية))(2).

وهو ظاهر السيد اليزدي (قدس سره) فقد قال معلّقاً على رواية تحف العقول المشهورة في المكاسب: ((لا يخفى اشتمال هذا الحديث الشريف على جملة من القواعد الكلية، منها: حرمة الدخول في أعمال السلطان الجائر))(3)

وأطلق كلامه.

واختاره السيد الخوئي (قدس سره) أيضاً من جهة كونه مفاد الروايات قال (قدس سره): ((ظاهر جملة من الروايات كون الولاية من قبل الجائر بنفسها محرمة وهي أخذ المنصب منه، وتسويد الاسم في ديوانه، وإن لم ينضم

ص: 119


1- رجال الكشي: 243 في ترجمة المعلى بن خنيس ونقلها في بحار الأنوار: 47/363.
2- المكاسب المحرمة: 2/70، وهو ج 15 من الموسوعة الكاملة.
3- حاشية السيد اليزدي (قدس سره) على المكاسب: 1/44.

إليها القيام بمعصية عملية أخرى من الظلم، وقتل النفوس المحترمة، وإصابة أموال الناس وأعراضهم وغيرها من شؤون الولاية المحرمة. فأي والٍ من ولاة الجور ارتكب شيئاً من تلك العناوين المحرمة يعاقب بعقابين، أحدهما من جهة الولاية المحرّمة وثانيهما من جهة ما ارتكبه من المعاصي الخارجية))(1).

أقول: قرّبنا أن الأصل قبل النصوص الشرعية دلّ على ذلك فتكون مؤكدة وإرشاداً له.

ويمكن الاستدلال أيضاً بالقرآن ثم الروايات.

أما من القرآن الكريم فنكتفي بقوله تعالى: «وَلاَ تَرْكَنُواْ إلى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ» (هود:113) والركون هو الميل مع سكون واطمئنان إلى من ركن إليه، كما في لسان العرب، قال تعالى: «وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً» (الإسراء:74) أي قاربت أن تميل إليهم أدنى ميل –كما في مجمع البحرين- وأحد وجوه دفع الإشكال من حيث امتناع ذلك الميل على رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنها على نحو (إياك أعني فاسمعي يا جارة) فالتحذير لغيره (صلى الله عليه وآله).ورُكْنُ الشيء: جانبه الذي يسكن إليه ويستعار للقوة، وأركان العبادات أي جوانبها التي عليها مبناها – كما في مفردات الراغب- فأخذ في معنى الركون الاستناد والسكون والاطمئنان إلى الظالمين، باعتقاد قوتهم وقدرتهم على النفع والضر.

وفي تفسير آية «وَلا تَرْكَنُوا» قال في مجمع البحرين: ((أي لا تطمأنوا إليهم وتسكنوا إلى قولهم وتظهروا الرضا بفعلهم ومصاحبتهم ومصادقتهم ومداهنتهم)).

ص: 120


1- مصباح الفقاهة: 1/664، وهو ج35 من الموسوعة الكاملة.

وفي الكافي بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: «وَلاَ تَرْكَنُواْ إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا» قال: (هو الرجل يأتي السلطان فيحب بقاءه إلى أن يُدخِل يده إلى كيسه فيعطيه) وفي تفسير القمي قال: ركون مودة ونصيحة وطاعة، وفي تفسير العياشي عن بعض أصحابنا قال: هو الرجل من شيعتنا يقول بقول هؤلاء الجائرين)(1).

وقال المحقق الأردبيلي في زبدة البيان: ((الركون المنهي عنه هو الميل القليل كالتزيي بزيهم وتعظيم ذكرهم واستدامته.

قال في الكشاف: ((النهي متناول للانحطاط في هواهم والانقطاع إليهم ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتم بالرضا بأعمالهم والتشبه بهم والتزيي بزيهم ومد العين إلى زهرتهم وذكرهم بما فيه تعظيم لهم، وتأمَّلْ قوله: «وَلا تَركَنُوا» فإن الركون هو الميل اليسير وقوله: «إلى الذِينَ ظَلَمُوا» أي الذي وُجد منهم الظلم ولم يقل الظالمين)).

وكلام الكشاف ظاهر في أن المراد بالظالم هو حاكم الجور، وذلك غير بعيد لأنه المتبادر، ولان ظلمه أقبح، فلا يبعد كون قباحته واصلا إلى هذه المرتبة))(2).

وتقريب الاستدلال بالآية في مسألتنا من جهتين:-

1- ما رواه الصدوق في الفقيه بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (قال الله عز وجل: «وَلاَ تَرْكَنُواْ إلى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ» قال (عليه السلام): من ولي جائراً على جور كان قرين هامان في جهنم)(3).

ص: 121


1- راجع مصادرها في تفسير البرهان: 5/109.
2- زبدة البيان: 398.
3- وسائل الشيعة، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب 43، ح1.

2- بالأولوية: قال المحقق الأردبيلي (قدس سره) في مجمع الفائدة: ((وإذا كان الميل القليل إليهم موجباً لمس النار الذي يدلّ على أنه كبيرة، فمعاونتهم بالطريق الأولى موجبة لمس النار)) والولاية من أوضح المصاديق للمعاونة، والحرمة في الآية تطلق سواء في محلل أو محرم.

وقال (قدس سره): ((لعل المراد بالذين ظلموا حكام الجور وسلاطينه الذين يجعلون أنفسهم قائمين مقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمة (صلوات اللهعليهم) من بعده كمعاوية وأعوانه وأضرابه، ويحتمل مطلق من يظلم غيره لا مطلق العاصي والفاسق))(1).

التفاتة: وقد يأتي إشكال الدور على الاستدلال بالآية على الحرمة الذاتية بتقريب أن الاستدلال متوقف على كون السلطان الجائر من الذين ظلموا، وكونه من الذين ظلموا متوقف على ثبوت الحرمة الذاتية حتى يصدق عليه أنه ظالم وغاصب لحق الغير؛ لأن فرض دخوله في الظالمين من جهة ارتكابه المظالم في عمله خلاف ما يراد من الاستدلال لأنه يعني أن الحرمة عرضية.

وجوابه أن المقدمة الثانية ثابتة بأدلة فوقانية أخرى غير الآية فهي هنا مسلّمة.

وأما الاستدلال بالروايات فإن روايات الباب(2)

كثيرة ومضامينها متعددة لذا يمكن تقسيمها إلى طوائف بحسب ذلك، والذي يهمنا منها في هذا المطلب:

ص: 122


1- مجمع الفائدة والبرهان: 8/64.
2- راجع وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الأبواب من 42 حتى 51، وأضفنا إليها بعضاً مما لم يذكره صاحب الوسائل من جامع أحاديث الشيعة: 22/341، أبواب ما يكتسب به، باب 40، وورد بعضها في مستدرك الوسائل: ج13/130 وما بعدها، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 39.

(الطائفة الأولى) الدالة على حرمة الولاية للجائر مطلقاً، وإطلاق الحرمة يعني أن الأصل فيها ذلك بغضّ النظر عن الاستثناءات وموارد الرخصة، ومنها:-

1- رواية يعقوب بن يزيد(1) عن ابن بنت الكاهلي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من سوّد اسمه في ديوان ولد سابع(2)

حشره الله يوم القيامة خنزيراً). أقول: في هامش التهذيب: سابع مقلوب عباس وهو تعبير شائع في أخبارنا للتقية.

2- صحيحة أبي بصير قال: (سألت أبا جعفر عليه السلام عن أعمالهم فقال لي: يا أبا محمد، لا ولا مدة قلم، إن أحدهم لا يصيب من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من دينه مثله، أو حتى يصيبوا من دينه مثله).

بتقريب إطلاق النهي في صدر الحديث بقوله: (لا) وبقرينة الأمور غير ذات القيمة التي نهى عنها، فالنهي عن الولاية أولى.

إن قلتَ: إن ذيل الرواية الذي تضمّن إصابة الدين قرينة على عدم إرادة الإطلاق وإنما خصوص إصابة الدين فالحرمة مقيدة به.

قلتُ: إن إصابة الدين حيثية تعليلية للحرمة –كما في رواية تحف العقول الآتية- لأنها حالة غالبة بل دائمة لملازمة ولايتهم للمعاصي والظلم ولا أقل من حصول المودّة والانسجام مع الجائر، وهو ما نهت

ص: 123


1- وصفه النجاشي بالثقة الصدوق وكان من كتاب المنتصر، روى عن الإمام أبي جعفر الجواد (عليه السلام).
2- في هامش التهذيب ((سابع مقلوب عباس وهو تعبير شائع في أخبارنا للتقية)) وقال صاحب الوسائل (قدس سره) في هامش الرواية: ((سابع: قلب عباس، ومثله ما روي أول من رد شهادة المملوك: رمع)).

عنه الآية الشريفة، ويكفي الشك هنا في كون الحيثية تعليلية أو تقييدية للتمسك بإطلاق صدر الرواية بل بإطلاق الآية الشريفة.

3- موثقة مسعدة بن صدقة قال: (سأل رجل أبا عبد الله عليه السلام عن قوم من الشيعة يدخلون في أعمال السلطان يعملون لهم ويحبون لهم ويوالونهم، قال: ليس هم من الشيعة، ولكنهم من أولئك). أقول: الحديث شديد إذ أخرج من يلي شيئاً من أعمال السلطة الجائرة من زمرة الشيعة، وأضافت الرواية (ثم قرأ أبو عبد الله عليه السلام هذه الاية «لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ» إلى قوله: «وَلَ_كِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ» (المائدة:78-81)(1)

قال: الخنازير على لسان داود، والقردة على لسان عيسى «كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ» (المائدة:79) قال: كانوا يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمور،

ص: 124


1- الملعونون المغضوب عليهم في هذه الآيات أخبر عن مسخهم قردة وخنازير في قوله تعالى: «قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَ_ئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ» (المائدة:60). أقول: بناءً على هذا التأويل للخنازير ونظرائها بغاصبي مقام الإمامة يعرف وجه ورود تحريم الميتة ولحم الخنزير في نفس آية إكمال الدين وإتمام النعمة، قال تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْ_قٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» (المائدة:3).

ويأتون النساء أيام حيضهن، ثم احتج الله على المؤمنين الموالين للكفار فقال: «تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ، وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَ_كِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ» (المائدة:80-81) فنهى الله عز وجل أن يوالي المؤمن الكافر إلا عند التقية).

4- صحيحة جهم بن حميد قال: (قال أبو عبد الله عليه السلام: أما تغشى سلطان هؤلاء؟ قال: قلت: لا، قال: ولمَ؟ قلت: فراراً بديني، قال: وعزمت على ذلك؟ قلت: نعم، قال لي: الآن سلم لك دينك). أقول: فيستدل بالأولوية لأن غشيان مجالسهم يضرّ بالدين فكيف بولاية الأعمال لهم.

5- موثقة السكوني عن جعفر بن محمد عن آبائه (عليهم السلام) قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما اقترب عبد من سلطان جائر إلا تباعد من الله، ولا كثر ماله إلا اشتد حسابه، ولا كثر تبعه إلا كثرت شياطينه).

6- صحيحة الوليد بن صبيح قال: (دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فاستقبلني زرارة خارجاً من عنده فقال لي أبو عبد الله عليه السلام: يا وليد أما تعجب من زرارة؟ سألني عن أعمال هؤلاء أي شيء كان يريد؟ أيريد أن أقول له: لا، فيروي ذاك علي. ثم قال: يا وليد متى كانت الشيعة تسأل عن أعمالهم؟ إنما كانت الشيعة تقول: يؤكل من طعامهم ويشرب من شرابهم، ويستظل بظلهم متى كانت الشيعة تسأل عن هذا؟).

قال صاحب الحدائق (قدس سره): ((وفي الخبر المذكور ذم لزرارة،

ص: 125

ولكن جلالة قدره تقتضي صرفه عن ظاهره والحمل على ما يقتضيه مقامات الحال يومئذٍ))(1).

7- صحيحة محمد بن مسلم قال: (كنا عند أبي جعفر عليه السلام على باب داره بالمدينة فنظر إلى الناس يمرون أفواجاً، فقال لبعض من عنده: حدث بالمدينة أمر؟ فقال: أصلحك الله ولي المدينة وال فغدا الناس يهنؤونه، فقال: إن الرجل ليُغدى عليه بالأمر يُهنأ به، وإنه لباب من أبواب النار).

8- صحيحة أبي ولاد قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما ترى في رجل يلي أعمال السلطان ليس له مكسب إلا من أعمالهم وأنا أمر به فأنزل عليه فيضيفني ويحسن إلي، وربما أمَر لي بالدرهم والكسوة وقد ضاق صدري من ذلك؟ فقال لي: كل وخذ منه، فلك المهنا وعليه الوزر). أقول: هذه الرواية تصدق صحيحة الوليد بن صبيح المتقدمة بأن الشيعة لم تكن تسأل عن حكم الولاية للجائر لأن الحرمة مفروغ منها وإنما يسألون عن تناول شيء مما أصابوه في ولايتهم.

والموضع الثاني للاستدلال قوله (عليه السلام): (وعليه الوزر) إذ أطلق حصول الوزر على ولاية الجائر.

9- الكشي في رجاله بسند معتبر عن صفوان بن مهران الجمال قال: (دخلت على أبي الحسن الأول عليه السلام فقال لي: يا صفوان، كل شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً، قلت: جعلت فداك أي شيء؟ قال: إكراؤك جمالك من هذا الرجل، - يعني هارون - قال: والله ما أكريته أشراً ولا بطراً ولا للصيد ولا للهو، ولكني أكريته لهذا الطريق - يعني طريق مكة -، ولا أتولاه بنفسي، ولكن أبعث معه غلماني. فقال لي: يا

ص: 126


1- الحدائق الناضرة: 18/123.

صفوان أيقع كراؤك عليهم؟ قلت: نعم جعلت فداك، قال: فقال لي: أتحب بقاءهم حتى يخرج كراؤك؟ قلت: نعم، قال: من أحب بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم كان ورد النار. قال صفوان: فذهبت فبعت جمالي عن آخرها، فبلغ ذلك إلى هارون فدعاني فقال لي: يا صفوان بلغني أنك بعت جمالك، قلت: نعم، قال: ولمَ؟ قلت: أنا شيخ كبير وإن الغلمان لا يفون بالأعمال؟ فقال: هيهات هيهات، إني لأعلم من أشار عليك بهذا، أشار عليك بهذا موسى بن جعفر، قلت: ما لي ولموسى بن جعفر؟ فقال: دع هذا عنك فوالله لولا حسن صحبتك لقتلتك). أقول: هكذا يربّي الأئمة المعصومون (عليهم السلام) شيعتهم على الابتعاد عن أي خدمة للسلطة الجائرة حتى في العمل المحلل، فكيف بالولاية لهم.

10- رواية الكليني بسنده عن فضيل بن عياض قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن أشياء من المكاسب فنهاني عنها، فقال: يا فضيل والله لَضَررُ هؤلاء على هذه الأمة أشد من ضرر الترك والديلم، قال: وسألته عن الورع من الناس قال: الذي يتورّع عن محارم الله عز وجل ويجتنب هؤلاء، وإذا لم يتق الشبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه وإذا رأى المنكر فلم ينكره وهو يقدر عليه فقد أحبَّ أن يعصى الله عز وجل ومن أحب أن يعصى الله فقد بارز الله عز وجل بالعداوة، ومن أحب بقاء الظالمين فقد أحبّ أن يعصى الله، إن الله تعالى حمد نفسه على هلاك الظالمين فقال: «فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»)(1).

ص: 127


1- فروع الكافي: ج5، كتاب المعيشة، باب 62، عمل السلطان وجوائزهم، ح11.

11- رواية تحف العقول المشهورة في المكاسب عن الإمام الصادق (عليه السلام) وفيها: (وأما وجه الحرام من الولاية فولاية الجائر وولاية ولاته، فالعمل لهم والكسب معهم بجهة الولاية لهم حرام محرم معذب فاعل ذلك على قليل من فعله أو كثير؛ لأن كل شيء من جهة المؤونة له معصية كبيرة من الكبائر، وذلك أن في ولاية الوالي الجائر دروس الحق كله، فلذلك حرم العمل معهم ومعونتهم والكسب معهم إلا بجهة الضرورة، نظير الضرورة إلى الدم والميتة)(1).

أقول: الرواية ظاهرة في الإطلاق، أما التعليل بإيراد المفاسد المذكورة المترتبة على ولاية الجائر فإنها أخذت على نحو الحيثية التعليلية لا التقييدية، أي أن1- ولاية الجائر حُرّمت ذاتاً لعلّة هي كونها منشأ لترتب المفاسد المذكورة، والشاهد على هذا الفهم أن مفسدة دروس الحق نوعية عامة تترتب على أصل ولاية الجائرين بغير استحقاق وليس على العمل الجزئي المشوب بالمعصية لهذا الفرد أو ذاك.

12- من رواية الصدوق في الفقيه قال: وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (من مدح سلطاناً جائراً وتخفف وتضعضع له طمعاً فيه كان قرينه في النار).

13- رواية الشيخ الصدوق في حديث المناهي عن الصادق، عن آبائه (عليهم السلام) - في حديث المناهي- قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من تولى عرافة قوم أتي به يوم القيامة ويداه مغلولتان إلى عنقه، فإن قام فيهم بأمر الله عز وجل أطلقه الله، وإن كان ظالماً هوى به في نار جهنم وبئس المصير).

وتقريب الاستدلال: أنه لو لم تكن الحرمة ذاتية لم يكن وجه لغل

ص: 128


1- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب 2، ح1.

يديه إلى العنق والحبس على شفير جهنم قبل النظر في أعماله، ولا يُطلق حتى يثبت حسن ولايته للناس لتكون كفارة له.

14- ومثلها رواية عقاب الأعمال بسنده عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (ومن تولى عرافة قوم حبس على شفير جهنم بكل يوم ألف سنة، وحشر ويده مغلولة إلى عنقه، فإن كان قام فيهم بأمر الله أطلقها الله، وإن كان ظالماً هوى به في نار جهنم سبعين خريفاً).

15- رواية ابن مهاجر قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: فلان يقرؤك السلام، وفلان وفلان، فقال: وعليهم السلام، قلت: يسألونك الدعاء قال: وما لهم؟ قلت: حبسهم أبو جعفر فقال: وما لهم؟ وما له؟ فقلت: استعملهم فحبسهم، فقال: وما لهم وما له؟ ألم أنههم؟ ألم أنههم؟ ألم أنههم؟ هم النار هم النار هم النار، ثم قال: اللهم اجدع عنهم سلطانهم. قال: فانصرفنا من مكة فسألنا عنهم، فإذا هم قد أخرجوا بعد الكلام بثلاثة أيام).

16- الروايات التي كشف فيها الإمام الرضا (عليه السلام) عن سرّ قبوله بولاية العهد للمأمون وهو التهديد بالقتل، ويلزم منه كون الحرمة مطلقة إلا تقية، وإلا لأجاب (عليه السلام) بأن الولاية في نفسها لا إشكال فيها، وأن حرمتها مما يرتكب فيها، والإمام معصوم لا يصدر منه الظلم والمعصية.

ومن تلك الروايات صحيحة الريان بن الصلت قال: (دخلت على علي بن موسى الرضا عليه السلام فقلت له: يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله، إن الناس يقولون: إنك قبلت ولاية العهد مع إظهارك الزهد في الدنيا، فقال عليه السلام: قد علم الله كراهتي لذلك، فلما خيرت بين قبول ذلك وبين القتل اخترت القبول على القتل، ويحهم أما علموا أن يوسف عليه السلام كان نبياً رسولاً فلما دفعته الضرورة إلى تولي

ص: 129

خزائن العزيز قال له: «اجْعَلْنِيْ عَلَى خَزَائِنِ الأَرضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ»، ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك على إكراه وإجبار بعد الإشراف على الهلاك، على أني ما دخلت في هذا الأمر إلا دخول خارجٍ منه، فإلى الله المشتكى وهو المستعان).

ورواية الحسن بن موسى قال: (روى أصحابنا عن الرضا عليه السلام أنه قال له رجل: أصلحك الله كيف صرت إلى ما صرت إليه من المأمون؟ فكأنه أنكر ذلك عليه. فقال له أبو الحسن الرضا عليه السلام: يا هذا أيما أفضل النبي أو الوصي؟ فقال: لا بل النبي فقال: أيما أفضل مسلم أو مشرك؟ فقال: لا بل مسلم، قال: فإن العزيز عزيز مصر كان مشركاً وكان يوسف عليه السلام نبياً، وإن المأمون مسلم وأنا وصي، ويوسف سأل العزيز أن يوليه حين قال: «اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» وأنا أجبرت على ذلك). أقول: تقريب الاستدلال أن حرمة الولاية مسلّمة لدى المعترضين واعتذر الإمام بالاضطرار، ولا يتصور أن الحرمة عرضية لأنه معصوم لا يفعل المعصية فالحرمة ذاتية، وبتقريب آخر: إن الحرمة لو كانت عرضية لأجاب الإمام (عليه السلام) بأنه لا يرتكب المعصية فلا وجه لاعتراضهم.

17- رواية العياشي في تفسيره عن سليمان الجعفري قال: (قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: ما تقول في أعمال السلطان؟ فقال: يا سليمان الدخول في أعمالهم والعون لهم والسعي في حوائجهم عديل الكفر، والنظر إليهم على العمد من الكبائر التى يستحق بها النار).

18- رواية علي بن أبي حمزة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كان لي صديق من كتاب بني أمية فقال لي: استأذن لي على أبي عبد الله عليه السلام فاستأذنت له، فأذن له، فلما أن دخل سلم وجلس، ثم قال:

ص: 130

جعلت فداك إني كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من دنياهم مالاً كثيراً، وأغمضت في مطالبه، فقال أبو عبد الله عليه السلام: لولا أن بني أمية وجدوا لهم من يكتب ويجبي لهم الفيء ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم لما سلبونا حقنا، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلا ما وقع في أيديهم. قال: فقال الفتى: جعلت فداك فهل لي مخرج منه؟ قال: إن قلت لك تفعل؟ قال: أفعل، قال له: فاخرج من جميع ما كسبت في ديوانهم فمن عرفت منهم رددت عليه ماله، ومن لم تعرف تصدقت به، وأنا أضمن لك على الله عز وجل الجنة، فأطرق الفتى طويلاً ثم قال له: لقد فعلت جعلت فداك. قال ابن أبي حمزة: فرجع الفتى معنا إلى الكوفة فما ترك شيئاً على وجه الأرض إلا خرج منه حتى ثيابه التي كانت على بدنه قال: فقسمت له قسمة واشترينا له ثياباً وبعثنا إليه بنفقة، قال: فما أتى عليه إلا أشهر قلائل حتى مرض، فكنا نعوده، قال: فدخلت يوماً وهو في السَوْق –أي النزع الأخير- قال: ففتح عينيه ثم قال لي: يا علي وفى لي والله صاحبك، قال: ثم مات فتولينا أمره، فخرجت حتى دخلت على أبي عبد الله عليه السلام، فلما نظر إلي قال لي: يا علي وفينا والله لصاحبك، قال: فقلت صدقت جعلت فداك هكذا والله قال لي عند موته).

19- رواية الصدوق في المناهي بسنده عن الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) –في حديث المناهي- قال: (ألا ومن علّق سوطاً بيد سلطان جعل الله ذلك السوط يوم القيامة ثعباناً من النار طوله سبعون ذراعاً، يسلّطه الله عليه في نار جهنم وبئس المصير).

20- رواية الدعائم عن جعفر بن محمد (صلوات الله عليهما) وفيها: (والعمل لأئمة الجور ومن أقاموه والكسب معهم حرام محرم ومعصية

ص: 131

لله عز وجل)(1).

مضافاً إلى روايات أخرى يمكن تقريبها على الحرمة الذاتية ستأتي في الطائفة الثانية. إشكال وجواب: وجدت إشكالين على التمسك بإطلاق هذه الروايات لإثبات الحرمة الذاتية:

أولهما: أن هذا الإطلاق منزَّل على ما هو الغالب من الملازمة بين ولاية الجائر والوقوع في المعصية وترتب المفسدة، وهذه الملازمة تمنع من التمسك بالإطلاق قال السيد صاحب الرياض (قدس سره): ((لقصور الأخبار المطلقة لاحتمال المباحات والطاعات فيها ما عرضها للتحريم بغصب ونحوه كما هو الأغلب في أحوالهم))(2)، وقال المحقق النراقي (قدس سره) مثله كالرواية (5 صفحة 145) والرواية (9 صفحة 147).

وقال صاحب الجواهر (قدس سره): ((انصراف نصوص المنع إلى ما هو الغالب من عدم تخلص الداخل في ولاية شيء من أعمالهم عن المحرم كما عرفت إيماء النصوص إليه ولو بإكراههم له على ذلك، إذ قد يقال أنه لا يجديه هذا الإكراه في رفع الإثم عنه بعد أن كان دخوله في الولاية التي اقتضت ذلك باختياره الذي يندرج في باب ما بالاختيار لا ينافي الاختيار والقدرة على سبب قدرة على المسبب))(3).

أقول: بغضّ النظر عن مقتضى الأصل وعدم الحاجة إلى الاستدلال بالروايات، فإنه يرد عليه:-

ص: 132


1- الدعائم: 168 نقلها عنه جامع أحاديث الشيعة: 22/344.
2- رياض المسائل: 8/177، مستند الشيعة: 14/155.
3- جواهر الكلام: 22/163.

1- إن الغلبة لا تصلح للتقييد بعد أن كانت الروايات ظاهرة في الإطلاق.

2- إن بعض الروايات تأبى هذا الحمل لأنها علقت الحرمة على أصل تسويد الاسم في ديوانهم ونحو ذلك من الإطلاقات بغضّ النظر عن قيامه بأي عمل.

3- بحسب رواية تحف العقول وصحيحتي أبي بصير وجهم فإن هذه الملازمة دائمية وليس غالبية كما اعترف غير واحد، وسنبين ذلك إن شاء الله تعالى.

4- لو سلّمنا الغالبية فإنها مأخوذة على نحو الحيثية التعليلية لا التقييدية للحكم كما قرّبنا في أكثر من موضع.

ثانيهما: ما ذكره المحقق صاحب الحدائق، قال (قدس سره): ((الظاهر أن المراد من هذا التشديد والتأكيد في هذه الأخبار الواردة في هذا المقام إنما هو سلاطين الجور المدعين للإمامة من الأموية والعباسية ومن حذا حذوهم كما هو ظاهر من سياقها ومصرّح به في بعضها لا مطلق الظالم والفاسق وإن كان الظلم والفسق محرماً مطلقاً))(1).

وتبعه السيد السبزواري (قدس سره) فإنه بعد أن تبنّى الإشكال الأول، قال ما حاصله أنه ((لو فرض إطلاق من كل جهة في البين بحيث يكون ظاهراً في الحرمة الذاتية فإنما هو بالنسبة إلى عهد الدولتين –الأموية والعباسية- التي بذلوا كل جهودهم وأقصى وسعهم لإزالة الدولة الهاشمية بكل ما أمكنهم فيجب على إمام الحق المدافعة معهم بكل ما يمكنه، فحرمة الولاية لهم والدخول في مناصبهم يتصور لها وجه حينئذٍ ولو لم تترتب عليه مفسدة، لأنه بنفسه حينئذٍ مفسدة عرفاً

ص: 133


1- الحدائق الناظرة: 18/122.

في وقت حدوث ثورة الباطل على الحق، وأما بعد أن استقر الظلم والجور واستترت دولة الحق إلى أن بدى لله ما يشاء وظهرت شوكة الظالمين واستولوا على الأمر بجميع أنحاء الاستيلاء بحيث يكون دخول أحد في مناصبهم مع عدم العمل لهم وجوده كعدمه من كل جهة فأي فائدة يتصور في الحرمة الذاتية))(1).

أقول: تقييد النصوص بزمان صدورها خروج عن قواعد الصناعة لأنه ينافي ظهورها في الإطلاق الأزماني، ولا نعلم ما هو الحد الزمني الفاصل؛ لأن الأمر استتب للباطل قبل زمان صدور الروايات، وإن جعله غيبة الإمام (عليه السلام) فهو لا دليل عليه، مضافاً إلى أن النكتة التي ذكرها (قدس سره) للتفريق بين الزمانين لا تناسب تعليل حرمة الولاية للجائر والحكمة والملاك في الحرمة من دروس الحق وانتهاك الحرمات وغير ذلك، وهليمكن القول باختلاف الحكم بين العمل لسلاطين الأمويين والعباسيين والعمل لطواغيت العصور اللاحقة كصدام المقبور، وهل يختلف حكم معونة الظالمين بينهم؟

والذي أعتقده أن الدافع لمثل هذا التقييد شعورهم الوجداني بجواز الدخول في وظائف الدولة الحديثة فحصل تصادم عندهم بين روايات الحرمة، وهذا الوجدان فخرج (قدس سره) منه بالتقييد الأزماني، ولكن كان يمكنه الحل والوصول إلى التقييد من خلال عدة وجوه:-

1- التفريق بين العمل في مؤسسات الدولة التي هي ملك للشعب وتقوم على رعاية مصالحه كموظفي الصحة والكهرباء والتعليم والبلديات، وبين أجهزة السلطة الظالمة كجلاوزة

ص: 134


1- مهذب الأحكام: 16/182.

القمع والإرهاب وابتزاز الأموال، باعتبار تطور أنظمة الحكم وإدارة الدولة ولم يعد الموظفون الحكوميون مقتصرين على المرتبطين بالسلطة، فتخرج بعض الأعمال تخصّصاً لا تخصيصاً لأنها من القسم الأول لا الثاني.

2- التفريق بين مرحلة اتحاد الإمامة الدينية بالسلطة الدينية كما في عهد الخلفاء، ومرحلة الافتراق التي بدأت تتضح بعد قيام الإمام الحسين (عليه السلام)، وهي إحدى ثمرات خروجه المبارك؛ فالحرمة الذاتية كانت في المرحلة الأولى من أجل تجريدهم من عنوان الإمامة المقدس أما بعد انفصال العنوانين كما في العصور الأخيرة فلا تضفي مشاركة المؤمنين في وظائف الدولة ذات النفع العام أية مشروعية للسلطة.

3- إن الأمر يتعلق بالطريقة المناسبة للتعاطي مع السلطة الظالمة بالمقاطعة الكاملة أو المشاركة المثمرة ضمن مساحة الرخصة التي أعطاها الأئمة (عليهم السلام)، فالحرمة الذاتية هي الأصل مع وجود استثناءات في موارد معينة، وهذا لا ينافي الحرمة الذاتية، وسيأتي ذكر الاستثناءات إن شاء الله تعالى.

الوجه الثالث: ما دلّ على حرمة معونة الظالمين مطلقاً، وعنوان الظالمين متعين بسلاطين الجور أو الشامل لكل من يظلم وهم أسوأ مصاديقه.والولاية لسلطان الجور معونة لهم قطعاً، قال السيد صاحب الرياض (قدس سره): ((ويدخل في إعانتهم المحرمة اختيار التولية عنهم بلا خلاف))(1)، وقال الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((لأن الوالي من أعظم الأعوان))(2).

ص: 135


1- رياض المسائل: 8/177.
2- المكاسب: 2/69 من الموسعة الكاملة.

فهذا الوجه يتكون من مقدمتين، إحداهما أن ولاية الجائر معونة له، ومعونة الظالمين –المنطبق على الوالي الجائر- حرام مطلقاً.

ومن الروايات المطلقة في هذه الحرمة:-

1- صحيحة يونس بن يعقوب قال: (قال لي أبو عبد الله عليه السلام: لا تعنهم على بناء مسجد)(1).

أقول: لأن مساجد الظالمين تكون غطاءً لأعمالهم الشيطانية كمسجد ضرار الذي أحرقه النبي (صلى الله عليه وآله) لأنه أُريد منه شرعنة الباطل وإضفاء القدسية عليه واتخاذه مقراً للانقلاب على الخلافة الشرعية حيث أتموا بناءه تزامناً مع خروج النبي (صلى الله عليه وآله) إلى غزوة تبوك وما تضمنته من مؤامرة لقتل النبي (صلى الله عليه وآله).

وقد رأينا كيف أن الطواغيت –أمثال صدام المقبور- يخدعون الناس بكثرة بناء المساجد وتفخيمها وتزيينها للتغطية على مظالمهم وسرقاتهم لأموال الشعب المحروم(2).

ص: 136


1- انعكست هذه التربية على طلاب الإمام (عليه السلام) حتى ممن انحرفوا عنه كأبي حنيفة، فقد نُقِل عن صاحب الكشاف (ج1/186 ط بيروت) في تفسير قوله تعالى: «لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» (البقرة:124) عن أبي حنيفة أنه قال: ((لو أراد المنصور الدوانيقي وأمثاله من الظلمة بناء مسجد وأرادوني على عدِّ آجره لما فعلت)).
2- وهكذا كان يفعل طواغيت الأمويين والعباسيين، قال جورج جرداق في فصل (بين علي والثورة الفرنسية) من كتاب (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية: 1/305 من ط ذوي القربى) بعد أن نقل ما كتبه الأديب شكيب أرسلان عن الترف الفاحش والثراء لأميرات العباسيين: ((أقام هارون الرشيد عند احتفاله بزواجه بابنة عمه زبيدة وليمة لم يسبقها مثيل في التأريخ، فقد وهب فيها آنية من ذهب مملوءة فضة وآنية من فضة مملوءة ذهباً، وقد وزّع فيها قطعاً من المسك والعنبر بلا حساب، وكان على بيت المال في ذلك اليوم أن ينفق مليون درهم، وقد ازّيّنت زبيدة بمعطف من لؤلؤ يعجز عن تقديره الخبراء. ويروى أنها لبست من الجواهر ما لم تستطع معه أن تمشي)) ثم قال أرسلان: ((ومع ذلك فإن هذه الأميرة –أي زبيدة- لم تغرق في البذخ والترف من غير أن تقف قسماً من دخلها على أعمال البرّ والإحسان. فقد أمرت ببناء مسجد فخم على ضفة دجلة فسمّي (مسجد زبيدة) كما أمرت ببناء مسجد آخر بين باب خراسان وطريق دار الرقيق))، فعلّق جرداق: ((وهكذا، فإن ما يسمونه (أعمال بر وإحسان) كان وما يزال ستاراً يختفي وراءه كل من أراد أن يأكل الشعب بالجملة، في الشرق والغرب،ثم (يكرّم) بقطرة من بحر لبناء كنيسة أو مسجد! وما كان بناء المعابد –على هذه الصورة أكثر من رشوة يتقرب بها ناهبو أموال الشعوب إلى الله وخديعة لتخدير الناس المساكين وفتح أبواب الآخرة أمامهم. يستوي في اللجوء إلى هذا المظهر ناهبو الشعوب جميعاً، في أوربا وفي الشرق وفي كل مكان ويبدو أن هذا اللون من ألوان الأكذوبة الكبرى التي يسمونها (أعمال بر وإحسان) هو لون قديم جديد على السواء. وما أشبه زبيدة إذ تعجز عن المشي لكثرة ما تحمل من الجوهر، ثم تبني مسجداً ويدعى باسمها، ويموت على أبوابه أهل البؤس والشقاء، بالشركات الاستثمارية الأجنبية والوطنية التي يتحدث عنها كاتب مصري معاصر يقول: ((أريد أن أحدد بالذات أن الشركات الرأسمالية حتى الأجنبية تتسابق في بناء المساجد لعمالها، وتهتم اهتماماً بالغاً بهذه المساجد وإبرازها للعمال في صورة رائعة، وتنفق عليها الأموال الطائلة، وذلك حثاً للناس على الزهادة في الدنيا والإعراض عنها، والفرار منها طمعاً في ما عند الله في الآخرة من النعيم المقيم، وسعياً وراء جنات عرضها السماوات والأرض أعدّت للزاهدين القانعين)) )).

ص: 137

وبالتجريد عن الخصوصية تجب مقاطعة مشاريعهم الدينية ظاهراً لكنها تستبطن النفاق والخداع والمكر كالحملة الإيمانية التي أطلقها المقبور صدام.

2- صحيحة ابن أبي يعفور قال: (كنت عند أبي عبد الله عليه السلام إذ دخل عليه رجل من أصحابنا فقال له: جعلت فداك إنه ربما أصاب الرجل منا الضيق أو الشدة فيدعى إلى البناء يبنيه، أو النهر يكريه، أو المسناة يصلحها، فما تقول في ذلك؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام: ما أحب أني عقدت لهم عقدة، أو وكيت لهم وكاء، وإن لي ما بين لابتيها، لا ولا مدة بقلم، إن أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتى يحكم الله بين العباد).

3- موثقة السكوني عن جعفر بن محمد عن آبائه (عليهم السلام) قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين أعوان الظلمة ومن لاق لهم دواة(1)، أو ربط كيساً، أو مد لهم مدة قلم، فاحشروهم معهم).

4- رواية محمد بن عذافر عن أبيه قال: (قال أبو عبد الله عليه السلام: يا عذافر نُبئت أنك تعامل أبا أيوب والربيع فما حالك إذا نودي بك في أعوان الظلمة؟ قال: فوجم أبي، فقال له أبو عبد الله عليه السلام لما رأى ما أصابه: أي عذافر إني إنما خوفتك بما خوفني الله عزوجل به. قال محمد: فقدم أبي فما زال مغموماً مكروباً حتى مات).

5- خبر أبي حمزة عن علي بن الحسين (عليه السلام) - في حديث - قال: (إياكم وصحبة العاصين ومعونة الظالمين).

ص: 138


1- الدواة التي يغمس فيها القلم ليعلق به حبر الكتابة، ولوق الدواة ترطيبها بوضع الحبر فيها.

6- رواية ورام في مجموعته قال: (قال عليه السلام: من مشى إلى ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام).

ولاشتراك روايات العنوانين فقد وزّعها الفقهاء (قدس الله أرواحهم) على البابين(1).

الوجه الرابع: إن المورد مجرى لأصالة الحرمة أو قاعدة الحرمة بتقريب أن الولاية للجائر لا تنفك عن الظلم والمعصية كما يظهر من عدة روايات منها صحيحة داوود بن زربي الآتية (صفحة 143) الصريحة في استحالة الانفكاك حيث جعل تناول النجوم أيسر من تجنب المعصية في ولاية الجائر، وكذا غيرها من الروايات التي تجعل الولاية منافية لسلامة الدين، وعليها بنى الشيخ الأنصاري اعترافه بعدم الانفكاك (صفحة 119) فيكون الأصل في هذه المسألة الحرمة وأن الوظيفة العملية هي الاجتناب.

إن قلتَ: إن الأصل العملي الجاري هي البراءة وهي تقتضي الجواز الذاتي وأن الحرمة عرضية أي فيما إذا ارتكب في ولايته ما يخالف الشرع.

قلتُ: إن الأصل العملي البدوي الذي تقتضيه القواعد في المقام وإن كان يقتضي البراءة من الحرمة الذاتية عند الشك فيها، إلا أنه بنكتة الملازمة الآنفة وعدم الانفكاك عن الوقوع في المعصية يصبح لا موضوع للبراءة ولا يمكن الرجوع إليها لتحديد الوظيفة العملية –وهو المقصود من إجراء الأصل العملي-

ص: 139


1- راجع مجمع الفائدة والبرهان: 8/64، الحدائق الناضرة: 18/118، ومستند الشيعة: 14/153 وغيرها، وقد أورد صاحب الوسائل بعض روايات الولاية للجائر في باب تحريم معونة الظالمين (أبواب ما يكتسب به، باب 42).

عند الشك في التكليف، فكأن الأصل الذي يرجع إليه في تحديد الوظيفة العملية ينقلب من أصالة البراءة إلى أصالة الحرمة لهذه النكتة، ويمكن تسميتها بقاعدة الحرمة.

وهذا مطلب تفصيله في علم الأصول خلاصته أن الأصل العملي الأولي قد ينقلب لنكتةٍ ما إلى خلافه في مرتبة العمل به فيكون الأصل الفعلي الذي يجب الرجوع إليه عملياً غير الأصل البدوي الأولي، وله نظائر في موارد عديدة في الفقه مرَّ أحدها في البحث السابق عن جواز أخذ الأجرة على الواجبات عندما تمسّك المحقق النراقي (قدس سره) بأصالة عدم النقل والانتقال عند الشك في جواز أخذ الأجرة، ورددنا عليه بأن هذا الأصل محكوم لأصالة الجواز الحاصلة من ضم الوجدان إلى الأصل؛ لأنالوجدان يحكم بحصول سبب للنقل والانتقال وهي الإجارة ويُضم إليها أصالة صحة ما تعارف عليه الناس من عقود ما لم يرد عنها نهي من الشارع المقدس فتنتج أصالة الجواز.

لا يقال: إن الملازمة هنا مأخوذة من الروايات فهذا أصل لفظي لا عملي.

فإنه يقال: إن الدليل على الأصول العملية كالبراءة والاستصحاب أيضاً الروايات والآيات ولا يخرجه ذلك عن كونه أصلاً عملياً، فالمائز هو مفاد الدليل هل الحكم في المسألة فيكون أصلاً لفظياً، أو الوظيفة العملية فيكون أصلاً عملياً، والمقام من الثاني، وهذا غير الأصل اللفظي كما هو واضح مما أسّسناه في هذه المسألة.

تذييل: قال السيد السبزواري (قدس سره): ((ثم إنه على فرض الحرمة الذاتية لها لا يكون من الكبائر، لعدم التعرض لها فيما ورد في تعدادها فيما تفحصت عاجلاً. نعم ورد فيها معونة الظالمين وهي أخصّ منها، كما مرّ وهو مقتضى

ص: 140

الأصل أيضاً، ولو كانت الولاية مستلزماً لمحرم يتبعه في كونها صغيرة أو كبيرة. هذا حكم نفس الولاية من حيث هي مع قطع النظر عن متعلقها))(1).

أقول: بغض النظر عن الخلاف المبنائي في التقسيم إلى كبيرة وصغيرة، فإن ملاك الذنوب الكبيرة –وهو الوعيد بالنار- موجود في الولاية للجائر بحسب الروايات المتقدمة بل هو من أعاظمها كما في رواية التحف وغيرها، بل إن الولاية من أظهر مصاديق معونة الظالمين –كما تقدم عن صاحب الرياض والشيخ الأنصاري (قدس الله سريهما)- وقد وعد عليها النار في آية الركون، مضافاً إلى أنّها عُدّت من الكبائر صريحاً كما في رواية الفضل بن شاذان عن الإمام الرضا (عليه السلام) وفيها (واجتناب الكبائر وهي –إلى أن قال- ومعونة الظالمين والركون إليهم)(2)

وغيرها من الروايات.

والنسبة بين الولاية للجائر ومعونة الظالمين ليس كما ذكر بل العكس؛ لأن ولاية الجائر أخص مطلقاً من المعونة لأنها منها، ولو تنزّلنا فإن النسبة بينهما العموم من وجه.

الاستدلال على القول الثاني

أما القائلون بالحرمة العرضية فاستدلوا بوجوه منها:-

1- ما حكي عن المحقق الإيرواني (قدس سره) في شرحه على المكاسب(3)

إن منصرف تلك الأدلة حرمة الولاية، بمعنى القيام بأعمالها لا مجرد أخذ المنصب.

وفيه: لا وجود لمثل هذا الانصراف كما هو واضح لمن تأمل في

ص: 141


1- مهذب الأحكام: 16/183.
2- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب 46، ح33.
3- حكاه في فقه الصادق: 21/375.

الروايات حيث اكتفت بعضها بتسويد الاسم، ولو سلّمنا الانصراف فإنه لا يصلح لتقييد الإطلاق.

2- ما نقلناه في إشكاله على الحرمة الذاتية من أن أخذ المنصب لو كان حراماً لما جاز فيه الاستثناء والتخصيص لأجل غاية مستحبة.

وجوابه ما تقدم (صفحة 113)، مضافاً إلى كونه اجتهاداً مقابل النص وشبهة مقابل الدليل الذي أسسنا به الأصل وأرشدت إليه الروايات.

3- الأصل ((لأن حرمتها مع ترتب المفسدة معلومة وإنما الشك في حرمتها من حيث ذاتها فيرجع إلى البراءة لأن مقتضى الأصل أن الحرمة غيرية من جهة ترتب المفسدة عليها، فلو فرض عدم الترتب تكون مباحة))(1).

أقول: هذا الأصل مردود بما أسسناه من الأصل في المسألة واقتضائية الحرمة الذاتية حتى لو لم يقم بمعصية، ولو تنزلنا فقد قرّبنا انقلاب أصالة البراءة إلى أصالة الحرمة بنكتة الملازمة وعدم الانفكاك.

فعمدة استدلال هذا القول الروايات(2) الدالة على الرخصة في الدخول في أعمال الولاة الجائرين والتي تعني أن الحرمة ليست ذاتية وإنما لما يعرض عليها، وهذه الرخصة وردت في الروايات بمضامين متعددة، منها ما ورد مقيداً باجتناب المحرّم أو مشروطاً بالكفارة وعللت روايات أخر الحرمة بالوقوع في المعاصي واستفاد بعضهم هذه التفصيلات بالجمع بين ما دلّ على الجواز والحرمة ونحو ذلك، فهنا عدة مجاميع من الروايات في هذه الطائفة.

(الطائفة الثانية) ما دل على الجواز في الجملة، وهي عدة مجاميع:

ص: 142


1- مهذب الأحكام: 16/180.
2- راجع مصادرها في الهامش (2) صفحة (122).

المجموعة الأولى: الروايات المعللة أو المقيّدة للحرمة بارتكاب المحرم، ولازمها عدم الحرمة فيما سوى ذلك، ومنها:-

1- صحيحة داوود بن زربي قال: (أخبرني مولى لعلي بن الحسين عليهما السلام قال: كنت بالكوفة فقدم أبو عبد الله (عليه السلام) الحيرة فأتيته، فقلت: جُعلتُ فداك لو كلّمت داوود بن علي أو بعض هؤلاء فأدخل في بعض هذه الولايات، فقال (عليه السلام): ما كنت لأفعل –إلى أن قال-: جُعلتُ فداك ظننتُ أنك إنما كرهت ذلك مخافة أن أجور أو أظلم، وإن كل امرأة لي طالق، وكل مملوك لي حرّ عليَّ وعليَّ إن ظلمتُ أحداً أو جُرتُ عليه، وإن لم أعدل، قال: كيف قلتَ؟ فأعدت عليه الأيمان، فرفع رأسه إلى السماء، فقال: تناول السماء أيسر عليك من ذلك).

أقول: ربما كان معنى كلام الإمام (عليه السلام) أن تناول السماء أيسر من إجابتي لطلبك. والأقوى أن تناول السماء أيسر عليك من الوفاء بتلك الأيمان فتكون دالة على عدم حرمة الولاية إذا استطاع البر بقسمه فلا تكون الحرمة ذاتية، لكن تولي الأمور للظالمين من دون ارتكاب معصية كالمستحيل بشهادة الملازمة التي وردت في عدة روايات كصحيحة أبي بصير (رقم 2 صفحة 123) وغيرها.

2- صحيحة الحسن بن محبوب عن حريز ((وفي الكافي حديد وهو ابن حكيم المدائني الثقة)) قال: (سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: اتقوا الله وصونوا دينكم بالورع، وقووه بالتقية والاستغناء بالله عز وجل (عن طلب الحوائج إلى صاحب سلطان: هذه الزيادة في التهذيب)، إنه من خضع لصاحب سلطان ولمن يخالفه على دينه طلباً لما في يديه من دنياه أخمله الله عز وجل ومقته عليه، ووكله إليه فإن هو غلب على شيء من دنياه فصار إليه منه شيء نزع الله جل اسمه البركة منه ولم يأجره على شيء منه ينفقه في حج ولا عتق ولا بر).

ص: 143

أقول: وتقريبه: تقييد الحرمة بكون التقرب إلى السلطان (طلباً لما في يديه من دنيه).

3- صحيحة حميد قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إني وليت عملاً فهل لي من ذلك مخرج؟ فقال: ما أكثر من طلب المخرج من ذلك فعسر عليه، قلت: فما ترى؟ قال: أرى أن تتقي الله عز وجل ولا تعد).

4- رواية تحف العقول المعروفة في المكاسب عن الإمام الصادق (عليه السلام) وقد تقدمت (رقم 11 صفحة 128) وفيها (وذلك أن في ولاية الوالي الجائر دروس الحق كله، فلذلك حرم العمل معهم ومعونتهم) إلخ بناءً على كون المفاسد المذكورة لولاية الجائر مأخوذة على نحو الحيثية التقييدية.

5- وفي جامع أحاديث الشيعة أيضاً عن الشيخ المفيد في الروضة عن الفضل بن عبد الرحمن الهاشمي قال: (كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام أستأذنه في أعمال السلطان فقال: لا بأس به ما لم يغير حكماً ولم يبطل حداً وكفارته قضاء حوائج إخوانكم).

6- ومن روايات العامة عن عطاء بن يسار: قال رجلٌ عند رسول الله (صلى الله عليه وآله): بئس الشيء الإمارة، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): (نعم الشيء الإمارة لمن أخذها بحلّها وحقّها، وبئس الشيء الإمارة لمن أخذها بغير حقها وحلها، تكون عليه يوم القيامة حسرة وندامة)(1).

المجموعة الثانية: جواز الولاية للجائر مشروطاً بقضاء حوائج المؤمنين والإحسان إليهم:-

ص: 144


1- كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلاّم: 11، ح5.

1- صحيحة علي بن يقطين قال: (قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السلام: إن لله تبارك وتعالى مع السلطان أولياء يدفع بهم عن أوليائه). قال الصدوق: (في خبر آخر: أولئك عتقاء الله من النار).

2- مرسلة الصدوق عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (كفارة عمل السلطان قضاء حوائج الإخوان).

3- ما رواه النجاشي في رجاله في ترجمة محمد بن إسماعيل بن بزيع قال: (قال أبو الحسن الرضا (عليه السلام): إن لله تعالى بأبواب الظالمين من نوّر الله له البرهان، ومكّن له في البلاد ليدفع بهم عن أوليائه ويصلح الله به أمور المسلمين، إليهم ملجأ المؤمنين من الضرر، إليهم يفزع ذو الحاجة من شيعتنا، وبهم يؤمن الله روعة المؤمنين في دار الظلمة، أولئك هم المؤمنون حقاً، أولئك أمناء الله في أرضه) إلى أن قال: (فهنيئاً لهم، ما على أحدكم أن لو شاء لنال هذا كله) قال: قلت: بماذا جعلني الله فداك؟ قال: (يكون معهم فيسرُّنا بإدخال السرور على المؤمنين من شيعتنا فكن منهم يا محمد)(1).

4- صحيحة زيد بن الشحام قال: (سمعت الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام يقول: من تولى أمراً من أمور الناس فعدل وفتح بابه ورفع ستره ونظر في أمور الناس كان حقاً على الله عز وجل أن يؤمن روعته يوم القيامة، ويدخله الجنة).

5- رواية زياد بن أبي سلمة قال: (دخلت على أبي الحسن موسى عليه السلام فقال لي: يا زياد إنك لتعمل عمل السلطان؟ قال: قلت: أجل، قال لي: ولم؟ قلت: أنا رجل لي مروءة وعلي عيال وليس وراء ظهري شئ، فقال لي: يا زياد لئن أسقط من حالق فأتقطع قطعة أحب إلي من

ص: 145


1- رجال النجاشي: 331، ترجمة محمد بن إسماعيل بن بزيع.

أن أتولى لأحد منهم عملاً أو أطأ بساط رجل منهم إلا لماذا؟ قلت: لا أدري جعلت فداك، قال: إلا لتفريج كربة عن مؤمن، أو فك أسرِه، أو قضاء دينه. يا زياد، إن أهون ما يصنع الله جل وعز بمن تولى لهم عملاً أن يضرب عليه سرادق من نار إلى أن يفرغ من حساب الخلائق. يا زياد، فإن وليت شيئاً من أعمالهم فأحسن إلى إخوانك فواحدة بواحدة، والله من وراء ذلك. يا زياد، أيما رجل منكم تولى لأحد منهم عملاً ثم ساوى بينكم وبينهم فقولوا له: أنت منتحل كذاب. يا زياد، إذا ذكرت مقدرتك على الناس فاذكر مقدرة الله عليك غداً، ونفاد ما أتيت إليهم عنهم، وبقاء ما أتيت إليهم عليك). أقول: يمكن أن تكون هذه الرواية دالة على الحرمة الذاتية لأن عمله في ولايته كان إحساناً؛ فماذا كان في مقابله حتى قال (عليه السلام): (فواحدة بواحدة) غير الحرمة الذاتية؟.

6- رواية أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ذُكر عنده رجل من هذه العصابة قد ولي ولاية، فقال: كيف صنيعه إلى إخوانه؟ قال: قلت: ليس عنده خير، قال: أف، يدخلون فيما لا ينبغي لهم ولا يصنعون إلى إخوانهم خيراً).

7- رواية يونس بن عمار قال: (وصفت لأبي عبد الله عليه السلام من يقول بهذا الأمر ممن يعمل عمل السلطان، فقال: إذا ولوكم يدخلون عليكم المرفق وينفعونكم في حوائجكم؟ قال: قلت: منهم من يفعل ومنهم من لا يفعل، قال: من لم يفعل ذلك منهم فابرأوا منه برئ الله منه).

8- رواية علي بن يقطين (أنه كتب إلى أبي الحسن موسى عليه السلام: إن قلبي يضيق مما أنا عليه من عمل السلطان - وكان وزيراً لهارون - فإن أذنت جعلني الله فداك هربت منه، فرجع الجواب: لا آذن لك بالخروج من عملهم، واتق الله، أو كما قال)، وفي رواية محمد بن عيسى بن

ص: 146

يقطين أن جواب الإمام (عليه السلام) (إني لا أرى لك الخروج من عمل السلطان، فإن لله عز وجل بأبواب الجبابرة من يدفع بهم عن أوليائه وهم عتقاؤه من النار فاتق الله في إخوانك).

9- رواية الحسن بن الحسين الأنباري عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: (كتبت إليه أربع عشرة سنة أستأذنه في عمل السلطان، فلما كان في آخر كتاب كتبته إليه أذكر أني أخاف على خيط عنقي، وأن السلطان يقول لي إنك رافضي، ولسنا نشك في أنك تركت العمل للسلطان للرفض فكتب إلي أبو الحسن عليه السلام: فهمت كتابك وما ذكرت من الخوف على نفسك، فإن كنت تعلم أنك إذا وليتَ عملتَ في عملك بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله ثم تصيّر أعوانك وكتابك أهل ملتك وإذا صار إليك شيء واسيت به فقراء المؤمنين حتى تكون واحداً منهم كان ذا بذا وإلا فلا).

أقول: قوله (عليه السلام): (ذا بذا) يمكن الاستدلال به على الحرمة الذاتية لنفس التقريب الذي ذكرناه في ذيل الرواية (5) المتقدمة.

10- رسالة الإمام الصادق (عليه السلام) إلى النجاشي لما ولي الأهواز، وفيها (أما بعدُ، فقد جاءني رسولك بكتابك فقرأته، وفهمت جميع ما ذكرت وسألت عنه، وزعمت أنك بليت بولاية الأهواز فسرني ذلك وساءني، وسأخبرك بما ساءني من ذلك، وما سرني إن شاء الله، فأما سروري بولايتك، فقلت: عسى أن يغيث الله بك ملهوفاً خائفاً من آل محمد عليهم السلام، ويعزّ بك ذليلهم، ويكسو بك عاريهم، ويقوي بك ضعيفهم، ويطفئ بك نار المخالفين عنهم، وأما الذي ساءني من ذلك فإن أدنى ما أخاف عليك أن تعثر بولي لنا فلا تشم حظيرة القدس، فإني ملخص لك جميع ما سألت عنه إن أنت عملت به ولم تجاوزه، رجوت أن تسلم إن شاء الله).

ص: 147

11- عن أبي بكر الحضرمي قال: (دخلت على أبي عبد الله عليه السلام وعنده إسماعيل ابنه، فقال: ما يمنع ابن أبي السمال –أو السمّاك في بعض النسخ- أن يخرج شباب الشيعة فيكفونه ما يكفيه الناس، ويعطيهم ما يعطي الناس(1)؟

ثم قال لي: لم تركت عطاءك؟ قال: مخافة على ديني، قال: ما منع ابن أبي السمال أن يبعث إليك بعطائك؟ أما علم أن لك في بيت المال نصيباً؟).

12- ما رواه الشيخ المفيد في الروضة عن حماد بن عثمان عن معاوية بن عمار قال: (كان عند أبي عبد الله (عليه السلام) جماعة فسألهم: هل فيكم من يدخل في عمل السلطان لإخوانه وإدخال المنافع عليهم؟ قال: لا نعرف ذلك، قال: إذا كانوا كذلك فابرأوا منهم).

13- مستدرك الوسائل عن السيد هبة الله في المجموع الرائق عن الأربعين لأبي الفضل محمد بن سعيد عن عمار قال: (كان عند أبي عبد الله (عليه السلام) جماعة فسألهم هل فيكم من يدخل في عمل السلطان؟ قالوا: ربما دخل الرجل منا فيه، قال: كيف مواساة من دخل في عمل السلطان لإخوانهم وإدخالهم المنافع عليهم، قالوا: لا نعرف ذلك منهم، قال: إذا كانوا كذلك فابرأوا منه).

ص: 148


1- علق السيد اليزدي (قدس سره) في حاشيته على المكاسب مبحث جوائز السلطان وعماله على صدر هذه الرواية قائلاً: ((إن في أصل الصدر إشكالاً، وهو أن مقتضاه جواز معاونة الظالم، وكون الرجل داخلاً في أعمالهم مع أنه قد ورد قوله (عليه السلام): (لا تعنهم ولو على بناء مسجد) )) حاشية السيد اليزدي: 1/277، تعليقة 322). أقول: هذا إشكال أوليّ والتحقيق يزيله لكن السيد (قدس سره) لم يبحث هذه المسألة في تعليقته.

14- وفيه عن الشيخ المفيد في الروضة عن محمد بن سنان عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (سألته من عمل السلطان والدخول معهم، قال: لا بأس إذا وصلت إخوانك وعضدت أهل ولايتك).

15- وفي نفس المصدر عن علي بن جعفر قال: كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام): (إن قوماً من مواليك يدخلون في عمل السلطان ولا يؤثرون على إخوانهم، وإن نابت أحد من مواليك نائبة قاموا؟ فكتب: (أولئك هم المؤمنون حقاً، عليهم مغفرة من ربهم وأولئك هم المهتدون) ونحوها رواية أخرى عنه.

16- وعن الوليد بن صبيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من سوّد اسمه في ديوان بني شيصبان حشره الله يوم القيامة مسودّاً وجهه، إلا من دخل في أمرهم على معرفة وبصيرة وينوي الإحسان إلى أهل ولايته).

17- وفيه عن الشيخ المفيد قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): من كان ذا صلة لأخيه المؤمن عند سلطانه أو تيسير عسير له أعين على جواز الصراط يوم تدحض الأقدام).

18- وفيه عن الشيخ المفيد عن محمد بن عيسى بن عبيد بن يقطين قال: (قال أبو الحسن موسى (عليه السلام): إن الله خلق قوماً من أوليائه مع أعوان الظلمة وولاة الجور يدفع بهم عن الضعيف ويحقن بهم الدماء).

19- وعن السيد هبة الله في المجموع الرائق عن الأربعين لأبي الفضل محمد بن سعيد عن هشام بن سالم قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن لله عز وجل مع ولاة الجور أولياء يدفع بهم عن أوليائه أولئك هم المؤمنون حقاً).

ص: 149

20- رواية المفضل بن عمر قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما من سلطان إلا ومعه من يدفع الله به عن المؤمنين أولئك أوفر حظاً في الآخرة).

21- رواية مهران بن محمد بن أبي نصر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سمعته يقول: ما من جبار إلا ومعه مؤمن يدفع الله عز وجل به عن المؤمنين، وهو أقلهم حظاً في الآخرة، يعني: أقل المؤمنين حظاً بصحبة الجبار).

المجموعة الثالثة: ما دلّ على الجواز عند الاضطرار والتقية:-

1- موثقة عمار (عن أبي عبد الله عليه السلام سئل عن أعمال السلطان يخرج فيه الرجل؟ قال: لا إلا أن لا يقدر على شيء يأكل ولا يشرب ولا يقدر على حيلة، فإن فعل فصار في يده شيء فليبعث بخمسه إلى أهل البيت).

2- مستطرفات السرائر من كتاب مسائل الرجال، عن أبي الحسن علي بن محمد (عليه السلام) (إن محمد بن علي بن عيسى كتب إليه يسأله عن العمل لبني العباس وأخذ ما يتمكن من أموالهم هل فيه رخصة؟ فقال: ما كان المدخل فيه بالجبر والقهر فالله قابل العذر، وما خلا ذلك فمكروه، ولا محالة قليله خير من كثيره وما يكفر به ما يلزمه فيه من يرزقه ويسبب وعلى يديه ما يسرك فينا وفي موالينا، قال: فكتبت إليه في جواب ذلك أعلمه أن مذهبي في الدخول في أمرهم وجود السبيل إلى إدخال المكروه على عدوه، وانبساط اليد في التشفي منهم بشئ أن أتقرب به إليهم، فأجاب: من فعل ذلك فليس مدخله في العمل حراماً بل أجراً وثواباً).

ص: 150

3- علي بن يقطين قال: (قلت لأبي الحسن عليه السلام: ما تقول في أعمال هؤلاء؟ قال: إن كنت لا بد فاعلاً فاتق أموال الشيعة، قال: فأخبرني علي أنه كان يجبيها من الشيعة علانية ويردّها عليهم في السر). أقول: بناءً على أن منشأ اللابدية التقية منهم.

4- رواية تحف العقول المعروفة عن الإمام الصادق (عليه السلام) وفيها (فلذلك حرم العمل معهم ومعونتهم، والكسب معهم إلا بجهة الضرورة نظير الضرورة إلى الدم والميتة).

5- مسعدة بن صدقة قال: (سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوم من الشيعة يدخلون في أعمال السلطان، إلى أن قال: (فنهى الله عز وجل أن يوالي المؤمن الكافر إلا عند التقية).

بتقريب: أن الموالاة يراد منها معونتهم والدخول في عملهم المستلزم لنصرتهم وتأييدهم.

المجموعة الرابعة: الجواز مطلقاً أو مع الكراهة:-

1- صحيحة الحلبي قال: (سئل أبو عبد الله عليه السلام عن رجل مسلم وهو في ديوان هؤلاء وهو يحب آل محمد صلى الله عليه وآله ويخرج مع هؤلاء في بعثهم فيقتل تحت رايتهم؟ قال: يبعثه الله على نيته. قال: وسألته عن رجل مسكين خدمهم رجاء أن يصيب معهم شيئاً فيعينه الله به فمات في بعثهم؟ قال: هو بمنزلة الأجير إنه إنما يعطي الله العباد على نياتهم).

2- عن أحمد بن ز كريا الصيدلاني، عن رجل من بني حنيفة من أهل بست وسجستان قال: (وافقت أبا جعفر عليه السلام في السنة التي حج فيها في أول خلافة المعتصم، فقلت له وأنا معه على المائدة وهناك جماعة من أولياء السلطان: إن والينا جعلت فداك رجل يتوالاكم أهل البيت

ص: 151

ويحبكم، وعلي في ديوانه خراج، فإن رأيت جعلني الله فداك أن تكتب إليه بالإحسان إلي، فقال لي: لا أعرفه، فقلت: جعلت فداك إنه على ما قلت من محبتكم أهل البيت، وكتابك ينفعني عنده، فأخذ القرطاس فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فإن موصل كتابي هذا ذكر عنك مذهباً جميلاً، وإنما لك من عملك ما أحسنت فيه، فأحسن إلى إخوانك، واعلم أن الله عز وجل سائلك عن مثاقيل الذر والخردل. قال: فلما وردت سجستان سبق الخبر إلى الحسين بن عبد الله النيسابوري وهو الوالي فاستقبلني على فرسخين من المدينة، فدفعت إليه الكتاب فقبله ووضعه على عينيه، وقال: ما حاجتك؟ فقلت: خراج علي في ديوانك فأمر بطرحه عني، وقال: لا تؤد خراجاً ما دام لي عمل، ثم سألني عن عيالي فأخبرته بمبلغهم، فأمر لي ولهم بما يقوتنا وفضلاً، فما أديت في عمله خراجاً ما دام حياً ولا قطع عني صلته حتى مات).

3- عن ابن جمهور وغيره من أصحابنا قال: (كان النجاشي وهو رجل من الدهاقين عاملاً على الأهواز وفارس فقال بعض أهل عمله لأبي عبد الله عليه السلام: إن في ديوان النجاشي علي خراجاً، وهو ممن يدين بطاعتك، فإن رأيت أن تكتب له كتاباً قال: فكتب إليه كتاباً: بسم الله الرحمن الرحيم، سر أخاك يسرك الله. فلما ورد عليه وهو في مجلسه، فلما خلا ناوله الكتاب وقال له: هذا كتاب أبي عبد الله عليه السلام فقبله ووضعه على عينيه، ثم قال: ما حاجتك؟ فقال: علي خراج في ديوانك، قال له: كم هو؟ قلت: هو عشرة آلاف درهم، قال: فدعا كاتبه فأمره بأدائها عنه، ثم أخرج مثله فأمره أن يثبتها له لقابل، ثم قال: هل سررتك؟ قال: نعم، قال: فأمر له بعشرة آلاف درهم أخرى، فقال له: هل سررتك؟ فقال: نعم جعلت فداك، فأمر له بمركب ثم أمر له بجارية وغلام وتخت ثياب في كل ذلك يقول: هل سررتك؟ فكلما قال نعم زاده

ص: 152

حتى فرغ، قال له: احمل فرش هذا البيت الذي كنت جالساً فيه حين دفعت إلي كتاب مولاي فيه، وارفع إلي جميع حوائجك. قال: ففعل وخرج الرجل فصار إلى أبي عبد الله عليه السلام بعد ذلك فحدثه بالحديث على وجهته، فجعل يستبشر بما فعل، فقال له الرجل: يا ابن رسول الله كأنه قد سرك ما فعل بي؟ قال: إي والله لقد سر الله ورسوله).

أقول: ويلاحظ هنا أنه بناءً على عدم الحرمة الذاتية، فإن حكم الولاية يكون بحسب حكم متعلقها والعمل الصادر منها، فقد تكون واجبة إذا توقف الإتيان بواجب عليها، وقد تكون محرمة إذا ترتب عليها محرم، وقد تكون راجحة إذا كانت سبباً لأمر راجح كقضاء حاجة مؤمن أو الدفع عنه أو حفظ مصالح المؤمنين، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى.

الجمع بين الروايات

تحصّل لدينا وجود موضعين للتعارض بين الروايات المتقدمة:

(الموضع الأول) بين الطائفتين الأولى الدالة على الحرمة مطلقاً والثانية الدالة على الجواز في الجملة، وقد ذكر الأصحاب (قدس الله أرواحهم) وجوهاً للجمع بين الطائفتين المتعارضتين من الروايات، منها:

(الأول) ما اختاره المحقق (قدس سره) في الشرائع بتصنيف الروايات إلى أقسام ثلاثة بناءً على اطمئنان المتصدي بعدم الوقوع في المحرم وعدمه، وذلك ب_((حمل نصوص المنع على عدم الأمن من اعتماد المحرم، والجواز على الأمن والاستحباب على الأمر بالمعروف مع ذلك))(1) أي مع الأمن من الوقوع في المحرم.

ص: 153


1- جواهر الكلام: 22/163.

ورد عليه صاحب الجواهر (قدس سره) بأننا ((لم نجد في شيء من النصوص التصريح باعتبار الأمن من الجواز، والقواعد لا تقتضيه ضرورة عدم حرمة الشيء باحتمال الوقوع في المحرم)) ثم استدرك قائلاً: ((اللهم إلا أن يريد بالأمن الولايات على المباحات ونحوها مما لم يعتمد فيها فعلاً محرماً ولا يكره عليه أحد)).

أقول: ما ذكره (قدس سره) من عدم وجود شيء في الروايات يدل على اعتبار هذا الشرط غير دقيق لوجوده فعلاً في المجموعة الأولى (صفحة 143) وغيرها، نعم هذا الجمع تبرعي لا دليل عليه؛ لأن روايات الحرمة في الطائفة الأولى مطلقة فتقييدها بهذا الحمل لا دليل عليه، مضافاً إلى أن الأمن من الحرام في ولاية الجائر أصعب من نيل النجوم فكيف يجعل شرطاً في الحكم.

وأما قوله (قدس سره): ((والقواعد لا تقتضيه ..إلخ)) فغير تام لأن الوقوع في المعصية بسبب ولاية الجائر ليست احتمالاً وشكاً بدوياً حتى لا يقتضي الحرمة، بل هو غالبي الوقوع إلى درجة ظهور بعض الروايات في الملازمة بينهما، بحيث يجعل الإمام (عليه السلام) تناول نجوم السماء أيسر من النجاة من المعصية، فالحرمة ثابتة ما لم يحرز عدم الوقوع في الحرام، هذا الإحراز للجواز في محله، لكن الإشكال في الدليل على تقييد الإطلاقات. وأما قوله (قدس سره): ((اللهم .. إلخ)) فهو غير ظاهر من كلام المحقق (قدس سره) كما قربنا، نعم هو الوجه الثالث للجمع الذي اختاره صاحب الجواهر نفسه.

(الثاني) ما اختاره صاحب الحدائق (قدس سره) قال: ((والتحقيق في ذلك: أن هنا مقامات ثلاثة:

(الأول: أن يدخل في أعمالهم لحب الدنيا، وتحصيل لذة الرياسة، والأمر والنهي. وهو الذي يحمل عليه أخبار المنع.

(الثاني): أن يكون كذلك، ولكن يمزجه بفعل الطاعات وقضاء حوائج المؤمنين وفعل الخيرات. وهذا هو الذي أشير إليه في الأخبار المتقدمة، كما

ص: 154

عرفت من قوله عليه السلام: ذا بذا. وقوله: واحدة بواحدة. وقوله: وهو أقلهم حظاً(1).

ونحو ذلك.

(الثالث): أن يكون قصده من الدخول فيها، إنما هو محض فعل الخير، ودفع الأذى عن المؤمنين، واصطناع المعروف إليهم، وهو الفرد النادر وأقل قليل، حتى قيل إنه من قبيل إخراج اللبن الخالص من بين فرث ودم. ويشير إلى هذا الفرد عجز حديث السرائر المتقدم(2).

وعلى هذا يحمل دخول مثل الثقة الجليل على بن يقطين، ومحمد بن إسماعيل بن بزيع، وأمثالهما من أجلاء الرواة عنهم والنجاشي المتقدم ذكره، وكذلك جملة منعلمائنا الأعلام، كالمرتضى والمحقق الخواجه نصير الدين والملة، وآية الله العلامة الحلي، ومن المتأخرين المحقق الثاني في سلطنة الشاه إسماعيل، وشيخنا البهائي، وشيخنا المجلسي، و نحوهم عطّر الله مراقدهم. مع تسليم دعوى العموم. وبذلك يزول الإشكال والله العالم))(3).

أقول: نقله عنه –من دون ذكر اسمه- صاحب الرياض (قدس سره) وقال عنه: ((وهو جمع حسن، وإن أبى عنه بعض ما مرّ من الروايات))(4)

وأورده أيضاً صاحب الجواهر (قدس سره) وقال: ((إنه لا شاهد عليه))(5).

أقول: يشيران (قدس الله سريهما) إلى أنه جمع تبرعي لا دليل عليه بل ربما كان الدليل على خلافه، حيث وجبت الحرمة في بعض الروايات لمجرد تسويد الاسم،

ص: 155


1- الروايات 5، 9، 21 من المجموعة الثانية.
2- يعني به ما نقله ابن إدريس في مستطرفات السرائر وقد تقدم (رقم 2، صفحة 150) وفي ذيله (من فعل ذلك فليس مدخله في العمل حراماً بل أجراً وثواباً).
3- الحدائق الناضرة: 18/132.
4- رياض المسائل: 8/179.
5- جواهر الكلام: 22/161.

وأما استحسانه فلوجود إشارات في الرواية لكل قسم لكنها لا تسوِّغ تقييد المطلقات.

(الثالث) ما اختاره صاحب الجواهر، قال (قدس سره): ((والأحسن منه الجمع بحمل نصوص المنع على الولاية على المحرمات، أو الممزوجة بالحرام والحلال ونصوص الجواز على الولاية على المباح، كجباية الخراج ونحوه مما جوز الشارع معاملة الجائر فيه معاملة العادل، بل ستسمع إن شاء الله فيما يأتي أن المشهور بين الأصحاب وجوب معاملته بالنسبة إلى ذلك، فالولاية منه حينئذ على ذلك نحوه كالتناول من يده والتقبل منه ونحو ذلك، ولا تشريع فيه بعد فرض اعتقاد الداخل كالمتناول أثم الجائر في ذلك وأنه غاصب ظالم، وأن الدخول والتناول ونحوهما إنما كان بالإذن من الامام العادل في زمن الغيبة، وقصور اليد رأفة على المؤمنين ورفعاً للضيق والحرج في هذا الزمان، ونحوه من أزمنة التقية. وأما نصوص الترغيب فعلى الدخول للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحفظ أنفس المؤمنين، وأموالهم وأعراضهم، وإدخال السرور عليهم))(1).

أقول: فالأقسام عنده (قدس سره) ثلاثة، ذكر اثنين منها في بداية كلامه، والثالث في نهايته بقوله: ((وأما نصوص الترغيب)) ويوجد تعليق على مختاره في الجمع، وتعليقات على التفاصيل التي ذكرها.

أما وجه الجمع فهو ليس أفضل مما سبقه لأنه أيضاً مما لا شاهد عليه، بل تأباه بعض النصوص كرواية المنع من تسويد الاسم في ديوانهم والمشاركة في أي عمل لهم على مستوى لوق الدواة وبناء المسجد ونحو ذلك، فهذا الإطلاق يأبى التقييد بما ذكره (قدس سره).مضافاً إلى ما قررناه في الأصل وقررته بعض الروايات من أن هذا الحق لهم (عليهم السلام) ولا يسوغ لأي أحد الدخول فيه إلا بإذنهم بغض النظر عما يقوم به من عمل.

ص: 156


1- جواهر الكلام: 22/161-162.

أما ما ذكره (قدس سره) من الملازمة بين جواز أخذ مال المقاسمة والزكاة ونحوها من السلطان وتقبل الأرض الخراجية منه وبين الدخول في أعماله فهو غريب؛ لأن الإذن في التناول شفقة على الموالين ودفعاً لحرج الإخراج مرتين لا يلزم منه الإذن في عمل الجباية لهم، بل ورد النهي عن جباية الأموال من الشيعة كقوله (عليه السلام): (فاتق أموال الشيعة) (رقم 3، صفحة 151)، وينقض على الملازمة أيضاً قوله (عليه السلام) في صحيحة أبي ولاد (رقم 8، صفحة 126) (وكلْ وخذ منه فلك المهنا وعليه الوزر). فالملاكات فيهما مختلفة، والملازمة منتفية.

وإن الاجتزاء بما يأخذه السلطان رخصة لما ذكرناه وليس الدفع على نحو الوجوب الذي نسبه إلى المشهور، لذلك فإنه رغم وجود الرخصة في دفع ما تفرضه السلطة من زكاة وخراج ونحوهما مما يطالب به الحكام إلا أن الأئمة (عليهم السلام) كانوا يحثّون أصحابهم على الامتناع عنها ما وجدوا إلى ذلك من سبيل، كما في صحيحة زرارة قال: (اشترى ضريس بن عبد الملك وأخوه من هبيرة أرزاً بثلاثمائة ألف، قال: فقلت له: ويلك أو ويحك، انظر إلى خمس هذا المال فابعث به إليه، واحتبس الباقي، فأبى عليَّ، قال: فأدى المال وقدم هؤلاء، فذهب أمر بني أمية، قال: فقلت ذلك لأبي عبد الله (عليه السلام) فقال مبادراً للجواب: هو له هو له، فقلت له: إنه قد أدّاها، فعضّ على أصبعه)(1)، ومثلها رواية العيص الآتية (صفحة 159)، وبالإمكان تطبيق مثل قول أمير المؤمنين (عليه السلام): (الوفاء لأهل الغدر غدر عند الله، والغدر بأهل الغدر وفاء عند الله)(2)

على المورد على نحو الرخصة لا الوجوب.

ص: 157


1- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب 52، ح2.
2- الحكمة (259) ج4 من نهج البلاغة، باب المختار من حكمه (عليه السلام).

(الرابع) وهو المختار وحاصله عدم وجود التعارض بين الطائفتين؛ لأن الطائفة الأولى هي الموافقة للأصل اللفظي الذي أسسناه، وهو حكم المسألة لو خليت وطبعها أما الثانية فتبين موارد الرخصة والاستثناء منها في مواردها المحددة في الروايات، ولا مانع منه فتكون العلاقة بين الطائفتين هي التخصيص وليس التعارض، وبالدقة فإنه من التخصّص؛ لزوال الحرمة من أصلها بسبب صدور الإذن في الولاية من صاحب الحق الشرعي.

مضافاً إلى ما ذكرناه (صفحة 153) من وجوه للتفريق بين موارد المنع المطلق والرخصة المشروطة.

وإذا أردنا أن نذكر مثالاً لهذه الحالة من مسألة أخرى فهي دفع الزكاة إلى السلطان الجائر ففي صحيحة أبي أسامة زيد الشحام قال: (قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام): جعلت فداك، إن هؤلاء المصّدقين يأتونا ويأخذون منا الصدقة فنعطيهم إياها، أتجزي عنا؟ فقال: لا، إنما هؤلاء قوم غصبوكم، أو قال: ظلموكم أموالكم، وإنما الصدقة لأهلها)(1)

فهذه الصحيحة تثبّت الحكم الأولي في المسألة وهو عدم الاجتزاء بما يدفعون لجباة السلطة.

وفي مقابلها صحيحة سليمان بن خالد قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن أصحاب أبي أتوه فسألوه عما يأخذ السلطان، فرقَّ لهم وإنه ليعلم أن الزكاة لا تحل إلا لأهلها فأمرهم أن يحتسبوا به، فجال فكري والله لهم، فقلت له: يا أبه، إنهم إن سمعوا إذن لم يزكِّ أحد، فقال: يا بني، حقٌّ أحب الله أن يظهره).

فهذه الصحيحة تعارض تلك بالنظرة البدوية لأنها تقول بالإجزاء، ولكنها في الحقيقة تبيّن الرخصة والاستثناء ممن له الحق فيها عليهم، والحكم الأصلي باقٍ على ما هو عليه ولو كانا متعارضين لتنافيا، وثمرته أن على المكلف

ص: 158


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب المستحقين للزكاة، باب 20، ح6، 4، 3.

بذل الوسع في تجنب الدفع إليهم وهو مفاد صحيحة العيص بن القاسم عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في الزكاة، قال: ما أخذوه منكم بنو أمية فاحتسبوا به، ولا تعطوهم شيئاً ما استطعتم فإن المال لا يبقى على هذا أن يزكيه مرتين).

(الموضع الثاني) بين روايات الطائفة الثانية نفسها لأنها وإن اتفقت على الرخصة إلا أنها اختلفت من حيث الرجحان والمرجوحية وعدمهما بحسب فهم الأصحاب، ولذا قسّموا الولاية الجائزة للجائر إلى مباح ومكروه ومستحب وواجب(1).

فمنها ما يكون مباحاً بالمعنى الأخص أي لا رجحان لأحد طرفيه كصحيحة الحلبي (رقم 1، صفحة 151).

ومنها ما يكون مكروهاً كما في رواية مهران بن محمد بن أبي نصر (رقم 21، صفحة 150).

ومنها ما يكون واجباً أو مستحباً عند البعض كما لو كان مقدمة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقد أرجعوا المائز بينها إلى طبيعة المورد ومتعلق الولاية ولا بد أن نضيف عناصر أخرى مثل قابليات المتصدي للولاية ونيته وغرضه والظروف المحيطة به وحسابات المصالح والمفاسد، وترجيح الأهم في الإقدام والإحجام.

ولأن المسألة شائكة والتمييز دقيق فقد حذّر الأصحاب (قدس الله أرواحهم) من الاقتحام بغير معرفة، ونصحوا ووعظوا لكيلا تختلط الأمور على البعض وتسوّل له نفسه، قال المحقق الأردبيلي (قدس سره) بعد ذكر طريقته في الجمع بين الروايات((وبالجملة الأصل والأساس هو الإخلاص وهو قليل جداً وصعب في الغاية كما يُشعر به تشبيه من شبهه من العلماء بإخراج اللبن الخالص

ص: 159


1- لاحظ المكاسب: 2/75 وما بعدها، مصباح الفقاهة:1/667.

من بين فرث ودم، وهذا التشبيه في نهاية الحسن وغاية الكمال، فافهم، وفقنا الله للعمل به))(1)

وحكى المثال أيضاً صاحب الحدائق(2)

كما تقدم.

وقال الشيخ كاشف الغطاء (قدس سره): ((ولا بد من تصفية النية وقصد التوصل إلى المطالب الشرعية فقد عُلِم أنه لا يجوز الدخول في ولاية الجائر))(3).

وقد جمع الشيخ الأنصاري (قدس سره) بين روايات هذه الطائفة بلحاظ غرض المتولي، قال (قدس سره): ((والأولى أن يقال أن الولاية غير المحرمة:

منها ما يكون مرجوحه وهي ولاية من تولى لهم لنظام معاشه قاصداً الإحسان في خلال ذلك إلى المؤمنين ودفع الضر عنهم –ثم ذكر رواية ابن أبي نصر المتقدمة (رقم 21، صفحة 150)-.

ومنها ما يكون مستحبة وهي ولاية من لم يقصد بدخوله إلا الإحسان للمؤمنين –ثم ذكر رواية ابن بزيع وهي (رقم 3، صفحة 145)-))(4)، وتبع بذلك المحقق الأردبيلي (قدس سره) مضيفاً إلى المستحبة الدخول مع الاضطرار.

أقول: يرد عليه:-

1- هذا جمع تبرعي لعدم تعرّض رواية ابن أبي نصر لمصلحة الشخص حتى تحمل عليه، فحمل المطلقات على حصة خاصة بلا دليل غير صحيح.

ص: 160


1- مجمع الفائدة والبرهان: 8/72.
2- الحدائق الناضرة: 18/133.
3- شرح القواعد:98.
4- المكاسب: 2/75-77.

2- إن موضوع الروايتين واحد وهي الولاية للجائر بغرض الدفع عن المؤمنين والإحسان إليهم بلا اختلاف، فما المسوّغ لحمل كل منهما على حصة غير الأخرى؟.

3- إن جعل شرط الدخول قصد الإحسان محضاً تعويل على أمر نادر شبّهه الإمام (عليه السلام) بأن نيل نجوم السماء أيسر منه، وتشبيه المحقق الأردبيلي ليس بعيداً.

4- إذا كان ذيل الحديث (يعني أقل المؤمنين حظاً بصحبة الجبار..) من تتمة الحديث وليست من تفسير الراوي فسيكون هذا الجمع أبعد عن الصواب لأن هذا الذيل سيكون بمثابة التعليل للكراهة لصحبة الجبار، ومقتضاه جريانها في مطلق المصاحب وإن كان لمحض الإحسان للمؤمنين.ومنه يُعلم النظر في ما أجراه السيد الخوئي(1)

(قدس سره) من تقييد رواية ابن أبي نصر برواية ابن بزيع فتختص الثانية بما إذا قصد الإحسان خاصة والأولى بما إذا قصد حفظ معاشه وكان قصد الإحسان ضمنياً –وهو جمع الشيخ الأنصاري (قدس سره)-، ثم قال (قدس سره): ((إذن فتنقلب النسبة وتصبح رواية ابن أبي نصر مقيدة لما هو ظاهر في رجحان الولاية الجائرة سواء كانت لحفظ المعاش أم لدفع الضرر عن المؤمنين من الشيعة كروايتي المفضل وهشام بن سالم (رقم 19، 20، صفحة 150) وتحصل النتيجة المتقدمة.

أقول: ظهر أن المورد ليس صغرى لكبرى انقلاب النسبة لأن لسان الروايات واحد وكلها قيّدت الرخصة بالدفع عن المؤمنين، مضافاً إلى المناقشة في الكبرى من حيث عدم عرفية هذا التعاطي مع النصوص لأننا لا نتعامل مع معادلات رياضية حتى نستخرج قيمة (س) من المعادلة الأولى ثم ندخلها في المعادلة الثانية لاستخراج قيمة (ص).

ص: 161


1- مصباح الفقاهة: 1/669.

نعم أشكل (قدس سره) على التمسك برواية ابن أبي نصر للاستدلال على الكراهة لضعف سندها إلا على القول بشمول قاعدة التسامح لأدلة الكراهة، أما روايتا المفضل وهشام فتجري فيهما القاعدة.

أقول: ومما يضعف ذيل رواية ابن أبي نصر عدم وروده في نظائرها كصحيحة علي بن يقطين (رقم 1، صفحة 145) ورواية هشام بن سالم (رقم 19، صفحة 149) بل ورود عكسها (أوفر حظاً) في رواية المفضل (رقم 20، صفحة 150).

ووجدت هنا مخرجاً للسيد الخميني (قدس سره)، قال: ((ومن المحتمل أن يكون لفظ (حظاً) في رواية مهران بتقديم الخاء المعجمة على الطاء غير المعجمة – أي تصبح (خطأً)- وكان التفسير من بعض الرواة، وكان الأصل الذي فيه الرواية مأخوذاً بالمناولة لا بالقراءة وكان تفسيره لاشتباه وقع في الخط))(1).

أقول: هذا الاحتمال بعيد لتكرر كلمة (حظاً) في نفس الرواية وفي رواية المفضل، وهو المناسب للتفسير في ذيل الرواية المتضمن للتعليل بصحبة الجبار، وقد اعترف (قدس سره) بأن ما ذكره غير معتمد في نفسه ولا أعلم كيف انقدح في ذهنه وقد راجعت كل الطبعات المحققة التي أوردت الحديث كالوسائل بطبعاتها وجامع أحاديث الشيعة ولم يشر أحد إلى وجود نسخة بهذا المعنى، لكنه (قدس سره) برّر المحاولة بأنه ((بعد ورود قوله: (أوفر حظاً) في رواية أخرى، وبعد التصرف فيها، وورود روايات أخر تؤيدها، لا بعد فيه، سيما مع قرب وقوع الاشتباه في مثل الكلمة المذكورة التي يكون منشأ الاشتباه فيها تغيير محل النقطة قليلاً، وفي مثله ليس الاحتمال المذكور مخالفة معتداً بها للأصل العقلائي سيما مع وجود الروايات على خلافه، والأمر سهل)).ومثله في البعد وعدم الدليل عليه ما حكي عن المحقق الإيرواني (قدس سره) من ((حمل الروايات –الدالة على أن في أبواب السلاطين الجائرين من

ص: 162


1- المكاسب المحرمة: 2/192.

يدفع الله بهم عن المؤمنين -على غير الولاة من وجوه البلد وأعيانه الذين يختلفون إليه لأجل قضاء حوائج الناس)) فيكون أجنبياً عن المطلوب معللاً ((بأن العمال في الغالب لا يستطيعون التخطي عما نصبوا لأجله وفُوِّض إليهم من شؤون الولاية))(1)، مضافاً إلى ما ذكرناه سابقاً من شمول التعليل لمطلق المصاحبة.

والذي أراه في وجه الجمع مثل ما تقدم في الموضع الأول وحاصله أن رواية الكراهة هي المرجع في المسألة مدعومة بروايات النهي الكثيرة، فلا يضرّها المناقشة في السند، فالخطاب الموجه لعامة الناس والحكم الأولي في المسألة هي المرجوحية لتعذر تحصيل شروط الرخصة والجواز نظرياً وعملياً وأولها إخلاص النية كمثال المحقق الأردبيلي (قدس سره)، أما رواية ابن بزيع ومثلها منع ابن يقطين من ترك الولاية لهارون فقد خوطب بها أمثالهما خاصة لذلك خلت روايتاهما من ذيل رواية ابن أبي نصر، فإضافة الذيل وعدمه بلحاظ استعداد الشخص لتحصيل الشروط.

موارد الرخصة في الولاية للجائر

اشارة

استثنت روايات الطائفة الثانية من الحرمة عدة موارد ثبت فيها جواز الولاية للجائر لمسوغ كجواز الكذب للإصلاح بالشروط المذكورة فيها:

(المورد الأول) القيام بمصالح العباد، قال الشيخ الأنصاري (قدس سره):

((بلا خلاف على الظاهر المصرّح به في المحكي عن بعض))(2)

-ويقصد به المحقق الراوندي (قدس سره)- حيث قال: ((إن تقلد الأمر من قبل الجائر إذا تمكن معه من إيصال الحق إلى مستحقه جائز.

ص: 163


1- حكاه في مصباح الفقاهة: 670 عن حاشية الإيرواني: 1/255 وتعجب منه باعتبار أن الولاة قادرون على الشفاعة في الحاجات والتكتم على الخطيئات.
2- المكاسب: 2/72.

يدل عليه –بعد الإجماع المتردد والسنة الصحيحة- قول الله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: «قَالَ اجْعَلنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» طلب ذلك إليه ليحفظه عمن لا يستحقه ويوصله إلى الوجوه التي يجب صرف الأموال إليها، ولذلك رغب إلى الملك فيه، لأن الأنبياء لا يجوز أن يرغبوا في جمع أموال الدنيا إلا لما قلناه، فقوله «حَفِيظٌ» أي حافظ للمال عمن لا يستحقه عليهم بالوجوه التي يجب صرقه إليها.

ومتى علم الإنسان أو غلب عليه ظنه أنه لا يتمكن من جميع ذلك فلا يجوز له التعرض له على حال))(1).أقول: قرّب الشيخ كاشف الغطاء (قدس سره) الاستدلال بالآية من جهة ((ثبوت الحكم بالنسبة إلينا استصحاباً أو لقاعدة أن ما أسنده الله إلى أوليائه أو مطلقاً في كتابه يحمل على موافقة ملة الإسلام إلا مع قيام دليل على الخلاف))(2).

أقول: تحصّل مما تقدّم وجوه للاستدلال على الجواز في هذه الموارد:-

1- الإجماع، ويرد عليه أنه مدركي مستند إلى الروايات الآتية.

2- الآية الشريفة في فعل النبي يوسف (عليه السلام) ويرد على الاستدلال بالآية هنا على المطلوب:-

أ- ما في بعض الشروح وحاصله أن النبي (عليه السلام) هو وليّ الأمر الشرعي فطلبه الولاية هو مطالبة واستنقاذ لبعض حقه وليس عملاً للجائر فيكون أجنبياً عن المدّعى، ومن هذا القبيل قبول الإمام الرضا (عليه السلام) لولاية عهد المأمون، أما غير الولي الشرعي صاحب الحق فلا بد له من دليل على الرخصة.

ص: 164


1- فقه القرآن:2/24.
2- شرح القواعد: 98.

وفيه: إن كون النبي (عليه السلام) هو الولي الشرعي وإن كان صحيحاً في نفسه بحسب الأصل الجاري في المسألة إلا أنه لا يصلح للجواب لأنه يواجه مشكلة من جهة أن في انضمام المتشرعة للسلطة الجائرة إغراءً للعامة لأن فيه إعطاء المشروعية للسلطان الجائر لذلك وردت الحرمة في مجرد تسويد الاسم في ديوان الظلمة بغضّ النظر عن كون المتولي مستحقاً أم لا، وهذه المشروعية بعض ما أراده المأمون العباسي من إعطاء ولاية العهد للإمام الرضا (عليه السلام) لكن الإمام أحبط مشروعه بالشروط التي أملاها. كما أنه (عليه السلام) صرح مراراً أنه وليَ العهد وهو كاره تقيةً.

ب- احتمال عدم كون غرض النبي يوسف (عليه السلام) حفظ أموال الناس أصلاً، وإنما أراد بطلبه حفظ الخزائن أن يكون قريباً من الملك وهو قمة هرم السلطة أي الاقتراب من مركز القرار والتأثير كما يقال لهدايته وهداية شعب مصر من خلال تغيير دين الدولة إلى الإيمان، وهو –لعمري- أهم من إدارة أموال الناس الكفرة يومئذٍ وأموالهم وإنما كان الوصول إلى السلطة وسيلة لا غاية، وإذا دخل الاحتمال في الفرض الذي ذكره (قدس سره) بطل الاستدلال، كما أن قبول الإمام الرضا (عليه السلام) لولاية العهد يمكن أن يكون تخطيطاً منه (عليه السلام) للدفاع عن الإسلام وقادته العظام والاقتراب من مركز السلطة وأخذ الزمام منها في مواجهة الشبهات العقائدية والإلحاد والتيارات الفكرية المنحرفة التي ازدهر سوقها بسبب انفتاح المسلمين على الأمم الأخرى وترجمة آثارهم؛ ولحضور المناظرات التي كان يعقدها المأمون مع علماء الديانات وزعماء الزندقة والشرك والإلحاد في مجلسه، ولكن الإمام (عليه السلام) دفع المأمون لإخراجها بهذا الشكل الإكراهي ليكون فعله خالياً منالآثار السيئة، فالإمام (عليه السلام) قام بإحدى وظائف إمامته التي لم يستطع ملوك العصر سلبها منه (عليه السلام).

ص: 165

3- الروايات وهي كثيرة وقد تقدمت جملة منها في المجموعة الثانية (صفحة 145) وأوردنا قبل قليل عدة منها كصحيحة ابن يقطين ورواية ابن بزيع والمفضل وهشام وغيرها.

4- ما أضافه الشيخ الأنصاري (قدس سره) بقوله: ((ويدل عليه أن الولاية إن كانت محرمة لذاتها كان ارتكابها لأجل المصالح ودفع المفاسد التي هي أهم من مفسدة انسلاك الشخص في أعوان الظلمة بحسب الظاهر، وإن كان لاستلزامها الظلم على الغير، فالمفروض عدم تحققه هنا))(1).

ويرد عليه:-

1- جواز الدخول في ولاية الجائر يكفي فيه النصوص المتقدمة وهي مطلقة وليست مقيدة بالأهمية، فهذا التقريب منه (قدس سره) إن كان تفسيراً للروايات وقراءة فيها فلا بأس به، أما جعل الأهمية دليلاً مستقلاً –كما هو ظاهر قوله: ويدل عليه- مستنداً إلى مرجحات باب التزاحم فيرد عليه أنه أخص من المدعى الذي هو جواز الدخول في ولايتهم لمطلق المصالح الراجحة وقضاء حوائج المؤمنين ومقتضى دليله اقتصار الرخصة على المصالح الأهم من هذه الكبيرة الموجبة للنار كحفظ النفوس المحترمة والأعراض.

قال السيد الخميني (قدس سره): ((إن المدعى استثناء المورد عن الحرمة، كما اعترف به وتدل عليه الأخبار، لا من باب ترجيح أحد المتزاحمين، ولو آل الأمر إلى مزاحمة المقتضيات، فلا يمكن إحراز أهمية الدخول في الولاية المحرمة))(2).

ص: 166


1- المكاسب: 2/72.
2- المكاسب المحرمة: 2/174.

2- إن الحرمة الذاتية للولاية للجائر لا تعني وجود مفسدة وقبح ذاتي فيها كالظلم حتى نبحث في ترجيح المصالح والمفاسد، وإنما تعني أن الأصل فيها ذلك كما تقدم وأن حرمتها ناشئة من التصرف في حق الغير بدون إذنه، فإذا أذن صاحب الحق جاز الدخول فيها من غير لحاظ لتزاحم الملاكات بل لا موضوع لها، وسيأتي مزيد من البيان إن شاء الله تعالى.

وقد لفت هذا التقريب للشيخ الأنصاري (قدس سره) الانتباه إلى ما يمكن أن يشكل به على الرخصة في هذا المورد، إذ كيف يسوّغ ارتكاب حرمة كبيرة من أجل أمر مستحب، قال السيد الخوئي (قدس سره): ((إن كان المراد منها –أي المصالح- أن القيام بأمور المسلمين والإقدام على قضاء حوائجهم وبذل الجهد في كشف كرباتهم من الأمور المستحبة والجهات المرغوب بها في نظرالشارع المقدس، فلا شبهة أن مجرد ذلك لا يقاوم الجهة المحرمة، فإن المفروض أن الولاية من قبل الجائر حرام في نفسها، وكيف ترتفع حرمتها لعروض بعض العناوين المستحبة عليها. على أنه (رحمه الله) قد اعترف آنفا بأن الولاية عن الجائر لا تنفك عن المعصية، وعليه فلا يجوز الإقدام على المعصية لرعاية الأمور المستحبة، وقد اعترف أيضاً في البحث عن جواز الغناء في قراءة القرآن بأن أدلة الأحكام الإلزامية لا تزاحَم بأدلة الأحكام الترخيصية))(1).

أقول: يرد عليه (قدس سره):-

1- ما يمكن أن يكون دفاعاً عن الشيخ الأنصاري (قدس سره) وهو ما ذكرناه قبل قليل وأن هذا التقريب هو تفسير لورود الرخصة في الروايات، وكأنه جواب على الإشكال الذي حررناه، وتفصيل الكلام: أن الأهمية التي يتحدث (قدس سره) عنها إنما هي في مرتبة الجعل

ص: 167


1- مصباح الفقاهة: 1/665، وهو ج35 من الموسوعة الكاملة.

والتشريع أي في عالم الملاكات التي هي المصالح والمفاسد في التشريعات وهي مناط التخصيص والاستثناء، وهناك يتصور أن يلحظ الشارع المقدس مصلحة هي في عالم الإثبات غير إلزامية فيقدمها على ملاك حكم إلزامي فيقيده أو يخصصه بها، وهكذا كل التخصيصات والتقييدات والاستثناءات فقد يأتي خطاب ظاهر في الوجوب أو الحرمة ثم يأتي خطاب ترخيصي فيصرفه عن ظاهره ويحصل التقييد والتخصيص، فالتزاحم والترجيح في عالم الملاكات التي هي من مقدمات الجعل والإنشاء، وليس في مرتبة المجعول أي المصالح والمفاسد في الأحكام وفي عالم الامتثال حتى تدخل في باب التزاحم.

نعم يرد على الشيخ الأنصاري (قدس سره) حينئذٍ بأن ما ذكره ليس دليلاً مستقلاً وإنما هو قراءة في الروايات لأن الملاكات المذكورة تستكشف من النصوص الشرعية.

2- قوله (قدس سره): ((إن أدلة الأحكام الإلزامية لا تزاحَمُ بأدلة الأحكام الترخيصية)) غريب؛ لأن الأدلة تتعارض وليس تتزاحم وملاك الترجيح فيه إقوائية الدليل وليس الأهمية كما في التزاحم، والفقه مبني على تقديم الدليل الترخيصي على ما ظاهره الإلزام في الوجوب أو الحرمة إن كان أقوى منه فيفيد الاستحباب أو الكراهة، وهو ما اختاره (قدس سره) في المقام إذ قال: ((وبهذه الأخبار نقيّد المطلقات الظاهرة في حرمة الولاية من قبل الجائر على وجه الإطلاق))(1)

فأين المشكلة؟.

3- ولو صححنا كلامه (قدس سره) وحملناه على وقوع التزاحم هنا بين الأحكام (أي حرمة الولاية للجائر واستحباب قضاء حوائج المؤمنين) فإن نفس هذا المورد نقض على كبرى عدم صلاحية الأحكام الترخيصية

ص: 168


1- مصباح الفقاهة:1/666.

لمزاحمة الأحكام الإلزامية؛ لقيام الدليل على التقديم، فهذه الكبرى غير مسلّمة على إطلاقها، ولا يجوز التمسك بها للاعتراض على استثناء المورد بعد قيام الدليل المعتبر عليه من الروايات، كعدم جواز الاعتراض على إجزاء دفع الزكاة إلى السلطان الجائر خلافاً لمقتضى الروايات والقواعد والأصول، لكن باب النقاش مغلق لورود الروايات فيه.

ومما يعدّ نقضاً على هذه الكبرى جواز الكذب للإصلاح المتسالم عليه لدى الفقهاء مع أن الكذب من الكبائر، وما ورد أن (إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام)(1)

أو إجزاء بعض المستحبات –كغسل الجمعة- عن الواجب مع أن ملاك الأول ناقض كما يعبّرون، فهذه الكبرى وكثير غيرها في الفقه والأصول تُسوَّق كقواعد كلية دون دليل سوى تنقيح مناط موارد جزئية ونتيجة مثله ليست معتمدة.

4- المناقشة في دعوى كون حفظ مصالح العباد حكماً غير إلزامي إذ يمكن القول بوجوبه ولو على مستوى الواجبات الاجتماعية التي نظّرنا لها سابقاً، فلا يضرّه عدم معروفية وجوبه بالنظرة الفردية التقليدية. وهو ليس بعيداً عن ذوق الشارع المقدس وسيرته في الاهتمام البالغ بحفظ الدين الإحسان إلى العباد والرحمة بهم وتقديمه على سائر الأحكام الفردية.

وأنقل نصاً من كلام المحقق الأردبيلي (قدس سره) شاهداً على شدة اهتمام الشارع المقدس بحفظ مصالح العباد والدفع عنهم ومقدماً إياه على كثير من الواجبات والمحرمات المهمة، والمهم محل الشاهد بغضّ النظر عن المناقشات في بعض ما جاء فيه، قال (قدس سره) معلقاً على

ص: 169


1- الكافي: 7/51، وفي نهج البلاغة، الكتب والعهود والوصايا، من وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لولده الحسن (عليه السلام).

الآية الكريمة «وَلا تَركَنُوا إلى الذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَارُ» وتطبيق الإمام لها على حب بقائهم لنيل شيء من دنياهم وكذا رواية المناهي (وتضعضع له طمعاً فيه) قال (قدس سره): ((فلعله –أي الميل إلى الجائر ليصل إليه من دنياه شيء- المراد بالخبر لا مطلق الميل، ولا مطلق حب البقاء، فلو أحب شخصٌ بقاء حاكم جور مؤمن –لحبّه المؤمنين وحفظه الإيمان والمؤمنين ولذبّه عن الإيمان وأهله، ومنعه المخالفين عن التسلط عليهم وقتلهم وردّهم عن دينهم وإيمانهم- فالظاهر أنه ليس بداخل في الآية فإنه في الحقيقة محبة للإيمان وحفظه، لا ذلك الشخص وجوره وفسقه، بل ولا ذاته، بل كل متأمل ينكره ويكرهه لجوره وظلمه.

بل ولا يبعد ذلك في مخالف لو فعل ذلك، بل في كافر بالنسبة إلى حفظالإسلام والمسلمين، ولهذا يجوز إعطاء المؤلفة من الزكاة حتى يعينوا المسلمين، وطلب الكفار للإعانة، ولا شك أنه –حينئذٍ- حياتهم محبوبة للمسلمين، بل للإمام (عليه السلام)، ولا يريدون مغلوبيتهم ومقتوليتهم بل يريدون أن يبقوا ويقتلوا الأعداء، ولهذا يمنعون عنهم، بل يوجبون لهم قتل المسلمين الذين تترّس بهم الأعداء))(1).

5- إن هذا النقاش مع السيد الخوئي (قدس سره) وكذا مع الشيخ الأنصاري (قدس سره) بما تقدم تنزلي جرياً على مبانيهما، حيث فهما من الحرمة الذاتية وجود مفسدة ذاتية تقتضيها فوقعا في إشكال تقديم غير الإلزامي على الإلزامي، وقد أوضحنا عدم صحة هذا الفهم، لذا فإن الإشكال عليهما (قدس الله سريهما) يرد في مرتبة قبل هذه فقد قالا ما قالاه لأنهما لم يؤسسا الأصل في المسألة، وإن قالا بمقتضاه وهي الحرمة الذاتية لولاية الجائر لأن الولاية حق المعصومين (عليهم السلام)

ص: 170


1- مجمع الفائدة والبرهان: 8/68-69.

ونوابهم ولهم الحق في إعطاء الرخصة في الموارد التي يشاؤون فإذا ثبتت الرخصة منهم فلا موضوع هنا لمرجحات باب التزاحم، ولا الإشكال في وجه تقديم أدلة الأحكام غير الإلزامية على أدلة الأحكام الإلزامية.

فالمعتمد عليه في الاستدلال الروايات وهي مطلقة غير مقيدة بالأهمية، وتكشف عن إذن صاحب الحق في التصرف، وبعضها وإن كان قابلاً للمناقشة في السند إلا أن بعضها الآخر معتبر، وعلى أقل تقدير فإنه يتحصل من مجموعها الاطمئنان بالرخصة في هذا المورد، وهي تدل على الجواز بل الرجحان في هذا المورد بل الإلزام به لمن يقدر عليه مع الأمن من المخالفة الشرعية كما في ذيل رواية ابن بزيع عن الإمام الرضا (عليه السلام) (يكون معهم فيسرّنا بإدخال السرور على المؤمنين من شيعتنا فكن منهم يا محمد).

ولعل السيد الخميني (قدس سره) انطلق من هذا الإشكال حينما سعى إلى تقييد إطلاق الرخصة الواردة في الروايات بملاك الأهمية للتخلص من الإشكال، لكنه أخرجه بالتقنين التالي، قال (قدس سره): ((والتحقيق أن الروايات الواردة في الجواز على كثرتها ضعيفة سنداً، لكن الوثوق والاطمئنان حاصل بصدور بعضها إجمالاً، فلا بد من الأخذ بأخصّها مضموناً))(1).

وقال (قدس سره) بعد عدة صفحات: ((والظاهر: أن المتيقن منها جواز الدخول مع العلم بأن في دخوله يدفع عن الشيعة ويحفظ منافعهم بوجه من الوجوه،ولعل من مجموع تلك الروايات الكثيرة جداً المتقاربة المضمون يحصل الاطمئنان بجواز الدخول لذلك مع علمه بتوفيقه))(2).

وقال (قدس سره) في وجه هذه الرخصة: ((وبالجملة إن المتيقن من مجموع الروايات أن جواز الدخول في ديوانهم –عليهم اللعنة- كان لإصلاح

ص: 171


1- المكاسب المحرمة: 2/199.
2- المكاسب المحرمة: 2/202.

حال الشيعة ولعل سرّه ضعف الشيعة وقلّة عددهم والخوف من تشتتهم ولا يجب التنبيه(1)

على غايات الأحكام والمصالح الكامنة فيها.

وعلى هذا الاحتمال، يكون المقام من قبيل تزاحم المقتضيات، وترجيح اقتضاء الدخول لحفظ الشيعة على اقتضاء حرمة الدخول من غير إشكال، وتوجه الروايات القائلة بأن قضاء حوائج الإخوان ونحوه كفارة عمل السلطان، سيما على ما بنينا عليه من بقاء المزاحم المهم على حرمته مع مزاحمته للأهم، وما ذكرناه وإن كان مخالفاً لظاهر بعض الروايات غير المعتمدة، لكن الاتكال في المقام على استفادة الحكم من مجموع الروايات الضعاف التي حصل الوثوق بصدور بعضها، ونتيجته ما عرفت))(2).

أقول: قوله (قدس سره): ((يكون المقام من قبيل تزاحم المقتضيات)) شاهد على أنه لاحظ الإشكال السابق، ويرد عليه:-

1- إن في الروايات ما هو معتبر ويمكن التمسك بإطلاقه ولا مسوِّغ للاقتصار على القدر المتيقن.

2- إن روايات الرخصة كثيرة بلغت حد التواتر وهي جميعاً عامة ومطلقة وليست متفاوتة سعةً وضيقاً حتى يؤخذ بالقدر المتيقن، قال السيد الخوئي (قدس سره): ((دلت الروايات المستفيضة بل المتواترة على أنه لا بأس بالولاية من قبل الجائر إذا كانت لإصلاح أمور المؤمنين من الشيعة))(3).

ص: 172


1- بل من الطبيعي والحكمة إخفاء سر هذه التوجيهات لئلا تصل إلى الأعداء ويواجهونها بمشاريع اجتثاث على الهوية.
2- المكاسب المحرمة: 2/204.
3- المكاسب المحرمة: 2/204.

3- الاقتصار على المتيقن مخالف لظاهر الروايات لأنها صرّحت بموارد للرخصة لا تدخل في عنوان المصلحة العامة في حفظ التشيع وتقوية وجودهم وإنما من باب الرفق بهم والشفقة عليهم ودفع الضرر عنهم كأفراد مثل تحصيل عطائهم أو إسقاط الضريبة عنهم أو استعمال شبابهم في وظائف الدولة وهكذا.

وهذا البحث كله تنزلي كما قلنا.أما نحن ففي غنى عن هذه التخريجات لأن الإشكال لا يرد على ما أصّلناه لأن الأخذ بالجواز في المورد ليس بتقديم حكم على حكم وإنما هي رخصة من صاحب الحق مشروطة بالكفارة وهي الإحسان إلى الإخوان، فاستثناؤها من باب التخصص لعدم حرمة المورد بعد إذن صاحب الحق وليس من باب التخصيص.

تنبيه: لا بد من مراجعة الفقيه الجامع لشرائط ولاية أمر الأمة في تطبيق هذا المورد لئلا يختلط الأمر على البعض فيتجاوز الحد المشروع، ولا يعرف ملاك هذا المسوّغ أحدٌ أكثر من الفقيه الحاذق العارف بزمانه فلا تهجم عليه اللوابس، من خلال استنطاق الروايات.

لفتة ولائية: قال المحقق الأردبيلي (قدس سره): ((وقد عرفت من هذه الأخبار اهتمامهم (عليهم السلام) بقضاء حوائج المؤمنين والأخبار في ذلك لا تحصى وليس هنا محل ذكرها.

ويفهم من اهتمام الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) واهتمامهم (عليهم السلام) بأمر شيعتهم ومحبيهم في أمر دنياهم الدنية الفانية –التي لو لم يهتموا بها لم تضرّ كثيراً لفنائها وسرعة زوال ما فيها من النعم والنقم- هذا المقدار من الاهتمام. والذي فهمته منها –من الثواب للفاعل لهم إحساناً، والعقاب لتاركه، وتجويز ارتكاب أمر شنيع مثل الوقوع من شاهق، بل جعلهم ذلك أفضل الأعمال وأثوبها- اهتمامهم بأمر آخرتهم التي لا مفرّ منها

ص: 173

إلا إلى الله وإلى رسوله وإليهم، والذي لا تفنى عقوبته ولا يوصف ضرره وهوله، وقد يحصل العلم بذلك، والعلم بأنهم لا يردّوننا خائبين، فحصل الرجاء التام بمحبتهم صلوات الله عليهم أجمعين كما هو مذكور في أخبار كثيرة جداً ومذكورة في محالها، فما بقي إلا الموت على الإيمان بالله ورسوله (صلى الله عليه وآله) وبهم (عليهم السلام) رزقنا الله وإياكم ذلك بهم))(1).

(المورد الثاني) ما لو توقف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليها:

اشارة

لم يذكر هذا المورد بعنوانه في روايات الرخصة ولعله لهذا لم يفردوا له عنواناً مستقلاً وإنما أدرجوه في المورد الأول كما سنقرّب ذلك إن شاء الله تعالى.

والمشهور رجحانه لكن الأصحاب اختلفوا في كون الحكم في هذا المورد على نحو الوجوب أم الاستحباب، فهنا قولان:

القول الأول: الوجوب

قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((لم يحك عن أحد التعبير بالوجوب إلا عن الحلي في سرائره))(2)، وذكرنا آنفاً أنه لا يوجد نص دال على الرخصة فضلاً عن الوجوب في هذا المورد.وعلى أي حال فإنه يمكن الاستدلال عليه بعدة وجوه:-

1- التمسك بإطلاق أدلة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمورد تطبيق مباشر للفريضة؛ لأن فيه استعادة بعض الحق –وهي الولاية- إلى أهله وانتزاعه من غاصبه وهو الوالي الجائر ولأن فيه منعاً من ممارسة الظلم والمنكر في المساحة التي يستطيع استرجاعها، فوجوبه من وجوب الفريضة لأنه مصداق لها.

ويرد على هذا الوجه أنه معارض بأدلة حرمة الولاية للجائر فلا بد

ص: 174


1- مجمع الفائدة والبرهان: 8/74.
2- جواهر الكلام: 22/164.

من حل التعارض، أي علينا أن نثبت في المرتبة السابقة شمول إطلاق أدلة وجوب الأمر والنهي حتى لمثل هذه الوسيلة المحرمة.

2- ما تقدم في المورد الأول من دلالة الروايات على جواز الولاية للجائر لتحقيق مصالح العباد، وأن إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم المصالح للعباد كما ورد في الأحاديث الشريفة التي مرّت في الفصل الثاني من الكتاب، ومنها رواية الإمام الباقر (عليه السلام) (إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب وتحل المكاسب وتردّ المظالم وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر)(1)، فدخول الولاية للجائر في المورد الأول للرخصة أظهر من غيرها لأنها من أعظم المصالح، ولعله لهذا استدل السيد الخوئي (قدس سره) بالفحوى، قال (قدس سره): ((إذا جازت الولاية عن الجائر لإصلاح أمور المؤمنين جازت أيضاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إما بالفحوى؛ لأن ذلك من جملة إصلاح أمورهم، وقد أشار المحقق الإيرواني إلى هذا))(2).

أقول: يرد على هذا الوجه:-

أ- لإن غاية ما يدل عليه الجواز أو الاستحباب لا الوجوب كما هو مقتضى أدلة المورد الأول وهذا إشكال لا يرد على المشهور لأنه قائل بالاستحباب أصلاً، وإنما يرد على المستدل به على الوجوب، إلا أن يُتَمَّم الاستدلال بأنه من صغريات (ما لو جاز وجب) لأنه إذا جاز الدخول للأمر والنهي وجب لوجوب الفريضة، بغضّ النظر عن كون الوسيلة محرمة.

ص: 175


1- وسائل الشيعة: كتاب كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب1، ح6.
2- مصباح الفقاهة: 1/672، حاشية الإيرواني على المكاسب: 1/257.

ب- إن جواز الدخول في الولاية متوقف على إذن صاحب الحق، ولم يرد شيء من ذلك في الروايات على كثرتها فقد يعد ذلك دليلاً على عدم شمول الرخصة للمورد.ج_- عدم السنخية بين مصلحة الأمر والنهي الراجعة إلى إقامة أمر الدين ومصالح العباد المذكورة في روايات الرخصة الراجعة إلى الإشفاق عليهم ورعايتهم فيمكن تصور صدور الرخصة في الثاني دون الأول فضلاً عن ادعاء الأولوية لأن منكر الولاية للجائر قد يكون أعظم من المنكر المراد النهي عنه.

قال السيد الخميني (قدس سره): ((على هذا الاحتمال –أي لزوم الأخذ بالقدر المتيقن- لا يصح إلغاء الخصوصية بالنسبة إلى مطلق المصلحة، ولا دعوى الأولوية القطعية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر))(1).

أقول: يمكن إيقاع التصالح بين الفريقين بشمول الرخصة لموارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الداخلة في عنوان المورد الأول –أي ما فيه مصلحة العباد- دون غيرها، فنفي شمول الدليل مطلقاً محل إشكال؛ لصحته بالمقدار المذكور.

3- الوجوب المقدمي لكون الولاية للجائر – بحسب الفرض- مقدمة لإقامة هذه الفريضة فيترشح عليها الوجوب منها، وهذا التقريب هو عمدة الاستدلال للقائلين بالوجوب في هذا المورد لفقدان النصوص ولأن التقريبات السابقة لو تمت فإنها لا تدل على الوجوب، وما دام هذا دليلهم فمقتضى التصنيف الفني جعله مورداً مستقلاً للرخصة وعدم إدخاله في المورد الأول، وهو ما فعلناه، ولكون بحثنا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال الشيخ كاشف الغطاء (قدس سره) في الاستثناء

ص: 176


1- المكاسب المحرمة: 2/205.

من حرمة ولاية الجائر: ((إلا مع التمكن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتوقفهما عليها فيجب عليهم حيث يجبان من باب المقدمة الدخول تحت اسم ولاة الجائر ليقوموا بما لزمهم من إقامة الأحكام التي نصبهم الإمام العادل لها وحيث أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعمّ الإذن فيه وولايته من جمع شرائطهما من فقيه أو غيره كان المتمكن منهما منصوباً بأمر الإمام العادل لهما فيما يجوز بل يجب الدخول من باب المقدمة تحت الاسم ليؤدي ما فرض عليه بسبب الولاية الشرعية بشرط أن يأمن علماً أو ظناً باعثاً على الاطمئنان من ارتكاب المحظورات والإخلال بالواجبات))(1).

أقول: سيأتي الإشكال على قوله (قدس سره): ((يعمّ الإذن فيه)) لأن عليه أن يثبت سعة إطلاق أدلة الأمر والنهي لتشمل الوسيلة المحرمة.

وقال الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((ومنها –أي أقسام الولاية للجائر- ما يكون واجبة، وهي ما توقف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواجبانعليه، فإن ما لا يتم الواجب إلا به واجب مع القدرة))(2)، وقال (قدس سره): ((وكيف كان فلا إشكال في وجوب تحصيل الولاية إذا كان هناك معروف متروك أو منكر مركوب يجب فعلاً الأمر بالأول، والنهي عن الثاني))(3).

أقول: اشتراطه وجود معروف متروك أو منكر مركوب يلزم منه أمران خالف بهما مبانيه (قدس سره)، أحدهما اشتراط تنجّز وجوب ذي المقدمة لوجوب المقدمة، وبناءً عليه لا تجب ما يعرف بالمقدمات المفوّتة، وهو مبنى غير صحيح كما قرّر في الأصول، مضافاً إلى ما حررناه في

ص: 177


1- شرح القواعد: 97.
2- و (3) المكاسب: 2/77، 94.

الفصل الثاني(1)

من كون الدفع واجباً كالرفع وهو (قدس سره) يلتزم به أيضاً(2).

وقال السيد الخوئي (قدس سره): ((لا شبهة في وجوب الولاية عن الجائر إذا توقف عليها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواجبان))(3).

أقول: إن أراد بقوله: (الواجبان) كونه قيداً احترازياً فيأتي عليه ما أوردناه على الشيخ الأنصاري آنفاً.

واعترف الشهيد الثاني (قدس سره) –القائل بالاستحباب وفاقاً للمشهور- بأن مقتضى المقدمية الوجوب، قال (قدس سره): ((وقد أطلقوا هنا جواز التولية أو استحبابها في الفرض المذكور، مع الأمن من اعتماد المحرم، والقدرة على الأمر بالمعروف، ومقتضى هذا الشرط وجوب التولية؛ لأن القادر على الأمر بالمعروف يجب عليه وإن لم يولِّه الظالم))(4).

أقول: المقدمية يمكن تصورها على أنحاء:

(منها) تمكّنه بالولاية والحكم وقوة السلطة من إزالة المنكر الموجود وإقامة المعروف المفقود، وهذا أوضح الأنحاء وهو ظاهر الشيخ الأنصاري (قدس سره) وغيره.

(ومنها) أنه يتمكن من منع حصول المنكر وترك المعروف ولو جزئياً، ودفع المنكر واجب كرفعه، وقد تقدم البحث فيه في الفصل الثاني واستدلال

ص: 178


1- فقه الخلاف: 8/132، وهو القسم الأول من مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
2- راجع المكاسب: 1/141.
3- مصباح الفقاهة: 1/673.
4- مسالك الأفهام: 3/138.

المحقق الأردبيلي (قدس سره) بأدلة النهي عن المنكر على حرمة تأجير المساكن للمحرمات وبيع العنبليعمل خمراً(1)، ولا يؤثر الفرق بينهما هنا من جهة كون ما نحن فيه تركاً لو فعله لم يقع المنكر، ومحل كلامه (قدس سره) فعل لو تركه لم يقع المنكر.

(ومنها) أنه يكون قريباً من الجهاز الحاكم فيتمكن من ممارسة الوظيفة معهم، وعبر قربه لمصدر القرار، كما قربنا عن فعل النبي يوسف والإمام الرضا (صلوات الله عليهما).

(ومنها) أنه بتوليه يستنقذ حقاً وموقعاً من أيدي الجائرين ولو لم يتولاه لتقمصه الجائرون.

إشكالات على القول بالوجوب

وتوجد عدة إشكالات على هذا الاستدلال وعلى أصل القول بالوجوب في هذا المورد، ولعلها أوجبت العدول عن القول بالوجوب عند البعض فقالوا بالاستحباب كما سيأتي إن شاء الله تعالى:

أولها: ما في الكفاية للمحقق السبزواري وحاصله ((إن الوجوب في ما نحن فيه حسن لو ثبت كون وجوب الأمر بالمعروف مطلقاً غير مشروط بالقدرة، فيجب عليه تحصيلها من باب المقدمة، وليس بثابت))(2).

بيان الإشكال: أن الدخول في ولاية الجائر إنما يجب مقدمة لفريضة الأمر والنهي لو ثبت أن وجوب الفريضة مطلق غير مشروط بالقدرة الحالية الفعلية غير المتحققة في المقام لتوقف الفريضة على الدخول فيكون من شرط

ص: 179


1- مجمع الفائدة والبرهان: 8/49، 51.
2- الكفاية: 88.

الواجب الذي يجب تحصيله لا من شرط الوجوب الذي لا يجب تحصيله، لكن الإطلاق من هذه الناحية لم يثبت فوجوب الدخول غير ثابت.

وببيان أوضح: إن ترشح الوجوب على المقدمة حتى يجب تحصيلها والقول بوجوبها يعني أنها مقدمة واجب، ولا تكون كذلك إلا إذا أثبتنا أنها ليست مقدمة وجوب، أي علينا أن نثبت أن وجوب الأمر والنهي مطلق غير مشروط بالقدرة المفقودة في المقام بحسب الفرض لتوقفها على الولاية للجائر، ولم يثبت عدم التقييد هذا.

ويرد عليه (قدس سره) إشكال رئيسي سندعه للشيخ الأنصاري (قدس سره) ونذكر بعض الملاحظات الفنية، منها:-

قوله (قدس سره): ((حسن لو ثبت)) ويرد عليه بأنه حتى لو ثبت مثل هذا الإطلاق فإنه غير كافٍ لإثبات الوجوب حتى يثبت شمول الوجوب المقدمي1- لحالة كون المقدمة محرمة وهي الولاية للجائر في المقام، وإلا يقع التعارض أو التزاحم.

2- قوله: ((فيجب عليه تحصيلها)) استدلال باللازم –أي لازم عدم كونه شرطاً للوجوب- وهو غير تام.

3- المناقشات التي ذكرناها في أكثر من موضع في إطلاق كبرى عدم وجوب تحصيل مقدمات الوجوب.

وقد أجاب الشيخ الأنصاري (قدس سره) بقوله: ((وهو ضعيف؛ لأن عدم ثبوت اشتراط الوجوب بالقدرة الحالية العرفية كافٍ، مع إطلاق أدلة الأمر بالمعروف السالم عن التقييد بما عدا القدرة العقلية المفروضة في المقام.

ص: 180

نعم، ربما يتوهم انصراف الإطلاقات الواردة –في الأمر بالمعروف- إلى القدرة العرفية الغير المحققة في المقام، لكنه تشكيك ابتدائي لا يضر بالإطلاقات))(1).

أقول: هذا الجواب صحيح كبروياً أي أن عدم ثبوت تقييد وجوب الأمر والنهي بالقدرة الحالية العرفية كافٍ لصحة التمسك بإطلاقات الأمر والنهي ولا حاجة لإثبات عدم التقييد كما أراد المستشكل فإنه من لزوم ما لا يلزم.

لكن يرد على هذا الجواب في المقام أنه غير كافٍ صغروياً؛ لأن القدرة الشرعية كالقدرة العقلية شرط في تنجيز التكليف كما أن واجد الماء المغصوب خاصة يسقط عنه التكليف بالوضوء لعدم القدرة، والمفروض عدم تحقق القدرة الشرعية لأن الوسيلة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي ولاية الجائر محرمة ذاتاً عند الشيخ الأنصاري (قدس سره) فلا ينفعه حتى شرط الأمن من الوقوع في الحرام، فلا بد من معالجة هذا التعارض أو التزاحم وستأتي صياغته كإشكال مستقل.

ولعله لأجل هذا قرّب بعض الأعلام المعاصرين إشكال المحقق السبزواري (قدس سره) بنحو آخر فقال: ((إن دليل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقيد بالقدرة الشرعية، ودليل حرمة الولاية مطلق من هذه الجهة، وقد حقق في محله أنه إذا تزاحم تكليفان أحدهما مشروط بالقدرة شرعاً دون الآخر يقدم المشروط عقلاً على المشروط بالقدرة شرعاً، إذ ملاك الحكم غير المشروط بالقدرة شرعاً تام لا قصور فيه، ولا مانع عن جعل الحكم على طبقه فيكون حكمه فعلياً وموجباً لعجز المكلف عن امتثال التكليف الآخر ومانعاً عن تحقق ملاكه المتوقف على القدرة عليه على الفرض.

ص: 181


1- المكاسب: 2/80.

هذا بخلاف المشروط بالقدرة شرعاً، إذ جعله يتوقف على تمامية ملاكه، وهي تتوقف على عدم فعلية الحكم الآخر، فلو استند عدم فعليته إلى فعلية الحكم المشروط بالقدرة شرعاً لزم الدور، وهذا الوجه هو الذي أشار إليه في محكي الكفاية))(1).

أقول: ويرد(2)

عليه:-

1- أنه عليه أن يثبت تقييد وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقدرة الشرعية لأن الخصم يدعي إطلاقه وأن عدم المانع الشرعي من شروط الواجب.

2- إمكان دعوى أن حرمة الولاية للجائر مقيدة بأن لا تكون مقدمة لواجب كفريضة الأمر والنهي فهو غير قادر شرعاً على الترك والقدرة الشرعية كما تلحظ في الفعل كذلك تلحظ في الترك، وليس أحد التقييدين أولى من الآخر.

وسنحقق في هذه الدعاوى عند البحث في الإشكال الثاني التالي.

ثانيها: التعارض، وهذا الإشكال يرد على القائلين بالحرمة الذاتية خاصة.

وتقريبه: أنه يقع تعارض بين إطلاق ما دل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المقتضي لوجوب مقدماته، وبين إطلاق ما دل على حرمة

ص: 182


1- فقه الصادق: 21/387.
2- بنينا الرد على أحد معنيي القدرة العقلية والشرعية في مقابل التكوينية كوجوب الوفاء بالشروط فإنه مشروط بالقدرة التكوينية ومشروط أيضاً بالقدرة الشرعية بمعنى أن لا يحل حراماً ولا يحرّم حلالاً، وسيأتي (صفحة 199) مناقشته بناءً على المعنى الآخر لهما.

الولاية للجائر فيتعارضان في الولاية المحرمة التي يتوقف عليها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

أما على القول بأن حرمة الولاية عرضية فينبغي عدم الإشكال من هذه الجهة لأن المفروض في كلمات الأصحاب (قدس الله أرواحهم) أنه دخلها مع الأمن من الوقوع في الحرام وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا توجد مخالفات شرعية توجب الحرمة، ويكون الوجوب المقدمي بلا معارض.

قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((نعم هو –أي الوجوب- متجه بناءً على ما قلناه من حلية الولاية السالمة عن المحرم ولذا كان المتجه بناء عليه الوجوب، لثبوت الجواز مع عدم الأمر بالمعروف فلا معارضة حينئذ لما يقتضي وجوبه))(1).ورغم ما قربناه من عدم تصور التعارض على القول بالحرمة العرضية، إلا أن بعضاً من المشهور القائلين بها التزموا بحصول هذا التعارض كالشهيد الثاني (قدس سره) في المسالك وغيره وحاولوا معالجته بما سيأتي عند مناقشة القول الثاني.

ولبيان الرأي المختار نقول: إذا ورد دليلان متعارضان بإطلاقيهما كما في المقام (أي وجوب الأمر والنهي وحرمة الولاية للجائر) أو في خطابي (أكرم العالم) و (لا تكرم الفاسق) فإنه توجد عدة مسالك(2)

أو أشكال للتعاطي معهما مشكلة وحلاً، أي بناءً ومبنىً:

أولها: مسلك المشهور الذي يرى انعقاد ظهور في الإطلاق لكل منهما فيتعارضان وتجري عندئذٍ مرجحات باب التعارض.

ص: 183


1- جواهر الكلام: 22/164-165.
2- يوجد تفصيل أكثر في كتاب الفقه الباهر في صوم المسافر: 145، فقه الخلاف: 3/ 148، ط. الثانية.

ثانيها: للسيد الخوئي (قدس سره) إذ يتفق مع المشهور في المشكلة أي انعقاد الإطلاق وحصول التعارض إلا أنه يختلف معه في الحل فإنه لا يطبق عليه مرجحاته المنصوصة لأنها خاصة بالتعارض اللفظي بين النصوص والتعارض بين الإطلاقين بحكم العقل، فيجب الرجوع هنا إلى المرجحات الخاصة إن وجدت أو العمومات الفوقانية أو الأصول العملية، وقد رددنا عليه بأن الدلالة على الإطلاق لفظية فالعرف يرى (أكرم العالم) و (لا تكرم الفاسق) متعارضين في مادة الاجتماع.

ثالثها: عدم انعقاد الإطلاق أصلاً في كل منهما؛ لأن كلاً من الدليلين يصلح مانعاً عن انعقاد إطلاق للآخر في مادة الاجتماع لأنه بيان مانع فلا تجتمع مقدمات الإطلاق في كل منهما.

لا يقال: إن الآمر عندما يصدر منه خطاب معين فإنه ناظر إلى تمام حالات موضوعه ويطلق الحكم من دون لحاظ ما يطرأ عليه من تقلبات ومعارضات مع أدلة أخرى، وإلا فإنه يعسر عليه إطلاق خطاب لأن الطوارئ لا حصر لها فكيف يصح نسبة التقييد إليه في مثل الحالة المذكورة في المقام إلا أن يوجه خطاباً خاصاً للتقييد.

فإنه يقال: إن هذه الطريقة مستعملة في خطابات العقلاء، فقد يصدر المشرِّع الوضعي قانوناً عاماً مطلقاً ثم تستجدّ له رؤية فيصدر قانوناً آخر وهو يعلم أنه يتعارض في بعض فقراته مع قوانين أخرى، وبدلاً من أن يشير تفصيلاً إلى حاكمية هذا القانون على كل موارد التنافي في القوانين الأخرى يقول: إن هذا القانون نافذ مطلقاً ولا يجوز العمل بأي مادة قانونية تعارضه، لكننا في الخطابات الشرعية نفتقد إلى مثل هذا البيان الصريح لسبب أو لآخر أو تعمّد الشارع المقدس ذلك لمصلحة ما، وحينئذٍ يؤخذ بالقدر المتيقن لكل منهما ويرجع في مادة الاجتماع إلى العمومات الفوقانية أو الأصول العملية وقد طبقنا هذه

ص: 184

الكبرى في كتاب (الفقه الباهر) على شرطي تبييت نيّة السفر والسفر قبل الزوال لإفطار الصائم.فهذا الوجه يطابق مسلك السيد الخوئي (قدس سره) في الحل، إلا أنه يختلف معه في تشخيص المشكلة وهو انعقاد الإطلاق، وقد أجبنا هناك(1)

عن الإشكال العويص –بحسب السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره)- بأن لازمه عدم جواز التمسك بالإطلاق عند احتمال وجود مقيِّد منفصل لم يصل إلينا، وسنورد إشكالاً على الأخذ بهذا المبنى مطلقاً.

وقد طبّق السيد الخميني (قدس سره) هذه الكبرى هنا فقيّد بها إطلاق وجوب الأمر والنهي فقط دون الولاية المحرمة قال (قدس سره): ((ويمكن إنكار إطلاق أدلة الأمر بالمعروف لمورد توقفه على الولاية من قبل الجائر بأن يقال: إن وجوب الأمر بالمعروف إنما هو لإقامة الفرائض ولا إطلاق فيها يشمل ما يوجب سقوط فريضة أو ارتكاب محرم –كالولاية للجائر-; فلا يقع التعارض بينها وبين أدلة حرمة الولاية)).

ثم أورد على نفسه إشكالاً –وهو يرد على الأخذ بهذا المبنى مطلقاً- وأجابه قال (قدس سره): ((وليس المراد أن كل عامين من وجه كذلك حتى يقال: باستلزامه نفي التعارض بينهما مطلقاً وهو خلاف ما عليه الفقهاء وخلاف الواقع، لأن كل عنوان محكوم بحكم لا ينظر حكمه إلى حكم عنوان آخر بل يلاحظ الإطلاق بالنسبة إلى حالات الموضوع مع قطع النظر عن حكم آخر وبلا لحاظ إليه.

بل مرادنا أن في المقام خصوصية موجبة لذلك وهى أن موضوع أدلة وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو الأمر بالواجبات والنهي عن المحرمات، ومن الواضح بحكم العقل والعقلاء أن إيجابهما ليس لاقتضاء في

ص: 185


1- الفقه الباهر: 148.

نفسهما بحيث يكون إنشاء الأمر والنهي أو نفسهما ذا مصلحة قائمة بهما بل هو للتوصل بهما إلى فعل الواجب وترك الحرام، ولهذا لا يجبان الا مع احتمال التأثير. ويشهد له قوله: (فريضة عظيمة بها تقام الفرائض) فتلك العناوين التوصلية إذا وقعت متعلقة للأمر لا ينقدح في أذهان العرف والعقلاء إلا أن الأمر بها للتوصل لا لمصلحة ذاتية نفسية، وبالجملة إنهما واجبان للغير لا غيريان فإذا كان كذلك لا يستفاد من أدلة وجوبهما إطلاق يشمل ما يستلزم منه ارتكاب محرم أو ترك واجب فإن ما وجب لإقامة الفريضة لا إطلاق لوجوبه لمورد اماتتها))(1).

أقول: سيأتي احتمال صحة تقريبه (قدس سره) في جهة الأمر بالمعروف خاصة، أما النهي عن المنكر فله شأن آخر وتقريبه (قدس سره) غير شامل له ويحصل بينهما تزاحم كما سنبين إن شاء الله تعالى.

رابعها: ملاحظة كل حالة بحسب ما يستظهر من أدلتها، فقد يكون من التعارض وقد يكون من التزاحم، أي أن الدليلين المتعارضين من وجه قد يستظهر من أحدهما أنه ناظر إلى تخصيص أو تقييد الآخر في مادة الاجتماع إما بتصريح –كماذكرناه (صفحة 184) في الأوامر العقلائية- أو بقرينة ما، وقد يستظهر ذلك في كل منهما فيكون من التعارض لأنه تنافٍ في الجعل والتشريع لتزاحم بين الملاكات، وقد لا يستظهر شيء من ذلك وإنما يقع التزاحم لدى المكلف عند الامتثال فيكون من باب التزاحم.

وقد وجدنا جملة من الأعلام جعلوا التنافي في المقام من باب التزاحم وأجروا فيه مرجحاته، فقد حكى صاحب الجواهر (قدس سره) الترجيح عن

ص: 186


1- المكاسب المحرمة: 2/193-194.

السيد بحر العلوم (قدس سره)، قال: ((نعم احتمل ترجيح مصلحة الأمر بالمعروف على المفسدة المقتضية لحرمتها فتحل حينئذٍ مع توقفه عليها))(1).

أما الشيخ كاشف الغطاء (قدس سره) فقد أخذ بدليل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوجوب المقدمي من دون أن يعالج هذه المشكلة كما تقدم، مع أنه ممن اختار الحرمة الذاتية.

وقد قرّب الشيخ الأنصاري (قدس سره) وقوع التزاحم عند توجيهه تقريب الشهيد الثاني للاستحباب وسيأتي (صفحة 190) إن شاء الله تعالى، وحاصله أن كلاً من الولاية للجائر وترك فريضة الأمر والنهي قبيح وليس أحدهما أقل قبحاً من الآخر فيكون المقام من قبيل تزاحم المقتضيين.

وقد نقلنا (صفحة 166) عنه (قدس سره) كلاماً قاله في موضع سابق يكشف عن ترجيحه فريضة الأمر والنهي مطلقاً، قال (قدس سره): ((إن الولاية إن كانت محرمة لذاتها، كان ارتكابها لأجل المصالح ودفع المفاسد التي هي أهم من مفسدة انسلاك الشخص في أعوان الظلمة بحسب الظاهر وإن كان لاستلزامها الظلم على الغير، فالمفروض عدم تحققه هنا))(2).

أقول: ناقشنا هذا الجواب فيما سبق وقلنا أنه أخص من المدّعى إذ لا يمكن قبول هذه الدعوى إلا في حدود الأمور التي يُعلم عدم رضا الشارع المقدس بتركها كإزهاق النفس المحترمة ونحوها والمدعى جواز الولاية لإقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلقاً.

وقال السيد الخوئي (قدس سره): ((المقام من قبيل توقف الواجب على مقدمة محرمة، وعليه فيقع التزاحم بين الحرمة المتعلقة بالمقدمة وبين الوجوب المتعلق بذي المقدمة، نظير الدخول إلى الأرض المغصوبة لإنقاذ الغريق، أو إنجاء

ص: 187


1- جواهر الكلام: 22/160.
2- المكاسب: 2/72.

الحريق، ويرجع إلى قواعد باب التزاحم المقررة في محله. وعلى هذا فقد تكون ناحية الوجوب أهم فيؤخذ بها، وقد تكون ناحية الحرمة أهم فيؤخذ بها، وقد تكون إحدى الناحيتين بخصوصها محتمل الأهمية فيتعين الأخذ بها كذلك، وقد يتساويان في الملاك فيتخيّرالمكلف في اختيار أي منهما شاء، هذا ما تقتضيه القاعدة. إلا أن كشف أهمية الملاك والعلم بوصوله إلى حد الإلزام في غاية الصعوبة))(1).

أقول: لم يبيّن (قدس سره) وجه عدوله إلى القول بالتزاحم مع أن مبانيه تقتضي كونه من التعارض بين الإطلاقين.

القول الثاني: الاستحباب

وهو المشهور واختاره أغلب الأساطين، قال الشيخ (قدس سره) في النهاية: ((تولي الأمر من قبل السلطان العادل جائز مرغب فيه، وربما بلغ حد الوجوب؛ لما في ذلك من التمكن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووضع الأشياء مواقعها، وأما سلطان الجور، فمتى علم الإنسان أو غلب على ظنه أنه متى تولى الأمر من قبله، أمكنه التوصل إلى إقامة الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقسمة الأخماس والصدقات في أربابها وصلة الإخوان، ولا يكون في جميع ذلك مخلاً بواجب، ولا فاعلاً لقبيح، فإنه يستحب له أن يتعرض لتولي الأمر من قبله))(2).

ص: 188


1- مصباح الفقاهة: 1/671.
2- النهاية: ص356.

وقال في السرائر: ((وأما السلطان الجائر، فلا يجوز لأحد أن يتولى شيئاً من الأمور مختاراً من قبله إلا أن يعلم أو يغلب على ظنه ... ))(1)

إلى آخر عبارة النهاية بعينها.

وفي الشرائع: ((ولو أمن من ذلك – أي اعتماد ما يحرم - وقدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر استحبت))(2).

أقول: هذا القول من المشهور غير مبرَّر لأنهم لا يقولون بالحرمة الذاتية لولاية الجائر وإنما هي عرضية تنشأ مما يقوم به من المحرمات والمفروض أنهم يشترطون في دخولها الأمن من الوقوع في المعاصي، فالمانع من الوجوب المقدمي للأمر والنهي مفقود والمقتضي موجود.

ولعل دليلهم على الاستحباب هو اعتبار هذا المورد من مصاديق المورد الأول –أي رعاية مصالح المؤمنين- وغاية ما تدل عليه رواياته الاستحباب فلا يزيد المقام عنها.وفي هذا إهمال لفرض المسألة وهو كون الولاية مقدمة لواجب الأمر والنهي؛ لذا اعترف جملة منهم كالشهيد الثاني وصاحب الجواهر بأن مقتضى القواعد الوجوب في مفروض كلامهم، إلا أنهم مالوا إلى الاستحباب لتقريبات ذكروها وكأنها مانعة من القول بالوجوب:

(منها) ما في المسالك، قال (قدس سره): ((ومقتضى هذا الشرط وجوب التولية، لأن القادر على الأمر بالمعروف يجب عليه وإن لم يوله الظالم، ولعل وجه عدم الوجوب كونه بصورة النائب عن الظالم، وعموم النهي عن

ص: 189


1- السرائر: 2 /202.
2- الشرائع: 2 /12.

الدخول معهم، وتسويد الاسم في ديوانهم، فإذا لم يبلغ حد المنع، فلا أقل من الحكم بعدم الوجوب))(1).

أقول: حاصل كلامه (قدس سره) أن عموم المنع من ولاية الجائر الثابث في الروايات شامل لعماله؛ لأنهم ينوبون عنه في عمله، فإذا لم يكن هذا المنع بالغاً حد المنع الفعلي الكامل في مورد الأمر والنهي عند التزاحم بحيث يلغي تأثيره لورود الروايات في الجواز فإنه لا يقل عن إنزاله من مستوى الوجوب الفعلي إلى الاستحباب، ولا يقصد بقوله: ((فإذا لم يبلغ حد المنع)) قصور مقتضي الحرمة في ولاية الجائر.

وقد اعترض عليه جمع ومنهم هو نفسه، قال (قدس سره) في ذيل كلامه الأول: ((ولا يخفى ما في هذا التوجيه)).

وقال الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((ولا يخفى ما في ظاهره من الضعف كما اعترف به غير واحد؛ لأن الأمر بالمعروف واجب، فإذا لم يبلغ ما ذكره –من كونه بصورة النائب . . . إلى آخر ما ذكره - حد المنع، فلا مانع من الوجوب المقدمي للواجب)).

ثم ذكر (قدس سره) تقريباً لكلام الشهيد (قدس سره) وقد احتمل البعض أنه توجيه لقول المشهور بالاستحباب لكن سياق الكلام والقرائن الموجودة فيه، خصوصاً قوله في نهاية التقريب: ((هذا ما أشار إليه)).

قال (قدس سره): ((ويمكن توجيهه بأن نفس الولاية قبيح محرم؛ لأنها توجب إعلاء كلمة الباطل وتقوية شوكته، فإذا عارضها قبيح آخر وهو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس أحدهما أقل قبحاً من الآخر، فللمكلف فعلها، تحصيلاً لمصلحة الأمر بالمعروف، وتركها دفعاً لمفسدة تسويد الاسم في ديوانهم الموجب لإعلاء كلمتهم وقوة شوكتهم.

ص: 190


1- مسالك الأفهام: 3/139.

نعم، يمكن الحكم باستحباب اختيار أحدهما لمصلحة لم تبلغ حد الإلزام حتى يجعل أحدهما أقل قبحاً، ليصير واجباً)).

أقول: يريد بهذه الكبرى تطبيقها على رجحان مصلحة الولاية إذا توقف عليها الأمر والنهي، على مصلحة ترك ولاية الجائر مع فرض تساوي القبح. ويرد عليه أن هذا ليس توجيهاً لخلوّه من تقريب الاستدلال، وإنما هو تصوير لمستويات تزاحم الملاكاتوهو مجرد ادعاء لا سبيل لمعرفته بالنسبة إلينا إلا من خلال ما نستظهره من الروايات.

ثم قال (قدس سره) في تقريب كون المورد من التزاحم: ((والحاصل: أن جواز الفعل والترك هنا ليس من باب عدم جريان دليل قبح الولاية، وتخصيص دليله بغير هذه الصورة، بل من باب مزاحمة قبحها بقبح ترك الأمر بالمعروف، فللمكلف ملاحظة كلّ منهما والعمل بمقتضاه، نظير تزاحم الحقّين في غير هذا المقام. هذا ما أشار إليه الشهيد بقوله: لعموم النهي .. إلخ))(1).

(ومنها) ما في الجواهر: وقد قرّب الاستحباب في موضعين:

أحدهما: قوله (قدس سره) مستدركاً على توجيهه المتقدم (صفحة 183) على كون مقتضى القواعد الوجوب، قال (قدس سره): ((اللهم إلا أن يقال: أيضاً بعدم وجوبه في خصوص هذا الفرد أيضاً، للنصوص المزبورة التي جعلت شاهداً للجمع على التقدير الأول، المعتضد بفتوى المعظم، ولعل ذلك أولى من القول بعدم وجوب المقدمة هنا، لأنها من مقدمات القدرة المشروط بها التكليف، لما عرفت من فساده في الولاية من العادل إذا توقف الأمر بالمعروف عليها، والأمر في ذلك سهل))(2).

ص: 191


1- المكاسب: 2 /79-80.
2- جواهر الكلام: 22/164-165.

أقول: يريد بالجمع على التقدير الأول ما اختاره صاحب الحدائق (قدس سره) الذي وافق المشهور بالقول بالاستحباب، بتقريب أن غاية ما تدل عليه تلك الروايات الاستحباب وهي تشمل ما نحن فيه، فالقول بالوجوب هنا غير محتمل، هذا ولكن استدراكه (قدس سره) غير تام لأن الدليل على الوجوب ما ذكره من وجود المقتضي وهي المقدمية للواجب وعدم المانع للأمن من الوقوع في الحرام وليس الروايات.

أما قوله: ((أولى من القول..)) فيعرّض فيه بالمحقق السبزواري في إشكاله المتقدم حيث جعل الولاية من شروط الوجوب وهي غير واجبة التحصيل.

ثانيهما: قوله بعد أن اعترض على إقرار الشهيد الثاني بالوجوب بأنه لم يُحك عن أحد التعبير بالوجوب إلا عن الحلي في سرائره، قال (قدس سره): ((اللهم إلا أن يقال ولو بمعونة كلام الأصحاب، بناء على حرمة الولاية في نفسها، أنه تعارض ما دل على الأمر بالمعروف، وما دل على حرمة الولاية من الجائر ولو من وجه، فيجمع بينهما بالتخيير المقتضى للجواز، رفعاً لقيد المنع من الفعل مما دل على الحرمة، وأما الاستحباب فيستفاد حينئذ من ظهور الترغيب فيه في خبر محمد بن إسماعيل وغيره الذي هو أيضاً شاهد الجمع، خصوصاً بعد الاعتضاد بفتوى المشهور، وبذلك يرتفع حينئذ إشكال عدم معقولية الجواز بالمعنى الأخص في مقدمة الواجب، ضرورة ارتفاعالوجوب للمعارضة، إذ عدم المعقولية مسلم فيما لم يعارض فيه مقتضي الوجوب))(1).

أقول: اعترف (قدس سره) بأن هذا التقريب لو تم فإنه مبني على حرمة الولاية في نفسها أي الحرمة الذاتية فلا ينفعه.

ص: 192


1- جواهر الكلام: 22 /164.

وردّ عليه الشيخ الأنصاري (قدس سره) بعد أن وصفه بأنه أضعف من إشكال المحقق السبزواري، فقال (قدس سره): ((إن الحكم في التعارض بالعموم من وجه هو التوقف والرجوع إلى الأصول لا التخيير، كما قرر في محله، ومقتضاها إباحة الولاية؛ للأصل، ووجوب الأمر بالمعروف، لاستقلال العقل به كما ثبت في بابه)).

ويرد عليه:-

1- إن هذا لا يعدُّ إشكالاً لأنه خلاف مبنائي، إذ لعل مختار صاحب الجواهر (قدس سره) كالمحكي عن المشهور والشيخ الأنصاري نفسه في رسالة التعادل والتراجيح، أن مقتضى الأصل الأولي في المتعارضين وإن كان التوقف، إلا أن الأصل الثانوي التعبدي المستفاد من الروايات هو التخيير، فالإشكال يرد عليه (قدس سره) إذ تمسك بمقتضى الأصل الأولي مع وجود الأصل الثانوي.

2- قوله (قدس سره): ((إباحة الولاية للأصل)) مردود بما أسسناه من الأصل مع ما دلت عليه الروايات من عدم انفكاكها عن المعصية واعترف (قدس سره) بذلك.

3- ما أورده بعض الشرّاح بقوله: ((إن ما فرّعه عليه من وجوب الأمر بالمعروف –لاستقلال العقل به- ممنوع في حال توقفه على الولاية من الجائر، كما يرشد إليه فتوى جماعة من الأصحاب بالاستحباب، إذ لو كان مما يستقل به العقل لما كان وجوبه محلاً للإشكال والخلاف بعد عدم حرمة الولاية فتأمل))(1).

أقول: المفروض سقوط تأثير كل من الدليلين المتعارضين على الآخر في مادة الاجتماع والنظر إلى كل موضوع على حدة.

ص: 193


1- هداية الطالب إلى أسرار المكاسب للشهيدي: 1/512.

ثم قال (قدس سره): ((ثم على تقدير الحكم بالتخيير، فالتخيير الذي يصار إليه عند تعارض الوجوب والتحريم هو التخيير الظاهري، وهو الأخذ بأحدهما بالتزام الفعل أو الترك، لا التخيير الواقعي)).أقول: هذا الرد(1)

صحيح إذ المراد بالتخيير هنا أن المكلف في مقام العمل مخيَّر في الأخذ بأحد المتعارضين من الوجوب والحرمة، وليس ما يظهر من كلام صاحب الجواهر (قدس سره) بأن مراده حكم المورد بالجواز والإباحة.

ثم قال (قدس سره): ((ثم المتعارضان بالعموم من وجه، لا يمكن إلغاء ظاهر كل منهما مطلقاً، بل بالنسبة إلى مادة الاجتماع؛ لوجوب إبقائهما على ظاهرهما في مادتي الافتراق، فيلزم استعمال كل من الأمر والنهي في أدلة الأمر بالمعروف، والنهي عن الولاية، في الإلزام والإباحة)).

أقول: قوله: ((فيلزم)) فيه لف ونشر مرتب أي يلزم استعمال الأمر في أدلة الأمر بالمعروف والنهي في أدلة النهي عن الولاية في الإلزام في مادتي الافتراق، والإباحة في مادة الاجتماع، وهو كما ترى مبني على كون دلالتهما على الوجوب بالوضع، والصحيح أنها بالإطلاق فلا يلزم ما ذكره (قدس سره).

أما السيد الخوئي (قدس سره) فقد أورد على كلام صاحب الجواهر (قدس سره) قائلاًً: ((وفيه إن ملاك التعارض بين الدليلين هو ورود النفي والإثبات على مورد واحد، بحيث يقتضي كل منهما نفي الآخر عن موضوعه، ومثاله أن يرد دليلان على موضوع واحد، فيحكم أحدهما بوجوبه وآخر بحرمته، وحيث أنه لا يعقل اجتماع الحكمين المتضادين في محل واحد، فيقع بينهما التعارض، ويرجع إلى قواعده.

ومن المقطوع به أن الملاك المذكور ليس بموجود في المقام.

ص: 194


1- لعل كلام صاحب الجواهر صحيح على مبانيه لأنه يقول بتركيب الأمر وقد ذهب فصله فيبقى الجواز فيهما وهو التخيير لا التخيير بمقتضى التعارض.

والوجه فيه: أن موضوع الوجوب هو الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر، وموضوع الحرمة هو الولاية من قبل الجائر، وكل من الموضوعين لا مساس له بالآخر بحسب طبعه الأولي، فلا شيء من أفراد الموضوعين فرد للآخر))(1).

أقول: لازم كلامه (قدس سره) اقتصار منشأ التعارض على التنافي اللفظي كما قرّب (قدس سره)، مع أن التعارض يمكن أن يكون بين الإطلاقين وإنكاره مكابرة، ومبناه (قدس سره) حصول التعارض في مثله إلا أن مرجحاته المنصوصة لا تجري، فكلامه هنا مخالف لمبانيه.

ولعل الذي دفعه إلى هذا الإنكار إحساسه الوجداني بأن المورد من التزاحم لعدم قدرة المكلف على امتثالهما معاً كما نص على ذلك فيما نقلناه عنه (صفحة 187) فنفى التعارض أصلاً من دون أن يبين المسوّغ أصلاً، ثم قال (قدس سره): ((وقد اتضح أن المقام من صغريات باب التزاحم دون التعارض كما يظهر من صاحب الجواهر))، والصحيح ما سنختاره من التفصيل بإذن الله تعالى.

عدم المنافاة بين القول بالوجوب والتصريح بالاستحباب

وبالعودة إلى كلام الشيخ الأنصاري (قدس سره) فإنه قرّب صحة القول بالوجوب المقدمي للولاية في المقام، مع استحبابها النفسي تمهيداً لمصالحة المشهور.

قال (قدس سره): ((ثم دليل الاستحباب أخص – لا محالة - من أدلة التحريم –لدلالتها على الحرمة سواء تمكن معها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أم لا، ودليل الاستحباب مخصوص بالأول-، فتخصص به، فلا ينظر بعد

ص: 195


1- مصباح الفقاهة: 1/671.

ذلك في أدلة التحريم، بل لا بد بعد ذلك من ملاحظة النسبة بينه وبين أدلة وجوب الأمر بالمعروف)).

أقول: أي أن أدلة حرمة الولاية للجائر سقطت بعد تخصيصها بأدلة الاستحباب فلا تلحظ لاحقاً مع أدلة وجوب الأمر بالمعروف، ولا تلحظ النسبة بينهما، ونكتفي فقط بملاحظة النسبة بين دليل الاستحباب وبين أدلة وجوب الأمر بالمعروف(1)-.

ثم قال (قدس سره): ((ومن المعلوم المقرر في غير مقام أن دليل استحباب الشيء الذي قد يكون مقدمة لواجب لا يُعارض أدلة وجوب ذلك الواجب، فلا وجه لجعله شاهداً على الخروج عن مقتضاها؛ لأن دليل الاستحباب مسوق لبيان حكم الشيء في نفسه، مع قطع النظر عن الملزِمات العرضية، كصيرورته مقدمة لواجب أو مأموراً به لمن يجب إطاعته، أو منذوراً وشبهه))(2).

وفي ضوء هذا لم يجد حزازة في احتمال إرادة المشهور الوجوب في هذا المورد أما تصريحهم بالاستحباب فلا ينافيه، قال (قدس سره): ((فالأحسن في توجيه كلام مَن عبّر بالجواز مع التمكن من الأمر بالمعروف: إرادة الجواز بالمعنى الأعم.

وأما من عبّر بالاستحباب، فظاهره إرادة الاستحباب العيني الذي لا ينافي الوجوب الكفائي، لأجل الأمر بالمعروف الواجب كفاية، نظير قولهم: يستحب تولي القضاء لمن يثق من نفسه، مع أنه واجب كفائي، أو يقال: إن مورد

ص: 196


1- وهذا هو بعينه تقريب السيد الخوئي (قدس سره) لانقلاب النسبة الذي تقدم (صفحة 161) وناقشناه.
2- المكاسب: 2 /82-83.

كلامهم ما إذا لم يكن هنا معروف متروك يجب فعلا الأمر به، أو منكر مفعول يجب النهي عنه كذلك، بل يعلم بحسب العادة تحقق مورد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد ذلك، ومن المعلوم أنه لا يجب تحصيل مقدمتهما قبل تحقق موردهما، خصوصاً مع عدم العلم بزمان تحققه))(1).أقول: ظهر من بطلان القول بانقلاب النسبة عدم وجود دليل على الاستحباب النفسي خصوصاً عند القائل بالحرمة الذاتية، فإذا ثبت الوجوب المقدمي بنحو أو بآخر فلا يوجد معه استحباب نفسي له بعنوانه، نعم يمكن تقريب الاستحباب النفسي باعتبار أن هذا الوجوب المقدمي كفائي ولا يتعين على أحد، ولما كان طاعة في نفسه فيستحب التنافس فيه والمبادرة إليه، ويشبه من هذه الناحية المثال الذي ذكره (قدس سره) في القضاء.

القول الثالث: التوقف، إلا في المحرمات التي عُلم أن الشارع المقدس لا يرضى بوقوعها على أي حال ولا تدفع إلا بالولاية للجائر، وهو مختار السيد الخميني (قدس سره)، وبناه على ما احتمله من لزوم الأخذ بالقدر المتيقن من روايات الرخصة التي ذكرناها في المورد الأول. قال (قدس سره): ((على هذا الاحتمال لا يصح إلغاء الخصوصية بالنسبة إلى مطلق المصلحة، ولا دعوى الأولوية القطعية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فإسراء الحكم إلى جواز التولي في ديوانهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشكل، بل غير صحيح حتى في صورة العلم بأنه مع توليه يدفع ارتكاب منكر معمول وترك معروف متروك فضلاً عن غيرها))(2).

ص: 197


1- المكاسب: 2 /83-84.
2- المكاسب المحرمة: 2 /205.

وقال (قدس سره) في موضع آخر: ((إن المتفاهم من أدلة وجوبهما –أي الأمر والنهي- أنه معلق بعدم استلزام ترك واجب أو فعل حرام، ودليل حرمة الولاية مطلق في موضوعه، على نحو التنجيز ولا يعارض المعلق المنجز، بل دليله حاكم على دليل الحكم المعلق، فكما لا تعارض بين الأدلة بما عرفت لا مجال للتزاحم بعد عدم إطلاق يكشف منه المقتضي وعدم استقلال العقل بوجود المقتضي حتى في مورد لزوم ارتكاب الحرام)).

أقول: نقلنا عنه (قدس سره) (صفحة 185) النكتة في منشأ هذا المتفاهم، وقوله (قدس سره): ((عدم إطلاق .. إلخ)) يشير إلى كون وجوب الأمر والنهي مقيداً بالقدرة الشرعية على المعنى الآخر(1)

غير المعنى الذي استظهرناه من كلام بعض الأعلام في المناقشة الصغروية المذكورة، وحرمة الولاية مطلقة ولا يزاحم المقيد المطلق.ثم قال (قدس سره): ((هذا بالنسبة إلى المقتضي الذي قام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وأما المقتضيات التي في المعروف والمنكر فلا وجه لتزاحمها مع مقتضي الحرمة في تقلد الولاية لأن تزاحم المقتضيات إنما هو في التكاليف المتوجهة إلى

ص: 198


1- وحاصله: أن للتكليف مبادئ وهي المصلحة والمفسدة والمحبوبية والمبغوضية، وهذه المبادئ قد تكون ثابتة للفعل بغضّ النظر عن كونه مقدور التحصيل للمكلف كمحبوبية الصلاة ومبغوضية قتل النفس المحترمة، وقد لا تكون المبادئ ثابتة للفعل إلا إذا كان مقدوراً للمكلف، وقد مُثِّل له برد السلام وأكل الميتة. وعلى هذا فالقدرة العقلية يراد منها القدرة المأخوذة في التكليف الواجد لمبادئه مطلقاً، وأما القدرة الشرعية فهي القدرة المأخوذة في التكليف الذي تكون مبادئه مختصة بحال القدرة، والمائز بينهما يكون بلحاظ التكليف من حيث مبادئه. هذا مع التسليم بقبح المؤاخذة على ترك التكليف غير المقدور تكويناً، واستحالة جعل التكليف لبعث المكلف نحو فعل غير مقدور.

مكلف واحد فإذا دار أمر مكلف بين شرب الخمر وقتل النفس المحترمة: يقدم الشرب، ومع تساوي المقتضيات: يتخير وأما مع دوران الأمر بين ارتكاب مكلف محرماً وارتكاب مكلف آخر محرماً، فلا وجه لملاحظة المقتضيات ولا يجوز ارتكاب شخص محرماً لدفع ارتكاب شخص آخر محرماً ولو كان مقتضاه أهم، فلو توقف ترك شرب الخمر من زيد على ارتكاب عمرو محرماً دون شربها في المقتضي لا يمكن الالتزام بجوازه أو وجوبه.

نعم فيما إذا كان وجود شيء مبغوضاً مطلقاً ويجب على كل مكلف دفعه يكون من قبيل تزاحم المقتضيات، فإذا توقف إنجاء النبي صلى الله عليه وآله من يد ظالم أراد قتله على شرب الخمر أو غيره من المحرمات يجب عقلاً إنجائه بارتكاب المحرم)).

أقول: لا يوجد عندنا مقتضيان أحدهما في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والثاني في متعلقهما أي نفس المعروف والمنكر، بل هو واحد في الثاني وإنشاء الأمر والنهي وسيلة لتحقيقه، وقد تقدم هذا المعنى فلا وجه للتفصيل الذي ذكره (قدس سره).

وظهر من هذا أنه (قدس سره) لا يرى المورد مجرى للتزاحم لأكثر من وجه، إما لأن حرمة الولاية مطلقة ووجوب الأمر والنهي مشروط ولا يزاحم المشروط المطلق، أو لأن المقتضيان في متعلق الأمر والنهي وهما المعروف والمنكر لا تتزاحم مع مقتضي الحرمة في ولاية الجائر لكنه (قدس سره) استدرك وقال: ((هذا كله بناءً على أن يكون وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شرعياً وأما بناءً على كونه عقلياً ويرى العقل لزوم حفظ أغراض المولى التي لا يرضى بنقضها وقبح ترك المنع عن مخالفة المولى وعن نقض أغراضه من غير فرق بين كون الناقض نفسه أو غيره من سائر المكلفين: فلا يبعد القول بتزاحم المقتضيات القائمة بالمعروف والمنكر مع مقتضى حرمة التولي من الجائر، لكنه في غاية الإشكال الا في العظائم التى يعلم يلزم حفظها كما أشرنا إليه.

ص: 199

وأما لو توقف ترك شرب الخمر من زيد على ارتكاب عمرو معصية دونه فتجويز ارتكابه لدفعه في غاية الإشكال بل غير ممكن ولا أظن التزام فقيه به سواء قلنا بأن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عقلي أو نقلي))(1).

وقال (قدس سره): ((وأما كلمات الأصحاب وإن توافقت ظاهراً من زمن شيخ الطائفة على اختلاف التعابير بجوازه، لكن لا يظهر منها الإجماع أو الشهرة علىجوازه لخصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد نسب إلى العلامة في المنتهى دعوى عدم الخلاف فيه، وهو غير صحيح))(2).

وخلص (قدس سره) إلى القول: ((وأنت خبير بعدم ثبوت إجماع معتبر أو شهرة معتمدة من ذلك، سيما مع كون المسألة مما كثرت فيها الأدلة والروايات، ولا يظن أن يكون لهم مستند سواها.

لكن مع ذلك تطابق فتاوى من عرفت يسلب الجرأة على المخالفة، فالمسألة محل تردد))(3).

مقتضى التحقيق في المسألة:

التحقيق في المقام يقتضي لزوم تفكيك خطاب الفريضة إلى وجوبين: وجوب الأمر بالمعروف ووجوب النهي عن المنكر –وهذه من ثمرات الاثنينية في الفريضة التي ناقشناها في البحوث التمهيدية(4).

ص: 200


1- المكاسب المحرمة: 2/194-195.
2- المكاسب المحرمة: 2/205 وفي ذيله تعريض بحكاية صاحب مفتاح الكرامة عن غيره أن العلامة في المنتهى نفي الخلاف عن ذلك كله (مفتاح الكرامة: 4/114، كتاب المتاجر، في الولاية من قبل العال أو الجائر).
3- المكاسب المحرمة: 2/206.
4- راجعه في فقه الخلاف: 8/30، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، القسم الأول.

أما وجوب الأمر بالمعروف كالدخول في ولاية الجائر لأمره وحاشيته بالصلاة أو الصوم أو الحج، فيستظهر من الأدلة تعارضه مع حرمة الولاية للجائر، ولا دليل على تقديمه، بل يمكن تقريب الدليل على العكس، أي أن دليل وجوب الأمر بالمعروف ليس له إطلاق أصلاً يشمل مورد الولاية المحرمة بالتقريبات المتقدمة ومنها ما نقلناه عن السيد الخميني (قدس سره).

نعم إذا صحّ دخوله في المورد الأول وهو رعاية مصالح المؤمنين وقضاء حوائجهم والدفع عنهم أمكن القول بتقديمه، لكن قد يقال بعدم الدخول؛ لأن المسوِّغ للولاية فعل المعروف للمؤمنين وهو غير الأمر بالمعروف ولا ملازمة بينهما كما هو واضح.

وأما وجوب النهي عن المنكر فيتزاحم مع حرمة الولاية؛ لأننا بين منكرين: المنكر المراد رفعه ومنكر الولاية للجائر فيتزاحمان وتجري فيهما قواعد التزاحم من الترجيح بالأهمية، ولذلك اخترنا في مثله ارتكاب المنكر الأخف من أجل دفع المنكر الأشد، وإذا كان دفع المنكر من مصاديق الدفع عن أولياء الله المؤمنين فإنه يدخل صريحاً في روايات المسوِّع الأول المتقدمة.وينبغي الالتفات إلى أن طرف التزاحم هنا دفع المنكر وليس مجرد النهي عن المنكر فلا بد من ضمّ القدرة على التأثير به.

لا يقال: إن مثال توقف إنقاذ الغريق على مقدمة محرمة لا شك أنه صغرى للتزاحم وهو واجب فيكون نقضاً على التفكيك.

فإنه يقال: إنه يتفق مع كل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أصل كونها من الواجبات إلا أنه واجب لنفسه وهذان الواجبان للتوصل إلى مقتضاهما، فالمثال المذكور من توقف الفعل على مقدمة محرمة أما مسألتنا فهو من توقف الأمر بالفعل على مقدمة محرمة فلا ملازمة بين معالجتيهما.

ص: 201

إشكال على القول بالتزاحم:

أشكل بعض الأعلام على جريان التزاحم في المقام، منهم السيد الخميني (قدس سره) وقد تقدم تقريبه (صفحة 187).

ومنهم بعض الأعلام المعاصرين، وقد استند إلى مبنى للمحقق النائيني (قدس سره) ذكره في مبحث الفروق بين بابي التعارض والتزاحم، ويمكن –بناءً عليه- تقريب عدم جريان التزاحم هنا فقد ورد في تقريرات بحثه (قدس سره): ((إذا وقع التزاحم بين واجبين طوليين متساويين ملاكاً كما في دوران الأمر بين القيام في الركعة الأولى من الصلاة والقيام في الركعة الثانية مثلاً أو بين ترك واجب متوقف على محرم مساوٍ معه في الملاك وارتكاب المقدمة المحرمة فبناءً على التخيير الشرعي يثبت التخيير فيهما أيضاً (وأما) على المختار فالتكليف بالمتقدم هو الذي يكون فعلياً دون المتأخر لأن سقوط كل من التكليفين المتزاحمين بناءً عليه لا يكون إلا بامتثال الآخر وبما أن امتثال التكليف بالمتأخر متأخر خارجاً لتأخر متعلقه على الفرض فلا يكون للتكليف بالمتقدم مسقط في عرضه فيتعين امتثاله على المكلف بحكم العقل فيجب القيام في الركعة الأولى ويلزم اجتناب المقدمة المحرمة، نعم إذا كان ملاك الواجب المتأخر أقوى من ملاك الواجب الفعلي فوجوب حفظ القدرة فعلاً يكون مسقطاً لوجوب الواجب المتقدم))(1).

أقول: هذه الكبرى صحيحة ولا يوجد تزاحم أصلاً لفعلية المتقدم دون معارض لكن علينا أن نفهم منها معنى واسع مما يظهر من حصرها بالطولية الزمانية ومحل بحثها علم الأصول؛ إذ تشمل ما يمكن تسميته بالطولية الرتبية كما لو كان أحد التكليفين مقيداً بشرط ودليل التكليف الآخر مطلقاً من ناحيته فيقدّم المطلق لفعليته فيسقط المقيد،كما نقلنا عن السيد الخميني (قدس سره) (صفحة 185 و

ص: 202


1- أجود التقريرات: 1/280.

187) من كون وجوب الأمر والنهي مقيداً بعدم الوقوع في محرم أما حرمة الولاية للجائر فهي مطلقة.

وقرّبها على مثل هذا بعض الأعلام المعاصرين (دام ظله الشريف) فيما نقلنا عنه (صفحة 181)، وانتهى إلى أن حرمة الولاية للجائر فعلية دون وجوب الأمر والنهي، ثم طبّق هذا المبنى هنا لينتج عدم جريان التزاحم، فقال: ((إن هذا –أي التزاحم- يتم بناءً على عدم تمامية ما اختاره المحقق النائيني وتبعه جمع منهم السيد الخوئي من أنه إذا تزاحم تكليفان ولم يحرز أهمية أحدهما وكانا طوليين يكون التكليف بالمتقدم فعلياً دون المتأخر، مستدلاً عليه بأن سقوط كل من التكليفين المتزاحمين بناءً على كون التخيير بين المتزاحمين عقلياً لا يكون إلا بامتثال الآخر، وبما أن امتثال التكليف بالمتأخر متأخر خارجاً لتأخر متعلقه على الفرض فلا يكون للتكليف بالمتقدم مسقط في عرضه فيتعين امتثاله على المكلف بحكم العقل، وإلا ففي صورة عدم إحراز أهمية الوجوب يتعين البناء على حرمة الولاية وعدم جوازها، فضلاً عن الوجوب))(1).

أقول: ما ذكره (دام ظله الشريف) لا يستند إلى هذا المبنى الذي نقله عن المحقق النائيني (قدس سره)، لوضوح عدم رجوعه إلى الطولية الزمانية، وإنما يستند إلى مانع آخر عن التزاحم وهو ما سميناه بالطولية الرتبية بين المطلق والمشروط.

مضافاً إلى عدم وجود صغرى لهذا المبنى هنا لعدم وجود الطولية، إذ هي كما قلنا إما زمانية كما في المثال الذي ذكره المحقق النائيني (قدس سره) أو أنها رتبية كما بنى عليه هذا المستشكل فيما نقلناه عنه (صفحة 181) وناقشناه-، ولا يوجد شيء من مناشئ هذه الطولية في المقام.

ص: 203


1- فقه الصادق: 21/390.

(المورد الثالث) الإكراه والتقية والاضطرار

فإذا أكرهه الجائر على الولاية وتوعّده بما يوجب له ضرراً على نفسه أو عرضه أو ماله جاز قبول الولاية التي كان يحرم قبولها، وأضاف الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((أو على من يتعلق به بحيث يُعدّ الإضرار به إضراراً به، ويكون تحمّل الضرر عليه شاقاً على النفس كالأب والولد ومن جرى مجراهما))(1)، وحدّ الشهيد الثاني (قدس سره) الإكراه ب_((الخوف على النفس أو المال أو العرض، عليه أو علىبعض المؤمنين على وجه لا يمكن تحمّله عادةً بحسب حال المكرّه في الرفعة والضعة، بالنسبة إلى الإهانة))(2).

أقول: كون الضرر مما لا يمكن تحمله عادة شرط زائد لتحقق معنى الإكراه، وعلى أي حال فسيأتي ما يرتبط بالمقام في التنبيهات إن شاء الله تعالى.

تطبيقات للمسألة:

وهذه المسألة لها ثمرات عملية واسعة لأن كثيراً من الذين يعملون في السلطات الجائرة يبرّرون لأنفسهم ارتكاب المحرمات وظلم الناس وانتهاك الحرمات بحجة أنهم مكرهون ومجبورون أو مضطرون، ونحو ذلك، فهل هذا مسوّغ؟.

كما أنها تبيّن وظيفة المكلف في بعض الظروف العصيبة تحت ظلم الطواغيت كالتي مرّ بها العراقيون عندما أعلن المقبور صدام الحرب على الجمهورية الإسلامية الإيرانية عام 1980 وكان يعدم من يتخلف عن الالتحاق بالجيش أو يهرب من ساحة المعركة، ووقع العراقيون في بلاء عظيم بين نارين.

ص: 204


1- المكاسب المحرمة: 2/85.
2- مسالك الأفهام: 3/139.

ومن تطبيقات المسألة ما يعاني منه المعتقلون ظلماً من التعذيب القاسي من أجل انتزاع الاعترافات على غيرهم فهل يسوّغ الإكراه كل ذلك أم لا أم فيه تفصيل؟ و«للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعدُ» (الروم:4).

حكم المورد:

والحكم بالجواز عند وجود أحد هذه الأعذار ثابت في الجملة ((بلا خلاف نصاً وفتوى بل الإجماع بقسميه عليه))(1).

ويدل عليه عمومات ما دلّ على الرخصة في مخالفة التكليف إذا تعرض للإكراه أو اضطر إلى ذلك، ومنها في القرآن الكريم قول الله تعالى: «إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً» (آل عمران:28) وقوله تعالى: «إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ» (النحل:106).

ومنها في الروايات الشريفة الحديث النبوي: (رُفع عن أمتي ما أكرهوا عليه)(2)، وقولهم (عليهم السلام): (التقية في كل ضرورة)(3)، و(ما من شيء إلاوقد أحلّه الله لمن اضطر إليه)(4)

إلى غير ذلك مما لا يحصى مما هو متسالم عليه لدى الفريقين.

ويدل عليه خصوص ما دلّ في المقام على جواز الولاية للجائر إذا أكره عليها أو اضطر إليها، وقد تقدمت (صفحة 150) جملة من الروايات في المجموعة الثالثة من الطائفة الثانية كما في موثقة عمار وقد سُئل عن أعمال السلطان قال

ص: 205


1- جواهر الكلام: 22/165.
2- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب 56، ح1، 2.
3- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب 25، ح1، 8.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب القيام، باب 1، ح6، 7.

(عليه السلام): (لا، إلا أن لا يقدر على شيء يأكل ولا يشرب ولا يقدر على حلّه) وفي رواية محمد بن علي بن عيسى قال (عليه السلام): (ما كان المدخل فيه بالجبر والقهر فالله قابل العذر) وفي رواية تحف العقول المعروفة: (إلا بجهة الضرورة نظير الضرورة إلى الدم والميتة) وغيرها.

ومنها الروايات التي فسّر فيها الإمام الرضا (عليه السلام) قبوله ولاية العهد بإكراه المأمون له (عليه السلام) عليها، وتقدمت جملة منها (صفحة 129) وفي بعضها قوله (عليه السلام): (فلما خيّرتُ بين قبول ذلك وبين القتل اخترت القبول على القتل).

هذا كله مما لا إشكال فيه ولا خلاف، وإنما وقع الخلاف في تفاصيل عديدة، منها ما اشترطه المحقق الحلي (قدس سره) في الشرائع من عدم القدرة على التفصي مضافاً إلى الإكراه، ومنها ما استظهره الشهيد الثاني في المسالك من اختلاف الشروط بين الرخصة في أصل قبول الولاية للجائر والرخصة في تنفيذ ما يأمر به من المظالم والمعاصي، وغير ذلك من التفاصيل التي ضمها كتاب الجواهر بصياغة رصينة، وجاء بعده الشيخ الأنصاري ليصنّفها في تنبيهات وتبعه عليها شرّاح المكاسب وهو أفضل من الناحية الفنية لذا سنعتمد هذا الترتيب، وإذا وُجد شيء لم يسجّله قلمه الشريف فسنضيفه إن شاء الله تعالى.

التنبيه الأول: هل لدليل جواز الدخول بالإكراه ونحوه من الأعذار إطلاق بالنسبة لحق الناس أو لا؟

اشارة

قال (قدس سره): ((إنه كما يُباح بالإكراه نفس الولاية المحرمة كذلك يباح به ما يلزمها من المحرمات الأخر وما يتفق في خلالها مما يصدر الأمر به من

ص: 206

السلطان الجائر (ما عدا إراقة الدم) إذا لم يمكن التفصي عنه ولا إشكال في ذلك))(1).

أقول: هذه كالتوطئة للمطلب الذي يتناوله هذا التنبيه، وحسم (قدس سره) في هذه الفقرة من كلامه موقفه من خلاف أثارته نكتة سجّلها الشهيد الثاني (قدس سره) فيتعليقته على قول المحقق الحلّي (قدس سره) في الشرائع في المسألة الخامسة الملحقة بفصل ((ما يكتسَب به)) قال (قدس سره): ((إذا أكرهه الجائر على الولاية، جاز له الدخول والعمل بما يأمره مع عدم القدرة على التفصي، إلا في الدماء المحرمة فإنه لا تقية فيها)) بعد أن قال في ذيل المسألة الرابعة: ((ولو أكره –أي على الولاية للجائر- جاز الدخول دفعاً للضرر اليسير على كراهية وتزول الكراهية لدفع الضرر الكثير كالنفس أو المال أو الخوف على بعض المؤمنين)).

فعلق الشهيد الثاني (قدس سره) بقوله: ((وقد ذكر المصنف رحمه الله في هذه المسألة شرطين أحدهما: الأكراه، والثاني: عدم قدرة المأمور على التفصي، وهما متغايران، فإن الإكراه يجوز أن يجامع القدرة- كما عرفت من تعريفه- فالثاني أخصّ من الأول. والظاهر أن مشروطهما مختلف، فالأول شرط لأصل قبول الولاية، والثاني شرط للعمل بما يأمره من المظالم، وهما متغايران أيضاً، لأن التولية لا يستلزم الأمر بالمظالم، بل يجوز أن يوليه شيئاً من الأحوال ويرد أمره إلى رأيه، كما قد علم في المسألة السابقة من جواز قبول الولاية بل استحبابها إذا تمكن من إقامة الحق. وأما أمره بشيء من المحرمات فقد يكون مع الولاية، وقد ينفك عنها كما إذا ألزم الظالم شخصاً بأخذ شيء من الأموال المحرمة أو الأعمال كذلك))(2).

ص: 207


1- المكاسب: 2/86.
2- مسالك الأفهام: 3/139-140.

أقول: لعل الدافع لاستظهار هذا التفريق تحصيل مبرر للتكرار في مسألتي الشرائع وقد وجد الشهيد الثاني زيادة في عبارة المسألة الخامسة على مستوى الشرط (بإضافة عدم القدرة على التفصي) والمشروط (بإضافة العمل بما يأمره الجائر مضافاً إلى أصل الولاية) فانقدح في ذهنه الشريف هذا التفريق.

وأخذ الشيخ كاشف الغطاء (قدس سره) بهذا التفصيل فقال –مازجاً عبارته بعبارة القواعد-: ((ولو خاف ضرراً يسيراً بترك الولاية الخالية عن النفع والضرر كره له الولاية حينئذٍ ودفع اليسير لتسلطه على ماله، وأما العمل بأمره في ضرر الخلق فلا يجوز إلا مع الضرر المعتبر دون غيره))(1).

وقد رد صاحب الجواهر (قدس سره) على هذا التفصيل بقوله: ((لا فرق في الإكراه المسوّغ للدخول في الولاية المحرمة، والإكراه المسوّغ للعمل بما يأمره به من فعل المحرمات في ولاية كان أو غيره)) ووجه ذلك بقوله: ((والمراد بالقدرة، القدرة الشرعية التي تناط بها الواجبات والمحرمات المطلقة، وهي الخالية عن الضرر الذي لا يُتحمَّل في النفس والمال والعرض دون الأعم منها ومن المشتملة على ذلك مما هي قدرة عقلاً وعرفاً، فالمراد حينئذٍ من عدم القدرة في المتن هو المراد من الإكراه، لا أن المراد الفرق بين الولاية والعمل بما يأمره، فيكفي في إباحة الأولى الإكراه الذي يجامعالقدرة على التخلص، بخلاف الثاني فإنه لا يكفي فيه إلا عدم القدرة إذ هو حينئذٍ كما ترى لا وجه له، ضرورة عدم الفرق في الأدلة))(2).

أقول: هذا خلاف مبنائي إذ ليس من المسلّم أن الإكراه يتضمن عدم القدرة الشرعية مضافاً إلى القدرة العقلية والعرفية فقد يتحقق معنى الإكراه مع إمكان التفصي أو مع وجود المندوحة، وسيأتي مزيد من الكلام في التنبيه الثالث (صفحة 277)، ويمكن أن يستفاد من علم الأصول في هذه المسألة من مبحث

ص: 208


1- شرح القواعد: 99.
2- جواهر الكلام: 22/166.

جواز البدار في المأمور به الاضطراري للشك في صدق الاضطرار مع إمكان التخلص بالانتظار وعدم البدار وبضم اشتراك الإكراه والاضطرار من هذه الجهة.

وعلى أي حال فالتعليق الصحيح أن يقال أنه ما كان للشهيد الثاني (قدس سره) أن يستظهر هذا التفصيل من كلام المحقق (قدس سره) لأنه كالمشهور يقول بالحرمة العرضية أي أن الولاية بذاتها ليست محرمة فلا يحتاج الدخول فيها إلى مسوِّغ، وإنما يحتاج إليه العمل بما يأمر به الظالم إن كان فيه معصية، فهذا التفصيل لا موضوع له عند المشهور، وقد رد الشهيد (قدس سره) بهذا على التفصيل المذكور وسيأتي كلامه (قدس سره) في التنبيه الثالث إن شاء الله تعالى.

نعم يمكن تصور صدور هذا التفصيل من الشيخ كاشف الغطاء (قدس سره) ونظرائه القائلين بالحرمة الذاتية، وحينئذٍ يرد عليه بأنه خلاف ظاهر الأدلة من عدم الفرق، لذا أغلق الشيخ الأنصاري (قدس سره) هذا النزاع وكذا من تبعه.

لكننا سنذكر (صفحة 244) وجهاً مما فتح الله تعالى به لتفسير تفصيل الشهيد الثاني وكلام الشيخ كاشف الغطاء (قدس الله أسرارهم جميعاً).

ثم قال الشيخ (قدس سره): ((إنما الإشكال في أن ما يرجع إلى الإضرار بالغير – من نهب الأموال وهتك الأعراض، وغير ذلك من العظائم - هل يباح كل ذلك بالإكراه ولو كان الضرر المتوعد به على ترك المكره عليه أقل بمراتب من الضرر المكره عليه، كما إذا خاف على عرضه من كلمة خشنة لا تليق به، فهل يباح بذلك أعراض الناس وأموالهم ولو بلغت ما بلغت كثرة وعظمة، أم لا بد من ملاحظة الضررين والترجيح بينهما؟ وجهان))(1).

ص: 209


1- المكاسب: 2/86، ويلاحظ هنا أنه (قدس سره) لم يذكر وجه القول الثاني بالترجيح، وإنما أورد وجهاً لقول لم يذكره، قال (قدس سره): ((ومن أن المستفاد من أدلة الإكراه تشريعه لدفع الضرر، فلا يجوز دفع الضرر بالإضرار بالغير ولو كان ضرر الغير أدون، فضلاً عن أن يكون أعظم)) وهو وجه القول باختصاص الرخصة في حق الله تعالى خاصة.

أقول: يُتصور في المسألة عدة حالات بلحاظ من يتوجه إليه الضرر والإكراه ونوعهما والترجيح بينهما ونحو ذلك مما سنتعرف عليها من خلال البحث ونلحقها بما لم يُتعرَّض لها، ومحل البحث منها ما لو قصد الجائر ما فيه إضرار بشخص ما وأمرشخصاً آخر بتنفيذه، وتوعّده بالضرر إن لم يفعل ذلك، فالضرر متوجه من الجائر ابتداءً إلى غير المكره وإلى المكره على تقدير عدم تنفيذ الأمر. وتوجد صور أخرى لعل أحد مناشئ الخلاف هو الخلط بينها.

والأقوال في مسألة سقوط حرمة الإضرار بالغير بعذر الإكراه ونحوه:

أولها: عدم اختصاص دليل سقوط الحرمة بالإكراه بحق الله تعالى فقط وإنما يشمل الإضرار بالغير مطلقاً ولو كان الضرر المتوعد به على ترك المكره عليه أقل بمراتب من الضرر المكره عليه، واختاره الشيخ صاحب الجواهر، قال (قدس سره): ((إنما يتحقق الإكراه بأمره –أي الجائر للمكره- بظلم الشخص المخصوص وإلجائه إلى ذلك، فإنه حينئذٍ بعد صدق الإكراه عليه بسبب خوفه لو تخلّف عن الأمر من الضرر والذي لا يُتحمل، يجوز له العمل بما يأمر))(1).

وهو ظاهر إطلاق المحقق الحلي (قدس سره) والعلامة في القواعد(2)

قال في الشرائع: ((إذا أكرهه الجائر على الولاية جاز له الدخول والعمل بما يأمره مع عدم القدرة على التفصّي إلا في الدماء المحرمة فإنها لا تقية فيها)) وفي مفتاح الكرامة نسبته إلى المشهور، قال (قدس سره) بعد أن قوّى احتمال الترجيح بالأهم: ((لكن الأصحاب أطلقوا))(3).

ص: 210


1- جواهر الكلام: 22/167.
2- راجع جامع المقاصد في شرح القواعد: 4/44.
3- مفتاح الكرامة: 4/115.

وقوّاه الشيخ الأنصاري (قدس سره) وقال عنه السيد الخميني (قدس سره): ((ولعمري إن ما أفاده شيخنا الأنصاري في غاية السداد، وما قال بعضهم(1)

إشكالاً عليه غير سديد))(2).

ثانيها: عكس الأول أي اختصاص الرخصة بارتكاب خصوص حق الله تعالى ولا تشمل حق الناس ولو كان قليلاً وكان ما تُوعِّد به كبيراً، وفصّل بعضهم في هذا القول فخصّه بالمهمات من الإضرار.

ثالثها: التفصيل بين ما إذا كان الضرر المتوعد به أعظم من المأمور بإيقاعه فترتفع الحرمة، وبين ما إذا كان أقل فلا ترتفع سواء كانت في حق الله تعالى أو حق الناس، وقد تقدم (صفحة 208) تصريح الشيخ كاشف الغطاء (قدس سره) بما يقرب منه، وقال تلميذه في مفتاح الكرامة: ((ويجب عليه على احتمال قوي تقدم الأهونفالأهون، وقد تلحظ المماثلة والمخالفة فيما يتعلق به أو ببعض المؤمنين من التفاوت في المراتب الجليلة وفي ما دليله قطعي أو ظني))(3).

رابعها: التفصيل بين ما لو كان الضرر الذي توعده به الجائر مباحاً في نفسه أو محرماً، وهو مختار السيد الخوئي (قدس سره) قال: (( الناحية الثالثة: أن يتوجه الضرر إلى الغير ابتداءً وإلى المكره على تقدير مخالفته لما أمر به الجائر، وكان الضرر الذي توعده المكره – بالكسر - أمراً مباحاً في نفسه، كما إذا أكرهه الظالم على نهب مال غيره وجلبه إليه، وإلا فيحمل أموال نفسه إليه. وفي هذه الصورة لا بد للمكره من تحمل الضرر بترك النهب، ومن الواضح أن دفع المكره أمواله للجائر مباح في نفسه حتى في غير حال الإكراه، ونهب أموال الناس

ص: 211


1- المراد به الفاضل الإيرواني (قدس سره) كما صرح (قدس سره).
2- المكاسب المحرمة: 2/220.
3- مفتاح الكرامة: 4/115.

وجلبه إلى الجائر حرام في نفسه ولا يجوز رفع اليد عن المباح بالإقدام على الحرام))(1).

وقال (قدس سره): ((الناحية الرابعة: أن يتوجه الضرر ابتداءً إلى الغير وإلى المكره على تقدير مخالفته حكم الظالم، كما إذا أكرهه على أن يلجئ شخصاً آخر إلى فعل محرم كالزناء، وإلا أجبره على ارتكابه بنفسه، وحينئذ فلا موضع لأدلة نفي الإكراه والإضطرار والحرج والضرر، بداهة أن الإضرار بأحد الطرفين مما لا بد منه جزماً، فدفعه عن أحدهما بالإضرار بالآخر ترجيح بلا مرجح، وإذن فتقع المزاحمة ويرجع إلى قواعد باب التزاحم))(2).

والآن نستعرض الأقول ونبين ما يمكن أن يستدل به عليها.

القول الأول: عموم الرخصة لحقوق الناس مطلقاً، ويمكن تحصيل عدة وجوه من كلام الشيخ (قدس سره) للاستدلال عليه:

الأول: ((عموم دليل نفي الإكراه لجميع المحرمات حتى الإضرار بالغير ما لم يبلغ الدم)) و((إطلاق أدلة الإكراه وأن الضرورات تبيح المحذورات))(3).

وحاول السيد الخميني (قدس سره) أن يقدّم شواهد على هذا الإطلاق فاستدل ((بمورد نزول قوله تعالى: «إلا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان» فإنه بحسب قول المفسرين وبعض الروايات المعتمدة نزل في قضية عمار حيث أكره على البراءة عن النبي صلى الله عليه وآله وسبه وشتمه ففى مجمع البيان: (أعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا منه ثم قال: وجاء عمار إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يبكي، قال صلى الله عليه وآله: ما وراك فقال: شرٌ يا رسول الله ما تُركت حتى قلت منك وذكرت آلهتهمبخير، فجعل رسول الله صلى الله

ص: 212


1- مصباح الفقاهة: 1/675.
2- المصدر السابق: 1/679.
3- المكاسب: 2/86، 87.

عليه وآله يمسح عينيه ويقول: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت، فنزلت الآية عن ابن عباس وقتادة)(1)

انتهى.

وشأن نزول الآية لا يوجب تقييد إطلاقها أو تخصيص عمومها فقوله: «إلا مَنْ أُكرِهَ وَقَلْبُه مُطمَئِنٌّ بِالإيمَانِ»: مطلق شامل لمطلق الإكراه، ولا وجه لاختصاصه بخصوص الإيعاد على القتل وإن كان شأن نزوله خاصاً كما أن الحال كذلك في سائر الآيات.

فلا ينبغى الإشكال في إطلاقه))(2).

((ويمكن تقريب دلالة الآية أيضاً على رفع مطلق ما أكرهوا عليه: بأن الإكراه إذا صار موجباً لرفع الحرمة عن هتك عرض النبي صلى الله عليه وآله وتكذيبه في نبوته وكتابه وهو من أعظم المحرمات وموجباً لرفع هدر دمه الذي من الوضعيات من جهة صار موجباً لرفع حرمة هتك سائر الأعراض فضلاً عن الأموال التي هي دون الأعراض ولرفع ساير الوضعيات أيضاً)).

((وتدل على إطلاقها أيضاً رواية عمرو بن مروان – ولا يبعد أن تكون معتمدة(3)-

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: رفع عن أمتي أربع خصال خطاؤها ونسيانها وما أكرهوا عليه وما لم يطيقوا وذلك قول الله عز وجل: «ربنا لا تؤاخذنا» إلى أن قال: وقوله: «إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان»)(4)، وعن العياشي عنه عليه السلام نحوها.

ص: 213


1- مجمع البيان: مج 5-6/597.
2- المكاسب المحرمة: 2/210.
3- في المصدر: ((في سند الرواية معلى بن محمد البصري، مضطرب الحديث والمذهب، ولكن عدَّه في تنقيح المقال: 3/233 من الحسان)).
4- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب 25، ح10.

حيث تدل على أنه تعالى رفع عن الأمة ما أكرهوا عليه مطلقاً بمقتضى الآية الكريمة.

وتدل على عدم الاختصاص أيضاً رواية مسعدة بن صدقة –المعتمدة بل لا يبعد أن تكون موثقة- (قال: قيل لأبي عبد الله عليه السلام: إن الناس يروون أن علياً عليه السلام قال على منبر الكوفة: ستدعون إلى سبي فسبوني ثم تدعون إلى البراءة مني فلا تبرأوا مني، فقال: ما أكثر ما يكذب الناس على علي عليه السلام، ثم قال: إنما قال: ستدعون إلى سبي فسبوني ثم تدعون إلى البراءة مني وإني لعلى دين محمد صلى الله عليه وآله، ولم يقل: ولا تبرأوا مني فقال له السائل: أرأيت إن اختار القتل دونالبراءة؟ فقال: والله ما ذلك عليه وما له إلا ما مضى عليه عمار بن ياسر حيث أكرهه أهل مكة وقلبه مطمئن بالإيمان فأنزل الله عز وجل فيه: «إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان» فقال له النبي صلى الله عليه وآله: يا عمار إن عادوا فعد فقد أنزل الله عذرك وأمرك أن تعود إن عادوا)(1).

ومعلوم أن الظاهر منها أن الآية لا تختص بقضية عمار أو قضية نحو قضيته هذا، مع أن إطلاق قوله: ستدعون إلى سبّي فسبّوني، وكذا إطلاق الإجازة بالبراءة: يقتضى جوازهما بمجرد الدعوة ممن يخاف سوطه أو سيفه من غير اختصاص بالإيعاد على القتل وكلامه هذا ليس ظاهراً في كونه على وجه الإخبار بالغيب بل الظاهر قيام القرائن عليه، لأن له عليه السلام كان أعداء علم من عداوتهم ذلك عادة، فلا معنى للحمل على موضوع خاص علمه عليه السلام من طريق الغيب، ولا حجة على رفع اليد عن إطلاق الدليل بمحض ذاك الاحتمال.

ص: 214


1- وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 29/ ح 2.

وتدل عليه أيضاً صحيحة بكر بن محمد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (إن التقية ترس المؤمن ولا إيمان لمن لا تقية له، فقلت له: جعلت فداك قول الله تبارك وتعالى: «إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان» قال: وهل التقية إلا هذا)(1).

ورواية الجعفريات عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: (قلت: يا رسول الله الرجل يؤخذ يريدون عذابه، قال: يتقي عذابه بما يرضيهم باللسان ويكرهه بالقلب قال صلى الله عليه وآله هو قول الله تبارك وتعالى: «إلا من اكره وقلبه مطمئن بالإيمان»(2).

ورواية عبد الله بن عجلان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (سألته فقلت له: إن الضحّاك قد ظهر بالكوفة ويوشك أن ندعى إلى البراءة من علي عليه السلام فكيف نصنع؟ قال: فابرأوا منه، قلت: أيهما أحبّ إليك؟ قال: أن تمضوا على ما مضى عليه عمار بن ياسر؛ أُخِذ بمكة فقالوا له ابرأ من رسول الله فبرئ منه فأنزل الله عز وجل عذره «إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان»)(3)، إلى غير ذلك.فتحصّل مما ذكر عدم الاختصاص بحق الله تعالى محضاً، وكذا بالإيعاد بالقتل و بقضية عمار أو نحوها.

وإن شئت قلت: مقتضى إطلاق حديث الرفع وإطلاقات التقية وعموماتها عدم الاختصاص. وإنما نشأت دعوى الاختصاص من مجرد استبعاد

ص: 215


1- نفس المصدر، باب 29، ح6.
2- مستدرك الوسائل: 12/269، أبواب الأمر والنهي، باب 28، ح1.
3- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب 29، ح13.

أو وجوه ظنية، و مع فرض شمولها بما تقدم لبعض الأعراض المهمة التي من حقوق الناس يرفع هذا الاستبعاد وتدفع تلك الوجوه))(1).

أقول: يمكن المناقشة في هذه التقريبات بأنها كلها يمكن إرجاعها إلى حق الله تعالى إذ أن الرخصة في التجاوز على مقامهم السامي باعتبارهم حجج الله تعالى ومبلغي رسالاته، كما أن طاعتهم (صلوات الله عليهم أجمعين) مقرونة بطاعة الله أي أنها تتعلق بعناوينهم لا بأشخاصهم وسياق الآية شاهد على ذلك لأنها تتحدث عن إخفاء الإيمان وإظهار الكفر فتكون الآية أجنبية عن المدعى، ولا يصح حينئذٍ التجريد عن الخصوصية إلى مطلق الغير.

وبصياغة اخرى: إن عنوان (الغير) المراد الاستدلال عليه منصرف عن مثل هذه الموارد، وقد نقلناه تمام كلامه (قدس سره) ولم نجد فيه ما يدل على المطلوب.

ولنا شاهد آخر على ما قلناه من كلامه (قدس سره) لأن الأولوية التي استدل بها مبنية على لحاظ عنوان النبي (صلى الله عليه وآله) وليس شخصه حتى يعممها إلى الغير، وهذه الأولوية التي ذكرها (قدس سره) لحرمة هتك عرض رسول الله (صلى الله عليه وآله) واستدل بها على الرخصة في التعدي على أعراض الناس فضلاً عن أموالهم بالإكراه فهو قياس ممنوع؛ لأن حق الله أعظم من حق رسول الله (صلى الله عليه وآله) «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» (لقمان:13) ومع ذلك فقد رُخّص فيه عند وجود العذر من دون أن يُستدل بالأولوية على جوازه في المخلوقين.

ويظهر من هذا فشل محاولة السيد الخميني (قدس سره) في تعزيز الاستدلال بإطلاقات وعمومات أدلة الرخصة.

ص: 216


1- المكاسب المحرمة: 2/211-214.

وأما قوله (قدس سره) في ذيل كلامه: ((وإنما نشأت دعوى الاختصاص)) فيرد عليه:-

1- إنها ليست مجرد دعوى بل هو ارتكاز متشرعي مستند إلى رؤية شرعية تُشدد على أهمية حقوق الناس وممتلكاتهم وفداحة ظلمهم، حتى أن الذنب بحق الله تعالى يُغفر والذنب بحق الناس لا يُترك، ففي محاسن البرقي بسند مرفوع عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (الذنوب ثلاثة: فذنب مغفور وذنب غير مغفور وذنب نرجو لصاحبه ونخاف عليه.. أما الذنب المغفور فعبد عاقبه الله تعالى على ذنبه في الدنيا فالله أحكم وأكرم أن يعاقب عبده مرتين. وأما الذنب الذي لا يغفر فظلم العباد بعضهم لبعض. وأما الذنب الثالث فذنب ستره الله على عبده ورزقه التوبة فأصبح خاشعاً من ذنبه راجياً لربه فنحن له كما هو لنفسه)(1).

ومن قول أمير المؤمنين (عليه السلام) لقائل قال بحضرته: (أستغفر الله) إن الاستغفار يقع على ستة معانٍ، وأن الذنب مع الله تعالى يمكن أن يغفر بالتوبة الصادقة والندم لكنه (عليه السلام) قال في حقوق المخلوقين: (والثالث أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله أملس ليس عليك تبعة)(2).

فمثل هذه الروايات تؤسس بإحدى الدلالات لهذه الرؤية الشرعية.

ومما ورد في فضل الشهادة في سبيل الله تعالى وأنها كفارة لكل الذنوب مع الله تعالى إلا حقوق المخلوقين، كالرواية عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (كل ذنب يكفّره القتل في سبيل الله عز وجل إلا الدَين لا كفارة له إلا أداؤه أو يقضي صاحبه، أو يعفو الذي له

ص: 217


1- بحار الأنوار: 6/29، ج35.
2- نهج البلاغة، قسم قصار الكلمات، رقم (417).

الحق)(1)، بتقريب توسيع معنى الدين إلى المادي والمعنوي فيشمل كل حقوق الغير.

فمثل هذه الروايات تؤسس بنحو أو بآخر من الدلالات لهذه الرؤية الشرعية.

2- إنه حتى لو كان استبعاداً فإن استبعاد ذوي القرائح اللطيفة يوجب عدم الجرأة على مخالفتها كما تقدم منه (قدس سره) (صفحة 201).

إشكال ودفع:

والإشكال الرئيسي الذي يرد على هذا الوجه هو عدم إمكان الأخذ بهذا الدليل على عمومه وإطلاقه أي وإن أضرّ بحقوق الآخرين فلا بد من تخصيصه بحق الله تعالى؛ لأن هذه الرخصة شرّعت لدفع الضرر، وللامتنان على الأمة فلا يصح أن تكون هذه الرخصة في دفع الضرر عن النفس مسوّغاً لإيقاعه بالغير، لذا أورد الشيخ (قدس سره) على نفسه في هذا الوجه بما كرره المعترضون على إطلاق أدلة الرخصة(2) وحاصله ((أن المستفاد من أدلة الإكراه تشريعه لدفع الضرر، فلا يجوز دفع الضرر بالإضرار بالغير ولو كان ضرر الغير أدون، فضلاً عن أن يكون أعظم.وإن شئت قلت: إن حديث رفع الإكراه ورفع الاضطرار، مسوق للامتنان على جنس الأمة، ولا حسن في الامتنان على بعضهم بترخيصه في الإضرار بالبعض الآخر، فإذا توقف دفع الضرر عن نفسه على الإضرار بالغير لم يجز ووجب تحمل الضرر))(3).

ص: 218


1- الكافي: 5/94، ح6، وورد مثلها في مصادر العامة مثل ما في كنز العمال: 11098.
2- كالفاضل الإيرواني والسيد الخوئي وفقه الصادق.
3- المكاسب: 2/86-87.

وأجاب (قدس سره) بأن ((ما ذكر من استفادة كون نفي الإكراه لدفع الضرر، فهو مسلم، بمعنى دفع توجه الضرر وحدوث مقتضيه، لا بمعنى دفع الضرر المتوجه بعد حصول مقتضيه.

بيان ذلك: أنه إذا توجه الضرر إلى شخص بمعنى حصول مقتضيه، فدفعه عنه بالإضرار بغيره غير لازم، بل غير جائز في الجملة، فإذا توجه ضرر على المكلف بإجباره على مال وفرض أن نهب مال الغير دافع له، فلا يجوز للمجبور نهب مال غيره لدفع الجبر عن نفسه، وكذلك إذا اكره على نهب مال غيره، فلا يجب تحمل الضرر بترك النهب لدفع الضرر المتوجه إلى الغير))(1).

أقول: حاصل كلامه (قدس سره) أن المراد من كون المستفاد من أدلة الإكراه دفع الضرر صحيح ولكنه بمعنى أن الرخصة للمكرَه بإتيان ما يكرهه عليه الجائر لأجل المنع عن حدوث المقتضي للضرر وأن لا يوجد أصلاً، بحيث أنه لو لم يفعل ما أكره عليه فإنه يوجد المقتضي للضرر بعد ذلك، وليست الرخصة للمنع من الضرر الذي حصل مقتضيه وأصبح من تحصيل الحاصل فليس عليه أن يوجد المانع عن تأثير المقتضي الحاصل أصلاً.

وتطبيقه في المقام أنه كما لا يجوز دفع الضرر المتوجه إلى شخص بدفعه إلى غيره لأن مقتضيه قد تعلق به ويكون خلاف الامتنان لو رخِّص للمقصود بالضرر بدفعه إلى الآخر لأن مقتضي الضرر لم يحصل بالنسبة للغير، فكذلك إذا تعلقت إرادة الجائر بإيقاع الضرر بالغير وتحقق مقتضي الضرر بحيث لا يغير فيه امتناع المكره عن العمل بما يأمره به، فهنا لا يجب على المكره الامتناع ويجوز له إيقاع الضرر بالغير، لأنه من دفع الضرر بعد حصول مقتضيه متعلقاً بالغير فلا يجب عليه جره إلى نفسه لدفعه عن الغير؛ لأن مقتضي الضرر لم يتحقق بالنسبة إلى المكرَه فمطالبته بتحمله من أجل دفعه عن الغير خلاف الامتنان.

ص: 219


1- المكاسب: 2/87-89.

وتمام تقريبه (قدس سره) للجواب أن يقال إن إيقاع الضرر بالغير بعد حصول مقتضيه بالنسبة إلى ذلك الغير بحسب إرادة الجائر، كعدم تحمل الضرر لدفعه عن الغير ليس فيه مخالفة للامتنان.

ويرد على هذا المائز في التفريق بين الموردين:-1- إنه غير مجد ولا يصلح للتفريق، والشاهد على ذلك أنه أنتج في المثال الأول عدم جواز إيقاع الضرر بالغير الذي لم يحصل مقتضي الضرر بالنسبة إليه وهو الشخص الثالث غير الجائر والمكرَه، أما في المثال الثاني فأنتج عدم الوجوب بالنسبة لغير المقصود بالضرر وهو المكرَه، ولو كان المائز تاماً لأنتج مخرجات واحدة، ولعله (قدس سره) ملتفت إلى هذا الإشكال فعبّر عن حكم دفع الضرر بالإضرار بغيره في المثال الأول بأنه غير لازم لتوحيد حكم الحالتين، لكنه استدرك منصفاً بأنه غير جائز.

2- إن عدم جواز دفع الضرر في المورد الأول ليس لأنه بعد حصول مقتضيه وإنما لأن الرخصة في إيقاع الضرر بالغير من أجل دفعه عن نفسه حتى لو كان بعد حصول مقتضيه هو خلاف الامتنان أيضاً على نوع الأمة في نظر العرف، ولقبح رفع ضرر بتسويغ ضرر آخر لا سيما إذا كان الضرر المكرَه عليه أعظم مما توعده به الجائر كما يفترض القائل بالإطلاق، فرجعنا إلى عدم سعة الرخصة بالإكراه لغير حقوق الله تعالى.

3-

وأجاب السيد الخميني (قدس سره) عن الإشكال بعدم المانع من مخالفة الامتنان هنا، قال (قدس سره): ((إن دعوى كون حديث الرفع منّة أو شُرِّع ذلك لدفع الضرر، فلا وجه لشموله ما هو خلاف المنّة أو موجب للضرر –كما عن الفاضل الإيرواني وغيره- مدفوعة بأن ما ذكر من قبيل نكتة التشريع لا علة

ص: 220

الحكم، نظير جعل العدة لنكتة عدم تداخل المياه، وفي مثله يتبع إطلاق الدليل))(1).

أقول: لا شك أن الغرض من هذه الأحاديث الامتنانية الرفق بالعباد والشفقة عليهم فإطلاق الرخصة لحقوق العباد نقض للغرض، ويلزم من وجوده عدمه.

وأورد الشيخ الأنصاري (قدس سره) على نفسه نقضاً(2)

تمسك به المعترضون على إطلاق الرخصة ثم دفعه، وملخص النقض: أنه لو قلنا بعموم دليل الرخصة بسبب الإكراه للإضرار بالغير لعمت الرخصة بسبب الاضطرار لوحدة الملاك فيهما والدليل عليهما واللازم باطل فالملزوم مثله.

بيان ذلك: أنه لو جاز إيقاع الضرر بالغير بسبب الإكراه في المورد الثاني من كلامه (قدس سره)، فلازمه أنه يجوز في المورد الأول أيضاً للاضطرار، إذ أن الملاك فيهما واحد وهذا ما لا يقول به (قدس سره) ولا غيره، ولم يتبين لنا الفرق بينهما، ولما كان اللازم –وهو تحقق الرخصة فيهما معاً- باطل ((لقبح تشريع الأضرار بالغيرلدفع ضرر النفس، وأيضاً هو خلاف المنّة، ولذا لا ترى أحداً يجوّز هتك أعراض الناس ونهب أموالهم إذا توقف عليه صون عرضه وحفظ ماله))(3)

فالملزوم –وهي الرخصة في الإكراه- مثله.

لذا تصدى (قدس سره) للرد مبيناً الفرق فقال: ((وتوهم أنه كما يسوغ النهب في الثاني لكونه مكرهاً عليه فيرتفع حرمته، كذلك يسوغ في الأول لكونه مضطراً إليه، ألا ترى أنه لو توقف دفع الضرر على محرم آخر غير الإضرار بالغير كالإفطار في شهر رمضان أو ترك الصلاة أو غيرهما، ساغ له ذلك المحرم،

ص: 221


1- المكاسب المحرمة: 2/214.
2- الصحيح ما صورناه من أن البيان الآتي إشكالٌ ونقض وليس وجهاً مستقلاً للاستدلال كما في مصباح الفقاهة وفقه الصادق.
3- حاشية الفاضل الإيرواني: 1/263، التعليقة (538).

وبعبارة أخرى: الإضرار بالغير من المحرمات، فكما يرتفع حرمته بالإكراه كذلك ترتفع بالاضطرار، لأن نسبة الرفع إلى (ما أكرهوا عليه) و(ما اضطروا إليه) على حد سواء.

مدفوع: بالفرق بين المثالين في الصغرى بعد اشتراكهما في الكبرى المتقدمة – وهي أن الضرر المتوجه إلى شخص لا يجب دفعه بالإضرار بغيره - بأن الضرر في الأول متوجه إلى نفس الشخص، فدفعه عن نفسه بالإضرار بالغير غير جائز، وعموم رفع ما اضطروا إليه لا يشمل الإضرار بغير المضطر إليه، لأنه مسوق للامتنان على الامة، فترخيص بعضهم في الإضرار بالآخر لدفع الضرر عن نفسه وصرف الضرر إلى غيره، منافٍ للامتنان، بل يشبه الترجيح بلا مرجح، فعموم (ما اضطروا إليه) في حديث الرفع مختص بغير الإضرار بالغير من المحرمات.

وأما الثاني: فالضرر فيه أولا وبالذات متوجه إلى الغير بحسب إلزام المكره – بالكسر - وإرادته الحتمية، والمكره – بالفتح- وإن كان مباشراً إلا أنه ضعيف لا ينسب إليه توجيه الضرر إلى الغير حتى يقال: إنه أضر بالغير لئلا يتضرر نفسه))(1).

أقول: علّق الفاضل الإيرواني (قدس سره) على هذا التفريق بأنه: ((مجرد تعبير لا واقع تحته ولا حقيقة دونه، فإنا لا نفرّق بين أن يقول المكرِه: خذ لي من زيد وإلا أخذت منك، وبين أن يقول: أعطني إما منك أو من زيد في توجه الإرادة إلى إضرار أحد شخصين، ومجرد الفرق في العبارة لا يغيّر الواقعيات، فإن كان الإكراه في الأول مسوّغاً لأخذ المال من زيد كان مسوغاً له في الثاني، لكنه ليس مسوغاً في الأول بالقطع فكذلك في الثاني.

ص: 222


1- المكاسب: 2/88-89.

والاشتباه وزعم التفرقة نشأ من توهم أن إرادة المكره المتوجهة إلى إضرار الغير نظير السيل المتوجه إلى دار الغير، ومنع المكرَه عما أكره عليه كإيجاب صرف ذلك السيل إلى دار نفسه في أنه من باب إيجاب صرف الضرر المتوجه إلى الغير إلى نفسه، لكن القياس باطل، والمقام من قبيل إضرار الغير دفعاً للضرر عن النفس –كرفعالصخرة المانعة من دخول ذلك السيل إلى دار الغير الموجب لدخوله إلى داره- فيصرف بذلك الضرر عن نفسه إلى الغير))(1).

أقول: ستأتي مناقشة قوله في عدم التفريق بين الخطابين عند مناقشة السيد الخميني (قدس سره) له، أما تصوّره (قدس سره) لمنشأ الاشتباه فيأتي تصحيحه عند مناقشة كلام السيد الخوئي (قدس سره) في الصغرى.

ورد السيد الخوئي (قدس سره) على هذا التفريق بأنه ((غير تام صغرى وكبرى، أما عدم صحة الصغرى(2) فلأن الضرر في كلا الموردين إنما توجّه إلى الشخص نفسه ابتداءً، فإن الإكراه لا يسلب الاختيار عن المكره ليكون بمنزلة الآلة المحضة، بل الفعل يصدر منه بإرادته واختياره، ويكون فعله كالجزء الأخير من العلة التامة لنهب مال الغير مثلاً، حتى أنه لو لم يأخذه ولم يجلبه إلى الظالم لكان المال مصوناً، وإن توجه الضرر حينئذ إلى نفسه فمباشرته للإضرار بالغير لدفع الضرر المتوعد به عن نفسه مباشرة اختيارية، فتترتب عليها الأحكام الوضعية والتكليفية.

ص: 223


1- حاشية الإيرواني: 1/266، التعليقة (543).
2- هذا الجواب أورده الفاضل الإيرواني في تعليقته: 1/264، رقم (540)، و 1/266، التعليقة (543) ومما جاء فيها: ((ودعوى: أن المكرَه –بالفتح- وإن كان مباشراً فهو ضعيف، مدفوعة بمنع الضعف أليس هو الجزء الأخير من العلة التامة؟ بل لولا مباشرته ربما لم تنله يد المكرِه –بالكسر- ولم تبلغه مقدرته)).

وبعبارة أخرى: أن مرجع الإكراه إلى تخيير المكره بين نهب مال الغير وبين تحمل الضرر في نفسه على فرض المخالفة، وحيث كان الأول حراماً وضعاً وتكليفاً فتعين عليه الثاني. نعم لو كان الضرر متوجهاً إلى الغير ابتداءً ولم يكن له مساس بالواسطة أصلاً فلا يجب عليه دفعه عن الغير بإضرار نفسه.

وأما عدم صحة الكبرى فلأنه لا وجه للمنع عن وجوب دفع الضرر عن الغير بايقاعه بنفسه، بل قد يجب ذلك فيما إذا أوعده الظالم بأمر مباح في نفسه، وكان ما أكرهه عليه من إضرار الغير حراماً، فإنه حينئذ يجب دفع الضرر عن غيره بالإضرار بنفسه كما عرفته آنفاً، لأنه بعد سقوط أدلة نفي الضرر والإكراه والحرج فأدلة حرمة التصرف في مال الغير بدون إذنه محكمة))(1).

أقول: يمكن المناقشة في إيراد السيد الخوئي (قدس سره) على الصغرى والكبرى، أما الصغرى فلأن ظاهر الشيخ الأنصاري (قدس سره) وبقرينة المقدمة التي ذكرها من عدم وجوب تحمل الضرر لدفع المقتضي بعد وقوعه أنه يريد بضعف إرادة المكرَه أن امتناعه عن تنفيذ إرادة المكرِه لا يغير من الواقع شيئاً لأن المكرِه عازم على إيقاعالضرر بالغير سواء على يد هذا المكرَه أو غيره، فتكون إرادة المكرَه ضعيفة بمعنى أنها غير مؤثرة في إيقاع الضرر على الغير فعلاً.

وهذا المعنى غير ما فهمه السيد الخوئي (قدس سره) من أن المكرَه مسلوب الاختيار فرد عليه بأنه مختار وأنه الجزء الأخير من العلة التامة، فما ورد في كلامه (قدس سره): ((حتى أنه –أي المكره- لو لم يأخذه –أي مال الغير- ولم يجلبه إلى الظالم لكان المال مصوناً)) فرض لا يطابق محل كلام الشيخ الأنصاري (قدس سره) إذ أنه لو لم يجلبه جلبه غيره، والأقرب إلى الصورة المفروضة في كلام الشيخ (قدس سره) ما ذكره السيد الخوئي (قدس سره) بعدئذٍ مستدركاً: ((نعم لو كان الضرر متوجهاً إلى الغير ابتداءً ولم يكن له

ص: 224


1- مصباح الفقاهة: 1/678.

مساس بالواسطة أصلاً فلا يجب عليه دفعه إلى الغير بإضرار نفسه))، وإن لم يكن منطقياً عليه لعدم واقعية أن المكرَه لا مساس له بإيقاع الضرر بالغير، وقلنا أن من أسباب الاختلاف في المسألة عدم لحاظ نفس الصورة والموضوع في كلامهم.

وأما الكبرى فكذلك لا يتطابق محل الكلام لأنها عند الشيخ (قدس سره) اتحاد الإكراه والاضطرار في أن الضرر المتوجه إلى شخص لا يجب دفعه بالإضرار بغيره، وليس المنع المذكور في كلام السيد الخوئي مضافاً إلى عدم دقة تعبيره (قدس سره) في الكبرى، فإن موضوع قوله: ((لا وجه للمنع)) غير موضوع قوله: ((بل قد يجب ذلك)) لأن موضوع الأول ما لو كان الضرر متوجهاً أولاً وبالذات إلى الغير، أما موضوع الثاني فهو توجه الضرر إلى المكرَه ابتداءً.

وبالرغم من هذا الدفاع عن الشيخ الأنصاري (قدس سره) إلا أن الإشكال ما زال قائماً؛ لأننا حتى لو سلّمنا بضعف إرادة المكرَه بأي معنى مما تقدم فالقبح ومخالفة الامتنان موجودان، نعم قد تؤثر القوة والضعف في الحكم بالضمان باعتبار إقوائية السبب أو المباشر.

وللسيد الخميني (قدس سره) محاولة أخرى للدفاع عن الشيخ الأنصاري (قدس سره) وردّ الإشكال المذكور الذي حاصله أن دليل الإكراه لو عمّ لعمّ دليل الاضطرار بوجهين:-

أ- ((عدم الملازمة بينهما –أي الإكراه والاضطرار-، إذ يمكن أن يدّعى عموم الأول لأجل مورد نزول الآية والروايات المتقدمة دون الثاني)). أقول: يقصد بمورد النزول قضية عمار بن ياسر المتقدمة، وبالروايات ما ألحقها بها للاستدلال على عموم الرخصة، وقال (قدس سره) في موضع آخر: ((وإن شئت قلت: إن التلازم ين الفقرتين في التعميم وعدمه على

ص: 225

فرضه ليس عقلياً(1) بل عرفي بلحاظ وحدة السياق، وهي من أدنى مراتب الظهور على تسليم أصله،ومع قيام قرينة على التفرقة تقدم عليه، وفي المقام قامت الأدلة على شمول دليل الإكراه لحق الناس كما تقدم الكلام فيه)). أقول: تقدمت المناقشة في هذا الاستدلال وأنه لا يفيد عموم الرخصة لحقوق الناس، فرجع الدليل مقتصراً على العمومات ويشترك فيها الاضطرار والإكراه.

ب- ((إن دليل الاضطرار أيضاً عام يشمل الاضطرار بمال الغير، فإذا اضطر إلى شرب ماء أو أكل خبز غيره يرفع دليل الاضطرار حرمة التصرف في مال الغير بغير إذنه، لكن لا يسقط ضمانه لعدم الاضطرار إلى أكله أو شربه مجاناً.

وبالجملة كما ترفع حرمة الخمر بالاضطرار ترفع حرمة التصرف في مال الغير به.

وأما إذا أكره على إعطاء ماله فدفع مال الغير لدفع شره فليس ذلك مشمولاً لدليل الاضطرار؛ لأنه مكره وملجأ في إعطاء ماله لدفع شرّ متوجه إليه وإنما أراد دفع شر متوجه إليه بمال غيره.

وبعبارة أخرى: إنه ليس ملجأ بإعطاء مال غيره ولا مضطرا إليه، بل ملجأ ومضطر إلى إعطاء مال نفسه، لأنه الذي أراد منه المكره وإنما أراد دفع شره بمال غيره)).

أقول: بعد هذا الرد حوّل (قدس سره) هذا الإشكال إلى وجه لصالح الشيخ الأنصاري (قدس سره) وليس عليه، من خلال مقدمتين: إحداهما أن الاضطرار مسوّغ للتجاوز على حقوق الغير ودليله صالح للتعميم،

ص: 226


1- حتى لا يقبل التخصيص والتفكيك بين موارده.

ثانيهما اشتراك الاضطرار والإكراه في التعميم، قال (قدس سره): ((وإن شئت قلت: شمول دليل الاضطرار نصاً وفتوى لمورد تعلق حق الغير، كالاضطرار إلى أكل مال الغير، دليل على عدم الاختصاص بحق الله تعالى. وعدم تجويزهم دفع إكراه المكره المتوجه إليه بإعطاء مال غيره ليس لأجل عدم شمول دليل الاضطرار لحق الناس، وإلا لزم عدم إفتائهم في المسألة المتقدمة، بل لأجل عدم صدق الاضطرار على التصرف في مال الغير فيما إذا توجه الإكراه إليه خاصة.

للفرق بين الاضطرار على التصرف في مال الغير، وبين دفع الإكراه والإلجاء المتوجهين إليه بمال غيره. فالمكره لأجل الإيعاد عليه إذا لم يدفع ماله مضطر إلى دفعه لا دفع بدله، وإنما أراد دفع الشر المتوجه إليه ورفع إلجائه بإعطاء بدله مع عدم الاضطرار إليه، بل لو اكرهه على دفع مال بلا انتساب إليه أو إلى غيره وكان عنده من مال نفسه ما يدفع به شره ليس له إعطاء مال غيره لعدم الاضطرار إلى إعطاء مال الغير)).

ثم قال (قدس سره): ((نعم لو لم يكن في الفرض عنده غير مال غيره يجوز دفعه بدليل رفع الإكراه كما لو اضطر إلى صرف مال ولم يكن عنده غير مال الغير يجوز صرفه بدليل رفع الاضطرار)). أقول: هذا عين محل النزاع فيحتاج إلى دليل وإلى بيان الضرر الذي توعّده به الجائر لو لم ينفذ إرادته، فله مدخلية في الجواز المذكور، وكذا الضرر المطلوبإيقاعه بالغير لأن الرخصة متعلقة بالحكم التكليفي أما وضعاً فعليه الضمان لذا قد يختلف الحكم فيما لو كان ضرر الغير مما لا يمكن تداركه.

ثم رد (قدس سره) على كلام الفاضل الإيرواني (قدس سره) المتقدم بقوله: ((وأما ما قيل: من عدم الفرق بين قوله: أنت مخير بين إعطاء مالك ومال غيرك وبين قوله: أعطني مال غيرك وإلا أخذت مالك، إلا بمجرد

ص: 227

العبارة: ففيه ما لا يخفى، لأنه في الفرض الأول أكرهه على أحدهما في عرض واحد فلا بد له من اختيار أقلّهما محذوراً عقلاً، وفى الثاني أكرهه على خصوص مال الغير لا على ماله ومال غيره. والفرق بينهما في غاية الوضوح.

فإذا أكرهه على مال غيره يكون الشر متوجهاً إلى الغير ويكون المكره وسيلة لإجراء ما أراد المكرِه. ودفع الشر عن الغير بإيقاعه على نفسه غير لازم بخلاف ما إذا أكرهه على مال نفسه فإنه لا يجوز إعطاء مال الغير، لأن الشر متوجه إليه لا إلى غيره. وقد عرفت أن صدق الاضطرار فيه أيضاً محل إشكال، ولو سلم الصدق فدعوى انصراف الأدلة عن مثله قريبة بخلاف دعوى الانصراف في دليل الإكراه)).

أقول: لا ينفي الفاضل الإيرواني (قدس سره) هذا الفرق بين التعبيرين، وإنما يراهما واحداً في الحكم وهو كون الإضرار بالغير في كلتا الحالتين قبيح ومخالف للامتنان، وقوله (قدس سره): ((فلا بد له من اختيار أقلهما محذوراً عقلاً)) عدول عن مختاره من الرخصة مطلقاً لأن الأخذ من مال الغير أحد طرفي الإكراه، مضافاً إلى ما تقدم من النقاش في التعبير عن كون المكرَه مجرد وسيلة أو أنه ليس كذلك.

ثم قال (قدس سره): ((ولولا بعض الجهات لقلنا بأن مقتضى وحدة السياق التعميم في دليل رفع الاضطرار، لكن العرف والعقلاء يفرّقون بين الإكراه على مال الغير وعرضه وبين الإكراه على ماله وعرضه وأراد دفعه بمال الغير أو عرضه، فإن الإقدام على الأول ليس قبيحاً وليس من قبيل إيقاع الضرر المتوجه إليه على غيره بخلاف الثاني ومقتضى الامتنان التجويز في الأول دون الثاني))(1).

ص: 228


1- المكاسب المحرمة: 2/217-219.

أقول: يمكن الرد على مجمل هذا الوجه الذي ذكره السيد الخميني (قدس سره) بأننا نسلّم الرخصة في هذا المورد من الاضطرار، إلا أن الدليل أخص من المدعى الذي هو عموم الرخصة بالاضطرار لمطلق حقوق الغير، مع أنه يمكن ادعاء اختصاص هذه الرخصة بكون الضرر الذي يتعرض له المضطر يهدد حياته وهو مما علم اهتمام الشارع المقدس به وبأمثاله على نحو لا يسمح بحصوله ولو بالإضرار بحقوق الغير أو اختصاصه بحقوق الغير التي يمكن ضمانها وتعويضها كالممتلكات المالية، دون غيرها كالأعراض؛ لأن الرخصة هنا تعلقت بحرمة التصرف، فلا يمكن تجريده عنالخصوصية لإثبات الرخصة مطلقاً. والشاهد على ذلك منبّه وجداني من سيرته المباركة، فهل كان (قدس سره) يرى الإكراه الذي تعرّض له العراقيون من صدام بتهديدهم بالإعدام مسوِّغاً للمشاركة في أفعال جيش صدام في حربه ضد الجمهورية الإسلامية بحيث اجتنب القتل وحده باعتبار مستثنى؟.

تنبيه: اعترف السيد الخميني (قدس سره) بوجود استثناءات من إطلاق الرخصة، قال (قدس سره): ((ثم إن هاهنا موارد يمكن القول باستثنائها من تلك الكلية –وهي شمول أدلة الإكراه لمطلق المحرمات سواء كانت متعلقة لحق الناس أم لا- كما ذكر (قدس سره) اثنين منها:-

1- الدم فإذا بلغ الإضرار بالغير حد الدم فلا رخصة، وهذه القضية سنتناولها فيما يأتي إن شاء الله تعالى.

ما يؤدي إلى الفساد في الدين بحسب العنوان الوارد في رواية مسعدة الآتية وفسّرها (قدس سره) ب_((بعض المحرمات التي في ارتكاز المتشرعة من العظائم والمهمات جداً، كمحو كتاب الله الكريم –والعياذ بالله- بجميع نسخه، وتأويله بما يخالف الدين أو المذهب بحيث يوجب ضلالة الناس، والرد على الدين والمذهب بنحو يوجب الإضلال، وهدم الكعبة المعظمة ومحو آثارها، وكذا قبر النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة

ص: 229

(عليهم السلام) كذلك، إلى غير ذلك. أقول: كثرة مصاديق هذا العنوان مع موارد كثيرة غيرها كقوله في ما بعد: ((بل لعل بعض حقوق الناس كالأعراض الكثيرة المهمة في ارتكاز المتشرعة كذلك. ففي تلك المقامات لا بد من ملاحظة أقوى المقتضيين وأهم المناطين)) يجعل القول بالإطلاق غير مقبول وإن ارتكاز المتشرعة لا يساعد عليه كما سبق وأن ذكرناه بغض النظر عن الرواية الآتية، وهذا اعتراف منه (قدس سره) بانخرام القول بالرخصة مطلقاً وعدول إلى ترجيح الأهم.

ثم قال (قدس سره): ((فإن الظاهر أن الأدلة منصرفة عن أمثال ذلك سيما بعضها، وإنما شرّعت التقية لبقاء المذهب الحق، ولولاها لصارت تلك الأقلية المحقّة في معرض الزوال والاضمحلال والهضم في الأكثرية الباطلة، وتجويزها لمحو المذهب والدين خلاف غرض الشارع الأقدس.

وتشهد لما ذكرناه موثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيها: (وتفسير ما يتّقى مثل أن يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحق وفعله، فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنه جائز) بل يشكل تحكيم الأدلة في ما إذا كان المكرَه بالفتح من الشخصيات البارزة الدينية في نظر الخلق، بحيث يكون ارتكابه1- لبعض القبائح موجباً لهتك حرمة المذهب ووهن عقائد أهله))(1).

أقول: هذا عنوان واسع له مصاديق كثيرة يجعل القول بإطلاق الرخصة قابلاً للإشكال ما لم يضف إليه ((في الجملة)).

ص: 230


1- المكاسب المحرمة: 2/221.

فائدة: قال الشيخ الأنصاري (قدس سره) في نهاية كلامه: ((نعم، لو تحمل الضرر ولم يضر بالغير فقد صرف الضرر عن الغير إلى نفسه عرفاً، لكن الشارع لم يوجب هذا، والامتنان بهذا على بعض الأمة لا قبح فيه، كما أنه لو أراد ثالث الإضرار بالغير لم يجب على الغير تحمل الضرر وصرفه عنه إلى نفسه))(1).

أقول: هذا القول بعدم الوجوب ليس تاماً على إطلاقه وقد جاء منسجماً مع قواعد ما سميناه بالفقه الفردي، لكن المستفاد من التربية القرآنية وتعاليم أهل البيت (عليهم السلام) وجود مسؤولية تضامنية للمؤمنين بعضهم عن بعض أسّسَ لها الله تبارك وتعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) ومثّلوا المؤمنين بالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

قال تعالى موبّخاً ومحذراً: «وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَ_ذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً» (النساء : 75) وامتدح تعالى قوماً لأنهم «وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (الحشر:9) والخصاصة: الفقر والحاجة الموجبة للضر على صاحبها.

وقد ضحى الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) بأرواحهم وأعزتهم من أجل دفع الضرر الدنيوي والأخروي عن الناس بإخراجهم من ظلم الطواغيت واستئثارهم بالفيء ومصادرتهم حقوق الناس ولرفع الحيف عنهم، نعم هي مسؤولية تتفاوت درجاتها بحسب مراتب الناس.

ص: 231


1- المكاسب: 2/89.

(الوجه الثاني) ((عموم نفي الحرج))(1)

بتقريب: أن إلزام الشخص بتحمل الضرر من أجل دفع الضرر عن غيره المقصود من الجائر بالإضرار أمر حرجي، نعم لا يجوز دفع الضرر الموجب للحرج المتوجه إليه بإيقاعه على غيره.ومن تلك العمومات قوله تعالى: «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» (الحج:78) وروايات كثيرة كقول النبي (صلى الله عليه وآله): (لا حرج)(2)

وهو يجيب على أسئلة أصحابه حينما قدموا بعض مناسك يوم النحر على بعض، ورواية عبد الأعلى آل سام عن أبي عبد الله (عليه السلام) في وضوء الجبيرة قال (عليه السلام): (يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عز وجل، قال الله تعالى: «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» امسح عليه)(3).

وقد اعتبر الشيخ الأنصاري (قدس سره) هذا الوجه خطوة متقدمة على دليل الإكراه أي أن هذا الوجه مفيد حتى لو لم يتم ذاك الوجه قال (قدس سره) في ذيل كلامه السابق عن الفرق بين الموردين: ((هذا كله، مع أن أدلة نفي الحرج كافية في الفرق بين المقامين، فإنه لا حرج في أن لا يرخص الشارع في دفع الضرر عن أحد بالإضرار بغيره، بخلاف ما لو ألزم الشارع الإضرار على نفسه لدفع الضرر المتوجه إلى الغير، فإنه حرج قطعاً))(4).

أقول: أشكل على هذا الوجه بعدة تقريبات:

(منها) أنه أخص من المدعى؛ لأن الحرج المنفي في الشريعة يساوق المشقة التي لا تتحمل عادة، أما الضرر المتوعد به فإنه لا يستلزم ذلك في جميع مراتبه، أي أنه ليس كل ضرر يتحقق به معنى الإكراه يعتبر حرجياً(5).

ص: 232


1- المكاسب: 2/87.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب الذبح، باب 39، ح4، 6.
3- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، باب 39، ح5.
4- المكاسب: 2/89.
5- فقه الصادق: 21/395.

وفيه:-

1- إنه خلاف مبنائي لأن الخصم لا يرى تحقق معنى الإكراه إلا إذا كان الضرر مما لا يتحمل عادة كما تقدم في التعريف.

2- إن البحث في إطلاق الرخصة لا يختص بالإكراه وإنما يشمل ما كانت بسبب الحرج أو التقية أو الاضطرار أي مطلق العذر، فإن لم يكن الإكراه موجباً للرخصة فليكن الحرج موجباً لها.

(ومنها) ما تقدم في الإكراه من أن الرخصة بالإضرار بالغير مخالفة للامتنان وأدلة نفي الحرج امتنانية، قال الفاضل الإيرواني (قدس سره) معلقاً على الاستدلال بأدلة نفي الحرج: ((نعم إلزام الغير بتحمل ما توجه إلى الغير من الضرر وصرفه إلى نفسه حرج –كسيل توجه إلى دار الغير وبستانه، أو سارق قصده، فيجب عليه صرفهما إلى نفسه- إلا أنه بمعزل عن المقام؛ فإن المقام من قبيل النهي عن الإضراربالغير وإن تضرر الشخص بذلك، كصخرة قدّام بستان الغير مانعةً عن دخول السيل إلى بستانه، صارفةً له إلى دار الشخص وبستانه، فيحرم عليه قلع تلك الصخرة وإضرار الغير بالسيل وإن لزم من ذلك ضرر نفسه بتوجه السيل إلى داره فإن التحريم المذكور ليس حكماً حرجياً(1) بل تجويز رفع الصخرة تسويغ للإضرار بالغير دفعاً للضرر عن النفس، وهو قبيح))(2).

أقول: لا بد له (قدس سره) أن يقنن المثال المذكور على نحو يساعد مطلوبه وإلا كان على عكسه أدلّ، بنقل الكلام إلى ذلك الغير وقد رخّص له في وضع

ص: 233


1- وقال (قدس سره) في موضع آخر: ((بل هو مقتضى قانون العدل، فإن إضرار الغير لدفع الضرر عن النفس قبيح، سواء كان ذلك بصرف الضرر المتوجه إلى نفسه إلى الغير، أو كان بإضرار الغير صوناً للنفس عن عقاب المكره)) التعليقة (544)، صفحة 267.
2- الحاشية على المكاسب: 1/264، التعليقة (540).

الصخرة لتصرف ضرر السيل المتوجه إليه إلى غيره، وهذا يقرب قول الشيخ الأنصاري (قدس سره)، ومثله ما لو انحرف عن سهم أو رصاصة متوجهة إليه فأصابت غيره ونحو ذلك.

(ومنها) ((إن دليل نفي الحرج يعارض ما دلّ على نفي الضرر الدال على عدم جواز الإضرار بالغير من جهة تضرره، والنسبة عموم من وجه)) وأجيب بأن ((دليل نفي الضرر لا يشمل المقام للعلم الإجمالي بجعل حكم ضرري في المقام من الإباحة أو التحريم، إذ كل منهما يوجب ضرراً على شخص –إذ على القول بالرخصة يقع الضرر على الغير وعلى القول بالحرمة يقع على المكره- ويبقى دليل نفي الحرج بلا معارض))(1).

أقول: مقتضى التحقيق ملاحظة الأهمية بين الضرر المتوعد به والضرر المراد إيقاعه بالغير فيمكن جريان حديث (لا ضرر) في الأهم لوجود زيادة من الضرر فيه لا تسقط بالتعارض وهذه الزيادة ليست من قبيل الكسر والانكسار حتى يقتصر على الضررين من سنخ واحد، وإنما يراد بها زيادة الأهم على المهم في الملاك والأهمية ونحو ذلك، وعليه فيرجع الإشكال ومقتضاه الأخذ بأقل الضررين في الجملة لتسقط قاعدة لا ضرر ويبقى نفي الحرج بلا معارض.

وأورد الفاضل الإيرواني (قدس سره) تنبيهاً أو إشكالاً لا أجد له موضوعاً، قال: ((مع أن الضرر الوارد على تقدير المخالفة هو غير الضرر المتوجّه إليه بإرادة المكره، بل هذا جزاء على مخالفته، فربما خالف هذا الضرر الذي تعلقت به إرادته من حيث النوع، كما إذا قال: خذ لي من زيد كذا مقداراً من المال وإلا ضربتك، أو شتمتك،أو هتكت عرضك، فإلزام الشارع ترك أخذ المال ليس إلزاماً بتحمل الضرر الوارد على الغير ليكون حرجاً، بل إلزام بترك إضرار الغير وإن تضرر هو بذلك.

ص: 234


1- فقه الصادق: 21/395.

توضيحه: أن للمكره –بالكسر- إرادتين طوليتين:

إحداهما: متعلقة بضرر الغير بواسطة مباشرة المكره.

والأخرى متعلقة بضرر المكره –بالفتح- في موضوع مخالفته لأمره بمباشرته هو، وهذا ضرر آخر غير الضرر الأول، تعلقت به إرادته في موضوع مخالفة المكره، فليس إلزام المكره بترك العمل بما أُكره عليه إلزاماً بتحمل ضرر الغير ليكون حكماً حرجياً، وإنما هو إلزام بعدم إضرار الغير وإن تضرر هو بذلك.

أقول: لا أجد موضوعاً لهذا الإشكال أو التنبيه على هذا التعدد لأنه واضح لدى الجميع، وقد فرّق الشيخ بينهما بعنواني الضرر والإضرار في النص الأخير الذي نقلناه عنه، ولو عبَّر أحدهم بالضرر في الموردين معاً فإنه لا يريد شخص الضرر وإنما جنسه.

(الوجه الثالث) ((قوله (عليه السلام): (إنما جُعلت التقية ليُحقن بها الدم، فإذا بلغ الدم فلا تقية)(1)

حيث أنه دلّ على أن حد التقية بلوغ الدم فتشرع لما عداه))(2) أي جواز التقية في كل شيء عدا الدماء.

أقول: تقريبه (قدس سره) مبني على حمل (إنما) على معناها المعروف وهو إفادة الحصر، أي حصر الغرض من تشريعها بحقن الدم، وهو معنى لا يمكن المساعدة عليه لوضوح شمول التقية لغيره مما يهتم الإنسان والشارع المقدس بحفظه.

ص: 235


1- وهي صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) ومثلها موثقة أبي حمزة الثمالي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب 31، ح 1، 2.
2- المكاسب: 2/87.

والذي نفهمه من الحديث: أنه بصدد بيان وجه عدم مشروعية التقية إذا تعلقت بالدم؛ لأن التقية إنما شرّعت في مواردها لحقن دم المتعرض لظروفها، فإذا كان ما يطلب منه ويتقي به سفك بريء فقد انتقض الغرض من التقية وأدت إلى عكس المطلوب فلا معنى للتقية وإن أفادت (إنما) الحصر فهو إضافي بلحاظ بلوغ التقية الدم فيكون الحديث مجملاً من ناحية ما تصح فيه التقية.

ونفى الفاضل الإيرواني (قدس سره) أن يكون هذا معنى الحديث وفي معناه ((أن بلوغ الدم ليس بمعنى كون متعلق الإكراه هو الدم، بل معناه حصول سفك الدم لا محالة إن اتقى أو لم يتقِ، فكان تشريع التقية لغواً بلا غاية، إذ بعد أن كان الشخصمقتولاً لا محالة لم تكن للتقية معنى ومحل، وهذا مما يحكم به العقل بلا حاجة إلى ورود الحديث))(1).

أقول: هذا المعنى بعيد والظاهر ما ذكرناه من كون الدم المقصود بالبلوغ هو الدم المكره عليه لا دم المتقي بقرينة مرسلة الصدوق الآتية.

نعم كان بإمكان الشيخ (قدس سره) التمسك بعمومات التقية في كل شيء كصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (التقية في كل ضرورة، وصاحبها أعلم بها حين تنزل به)، وصحيحة محمد بن مسلم وزرارة وآخرين قالوا: سمعنا أبا جعفر (عليه السلام) يقول: (التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحلّه الله له)، وفي رواية أبي عمر (ابن عمر) الأعجمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (والتقية في كل شيء إلا في النبيذ والمسح على

ص: 236


1- حاشية الإيرواني على المكاسب: 1/265، التعليقة (541).

الخفين)(1)، وفي مرسلة الصدوق في الهداية (والتقية في كل شيء حتى يبلغ الدم، فإذا بلغ الدم فلا تقية)(2).

لكن هذه الروايات إذا قرأناها بنفس طريقة استدلاله (قدس سره) فإنها حينئذٍ تؤدي إلى عكس مطلوبه لأنها ستفيد عدم جريان التقية في كل مورد شرّعت لحفظه فيشمل النفوس والأعراض والأموال، وهو ينافي القول بالرخصة مطلقاً، لذا استشكل عليه بعض الأعلام.

قال السيد الخوئي (قدس سره): ((الظاهر من هذه الأخبار أن التقية إنما شرّعت لحفظ بعض الجهات المهمة، كالنفوس وما أشبهها، فإذا أدّت إلى إتلاف ما شرعت لأجله فلا تقية، لأن ما يلزم من وجوده عدمه فهو محال، وليس مفاد الروايات المذكورة هو جواز التقية في غير تلف النفس لكي يترتب عليه جواز إضرار الغير لدفع الضرر عن نفسه. والغرض من تشريع التقية قد يكون حفظ النفس، وقد يكون حفظ العرض، وقد يكون حفظ المال ونحوه، وحينئذٍ فلا يشرع بها هتك الأعراض ونهب الأموال لانتهاء آمادها بالوصول إلى هذه المراتب)).

أقول: لازم هذا التقريب عدم جواز الاتقاء بشيء من حقوق الآخرين لحفظ شيء من سنخه للمتقي دون غيره من الأشياء، وهو معنى أضيق مما بنى عليه (قدس سره).وقال (قدس سره): ((بعبارة أخرى: المستفاد من الروايات المذكورة أن الغرض من التقية هو حفظ الدماء، وإن توقف ذلك على ارتكاب بعض المعاصي، ما لم يصل إلى مرتبة قتل النفس)).

ص: 237


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب 25، ح1، 2، 3.
2- مستدرك الوسائل: 12/274، كتاب الأمر بالمعروف، باب 9، ح1.

ثم قال (قدس سره): ((على أنه لو جازت التقية بنهب مال الغير وجلبه إلى الظالم لدفع الضرر عن نفسه لجاز للآخر ذلك أيضاً، لشمول أدلة التقية لهما معاً، فيقع التعارض في مضمونها وحينئذٍ فلا يجوز الاستناد إليها لدفع الضرر عن أحد الطرفين بإيقاع النقص بالطرف الآخر، لأنه ترجيح بلا مرجح، وعليه فنرفع اليد عن إطلاقها في مورد الاجتماع، ويرجع فيه إلى عموم حرمة التصرف في مال الغير وشؤونه))(1).

أقول: الآخر ليس في ظرف تقية بحسب الفرض فلا تشمله أدلة التقية، نعم يمكن جريان غيرها كأدلة الاضطرار أو الدفاع عن النفس والمال والعرض ونحوها، مضافاً إلى أن فرض التعارض ليس تاماً؛ لأن تكليف كل منهما ليس موضوعاً لتكليف الآخر بل كل منهما مستقل عن الآخر ولكل منهما تكليفه.

واستدل الفاضل الإيرواني بالروايات على العكس أي اختصاص الرخصة بحق الله تعالى ((بتقريب أن المستفاد من الحديث أن كل ما شرّعت التقية لحفظه إذا بلغته التقية فلا تقية، ومن المعلوم أن التقية كما شرّعت لحقن الدماء كذلك شرعت لحفظ الأعراض والأموال، ومقتضاه أن لا يشرع بها هتك الأعراض ونهب الأموال)).

أقول: هذا كالإلزام للشيخ الأنصاري (قدس سره) بما ألزم به نفسه في التقريب السابق، ويرد عليه بما أوردناه على السيد الخوئي (قدس سره)، مضافاً إلى أن هذا التقريب غير تام؛ لأن التقية شرعت لحفظ مهمات المتقي أي المتعرض للتقية، ولا يشمل دليلها حفظ مهمات الطرف الآخر لأنه ليس متقياً.

وهذا معنى ما أورده على نفسه قائلاً: ((لا يقال: إن التقية شرعت لحفظ دم كل مؤمن لا خصوص دم المتقي، فإذا أكره على سفك دم مؤمن لم تسوّغه التقية بحكم الحديث، وهذا بخلاف العرض والمال؛ فإنه لم تشرع التقية إلا لحفظ

ص: 238


1- مصباح الفقاهة: 1/676-677، وأعاد ذكرها صفحة 687.

عرض نفس المتقي أو ماله، فإذا أكره على هتك عرض مؤمن آخر أو نهب ماله سوّغته التقية ولم يكن على خلاف مصلحة التقية.

فإنا نقول: كلا، بل شرعت التقية لحفظ مال كل مؤمن وصون عرضه..، مع أن من المقطوع به عموم حكمة جعل التقية))(1).

أقول: الأدق في الجواب والرد على أصل هذا الوجه أن يرد عليه ما أشكل به على الوجهين السابقين من كون تجويز الإضرار بالغير لدفع الضرر عن النفس قبيحاً ومخالفاً للامتنان، فلا بد من تخصيص هذه العمومات، أو القول بخروج الإضرار بحق الناس تخصصاً لأن موضوعها –وبقرينة سياق الكثير منها- الترخيص في حقوق اللهتعالى، وقد شرعت لحفظ المؤمنين وحقوقهم ومصالحهم فكيف تكون مسوغاً للإضرار بهم، ففي رواية الاحتجاج عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (وآمرك أن تستعمل التقية في دينك –إلى أن قال (عليه السلام)- فإن الله عز وجل يقول: «لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً» وقد أذنت لك في تفضيل أعدائنا إن لجأك الخوف إليه وفي إظهار البراءة منا إن حملك الوجل عليه، وفي ترك الصلاة المكتوبات إن خشيت على حشاشتك الآفات والعاهات، فإن تفضيلك أعدائنا علينا عند خوفك لا ينفعهم ولا يضرنا، وإن إظهارك براءتك منا عند تقيتك لا يقدح فينا ولا ينقصنا، ولئن تبرأت منا ساعة بلسانك وأنت موالٍ لنا بجنانك لتبقي على نفسك روحها التي بها قوامها، وما لها الذي به قيامها، وجاهها الذي به تماسكها، وتصون من عرف بذلك وعرفت به من أوليائنا وإخواننا من بعد ذلك بشهور وسنين إلى أن يفرج الله تلك الكربة، وتزول به تلك الغمة فإن ذلك أفضل من أن تتعرض للهلاك، وتنقطع به عن عمل الدين وصلاح إخوانك المؤمنين.

ص: 239


1- حاشية الفاضل الإيرواني: 1/262، التعليقة (538).

وإياك ثم إياك أن تترك التقية التي أمرتك بها، فإنك شائط بدمك ودم إخوانك، معرّض لنعمتك ونعمهم على الزوال مذل لك ولهم في أيدي أعداء دين الله، وقد أمرك الله بإعزازهم، فإنك إن خالفت وصيتي كان ضررك على نفسك وإخوانك أشد من ضرر المناصب لنا، الكافر بنا)(1).

أقول: قوله (عليه السلام) في الفقرة الأخيرة: (شائط) إشارة إلى النفوس، و(لنعمتك) الأموال ونحوها، و(مذل لك) للأعراض للمتقي وللمؤمنين، فكل هذه يراد حفظها بالتقية.

(الوجه الرابع) ما في الجواهر من ((انصراف ما دلّ على الحرمة على غير الحال المفروض))

أقول: هذه مجرد دعوى لا يساعد عليها الوجدان ولا ارتكاز المتشرعة ولا تصلح لتقييد.

(الوجه الخامس) وفي الجواهر أيضاً ((لا يجب عليه تحمل الضرر في رفع الإكراه مقدمة لتجنب ظلم الغير ضرورة معلومية سقوط وجوب المقدمة بالعسر والحرج والمشقة والضرر في سائر التكاليف الشرعية المطلقة فيسقط حينئذ وجوب ذيها فلا يجب عليه حينئذ نقل نفسه من موضوع الإكراه إلى موضوع الاختيار بما يضر بحاله ضرراً لا يتحمل، خصوصاً وقد صار بالإكراه كالآلة للمكرِه، بل ليس هو حينئذ إلاكالأجنبي الذي يستطيع رفع الظلم عن مؤمن، بما يضر بحاله من مال أو نفس أو عرض))(2).

ص: 240


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب 29، ح11 عن الاحتجاج: 1/238 وتفسير العسكري: 175/84.
2- جواهر الكلام: 22/167.

أقول: ظهر من مناقشة وجوه الشيخ الأنصاري (قدس سره) وجود عدة مواضع للنظر في كلامه (قدس سره) كعدم جريان أدلة نفي الحرج والضرر في المقام مطلقاً لحكومة أدلة حرمة الإضرار بالغير ونحو ذلك من الإشكالات عليه، خصوصاً التشبيهات الأخيرة.

تقييم القول الأول:

ظهر مما تقدم عدم تمامية التمسك بعمومات وإطلاقات الرفع عند الإكراه والحرج والتقية لإثبات جواز الإضرار بالغير في هذه الحالات للموانع التي سبقت وسنذكرها، هذا ولكن يمكن الاستدلال على الجواز في الجملة بعدة وجوه:-

1- الروايات الدالة على جواز الدخول في الولاية للجائر في هذه الظروف وقد تقدمت جملة منها في المجموعة الثالثة (صفحة 150) فإنها مرخصة ضمناً بهذا الإضرار بعد ضم مقدمة لها وهي عدم انفكاك الولاية عن ظلم الناس، والتعدي على حقوقهم من جباية المال للسلطة ونحو ذلك، بحيث أن الإمام الصادق (عليه السلام) يصف تعهد بعضهم بالولاية من دون أن يجور أو يظلم الناس بأن (تناول السماء أيسر عليك من ذلك) في صحيح داوود بن زربي (صفحة 143).

2- ما دل على جواز الأخذ من مال الغير عند الاضطرار إليه كما في المخمصة وعدم وجود غيره، بعد ضم مقدمة حاصلها أن الاضطرار كالإكراه والتقية في إفادة الرخصة.

لكن هذه الرخصة مقيّدة ومحدودة؛ لوجود أدلة حاكمة على إطلاقها بالتخصص أو التخصيص، منها:-

ص: 241

1- إن أدلة الرخصة عند الإكراه والاضطرار والتقية امتنانية، وجعلها مسوغاً للإضرار بالآخرين مخالف للامتنان وقبيح عقلاً ويلزم منها نقض الغرض ويلزم أيضاً من وجودها عدمه وهو باطل.

2- القول بالرخصة مطلقاً له فروع يصعب على الفقيه الالتزام بها كإمكان نهب مال الآخرين وهتك أعراضهم لدفع ضرر بسيط يمكن تحمله ككلمة يشعر أنها تجرح كرامته، أو الإذن للسجناء والذين يتعرضون لضغوط للإدلاء باعترافات مضرّة بالآخرين ونحو ذلك، ودليل عدم العمل به مخالفته لسيرة أصحاب الأئمة (عليهم السلام) والمتشرعة في تحمل الآلام والعذاب دون أن يتورطوا في إيذاء الآخرين، وقضية محمد بن عمير في سجن هارون معروفة(1).

3- ما يستفاد من قوله تعالى: «وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى» (طه:131) بتقريب أن هذا الضرر الذي توعّد به الجائر إنما هو حصتك من البلاء وأجرك مذخور عند الله تعالى، وغيرك في عافية منه فالآية تنهى عن تمني نقل هذا البلاء والحرمان إلى الآخرين وسلامته منه، فضلاً عن العمل على ذلك.

ص: 242


1- في رجال الكشي عن الفضل بن شاذان قال: ((سعي بمحمد إلى السلطان أنه يعرف أسامي عامة الشيعة بالعراق فأمره السلطان أن يسميهم، فامتنع، فجرّد وضرب مائة سوط (وفي رواية مائة خشبة وعشرين خشبة) قال الفضل: فسمعت ابن أبي عمير يقول: لما ضُربت فبلغ الضرب مائة سوط، أبلغ الضرب الألم إلي فكدت أن أسمي، فسمعت نداء محمد بن يونس بن عبد الرحمن يقول: يا محمد بن أبي عمير، اذكر موقفك بين يدي الله تعالى، فتقويت بقوله فصبرت، ولم أخبر والحمد لله)) وفي رواية ((تولى ضربه السندي بن شاهك وحُبس فأدى مائة وواحداً وعشرين ألفاً حتى خلّي عنه)) (معجم رجال الحديث: 15/294) ط طهران.

4- رواية الحسن بن الحسين الأنباري عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: (كتبت إليه أربع عشرة سنة أستأذنه في عمل السلطان، فلما كان في آخر كتاب كتبته إليه أذكر أني أخاف على خيط عنقي، وأن السلطان يقول لي إنك رافضي، ولسنا نشك في أنك تركت العمل للسلطان للرفض فكتب إلي أبو الحسن عليه السلام: فهمت كتابك وما ذكرت من الخوف على نفسك، فإن كنت تعلم أنك إذا وليتَ عملتَ في عملك بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله ثم تصيّر أعوانك وكتابك أهل ملتك وإذا صار إليك شيء واسيت به فقراء المؤمنين حتى تكون واحداً منهم كان ذا بذا وإلا فلا).

بتقريب أن الرواية صريحة في تعرّض السائل للإكراه والتهديد بالقتل ومع ذلك فإن الإمام (عليه السلام) اشترط عليه الإحسان إلى إخوانه ليكون (ذا بذا وإلا فلا) أي إن لم يعمل بالشروط المذكورة فلا تحل له الولاية للجائر، وهي شديدة التحذير من ترك الإحسان والعمل بسيرة النبي (صلى الله عليه وآله) وتولية إخوانه فكيف تتصور الرخصة في الإساءة إلى الإخوان.

5- كثرة الاستثناءات التي تقدمت الإشارة إليها في التنبيه (صفحة 229) والتي تجعل القول بالإطلاق غير مقبول.

6- روايات (لا ضرر ولا ضرار)(1)

فإنها تعطي الحق في دفع الضرر عن النفس وتسقط التكليف الضرري، ولكنها في نفس الوقت تمنع من الإضرار بالغير، ولا تعتبر الحق بدفع الضرر عن النفس مسوّغاً للإضرار بالغير.

ص: 243


1- وسائل الشيعة: 25/428، كتاب إحياء الموات، باب 12، وكتاب التجارة، أبواب الخيار، باب 17، ح3، 4، 5، وفي غيرها من الأبواب.

ويرد هنا ما ذكرناه (صفحة 234) من عدم جريان دليل لا ضرر في المقام لسقوطه بالتعارض، وقد أجبنا عليه بأنه لو تم فإنه يجري في المقدار الزائد من الأقوى ضرراً ونتيجته لزوم الأخذ بأقل الضررين في الجملة.

7- ارتكاز المتشرعة على عدم إطلاق أدلة الرخصة للإضرار بالغير مطلقاً وقد تقدم بيانه (صفحة 217).

إن قلتَ: كيف يمكن تصحيح هذه الدعوى مع نسبة القول بالرخصة مطلقاً إلى المشهور بحسب حكاية صاحب مفتاح الكرامة (صفحة 211). أقول: هذه الحكاية فيها نظر وكذا استظهار الإطلاق من كلمات الأصحاب (قدس الله أرواحهم)، فلعل الإطلاق بلحاظ جميع التكاليف الشرعية من حقوق الله تعالى، وإذا فرض شمول كلامهم لحقوق الناس فليس من المعلوم سعته لصورة ما إذا كان الضرر المقصود إيقاعه بالغير أقوى بمراتب من الضرر المتوعد به المكره، كما يفترض القائل بالإطلاق.

ونستطيع أن نعرض هنا وجهاً لفهم التفصيل الذي عرضه الشهيد الثاني (قدس سره) لكلام صاحب الشرائع الذي تقدم (صفحة 207) في إضافة شرط عدم القدرة على التفصي إلى شرط الإكراه لجواز العمل بما يأمر به الظالم.

وحاصل هذا الوجه أن الإكراه وحده كافٍ للدخول في ولاية الجائر التي لا تنفك عن المعاصي والتجاوز على حدود الله تعالى كمعونة الظالمين ومداهنة أهل الباطل وتسويد الاسم في ديوانهم والسكوت عن مظاهر الفسق والفجور والمعاصي الكثيرة التي تتضمنها مجالسهم وغير ذلك.

أما العمل بما يأمر به الجائر فإنه لا ينفك عن مظالم العباد من جباية أموالهم وإيذائهم ومصادرة حقوقهم ونحو ذلك، وهذا لا يكفي فيه

ص: 244

الإكراه، بل يضاف له شرط عدم القدرة على التفصي، ومن القدرة على التفصّي تحمل الضرر من أجل دفعه عن الآخرين خصوصاً على مستوى بذل المال المقدور أو تحمل الكلمة الجارحة والإهانة لأنه في سبيل الله تعالى، وقد تحمل المعصومون (عليهم السلام) الكثير من ذلك.

فالتفصيل الذي وجه به الشهيد الثاني (قدس سره) كلام المحقق الحلي (قدس سره) يرجع في حقيقته إلى التفصيل بين حق الله تعالى وحق الناس، ومراعاة ارتكاز المتشرعة في جواز الإقدام على أحد الضررين.

وهذا التفسير ليس تبرعياً محضاً غير مستند إلى دليل بل هو مما توحي به عبارة الشيخ كاشف الغطاء (قدس سره) الذي اعتمد التفصيل المذكور، وقال1- في النص المذكور (صفحة 208): ((وأما العمل بأمره في ضرر الخلق فلا يجوز إلا مع الضرر المعتبر دون غيره)) فقد جعل العمل بأمره ملازماً لضرر الخلق، ولله الحمد وحده على هذا الفتح.

القول الثاني: اختصاص الرخصة بحق الله تعالى دون الإضرار بالمخلوقين:

وورد في كلام الشيخ الأنصاري (قدس سره) عدة وجوه:-

1- ((إن المستفاد من أدلة الإكراه تشريعه لدفع الضرر، فلا يجوز دفع الضرر بالإضرار بالغير ولو كان ضرر الغير أدون، فضلا عن أن يكون أعظم))(1)

وبتعبير آخر: التمسك بعموم وإطلاق أدلة حرمة الإضرار بالغير بعد عدم شمول أدلة نفي الإكراه والحرج والضرر للمقام؛ لأن في الرخصة نقضاً للغرض.

ص: 245


1- المكاسب: 2/86

2- ((إن حديث رفع الإكراه ورفع الاضطرار مسوق للامتنان على جنس الأمة، ولا حسن في الامتنان على بعضه بترخيصه في الإضرار في البعض الآخر، فإذا توقّف دفع الضرر عن نفسه على الإضرار بالغير لم يجز ووجب تحمل الضرر)).

3- ما ذكره في التوهم الذي نقلناه (صفحة 222) وملخصه: أن دليل الإكراه لو عمَّ للإضرار بالغير، لعمَّ نفي دليل الاضطرار له أيضا فان سياقهما واحد وملاكهما واحد، والتالي باطل كما في المورد الذي ذكره (قدس سره) في التوهم وهو الاضطرار لدفع الضرر عن نفسه بإيقاعه بالغير، فالملزوم وهو عموم دليل الإكراه باطل مثله.

4- ما قرّبنا به قراءة روايات التقية في ضوء طريقة الاستدلال التي سار عليها الشيخ الأنصاري، وقال بها الفاضل الإيرواني (قدس سره) ويتكون من مقدمتين، حاصلها(1):

أن قوله (عليه السلام): (إنما جعلت التقية ليُحقن بها الدم، فإذا بلغ الدم فلا تقية) يفيد أن كل ما شرعت له التقية إذا بلغته فلا تقية. وقد دلت الأخبار على أن التقية شرِّعت لحفظ كل ما يهتم به الإنسان والشارع المقدس من النفوس والأعراض والأموال، فإذا تعلقت التقية بشيء من ذلك فلا تقية.

أقول: عرضنا كل هذه التقريبات كإشكالات على القول الأول وأجبناها.فالوجهان الأول والثاني صحيحان في الجملة إلا أنهما لا ينفيان إمكان الرخصة عندما يكون ما توعّده الجائر من الضرر أعظم بكثير مما أمره به من إضرار الغير، كما لو قال له خذ منه ديناراً أو اجلده سوطاً وإلا أخذت منك ألف دينار أو ضربتك ألف سوط فان ارتكاز المتشرعة لا يمنع من تنفيذ أمر

ص: 246


1- الحاشية على المكاسب: 1/262 التعليقة (538)

الظالم، بل يرى أن الإلزام بتحمل الضرر قبيح ومخالف للامتنان وحرجي لان هذه الأدلة بلحاظ عموم الأمة ونوعها.

وأما الثالث فاللازم ليس باطلاً للرخصة في التناول من طعام الغير في المخمصة فيكون نقضا على هذا القول، وبقرينة الملازمة بين الاضطرار والإكراه، ينتج جواز الإضرار بالغير عند الإكراه في الجملة.

وأما الرابع فملخص ما أوردناه:

أ - إن لازمه كون عدم جواز الاتقاء بشيء من حقوق الآخرين مختص بحفظ شيء من سنخه للمتقي دون غيره من الأشياء، وهو معنى أضيق مما يريده القائل، ولا يمنع من الإضرار بالغير إذا كان الضرر من نوع آخر خصوصاً إذا كان أقل منه في الأهمية.

ب - إن دليل التقية يشرّع حفظ مهمات المتقي أي المتعرض للتقية، ولا يشمل حفظ مهمات الطرف الآخر لأنه ليس متقياً بحسب الفرض، فلا يشمله دليل التقية.

هذا كله مضافاً إلى التقريبين اللذين ذكرناهما (صفحة 241) لإمكان الرخصة بالإضرار بالغير في الجملة.

نعم يمكن الاستدلال على منع الرخصة في الجملة بالتقريب القرآني الذي أوردناه (صفحة 242).

القول الثالث: وهو الوجه الثاني الذي ذكره الشيخ الأنصاري، قال (قدس سره): ((أم لا بدّ من ملاحظة الضررين والترجيح بينهما وجهان))(1) ثم قوّى الأول أي الرخصة مطلقاً.

ص: 247


1- المكاسب: 2/86.

واستقربه الفاضل الأيرواني (قدس سره) وقال في وجه الاستدلال عليه: ((ولو قيل بالمقايسة بين الضررين، وتقديم أقواهما لم يكن بعيداً(1)، لأن نسبة المكلّفين إلى الشارع نسبة واحدة ومقتضى المنّة حفظ نوع المكلّفين عن الضرر، فإذا كان مقدار من الضرر وارداً على كل حال –إما على نفسه أو على الغير- كانت المنّةمقتضية لحفظ نوع الأمة من الزيادة، وذلك يكون بتشريع الناقص لدفع الزائد –كان الناقص هو ضررُ نفسهِ أو ضرر الغير-))(2).

ثم ردّ عليه بأنه ((إستحسانٌ محض لا يصار إليه إلا بعد قيام الدليل، ولا دليل عدا دليلِ نفي الإكراه)) ثم قرّب إمكان الأخذ بهذا الدليل، قال (قدس سره) ((إن إطلاق دليل نفي الإكراه لا يرفع اليد عنه إلا بمقدار كان على خلاف المنّة، وهو جواز الإضرار بالغير لدفع الضرر عن النفس ضرراً يساوي ضرر الغير أو ينقص عنه، وأما إطلاقه بالنسبة إلى الإضرار بالغير لدفع ضررٍأقوى عن النفس –وإن شئت قلتَ لدفع فضلةِ الضررين- فذلك مما لا مانع منه، فيؤخذ به، ويُحكم بجواز هتك عِرض الغير ونهب ماله لحفظ عِرض نفسه ومال نفسه)).

أقول: يرد عليه:-

1- إن نسبة الضررين ليست واحدة بالنسبة إلى المُكرَه حتى يُقال بالترجيح مطلقاً، إذ ليس هو كالأجنبي بالنسبة للضررين على حد سواء لأنه هو المخاطب بالفعل، والضرر متوجه إليه أولاً، أما الإضرار بالغير فمترتب على قراره بعدم تحمل الضرر وإيقاعه الضرر بالغير، فعليه أن يعمل بتكليفه المتوجه إليه أولاً، وهو تحمل الضرر لحرمة الإضرار

ص: 248


1- والتخيير عند التساوي.
2- حاشية الإيرواني على المكاسب: 1/263 رقم الحاشية (538).

بالغير لدفع الضرر عن نفسه، ما لم يحكم عليه دليل يسقط هذا التكليف.

وبتعبير آخر: إن موضوع الإضرار بالغير ليس في رتبة موضوع الضرر المتوعد به حتى تجري فيهما قواعد الترجيح بين المتزاحمين، وإنما يوجده المُكرَه بإرادته لدفع الضرر عن نفسه.

2- إن اقتصار مخالفة المنة على المقدار الذي ذكره (قدس سره) وهو دفع الضرر المساوي أو الأنقص من الإضرار بالغير لا يمكن المساعدة عليه، فإن بعض ما تشمله الرخصة بناءً على هذا القول يكون مخالفاً للمنة، كما لو توعّده الجائر بغرامة مائة دينار، إن لم يغصب تسعين ديناراً من الآخر، وأمثال ذلك، فإطلاق الرخصة لكل فضلة في ضرر المكره محل إشكال.

3- مضافاً إلى حاجة هذا القول إلى تتميم وذلك بوضع ضوابط للترجيح، لأن الضررين قد يكونان مختلفين نوعاً كأن يكون المتوعد به أخذ الأموال، والمراد إيقاعه بالغير من قبيل هتك الأعراض أو الضرب أو الحبس وغيرها فكيف يعرف أقوى الضررين مطلقاً؟ فالقول يحتاج إلى تتميم.واستشكل بعض الأعلام المعاصرين على هذا القول بأن((أحكام التعارض –أي تعارض الضررين- من الترجيح والتخيير(1)

إنما هو ثابت فيما إذا كان التعارض بسبب أسباب طبيعية، مثل ما أذا أدخل حيوان رأسه في قدر لا

ص: 249


1- التخيير عند التساوي.

يخرج منه الا بكسر أحدهما، وأما فيما نحن فيه ليس كذلك، بل المُكرَه هو الذي يوجب الضرر على غيره باختياره))(1).

وفيه: أن المناط في صحة العمل بالمرجحات ليس ما ذكره من نوع الأسباب، وإنما وحدة نسبة الفعلين إلى المخاطب بهما وعدمها، فما قاله يكون صحيحاً لو كانت نسبة الفعلين واحدة بالنسبة للفاعل كما لو لم يكن المخاطب بالإنقاذ مالك القدر أو الحيوان فيكون تكليفه ترجيح الأهم، لكنه خلاف الفرض، فإن المخاطب بالفعل في المقام هو مالك الحيوان الذي أدخل رأسه في القدر ويريد إنقاذه بإتلاف القدر، وليس من المعلوم أن الحكم مراعاة الترجيح مطلقاً، بل في الجملة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

القول الرابع: تفصيل السيد الخوئي (قدس سره)

بين ما لو كان ما توعّده به الجائر أمراً مباحاً في نفسه كدفع مال فإنه مسلط عليه فلا يجوز له إيقاع الضرر بالغير، وبين ما لو كان حراماً كما لو أكرهه على أن يلجئ شخصاً آخر إلى الزنا وإلا أجبره على ارتكابه بنفسه –بحسب مثاله (قدس سره)- فتجري فيه مرجحات باب التزاحم.

ويرد على أصل هذا الوجه أنه غير مستوعب، لوجود حالة ثالثة فيما لو كان ما توعّده به حراماً، والمطلوب أيقاعه بالغير أمراً مباحاً لذلك الغير كما لو توعده بأن يسقيه الخمر إن لم يجلب المال من الآخر، وهذا أمر مباح لذلك الغير، فما المانع حينئذٍ من القول بجواز إيقاع الضرر بالغير في الجملة ليقوم ذلك الغير بمسؤوليته في حماية أخيه المُكرَه من الوقوع في المعصية فيدفع ذلك الغير المال وعلى المكرَه الضمان.

ص: 250


1- أنوار الفقاهة للشيخ ناصر مكارم الشيرازي، كتاب التجارة، أقسام المكاسب المحرمة: 397.

وقد قال (قدس سره) عن الشقّ الأول:((وفي هذه الصورة لا بد للمُكرَه من تحمُّل الضرر بترك النهب، ومن الواضح أن دفع المُكرَه أمواله للجائر مباح في نفسهحتى في غير حال الإكراه، ونهب أموال الناس وجلبها إلى الجائر حراما في نفسه ولا يجوز رفع اليد عن المباح بالإقدام على الحرام))(1).

ويرد عليه أن إطلاق عدم الرخصة فيما لو كان ما توعّده الجائر مباحاً لا يتم فيما لو كان الضرر المراد إيقاعه بالغير لا يُقاس بأهمية الضرر المتوعد به كالمطالبة بدفع أموال ضخمة إن لم يوجّه كلمة نابية إلى أخيه المؤمن، فإن أدلة نفي الحرج تجري هنا، لأنها إمتنانية على نوع الامة، والقول بالمنع مخالف للامتنان وقبيح عقلاً.

وقال (قدس سره) في وجه الشقّ الثاني: ((لا موضع لأدلة نفي الإكراه والاضطرار والحرج والضرر، بداهة أن الإضرار بأحد الطرفين مما لا بد منه جزماً، فدفعه عن أحدهما بالإضرار بالآخر ترجيح بلا مرجح أذن فتقع المزاحمة، ويرجع إلى قواعد باب التزاحم))(2).

ويرد على إطلاق الرجوع إلى مرجحات باب التزاحم أنه غير تام لما قلناه من أن نسبة الفعلين ليست واحدة بالنسبة للمكرَه؛ لإطلاق أدلة حرمة الإضرار بالغير ولا يمكن الترخيص فيها لمطلق كون الضرر المتوعد به أكبر بل لا بد من تقييدها في حدود يُعلَم رخصة الشارع فيها.

وبتعبير آخر ان مرجّح لزوم تحمّل المُكرَه للضرر موجود لحرمة إضراره بالغير، وسيأتي (صفحة 266) كلام له (قدس سره) مخالف لهذا مع بيان إضافي إن شاء الله تعالى.

ص: 251


1- مصباح الفقاهة: 1/676.
2- مصباح الفقاهة: 1/679.

القول المختار:

وحاصله: أن الإكراه كافٍ لجواز أصل الدخول في ولاية الجائر وما تستلزمه من المخالفات الشرعية أمام الله تبارك وتعالى كتسويد الاسم في ديوانه وكونه معهم لا مطلقاً؛ تمسكاً بعمومات الرفع عند الإكراه والاضطرار والحرج، فالمقتضي موجود والمانع مفقود.

أما سائر المحرمات الأخرى كمشاركتهم في شرب الخمر أو الفسوق والفجور فإنها لا تحلّ إلا مع عدم القدرة على التخلص، أو كان التخلص حرجياً ومضراً بدرجة تحلّ معها تلك المحرمات، وكان ما يتوعده الظالم به من الأهمية التي لا تترك في نظر الشارع المقدس كإزهاق الأرواح.

أما العمل بما يأمر به الجائر من الإضرار بالآخرين فإنه محرّم لحرمة الإضرار بالآخرين والتعدي على حقوقهم وحرماتهم، ولا يكون المورد مشمولاً بعمومات الرفع، حتى لو كان ما توعده به الجائر من الضرر أقوى مما أمر بإيقاعهبالغير، لعدم جواز الإضرار بالغير من أجل دفعه عن نفسه حتى في هذه الصورة، ولأن الإضرار بالغير مشروط بعدم المندوحة وعدم القدرة على التخلّص، ومن التخلّص تحمله للضرر وإن كان أقوى من المراد إيقاعه بالغير.

ويُستثنى من ذلك حالات أوجبت التعبير مراراً بالقول: (في الجملة) وتشترك في كون الرخصة فيها ليست مخالفة للامتنان ولا قبيحة عقلاً وهو مناط تقييد أدلة الرفع وعدم جريانها، ومن تلك الحالات:-

1- ما لو كان الضرر المراد إيقاعه بالغير لا يُقاس قوةً وأهميةً بما توعده الجائر لضآلته فإنه يجوز له العمل بما يأمر به الجائر بحسب ارتكاز المتشرعة بل العقلاء أيضاً مع مراعاة الضمان وتدارك تبعة العمل كما سياتي إن شاء الله تعالى.

2- ما لو كان الضرر المراد إيقاعه بالغير قابلاً للتدارك والضمان لصاحبه ووجد مسوّغ للإقدام عليه، ويدل عليه معتبرة علي بن يقطين المتقدمة

ص: 252

(صفحة 151) عن الإمام الكاظم (عليه السلام) وفيها يقول (عليه السلام): (إن كنت فاعلاً فات_ّقِ أموال الشيعة) قال الراوي: (فأخبرني علي أنه كان يجبيها من الشيعة علانية ويردها عليهم في السر).

وهنا لم يكن علي مُكرَهاً وإنما رخِّص له في الفعل حفظاً للمصالح العامة التي كان يقوم عليها، فقد يقال بأولوية المكره أو مطابقته، ويستطيع الفقيه تجريد الحادثة عن الخصوصية لكل ما يمكن تعويضه للمتضرر.

3- إذا كانت كل المقدمات والظروف تشير إلى أن الجائر عازم على إيقاع الضرر بالغير وأن امتناع المُكرَه لا يغير شيئاً لأنه سيأمر غيره بالفعل ولا أثر لامتناع المكرَه الا تعرّضه للضرر الذي توعّده به الجائر من دون أن يدفع الضرر عن الغير، وهنا قد يُقال بأن الإضرار بالغير لا ينافي الامتنان، فتجري في حقه أدلة الرفع، بل قد يكون تعرّض المكرَه لضرر الجائر قبيحاً لأنه عبثي بلا فائدة.

ولأن طريق تحديد المصاديق لهذه الحالات شائك ومحفوف بالمزالق، ولكي يكون التطبيق سليماً من تدخّل الأهواء، ولا نكون كذلك الكوفي الذي انتزع قرطي إحدى بنات الإمام الحسين (عليه السلام) وهو يبكي مبرراً جريمته بأنه لو لم يأخذهما أخذهما غيره، ينبغي الإلزام بالرجوع إلى المجتهد الجامع للشروط، فالإمام الحسين (عليه السلام) خرج بسبعين من أصحابه لمواجهة ما لا يقل عن ثلاثين ألفاً، وكانت له هذه الثمرات المباركة الخالدة، ولا يوصف فعله بأنه عديم الفائدة.

فرع: على القول بجواز الإضرار بالغير مطلقاً أو في الجملة فهل عليه الضمان؟.

ص: 253

علّلَ الشيخُ الانصاري (قدس سره) في بعض المطالب الآتية الضمان ب_ ((عدم الإكراه المانع من الضمان أو استقراره))(1)

وهو صريح بأن الإكراه مانع من أصل الضمان أو من استقراره.

أما عدم الضمان عند الإكراه فإنه مبني على تقريبه السابق للمُكرَه كالآلة وأنه سبب ضعيف ولا يصح إسناد الفعل اليه فيكون الضمان على السبب الفاعل وهو المُكرِه، وقد أجبنا بأن المُكرَه ليس كذلك فإنه فاعلٌ مختارٌ ومباشر للفعل ويتمكن من تحمّل الضرر بدل إيقاعه بالغير.

أو أنه مبني على كون حديث الرفع مسقطاً للأحكام الوضعية ومنها الضمان وليس مختصاً بالأحكام التكليفية، لكن هذا التعميم غير تام وزائد عن مفاد الحديث وللنقض عليه بضمان مال الغير عند الاضطرار إلى أكله في المخمصة، وما دل على فساد بعض الأحكام الوضعية كطلاق المكره لا يصحح التعميم.

وأما عدم استقرار الضمان على المُكرَه فهو صحيح لأنه فعلَ ما فعل بإكراه الجائر، فالسبب هنا أقوى من المباشر ويستقر عليه الضمان.

بيان: تقدمت بعض المطالب مجملة وتحتاج إلى تفصيل كالسؤال عن عنوان الدم الذي تتوقف عنده التقية والإكراه هل هو مقتصر على القتل أم شامل لما دونه كالجرح؟ وهل ان مفاد قوله (عليه السلام) (فإذا بلغت الدم فلا تقية) هل هو سقوط رخصة أم عزيمة؟ أي هل يستفاد منه الحرمة أم عدم الوجوب؟ وغير ذلك من التفاصيل التي سنتعرض لها إن شاء الله عندما يتناولها الشيخ (قدس سره) في التنبيه الخامس.

ص: 254


1- المكاسب: 2/94.

إشكالية إلحاق الإكراه بالتقية في السقوط عند الدم:

ونقتصر هنا على إشكال على القول الأول أي الرخصة مطلقاً حاصله: أن الأحاديث المانعة من العمل بالرخصة إذا بلغت الدم واردة في التقية، ولم يرد منها شيء في الإكراه، والتقية والإكراه متباينان، ونتيجته إمكان التمسك بعمومات الرفع عند الإكراه حتى في ما لو كان المكره مهدداً بالقتل.

خصوصاً إذا ضمّ إلى ذلك التعارض بين ما دلّ على وجوب حفظ النفس مع ما دلّ على حرمة الإضرار بالغير فيتعارضان ويتساقطان فتجري عمومات الرفع بلا معارض، أو يقال أن ترجيح حفظ حياة الآخر على حفظ النفس بلا مرجّح لتساويالمخلوقين في الحكم الشرعي، وقد كنّا نسمع من يقول ذلك في أيام الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) ويبرر مشاركته في جيش صدام؟.

وهذا الإشكال يرد على القائل بعموم الرخصة عند الإكراه مطلقاً كالشيخ الأنصاري (قدس سره) واعترف في بعض كلماته به في التنبيه الخامس، قال (قدس سره): ((لا يباح بالإكراه قتل المؤمن ولو توعّد على تركه بالقتل إجماعاً، وإن كان مقتضى عموم نفي الإكراه والحرج الجواز)) وأجابه بما دلَّ على الاستثناء في التقية.

وكالسيد الخميني (قدس سره) الذي حاول إجابة الإشكال، قال السيد الخوئي (قدس سره) في التباين بين التقية والإكراه: ((وظهر الفارق بين التقية والإكراه موضوعاً وحكماً))(1)

وقرّب السيد الخميني (قدس سره) عدة جهات للتباين بين الإكراه والتقية(2):-

ص: 255


1- مصباح الفقاهة: 1/690.
2- المكاسب المحرمة: 2/223.

1- الموضوع:- فإن ((التقية عبارة عن الاحتراز والتجنب عن شرّ قومٍ مخالف للمذهب، بإتيان أعمال توافق مذهبهم، من غير أن أكرهوه على إتيانها وأوعدوه على تركها)) بلا فرق بين أقسامها.

وقد ورد هذا البيان لحقيقة التقية في رواية مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لأن للتقية مواضع من أزالها عن مواضعها لم تستقم له، وتفسير ما يُتّقى مثل أن يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحق وفعله فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لايؤدي إلى الفساد في الدين فإنه جائز)(1).

((وإما الإكراه فعبارة عن تحميل الغير عملاً وإيعاده على تركه بما يلجئه إلى العمل، أو الإيعاد على فعل شيء بما يلجئه على تركه)).

2- الحكم: فإن ((التقية واجبة حسب الأدلة الكثيرة وراجحة في بعض الموارد، ودليل الإكراه رافع للحكم، فمقتضى دليل الرفع رفع الحرمة أو الوجوب عما أُكره عليه، لا جعل الوجوب أو الاستحباب لفعله أو تركه، ومقتضى دليل التقية جعل الحكم لا نفيه)).

3- المورد والغاية: فإن ((ظاهر أدلة التقية أنها شُرّعت لحفظ دماء الشيعة وأعراضهم وأموالهم من غير خصوصية للمتقي، ودليل الرفع من_ّةً على الم_ُكره، ولوحظ فيه حفظ نفسه وعِرضه وماله)) أي أنه ((شرِّع لحفظ مصلحة خصوص المُكرَه فلا يكون بلوغه دم غيره مخالفاً لتشريعه)).ونتيجة ذلك كون ((هذا الحكم –وهو عدم الرخصة إذا بلغ الدم- مختصاً بالتقية، وبقي دليل نفي ما أُكرهوا على عمومه.

ودعوى إلغاء الخصوصية ممنوعة بل لا مورد لها، لأن خصوصية ما أُكره عليه تخالف خصوصية التقية، فإن في مورد الإكراه توجّه الشر إلى الغير ويكون المُكرَه وسيلة وآلة للمُكرِه، ومورد التقية ليس كذلك نوعاً.

ص: 256


1- وسائل الشيعة، أبواب الأمر والنهي، باب 25 ح6.

وأيضاً جعل التقية لحفظ مطلق دم الشيعة، ورفع ما أُكرِه لحفظ خصوص المُكرَه فكيف يمكن أن يُدّعى وحدة المناط، أو أن سلب التقية في الدماء لأهميتها فلا فرق بين البابين)).

أقول: هذا الإشكال مردود بوجوه، يمكن جعلها في مستويين:

المستوى الأول: إلغاء الفروق المذكوره، وذلك:-

1- إن الإكراه داخل في التقية بالمعنى الأعم(1)، لذا عدّوا من أقسام التقية: التقية الإكراهية، والتقية أعم لغةً وعُرفاً، لأن المُكرَه يتحرز بفعله من ضرر المُكرِه وشرّه فصدقت حقيقة التقية وهي التحرز عرفاً ولغةً لأنه فعل ما فعل تقيةً واتقاء.

وقد دلت بعض الروايات على شمول حقيقة التقية للإكراه كقوله (التقية في كل ضرورة) أو (التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم) ولا شك في أن المُكرَه على فعلٍ مضطرٌ اليه.

فما ذكره في الجهة الأولى من الفروق غير تام.

2- وأما من ناحية الحكم فهما واحد أيضاً؛ لأن التقية كالإكراه رافعة للحكم، أما حكم ما بعد الرفع فقد يكون الوجوب فيما إذا استلزم ترك التقية والعمل بمقتضى الإكراه محرماً، وقد يكون راجحاً ونحو ذلك، فالفرق الثاني غير تام أيضاً.

3- إن الإكراه يصدق فيما لو كان الضرر المتوعد به متعلقاً بالغير كما سنشير إليه في التنبيه الثاني، فلا فرق بين التقية والإكراه من الجهة الثالثة أيضاً.

ص: 257


1- وقد تدخل التقية في الإكراه إذا أريد بها المعنى الأخص أي من المخالفين، قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((إن المراد بأن الإكراه هنا أعم من التقية التي هي دين في العبادات لمعلومية عدم الفرق هنا بين وقوع الإكراه من الموافق في المذهب والمخالف بعد فرض تسلّطه على النفس والعرض والمال)) جواهر الكلام: 22/169.

المستوى الثاني: لو تنزلنا وقلنا بالفرق من هذه الحيثيات فإن الروايات تدل على التطابق من خلال:

1- ظهور بعض الروايات في كون الإكراه تقية: كرواية محمد بن مروان، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) (ما منع ميثم –رحمه الله- من التقية؟ فوالله، لقدعلم أن هذه الآية نزلت في عمار وأصحابه: «إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِِالإِيمَانِ»)(1).

وضم رواية دَرُست عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال (ما بلغت تقية أحد ما بلغت تقية أصحاب الكهف)(2)

إلى رواية عبد الله بن يحيى، وفيها ذكر أصحاب الكهف فقال: (لو كلّفكم قومكم ما كلّفهم قومهم فقيل له: ما كلّفهم قومهم؟ فقال: كلّفوهم الشرك بالله العظيم فأظهروا لهم الشرك وأسرّوا الإيمان)(3).

2- حكومة بعض الروايات في توسيع معنى التقية: كصحيحة بكر بن محمد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال (إن التقية تُرسُ المؤمن، ولا إيمان لمن لا تقية له، فقلت له: جُعلت فداك قول الله تبارك وتعالى: «إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ»؟ قال: وهل التقية إلا هذا؟)(4).

أقول: كان بإمكانهم حلّ الإشكال بمخالفة ذلك للامتنان وأدلة الرفع امتنانية، وإن الرخصة في مثل هذه الموارد أمر قبيح عقلاً، ولكنهم لم يلتزموا بهذه النكتة كما تقدم.

ص: 258


1- وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 29 ح 3.
2- المصدر السابق، أبواب الأمر والنهي، باب 29 ح 15.
3- وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 29 ح 14.
4- المصدر: أبواب الأمر والنهي، الباب 29، ح 6.

التنبيه الثاني: تنقيح الملاك المقتضي للرخصة

اشارة

أي حدود الإكراه المقتضي للرخصة في الدخول في ولاية الجائر، وإنما عبّرنا بالملاك لأن الشيخ الأنصاري (قدس سره) توسّع من الإكراه إلى غيره من الموجبات.

ويظهر أن من غايات تحرير هذا التنبيه عند الشيخ (قدس سره): أنه بعد أن اختار القول بالرخصة مطلقاً عند الإكراه، رأى أن هذا القول يوصله إلى ما لا يمكن الالتزام به وهو أن دفع الضرر عن الغير مطلقاً يبيح إيقاع الضرر بالغير مطلقاً، بناءًعلى كون معنى الإكراه يتحقق في ما لو كان الضرر المتوعَّد به متعلقاً بالغير في الجملة.

وبتعبير آخر: إن النتيجة ستكون جواز الدخول في ولاية الجائر المقتضية للإضرار بالغير إذا توعده بإيقاع الضرر على الغير إن لم يفعل ما يأمره به وهو كما ترى.

فلذا عقد (قدس سره) هذا التنبيه لنفي سعة معنى الإكراه، لكنه لم ينفِ إمكان التمسك بعناوين أخرى في الجملة، فهذه هي خلاصة شرح العنوان، وكما ترى فإن الإشكال يرد على القائل بالرخصة مطلقاً دون غيره.

قال الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((إن الإكراه يتحقق بالتوعد بالضرر على ترك المكره عليه، ضرراً متعلقاً بنفسه أو ماله أو عرضه أو بأهله، ممن يكون ضرره راجعاً إلى تضرره وتألمه، وأما إذا لم يترتب على ترك المكره عليه إلا الضرر على بعض المؤمنين ممن يعد أجنبياً من المكره – بالفتح - فالظاهر أنه لا يعد ذلك إكراهاً عرفاً، إذ لا خوف له يحمله على فعل ما أمر به. وبما ذكرنا – من اختصاص الإكراه بصورة خوف لحوق الضرر بالمكره نفسه، أو بمن

ص: 259

يجري مجراه كالأب والولد - صرح في الشرائع(1)

والتحرير والروضة وغيرها))(2).

أقول: الإكراه: هو حمل طرفٍ قادر على تنفيذ تهديده طرفاً آخر على أمر لا يريده لولا هذا الإكراه بتوعده بشيء يكرهه إن لم يمتثل.

فالإكراه يتحقق باجتماع عدة عناصر نلخّصها في أربعة وإن كان ما يمكن جمعه من كتب الأصحاب أكثر من ذلك إلا أن بعضها يمكن إدخالها في هذه الأربعة، وتفصيل البحث عن حقيقة الإكراه في عدة مواضع من الفقه والأصول(3)، والعناصر هي:-

1- وجود التحميل والقسر والدفع من طرف على خلاف إرادة الطرف الآخر، بحيث أن المكرَه لو لم يدفع إلى الفعل من قبل المكره فإنه لا يفعل بملء إرادته.

2- كراهة ما يريده منه سواء أكان مكروهاً لعدم ملاءمة طبعه كما لو هدده بقطع الكهرباء عن داره إن لم يفعل أو لأن الشارع المقدس نهى عنه كالتهديد بسقيه الخمر ونحو ذلك، فلو قال له: تزوج وإلا كذا، أو اذهب للزيارة وإلا كذا، وكان الشخص لا يكره ذلك ولو خلي وطبعه فإنه يفعله لم يكن ذلك إكراهاً.1- كراهة ما يتوعده به، وهذا معنى لا يفرّق فيه بين ما لو كان متعلقاً بنفسه أو بغيره ممن هو قريب منه أو بعيد عنه، فلو توعّ_ده بأمر يحبّه لم يكن إكراهاً حتى لو كان فيه ضرر نفسه، وقد يكون ما توعده به مكروهاً

ص: 260


1- الشرائع: 3/13، التحرير: 2/51، الروضة البهية: 6/19.
2- المكاسب: 2/90.
3- ككتاب البيع في شرط الاختيار من شرائط المتعاقدين، راجع المكاسب: 3/307، وشروط المطلِّق في كتاب الطلاق، راجع جواهر الكلام: 32/11.

عنده وإن تعلّق بضرر غيره، والمكروه هنا أعم من جلب الشر أو الحرمان من الخير.

ولأن الإكراه أمر مرتبط بحال الشخص نفسه كسائر العناوين الثانوية مثل الاضطرار والحرج، فإنه معنى نسبي يتفاوت بحسب الأشخاص، فربما يتوعده بأمر محبوب عنده ولكنه مكروه عند غيره لأنه فيه ضرراً على النفس في الدنيا أو الآخرة كفعل المعصية، فهذا ليس إكراهاً، وربما يكون الشخص على درجة من سمو النفس وسلامة القلب بحيث يكره أي ضرر يلحق بالآخرين وهي علامة صدق الإيمان لقول النبي (صلى الله عليه وآله): (من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم)(1) بل حتى بالحيوانات فتوعده به يكون إكراهاً، وإن لم يكن كذلك بالنسبة لغيره، ((ورب شخص لا يتأثر بالسب والشتم فلم يكن توعيده بذلك إكراهاً، وآخر يتأثر بأدنى كلمة خشنة بحيث يدفع في سبيل دفعها أعز الأموال، فكان توعيده بها إكراهاً، بل شخص واحد ربما تختلف حالاته، فهو في كل حال يلحقه حكم ذلك الحال))(2).

2- قدرة المكرِه على تنفيذ وعيده ((وكان أيضاً يُخاف منه الإنفاذ، أما مع العجز ولو لقدرة المكرَه بسهولة على دفاعه، أو لم يكن عاجزاً لكن علم منه عدم الإنفاذ وأن القول منه مجرد إرعاب وتخويف فلا إكراه))(3).

ص: 261


1- الكافي: 2/163، باب الاهتمام بأمور المسلمين، ح1.
2- حاشية الإيرواني على المكاسب: 1/267، التعليقة (545).
3- حاشية الإيرواني على المكاسب: 1/268، التعليقة (545).

ولأجل انتقاض كلام الشيخ (قدس سره) طرداً وعكساً بناءً على ما تقدم أشكل السيد الخوئي (قدس سره) قائلاً: ((وعليه فلا نعرف وجهاً صحيحاً لما ذكره المصنف من تخصيص الإكراه))(1).

أقول: يمكن تقريب ما اختاره الشيخ (قدس سره) من الاختصاص بأكثر من وجه:-

1- إنه (قدس سره) لاحظ الجانب النوعي للإكراه، أي أن ما ذكره (قدس سره) بلحاظ الغالب من اقتصار اهتمام الناس على أنفسهم وذويهم المقرّبين في جلب الخير ودفع الشر، ولعله (قدس سره) أراد هذا بقوله: ((عرفاً)) وإلا فإن المعنى العرفي واللغوي واحد في ما يتحقق به معنى الإكراه، ولم يرد المعنى اللغوي حتى يشكل عليه السيد الخوئي (قدس سره).1- أن يكون مراد الشيخ (قدس سره) خروج مورد الإضرار بالآخرين من الإكراه حكماً لا موضوعاً، فهو يمكن دخوله في عنوان الإكراه إذا تحققت شروطه، لكن لا يجري فيه حكم الإكراه في الرفع، لعدم وجود ملاك الامتنان ونحوه، وهذا التقريب وإن كان لا يتلاءم مع عبارة الشيخ (قدس سره) إلا أنه يمكن أن يكون مراده ولو تنزّلاً كما يظهر من بعض تفاصيل البحث.

2- إن ما ذكره (قدس سره) ليس كل ما يريد أن يقوله فلا يفيد الاختصاص، فيمكن أن يقال أنه كالمقدمة والتوطئة بناءً على ما ذكره في التنبيه السابق، لينطلق منه إلى ما أعم من ذلك.

وعلى أي حال فقد اختار هذا المعنى أي القول بدخول الإضرار بالغير في معنى الإكراه جملة من الأعلام، كالشهيد الثاني (قدس سره) في المسالك قال: ((ضابط الإكراه المسوِّغ للولاية الخوف على النفس أو المال أو العرض،

ص: 262


1- مصباح الفقاهة: 1/680.

عليه أو على بعض المؤمنين، على وجه لا ينبغي تحمله عادة بحسب حال المكرَه في الرفعة والضعة))(1).

وحكى الشيخ (قدس سره) في نهاية التنبيه أنه وقع في كلام بعضٍ تفسير الإكراه بهذا المعنى العام ومنهم الشهيد الثاني (قدس سره) ونقل كلامه (قدس سره) إلا أنه علق بقوله: ((ويمكن أن يريد بالإكراه مطلق المسوِّغ للولاية، لكن صار هذا التعبير منه (رحمه الله) منشأ لتخيّل غير واحد(2)

أن الإكراه المجوّز لجميع المحرمات هو بهذا المعنى))(3).

وبعد أن ضاق عنده معنى الإكراه عن شمول الوعيد بالإضرار بالغير فلا رخصة، إلا أنه (قدس سره) وجد لها مخرجاً، ولكن بعنوان آخر غير الإكراه وهو دفع الضرر المخوف عن المؤمنين، الذي هو قسم من أقسام التقية، بعد أن اختار عدم شمول عنوان الإكراه لحالة كون الضرر المتوعد به متعلقاً بسائر المؤمنين، قال (قدس سره): ((نعم لو خاف على بعض المؤمنين جاز له قبول الولاية المحرمة، بل غيرها من المحرمات الإلهية –أي المتعلقة بحق الله تعالى- التي أعظمها التبري من أئمة الدين صلوات الله عليهم أجمعين، لقيام الدليل على وجوب مراعاة المؤمنين وعدم تعريضهم للضرر، مثل ما في الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السلام: قال: (ولئن تبْرأ منا ساعة بلسانك وأنت موال لنا بجنانك لتُبقي على نفسك روحها التي بها قوامها، ومالها الذي بها قيامها، وجاهها الذي به تمسكها، وتصون من عرف بذلك من أوليائنا وإخوانك، فإن ذلك أفضل من أن تتعرض للهلاك، وتنقطع به عن عملك فيالدين وصلاح إخوانك

ص: 263


1- مسالك الأفهام: 3/139.
2- منهم النراقي في مستند الشيعة: 14/192 حيث كرر نفس عبارة المسالك، وحكي عن غيره أيضاً.
3- المكاسب: 2/94.

المؤمنين.

وإياك ثم إياك أن تترك التقية التي أمرتك بها، فإنك شائط بدمك ودماء إخوانك، معرض بنعمتك ونعمهم للزوال، مذل لهم في أيدي أعداء دين الله، وقد أمرك الله بإعزازهم، فإنك إن خالفت وصيتي كان ضررك على إخوانك ونفسك أشد من ضرر الناصب لنا، الكافر بنا..) الحديث)).

أقول:-

1- الرواية إما غير ظاهرة في المطلوب أو أنها خاصة بنوع معين من الضرر فإن الفقرة الأولى من الرواية ناظرة إلى حفظ نفس المتقي وعرضه وماله، وقوله (عليه السلام) فيها: (وتصون من عرف بذلك) خاص بحفظ نفوسهم إذ لم يفصّل فيها كما فصّل فيما يتعلق بالمتقي، أما قوله (عليه السلام): (وصلاح إخوانك) فهي كقوله (عليه السلام): (من عمل في الدين) أي تحرم نفسك منهما بالانقطاع عنهما.

وأما قوله (عليه السلام) في الفقرة الثانية: (وإياك ثم إياك) فهي خاصة بنوع معين من الضرر الذي يُخاف منه على وجود التشيع والشيعة؛ لأنها ظاهرة في زمان استئصال التشيع فيكون إذاعة أمرهم والصدع بهويتهم موجباً لاجتثاث أصل الحق وأهله، والتحذير الوارد من ترك التقية في ذيل الرواية، ورد نظيره في مثل هذه الموارد كما في تفسير العسكري (عليه السلام) قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من صلّى الخمس كفّر الله عنه من الذنوب) ثم قال (عليه السلام): (لا تبقي عليه من الذنوب شيئاً إلا الموبقات التي هي جحد النبوة أو الإمامة أو ظلم إخوانه، أو ترك التقية حتى يضر بنفسه وإخوانه المؤمنين)(1).

ص: 264


1- مستدرك الوسائل: 12/259، أبواب الأمر والنهي، باب 24، ح6.

فلا يستفاد منها تعميم الرخصة بارتكاب سائر الموبقات لأجل دفع كل ضرر عن مؤمن فإن بعضها ليس بمثابة هذه الكبائر.

2- إن التبري لساناً مع التولي قلباً ليس من أعظم المحرمات حتى تستفاد منه الفحوى فهو نظير الحلف كاذباً أو الكذب للإصلاح مما أجازه الشارع المقدس، وجوازه لا يلزم منه جواز ارتكاب سائر المحرمات الشرعية، لذا لا يجوز التعدي عنه إلى غير الكذب من المعاصي وقد قالوا في وجهه: لأن قبح الكذب بالوجوه والاعتبارات ومع وجود مصلحة راجحة لا يكون قبيحاً.

فإطلاق الجواز في عموم المحرمات الإلهية مشكل، وإلا كيف يتصور جواز مجالسة الجائر على موائد الخمر ومشاركته شربها أو مشاهدة مظاهر الفسق والفجور ونحو ذلك من الكبائر لمجرد دفع ضرر مالي مثلاً عن أحد المؤمنين؟.

إن هذه النتيجة على عكس ما ثبت نصاً وفتوى من وجوب الأمر بالمعروف1- والنهي عن المنكر بمراتبه المتدرجة حتى لو اقتضى الإهانة والزجر والتوبيخ بل الضرب والجرح والكسر بإذن ولي الأمر وربما القتل في بعض الحالات، فرفع المنكر وإقامة المعروف مسوِّغ للإضرار بعرض الغير وبدنه، وليس العكس الذي توصّل إليه الشيخ (قدس سره).

وعلى أي حال فإن بإمكان الشيخ (قدس سره) الاستدلال بروايات أخر كموثقة معمر بن يحيى (قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إن معي بضايع للناس، ونحن نمرّ بها على هؤلاء العشّ_ار فيحلفونّا عليها فنحلف لهم، فقال: وددت أني أقدر أن أجيز أموال المسلمين كلها وأحلف عليها، كل ما خاف المؤمن على نفسه فيه ضرورة فله فيه التقية)(1)

ص: 265


1- هذا الحديث والذي يليه في وسائل الشيعة: كتاب الإيمان، باب 12، ح16، 17.

وموثقة إسماعيل (قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أمرّ بالعشار ومعي المال، فإن حلفت تركوني، وإن لم أحلف فتشوني وظلموني، فقال: احلف لهم، قلت: إن حلفوني بالطلاق؟ قال: فاحلف لهم، قلت: فإن المال لا يكون لي، قال: تتقي مال أخيك) فهما صريحتان في شمول التقية –وهي متحدة مع الإكراه من جهة ما نحن فيه- للإضرار بالغير، بل عدّته الرواية الأولى كنفسه.

ويزداد الإشكال على الشيخ (قدس سره) لو أخذنا بالمعنى الأعم للضرر الشامل للمعنوي والمادي بأن يكون التهديد بإيقاع الغير في المعصية مطلقاً إن لم يفعل ما يأمره به من الحرام مطلقاً، وتكون النتيجة جواز ارتكاب مطلق المحرمات من أجل حفظ الغير من الوقوع في مطلق المعصية.

قال السيد الخوئي (قدس سره): ((أن يكره الظالم أحداً على ارتكاب شيء من المحرمات الإلهية، سواء كانت هي الولاية أم غيرها، من غير أن يترتب عليه في تركها ضرر أصلاً، ولكن الظالم أوعده على ترك ذلك العمل بإجبار غيره على معصية من حرمات الله، ومرجع ذلك في الحقيقة إلى دوران الأمر بين إقدام المكرَه – بالفتح- على معصية لا يتضرر بتركها وبين اقدام شخص آخر عليها. ومثاله ما إذا اكرهه الجائر على شرب الخمر وإلا أكره غيره عليه، والظاهر أنه لا ريب في حرمة ارتكاب المعصية في هذه الصورة، فإنه لا مجوز للإقدام عليها من الأدلة العقلية والنقلية إلا أن يترتب على ارتكاب المعصية حفظ ما هو أهم منها كصيانة النفس عن التلف وما أشبه ذلك، وحينئذ يكون المقام من صغريات باب التزاحم فتجري فيه قواعده))(1).

أقول: كان عليه (قدس سره) أن لا يفترض إجبار الغير على المعصية

ص: 266


1- مصباح الفقاهة: 1/682.

وإنما يفعلها الغير باختياره لأن فعلها سيكون بالإجبار جائزاً لشمولها بحديث الرفع بالنسبة لذلك المكرَه، فيكون عدم جواز إقدام المكرَه المخاطب على ما يأمره به الجائر بلا مزاحم، ولا وجه لافتراض الترجيح.علماً أنه (قدس سره) قد اختار في موضع سابق الترجيح بالأهمية في مثل هذه الحالة، قال (قدس سره): ((إذا اكرهه على أن يلجئ شخصاً آخر إلى فعل محرم كالزنا، وإلا أجبره على ارتكابه بنفسه، وحينئذ فلا موضع لأدلة نفي الإكراه والاضطرار والحرج والضرر، بداهة أن الإضرار بأحد الطرفين مما لا بد منه جزماً، فدفعه عن أحدهما بالإضرار بالآخر ترجيح بلا مرجح، وإذن فتقع المزاحمة ويرجع إلى قواعد باب التزاحم))(1).

فالذي يمكن القول بجوازه من المحرمات لدفع الضرر عن المؤمنين هو أصل ولاية الجائر أي سقوط حرمتها الذاتية وما يلزم منها من تسويد الاسم في ديوانهم ونحو ذلك دون غيرها من المحرمات، فلو أكرهه على قبول الولاية وإلا أوقع الضرر بأحد، أو علم الشخص من دون إكراه بأن قبوله الولاية يرفع عن المؤمنين ضرراً، أو يدفع عنهم مثله جاز له قبول الولاية من دون فعل أي معصية، ويدل عليه جملة من الروايات المتقدمة في المجموعتين الثانية والثالثة (صفحة 135-151) في الدفع عن المؤمنين، وتدل عليه أيضاً الروايات الأخرى المجوّزة للولاية لحفظ مصالح المؤمنين، فإن الدفع عنهم من مصاديقها.

وتدل عليه الروايات الواردة في التقية المداراتية بالتحبب والتودد إليهم وعدم استفزازهم بما يثيرهم كسَبِّ رموزهم، من أجل تطبيع العلاقات معهم

ص: 267


1- مصباح الفقاهة: 1/679.

منعاً لأي ضرر محتمل(1)، فالدخول في الولاية لدفع ضرر واقع يتوعد به الجائر أولى.

لكن الجواز في حدود المقدار الذي ذكرناه ودلّت عليه النصوص وليس بالسعة التي ذكرها الشيخ (قدس سره).

ثم إن الشيخ (قدس سره) بعد أن اختار الرخصة لعموم المحرمات الإلهية انتقل إلى حقوق المخلوقين، فهل يكفي هذا النوع من التقية المسوِّغة للدخول في ولاية الجائر للإضرار بالغير، قال (قدس سره): ((لكن لا يخفى أنه لا يباح بهذا النحو من التقية الإضرار بالغير، لعدم شمول أدلة الإكراه لهذا، لما عرفت من عدم تحققه مع عدم لحوق ضرر بالمكره ولا بمن يتعلق به، وعدم جريان أدلة نفي الحرج، إذ لا حرج على المأمور، لأن المفروض تساوي من أمر بالإضرار به ومن يتضرر بترك هذا الأمر –أي الإضرار به-، من حيث النسبة إلى المأمور، مثلاً لو أمر الشخص بنهب مال مؤمن، ولا يترتب على مخالفة المأمور به إلا نهب مال مؤمن آخر، فلا حرج حينئذ في تحريم نهب مال الأول، بل تسويغه لدفع النهب عن الثاني قبيح، بملاحظة ما علم من الرواية المتقدمة من الغرض في التقية، خصوصاً مع كون المال المنهوب للأول أعظم بمراتب، فإنه يشبه بمن فرّ من المطر إلى الميزاب، بل اللازم في هذا المقام عدم جواز الإضراربمؤمن ولو لدفع الضرر الأعظم عن غيره. نعم، إلا لدفع ضرر النفس –أي ما يتعلق بنفوس ودماء الآخرين- في وجه –أي وجيه؛ لقوله بعد أسطر: فلا إشكال في تسويغه لما عدا الدم من المحرمات-، مع ضمان ذلك الضرر))(2).

ص: 268


1- قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (مقاربة الناس في أخلاقهم أمنٌ من غوائلهم). نهج البلاغة: ج4، قصار كلماته (عليه السلام)، الكلمة 401.
2- المكاسب: 2/91-92.

أقول: يريد (قدس سره) أن ما قرّبه في التنبيه الأول من جواز الإضرار بالغير لما دون الدم بالتقية الإكراهية والاضطرارية، وما ذكره آنفاً من جواز ارتكاب المحرمات الإلهية لدفع الضرر المخوف عن المؤمنين لا يجري في أقسام التقية الأخرى كالتقية الخوفية لحفظ شأن من شؤون الشيعة، والتقية المداراتية المقتضية لحسن العشرة معهم، والتقية الكتمانية المانعة من إذاعة الأمر وإفشاء سرّهم.

ونعلق عليه بأكثر من ملاحظة:-

1- لم يكن مناسباً تعليل عدم الرخصة بعدم صدق الإكراه ونحوه؛ لأنه أمر مختلف فيه وأن الإكراه قد يصدق كما تقدم.

بل التعليل بأن أدلة الرفع امتنانية فلا يصح التمسك بها لدفع الضرر عن أحد بتوجيه الضرر إلى غيره؛ لأن ذلك مخالف للامتنان.

2- إننا لم نقل بالرخصة في ذينك الموضعين فالقول بعدمها هنا أولى.

نعم إذا كان الضرر المتوعد به من قبل الجائر على مستوى إزهاق النفس أمكن إطلاق الجواز باعتبار أن حفظ النفس المحترمة وإنقاذها من أعظم ما اهتم به الشارع المقدس، وبه قال (قدس سره) لاحقاً: ((والثاني –أي دفع الضرر المخوف عن غيره من المؤمنين- إن كان متعلقاً بالنفس جاز له كل محرم حتى الإضرار المالي بالغير)) لكن هذا الترجيح يمكن التأمل في إطلاقه كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وهنا حاول (قدس سره) توجيه كلام الأصحاب (قدس الله أرواحهم) بما ينسجم مع هذه النتيجة، قال (قدس سره): ((وبما ذكرنا ظهر: أن إطلاق جماعة(1)

لتسويغ ما عدا الدم من المحرمات بترتب ضرر مخالفة المكره عليه على نفس المكره وعلى أهله أو على الأجانب من المؤمنين، لا يخلو من بحث، إلا أن

ص: 269


1- راجع التحرير:1/163، الشرائع:2/12، الدروس:3/174، الرياض: 1/510 (منه).

يريدوا الخوف على خصوص نفس بعض المؤمنين، فلا إشكال في تسويغه لما عدا الدم من المحرمات، إذ لا يعادل نفس المؤمن شيء(1)، فتأمل.قال في القواعد: وتحرم الولاية من الجائر إلا مع التمكن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو مع الإكراه بالخوف على النفس أو المال أو الأهل، أو على بعض المؤمنين، فيجوز ائتمار ما يأمره إلا القتل))(2)

انتهى.

ولو أراد ب_(الخوف على بعض المؤمنين) الخوف على أنفسهم دون أموالهم وأعراضهم، لم يخالف ما ذكرنا، وقد شرح العبارة بذلك بعض الأساطين، فقال: إلا مع الإكراه بالخوف على النفس من تلف أو ضرر في البدن، أو المال المضر بالحال من تلف أو حجب، أو العرض من جهة النفس أو الأهل، أو الخوف فيما عدا الوسط –في عبارة القواعد: وهو المال- على بعض المؤمنين، فيجوز –في الأصل: بل يجب في بعض الأحوال- حينئذ –في المصدر:

ص: 270


1- ربما كان وجهه الإشارة إلى أن غير النفس قد يكون أعظم منها فتبذل النفس من أجله كبعض الأعراض المهمة مثلما لو وقعت إساءة للنبي (صلى الله عليه وآله) أو لأمير المؤمنين والمعصومين (سلام الله عليهم أجمعين). وأحياناً يكون المال كذلك حتى ورد الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله): (من قُتل دون ماله فهو شهيد) (البخاري مع الفتح 5/123 ح 2480 ، ومسلم 1/124 ح 141) وعن الصادق (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله): (من قتل دون ماله فهو بمنزلة الشهيد: 5/52) وفي كلمة لأمير المؤمنين (عليه السلام): (ينام الرجل على الثُكل ولا ينام على الحرَب) (نهج البلاغة: ج4/73، الحكمة (307)) مضافاً إلى ما تقدم في قول الله تعالى: «وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَ_ذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً» (النساء:75) والقتال قد يقتضي القتل فالأهمية نسبية وليست مطلقة لمورد على آخر.
2- القواعد: 1/122.

التولي من قبله أو- اعتماد ما يأمره –في الأصل: به من أنواع التعدي على الخلق مقدماً للأهون فالأهون-(1)، انتهى. ومراده ب_(ما عدا الوسط) الخوف على نفس بعض المؤمنين وأهله))(2).

هذا ولكن السيد الخميني (قدس سره) قرّب إمكان تعميم الجواز للإضرار بالغير أيضاً مستدلاً بما عنونه ((تطابق النص والفتوى على شمول التقية لحق الناس))، قال (قدس سره): ((مقتضى عموم صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: (التقية في كل ضرورة وصاحبها أعلم بها حين تنزل به)، وصحيحة أخرى عنه وعن غيره: (قالوا سمعنا أبا جعفر عليه السلام يقول: التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحله الله له).

جوازها في كل شيء يضطر إليه كما إذا خاف على نفسه أو عرضه أو نفس من يكون بمنزلته من أهله وخاصته وعشيرته الأقربين أو عرضهم، أو على ماله الذي إذا سلب عنه يقع في الحرج والمشقة الشديدة من غير فرق بين حق الله وحق الناسما عدى الدم; وأما غيره مما استثني في بعض الروايات كرواية الأعجمي(3)

فلا بد من تأويلها.

وما ذكرناه من شمولها لحق الناس وإن كان بعيداً سيما بعض مراتبه لكن لا محيص عنه بعد تطابق النص والفتوى عليه:

قال الشيخ في النهاية في باب الأمر بالمعروف: ((فأما إقامة الحدود فليس يجوز لأحد إقامتها إلا لسلطان الزمان المنصوب من قبل الله تعالى)) إلى أن قال: ((ولا يجوز له أن يحكم بمذهب أهل الخلاف فإن كان قد تولى الحكم من قبل

ص: 271


1- شرح القواعد: 98.
2- المكاسب: 2/92-93.
3- لعل وجه التأويل أن رواية أبي عمر الآتية بصدد بيان عدم الجريان في هذين الموردين لا جريانها في كل ما سواهما حتى يمكن أن تكون قرينة أو بياناً يرفع الإجمال.

الظالمين فليجتهد أيضاً في تنفيذ الأحكام على ما يقتضيه شريعة الإسلام والإيمان فإن اضطر على تنفيذ حكم على مذهب أهل الخلاف بالخوف على النفس أو الأهل أو المؤمنين أو على أموالهم جاز له تنفيذ الحكم ما لم يبلغ ذلك قبل النفس فإنه لا تقية في قتل النفوس))(1).

وقال في المكاسب في جملة من كلامه: ((فإن لم يتمكن من إقامة حق على وجه والحال ما وصفناه في التقية جاز له أن يتقي في جميع الأحكام والأمور ما لم يبلغ ذلك إلى سفك الدماء المحترمة))(2).

أقول: والحال الذي وصفه في التقية هو الخوف على النفس أو على الأهل أو على بعض المؤمنين.

وفي المراسم: ((وقد فوضوا عليهم السلام إلى الفقهاء إقامة الحدود والأحكام بين الناس بعد أن لا يتعدوا واجباً ولا يتجاوزوا أحداً)) إلى أن قال: ((فإن اضطرتهم تقية به أجابوا داعيها إلا في الدماء خاصة فلا تقية فيها)).

وفي السرائر بعد دعوى الإجماع على عدم جواز إقامة الحدود إلا للإمام عليه السلام والحكام من قبله قال: ((فإن خاف على نفسه من ترك إقامتها فإنه يجوز له أن يفعل في حال التقية ما لم يبلغ قتل النفوس)) إلى أن قال: ((فإن اضطر إلى تنفيذ حكم على مذهب أهل الخلاف على النفس أو الاهل أو المؤمنين أو على أموالهم جاز تنفيذ الحكم ما لم يبلغ ذلك قتل النفوس فإنه لا تقية له في قتل النفوس)).

وفي الشرايع: ((فإن اضطر إلى العمل بمذهب أهل الخلاف جاز إذا لم يمكن التخلص عن ذلك ما لم يكن قتلاً لغير مستحق)).

ص: 272


1- النهاية: 300، 302، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
2- النهاية: 357، كتاب المكاسب، باب عمل السلطان وأخذ جوائزهم.

وفي المنتهى: ((فإن اضطر إلى استعمال ما لا يجوز من ظلم مؤمن أو قهره جاز ذلك للضرورة ما لم يبلغ الدماء فلا يجوز التقية فيها على حال))(1).

أقول: ومثله قال غيرهم كالمحقق الأردبيلي قال (قدس سره): ((فيجوز بل قد يجب قبولها للتقية، ويفعل ما يأمره ويلجئه إليه، ويراعي مهما أمكن الحق وعدم التجاوز عن الشريعة الحقة، وإن ألجأه إلى الحكم بغيرها يفعله ويحكم ويأخذ في جميع الأمور، إلا القتل، فإنه لا تقية في الدماء))(2).

هذا ولكن يمكن الرد على هذا التقريب بأكثر من وجه:-

1- أن يقال أن قوله (عليه السلام): (كل شيء) هنا مجمل ولم يؤتَ به لإفادة العموم وإنما لنفي توهم حصر التقية في مورد معين كإظهار كلمة الكفر واستبطان الإيمان ونحوه فجيء بهذا العموم لإبقاء مجال التقية مفتوحاً في كل مورد على نحو الإيجاب الجزئي مقابل السلب الكلي لما عدا الموارد المتوهمة.

2- أن يراد ب_(كل شيء) التعميم ولكن لخصوص المحرمات الإلهية بقرينة رواية أبي عمر الأعجمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث أنه قال: (لا دين لمن لا تقية له والتقية في كل شيء إلا في النبيذ والمسح على الخفين)(3)

فإنها بقرينة ذكر حكمين شرعيين هما النبيذ والمسح على الخفين يستفاد منها كون العموم خاصاً بالأحكام الشرعية، وبهذا البيان يرتفع الإجمال في صحيحة زرارة.

3- انصراف هذا العموم عن حقوق الناس بعدة تقريبات:-

ص: 273


1- المكاسب المحرمة: 2/238-240.
2- مجمع الفائدة والبرهان: 8/96.
3- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب 25، ح3.

أ- أن التقية شُرّعت لحفظ نفوس الناس وأعراضهم وأموالهم، فاستباحتها بمسوّغ التقية نقض للغرض.

ب- إن الرخصة بالإضرار بالناس قبيح عقلاً.

ج_- إن أدلة الرفع في التقية والإكراه ونحوهما امتنانية فتتحدد بحدود الامتنان وليس منه الرخصة في الإضرار بالغير، ولذا استبعد (قدس سره) القول بإطلاق الحكم ولو ((في بعض المراتب وإمكان أن يقال بأن تلك الأدلة الصادرة على وجه الامتنان منصرفة عن الموارد التى يلزم منها وقوع الضرر أو الحرج على الغير)) ويرد عليه (قدس سره) أنه منع في موضع سابق من التمسك بهذا النحو من الاستدلال لأن الامتنان حكمة وليس علة.ثم ذكر (قدس سره) وجهاً للمناقشة في عموم الحكم وإطلاقه قائلاً: ((إن مقتضى تلك الأدلة عموماً وإطلاقاً وإن كان جواز التقية في كل مورد يضطر إليه ابن آدم من غير فرق بين حق الناس وغيره لكن مقتضى حكومة دليل نفي الحرج كحكومته على ساير الأدلة تخصيص الحكم بموارد لا يلزم منها الحرج على الغير بفعله. ولازمه التفصيل في حقوق الناس بين ما إذا توجه الشر والضر على الغير ويكون دفعه عنه مستلزماً لوقوع الدافع في شر وضر وحرج كما في الموارد المتقدمة في كلام الشيخ وابن ادريس وغيرهما، فإنه لو فرض أن السارق أقرّ بالسرقة عند من كان منصوباً من قبل والي الجور للقضاء وكان مقتصى مذهبهم القطع بالإقرار مرة واحدة كما قال به ابو حنيفة ومالك والشافعي، وخاف القاضي واضطر إلى الحكم على مذهبهم وإنفاذه، ففي مثله يجوز له، لأن الشر حسب إقراره ومذهبهم متوجه إليه فايجاب دفعه عنه بما يلزم منه وقوع الشر عليه حرجي.

ص: 274

وأما تجويزه لدفع اضطراره ليس حرجياً على غيره أو ينصرف الدليل عنه، لأنه شرٌّ توجه إليه لا من قبله بل من قبل إقراره ومذهب الباطل.

ولو سلّم كونه حرجياً ومنع الانصراف يتعارض دليل الحرج في مصداقين وتسلم أدلة أن التقية في كل شيء يضطر إليه.

وأما إذا توجه الشر إلى المتقي وأراد دفعه بالتوجه إلى غيره كما لو ظن أنه إمامي وخاف منه على عرضه فأراد هتك عرض شيعي لدفع التوهم والشر عن نفسه ففي مثله يكون تجويزه حرجاً على غيره وهو منفي.

وأما تحريم دفع ضرره بإيقاع شر على الغير فليس من الأحكام الحرجية فإن الضرر متوجه إليه لا من قبل الشارع. نعم مع تجويزه إيقاع الشر على الغير يندفع اضطراره لكن مقتضى الأدلة عدمه.

وهذا التفصيل غير مستبعد عقلاً وموافق للقواعد، ولعل الفتاوى المتقدمة مختصة بالموارد التى من قبيل الأول))(1).

خلاصة الشيخ الأنصاري (قدس سره):

ولخّص الشيخ الأنصاري (قدس سره) كلامه بالقول: ((وكيف كان، فهنا عنوانان: الإكراه، ودفع الضرر المخوف عن نفسه وعن غيره من المؤمنين من دون إكراه)).أقول: العنوان الثاني فيه خروج عن فرض المسألة في موضعين:

أولهما: قوله: ((عن نفسه)) مع أن الكلام في جواز الإضرار بالغير من أجل دفع الضرر عن الغير.

ص: 275


1- المكاسب المحرمة: 2/240-242.

ثانيهما: قوله: ((من دون إكراه)) لأن محل البحث الإكراه بتوعّده بالإضرار بالغير، نعم له (قدس سره) أن يقول أن هذا ليس إكراهاً كما تقدم فعبّر عنه من دون إكراه، وقد أجبناه بأنه إكراه لاجتماع أركانه، لكن له (قدس سره) أن يقول أن حكم الإكراه وهو الرفع لا يجري لوجود المانع وقد تقدّم تفصيله، أو أنه أراد التوسع في البحث للأعم من الضرر المراد إيقاعه بالغير بأمر الجائر أو الضرر المراد دفعه ولو من غير إكراه.

قال (قدس سره): ((والأول يباح به كل محرم)) ما عدا إراقة الدم طبعاً بحسب مختاره في التنبيه الأول وقد أشكلنا عليه.

ثم بدأ (قدس سره) ببيان الصور المحتملة للثاني، واستيعابها في تسعة ناشئة من ضرب ثلاثة احتمالات لما يأمره به أو يراد دفعه ولو من دون إكراه من الإضرار بالنفس أو العرض أو المال في ثلاثة احتمالات مثلها لما يتوعده به من الإضرار بالغير إن لم يفعل فتكون تسعة، وإذا اختار الترجيح بالأهمية عند المزاحمة فتتضاعف الصور بهذا اللحاظ، قال (قدس سره): ((والثاني إن كان –أي الضرر المراد دفعه عن الغير- متعلقاً بالنفس جاز له كل محرم حتى الإضرار المالي بالغير، لكن الأقوى استقرار الضمان عليه إذا تحقق سببه، لعدم الإكراه المانع عن الضمان، أو استقراره. وأما الإضرار بالعرض بالزنا ونحوه، ففيه تأمل –لما تقدم من النقاش في الأهمية-، ولا يبعد ترجيح النفس عليه.

وإن كان متعلقاً بالمال، فلا يسوغ معه الإضرار بالغير أصلاً –أي مطلقاً- حتى في اليسير من المال، فإذا توقف دفع السبع عن فرسه بتعريض حمار غيره للافتراس لم يجز.

وإن كان متعلقاً بالعرض، ففي جواز الإضرار بالمال مع الضمان أو العرض الأخف من العرض المدفوع عنه، تأمل –أي بين المنع مطلقاً أو الترجيح بالأهمية إن وجدت والتخيير وإن لم توجد-.

ص: 276

وأما الإضرار بالنفس، أو العرض الأعظم –أي للغير-، فلا يجوز بلا إشكال))(1)

أي مهما كان الضرر المراد دفعه عن الغير.

وظهر أنه (قدس سره) جزم ببعض الصور كجواز ارتكاب سائر المحرمات حتى الإضرار بمال الغير من أجل حفظ النفس وعدم جواز الإضرار بنفس الغير وعرضه الأعظم مهما كان الضرر المتوعد به والمراد دفعه.ونحن قد منعنا من كثير منها، وحدّدنا موارد الرخصة وأحلنا الأمر إلى نظر الفقيه لاحتياج الحكم إلى ذوق سليم لأحكام الشريعة والترجيح بينها، وخبرة ومعرفة باللوابس والظروف ونحو ذلك، لئلا تتخذ هذه الأحكام ذريعة للظلم والفساد والله العاصم.

التنبيه الثالث: اشتراط عدم القدرة على التخلص مما يأمره به الجائر

قال الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((إنه قد ذكر بعض مشايخنا المعاصرين(2):

أنه يظهر من الأصحاب أن في اعتبار عدم القدرة على التفصي من المكره عليه وعدمه، أقوالاً، ثالثها: التفصيل بين الإكراه على نفس الولاية المحرمة فلا يعتبر، وبين غيرها من المحرمات فيعتبر فيه العجز عن التفصي.

والذي يظهر من ملاحظة كلماتهم في باب الإكراه: عدم الخلاف في اعتبار العجز عن التفصي إذا لم يكن حرجاً ولم يتوقف على ضرر، كما إذا أكره على أخذ المال من مؤمن، فيُظهر أنه أخذ المال وجعله في بيت المال، مع

ص: 277


1- المكاسب المحرمة: 2/93-94.
2- احتمل محقق كتاب المكاسب أن المراد به السيد محمد المجاهد صاحب المناهل، لكنه لم يسند الأقوال الثلاثة إلى ظاهر الأصحاب، بل قال – بعد طرح المسألة -: ((فيه أقوال - إلى أن قال: - الثاني: ما استظهره في المصابيح من كلام بعض الأصحاب من التفرقة بين التولية وفعل المحرم...)) انظر المناهل: 318، وانظر المصابيح (مخطوط): 53.

عدم أخذه واقعاً، أو أخذه جهراً ثم رده إليه سراً كما كان يفعله ابن يقطين، وكما إذا أمره بحبس مؤمن فيدخله في دار واسعة من دون قيد، ويحسن ضيافته ويظهر أنه حبسه وشدد عليه.

وكذا لا خلاف في أنه لا يعتبر العجز عن التفصي إذا كان فيه ضرر كثير، وكأن منشأ زعم الخلاف ما ذكره في المسالك في شرح عبارة الشرائع مستظهراً منه خلاف ما اعتمد عليه))(1).

أقول: تقدم في بداية التنبيه الأول (صفحة 207) الكلام في التفصيل الذي وجّه به الشهيد الثاني (قدس سره) كلام المحقق (قدس سره) بين الدخول في الولاية من حيث المبدأ فلا يشترط عدم القدرة على التفصّي وبين العمل بما يأمره الجائر من المحرمات فيشترط.

وردّ الشهيد الثاني (قدس سره) هذا التوجيه بقوله: ((إن أخذت الولاية منفكة عن الأمر فجواز قبولها لا يتوقف على الإكراه مطلقاً كما ذكره هنا، بل قد يجوز، وقد يكره، وقد يستحب، بل قد يجب – كما تقدم - فجعل الإكراه شرطاً في قبول الولاية مطلقاً غير جيد. وأما العمل بما يأمره من الأمور المحرمة فإنه مشروط بالإكراه خاصة – كما سلف في باب الأمر بالمعروف - ما لم يبلغ الدماء، ولا يشترط فيه الإلجاء إليه بحيث لا يقدر على خلافه، وقد صرح الأصحاب بذلك في كتبهم، فاشتراطه عدم القدرةعلى التفصي غير واضح، إلا أن يريد به أصل الإكراه، فيكون التعبير عنه بذلك غير حسن))(2)

إلى أن قال: ((وإن الإكراه مسوِّغ لامتثال ما يؤمر به وإن قدر على المخالفة مع خوف الضرر)).

ص: 278


1- المكاسب: 2/95.
2- مسالك الأفهام: 3/140.

وعلق عليه الشيخ (قدس سره) بقوله: ((لا يخفى على المتأمل أن المحقق رحمه الله لم يعتبر شرطاً زائداً على الإكراه، إلا أن الجائر إذا أمر الوالي بأعمال محرمة في ولايته – كما هو الغالب - وأمكن في بعضها المخالفة واقعاً ودعوى الامتثال ظاهراً كما مثلنا لك سابقاً، قيد امتثال ما يؤمر به بصورة العجز عن التفصي. وكيف كان، فعبارة الشرائع واقعة على طبق المتعارف من تولية الولاة وأمرهم في ولايتهم بأوامر كثيرة يمكنهم التفصي عن بعضها، وليس المراد بالتفصي المخالفة مع تحمل الضرر، كما لا يخفى))(1).

أقول: لدينا هنا عدة تعليقات:-

1- الظاهر من تعريف الإكراه المتقدم وعناصره عدم مدخلية شرط عدم القدرة على التفصّي في تحققه، فعلي بن يقطين يصدُق عليه أنه مُكرَه في الصحيحة المتقدمة، مع أنه له قدرة على التخلُّص من أخذ أموال الشيعة نهاراً بإرجاعها ليلاً، ومنه يعلم النظر في إصرار بعض الأعلام على اشتراطه فيه كالسيد الخميني (قدس سره) قال: ((إن اعتبار عدم إمكان التفصّي عرفاً بما لا يحصل منه ضرر آخر معتد به مما لا ينبغي الريب فيه))(2).

2- نعم للقدرة على التفصي مدخلية في جريان حكم الإكراه وترتيب آثار الرفع عليه، فإذا كانت له قدرة على التخلص لم يجرِ عليه حكم المُكرَه ولا يكون معذوراً لو أخذ بالرخصة، وهذا هو ظاهر المحقق (قدس سره) في الشرائع قال: ((إذا أكرهه الجائر على الولاية جاز له الدخول والعمل بما يأمره مع عدم القدرة على التفصّي)) وعبارة الشيخ الأنصاري الآنفة صريحة في ذلك لقوله: ((قُيِّد امتثال ما يؤمر به بصورة العجز عن

ص: 279


1- المكاسب: 2/97.
2- المكاسب المحرمة: 2/252.

التفصي)) فعلي بن يقطين يصدق عليه أنه مُكرَه لكنه ليس معذوراً لو لم يردّ أموال الشيعة مع قدرته على ردّها.

ولعل شعورهم الوجداني بعدم معذورية المكره الذي له قدرة على التفصي أوهم بانتفاء عنوان المكره عنه وأوجب إدخال هذا الشرط في التعريف مع أن عدم المعذورية ناشئة من عدم ترتب آثار الرفع عليه، قال بعض الأعلامالمعاصرين ((الظاهر أن اعتبار العجز عن التفصّي مأخوذ فيه –أي مفهوم الإكراه- عرفاً ولغة، فلو أُكرِه شخصٌ على شرب الخمر أو ترك واجب مثل إفطار الصوم الواجب، وكان هناك مائع شبهه وعلى لونه يقدر على شربه عوضه، أو كان يمكنه صبّه في جيبه وإظهار أنه شربه، أو كان هناك طريق الى الفرار من هذا المجلس، أو غير ذلك، فلا شك أنه لا يُعدُّ مُكرَهاً على شرب الخمر وغيره، بل وكذلك إذا أمكنه التكلّم مع المُكرَه وإرشاده أو بذل مال له والنجاة من يده فإنه من قبيل المقدور بالواسطة))(1)

أقول: ظهر وجه النظر في كلامه (دام ظله) لأن عدم المعذورية في هذه الموارد من جهة عدم جريان حكم المكره لا موضوعه.

3- إنه يمكن تجميع شواهد على مدخلية هذا الشرط في جريان حكم المكره لا موضوعه من مسائل الفقه والأصول لنظائر الإكراه من هذه الناحية كالاضطرار والتقية، فقد بحثوا في جواز البدار وضعاً وتكليفاً لامتثال المأمور به الاضطراري في مبحث الإجزاء من علم الأصول، وتقريب الشاهد من جهتين:

أولاهما: أن شرط القدرة على التخلص لو كان داخلاً في التعريف لقالوا بعدم جواز البدار بدون نقاش لأن الانتظار وعدم البدار شكل

ص: 280


1- أنوار الفقاهة: 400.

من أشكال التفصّي من الاضطرار، مع أنهم ناقشوا الإجزاء من حيث تمامية ملاك البديل الاضطراري ونقصه.

ثانيهما: إنهم جعلوا محل النزاع فيما لو بادر هو الإجزاء وعدمه، وليس صدق معنى الاضطرار وعدمه، وهذا يعني أن شرط القدرة على التفصي –المتمثل هنا بعدم البدار- مؤثر في الحكم لا الموضوع.

4- وكذا لم يشترطوا عدم المندوحة في الكون في مكان التقية وزمانها عند الإتيان بما تقتضيه من الوظيفة ولو كانت القدرة على التفصّي شرطاً لقلنا بعدم الجواز لوجود المندوحة عنده(1). فالإكراه والاضطرار والتقية من سنخٍ واحد من ناحية تأثير هذا الشرط لكنهم (قدس الله أرواحهم) لم يلائموا بين المباني هنا وهناك.

5- أما التفصيل الذي وجّه به الشهيد الثاني (قدس سره) كلام المحقق الحلي (قدس سره) فقد تقدم البحث فيه (صفحة 207) وقلنا أنه يمكن نفيه بعدم الدليل عليه، قال صاحب الجواهر (قدس سره) عنه ((لا فرق في الإكراه المسوِّغ للدخول في الولاية المحرّمة، والإكراه المسوِّغ للعمل بما يأمره به من فعل المحرمات في ولاية كان أو غيره، إذ هو حينئذٍ كما ترى لا وجه له، ضرورة عدم الفرق في الأدلة))(2) فإن كان عدم القدرة على

ص: 281


1- راجع مسألة المسح على الحائل في فصل أفعال الوضوء من العروة الوثقى، قال (قدس سره) في المسألة (33): ((يجوز المسح على الحائل كالقناع والخف والجورب ونحوها في حال الضرورة من تقية أو برد)) إلخ، وقال (قدس سره) في المسألة (35): ((إنما يجوز المسح على الحائل في الضرورات ما عدا التقية إذا لم يمكن رفعها ولم يكن بدّ من المسح على الحائل ولو بالتأخير إلى آخر الوقت، وأما في التقية فالأمر أوسع فلا يجب الذهاب إلى مكان لا تقية فيه وإن أمكن بلا مشقة)) إلخ.
2- جواهر الكلام: 22/166.

التفصّي شرطاً لتحقق الإكراه فهو شرط لأصل الولاية وللعمل بما يأمر به الجائر، وإلا فلا.

ولكن يمكن استظهار ذلك من الأدلة باعتبار أن صحيحة علي بن يقطين التي اشترطت التخلص وكذا صحيحة داوود بن زربي (صفحة 143) التي جعلت من المستحيل تقريباً التخلص من الظلم والجور ونحوهما واردتان في العمل بما يأمر به الظالم من المعاصي، أما قبول أصل الولاية -على القول بالحرمة الذاتية- فقد اكتفت النصوص بذكر عنوان الإكراه لقبولها.

وقد قرّبنا (صفحة 244) وجهاً للتفصيل فراجعه.

6- سواء قلنا بأنه قيد للموضوع او للحكم فإنه يلاحظ في هذا الشرط إمكانه العرفي فليس عليه أن يدقّق ويطيل النظر في الاحتمالات والمحتملات لإيجاد التدابير للتخلص فإنه يلزم منه العُسر والمشقة ولا يكلّف الله نفساً إلا وسعها فيسقط عنه الشرط إذا لم يكن متيسراً عرفاً واحتاج البحث عنه إلى عسر ومشقة، وكذا يسقط الشرط إذا كان التفصّي ممكناً لكنه كان حرجياً أو مضّراً.

7- قد يسقط في موردٍ ما نحو من أنحاء التخلص ولا يلزم منه سقوط الشرط مطلقاً إذا أمكن التخلص بنحو آخر، ومنه يُعلم النظر في قول السيد الخوئي (قدس سره): ((قد تترتب على المعصية التي أُكرِهَ عليها مصلحة هي أهم منها، ولا يعتبر في هذه الصورة العجز عن التفصّي، ومثاله ما إذا أكرَهَ الجائر أحداً على معصية، وكان المجبور متمكناً من التخلّص منها بخروجه عن المكان الذي يعصي الله فيه، إلا أن ارتكابه لتلك المعصية مع

ص: 282

الظالم يُتيح له الدخول في أمر يترتب عليه حفظ الإسلام أو النفس المحترمة،أو ما أشبه ذلك))(1).أقول: سقط عنه هنا هذا النحو من التخلص وهو الخروج من المكان لكن لا يسقط عنه الشرط مطلقاً كما لو استطاع إراءة الظالم أنه فعل المعصية مع أنه لم يفعلها فيجب عليه الشرط لعدم منافاته لتحقق المصلحة.

8- ينبغي الالتفات إلى أن من أشكال التخلص تحمّل الضرر الذي يتوعده به الجائر ما دام ذلك ممكناً ولا يحرم تحملّه، لكن الشيخ (قدس سره) قال في دفاعه السابق عن المحقق الحلي (قدس سره): ((وليس المراد بالتفصّي المخالفة مع تحمّل الضرر)) وهو ليس بصحيح لأنه منه مع إمكانه، خصوصاً وأنه (قدس سره) قال في التنبيه الرابع الآتي بجواز تحمّل الضرر المالي للفرار من الولاية أي أن قبول الولاية مع الضرر رخصة لا عزيمة، فكيف يسقط وجوب الشرط بمزاحمته لأمر جائز، وهذا يكشف –في بعض وجوهه- عن أن الشيخ (قدس سره) لا يرى في وجدانه أن القدرة على التفصي شرط في تحقق معنى الإكراه.

علماً أن هذه المعنى لم يحظَ بالتفات أي من شروح المكاسب التي راجعناها، لكننا التفتنا إلى هذا المعنى سابقاً واستفدنا منه في بيان القول المختار بفضل الله تبارك وتعالى.

9- قد يستلزم التفصّي الإعداد له بمقدمات بعيدة قبل الابتلاء بالفعل، كترك مخالطة الظلمة والحضور في مجالسهم حتى يغفلوا عنه ولا يكون معروفاً لديهم فلا يكلفونه، ولذا وردت الأحاديث الكثيرة في النهي عن أمور

ص: 283


1- مصباح الفقاهة: 1/685.

لقطع دابر الوقوع في المعصية ولو من دون اختيار، فلو قصّر في ذلك كان مسؤولاً؛ لأن عدم الاختيار بالاختيار لا ينافي الاختيار..

10- إن هذا الشرط كما هو مطلوب ابتداءً كذلك هو مطلوب استدامةً فلو لم يقدر على التخلص في أول الأمر لكنه قدر عليه في الأثناء وجب.

وقال الشيخ (قدس سره) في نهاية كلامه ((ومما ذكرنا يظهر فساد ما ذكره من نسبة الخلاف المتقدم إلى الأصحاب من أنه على القول باعتبار العجز عن التفصّي لو توقف المخالفة على بذل مال كثير لزم على هذا القول، ثم قال : وهو أحوط بل وأقرب)).

أقول : ظهر أن هذا القول له وجه لأن بذل المال من مصاديق التخلص، ما لم يكن تحمل الضرر حراماً.

وفي نهاية البحث في هذا التنبيه يمكن أن نوقع التصالح بين الفريقين بمقترح ينفع في حل الخلاف في مبحثي الحقيقة الشرعية والصحيح والأعم من علم الأصول وذلك بأن نقبل بأن يكون عدم القدرة على التفصّي شرطاً لتحقق الموضوع، ولكن على أن يكون الموضوع ليس مطلق الإكراه بالمعنى اللغوي والعرفي بل حصة خاصة منه وهو الإكراه الرافع للتكليف، ولمزيد من التوضيح نقول أن الإكراه الوارد في حديث الرفع وغيره المقتضي لترتيب الآثار عليه يراد به معنى معهود لدى المتشرعة تأسّس من مجموع النصوص والقرائن غير المعنى اللغوي بأن يراد من المكره خصوص منتعرّض للإكراه ولم يكن عنده قدرة عرفية على التفصي منه، ووجه التصالح أن الشرط أخذ في الحكم وبناءً على ذلك فإن الموضوع وإن كان عامّاً لغةً وعرفاً إلا أنه أريد به عند الإطلاق حصة خاصة منه وهي تلك التي قُيِّد موضوعها بهذا الشرط.

وبناءً على هذا يكون المراد بالعقود في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ» (المائدة:1) خصوص العقود الصحيحة التي تترتب عليها الآثار،

ص: 284

فعقد الفضولي أو الصبي عقدٌ لكن لا يجب الوفاء به، فيراد بالعقد في الآية الشريفة هذه العقود خاصة.

ومثله حرمة الخلوة بالأجنبية فإن لها معنى لغوي وعرفي إلا أن الحكم مشروط بعدم الأمن من الوقوع في الحرام، فحينما يقال: (الخلوة بالأجنبية حرام) يراد من الموضوع خصوص تلك الحصة المشروطة.

وباختصار فإننا لو سلمنا بأن موضوع الإكراه ينتفي عند القدرة على التفصّي فهو مسبَّب عن انتفاء الحكم فهو اصطلاح شرعي للموضوع مقيد بما قُيِّد به الحكم.

وهذا المقترح وإن كان مخالفاً لصريح كلماتهم في تعريف الإكراه بأن ((المرجع فيه كغيره من الألفاظ التي هي عنوان لحكم شرعي إلى العرف واللغة، إذ ليس له وضع شرعي ولا مراد))(1)

إلا أنه ليس بعيداً في نفسه إذ يمكن نسبة الوضع إلى العرف الخاص، ولذا أعطوا لأنفسهم الحق في إدخال بعض الشروط في الموضوع لا يتضمنها التعريف سوى أن الحكم لا يجري فيها، قال صاحب الشرائع (قدس سره): ((لا يتحقق الإكراه مع الضرر اليسير)) وقد تقدمت كلمته في كون الشرط مأخوذاً في الحكم وعلق في الجواهر: ((الذي لا يستحسن العقلاء فعل المكره عليه لأجله ولا يعد مثله إكراهاً في العرف، كل ذلك في الاندراج تحت لفظ الإكراه، وإلا فقد عرفت العنوان في النص به وبالإضرار، ولا ريب في تحقق الأخير في الخوف على المال المزبور))(2).

ص: 285


1- جواهر الكلام: 32/11، كتاب الطلاق: الشرط الثالث من شرائط المطلق.
2- جواهر الكلام: 32/12.

التنبيه الرابع: قبول الولاية مع الضرر المالي غير المجحف بحاله رخصة لا عزيمة

قال الشيخ الأنصاري (قدس سره) ((إن قبول الولاية مع الضرر المالي الذي لا يضرّ بالحال رخصة، لا عزيمة، فيجوز تحمّل الضرر المذكور، لأن الناس مسلّطون على أموالهم، بل ربما يستحب تحمّل ذلك الضرر للفرار عن تقوية شوكتهم))(1).

أقول: الحكم بالرخصة والعزيمة هنا ليس من مدلولات حديث الرفع للإكراه وغيره؛ لأن مفاده سقوط التكليف عن ذمة المكلف عند حدوث موجبه، أما ما بعد ذلك من حكم المورد بعد الرفع فيلتمس من دليل آخر، وهنا عدة صور.

فقد يكون قبول الولاية واجباً فيما إذا كان الضرر المتوعد به متعلقاً بالنفس ونحوها مما يهتم الشارع المقدس بصونه فيكون تحمل الضرر حراماً.

وقد يكون قبول الولاية رخصة فيما إذا كان الضرر مباحاً كالضرر المالي وكان ممكن التحمل ولكن بحرج ومشقة، وقلنا أن السقوط فيهما رخصة لا عزيمة ولو في بعض المراتب.

وقد يكون قبول الولاية حراماً –أي أن رفض الولاية عزيمة بخلاف الصورة الأولى، وهذه الصورة لم يعنونها الفقهاء قدس الله أرواحهم- فيما إذا كان الضرر مباحاً –كدفع المال- وكان تحمله مقدوراً من دون حرج ومشقة وربما كان ميسوراً، فهنا يجب عليه تحمّل هذا الضرر ورفض الولاية للجائر، خصوصاً إذا تضمنت الولاية العمل بما يأمر به الجائر من الإضرار بالغير، قال الشيخ كاشف الغطاء (قدس سره): ((وأما العمل بأمره في ضرر الخلق فلا يجوز إلا مع الضرر المعتبر دون غيره))(2).

ص: 286


1- المكاسب:2/89.
2- شرح القواعد: 99.

وقال (قدس سره) في موضع آخر: ((ولو أمكنه التخلص بإعطاء الرشوة التي لا تضر بحاله لزمه ذلك في بعض الأحوال)).

وتبعه صاحب الجواهر (قدس سره) وعمّمه إلى قبول نفس الولاية أيضاً قال (قدس سره): ((لا فرق في المحرم منها، والعمل بما يأمره في الضرر المبيح لهما))(1).

ويمكن تقريب الحرمة في هذه الصورة بوجهين:-

1- إن الولاية محرمة فيجب اجتنابها والفرار منها ما أمكن، والمفروض أن ذلك ممكن بدفع المال غير المجحف فيجب بذله مقدمة لامتثال التكليف، كما يجب مثلاً بذل المال لشراء الماء اللازم للوضوء أو الغسل إذا لم يكن مجحفاً، ولا يجوز الانتقال إلى التيمم(2).1- إن دليل الرفع منصرف عن مورد القدرة على التفصي، وذلك لأن حكم الإكراه أو موضوعه لا يجري مع قدرة المكلف على التفصي، وهنا له قدرة من خلال تحمل الضرر غير المضرّ بالحال فدليل الرفع لا يشمله فتبقى حرمة الولاية بلا معارض، ومنه يُعلم النظر في قوله (قدس سره): ((بل ربما يستحب)) إذ الحكم في الصورة المذكورة وجوب تحمل الضرر لا استحبابه، وإلا نتساءل إذا كان مثل هذا الحكم الإلزامي المهم والكبير يسقط لضرر مالي لا يضر بالحال، فما هو مصير الأحكام الأخرى؟ وهل الدين يباع بثمن زهيد مثل هذا؟ أم الواجب حمايته والثبات عليه ولو ببذل الغالي والنفيس، وهل هذا القول بالرخصة يناسب ما ورد من اهتمام الشريعة في إقامة المعروف واجتناب المنكر.

ص: 287


1- جواهر الكلام: 22/166.
2- سبل السلام: ج1/ العبادات، المسألة (400).

وعلى أي حال فقد أُشكِل على القول بالرخصة بما يصبح وجهاً للقول بالعزيمة (لأن القضية عندهم مانعة خلو لعدم عنونة الصورة الثالثة).

وحاصله: أن دفع المال الكثير للجائر محرم من جهة أخرى وهي أن فيه إعانةً على الإثم، واستظهرتُ من كلمات الأعلام فهم الإعانة على نحوين:-

أ - ما ذكره الشيخ الأنصاري (قدس سره) ومن تبعه كالسيد الخوئي وهو أن دفع المال إلى الجائر فيه قوة للظالم فتكون إعانة له على ظلمه(1)

وهذا هو الظاهر المتبادر.

ب - للفاضل الإيرواني (قدس سره) وحاصله أن البذل إذا كان بطيب نفسه فلا إشكال أما إذا لم يكن كذلك –لأن الفرض أنه مكره على الدفع- كان الأخذ حراماً فالبذل حرام لأنه معونة على الإثم(2).

واتفق السيد الخوئي (قدس سره) مع الفاضل الإيرواني (قدس سره) على رد الصغرى أي عدم صدق المعونة عليه فإن ((تجارة التاجر ليس إعانة لأخذ العشور، ولا مسار الحاج والقوافل لسرقة السارقين وظلم الظالمين، ولا يلتزم أحد بحرمة ترك التحفظ للمال من السراق لكونه إعانة على الإثم)).

ونضيف أيضاً أن التجارة والاستيراد وإجراء المعاملات الرسمية وسائر الصنائع والمهن مما فيه رسوم وضرائب لا يُعدّ معونة للظالم وإلا لزم فقه جديد كما يقال.

ص: 288


1- مصباح الفقاهة: 1/686.
2- حاشية الإيرواني على المكاسب: 1/270، التعليقة (550).

أقول: هذا الكلام على إطلاقه قد يكون غير تام؛ لإمكان النقض عليه بصدق الإعانة في بعض الموارد وإن لم يقصدها إلا أن واقعها الخارجي ذلك كالمشاركة في بعض الفعاليات والأنشطة التي تدرّ وارداً على السلطة أو إصرار بعض المزايدين والمقاولين على زيادة الأسعار والمنتفع منها السلطة ونحو ذلك، فإذا تحقق ذلك فإنه يكون من باب تزاحم المقتضيات (بين حرمة الولاية وحرمة معونة الظالم) وتجري فيه قواعده في الترجيح.

وانفرد السيد الخوئي (قدس سره) برد الكبرى أيضاً قال (قدس سره): ((فقد تقدم في البحث عن بيع العنب ممن يجعله خمراً(1)

أنه لا دليل على حرمة الإعانة على الإثم)).

أقول: لا نوافق السيد الخوئي (قدس سره) في رد الكبرى فإن مناقشته لأدلة حرمة المعونة فيها تعسّف وتكلف خصوصاً قوله تعالى: «وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ» (المائدة:2) فراجع.

وقد علّق السيد الخميني (قدس سره) بعدة تعليقات على كلام الشيخ (قدس سره) قال (قدس سره):-

1- ((مقتضى إطلاقه فيما لا يضر بالحال كونه رخصة حتى مع اقتضاء التقية ذلك ومع كونه في دار التقية وهو مبنى على عدم وجوب التقية وهو غير تام، فلا بد في هذه الصورة من التفصيل بين ما إذا كان المورد من موارد التقية الواجبة، فيكون القبول عزيمة، وبين غيره إن قلنا بأن رفع ما أكرهوا عليه على سبيل الرخصة كما اشتهر بينهم مطلقاً ولا يبعد في الجملة))(2).

أقول: لا محل لهذا التعليق لأن الكلام من ناحية الضرر المالي خاصة.

ص: 289


1- مصباح الفقاهة: 1/282.
2- المكاسب المحرمة: 2/253.

2- ((مقتضى تخصيصه الحكم بالضرر المالي غير المضر أن القبول عزيمة مع المالي المضر بالحال، والظاهر أن المراد به ما كان دفعه موجباً للحرج وهو مبني على أن رفع الحرج على سبيل العزيمة وهو خلاف المعهود منهم وإن رجحناها في بعض الموارد أو مطلقاً في رسالة التيمم)). أقول: هذا مبني على كون الجملة لها مفهوم وهي ليست كذلك فهو ليس في مقام البيان من ناحية ما عدا الضرر المالي غير المضر بالحال.

3- ((وكذا مقتضاه أنه عزيمة مع الضرر العرضي والنفسي مطلقاً وهو محل تأمل فإنها مبنية على حرمة جعل المؤمن نفسه في معرض الهتك والضرر أي ضررٍ كان ولو ولم يبلغ حد التهلكة)).

أقول: يرد عليه نفس ما أوردناه سابقاً.

التنبيه الخامس: الإكراه والتقية لا تبيح قتل المؤمن

اشارة

قال الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((لا يباح بالإكراه قتل المؤمن ولو توعد على تركه بالقتل إجماعاً، على الظاهر المصرح به في بعض الكتب)).

أقول: تقدم الاستدلال على هذا الاستثناء بوجوه:-

1- إن دليل الرفع امتناني وليس من الامتنان إباحة قتل نفس محترمة من أجل حفظ نفسه.

2- وبالارتكاز المتشرعي على ذلك.

3- وبلزوم نقض الغرض لأن التقية شرعت لحقن الدم فكيف يستباح بها الدم.

4- مضافاً إلى الاقتصار في دليل الرفع على المتيقن وليس منه إزهاق النفس المحترمة من أجل حفظ نفسه.

5- ولا أقل من الشك في دخول قتل الغير تحت عمومات الرفع فتبقى تحت عموم حرمة قتل النفس.

ص: 290

أما الإجماع فإنه قائم على تسرية حكم التقية إلى الإكراه فهو مدركي، قال الشيخ كاشف الغطاء (قدس سره) وهو يعلق على قول العلامة في القواعد ((وتحرم من الجائر إلا مع الإكراه بالخوف على النفس أو المال أو الأهل أو بعض المؤمنين فيجوز حينئذٍ اعتماد ما يأمره إلا القتل الظلم)) قال (قدس سره): ((وإنما لا يجوز لأنه لا تقية في الدماء للإجماع محصلاً ومنقولاً والروايات))(1)، فاستدل بحكم التقية على الإكراه.

أقول: قد تقدم (صفحة 255) أن دليل الاستثناء خاص بالتقية وعمم إلى الإكراه، واعترف بذلك الشيخ الأنصاري، قال (قدس سره): ((وإن كان مقتضى عموم نفي الإكراه والحرج الجواز، إلا أنه قد صح عن الصادقين صلوات الله عليهما أنه: (إنما شرعت التقية ليحقن بها الدم، فإذا بلغت الدم فلا تقية) ))(2).

أقول: أشكلنا في ما سبق (صفحة 255) على القائلين بالرخصة مطلقاً كالشيخ الأنصاري والسيد الخميني (قدس الله سريهما) من جهة إلحاق الإكراه بالتقية في التقييد بما دون الدم لأنهم لا يلتزمون معنا بالوجوه المذكورة أعلاه للتقييد، والأحاديث الواردة خاصة بالتقية، والإكراه غير التقية من جهات عديدة ذكرناها، ثم قرّبنا الاتحادفي الحكم من هذه الناحية، ولا خلاف بينهم في ذلك بل حكى صاحب الجواهر (قدس سره) الإجماع بقسميه(3).

وقد أشكل الفاضل الإيرواني –تبعاً لآخرين- على أصل فهم الروايات بهذا المعنى قال (قدس سره): ((ويقرب عندي أن المراد من هذه الأحاديث أمر وجداني يدركه العقل، وهو أن التقية لما شُرِّعت لغاية حفظ النفس فإذا لم تكن

ص: 291


1- شرح القواعد: 99.
2- المكاسب: 2/98.
3- جواهر الكلام: 22/167.

هذه الغاية موجودة بل كان الشخص مقتولاً لا محالة، اتقى أو لم يتق فلا تقية؛ لانتفاء ما هو الغرض من تشريع التقية))(1).

أقول: كأنه (قدس سره) يريد أن يقول: إن هذه الروايات لا يصح الاستدلال بها على استثناء الدم لأنها أجنبية عنه، ولكن هذا خلاف الظاهر أكيداً خصوصاً من مثل قوله (عليه السلام) في رواية أبي حمزة الثمالي: (إنما جعلت التقية ليُحقن بها الدم، فإذا بلغت التقية الدم فلا تقية) فإنها كالصريحة في أن التقية إذا استلزمت إراقة الدم فإنها لا تحل، بل حتى من مثل صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إنما جعلت التقية ليُحقن بها الدم فإذا بلغ الدم فليس تقية)(2)

فإن (بلغ) تتعلق بالتقية وإن وردت بالتذكير فلا وجه لموافقة السيد الخوئي (قدس سره) له (قدس سره) في الثاني دون الأول.

وأضاف الشيخ (قدس سره): ((مقتضى العموم أنه لا فرق بين أفراد المؤمنين من حيث الصغر والكبر، والذكورة والأنوثة، والعلم والجهل، والحر والعبد وغير ذلك)).

أقول: كل ذلك لإطلاق الدم في الروايات وكذا لا فرق بين المريض وغيره، حتى لو كان في مرض يؤدي إلى الوفاة، وكذا في مراتب الصغر حتى لو كان حملاً، وقوّى الشيخ كاشف الغطاء (قدس سره) عدم لحوق الحمل قبل حلول الروح(3)

فيجوز إجهاضه من أجل حفظ النفس، وربما كان الوجه في هذا التفصيل أن المراد بالدم هنا إزهاق الروح –كما سنختار (صفحة 302) – فقبل ولوج الروح لا يصدق الدم، وهذه قريحة لطيفة وشفافة عنده (قدس سره) إلا

ص: 292


1- حاشية الإيرواني على المكاسب: 1/271، التعليقة (551)، وحكى في منهاج الفقاهة: 2/216 أن هذا المعنى نقله المحقق المجلسي (قدس سره) عن بعضٍ.
2- وسائل الشيعة: 11/483، باب 31، ح1، 2.
3- شرح القواعد: 99، وتبعه تلميذه صاحب الجواهر (جواهر الكلام: 11/170).

أنه يمكن الرد بأن الروح هنا يراد بها الحياة والنفس وهي موجودة من حين انعقاد النطفة وليس الروح التي تلج في الشهر الرابع بحسب المعروف.وقال (قدس سره): أما ((الفرق بين الصحيح والمريض ولو حال السياق فلا معنى له)) لكن السيد الخميني (قدس سره) تأمل في المريض إذا كان في حال النزع(1).

أقول: الإطلاق يدفع هذا التفصيل إلا أن يقدّم دليلاً عليه.

لو تعلّقت التقية بمستحق الحد أو القصاص:

فهل تجري فيه التقية ويجوز قتله إذا أكره عليه أم لا، قال الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((ولو كان المؤمن مستحقاً للقتل لحدٍّ ففي العموم وجهان: من إطلاق قولهم: (لا تقية في الدماء) –ودم المستحق للحد دم مشمول بإطلاق الاستثناء-، ومن أن المستفاد من قوله عليه السلام: (ليحقن بها الدم فإذا بلغ الدم فلا تقية) أن المراد الدم المحقون دون المأمور بإهراقه، وظاهر المشهور الأول.

وأما المستحق للقتل قصاصا فهو محقون الدم بالنسبة إلى غير ولي الدم)).

أقول: قوله: ((وظاهر المشهور الأول)) يعني حرمة إهراق دم المستحق للحد بالإكراه والتقية بناءً على التقريب الذي ذكره (قدس سره) فيكون حكمه كمستحق القتل قصاصاً، لكن صريح كلامهم في كتاب القصاص التفصيل؛ لأنهم جعلوا مستحق القتل لحد مهدور الدم لكل أحد وإن اشترط بإذن الإمام إلا أنه لو خالف أثم خاصة.

بيان ذلك: أن المستحق للقتل أو قل الدم المهدور على ثلاثة أقسام:-

ص: 293


1- المكاسب المحرمة: 2/234.

1- ما كان مهدوراً لكل أحد لأنه غير محترم الدم شرعاً، وهذا خارج تخصصاً عن روايات الحقن فيجوز قتله اختياراً وعند الإكراه بالأولوية ما لم يمنع مانع عرضي كإيقاع المؤمنين في الضرر.

2- ما كان مهدور الدم لكل أحد ولكنه مشروط بتحصيل الإذن من الحاكم الشرعي كالمطلوب للحد.

3- ما كان إهدار دمه حقاً خاصاً لأحد أو جماعة معنيين وهو المطلوب قصاصاً لولي الدم، فحكمه حرمة دمه لغير ذوي الحق.

وقد ذكروا هذا التفريق في كتاب القصاص، قال السيد صاحب الرياض (قدس سره) في الشرط الخامس من شروط القصاص: ((أن يكون المقتول محقون الدم شرعاً، أي غير مباح القتل شرعاً فمن أباح الشرع قتله لزناء أو لواط أو كفر لم يقتل به قاتله وإن كان بغير إذن الإمام؛ لأنه مباح الدم في الجملة، وإن توقفت المباشرة على إذن الحاكم فيأثم بدونه خاصة.

ولو قَتَلَ من وجب عليه القصاص غيرُ الولي قتل به؛ لأنه محقون الدم بالنسبة إلى غيره))(1).أقول: لأن الحق في الاقتصاص من القاتل خاص بولي الدم، قال تعالى: «وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً» (الإسراء:33).

هذا ولكن يمكن القول أنه لا فرق بين الموردين فإن الأول أيضاً محقون الدم بالنسبة لغير الإمام ونائبه المأذون بإجرائه، ويمكن أن يستدل على عدم التفريق بإطلاق صحيحة أبي الصباح الكناني قال: (سألت أبا عبد الله عليه

ص: 294


1- رياض المسائل: 16/263.

السلام عن رجل قتله القصاص، له دية؟ فقال: لو كان ذلك لم يقتص أحدٌ من أحد، وقال: من قتله الحد فلا دية له)(1).

نعم يمكن أن يقال بالفرق من جهة أن الحد ليس حقاً للحاكم الشرعي كالقصاص بالنسبة لولي الدم فهما ليسا من سنخ واحد، وإنما الحاكم له حق التنفيذ وإجراء الحدود باعتبار أن له ولاية الأمور العامة الموكلة إلى من بيده السلطة، ولذا قالوا: أن من قتل شخصاً مستحقاً لحد القتل من دون إذن الحاكم الشرعي فلا قصاص عليه ولا دية وليس عليه إلا الإثم والمفروض ارتفاعه بالإكراه، مضافاً إلى أن ولي الدم يمكنه إسقاط القصاص إلى بدل أو غيره فقتل المستحق غير متعين، أما المستحق لحد فليس للحاكم الشرعي إسقاطه، والصحيحة لا إطلاق لها لأنها ليست في مقام البيان من هذه الناحية.

إن قلتَ: بعدم الملازمة بين ما في الكتابين فإن عدم جواز قتل مستحق الحد هنا لا يلزم منه وجوب القصاص هناك لكون عدم الجواز تكليفياً ونحو ذلك فلا منافاة.

قلتُ: الملازمة موجودة لأن دخوله في استثناء الدم هنا يفقده المبرر لقتله ويكون محترم الدم ويجب فيه القصاص.

ولعل وجه الفرق بين ما قالوه في الكتابين أن ما في كتاب القصاص شامل لحال وجود الإمام ونائبه فالحدود قائمة لما تقدم في قول صاحب الرياض عن ((إذن الإمام))، أما بحثنا هنا فمفروض في سلطة الجائر والمشهور عدم جواز إقامة الحدود فالمستحق للحد مع وقف التنفيذ فيكون محقون الدم، ومشمولاً بأحاديث (فإذا بلغت الدم فلا تقية).

ص: 295


1- وسائل الشيعة: 29/63، كتاب الديات، أبواب القصاص في النفس، باب 24، ح2. والمقطع الأخير من الحديث متكرر في روايات الباب.

فالأولى أن يستدل لظاهر المشهور في حرمة قتل المستحق للحد بإلحاقه بالمحقون بعد تعطيل الحدود عندهم في زمان الغيبة، وليس ما ذكره الشيخ (قدس سره) من دخوله في إطلاق الدم لخروجه منها بحسب الحكم الأولي.

هذا وقد قَرَّبَ الفاضل الإيرواني (قدس سره) وجهاً لإمكان التمسك بالتقية فيهما معاً وجواز إهراق الدمين خلافاً للمشهور وأرجع الخلاف إلى ما يستظهر منقوله (عليه السلام): (ليحقن الدم) هل هو الدم المحقون بقول مطلق أي من جميع الجهات فيتساوى المطلوب للحد مع المطلوب للقصاص ويمكن الأخذ بحديث الرفع فيهما معاً؛ لأنهما ليسا محقونين من جميع الجهات.

أم أنه حقن إضافي أي بالنسبة إلى من تعرّض لظرف التقية، فيجوز قتل المطلوب حداً لأنه غير محقون بالنسبة إليه لإهدار دمه للجميع، ولا يجوز قتل المطلوب للقصاص لأنه محقون بالنسبة إليه، فالتفصيل الذي ذكروه يأتي على الثاني دون الأول.

فإن أمكن استظهار أحدهما فهو، قال (قدس سره): ((لا يبعد انصرافها إلى الأول أو لا أقل من كونه المتيقن منها))(1)

فيتساوى العنوانان بجواز قتلهما عند الإكراه والتقية ويسقط التفصيل، وإن لم يستظهر أحدهما فإنه يتمسك بعموم الرفع للتقية والإكراه للشك في دخول هذا الفرد تحت الخاص –وهو استثناء الدم- فيبقى تحت العام، وهو جواز قتلهما لعموم الرفع.

ويرد عليه:-

1- إن هذا اللحاظ لا يفرِّق في الحكم فكلاهما في الجواز وعدمه واحد، إذ أن المستحق للحد محقون الدم على الثاني أيضاً لما قلناه من بنائهم على تعطيل الحدود في زمان الغيبة وسلطة الجائر.

ص: 296


1- حاشية الإيرواني على المكاسب: 1/271، التعليقة (552).

2- إنه قد ظهر مما تقدم أن دعوى الانصراف إلى الأول بعيدة؛ لإطلاق لفظ الدم، والقدر المتيقن لا يصلح للتقييد كما هو معلوم، وغاية ما يمكن الالتزام به أن روايات الاستثناء منصرفة عن مهدور الدم بقول مطلق.

3- وأما الرجوع إلى عمومات الرفع عند الشك فهو أيضاً غير تام للجزم بعدم شمولها لجواز قتل النفس لأنه امتناني إلا ما ثبت أنه مهدور الدم، أما ما شُكَّ في كونه مهدور الدم فلا يدخل في الرخصة ولا أقل من احتمال انصراف أدلة الرفع عن القتل، فيكفي في المنع وجود قاعدة الحدود تدرأ بالشبهات فيبقى المورد تحت عمومات حرمة قتل النفس المحترمة إلا ما أهدر الشارع حرمتها.

وبتعبير آخر: إنه لا يوجد عندنا عام مضمونه (تجوز التقية والإكراه في كل شيء حتى الدم إلا الدم المحقون) حتى يقال بدخول الفرد المشكوك في هذا العام.

وعلى أي حال لا بد أن يبنى التفصيل على عدة أحكام تُحرَّر في كتاب الحدود كإمكان إقامتها في عصر الغيبة من الفقيه الجامع للشرائط المبسوط اليد، ومدى صلاحيات الحاكم الشرعي في إسقاطها أو تبديلها ونحو ذلك.

لو أكرِه على قتل المخالف:

ثم قال الشيخ (قدس سره): ((ومما ذكرنا يظهر سكوت الروايتين عن حكم دماء أهل الخلاف، لأن التقية إنما شرعت لحقن دماء الشيعة، فحدها بلوغ دمهم، لا دم غيرهم.

وبعبارة أخرى: محصل الرواية لزوم نقض الغرض من تشريع التقية في إهراق الدماء، لأنها شرعت لحقنها فلا يشرع لأجلها إهراقها. ومن المعلوم أنه

ص: 297

إذا اكره المؤمن على قتل مخالف فلا يلزم من شرعية التقية في قتله إهراق ما شرع التقية لحقنه))(1).

أقول: تعرض الأعلام للخلاف في أن التقية والإكراه تجيز للمؤمن قتل المخالف أم لا؟ قال السيد صاحب الرياض (قدس سره): ((وهل المسلم يشمل المخالف أم يخصّ المؤمن؟ إشكال. والاحتياط يقتضي المصير إلى الأول إذا كان الخوف بترك القتل على نحو المال وسيما القليل منه خاصة، وأما إذا كان على النفس المؤمنة فإشكال))(2).

وأضاف صاحب الجواهر (قدس سره): ((وكذلك الخوف على العرض بل والمال كما لا يخفى)).

وقال (قدس سره): ((إن ظاهر الصحيح المزبور –أي قوله (عليه السلام): (فإذا بلغت الدم فلا تقية) دم المؤمن- ضرورة أنه هو الذي شرعت التقية لحفظه))(3).

وتبعهم على ذلك السيد الخوئي (قدس سره) قال: ((وعليه فحكم قتل المخالفين بالتقية أو الإكراه حكم سائر المحرمات التي ترتفع حرمتهما بهما))(4)

والسيد الخميني، قال (قدس سره): ((كما أن غير المؤمن من سائر الفرق خارج عن مصب الروايات وأن التقية جعلت لحقن دم المؤمن خاصة، ومقتضى العمومات جواز قتل غيرهم بالإكراه وحال الضرورة))(5).

أقول: هذا مبني على كون المراد من التقية في الروايات خصوص التقية المشهورة أعني من المخالفين، لكننا علمنا أن حديث الرفع امتنان على الأمة جميعاً، وإن

ص: 298


1- المكاسب: 2/99.
2- رياض المسائل: 8/210.
3- جواهر الكلام:22/170.
4- مصباح الفقاهة: 1/691.
5- المكاسب المحرمة: 2/235.

للتقية أقساماً أخرى وهي عامة ويراد منها اتقاء الشر من كل من يتخوف منه ذلك فقد تكون التقية من الكفار والمشركين كما في قضية عمار وسبب نزول قوله تعالى: «لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّأَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ» (آل عمران:28) وقد تكون من المستكبرين أعداء الدين ويتساوى في هذا المسلمون جميعاً كما يتساوون في الرفع بالإكراه.

وإلا يُنقض على القائل بخصوص التقية من المخالفين بعدم الاتحاد بينها وبين الإكراه؛ لأن حكم الرفع عند الإكراه شامل للمسلمين جميعاً، ويأتي عليه ما أشكلنا به سابقاً.

قال بعض الأعلام: ((مضافاً إلى ما نعلم من إجراء أحكام الإسلام ومنها حقن الدماء في حق القائلين بالشهادتين، كما في أحاديث تفسير (الإسلام) و (الإيمان) ويؤيده مساواة دية المسلمين من جميع الفرق بلا تفاوت بينهم))(1).

أقول: قد يقال بعدم صحة الاستدلال بهذا لأنها أحكام ابتدائية ويؤخذ بها عند عدم المعارض والمزاحم ونحن في مقام التزاحم فهي لا تنفي وجود أولويات وتقديم الأهم على المهم، كما تقدّم في بعض التفصيلات المتقدمة مع القطع بشمولها جميعاً للأحكام المذكورة.

وبناءً على عموم الرفع بالإكراه والتقية لعموم المسلمين وشمول استثناء الدم لهم جميعاً فلا بد للقائل بجواز قتل المخالف عند الإكراه والتقية من التمسك بدليل آخر وهو ما عبّر عنه صاحبا الرياض والمستند بأنه ((ليس شيء يوازي دم المؤمن كما يستفاد من النصوص المعتبرة))(2).

ص: 299


1- أنوار الفقاهة للشيخ مكارم الشيرازي، كتاب التجارة: 403.
2- رياض المسائل: 8/210، مستند الشيعة: 14/194.

وأضاف صاحب الجواهر (قدس سره): ((قلت بل فيها أن ألف مخالف لا يوازن دم مؤمن فلا ريب في أن المتجه المصير إليه، بل وكذلك الخوف على العرض بل والمال كما لا يخفى على من أحاط بما دلّ على هوان نفوسهم عند الله))(1).

وقال (قدس سره): ((إن ظاهر الصحيح المزبور دم المؤمن)).

أقول: هذه المضامين التي ذكروها (قدس الله أرواحهم) ليست مطابقة للمستفاد من تلك النصوص كرواية إسحاق بن عمار قال: (قال أبو عبد الله عليه السلام: مال الناصب وكل شيء يملكه حلال لك إلا امرأته، فإن نكاح أهل الشرك جائز، وذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: لا تسبوا أهل الشرك فإن لكل قوم نكاحاً، ولولا أنّا نخافعليكم أن يقتل رجل منكم برجل منهم(2)، ورجلٌ منكم خير من ألف رجل منهم ومائة ألف منهم لأمرناكم بالقتل له، ولكن ذلك إلى الإمام)(3).

ومنها صحيحة بريد العجلي قال: (سألت أبا جعفر عليه السلام عن مؤمن قتل رجلاً ناصباً معروفاً بالنصب على دينه غضباً لله تعالى، يُقتل به؟ فقال: أما هؤلاء فيقتلونه –أي اقتصاصاً-، ولو رفع إلى إمام عادل ظاهر لم يقتله، قُلت: فيبطل دمه؟ قال: لا، ولكن إن كان له ورثة فعلى الإمام أن يعطيهم الدية من بيت المال لأن قاتله إنما قتله غضباً لله عز وجل وللإمام ولدين المسلمين)(4).

ص: 300


1- جواهر الكلام: 22/170.
2- هذه المعاني تؤسس لفقه العمل الإسلامي في مواجهة الأنظمة الطاغوتية وأن الأمور لا يكفي فيها لحاظها من جهة معينة وإنما من جميع الجهات لذلك لا بد من الرجوع فيه إلى الفقيه الجامع للشرائط العارف بزمانه.
3- وسائل الشيعة: 17/299، ح2، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب 95.
4- وسائل الشيعة: 29/132، ح 1، أبواب القصص في النفس، باب 68.

ومنها صحيحة هشام بن سالم قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في رجل سبّابة لعلي (عليه السلام)؟ قال: فقال لي: حلال الدم، والله لولا أن تعمّ بريئاً، قال: قلت: لأي شيء يعم به بريئاً؟ قال: يقتل مؤمن بكافر ولم يزد على ذلك)(1).

أقول: الروايات دالة على عدم حرمة دم المذكورين فيها واستحقاقهم القتل إلا أن المانع من قتلهم دفع الضرر عن المؤمنين أو لمنع الفتنة ونحو ذلك، لكن الملاحظ فيها جميعاً أنها واردة في الناصب وليس عموم المخالف، فلا يصح الاستدلال بها على الجواز.

لذا قال الشيخ (قدس سره): ((هذا كله في غير الناصب، وأما الناصب فليس محقون الدم، وإنما منع منه حدوث الفتنة، فلا إشكال في مشروعية قتله للتقية، وبالجملة، فكل دم غير محترم بالذات عند الشارع خارج عن مورد الروايتين، فحكم إهراقه حكم سائر المحرمات التي شرعت للتقية فيها)).

لا فرق بين المباشرة والتسبيب

وأضاف صاحب الجواهر (قدس سره) فرعاً آخر قال: ((ولا فرق في القتل بين المباشرة والتسبيب كالإفتاء ونحوه لإطلاق الأدلة))(2).أقول: هذا وجيه ولكن ما دام تسبيبه مؤثراً ويصح إسناد الفعل إليه على نحو الاشتراك فهو كالسبب المستقل، مثل الأسباب التوليدية فلو أكره المفتي على إصدار حكم بقتل بريء لم يكن له ذلك ولا يقبل الاعتذار بالإكراه.

هل يشمل الدم الجرح؟

أي أن الظالم لو هدّده بالقتل إن لم يجرح آخر فهل الجرح داخل في الدم المستثنى من حكم التقية أم لا؟.

ص: 301


1- وسائل الشيعة: 28/215، ح1، أبواب حد القذف، باب 27.
2- جواهر الكلام: 22/170.

قال الشيخ (قدس سره): ((بقي الكلام في أن الدم يشمل الجرح وقطع الأعضاء، أو يختص بالقتل؟ وجهان:

من إطلاق الدم، وهو المحكي عن الشيخ.

ومن عمومات التقية ونفي الحرج والإكراه، وظهور الدم المتصف بالحقن في الدم المبقي للروح، وهو المحكي عن الروضة والمصابيح والرياض، ولا يخلو عن قوة))(1).

أقول: والثاني ((لعله الأشهر))(2)

فيجوز التمسك بالتقية والإكراه إذا أُكره على الجرح، وتردد فيه بعض كالشهيد الثاني (قدس سره) فقد علّق على قول المحقق الحلي (قدس سره) في الشرائع: ((ولو اضطره السلطان إلى إقامة الحدود جاز حينئذٍ إجابته، ما لم يكن قتلاً ظلماً فإنه لا تقية في الدماء)) بقوله (قدس سره): ((ألحق به الشيخ (رحمه الله) الجرح وهو مناسب لتعليل المصنف، فإن التقية المنفية في الدماء نكرة في سياق النفي فيعمّ، وفي بعض العبارات –وهي للشيخ الطوسي ولابن إدريس(3)-

لا تقية في قتل النفوس، فيخرج الجرح الذي لا يفضي إليه، ولا يحضرني مستند أرتب عليه الحكم))(4).

أقول: لقوة القول الثاني وجوه:-

1- إن لفظ (الدم) يستعمل في النصوص كناية عن النفس وكذا العكس في قولهم النفس السائلة لأن فيه الحياة، فبلوغ الدم يعني إزهاق النفس، فالدم ليس ملحوظاً بعنوانه حتى يلحظ فيه الإطلاق، فلو لو لم يكن العقل بإراقة الدم كالخنق أو الصعقة الكهربائية مثلاً، فلا يشك أحد في

ص: 302


1- المكاسب: 2/100.
2- رياض المسائل: 8/210، جواهر الكلام: 22/169.
3- النهاية: 301، السرائر: 2/25، وستأتي بعد صفحات إن شاء الله تعالى.
4- مسالك الأفهام: 3/107.

شموله بالحديث مع أنه ليس فيه دم. وهذا ظاهر لكل من تعامل مع الروايات.

2- مناسبة الحكم والموضوع لأن سياق الحديث ظاهر في أعلى مراتب التقية التي هي إتلاف النفس وبيان حرمتها وليس بصدد بيان مراتب ما يجوز بالتقية.

3- ما عن المحقق النراقي (قدس سره) من أن ((ثبوت الإطلاق في مثل هذا التركيب نظر))(1) وهو حسن، ولعله يرجع إلى ما ذكرناه في الوجه الثاني.

4- ما بنى عليه البعض من لزوم الاقتصار في الخروج عن عمومات التقية ونحوها على المتيقن المتبادر من الإطلاق وهو القتل، فما دون الدم يبقى تحت عمومات التقية والإكراه.

وأضاف صاحبا الرياض والجواهر: ((وينبغي القطع بالجواز –أي جواز الجرح بما دون القتل- إذا كان الخوف على النفس بتركه، ويحتاط بتركه في غيره)) وأضاف صاحب الجواهر (قدس سره): ((حيث لا يعارضه الاحتياط من جانب آخر)).

هذا وقد علّق السيد الخوئي (قدس سره) هنا بأن ((الظاهر من قوله (عليه السلام): (إنما جعلت التقية ليحقن بها الدم) وإن كان هو الدم الذي كان علة لبقاء الحياة، إلا أنه مع ذلك لا يمكن الحكم بجواز جرح الغير أو قطع أعضائه للتقية، فإن دليل جواز التقية كدليل رفع المستكره عليه إنما ورد في مقام الامتنان، فلا يشمل ما إذا كان شموله منافياً له، وعليه فيجري في موردها ما ذكرناه في مورد الإكراه))(2).

ص: 303


1- مستند الشيعة: 14/194.
2- مصباح الفقاهة: 1/692.

أقول: هذا في نفسه صحيح إلا أنه خارج عن محل البحث لأن الكلام في ما لو هدده بالقتل فهل يجوز له الجرح أم لا؟ وليس الكلام في شمول التقية للمورد.

هل قوله (عليه السلام): (لا تقية) يدل على نفي الواجب أم نفي الوجوب:

نحاول الآن الإجابة عن سؤال: هل أن قوله (عليه السلام): (فلا تقية) عند بلوغ الدم يفيد عدم الجواز أي حرمة العمل بالتقية المقتضية لقتل الغير أم تدل على عدم الوجوب، وبتعبير فني: إن النفي هنا ليس حقيقياً لوقوعه في الخارج، فهو هنا ادعائي، والحقيقة الادعائية تحتاج إلى مصحح للدعوى، فما هو المصحح هنا؟ هل الحرمة أم عدم الوجوب؟.

وتقريب الأول: أن رسوخ حكم الشارع بحرمة التقية في الأذهان أدى إلى الامتناع عن العمل بها وسدّ منافذ تحققها فصحّ نفي وجودها مطلقاً لأنه أُخِذ مسلَّم العدم، وهذا التقريب جارٍ في سائر الجمل الأخبارية التي تفيد الإنشاء، كما ورد في الروايات أنه (يعيد صلاته) أو (يغسل ثوبه) للدلالة على وجوب الفعل بتسليم امتثاله والمفروغية من فعله.ومن موارد هذا التقريب للحرمة قوله تعالى: «فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ» (البقرة:197) وقوله (عليه السلام): (لا تَعرُّب بعد الهجرة، ولا وصال في الصوم) ونظائرها(1).

وتقريب الثاني: أنها نفي للحكم بلسان نفي الموضوع فنفي التقية يراد به نفي حكمها، ولما كان حكم التقية قبل بلوغ الدم هو الوجوب للروايات الكثيرة حتى ورد (لا دين لمن لا تقية له) فالمنفي هنا وجوبها بلسان نفي موضوعها، كقوله (عليه السلام): (لا رضاع بعد فطام)(2)

وقوله (عليه السلام): (ولا يمين

ص: 304


1- من لا يحضره الفقيه: 3/359 باب الأيمان والنذور، ح 4273.
2- وسائل الشيعة: 14/290، كتاب النكاح، أبواب ما يحرم بالرضاع، باب 5، ح1.

في غضب .. ولا جبر ولا إكراه)(1)

وقوله (عليه السلام): (لا يمين لولد مع والده وللمرأة مع زوجها)(2).

ويتحصل من كلام السيد الخميني (قدس سره) وجهان لترجيح حمل الحديث على المعنى الثاني، وهما:-

1- ((إن كل موضوع ذي حكم في الشريعة إذا تعلق النفي به يكون ظاهراً في نفيه بلحاظ حكمه، إلا إذا قامت قرينة على خلافه))(3)، وصغراه هنا أن التقية ذات حكم وهو الوجوب فنفيها يعني نفي وجوبها.

2- ((إن قوله (عليه السلام): (إنما جعلت التقية) أيضاً من الحقائق الادعائية بلحاظ جعل الحكم عليها، والمناسبة بينه وبين الفقرة الثانية تقتضي أن يكون النفي بلحاظ نفي هذا المجعول، فكأنه قال: إنما وجبت التقية لكذا، فإذا بلغت الدم فلا وجوب)).

أقول: يرد على الوجه الأول بعد التسليم بصحة الكبرى، أن حمل النفي على هذا المعنى بعيد هنا؛ لوجهين على الأقل:

1- نقض الغرض لأن الاكتفاء بنفي الوجوب يعني الرخصة في الإقدام، وحمل النفي في الحديث على هذا المعنى ينافي الغرض الذي سيق من أجله الحديث وهو التشديد على حرمة إزهاق الأرواح تحت أي ذريعة حتى التقية والإكراه ونحوهما، والإنسان أناني بطبعه ويحب ذاته وهو مستعد لإفناء غيره من أجل بقائها «وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ» (النساء:128) ولولا الحرمة الشرعية لماامتنعوا من إزهاق الأرواح حتى لأمور تافهة كالذي يحصل في كثير من نزاعات غير المتورعين.

ص: 305


1- وسائل الشيعة: 16/143، كتاب الأيمان، باب 16، ح1.
2- وسائل الشيعة: 16/128، كتاب الأيمان، باب 10، ح1.
3- المكاسب المحرمة: 2/228.

2- فقدان مصحِّح الادعاء لأن عدم التحريم سيدفعه إلى اقتحام الدم لمجرد احتمال الخوف على نفسه ما دام الأمر ليس حراماً، وسيقع هذا الفعل كثيراً في الخارج لعدم المانع منه شرعاً وحينئذٍ يفقد هذا الادعاء أي نفي حقيقة التقية وموضوعها مصحِّحه لكثرة وجوده خارجاً، ولا تجوز الحقيقة الادعائية بلا مصحح كما هو معلوم.

أما صحة هذا المعنى في الموارد المذكورة في التقريب الثاني فلنكتة تصححها وهو أن ما لا يترتب عليه أثر شرعي ولا عرفي لا يعتبر موجوداً فيصح تعلق النفي به وهي تختلف عما نحن فيه؛ لأن في تلك الموارد يوجد موضوع خارجاً وهو النذر واليمين فنفيه لا معنى له فالمنفي حكمه والأثر المترتب عليه، أما هنا فيراد نفي موضوع التقية أي لا موضوع للتقية إذا بلغت الدم.

ويرد على الوجه الثاني مضافاً إلى ما تقدم ما قاله (قدس سره) لاحقاً من أن ((المناسبة بين الحكم والموضوع تقتضي أن يكون النفي بلحاظ التحريم والإثبات بلحاظ الإيجاب، وهذا هو التناسب بين الفقرتين))(1).

فالأظهر المعنى الأول وهو نفي الجواز، واختاره السيد الخميني (قدس سره) وذكر له عدة مؤيدات وقال عنه أنه ((أرجح لو لم نقل بتعيّنه، لفهم العرف مع خلوّ ذهنه عن الشبهات، ولمناسبة الحكم والموضوع، ولأن الظاهر أن الجملة سيقت لبيان أهمية الدماء وأنه –تعالى- أوجب التقية لحقنها، فإذا كان حقنها موجبة لوجوبها وكونها ديناً(2)

ولا دين لمن تركها، لا محالة يكون البلوغ إلى إراقتها موجباً لحرمتها.

ص: 306


1- المكاسب المحرمة: 2/229.
2- في إشارة إلى الأحاديث الشريفة الدالة على أن (التقية ديني ودين آبائي ومن لا تقية له لا دين له).

وأضاف (قدس سره) في موضع آخر: ((إن فهم الأصحاب ذلك من الروايات أيضاً من المؤيدات القوية لو لم نقل من الحجج الكافية ودليل على الظهور العرفي، فتردد بعض المدققين(1) في غير محله)).

أقول: يمكن قبول المعنى الأول إذا كان المقصود بنفي الحكم مطلق الحكم والأثر لا الحكم السابق خاصة، وحينئذٍ يصح نفيها بهذا اللحاظ، إذ ما دامت هذه التقية لا يترتب عليها أي أثر فإن حرمة دم الغير تبقى بلا معارض ولا رافع، فيعود النزاع لفظياً.

التعارض بين وجوب حفظ النفس وحرمة قتل الغير:

بعد عرض الوجهين في فهم (لا تقية) فإنه قد يقال بأن حمل (لا تقية) على نفي الجواز أي الحرمة يرد عليه إشكال التعارض بين تحريم قتل الغير عند الإكراه والتهديد بالقتل وبين وجوب حفظ النفس وحرمة إلقائها بالتهلكة، ويعمّم الإشكال إلى ما لو كان المتوعد به قتل أحد من متعلقيه أو أعم من ذلك فيدور الأمر بين وجوب حفظه لنفس من يتعلق به وحرمة قتل من يأمره الظالم بقتله، وقد أشرنا (صفحة 255) إلى هذا الإشكال.

فهل يقال حينئذٍ بالرجوع إلى مرجحات باب التزاحم عند وجود الأهمية بين النفسين والتخيير عند عدم المرجِّح ونحو ذلك، وربما يقال بالتخيير مطلقاً من دون لحاظ الترجيح بالأهمية أصلاً لإطلاق الدم ولقوله تعالى: «وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ» (المائدة:45) إن لم يرد عليها ما ذكرناه سابقاً من أنها أحكام ابتدائية بغضّ النظر عن التزاحم والتعارض أو أن الآية واردة في القصاص ولا علاقة لها بمحل البحث.

ص: 307


1- حاشية الشيخ محمد تقي الشيرازي (قدس سره) على المكاسب: 139، مبحث حرمة الولاية للجائر (منه).

والإشكال يرد على المعنى الأول دون الثاني وهو نفي الوجوب فإن حرمة إلقاء النفس في التهلكة يبقى بلا معارض لأن الحكم الإلزامي لا يعارضه غير الإلزامي.

وردَّ بعض الأعلام المعاصرين الإشكال بأن ((قتل الغير إيجاد لما يرفع القتل عن نفسه، وتركه ترك لذلك، لا أنه إلقاء لها في التهلكة، وإيجاد ما يرفع القتل وإن كان واجباً في الجملة لكن لا دليل على وجوبه إذا انحصر الدفع بقتل غيره، وعلى هذا فحيث أن هلاك أحدهما مما لا بد منه ويمتاز قتل الغير بارتكاب محرم فلا وجه لتسويغه))(1).

أقول: ما ذكره (دام ظله) قد لا يكون كافياً لأن إيجاد ما يرفع القتل عن نفسه واجب أيضاً كما صرّح وقوله: ((لا دليل إذا انحصر)) عين الإشكال فلم يقدّم نكتة هذا التقديم، ومثلما توجد حرمة في قتل الغير كذلك توجد في قتل النفس مع تمكّنه من الدفع أو الرفع.

هذا ولكن يمكن تقديم عدة وجوه لرد الإشكال:-

1- إن النسبة بين حرمة قتل الغير وعموم وجوب حفظ النفس هي الخاص والعام أو المطلق والمقيد كما هو واضح من روايات (لا تقية في الدم)، فإنها استثنت من وجوب حفظ النفس بالتقية ما لو كان بقتل الآخر، وحينئذٍ يقدم الخاص على العام ولا منافاة، مضافاً إلى أحاديث (لا ضرر ولا ضرار) فإن دفع الضرر عن النفس لا يسوّغ إيقاع الضرر بالآخرين، وبتعبير آخر: إن حفظ النفس – وكل نفس محترمة- وإن كان واجباً إلا أنه لا يجوز امتثاله بقتل نفس محترمة أخرى.

2- لا يوجد هنا إلقاء في التهلكة وإن الذي يحصل لو قتله الجائر أن امتثال المكرَه للحكم الشرعي بامتناعه عما يأمره به الظالم أغاظ الظالم فقتله،

ص: 308


1- فقه الصادق: 21/405، منهاج الفقاهة: 2/215.

فلا يكون مسؤولاً عن فعل الظالم، وأمثلته كثيرة لا يلتزم فقيه بأنها من إلقاء النفس في التهلكة كانتقام الطواغيت من الصلحاء لمجرد أنهم كذلك، أو مكيدة أهل الحسد لهم فلا ذنب للمحسود حتى على نحو التسبيب.

3- إن حرمة قتل الغير منجزة في المقام، أما حرمة إلقاء النفس في التهلكة فهي معلقة على تركه ما يأمره به الظالم لقول الظالم: (اقتل زيداً فإن لم تفعل قتلتك) فهما ليسا في رتبة واحدة ولا يعارض المعلق المنجز.

وقد تعرض السيد الخميني (قدس سره) لهذا الإشكال بناءً على ما تقدم من معنيي (لا تقية) فقال: ((لو قلنا بعدم استفادة أحد الوجهين منها أو استفادة الوجه الثاني من الوجهين فقد يقال: بمعارضة دليل حرمة القتل لدليل حرمة إيقاع النفس في الهلكة، ومزاحمة الحكمين أو مزاحمة حرمة قتل النفس لحرمة التسبيب لقتل النفس المحترمة، أي نفس من يتعلق به إذا كان الإيعاد بقتله، ولا دليل على الترجيح فيتخير بينهما.

نعم، قد يتحقق الترجيح والأهمية في أحد الطرفين، كما لو أوعده على قتل بعض متعلقيه لو لم يقتل جماعة(1)

عديدة، أو أوعده على قتله وقتل جميع متعلقيه لو لم يقتل واحداً.

أقول: في دوران الأمر بين مباشرة القتل وبين محرم(2)

آخر دونه، لا ينبغى الإشكال في أقلية محذور ارتكاب الثاني وعدم مزاحمته لمقتضى القتل، والإيقاع(3)

في الهلكة في المقام ليس قتل نفسه مباشرة ولا تسبيباً، بل لما أمكنه صرف شر الغير عن نفسه كان ذلك الصرف واجباً ولو عقلاً، أو عدم صرفه نحو إيقاع لها في الهلكة.

ص: 309


1- سيأتي عدم الجواز في مثل هذه الصورة أيضاً فالحرمة ثابتة.
2- هذا مجرد توطئة وإلا فإنه من مستأنف الكلام.
3- هذا تصوير لجريان معنى إلقاء النفس في التهلكة هنا في المقام.

فصرف شرّ الغير عن نفسه واجب أو الإيقاع في الهلكة بهذا المعنى حرام، لكنه دون حرمة مباشرة القتل(1). ألا ترى أنه لو دار الأمر بين قتل جائر نفساً محترمةوبين قتلك نفساً محترمة أخرى، لا يمكن(2)

القول بالتخيير بين القتل مباشرة لحفظ النفس المحترمة وترك المباشرة وإيقاع الغير في الهلكة، بدعوى مزاحمة المقتضيين وعدم الترجيح.

وأما قوله في دوران الأمر بين قتل المكرَه –بالفتح- شخصاً وقتل المكرِه –بالكسر- بعض من يتعلق به، بأن ذلك من قبيل الدوران بين حرمة القتل وحرمة التسبيب له.

ففيه: أن ذلك ليس تسبيباً(3)

لقتل من يتعلق به. فإن التخلف عن أمر المكرِه ليس سبباً عرفاً وعقلاً للقتل، مع أن المباشرة للقتل أشد محذوراً من هذا المعنى المفروض وإن سُمّي تسبيباً.

بل يمكن أن يقال: إنه لو دار الأمر بين مباشرته لقتل شخص واحد، وبين مباشرة المكرِه لقتل أشخاص عديدة، لا يجوز مباشرة القتل، لأن الواجب

ص: 310


1- إذا كان قصده (قدس سره) عند التزاحم فلا بد من تقريب وجه لذلك كالذي قدمناه وإلا يكون مجرد دعوى، وهو عين الإشكال، وإن كان في غير التزاحم فلا فرق خصوصاً مع ما تقدم (صفحة 301) من عدم الفرق بين المباشرة والتسبيب إذ الفرض تمكنه من دفع القتل عن نفسه، إلا بناءً على ما ذكرناه هناك من الفرق بين الأسباب التي يصح إسناد الفعل إليها وغيرها.
2- لا شك في عدم الجواز لكن الكلام في وجهه وردّ الإشكال، مضافاً إلى أن هذا المثال لا ينطبق على مسألتنا لعدم وجود إكراه أو تقية في المورد المذكور فالحالتان المفترضتان مستقلتان ولا يمكن تسويغ مباشرة القتل من أجل منع حالة قتل أخرى لا ترتبط معها بإكراه أو اضطرار أو تقية فالحرمة هنا بلا إشكال ولا خلاف.
3- قد صوّر (قدس سره) كونه من إلقاء النفس في التهلكة بنحو ما، فلا بد أن يفرّق بين أنحاء التسبيب كما في التعليقة السابقة.

دفع قتلهم مع الإمكان، لكن إذا توقف على ارتكاب القتل مباشرة، فلا دليل على جوازه وترجيح مقابله.

وهل هذا إلا نظير دوران الأمر بين ارتكابه شرب الخمر وارتكاب جمع كثير شربها؟.

وبالجملة لم يتضح وجوب حفظ النفوس بارتكاب قتل النفس.

نعم، لو كان المتوعد على قتله من يجب حفظه على أي تقدير كالنبي صلى الله عليه وآله والوصي عليه السلام يجب قتل غيره لحفظه)).

أقول: يتضح مراده (قدس سره) وتقييم ما أفاد به من خلال الوجوه التي قرّبناها لرد الإشكال والتعليقات التي ذكرناها في الهامش.

ثم قال (قدس سره): ((هذا مع قطع النظر عن دليل الحرج، وإلا فلا تصل النوبة إلى حكم العقل، فإنه على فرض كون المرفوع في الدم حكم التقية وسكوت الرواية عن حكم بلوغ الدم يكون مقتضى دليل نفي الحرج جواز ارتكاب الدم، لما مر من أن الشر والضرر المتوجه إلى الغير يكون وجوب دفعه بتحمل الضرر على النفس حرجياً.وإن شئت قلت: إيجاب حفظ نفس الغير أو حرمة قتله بإيقاع الضرر على نفسه حرجي، سيما إذا كان الضرر المتوعد عليه من النفوس أو الأعراض المتعلقة به، فمع قيام الدليل الشرعي لا قبح لحكم العقل وترجيحه.

ولو قلنا بأن المستفاد من دليل نفي التقية في الدماء الحرمة، فإن قلنا بأنه شامل لجميع أنحاء التقية في عرض واحد وكان مفاده تحريمها مطلقاً في الدم، تكون النسبة بينه وبين دليل نفي جعل الحرج العموم من وجه، لأن عدم التقية في الدم أعم من أن يلزم الحرج في تركه. وعليه يكون دليل نفي الحرج حاكماً عليه كحكومته على ساير الأدلة. وكون دليل التقية من الأحكام الثانوية لا ينافي الحكومة المتقومة بلسان الدليل مع أن قوله: (فلا تقية) حكم أولي متعلق بعنوانها.

ص: 311

وإن قلنا بأن روايات نفي التقية بلحاظ قوله: (إنما جعلت التقية لتحقن بها الدم) ناظرة إلى قضية عمار، كما أشرنا إليه، تكون واردة مورد الإكراه الذى هو مورد قضية عمار، فلا محالة لا يجوز إخراجه بدليل الحرج، للزوم إخراج المورد، وهو مستهجن. ومع بقاء مورد الإكراه كذلك، أي عدم جواز إراقة الدم مع الإكراه، والتوعيد على القتل لا يجوز إخراج ما عداه بالضرورة، فإن القتل إذا لم يجز مع التوعيد على القتل لا يجوز مع ما دونه وما هو أهون منه.

وبعبارة أخرى لا يصح التفكيك عقلاً وعرفاً في الدليل، فلا بد من رفع اليد عن تحكيم دليل الحرج في المقام، وهو أهون من عمل التعارض، مع أنه على فرضه لا بد من رفع اليد عن إطلاق الآية إما لكونه عملاً بالدليلين في الجملة أو للإجماع المدعى والشهرة المحققة المرَجّحَين على إطلاق الكتاب بل المقيدين له))(1).

أقول: ذكرنا كلامه (قدس سره) بطوله لتعميق المطلب وإلا فإن افتراض الحرج لا يغيّر من الحكم شيئاً لأنه لا يزيد على الإكراه.

إلفات: قال السيد الخوئي (قدس سره): ((نعم إذا أجبر الظالم أحداً على قتل أحد شخصين محقوني الدم أو اضطر إليه نفسه، كما إذا وقع من شاهق وكان لا بد له من الوقوع على رأس أحدهما، فلا بد حينئذ من الرجوع إلى قواعد التزاحم، ويتضح ذلك بلحاظ ما حققناه في دوران الأمر بين إنقاذ أحد الغريقين، فإنه لم يستشكل أحد في وجوب المبادرة لإنقاذ الأهم منهما وترك الآخر، وهذا نظير الإكراه على إيقاع الضرر المالي على أحد الشخصين))(2).

ص: 312


1- المكاسب المحرمة: 2/231-234.
2- مصباح الفقاهة: 1/689.

أقول: المورد الأول داخل في الحرمة فإنه لا يجوز للمكره قتل أي منهما، ولا يقاس على المورد الثاني الذي اضطر إليه لأنه مسلوب الإرادة فيه بحسب الفرض ولا يملك اجتنابهما معاً فيرجّح بالأهمية وإلا فيتخيّر.

ص: 313

البحث الرابع: يجب على الأمة تمكين الفقيه من إقامة المعروف وإزالة المنكر

اشارة

لم تحرّر المسألة بهذا العنوان في كتب الأصحاب، وإنما يقتنص من استقراء موارد متعددة ترتبط بصلاحيات الفقيه في عصر الغيبة وامتداد ولايته لممارسة وظائف الإمام كإقامة الحدود والجمعة والحكم بين الناس والإذن بالخروج والقتل إذا توقف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليهما، وجباية المستحقات المالية للإمام (عليه السلام) ونحو ذلك.

فهذه الصلاحيات يتناولها الفقهاء في مواضعها من كتب الفقه، ولكننا بحاجة إلى تجميع هذه المتفرقات لتحرير مشروع متكامل، وليس الآن محل عرضه وإنما البحث في ولاية الفقيه، فما قيل من عدم تعرّض الفقهاء لمباحث ولاية الفقيه وأنها من تحرير المتأخرين وأن الفقهاء السابقين ليس لهم فقه حركي واجتماعي ليس دقيقاً، لكن النقص في عدم تجميع المتفرقات وتحرير نظريات متكاملة في قضايا المجتمع والدولة والإنسان.

وعلى أي حال فقد قال الشيخ المفيد في المقنعة والشيخ الطوسي في النهاية: ((يجوز للفقهاء العارفين إقامة الحدود في حال غيبة الإمام، كما لهم الحكم بين الناس مع الأمن من ضرر سلطان الوقت، ويجب على الناس مساعدتهم على ذلك؛ لما رواه الشيخ عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: (سألته: من يقيم الحدود السلطان أو القاضي؟ فقال: إقامة الحدود إلى من إليه الحكم)(1).

وقد ثبت أن للفقهاء الحكم بين الناس، فكذا لهم إقامة الحدود. ولأن تعطيل الحدود حال غيبة الإمام مع التمكّن من استيفائها يفضي إلى الفساد، فكان سائغاً))(2).

ص: 314


1- وسائل الشيعة: 18/220، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، باب 31، ح1.
2- المقنعة: 129، النهاية: 301-302.

وقال الشيخ الطوسي (قدس سره): ((من استخلفه سلطان ظالم على قوم، وجعل إليه إقامة الحدود، جاز له أن يقيمها عليهم على الكمال، ويعتقد أنه إنما يفعل ذلك بإذن سلطان الحق، لا بإذن سلطان الجور، ويجب على المؤمنين معونته وتمكينه من ذلك ما لم يتعدّ الحق في ذلك وما هو مشروع في شريعة الإسلام، فإن تعدّى فيما جعل إليه الحق لم يجز له القيام به، ولا لأحد معونته على ذلك، اللهم إلا أن يخاف في ذلك على نفسه، فإنه يجوز له حينئذٍ أن يفعل في حال التقية ما لم يبلغ قتل النفوس، فأما قتل النفوس فلا يجوز في التقية على حال))(1).وقد فسّر بعض الأصحاب الإقامة هنا بالوجوب، وهو صحيح لوجوب إقامة الدين، قال تعالى: «وَأَن أَقِيمُوا الدِينَ» (الشورى:13) وإنما منع منه توهم اختصاص الوظيفة بالإمام فإذا وردت الرخصة في إقامتها للفقهاء ارتفع المانع وثبت الوجوب وهذا ما يعبَّر عنه بموارد ما لو جاز وجب.

وقال جماعة بهذا الوجوب على الأمة في كل موارد تصدي الفقيه الجامع للشرائط لتطبيق الشريعة سواء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عندما يتطلب الأمر الجرح والقتل المشروط بإذن الإمام أو لإقامة الحدود أو الحكم بين الناس، قال سلار: ((فأما القتل والجراح في الإنكار فإلى السلطان ومن يأمره، فإن تعذّر الأمر لمانع فقد فوّضوا عليهم السلام إلى الفقهاء إقامة الحدود والأحكام بين الناس بعد أن لا يتعدّوا واجباً ولا يتجاوزا حداً، وأمر عامة الشيعة بمعاونة الفقهاء على ذلك ما استقاموا على الطريقة))(2).

وتوقف بعض الأساطين في جواز تصدي الفقهاء لهذه الوظائف في غيبة الإمام كالمحقق في الشرائع والعلامة في بعض كتبه، فقد نقل المحقق الحلي (قدس سره) كلام الشيخين (قدس الله سريهما) المتقدم ناسباً إياه إلى القيل.

ص: 315


1- النهاية: 301.
2- المراسم: 260-261.

فعلّق الشهيد الثاني (قدس سره) عليه بقوله: ((هذا القول مذهب الشيخين(1)

(رحمهما الله) وجماعة من الأصحاب(2)

وبه رواية عن الصادق (عليه السلام) – يقصد به رواية حفص المتقدمة- في طريقها ضعف ولكن رواية عمر بن حنظلة(3)

مؤيدة لذلك، فإن إقامة الحدود ضرب من الحكم، وفيه مصلحة كلية ولطف في ترك المحارم، وحسم لانتشار المفاسد. وهو قوي، ولا يخفى أن ذلك مع الأمن من الضرر عليه وعلى غيره من المؤمنين))(4).أقول: ومنع منه ابن إدريس فإنه نقل كلام الشيخ الطوسي المتقدم وقال: ((والأولى في الديانة ترك العمل بهذه الرواية بل الواجب ذلك، والرواية أوردها شيخنا أبو جعفر في نهايته وقد اعتذرنا له فيما يورده في هذا الكتاب –أعني النهاية- في عدة مواضع، وقلنا: إنه يورده إيراداً من طريق الخبر، لا اعتقاداً من جهة الفتيا والنظر، لأن الإجماع حاصل منعقد من أصحابنا ومن المسلمين جميعاً أنه لا يجوز إقامة الحدود، ولا المخاطب بها إلا الأئمة والحكام القائمون بإذنهم في ذلك، فأما غيرهم فلا يجوز له التعرض بها على حال، ولا

ص: 316


1- راجع المقنعة، والنهاية كما تقدم.
2- راجع مثلاً الكافي للحلبي: 423، والتنقيح الرائع: 1/596، وقال صاحب الجواهر: ((والقائل الإسكافي والشيخان والديلمي والفاضل والشهيدان والمقداد وابن فهد والكركي والسبزواري والكاشاني وغيرهم على ما حكي عن بعضهم)) (جواهر الكلام: 21/393.
3- وفيها قوله (عليه السلام): (ينظران من كان منكم ممن روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخفّ بحكم الله وعلينا ردّ، والراد علينا كالراد على الله وهو على حد الشرك بالله) وسائل الشيعة: كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب 11، ح1.
4- مسالك الأفهام: 3/107.

يرجع عن هذا الإجماع بأخبار الآحاد، بل بإجماع مثله، أو كتاب الله تعالى، أو سنة متواترة مقطوع بها.

فإن خاف الإنسان على نفسه من ترك إقامتها فإنه يجوز له أن يفعل في حال التقية، ما لم يبلغ قتل النفوس فلا يجوز فيه التقية عند أصحابنا بلا خلاف بينهم))(1).

أقول: يلزم من قوله: ((ولا المخاطب بها إلا الأئمة والحكام القائمون بإذنهم في ذلك)) عكس ما أراده أو نسب إليه من المنع والمخالفة لأن المشهور يقول بأنهم مأذونون من قبل الإمام بالروايات الكثيرة المذكورة، فإجماعه (قدس سره) على عكس ما أراد ولذا سيأتي كلام صاحب الجواهر (قدس سره) في تصحيح النسبة.

وتوقف العلامة في المنتهى، قال (قدس سره): ((لا يجوز لأحد إقامة الحدود إلا للإمام عليه السلام أو من نصبه لها، ولا يجوز لأحد سواهما إقامتها على حال، وقد رخّص في حال الغيبة أن يقيم الإنسان الحد على مملوكه إذا لم يخف في ذلك ضرراً على نفسه وماله وغيره من المؤمنين وأمن بوائق الظالمين.

وقال الشيخ رحمه الله رخص أيضاً حال الغيبة إقامة الحدود على ولده وزوجته إذا أمن الضرر.

ومنع ابن إدريس ذلك وسلّمه في العبد، وقد روى الشيخ عن حفص بن غياث قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام قلت: من يقيم الحدود؟ السلطان، أو القاضي؟ فقال: إقامة الحدود إلى من إليه الحكم).

إذا ثبت هذا هل يجوز للفقهاء، إقامة الحدود في حال الغيبة؟ جزم به الشيخان عملاً بهذه الرواية: وعندي في ذلك توقف))(2)، لكنه (قدس سره) قال

ص: 317


1- السرائر: 2/25.
2- منتهى المطلب: 15/244، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

بعد ذلك في مسألة أخرى عقيب نقله كلام الشيخين المتقدم: ((وهو قوي عندي))(1).

وقال (قدس سره) في المختلف بعد نقل كلام الشيخ وابن إدريس: ((والأقرب عندي: جواز ذلك للفقهاء.لنا: أن تعطيل الحدود يُفضي إلى ارتكاب المحارم وانتشار المفاسد، وذلك أمر مطلوب الترك في نظر الشرع.

وما رواه عمر بن حنظلة عن الصادق عليه السلام، إلى أن قال: (انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فارضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يُقبْل منه فإنما بحكم الله استُخِفّ وعلينا ردّ، والراد علينا راد على الله تعالى، وهو على حدّ الشرك بالله عز وجل) وغير ذلك من الأحاديث الدالة على تسويغ الحكم للفقهاء، وهو عام في إقامة الحدود وغيرها.

والعجب أن ابن إدريس ادعى الإجماع في ذلك مع مخالفة مثل الشيخ وغيرها من علمائنا فيه))(2).

وعلق المحقق الأردبيلي (قدس سره) على قول العلامة (قدس سره) في الإرشاد: ((وللفقيه الجامع لشرائط الإفتاء إقامتها –أي الحدود- والحكم بين الناس بمذهب أهل الحق، ويجب على الناس مساعدته على ذلك)) قال (قدس سره) عن الفقرة الأولى: ((لعل في رواية عمر بن حنظلة وأبي خديجة(3)

إشارة

ص: 318


1- منتهى المطلب: 15/252.
2- مختلف الشيعة: 4/478، مسألة (88).
3- بسند معتبر عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: (إياكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه) وسائل الشيعة: كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب 1، ح5.

إليهم لتفويضهم الحكم إليه وجعلهم حاكماً، فكأنه يشمل إقامة الحدود)) وقال (قدس سره) عن وجوب مساعدة الناس في ذلك: ((لعله لا خلاف فيه، ولأنه معونة على البر وداخل في الأمر بالمعروف))(1).

وقال الشيخ كاشف الغطاء (قدس سره): ((فيجوز للمجتهد في زمان الغيبة إقامتها –أي الحدود والتعزيرات- ويجب على جميع المكلفين تقويته ومساعدته، ومنع المتغلب عليه مع الإمكان))(2).

وقال صاحب الجواهر (قدس سره) بعد أن استدل على عموم ولاية الفقيه: ((وحينئذٍ فلا إشكال كما لا خلاف في وجوب مساعدة الناس لهم على ذلك نحومساعدتهم للإمام عليه السلام، ضرورة كونه من السياسات الدينية التي لا يقوم الواحد بها، ومن البر والتقوى اللذين أمرنا بالتعاون عليهما))(3).

وعلق (قدس سره) عقب نقل المحقق الحلي (قدس سره) لقول الشيخين (قدس الله سريهما) السابق: ((ويجب على الناس مساعدتهم على ذلك)) قال (قدس سره): ((كما يجب مساعدة الإمام عليه السلام عليه، بل هو المشهور، بل لا أجد فيه خلافاً إلا ما يحكى عن ظاهر ابني زهرة وإدريس، ولم نتحققه، بل لعل المتحقق خلافه، إذ قد سمعت سابقاً معقد إجماع الثاني منهما الذي يمكن اندراج الفقيه في الحكام عنهم منه، فيكون حينئذ إجماعه عليه لا على خلافه)).

ص: 319


1- مجمع الفائدة والبرهان: 7/547، 549.
2- كشف الغطاء: 4/430.
3- جواهر الكلام: 21/399.

أقول: هذا الخلاف في مشروعية إقامة الحد في زمن الغيبة فهو ليس في الوجوب الذي نتحدث عنه، وقد تقدّم أن دعوى ابن إدريس (قدس سره) تدل على عكس ما نسب إليه، وقال (قدس سره): ((وحينئذ لا يبعد وجوب الإقامة –أي إقامة الحدود والجمعة والحكم بين الناس- عليه مع أمن ضرر السلطان عليه أو على غيره من الشيعة ولو بقبول الولاية من قبله وإظهارها عنه))(1).

الاستدلال على وجوب مساعدة الأمة للفقيه:

يمكن الاستدلال بالأدلة الأربعة على وجوب مساعدة الأمة للفقيه الجامع لشروط ولاية أمور المسلمين على تطبيق الشريعة في حياة الأمة:

(أولها) القرآن الكريم، في عدة آيات:-

(منها) قوله تعالى: «وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى»(المائدة:2) وهذه المساعدة على إقامة أحكام الله تعالى من المعاونة على البر والتقوى، وبها استدل عدد من الفقهاء (قدس الله أرواحهم) على الوجوب كما تقدم عن المحقق الأردبيلي وصاحب الجواهر (قدس الله سريهما)، بل إن هذه الأعمال الاجتماعية مما لا يمكن القيام بها إلا جماعة، قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((ضرورة كونه من السياسات الدينية التي لا يقوم الواحد بها، ومن البر والتقوى اللذين أمرنا بالتعاون عليهما)) فالآية تدل على الوجوب هنا حتى مع التسليم بإشكال السيد الخوئي (قدس سره) على الاستدلال بالآية على وجوب المعاونة؛ لأن المورد مما اعترف بدلالة الآية فيه على الوجوب وهي موارد لزوم تعاون جماعة.

(ومنها) قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ»

ص: 320


1- جواهر الكلام: 21/398-399.

(الأنفال : 24) وفي تطبيق الشريعة من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حياة الأمة وبقاء الدينكما وصف الإمام الباقر (عليه السلام): (بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب وتحلّ المكاسب وترد المظالم وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر)(1)

وهذه هي علامات ومظاهر الحياة في الأمم وخصائص الأمة الحية مادياً ومعنوياً.

وفي رسالة المحكم والمتشابه عن تفسير النعماني عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ذكر الآية وقال: (فأخبر سبحانه أن العباد لا يحيون إلا بالأمر والنهي، إذ كان الأمر والنهي أحد أسباب بقاء الخلق وإلا سقطت الرغبة والرهبة ولم يرتدع ولفسد التدبير وكان ذلك سبباً لهلاك العباد))(2).

(ومنها) قوله تعالى: «وَأَنْ أَقِيمُوا الدِينَ» (الشورى:13) وإقامة الدين إنما تتحقق بإقامة مشاعره وشعائره وشعاراته وذلك من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يبقى الدين إذا محيت هذه والعياذ بالله.

(ومنها) قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ» (النساء:59) والفقيه يبلّغ بفتاواه ما ثبت بالدليل الشرعي أنه حكم الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) وأولي الأمر، فوجوب طاعته من وجوب طاعتهم.

(ومنها) قوله تعالى: «فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً» (النساء:65) وهي صريحة في ضرورة الرجوع إلى حكم الله تعالى والعمل به في كل ما يختلف

ص: 321


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب 1، ح6.
2- بحار الأنوار: 93/40.

فيه الناس من شؤون حياتهم وهذا هو ما يريده الفقيه بدعوته إلى تطبيق الشريعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فعلى الناس التسليم والانقياد.

(ومنها) قوله تعالى: «إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (النور:51) فالآية تحصر سلوك المؤمنين بخيار واحد وهو الطاعة والتسليم لمن يدعوهم إلى حكم الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) وتحصر الفلاح بهذا السلوك لا غير وهو ما يدعوهم إليه الفقيه.

(ومنها) قوله تعالى: «إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا» (النساء:58) بالتقريب الذي ورد في رواية المعلى بن خنيس (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): قول الله عز وجل: «إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا» قال: على الإمام أن يدفع ما عنده إلى الإمام الذي بعده، وأمرت الأئمة بالعدل وأمر الناس أن يتبعوهم)(1).(ومنها) قوله تعالى: «فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» (التوبة : 122) بتقريب أن وجوب التفقه في الدين ووجوب الإنذار وإفتاء الناس ودعوتهم إلى تطبيق الشريعة يلزم منه وجوب الأخذ منهم إذ لا معنى لوجوب الإنذار والإفتاء إن لم يقترن بوجوب العمل بمقتضاه.

(ومنها) الآيات المتقدمة في البحث القرآني في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويلزم من وجوب الأمر والنهي وجوب العمل بمقتضاهما، كقوله تعالى: «وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُ_رُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَ_ئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (آل عمران : 104) وقوله تعالى: «فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَ_نِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ

ص: 322


1- التهذيب: 6/223، ح533.

بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ» (الأعراف : 165) وقوله تعالى: «كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ» (المائدة : 79) وقد تضمنت الوعيد الشديد لمن لم يستجيبوا لداعي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقدر المتيقن من القائمين بهذه الفريضة الفقهاء.

بل إن بعض الآيات الكريمة تخص العلماء بالقيام بهذه الفريضة كقوله تعالى: «لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ» (المائدة:63).

(ثانيها) من السنة الشريفة وهي عدة طوائف من الروايات:

(منها) الروايات الدالة على وجوب أخذ الأحكام عنهم واتباع ما ينقلون منها وحرمة الرد عليهم، ففي رواية عمر بن حنظلة عن الإمام الصادق (عليه السلام) (فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما بحكم الله استخف وعلينا رد، والراد علينا راد على الله تعالى، وهو على حد الشرك بالله تعالى).

وفي معتبرة أبي خديجة (فإني قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه)، وفي التوقيع الشريف (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله) وغيرها من الروايات الدالة على وجوب ما يأمرون به من أحكام شرعية ((فإن المراد من الحكم إنفاذ ما حكم به لا مجرد الحكم من دون إنفاذ))(1)، ولسنا بحاجة الآن إلى إثبات دلالتها على ولاية الفقيه ونحو ذلك لأننا بصدد إثبات وجوب طاعة الفقيه في ما يأمر به من أحكام ثابتة بالدليل الشرعي من الكتاب والسنة ويدعو إلى تطبيقها ولسنا بصدد طاعته بالأوامر الولائية والإنشائية.

ص: 323


1- جواهر الكلام: 21/395.

(ومنها) الروايات الكثيرة الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولازمه وجوب العمل بمقتضاهما، والاستجابة لمن يدعو إليهما ويسعى لتطبيق الشريعة.(ثالثها) العقل بتقريب أن سعي الفقيه لتطبيق الشريعة لطف يقرّب الناس من الطاعة ويبعّدهم عن المعصية وهو واجب، بل يمكن أن يقال أن نفس جعل الفقهاء الجامعين للشرائط نواباً للأئمة (عليهم السلام) في زمن الغيبة لطف واجب فمساعدته عليه واجبة تبعاً لذلك من باب المقدمة أو الملازمة.

وقد استدل بدليل العقل على وجوب قيام الفقيه بتنفيذ الحدود وما يتبعه من وجوب مساعدة الناس لهم في نهضتهم عدد من الفقهاء كقول العلامة في المختلف: ((إن تعطيل الحدود يفضي إلى ارتكاب المحارم وانتشار المفاسد، وذلك أمر مطلوب الترك في نظر الشارع)) وقول الشهيد الثاني (قدس سره) في المسالك: ((فيه مصلحة كلية ولطف في ترك المحارم وحسم انتشار المفاسد)).

أقول: وتمام الاستدلال بضم مقدمتين:-

أ - عدم اختصاص التعليل بإقامة الحدود فكل الأحكام الشرعية فيها مصلحة للعباد وفي تركها مفسدة.

ب - إن كل الواجبات الاجتماعية –مقابل الفردية- لطف لا يستطيع الفقيه إجراءه لوحده إلا بمساعدة الأمة.

(رابعها) الإجماع فقد تقدم قول المحقق الأردبيلي (قدس سره) عن هذا الوجوب: ((لعله لا خلاف فيه)) وقول صاحب الجواهر (قدس سره): ((لا إشكال كما لا خلاف في وجوب مساعدة الناس لهم على ذلك على نحو مساعدتهم للإمام عليه السلام)) ونفي الخلاف هنا يعني الإجماع لتعرض الأصحاب للمسألة.

ص: 324

إن قلتَ: هذا وارد في خصوص إقامة الحدود فلا يعم تطبيق الشريعة كلها كما يقتضي عنوان البحث.

قلتُ: يوجد أكثر من شاهد على التعميم:-

أ- تجريد المورد عن الخصوصية لعموم التعليل الذي تمسكوا به وهي المعاونة على البر والتقوى وكونه لطفاً ونحو ذلك.

ب- تصريح البعض بأن وظيفة الفقيه التي يجب عليه القيام بها عند إتاحة الفرصة أوسع من قضية إقامة الحدود كما في قول سلار المتقدم (صفحة 315)، وصرّح المحقق الكركي (قدس سره) في المحكي من رسالته في صلاة الجمعة بالإجماع على عموم ولاية الفقيه، وسيأتي قوله (صفحة 329) بل إن الفقهاء ذهبوا إلى قبول ولاية الجائر إذا توقف القيام بهذه الوظائف عليها، قال الشيخ الطوسي (قدس سره) في النهاية وهو يوسّع دائرة الأمور التي يتولاها من السلطان: ((متى علم الإنسان أو غلب على ظنّه أنه متى تولّى الأمر من قبله –أي سلطان الجور- أمكنه التوصل إلى إقامة الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقسّم الأخماس والصدقات في أربابها وصلة الإخوان ولا يكون فيجميع ذلك مخلاً بواجب ولا فاعلاً لقبيح فإنه يستحب له أن يتعرض لتولي الأمر من قبلهم))(1).

أقول: هذه كلها واجبات اجتماعية من وظائف الفقيه ولا يستطيع القيام بها إلا بمساعدة الناس.

الاستدلال بأدلة ولاية الفقيه:

يضاف إلى كل ذلك ما دلّ على ثبوت الولاية العامة للفقيه، وكونه ولي الأمر ووجوب طاعته بهذا العنوان ونختصر الكلام في مقدمتين:

ص: 325


1- النهاية: 356.

(أولاهما) ما دل على لزوم طاعة ولي الأمر وهي آيات وروايات كثيرة:

كقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ» (النساء: 59) وقد قيل في وجه تكرار أطيعوا للتمييز بين نوعي الطاعة فالطاعة الأولى لله تعالى في أحكامه المبينة في الكتاب والسنة، فهذا الأمر إرشادي، وأما الثانية فهي طاعة النبي (صلى الله عليه وآله) ومن خلفه من ولاة أمور الأمة في الأوامر المولوية التي تصدر منهم بعنوان كونهم ولاة الأمر وساسة العباد، وليس باعتبارهم ناقلين ومبلّغين للأحكام الشرعية، كما لا يصدق على من يعمل بفتوى نقلها وكيل المرجع الديني بأنه أطاع الوكيل وإنما أطاع المفتي، ولسنا الآن بصدد التفصيل.

ويمكن تقريب شاهدين على ذلك:-

أ- إن من امتثل حكماً لشخص نقله شخص آخر لا يصدق عليه أنه أطاع الناقل وإنما أطاع منشئ الحكم.

ب- إن المتتبع لمصطلح (ولاية الأمر) يجد أن المراد منه ولاية أمور الأمة ورعاية مصالح البلاد.

قال الشيخ المنتظري: ((والمقصود بالأمر في الآية هو الولاية والحكومة، سميت به لقوامها بالأمر من طرف والطاعة من طرف آخر، وبهذا الملاك تسمى حكماً وحكومة، فالمراد بأولي الأمر الحكّام الذين لهم حق الأمر والنهي في سياسة البلاد وفصل الخصومات.

وتعليق وجوب الإطاعة على كونه صاحب الأمر كأنه من قبيل تعليق الحكم على الوصف، المشعر بالعلية، فالملاك في وجوب الإطاعة كونه صاحب أمر بحيث يحق له الأمر والنهي معصوماً كان أو غير معصوم))(1).

ص: 326


1- دراسات في ولاية الفقيه للشيخ المنتظري (قدس سره): 2/770.

أما الروايات فقد حفل كتاب نهج البلاغة بالكثير من كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) في الحقوق المتبادلة بين الراعي والرعية كقوله: (أيها الناس إن ليعليكم حقاً ولكم علي حق، فأما حقكم عليّ فالنصيحة لكم وتوفير فيئكم عليكم وتعليمكم كيلا تجهلوا وتأديبكم كيما تعلموا، وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين أدعوكم والطاعة حين آمركم)(1).

وفي أصول الكافي بسند صحيح عن بريد بن معاوية عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما نظر الله عز وجل إلى وليّ له يجهد نفسه بالطاعة لإمامه والنصيحة إلا كان معنا في الرفيق الأعلى)(2).

أقول: المتتبع للأحاديث يجد أن المراد بالإمام هنا السلطان العادل مقابل سلطان الجور، وفي بعض الروايات تصريح بذلك كما في وصية الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام بن الحكم قال: (وطاعة ولاة العدل تمام العز)(3).

وفي أصول الكافي أيضاً بسند صحيح عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن –تبارك وتعالى- الطاعة للإمام بعد معرفته) ثم قال: (إن الله تبارك وتعالى يقول: «مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً» (النساء:80))(4).

ص: 327


1- نهج البلاغة: 1/80، الخطبة (34).
2- الكافي: 1/404، كتاب الحجة، باب: ما أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بالنصيحة لأئمة المسلمين، ح3.
3- تحف العقول: 390.
4- الكافي: 1/185، كتاب الحجة، باب: فرض طاعة الأئمة، ح1.

والروايات كثيرة(1)

لسنا بصدد استقصائها في هذه الإشارة المختصرة.

(ثانيهما) ما دل على ثبوت الولاية العامة للفقيه وكونه ولي الأمر، وهي مسألة تحتاج إلى بحث مفصل مستقل ونكتفي هنا بنقل بعض كلمات صاحب الجواهر (قدس سره) في هذا الموضع من كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووصف دليلها بالوضوح وهو (قدس سره) لم يخرج عما حرّره المحقق النراقي في هذه المسألة في كتابه (عوائد الأيام)(2)، ويمكن تحرير عدة وجوه من كلمات صاحب الجواهر (قدس سره) للاستدلال على عموم ولاية الفقيه:(منها) الروايات كمقبولتي عمر بن حنظلة وأبي خديجة المشهورتين(3)، ثم أضاف (قدس سره): ((وقول صاحب الزمان روحي له الفداء وعجل الله فرجه في التوقيع المنقول عنه: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله) وعن بعض الكتب روايته (فإنهم خليفتي عليكم)(4)

إلى آخره .. لظهور قوله عليه السلام: (فإني قد جعلته عليكم حاكماً) في إرادة الولاية العامة نحو المنصوب الخاص كذلك إلى أهل الأطراف الذي لا إشكال في ظهور إرادة الولاية العامة في جميع أمور المنصوب عليهم فيه، بل قوله عليه السلام: (فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله) أشد ظهوراً في إرادة كونه حجة فيما أنا فيه حجة الله عليكم، ومنها إقامة الحدود، بل ما عن

ص: 328


1- راجع: دراسات في ولاية الفقيه: 2/769-780 فقد جمع كثيراً منها.
2- عوائد الأيام: 3/86، (عائدة: في ولاية الحاكم) وسار على نهجه السيد الخميني (قدس سره) في بحثه في كتاب البيع والذي طبع في كتيب مستقل عن الحكومة الإسلامية.
3- وسائل الشيعة: أبواب صفات القاضي، باب 11، ح1، والباب 1، ح5.
4- وسائل الشيعة: أبواب صفات القاضي، باب 11، ح 9.

بعض الكتب (خليفتي عليكم) أشد ظهوراً، ضرورة معلومية كون المراد من الخليفة عموم الولاية عرفاً، نحو قوله تعالى: «يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ».

كل ذلك مضافاً إلى التأييد بما دل على أنهم ورثة الأنبياء، وأنهم كأنبياء بني إسرائيل، وأنه لولاهم لما عرف الحق من الباطل، وبنحو قول أمير المؤمنين عليه السلام: (اللهم إنك قلت لنبيك صلواتك عليه وآله فيما أخبر به: من عطل حداً من حدودي فقد عاندني وطلب بذلك مضادتي) الظاهر في العموم لكل زمان، والإجماع بقسميه على عدم خطاب غيرهم بذلك، فانحصر الخطاب بهم ولو لما عرفت من نصبهم إياهم على ذلك ونحوه)).

(ومنها) الإجماع المحكي بحسب نقل المحقق الكركي، بل والمحصَّل باستقراء وتتبع الموارد التي يشترط فيها إذن الإمام نجدهم يرجعونها إلى الفقيه من دون الحاجة إلى الاستدلال على القيام مقامه فكأنه مسلّم عندهم، قال (قدس سره): ((بثبوت النيابة لهم في كثير من المواضع على وجه يظهر منه عدم الفرق بين مناصب الإمام أجمع، بل يمكن دعوى المفروغية منه بين الأصحاب، فإن كتبهم مملوة بالرجوع إلى الحاكم المراد به نائب الغيبة في سائر المواضع، قال الكركي في المحكي من رسالته التي ألفها في صلاة الجمعة: (اتفق أصحابنا على أن الفقيه العادل الأمين الجامع لشرائط الفتوى المعبر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية نائب من قبل أئمة الهدى عليهم السلام في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل)...)).

(ومنها) الضرورة، قال (قدس سره): ((وبأن الضرورة قاضية بذلك في قبض الحقوق العامة والولايات ونحوها بعد تشديدهم في النهي عن الرجوع إلى قضاة الجور وعلمائهم وحكامهم، بعد علمهم بكثرة شيعتهم في جميع الأطراف طول الزمان، وبغير ذلك مما يظهر بأدنى تأمل في النصوص وملاحظتهم حال الشيعة، وخصوصاً علمائهم في زمن الغيبة، وكفى بالتوقيع الذي جاء للمفيد من

ص: 329

الناحية المقدسة، وما اشتمل عليهمن التبجيل والتعظيم، بل لولا عموم الولاية لبقي كثير من الأمور المتعلقة بشيعتهم معطلة)).

وبناءً على ما تقدم لم يجد مبرراً للمناقشة في عموم ولاية الفقيه، قال (قدس سره): ((فمن الغريب وسوسة بعض الناس في ذلك، بل كأنه ما ذاق من طعم الفقه شيئاً، ولا فهم من لحن قولهم ورموزهم أمراً، ولا تأمل المراد من قولهم إني جعلته عليكم حاكماً وقاضياً وحجة وخليفة ونحو ذلك مما يظهر منه إرادة نظم زمان الغيبة لشيعتهم في كثير من الأمور الراجعة إليهم، ولذا جزم فيما سمعته من المراسم بتفويضهم عليهم السلام لهم في ذلك)).

ثم استثنى (قدس سره) من عموم الولاية قائلاً: ((نعم لم يأذنوا لهم في زمن الغيبة ببعض الأمور التي يعلمون عدم حاجتهم إليها، كجهاد الدعوة المحتاج إلى سلطان وجيوش وأمراء ونحو ذلك مما يعلمون قصور اليد فيها عن ذلك ونحوه وإلا لظهرت دولة الحق كما أومأ إليه الصادق عليه السلام بقوله: (لو أن لي عدد هذه الشويهات وكانت أربعين لخرجت)(1).

وبالجملة فالمسألة من الواضحات التي لا تحتاج إلى أدلة))(2).

ص: 330


1- روى في (بحار الأنوار: 28/313) عن كتاب السقيفة للجوهري ووقعة صفين لنصر بن مزاحم وغيرهما قول أمير المؤمنين (عليه السلام): (لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم) وروى الكليني بسنده عن سدير الصيرفي قال: (دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقلت له: والله ما يسعك القعود، فقال: ولمَ يا سدير؟ قلت: لكثرة مواليك وشيعتك وأنصارك) إلى أن قال: (ونظر إلى غلام يرعى جداءً فقال: والله يا سدير لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود) قال: (عطفت على الجداء فعددتها فإذا هي سبعة عشر) أصول الكافي: ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب: قلة عدد المؤمنين، ح4.
2- جواهر الكلام: 21/394-397.

أقول: استفادة هذا الاستثناء من الروايات مشكل، ولو وجد منع فهو عن القيام بالأمر من غير استعداد له، وسيأتي مزيد من التفصيل في البحث الآتي إن شاء الله تعالى، وإلا فإن الجهاد حتى الابتدائي منه للدعوة إلى الإسلام وإزالة الفتنة والموانع في طريق نشر الدين مفوَّض إلى الفقهاء الجامعين لشرائط النيابة في زمن الغيبة، ولا يختصّ الإذن به إلى المعصوم خاصة؛ لأن الروايات اشترطت إذن الإمام العادل وهو المعصومون في زمان الحضور ونوابهم في زمان الغيبة ولم تقيّد الإمام بالمعصوم أي أنها بالأساس لمنع الخروج مع سلاطين الجور، كما في رواية بشير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قلت له: إني رأيت في المنام أني قلت لك: إن القتال مع غير الإمام المفترض طاعته حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنزير، فقلت لي: نعم هو كذلك؟ فقالأبو عبد الله عليه السلام: هو كذلك هو كذلك)(1)

وعن الرضا (عليه السلام) في كتابه إلى المأمون (والجهاد واجب مع الإمام العادل)(2)، قال في الجواهر: ((بل في المسالك وغيرها عدم الاكتفاء –في الجهاد الابتدائي- بنائب الغيبة فلا يجوز له توليته، بل في الرياض نفي علم الخلاف فيه حاكياً له عن ظاهر المنتهى وصريح الغنية إلا من أحمد في الأول؛ قال: وظاهرهما الإجماع، مضافاً إلى ما سمعته من النصوص المعتبرة وجود الإمام. لكن إن تم الإجماع المزبور فذاك، وإلا أمكن المناقشة فيه بعموم ولاية الفقيه في زمن الغيبة الشاملة لذلك المعتضدة بعموم أدلة الجهاد))(3).

أقول: قد ظهر مما تقدم عدم وجود هذا المعنى في النصوص ولا في كلمات الأصحاب بل الموجود على عكس المدعى فهذا الإجماع لا أساس له، ففي المنتهى ((الجهاد قد يكون للدعاء إلى الإسلام وقد يكون للدفع بأن يدهم

ص: 331


1- وسائل الشيعة: 11/32، أبواب جهاد العدو، باب 12، ح1.
2- وسائل الشيعة: 11/32، أبواب جهاد العدو، باب 1، ح24.
3- جواهر الكلام: 21/13.

المسلمين عدو، فالأول لا يجوز إلا بإذن الإمام العادل ومن يأمره الإمام، والثاني يجب مطلقاً، وقال أحمد: يجب الأول مع كل بر أو فاجر))(1).

وعلى أي حال فلسنا بصدد مناقشة الأدلة التي ذكرها صاحب الجواهر (قدس سره) على ولاية الأمر ومدلولاتها، وقد عبّرنا عن رأينا المختار في المسألة، وثبّتناه في الرسالة العملية وقلنا بثبوت الولاية العامة للفقيه الجامع للشرائط في زمان الغيبة.

وقلنا هناك(2) أن الدليل على هذه الولاية لنائب الإمام – في حال غيبته- هو نفس الدليل على وجوب وجود الإمام نفسه، وهو حكم العقل أو العقلاء بوجوب نصب إمام ومرجع يحفظ البلاد وينظّم أمور العباد الدينية والدنيوية، وقد عبّر أمير المؤمنين (عليه السلام) عن هذا الوجوب بقوله: (لا بد للناس من أمير برّ أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلّغ الله فيه الأجل، ويجمع به الفيء، ويُقاتَل به العدو، وتأمن به السُبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح بَرٌ ويُستراحُ من فاجر) ومع ثبوت هذه اللابدّية فيلزم منها جعلها من قبل الله تعالى ولا بد أن تكون للفقيه العارف بالقانون الإلهي والقادر على استنطاق مصادر التشريع والأخذ منها وأن يكون بدرجة عالية من النزاهة وعدم الانسياق وراء أهواء النفس والترفع عن الدنيا والذوبان في الله تبارك وتعالى بحيث يعيش معه في كل وجدانه وأن يكون متخلقاً بأخلاقه تبارك وتعالى.ويؤكد هذا الحكم العقلي أو العقلائي ويرشد إليه ما ورد عن ابن شاذان عن مولانا أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في حديث قال فيه: (فإن قال فلم وجب عليهم معرفة الرسل والإقرار بهم والإذعان لهم بالطاعة، قيل له: لأنّه لما لم يكن في خلقهم وقولهم ما يكملون به مصالحهم وكان الصانع متعالياً

ص: 332


1- المنتهى: 2/899.
2- سبل السلام: 31-33.

عن أن يُرى وكان ضعفهم وعجزهم عن إدراكه ظاهراً لم يكن بُدّاً بينه وبينهم معصوم يؤدي إليهم أمره ونهيه وأدبه ويوقفهم على ما يكون فيه إحراز منافعهم ودفع مضارهم إذ لم يكن في خلقهم ما يعرفون به ويحتاجون إليه من منافعهم ومضارهم فلو لم يجب عليهم معرفته وطاعته لم يكن في مجيء الرسول منفعة ولا سد حاجة ولكان إثباته عبثاً بغير منفعة ولا صلاح وليس هذا من صفة الحكيم الذي أتقن كل شيء.

فإن قال: فلمَ جعل أولي الأمر وأمر بطاعتهم.

فقل: لعلل كثيرة منها أن الخلق لما وقفوا على حدود وأمروا أن لا يتعدوا ذلك الحد لما فيه من فسادهم لم يكن يثبت ذلك ولا يقوم إلا بأن يجعل عليهم فيه أميناً يمنعهم من التعدي والدخول فيما حظر عليهم لأنّه إن لم يكن ذلك كذلك لكان أحدٌ لا يترك لذته ومنفعته لفساد غيره، فجعل عليهم قيّماً يمنعهم من الفساد ويقيم فيهم الحدود والأحكام.

ومنها أنّا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملة من الملل عاشوا وبقوا إلا بقيّم ورئيس لما لا بد لهم من أمر الدين والدنيا فلم يجُز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق مما يعلم أنّه لا بد لهم ولا قوام لهم إلا به فيقاتلون به عدوهم ويقسمون به فيئهم ويقيم لهم جمعتهم وجماعتهم ويمنع ظالمهم من مظلومهم.

ومنها أنّه لو لم يجعل لهم إماماً قيّماً أميناً حافظاً مستودعاً لدرست الملة وذهب الدين وغيّرت السنة والأحكام ولزاد فيه المبتدعون ونقص منه الملحدون وشبّهوا ذلك على المسلمين، لأنّا قد وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كاملين مع اختلافهم واختلاف أهوائهم وتشتت أنحائهم فلو لم يجعل لهم قيّماً حافظاً لما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) لفسدوا على نحو ما بيّنّا وغُيّرت الشرائع والسنن والأحكام والإيمان وكان في ذلك فساد الخلق أجمعين) (1).

ص: 333


1- سبل السلام 31-33.

لكن الفقيه الذي قلنا بثبوت الولاية العامة له لما كان غير معصوم ولا يتلقى علمه اللدني من الله تبارك وتعالى كالمعصوم وليس مطلعاً على الملاكات الواقعية من المصالح والمفاسد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الصلاحيات التي تقتضيها ولايته قد تتسع حتى تبلغ ممارسة السلطة والحكم، فإنه لا يمكن التعاطي مع ولاية الفقيه كما نتعاطى مع ولاية المعصوم (عليه السلام) المطلقة لذا كان نفوذ ولايته ووجوب طاعته في الأوامر الولائية مشروطاً ومحدوداً، فالكلام في جهتين:الجهة الأولى: الشروط (ومنها) ما يعود إلى ذات الفقيه وهي شروط مرجع التقليد وزيادة تقتضيها خطورة الوظيفة التي يتصدى لها وهي قيادة الأمة فيجب:-

1- أن يكون ذا فطنة حتى لا يخدع أو يُستغفل أو تنطلي عليه أساليب المكر والخداع.

2- أن يكون شجاعاً قوي القلب حتى لا يتردد في اتخاذ القرارات الصعبة التي تتطلبها المسؤولية.

3- أن يكون ذا خبرة بشؤون الأمة مطلعاً على مجريات الأحداث حتى لا تلتبس عليه الأمور فيفرط في حقوق الأمة، ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام): (العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس)(1).

4- أن تتوفر فيه الصفات التي ذكرتها الآيات والروايات كقوله تعالى: «لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ» (التوبة:128) بأن يكون شفيقاً على الأمة ورؤوفاً بها ومنصفاً للناس وحريصاً عليهم.

ص: 334


1- تحف العقول: 356، الكافي: 1/27.

5- أن يكون على درجة عالية من الورع والتقوى وإنصاف الناس ليجعل الله تعالى له نوراً يميّز به القرار الصائب ويمنعه من التخبّط والعشوائية، ويعرف من خلاله الملاكات الواقعية للأحكام، قال تعالى: «إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً» (الأنفال:29) وقال تعالى: «وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً» «يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً» (الطلاق:2، 4).

(ومنها) ما يعود إلى غيره، كالذي قلته في الرسالة العملية: ((لا يفرض الفقيه ولايته على الأمة بالإكراه أو الادعاء كما ينقل عن البعض أن الفقيه إذا بسط ولايته وجبت طاعته، وإنّما يشترط تحقق إرادة الأمة واقتناعها بولايته، نعم، لا نقصد بالأمة كل الأمة ولا يتم اختيار الولي الفقيه بالانتخابات العامة لكل الناس وإنّما نقصد بالأمة أهل الخبرة والاختصاص منها في هذا المجال وهم العلماء وكبار وأساتذة الحوزة العلمية الشريفة المتصفون بالورع والنزاهة والإنصاف والمعرفة بمتطلبات العمل الاجتماعي وتطبيق المشروع الإسلامي المبارك))(1)، فتوضع آلية لتشكيل هيئة أو مجلس لأهل الخبرة بالمواصفات المذكورة، وإذا شهد هؤلاء لفقيه بالأعلمية والخبرة والكفاءة لولاية أمور الأمة وكان لهم حضور قوي في الحوزة العلمية فمن الطبيعي أن تكون القاعدة الشعبية المؤمنة بقيادة هذا الفقيه واسعة بالدرجة التي تمكّنه من قيادة مشروع الإسلام العظيم.وقلت أيضاً في بعض أحاديثي: ((ويدل على هذا الشرط باختصار قوله تعالى: «لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ» فلا يستطيع الفقيه فرضها على الأمة حتى ولو كان مستحقاً لها ثبوتاً وواقعاً، وتدل السيرة العملية للمعصومين (عليهم السلام) على أنهم لم يُعملوا ولايتهم العامة لشؤون الأمة –مع أنها ثابتة لهم واقعاً- إلا

ص: 335


1- سبل السلام: 33، المسألة (32).

بعد أخذ البيعة من الناس على السمع والطاعة، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يُعمل ولايته لشؤون الناس ولم يقِم دولته المباركة في مكة وإنما أقامها في المدينة بعد أن بايعه أهلها على السمع والطاعة في بيعة العقبة الأولى والثانية وأن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأموالهم، بل تجد أن التكاليف الاجتماعية المرتبطة بظروف التمكين –كالجهاد وإقامة صلاة الجمعة- لم تنزل عليه (صلى الله عليه وآله) في مكة لأنها ظروف استضعاف، وكذا أمير المؤمنين فإنه ما تصدى للخلافة إلا بعد أن ازدحم الناس على بيعته بعد مقتل الخليفة عثمان وقال (عليه السلام) مشيراً إلى هذا الشرط (أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز)(1)

فلا يكفي ادعاء الولاية ولا بسطها من دون إرادة الأمة.

وبهذه الالتفاتة الدقيقة نحل جملة من الإشكالات حول ولاية الفقيه كمسألة تعددهم في مجتمع واحد أو بسط ولاية فقيه مقيم في بلد على بلد آخر أو ما يحلو للبعض أن يقول أنه إذا ادعاها فقيه وجب على الآخرين طاعته والانقياد له لأن هذه الأمور ستحسم بقرارات من هيأة أهل الخبرة))(2).

فأثر هذه البيعة في زمان المعصوم (عليه السلام) أخذ العهد على الناس بأن يطيعوه وينصروه لأنه مأمور بالعمل بالوسائل الطبيعية وليس بالإعجازية على نحو (كن فيكون).

أما البيعة في زمان الغيبة والنيابة عن المعصوم فهي ضرورية لأكثر من أمر:-

ص: 336


1- نهج البلاغة: 1/36، الخطبة الشقشقية.
2- خطاب المرحلة: 4/448.

1- لاكتشاف الفقيه الجامع لشروط ولاية أمر الأمة باعتباره غير معيّن بالنص الخاص.

2- ولتقديمه إلى الأمة بهذا العنوان الذي يثبت وجوب طاعة المتصف به لتتحمل مسؤوليتها في طاعته ونصرته.

3- ولقطع الطريق أمام من يدّعي هذا الموقع الشريف الخطير.

4- وليتمكن من تطبيق الشريعة باختيار الناس وإرادتهم من دون قهر أو عنف أو قسر، بعد أن التزموا له بالطاعة والمتابعة.

الجهة الثانية: في حدود ولاية الفقيه والأُطُر العامة لها هي:-

1- كل ما فوّضه المعصومون (عليهم السلام) الى نوابهم وتقتضيه وظيفتهم الفقهية كالإفتاء والقضاء.

2- أو كان من وظائف ولي الأمر باعتباره راعياً للأمة وسائساً لأمور الناس من دون خصوصية للمعصوم في ممارستها، والتي يتعذر على الإمام المعصوم والحجة الغائب (عجل الله فرجه) القيام بها مباشرة لمنافاتها لمقتضى المصلحة الإلهية بإخفاء أمره على الناس.

3- ما يرجع إلى تدبير شؤون الناس ديناً ودنياً بحيث لا يرضى الشارع المقدس والعقلاء بإهمالها وتعطيلها ودلّ الدليل على اهتمام الشارع المقدس بإيجادها في الخارج مما يسمى بالأمور الحسبية والقدر المتيقن من المخاطبين هم الفقهاء.

وإنما قلنا بأن لها حدوداً للتقليل من المبالغة التي وردت في كلمات البعض كقول السيد الخميني (قدس سره): ((لكل منهم –أي الفقهاء- الولاية على أمور المسلمين، من بيت المال إلى إجراء الحدود، بل على نفوس المسلمين إذا اقتضت الحكومة التصرف فيها، فيكون لهم في الجهات المربوطة بالحكومة،

ص: 337

كل ما كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمة من بعده صلوات الله عليهم أجمعين))(1).

أقول: هذه السعة في ولاية الأمور حتى على النفوس فيها مجازفة لأن عمل الحكومة مبني على المصالح المظنونة لعدم العلم بالملاكات الواقعية، ولم يثبت أن المصالح المظنونة التي يتوصل إليها غير المعصوم مبرِّرٌ كافٍ للتصرف في النفوس أو الأعراض أو الأموال لمجرد اقتضاء عمل الحكومة ذلك من دون دخولها في عنوان معلوم الحكم شرعاً، فهل يحق للولي الفقيه أن يأمر بذبح الهدي عن الحجاج في بلدانهم للاستفادة من لحومها بدل هدر ملايين الأضاحي في منى لوجود مصلحة في ذلك؟ وهل له أن يأمر بقتل شخص أو طلاق امرأة لأن المصلحة تقتضي ذلك؟ كما يصور بعض القائلين بالولاية العامة بأن له أن يطلق زوجة فلان ويأخذ أموال فلان من دون أن يسأل عن السبب لأنه ولي هذه الأمور كما سنبين إن شاء الله.

فالقول بهذا المستوى من التفويض للفقهاء يحتاج إلى قوة قلب واطمئنان إلى حصول نور الفرقان في القلب ليميز بين الحق والباطل حتى يتبين له أنه الحق في كل قرار وموقف وإجراء، قال تعالى: «يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً» (الأنفال: 29) فقوله (قدس سره): ((بل على نفوس المسلمين إذا اقتضت الحكومة التصرف فيها)) ثابت للمعصومين (عليهم السلام) وإن لم يحدث ولا في واقعة واحدة صدور تصرف منهم (عليهم السلام) في النفوس أو الأعراض أو الأموال بمقتضىولايتهم محضاً أي ولو من دون انطباق عنوان أحد القوانين الشرعية المعمول بها ظاهراً، فالنبي (صلى الله عليه وآله) أمر بقلع عذق سمرة لكن لأنه أصبح مضاراً ومنع (صلى الله عليه وآله) من إقطاع الأراضي واختصاص الماء مراعاة للعدالة، والإمام الهادي

ص: 338


1- كتاب البيع: 2/625 في بحث الحكومة الإسلامية وولاية الفقيه.

(عليه السلام) امر بقتل فارس بن حاتم لكن لأنه كان فتّاناً مبتدعاً(1)

ولم تحصل حالة مثل قتل العبد الصالح للغلام والذي كان بالولاية محضاً التي منحها الله تبارك وتعالى له مما أوجب اعتراض النبي موسى (عليه السلام)، نعم توجد حالات مماثلة كأمر النبي (صلى الله عليه وآله) بقتل ذي الثدية حرقوص بن زهير لأنه سيمرق من الدين ويقود الخوارج إلا أن القتل لم يقع، وكأمر الإمام الصادق (عليه السلام) أبا هارون المكفوف أن يدخل التنور إلا أنه لم يحترق، وجعلت النار برداً وسلاماً.

وللإنصاف فقد وجدنا في كلمات السيد الخميني (قدس سره) ما يشير إلى أنه لا يلتزم بهذه السعة لولاية الفقيه وإن هذه الصلاحيات خارجة تخصصاً لعدم شمول دليل ولاية الفقيه لها. قال (قدس سره): ((إن ما ثبت للنبي (صلى الله عليه وآله) والإمام (عليه السلام) –من جهة ولايته وسلطنته- ثابت للفقيه، وأما ما ثبت لهم من غير هذه الناحية فلا.

فلو قلنا: بأن المعصوم (عليه السلام) له الولاية على طلاق زوجة الرجل، أو بيع ماله، أو أخذه منه ولو لم تقتضه المصلحة العامة، لم يثبت ذلك للفقيه ولا دلالة للأدلة المتقدمة على ثبوتها له حتى يكون الخروج القطعي من قبيل التخصيص))(2).

أقول: وبذلك ينحصر الخلاف معه (قدس سره) في أنه (قدس سره) يرى أن الولي الفقيه له النظر المستقل في تقدير المصلحة العامة، وأن نظره كافٍ عنده (قدس سره) لإعمال ولايته واتخاذ الإجراء المناسب، ونحن لا نقول بكفايته لعدم علم الفقيه بالمصالح الواقعية إلا أن يندرج الإجراء في أحد القوانين التي سنذكرها وهي واسعة جداً، فيستكشف من انطباق بعض تلك العناوين عليه

ص: 339


1- راجع الرواية في وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 47، ح1.
2- كتاب البيع:2/654.

وجود المصلحة فيه، ومنها على سبيل المثال الضرر ففرق بين أن نشق شارعاً وما يستلزمه من هدم دور الناس واستملاك أراضيهم من أجل مصلحة تراها الحكومة أو أن نفعل ذلك لدفع ضرر وحرج على الناس إن لم ننفذ هذا المشروع أو اتخاذ قرار بمنع الحج فتارة يكون لتحقيق مصلحة سياسية معينة، وأخرى لوقاية الحجاج من خطر أمني محدق بهم أو وباء قاتل ونحو ذلك، فالثاني –في المثالين- مسوِّغ دون الأول بناءً على ما ذكرناه.

فالفقهاء وإن كانوا نوّاباً عن الأئمة (عليهم السلام) في ولاية أمور الأمة وفوّضوا لهم صلاحياتهم إلا أن ذلك ليس في كل شيء كأن يقول الفقيه أن المصلحةتقتضي كذا بغض النظر عن وجود عنوان شرعي ينطبق عليه فضلاً عن كونه على خلاف الأحكام الثابتة شرعاً(1).

ونستطيع تقريب عدة وجوه للاستدلال على هذا التحديد والتأطير لصلاحيات الولي الفقيه:-

ص: 340


1- كالروايات التي تتحدث عن تعليق وجوب دفع الخمس حتى إشعار آخر أو تغيير مقداره إلى نصف السدس لمراعاة أوضاع الشيعة كما في رواية علي بن مهزيار (وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس، باب 8، ح4) أو تغيير نوع الكفارة بحسب الظروف كالذي ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في رجل يكون عليه بدنة واجبة في فداء، قال: إذا لم يجد بدنة فسبع شياه) الحديث (وسائل الشيعة: 14/201 أبواب الذبح، باب 56، ح1) إذا افترضنا أنه إجراء مولوي لقضية واقعة في الخارج وليس تبليغاًً لحكم شرعي في البديل، فهنا تقتضي المصلحة العامة شيئاً، فالمعصوم (عليه السلام) يستطيع هنا أن يشرِّع البدائل أو يتصرف في الحكم الأولي، لكن الولي الفقيه لا يرى من صلاحياته إجراء هذه التصرفات من دون دليل شرعي، كما لا يستطيع منع الحجاج من ذبح الهدي في منى وإلزامهم بالذبح في بلدانهم للاستفادة من مئات آلاف الماشية وفيها مصلحة أكيدة.

1- نفس ما استدلوا به على ولاية الفقيه كمقبولة عمر بن حنظلة فإن فيها (فإذا حكم بحكمنا) ومشهورة أبي خديجة (اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا) والتوقيع الشريف (فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا) وكلها تتضمن وجود شاهد من النصوص الشرعية المأثورة على ما يحكم به الولي الفقيه.

مضافاً إلى أحاديث أخرى كقول أمير المؤمنين (عليه السلام) لابن عباس: (والله لَهِيَ –أي النعل البالي- أحبّ إليَّ من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً –أي شريعة الله وأحكامه- أو أدفع باطلاً)(1)

وهو ما سوى ذلك من الظنون التي لا تغني من الحق شيئاً.

2- الأصل: فإنه عند الشك في جريان ولاية الفقيه وعدمه في موردٍ ما فإن الأصل يقتضي العدم لما أسسناه من أن الأصل عدم ولاية أحد على أحد إلا ما جعله الله تبارك وتعالى والمفروض عدم ثبوته.

3- إن التصرف من دون عنوان شرعي أي إعمال الولاية لمجرد المصلحة قد يحرم بالعنوان الثانوي.

قال سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره): ((مثلاً إذا كان ينتج من التصرف مفسدة عامة أو إيقاع شك في العقيدة أو ضرر شخصية بليغ بلا مبرر شرعي أو عقلائي فيكون ذلك التصرف حراماً عليه)) وأوجب (قدس سره) الضمان إذا ثبت عدم المبرر، قال (قدس سره): ((فلو قلنا بجواز إتلافه –أي الولي الفقيه- لأموال الغير بلا مبرر لم نقبل ببراءة ذمته للمال المضمون، بل يجب عليه دفع مثله أو قيمته إلى صاحبه))(2).

ص: 341


1- نهج البلاغة: خطبة (33).
2- ما وراء الفقه: 9/38.

4- إن جعل المصلحة مصححاً للفعل يسوقنا إلى تأسيس قواعد وفروع نسلّم ببطلانها كقانون (الغاية تبرر الوسيلة) وقد أثبتنا عدم مشروعيته، وقد ثبت في علم الأصول بطلان الاستحسان والمصالح المرسلة كمستند للحكم الشرعي.

نعم يمكن جعل المصلحة أساساً للعمل إذا صححناها بأحد الإجراءات التالية:

أ- أن نقصد بها معنى صحيحاً كقول أستاذنا الشهيد الصدر الثاني (قدس سره): ((ونقصد بالمصلحة العامة: تلك الأمور العامة والاجتماعية التي يتعذّر على الأفراد القيام بها باستقلالهم أو قل بدون توجيه مركزي أو قيادي أو إدارة عامة كالجيش والشرطة والسجون والصحة العامة والمدارس وغيرها كثير))(1)

لكن هذا المعنى خلاف الظاهر.

ب- أن يراد بالمصالح العامة المقطوع بها وليست الحدسية والمظنونة.

ج_- أن يكون مورد مراعاتها الأمور الإجرائية التنفيذية وليس بناء أصل القرار عليها كمشاورة النبي (صلى الله عليه وآله) أصحابه قبل معركة أحد في أن الأصلح التحصّن بالمدينة أم الخروج لملاقاة مشركي قريش.

موارد إعمال ولاية الفقيه:

يمكن تحليل الأطر العامة التي ذكرناها آنفاً إلى خطوط عريضة لولاية الفقيه منها:-

ص: 342


1- ما وراء الفقه: 9/39.

1- موارد الولاية الخاصة التي اتفق عليها الفقهاء وتسمى بالأمور الحسبية كرعاية أموال المفقود والقاصر وطلاق الممتنع وإرث من لا أرث له.

2- الواجبات التي سميناها بالاجتماعية كإقامة الجمعة والحدود وتنصيب القضاة وإعلان الجهاد وفرض التجنيد الإلزامي، وقبض الأموال العائدة للإمام وصرفها في مواردها.

3- اتخاذ الموقف الواضح من الشبهات الموضوعية والموضوعات المستنبطة التي لها مساس بدين الناس ودنياهم لجمع أمر الناس ومنع التنازع كتحديد أوائل الشهور وكانتهاك المقدسات والاعتداء على بيضة الإسلام الموجب للدفاع المسلح.

4- ولاية الأمور ذات النفع العام كالأوقاف العامة ومؤسسات الدولة والأموال العامة فلا يجوز التصرف فيها إلا بإذنه لضمان استعمالها فيما خصصت له من إعمار البلاد وصلاح العباد، فلو قررت الحكومة والبرلمان شيئاً ما ولم يحظ بموافقة الولي الفقيه فإنه غير نافذ.

5- ما فيه حفظ النظام الاجتماعي العام وتيسير أمور معيشة الناس كوضع القوانين المكلفة بذلك وكإجبار المحتكر على البيع وتسعير السلع الضرورية إذا أجحفت أسعارها بالناس ومحاسبة الفاسدين والمقصرين والأمر بإنشاء مؤسسات الدولة كالجيش والشرطة والمحاكم والسجون والوزارات الأخرى وبناء المستشفيات والجسور والمدارس وسائر المؤسسات الخدمية وشق الطرق ويمنح الإذن في استصلاح الأراضي وإحياء الموات واستخراج المعادن ذات المالية العامة بالكيفية والشروط التي تحفظ حقوق الناس جميعاً في الجيل الموجود والأجيال الآتية، أما مباشرة أو بمنح الشرعية للسلطة الحاكمة، قال الشيخ كاشف الغطاء (قدس سره): ((ولو نصب الفقيه المنصوب من الإمام بالإذن العام سلطاناً أو حاكماً لأهل الإسلام لم يكن من حكام الجور كما كان ذلك

ص: 343

في بني إسرائيل فإن حاكم الشرع والعرف كليهما منصوبان من حكم الشارع))(1).

6- دفع الضرر عن الناس في الحاضر والمستقبل كتوسيع الطرق الضيقة وهدم الأبنية الآيلة للسقوط ومنع التصرفات المضرّة بالآخرين كما في قضية عذق سمرة بن جندب تطبيقاً لحديث (لا ضرر ولا ضرار).

7- مراعاة الأولويات ودرء المفاسد وحفظ المصالح العليا المقطوع بها كوحدة الشعب وحريته وكرامته واستقلال البلاد والتحفظ على ملاكات الأحكام وتقديم الأهم على المهم في موارد التزاحم مراعياً رضا الله تبارك وتعالى وصلاح العباد، كتحريم المجدد الشيرازي (قدس سره) لتناول التبغ لقطع يد الأجنبي عن بلاد المسلمين وثرواتهم، وكفرض الضرائب على السلع المستوردة لحماية المنتوج الوطني، أو منع تهريب الثروة الحيوانية إلى خارج البلاد لمنع ارتفاع أسعارها المجحف بالعامة.

8- التدخل لضمان تفسير وتطبيق القوانين بشكل عادل ورحيم لأن التطبيق الحدّي قد يظلم أو يجحف، وشرحنا له مثالاً حرمان أولاد الولد المتوفى في حياة أبيه من الميراث إذا كان لهذا الجد أولاد مباشرون تطبيقاً لقاعدة (الأقرب يمنع الأبعد) مع أنها قاعدة عادلة في نفسها.

9- إسقاط الحقوق والأحكام العامة إن وُجد المسوِّغ لذلك كإسقاط الحدود وإصدار العفو العام عن السجناء ونحو ذلك.

10- استخدام الوسائل المتاحة لتطبيق الشريعة الإسلامية في كل شؤون الحياة والسعي لتوسيع دائرتها تحت عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة الى الله تبارك وتعالى وتبليغ الرسالة، ومنها المشاركة في العملية

ص: 344


1- شرح القواعد: 99.

السياسية أو من خلال التأثير على الحكومة أو البرلمان لسنّ القوانين الصالحة وإلغاء الفاسدة وبذل الوسع في التقدم بالوسائل المتاحة «وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» (العنكبوت:69) حتى تصل إلى تأسيس حكومة الإسلام، وقد ذهب السيد الخميني (قدس سره) إلى وجوب هذا التحرك، قال (قدس سره): ((فإقامة الحكومة وتشكيل أساس الدولة الإسلامية، من قبيل الواجب الكفائي على الفقهاء العدول، فإن وُفّق أحدهم لتشكيل الحكومة يجب على غيره الاتباع، وإن لم يتيسّر إلا باجتماعهم يجب عليهم القيام مجتمعين))(1).

وذكر في وجه ذلك ما يقرب مما نحن بصدده قال (قدس سره): ((إن الأحكام الإلهية –سواء الأحكام المربوطة بالماليات أو السياسيات أو الحقوق- لم تنسخ، بل تبقى إلى يوم القيامة، ونفس بقاء تلك الأحكام يقضي بضرورة حكومة وولاية تضمن حفظ سيادة القانون الإلهي، وتتكفل بإجرائه، ولا يمكن إجراء أحكام الله إلا بها، لئلا يلزم الهرج والمرج))(2).

وخلاصة النقاط المتقدمة أن ولاية الفقيه ليست عنواناً مستقلاً لإنشاء الأحكام طبقاً للمصالح ويكون حاكماً على العناوين الأولية كحكومة عنوان التقية والضرر والحرج- كما حكي عن السيد الخميني(3)

وتلميذه الشيخ

ص: 345


1- كتاب البيع: 2/642 بحث ولاية الفقيه والحكومة الإسلامية.
2- كتاب البيع:2/619 بحث ولاية الفقيه والحكومة الإسلامية.
3- نقل السيد كاظم الحائري (دام ظله) في كتابه (المرجعية والقيادة:165) قول السيد الخميني (قدس سره): ((إن الحكم الولائي يتقدم حتى على الأحكام الأولية)) وقال في شرحه: ((فلا يختص حكم الولي بالأحكام الثانوية ودائرة المباحات بل يتعداها ويتقدم حتى على الأحكام الإلزامية الأولية)) كالأمر بمخالفة الحكم الشرعي أو إيقاف العمل بالواجب الشرعي، وحاول أن يجيب عن إشكال الأمر ببيع الدار من دون رضا المالك ومنع الحج مع توفر الاستطاعة فلم تغنِ إجابته من جوع، لكنه (دام ظله) رجع وفسَّر قول السيد الخميني (قدس سره) بالحدود التي ذكرناها فقال: (صفحة 168): ((ليس مقصوده (قدس سره) أن للفقيه الحق مثلاً في إسقاط أصل الصلاة أو الصوم أو الحج عن الناس، بل له حق تشخيص التزاحمات بين الأحكام الأولية في القضايا الاجتماعية عند وقوعها، ومن ثم له حق تشخيص الأولويات منها وتقديمها على غيرها)) وهذا ينافي ما ذكره أولاً لأن التصرف كان ضمن العنوان الثانوي الموجب للتزاحم، فيدخل في الحدود التي ذكرناها لصلاحيات الولي الفقيه. ونترك التفصيل إلى بحث مستقل عن ولاية الفقيه إن شاء الله تعالى.

المنتظري (قدس اللهسريهما)- وإنما هو تطبيق للأحكام الأولية والثانوية والعمل في إطارها ويستمد صلاحياته منها.

إن قلتَ: إن إجراء الأحكام الشرعية والعمل بمقتضى العناوين الثانوية من صلاحيات كل المكلفين ولا يختص بالفقيه كالتقية والضرر والحرج والاضطرار ونحو ذلك فما فرق الفقيه حينئذٍ عن غيره.

قلتُ: الفروق عديدة:-

1- إن أخذ المكلف بالعناوين الثانوية يكون في الأمور الشخصية أما الأمور العامة كالإضرار بالصالح العام فليس لسائر الناس تشخيصها أو اتخاذ الإجراء بإزائها إلا بإذن الولي الفقيه وإلا لزمت الفوضى.

2- إن تحقق العناوين الثانوية في الحالات العامة مما لا يتيسّر معرفته لآحاد الناس لعدم معرفتهم بسائر الحيثيات الدخيلة وحصول التزاحم بينها فيكون تحديدها من قبل الولي الفقيه.

ص: 346

آثار قيام الفقيه بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

إن قلتَ: ما الخصوصية في تصدي الفقيه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى خُصَّ بالبحث ووجوب المساعدة والمفروض أن الوجوب شامل للجميع؟

قلتُ: تقدم في الفصل الخاص بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه شامل للجميع ولكن لكلٍ بحسبه فالحديث عن الوجوب على العلماء وما يلزمه من وجوب مساعدة الأمة، لا يلغي دور الأفراد في ممارسة الوظيفة في المساحة التي يستطيعون العمل فيها.

لكن الفقيه له دور واسع وعليه وجوب أأكد لعدة خصوصيات:-

إن بعض المنكرات تتحول الى ظاهرة وحالة عامة فتخرج عن قدرة الفرد على إزالتها كما أن بعض موارد المعروف التي سميناها بالواجبات الاجتماعية لا يسع الفرد والأفراد القيام بها إلا بقيادة الفقيه، وكأن الوجوب متعيّن به وبالمؤسسة المكلفة من قبله بالتصدي لها، وهو أحد الوجوه التي حملنا عليها1- رواية مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سمعته يقول وسئل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أواجب هو على الأمة جميعاً؟ فقال: لا، فقيل له: ولم؟ قال: إنما هو على القوي المطاع العالم بالمعروف من المنكر)(1).

2- إن المجتمع ينتظر من الفقيه القيام بهذه الوظيفة لأنه يراها من مسؤوليته قبل أي أحد أما لأن الفقيه أعرف الناس بالمعروف والمنكر وكيفية التعاطي معهما، أو لأنه يراه قائداً له ولا يتحرك الناس إلا تبعاً لقيادتهم، أو لأن الثقافة الشيعية التي انتجها التقليد للمرجعية أورثت

ص: 347


1- وسائل الشيعة، أبواب الأمر والنهي، باب 2 ح12.

معقد إجماع عبّر عنه السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) بقوله: ((لا تقولوا قولاً ولا تفعلوا فعلاً إلا بعد مراجعة الحوزة الشريفة))، أو لأنهم يخشون من تحمل التبعات الدينية والدنيوية إذا أخطأوا التقدير فيتوقفون عن العمل حتى اشتهر بينهم مثل تحويره بالفصحى (اعصبها برأس عالم واخرج منها سالم) بينما يمتلك العالم الشجاعة الكافية لتحمل المسؤولية.

3- ان الوجوب وإن كان عامّاً للجميع إلا أن القدر المتيقن من المخاطبين به وأول من يتوقع منهم المبادرة الى امتثال هذا الواجب هم العلماء لذا ورد التأكيد عليهم وشددت الآيات الكريمة الوعيد عليهم إذا تقاعسوا مع أن الوجوب شامل للجميع، قال تعالى: «لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ» (المائدة:63)، «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» (آل عمران:104)، وفي المحاسن والكافي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (إذا ظهرت البدع في امتي فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله)(1). وفي عيون الأخبار بسنده عن يونس بن عبد الرحمن قال: (روينا عن الصادقين (عليهم السلام) أنهم قالوا: إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه، فإن لم يفعل سُلب نور الإيمان)(2).

4- ان العلماء يحظون بحب الناس واحترامهم الى حد التقديس لميل الناس فطرياً الى الدين والى من يحمل شعاره ويقوم عليه، ولأنهم لمسوا من المرجعية والحوزة العلمية إجمالاً تضحية في سبيل إصلاحهم وعزتهم وكرامتهم، فهذه المكانة للعلماء في قلوب الناس تعطي زخماً كبيراً

ص: 348


1- وسائل الشيعة، أبواب الأمر والنهي، باب 40 ح1.
2- وسائل الشيعة، أبواب الأمر والنهي، باب 40 ح9.

لوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويزيد من فرص نجاحها وتأثيرها.

5- إن ورع العلماء وزهدهم وترفعهم عن الدنيا يجعلهم أبعد ما يكون عن الاتهامات التي تلصق بالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر فتعيق حركته وتضع الحواجز عن قبول أمره ونهيه كالاتهام بحب الشهرة والظهور أو العداء الشخصي أو الرياء والنفاق أو الجهل ونحو ذلك، أما إذا خرج الأمر والنهي من العالم ومن قلب صادق فسيتلقاها الآخر بالقبول بل وبالشكر لأنه يعتقد أن هذا الفعل صدر لمصلحته ولإصلاحه.

6- إن العلماء أكثر وعياً وتقديراً للمخاطر ولعواقب الأمور فقد يتصور غير العالم أن في هذا الأمر والنهي صلاحاً وتظهر النتيجة على عكس ذلك؛ لأن العملية لها قيودها وشروطها وظروفها، كما أن العلماء أكثر حرصاً على صلاح الأمة وصيانة الدين من أي انحراف «عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ» (التوبة:128) فيكون العالم هو صاحب المبادرة في القيام بهذه الوظيفة.

7- إن العلماء يمتلكون أدوات تنفيذية لا تيسّر لغيرهم فلديهم الاتباع والأموال والمؤسسات وأهم من ذلك سلطة الفتوى الدينية فهم أوضح مصاديق الممكنين في الأرض الذين أشارت اليهم الآية الكريمة: «الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ» (الحج:41)، فمن أبرز وظائفهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الزخم الإضافي لوجود الفقيه في السلطة أو تأثيره فيها:

هذا بغض النظر عن تمكن الفقهاء من السلطة أو تأثيرهم فيها بشكل من الأشكال وتصدّيهم لولاية الأمر، فإن هذا يعطي زخماً جديداً لقيامهم بهذه الوظيفة الإلهية من عدّة جهات:

ص: 349

1- ما قيل في المثل المعروف (الناس على دين ملوكهم) فإن الكثير من الناس لهم سلوك جمعي باتباع السلطة واتخاذ طريقتها في الحياة لانبهارهم بها أو لأنهم يعتقدون أن الدنيا بأيدي السلطة وهم كما وصفهم الإمام الحسين (عليه السلام): (عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت به معائشهم) فيرون أن معائشهم بيد السلطة خصوصاً إذا كانت قوية ومؤثرة في الحالة المعيشية والاجتماعية والثقافية للناس.

فإذا كانت السلطة صالحة ووظفت هذه القوة للهداية والإصلاح كانت سبباً رئيسياً لصلاح الأمة وهذا وجه لفهم الحديث الشريف عن النبي (صلى الله عليه وآله): (صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي: الفقهاء والأمراء)(1).

2- إن التمكن من السلطة يوفر فرصاً جديدة للإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال تسخير وسائل الإعلام ومؤسسات التربية والتعليم وإنشاء المراكز الإصلاحية والاستفادة من القوة العسكرية والأمنية والاستخباراتية وإقامة الدورات لإصلاح الفرد والمجتمع بالدولة.

3- إن وجود تأثير للفقيه بنحو ما على السلطة يعطي مجالاً واسعاً لبناء هرم صالح من القادة والموظفين والإداريين مما يمنع أصل وجود المنكر ويقلل من ثغرات الفساد والانحراف ويجعل هم الحكومة إعمار الحياة وإصلاح العباد وتتسع دائرة الصلاح لتشمل كل هيكلية الدولة حتى الوحدات الصغيرة وتمتد إلى عموم المجتمع.

ص: 350


1- الخصال: 32، باب الاثنين، ح12.

4- إن جملة من أحكام الشريعة لا يمكن إقامتها إلا مع القدرة وبسط اليد وتكتمل من خلال السلطة والحكم كإقامة الحدود أو تنفيذ العقوبات وإلزام الخصوم بالرضوخ للحق وسن القوانين المطابقة للشريعة ومنع المظالم والمخالفات العامة وحفظ مصالح وحقوق الناس والتوزيع العادل للثروات والمعادن وإصلاح الأراضي ونحو ذلك.

وفي الحقيقة فإن تأثير النفوذ السياسي لقادة الإسلام على انتشاره وصلاح حال الأمة مما لا يحتاج إلى استدلال والشواهد التأريخية كثيرة، وتستطيع ملاحظة أن كل ازدهار للإسلام والتشيع كان مقترناً بفترة رخاء سياسي فالنبي (صلى الله عليه وآله) كان في مكة في حالة استضعاف ولم يؤمن بدعوته المباركة طيلة ثلاث عشر سنة في مكة إلا عشرات لكنه لما فتحت له المدينة وانطلق في قيادته المباركة عمّ الإسلام الجزيرة العربية وتخوم فارس والروم خلال سنوات.

والعصر الذهبي للتشيع في زمان الشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي (قدس الله أرواحهم) وكان مقترناً مع وجود الدولة البويهية التي تظهر التشيع، ولما سقطت على أيدي السلاجقة الطائفيين حصلت الفتنة والعدوان وترك الشيخ الطوسي بغداد وفرّ إلى النجف وتفرقت الحوزة العلمية المزدهرة.

وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دليل على وجوب العمل السياسي لإقامة حكم الإسلام:

ولأجل أن بعض مستويات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبعض موارده لا يمكن القيام بها إلا من خلال النفوذ والتأثير في السلطة الحاكمة جعلتُ العمل السياسي وصولاً إلى إقامة الحكم الصالح واجباً على المؤهلين له بالوسائل المتاحة التي تختلف بحسب اختلاف الظروف السياسية للبلاد؛ لأن وجوب العمل السياسي يكون لازم وجوب تلك التشريعات، أو أن وجوبه مقدمي لأجل إقامة هذه الأحكام الإلهية التي ما شرّعها الله تبارك وتعالى لكي

ص: 351

يعمل بها عدة سنوات في زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم تعطَّل الى عصر الظهور، وإنما شُرّعت لكي تنفَّذ ويعمل بها، نعمهي تحتاج الى مقدمات ووسائل، لكن هذه شروط واجب لها وليس شروط وجوب لذا يجب العمل على توفيرها والسعي لتحقيقها ومنها التمكين في الأرض.

وقد تكرر هذا المعنى منّي في مناسبات عديدة بعد حصول التغيير السياسي عام 2003 بعد التمهيد له فكرياً قبل ذلك(1)

بفضل الله تبارك وتعالى كقولي في خطاب (العمل السياسي من الواجبات الشرعية) بتاريخ 15/7/2003 (إن العمل السياسي هو من أوضح آليات وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأوسع القنوات للقيام بها فوجوبه من وجوبها؛ لأن الفرد العامل يستطيع من خلال موقعه الإداري إصلاح الكثير من الفساد والانحراف وقضاء حوائج المؤمنين وحل مشاكلهم ورد الحقوق إلى أهلها وإقامة العدل في الرعية وهذه الأعمال هي المصاديق الرئيسية لهذه الوظيفة الإلهية ولا تتحقق بمعناها الواسع إلا من خلال التصدي لإدارة شؤون الأمة.

وكثيراً ما ننتقد وجود الفساد الإداري واختلاس أموال الأمة والأنانية والفئوية والطائفية وعدم الاكتراث بمطالب الشعب ومعاملتهم بالقسوة والبطش والظلم ولا نعلم أننا أحد الأسباب التي أدت إلى هذه النتيجة بالعزوف عن العمل السياسي وترك الساحة لأولئك العابثين بمقدرات الأمة، فهذا تقصير غير مغتفر وإذا كان له عذر في الزمان الماضي فليس له عذر اليوم.

فهي مسؤولية كل إنسان كفوء نزيه قادر على أن ينصف الناس ويعطي لكل ذي حق حقه ويقيم النظام ويبسط الأمن ويسير بالعدل ويمنع الظلم والفساد والانحراف بمقدار ما يستطيع، وهذه هي السياسة في الإسلام التي كان

ص: 352


1- راجع المجلدين الأول والثاني من كتاب (خطاب المرحلة) وكتاب (نحن والغرب).

على رأس من باشرها رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وأمير المؤمنين والهداة من أهل بيته بحيث نخاطبهم في الزيارة بأنهم (ساسة العباد وأركان البلاد)((1)(2).

وقد نقلت بعض المصادر هذا المعنى عنّي في مقابلة تلفزيونية مباشرة أجريت معي قبيل انتخابات عام 2005، قال المصدر: (وفي مقابلة تلفزيونية مع الشيخ محمد اليعقوبي، وفي جوابه عن حقيقة الأسس الشرعية المعتمدة لديه، والتي دعته الى الإفتاء بوجوب الحضور في الانتخابات البرلمانية والدستورية في العراق بعد سقوط النظام البائد، وبوجوب الإدلاء بالأصوات لصالح العناصر المؤمنة والصالحة، بل وجعل هذا الوجوب كوجوب الصلاة والصيام (حسب الفتوى)؟

فأجاب قائلاً: إن الدخول في الانتخابات اليوم والإدلاء بالأصوات فيها أصبح طريقاً متعارفاً لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحفظ الدين وأحكامه، ولأجل حفظ الأمة من الضياع وحفظ هوية الإسلام المهددة، ومنعنا من وصول ديكتاتورطاغية آخر قد يتسلل في غفلة من الزمن... علماً أن الإسلام ومن خلال ذوق الشريعة المقدسة يفهم منه حرصه الشديد على مصالح الجماعة والأمة أكثر من حرصه على مصالح الأفراد.. وهكذا، فحرصاً على مصالح الأمة العليا أمكننا القول: إن الحضور في الانتخابات وانتخاب الصلحاء الأمناء لأجل حفظ هذه المصالح واجب كوجوب الصلاة والصيام وباقي الأحكام الفردية الشخصية(3)

ولا يقل أهمية عنها.

ص: 353


1- (1) الزيارة الجامعة الكبيرة.
2- خطاب المرحلة: 3/ 371.
3- جاء ذلك ضمن مقابلة مع الشيخ اليعقوبي أجرتها شبكة العالم التلفزيونية الفضائية وتجد تفاصيلها في كتاب: خطاب المرحلة: 4/184، وقد أشكل البعض على إعطاء هذه الأهمية لأنه نظر إلى المشاركة في الانتخابات مطلقاً مع أنها مقيدة باختيار القيادة الصالحة التي تقيم الدين وتحفظ مصالح الأمة وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وهو ما أفادته روايات عديدة، ستأتي (صفحة 357-359) إن شاء الله تعالى.

وفي هذا الكلام ما لا يخفى من التصريح بتأييد الانتخابات لأجل القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأفضل وأعلى مراتبهما، أي باليد والمباشرة وتشريع القوانين الصالحة والمشاورة مع الحاكم الأعلى والمسؤولين في الدولة لأجل ذلك.

وبناء على كل ما تقدم، فإن جميع أدلة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القرآنية وغيرها، تدل بالملازمة أو المقدمية على وجوب إجراء الانتخابات والمشاركة فيها)(1).

أقول: وقد وجدت الشيخ المنتظري (قدس سره) يؤكد على هذا المعنى في أكثر من موضع من كتابه (دراسات في ولاية الفقيه) شارحاً أفكار أستاذه السيد الخميني (قدس سره) في بحث (الحكومة الإسلامية) قال في أحدها: ((لو توقّف إجراء المعروف والرد عن المنكر على الجراح والضرب فهل يجبان مطلقاً، أو يشترطان بالإذن من الإمام؟ وجهان، بل قولان: من إطلاق الأدلّة، ومن أن الجواز بنحو الإطلاق لكل أحد يوجب الهرج والمرج بل واختلال النظام في بعض المراحل.

وفي خبر جابر عن أبي جعفر (عليه السلام): (فأنكروا بقلوبكم والفظوا بألسنتكم وصكّوا بها جباههم).

وفي خبر يحيى الطويل، عن أبي عبد الله (عليه السلام): (ما جعل الله بسط اللسان وكف اليد ولكن جعلهما يبسطان معاً ويكفّان معاً).

فإطلاق هذين الخبرين وبعض الأخبار الأخر يقتضي عدم الاشتراط،

ص: 354


1- الانتخابات والترشيح في ضوء الشريعة الإسلامية: 150-151 وهي رسالة ماجستير للشيخ عزام الربيعي صادرة عن مركز الهدف للدراسات.

فراجع الوسائل الباب 3 من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هذا.

ولو قيل بعدم اشتراط الوجوب ولكن الوجود –أي الواجب- يشترط غالباً بإذن الإمام والحاكم –إذ الضرب والجراح لا يحصلان إلا على أساس القدرة، فيجب تحصيل الحكومة الحقة لتحصل القدرة على التنفيذ مع النظم- كان ذلك موافقاً للتحقيق. فالإمامشرط للوجود، لا للوجوب. وتكون أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بكثرتها وتعاضدها وإطلاقها من أقوى الأدلة على وجوب إقامة الدولة الحقة، وإلى ذلك أشار خبر يحيى الطويل. إذ المستفاد منه أن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يحصل إلا بتحصيل القدرة وبسط اليد، إذ لا أثر غالباً للأمر والنهي المجردين إذا لم يتعقبهما إعمال القدرة مع التخلف، والله –تعالى- أجلّ من أن يجعل حكماً لا يترتب عليه خاصية وأثر))(1).

وفرع عليه في موضع آخر قائلاً: ((وعلى هذا فيجب على كل مسلم السعي في بسط المعروف وإشاعته وقطع جذور المنكر والفساد والسعي في إقامة الحدود الإلهية بقدر المكنة والقدرة.

غاية الأمر أن وجود العمل فيما إذا استلزم الجراح مشروط بإذن الحاكم فيجب الاستيذان منه وإيقاع العمل تحت إشراف حكمه لئلا يلزم الهرج والمرج والاختلال.

ولو فرض ضعف الحكومة وقلة أعوانها وجب إعانتها ومساعدتها في بسط المعروف ودفع المنكر، ولو فرض عدم وجود الحكومة الحقة العادلة وجب على الجميع السعي لتحقيقها لذلك ولو بتشكيل دويلة صغيرة في منطقة معينة، كما يشهد بذلك صحيحة زرارة التي جعل فيها الولاية أفضل الخمسة التي بني عليها الإسلام لكونها مفتاحهن والوالي هو الدليل عليهن.

ص: 355


1- دراسات في ولاية الفقيه: 1/151-152 وراجع أيضاً: ج1/192.

فلا يجوز للمسلمين أن يقعدوا في بيوتهم ولا يبالوا بما يقع في مجتمعهم من الفحشاء والفساد وإراقة الدماء وغصب الأموال وهتك النواميس وهضم الكفار والصهاينة لحقوق المسلمين المستضعفين بعذر أن رفع هذه المفاسد كلها من وظائف الحاكم. ولذا قلنا في محله بأن أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بإطلاقها وبمفهومها الوسيع من أقوى الأدلة على وجوب تأسيس الحكومة والدولة الحقة))(1).

أقول: تشكيل الحكومة وسيلة فلا ينبغي التركيز عليها وكأنها الهدف الأسمى والوحيد فهذه نتائج كلها بيد الله تعالى والمهم تحقيق الهدف والغاية التي يمكن أن تتحقق بهذه الوسيلة أو غيرها من أنماط العمل السياسي، ومحل الشاهد أن إثارة هذه الأبحاث يعمق الشعور بالمسؤولية عن إقامة الدين في كل تفاصيل الحياة «وَأَن أَقِيمُوا الدِينَ» وإعلاء كلمة الله تعالى وتطبيق الشريعة الإسلامية، ولو تصدى العلماء لمناقشتها وعرضها خلال الأزمنة الماضية لازداد وعي الأمة وقناعتها بالمشروع الإسلامي وتنامي الحافز للمطالبة بالحقوق، وهذا المقدار ثمرة مباركة تؤتي أكلها ولو بعد حين فلا يقال أن الظروف غير مؤاتية لإقامة الحكومة الإسلامية ونحو ذلك.وقد اطلعنا على تجارب قادة مسلمين وغير مسلمين(2)

تحركوا نحو الإصلاح والتغيير وكانوا وحداناً مستضعفين وربما كانوا في غياهب السجون وحركوا ضمير شعوبهم حتى تحقق الفتح على أيديهم، ولنا في رسول الله (صلى الله عليه وآله) أسوة حسنة حيث لم يكن معه حين بُعث بالرسالة إلا أمير المؤمنين (عليه السلام) وأم المؤمنين خديجة (سلام الله عليها).

ص: 356


1- دراسات في ولاية الفقيه: 2/219-220.
2- كالسيد الخميني (قدس سره) ومثل المهاتما غاندي وجواهر لال نهرو في الهند وأحمد سوكارنو في إندونيسيا ونيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا.

البحث الخامس: هل تقتضي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الخروج على الحاكم الجائر

اشارة

للإمامة وولاية الأمر أهمية كبرى في النظام الإسلامي أشارت إليه صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (بني الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية، قال زرارة: فقلت: وأي شيء من ذلك أفضل؟ قال: الولاية أفضل لأنها مفتاحهن والوالي هو الدليل عليهن) إلى أن قال (عليه السلام): (ذِروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن الطاعة للإمام بعد معرفته)(1).

أقول: الإمام (عليه السلام) ليس بصدد بيان أصول الدين الواجب الاعتقاد بها وإلا لذكر التوحيد والنبوة والمعاد، وإنما هو (عليه السلام) بصدد بيان ما يقيم الدين ويوجد بنيانه في نفوس الناس وعلى أرض الواقع تطبيقاً لقوله تعالى: «شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» (الشورى:13) وقد أكد أن مفتاح ذلك والضامن له وجود السلطة العادلة المتمثلة بالمعصوم (عليه السلام) في زمان الحضور، ونائبه في ولاية الأمر، إذ به تقام الفرائض والسنن وهو معنى لما ورد في زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) (أشهد أنك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة).

وفي رواية المحكم والمتشابه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (أولها الصلاة ثم الزكاة ثم الصيام ثم الحج ثم الولاية وهي خاتمتها والحافظة لجميع الفرائض والسنن)(2).

ص: 357


1- الكافي: 2/18، كتاب الإيمان والكفر، باب دعائم الإسلام، ح5.
2- بحار الأنوار: 93/62، رسالة المحكم والمتشابهة: 77 عن تفسير النعماني.

وفي رواية أخرى عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: (إن الإمامة هي منزلة الأنبياء وإرث الأوصياء، إن الإمامة خلافة الله وخلافة الرسول (صلى الله عليه وآله) ومقام أمير المؤمنين (عليه السلام) وميراث الحسن والحسين (عليهما السلام)، إن الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين، إن الإمامة أس الإسلام النامي وفرعه السامي، بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، وتوفير الفيء والصدقات وإمضاء الحدود والأحكام ومنع الثغور والأطراف، الإمام يحل حلال الله ويحرم حرام الله ويقيم حدود الله ويذب عن دين الله، ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة)(1) إلى آخر الحديث.

وقد عرّفت بعض الروايات أهمية الإمامة وعظيم بركاتها وآثارها بذكر ما يترتب من مفاسد على عدمها وغصبها من أهلها من باب (الأمور تعرف بأضدادها) كقول الإمام الرضا (عليه السلام) في رواية العيون والعلل في علة جعل الإمام: (وإنه لو لم يجعل لهم إماماً لدرست الملة وذهب الدين وغيرت السنن والأحكام ولزاد فيه المبتدعون ونقص منه الملحدون وشبّهوا ذلك على المسلمين)(2).

أقول: في ضوء هذا يكون غصب ولاية الأمر من أهلها وتقمّص مقام الإمامة الشريف من أعظم المنكرات التي يجب دفعها وإزالتها لما يترتب عليها من ثلمة عظيمة للدين وخسارة للمسلمين(3)، وقد لخّص الإمام الصادق (عليه السلام)

ص: 358


1- أصول الكافي: ج1/كتاب الحجة، باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته، ح1.
2- علل الشرائع: 1/253، الباب 182، ح5، عيون أخبار الرضا، الباب 34، ح1.
3- راجع خطاب بعنوان (ماذا خسرت الأمة حين ولّت أمرها من لا يستحق) في خطاب المرحلة: 1/217.

في رواية تحف العقول المعروفة تداعيات هذا المنكر الكبير بقوله (عليه السلام): (وذلك أن في ولاية الوالي الجائر دوس الحق (دوس أي الوطء بالرجل، وفي نسخة: دروس- الحق) كله وإحياء الباطل كله وإظهار الظلم والجور والفساد وإبطال الكتب وقتل الأنبياء والمؤمنين وهدم المساجد وتبديل سنة الله وشرائعه)(1).

ومنذ اليوم الأول الذي غُصبت فيه الخلافة وصودر حق ولاية أمور الأمة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقد باشر المعصومون (عليهم السلام) وأصحابهم القيام في وجه هذا المنكر الكبير وإصلاح ما فسد من أمور الأمة، وقد تقدم في الفصل الأول في النبذة التأريخية شواهد من سيرة أمير المؤمنين والسيدة الزهراء (صلوات الله عليهما) والصادقين من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله).وقد اتخذ النهي عن هذا المنكر عدة أشكال نجعلها في مستويات لإعطاء فكرة عما يمكن فعله:

المستوى الأول: التصريح بعدم شرعية هؤلاء الولاة وأن هذا المقام هو لأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) لإلقاء الحجة على الغاصبين وعلى الأمة جميعاً ولتذكيرهم دائماً بهذا الركن الأساسي للدين، وافتتحت السيدة الزهراء (عليها السلام) هذه الحركة المباركة في أول أيام الانحراف كما هو معلوم من خطبها الشهيرة.

أما أمير المؤمنين (عليه السلام) فقد أقام الحجج تلو الحجج وبشتى الأساليب ومنها قوله (عليه السلام) في الخطبة الشقشقية: (أما والله لقد تقمصها فلان وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عني السيل ولا يرقى إلي الطير) إلى أن قال (عليه السلام): (فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شذى أرى تراثي نهباً).

ص: 359


1- تحف العقول: 212.

ومنها قوله: (لا يقاس بآل محمد من هذه الأمة أحد ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصية والوراثة، الآن إذ رجع الحق إلى أهله ونقل إلى منتقله)(1).

ومن كلام له (عليه السلام) في التظلم من قريش: (وأجمعوا على منازعتي حقاً كنت أولى به من غيري)(2)، ولا نريد أن نطيل بذكر الشواهد لأن المصادر حافلة باحتجاجات كثيرة وعميقة بفضل الله تعالى.

المستوى الثاني: توجيه الناس إلى مقاطعة هؤلاء الظلمة والتحذير من الدخول في أعمالهم، وفي ذلك روايات كثيرة ذكرنا العشرات منها في البحث الثالث المتقدم، كصحيحة أبي بصير قال: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن أعمالهم، فقال لي: يا أبا محمد، لا، ولا مدة قلم، إن أحدهم لا يصيب من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من دينه مثله)(3).

وفي صحيحة ابن أبي يعفور عن الإمام الصادق (عليه السلام) (إن أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتى يحكم الله بين العباد)(4).ومنها المروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إياكم ومخالفة السلطان فإنه ذهاب الدين)(5).

ص: 360


1- نهج البلاغة: الخطبة 2، 3.
2- نهج البلاغة: الخطبة 217.
3- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب 42، ح5.
4- وسائل الشيعة: الباب السابق، ح6.
5- بحار الأنوار: 10/368، ح7.

وعنه (صلى الله عليه وآله) قال: (إياكم وأبواب السلطان وحواشيها، فإن أقربكم من أبواب السلطان وحواشيها أبعدكم من الله عز وجل، ومن آثر السلطان على الله عز وجل أذهب الله عنه الورع وجعله حيران)(1).

ويصل النهي عن مساعدتهم حتى في بناء المساجد كما في صحيحة يونس بن يعقوب قال: (قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): لا تعنهم على بناء مسجد)(2).

وعن مجرد تسجيل الاسم في ديوانهم وإن لم يقم بأي عمل لهم، ففي صحيحة الكاهلي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من سوّد اسمه في ديوان ولد سابع –مقلوب عباس- حشره الله يوم القيامة خنزيراً).

وينبّه الإمام الصادق (عليه السلام) إلى عظيم خطرهم في موثقة فضيل بن عياض قال (عليه السلام): (يا فضيل والله، لَضرر هؤلاء على هذه الأمة أشد من شرر الترك والديلم)(3).

وقد انتشرت هذه الثقافة لدى عموم المجتمع الإسلامي وعرف بها حتى الطواغيت أنفسهم رغم ما يكلّف ذلك من ثمن فادح، كما في صحيحة صفوان بن مهران الجمال لمّا باع جماله تنفيذاً لتوجيه الإمام الكاظم (عليه السلام) حتى لا يؤجرها لهارون العباسي للحج، قال: (فبلغ ذلك إلى هارون فدعاني فقال لي: يا صفوان بلغني أنك بعت جمالك، قلت: نعم، قال: ولمَ؟ قلت: أنا شيخ كبير وإن الغلمان لا يفون بالأعمال، فقال: هيهات هيهات، إني لأعلم من أشار

ص: 361


1- بحار الأنوار: 75/372، ح19.
2- والذي يليه في وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به،باب 42، ح8، 9.
3- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب 37، ح6.

عليك بهذا، أشار عليك بهذا موسى بن جعفر، قلت: ما لي ولموسى بن جعفر؟ فقال: دع هذا عنك فوالله لولا حسن صحبتك لقتلتك)(1).

ولما جيء بالأسرى من أصحاب الحسين بن علي صاحب فخ ورؤوس القتلى إلى موسى الهادي قال: (والله ما خرج حسين إلا عن أمره –أي الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)- ولا اتبع إلا محبته لأنه صاحب الوصية في أهل هذا البيت، قتلني الله إن أبقيت عليه)(2).

ويعبّر الأئمة (عليهم السلام) عن ألمهم وأسفهم لأن المجتمع لم يلتزم بهذه المقاطعة مما أدى إلى استمرار وجود هؤلاء الظلمة وتماديهم في طغيانهم، ففي رواية علي بن أبي حمزة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لولا أن بني أمية وجدوا لهم من يكتب ويجبي لهم الفيء ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم لما سلبونا حقنا، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلا ما وقع في أيديهم)(3).

وينبغي الانتباه إلى أن الأئمة (عليهم السلام) دلّوا شيعتهم على البدائل الاقتصادية لهذه المقاطعة؛ لأن تحريم العمل للسلطة يحرم الكثيرين من فرص العمل ويدعهم في حرمان وفاقة وهذا يشكّل خطراً على أصل وجودهم وثبات عقيدة بعضهم، ومن تلك البدائل المهن الحرة خصوصاً الزراعة والتجارة، روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) قوله: (كان أبي يقول: خير الأعمال الحرث)(4)

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) عن الفلاحين: (هم الزارعون كنوز الله في

ص: 362


1- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب 42، ح17.
2- بحار الأنوار: 48/151، عن مهج الدعوات: 217-227.
3- المصدر السابق: باب 47، ح1.
4- الكافي: 5/260، ح2.

أرضه، وما في الأعمال شيء أحبّ إلى الله من الزراعة)(1)، وورد عنهم (عليهم السلام): (إن تسعة أعشار الرزق في التجارة)(2).

وكان الأئمة (عليهم السلام) يضاربون بأموالهم مع بعض الأصحاب بحسب ما ورد في بعض الروايات.

كما وضّح الأئمة (عليهم السلام) أن مقاطعة السلطة تختص بالوظائف التي فيها معونة للجائر والظالم وإدامة ملكه ولا تشتمل الوظائف التي فيها خدمة للناس، وحفظ للصالح العام، أي أنهم (عليهم السلام) يفرقون بين عمل الحكومة وعمل الدولة كالتعليم والصحة وشق الطرق وحفظ الأمن العام ونحو ذلك، وهذا سبقٌ لهم (عليهم السلام) في الوعي السياسي والإداري ففي رواية أبي بكر الحضرمي قال: (دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) وعنده إسماعيل ابنه، فقال: ما يمنع ابن أبي السمّال –أوالسمّاك في بعض النسخ – أن يخرج شباب الشيعة فيكفونه ما يكفيه الناس، ويعطيهم ما يعطي الناس)(3).

المستوى الثالث: التوجه إلى الولاة الظلمة وأعوانهم مباشرة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر استجابة للحديث النبوي الشريف المشهور لدى الفريقين، ففي مسند أحمد أنه (قيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله): أي الجهاد أحب إلى الله عز وجل؟ فقال (صلى الله عليه وآله): كلمة حق تقال لإمام جائر)(4)

والحث المطلق أي حتى ولو كلفته هذه الكلمة حياته، وفي رواية مجمع البيان تصريح بذلك عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر يقتل عليه)(5)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (إن

ص: 363


1- وسائل الشيعة: 12/25، ح3.
2- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب مقدماتها، باب 1، ح4، 5، 8.
3- تقدمت (صفحة 148)، رقم 11.
4- مسند أحمد: 5/251.
5- مجمع البيان: 2/423.

المراد من قوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ» (البقرة:207) الرجل الذي يقتل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)(1).

وأذكر هنا بعض الشواهد مما يقل تداولها:

(منها) رسالة الإمام الحسين (عليه السلام) إلى معاوية يحذره فيها مما ارتكبه من المنكرات وتقريعه عليها، وقد رواها ابن قتيبة في الإمامة والسياسة والكشي في رجاله والقاضي النعماني في دعائم الإسلام والطبرسي في الاحتجاج وفي رواية الطوسي، كتب الإمام الحسين (عليه السلام) لمعاوية (أما بعد، فقد جاءني كتابك تذكر فيه أنه انتهت إليك عني أمور لم تكن تظنني بها رغبة بي عنها، وإن الحسنات لا يهدي لها ولا يسدد إليها إلا الله تعالى، وأما ما ذكر أنه رقي إليك عني، فإنما رقاه الملاّقون المشّاؤون بالنميمة، المفرقون بين الجمع، وكذب الغاوون المارقون، ما أردتُ حرباً ولا خلافاً، وإني لأخشى الله في ترك ذلك منك ومن حزبك القاسطين المحلّين، حزب الظالم، وأعوان الشيطان الرجيم.

ألستَ قاتل حجر وأصحابه العابدين المخبتين الذين كانوا يستفظعون البدع، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؟ فقتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما أعطيتهم المواثيق الغليظة، والعهود المؤكدة جرأة على الله واستخفافاً بعهده.

أولست بقاتل عمرو بن الحمق الذي أخلقت وأبلت وجهه العبادة؟ فقتلته من بعد ما أعطيته من العهود ما لو فهمته العُصْم نزلت من شعف الجبال.أوَلست المدّعي زياداً في الإسلام، فزعمت أنه ابن أبي سفيان، وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن الولد للفراش وللعاهر الحجر، ثم سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ويُقطِّع أيديهم وأرجلهم من خلاف،

ص: 364


1- مجمع البيان: 2/301، المستدرك: 2/438 نقلاً عن لب اللباب.

ويصلّبهم على جذوع النخل؟ سبحان الله يا معاوية! لكأنك لست من هذه الأمة، وليسوا منك.

أوَلست قاتل الحضرمي الذي كتب إليك فيه زياد أنه على دين علي كرم الله وجهه، ودين علي هو دين ابن عمه صلى الله عليه وآله وسلم الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه، ولولا ذلك كان أفضل شرفك وشرف آبائك تجشم الرحلتين: رحلة الشتاء والصيف، فوضعها الله عنكم بنا منة عليكم.

وقلت فيما قلت: انظر لنفسك ودينك ولأمة محمد، واتق شق عصا هذه الأمة وأن تردّهم إلى فتنة. وإني لا أعلم لها فتنة أعظم من ولايتك عليها.

وإني والله ما أعرف أفضل من جهادك، فإن أفعل فإنه قربة إلى ربي، وإن لم أفعله فاستغفر الله لديني، وأسأله التوفيق لما يحب ويرضى، وقلت فيما قلت: متى تكدني أكدك فكدني يا معاوية ما بدا لك، فلعمري لقديماً يُكاد الصالحون، وإني لأرجو أن لا تضرّ إلا نفسك ولا تمحق إلا عملك، فكدني ما بدا لك، واتق الله يا معاوية! واعلم أن لله كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، واعلم أن الله ليس بناسٍ لك قتلك بالظنة، وأخذك بالتهمة، وإمارتك صبياً يشرب الشراب، ويلعب بالكلاب، ما أراك إلا قد أوبقت نفسك، وأهلكت دينك، وأضعت الرعية. والسلام)(1).

(ومنها) رسالة الإمام السجاد (عليه السلام) إلى محمد بن شهاب الزهري وهو من العلماء المقربين إلى ملوك المروانيين(2)

قال (عليه السلام) فيها:

ص: 365


1- موسوعة كلمات الإمام الحسين (عليه السلام): 314 عن الغدير للعلامة الأميني: 10/160، وبحار الأنوار: 44/212، ح9، ورجال الكشي: 1/252، والاحتجاج: 297.
2- روي أن عمر بن عبد العزيز كتب في حقه إلى الآفاق: ((عليكم بابن شهاب فإنكم لا تجدون أحداً أعلم بالسنة الماضية منه)) وقيل لمكحول: من أعلم من رأيت؟ قال: ابن شهاب، قيل له: ثم من؟ قال: ابن شهاب، قيل له: ثم من؟ قال: ابن شهاب، ولم يزل الزهري مع عبد الملك ثم مع هشام بن عبد الملك (حكي عن تنقيح المقال:3/186). وعن هامش نسخة التحف، الطبعة الثانية 1363 - ش 1404 - ق مؤسسة النشر الاسلامي، جماعة المدرسين بقم المشرفة، بتصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري: ((محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري على ما يظهر من كتب التراجم من المنحرفين عن أمير المؤمنين وأبنائه عليهم السلام كان أبوه مسلم مع مصعب بن الزبير وجده عبيد الله مع المشركين يوم بدر وهو لم يزل عاملاً لبنى مروان ويتقلب في دنياهم، جعله هشام بن عبد الملك معلم أولاده وأمره أن يملي على أولاده أحاديث فأملى عليهم أربعمائة حديث. .. ومن هنا أطراه علماؤهم ورفعوه فوق منزلته بحيث تعجب ابن حجر من كثرة ما نشره من العلم)).

(كفانا الله وإياك من الفتن ورحمك من النار، فقد أصبحتَ بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمكفقد أثقلتك نعم الله بما أصحّ من بدنك وأطال من عمرك وقامت عليك حجج الله بما حملك من كتابه وفقهك فيه من دينه وعرفك من سنة نبيه محمد صلى الله عليه وآله، فرضي لك في كل نعمة أنعم بها عليك وفي كل حجة احتج بها عليك الفرض بما قضى. فما قضى إلا ابتلى شكرك في ذلك وأبدى فيه فضله عليك فقال: «لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد».

فانظر أي رجل تكون غداً إذا وقفت بين يدي الله فسألك عن نعمه عليك كيف رعيتها وعن حججه عليك كيف قضيتها ولا تحسبن الله قابلاً منك بالتعذير ولا راضياً منك بالتقصير، هيهات هيهات ليس كذلك، أخذ على العلماء في كتابه إذ قال: «لتبيننه للناس ولا تكتمونه» واعلم أن أدنى ما كتمتَ وأخف ما احتملتَ أن آنست وحشة الظالم وسهّلت له طريق الغي بدنوّك منه حين دنوت وإجابتك له حين دُعيت، فما أخوفني أن تكون تبوء بإثمك غداً مع

ص: 366

الخونة، وأن تسأل عما أخذت بإعانتك على ظلم الظلمة، إنك أخذت ما ليس لك ممن أعطاك ودنوت ممن لم يرد على أحد حقاً ولم ترد باطلاً حين أدناك. وأحببت من حاد الله أوليس بدعائه إياك حين دعاك جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم وجسراً يعبرون عليك إلى بلاياهم وسلّماً إلى ضلالتهم، داعياً إلى غيهم، سالكاً سبيلهم، يدخلون بك الشك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم، فلم يبلغ أخص وزرائهم ولا أقوى أعوانهم إلا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم واختلاف الخاصة والعامة إليهم. فما أقل ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك. وما أيسر ما عمروا لك، فكيف ما خربوا عليك.

فانظر لنفسك فإنه لا ينظر لها غيرك وحاسبها حساب رجل مسؤول. وانظر كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيراً وكبيراً. فما أخوفني أن تكون كما قال الله في كتابه: «فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا» إنك لست في دار مقام. أنت في دار قد آذنت برحيل، فما بقاء المرء بعد قرنائه. طوبى لمن كان في الدنيا على وجل، يا بؤس لمن يموت وتبقى ذنوبه من بعده. احذر فقد نبئت. بادر فقد أجلت. إنك تعامل من لا يجهل. وإن الذي يحفظ عليك لا يغفل.

تجهز فقد دنا منك سفر بعيد وداو ذنبك فقد دخله سقم شديد. ولا تحسب أني أردت توبيخك وتعنيفك وتعييرك، لكني أردت أن ينعش الله ما فات من رأيك ويرد إليك ما عزب من دينك وذكرت قول الله تعالى في كتابه: «وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين». أغفلت ذكر من مضى من أسنانك وأقرانك وبقيت بعدهم كقرن أعضب(1).

أنظر هل ابتلوا بمثل ما ابتليت، أم هل وقعوا في مثل ما

ص: 367


1- الأعضب: المكسور القرن. ولعل المراد: بقيت كأحد قرنى الأعضب. عن هامش محقق التحف، أقول: لعل المراد من التشبيه هو الشؤم لأن العرب كانت تتشاءم من الثور الأعضب قال الكميت بن زيد في وصف عدم تأثره باهتمامات عامة الناس وعاداتهم (ولا السانحات البارحات عشيةً أمرَّ سليمُ القرن أم مرّ أعضبُ) والأشعار في هذا المعنى كثيرة.

وقعت فيه، أم هل تراهم ذكرتَ خيراًأهملوه وعلمت شيئاً جهلوه، بل حظيت بما حل من حالك في صدور العامة وكلفهم بك، إذ صاروا يقتدون برأيك ويعملون بأمرك. إن أحللت أحلوا وإن حرمت حرموا وليس ذلك عندك ولكن أظهرهم عليك رغبتهم فيما لديك، ذهاب علمائهم وغلبة الجهل عليك وعليهم وحب الرئاسة وطلب الدنيا منك، ومنهم أما ترى ما أنت فيه من الجهل والغرة وما الناس فيه من البلاء والفتنة، قد ابتليتهم وفتنتهم بالشغل عن مكاسبهم مما رأوا، فتاقت نفوسهم إلى أن يبلغوا من العلم ما بلغت، أو يدركوا به مثل الذي أدركت، فوقعوا منك في بحر لا يدرك عمقه وفي بلاء لا يقدر قدره. فالله لنا ولك وهو المستعان.

أما بعد فأعرض عن كل ما أنت فيه حتى تلحق بالصالحين الذين دفنوا في أسمالهم، لاصقة بطونهم بظهورهم، ليس بينهم وبين الله حجاب ولا تفتنهم الدنيا ولا يفتنون بها، رغبوا فطلبوا فما لبثوا أن لحقوا. فإذا كانت الدنيا تبلغ من مثلك هذا المبلغ مع كبر سنك ورسوخ علمك وحضور أجلك، فكيف يسلم الحدث في سنه، الجاهل في علمه المأفون في رأيه، المدخول في عقله. إنا لله وإنا إليه راجعون. على من المعول؟ وعند من المستعتب؟ نشكو إلى الله بثّنا وما نرى فيك ونحتسب عند الله مصيبتنا بك.

فانظر كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيراً وكبيراً، وكيف إعظامك لمن جعلك بدينه في الناس جميلاً، وكيف صيانتك لكسوة من جعلك بكسوته في الناس ستيراً، وكيف قربك أو بعدك ممن أمرك أن تكون منه قريباً ذليلاً. ما لك لا تنتبه من نعستك وتستقيل من عثرتك فتقول. والله ما قمت لله مقاماً واحداً أحييت به له دينا أو أمت له فيه باطلاً، فهذا شكرك من استحملك. ما أخوفني أن تكون كمن قال الله تعالى في كتابه: «أَضَاعُوا الصَلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَهَوَاتِ

ص: 368

فَسَوفَ يَلقَونَ غَيّاً» استحملك كتابه واستودعك علمه فأضعتها، فنحمد الله الذي عافانا مما ابتلاك به والسلام)(1).

(ومنها) قول الإمام الصادق (عليه السلام) لما كتب إليه المنصور: ((لم لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس؟ فأجابه (عليه السلام): (ليس لنا ما نخافك من أجله ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك ولا أنت في نعمة فنهنئك ولا تراها نقمة فنعزّيك بها فما نصنع عندك؟) فكتب المنصور إليه: ((تصحبنا لتنصحنا)) فأجابه (عليه السلام): (من أراد الدنيا لا ينصحك ومن أراد الآخرة لا يصحبك)(2).

(ومنها) مواقف الإمام الكاظم (عليه السلام) الحازمة والواضحة في المطالبة بحقهم (عليهم السلام) في ولاية أمر الأمة، ففي مناقب ابن شهرآشوب: ((عن كتاب أخبار الخلفاء أن هارون الرشيد كان يقول لموسى بن جعفر: حُدَّ (في النسخة: خذ) فدكاً حتى أردّها اليك، فيأبى حتى ألحّ عليه فقال (عليه السلام): لا آخذها إلا بحدودها، قال: وما حدودها؟ قال: إن حددتها لم تردها؟ قال: بحقّ جدّك إلا فعلت، قال أما الحدّ الأول فعدن، فتغيّر وجه الرشيد وقال: إيهاً، قال: والحد الثاني سمرقند، فاربد وجهه.والحد الثالث إفريقية، فاسودّ وجهه وقال: هيه. قال: والرابع سيف البحر مما يلي الجزر (لعله الخزر) وأرمينية، قال الرشيد: فلم يبق لنا شيء، فتحولْ إلى مجلسي، قال موسى: قد أعلمتك أنني إن حددتها لم تردها فعند ذلك عزم على قتله))(3).

ص: 369


1- تحف العقول: 173-175.
2- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب 37، ح2.
3- مناقب آل أبي طالب، فصل في معالي أموره (عليه السلام)، بحار الأنوار: 48/144، ح20.

وحصل مثل ذلك مع الخليفة العباسي محمد المعروف بالمهدي ابن أبي جعفر المنصور عندما رآه الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) يرد المظالم فقال: يا أمير المؤمنين ما بال مظلمتنا لا ترد؟ إلى آخر الحديث.

ومن مواعظه (عليه السلام) لهارون ما رواه الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) وغيره قال: (بعث موسى بن جعفر (عليه السلام) من الحبس رسالة إلى هارون يقوله له: لن ينقضي عني يوم من البلاء حتى ينقضي عنك معه يوم من الرخاء، حتى نفضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون)(1).

(ومنها) للإمام الرضا (عليه السلام) كالذي رواه الشيخ الصدوق في علل الشرائع وعيون أخبار الرضا بسنده عن محمد بن سنان قال: (كنت عند مولاي الرضا عليه السلام بخراسان وكان المأمون يقعده على يمينه إذا قعد للناس يوم الاثنين ويوم الخميس فرفع إلى المأمون أن رجلاً من الصوفية سرق فأمر بإحضاره فلما نظر إليه وجده متقشفاً بين عينيه أثر السجود فقال له: سوأة لهذه الآثار الجميلة ولهذا الفعل القبيح أتنسب إلى السرقة مع ما أرى من جميل آثارك وظاهرك؟ قال: فعلت ذلك اضطراراً لا اختيارا حين منعتني حقي من الخمس والفيء، فقال المأمون: أي حق لك في الخمس والفيء؟ قال: إن الله تعالى قسم الخمس ستة أقسام وقال الله تعالى: «وأعلموا إنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان» وقسم الفيء على ستة أقسام فقال الله تعالى: «ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كيلا يكون دولة بين

ص: 370


1- موسوعة المصطفى والعترة: 11/403 عن تأريخ بغداد: 13/31-32، تذكرة الخواص: 360، البداية والنهاية لابن الأثير: 10/183، والكامل في التأريخ: 6/164 وغيرها.

الاغنياء منكم» قال الصوفي: فمنعتني حقي وأنا ابن السبيل منقطع بي ومسكين لا أرجع على شيء ومن حملة القرآن، فقال له المأمون: أعطّل حداً من حدود الله وحكماً من أحكامه في السارق من أجل أساطيرك هذه؟ فقال الصوفي: ابدأ بنفسك تطهرها ثم طهّر غيرك وأقم حد الله عليها ثم على غيرك، فالتفت المأمون إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام فقال: ما يقول؟ فقال: إنه يقول سُرق فسرق، فغضب المأمون غضباً شديداً ثم قال للصوفي: والله لأقطَعنك، فقال الصوفي: أتقطعني وأنت عبد لي؟ فقال المأمون: ويلك ومن أين صرت عبداً لك؟ قال: لأن أمك اشتريت من مالالمسلمين فأنت عبد لمن في المشرق والمغرب حتى يعتقوك وأنا لم أعتقك ثم بلعت الخمس وبعد ذلك فلا أعطيت آل الرسول حقاً ولا أعطيتني ونظرائي حقنا والأخرى أن الخبيث لا يطهر خبيثاً مثله إنما يطهره طاهر ومن في جنبه الحد لا يقيم الحدود على غيره حتى يبدأ بنفسه أما سمعت الله تعالى يقول: «أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون» فالتفت المأمون إلى الرضا عليه السلام فقال: ما ترى في أمره؟ فقال عليه السلام: إن الله تعالى قال لمحمد (صلى الله عليه وآله): «قل فلله الحجة البالغة» وهي التي لم تبلغ الجاهل فيعلمها على جهله يعلمها العالم بعلمه والدنيا والآخرة قائمتان بالحجة وقد احتج الرجل فأمر المأمون عند ذلك بإطلاق الصوفي واحتجب عن الناس واشتغل بالرضا عليه السلام حتى سمه فقتله)(1).

وروى الشيخ الطوسي في التهذيب والاستبصار عن أبي سعيد الخراساني قال: (دخل رجلان على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) بخراسان فسألاه عن التقصير، فقال لأحدهما: وجب عليك التقصير لأنك قصدتني،

ص: 371


1- علل الشرائع: 240 باب 174 علة قتل المأمون للرضا (عليه السلام)، عيون أخبار الرضا: 452، باب 59 بنفس العنوان وفي السند عن سنان فقط لكن في العلل محمد بن سنان.

وقال للآخر: وجب عليك التمام لأنك قصدت السلطان)(1) أي أن سفره لقصد السلطان معصية فلا يقصّر في صلاته.

المستوى الرابع: تحذير الأمة وتنبيهها إلى الخطايا والذنوب التي تؤدي إلى تسلّط الظالمين والأشرار، وهم (عليهم السلام) يمنعون بذلك أصل وصول الجائر إلى السلطة أي يعالجونه بالدفع قبل الرفع، أو قل يعالجون العلل قبل المعلولات وهو أسلوب أجدى في العلاج كما قيل (الوقاية خير من العلاج).

ومن تلك الأمور:-

ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالرواية في الكافي والتهذيب عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: (لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهنَّ عن المنكر، أو ليستعملن عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم)(2).

وروى الشيخ المفيد في المقنعة والطوسي في التهذيب عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا1- على البر والتقوى، فإذا لم يفعلوا ذلك انتزعت منهم البركات وسلط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء)(3).

2- عدم الاستفادة من توجيهات العلماء العاملين: روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (سيأتي زمان على الناس يفرّون من العلماء كما يفرّ الغنم من الذئب، فإذا كان ذلك ابتلاهم الله بثلاثة

ص: 372


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 8، ح6.
2- و (3) وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 1، ح4، 18.

أشياء: الأول يرفع البركة من أموالهم والثاني سلّط الله عليهم سلطاناً جائراً والثالث يخرجون من الدنيا بلا إيمان)(1).

3- إفراغ الدين من مضمونه الحقيقي والاكتفاء بالشكليات الظاهرية منه، وتخلّي علماء الدين والربانيين عن مسؤولياتهم الحقيقية، في حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (سيأتي على أمتي زمان لا يعرفون العلماء إلا بثوب حسن ولا يعرفون القرآن إلا بصوت حسن، ولا يعبدون الله إلا في شهر رمضان، فإذا كان كذلك سلّط الله عليهم سلطاناً لا علم له ولا حكم له ولا رحم له)(2).

المستوى الخامس: الخروج على السلطة:

لقد قاد الأئمة حركة المعارضة –في مصطلح اليوم- ضد السلطة أداءً لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يتوانوا عن استعمال كل الأدوات المتاحة ومنها الخروج على السلطة عندما يقتضي التكليف ذلك بأن:-

1- يتعيّن امتثال الوجوب به، أي أن إنكار المنكر لا يتحقق إلا بهذه الوسيلة، بحسب مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

2- وتكون المقدمات مهيأة قال تعالى: «وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ» (الأنفال:60) وهي شاملة للقوى المعنوية والمادية بكل أشكالها ومستوياتها.

3- مع مراعاة المصالح العليا للدين والمجتمع فقد يكون المسوِّغ للخروج موجوداً إلا أن مثل هذا العمل له آثار وتداعيات خطيرة يكون ضررها أكبر كحدوث الفتنة واختلال النظام وخروج الوضع عن السيطرة ونحو ذلك.

ص: 373


1- بحار الأنوار: 22/454 عن جامع الأخبار: 125-126، ف 22.
2- بحار الأنوار: 22/454 عن جامع الأخبار: 125-126، ف 88.

4- وأن يتوفر مشروع متكامل يستثمر نتائج تلك الحركة ليس على مستوى النظرية لأن هذا المشروع متوفر عند الأئمة (عليهم السلام) بما علمهم الله تبارك وتعالى، ويستطيع الفقهاء الجامعون للشرائط استنباط الأحكام والقوانين من مصادرها، وإنما على مستوى التطبيق أي وجود المؤهلين للقيام بهذا المشروع الإلهي المتكامل وتنفيذه على أرض الواقع.

وتستفاد مشروعية الخروج من بعض الآيات الكريمة كقوله تعالى: «وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ» (النساء:75)وقوله تعالى: «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ» (الحج:40).

وقد أسس أمير المؤمنين (عليه السلام) مشروعية هذه المواجهة لتغيير المنكر من أول أيام الانحراف حينما حمل معه بضعة المصطفى (صلى الله عليه وآله) فاطمة الزهراء (عليها السلام)، ودار على بيوت المهاجرين والأنصار طالباً النصرة على هذا الأمر فلم يستجيبوا، وتقدم قوله (عليه السلام): (لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم)(1).

وروى الخوارزمي في مناقبه قال: ((خطبهم عمر بن الخطاب فقال: لو صرفناكم عما تعرفون إلى ما تنكرون ما كنتم صانعين؟ قال: فسكتوا فقال ذلك ثلاثاً، فقام علي (عليه السلام) فقال: إذن كنا نستتيبك، فإن تبت قبلناك، قال: فإن لم أتب؟ قال: إذن نضرب الذي فيه عيناك)(2).

ص: 374


1- بحار الأنوار: 28/313 عن كتاب السقيفة للجوهري ووقعة صفين لنصر بن مزاحم وغيرهما.
2- راجع كتابي (دور الأئمة في الحياة الإسلامية): 30، 260.

وقد صدرت منهم (سلام الله عليهم) أحاديث كثيرة لتعبئة الأمة لهذه المواجهة وتحميلها المسؤولية ولإبطال الثقافة المقابلة التي كان يفتريها وعّاظ السلطة المتملقون لها الذين وضعوا الأحاديث في وجوب طاعة السلطان ولو كان فاسقاً وحرمة الخروج عليه وإن أتى المنكرات وانتهك المقدسات علناً.

ومن الأحاديث الواردة عن المعصومين (عليهم السلام) في هذا المجال:-

1- رواية مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصة إذا عملت الخاصة بالمنكر سراً من غير أن تعلم العامة، فإذا عملت الخاصة بالمنكر جهاراً فلم تغير ذلك العامة استوجب الفريقان العقوبة من الله عز وجل. قال: وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن المعصية إذا عمل بها العبد سراً لم يضر إلا عاملها، فإذا عمل بها علانية ولم يغير عليه أضرت بالعامة). قال جعفر بن محمد (عليه السلام): (وذلك أنه يذل بعمله دين الله ويقتدي به أهل عداوة الله)(1).

وتقريب الاستدلال التمسك بإطلاق وجوب التغيير لكل الوسائل.

2- عن الطبري في تأريخه عن عبد الرحمان بن أبي ليلى، قال: (إني سمعت علياً (عليه السلام) يقول – يوم لقينا أهل الشام-: أيها المؤمنون، أنه من رآى عدواناً يُعمل به ومنكراً يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ. ومن أنكره بلسانه فقد أُجر، وهو أفضل من صاحبه. ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى وقام على الطريق ونور في قلبه اليقين)(2).

ص: 375


1- وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 4، ح1.
2- وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 3، ح8، نهج البلاغة: 3/243، الحكمة (373).

3- وفي نهج البلاغة: (ولعمري ما عليّ مِن قتال من خالف الحق وخابط الغي من إدهان ولا إيهان، فاتقوا الله عباد الله وامضوا في الذي نهجه لكم، وقوموا بما عصبه بكم فعلي ضامنٌ لفلجكم آجلاً إن لم تمنحوه عاجلاً)(1).

4- ما رواه الطبري في تأريخه وابن الأثير في الكامل أن الحسين (عليه السلام) خطب أصحابه وأصحاب الحر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أيها الناس، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله. ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله، وأنا أحق من غيّر)(2). أقول: الرواية صريحة في التغيير على السلطان الجائر.

5- وروى الطبري أيضاً عنه (عليه السلام) في خطبة خطبها بذي حسم: (ألا ترون أن الحق لا يعمل به، وأن الباطل لا يتناهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً; فإني لا أرى الموت إلا شهادة ولا الحياة مع الظالمين إلا برماً)(3)، وفي تحف العقول (لا أرى الموت إلا سعادة).

6- ومما جاء في وصية الإمام الحسين (عليه السلام) التي دوّنها وأودعها عند أخيه محمد بن الحنفية (إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً

ص: 376


1- نهج البلاغة: 1/58، الخطبة (24).
2- تأريخ الطبري: 7/300، الكامل لابن الأثير: 4/48.
3- تأريخ الطبري: 7/301.

وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (صلى الله عليه وآله) أريد أن أأمر1- بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب عليهما السلام)(1).

أقول: الرواية صريحة في الخروج على السلطان الجائر.

7- خبر جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (فأنكروا بقلوبكم والفظوا بألسنتكم وصكّوا بها جباههم ولا تخافوا في الله لومة لائم)(2).

أقول: إطلاق صك الجباه يشمل الخروج على السلطة.

8- قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة: (لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة –وهي البطنة وما يعتري الإنسان عند الامتلاء من الطعام- ظالم، ولا سغب –أي جوع- مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها)(3).

9- وفيه أيضاً قال (عليه السلام): (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول في غير موطن: لن تقدَّس أمة لا يؤخذ للضعيف فيه حقه من القوي غير متعتع)(4).

وتقريب الحديثين الأخيرين أنها تدل على أنه لا يسع المسلم خصوصاً العلماء بما ذكرنا لهم من الأدوات والتأثير أن يسكتوا ولا يبالوا بما يقع على الناس من مظالم ومصادرة للحقوق، وإطلاق هذه الأحاديث يشمل كل أدوات التغيير حتى العمل المسلح ما لم يمنع منه مانع.

ص: 377


1- بحار الأنوار: 44/329.
2- وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 3، ح1.
3- نهج البلاغة: 1/31، الخطبة 3.
4- نهج البلاغة: 3/113، الكتاب 53.

10- موثقة فضيل بن عياض عن الإمام الصادق (عليه السلام) وفيها (يا فضيل والله لضرر هؤلاء على هذه الأمة أشد من ضرر الترك والديلم)(1).

بتقريب أن الإمام (عليه السلام) لا يريد مجرد المقارنة وإنما ما يترتب عليها من آثار ومنها وجوب مدافعتهم ومجاهدتهم.

11- الرواية المشهورة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (من سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم)(2).وهي صريحة في التحذير من القعود عن وجوب نصرة المستضعفين والمحرومين واستنقاذ حقوقهم وحريتهم وكرامتهم.

هذا مضافاً إلى الروايات الكثيرة الواردة في وجوب التغيير باليد وقد تقدمت في القسم الأول من الكتاب في الفصل الخاص بالحديث عن مراتب الفريضة، ومنها رواية يحيى (ابن) الطويل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ما جعل الله عز وجل بسط اللسان وكفّ اليد، ولكن جعلهما يبسطان معاً ويكفّان معاً)(3).

وتقريبه ظاهر أي أن في كل مورد يجوز فيه الأمر والنهي باللسان فإنه يجوز تغييره باليد، وفيها رد على من يجيز امتثال الفريضة باللسان ويمنع منه باليد.

وإطلاق اليد يشمل الخروج على السلطة.

ص: 378


1- وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 37، ح6.
2- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 59، ح1.
3- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 61، ح1، وأبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باب 3، ح2.

ومحل الشاهد أن هذه الأحاديث الكثيرة التي أشاعها المعصومون (عليهم السلام) في رفض السلطة الجائرة وسلب الشرعية عنها وبيان مخاطرها على الدين وعلى مصالح الأمة وحقوقها والدعوة إلى إزالة هذا المنكر الكبير وإعادة الحق إلى أهله خلقت حالة من الهيجان والاحتقان والغليان لدى قطاع واسع من الأمة وأسست لحالات التمرد على السلطة ولخروج الثورات المسلحة ضد الأنظمة الظالمة.

وتنفع هذه الروايات أيضاً في الاحتجاج على الذين لا يعتقدون بوجود مشروع سياسي للأئمة فإن انتقادهم (عليهم السلام) للسلطات يعني أن عندهم البديل، فإن من يسقط شيئا فعليه أن يقيم شيئا بدلاً عنه...، ولعل هذا التبادر يكون منطقياً لدى كثير من الثوار لا سيما المتفقهين منهم، وإلا لبطل أمل الثائرين وقد سمعنا أن عدداً منهم يرفع شعار الرضا من آل محمد صلوات الله عليهم، وكان بعض شيعتهم يطالبهم بالخروج، فيفسرون لهم عدم خروجهم بعدم وجود الاستعداد لدى الناس وليس لأنهم لا يؤمنون بالسلطة السياسية.

وكان الإمام (عليه السلام) يرحب بتلك الروح الثائرة لدى بعض أبناء الأمة، ويودّ إدامتها؛ روى ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلاً عن كتاب أبي عبد الله السياري(1) عن رجل قال: (ذكر بين يدي أبي عبد الله (عليه السلام) من خرج من آلمحمد فقال: لا أزال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد، ولوددت أن الخارجي من آل محمد خرج وعليَّ نفقة عياله)(2).

أقول: الخير له (عليه السلام) ولشيعته يمكن تصوره بعدة اتجاهات:-

1- لأن هذه الثورات تبقي جذوة الرفض للظلم والفساد والسعي للتغيير.

ص: 379


1- قال النجاشي عن السياري أنه ضعيف فاسد المذهب مجفو الرواية كثير المراسيل ووصفه ابن الغضائري بأنه ضعيف متهالك غال منحرف، لكن صاحب المستدرك حاول إثبات وثاقته بإكثار الكليني وغيره عنه.
2- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 13، ح12.

2- وتمنع السلطة عن المزيد من الانحراف والاستبداد خشية ازدياد النقمة.

3- لأنها تشغل الظالمين عن الحق وأهله وربما تقنع بعض الجائرين بعدم خطورة منهج أهل البيت (عليهم السلام) على سلطانهم، فتقلل من ظلمهم واضطهادهم.

4- مضافاً إلى ما كانت تحدثه هذه الثورات من أمل في نفوس المستضعفين والمحرومين وحماستهم لإقامة الحق والعدل.

ولذا كان الإمام (عليه السلام) لا يقف مانعاً في طريق هذه الثورات أو عموم المشاركة في الجهاد ولا يثبط عزائمهم، إذا كانت النتيجة في صالح الدين والمسلمين، فمن رواية طويلة ذكر فيها الإمام الصادق (عليه السلام) شرائط القائمين بالجهاد إلى أن قال (عليه السلام): (ولسنا نقول لمن أراد الجهاد وهو على خلاف ما وصفنا من شرائط الله عز وجل على المؤمنين والمجاهدين: لا تجاهدوا، ولكن نقول: قد علّمناكم ما شرط الله عز وجل على أهل الجهاد الذين بايعهم واشترى منهم أنفسهم وأموالهم بالجنان، فليصلح امرؤ ما علم من نفسه من تقصير عن ذلك، وليعرضها على شرائط الله عز وجل، فإن رأى أنه قد وفى بها وتكاملت فيه فإنه ممن أذن الله عز وجل له في الجهاد، وإن أبى إلا أن يكون مجاهداً على ما فيه من الإصرار على المعاصي والمحارم والإقدام على الجهاد بالتخبيط والعمى والقدوم على الله عز وجل بالجهل والروايات الكاذبة فلقد لعمري جاء الأثر في من فعل هذا الفعل أن الله تعالى ينصر هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم، فليتق الله عز وجل امرؤ وليحذر أن يكون منهم، فقد بين لكم ولا عذر لكم بعد البيان في الجهل ولا قوة إلا بالله وحسبنا الله عليه توكلنا وإليه المصير)(1).

فيعبرّ الإمام (عليه السلام) عن عدم ممانعته لها في الجملة لكنه (عليه السلام) يدعوهم بحكم وظيفته في هداية الخلق إلى فعل ما يجب فعله.

ص: 380


1- وسائل الشيعة: 11/28، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 9، ح1.

عدم دعم الإمام (عليه السلام) للحركات المسلحة علناً:

هذا ولكن الإمام (عليه السلام) كان حذراً من الارتباط المباشر بأصحاب الثورات علناً، بل توجد روايات تشير إلى إمضاء موقف بعض أصحابه المقربينكزرارة ومؤمن الطاق(1) إذ امتنعوا عن تلبية دعوة زيد بالمشاركة معه في خروجه، ويمكن أن نفهم لهذا الموقف عدة مصالح:-

1- لئلا يعطي ذريعة للسلطة لإدانة الإمام (عليه السلام) وتصفيته قبل أن يؤدي دوره المبارك.

2- ولأن وظيفته والفقهاء من أصحابه هو ترصين وجود مدرسة أهل البيت وتوسيع رقعتها وبناء الجماعة الصالحة المؤمنة بمشروع الإمام (عليه السلام)، وليس تحقيق إنجازات مؤقتة غير قابلة للبقاء.

3- ولعل عدم حماس الأئمة (عليهم السلام) للثورات المسلحة وعدم التأييد العلني لها كان لحماية القاعدة المؤمنة بمنهج الإمام (عليه السلام) وحفظها من الاستئصال، ولو صدر من الإمام (عليه السلام) تأييد علني لالتحقت أعداد واسعة منهم بتلك الحركات المسلحة، فاكتفى (عليه السلام) بوجود محرومين ناقمين أو ثائرين غاضبين، لذا ورد في قول الإمام (عليه السلام): (لا أزال أنا وشيعتي بخير) فهو (عليه السلام) يريد لقاعدته المخلصة لمشروعه أن تكون بعيدة عن الصدام المسلّح مع السلطة لأن وظيفتهم الأهم ما ذكرناه آنفاً.

4- ويفهم من بعض الروايات أن عدم تأييد الأئمة (عليهم السلام) كان لعدم حسن الظن ببعض أصحاب تلك الثورات، ولسوء اعتقادهم بالإمامة كصحيحة العيص بن القاسم، وكالتي رواها في الاحتجاج قال:

ص: 381


1- ستأتي الروايتان (صفحة 384) إن شاء الله تعالى.

(قيل للإمام الصادق (عليه السلام): ما يزال يخرج رجل منكم أهل البيت فيقتل ويقتل معه بشر كثير، فأطرق طويلاً ثم قال (عليه السلام): إن فيهم الكذابين وفي غيرهم المكذّبين)(1).

اختلاف العلماء في تقييم أصحاب الثورات:

وبسبب سرّيّة هذه المواقف والحاجة إلى كتمانها وغموض بعضها ووجود روايات متعارضة فقد اختلف علماؤنا في تقييم أصحاب تلك الثورات، قال السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في تعليقته على كتابي (دور الأئمة في الحياة الإسلامية: 333): ((الذي وجدته من مجموع أخبار هؤلاء الثوار أنهم يختلفون تديناً ونفسياً وثقافياً وهدفاً، ولم يثبت أن جميعهم أخذوا الإذن من الأئمة (عليهم السلام) ولو سرّاً. كما أن عدداً منهم لم يدعُ إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله) ويكفي في ذلك تلك الرواية (ولو ظفر لوفى لله من ذلك) إن غير (زيد الشهيد) وبعض القلة الآخرين كيحيى لم يكن لديهم الحماس لمثل هذا الوفاء، كما يكفي أن عدداً منهم نجح فيحركته وأسس دولة ولم يفكّر في أن يدفعها إلى الأئمة (عليهم السلام) كصاحب طبرستان. ويكفي احتمال أن يكون الدعوة إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله) مجرد شعار عند بعضهم ليأخذ به التأييد الواسع، كما أن سقوط حكم التقية عن الثائر لا يكون إلا بالجهل للحكم أو بأخذ إذن الإمام ولعلنا نستطيع أن نحملهم من هذه الناحية على الصحة، ولكن من الصعب أن يفكّر هؤلاء بالوفاء للرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله) ولو طلبوا من الأئمة تولي زمام الحكم في دولتهم (لو نجحت) فمن غير المؤكد القبول لأن الدولة المطلوبة للأئمة (عليهم السلام) ليست دولة في (مهب الريح) بل هي دولة العدل العالمية كما هو

ص: 382


1- الاحتجاج: 2/120.

معلوم، فهل كان الثائر منهم على يقين بهذا القبول. وعلى أي حال فهذه الثورات حركات دينية لمجرد الشعور بالظلم في الواقع المعاش ولا نستطيع أن نعطي الكثير منها أوسع من هذا التقريض)).

أقول: لست هنا بصدد تفصيل البحث في حقانية تلك الثورات ومشروعيتها، لكننا يمكن أن نطرح باختصار أكثر من وجه –ولو على نحو الاحتمال- لدفع سوء الظن عن بعض أعلام العلويين خصوصاً من بني الحسن (عليه السلام) الذين نقلت الروايات عنهم كلمات لا يمكن قبولها من عامة الناس فكيف بهؤلاء الذين يعرفون عظمة وقدسية أئمة أهل البيت ومن تلك الاحتمالات:-

1- إن الثوار كانوا على اتفاق سري تام مع الإمام المعصوم (عليه السلام) في تبادل الأدوار فيظهرون الخلاف مع الإمام إلى حد الجرأة على مقامه الشريف(1)

حرصاً على سلامته ولدفع أي اشتباه للسلطة فيه حيث كان الطواغيت يحبسون على الظنة ويقتلون على التهمة، حتى ولو أدى هذا الإظهار إلى خسارة محسوبة لبعض الجنود من الشيعة ممن سيتركهم عندما يطّلع على جرأتهم الظاهرية، وبالمقابل يظهر الإمام براءته من فعلهم ليصل بذلك إلى أسماع السلطة، وعلى أساس هذين الموقفين نفهم الروايات، كالمروي في الاحتجاج عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (ليس منا أحد إلا وله عدو من أهل بيته، فقيل له: بنو

ص: 383


1- ومن ذلك قوله للإمام الصادق (عليه السلام): ((يحملك على هذا الحسد لابني))، راجع ما جرى من حوار بين أقطاب المجتمعين من بني هاشم في الأبواء مع الإمام الصادق (عليه السلام) في نهاية دولة بني أمية في مقاتل الطالبيين: 140، ونقل عنه في بحار الأنوار: 47/227، والإرشاد للمفيد: 2/190-193، ونسب فيها إلى عبد الله المحض قوله: ((وقد علمتم أن ابني هذا هو المهدي فهلم نبايعه)) ولكن تجد في بحار الأنوار: 47/302-304 عدة روايات تدل على معرفتهم بالمهدي الموعود وأنهم ليسوا هو.

الحسن لا يعرفون لمن الحق؟ قال (عليه السلام): بلى ولكن يحملهم الحسد)(1).2- إن الأئمة (عليهم السلام) كانوا يخفون تفاصيل أسماء الأئمة المنصوص عليهم عن بعض أقربائهم إما شفقة عليهم حتى لا تقام الحجة عليهم وهم يعلمون طموحهم للثورة، أو لأنهم (عليهم السلام) يريدون بالإخفاء استمرار اندفاعة أولئك الذرية للثورة ولو علموا بالنص لوجب عليهم استئذان الأئمة، وهم (عليهم السلام) لا يأذنون صريحاً فتتوقف الثورات وهو ما لا يريده الأئمة (عليهم السلام) فأبقوا الأسماء المنصوص عليها مخفية.

ويظهر من بعض الروايات ما يفيد هذه الوجوه، ففي معتبرة أبان قال: (أخبرني الأحول أن زيد بن علي (عليه السلام) بعث إليه وهو مستخفٍ، قال فأتيته فقال لي: يا أبا جعفر، ما تقول إن طرقك طارق منا؟ أتخرج معه؟ قال: فقلت له: إن كان أباك أو أخاك خرجت معه، قال: فقال لي: فأنا أريد أن أخرج أجاهد هؤلاء القوم، فاخرج معي، قال: قلت: لا، ما أفعل جعلت فداك، قال: فقال لي: أترغب بنفسك عني؟ قال: قلت له: إنما هي نفس واحدة فإن كان لله في الأرض حجة فالمتخلف عنك ناجٍ والخارج معك هالك، وإن لا تكن لله حجة في الأرض فالمتخلف عنك والخارج معك سواء، قال: فقال لي: يا أبا جعفر، كنت أجلس مع أبي على الخوان فيلقمني البضعة السمينة ويبرد لي اللقمة الحارة حتى تبرد شفقة عليّ؛ ولم يشفق عليّ من حرّ النار إذا أخبرك بالدين ولم يخبرني به؟ فقلت له: جُعلت فداك، من شفقته عليك من حر النار لم يخبرك؛ خاف عليك أن لا تقبله فتدخل النار وأخبرني أنا، فإن قبلتُ نجوت وإن لم أقبل لم يبالِ أن أدخل النار، ثم قلت له: جُعلت فداك، أنتم أفضل ام

ص: 384


1- الاحتجاج: 2/120.

الأنبياء؟ قال: بل الأنبياء، قلت: يقول يعقوب ليوسف: «يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً» لمَ لمْ يخبرهم حتى كانوا لا يكيدونه؟ ولكن كتمهم ذلك، فكذا أبوك كتمك لأنه خاف عليك، قال: فقال: أما والله لئن قلتَ ذلك لقد حدثني صاحبك بالمدينة أني أقتل وأصلب بالكناسة وإن عنده لصحيفة فيها قتلي وصلبي.

فحججت فحدثت أبا عبد الله (عليه السلام) بمقالة زيد وما قلت له، فقال لي: أخذته من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوق رأسه ومن تحت قدميه، ولم تترك له مسلكاً يسلكه)(1).

وروي عن زرارة قال: (قال لي زيد بن علي وأنا عند أبي عبد الله (عليه السلام): يا فتى ما تقول في رجل من آل محمد (صلى الله عليه وآله) استنصرك؟ قال: قلت: إن كان مفروض الطاعة نصرتُه وإن كان غير مفروض الطاعة فلي أن أفعل ولي أن لا أفعل، فلما خرج قال أبو عبد الله (عليه السلام): أخذتَه والله من بين يديه ومن خلفه وما تركت له مخرجاً)(2).ونقل صاحب البحار عن السيد ابن طاووس في إقبال الأعمال بسنده عن إسحاق بن عمار رسالة الإمام الصادق (عليه السلام) إلى بني الحسن في سجنهم وروايات احتج بها على صحة اعتقادهم بالأئمة (سلام الله عليهم) وإذعانهم لإمامتهم الشريفة ومنها روايته عن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن أنه (سئل عن أخيه محمد أهو المهدي الذي يُذكر فقال: إن المهدي عدة من الله تعالى لنبيه صلوات الله عليه وعده أن يجعل من أهله مهدياً لم يسمَّ بعينه ولم يوقّت زمانه، وقد قام أخي لله بفريضة عليه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن

ص: 385


1- الكافي: ج1، كتاب الحجة، باب الاضطرار إلى الحجة، ح 5.
2- الاحتجاج: 2/120.

أراد الله أن يجعله المهدي الذي يذكر فهو فضل الله يمن به على من يشاء من عباده وإلا فلم يترك أخي فريضة الله عليه لانتظار ميعاد لم يؤمر بانتظاره)(1).

وقد يصرّح الإمام (عليه السلام) علناً بالدفاع عن أصحاب بعض تلك الثورات ولكن ضمن نطاق ضيق جداً أو بعد انتهائها وزوال بيئتها وتداعياتها لنفس المحذور أعلاه كالذي حصل عليه زيد الشهيد (رضوان الله تعالى عليه)، ففي صحيحة العيص بن القاسم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (والله لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرّب بها ثم كانت الأخرى باقية يعمل على ما قد استبان لها، ولكن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة، فأنتم أحق أن تختاروا لأنفسكم، إن أتاكم آتٍ منا فانظروا على أي شيء تخرجون، ولا تقولوا خرج زيد، فإن زيد كان عالماً وكان صدوقاً ولم يدعكم إلى نفسه وإنما دعاكم إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله) ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه، إنما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه)(2)

إلى آخر الحديث.

أقول: أي خرج زيد لينقض سلطة جائرة مجتمعة وتسليم الحق إلى أهله، وجعل المجلسي في مرآة العقول قوله (عليه السلام): (إلى سلطان مجتمع لينقضه) علة لعدم ظفر زيد قال: ((أي فلذلك لم يظفر))(3).

ولعل التدقيق يوصل إلى الفرق بين ما ورد في الروايات من مدح الشهيد زيد والثناء عليه وتأكيد صدقه وإخلاصه ووفائه لأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) وبين تأييد ثورته إذ لا ملازمة كما ورد في الحديث (إن الله قد يحب العبد ويبغض عمله)(4)، ويمكن أن يكون وجه المبغوضية في عمله (رضوان

ص: 386


1- راجع بحار الأنوار: 47/299-304 عن إقبال الأعمال: 3/28.
2- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 13، ح12.
3- مرآة العقول: 4/365 من الطبعة القديمة.
4- راجع تحليل هذا الحديث ووجوهه في كتاب خطاب المرحلة: 8/112.

الله عليه) جعل المبرّر لتشكيل فرقة بعده تقول بما قاله للإمام الباقر (عليه السلام) في روايةطويلة أوردها الكليني في الكافي، وفيها قوله غاضباً: ((ليس الإمام منّا من جلس في بيته وأرخى ستره وثبّط الناس عن الجهاد ولكن الإمام منا من منع حوزته وجاهد في سبيل الله حق جهاده ودفع عن رعيته وذبّ عن حريمه)(1)، ووظّف البعض هذا المنهج لتأسيس مذهب جديد في مقابل مذهب أهل البيت (عليهم السلام) فحصل انشقاق وتباغض وتبادل اتهامات، فالإمام الصادق (عليه السلام) كان يريد لغير زيد –في مكانته وقربه من الأئمة الأطهار- أن يقوم بالثورة، لذا فإن الإمام أثنى على الشخص لأنه أهل للثناء وليس على الفعل لئلا يتحول الخروج بالسيف إلى ميزان لمعرفة الإمام الحق من المبطل في مقابل ما أسسه الأئمة المعصومون (عليهم السلام) من صفات الإمام الحق.

ويمكن تأييد هذا التفكيك بما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في فضل مسجد السهلة في ضواحي الكوفة وقد استعلم (عليه السلام) من جماعة من أهل الكوفة عن حال عمّه زيد قال (عليه السلام): (لو أن عمّي زيداً أتاه حين خرج فصلى فيه واستجار بالله لأجاره عشرين سنة)(2)

فلم يقل الإمام (عليه السلام): (لنصره الله) وكأنه (عليه السلام) يشير إلى عدم اكتراثه بتحقيق حركة زيد لبعض المكاسب بقدر اهتمامه بسلامته الشخصية، مع أن هذا المعنى أقرب لبركات المسجد؛ لأنه كان منطلق النبي إبراهيم (عليه السلام) في صراعه مع العمالقة كما في الرواية.

وعلى أي حال فقد أردت بقدح هذه الاحتمالات التأكيد على ضرورة الرجوع إلى ولي الأمر لأخذ التكليف منه فإنه أعلم بحيثيات الأمور والأحكام والله المستعان.

ص: 387


1- الكافي: 1/356 كتاب الحجة، باب ما يفصل بين دعوى المحق والمبطل، ح16.
2- بحار الأنوار: 100/434 عن قصص الأنبياء: 79.

وفي كتاب عيون أخبار الرضا (لما حمل زيد بن موسى بن جعفر الى المأمون وقد كان خرج بالبصره وأحرق دور ولد العباس وهبَ المأمون جرمه لأخيه علي بن موسى الرضا عليهما السلام وقال له: يا أبا الحسن لئن خرج أخوك وفعل ما فعل لقد خرج قبله زيد بن علي فقتل ولولا مكانك مني لقتلته فليس ما أتاه بصغير فقال الرضا عليه السلام: يا أمير المؤمنين لا تقس أخي زيداً إلى زيد بن علي فإنه كان من علماء آل محمد غضب لله عز وجل فجاهد أعداءه حتى قتل في سبيله ولقد حدثني أبي موسى بن جعفر عليهما السلام أنه سمع أباه جعفر بن محمد بن علي عليهم السلام يقول: رحم الله عمي زيداً إنه دعا إلى الرضا من آل محمد ولو ظفر لوفى بما دعا إليه ولقد استشارني في خروجه فقلت له: يا عم إن رضيت أن تكون المقتول المصلوب بالكناسة فشأنك، فلما ولى قال جعفر بن محمد: ويل لمن سمع واعيته فلم يجبه، فقال المأمون: يا أبا الحسن أليس قد جاء فيمن ادعى الإمامة بغير حقها ما جاء؟ فقال الرضا عليه السلام: إن زيد بن علي لم يدع ما ليس له بحق وإنه كان أتقى لله من ذلك، إنه قال: أدعوكم إلى الرضا من آل محمد عليهم السلام وإنما جاء ما جاء فيمن يدعي أن اللهتعالى نصّ عليه ثم يدعو إلى غير دين الله ويضل عن سبيله بغير علم وكان زيد والله ممن خوطب بهذه الآية: «وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم»)(1).

وفيه أيضاً عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إن عمّي كان رجلاً لدنيانا وآخرتنا مضى والله عمي شهيد كشهداء استشهدوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي والحسن والحسين) وفي حديث آخر عن الباقر (عليه السلام) عن آبائه قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) للحسين (عليه السلام): يا حسين، يخرج من صلبك رجل يقال له زيد يتخطى هو وأصحابه يوم القيامة رقاب الناس غرّاً محجلين يدخلون الجنة بغير حساب)، وفي حديث

ص: 388


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): 173، باب 25، ما جاء في زيد بن علي، ح1.

قال الصادق (عليه السلام) لفضيل: (يا فضيل، شهدتَ مع عمي قتال أهل الشام؟ قلت: نعم، قال: فكم قتلت منهم؟ قلت: ستة، قال: فلعلك شاك في دمائهم؟ قال: فقلت: لو كنت شاكّاً ما قتلتهم، قال: فسمعته وهو يقول: أشركني الله في تلك الدماء، مضى والله زيد عمي وأصحابه شهداء مثل ما مضى عليه علي بن أبي طالب وأصحابه)(1).

ولعل من هؤلاء(2)

الثوار الممدوحين الحسين بن علي صاحب فخ بناءً على صحة ما أورده أبو الفرج في مقاتل الطالبيين ونقل عنه في البحار: أن الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال عند مقتله: (إنا لله وإنا إليه راجعون، مضى والله مسلماً صالحاً صوّاماً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر)(3).

وروى أيضاً ((لما كانت بيعة الحسين بن علي صاحب فخ قال: (أبايعكم على كتاب الله وسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعلى أن يطاع الله ولا يعصى، وأدعوكم إلى الرضا من آل محمد، وعلى أن نعمل فيكم بكتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) والعدل في الرعية والقسم بالسوية) ))(4).

ص: 389


1- بحار الأنوار: 46/171 تأريخ علي بن الحسين عليهما السلام، الباب 11، ح20، وفي نفس الموضع، الحديث 24، روي عن زيد بن علي بن الحسين (عليهما السلام) قوله: (في كل زمان رجل منا أهل البيت يحتج الله به على خلقه، وحجة زماننا ابن أخي: جعفر بن محمد لا يضلّ من تبعه، ولا يهتدي من خالفه)/ ولا نحتاج أن نطيل الكلام في توجيه الروايات التي يظهر منها ذم زيد (راجعها في كتاب: دراسات في ولاية الفقيه للشيخ المنتظري (قدس سره): 1/213).
2- يوجد بحث أكثر تفصيلاً عن الموضوع في كتابي (دور الأئمة في الحياة الإسلامية) وعليه تعليقات لأستاذنا الشهيد الصدر الثاني (قدس سره).
3- بحار الأنوار: 48/165.
4- مقاتل الطالبيين: 299-302.

خروج الإمام الحسين (عليه السلام):

ويصل هذا الخروج إلى أعلى مستوياته حينما يباشره الإمام المعصوم بنفسه الشريفة كالذي قام به الإمام الحسين، وقد تقدمت (صفحة 376) بعض كلماته (عليه السلام) في بيان غرض نهضته وهو الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ويصرّح الأئمة (عليهم السلام) بأن أحكام الشريعة لا تقام ولا يمتثل لها الناس كقانون اجتماعي عام إلا بتسلّم السلطة ولو بالخروج بالسيف، ففي صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا يستقيم الناس على الفرائض والطلاق إلا بالسيف)(1)

ومثلها رواية أخرى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا ولينا فلم يرض الناس بذلك ضربناهم بالسوط، فإن لم يستقيموا ضربناهم بالسيف).

خلاصة القول في الخروج على السلطة:

وقد تحصّل مما تقدم أن ردع السلطان الجائر عن الظلم والعدوان والاستئثار ومصادرة الحقوق والحريات والحكم بغير ما أنزل الله تعالى وإظهار المنكرات والبدع والفساد ونحو ذلك يمكن أن يتخذ صوراً عديدة –بحسب مراتب امتثال الفريضة- تصل إلى حد الخروج عليه إذا اقتضى التكليف ذلك بحسب الشروط المتقدمة (صفحة 373)، وقد دلّ على ذلك:-

1- الروايات الخاصة العديدة.

2- إطلاقات الآيات والروايات الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتغيير باليد والمدافعة ونصرة المستضعفين.

3- السيرة العملية بقيام الإمام الحسين (عليه السلام).

وقد عبّرت آنفاً بقولي: (يمكن) أي يجوز في مقابل توهم الحرمة الذي ذهب إليها البعض مستنداً إلى جملة روايات تأتي مناقشتها إن شاء الله، وإلا

ص: 390


1- وسائل الشيعة: كتاب المواريث، أبواب موجبات الإرض، باب 3، ح1، 2، 3.

فإن هذا الخروج قد يكون واجباً إذا انحصر به أداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يكن هناك مانع منه بحسب ما يقرّره الفقيه الجامع للشرائط.

تنبيهات:

وهنا يجدر الالتفات إلى أمور:

الخروج لا يقتصر على العمل العسكري:

(الأول) إن الخروج على السلطة لا يفهم منه العمل المسلح خاصة وإنما هو يعني إعلان رفض السلطة والخروج عن طاعتها وهو أعم من العمل العسكري، ولم يثبت أن الأئمة (عليهم السلام) تبنّوا المواجهة المسلحة مع السلطة مع أنهم كانوا قادرين على تعبئة الأنصار والموالين ولم يلجأوا إلى هذا الأسلوب، وحتى عندما تتعرض حياتهم للخطر والتصفية والإمام يقدر على حماية نفسه وتحصين وضعه والتلويح بالقوة والدعوة إلى التمرد المسلح لردع الظالم عن تآمره لكن الأئمة (عليهمالسلام) لم يفعلوا ذلك ومضوا إلى قدرهم راضين مطمئنين بما اختار لهم الله تبارك وتعالى.

هدف الإمام الحسين (عليه السلام) لم يكن انقلاباً عسكرياً:

حتى الإمام الحسين (عليه السلام) فإن حركته لم تكن عسكرية أي أنه لم يخرج بهدف إحداث إنقلاب عسكري على السلطة الطاغوتية ولو أراد ذلك لما خرج بأهل بيته ونسائه وأطفاله وعدد قليل من أصحابه وهو يعلم أن أوصاله ستقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء، وإنما خرج لطلب الإصلاح في الأمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال (عليه السلام) ذلك صريحاً(1)، ولإحياء السنة وإماتة البدعة وإقامة أمر الله تعالى وحكامه، بعد أن

ص: 391


1- راجع خطاب (الإصلاح: رسالة الإمام الحسين عليه السلام) في كتاب خطاب المرحلة: 8/71، وتجد فيها قول أمير المؤمنين (عليه السلام): (اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، لكن لنردّ المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطلة من حدودك) (نهج البلاغة: 131).

أقيمت الحجة عليه بوصول آلاف الرسائل ومطالبته بالقدوم، وإرسال ابن عمه مسلم بن عقيل ليستوثق من بيعة القوم فأجابه (رضوان الله عليه) بالإيجاب كأحسن ما يكون، فموقفه في الاستجابة كموقف أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد مقتل عثمان، وقد عبر (عليه السلام) عن موقفه بقوله: (لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز)(1).

فالإمام الحسين (عليه السلام) لم يقاتل حين قاتل يوم عاشوراء إلا دفاعاً عن نفسه حينما اضطره القوم لذلك والدفاع عن النفس واجب، وكان يأمر أصحابه أن لا يبدأوهم بقتال حتى لا تكون حجة بيد الجيش المعادي، وكذلك رسوله مسلم بن عقيل لم يقم بانقلاب عسكري ولم يستول على قصر الإمارة بالسلاح مع أن الكوفة كانت بقبضته، ولم يحاصر قصر الإمارة إلا لإنقاذ المظلومين مثل هانئ بن عروة.

ولذا فإن الإمام الحسين (عليه السلام) لما علم –وهو في الطريق- بخذلان أهل الكوفة وانقلابهم عليه، وقتل مسلم بن عقيل، ولاقاه الحر الرياحي بجيشه لاستقدامه (عليه السلام) قال من كلام له: (فإذا كنتم على خلاف ما أتتني به كتبكم وقدمت به عليَّ رسلكم فإني أرجع إلى الموضع الذي أتيت منه) فمنعه الحرّ وأصحابه وأجبروه على اتخاذ طريق لا يرجعه إلى المدينة ولا يدخله الكوفة فتياسر الإمام (عليه السلام) حتى نزل كربلاء(2).وكرر (عليه السلام) الطلب على الجيش المعادي يوم عاشوراء حينما احتج عليهم بمراسلته وطلب القدوم عليهم؛ لأنه (عليه السلام) أصبح معذوراً

ص: 392


1- نهج البلاغة، ج1، الخطبة الشقشقية.
2- الصحيح من مقتل سيد الشهداء (عليه السلام) وأصحابه: 581.

في عدم الاستجابة كما أن أخاه الإمام الحسن (عليه السلام) ترك إمرة المسلمين وأرجعها إليهم لما خذلوه وتخلّوا عن نصرته (عليه السلام)، فالإمامان الحسن والحسين (عليهما السلام) منهجهما واحد وموقفهما واحد ونهجهما واحد، وقادة الإسلام الشرعيون لا يكرهون الأمة على شيء، وهذه النتائج التي أذكرها من الحقائق المهمة في هذا المجال فاغتنموها.

فما ذهب إليه البعض من كون خروج الإمام الحسين (عليه السلام) عسكرياً قابل للنقاش، قال السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) في بحث (دور الأئمة في الحياة الإسلامية) الذي شرحته في كتاب بنفس العنوان، قال (قدس سره): ((وتمثَّل –الدور الإيجابي للأئمة (عليهم السلام)- في تعرية الزعامة المنحرفة إذا أصبحت تشكل خطراً ماحقاً، ولو عن طريق الاصطدام المسلح بها والشهادة في سبيل كشف زيفها وشلّ تخطيطها كما صنع الإمام الحسين (عليه السلام) مع يزيد))(1).

هل كانت حركة الإمام الحسين (عليه السلام) تكليفاً خاصاً به؟

وقد علّق السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) على الفقرة الأولى من كلامه (قدس سره) بما يظهر منه أن حركة الإمام الحسين (عليه السلام) كانت استثنائية أي تكليفاً خاصاً به (عليه السلام)، قال (قدس سره) في تعليقته: ((لم يكن الخطر ماحقاً حقيقة وكان يكفي لدرء الخطر والاكتفاء ببعض الأعمال دون الشهادة كذهابه (عليه السلام) إلى اليمن أو غير ذلك ولو لمدة محدودة، بل حتى لو هادن الإمام الحسين (عليه السلام) يزيداً لم يكن عمله سيئاً وليس بأكبر من فعل أبيه وأخيه (عليهما السلام) غير أن الحكمة اقتضت مقتله لوجوه أكثرها مخفي عن العامة نذكر منها اثنين:

ص: 393


1- دور الأئمة في الحياة الإسلامية: 31.

الأول: مصلحة تعود إليه وإلى الشهداء بين يديه حيث أن له درجات مذخورة له عند الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن ينالها إلا بالشهادة وما أرخص الشهادة في نظره لنيل تلك الدرجات، وهذا نفسه منطبق أيضاً على أصحابه لينالوا ثوابهم كل حسب درجته وإخلاصه)).

أقول: هذه المصلحة لا تختص بالآخرة، بل في الدنيا أيضاً فإن بركات الإمام الحسين (عليه السلام) ونفعه للدين والمذهب والمؤمنين مما لا يرتقي إلى تأثيره أي سبب آخر كما هو، أي أن للدين والمذهب والمؤمنين درجات ومديات لن يبلغوها إلا بتلك التضحية العظيمة للإمام الحسين (عليه السلام).((الثاني: مصلحة تعود إلى المجتمع وهو إعطاء الأمثولة الكاملة للتضحية في سبيل الله إذ بعد ذلك ماذا يبقى في يد أي إنسان إلا ما هو دون تضحيته سلام الله عليه سواء على مستوى الجهاد الأصغر أو الجهاد الأكبر أو أي عمل من الأعمال الخاصة والعامة وإن الإنسان ليغضي حياءً حين يقارن عمله بعمل الحسين (عليه السلام) ويجد البون لا زال شاسعاً إلى غير ذلك))(1).

أقول: دعوى أن قيام الإمام الحسين (عليه السلام) تكليف خاص به معروضة من قبل البعض وهي غير تامة إذا كان المراد من التكليف الخاص عدم ثبوته في حق غيره حتى مع توفر نفس الشروط والظروف الموضوعية؛ لأن هذا:-

1- مما لا دليل عليه وخلاف الأصل الذي يقتضي التعميم والاشتراك.

2- تصريح الإمام الحسين (عليه السلام) نفسه بأن تكليفه ليس خاصاً وإنما يعمّ كل من تحقق معه موضوع التكليف بالخروج، لقوله (عليه السلام) في خطابه لأصحاب الحر: (فلكم فيَّ أسوة حسنة)(2).

ص: 394


1- دور الأئمة في الحياة الإسلامية: 31.
2- تأريخ الطبري: 7/300.

3- إن كلمات الإمام (عليه السلام) المتقدمة في تعليل خروجه وأهدافه صريحة في العمومية.

4- دفاع الأئمة (عليهم السلام) عن خروج غير الإمام الحسين (عليه السلام) كزيد الشهيد، فهذا نقض على من قال باختصاص التكليف.

نعم، إذا أريد بالتكليف الخاص: أنه تكليفه (عليه السلام) خاصة دون الأئمة (عليهم السلام) من بعده بلحاظ الظروف الموضوعية والملابسات الحاصلة في تلك الحقبة تجاه السلطة الجائرة، كما أن تكليف أمير المؤمنين (عليه السلام) كان الصبر وتكليف الإمام الحسن (عليه السلام) التنازل عن السلطة والحكم وتكليف الإمام الرضا (عليه السلام) قبول ولاية العهد، فهذا المعنى صحيح وهو لا ينفي ثبوت التكليف في حق أي أحد آخر يتعرض لنفس الظروف والملابسات، أي أنه ليس تكليفاً استثنائياً خاصاً.

والخلاصة أن الخصوصية لحركة الإمام الحسين (عليه السلام) هي في الموضوع أي الظروف والشروط التي حصلت معه وليس في الحكم كما يظهر من كلامه (قدس سره).

وعلق (قدس سره) على الفقرة الثانية من قوله: ((في سبيل كشف زيفها)) قائلاً: ((بحسب فهمي القاصر إن هذا لو كان هو المطلوب للحسين (عليه السلام) لكفى فيه إيجاد الجماعة الواسعة المخلصة مع إعلان الأمر بالخطب والكتب ونحوها، ولاأعتقد أن يزيد كان متخفياً بشرب الخمر والملاهي الأمر الذي يجعله مكشوف الزيف سلفاً ولا أقل من سهولة كشفه))(1).

وينبغي الالتفات إلى نكتة وردت في رسالة الإمام الحسين (عليه السلام) المتقدمة (صفحة 366) إلى معاوية بقوله (عليه السلام): (ما أردت حرباً ولا خلافاً، وإني لأخشى الله في ترك ذلك منك ومن حزبك القاسطين المحلّين حزب

ص: 395


1- دور الأئمة في الحياة الإسلامية: 31.

الظالم وأعوان الشيطان) وقوله (عليه السلام): (وإني لا أعلم لها –أي الأمة- فتنة أعظم من ولايتك عليها، وإني والله ما أعرف أفضل من جهادك، فإن أفعل فإنه قربة إلى ربي، وإن لم أفعله فأستغفر الله لديني وأساله التوفيق لما يحب ويرضى).

أقول: هذه النصوص وغيرها تكشف عن أن توقف الإمام (عليه السلام) عن مواجهة النظام بالقوة، ليس لأنهم لا يستحقون ذلك، وإنما لوجود موانع كخوف الفتنة وحدوث الفوضى واختلال النظام، أو عدم استعداد الأمة لقبول الحكومة العادلة، أو عدم وجود العدد الكافي من الأنصار المؤمنين بمشروع الإمام والمؤهلين لمساعدته على إقامته ونحو ذلك من الأمور مما ستأتي الإشارة إليها إن شاء الله تعالى، وهذا يعزّز ما ذكرناه من أن لحاظ التكليف لا يقتصر على المقتضي للخروج وإنما يلحظ معه عدم المانع ولذا أنيط الخروج بولي الأمر لأنه الأقدر على تشخيص كل هذه الحيثيات.

التعايش مع السلطة:

(الثاني) رغم هذه المعارضة المستمرة والصلبة للسلطات الجائرة بأشكالها المتنوعة، إلا أن الأئمة (عليهم السلام) مارسوا نوعاً أو حالة من التعايش مع السلطات الجائرة باعتبارهم واقعاً مفروضاً، فلا بد من التماشي معه لحفظ جماعة المؤمنين وإعزاز الدين وإدامة العمل على إعلاء كلمة الله تعالى.

ومن أشكال التعايش:-

العمل بالتقية وإقناع السلطة بأنهم شخصياً ليسوا في صدد الخروج عليها، من دون التخلي عن ثقافة الثورة والمطالبة بالتغيير التي نشروها في أوساط الأمة، وتوجد روايات كثيرة مشهورة وأكتفي بواحدة منها وهي رسالة جوابية بعث بها الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) إلى يحيى بن عبد الله بن الحسن ومما جاء فيها (وأنا متقدم إليك أحذرك

ص: 396

معصية الخليفة وأحثّك على برّه وطاعته وأن تطلب لنفسك أماناً قبل أن تأخذك الأظفار ويلزمك الخناق من كل مكان حتى يمن الله عليك بمنّه وفضله ورقة الخليفة أبقاه الله فيؤمنك ويرحمك ويحفظ فيك أرحام رسول الله (صلى الله عليه وآله). قال الراوي:1- فبلغني أن كتاب موسى بن جعفر وقع في يدي هارون فلما قرأه قال: الناس يحملوني على موسى بن جعفر وهو بريء مما يرمى به)(1).

2- المساهمة في بناء الدولة بشكل صحيح وتقويم عمل السلطة ودرء المخاطر؛ لأنها دولة الإسلام وهي في ذمة قادة الأمة الحقيقيين وإن أقصاهم الفسقة والطواغيت كإنقاذ أمير المؤمنين (عليه السلام) الأول والثاني من الإحراجات التي كان يسببها اليهود بإلقائهم الأسئلة والشبهات مما شكك البعض في صحة عقيدتهم فكان الإمام (عليه السلام) يتدخل ويجيب، ونصيحته (عليه السلام) للثاني لما أراد الخروج بنفسه لقتال الفرس، ووضعه (عليه السلام) التقويم الهجري من هجرة الرسول (صلى الله عليه وآله) حينما اختلفوا في التأريخ.

ومن تلك المواقف تدخل الإمام السجاد (عليه السلام) وتقديمه مشروع سك العملة الخاصة بالدولة الإسلامية بعد تهديد الروم بكتابة سب رسول الله (صلى الله عليه وآله) على العملة المتداولة يومئذٍ في زمن عبد الملك بن مروان، وكثير من المواقف ذكرتها في كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية، صفحة 32، 273).

فالأئمة (عليهم السلام) سبقوا كل السياسيين في التفريق بين السلطة والدولة وأن السلطة إذا كانت ظالمة وجائرة فهذا لا يعني تخريب الدولة من أجل الانتقام منها؛ لأن الدولة بمؤسساتها وأجهزتها هي لخدمة

ص: 397


1- الكافي: 1/366 باب ما يفصل به بين المحق والمبطل في أمر الإمامة: ح19.

الشعب وهي دائمة بدوامه، أما الحكومات فتتغير وتزول، لذا تجد للإمام السجاد (عليه السلام) دعاءً مطولاً في الصحيفة السجادية لأهل الثغور أي الجيوش المرابطة على حدود الدولة وثغراتها ومواقع اختراقها بغضّ النظر عن عدم شرعية السلطة القائمة، فأين من هذا سياسيو اليوم الذين يحرقون كل شيء تحت أقدام خصومهم لإزاحتهم.

الإذن لبعض أصحابهم بتقلد بعض المناصب الحكومية المتقدمة لحفظ مصالح المؤمنين والدفاع عنهم والإحسان إليهم وتقليل المظالم العامة بمقدار ما يستطيعون كما في صحيحة علي بن يقطين قال: (قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السلام: إن لله تبارك وتعالى مع السلطان أولياء يدفع بهم عن أوليائه).

وما رواه النجاشي في رجاله في ترجمة محمد بن إسماعيل بن بزيع قال: (قال أبو الحسن الرضا (عليه السلام): إن لله تعالى بأبواب الظالمين من نوّر الله له البرهان، ومكّن له في البلاد ليدفع بهم عن أوليائه ويصلح الله به أمور المسلمين، إليهم ملجأ المؤمنين من الضرر، إليهم يفزع ذو الحاجة من1- شيعتنا، وبهم يؤمن الله روعة المؤمنين في دار الظلمة، أولئك هم المؤمنون حقاً، أولئك أمناء الله في أرضه) إلى أن قال: (فهنيئاً لهم، ما على أحدكم أن لو شاء لنال هذا كله) قال: قلت: بماذا جعلني الله فداك؟ قال: (يكون معهم فيسرُّنا بإدخال السرور على المؤمنين من شيعتنا فكن منهم يا محمد).

وما رواه الشيخ المفيد عن محمد بن عيسى بن عبيد بن يقطين قال: (قال أبو الحسن موسى (عليه السلام): إن الله خلق قوماً من أوليائه مع أعوان الظلمة وولاة الجور يدفع بهم عن الضعيف ويحقن بهم الدماء)(1).

ص: 398


1- تقدمت هذه الروايات (صفحة 145 وما بعدها).

وعندما يحاول بعضهم ترك الولاية للجائر لما يراه من ظلم وجور فإن الإمام (عليه السلام) لا يأذن له بذلك ففي رواية علي بن يقطين (أنه كتب إلى أبي الحسن موسى عليه السلام: إن قلبي يضيق مما أنا عليه من عمل السلطان – وكان وزيراً لهارون - فإن أذنت جعلني الله فداك هربت منه، فرجع الجواب: لا آذن لك بالخروج من عملهم، واتق الله، أو كما قال).

وفي رواية محمد بن عيسى بن يقطين أن جواب الإمام (عليه السلام) (إني لا أرى لك الخروج من عمل السلطان، فإن لله عز وجل بأبواب الجبابرة من يدفع بهم عن أوليائه وهم عتقاؤه من النار فاتق الله في إخوانك). والشواهد على ذلك كثيرة(1).

ولم يطلق الأئمة (عليهم السلام) الإذن في الدخول في أعمال السلطة بلا ضوابط ومسوّغات حتى لا يخدع البعض أنفسهم ويتبعوا أهواءهم وينغمسوا في مظالم السلطة الجائرة وقد تقدم في البحث الثالث ذكر هذه المسوغات ففي رسالة الإمام الصادق (عليه السلام) إلى النجاشي لما ولي الأهواز (أما بعدُ، فقد جاءني رسولك بكتابك فقرأته، وفهمت جميع ما ذكرت وسألته عنه، وزعمت أنك بليت بولاية الأهواز فسرني ذلك وساءني، وسأخبرك بما ساءني

ص: 399


1- منها ما ذكره السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في كتابه (تاريخ الغيبة الصغرى) من بحث قيّم عن علاقة الإمامين الهادي والعسكري (عليهما السلام) بخلفاء عصريهما كتحذير الإمام العسكري للمعتز بعدم الخروج خشية من الاغتيال، وموقف الإمام (عليه السلام) من وزراء عصره، إذ زار الإمام العسكري (عليه السلام) الوزيرَ عبيد الله بن خاقان إبان وزارته، وقد حلل السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) عدة نكات من هذه الزيارة وأهدافها من تأليف قلب الوزير تجاه أصحاب الإمام وإذكاء نور الولاية في قلب الوزير أو رعاية مصالح شيعته.

من ذلك، وما سرني إن شاء الله، فأما سروري بولايتك، فقلت: عسى أن يغيث الله بك ملهوفاً خائفاً من آل محمد عليهم السلام، ويعزّ بك ذليلهم، ويكسو بك عاريهم، ويقوي بك ضعيفهم، ويطفئ بك نارالمخالفين عنهم، وأما الذي ساءني من ذلك فإن أدنى ما أخاف عليك أن تعثر بولي لنا فلا تشم حظيرة القدس، فإني ملخص لك جميع ما سألت عنه إن أنت عملت به ولم تجاوزه، رجوت أن تسلم إن شاء الله)، وفي مرسلة الصدوق عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (كفارة عمل السلطان قضاء حوائج الإخوان).

وبناءً على هذا تقلّد ثقات وأعيان أصحاب الأئمة (عليهم السلام) مناصب مهمة في الدولة فكان علي بن يقطين وزيراً لهارون العباسي أي رئيساً للحكومة وكان محمد بن إسماعيل بن بزيع وهو من أصحاب الإمام الكاظم (عليه السلام) وأدرك الإمام الجواد وزيراً أيضاً، وأصبح عبد الله بن سنان –وهو من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام)- خازناً –أي وزيراً للمالية- للمنصور والمهدي والهادي والرشيد –وهذه الأوصاف منهم براء-، وتقلّد عبد الله النجاشي ولاية الأهواز من قبل المنصور وهو صاحب الرسالة المتقدمة.

وكان محمد بن علي بن عيسى –وهو من أصحاب الإمام الهادي (عليه السلام) – وجهاً بقم وأميراً عليها من قبل السلطان وكذلك كان أبوه(1).

ووضع هارون ابنه محمد بن زبيدة في حجر جعفر بن محمد بن الأشعث ليؤدبه –وهو على مذهب التشيع- وساء ذلك يحيى البرمكي وخشي أن تتحول الدولة منه ومن ولده إلى جعفر وولده عند استخلاف محمد الأمين فسعى به إلى هارون عدة مرات أفشله الله فيها جميعاً(2).

ص: 400


1- راجع تراجمهم في رجال النجاشي وتنقيح المقال.
2- الرواية مفصلة في كتاب عيون أخبار الرضا: 56، الباب 7، في أخبار موسى بن جعفر (عليهما السلام) مع هارون، ح1.

هذا مع أن جملة منهم كانوا معروفين بالتشيع، فقد روى في الكافي بسنده عن علي بن يقطين حوار المهدي مع الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) في عدم الدليل على حرمة شرب الخمر حتى أفحمه الإمام (عليه السلام) فقال المهدي: (يا علي بن يقطين هذه والله فتوى هاشمية، قال: فقلت له: صدقت والله يا أمير المؤمنين، الحمد لله الذي لم يُخرج هذا العلم منكم أهل البيت، قال: فو الله ما صبر المهدي أن قال لي: صدقت يا رافضي)(1).

فالموقف الحازم الرافض لولاية الجائرين لا يمنع من زج المخلصين الكفوئين الذين يحفظون الحق ويدافعون عنه ويحسنون إلى المحرومين والمستضعفين في مناصب الدولة.

وهذا التنبيه يؤسس لفقه التعايش مع السلطات غير الشرعية وقد تختلف أنماط التعامل معها بناءً على اختلاف أنظمتها السياسية الحاكمة، فقد يرى الفقيه ضمّأتباعه في كيان سياسي ونحو ذلك إذا كانت الحياة السياسية تسمح بذلك، أو يدخلهم أفراداً في العمل السياسي من دون جمعهم في كيان واحد وهكذا بحسب ما يراه صالحاً في ضوء المنهج الرباني، وهذا التفكير مما تغافل عنه أو تقاعس عنه الفقهاء عبر التأريخ إلا من أفذاذ معدودين كالعلامة الحلي والمحقق الكركي والشيخ البهائي والشيخ كاشف الغطاء (قدس الله أرواحهم).

اشتراط إذن الولي الفقيه في الخروج على السلطة:

(الثالث) بغض النظر عن حكم الخروج ومستوياته الممكنة فإنه لا يجوز الخروج إلا بإذن السلطان العادل –وهو الإمام المعصوم (عليه السلام) في زمان الحضور ونائبه الفقيه الجامع للشروط وخصائص ولاية الأمة في عصر الغيبة- ودليله واضح:-

ص: 401


1- الكافي: 6/406، باب تحريم الخمر في الكتاب، ح1.

1- لأنه صاحب الحق في ولاية أمر الأمة فلا يجوز التصرف في سلطانه إلا بإذنه، بل إن هذا العمل هو من أخص مختصاته.

2- إن الإمام العادل هو أعلم الناس بالقرار الصحيح ودراسته من جميع جوانبه وحيثياته لمعرفته بالملاكات والمصالح والعناوين الأولية والثانوية، فقد يكون المقتضي للخروج موجوداً إلا أنه يمنع منه شيء مما ذكرناه فهو الأقدر على تشخيص كل ذلك.

3- الروايات، وقد أورد صاحب الوسائل جملة منها في الباب 12 من أبواب جهاد العدو من كتاب الجهاد، ومنها رواية بشير الدهان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قلت له: إني رأيت في المنام أنّي قلت لك: أن القتال مع غير الإمام المفترض طاعته حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنزير، فقلت لي: نعم هو كذلك، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): هو كذلك هو كذلك).

جواز الخروج لا يعني فرض نظام سياسي معين على الشعب:

(الرابع) إن جواز الخروج لا يعني فرض نظام سياسي معين على الأمة وإن كان حقاً في نفسه؛ لما ذكرناه مراراً من مدخلية إرادتها في اختيار النظام، ومن دون إرادتها فإن النظام لا يصمد وسرعان ما ينهار ويعود بالضرر على المشروع الإسلامي.

نعم يمكن استثمار الخروج وسائر مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وآليات الإصلاح في توعية الأمة بالمطالب الحقة وإقناعها بها ونصرته وتوسيع قاعدة مؤيديه.

لذا فإن الخروج على السلطة لا يكون مبرراً في البلدان ذات الأنظمة السياسية الديمقراطية –كما يسمونها- والتي يمتلك فيها المواطن التعبير بحرية عن إرادته ورأيهعبر صناديق الاقتراع ونحو ذلك، لأن من عنده مشروع صالح عليه

ص: 402

أن يقنع الناخبين به حتى تتحقق له الأغلبية فيستطيع تنفيذ مشروعه بالآليات التي أقرها الشعب.

معالجة الروايات المعارضة لجواز الخروج:

(الخامس) توجد روايات كثيرة يظهر منها المنع من الخروج على السلطة وقد فهم البعض منها إطلاق المنع فتحولت تدريجياً إلى ذريعة تبرر منهج الإنزواء والسلبية والانكفاء على الذات وإلقاء الحبل على غاربه وترك الظالمين والفاسقين يفعلون ما يشاؤون، بينما كان عطاء الأئمة (عليهم السلام) وسلوكهم مباركاً مثمراً حتى في مقاطعتهم كما تقدم.

ونعرض هنا تلك الروايات(1) لنفهم المراد منها إن شاء الله تعالى وهي على طوائف:

الأولى: ما دل على أن الخروج قبل قيام القائم تعرضٌ للمكروه:

ومنها ما رواه ربعي مرفوعاً إلى علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: (والله لا يخرج أحد منا قبل خروج القائم إلا كان مثله كمثل فرخ طار من وكره قبل أن يستوي جناحاه فأخذه الصبيان فعبثوا به)(2).

ص: 403


1- ذكرها صاحب الوسائل في الباب 13، من أبواب جهاد العدو، وأورد صاحب المستدرك مجموعة أخرى في الباب 12 من أبواب جهاد العدو في كتاب الجهاد، وقد نوقشت جملة منها من جهات متعددة في عدة كتب بحسب غرض الكتاب وموضوعه مثل: دراسات في ولاية الفقيه للشيخ المنتظري (قدس سره): 1/205-256، وكتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للشيخ نوري حاتم الساعدي: 125-143، كما تعرّض السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) لمجموعة من الروايات بعنوان حل إشكال المنافاة بين ما دل على وجوب العمل الاجتماعي من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين ما دلّ على الاعتزال والتقية في زمن الغيبة (تأريخ الغيبة الكبرى: 352).
2- وسائل الشيعة: 11/36، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 13، ح2.

ومثله ما رواه جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (مَثل خروج القائم منا أهل البيت كخروج رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومَثل مَن خرج منا أهل البيت قبل قيام القائم مثل فرخ طار ووقع من وكره فتلاعبت به الصبيان)(1).

ومثلهما ما ورد في مقدمة الصحيفة السجادية في كيفية روايتها عن المتوكل بن هارون وقد أخذها من يحيى بن زيد في خراسان عند خروجه بعد استشهاد أبيه، وروى فيها قول الإمام الصادق (عليه السلام): (ما خرج ولا يخرج منّا أهل البيت إلىقيام قائمنا أحد ليدفع ظلماً أو ينعش حقاً إلا اصطلمته البلية وكان قيامه زيادة في مكروهنا وشيعتنا).

أقول:-

1- الروايتان ضعيفتا السند، ففي الأولى (ربعي) وهو مشترك بين ابن عبد الله بن الجارود الثقة بحسب النجاشي، وربعي بن محمد الذي لا وجود له لأن الصحيح ربيع بن محمد كما في موضع آخر من التهذيب والكافي، والمشهور بالرواية وإن كان الأول إلا أن الرواية ضعيفة سنداً بالإرسال، وأما الرواية الثانية ففيها محمد بن المثنى الحضرمي وعثمان بن يزيد وهما لم يوثقا.

وأما سند الصحيفة السجادية ففيه محمد بن عبد الله بن المطلب الشيباني أبو الفضل الذي قال فيه النجاشي: ((رأيت جلّ أصحابنا يغمزونه ويضعّفونه)) ثم نسب إليه كتباً منها كتاب فضائل عباس بن المطلب مما دفع الشيخ المنتظري (قدس سره) إلى التشكيك في مصداقية رواياته فيما يوافق سياسة بني العباس. لكن هذه النكتة لا محل لها هنا،

ص: 404


1- مستدرك الوسائل: ج11، ص37، ح9.

وفي المقدمة ما لا يروق لبني العباس لما فيه من تأييد للثورات ضدهم. ووصفه ابن الغضائري بأنه ((وضّاع كثير المناكير)).

نعم قال الشيخ المنتظري (قدس سره): ((اللهم إلا أن يقال أن تلقي الأصحاب كتاب الصحيفة منه دليل على توثيقه عملاً فتأمل))(1).

أقول: لعل وجه التأمل أن التلقي بالقبول خاص بأدعية الصحيفة ؛ لقرائن مذكورة كمطابقتها مع النسخة المحفوظة عند الإمام الصادق (عليه السلام) بحسب الرواية نفسها، فلا تشمل مقدمتها، مضافاً إلى أن تلقي الأصحاب للرواية بالقبول لا يلزم منه توثيق راويها، ولسنا الآن بصدد توثيقه.

إن هذه الروايات يمكن أن تكون قضية في واقعة خارجية وهي التعريض بأصحاب الثورات من المنتمين إلى البيت النبوي وهم يدعون إلى أنفسهم وليس إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله)، وورد في هذا التحذير عدد من الروايات كقول أبي جعفر لأبي الجارود: (إياك والخوارج منا فإنهم ليسوا على شيء ولا إلى شيء)(2)، وقول الإمام الصادق (عليه السلام):1- (فالخارج منا اليوم إلى شيء يدعوكم إلى الرضا من آل محمد فنحن نشهدكم إنا لسنا نرضى به وهو يعصينا اليوم)(3).

2- ويمكن أن تكون هذه الروايات مانعة عن الخروج المسلح خاصة الذي كان يتبناه الثوار، وهذا ما فهمه صاحب الوسائل حينما عنون الباب (حكم الخروج بالسيف قبل قيام القائم عليه السلام)، وقد أوضحنا سابقاً أن الأئمة (عليهم السلام) لم يتبنّوه حتى الإمام الحسين (عليه

ص: 405


1- دراسات في ولاية الفقيه: 1/223.
2- مستدرك الوسائل: ج11،ص 35، ح5 عن الغيبة النعماني: ص 194، باب 11، ح2.
3- وسائل الشيعة: ج11، ص 35، ح1.

السلام)، ولا تمنع الروايات من مطلق الخروج على السلطة بالوسائل والآليات الأخرى كالمظاهرات والإضرابات والاحتجاجات ونحو ذلك.

3- وجود قرائن تدل على أن الروايات تمنع من الخروج قبل اكتمال مقدماته وشروطه أي قبل أوانه وليس مطلقاً، ومن تلك القرائن:-

أ- التشبيه بطيران الفرخ قبل أن يستوي جناحاه.

ب- مقابلة هذا الخروج قبل أوانه بخروج القائم الذي تطول غيبته حتى تكتمل عناصر النجاح لإقامة دولة الحق والعدل المباركة، ولم تكن هذه العناصر مكتملة في ذلك الزمان وما يشبهه.

5- ((إن المراد بخبر الصحيفة –على فرض صدوره – ليس هو بيان الحكم الشرعي وأن الخروج على الجائر جائز أو غير جائز، بل بيان أمر غيبي تلقاه الإمام (عليه السلام) من أجداده، وإن الخارج منا لا ينجح مائة بالمائة بحيث لا تعرض له البلية، والمصائب مكروهة للطبع قهراً، وليس كل مكروه بالطبع مكروهاً أو حراماً في الشرع، بل عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وتترتب عليه بركات من جهات أخر، فلا يدل الحديث أيضاً على تخطئة الخروج والقيام. وإن إخبار رسول الله (صلى الله عليه وآله) بشهادة الحسين (عليه السلام) أو شهادة زيد بالآخرة لم يمنعهما عن الخروج بعد اقتضاء التكليف))(1).

6- ((على فرض كون الخبر في مقام بيان الوظيفة والحكم الشرعي فهو كما ترى مرتبط بأهل البيت فلا يجوز التمسك به للسكوت منا في هذه الأعصار))(2).

ص: 406


1- دراسات في ولاية الفقيه للشيخ المنتظري (قدس سره): 1/225.
2- المصدر السابق: 1/227.

الثانية: ما دلّ على وجوب السكون في الدار وعدم الحركة:

منها ما رواه في الروضة بسنده عن سدير قال: (قال أبو عبد الله عليه السلام: يا سدير، الزم بيتك وكن حلساً من أحلاسه، واسكن ما سكن الليل والنهار، فإذا بلغك أن السفياني قد خرج فارحل إلينا ولو على رجلك)(1).

وما رواه الشيخ الصدوق في العيون والمعاني والشيخ الطوسي وابنه في مجالسهما بالإسناد عن الحسين بن خالد قال: (قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): إن عبد الله بن بكير كان يروي حديثاً وأنا أحب أن أعرضه عليك، فقال: ما ذلك الحديث؟ قلت: قال ابن بكير: حدثني عبيد الله بن زرارة قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) أيام خروج محمد (إبراهيم) بن عبد الله بن الحسن إذ دخل عليه رجل من أصحابنا فقال له: جُعلتُ فداك، إن محمد بن عبد الله قد خرج فما تقول في الخروج معه؟ فقال: اسكنوا ما سكنت السماء والأرض فما من قائم وما من خروج، فقال أبو الحسن (عليه السلام): صدق أبو عبد الله (عليه السلام) وليس الأمر على ما تأوّله ابن بكير، إنما عنى أبو عبد الله (عليه السلام) اسكنوا ما سكنت السماء من النداء، والأرض من الخسف بالجيش)(2).

وما ورد في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال في خطبة له: (الزموا الأرض، واصبروا على البلاء، ولا تحركوا بأيديكم وسيوفكم في هوى أنفسكم)(3).

وما رواه محمد بن الحسن في كتاب الغيبة عن الفضل بن شاذان عن الحسن بن محبوب عن عمرو بن أبي المقدام عن جابر عن أبي جعفر (عليه

ص: 407


1- مستدرك وسائل الشيعة: ج11، ص 36، ح3.
2- مستدرك وسائل الشيعة: ج11، ص 39، ح14.
3- مستدرك وسائل الشيعة: ج11، ص 40، ح15.

السلام) قال: (الزم الأرض ولا تحرك يداً ولا رجلاً حتى ترى علامات أذكرها لك، وما أراك تدركها: اختلاف بني فلان، ومناد ينادي من السماء، ويجيئكم الصوت من ناحية دمشق)(1).

وروى النعماني في غيبته بسنده عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قلت له (عليه السلام) أوصني فقال: أوصيك بتقوى الله وأن تلزم بيتك وتقعد في دهماء هؤلاء (أهواء) الناس وإياك والخوارج منا فإنهم ليسوا على شيء ولا إلى شيء واعلم أن لبني أمية ملكاً لا يستطيع الناس أن تنزعه وإن لأهل الحق دولة إذا جاءت ولاها الله لمن يشاء منا أهل البيت من أدركها منكم كان عندنا في السنام الأعلى وإن قبضه الله قبل ذلك، واعلم أنه لا تقوم عصابة تدفع ضيماً أو تعز ديناً، إلا صرعتهم البلية حتى تقوم عصابة شهدوا بدراً مع رسول الله (صلى الله عليهوآله)، لا يوارى قتيلهم، ولا يرفع صريعهم، ولا يداوى جريحهم، فقلت: من هم؟ قال: الملائكة)(2).

ويرد عليها:-

1- إنها بصدد بيان الموقف من ثورات العلويين خصوصاً بني الحسن (عليه السلام) الذين كانوا في خصومة مع الإمام الصادق (عليه السلام) بحسب بعض الروايات، ورواية الحسين بن خالد عن الإمام الرضا (عليه السلام) صريحة في ذلك.

2- كما يظهر منها أنها بصدد تكذيب المدّعين للمهدوية الذين يدّعون أنهم المهدي وينتسبون إليه لخداع الناس وتكثير أتباعه، وأن هذا الزمان وهذه الحركات ليست هي القيام المهدوي المقصود، وقد ادعى هذا العنوان

ص: 408


1- مستدرك وسائل الشيعة: ج11، ص 41، ح16.
2- مستدرك وسائل الشيعة: ج 11، ص 35، ح 5.

بعض بني الحسن بحسب بعض الروايات، كما سمّى أبو جعفر المنصور ولده محمد ولقّبه بالمهدي ليوهم الناس بذلك.

3- إن بعضها –كالمنقول عن نهج البلاغة- لا يمنع من الخروج مطلقاً وإنما يمنع الحركات الحماسية والانفعالية من دون تثبّت وفحص.

4- ومنها ما يستظهر منه تكليف المخاطب خاصة كالرواية الأولى عن سدير فقد كان مزاجياً عاطفياً مندفعاً وفي تنقيح المقال أنه (ذُكر عند أبي عبد الله (عليه السلام) سدير فقال: سدير عصيدة بكل لون)(1) وستأتي رواية أخرى عن المعلى (صفحة 417) فيه وفي عبد السلام بن عبد الرحمن بن نعيم، وقد ورد أن أبا عبد الله قال لزيد الشحام: (يا شحّام إني طلبت إلهي في سدير وعبد السلام بن عبد الرحمن –وكانا في السجن- فوهبهما لي وخلّي سبيلهما)(2). وسدير هو الذي يخاطب الإمام الصادق (عليه السلام): (والله ما يسعك القعود، فقال (عليه السلام): ولمَ يا سدير؟ قلت: لكثرة مواليك وشيعتك وأنصارك) وذكر أن عنده مائتي ألف، وفي نهايتها قال (عليه السلام): (والله يا سدير لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود)(3) وعددها سبعة عشر.

ص: 409


1- تنقيح المقال:2/8.
2- تنقيح المقال:2/8.
3- الكافي: 2/242، كتاب الإيمان والكفر، باب قلة عدد المؤمنين، ح4.

إلفات: وردت بعض روايات هذا الباب بمعنى النهي عن الدعوة إلى أهل البيت جهراً والكشف عن المعتقدات الخاصة بهم (عليهم السلام) حذراً من بطش السلطة، وقد أورد الشيخ الكليني (قدس سره) جملة منها في أصول الكافي تحت عنوان (الكتمان والإذاعة) ومنها عن الإمام الرضا (عليه السلام) وفيها (فلولا أن الله يدافع عن أوليائه وينتقم من أعدائه، أما رأيت ما صنع الله بآل برمك وما انتقم لأبي الحسن عليه السلام، وقد كان بنو الأشعث على خطر عظيم فدفع الله عنهم بولايتهم لأبي الحسن (عليه السلام)، وأنتم بالعراق وترون أعمال هؤلاء الفراعنة وما أمهل الله لهم فعليكم بتقوى الله ولا تغرنّكم الدنيا ولا تغترّوا بمن قد أمهل الله له فكأن الأمر قد وصل إليكم)(1).

ومنها مرسلة عثمان بن سعيد عمن أخبره قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): كفّوا ألسنتكم والزموا بيوتكم).

الثالثة: روايات التقية باعتبار أن الخروج على السلطة منافٍ للتقية وقد بلغت هذه الروايات التواتر كصحيحة ابن أبي يعفور قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: التقية ترس المؤمن، والتقية حرز المؤمن، ولا إيمان لمن لا تقية له)(2)، ومن تلك الروايات ما ورد في خصوص الخروج كصحيحة معمر بن خلاد قال: (سألت أبا الحسن عن القيام للولاة؟ فقال: قال أبو جعفر (عليه السلام): التقية من ديني ودين آبائي ولا إيمان لمن لا تقية له).

وما رواه الشيخ الصدوق في إكمال الدين والطبرسي في أعلام الورى والخزاز في كفاية الأثر بالإسناد عن الحسين بن خالد عن الرضا (عليه السلام) (لا دين لمن لا ورع له، ولا إيمان لمن لا تقية له، وإن أكرمكم عند الله أعملكم

ص: 410


1- والذي يليه تجدهما في وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 34، ح1، 4.
2- والذي يليه تجدهما في وسائل الشيعة: أبواب جهاد العدو، باب 13، ح6، 7.

بالتقية، قيل: يا ابن رسول الله إلى متى؟ قال: إلى قيام القائم، فمن ترك التقية قبل خروج قائمنا فليس منا)(1).

أقول: روايات التقية لا تنافي جواز الخروج على السلطة لأمور:-

1- ما تقدم في البحث من أن روايات التقية لا تنافي وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحن نتحدث عن الخروج كمرتبة من مراتب هذه الفريضة عندما يقتضي الوجوب ذلك وليس عن كل خروج.

2- النقض عليه بخروج الإمام الحسين (عليه السلام) ومبدأ التقية مشرّع قبل ذلك وقد تقدم جواب الإشكال من هذه الناحية.

3- إن التقية إنما شرّعت لحفظ النفوس والأعراض والأموال من تعريضها إلى الضرر والخطر بلا مبرر وهو مبدأ عقلائي وحديثنا عن الخروج الذي له مبرراته الشرعية والعقلائية، وكذلك شرّعت لحفظ الدين والعقائد الحقة ورسالة الإسلام عندما يكون الكشف عنها وإظهارها موجباً للقضاء عليها أو تطويقها وتحجيم تأثيرها، فإذا تعلق الخطر بالدين نفسه وخشي عليه من المحو والزوال فإنه لا يبقى معنى لتشريع التقية كما في خروج الإمام الحسين (عليه السلام)، وقد وردت الأحاديث في بذل النفس دون الدين، كما في وصية النبي (صلى الله عليه وآله) المشهورة إلى أمير المؤمنين (عليه السلام): (يا علي أوصيك في نفسك بخصال فاحفظها، اللهم أعنه، -إلى أن قال:- والخامسة: بذلك مالك ودمك دون دينك)(2)، ورواية الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كان في وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) أصحابه: (إذا حضرت بلية

ص: 411


1- وسائل الشيعة: 11/34، ح1، 2، 3.
2- الرواية والتي تليها تجدهما في وسائل الشيعة:11/450، أبواب الأمر والنهي، باب 22، ح2، 5.

فاجعلوا أموالكم دون أنفسكم، وإذا نزلت نازلة فاجعلوا أنفسكم دون دينكم، واعلموا أن الهالك من هلك دينه والحريب من حرب دينه).

الرابعة: ما دل على لزوم التثبت والفحص وعدم جواز الخروج إلا مع الإمام.

منها صحيحة العيص بن القاسم التي وردت الإشارة إليها في أكثر من موضع قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له وانظروا لأنفسكم، فوالله إن الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلاً هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم(1)

بغنمه من الذي كان فيها، والله لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرّب بها ثم كانت الأخرى باقية يعمل على ما قد استبان لها، ولكن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة فأنتم أحقّ أن تختاروا لأنفسكم، إن أتاكم آتٍ فانظروا على أي شيء تخرجون، ولا تقولواخرج زيد، فإن زيداً كان عالماً وكان صدوقاً، ولم يدعكم إلى نفسه وإنما دعاكم إلى الرضا من آل محمد صلى الله عليه وآله، ولو ظفر لوفى بما دعاكم إليه، إنما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه. فالخارج منّا اليوم إلى أي شيء يدعوكم؟ إلى الرضا من آل محمد؟ فنحن نشهدكم أنا لسنا نرضى به، وهو يعصينا اليوم وليس معه أحد، وهو إذا كانت الرايات والألوية أجدر ألا يسمع منا)(2).

ومنها معتبرة أبان المتقدمة (صفحة 384) في الحوار بين أبي جعفر الأحول وزيد الشهيد ودعوته لنصرته.

ص: 412


1- الصحيحة صريحة بأن الأعلمية المطلوبة في ولي أمر الأمة هي في حسن إدارة شؤون الرعية والعلم والخبرة بشؤونها ورعاية مصالحها، أما أعلمية الفقه والأصول فهي جزء منها أو هي مقدمة لهذه.
2- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 13، ح1.

ومنها صحيحة عبد الله بن المغيرة عن الإمام الرضا (عليه السلام) وفيها قوله: (أما يرضى أحدكم أن يكون في بيته ينفق على عياله من طوله ينتظر أمرنا؟ فإن أدركه كان كمن شهد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بدراً، فإن مات ينتظر أمرنا كان كمن كان مع قائمنا صلوات الله عليه هكذا في فسطاطه، وجمع بين السبابتين، ولا أقول: هكذا، وجمع بين السبابة والوسطى، فإن هذه أطول من هذه)(1).

أقول:-

1- الرواية الأولى صريحة في الإشارة إلى قضية خارجية محددة والنهي عن المشاركة فيها حيث يقول الإمام (عليه السلام): (فالخارج منا اليوم..) والثانية تتعلق بقضية زيد الشهيد.

2- غاية ما تدل عليه الروايتان النهي عن الخروج بدون إذن الإمام الجامع للشرائط أو لأن أصحابها دعوا إلى أنفسهم بعنوان المهدوية أو الإمامة ونحو ذلك والقائل بجواز الخروج يشترط إذن الإمام وولي أمر الأمة ولا يجيز الخروج لأغراض شخصية.

بل قد يقال بأن الصحيحة الأولى تدل على عكس مطلوبهم لأنها تضمنّت المبالغة في الثناء على زيد فإذا لزم من ذلك تأييد ثورته فهي دالة على عكس مطلوبهم، ولا خصوصية لزيد أكيداً، وإن منشأ التأييد كونها مطابقة لتعاليم أهل البيت (عليهم السلام) في أغراض الخروج وشروطه وهو ملاك عام.

الخامسة: ما دلّ على عدم جواز الخروج قبل حصول علامات قيام القائم (عليه السلام) وذكر علامات لذلك.

ص: 413


1- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 12، ح5.

منها معتبرة عمر بن حنظلة، قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: خمس علامات قبل قيام القائم: الصيحة والسفياني والخسف وقتل النفس الزكيةواليماني، فقلت: جُعلت فداك، إن خرج أحد من أهل بيتك قبل هذه العلامات، أنخرج معه؟ قال: لا)(1).

ومنها ما ورد في صحيحة العيص بن القاسم المتقدمة عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفي ذيلها: (وكفاكم بالسفياني(2) علامة).

ومنها ما ذكرناه في الطائفة الثانية كرواية جابر والحسين بن خالد وسدير.

أقول: ويرد عليها مثل ما أوردناه سابقاً من أنها بصدد تكذيب الذين يخدعون الناس بعنوان المهدوية لجمع الأتباع، ولتعريف الناس بالمهدي المحق وعلامات صحة حركته المباركة؛ لفرزها عن الحركات المعارضة لها في زمانها، فهذه الروايات لا تصلح لنفي جواز الخروج في عصر الغيبة لأننا نتحدث عن خروج في ظل طاعة وإمامة الإمام وتحت لوائه وغرضها التمهيد لدولة الحق والعدل بالإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

السادسة: ما دلّ على ضلال الرايات الخارجة قبل ظهور الإمام (عليه السلام) منها صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كل راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله)(3).

ص: 414


1- الكافي: 8/310، ح483.
2- من باب اللطيفة أقول: كنا نسمع من يفسّر السفياني بالسفياتي أي الاتحاد السوفيتي عندما كان قوة عظيمة مقابل قوة حلف شمال الأطلسي، ووجدت هذا الاحتمال معروضاً عند الشيخ المنتظري، قال (قدس سره): ((وقد تقرأ هذه الكلمة بالتاء المثناة بدل النون، ويراد بها الثورة الماركسية العالمية، ولكن يبعده أن الظاهر منها الشخص لا المنهج، وقد ورد أن اسمه عثمان بن عنبسة)) دراسات في ولاية الفقيه: 1/236.
3- وسائل الشيعة: ج11/37، ح6.

ورواية الجهني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كل راية ترفع قبل راية القائم (عليه السلام) فصاحبها طاغوت)(1).

أقول: الظاهر أن المراد من تلك الرايات من يدعون الناس لإمامتهم وإمرتهم ومن دون إذن الإمام الشرعي فتكون راية مقابل راية الإمام الشرعي فتحمل القبلية على هذا المعنى، أما إذا كان الخروج بإذن الإمام أو نائبه الجامع لشروط ولاية الأمر وكانت للإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنها غير مشمولة بهذه الأحاديث، ويؤيد ما ذكرناه ما رواه الكليني في روضة الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام) (وإنهليس من أحد يدعو إلى أن يخرج الدجال إلا سيجد من يبايعه، ومن رفع راية ضلالة فصاحبها طاغوت)(2) فالراية مقيدة بكونها ضلالة.

السابعة: ما ورد من النهي عن الاستعجال في الخروج ولزوم الصبر

منها ما رواه الكليني في روضة الكافي بسنده عن أبي المرهف عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (الغبرة على من أثارها، هلك المحاصير (وفي الروضة: المحاضير)، قلت: جعلت فداك، وما المحاصير؟ قال: المستعجلون، أما إنهم لن يريدوا الأ من يعرض لهم – ثم قال:- يا أبا المرهف أما إنهم لم يردكم بمجحفة إلا عرض الله عز وجل لهم بشاغل، ثم نكت أبو جعفر (عليه السلام) في

ص: 415


1- مستدرك الوسائل: ج11، 34، أبواب جهاد العدو، الباب 12، ح1.
2- الكافي: 8/296، الروضة، ح 456.

الأرض ثم قال: يا أبا المرهف، قلت: لبيك، قال: أترى قوماً حبسوا أنفسهم على رضاه لا يجعل لهم فرجاً؟ بلى والله ليجعلن الله لهم فرجاً)(1).

أقول: أراد الإمام (عليه السلام) طمأنة أبي المرهف بأن جلاوزة السلطة لا يتعرضون إلا لمن خرج عليهم، وأراد بالفقرة الأخيرة أصحابه الذين التزموا بتوجيهات الأئمة (عليهم السلام).

ومنها ما أورده الكليني في الكافي في الحوار بين الإمام الباقر (عليه السلام) وأخيه زيد، وفيها قوله (عليه السلام): (فلا يستخفنّك الذين لا يوقنون، إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً، فلا تعجل فإن الله لا يعجل لعجلة العباد، ولا تسبقنّ الله فتعجزك البلية فتصرعك)(2).

ومنها ما رواه أيضاً بسنده عن الفضل الكاتب قال: (كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فأتاه كتاب أبي مسلم فقال: ليس لكتابك جواب، اخرج عنا –إلى أن قال:- إن الله لا يعجل لعجلة العباد ولأزالة جبل من موضعه أهون من إزالة ملك لم ينقض أجله)(3).ومنها ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) في وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) قال: (يا علي إن إزالة الجبال الرواسي أهون من إزالة ملك لم تنقضِ أيامه)(4).

ص: 416


1- وسائل الشيعة: 11، ص 36، ح4 مع إضافة ما في روضة الكافي، بيان: الغُبْرة، والغَبَرة: الغبار، والمِحضار والمِحضير من الخيل ونحوها بكسر الميم فيهما: شديد الركض، والمجحفة: الداهية.
2- أصول الكافي: 1/356، كتاب الحجة، باب ما يفصل به بين دعوى المحق والمبطل، ح16.
3- وسائل الشيعة: 11/ ص37، ح5.
4- وسائل الشيعة: 11/38، ح9.

وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (ولا تستعجلوا بما لم يعجل الله لكم فإنه من مات منكم على فراشه وهو على معرفة بحق ربه وحق رسوله وأهل بيته مات شهيداً ووقع أجره على الله)(1).

وما رواه أيضاً المعلى بن خنيس قال: (ذهبت بكتاب عبد السلام بن نعيم وسدير، وكتب غير واحد إلى أبي عبد الله (عليه السلام) حتى ظهر المسودة قبل أن يظهر ولد العباس بأنّا قد قدّرنا أن يؤول هذا الأمر إليك، فما ترى؟ قال: فضرب بالكتب الأرض، قال: أفٍّ أفٍّ، ما أنا لهؤلاء بإمام، أما يعلمون أنه إنما يقتل السفياني)(2).

أقول: هذه الروايات تنهى عن الاستعجال بالخروج قبل حلول أجله المناسب بإتمام مقدماته والتي يحددها القائد الإسلامي الجامع للشروط.

وأما الأخيرة فإنها ترفع الاشتباه الذي وقع فيه المتفائلون بأن الأمور تؤول إلى الإمام الصادق (عليه السلام) ويؤسس حكومة الإسلام، فيصحح الإمام (عليه السلام) لهم ويقول: إنه ليس صاحب هذا الأمر، وقوله (عليه السلام): (ما أنا لهؤلاء بإمام) يمكن أن يريد به جيوش بني العباس لأنهم لا يعتقدون بإمامته وإن ظهروا بعنوان مظلومية أهل البيت (عليهم السلام)، ويمكن أن يريد به سدير وأمثاله من الذين لا يلتزمون بتوجيهات الإمام (عليه السلام)، ومثلها ما رواه الكشي بسنده عن عبد الحميد بن أبي الديلم قال: (كنت عند أبي عبد الله، فأتاه كتاب عبد السلام بن عبد الرحمن بن نعيم، وكتاب الفيض بن المختار وسليمان بن خالد يخبرونه أن الكوفة شاغرة برجلها، وأنه إن أمرهم أن يأخذوها أخذوها، فلما قرأ كتابهم رمى به، ثم قال: ما أنا لهؤلاء بإمام، أما يعلمون أن صاحبهم السفياني)(3).

ص: 417


1- وسائل الشيعة: 11/40، ح15.
2- وسائل الشيعة: 11/38، ح 8.
3- رجال الكشي: 353.

الثامنة: ما دل على مدح العزلة عن الناس

ففي الخصال عن علي بن مهزيار رفعه قال: (يأتي على الناس زمان تكونالعافية فيه عشرة أجزاء، تسعة منها في اعتزال الناس وواحدة في الصمت)(1).

ومن وصية الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) لهشام بن الحكم (يا هشام: الصبر على الوحدة علامة قوة العقل فمن عقل عن الله تعالى اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها ورغب فيما عند ربّه وكان أنسه في الوحشة وصاحبه في الوحدة)(2).

وفي أمالي الصدوق بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إن قدرتم أن لا تعرَفوا فافعلوا وما عليك إن لم يثن عليك الناس، وما عليك أن تكون مذموماً عند الناس إذا كنت عند الله محموداً)(3).

وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (طوبى لمن لزم بيته وأكل قوته واشتغل بطاعة ربّه وبكى على خطيئته فكان من نفسه في شغل والناس منه في راحة)(4).

أقول: هذه الروايات تحمل على أكثر من معنى صحيح لا يتعارض مع جواز الخروج على السلطة الجائرة، منها:-

1- اعتزال أخلاق الناس السيئة وشرورهم ومظالمهم وعدم الانجرار إلى معاصيهم وليس مقاطعتهم والانزواء عنهم أي بمثل معنى الكلمة: (كن معهم ولا تكن منهم).

ص: 418


1- الخصال: 437، باب العشرة، ح 24.
2- تحف العقول: 378.
3- أمالي الصدوق: 531، المجلس 95، ح2.
4- نهج البلاغة: 255، الخطبة رقم (176).

2- أو أنها تدعوا إلى اعتزال من لا ينفع فيهم الوعظ والإرشاد والنصح كقول الإمام الصادق (عليه السلام): (ما يمنعكم إذا بلغكم عن الرجل منكم ما تكرهون وما يدخل علينا به الأذى أن تأتوه فتؤنبوه وتعذلوه وتقولوا له قولاً بليغاً، قلت: جعلت فداك، إذن لا يقبلون منّا، قال: اهجروهم واجتنبوا مجالسهم)(1).

3- أو أنها تدل على اعتزال الفتن الضالة والدعوات المضلّة وأصحابها مهما لوّحت به من مغريات زائلة.

4- أو أنها تحث من لم يستطع أن يؤدي وظيفته إذا خالط المجتمع على الاعتزال لئلا يكون مقصراً في أداء واجبه، وورد هذا المعنى في الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إن قدرت أن لا تخرج من بيتك فافعل فإن عليك في خروجك أن لا تغتاب ولا تكذب ولا تحسد ولا ترائي ولا تتصنع ولا تداهن، صومعة المسلم بيته يحبس فيه نفسه وبصره ولسانه وفرجه)(2).

إذن فروايات العزلة لا تصلح لإسقاط الواجبات الاجتماعية كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصلاة الجمعة والجماعة وغيرها مضافاً إلى المستحبات الكثيرة كالتزاور وصلة الرحم والشعائر الدينية، وبالتأكيد فإنها لا تكون عذراً للتقاعس عن أداء الواجبات وبعضها صادر من أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي كثرت خطبه في الحث على الجهاد وإنكار التقاعس عنه ولا نرى بين كلاميه تعارضاً وتهافتاً؛ ولذا ذمّ أمير المؤمنين (عليه السلام) الذين اعتزلوا القتال معه بقوله: (خذلوا الحق ولم ينصروا الباطل)(3).

ص: 419


1- وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 7، ح3.
2- تحف العقول: 270.
3- نهج البلاغة: ج5، ص5، الكلمة (18).

بل ورد في بعض الروايات ذم العزلة لأنها تمنع من أداء هذه الفريضة، فقد روى الراوندي بسنده عن الإمام موسى بن جعفر عن آبائه عن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يأتي أهل الصُفّة، وكانوا ضيفان رسول الله (صلى الله عليه وآله) –إلى أن قال- فقام سعد بن أشجّ فقال: إني أُشهد الله، وأُشهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن حضرني، أن نوم الليل عليَّ حرام، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لم تصنع شيئاً، كيف تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر إذا لم تخالط الناس؟ وسكون البرية بعد الحضر كفر للنعمة)(1).

الخلاصة:

وخلاصة التحقيق في هذه الطوائف من الروايات أنها إما ضعيفة سنداً، أو أن المنع فيها خاص ببعض الحالات كالخروج بالسيف من دون إذن الإمام أو من دون تثبت واكتمال المقدمات، أو أن أصحابها مدعون لعناوين لا يستحقونها، أو أن النهي للمنع من الانزلاق في الفتنة والاحتراق فيها ونحو ذلك، وبعضها صادر للتوعية بقضية الإمام المهدي وتمييز المدعين المزيفين ونحو ذلك وليست بصدد بيان التكليف الشرعي، وبعضها صادر لبيان أن كل الثورات قبل قيام القائم لا تنجح بتحقيق أهدافها كاملة وتبسط الحق والعدل في الأرجاء من دون أن يؤثر ذلك في مشروعية الثورة ورجحانها وتحقيق أهداف أخرى.وعلى هذا فلا تنافي قطعاً وجوب إقامة الدين وشريعة سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمستوياته المترتبة ومنها الاحتجاج والتمرد والخروج على السلطة الجائرة.

ص: 420


1- مستدرك الوسائل: 12/183، عن نوادر الراوندي: 25.

ولا نغفل تأثير الدس والوضع الذي قام به أعوان السلطة بشكل واسع لغسل دماغ الناس ونشر ثقافة اليأس والإحباط والاستسلام للولاة، وتوجد روايات كثيرة في صحاح العامة بهذا الصدد فقد أخرج الشيخان(1)

عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شهراً فمات إلا مات ميتة جاهلية وفي نسخة مسلم: فميتة جاهلية).

أقول: الرواية تلزم بطاعة الأمراء سواء كانوا عسكريين أو إداريين ولا تأبى حملها على الصحة أي الأمراء الذين يعيّنهم القائد الإسلامي الشرعي، لكن الحكام الجائرين يصرفونها إليهم تحريفاً وزوراً.

وأخرجا(2) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) (إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني، وزاد مسلم على الحوض).

أقول: يمكن حمل الرواية على حال عدم القدرة على التغيير وليس مطلقاً لكيلا يتنافى مع ما دلّ على وجوب التغيير مع القدرة عليه.

ونقل أبو زهرة في كتابه ((المذاهب الإسلامية)) من الصحيحين أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (من وُلّي عليه والٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصيته ولا ينزعنّ يداً من طاعته)(3) وفي صحيح مسلم: (وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قالوا: قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، إلا من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعنَّ يداً من طاعته)(4).

ص: 421


1- البخاري: 9/59، مسلم 6/21.
2- البخاري: 9/60، مسلم 6/19.
3- المذاهب الإسلامية: 158.
4- مسلم: 6/24.

وأخرج مسلم(1) عن حذيفة بن اليمان في حديث له مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرت وأخذ مالك، فاسمع وأطع).أقول: الرواية تفترض أسوأ صور الظلم والفساد؛ لترويض الناس على الاستسلام لكل ما يصدر من تلك السلطات.

ونقل عن الحسن البصري قوله: ((تجب طاعة ملوك بني أمية وإن جاروا وإن ظلموا، والله لما يصلح أكثر مما يفسدون))(2).

وعلى أي حال فهذه الروايات إما أن تحمل على معنى صحيح كالذي ذكرناها، أو أنها مردودة وإن إثبات كذبها لا يحتاج إلى مؤونة لمعارضتها مع الموازين الشرعية التي ذكرتها الروايات في نفس الكتب، فقد أخرج الشيخان(3)

حديثاً بلفظ متقارب واللفظ للبخاري عن عبد الله بن عمر عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (السمع والطاعة على المرء المسلم في ما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة).

وأخرج مسلم(4)

عنه (صلى الله عليه وآله) (إنما الطاعة في المعروف).

وأخرج أيضاً(5) عن عبد الله بن عمرو بن العاص في حديث عن معاوية قال: (فسكت ساعة .. ثم قال: أطعه في طاعة الله واعصه في معصية الله إلى غير ذلك).

ص: 422


1- مسلم: 6/20.
2- الشيعة والحاكمون: 28.
3- البخاري: 9/78، مسلم: 6/15.
4- مسلم: 6/16.
5- مسلم: 6/18.

كلمة في الختام

لا شك أن هذه المباحث تحتاج إلى مزيد من التفصيل وقد اكتفينا بإثارتها وتسجيل رؤانا فيها لتوعية الأمة بمسؤولياتها إزاء هذه الفريضة العظيمة، ولتكسير قيود الكسل وأغلال العجز والتقصير وآصار اللامبالاة والإهمال.

وأختم البحث بهذه الكلمات للمرحوم الشيخ المنتظري (قدس سره) في استنهاض همة العلماء والحوزات العلمية، قال: ((وكيف يهتم العلماء الأعلام بالأمور الجزئية ويعدونها من الأمور الحسبية التي لا يرضى الشارع بتركها، كحفظ مال الصغير أو الغائب مثلاً، ولا يهتمون بكيان الإسلام ومقدرات المسلمين وشؤونهم وحفظ نظامهم وقدرتهم وطاقاتهم، ويعدّون التصدي لها مخالفاً للاحتياط؟! فيحولونها ويفوضون أمرها إلى من لا علم له بالإسلام، ولا التزام له به، ولا تقوى لديه.

نعم، الظاهر عدم كون ذلك عن تقصير منهم في بادئ الأمر، إذ كونهم مسجونين في زوايا المدارس وسراديبها، ومبعدين عن محيط السياسة في قرونمتمادية أوجب يأسهم من عودة الحكم إليهم، وأوجب عدم توجههم إلى مقدماتها ولوازمها، وبمرور الزمان غفلوا واستغفلتهم دسائس الاستعمار أيضاً))(1).

أقول: هذا العذر غير كافٍ لأن عليهم أداء دورهم وتحمل مسؤوليتهم في تبصير الأمة أما إمكان تحقيق النتائج وقطف الثمرات فليس من وظيفتنا وإنما هي بيد مدبّر الأمور.

ولكن علينا أن نلتفت إلى أن التنظير والحماس وحده لا يكفي للاندفاع باتجاه تأسيس حكومة الإسلام بل لا بد من حصول الوثوق بقدرة الإسلاميين

ص: 423


1- دراسات في ولاية الفقيه: 1/242.

على تجسيد مشروع الإسلام في عدالته ونزاهته وأخلاقه ومبدأيته وسموّه، وإلا كان الخطر أعظم بتشويه صورة الإسلام وتنفير الناس منه وتهديم ما بناه أجيال من العلماء الرساليين، وكلٌّ منا ينطلق من تجربته الخاصة وما أفرزته الأحداث والسلوكيات.

ولكن لما كان هذا الشرط شرط واجب لا شرط وجوب فيجب على العلماء إعداد مثل هذه القيادات المؤهلة للإمساك بمفاصل دولة الإسلام المباركة، وتثقيف المجتمع بمسؤولياته الكبرى، وهذا كله يتحقق بتفعيل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمراتبها وآلياتها المتنوعة والله المستعان.

(اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تُعزّ بها الإسلام وأهله وتُذلُّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك، وترزقننا بها كرامة الدنيا والآخرة).

ص: 424

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.