فقه الخلاف بحوث استدلالية في مسائل فقهية خلافية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- القسم الأول المجلد 8

هوية الكتاب

اسم الكتاب: فقه الخلاف- بحوث استدلالية في مسائل فقهية خلافية

مؤلف: سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دامه ظله)

عدد المجلدات: 12ج

السنة : 1441ه - 2020م

الناشر : دار الصادقين - النجف اشرف - العراق

ص: 1

اشارة

فقه الخلاف

بحوث استدلالية في مسائل فقهية خلافية

الجزء الثامن

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -القسم الأول

المرجع الديني الشيخ

محمد اليعقوبي (دام ظله)

الطبعة الثانية - مزيدة ومنقحة

النجف الأشرف - 1441 ه-/2020م

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -- القسم الأول أسمى الفرائض وأشرفها

ص: 5

ص: 6

بسم الله الرحمن الرحيم

أسمى الفرائض وأشرفها

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سادة خلقه أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين.

مقدمة في بيان شرف الفريضة وأهميتها

وصف الإمام الباقر (عليه السلام) في حديث مروي عنه فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأنها (أسمى(1)

الفرائض وأشرفها) وجاء فيه: (إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: سبيل الأنبياء، ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة، بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتَحِلُّ المكاسب، وتُرَدُّ المظالم، وتُعمر الأرض، ويُنتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر)(2).

وروي في فضل هذه الفريضة وشرفها عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: (وما أعمال البرِّ كلها، والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا كنفثة في بحر لجّيّ)(3).

ص: 7


1- هذا في رواية الكافي، وفي التهذيب: (أتم الفرائض).
2- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 1، ح6.
3- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 3، ح9.

هذه هي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في شرفها وأهميتها، وعظيم بركاتها وآثارها على الفرد والمجتمع، وإن واحداً من هذه الآثار كفيل بأن يجعلها في الصف الأول من الفرائض فكيف بمجموعها؛ لذا كانت أعظم من مجموع أعمال البرّ والجهاد في سبيل الله كما في كلمة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأن نسبةمجموع تلك الأعمال إلى هذه الفريضة كالنفثة –وهي ما يمازج النفس من الريق عند النفخ- بالنسبة إلى البحر العميق الواسع.

ويكفي هذه الفريضة شرفاً أن تكون هدف الإمام الحسين (عليه السلام) من نهضته ودفع دمه الشريف ودماء أهل بيته وسبي عقائل النبوة ثمناً لإحياء هذه الفريضة، كما عبّر (عليه السلام) صريحاً بقوله: (وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمد (صلى الله عليه وآله) ؛ أريد أن أأمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب)، وقال (عليه السلام): (ألا ترون أن الحق لا يُعمل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقّاً).

وأشار الإمام الصادق (عليه السلام) إلى ذلك بتعبير آخر في الزيارة المخصوصة بيوم الأربعين فقال (عليه السلام): (وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة) وهي من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ومن الطبيعي أن تحظى الفريضة بهذه الأهمية والمكانة العظيمة عند الشارع المقدس؛ لأن كل أمة –والأمة: هي الجماعة التي يجمعها أمر تشترك به ويكون محور اجتماعها ومحط أنظارها- لا يكتب لها البقاء والاستمرار إلا إذا حصّنت نفسها بالتدابير اللازمة من الداخل والخارج ضد الأعداء الذين يريدون القضاء عليها، بتفكيكها وتمزيقها وإضعافها من الداخل، أو باستئصالها والقضاء عليها من الخارج.

ص: 8

وهذا هو شأن الدول أيضاً، لذا تتضمن المؤسسات الحاكمة في الدول المتحضرة وزارتين عُدّتا سياديتين لارتباط سيادة الدولة وحفظ وجودها بهما، وهما وزارة الداخلية لحفظ الأمن الداخلي وحماية النظام العام، ووزارة الدفاع لحماية حدودها وسيادتها من الاعتداءات الخارجية.

ويمكن تصور نفس الشيء في الأفراد، فقد زوّدهم الله تعالى بقوة لحماية سلامتهم من الداخل وهي المناعة التي توفرها كريات الدم البيض وسائر الاحتياطات الأخرى لوقايته من الأمراض والجراثيم والفايروسات التي تهاجم أجهزة بدنه، وزوّده بالسلاح الذي يدافع به عن نفسه من الاعتداء الخارجي، قال تعالى: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» (الحديد: 25).

وقد أراد الله تعالى لهذه الأمة الإسلامية أن تكون خير أمة أخرجت للناس بنص الآية الشريفة، وأن تكون أمة خاتم الأنبياء ووارثة الأمم السابقة والمستخلفة في الأرض «وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ» (القصص: 5).

فلا بد من اتخاذ التدابير اللازمة لحفظ كيانها من الداخل وحمايته من عوامل النخر والانهيار كالنفاق والجهل والتخلف والخرافات والفساد والرياء والشبهات والفتن والضلالات، فكما أن الفرد المبتلى في جسمه بمرض فتّاك معدٍ يُعزل ويعالج للقضاء على الجراثيم المسبّبة للمرض خشية تفشيه وسريانه، فكذلك المصابونبالأمراض المعنوية والانحرافات الأخلاقية فإنهم يعالَجون ويصلحون؛ لحماية المجتمع من انتشار انحرافهم، فكانت وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وشرّع في عرضها وظيفة أخرى لحماية كيان الأمة المسلمة ودولتها من الخارج ولنشر دعوة الإسلام إلى الأمم الأخرى وإزالة كل العوائق التي يضعها

ص: 9

الطواغيت والمستكبرون في طريق تعرّف الأمم الأخرى على الإسلام ليختار كل واحد منهم عقيدته بحرّية «لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ» (الأنفال:42) فكانت فريضة الجهاد.

فوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة (سيادية) بالمصطلح السياسي المتداول؛ لقيام وجود الأمة وديمومتها وحفظ رسالة الإسلام من التحريف والتشويه والدس والتأويل بغير ما أنزل الله تعالى بهذه الفريضة، ولولا قيام من انتجبهم الله تعالى بها لما بقي من الإسلام إلا اسمه ومن القرآن إلا رسمه، كالذي حلّ بالديانات السابقة على الإسلام، ففي الحديث الشريف المروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ويحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين، وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين، كما ينفي الكير خبث الحديد)(1).

ولكن القائمين بهذه الفريضة قليل، والجهد المطلوب لمكافحة الانحراف والفساد والتزوير كبير جداً؛ لذا انحرفت سيرة المسلمين ومسيرتهم منذ اللحظة الأولى بعد رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الرفيق الأعلى.

وهذا ما حذّر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمته من الوقوع فيه، وحذّر من التداعيات التي تحصل عقب ترك هذه الفريضة العظيمة، من ضياع القيم وانقلاب المنكر معروفاً والمعروف منكراً، فلا يستطيع أحد حينئذٍ أن يصلح ويغير لأن ما يأمر به من المعروف سيبدو منكراً لأن الناس يرونه معروفاً، وهو ما ابتلي به المصلحون على مرّ الدهور، وهذا أحد وجوه فهم الحديث الشريف عن الإمام المهدي (عجل الله فرجه) أنه يأتي بدين جديد وقرآن جديد؛ لرسوخ الحالة المزيفة المقابلة للحق.

ص: 10


1- وسائل الشيعة: كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب 11، ح 40. والكير: الزق الذي ينفخ فيه في الحداد.

وقد ورد تحذيره (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا في حديث مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال النبي (صلى الله عليه وآله): كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟ فقيل له: ويكون هذا يا رسول الله؟ فقال: نعم، وشرٌّ من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتمعن المعروف؟ فقيل له: يا رسول الله، ويكون ذلك؟ قال: نعم، وشرٌ من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً)(1).

وهذه المراحل من الانحطاط كما ينتكس إليها المجتمع كذلك يرتكس فيها الفرد، فإنه في بداية الأمر له فطرة وضمير يعرف به الحق والباطل والحسن والقبيح فيرتاح إذا فعل الأول ويؤنّبه ضميره إذا فعل الثاني. لكنه بتزيينٍ من الشيطان وضغطٍ من النفس الأمارة بالسوء وعوامل أخرى يخالف هذا الضمير الداخلي من دون أن يصلح ما صدر منه ويعود إلى رشده، بل يتساهل فيه، وحينئذٍ ينتقل إلى المرحلة الثانية عندما تأخذه العزة بالإثم ويكابر ويغالط فيحاول إقناع نفسه بما فعل أو تبريره أو الهروب منه بارتكاب مزيد من الخطأ ومقارفة الخطيئة كمن يهرب من جريمته بشرب المسكر أو بجريمة أخرى ليتناسى جريمته الأولى. ثم تأتي المرحلة الثالثة عندما يسودّ قلبه ويموت ضميره ويُطبع على قلبه ويتحول إلى شيطان فيرى المعروف منكراً والمنكر معروفاً.

وعلى أي حال فقد حصل هذا الانقلاب في المفاهيم والقيم في وقت مبكر في صدر الإسلام وبلغ ذروته في عهد يزيد رغم حداثة العهد بنبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا زال جملة من الصحابة وبعض أزواج النبي

ص: 11


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 1، ح12.

(صلى الله عليه وآله وسلم) على قيد الحياة، فقام الإمام الحسين (عليه السلام) لإحياء هذه الفريضة كما في النصوص التي قدمنا ذكرها.

ويبدي (عليه السلام) أسفه للحال الذي وصلت إليه الأمة بسبب تضييعها لهذه الفريضة، قال (عليه السلام) لما طلب منه والي المدينة البيعة ليزيد: (إنا لله وإنا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام إذا ابتليت الأمة براعٍ مثل يزيد)(1).

وهي النتيجة التي حذّرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الوقوع فيها، ففي الكافي والتهذيب وعقاب الأعمال بالإسناد عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: (إذا أمتي تواكلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلياذنوا بوقاع من الله)(2).وروى الشيخ الطوسي (قدس سره) في التهذيب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البرّ، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسُلّط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء)(3).

ومما يؤسف له أن هذا التهاون في أداء الفريضة على الصعيد العملي تحول تدريجياً في أذهان جملة من الفقهاء إلى عدم الاهتمام بشأن هذه الفريضة في الآثار الفقهية المباركة –سواء كانت متوناً فقهية، أو كتباً استدلالية- إما

ص: 12


1- موسوعة كلمات الإمام الحسين (عليه السلام): 346، عن مقتل الحسين (عليه السلام) للخوارزمي: 184، والفتوح: 5/17. ويلاحظ أن الإمام الحسين (عليه السلام) لم يذكر يزيد باسم أبيه في جميع كلماته؛ لأن أم يزيد حملت به وهي خارج بيت الزوجية عندما حصلت قطيعة وهجران بينها وبين معاوية وذهبت إلى أهلها مدة طويلة (الناشر).
2- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 1، ح4.
3- نهج البلاغة: ج4، باب الحكم والمواعظ، رقم 373.

لحرص العلماء الأعلام على تناول المسائل الابتلائية أو خشية من بعض الممارسات التي حصلت بسبب سوء التطبيق بحيث اتخذ عنوان هذه الفريضة لتحقيق مكاسب شخصية، أو تنفيذ مخططات للسلطة عندما كانت تتبنى ذلك، هذا من جانب ومن جانبٍ الكتب الاستدلالية، فلعل عدم التعرض لعدم وجود مطالب معمقة فيها تستحق جعلها موضوعات للأبحاث الاستدلالية، ففيهم من لم يتعرض لهذه الفريضة أصلاً(1)، ومنهم من تعرض لها باقتضاب –كالديلمي في المراسم- أو ضمن كتاب الجهاد كالكليني في الكافي والشيخ (قدس سره) في التهذيب حيث جعله الباب الأخير من كتاب الجهاد ذي الثمانين باباً، كما خلت رسائل عملية كثيرة من هذا الكتاب.

وهذه المعطيات تلزمنا ببذل جهد إضافي لإحياء هذه الفريضة العظيمة علماً –من خلال إشباعها بالبحث وإثارة تفاصيلها-، وعملاً –بتفعيلها في حياة الأمة وضبط حركتها بقواعد الشريعة- والله ولي التوفيق وهو المستعان.

إن عملية الإصلاح التي هي رسالة الأنبياء والأئمة (سلام الله عليهم أجمعين) «إنْ أُريدُ إلا الإصْلاحَ مَا استَطَعْتُ وَمَا تَوفِيقِيَ إلا بِاللهِ» إنما تتحرك وتُنفَّذ على أرض الواقع من خلال هذه الفريضة المباركة والدعوة إلى الخير، فإحياء هذه الفريضة يعني مواصلة تأدية رسالة الرسل والأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) في كل ميادين الإصلاح(2)

السياسي والاجتماعي والفكري والأخلاقي والتشريعي والاقتصادي.

ص: 13


1- أما المتون فكالمقنع للصدوق والانتصار والناصريات للسيد المرتضى والمبسوط للشيخ الطوسي وجواهر الفقه للقاضي، والغنية لابن زهرة. وأما الاستدلالية فكالمحقق البحراني في الحدائق والسيد العاملي في مفتاح الكرامة، قال المحقق البحراني (قدس سره) عن كتابه الحدائق: ((وأعرضت عن ذكر كتاب الجهاد وما يتبعه لقلة النفع المتعلق به الآن تبعاً لبعض علمائنا الأعيان، وإيثاراً لصرف الوقت في ما هو أحوج وأحق لأبناء الزمان)) لؤلؤة البحرين: 446.
2- راجع خطاب (الإصلاح: رسالة الإمام الحسين (عليه السلام) )، والمجلد الثامن من كتاب (خطاب المرحلة).

الفصل الأول: في تنقيح الموضوع

اشارة

وفيه مطالب:

(المطلب الأول) في معنى المعروف والمنكر:

اشارة

عرّفهما المحقق الحلي (قدس سره) بقوله: ((المعروف: هو كل فعل حسن، اختص بوصف زائد على حسنه، إذا عرف فاعله ذلك، أو دُلَّ عليه.

والمنكر: كل فعل قبيح، عرف فاعله قبحه، أو دُلَّ عليه)).

أقول: يلاحظ على التعريف عدة أمور:-

أولاً- قوله (قدس سره): ((وهو كل فعل حسن)) وهو بمثابة الجنس في التعريف، ولم يبيّن أن حسنه بأي لحاظ وبحكم أي شيء، إذ يمكن أن يكون بحكم العقل أو العرف أو سيرة العقلاء وغيرها مما سنذكره إن شاء الله تعالى.

واستظهر السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) من التعبير بالحسن والقبح أنه يريد العقليين، وأن ذلك بحكم العقل(1)، ولما كان حكم العقل مما لا تجب طاعته لعدم ترتب العقوبة على مخالفته ولا الثواب على طاعته، أضاف المحقق (قدس سره) قيداً هو اختصاص هذا الفعل بوصف زائد على حسنه ((وينحصر مراده بالاعتراف الشرعي به وهذا صحيح؛ لأنه عندئذٍ يكون المعروف والمنكر شرعيين)).

ويرد عليه:-

1- إنه بإضافة هذا القيد لا ينحصر كون الجنس هو حسن الفعل بحكم العقل، إذ يمكن لأي فعل حسن باللحاظات الأخرى التي سنذكرها أن

ص: 14


1- ما وراء الفقه: 2/416.

يكون معروفاً مع إمضاء الشارع المقدس لرجحانه، بل يمكن الاستغناء عن هذا الجنس أصلاً ما دام المناط كون الفعل معروفاً أو منكراً هو أمر الشارع ونهيه.

2- إننا إذا افترضنا حسن الفعل في ذاته وقبحه، فقد لا نحتاج إلى هذا القيد الزائد، ونكتفي بكون الفعل مما حكم العقل بحسنه ليكون معروفاً، أو قبحه ليكون منكراً بتقريبين:

إن حكم العقل أي إدراكه لحسن وقبح الفعل يترتب عليه اثر وهو مدح الفاعل وارتفاع درجته أخلاقياً إذا فعل الحسن، وتدنيه على هذا المستوى إذا فعل القبيح، ويمكن جعل هذا الأثر شرعياً باعتبار أن العقل ما عُبد به الرحمن فما حسّنه العقل هو محبوب للمولى ويكون فعله مقرِّباً إلى الله تعالى، والفعل القبيح يكون مبغوضاً للمولى ومبعِّداً عنه.

وبتعبير آخر: إن فعل الحسن عقلاً يجعله من مصاديق العدل أيأ- وضع الشيء في مواضعه وهو مأمور به شرعاً، كما أن فعل القبيح عقلاً يجعله من مصاديق الظلم وهو منهي عنه شرعاً.

ب- إنه بناءً على الملازمة التي أسسوها في علم الأصول وهي (ما حكم به العقل حكم به الشرع) لا تحتاج إلى القيد؛ لأنه إذ ثبت كون الفعل حسناً بحكم العقل فإنه يكون راجحاً في الشرع، وإذا ثبت كون الفعل قبيحاً عقلاً فإنه يكون منهياً عنه شرعاً.

ولعل المحقق (قدس سره) يعترف بالشق الثاني من هذه الملازمة على الأقل لذا لم يذكر قيد الاختصاص بوصف زائد في جانب القبيح ((لأن المنكر العقلي يكون تركه عدلاً، وفعله ظلماً، فإهمال الشريعة له غير ممكن لأنه إهمال

ص: 15

للنهي عن الظلم وهو مستحيل، وبذلك يكون للمحقق الحلي المبرر في أن يضيف ذلك القيد إلى المعروف ويحذفه من المنكر))(1).

أو لأن القبيح والمنكر واحد وهو الحرام، قال تعالى: «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ» (العنكبوت:45)ن وقال تعالى: «إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ» (لقمان:19) أي أقبحها.

ثانياً- قوله (قدس سره): ((اختص بوصف زائد على حسنه)) وفيه:-

1- إنه (قدس سره) لم يبين لنا هذا الوصف الزائد، فإن كان مراده الإمضاء الشرعي له، أي عدم وجود ما ينافيه شرعاً كما تقدم عن السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وكرره، كأغلب القوانين الوضعية التي تسنّها المؤسسات التشريعية في الدول ويراد منها تنظيم أمور الناس وخدمتهم، فيرد عليه أن غاية الإمضاء الشرعي جعله مباحاً، فلا يكون مما يؤمر به ولا يُنهى عنه.

نعم لو قامت الحجة الشرعية على وجوب الالتزام به –كأمر الحاكم الشرعي أو الولي الفقيه- أصبح من المعروف الذي يؤمر به شرعاً.

2- إن الإمضاء الشرعي كما يُحتاج إليه في جانب الفعل الحسن ليترتب عليه الثواب شرعاً، كذلك يُحتاج إليه في القبيح ليكون منكراً موجباً للعقوبة الشرعية، فلماذا لم يذكره (قدس سره) في جانب القبيح، إلا أن نقرّبه على بعض الوجوه المتقدمة.

3- إن المباح ممضى شرعاً وكذا المكروه بمعنى أن الشارع المقدس لم يحرّمه، وهما ليسا داخلين في المعروف بالمعنى المصطلح، فهذا نقض على هذا التفسير.

ص: 16


1- ما وراء الفقه: 2/419.

نعم إذا أريد بالقيد ما يفيد الرجحان شرعاً صحّ، وسنتعرض له لاحقاً إن شاء الله تعالى.

ثالثاً- قوله (قدس سره): ((إذا عرف فاعله ذلك، أو دُلَّ عليه)) ظاهر في أنه لكون المعروف معروفاً والمنكر منكراً؟ أي أنه ((مبني على الزعم بأن الفعل القبيح من الجاهل لا يكون قبيحاً، والفعل الحسن من الجاهل لا يكون حسناً)) وهذا غير صحيح، قال السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره): ((لأننا نحسّ من الوجدان العقلي أنه يحكم بالحسن والقبح على ذات الأفعال بغضّ النظر عن العلم بها والجهل عنها. نعم إنما يكون الجهل عذراً أحياناً أو غالباً بحكم العقل أيضاً. إلا أن كون الفاعل معذوراً لا يعني أن فعله ليس بحسن ولا قبيح.

والعذر إنما هو فعل القبيح جهلاً، وأما فعل الحسن جهلاً، فهو حسن على كل حال بمعنى أنه ضامن للمصلحة المطلوبة، وإن لم يستحق فاعله المدح. كما لا يستحق فاعل القبيح جهلاً الذم لكونه معذوراً.

وإذا كان ذات الفعل حسناً وقبيحاً، لم يحتج إلى هذا القيد لا في جانب الحسن ولا في جانب القبح))(1).

أقول: جواب السيد الشهيد الصدر (قدس سره) صحيح، لكن فهمه لمتعلق الشرط بعيد عن مراد المحقق (قدس سره)، ولهذا الإشكال فقد وجّه الشهيد الثاني (قدس سره) في المسالك وصاحب الجواهر (قدس سره) هذا الاشتراط بكونه ((قيداً للمعروف من حيث يؤمر به، لا في حد ذاته؛ لأن العلم به غير شرط في كونه حسناً ومعروفاً))(2).

ص: 17


1- ما وراء الفقه: 2/418.
2- مسالك الأفهام:3/99، جواهر الكلام: 21/357.

أقول: هذا التوجيه لعبارة المحقق (قدس سره) مبني على ما سيأتي في مبحث الشروط من اشتراط وجوب الأمر والنهي بعلم الفاعل فلا يجبان مع الجهل وإنما تكون العملية من باب تعليم الجاهل أو الإرشاد والنصيحة ونحو ذلك لا من هذه الوظيفة وسنناقش ذلك بإذن الله تعالى.

ويظهر من عبارته (قدس سره) أيضاً أنه يشير بقوله هذا إلى وسيلتي تحصيل العلم بالاجتهاد أو التقليد.

وتلخّص مما تقدم كون المعروف: ما حسّنه الشارع المقدس ودعا إليه فيشمل الواجبات والمستحبات، ولكن يضاف لها ما كان معروفاً بلحاظ المصادر الأخرى التي سنذكرها بشرط إمضاء الشارع المقدس لرجحانها، وسيأتي مزيد من التفصيل في المطالب الآتية، وضده المنكر: وهو ما نهى الشارع المقدس عنه ودعا إلى اجتنابه فيشمل الحرام والمكروه.

وهذا ما ورد في قواميس المفردات الشرعية، قال ابن الأثير: ((المعروف: وهو اسم جامع لكل ما عُرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس، وكل ماندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسِّنات والمقبّحات، وهو من الصفات الغالبة: أي أمرٌ معروف بين الناس إذا رأوه لا ينكرونه، والمنكر ضد ذلك جميعه))(1).

وذكره الطريحي في مجمع البحرين وأضاف: ((وإن شئت قلت: المعروف اسم لكل فعل حسن يعرف حسنه بالشرع، والعقل من غير أن ينازع فيه الشرع))(2).

ص: 18


1- النهاية: 3/216، مادة (عرف).
2- مجمع البحرين: ج5-6/58، مادة (عرف).

أقول: تقدم أن عدم النهي شرعاً غير كافٍ لاعتباره معروفاً يدخل تحت عنوان الفريضة أي يكون مما يؤمر به حتى يوجد مرجّح شرعي ليكون معروفاً ولو للتقريبين المتقدمين، أو أن الإمضاء الشرعي له بما هو راجح لا بما هو هو.

ومقتضى ما ذكروه من معنى المعروف أنه مما يُرجع به إلى الشارع المقدس، وهذا مما يمكن المناقشة فيه لأمرين على الأقل:-

1- لم يرد في النصوص الشرعية ما يعرِّف هذا المعنى، ولو كان من اختصاص الشارع المقدس لبيّنه بنحو وآخر، رغم كثرة ورود لفظ المعروف في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، بل ورد في بعضها الأخذ بالعرف، قال تعالى: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ» (الأعراف:199) من دون أن يعرِّفه ولو في مورد واحد، وكأنه اتُّكل على وضوح المعنى في أذهان الناس، وسنشير إلى المزيد في المطلب الثاني إن شاء الله تعالى.

نعم وردت الإشارة في جملة من النصوص إلى بعض مصاديق المعروف مما لا يلتفت إليه الناس أو للتأكيد على أهميته ونحوها.

2- إن معنى المعروف يرادف معنى الخير والإحسان ونحوهما وهي معاني مفهومة عرفاً فالمعروف مثلها، قال السيد الشهيد الصدر (قدس سره): ((وإذا أردنا أن نفهم معنى جامعاً أو مشتركاً بين ذلك كله –أي معاني المعروف- فليس ذلك إلا الخير لرجوعه إليه في أصل المفهوم أو أصل اللغة))(1).

3- تطابق العقلاء على كون عناوين كثيرة من المعروف كمساعدة المحتاج والبر بالوالدين وتوقير العلماء وحفظ النظام الاجتماعي العام، وعلى كون عناوين كثيرة من المنكر كظلم الآخرين ومجازاة المحسن بالإساءة. وهذا التطابق يكشف عن وضوح المعنى لدى الناس.

ص: 19


1- ما وراء الفقه: 2/409.

وحينئذٍ لا يحتاج لفظ (المعروف) إلى تدخل الشارع المقدس لتعريفه. نعم يحتاج المعروف ليكون مما يؤمر به، والمنكر ليكون مما ينهى عنه إلى تدخل الشارع المقدس.

تعريف الحسن والقبيح:

يمكن تحصيل ثلاثة تعاريف للفعل الحسن من شرح الشهيد الثاني (قدس سره) لكلام المحقق (قدس سره) المتقدم، وتبعه على ذلك صاحب الجواهر (قدس سره)، قال الشهيد (قدس سره): ((المراد بالفعل الحسن هنا الجائز بالمعنى الأعم، الشامل للواجب والمندوب والمباح والمكروه، وقد عرّفوه بأنه ما للقادر عليه المتمكن من العلم بحاله أن يفعله.

أو ما لم يكن على صفة تؤثر في استحقاق الذم ويقابله القبيح.

وقد يطلق الحسن على ما له مدخل في استحقاق المدح، فيتناول الواجب والمندوب خاصة، وكأن إرادة هذا المعنى هنا أولى؛ ليتحقق خروج المكروه، ولا يجوز أن يريد المصنف هذا المعنى، وإلا لاستغنى عن زيادة القيود في التعريف))(1).

أقول: المعاني الثلاثة هي:-

1- الحسن هو الجائز بالمعنى الأعم الشامل لما عدا الحرام، وعرّفوه بأنه ما للقادر عليه العالم بحاله أن يفعله.

2- الحسن ما لم يكن على صفة تؤثر في استحقاق الذم، أي مطلق ما لا يوجب الذم.

وعلى هذين التعريفين يدخل المباح والمكروه في الفعل الحسن وهما ليسا داخلين في المعروف اصطلاحاً، ولأجل إخراجهما أضاف المحقق

ص: 20


1- مسالك الأفهام: 3/100، جواهر الكلام: 21/357.

(قدس سره) قيد الوصف الزائد على حسنه، وهو الرجحان الشرعي، لأنه ليس فيهما وصف زائد على تعريفهما وهو جواز الفعل بالمعنى الأعم.

3- الحسن هو ما له مدخلية في استحقاق المدح فيختص حينئذٍ بالواجب والمندوب ولا يشمل المباح والمكروه، وهذا معنى مطابق للمعروف وهو الأولى في التعريف، إلا أنه سيكون حينئذٍ قيد اتصافه بوصف زائد لا معنى له، لذا فلا يحمل عليه كلام المصنف (قدس سره).

ومما ذكرنا (صفحة 19) يتضح أن معنى المعروف أوسع مما قيل بأنه ما حسّنه الشارع المقدس واستحق الثواب بموجبه أي ما قام عليه الدليل بذلك، فيشمل ما تعارف عليه الناس ولم ينكروه ولم يرد نهي عنه من الشارع المقدس.

وعلى أي حال ف-((الأمر سهل بعد معلومية رجحان النهي عن فعل المكروه كمعلومية رجحانه أيضاً عن ترك المندوب، ولذا صرّح باستحباب الأول أبو الصلاحوابن حمزة والشهيدان والسيوري على ما حكي، اندرج في عنوان معروف ومنكر أو لم يندرج))(1).

تذييل: يظهر مما تقدم أن مبحث المستقلات العقلية المبنية على التحسين والتقبيح العقليين ومحاولة جعل العقل مصدراً للتشريع واستنباط الأحكام الشرعية لا جدوى منه؛ إما للشك في كون جملة مما ينسب إلى العقل من أحكام هي صادرة منه بما هو عقل؛ لذا حصل الخلاف في أحكام العقل المدعاة، أو لعدم قدرة العقل على استكشاف هذه الأحكام، أو لعدم تنجيزه للأحكام لحاجتنا في النهاية إلى حكم الشارع المقدَّس فيه وهو المرجع؛ لأن مولانا الذي تجب طاعته هو الله تبارك وتعالى وقد لا يرتضي حكماً ينسب إلى العقل.

ص: 21


1- جواهر الكلام: 21/357.

وأذكر مثالاً على ذلك: الحكم العقلي المسلَّم في كلماتهم وهو حسن العدل بقول مطلق، ومن مصاديقه استيفاء الحق من الآخرين، وهو قد لا يكون أمراً حسناً بمعنى من المعاني من وجهة نظر الشارع المقدس، وهو أحد وجوه تفسير قوله تعالى: «فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ» (البقرة:194) فوصف رد العدوان بمثله –الذي هو مقتضى العدل- عدواناً. وكذا قوله تعالى: «وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» (الشورى: 40).

وما ورد في تفسير قوله تعالى: «وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ» (الرعد:21) ففي الكافي بسنده عن حماد بن عثمان قال: (دخل رجل على أبي عبد الله (عليه السلام) فشكا إليه رجلاً من أصحابه فلم يلبث أن جاء المشكوّ، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): ما لفلان يشكوك؟ فقال له: يشكوني أني استقصيت منه حقي، قال: فجلس أبو عبد الله (عليه السلام) مغضباً، ثم قال: كأنك إذا استقصيت حقك لم تسئ؟ أرأيت ما حكى الله عز وجل في كتابه «وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ» أترى أنهم خافوا الله أن يجور عليهم؟ لا والله ما خافوا إلا الاستقصاء فسمّاه الله عز وجل سوء الحساب، فمن استقصى به فقد أساء)(1).

أقول: بغضّ النظر عما أسسوه ونعتقد به في الجملة من وجود حسن وقبح ذاتيين وقدرة العقل على إدراكهما وما تبع ذلك من تفصيلات ونزاع، فقد اتضح أنه ليس من الضروري حكم الشارع المقدس على طبق مدركات العقل؛ لأن للشارع المقدس ملاكاته التي هي أوسع من إدراكات العقل.

نعم العقل الكامل الموجود عند الإنسان الكامل تتطابق مدركاته مع أحكام الشريعة، ولكن هذا غير مقصود أكيداً في كلام الفقهاء والأصوليين،

ص: 22


1- الكافي، ج5، كتاب المعيشة، باب 57، في آداب اقتضاء الدين، ح1.

وفي تلكالمرتبة سوف لا تكون هناك أحكام خمسة بل حكمان فقط هما: فعل كل محبوب لله تعالى وتجنب كل مبغوض لله تعالى.

(المطلب الثاني) مَن الحاكم في كون هذا الأمر معروفاً أو منكراً؟

ذكرنا عدة احتمالات لتحديد الجهة التي تحكم بأن هذا الفعل حسن أو قبيح، وأن هذا معروف أو منكر، فمن هو الحاكم الذي له القول الفصل في ذلك؟.

يمكن الجواب باختصار فيقال: إن الحاكم هو الشرع المقدس، بمقتضى التعريف المتقدم، ولأنه هو المولى الذي تجب طاعته، وهو الفرقان وله القول الفصل في أحكام المصادر الأخرى التي تكتسب حجيتها بمقدار إمضاء الشارع المقدس لها.

وقد طرح السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) هذا السؤال، وعرض عدة احتمالات ثم ناقش قيمة كل منها في نظر الشارع المقدس، فقال (قدس سره):

((المصدر الأول: العقل الصرف، وهو المسمى بالعقل العملي في المنطق، وهو إدراك ما ينبغي أن يُعمل، في مقابل العقل النظري وهو إدراك ما ينبغي أن يُعلم.

وهذا العقل يحكم بحسن العدل وقبح الظلم وكذلك بحسن وقبح مصاديقهما وتطبيقاتهما... كالشجاعة والكرم والعلم وغيرها من مصاديق العدل، وكالكذب والسرقة والنميمة وغيرها من مصاديق الظلم))(1).

ص: 23


1- ما وراء الفقه: 2/409.

وقال (قدس سره) في تقييمه شرعاً: إنهم ((قالوا بأن ما حكم به العقل حكم به الشرع وهو معنى الملازمة والتساوي بين أحكام العقل وأحكام الشرع في المورد الذي يكون للعقل فيه حكم.

وهذه القاعدة قد يراد منها القضية الخارجية يعني أننا لم نجد حكماً عقليا إلا وقد أمضاه الشارع المقدس وحكم على طبقه. وقد يراد بها القاعدة النظرية يعني أن هذا ما يجب أن يكون دائماً. والفرق بين الفهمين: أننا إذا شككنا في حكم عقلي بأن الشارع هل حكم على طبقة أم لا لزمنا الالتزام بالحكم الشرعي إذا كانت القضية نظرية عامة، بخلاف ما إذا كانت قضية خارجية.

ولا شك أننا من الناحية الخارجية أو الواقعية لم نجد حكماً عقلياً إلا وعلى طبقه حكم شرعي سواء كان أمراً أو نهياً وسواء كان ذلك على مستوى الإلزام أو غيره.

وأما من الناحية النظرية فمما لا شك فيه أن الشارع لا يمكن أن يعاكس الحكم العقلي، لأن حكم العقل عدل ويستحيل على الحكم الشرعي النهي عن العدل. فلو أمر العقل بشيء استحال النهي عنه شرعاً، ولو نهى العقل عن شيء استحال الأمر به شرعاً.غير أن التساوق بين الإثباتين يعني إذا أمر العقل أمر الشرع وإذا نهى العقل نهى الشرع، فهذا مما لا دليل عليه لا في الكتاب ولا في السنة ولا العقل؛ لان أحكام العقل وإن كانت عدلاً إلا أنها قائمة على تصورات ضيقة للواقع الذي نعيشه؛ لأن الشارع المقدس وهو الله سبحانه وتعالى هو علام الغيوب والمطلع على الخفيات أضعاف ما يفهمه العقل، فقد تخفى على العقل بعض الجوانب التي لا تخفى على الله سبحانه، ومن هنا كان الحكم الشرعي أوسع في الاطلاع على المصالح والمفاسد من العقل.

ص: 24

ومعه فإذا أمر العقل أو نهى عن شيء في حدود تصور المصلحة والمفسدة فقد يكون الشارع المقدس مدركاً لجهات أخرى غفل عنها العقل. إذن من الممكن أن يحكم بحكم آخر غير حكم العقل ولا يستفاد من حكم العقل وجود الحكم الشرعي المساوق له))(1).

أقول: ما قاله (قدس سره) من عدم التساوق إثباتاً صحيح، وهذا المستوى هو المقصود من البحث لأن مقصودنا تحصيل الدليل على الحكم، أما ما ذكره قبل ذلك فإنما يصح في العقل الكامل خاصة، وقد تقدم.

وإذا كان الموقف هذا من حكم العقل فإن الأمر واضح في المصادر الآتية.

ثم قال (قدس سره):

((المصدر الثاني: العقلاء، فإن لهم تسالماً على بعض القضايا التي تعود إلى مصالحهم بصلة. وفي الأغلب فإن البشر كلهم يتسالمون على بعض القضايا، كما قد يتسالم أهل منطقة معينة على قضايا أخرى. والأهم والأقرب إلى الصحة هو الأول بطبيعة الحال بحيث لا يفرق فيه البشر بمختلف مستوياتهم وأديانهم ومجتمعاتهم.

وأوضح هذه القضايا، بعد التجاوز عن القضايا العقلية التي يدركها العقلاء أيضاً... : التنازل عن بعض المصالح الشخصية لأجل عدم التورط باعتداء الآخرين. أو قل: لأجل أن يتعايش الناس في المجتمع بسلام. ومنه: قاعدة العدل والإنصاف. ومنه: قاعدة اليد والمنع عن الغصب وأضرابه. وغيرها.

المصدر الثالث: العرف. وهي أيضاً قضايا متسالمة بين الناس ومعروفة بينهم. إلا أنه يمكن التفريق بينهما بما يلي:

ص: 25


1- المصدر السابق: 2/412.

أولاً: إن السيرة العقلائية عامة لكل البشر في حين يكون العرف خاصاً ببعض المجتمعات أو يمكن أن يكون خاصاً بها.

ثانياً: إن السيرة العقلائية تتناول قضايا أعمق وأهم مما يتناوله العرف. فبينما يتناول العقلاء قاعدة العدل والإنصاف على عمومها، يتناول العرف: طريقة البيعوالشراء وتعيين الموازيين والمكاييل ومقدار ما ينبغي بذله من الاحترام للبعض أو الحزن لفقدهم وغير ذلك كثير))(1).

وقال (قدس سره) في تقييمهما: ((موقف الشرع من العقلاء والعرف وقد أسس في علم الأصول أن الأصل فيها صحتها شرعاً ما لم يرد النهي عنها في الشريعة.

والسر في ذلك: أن الأحكام العقلائية والعرفية كانت سارية المفعول في صدر الإسلام حين كان المعصومون (عليهم السلام) موجودين وناطقين بالحق، فما سكت عنه المعصومون من ذلك كان ذلك إقراراً له وإقرار المعصوم حجة فيكون بنفسه سبباً لاستكشاف الحكم الشرعي، بالرغم من أن مصدره هو العقلاء أو العرف.

يستثنى من ذلك أمران:

الأمر الأول: السيرة العقلائية أو العرفية المنهي عنها شرعاً فإن النهي عنه ينافي إقراره كالنهي عن القياس والغناء وغيرهما.

الأمر الثاني: ما كان من حكم العقلاء والعرف متأخراً عن المعصومين بحيث لا يكون لهم وجهة نظر معروفة تجاهه ولو بمعنى أعم واشمل. فإن السيرة حينئذ لا تكون حجة فيه، وإنما نحتاج في الاستدلال في مثل ذلك المورد إلى دليل من نوع آخر))(2).

ص: 26


1- المصدر السابق: 2/410.
2- المصدر السابق: 2/412-413.

وقال (قدس سره): ((المصدر الرابع: الشريعة السماوية. وهي تختلف في ما بين العصور باختلاف أديان الأنبياء وشرائعهم. ونحن نعتقد كما دل عليه الدليل في الإسلام. إن الشريعة الحقة والنافذة منذ بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يوم القيامة هي شريعة الإسلام الحنيف.

ومن أمثلتها وجوب الصلاة والصوم والحج وغيرها. وإنما مثلنا الآن بما يدركه في الأصل العقل والعقلاء والعرف. وسنسمع موقف الشريعة من تلك المصادر.

المصدر الخامس: القانون الوضعي. ويراد به القانون الذي تسنّه الحكومات الدنيوية التي ليس لها حجية شرعية. وهذا المعنى قديم قد يصل إلى ألفي سنة أو أكثر، فلعله موجود بشكل وآخر عند الفراعنة والسومريين وغيرهم. وأما القانون الجرماني (الألماني) والروماني (نسبة إلى الروم وهم الإيطاليون واليونانيون وكانت تحكمهم دولة واحدة هي الدولة البيزنطية)… فهذان الاتجاهان من القانون أو الفهم القانوني، كانا مشهورين قبل أكثر من ألف سنة.والقوانين الحديثة تجعل ذينك القانونين، مضافاً إلى الشرائع والعرف من مصادرها))(1).

وقال (قدس سره) في تقييمه: ((ويفيدنا في المقام ما قلناه قبل قليل من أن العقل غير مطلع على المصالح والمفاسد الواقعية اطلاعاً كاملاً. مضافاً إلى أن واضع القانون شخص له مصالحه وارتباطاته الاجتماعية والاقتصادية التي قد تؤثر عليه من حيث يعلم أو لا يعلم. ويكفينا في ذلك الاحتمال بالحكم بعدم الحجية.

ص: 27


1- المصدر السابق: 2/411.

وليس في جانب القانون ما هو مشابه للسيرة العقلائية من إقرار المعصومين لها لأن القوانين الرومانية وإن كانت سارية المفعول يومئذ، إلا أنها لم تكن معروفة إطلاقاً في الشرق الأوسط، فلا نتوقع صدور النهي عن شيء غير معروف.

نعم ما كان من القوانين مشتقاً من المصادر الأخرى كالشرع نفسه أو العقل أو العقلاء أمكن الأخذ به بصفته معترفاً به في الشريعة))(1).

أقول: حصيلة كلامه (قدس سره) أن هذه المصادر لا قيمة لها وأننا في غنى عنها لأننا متعبدون بشريعة الله تبارك وتعالى ودستورنا الإسلام فالحاكم هو أمر الشارع المقدس ونهيه، ولا قيمة لأي مصدر آخر إلا بمقدار موافقة الشريعة عليه.

لكن هذا فيه بخس لهذه المصادر للمعرفة وتشييد الحضارة الإنسانية، وقد ذكرنا (صفحة 19) أن الشارع المقدس لم يتدخل في شرح معنى المعروف وإنما أوكل فهمه إلى هذه المصادر.

لذا يمكننا ذكر عدة موارد للاستفادة من هذه المصادر:-

1- شرح مدلول الألفاظ الشرعية كقوله تعالى: «فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ» (الطلاق:2) وقوله تعالى: «لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ» (النساء:114) وقوله تعالى: «وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ» (البقرة: 241) وقوله تعالى: «فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ» (البقرة: 240) ونحوها من الموضوعات التي لم يتكفل الشارع المقدس ببيانها متكلاً على وضوح معناها ومصاديقها لدى العرف.

ص: 28


1- المصدر السابق: 2/413.

تنقيح صغريات بعض الأوامر الشرعية كقوله تعالى: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ» (الأعراف: 199) وقوله تعالى: «وَاَمرُهُمْ شُورَى1- بَينَهُم» (الشورى: 38) أي فيما تعارفوا عليه ولم ينكروه، ولا يوجد ما يعارضه في الشريعة.

2- سنّ قوانين وبناء مؤسسات لتحقيق أغراض الشرع المقدس كحفظ النظام الاجتماعي العام وخدمة الناس وإصلاح أحوالهم وتيسير معاشهم وحفظ أمنهم وغيرها مما يطلق عليه مؤسسات الدولة وأنظمتها عدا ما نهى الشارع المقدس عنه.

3- إن أحكام هذه المصادر قد تكون ملزمة للمسلم أحياناً كما لو كان يعيش في دولة تعتمد هذه المصادر للتشريع وهو لاجئ فيها وتجري عليه قوانينها.

(المطلب الثالث) هل هما واحد أم اثنان؟

الأمر بالمعروف غير النهي عن المنكر بحسب الدلالة المطابقية؛ لأن الأول أمر أي تحريك نحو الفعل، والثاني نهي أي ردع عنه، فهما اثنان.

نعم يمكن التعبير عن أحدهما باستعمال صيغ الآخر، ويكون مؤداهما واحداً وإن اختلفا بالتعبير والصياغة، فإن المولى حينما يطلب شيئاً فإنه قد يعبّر بالأمر بتحصيله مباشرة أو يعبِّر بالنهي عن تركه، وهذا مألوف في الخطابات الشرعية وتعابير الفقهاء.

ولكن اتحادهما بالمؤدى وإمكان التعبير عن أحدهما بصيغة الآخر لا يعني أنهما واحد لاختلافهما من أكثر من جهة:-

1- باللحاظ والاعتبار فإن في الأمر يلاحظ المولى إنشاء طلب تحصيل الفعل وإلقائه في عهدة المكلف وتحريكه نحو امتثاله بغضّ النظر عن المنع وتركه، أما في النهي فيلاحظ المولى ردع المكلف عن فعلٍ ما.

ص: 29

2- بالملاك، فإن ملاك الأمر بالمعروف وجود مصلحة في المأمور به، أما ملاك النهي عن المنكر فهو تجنب المفسدة في النهي عنه.

هذا ولكن البعض ذهب إلى وحدتهما، قال الطبرسي في تفسير قوله تعالى: «التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ..»(التوبة:112): ((إن الأمر بالمعروف يشتمل على النهي عن المنكر كأنهما شيء واحد))(1)

وأورد السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) احتمال وحدتهما بتقريب ((أن مقتضى القاعدة في الشريعة: أن ترك المعروف من المنكر وترك المنكر من المعروف. وبهذا يندرج الأمر بأحدهما بالأمر بالأخر. فالأمر بالمعروف نهي عن المنكر يعني عن ترك هذا المعروف. والنهي عن المنكر أمر بالمعروف يعني أمر بترك المنكر.وهذا ثابت على مستوى الإلزام وغيره. فعلى مستوى الإلزام، فإن ترك الواجب حرام وترك الحرام واجب. وعلى مستوى غير الإلزام فإن ترك المستحب مكروه وترك المكروه مستحب))(2).

وفيه:-

1- إن هذا الاتحاد مبني على اقتضاء أحدهما الآخر باعتباره ضدّه العام بنحو من أنحاء الاقتضاء التي ذكروها في علم الأصول وهي العينية والتضمن والملازمة، ونحن لا نوافق على هذا الاقتضاء؛ لأنه ليس وراء وجوب الفعل شيء آخر هو حرمة الترك حتى يقتضيه، وليس وراء حرمة الفعل شيء آخر هو وجوب الترك حتى يقتضيه.

2- النقض عليه بالمستحب والمكروه، فإن ترك المستحب لا يكون مكروهاً تلقائياً إلا إذا دلّ الدليل عليه كترك زيارة الإمام الحسين (عليه السلام)

ص: 30


1- مجمع البيان: 3/76.
2- ما وراء الفقه: 2/404.

أو صلاة الليل أو غسل الجمعة. أما أغلب المستحبات فلم يدل دليل على كونها مكروهات بمعنى حصول منقصة ومفسدة غير إلزامية،نعم فيها تفويت لمصلحة غير إلزامية. وإن كان هذا أمراً مرجوحاً إلا أنه ليس مكروهاً بالمعنى المصطلح.

ومثاله العرفي ما إذا لم يربح التاجر في صفقته الربح المتوقع لكنه لم يخسر فإنه لا يُعدّ خاسراً عرفاً؛ لأن رأس المال لم ينقص وإنما فوّت ربحاً،نعم قد يعتبره البعض بالدقة خسارة لأنه يعتبر تفويت الربح خسارة، ولكنه ليس مشمولاً بعنوان الخسارة. فكذلك تارك المستحب فوَّت ثواباً وضاعت عليه درجة أعلى كان يمكنه الحصول عليها لكنه لم يجترح منقصة في منزلته الحالية إلا إذا دلّ الدليل.

وفي ضوء هذا يعلم النظر في ما قاله السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) من حصول هذا المعنى في الأحكام الإلزامية وغير الإلزامية.

3- ولو تنزلنا وقبلنا باقتضاء أحدهما الآخر فإنه خاص بما إذا قصدنا من المعروف ضد المنكر المقابل له وبالعكس بأن تكون اللام فيهما عهدية. أما إذا أريد من المعروف مطلقه ومن المنكر مطلقه –كما هو الظاهر- فهما متغايران قطعاً.

فالصحيح أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اثنان، وهذا هو المصرَّح به في النصوص، وهو المرتكز في الذهن متشرعياً، نعم العرف يرى أن كلاً منهما تعبير عن الآخر ومؤداهما واحد وليس أنهما واحد.

نعم يمكن فهم الوحدة بينهما بمعنى آخر، فإن المرتكز لدى المتشرعة أن أحدهما إذا ذكر وحده كان كافياً لانتقال الذهن إلى الآخر فلا يقال أن النص لم يتعرضإليه كقوله تعالى: «أنْجَينَا الذِينَ كَانُوا يَنهَونَ عَنِ السُوءِ» (الأعراف:165) وقوله تعالى: «لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ

ص: 31

وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ» (المائدة:63)، أي أنهما ينطبق عليهما مقولة (إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا).

ولذا صحَّ الاكتفاء بذكر أحدهما عن الثاني لوضوح دخوله فيه إلا إذا دلّت القرائن على الاستثناء، وكمثال نذكر قول المحقق (قدس سره) في شرائطهما: ((ولا يجب النهي عن المنكر ما لم يكمل شروط أربعة .. إلخ)) وعلّق صاحب الجواهر (قدس سره) بقوله: ((ولا الأمر بالمعروف، ولعل اقتصار المصنف على الأول لإرادة الأعم من ترك الحرام وفعل الواجب على أن يكون المراد بالنهي عن الثاني هو الأمر بالفعل الذي هو المعروف أو لوضوح أنها شرائط فيهما))(1).

فثنائية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كسائر الثنائيات الأخرى التي تشكّل جناحين يحلّق بهما طالب الكمال في آفاق السمو والارتقاء، ولا يكفي جناح واحد. ومنها ثنائية الموالاة والبراءة، وثنائية الخوف والرجاء، وثنائية الحب في الله والبغض في الله، وثنائية التوحيد بإثبات الألوهية لله تعالى ونفيها عن غيره (لا إله إلا الله).

ولمزيد من الفائدة نسأل، أيهما أكثر تأثيراً في تحقيق الإصلاح والكمال، الأمر بالمعروف أم النهي عن المنكر مع التسليم بما قلناه قبل قليل من كونهما جناحين لا يُطار إلى الكمال إلا بهما؟

والإجابة عن هذا السؤال تعرف من الجواب عن سؤال: أيهما أكثر تأثيراً في الصلاح وتحصيل الكمالات النفسية: اجتناب الذنوب أم اكتساب الحسنات، بلحاظ المأمور والمنهي، أي المخاطب بالأمر والنهي، أما فاعل هذه الفريضة فهو في طاعة دائماً سواء أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر.

ص: 32


1- جواهر الكلام: 21/366.

ونذكّر أيضاً بأن اجتناب السيئات واكتساب الحسنات ركنان للتقوى وجناحان يُطار بهما معاً إلى الكمال، وأنه كما «إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّ-يِّئَاتِ» (هود:114) كذلك السيئات تحرق الحسنات كما في الروايات الواردة في الغيبة والحسد.

وللإجابة نقول: إن المستفاد من النصوص الشرعية قوة تأثير اجتناب السيئات على تحصيل الحسنات، ولذلك شواهد:-

1- قول أمير المؤمنين (عليه السلام): (اجتناب السيئات أولى من اكتساب الحسنات)(1).

2- ما ورد في خطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في آخر جمعة من شهر شعبان والتي استقبل بها شهر رمضان(2)، وفي نهايتها سأل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن أي الأعمال أفضل في هذا الشهر الشريف، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (الورع عن محارم الله) مع كثرة الطاعات والمستحبات المؤكدة في هذا الشهر.

3- ما ورد في فضل الورع والتقوى وأنها خير زاد ليوم المعاد وفحواها اجتناب ما يسخط الله تبارك وتعالى.

4- التركيز في الآيات الشريفة على النهي عن المنكر وعقوبة تاركه من دون ذكر الأمر بالمعروف كقوله تعالى: «لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ» (المائدة : 63) وقوله تعالى: «كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ» (المائدة:79) وقوله تعالى: «أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ» (الأعراف:165) وقوله تعالى:

ص: 33


1- غرر الحكم: الحكمة رقم (1522).
2- راجعها في مفاتيح الجنان للشيخ القمي.

«فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ» (هود:116).

(المطلب الرابع) في الفرق بين الجهاد وهذه الوظيفة:

يوجد اشتراك في الجملة بين الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من عدة جهات:-

1- الغرض: فكلاهما دعوة إلى الخير وإعلاء كلمة الله تبارك وتعالى ونشر الدين.

2- الآليات: فكلاهما قد يشتملان على القتال بالسلاح أو استعمال العنف بشكل عام.

3- بالاستعمال: فقد يرد التعبير بأحدهما محل الآخر(1)، كاعتبار إقامة السنة والمثابرة على تثبيتها من الجهاد(2)

وكذلك إطلاق كلمة الحق أمام

ص: 34


1- ففي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد: الجهاد بأيديكم، ثم بألسنتكم، ثم بقلوبكم، فمن لم يعرف بقلبه معروفاً ولم ينكر منكراً قُلب فجعل أعلاه أسفله) وذكره الحر العاملي في وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب 3، ح10، وفي نهج البلاغة أيضاً وقد سُئل عن الإيمان فقال (عليه السلام): (الإيمان على أربع دعائم على الصبر واليقين والعدل والجهاد) إلى أن قال (عليه السلام): (والجهاد منها على أربع شُعَب: على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) إلى آخر الحديث. نهج البلاغة، الحكم والمواعظ: 30.
2- من حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (وأما الجهاد الذي هو سنّة فكل سنة أقامها الرجل وجاهد في إقامتها وبلوغها وإحيائها، فالعمل والسعي فيها من أفضل الأعمال؛ لأنها إحياء سنة، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء) (وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 5، ح1).

السلطان الجائر(1)، مع أنهما من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن النهي عن المنكر.

ومن كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة: (والجهاد منها على أربع شعب: على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدق في المواطن، وشنآن الفاسقين: فمن أمر بالمعروف شدَّ ظهور المؤمنين، ومن نهى عن المنكر أرغم أنوف الكافرين)(2).

وعبّر القرآن الكريم عن مواجهة المنافقين بالجهاد وهم جزء من المجتمع المسلم، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ» (التوبة:73).

ولعله لهذا جعل الشيخ الكليني والشيخ الطوسي (قدس الله سريهما) مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كتاب الجهاد.

وقد صرّح جملة من الأعلام برجوع أحدهما إلى الآخر، مثلاً حكي عن السيد الكلبايكاني قوله: ((حيث كان الجهاد بالمعنى الأعم شاملاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن الهدف من مجاهدة الكفار إعلاء كلمة الله تعالى، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه من أجل إعلاء كلمة الله وإجراء أحكام الله))(3).

ص: 35


1- ورد في رواية عن مسعدة بن صدقة قال: (وسمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: وسُئل عن الحديث الذي جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إن أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر، ما معناه) إلى آخر الحديث (وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 2، ح1).
2- نهج البلاغة، قسم قصار الكلمات، رقم (31).
3- موسوعة الفقه الإسلامي: 17/154 عن مجمع المسائل: 1/375.

وقد أشار السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) إلى هذا التداخل بين الفريضتين فقال: ((قد يقال: إن الجهاد أيضاً هو شكل من أشكال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن هدفه في العالم هو ذلك بكل تأكيد. كما أنه قد يخطر في البال أن هذه الوظيفة أيضا جهاد أو نوع منه، وخاصة إذا تعرض الفرد إلى نوع من الخطورة أو التضحية))(1).

أقول: يكفي للشعور وجداناً بالمغايرة بينهما في الجملة تعدد عنوانهما الذي يدلّ على تعدد المعنون خصوصاً وأنهما مصطلحان قرآنيان ولم يتغايرا اعتباطاً.

وقد أجاب (قدس سره) بعدة مستويات فقال:((المستوى الأول: الفرق بين عنواني المتعلقين. فمتعلق أحد الأمرين هو الجهاد ومتعلق الآخر هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولا شك أننا ندرك فرقاً عرفياً بينهما مضافاً إلى الفرق اللغوي، وهذا يكفي.

المستوى الثاني: الفرق العملي الغالبي بين الوظيفتين.

فوظيفة الجهاد تستلزم الحرب غالباً أو دائماً، ووظيفة الهداية لا تستلزمها، غالباً أو دائماً. وهذا يكفي في الفرق.

ولكن قد يقال: إن وجود الحرب وعدمه لا يصلح فرقاً بين الوظيفتين. لأن الجهاد قد يتم بدون حرب، كما في الأرض المفتوحة بالصلح أو بإسلام أهلها عليها أو نحوها، ومع ذلك فهو جهاد، يعني أن محاولة السيطرة على تلك البلدة إسلامياً من الجهاد، بلا شك.

كما أن الأمر بالمعروف قد يستلزم الحرب وذلك في عدة صور:

الصورة الأولى: الضرب الفردي أو الحرب الفردية لو صح التعبير. فيما لو توقف الأمر بالمعروف على الجرح أو القتل. كما يذكر الفقهاء.

ص: 36


1- المصدر السابق: 2/405.

الصورة الثانية: جهاد البغاة، فإنهم بصفتهم من المسلمين أصلاً، لا يكون قتالهم جهاد بالمعنى الاصطلاحي كما سنعرف. وإنما هو نوع من النهي عن المنكر.

الصورة الثالثة: فيما إذا كان الأمر بالمعروف موجهاً إلى جماعة أو مجتمع، وتوقف على القتال. وهو افتراض لم يسجل في رسائل الفقهاء، إلا انه قد يحصل على أي حال.

إذن، فالفرق بين الوظيفتين ليس هو الحرب وعدمها. نعم، لو لاحظنا الغالب، لكان كذلك؛ لأن الأغلب في الجهاد هو الحرب والأغلب في غيره عدمه. ولكن مع التدقيق يرتفع هذا التفريق.

المستوى الثالث: قالوا: إن الوظيفتين تختلفان في المتعلق بمعنى الشخص المدعو فرداً أو جماعة أو مجتمع.

ففي الجهاد يكون المدعو هم الكفار والمشركون. لأجل صرفهم إلى الإسلام أو إلى حكمه وسيطرته، وأما في وظيفة الهداية التي نتكلم عنها فمتعلقها المسلمون الفساق وأمثالهم، فهم إذ يتركون الطاعة نأمرهم بفعلها وإذ يفعلون المعاصي ننهاهم عنها عملاً بالوظيفة الشرعية.

وهذا تفريق لطيف بين الوظيفتين وكان بعض أساتذتنا(1) من الملتزمين به فقهياً، إلا أنني لم أجد عليه دليلاً لا من كتاب ولا من سنة، وإنما هو تفريق اقتراحي مبتن على الذوق لا أكثر، ومن هنا لا يكون حجة.

ص: 37


1- يقصد به المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سره)، ونلفت النظر إلى أن الشهيد الصدر الأول (قدس سره) سمّى معركته مع صدام المقبور ونظامه الوحشي (جهاداً) في ندائه الذي وجهه بصوته إلى العراقيين المؤرخ 10/شعبان/1399 وطلب فيه ((إدامة الجهاد لإزالة العصابة اللا إنسانية)).

وهذا التفريق هو الذي أشرنا إليه قبل قليل، من أن جهاد البغاة لا يكون جهاداً اصطلاحياً، لأنه ضد بعض المسلمين دون الكفار.

المستوى الرابع: قال الفقهاء: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشروط بشروط معينة، وهذا صحيح، في حين أن الجهاد غير مشروط بتلك الشروط.

وهذا بحسب الظاهر صحيح، إلا إذا استطعنا أن نأول الشروط بحيث نفهم منها معنى مشتركاً، إذ لا شك أن للجهاد شروطه أيضاً، وهي بمعنى آخر تشبه شروط وظيفة الهداية.

فمثلاً من الشروط:

أولا: أن يعلم أن هذا الفعل منكر، يقابله في الجهاد أن نعلم أن هؤلاء كفار أو مشركون.

ثانياً: أن يحتمل الفرد طاعة الفرد العاصي للنهي أو الأمر، ويقابله في الجهاد: احتمال الانتصار فلو كان احتماله ضعيفاً لم يجب الجهاد، وإذا لم يجب كان حراماً على الأغلب.

ثالثاً: أن لا يخاف من الاعتداء عليه، ويقابله في الجهاد أن لا يكون المعسكر الكافر أكثر من الضعف عدداً وعدة.

فإذا أخذنا بهذا الشكل من التأويل أو المزج بين الشروط، كان هذا التفريق غير تام.

المستوى الخامس: إن المعروف والمنكر إنما هو الطاعة أو المعصية من المسلمين، وهذا لا ينطبق على الكفار. وهذا في الواقع دليل من يقول بالمستوى الثالث السابق.

إلا أنه موقوف على أمرين:

الأمر الأول: أن لا يكون الكفر منكراً اصطلاحياً. وإلا كان جهاده نهياً عن المنكر لا محالة. ولا إشكال أنه من أشد المنكرات «إنَّ الشِرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ».

ص: 38

الأمر الثاني: أن لا يكون الكفار مكلفين بالفروع. فلو كانوا مكلفين بها مثل وجوب الصلاة وحرمة السرقة، كما هو الصحيح لشمول إطلاقات الأدلة للبشر أجمعين.

إذن فاللازم من تكليفهم أنهم لو تركوا الطاعة أو فعلوا المعصية بنظر الإسلام، كان ذلك منكراً أيضاً، تماماً كما لو صدر من المسلمين، من هذه الناحية، مع زيادة كفرهم أو شركهم بطبيعة الحال.

إذن، فهذا المستوى من التفريق بين الوظيفتين لا يخلو من مناقشة.

المستوى السادس: إن هدف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الهداية، يعني وجود الطاعة وارتفاع أو انتفاء المعصية. وهدف الجهاد ليس هو ذلك، كهدف مباشر أو أوّلي، وإنْ استهدف ذلك في نهاية المطاف. إلا أن هدفه المباشر هو السيطرة على البلاد وإدخالها تحت ذمة الإسلام والمسلمين وحكمهم سواء كانت تلك البلادخارجة بالأصل عن الإسلام كبلاد الكفار والمشركين، أو متمردة كما في البغاة، وهذا هو الصحيح))(1).

أقول: رغم المناقشات التفصيلية التي ذكرها (قدس سره) على كل مستوى، إلا أنه يتحصل من مجموعها تفريق بين الفريضتين في الجملة، مضافاً إلى أنها قابلة للنقاش ففي نهاية كلامه اعتبر قتال البغاة المتمردين جهاداً، وجعله في المستوى الثاني من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو نقض على المستوى الثالث الذي حكاه عن الشهيد الصدر الأول (قدس سره)؛ لأن البغاة مسلمون ظاهراً.

ولا أريد أن أطيل في هذه المناقشات إلا أنني وجدت من المهم التعليق على ما قاله (قدس سره) في نهاية كلامه من هدف الجهاد وكونه للسيطرة على البلاد الأخرى مما يعزز الإشكال على دين الإسلام أنه انتشر بالسيف ولا مكان فيه لحرية الاعتقاد، والفتوحات التي جرت بعد عهد رسول الله (صلى الله عليه

ص: 39


1- المصدر السابق: 2/405-408.

وآله وسلم) لا نعلم مدى مشروعيتها من قبل أمير المؤمنين (عليه السلام) وإن شارك فيها بعض شيعته.

لذا نقول إن الغرض من الجهاد هو تعريف الأمم الأخرى بالإسلام والدعوة إلى الله تبارك وتعالى وإزالة العقبات التي تمنع الناس من اختيار الدين الذي يقتنعون به وعلى رأس تلك العقبات السلطات الظالمة المستبدة، فإن أزيلت فلهم ما اختاروا، أما السيطرة على تلك البلاد فهو أمر يحصل عرضاً وليس هو المقصود بالجهاد، فلو فرض أن حكومات بعض الدول لا تمنع المبلغين والدعاة من نشر الإسلام وحرية اعتناقه وممارسة شعائره، فإنه لا يجوز جهادهم وقتالهم من هذه الناحية.

وجعل هدف الجهاد هذا أليق بالمنطق القرآني، قال تعالى: «لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ» (الأنفال:42)، وقال تعالى: «لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ» (البقرة:256)، وقال تعالى: «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ» (البقرة: 193) وأي فتنة أعظم من تسلط الظلمة الجائرين من شياطين الإنس الذين يصدّون الناس عن الاهتداء إلى الحق ويُكرهونهم على عبادة أولئك الطواغيت من دون الله تعالى.

وعلى أي حال فإنه توجد أمور أساسية للتفريق بين الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، منها:-

1- طبيعة العمل وساحته والمستهدف فيها، فإن الخصم في الجهاد هم مراكز القوى والنفوذ التي تتحكم في الناس وتصدّهم عن اتباع الحق وهم غالباً السلطات والحكومات الظالمة، وقد يكون غيرهم كالقيادات الاجتماعية أو الدينية، كما في الحرب مع قريش، فلم تكن لهم حكومة بالمعنى الذي كان موجوداً لدى الروم والفرس، وقد تكون هذه القيادات تدعي الإسلام وتحكم في بلاد المسلمين؛ لذا يسمى العمل المسلّح لإسقاط الأنظمة الظالمة في ظرف مشروعيته: جهاداً مع أنهم مسلمون ظاهراً.

ص: 40

أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي حركة تغييرية إصلاحية تستهدف تشخيص مواقع الخلل والانحراف في المجتمع وتصلحه.

2- الأدوات، فإن الجهاد يكون عملاً مسلحاً بحسب العادة؛ لأن مراكز القوى والنفوذ لا تستجيب لمنطق العقل والحكمة، ولا تنصاع إلا لقوة السلاح، ولا يقدح في ذلك عدم حصول القتال أحياناً ولجوء العدو إلى السلم والصلح فإنه ما استجاب إلا بسبب التلويح له بالسلاح.

أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن أداته عادة النصح والإرشاد والتعليم.

3- من حيث القائمين به، فإن الجهاد من وظائف الإمام الذي يلي الأمور العامة للمسلمين، أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي وظيفة الأمة جميعاً، نعم المراتب الأشد فيها التي تتطلب قتلاً وجرحاً تحتاج إلى إذن الإمام الشرعي، لكن حديثنا هو في الحالة الغالبة.

ومما تقدم تظهر المناقشة في جملة من الفروق التي ذكرها السيد الشهيد الصدر (قدس سره).

وهذا التفريق الذي ذكرناه ليس أمراً نظرياً ومطلباً علمياً نطرحه، وإنما هو باب ينفتح منه ألف باب لمعرفة تكليف المرجعية والعلماء في عصر الغيبة وأنه هل هو الجهاد والقيام بعمل مسلح لإزالة الأنظمة الطاغوتية الحاكمة ومن ثم إصلاح الواقع الفاسد، أم أن التكليف تفعيل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لإصلاح الواقع الفاسد –ولو تدريجياً- وسيؤدي ذلك بلطف الله تبارك وتعالى إلى عزلة الأنظمة الحاكمة وانهيارها.

فمعرفة التكليف بدقة ينتج طيب الثمرة وقلة التضحيات وسلامة البناء، وقد شهدت العقود الأخيرة تبايناً في السلوك بين قادة الإسلام الحركيين في العراق وإيران بين هذين الاتجاهين، وربما تأتي تفاصيل أخرى في المباحث الآتية بإذن الله تعالى.

ص: 41

(المطلب الخامس) أيهما أهم الجهاد أم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟

اشارة

وما دمنا بصدد الحديث عن الاشتراك بين الفريضتين والفرق بينهما فقد يثار سؤال عن أيهما الأهم؟ والهدف من السؤال لا يعني الاستغناء بأحدهما –وهو الأهم- عن الآخر، لما عرفناه من أنهما تكليفان مستقلان، ولكل منهما مساحته في الشريعة، وإنما أردنا بذلك التعريف بأهمية الفريضة وشرفها مقارنة بالجهاد الذي يمتلك مكانة مرموقة في الإسلام.

ونذكر رواية واحدة لبيان فضيلة الجهاد بعد الذي سمعناه من فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليكون للمقارنة وجه، وهو قول أمير المؤمنين (عليه السلام): (أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه، وهو لباس التقوى ودرع الله الحصينة، وجُنّتُه الوثيقة، فمن تركه رغبةً عنه، ألبسه الله ثوب الذل،وشَملَةَ البلاء، وُديِّثَ بالصغار والقَمَاءة –أي أصيب بالذل والصغار-، وضُربَ على قلبه بالأسداد، وأُديل الحق منه بتضييع الجهاد، وسيم الخسف، ومُنِع النَصْف))(1).

وللإجابة عن أيهما الأهم يكفينا ما ابتدأنا به البحث من قول أمير المؤمنين (عليه السلام): (وما أعمال البِرّ كلها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا كنفثة في بحرٍ لجّيّ) فهو يبين أفضلية الفريضة على الجهاد منضماً إلى أعمال البر كلها، فمن كان مشتاقاً إلى الجهاد ويتأسّف لعدم وجوده في زمان الجهاد ويردد: (يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً) فعنده هذا الباب المستمر للطاعة التي تفوق الجهاد.

ص: 42


1- نهج البلاغة: 89، خطبة (27)، ورواها في الكافي والتهذيب.

هذا ولكن السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) قال في (تأريخ الغيبة الكبرى): ((إن نتائج ترك الجهاد أهم وأوسع من نتائج ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ويكفينا في هذا الصدد، أن نعرف الأمر على مستويين:

المستوى الأول:

إن الجهاد... حيث أنه الوظيفة الإسلامية المشرَّعة لغزو العالم غير الإسلامي، وإرجاع الأراضي الإسلامية السليبة، فهو أوسع تطبيقاً من الأمر بالمعروف الذي لا حدود له إلا ما كان داخل المجتمع الإسلامي من انحراف وعصيان.

ومن هنا يكون ترك الجهاد موجباً لسلب الأمة نتائج أضخم ومكاسب أكبر من النتائج والمكاسب المترتبة على الأمر بالمعروف، كما هو واضح.

المستوى الثاني:

إن الأمر بالمعروف بمنزلة الفرع أو النتيجة أو المسبَّب عن الجهاد... وتركه بمنزلة السبب لوجوبه.

وذلك: أنه لا يجب الأمر بالمعروف في منطقة من العالم، إلا إذا كانت داخلة ضمن حدود البلاد الإسلامية، فلا بد أن تكون المنطقة قد دخلت في ضمن هذه الحدود أولاً، ليجب فيها القيام بتلك الوظيفة ثانياً. والغالب أن يكون دخول البلاد إلى حوزة الإسلام، بالجهاد المسلح. فيكون الجهاد مقدمة لوجوب الأمر بالمعروف ويكون الأمر بالمعروف نتيجة له. حيث تكفلت الوظيفة الإسلامية، الأولى اتساع بلاد الإسلام. وتكفلت الوظيفة الثانية المحافظة على هذه السعة وضمان تطبيق العدل في البلاد المفتوحة الإسلامية.

وأما إذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في البلاد الإسلامية... فستبدأ بالانحدار من حيث الإخلاص والشعور بالمسؤولية، حتى ينتهي بها الحال أن تغزى في عقر دارها وتكون لقمة سائغة لكل طامع وغاصب. كما قال الإمام

ص: 43

الرضا (عليه السلام) فيما روي عنه: (لتأمرون بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركمفيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم). ويتسبب ذلك أحياناً إلى المنطقة الإسلامية بيد القوات الكافرة المستعمرة، كما حصل في الأندلس وفلسطين... فيعود الجهاد واجباً لاسترجاعها. فقد أصبح ترك الأمر بالمعروف سبباً لوجوب الجهاد))(1).

أقول: بغضّ النظر عما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في أفضلية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن كلامه (قدس سره) قابل للنقاش.

أما المستوى الأول فإنه مجرد دعاوى إذ لا نعرف وجهاً لكون الجهاد أوسع تطبيقاً وموجباً لنتائج أضخم ومكاسب أكبر، بل الدليل على خلافه كما سيأتي، وأشارت إليه الروايات كالتي ذكرناها في المقدمة.

وأما المستوى الثاني

فغاية ما يفيد كون الجهاد مقدمة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومهيّئاً لموضوعه، وليس في هذا أي مناط للتقديم والأهمية.

فالصحيح عكس ما قاله (قدس سره) كما قرّب في المقطع الأخير من كون ترك الفريضة على لتحقق موضوع الجهاد.

وتتضح المناقشة في كلامه (قدس سره) أكثر من خلال الوجوه التي ذكرتها في كتابي (دور الأئمة في الحياة الإسلامية) لكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي الفريضة الأهم، وهي:

((1- استمرار التكليف به لكل زمان ومكان لتحقق موضوعه دائماً وهو وجود المنكر والجهل بالشريعة، بينما لا يكون موضوع الجهاد منجزاً إلا نادراً.

2- شمول وجوب الفريضة لكل المكلفين بحسب المراتب المذكورة بينما لا يجب الجهاد إلا على شريحة محدودة من القادرين عليه.

ص: 44


1- تأريخ الغيبة الكبرى: 323-324، الأمر الرابع.

3- إن النصر لا يتحقق في الجهاد إلا بعد انتصار المجتمع المسلم على نفسه بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالصبر كما أن أي هزيمة تحصل في الجهاد يعود سببها إلى التقصير في هذه الفريضة قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ» (آل عمران: 155). ففريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر علة لنتائج الجهاد والعلة مقدمة رتبة على المعلول.

4- إن المجتمع المسلم لا ينطلق إلى الجهاد إلا بعد أن يبني نفسه، ومن ركائز بنائه الأساسية هذه الفريضة، فيكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أسبق رتبةً من الجهاد من ناحية عملية، ولا قيمة لأي انتصار عسكري في ما يسمى (جهاداً) إذا لم يكن محققاً لعنوان (المعروف) بأن يكون مخلصاً لله تعالى))(1).

(المطلب السادس) ارتباط الوظيفة بعناوين أخرى:

تتداخل هذه الوظيفة في بعض مهامها مع وظائف أخرى مما أوجب بعض الاختلاط في جملة من الموارد كما سيظهر في بعض الأبحاث اللاحقة، وإن كان كل من هذه العناوين متميزاً في ذهن المتشرعة، ومن تلك العناوين:-

1- النصيحة: وهي كل ما يراد به الخير للغير سواء كان من باب جلب المصلحة أو دفع المفسدة، وعلى هذا فهي تتفق مع وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد ورد في صحيحة الريان بن الصلت الآتية (صفحة 355) عن الإمام الرضا (عليه السلام) التعبير عن الفريضة

ص: 45


1- دور الأئمة في الحياة الإسلامية: 180-181.

بالنصيحة.

نعم هما يفترقان من أكثر من ناحية:

أ- إن النصيحة أوسع من الأمر والنهي بناءً على اختصاص الأمر بالواجبات المتروكة، واختصاص النهي بالمحرمات الواقعة، بل هي أوسع فعلاً حتى على القول بشمول الأمر والنهي للمستحبات والمكروهات؛ لأن النصيحة لا تختص بالمولويات بل تشمل الإرشاديات كاختيار العمل المربح أو ترك الفعل المشوش للفكر ونحو ذلك.

ب- إن النصيحة تؤدى عبر الكلام فقط كما هو مرتكز في ذهن المتشرعة، أما الأمر والنهي فلهما مراتب بعضها قولي وبعضها فعلي.

ج-- يكفي في النصيحة إنشاؤها سواء أخذ بها الآخر أم لا، أما وظيفة الأمر والنهي فيراد منها تحقق متعلقها في الخارج بحيث يمتثل الواجب المتروك ويزال المنكر القائم، ونقرّب الفكرة بوصف النصيحة مطلوباً نفسياً أما الأمر والنهي فهو واجب غيري.

د- إن الغالب والملحوظ في ملاك النصيحة المصلحة الشخصية للطرف الآخر، أما ملاك وظيفة الأمر والنهي فهي المصلحة العامة أي الاجتماعية وإن كانت تتضمن كل منهما الجانب الآخر لكن الغالب والملحوظ ما ذكرناه.

2- الحسبة: وهي من الاحتساب أي ترقب الأجر من الله تبارك تعالى، وتطلق على كل عمل يؤدى طلباً للأجر مما عُلِم رضا الشارع وترغيبه إلى إيقاعه بحيث لا يرضى بإهماله وتفويته. وهي تشمل وظائف عديدة كالقضاء وإقامة الحدود والتعزيرات والولاية على أمور القاصر والغائب والإصلاح بين الناس وإقامة النظام الاجتماعي العام ومنها الأمر

ص: 46

بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذا لم يجعل الفيض الكاشاني كتاباً مستقلاً في الوافي لهذه الوظيفة بل جعلها ضمن كتاب الحسبة.

واختصت الحسبة بهذه الوظيفة في مدرسة أبناء العامة بحيث يتطابق العنوانان، وشُكّلت ولاية –بمستوى وزارة- في العصر العباسي لهذه الوظيفة باسم (ولاية الحسبة) وميّزوها عن ولاية القضاء ونحوها.1- وسرت هذه الثقافة إلى علماء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) فقد عنون الشهيد الأول (قدس سره) في كتاب الدروس بحث الأمر بالمعروف ب-(كتاب الحسبة)(1).

3- الإرشاد: وهو بمعنى الهداية والتبيين والتعريف كإرشاد الضال،وهو في ذهن المتشرعة بيان الطرق الموصلة إلى خير الدنيا أو الآخرة.

وقد يكون أعم مطلقاً من هذه الوظيفة لشموله من كان جاهلاً بالموضوع أو الحكم وقد أوجبوه في الثاني دون الأول إلا في الموارد التي عُلِم اهتمام الشارع المقدس بها إلى درجة عدم رضاه بإهمالها وتضييعها حتى للجاهل أما وظيفة الأمر والنهي فمورد وجوبها عندهم يكون بعد معرفة المأمور والمنهي المعروفَ أو المنكر على خلاف سيأتي في مبحث الشروط إن شاء الله تعالى.

4- عناوين أخرى: قال السيد السبزواري (قدس سره): ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أخص من الإرشاد وبيان الأحكام وإتمام الحجة والتخويف، والإنذار والموعظة لغة وعرفاً وشرعاً واعتباراً، فلا يسقط وجوبهما بذلك كله إلا إذا ترتب المقصود منهما، لفرض تحقق الموضوع وأنه لا موضوعية خاصة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل هما

ص: 47


1- الدروس: 2/47.

طريقان لحصول المقصود))(1).

أقول: وجه الأخصّية ما ذكرناه في الفقرة (ج-) (صفحة 46) ويظهر من الآيات الكريمة وجود عنوانين جامعين لكل هذه الوظائف استغني بذكرهما عن هذه التفاصيل التي تحولت إلى مصطلحات متمايزة في أذهان المتشرعة، وهي لا تعدو كونها بيانات تفصيلية ومصاديق ولا ينبغي تحولها إلى مصطلحات حاكمة على البحث والتفكير، أحدهما قبل العمل والآخر بعده، والعنوانان هما (الدعوة إلى الخير) و (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، قال تعالى: «وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (آل عمران: 104).

(المطلب السابع) نبذة تأريخية عن العمل بهذه الفريضة:

اشارة

أخبر الله تعالى الأمة بأنها ستنقلب على الأعقاب وتعود إلى جاهليتها الأولى، قال تعالى: «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ» (آل عمران:144).

وتتحقق هذه العودة إلى الجاهلية بتضييع أحكام الله تعالى ومخالفتها وهجرانالعمل بها، قال تعالى: «أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ» (المائدة: 50).

وكان ترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أول مظهر من مظاهر الانقلاب على الأعقاب، وقد أخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحابه بأنهم سيضيعون هذه الفريضة بذكر بعض مواردها، كما تقدم (صفحة 11) في رواية مسعدة بن صدقة.

ص: 48


1- مهذب الأحكام: 15/187، مسألة (6).

وقد كلّف تضييع هذه الفريضة الأمة أغلى الأثمان وأبهظها على الإطلاق وهو منصب الإمامة الحقة الشرعية التي نصبها الله تعالى، فلو وقف الصحابة حيث يريدهم الله تبارك وتعالى ونصروا الحق ونهوا أهل الباطل عن منكرهم الشنيع لما ضاع الحق، حتى تقمص الخلافة وتصدى لأمر الأمة غير المؤهلين لهذا الموقع الشريف، فحصل ما حصل من إزهاق أرواح أكرم خلق الله تبارك وتعالى الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) والأئمة المعصومين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) والصالحين، وأهلك الحرث والنسل، ولا زلنا نعاني ويلاته(1).

ارتكبوا هذا مع سبق تحذير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منه في أحاديث عديدة كالذي رواه الإمام الرضا (عليه السلام) عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (إذا أمتي تواكلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من الله) وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر، فإذا لم يفعلوا نزعت منهم البركات، وسُلّط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء)(2).

وقد سجّل السيد عبد الحسين شرف الدين في كتابه (النص والاجتهاد) والشيخ الأميني (قدس سره) في كتابه (الغدير) مئات الموارد التي خالفوا فيها كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، واعترف الصحابة أنفسهم بهذا التغيير في سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتضييع أحكام الله تعالى، بحسب ما روى علماء العامة في صحاحهم خلافاً لما يعتقدونه من عدالة

ص: 49


1- راجع خطاب المرحلة (ماذا خسرت الأمة حينما ولّت أمرها من لا يستحق) في خطاب المرحلة: 1/217.
2- تقدم ذكر مصدر الحديثين (صفحة 12).

الصحابة ورضا الله عنهم وأنه (بأيِّهم اقتديتم اهتديتم)، فكيف يهتدي من يقتدي بمن غيَّر أحكام الله تعالى عن علم وعمد؟.

ففي صحيح البخاري عدة روايات بمضمون واحد، منها قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أنا فرطكم على الحوض ليُرفعنَّ إليَّ رجالٌ منكم حتى إذا أهويتُ لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول: أي ربِّ أصحابي، يقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك)(1).وورد في صحاحهم أنهم أضاعوا كل شيء وحرّفوه حتى الصلاة التي هي عمود الدين، روى البخاري في صحيحه بسنده عن الزهري قال: ((دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئاً مما أدركتُ إلا هذه الصلاة وهذه الصلاة قد ضُيِّعت)).

ورواه بطريق آخر عن أنس قال: ((ما أعرف شيئاً مما كان على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). قيل الصلاة، قال: أليس ضيعتم ما ضيعتم فيها))(2).

وقد بدأ تخلي الأمة عن هذه الفريضة بالتدريج الذي ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في رواية مسعدة بن صدقة المتقدمة (صفحة 11)، والذي ذكره أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (أول ما تغلبون عليه من الجهاد: الجهاد بأيديكم، ثم بألسنتكم، ثم بقلوبكم، فمن لم يعرف بقلبه معروفاً ولم ينكر منكراً قُلب فجُعل أعلاه أسفله)(3)، وقد اعترف الصحابة بحصول هذه

ص: 50


1- صحيح البخاري: 822، كتاب 92: الفتن، ح 7049.
2- صحيح البخاري: 67، كتاب 9: مواقيت الصلاة، باب 7، ح529، 630.
3- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب 3، ح 10، عن نهج البلاغة وتفسير علي بن إبراهيم.

الحالة عندهم، روي عن أنس بن مالك قوله: ((ما نفضنا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الأيدي وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا))(1).

روى سليم بن قيس عن سلمان الفارسي (رضوان الله عليه) بعد أن بويع للأول بالخلافة في سقيفة بني ساعدة قوله: ((فلما كان الليل، حمل علي فاطمة على حمار وأخذ بيد ابنيه الحسن والحسين (عليهما السلام)، فلم يدع أحداً من أهل بدر من المهاجرين ولا من الأنصار إلا أتى منزله وذكر حقّه ودعاه إلى نصرته، فما استجاب له من جميعهم إلا أربعة وأربعون رجلاً، فأمرهم أن يصبحوا بكرة محلّقين رؤوسهم، معهم سلاحهم، وقد بايعوه على الموت، فأصبح ولم يوافه منهم أحد غير أربعة.

قلتُ لسلمان: من الأربعة؟

قال: أنا وأبو ذر والمقداد والزبير بن العوام.

ثم أتاهم من الليلة الثانية فناشدهم الله، فقالوا: نصبحك بكرة، فما منهم أحد وفى غيرنا، ثم الليلة الثالثة فما وفى أحدٌ غيرنا، فلما رأى عليّ غدرهم وقلة وفائهم لزم بيته وأقبل على القرآن يؤلفه ويجمعه، فلم يخرج حتى جمعه كله فكتبه على تنزيله والناسخ والمنسوخ))(2).

فهذا أول ما غلبوا عليه وهو الجهاد بالسيف لامتثال هذه الفريضة المباركة.وجاءت المرحلة الثانية وهي باللسان، عن أبان بن تغلب قال: (قلت لأبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): جعلت فداك، هل كان أحد من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنكر على أبي بكر فعله وجلوسه مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: نعم، كان

ص: 51


1- سنن الترمذي، كتاب المناقب، باب فضل النبي (صلى الله عليه وآله)، ح 3618.
2- الاحتجاج: 1/105.

الذي أنكر على أبي بكر اثنا عشر رجلاً، من المهاجرين: خالد بن سعيد بن العاص –وكان من بني أمية- وسلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري والمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر وبريدة الأسلمي، ومن الأنصار: أبو الهيثم بن التِيِّهان، وسهل وعثمان ابنا حنيف، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، وأبي بن كعب، وأبو أيوب الأنصاري.

فسار القوم حتى أحدقوا بمنبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) –وكان يوم الجمعة- فلما صعد أبو بكر المنبر، قال المهاجرون للأنصار: تقدموا وتكلموا، فقال الأنصار للمهاجرين: بل تكلموا وتقدموا أنتم فإن الله عز وجل بدأ بكم في الكتاب إذ قال عز وجل: «لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ» (التوبة:117)، فأول من تكلم به خالد بن سعيد بن العاص ثم باقي المهاجرين ثم بعدهم الأنصار، فقام خالد بن سعيد بن العاص، وقال))(1) إلى آخر الحديث وذكر جميع كلماتهم.

وواصلت هذه الثلة القليلة المرتبطة بأمير المؤمنين (عليه السلام) إنكارها للفساد والانحراف في حين تخاذل الآخرون وسكتوا، روى الخوارزمي بسنده ((أن عمر بن الخطاب خطبهم فقال: لو صرفناكم عما تعرفون إلى ما تنكرون ما كنتم صانعين؟ قال: فسكتوا، فقال ذلك ثلاثاً، فقام علي (عليه السلام) فقال: إذن كنا نستتيبك، فإن تبت قبلناك، قال: فإن لم أتب! قال: إذن نضرب الذي فيه عيناك)(2)

وروى البلاذري في كتاب الأنساب (5: 48) نظير هذا الموقف مع عثمان، وكأنما أراد الخلفاء بذلك اختبار رد فعل الأمة قبل أن يغيّروا في دين الله تعالى ما غيّروا فلم ينكر عليه أحد، لولا أن منّ الله تعالى على الأمة بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).

ص: 52


1- الاحتجاج: 1/96-97.
2- المناقب للخوارزمي: 98-99، راجع كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية:30).

فتصوروا إلى أي وادٍ سحيق تردّى إليه الصحابة، وهم يعطون الضوء الأخضر للتغيير المتعمد في شريعة الله تبارك وتعالى.

ثم انحدرت الأمة إلى المستوى الأخير من تضييع الفريضة برسوخ البدع والمنكرات والانحراف الذي تأسس في حكومة الثلاثة حتى أصبح معروفاً، وأصبح المعروف لطول الإعراض عنه منكراً، وصار تغييره وإصلاحه يواجه صعوبة ويُنظر إليه على أنه بدعة كما سيأتي إن شاء الله تعالى عند تصدي أمير المؤمنين (عليه السلام) للخلافة.وكان أبو ذر الغفاري (رضوان الله عليه) من المجاهرين بإنكار المنكر حتى أوذي وطردوه إلى الشام ثم نفي إلى الربذة ومات وحيداً، لا تجد امرأته أحداً يعينها على دفنه حتى مرّ عليها مالك الأشتر في رهط من أصحابه فغسّلوه وكفّنوه ودفنوه، ووقف على قبره وقال: ((اللهم هذا أبو ذر صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عَبَدَك في العابدين وجاهد المشركين لم يغيّر ولم يبدّل لكنه رأى منكراً فغيّره بلسانه وقلبه حتى جُفي ونفي وحرم واحتقر ثم مات وحيداً وغريباً))(1).

وكذا تعرض أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) لأنواع الأذى مما هو مدوَّن في الكتب بسبب عدم تهاونهم في أداء هذه الفريضة المباركة.

ولما تولى أمير المؤمنين (عليه السلام) الخلافة كان غرضه (عليه السلام) إصلاح الواقع الاجتماعي الفاسد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن خطبة له (عليه السلام): (اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنردّ المعالم من دينك،

ص: 53


1- رجال الكشي: 44 في عنوان (مالك الأشتر).

ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطلة من حدودك)(1).

وقد تسلّم (عليه السلام) الحكم على أنقاض ما فسد من فعل السابقين، وكان تضييع هذه الفريضة قد بلغ مداه ودرجته السفلى وهي تحوّل المعروف إلى منكر والمنكر إلى معروف، ولما حاول التصحيح وقف الناس الذين ألِفوا هذا الوضع المقلوب في وجهه.

روى الشيخ الكليني في الروضة خطبة طويلة لأمير المؤمنين (عليه السلام) في الكوفة ومما ورد فيها: (قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) متعمدين لخلافه ناقضين لعهده، مغيّرين لسنته، ولو حملت الناس على تركها لتفرق عنّي جندي حتى أبقى وحدي أو قليل من شيعتي –إلى أن قال- والله لقد أمرتُ الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلا في فريضة وأعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة، فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي: يا أهل الإسلام غُيِّرت سنة عمر، نهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعاً، وقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري)(2)

ورويت بأسانيد متعددة في التهذيب وفروع الكافي وفي ذيل بعضها أن الإمام (عليه السلام) قرأ قوله تعالى: «وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً» (النساء: 115).

وإزاء هذا التدهور الفظيع فقد عمل (عليه السلام) على إحياء هذه الفريضة، فكان يجول بنفسه في الأسواق وفي شوارع الكوفة وسككها ليصحّح ما انحرف من سلوكيات الناس ويدعوهم إلى التفقه في الدين لتقويم أعمالهم على

ص: 54


1- نهج البلاغة، الخطبة: 131.
2- نهج البلاغة، الخطبة، 131.

وفق الشريعة المقدسة، والشواهد على ذلك كثيرة ومعروفة لديكم، كقوله (عليه السلام) للتجار والكسبة: (يا معشر التجار، الفقه ثم المتجر، الفقه ثم المتجر، الفقه ثم المتجر)(1)

وفي كنز العمال ((كان علي (عليه السلام) يجيء إلى السوق فيقوم مقاماً له، فيقول: السلام عليكم أهل السوق، اتقوا الله في الحلف، فإن الحلف يزجي السلعة، ويمحق البركة، التاجر فاجر إلا من أخذ الحق وأعطاه)(2).

شرطة الخميس:

وأسس (عليه السلام) جهازاً تنفيذياً ضمّ أعيان أصحابه وخيارهم والنخبة المخلصين الممتحنين في الله تعالى؛ ليقوم بوظائف مهمة وأعمال نوعية على رأسها الثبات على الحق وحفظه حينما تزلّ الأقدام، والطاعة التامة والتسليم للإمام ونصرته، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومكافحة الفساد والظلم وتنفيذ القانون بحزم، أطلق عليه اسم (شرطة الخميس).

ويظهر من بعض الروايات أن اسم الجهاز ومضمونه كان موجوداً في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أنه لم يكن جهازاً متميزاً له أعمال تنفيذية كما كان على عهد أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكانت وظائفه محددة تبعاً لمساحة العمل يومئذٍ في زمان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ص: 55


1- الكافي: 5/150، ح1.
2- كنز العمال: رقم 10043، وللتعرف على المزيد من مواقفه (عليه السلام) في النهي عن المنكر وتغييره باليد واللسان راجع موسوعة سيرة أهل البيت (عليهم السلام) للشيخ باقر شريف القرشي: 7/32-34.

فقد روى الكشي في رجاله عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال لعبد الله بن يحيى الحضرمي يوم الجمل: أبشر يا ابن يحيى فإنك وأبوك (وأباك) من شرطة الخميس حقاً، لقد أخبرني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) باسمك واسم أبيك فيشرطة الخميس، واللهُ سماكم شرطة الخميس على لسان نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذكر أن شرطة الخميس كانوا ستة آلاف رجل أو خمسة آلاف))(1).

وروى الشيخ المفيد (قدس سره) في الاختصاص ((إن نبيّنا فيما مضى قال لأصحابه: (تشرّطوا فإني لست أشارطكم إلا على الجنة) وهم سلمان الفارسي والمقداد وأبو ذر الغفاري وعمار بن ياسر وأبو الهيثم بن التيهان وسهل البدري وعثمان ابنا حنيف الأنصاريان وجابر بن عبد الله الأنصاري))(2).

وروى البخاري بسنده عن أنس بن مالك قال: ((إن قيس بن سعد كان يكون بين يدي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمنزلة صاحب الشُرَط من الأمير))(3).

وسمّي الجهاز بالشرطة لأنهم كانوا يضعون الشرط أي العلامات ليتميزوا وليكون لهم تأثير ومهابة في نفوس الناس كأي جهاز عسكري أو تميّز علماء الدين بالزي، وبدون هذا التميّز لا يكون هناك تعريف لهم ولا تأثير كما هو واضح ومجرّب، ولمنع اندساس المنتحلين لهذه العناوين.

والوجه الآخر لتسميتهم بالشرطة لأنهم تشارطوا مع إمامهم وقائدهم وولي أمرهم على الطاعة التامة والتسليم والتضحية على أن يضمن لهم الجنة،

ص: 56


1- رجال الكشي: 4، مقدمة الكتاب.
2- بحار الأنوار: 34/272.
3- صحيح البخاري: 831، كتاب الأحكام، باب 12، ح 7155.

كما تقدم في رواية الاختصاص، وفيها بسنده عن علي بن الحكم قال: ((أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) الذين قال لهم تشرّطوا فأنا أشارطكم على الجنة ولست أشارطكم على ذهب ولا فضة)).

وفيه أيضاً بسنده إلى الأصبغ بن نباتة ((وقد سُئل: كيف تسميتم شرطة الخميس يا أصبغ؟ قال: لأنّا ضمنّا له الذبح وضمن لنا الفتح) يعني أمير المؤمنين (عليه السلام) ))(1).

وروى الكشي في رجاله بسنده عن أبي الجارود قال: (قلتُ للأصبغ بن نباتة ما كان منزلة هذا الرجل –أي أمير المؤمنين (عليه السلام)- فيكم؟ قال: ما أدري ما تقول إلا أن سيوفنا كانت على عواتقنا فمن أومأ إلينا ضربناه بها، وكان يقول لنا: تشرّطوا فوالله ما اشتراطكم لذهب ولا فضة، وما اشتراطكم إلا للموت، إن قوماً منقبلكم من بني إسرائيل تشارطوا بينهم فما مات أحد منهم حتى كان نبي قومه أو نبي قريته أو نبي نفسه، وإنكم بمنزلتهم غير أنكم لستم بأنبياء)(2).

أقول: في الجزء الأخير من الرواية إشارة إلى أهمية المشارطة مع الآخرين، ومنه استفاد علماء السلوك دور المشارطة مع النفس في تحقيق التكامل والانتصار في ميدان الجهاد الأكبر.

والخميس من أسماء الجيش لتكوّنه من خمسة أقسام، ولذا عرفوا شرطة الخميس بأنهم نخبة المقاتلين الشجعان المضحين في الجيش ((وأول كتيبة تشهد الحرب وتتهيأ للموت، وسُمّوا بذلك لأنهم جعلوا لأنفسهم علامات يعرفون بها للأعداء، الواحدة شرطة كغرف وغرفة))(3).

ص: 57


1- بحار الأنوار: 42/181.
2- رجال الكشي: 3، مقدمة الكتاب.
3- مجمع البحرين: 2/479، مادة (شرط).

أقول: حصر وظيفة شرطة الخميس بهذه المهمة القتالية ليس صحيحاً لعدة وجوه:-

1- سيتضح من بعض الروايات التالية وجود عدة مهمات لهم.

2- ذكرت المصادر وجهاً آخر لتسميتهم بشرطة الخميس غير هذا، ففي خزانة الأدب ((وكان عِفاق بن المُسَيح على شرطة الخميس مع علي بن أبي طالب، وكانوا يعرضون يوم الخميس أو يجمعون يوم الخميس))(1).

أقول: فنسبتهم إلى الخميس لأنه يوم استعراضهم وتعدادهم.

3- إن بعض شرطة الخميس من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكونوا ممن يكلّفون بمهام قتالية كسلمان وأبي ذر لكن أحدهم كان يعادل جيشاً كاملاً في نصرة الحق وأداء وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

4- لو سلّمنا بأن الخميس بمعنى الجيش فإن الإضافة إليه لا تعني الاختصاص به، إذ لعل إضافتهم إلى الخميس باعتبارها الوظيفة الأهم التي تحظى بتعظيم الناس كما هو واضح.

وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يحث أعيان أصحابه على الانخراط في هذا الجهاز والمحافظة عليه، ففي رجال الكشي بسنده عن بشر بن عمرو الهمداني قال: ((مرَّ بنا أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: اكتتبوا في هذه الشرطة فوالله لا تلي بعدهم شرطة إلا شرطة النار، إلا من عمل بمثل أعمالهم))(2).

أقول: يتضح من جملة من الروايات أن لشرطة الخميس وظائف عديدة منها:-

ص: 58


1- خزانة الأدب: 7/130 تحقيق عبد السلام محمد هارون، الشركة الدولية للطباعة.
2- رجال الكشي: 4، مقدمة الكتاب.

1- الثبات على الحق ومعرفة أهله والإعلان والتصريح بصاحب الإمامة الشرعية، وإرشاد الناس إليه، وقد ذكرنا بعض المواقف فيما سبق لأصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين أنكروا على أبي بكر الخلافة والمواقف المشهورة لأصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) وهي كثيرة.

2- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ففي الرواية عن حبابة الوالبية قالت: ((رأيت أمير المؤمنين (عليه السلام) في شرطة الخميس ومعه دِرَّة –أي سوط- لها سبابتان –أي رأسان- يضرب بها بياعي الجرّي والمارماهي والزمار، ويقول لهم: يا بياعي مسوخ بني إسرائيل وجند بني مروان))(1).

3- إقامة الحدود وتنفيذ العقوبات التي يحكم بها القانون بلا مجاملة ولا مداهنة، ففي رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (أُتي أمير المؤمنين صلوات الله عليه وهو جالس في المسجد بالكوفة بقوم وجدهم يأكلون في شهر رمضان) في حديث طويل وصفوا أنفسهم بالمسلمين إلا أنهم لا يعترفون بنبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أن قال: (فوكّل بهم شرطة وخرج بهم إلى الظهر ظهر الكوفة وأمر أن يحفر حفرتين وحفر إحداهما إلى جنب الأخرى ثم خرق بينهما كوّة ضخمة شبه الخوخة، فقال لهم: إني واضعكم في إحدى هذين القليبين وأوقد في الأخرى ناراً فأقتلكم بالدخان)(2)

إلى آخر الرواية.

4- وظائف الشرطة الاعتيادية من حفظ النظام والقبض على المجرمين وتسيير أمور الناس، كما في القضية التي رواها الكليني في الجماعة

ص: 59


1- أصول الكافي: 1/346، تحقيق علي أكبر الغفاري.
2- فروع الكافي: 4/181.

الذين قتلوا أحدهم في السفر، وفيها قال (عليه السلام): (يا قنبر ادع لي شرطة الخميس فدعاهم فوكّل بكل رجل منهم –أي المتهمين- رجلاً من الشرطة ثم نظر إلى وجوههم)(1)

إلى آخر الحديث.

5- الوظيفة المشهورة عنهم وهي الصدق في الحرب ونجدة المقاتلين، فمن وصيته (عليه السلام) قال: (فإذا أردتم الحمل فليبدأ صاحب المقدمة فإن تضعضع دعمته شرطة الخميس)(2)

إلى آخر الخطبة.

وبعد استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام) واصل الإمام الحسن (عليه السلام) رعايته لهذا الجهاز والاعتماد عليه، ففي الرواية ((بايع أهل العراق الحسن بنعلي (عليه السلام) فسار حتى نزل بالمدائن وبعث قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري على المقدمات وهم اثنا عشر ألفاً، وكانوا يسمّون شرطة الخميس))(3).

وقد أطلنا الكلام نسبياً في هذا العنوان؛ لأنه فصل مهم من سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) في تطبيق الشريعة، وكيفية إدارته لشؤون الدولة والمجتمع على أساس الإسلام لم يحظ بالبحث والتحقيق والاستفادة منه.

عود على بدء:

وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) حازماً في تطبيق هذه الفريضة الإلهية بلا مجاملة أو مداهنة أو محسوبية، ونذكر شاهداً على ذلك ما رواه الكشي في رجاله بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (بعث علي بن أبي طالب

ص: 60


1- فروع الكافي: 7/371.
2- دعائم الإسلام: 1/373.
3- تأريخ مدينة دمشق: 13/262 تحقيق محب الدين العمري.

(عليه السلام) إلى بشير بن عطارد التميمي في كلام بلغه عنه، فمرَّ به رسول علي (عليه السلام) إلى بني أسد، فقام إليه نعيم بن دجاجة(1)

–وقيل خارجة- الأسدي فأفلته، فبعث إليه علي بن أبي طالب (عليه السلام) فأتوه به، فأمر به أن يضرب فقال له نعيم: أما والله إن المقام معك لذلّ وإن فراقك لكفر، قال: فلما سمع ذلك علي (عليه السلام) قال له: قد عفوت عنك، إن الله تعالى يقول: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ» أما قولك إن المقام معك لذلّ فسيئة اكتسبتها، وأما قولك إن فراقك لكفر حسنة(2)

اكتسبتها فهذه بهذه)(3).

وبعد استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام) وإقصاء ولديه الحسنين (عليهما السلام) من الخلافة واستئصال معاوية لشيعة علي (عليه السلام) الخُلّص، تدهور وضع هذه الفريضة في الأمة، حتى أظهر معاوية المنكرات والموبقات من دون نكيرعليه عدا ما نُقل من مواقف الإمامين السبطين (عليهما السلام)، ومنها رسالة الإمام الحسين(4)(عليه السلام) إليه يعدِّد فيها مخالفاته للشرع المقدس.

وبعد تولي يزيد بلغ الانحطاط أوجه فلم يكن أمام الإمام الحسين (عليه السلام) سبيل إلا التضحية بدمه الشريف لإحياء هذه الفريضة حيث كشف عن تخلي الأمة عنها بقوله: (ألا ترون أن الحق لا يُعمل به، وان الباطل لا يُتناهى عنه).

ص: 61


1- حكي عن كتاب الغارات للثقفي، صفحة 72: أن نعيم من شرطة الخميس.
2- إنما جعلها أمير المؤمنين (عليه السلام) حسنة لا لمجرد أن فيها مدحاً له فإنه يترفع عن الأمور الشخصية، بل لأن فيها التزاماً بوصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (علي مع الحق والحق مع علي) فمخالفته سقوط في الباطل.
3- رجال الكشي: 60 في ترجمة (نعيم بن دجاجة الأسدي).
4- راجعها في كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية).

ولم ير الإمام الحسين (عليه السلام) سبيلاً لإحياء هذه الفريضة إلا بسفك دمه الشريف وأهل بيته وسبي عياله:-

لم أدرِ أين

رجال المسلمين مضوا قد *** وكيف صار يزيد بينهم ملكاً

أصبح الدين منه يشتكي سقماً فما *** وما إلى أحد غير الحسين شكا

رأى السبط للدين الحنيف شفىً وما *** إلا إذا دمه في كربلا سفكا

سمعنا عليلاً لا علاج له *** إلا بنفس مداويه إذا هلكا(1)

وفجّرت نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) العديد من الثورات التي انطلقت من نفس الهدف الحسيني وهو الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كحركة الشهيد زيد بن علي.

كما أن ثورات أخرى نتجت من هذا المخاض الذي عاشته الأمة، وكان محركها رفض الواقع الاجتماعي الفاسد والانقلاب عليه ومحاولة تغييره وإبراء الذمة أمام الله تعالى منه، حتى لا يكون هؤلاء الثائرون ممن سكت عن المنكر فيحشرون مع الظالمين، قال عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الأنصاري غسيل الملائكة في أُحُد وهو أبرز زعماء ثورة أهل المدينة ضد يزيد بن معاوية: ((والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء، إنه رجل ينكح الأمهات والبنات، ويشرب الخمر، ويدع الصلاة، والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت لله فيه بلاءً حسناً))(2).

وروى أبو الفرج عن سبب خروج محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن المثنى بن الحسن السبط (عليه السلام) أيام المأمون العباسي فقال: ((فبينا هو في بعض الأيام يمشي في بعض طرق الكوفة إذ نظر إلى عجوز

ص: 62


1- من قصيدة للمرحوم السيد جعفر الحلي في الدر النضيد: 212.
2- موسوعة أهل البيت (عليهم السلام) للقريشي: 16/346عن سير أعلام النبلاء: 3/324.

تتبع أحمال الرطب فتلتقط ما يسقط منها فتجمعه في كساء عليها رثّ، فسألها عما تصنع بذلك، فقالت: إني امرأة لا رجل لي يقوم بمؤونتي ولي بنات لا يعدن على أنفسهن بشيء، فأنا أتتبعهذا من الطريق وأتقوته أنا وولدي، فبكى بكاءً شديداً، وقال: أنت والله وأشباهك تخرجوني غداً حتى يسفك دمي))(1).

هذا ولكن ينبغي الالتفات إلى أنه ليس من الواضح أن كل الثورات تحمل نفس الهدف الحسيني، بل كانت لها نوايا شتى:

(فمنها) ما كان لمنافسة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في وراثة موقع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) في إمامة الأمة وحسداً لهم، ولما لم يستطيعوا نيل الوراثة بالاستحقاق حاولوا إقناع الأمة بهم من خلال الحركات المسلحة كبعض بني الإمام الحسن (عليه السلام).

(ومنها) للوصول إلى السلطة كخروج عبد الله بن الزبير في مكة.

وابتعد الأئمة (عليهم السلام) عن المشاركة المباشرة في العمل المسلح إلا أنهم كانوا يغذّون الأمة بروح الرفض للظلم والمنكر والبغي والفساد والانحراف من خلال الأحاديث الشريفة ذات المعاني الجليلة في عظمة هذه الفريضة وآثارها، ويعبّرون عن ضرورة استمرار الحركة المخلصة لإدامة هذه الجذوة في حياة الأمة، وفي ذلك روي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) –وقد ذكر بين يديه من خرج من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)- قوله: (لا أزال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد، ولوددت أن الخارجي من آل محمد خرج وعليّ نفقة عياله)(2).

ص: 63


1- مقاتل الطالبيين: 346.
2- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 13، ح12.

وهذا ما كان يعلمه الطغاة المستبدون إلا أنهم لم يكونوا يعثرون –خلال مداهمة قواتهم لبيت الأئمة (عليهم السلام)- على أي وثيقة أو دليل يثبت الارتباط المباشر للأئمة (عليهم السلام) بتلك الحركات المسلحة.

وكان الأئمة (عليهم السلام) يوضحون لأصحابهم الفرق بين من يخرج للإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بغضّ النظر عن انتصاره ووصوله إلى السلطة أو استشهاده قبل ذلك وبين من يقوم بعمل مسلح مستهدفاً الوصول إلى السلطة، فيؤيدون الأول ويسكتون عن الثاني(1).

فمن كلام الإمام الرضا (عليه السلام) مع المأمون العباسي قال: (لا تقس أخي زيداً(2)

إلى زيد بن علي، فإنه كان من علماء آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)،غضب لله فجاهد أعداءه حتى قتل في سبيله، ولقد حدثني أبي موسى بن جعفر أنه سمع أباه جعفر بن محمد (عليهم السلام) يقول: رحم الله عمي زيداً إنه دعا إلى الرضا من آل محمد، ولو ظفر لوفى بما دعا إليه)(3).

وفي رواية ياسر الخادم أنه لما دخل زيد على أخيه الإمام (عليه السلام) قال له: (ويحك يا زيد ما الذي غرَّك حتى أرقت الدماء وقطعت السبيل، أغرَّك حديث سمعته عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أن فاطمة أحصنت فرجها فحرَّم الله ذريتها على النار) فوالله ما ذلك إلا للحسن والحسين وَوُلد

ص: 64


1- راجع الفصل الرابع من كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية) وخطاب المرحلة: 6/379.
2- زيد بن الإمام موسى بن جعفر خرج في البصرة ولقب ب-((زيد النار)) لكثرة ما أحرق من الدور والممتلكات التي تعود إلى العباسيين وأعوانهم وكان يحرقهم بالنار واستولى على أموالهم، أسره العباسيون وسجنوه ثم وهبه المأمون إلى أخيه الإمام الرضا (عليه السلام). ومما نلفت النظر إليه أننا لسنا بصدد تقييم الأشخاص وحركاتهم.
3- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 13، ح11.

بطنها خاصّة، ويحك ما نالا ذلك إلا بطاعة الله تعالى، فإن كنت ترى أنك تعصي الله وتدخل الجنة، فأنت إذن أكرم على الله منهما، ومن أبيك موسى بن جعفر، والله –يا زيد- لا ينال أحدٌ ما عند الله إلا بطاعته.

فقال له زيد: أنا أخوك وابن أبيك.

فقال له الرضا (عليه السلام): أنت أخي ما أطعت الله عز وجل، إن نوحاً قال: «رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ» فقال له الله عز وجل: «يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ» (نوح: 45، 46) فأخرجه الله من أن يكون من أهله بمعصية الله)(1).

وبعد انتهاء عصر المعصومين (عليهم السلام) وبروز دور العلماء في قيادة الأمة، شهدت هذه الفريضة مداً وجزراً بحسب رؤية المرجعية الدينية للظروف المحيطة بها وحدود مسؤولياتها وما يجب عليها فعله.

وكان لبعض العلماء اهتمام واضح بإحياء هذه الفريضة كالشهيدين الأول والثاني والمحقق الكركي والسيد بحر العلوم والشيخ كاشف الغطاء (قدس الله أرواحهم).

حتى حلّ القرن الرابع عشر الهجري والذي شهد حركات النهضة الإسلامية والإصلاح الديني، فتميَّز في المرجعية خطّان: تقليدي يقتصر على الحد الأدنى من وظائف المرجعية ولا يتدخل في الشؤون العامة، وخط حركي رسالي يواصل وظيفة الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم) في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نبراسهم فيها قول أمير المؤمنين (عليه السلام): (إن الله تبارك وتعالى لم يرضّ من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فوَجدتُ القتال –يقصد في صفين- أهون عليَّ

ص: 65


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): 447، باب 58، ح4، بحار الأنوار:49/217، ح2.

من معالجة الأغلال في جهنم)(1)، وقوله(عليه السلام) في الخطبة الشقشقية: (وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كِظّة ظالم ولا سغب مظلوم)، وقدّم الكثير منهم أرواحهم فداءً لإعلاء كلمة الله تعالى، وأثمرت هذه الفريضة إقامة دولة تعتمد مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) مصدراً لتشريعاتها.

ونستذكر هنا بعض مواقف المرجع المصلح المرحوم الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء (توفي سنة 1373/1954) فمن مآثره رسالته التي وجهها إلى مؤتمر بحمدون في لبنان عام 1954 موضحاً أسباب عدم حضور المؤتمر الذي أقيم برعاية أمريكية وحضره علماء دين مسلمون ومسيحيون لبحث القيم الروحية المشتركة بين الديانتين وموقفهما من الشيوعية، ومما جاء فيه ((هذه الخمور التي تباع جهاراً في أسواق المسلمين وفي حوانيت المسلمين هي محاربة لله ولرسوله، فهل حرّكت الغيرة جماعة منهم لمكافحتها أو مكافحة من يراودها ويخرج ثملاً يتمايل؟ هل هجم ذو غيرة وحمية للدين والقرآن فيحطّم تلك الزجاجات والقناني التي قد يكون أثرها على البلاد أسوأ من القنابل؟ بل هي القنابل الصامتة والمدافع الخرساء، هل هجم عليها أحد كما هجم جدنا كاشف الغطاء على حانة خمر لأحد الصوفية في شيراز فأراق خمورها في الشوارع؟ نعم سكوتنا عن المجرمين شجّعهم على الجرائم. والساكت عن المجرم شريكه في جريمته))(2).

وتحدث في مذكراته عن موقفه الشجاع لمنع ما يفعله العوام بما يسمونه فرحة الزهراء (عليها السلام) يوم التاسع من ربيع الأول، قال (قدس سره): ((كان من العادات السيئة في النجف الأشرف والتي لا تزال تتزايد وتتسع هو ما يتظاهر به دهماء الشيعة في النجف وغيرها ويسمونها فرحة الزهراء.

ص: 66


1- نهج السعادة: 2/226.
2- المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون: 84.

مضت الأحقاب والسنون على هذه الشؤون والشجون ولا آمر بالمعروف ولا ناهي عن منكر، وكنت من مدة سبع سنوات أهمّ كل سنة أن أقوم بإصلاح هذا الفساد ورتق هذا الفتق، وعلاج هذا المرض الاجتماعي القاتل، فكان العقلاء وذوو الرأي يمنعونني ويثبطونني قائلين: إنك لا تطاع في هذا، وإن الأمر قد بلغ عند العوام والسواد إلى حد الفريضة بل أهم منها: وكانوا يحذرونني من الوهن الفظيع، والسقوط العميق مؤيدين دعواهم هذه بإحجام من مضى من العلماء الأعاظم وأساطين الدين ممن كانوا أبعد صوتاً، وأعظم صيتاً، عن المنع عن هذه المنكرات التي كانت تجري على رؤوسهم وبمرأى ومسمع، كل ذلك علماً منهم بعدم التأثير.

ولكني في هذه السنة(1)

صممت العزيمة على القيام بالأمر، وجاء الناصحون والمحبون يثبطون عن الأمر، ولكن كل تلك المثبطات ما كانت تزيدني إلا شدة واهتماماً وعزيمة وإقداماً، فأقدمت متوكلاً على عناية الحق (جل شأنه)، وأداء الأمانة التي أخذها على العلماء من الإرشاد والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،فصعدت المنبر صباح الخميس 28/صفر يوم وفاة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، والخلائق مجتمعة في الصحن الشريف، وصار هذا التأثير الكبير الدفعي الذي لم يكن بحسبان أحد أبداً آية من الآيات وعجباً من الأعاجيب.

وعرفنا أن العوام مستعدون لقبول النصائح، وإنما التقصير من أهل العلم والمدار كله في التأثير والقبول على الإخلاص))(2).

ص: 67


1- ذكر في الصفحة 165 من المصدر أنها سنة 1352 هجرية (1933 ميلادية)..
2- عقود حياتي: 298-301.

وقد تواصل هذا الخط الرسالي بعمله في إيران والعراق ولبنان خلال العقود الأخيرة وشهدنا التغيير الهائل الذي حصل في حياة هذه الشعوب ومصيرها ومستقبلها.

وبعد استشهاد أستاذنا السيد الصدر الثاني (قدس سره) عام 1419 ه-/ 1999م واصلنا رعاية الحركة الإسلامية في العراق وتصدّينا لمواصلة عملية التغيير والإصلاح والعمل بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المستوى الاجتماعي العام(1)

رغم الكلفة الباهظة، وكان الأغلب يثبطنا، أما المحب فشفقة وأما العدو فخوفاً وفرقاً، وكنت أجيبهم بأني لم أفعل أزيد من هذه الفريضة المباركة، وأني مطمئن لقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لن يقربا أجلاً ولن يقطعا رزقاً)(2)

والحمد لله تعالى الذي صدق وعده ونصر عبده.

هذه خلاصة تأريخية بلحاظ ممارسة الفريضة على الصعيد العام أي التغيير الاجتماعي، أما على الصعيد الفردي فإنه لم يكن بعيداً عن الأول ويتحرك معه قوةً وضعفاً لأنهما متفاعلان ويؤثر أحدهما في الآخر، فالأول غطاء الثاني والثاني أصل الأول ومحركه.

ولذا فإنه لو لاحظنا حركة الفريضة في حياة أبناء العامة فإننا سنجدها معطلة تقريباً لسير علمائهم في ركاب السلطة ومداهنتهم لها بل هم أسسوا لوجوب طاعة الولاة ولو كانوا ظلمة وفسّاق، فكيف يأمرون بالمعروف إذا كان الحاكم أول تاركيه، وكيف ينهون عن المنكر إذا كان الحاكم أول فاعليه، وهذا أدى إلى ذوبان الفريضة على صعيد الأفراد أيضاً، بل إن الدولة العباسية

ص: 68


1- راجع المجلدين الأول والثاني من كتاب (خطاب المرحلة).
2- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب 1، ح7.

حولتها إلى جهاز حكومي تستفيد منه السلطة في تحقيق مآربها وتنفيذ خططها، وأطلق عليه (ولاية الحسبة) ودخلت تفاصيل أحكامها في (الأحكام السلطانية) كما في كتاب الماوردي بهذا العنوان.إلى أن انطلقت الحركة التغييرية على الصعيد الاجتماعي في بداية القرن الماضي وتمرّدوا على نظرية طاعة الحكام مطلقاً مخالفين لما أسّسه أسلافهم، فأنتجت الصحوة الإسلامية عند أبناء العامة وعودة الأفراد إلى الدين ونشطت الفريضة في جانبها الفردي أيضاً.

ص: 69

الفصل الثاني: الأدلة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

اشارة

قد يقال بعدم وجود ثمرة في البحث عن الأدلة على وجوب هذه الوظيفة لإجماع المسلمين كافة على ذلك، لكننا نتوخى منه هنا عدة ثمرات (منها) إبراز أهمية الفريضة (ومنها) تقديم بعض التفريعات التي تنفعنا في المطالب الآتية بإذن الله تعالى.

وقد استدل على وجوب الفريضة بالأدلة الأربعة وغيرها:

(الأول-العقل)

اشارة

وهل الوجوب عقلي أم شرعي؟

فإذا تمّ لدينا دليل من العقل كان وجوب هذه الفريضة عقلياً وتكون الأدلة الشرعية مؤكدة وإرشادية، وإن لم يتم فالوجوب شرعي لوفرة الأدلة عليه، وتقريب الاستدلال بالعقل بنحوين(1):

(الأول) ما في المصادر الآتية، وحاصله: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من اللطف لأنهما يقرّبان إلى الطاعة ويبعّدان عن المعصية، واللطف واجب على الله تبارك وتعالى بما أوجب على نفسه، والمقدمتان ظاهرتان –كما يقول العلامة (قدس سره) في المختلف- ، فهذه الوظيفة واجبة.

واستند إلى هذا الدليل الشيخ (قدس سره) في الاقتصاد(2) والعلامة في المختلف والشهيدان الأول والثاني في اللمعة والروضة، وحكي عن غيرهم أيضاً

ص: 70


1- وقع في بعض المصادر خلط بينهما، راجع: فقه الصادق: 19/306.
2- قال الشيخ الطوسي في (الاقتصاد: 147): ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان بلا خلاف بقول الأمة وإن اختلفوا في أنه هل يجبان عقلاً أو سمعاً: فقال الجمهور من المتكلمين والفقهاء وغيرهم: إنهما يجبان سمعاً، وإنه ليس في العقل ما يدل على وجوبهما، وإنما علمناه بدليل الإجماع من الأمة وبآي القرآن وكثر من الأخبار المتواترة، وهو الصحيح. وقيل طريق وجوبهما هو العقل. والذي يدلّ على الأول: أنه لو وجبا عقلاً لكان في العقل دليل على وجوبهما، وقد سبرنا أدلّة العقل فلم نجد فيها ما يدل على وجوبهما.. ويقوى في نفسي أنهما يجبان عقلاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لما فيه من اللطف)).

كالمقداد، واستغنوا به عن الأدلة النقلية حتى قالوا أن وجوب الفريضة عقلي لا سمعي، أما أمر الشارع فهو تأكيد وإرشاد، وسبقهم إلى ذلك رؤساء المعتزلة كأبي علي الجُبّائي(1)

(توفي سنة 303 ه-).وذهب إلى كون الوجوب شرعياً السيد المرتضى ((والمحقق الحلي والحلبي والخواجة نصير الدين الطوسي والكركي وفخر المحققين ووالده في بعض كتبه، بل عن المختلف نسبته إلى الأكثر، بل عن السرائر نسبته إلى جمهور المتكلمين والمحصّلين من الفقهاء))(2).

وأورد السيد المرتضى (قدس سره) على هذا الدليل: ((بأنه لو كان واجباً بالعقل لم يرتفع معروف ولم يقع منكر، أو يكون الله تعالى مخلاً بالواجب، واللازم بقسميه باطل فالملزوم مثله.

بيان الشرطية: إن الأمر بالمعروف إذا كان هو الحمل عليه وحقيقة النهي عن المنكر هو المنع منه، فلو وجبا بالعقل لكان واجباً على الله تعالى، لأن كل ما وجب بالعقل فإنه يجب على كل من حصل وجه الوجوب في حقه، فكان يجب على الله تعالى الحمل على المعروف والمنع من المنكر. فأما أن يفعلهما فلا يرتفع

ص: 71


1- مجمع البيان: 1/807، تفسير الآية (104) من سورة آل عمران.
2- جواهر الكلام: 21/358.

معروف ولا يقع منكر ويلزم الإلجاء، أو لا يفعلهما فيكون مخلاً بالواجب))(1)، وأضاف في المنتهى: ((وبطلانه ظاهر لأنه حكيم لا يخل بالواجب))(2).

وأجاب العلامة (قدس سره) قائلاً: ((وفيه نظر؛ لاحتمال أن يكون الواجب علينا في الأمر والنهي غير الواجب عليه، فإن الواجب يختلف باختلاف الآمرين والناهين، فالقادر يجب عليه بالقلب واللسان واليد، والعاجز يجب بالقلب لا غير، وإذا كان الواجب مختلفاً بالنسبة إلينا جاز اختلافه بالنسبة إلينا وإليه تعالى، فالواجب من ذلك عليه تعالى التوعد والإنذار بالمخالفة لئلا يبطل التكليف))، أي أن المكلف يبقى محتفظاً بإرادته للفعل والترك.

وارتضى الشهيد الثاني (قدس سره) في شرح اللمعة هذا الجواب وأضاف قائلاً: ((ولا يلزم من ذلك –أي كونهما لطفاً واجباً- وجوبهما على الله تعالى، اللازم منه خلاف الواقع إن قام به، أو الإخلال بحكمته تعالى إن لم يقم، لاستلزام القيام به على هذا الوجه الإلجاء الممتنع في التكليف. ويجوز اختلاف الواجب باختلاف محالِّهخصوصاً مع ظهور المانع، فيكون الواجب في حقه تعالى الإنذار والتخويف بالمخالفة، لئلا يبطل التكليف وقد فعل)).

ص: 72


1- مختلف الشيعة: 4/471، الروضة البهية: 1/453، وأورده المحقق الطوسي في آخر التجريد، والعلامة في شرحه للتجريد المسمّى كشف المراد: 428، المقصد السادس، المسألة السادسة عشرة.
2- وأورد إشكالاً قال فيه: ((لا يقال: إن هذا وارد عليكم في وجوبهما على المكلف؛ لأن الأمر هو الحمل، والنهي هو المنع، ولا فرق في اقتضاء الحمل والمنع الإلجاء بين ما إذا صدرا من المكلف أو من الله تعالى، وذلك قولٌ بإبطال التكليف. لأنّا نقول: لا نسلّم أنه يلزم الإلجاء؛ لأن منع المكلف لا يقتضي الامتناع، أقصى ما في الباب أن يكون مقرّباً، ويجري مجرى الحدود في اللطفية، ولهذا تقع القبائح مع حصول الإنكار وإقامة الحدود)) (منتهى المطلب: 15/237).

أقول: هذا الإشكال على التقريب لا يرد؛ لأن إيجابهما من قبل المولى يعني إرادة تحققهما في الخارج إرادة تشريعية وليس إرادة تكوينية حتى يلزم الإلجاء، وبتعبير آخر: إن أمر الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإيجاب ذلك عليهم هو في الحقيقة أمر الله بالمعروف ونهيه عن المنكر؛ لأن الأمر بالأمر أمر، والأمر بالنهي نهي، ولا يلزم أزيد من ذلك كمباشرته ونحوه ذلك، فوجوبهما على الله تعالى كوجوبهما على المكلفين وليس على نحو الإلجاء والحمل الإجباري وسلب الاختيار منهم.

نعم يرد على هذا التقريب أمور:-

1- إننا نبحث هنا عن تكليف المخلوق لا تكليف الخالق فنتيجة التقريب غير مثمرة لنا.

2- إن العقل دليل لبّي يقتصر فيه على القدر المتيقن، فغاية ما يلزم من حكمه الذي هو إدراكه كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لطفاً هو رجحان الدعوة إليه من دون تحديد كونهما على نحو الوجوب أو الاستحباب، فإنه تابع لكون الملاك ملزماً أو غير ملزم وهذا مما لا يدركه العقل.

3- لو تنزلنا وقلنا بأن نتيجة التقريب وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الله تبارك وتعالى فهو يعني وجوب تشريعهما، وقد شرّعهما الله تبارك وتعالى فلا إشكال، لكن هذا لا يحدِّد شكل التكليف الموجَّه إلى الفرد فلا يتعين بمقتضاه وجوبهما على العبد.

(الثاني) مكون من مقدمتين: الصغرى: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يستقل العقل بالحكم بحسنه.

وأما الكبرى فيمكن أن تكون أكثر من واحدة:

ص: 73

أولاهما: وكل ما كان حسناً فيجب صدوره من المولى؛ لأنه خالق العقل وهو الذي أودع فيه هذه القدرة على الإدراك، ومدح فاعل الحسن وذمَّ فاعل القبيح، وأكّده بقوله تعالى: «إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ» (النحل:90).

وفيه: ما تقدَّم من النقاط، مضافاً إلى أن العقل قاصر عن معرفة ما يجب على المولى فعله أو تركه وأنه ليس من حقه التفكير في ذلك، فإنه جل وعلا «لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ» (الأنبياء : 23).

ثانيهما: وما كان كذلك يحكم الشرع بوجوبه لأن ما حكم به العقل حكم به الشرع فهذه الوظيفة واجبة.

وفيه ما قلناه في الأبحاث التمهيدية من أننا وإن كنا نسلّم بالحسن والقبح الذاتيين في الأفعال خلافاً لمن أنكرهما وجعلهما معاني نسبية بحسب موافقة ومنافرة الطبع، إلا أن صلاحية ذلك لاستنباط الأحكام الشرعية مشكوكة لعدة وجوه:

(منها): الشك في كون جملة مما ينسب إلى العقل من أحكام هي صادرة منه بما هو عقل، لذا حصل الخلاف في أحكام العقل المدعاة.(ومنها) عدم قدرة العقل على استكشاف هذه الأحكام.

(ومنها) عدم تنجيزه للأحكام على نحو يترتب عليه الثواب والعقاب إلا أن ينجّزه أمر الشارع المقدس ونهيه.

وذهب السيد الخميني (قدس سره) إلى كون الوجوب عقلياً، قال (قدس سره): ((وجوب النهي عن المنكر عقلي، كما صرّح به شيخنا الأعظم. وحكي عن شيخ الطائفة وبعض كتب العلامة وعن الشهيدين والفاضل المقداد أنه عقلي.

وعن جمهور المتكلمين منهم المحقق الطوسي عدم وجوبه عقلاً بل يجب شرعاً.

ص: 74

والحق هو الأول، لاستقلال العقل بوجوب منع تحقق معصية المولى ومبغوضه وقبح التواني عنه، سواء في ذلك التوصل إلى النهي أو الأمور الأخر الممكنة.

فكما تسالموا ظاهراً على وجوب المنع من تحقق ما هو مبغوض الوجود في الخارج، سواء صدر من مكلّف أم لا لمناط مبغوضية وجوده، كذلك يجب المنع من تحقق ما هو مبغوض صدوره من مكلّف ويرى العبد صدوره منه، فإن المناط في كليهما واحد، وهو تحقق المبغوض وإن اختلفا في أن الأول نفس وجوده مبغوض، والثاني صدوره من مكلّف مبغوض.

فإذا همّ حيوان بإراقة شيء يكون إراقته مبغوضة للمولى ويرى العبد ذلك وتقاعد عن منعه، يكون ذلك قبيحاً منه ويستحق للعقوبة لا لأهميته بل لنفس مبغوضيته، كذلك لو رأى مكلّفاً يأتي بما هو مبغوض مولاه، لاشتراكهما في المناط، والحاكم به العقل.

فإن قلتَ: على هذا لا يمكن تجويز الشارع ترك النهي عن المنكر.

قلتُ: هو كذلك لو كان المبغوض فعلياً ولم يكن للنهي مفسدة غالبة، فلو ورد منه تجويز الترك يكشف عن مفسدة في النهي أو مصلحة في تركه لو كان ذلك متصوراً في التروك والأعدام.

فدعوى الطباطبائي في تعليقته على المكاسب عدم قبح ترك النهي عن المنكر، في غير محلها))(1).

أقول: أورد على تقريب الاستدلال بالعقل بأن ((الفعل عرض والحسن والقبح العقليان من قسم العرض أيضاً، والعرض لا يعرض عليه عرض ولا يتصف به))(2).

ص: 75


1- المكاسب المحرمة: 1/203-204 في النوع الثاني من القسم الثاني.
2- فقه الصادق: 19/306.

وأجيب بالفرق ((بين العرض الوجودي والعرض الانتزاعي، والذي وقع محل الكلام في عروضه على العرض إنما هو القسم الأول كالألوان، وأما القسم الثانيكالحسن والقبح والشدة والضعف، فليس لأحد دعوى عدم عروضها على الأعراض))(1).

أقول: الأولى صياغة الجواب بتعبير أدق بأن يقال أن وصف الأفعال بالحسن والقبح ليس عروضاً بل هو حكم عقلي وإدراك من العقل لاتصاف الأفعال بها، فتسميته بالعروض لا يخلو من تسامح إلا أن يراد به معنى آخر منتزعاً من الاتصاف، فلا يرد الإشكال.

والخلاصة أن العقل يحكم بمطلوبية هذه الوظيفة ويجزم بوجوبها في بعض الموارد كحفظ النظام الاجتماعي العام ودفع الضرر ودفع الظلم، أما ما سواها فتأتي عليه الإشكالات السابقة.

ثمرة البحث في كون الوجوب عقلياً أو شرعياً:

قد يقال بعدم الثمرة وعدم الحاجة إلى عناء البحث في الوجوب العقلي، قال المحقق العراقي (قدس سره): ((ينحصر الدليل عندئذٍ بالسمعي، من إجماع أو كتاب وسنة، وهذا المقدار يكفي للمدعى، وقيامهما هنا من الواضحات))(2).

أقول: سنذكر (صفحة 299) عند الحديث عن وجوب الأمر والنهي بمخالفة الاحتياط الوجوبي ثمرة للفرق بين القول بوجوب هذه الفريضة عقلاً أو شرعاً أي بين من يكتفي بالدليل الشرعي على الوجوب وبين من يضيف إليه الاستدلال بالعقل، كما تظهر الثمرة بوجه من الوجوه في مسألة إلحاق وجوب دفع المنكر بوجوب رفعه كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ص: 76


1- فقه الصادق: 19/308
2- شرح تبصرة المتعلمين: 4/445.

(الثاني – الإجماع والسيرة)

والإجماع على الوجوب في الجملة محصّل ومنقول، وهو ثابت في شرع المسلمين جميعاً، وقد يناقش في الإجماع بأنه مدركي، إلا أنه مردود لأن الإجماع المتحقق في المقام أوسع بكثير من النصوص وأرسخ منها مما يرجّح عدم كفاية النصوص في تفسيره، وإنما هو تعبدي متصل بزمن المعصومين (عليهم السلام)، ونسب الخلاف إلى أفراد معدودين لكنه حمل على عدم وجوب الخروج بالسيف لا مطلق الأمر والنهي أو أنه ليس من الضروريات كوجوب الصلاة والزكاة فهو خلاف في التفاصيل لا في أصل الفريضة.

ويضاف إلى هذا أن سيرة الأنبياء والربانيين في جميع الأمم السابقة على ذلك.فإن نوقشت هذه السيرة بعدم حجيتها علينا، قلنا أن حجية هذه الكبرى لم تثبت على إطلاقها إلا أنها ثابتة في هذا المورد، لكثرة ما حكى القرآن الكريم من دأبهم على أداء هذه الوظيفة في معرض الدعوة للأخذ بنهجهم وسيرتهم، بل ورد التوجيه بالتأسّي بهم: «قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ» «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ» (الممتحنة: 4، 6).

وقد نقل الأئمة الطاهرون (صلوات الله عليهم) مواعظ الأنبياء السابقين (صلوات الله عليهم أجمعين) للاستفادة منها، ومما يناسب المقام ما رواه في تحف العقول من مواعظ عيسى روح الله، ومنها قوله: (بحقٍّ أقولُ لكم: من نظر إلى الحيّة تؤمُّ أخاه لتلدغه ولم يحذّره حتى قتلته فلا يأمن أن يكون قد شرك في دمه، وكذلك من نظر إلى أخيه يعمل الخطيئة ولم يحذّره عاقبتها حتى

ص: 77

أحاطت به فلا يأمن أن يكون قد شرك في إثمه، ومن قدر على أن يغيّر الظالم ثم لم يغيّره فهو كفاعله)(1).

سيرة العقلاء:

وسيرة العقلاء من الأمم كافة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعنى الذي يفهمونه للمعروف والمنكر بحسب مصادر تشريعاتهم كما هو واضح وإن لم يكن لهم شرع ودين؛ لأن نظام المجتمع البشري الذي تبانوا على الالتزام به يتقوم بها، وبها ضمان الالتزام بالقوانين والتشريعات التي يضعونها لأنفسهم، وبدونها تحل الفوضى والخراب.

وتجد الأمم المتحضرة اليوم تنشئ مؤسسات وهيئات للقيام بهذه الوظيفة تحت شتى المسميات كديوان الرقابة المالية ووزارة الداخلية وهيأة النزاهة وديوان المفتشين العموميين والرقابة التي يمارسها البرلمان وهكذا.

وفي بعض الروايات أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أثار هذه الحقيقة العقلائية ليدعو الناس للعمل بهذه الفريضة، فقد روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (مثل القائم على حدود الله والمرهن فيها كمثل قومٍ استهموا على سفينة في البحر فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها –فقال الذين في أسفلها: إننا ننقبها من أسفلها فنستقي، فإن أخذوا على أيديهم فمعنوهم نجوا جميعاً، وإن تركوهم غرقوا جميعاً)(2).

وسيأتي في تقريب الاستدلال بآية آل عمران ما يؤكد هذه الحقيقة بإذن الله تعالى.

ص: 78


1- بحار الأنوار: 14/308.
2- نقله تفسير الأمثل: 2/386، عن تفسير روح الجنان: 4/482.

(الثالث - القرآن الكريم)

اشارة

اهتم القرآن الكريم بهذه الفريضة أيّما اهتمام، وأوصل اهتمامه بها إلى العباد بأنحاء مختلفة:

(الأول) الأمر المباشر بها والعاقبة السيئة لتاركها، وأن سبب النجاة هو القيام بهذه الفريضة، أما من تركها ومن فعل عكسها فيشملهم العذاب.

كقوله تعالى: «وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «آل عمران : 104»

وقوله تعالى: «كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ» (آل عمران : 110).

وقوله تعالى على لسان لقمان: «يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ» (لقمان : 17).

وقوله تعالى: «لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ» (المائدة : 63).

وقوله تعالى: «فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ» (هود : 116).

وقوله تعالى: «وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ» (الأعراف :164- 165).

وقوله تعالى: «كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ» (المائدة : 79).

ص: 79

وقوله تعالى: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ» (الأعراف : 199)

(الثاني) إيراد هذه الوظيفة كصفة بارزة للربانيين والمؤمنين والدعوة للتأسي بهم:

كقوله تعالى: «إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» (النحل : 90).

وقوله تعالى: «الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ» (الحج : 41).

وقوله تعالى: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ» (الأعراف:157).وقوله تعالى: «الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ» (التوبة:67).

وقوله تعالى: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَ-ئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (التوبة : 71).

وقوله تعالى: «الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» (التوبة : 112).

أقول: فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صفات المؤمنين، ولازمه أن تاركها يخرج من دائرة الإيمان.

(الثالث) سوق هذه الوظيفة كغرض للتكاليف المهمة، وأن تركها هو همّ الشيطان:

ص: 80

كقوله تعالى: «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ» (العنكبوت:45).

وقوله تعالى: «وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ»(النور:21).

(الرابع) الأوامر العامة والمطلقة التي تنطبق على هذه الوظيفة أو فُسِّرت بها:

كقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ» (التحريم :6).

ففي الكافي وتفسير القمي بإسنادهما عن أبي بصير قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: «قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً» قلت: كيف أقيهم؟ قال: تأمرهم بما أمر الله، وتنهاهم عما نهى الله، فإن أطاعوك كنت قد وقيتهم، وإن عصوك كنت قد قضيت ما عليك)(1).

وفي الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لما نزلت هذه الآية جلس رجلٌ يبكي وقال: أنا عجزتُ عن نفسي وكُلِّفت أهلي! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): حسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك، وتنهاهم عما تنهى عنه نفسك).

ويجري هذا العنوان على آيات كثيرة كقوله تعالى في سورة العصر: «إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ» (العصر:3).

أقول: لعلها من أهم الآيات في بيان عظمة هذه الفريضة حيث أقسم الله تعالى بأن الإنسان في خُسر ولا يكفي للنجاة من هذا الخسران الإيمان والعمل الصالح

ص: 81


1- الكافي: 5/62، ح1، 2. تفسير القمي: 2/377.

وحدهما، بل لا بد أن ينضمّ معهما التواصي بالحق والتواصي بالصبر وهو شكل من أشكال الأمربالمعروف والنهي عن المنكر. فالآية تفيد أن صلاح الإنسان في نفسه بالإيمان والعمل الصالح لا يكفي ولا بد أن يبذل وسعه في إصلاح الآخرين بشكل مكثف ومتواصل المعبّر عنه بالتواصي.

وقوله تعالى: «وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَ-كِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ» (البقرة:251).

وقوله تعالى: «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» (الحج:40).

والدفع يتحقق بفريضتي الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والآيتان تحذّران من مغبّة ترك الفريضة لأن عاقبته امتلاء الأرض بالفساد واضمحلال الدين وكيان المسلمين(1).

وقوله تعالى: «وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ» (المائدة:2).

أقول: أوضح مصاديق الآية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ» (النساء:135).

وقوله تعالى: «وَاصبِر عَلَى مَا أَصَابَكَ» (لقمان:17)، في مجمع البيان عن علي (عليه السلام): (اصبر على ما أصابك من المشقة والأذى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)(2).

ص: 82


1- راجع الخطاب المفصل عن سنّة التدافع، في خطاب المرحلة: ج8.
2- البرهان: 7/287.

تقريب الاستدلال ببعض الآيات الكريمة:

نحاول الآن تقريب الاستدلال ببعض الآيات الكريمة:

(الآية الأولى) قوله تعالى: «وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (آل عمران : 104).

أقول: دلّت الآية الشريفة على الوجوب الذي تفيده هيأة: «وَلْتَكُن»، وأكّده بجعل امتثال هذه الوظيفة سبيل الفلاح. إذ أن ذيل الآية ظاهر في الحصر.

مضافاً إلى وقوعها في سياق الأمر بالوحدة والاعتصام بحبل الله تعالى وعدم التفرّق، فقبلها قوله تعالى: «وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ» (آل عمران:103) وبعدها: «وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَ-ئِكَ لَهُمْعَذَابٌ عَظِيمٌ» (آل عمران : 105) فكأنَّ وضع الآية في السياق لإلفات نظر الأمة إلى ما تتحقق به وحدتهم وعزّتهم وقوة بنيانهم من خلال الالتزام بأداء هذه الفريضة العظيمة.

إن قلتَ: إن استفادة الوجوب من الآية منافٍ لعموم الخير الشامل للواجب والمستحب فكيف تكون الدعوة إليه واجبة، فكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟

قلتُ: هذه شبهة مقابل البديهة لإجماع المسلمين على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل إجماع العقلاء كافة فلا وجه للتشكيك فيه، ومع ذلك نقول في الجواب:-

1- إن متعلق الوجوب هو أصل الوظيفة لا مصاديقها، أما المصاديق فلها حكمها، فالمطلوب في الآية أن تكون الأمة متصفة بهاتين الصفتين، أما التطبيق فيكون لكل مورد بحسبه من الوجوب أو الاستحباب، بل حتى لو لم يكن في مصاديقه مستحب، كما لو افترضنا وجوب قيام الأب بأمر ولده غير البالغ بالصلاة وهو فعل مستحب.

2- ولو تنزّلنا ونظرنا إلى المصاديق فإنه يمكن الجواب بتقريبين:-

ص: 83

أ- تقييد (الخير) بما هو واجب كالدعوة إلى الإسلام كما في جملة من التفاسير، وكذا يقيَّد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما هو واجب.

ب- أن يؤخذ (الخير) ووظيفة الأمر والنهي على عمومها وفيها الواجب والمستحب، وحينئذٍ يقال أن هذا المقدار من اتصاف المصاديق بالوجوب كافٍ لوصف العنوان بالوجوب.

إن قلتَ: تقييد الوظيفتين بالواجب ليس أولى من حمل الطلب على الاستحباب.

قلتُ: يرد عليه ما قلناه من كفاية الوجوب في الجملة للقول بالوجوب، مضافاً إلى إجماع المسلمين على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

والوجوب شامل للأمة كلها؛ لأن الظاهر كون (من) في (منكم) بيانية، فهي لبيان كون الطلب موجهاً لهذه الأمة أن تكون أمة تدعو إلى الخير وتأمر وتنهى لتكون هي الأمة المفلحة دون غيرها من الأمم، ومعنى شمول وجوبها للأمة أن الأمة بما هي أمة مخاطبة بالوجوب على نحو المجموع وليس على نحو الاستغراق لكل فرد فرد.

وتشهد له الآية التالية: «كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ لِلنَاسِ تَأمُرُونَ بِالمعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ» (آل عمران:110) والمورد يكون نظير قوله تعالى: «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ» (الحج:30) إذ ليس عندنا أوثان رجس وأوثان غير رجس، فالأوثان كلها رجس، لكن المراد منشأ اجتناب الأوثان لكونها رجساً، أو المراد بيان نوع الرجس المأمور باجتنابه هنا وأن موضوعه الأوثان، ونحو ذلك.

ويؤيد هذا –أي كون (من) بيانية والخطاب موجه إلى الأمة جميعاً- أمران:-

ص: 84

1- الآيات العديدة التي وصفت عموم المؤمنين والمؤمنات بهذه الصفة وليس بعضهم، وقد تقدم ذكر جملة منها في الصنف الثاني من الآيات (صفحة 80).1- ما رواه العياشي في تفسيره بسند غير تام عن الإمام الصادق (عليه السلام) في ذيل هذه الآية قال (عليه السلام): (لأنه من لم يكن يدعو إلى الخيرات ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من المسلمين فليس من الأمة التي وصفها الله، لأنكم تزعمون أن جميع المسلمين من أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد بدت هذه الآية وقد وصفت أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالدعاء إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن لم يوجد فيه الصفة التي وصفت بها فكيف يكون من الأمة وهو على خلاف ما شرطه الله على الأمة ووصفها به)(1).

((وقد نسب الشيخ الطوسي (قدس سره) إلى الزجاج أن المراد من (من) هنا هو تخصيص المخاطبين من بين سائر الأجناس، ورتب عليه الأمر والنهي فرض عين لا كفاية))(2).

ومعنى الآية: اجعلوا منكم –أي من أمتكم- يا أمة الإسلام أمة تتصف بأنها تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، كما تقول للشخص اجعل من ولدك ابناً صالحاً متفوقاً، أي اجعل ولدك هكذا، أو تخاطب الحوزة العلمية وتقول: اجعلوا منكم حوزة رسالية عاملة مخلصة.

ص: 85


1- حكي عن تفسير العياشي: 1/195.
2- حكاه في فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن التبيان: 2/541 وفقه القرآن للراوندي: 1/356.

وهذا ما نفهمه من كونها بيانية، أما صاحب الميزان فقد حكى هذا القول عن البعض، وقال: ((الظاهر أن المراد بكون (من) بيانية كونها نشوئية ابتدائية)).

أقول: كقوله تعالى: «هُوَ الذِي خَلَقَكُم مِنْ تُرَابٍ» (غافر:67) أي أن نشوءكم من التراب، كقوله تعالى: «مِنهَا خَلَقنَاكُم وَفِيهَا نُعِيدُكُم» (طه:55).

وقال الأكثر بأنها تبعيضية وبنى على ذلك كون الوجوب كفائياً، وذكروا لذلك وجوها يمكن تحصيلها من كلام السيد الطباطبائي قال (قدس سره): ((والذي ينبغي أن يقال: أن البحث في كون (من) تبعيضية أو بيانية لا يرجع إلى ثمرة محصلة، فإن الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمور لو وجبت لكانت بحسب طبعها واجبات كفائية، إذ لا معنى للدعوة والأمر والنهي المذكورات بعد حصول الغرض، فلو فرضت الأمة بأجمعهم داعية إلى الخير آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر كان معناه أن فيهم من يقوم بهذه الوظائف، فالأمر قائم بالبعض على أي حال، والخطاب إن كان للبعض فهو ذاك، وإن كان للكل كان أيضاً باعتبار البعض، وبعبارة أخرى المسؤول بها الكل والمثاب بها البعض، ولذلك عقبه بقوله: «وَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ» فالظاهر أن (من)تبعيضية، وهو الظاهر من مثل هذا التركيب في لسان المحاورين ولا يصار إليه إلى غيره إلا بدليل))(1).

أقول: بنى (قدس سره) استظهاره كون (من) تبعيضية على عدة وجوه:-

1- إن طبيعة مثل هذه الوظائف أن تكون كفائية ((فالأمر قائم بالبعض)) حتى لو كان الخطاب للكل.

2- إن ظاهر هذه التراكيب ذلك ولا يصار إلى غيره إلا بدليل.

3- تعقيبه بقوله تعالى: «وَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ».

ص: 86


1- الميزان في تفسير القرآن: 4/427، الأعلمي.

ويرد على الأول: بالتفريق بين مقام الخطاب ومقام الامتثال، وبحثنا في الأول وهل أن الخطاب شامل للجميع أم لا؟ أما تحقق المطلوب بامتثال البعض فهذا من الثاني وليس هو محل البحث، فالمطلوب من الأمة أن تكون كلها متصفة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان الغرض يتحقق بامتثال البعض، وحينئذٍ يكون سقوط الفرض عند أداء البعض لانتفاء موضوعه، ولا يعني هذا عدم ثبوت الوجوب قبل هذا على البعض الآخر فلا يستفاد منه الوجوب الكفائي.

وفرض الوجوب على الجميع مع الاكتفاء بقيام البعض واضح المصلحة في هذه الفريضة المهمة، ليرى كل فرد أنه مسؤول عن امتثالها، بينما لو كان الوجوب موجهاً إلى البعض، فإنه سيكون سبباً للتقاعس عن أدائها باعتبار أن الوجوب غير متعين به فيؤدي إلى تعطيل الفريضة كما يشهد به الواقع والتجارب. وكما ضُيِّعت صلاة الجمعة المباركة بسبب القول بوجوبها التخييري وهكذا.

ويظهر من قوله (قدس سره): ((المسؤول بها الكل)) الاعتراف بذلك، وسنبحث مفصلاً في هذا الموضوع إن شاء الله تعالى.

وأما الثاني فإنها دعوى ولو سلّمناها فإن في المقام قرائن متصلة ومنفصلة –كقوله تعالى: «كُنتُم خَيرَ أمَّةٍ»- على خلاف الظاهر المدعى.

أما الوجه الثالث فتقريبه أنه يرى أن الحصر في قوله تعالى: «وَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ» إضافي، وبناءً على هذه القرينة فقد قرَّب بعض الأعلام (قدس سره) كون (من) تبعيضية بأن قوله تعالى: «هُمُ المُفلِحُونَ» ((معناه أن أولئك كاملو الفلاح لوضوح أن الآتي بالواجب الكفائي أفضل من غيره، فقوله «هُمُ» من قبيل «هُمُ العَدُوُّ» فليس معناه أن غيرهم ليس مفلحاً، بل معناه

ص: 87

أكملية فلاح الآمر الناهي من فلاح غيره، كما أن معنى «هُمُ العَدُوُّ» أشدّيّة عداوة هؤلاء من عداوة غيرهم))(1).

أقول: يرد عليه:-1- اعتبار الحصر إضافياً دعوى على خلاف الظاهر، والقياس ممنوع، فالحصر مطلق، وإن غير الآمر الناهي لا يكون مفلحاً بهذا العنوان، وإن كان على خير بدرجة من الدرجات.

2- لو تنزّلنا فإن هذا التفاضل والإضافة بلحاظ الامتثال، ونحن لا ننكره؛ لأن من المتفق عليه عدم حصول الامتثال من قبل الكل؛ لأن الموضوع ينتفي بامتثال البعض، فلا يبقى للوظيفة موضوع، لكن كلامنا ليس بلحاظ مقام الامتثال، وإنما في مقام التكليف وإلقاء العهدة وما ذكره المستشكل لا يتعرض له.

ويمكن الاستدلال على كون (من) تبعيضية برواية مسعدة بن صدقة(2)

عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وستأتي مناقشتها عند البحث عن نوع الوجوب بإذن الله تعالى.

نعم يمكن قبول التبعيضية في مقام الامتثال لأنه ليس من المتوقع كون المطلوب أن يكون كل فرد فرد داعياً إلى الخير آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر؛ لوجود العصاة والجهلة بالحكم والموضوع والقاصرين والمقصّرين والعاجزين عن الامتثال ونحو ذلك، وهذا لا يضر بما استظهرناه من كون عهدة الوجوب ملقاة على الأمة كلها، لصدق اتصاف الأمة بهذا الوصف إذا تحقق الغرض بالبعض، كما توصف الأمم الغربية

ص: 88


1- الفقه للسيد محمد الشيرازي: 48/157.
2- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب 2، ح1.

بأنها متقدمة تكنولوجياً مع العلم بأن بعض أفرادها كذلك لأن هذا البعض كافٍ في صدق العنوان وليس المطلوب أزيد لوجود من هم في مهن لا ترتبط بهذا العنوان كالأعمال الخدمية.

ويمكن الاستدلال بالآية على رد القول بالوجوب الكفائي من وجهين:-

1- التعبير بالأمة وهي ((كل جماعة يجمعهم أمرٌ ما إما دينٌ واحد أو زمان واحد أو مكان واحد))(1)

فهي جماعة كبيرة، وعلى القول بالوجوب الكفائي فإن الأمر يتأدى بواحدٍ أو قريب منه، لذا يعرّفون هذا الواجب بأنه إذا قام به شخص سقط عن الآخرين، فهذا نقض بالآية عليهم.

ولو تنزلنا وقلنا بالوجوب الكفائي على فئة معينة من المسلمين التي سمّيت بالأمة في الآية فإنه أخصّ من المدعى الذي هو الوجوب الكفائي مطلقاً؛ لأن الظاهر من عمل مثل هذه الجماعة الخاصة القيام بالوظيفة بلحاظ المستوى الاجتماعي لأداء الفريضة أي المعروف والمنكر الذي يتحول إلى ظاهرة اجتماعية؛ لأن مثلهما يحتاج إلى جماعة متخصصة ولها مؤهلاتها وأدواتها، فتُكلَّف أمة أو جماعة بهذه الوظيفة على مستوى المجتمع كشرطة الخميس1- التي أسسها أمير المؤمنين (عليه السلام)، كالأمر الكفائي الصريح بنفر البعض للتفقه في الدين.

أما أداء الفريضة على المستوى الفردي فلا دليل على كونه كفائياً؛ لأنه ولو بأدنى مراتبه ممكن للجميع، فهو واجب عيني على الجميع، وسنتعرض لهذه المباحث لاحقاً بإذن الله تعالى.

ص: 89


1- المفردات للراغب، مادة (أم).

(الآية الثانية) قوله تعالى: «كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ» (آل عمران : 110).

أقول: دلّت الآية على وجوب الوظيفة على الأمة حيث جعلتها أهم صفة تتميز بها، ولإبراز أهميتها فقد قُدّمت على الإيمان بالله تعالى.

و (كان) هنا تامة تفيد الوجود ولزوم الاتصاف فيكون المعنى وجدتم خير أمة، واستعمل الماضي لتأكيد الحصول والوقوع وأنه مستمر إلى المستقبل، كلزوم الأسماء الحسنى للذات المقدسة في مثل قوله تعالى: «وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» (النساء : 158).

ويمكن أن تكون بمعنى أنتم خير أمة أخرجت للناس نظير قوله تعالى: «كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً» (مريم:29) أي من هو في المهد، وليست كان الناقصة التي تقبل انتفاء الصفة وانفكاكها عن الموصوف، ولو اعتبرناها ناقصة فمعناها سبْق ذلك في علم الله تعالى والتعبير عنه بالماضي لتأكيد تحققه.

أما استعمال لفظ (كان) بالماضي فلا يخلو من تكريم لهذه الأمة لأنه أخذ بنظر الاعتبار مقارنتها بكل الأمم السابقة وأن ذلك ثابت وواقع لا محالة كوقوع أحداث الزمن الماضي.

ثم أفادت الآية شرط هذه الخيرية بأنكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، فخيريتها على جميع الأمم مستمرة ما دامت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فالآية ظاهرة في الممارسة الفعلية لهذه الوظيفة والتحرك بها، وليس في شأنية الاتصاف أي أن خيريتها ليست من جهة أنها مأمورة بهذه الوظيفة، وأن من شأنها القيام بها، وأن هذه الوظيفة مشرعة ومجعولة لها.

وهذا وجه أفضليتها على سائر الأمم؛ لأن هذه الوظيفة مجعولة في جميع الديانات السابقة كما تشير إليه جملة من الآيات الكريمة «لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ» (المائدة:63) «كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ» (المائدة:79)

ص: 90

وغيرها، وكذا الأحاديث الشريفة كمخاطبة قوم شعيب وغيرها مما يأتي إن شاء الله تعالى، ولو لم تكن تلك الأمم مأمورة بها لما كان هناك وجه لأفضلية أمة الإسلام عليها، فخيريتهم على سائر الأمم أنهم يواصلون التحرك بهذه الوظيفة الإلهية على مر الأجيال، وإن كان بمستويات متفاوتة من القوة والضعف، وبحسب كثرة العاملين وقلتهم.والوجوب هنا موجه إلى الأمة بما هي أمة على نحو ما قلناه في الآية السابقة، ولا يضر باتصافها بهذا الوصف إذا تحقق الغرض بقيام البعض؛ لنفس البيان هناك. نعم الخيرية على مستوى الأفراد تحصل بأداء هذه الوظيفة، ولو على نحو الشأنية بمعنى أنه إذا كان صادقاً وجاداً في الامتثال، لكن الموضوع انتفى بقيام البعض، فلا يبعد شموله بالخيرية بلطف الله تعالى، وهو معنى موجود في الأحاديث الشريفة بخصوص عدد من الموارد.

والتعبير ب-«أخرجت» فيه إشارة لطيفة لقيام اليد الإلهية بصنع هذه الأمة بهذه الأوصاف وإظهارها وتقديمها للبشرية لتكون خير أمة، والواقع يشهد أن ما تنعم به الأمم المتحضرة اليوم من رقي وازدهار وأخلاق إنسانية هو من بركات هذه الأمة المرحومة ووجودها حتى في الأزمنة التي عاشت اندحاراً، فعلى الأمة أن تلتفت إلى قيمتها هذه لتقوم بمسؤولياتها وتتفهم دورها الريادي والقيادي من الأمم الأخرى.

حل التنافي بين الآيتين:

وفي ضوء ما استظهرناه من كون (من) بيانية يتضح التطابق بين هذه الآية وسابقتها، إلا أن الأكثر لما بنوا على كون (من) تبعيضية في الآية السابقة فقد أوردوا إشكالية عدم التوافق بينهما، ونحن لا نرى الإشكال وارداً حتى على هذا الاحتمال؛ لأن آية «وَلْتَكُنْ» ليس لها مفهوم ينفي خطاب آية «كنتم»، ولا مانع من كون التكليف موجهاً للأمة جميعاً، وتفهمه جماعة معيّنة

ص: 91

على أنها مخاطبة أكثر من غيرها لخصوصية فيها كالحوزة العلمية أو الوجهاء المتنفذين أو السلطات التنفيذية ونحوها، فيكون خطاب «ولتكن» تذكيراً وتأكيداً للوجوب العام وإشعاراً لهذه الجماعة بالوجوب الخاص عليها.

هذا على الفرض المشهوري من وجود إشكال في اجتماع وجوبين على موضوع واحد، وإلا فإننا لا نرى مانعاً من توجه خطاب بالوجوب لعموم الأمة، وخطاب لجماعة خاصة بالوجوب؛ لتذكيرها بالمسؤولية الخاصة، وموارده في الفقه كثيرة.

وعلى تقدير التنافي بين آية «ولتكن منكم» وآية «كنتم»، فقد بُذلت عدة محاولات لرفع هذا الإشكال، وما قيل أو يمكن أن يقال منها:-

1- إن الآية «كنتم» بلحاظ توجه التكليف إلى مجموع الأمة، أما آية «ولتكن» فهي بلحاظ الامتثال لما قلناه من أن من غير المتوقع تمكن الكل من الامتثال للأسباب التي ذكرناها فتقوم به الأمة القادرة من دون أن يؤثر على توجه الخطاب بالوجوب إلى الجميع، وهكذا كل الواجبات كالصوم والحج والزكاة فإن الخطاب بها موجه إلى الجميع، لكن القادر على الامتثال جماعة من المسلمين فيصحّ توجيه التنفيذ وامتثال الواجب إلى الجماعة المعينة خاصة(1)، كأن يأمر خصوص المستطيعين للحج بتهيئة جواز السفر ولوازم الرحلة ونحو ذلك.

2- إن آية «ولتكن» ليست بصدد بيان أصل التشريع حتى تتنافى مع آية «كنتم» بل هي تشير إلى تأكد هذه الوظيفة على فئة خاصة تكون مسؤوليتها عن أداء هذه الوظيفة ألزم من غيرها؛ لاجتماع الشروط فيها ولتوفر أدوات التأثير لديها كالمرجعية الدينية والحوزة العلمية أو جماعة

ص: 92


1- هذا الوجه والذي يليه لخّصناه من كتاب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للشيخ حسين النوري الهمداني: 15-18).

معينة تُخصَّص لأداء هذه الفريضة كشرطة الخميس، ولا مفهوم لها حتى تنافي الأخرى نظير قوله تعالى: «لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ» (المائدة : 63)، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه فمن لم يفعل فعليه لعنة الله)(1)

ومن المعلوم أن إظهار العلم يكون غالباً بصورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

3- ما قدمناه في البحث من أن آية «ولتكن» ناظرة إلى المعروف والمنكر الاجتماعيين لأنه لا يتيسر لأي أحد ممارسة الأمر والنهي فيهما، أما آية «كنتم» فهي بلحاظ الأعم من ذلك الشامل للفرديين وممارسته واجب عيني على الجميع(2).

4- ما حكي عن المراغي ومحمد عبده وغيرهما من ((أن الآية الأولى –أي آية «ولتكن»- خطاب موجّه للمؤمنين كافة، بأن ينتخبوا منهم أمة تقوم بهذه الفريضة، وذلك بأن يكون لكل فرد منهم إرادة وعمل في إيجادها ومراقبتها ونقدها وتصويب حركتها، وبهذه الطريقة تساهم الأمة كلها في الأمر والنهي، ومعه يتم التوفيق بين هذه الآية وسائر آيات الأمر والنهي الظاهرة في نسبتها لمجموع الأمة))(3).

وفيه:-

ص: 93


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب 40، ح1.
2- ذكر هذا الوجه أيضاً في الأمثل: 2/384.
3- فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 48، عن تفسير المراغي: 2/22، وتفسير المنار: 4/36، ودراسات في ولاية الفقيه للشيخ المنتظري (قدس سره): 2/227.

أ- إنه ينطلق من ظرف خاص وناظر إلى آلية محددة لأداء الفريضة من خلال سلطة سياسية ونحوها فهو يعالج جزءاً من المشكلة.

ب- لازمه سقوط الوظيفة عن عموم الأمة بعد انتخاب هذه الجماعة وهو معنى غريب عن الخطاب الشرعي والفهم المتشرعي، إذ المسؤولية مستمرة لذا يأثم الجميع إذا لم يتحقق الامتثال.

5- ما نقل عن الثعالبي وحاصله ((أن الآية الأولى هنا ناظرة إلى وظيفة الأمر والنهي العالمية، أي قيام المسلمين بالوظيفة في حق عموم غير المسلمين، فيما سائر الآيات ناظرة إلى قيام المسلمين بالوظيفة –عامتهم وجماعة منهم- داخل المجتمع الإسلامي))(1).

أقول: يمكن أن نستشهد له بتقريبين:-

أ- تضمن الآية الأولى للدعوة إلى الخير وهو الإسلام وهي ثمرة الجهاد الذي يكون خارج المجتمع الإسلامي لدعوة الأمم الأخرى إلى الإسلام، وقد ورد معها ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتكون الفئة المستهدفة بالخطاب هي نفسها لوحدة السياق مثلاً ونحوه.

ب- ما تقدم في الوجه الثالث من أن آية «ولتكن» ناظرة إلى المستوى الاجتماعي للفريضة، وما يوجد عند الأمم غير المسلمة، وهو أوضح مصاديق هذا المستوى، فتكون الآية ناظرة إليه.

6- إن آية «كنتم» تمثل الحكم الطبيعي الأصلي الموجَّه للأمة، ولما علم الله تعالى أن الأمة لا تمتثل كلها للأمر، تنزّل الخطاب ليلزم جماعة على الأقل بذلك فهو حكم ثانوي تنزلي على فرض عدم تحقق الامتثال العام

ص: 94


1- فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 54، عن تفسير الثعالبي: 2/88، وقد وصف الناقل هذا الوجه بأنه لا دليل عليه.

على نحو الترتب، أو التخفيف كقوله تعالى: «الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً» (الأنفال:66) فقُلِّلت النسبة من واحد إلى عشرة إلى واحد إلى اثنين.

7- إن آية «كنتم» هو المطلوب النهائي الذي يراد أن تصل إليه الأمة بأن تكون كلها آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، والوسيلة لتحقيقه هي آية «ولتكن» بأن تؤدي كل جماعة ما عليها فإذا امتثلت هذه الجماعة وتلك الجماعة فإن الأمة كلها ستكون ممتثلة في النهاية، نظير ما أجبنا به على إشكال التنافي بين آية «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (التغابن:16) وآية «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ» (آل عمران:102).

8- إن آية «ولتكن» هي لاستثارة الهمة والتحفيز على السبق لامتثال هذه الفريضة، والخطاب موجه للجميع فلا تنافي الآية الأخرى، نظير قوله تعالى1- على لسان عيسى بن مريم (عليه السلام): «مَنْ أَنصَارِي إلى اللَّهِ» (الصف:14) فالخطاب موجه إلى الجميع، وكما يقول قائد الجيش: من يبايعني على الموت ويتقدم معي، وهكذا.

9- أن تكون آية «وَلْتَكُنْ» كناية عن تحقق الغرض بفعل البعض وهم الأمة والجماعة فتكون إشارة لكون الوجوب كفائياً، بمعنى كفاية قيام البعض بالامتثال وسقوطه بذلك عن الآخرين، قال المحقق الأردبيلي (قدس سره): ((إلا أن في الإيجاب على البعض إشعاراً بأن المقصود يحصل بفعل البعض، وأن العلم بأن الغير سيفعل الواجب الكفائي قبل فوت وقته كافٍ)) وأضاف (قدس سره) بما لا يخلو من النظر، قال (قدس سره): ((بل الظن المذكور أيضاً فيجوز التأخير))(1).

ص: 95


1- مجمع الفائدة والبرهان: 7/534.

(الآية الثالثة) قوله تعالى: «وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ» (الأعراف : 164-165).

أقول: تقريب الاستدلال ينطلق من الروايات الشريفة، ففي الخصال بسنده عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير الآية قال (عليه السلام): (كانوا ثلاثة أصناف: صنف ائتمروا وأمروا فنجوا، وصنف ائتمروا ولم يأمروا فمُسخوا ذرّاً، وصنف لم يأتمروا ولم يأمروا فهلكوا)(1).

أقول: والتقريب واضح لأن الآية صرّحت بنجاة الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر فقط ووصفت الصنفين الآخرين بالظالمين واستحقاقهم العقاب، ولو لم تكن هذه الوظيفة واجبة لما استحق الصنف الثاني القاعد عن أداء الفريضة الذين ائتمروا ولم يأمروا العذاب.

ويظهر من الآية أن هذا الصنف التارك لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هم الذين قالوا: «لم تعظون قوماً» لأنهم غير الواعظ وغير المنهي، ويظهر أنهم محسوبون على المتدينين الملتزمين بالشريعة وربما يظهر من كلامهم أنهم كارهون لفعل المنكر، مبررين سكوتهم بأنه لم يكن عن معصية لوجوب هذه الفريضة وإنما ليأسهم من صلاح العصاة، وإن كان سكوتهم عن ردع المعتدين لا ينمّ عن وجود غضب لله تبارك وتعالى.

قال السيد الطباطبائي (قدس سره): ((وفي الآية دلالة على أن الناجين كانوا هم الناهين عن السوء فقط، وقد أخذ الله الباقين، وهم الذين يعدون في السبت والذينقالوا: «لم تعظون» إلخ وفيه دلالة على أن اللائمين كانوا مشاركين للعادين في ظلمهم وفسقهم حيث تركوا عظتهم ولم يهجروهم.

ص: 96


1- الخصال: 100، ح54.

وفي الآية دلالة على سنة إلهية عامة، وهي أن عدم ردع الظالمين عن ظلمهم بمنع، وعظة إن لم يمكن المنع أو هجره إن لم تمكن العظة أو بطل تأثيرها، مشاركة معهم في ظلمهم، وأن الأخذ الإلهي الشديد كما يرصد الظالمين كذلك يرصد مشاركيهم في ظلمهم))(1).

أقول: ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى في سورة العصر: «إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ» فلا يكفي لخروج الإنسان من حالة الخسر أن يكون صالحاً في نفسه بالإيمان والعمل الصالح، بل لا بد أن يكون إنساناً مصلحاً للمجتمع وفاعلاً في عملية التغيير بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر.

((وفي قولهم «إلى ربكم» حيث أضافوا الرب إلى اللائمين ولم يقولوا إلى ربّنا إشارة إلى أن التكليف بالعظة ليس مختصاً بنا بل أنتم أيضاً مثلنا يجب عليكم أن تعظوهم لأن ربكم لمكان ربوبيته يجب أن يُعتذر إليه، ويبذل الجهد في فراغ الذمة من تكاليفه والوظائف التي أحالها إلى عباده، وأنتم مربوبون له كما نحن مربوبون فعليكم من التكاليف ما هو علينا))(2).

أقول: هذه التفاتة لطيفة، وهي لا تناسب وصفه للأمة اللائمة بأنهم ((كانوا أهل تقوى يجتنبون مخالفة الأمر إلا أنهم تركوا نهيهم عن المنكر فخالطوهم وعاشروهم ولو كان هؤلاء اللائمون من المتعدين الفاسقين لوعظهم أولئك الملومون، ولم يجتنبوهم بمثل قولهم «معذرة»)).

أقول: يكفي قولهم: «ربكم» لوعظهم وتذكيرهم بحقوق الربوبية عليهم.

وهنا يثار إشكال على قوله تعالى: «نَسُوا» له تقريبان:-

1- إن هؤلاء لم يكونوا ناسين بل كانوا ذاكرين وملتفتين إلى مغبة العمل.

ص: 97


1- الميزان في تفسير القرآن: 8/301.
2- النص وما بعده في الميزان في تفسير القرآن: 8/300-301.

2- إذا كانوا ناسين فإن الناسي معذور ويقبح عقابه، فلماذا أخذوا بعذاب بئيس.

ونكتفي في الجواب بما قاله السيد الطباطبائي (قدس سره): ((وقوله تعالى: «فلما نسوا ما ذكّروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء» المراد بنسيانهم ما ذكروا انقطاع تأثير الذكر في نفوسهم وإن كانوا ذاكرين لنفس التذكر حقيقة فإنما الأخذ الإلهي مسبب عن الاستهانة بأمره والإعراض عن ذكره، بل حقيقة النسيان بحسب الطبع مانع عن فعلية التكليف وحلول العقوبة.

فالإنسان يطوف عليه طائف من توفيق الله يذكره بتكاليف هامة إلهية ثم إن استقام وثبت، وإن ترك الاستقامة ولم يزجره زاجر باطني ولا ردعه رادع نفساني عدا حدود الله بالمعصية غير أنه في بادئ أمره يتألم تألماً باطنياً ويتحرج تحرجا قلبياً منذلك ثم إذا عاد إليها ثانياً من غير توبة زادت صورة المعصية في نفسه تمكناً، وضعف أثر التذكير وهان أمره، وكلما عاد إليها وتكررت منه المخالفة زادت تلك قوة وهذه ضعفاً حتى يزول أثر التذكير من أصله، ساوى وجوده عدمه فلحق بالنسيان في عدم التأثير، وهو المراد بقوله: «فلما نسوا ما ذكروا» أي زال أثره كأنه منسي زائل، الصورة عن النفس)).

أقول: تقدمت الإشارة إلى هذا المعنى في مقدمة الكتاب حينما طبقنا تدرّج ترك هذه الفريضة الذي ورد في الحديث النبوي الشريف (كيف بكم) على صعيد داخل النفس.

في تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) عن الإمام السجاد (عليه السلام) من حديث (وذلك أن طائفة منهم وعظوهم وزجروهم، ومن الله خوفوهم، ومن انتقامه وشديد بأسه حذّروهم، فأجابوهم عن وعظهم: «لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ» بذنوبهم هلاك الاصطلام «أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً» فأجابوا القائلين لهم هذا: «مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ» إذ كُلِّفنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فنحن ننهى عن المنكر ليعلم ربُّنا مخالفتنا لهم وكراهتنا

ص: 98

لفعلهم، قالوا: «وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» ونعظهم أيضاً لعلهم تنجع فيهم المواعظ، فيتقوا هذه الموبقة، ويحذروا عقوبتها)(1).

وروى في الدر المنثور بسنده عن عكرمة قال: ((جئت ابن عباس يوماً وهو يبكي، وإذا المصحف في حجره، فقلتُ: ما يبكيك يا ابن عباس؟ قال: هؤلاء الورقات، وإذا في سورة الأعراف)) ثم ذكر هذه الآيات وفسّرها إلى أن قال: ((فأرى الذين نهوا قد نجوا ولا أرى الآخرين ذكروا، ونحن نرى أشياء ننكرها ولا نقول فيها))(2).

والآية تنفع في البحث عن الشرط الذي ذكروه للوجوب وهو التأثير في المقابل، كما أن في الآية رداً على القول بالوجوب الكفائي؛ لأن النهي قد تحقق بموعظة البعض فلماذا أُخذ البعض الآخر –وهم الساكتون- بعذاب بئيس؟ فالوجوب إذن لا يسقط بقيام البعض حتى ينتفي الموضوع.

(الآية الرابعة) قوله تعالى: «لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ» (المائدة : 63).

في الآية الكريمة توبيخ وتقريع للربانيين والأحبار لتركهم فريضة النهي عن المنكر، وكذا لتركهم الأمر بالمعروف المستفاد بالاقتران الذي تقدّم ذكره في البحوث التمهيدية، وتصف تخليهم عن وظيفتهم ببئس الصنيع.

والربانيون نسبة إلى الرب سبحانه وتعالى، ويمكن أن يراد بهم ما نسميهم في عرفنا (المتدينين) وهم الذين يغلب عليهم الالتزام بالشريعة فنسبوا إلى صاحب الشريعة سواء كانوا من العلماء أو غيرهم، أو يراد بهم واجهة المؤسسة الدينيةوالقائمون بالوظائف الدينية كأئمة المساجد وخطباء المنابر

ص: 99


1- تفسير البرهان للسيد هاشم البحراني: 4/129.
2- الدر المنثور: 3/589.

والجمعة وسدنة العتبات المقدسة، أما الأحبار فهم العلماء وحملة العلم سواء كانوا صالحين أو فاسقين.

وذكر قول الإثم وأكل السحت من دون المنكرات لا يخصص الآية بها لعدم الخصوصية ولدلالة آيات أخرى على العموم كقوله تعالى: «كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ» (المائدة:79)، وإنما ذكر قول الإثم وأكل السحت خاصة لأنهما المذكورات في الآية السابقة «وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ» (المائدة:62)، ولأنهما أصل المعاصي المتفشية في المجتمع. فقول الإثم يتضمن الغيبة والنميمة والكذب والافتراء والبهتان وإيذاء الآخرين والتضليل وترويج الشبهات وتحريف الكلم عن مواضعه والتغرير بالآخرين والتدليس عليهم وغيرها كثير.

أما أكل السحت فيشمل موبقات كثيرة كالفوائد الربوية والرشوة في القضاء وسرقة أموال الشعب وأخذ الأثمان على إلقاء الأحكام بغير ما أنزل الله تعالى، وشرعنة عمل الظالمين، والتطفيف في الميزان وبيع المحرمات وأكل المال بالباطل والظلم ونحوها كثير.

فالآية تدعو إلى العمل بهذه الفريضة وتذم تاركها بأشد الذم، وهي عامة في دلالتها لكل المنتسبين إلى الشريعة، ولو قلنا بأن خطابها خاص لشريحة العلماء والمتدينين، فإن ذلك لا ينافي عموم الوجوب، وإنما خصَّت هؤلاء لأن الوجوب عليهم أأكد والامتثال متوقع منهم أكثر من غيرهم لمعرفتهم بعظمة هذه الفريضة وشدة وجوبها وسوء عاقبة تركها، كما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام): (لنحملن ذنوب سفهائكم على علمائكم)(1).

ص: 100


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب 7، ح3.

ولا يرد هنا إشكال اجتماع وجوبين على موضوع واحد باعتبار الوجوب العام للفريضة الشامل للأحبار والربانيين، وهذا الوجوب الخاص المستفاد من الآية، لأن هذا الخطاب فيه مزيد تأكيد على هؤلاء الخاصة وتذكير بمسؤوليتهم المضاعفة عن الفريضة، مضافاً إلى نقاشنا في أصل الكبرى فإننا لا نمنع منها كما تقدم (صفحة 92).

قال العلامة الطبرسي: ((فذمَّ هؤلاء –أي الربانيين والأحبار- بمثل اللفظة التي ذمَّ بها أولئك(1)، وفي هذه الآية دلالة على أن تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه وفيه وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر))(2).قال في ظلال القرآن: ((إن سمة المجتمع الخيّر الفاضل الحي القوي المتماسك أن يسود فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. أن يوجد فيه من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ وأن يوجد فيه من يستمع إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وأن يكون عرف المجتمع من القوة بحيث لا يجرؤ المنحرفون فيه على التنكر لهذا الأمر والنهي، ولا على إيذاء الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر.

هكذا وصف الله الأمة فقال: «كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ» ووصف بني إسرائيل فقال: «كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ».. فكان ذلك فيصلاً بين المجتمعين وبين الجماعتين.

أما هنا فينحى باللائمة على الربانيين والأحبار، الساكتين على المسارعة في الإثم والعدوان وأكل السحت؛ الذين لا يقومون بحق ما استحفظوا عليه من كتاب الله))(3).

ص: 101


1- يقصد قوله تعالى: «لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ» في هذه الآية وقوله تعالى: «لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ» في الآية السابقة.
2- مجمع البيان: مج 2: 336.
3- في ظلال القرآن: مج 2/790.

أقول: ينبغي الالتفات إلى أن مطلوبية هذه الوظيفة من الربانيين وعلماء الدين لا تعني أن يتركوا كل أعمالهم ويتفرغوا لأمر هذا ونهي ذاك ويترصدوا كل منكر لينهوا عنه ويراقبون أفعال الناس ويتجسسون عليهم ليأمروهم وينهوهم، فهذه سيرة غير عقلائية ولا متشرعية، وإنما عليهم أن يكونوا متصفين بهذه الصفة ويكون ديدنهم ذلك ويمتلكون حاسة الغضب لله تعالى إذا عُصي، ولا يترددون في الامتثال عند تنجّز التكليف.

((ثم إن قوله سبحانه: «يَفعَلُونَ» إما مجاز؛ لأن الترك ليس فعلاً –على قول المشهور-، وإما حقيقة، ويراد بالفعل الذي أوجب تركهم الأمر والنهي، وذلك عبارة عن تكالبهم على الدنيا وأخذهم الرشوة على سكوتهم والأول أقرب سياقاً والثاني أقرب والله العالم))(1).

أقول: ليس في التعبير مجاز، وإنما هو على نحو الحقيقة؛ لأن الترك يصدق عليه فعل إذا اقترن بالقصد، كالصوم الذي هو كفٌّ عن المفطرات مقترناً بنية القربة إلى الله تعالى. مضافاً إلى أن التقريب الذي ذكره للاستعمال على نحو الحقيقة مقبول، ومراد من الشارع المقدس، وهو الالتفات إلى علل الأفعال قبل نفس الأعمال والعلاج لا بد أن يتناول العلل، وقد نبّهنا على ذلك في خطابات متعددة.

(الآية الخامسة) ونظير هذه الآية قوله تعالى: «كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ» (المائدة : 79).

وهذه صريحة في ذم كل التاركين لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا اختصت الآية السابقة بالربانيين والأحبار.في الدر المنثور بعدة أسانيد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (إن بني إسرائيل لما عملوا الخطيئة نهاهم علماؤهم تعزيراً، ثم جالسوهم

ص: 102


1- الفقه: 48/164.

وآكلوهم وشاربوهم كأن لم يعملوا بالأمس خطيئة، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان نبي من الأنبياء، ثم قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهن عن المنكر، ولتأطرنهم على الحق أطراً، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، وليلعننكم كما لعنهم)(1).

وإلى هنا نكتفي بتقريب الاستدلال بهذه الآيات الكريمة.

إشكال التنافي مع آية «عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ »:

ويحسن الآن التعرض إلى ما قيل من الإشكال بوجود التنافي ظاهراً بين هذه الآيات التي توجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إلى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ» (المائدة :105).

وتقريب الإشكال أن آية «عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ » تضع عن المؤمنين وظيفة الدعوة إلى الله تبارك وتعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتكتفي منهم بالالتفات إلى إصلاح أنفسهم، ويكون معنى «لا يَضُرُّكُم» أي لا تبعة عليكم ولا مسؤولية شرعية؛ لسقوط التكليف عنكم.

ويظهر أن البعض اتخذ من هذه الآية ذريعة لترك هذه الفريضة منذ صدر الإسلام، ففي الدر المنثور بأسناد عديدة ((صعد أبو بكر منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنكم لتتلون آية من كتاب الله وتعدّونها رخصة، والله ما أنزل الله في كتابه أشدّ منها «يَا أَيُّهَا

ص: 103


1- الدر المنثور: مج 3/124.

الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ» والله لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنَّ عن المنكر أو ليعمنّكم الله منه بعقاب))(1).

أقول: آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تأبى أن تكون هذه الآية حاكمة عليها على نحو النسخ والإلغاء كما يصوّر الإشكال، خصوصاً بعد جعل هذه الوظيفة سمة الأمة الإسلامية التي تتميز بها عن كل الأمم في قوله تعالى: «كنتم خير أمة»، وعليه فلا يحتمل سقوط فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بآية «عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ»، مضافاً إلى أن فهم آية «عليكم أنفسكم» على أنه ترك وظيفتي الدعوة والأمر والنهي قابل للمناقشة فيزول الإشكال من أصله.

وهذا ما سيتضح من خلال الوجوه التي نذكرها لمعالجة الإشكال، ومنها:-

1- إن آية «عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ» تأتي بعد امتثال فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالمعنى الذي تقدم (صفحة 81) في تفسير قوله تعالى: «قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ» (التحريم:6) وفي هذا المعنى رواية أوردها في الدر المنثور بطرق عديدة عن أبي أمية الشعباني قال: ((أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أية آية؟ قال: قوله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ» قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألتُ عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحّاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر، الصابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين

ص: 104


1- الدر المنثور: مج 3/215.

رجلاً، يعملون مثل عملكم) ))(1).

وأخرج عن حذيفة وغيره في هذه الآية قال: ((إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر)).

2- معنى «عليكم أنفسكم» أي أنتم مسؤولون عن صلاح أنفسكم والتزامها بأوامر الله تعالى ونواهيه ومنها فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير، وحينئذٍ لا تتحملون مسؤولية من ضل ممن هم مرتبطون بكم كآبائكم وأزواجكم ونحوهم، فتكون بمعنى قوله تعالى: «وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى» (الإسراء:15) وقوله تعالى: «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ» (البقرة: 134)، خصوصاً وأن المخاطبين يومئذٍ كان آباؤهم وبعض أقربائهم على الشرك، ويؤيد هذا المعنى ورود لفظ «إذا اهتديتم» هنا وفي الآية السابقة عليها «أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ» (البقرة : 170).

ويمكن أن يستفاد هذا المعنى مما رواه في الدر المنثور بسنده عن ابن عباس في تفسير الآية قال: ((إذا ما أطاعني العبد فيما أمرته من الحلال والحرام، فلا يضرُّه من ضلَّ بعده إذا عمل بما أمرته به))(2)

وعنه أيضاً قال إن مراد الآية: ((أطيعوا أمري واحفظوا وصيتي)) واختاره العلامة الطبرسي في المجمع(3).

3- إن آية «عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ» خاصة بدعوة الكفار إلى الإسلام فترخّص في تركها وترك الجهاد، وربما يستدل له باستعمال لفظ الهداية والضلال في

ص: 105


1- الدر المنثور، مج3، 215، وأوردها مختصرةً في تفسير البرهان: 3/298 عن مصباح الشريعة: 18.
2- الدر المنثور، مج 3، 219.
3- مجمع البيان: مج2: 392.

الآية مما يناسب كون الخطاب بلحاظ دعوة الكفار، روى في الدر المنثور بسنده عن أبي عامر الأشعري ((إنه كان فيهم شيء فاحتبس على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم أتاه فقال: ما حبسك؟ قال: يا رسول الله قرأت هذه الآية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ» قال: فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أين ذهبتم؟ إنما هي: لا يضركم من ضلّ من الكفار إذا اهتديتم)(1).

أقول: هذا المعنى لا يمكن قبوله في فريضة الجهاد والدعوة إلى الله تبارك وتعالى كما لم يُقبّل في فريضة الأمر والنهي؛ لأن الدعوة إلى الخير من مقومات هوية هذه الأمة وعناصرها الأساسية كما تقدم في تقريب قوله تعالى: «ولتكن منكم».

4- أن الآية خاصة بظرف التقية وحصول الضرر من ممارسة الفريضة فتكون دليلاً على اشتراط عدم الضرر من الامتثال.

في الدر المنثور بطرقه عن ابن مسعود في قوله تعالى: «عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ» قال: ((مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر ما لم يكن من دون ذلك السوط والسيف، فإذا كان ذلك كذلك فعليكم أنفسكم)(2)

وروى مثله عن ابن عباس.

أقول: لا يدل ظاهر الآية ولا سياقها على الاختصاص بظرف التقية.

5- أن يقال: إن هذه الآية تدل على الرخصة، فتُحمل آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الظاهرة في الوجوب على الاستحباب كما هو مقتضى الصناعة.

وهو وجه يجري على القواعد المعمول بها لو كنّا نحن والآيات

ص: 106


1- الدر المنثور: مج3، 215.
2- الدر المنثور، مج3، 216، 219.

الشريفة، وعلى فرض ظهور الآية في هذه الرخصة، وروى في الدر المنثور عن الحسن أنه تلا هذه الآية فقال: ((يا لها من سعة ما أوسعها، ويا لها من ثقة ما أوثقها))(1).

أقول: بغضّ النظر عن صحة الوجه فنّياً، إلا أن فهم الرخصة بعيد لبعد الأثر المترتب عليها وهو قوله تعالى: «لا يضرّكم» إذ من المعلوم تضرر المجتمع بوجود الفساد والانحراف فيه، وأن عدم الردع عن المنكر يؤدي إلى انتشاره وفتكه في كيان المجتمع حتى يقضي عليه، قال تعالى: «وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً» (الأنفال : 25).

مضافاً إلى أن نتيجة هذا الوجه مما لا يمكن قبولها لإجماع المسلمين على وجوب الفريضة في الجملة.

6- إن آية «عليكم أنفسكم» تدعو المؤمنين إلى الثبات على الحق والاستقامة، وأن يلزموا ما هم عليه، ولا يتأثروا بما عليه أهل الضلال من النعم المادية والترف فيدعوهم ذلك إلى ترك ما هم عليه، فتقول لهم الآية: إن ما عندهم هو الخير فالزموه –الذي هو معنى عليكم- ولا يغرنكم ما فاتكم مما عند أهل الضلال فتضلوا مثلهم، فتضروا أنفسكم بالتأثر بهم، ولا تخافوا من أن يكون لزوم طريقتكم المثلى سبباً لفوات النعم عليكم ونحوها.

فيكون هذا المعنى قريباً من قوله تعالى: «وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى» (طه : 131)، وقوله تعالى: «لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ» (آل عمران : 196-197)، وقوله تعالى: «وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا»

ص: 107


1- الدر المنثور، مج3، 218.

(القصص:57)، وهو ما يريد الله تعالى حماية عباده منه في قوله تعالى: «وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ، وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ، وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ» (الزخرف : 33).

7- ما يقرب من قول أمير المؤمنين (عليه السلام): (لا أصلحكم بفساد نفسي) ويكون معنى الآية: التفتوا أولاً إلى إصلاح أنفسكم ولا تنشغلوا بالعمل على إصلاح المجتمع وتضيّعوا أنفسكم، فإذا لزم الانهماك بالعمل الاجتماعي تضييع أنفسكم فتركه أولى والالتفات إلى تهذيب النفس وتكميلها.

وهذه مشكلة كبيرة أفرزها واقع العمل الإسلامي الاجتماعي والحركي، والمتصدين له على أوسع مستوياته لكنهم عندما يتعرضون لامتحانات التقوى والاستقامة ينهارون، وقد شخّصت هذه المشكلة في جملة من خطاباتي.

وتدل عليه فيما نحن رواية علي بن إبراهيم في تفسيره الآية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (أصلحوا أنفسكم فلا تتبعوا عورات الناس ولا تذكرونهم، فإنه لا يضركم ضلالتهم إذا كنتم أنتم صالحين)(1).

وقد نبّه القرآن الكريم إلى هذه النكتة في آيات عديدة كقوله تعالى:«فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَ-لَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً، وَإِنَّا لَجَاعِلُ-ونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً» «الكهف : 6-7)، وقوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى

ص: 108


1- البرهان في تفسير القرآن: 3/298 عن تفسير القمي: 1/188.

بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاءُ اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً» (الرعد:31).

أقول: والخلاصة أن على المؤمن أن يراقب الله تعالى في حركته ولا يشغله شيء عن إصلاح نفسه ويوظف كل عمل لهذا الغرض، ومن تلك الأعمال الدعوة إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يكلف نفسه أكثر من ذلك، فإن النتائج بيد الله تعالى وهو مدبّر الأمور ومسبب الأسباب.

وهذا الوجه اختاره السيد الطباطبائي في الميزان (قدس سره): ((إن الآية لا تنافي آيات الدعوة وآيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن الآية إنما تنهى المؤمنين عن الاشتغال بضلال الناس عن اهتداء أنفسهم وإهلاك أنفسهم في سبيل إنقاذ غيرهم وإنجائه.

على أن الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من شؤون اشتغال المؤمن بنفسه وسلوكه سبيل ربه، وكيف يمكن أن تنافي الآية آيات الدعوة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أو تنسخها ؟ وقد عدهما الله سبحانه من مشخصات هذا الدين وأسسه التي بنى عليها كما قال تعالى: «قُلْ هَ-ذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي» (يوسف: 108) وقال تعالى: «كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ» (آل عمران: 110).

فعلى المؤمن أن يدعو إلى الله على بصيرة وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر على سبيل أداء الفريضة الإلهية وليس عليه أن يجيش ويهلك نفسه حزنا أو يبالغ في الجد في تأثير ذلك في نفوس أهل الضلال فذلك موضوع عنه))(1).

ص: 109


1- الميزان في تفسير القرآن: 6/163.

8- ما يشبه الوجه الخامس بتطبيقه على المجتمع وذلك بأن نفهم من «أنفسكم» العموم المجموعي لا الاستغراقي؛ لأن المؤمنين كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، فيكون المعنى: عليكم أن تلتفتوا إلى صلاح وإصلاح مجتمعكم من خلال إصلاح أنفسكم، وحينئذٍ يكون قوله تعالى: «لا يضرّكم» إما من باب التطمين من قبل الله تعالى بأنهم لا يضرّهم الضالون، بمعنى أن ضلالهم لا يسري ولا يصل إليكم ما دمتم عاملين على إصلاح بعضكم بعضاً، فتكون من آيات الحث على فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو تكون بمعنى أنهم ليس عليهم تضييع وظيفتهم أمام1- مجتمعهم من أجل أن يلتفتوا إلى إصلاح حال الآخرين.

وهذا المعنى أورده في مجمع البيان وقال: ((إن هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الله تعالى خاطب بها المؤمنين فقال: «عليكم أنفسكم» يعني عليكم أهل دينكم –كما قال: «ولا تقتلوا أنفسكم»- لا يضركم من ضل من الكفار، وهذا قول ابن عباس في رواية عطا عنه، قال: يريد يعظ بعضكم بعضاً وينهى بعضكم بعضاً ويعلّم بعضكم بعضاً ما يقرّبه إلى الله ويبعده عن الشيطان ولا يضركم من ضل من المشركين والمنافقين وأهل الكتاب))(1).

وأيضاً احتمله السيد الطباطبائي، قال (قدس سره): ((وتسع الآية أن تحمل على الخطاب الاجتماعي بأن يكون المخاطب بقوله: «يا أيها الذين آمنوا» مجتمع المؤمنين فيكون المراد بقوله: «عليكم أنفسكم» هو إصلاح المؤمنين مجتمعهم الإسلامي باتخاذ صفة الاهتداء بالهداية الإلهية بأن يحتفظوا على معارفهم الدينية والأعمال الصالحة والشعائر الإسلامية العامة كما قال تعالى: «واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا» (آل

ص: 110


1- مجمع البيان: مج2/392.

عمران: 103) وقد تقدم في تفسيره أن المراد بهذا الاعتصام الاجتماعي الأخذ بالكتاب والسنة.

ويكون قوله: «لا يضركم من ضل إذا اهتديتم» يراد به أنهم في أمن من أضرار المجتمعات الضالة غير الإسلامية فليس من الواجب على المسلمين أن يبالغوا الجد في انتشار الإسلام بين الطوائف غير المسلمة أزيد من الدعوة المتعارفة كما تقدم.

وهنا معنى آخر لقوله: «لا يضرّكم من ضل إذا اهتديتم» من جهة أن المنفى في الآية هو الإضرار المنسوب إلى نفس الضالين دون شيء معين من صفاتهم أو أعمالهم فتفيد الإطلاق، ويكون المعنى نفى أن يكون الكفار ضارين للمجتمع الإسلامي بتبديله مجتمعاً غير إسلامي بقوة قهرية فتكون الآية مسوقة سوق قوله تعالى: «اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون» (المائدة: 3)، وقوله: «لن يضرّوكم إلا أذىً وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار» (آل عمران:111).))(1).

9- ما ذكرناه في بعض كتبنا(2) من أن التكاليف على قسمين: الفردية والاجتماعية، ونعني بالأولى تلك التي توجَّه إلى الفرد بما هو فرد من دون ارتباطها بتكليف الآخرين، كالصلوات اليومية التي يجب على الفرد القيام بها سواء امتثل الآخرون أم لا، أما الثانية فهي التي يُخاطب بها الفرد بما هو جزء من المجتمع، وهذا الفرق ناشئ من كون امتثال الأولى يؤتي ثماره سواء أدى الآخرون أم لا بعكس الثانية.

فآية «عليكم أنفسكم» بلحاظ الأولى أما وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي من الثانية، فموضوعهما مختلف.

ص: 111


1- الميزان في تفسير القرآن: 6/167-168.
2- خطاب المرحلة: 1/291-292.

(الرابع – الروايات الشريفة)

اشارة

وهي كثيرة جداً نتناولها في مواردها بحسب مقتضيات البحث، ونذكر هنا(1)

جملة منها مما يرتبط بوجوبها، وقد دلّت الروايات على الوجوب بألسنة متعددة، كاستعمال ألفاظه نحو (واجبان)، (فريضة)، وبهيئته (أأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر)، وبلسان العقوبة الغليظة لتاركها، ووصف صنيعه بالبؤس، ونحو ذلك من التعابير.

وسنحاول جعل الروايات ضمن محاور لبيان مضامينها:

(الأول) وجوب الفريضة وعظمتها وشرفها وآثارها المباركة على النفس والمجتمع:-

1- عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (غاية الدين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود). أقول: لأن غاية الدين الإصلاح، ووسيلة تحقيقه ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذه الوظيفة تؤدي إليه، فمن لم يستجب وارتكب المخالفة فيعاقب ليعود إلى المطلوب، فالوظيفة والحدود كالوقاية والعلاج لتحقيق هذا الغرض.

2- وعنه (عليه السلام) قال: (قوام الشريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود).

ص: 112


1- مصادر الروايات المذكورة: 1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الأبواب من 1 إلى 7. 2- ميزان الحكمة: 5/529-548. 3- جامع أحاديث الشيعة: ج18، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باب1. 4- مستدرك وسائل الشيعة: ج12. 5- غرر الحكم للآمدي، وغيرها.

3- وفي نهج البلاغة من وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لولده الحسن (عليه السلام): (واأمر بالمعروف تكن من أهله وأنكر المنكر بيدك ولسانك، وباين من فعله بجهدك، وجاهد في الله حق جهاده، ولا تأخذك في الله لومة لائم)، وعنه (عليه السلام) قال في وصيته لمحمد بن الحنفية: (وأمرْ بالمعروف تكن من أهله، فإن استتمام الأمور عند الله تبارك وتعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

4- وعنه (عليه السلام) قال: (الأمر بالمعروف أفضل أعمال الخلق). وعنه (عليه السلام) قال: (من أمر بالمعروف شدَّ ظهور المؤمنين، ومن نهى عن المنكر أرغم أنوف الفاسقين).

5- وعنه (عليه السلام): (إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يُقرِّبان من أجل ولا ينقصان من رزق، لكن يضاعفان الثواب ويعظمان الأجر، وأفضل منهما كلمة عدل عند إمام جائر). أقول: كما أن المتزوج تتضاعف صلاته سبعين ضعفاً –كما في الأحاديث الشريفة- كذلك فإن القائم بهذه الوظيفة يتضاعف أجره وتزداد قيمة عمله.

6- وفي نهج البلاغة قوله (عليه السلام) في بيان حكمة الله تعالى في أصول الفرائض وكبائر المحظورات (والأمر بالمعروف مصلحة للعوام، والنهي عن المنكر ردعاً للسفهاء)(1).

7- وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وتعاونوا على البر، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسلط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء).

ص: 113


1- نهج البلاغة، قسم قصار الكلمات، رقم (252).

8- وعن الإمام الباقر قال: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خُلُقان من خلق الله، فمن نصرهما أعزه الله، ومن خذلهما خذله الله).

أقول: في المصادر (خُلُقان) كما أثبتناها وورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: (هما خلقان من أخلاق الله تعالى)(1)

وهو معنى صحيح لأن الله تعالى من أخلاقه وصفاته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر «إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» (النحل : 90).

ويمكن أن نقرأها (خَلْقان) ويشهد له ما في المجازات النبوية للشريف الرضي (قال (صلى الله عليه وآله وسلم): المعروف والمنكر خليفتان يُنصبَان للناس فيقول المنكر لأهله إليكم إليكم، ويقول المعروف لأهله: عليكم عليكم، وما تستطيعون له إلا لزوماً)(2).

أقول: قرّب الشريف الرضي المجازية بأن المنكر لشدة الوعيد عليه وعاقبة فعله يدعوهم إلى الابتعاد عنه، والمعروف لعظمة ثوابه وشدة الترغيب فيه يدعوهم إلى فعله.ويمكن أن يحمل الكلام على الحقيقة بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتجسمان ويكونان خليفتين ويكون واقع الأول داعياً إلى المعروف وواقع الثاني ناهياً عن المنكر، وهذا أولى مما ذكره من اعتبار المنكر من خلق الله تعالى، علماً أن تجسّم الطاعات دلّت عليه الروايات الشريفة فعن سعد الخفاف عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت: جعلت فداك يا أبا جعفر وهل يتكلم القرآن؟ فتبسم ثم قال: رحم الله الضعفاء من شعيتنا إنهم أهل تسليم. ثم قال: نعم يا سعد والصلاة تتكلم ولها صورة وخلق

ص: 114


1- نهج البلاغة: 2/48، خطبة 156.
2- بحار الأنوار: 100/70، عن المجازات النبوية: 324، الحديث 254.

تأمر وتنهى قال: فتغير لذلك لوني وقلت: هذا شيء لا أستطيع أن أتكلم به في الناس، فقال أبو جعفر: وهل الناس إلا شيعتنا فمن لم يعرف الصلاة فقد أنكر حقها (حقنا)، ثم قال: يا سعد أسمعك كلام القرآن؟ قال سعد: فقلت: بلى صلى الله عليك فقال: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر) فالنهي كلام والفحشاء والمنكر رجال، و نحن ذكر الله ونحن أكبر، ..)(1) الحديث.

أما قوله: (وما تستطيعون له إلا لزوماً) فإنها لا تدل على عدم قدرة أهل كل منهما على الترك أو الفعل لأن ذلك ينافي الاختيار وإنما فيه مبالغة لوصف إقدامهم على ذلك وكأنهم لا يستطيعون مفارقته، كما يقول من يبغض أحداً: لا أستطيع النظر إليه، مع أنه يستطيع ذلك وإنما قالها للمبالغة في وصف بغضه.

9- وعن جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال: (والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان على من أمكنه ذلك، ولم يخف على نفسه ولا على أصحابه). أقول: ستأتي في بحث شروطهما بيان ذلك إن شاء الله تعالى.

10- وعن الإمام الحسين (عليه السلام) قال: (كان يقال: لا يحل لعين مؤمنة ترى الله يعصى فتطرف حتى تغيره).

11- وعنه (عليه السلام): («المؤمنون بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر» فبدا الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه لعلمه بأنها إذا أديت وأقيمت استقامت الفرائض كلها هيّنها وصعبها، وذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام مع رد

ص: 115


1- الكافي: 2/298.

المظالم، ومخالفة الظالم وقسمة الفيء والغنائم، وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقها).

12- وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (أيها المؤمنون إنه من رأى عدواناً يُعمل به ومنكراً يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكره بلسانه فقد أُجر، وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى، وقام على الطريق، ونوّر في قلبه اليقين).

13- وعنه (عليه السلام) قال: (ما أعمال البر كلها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا كنقية في بحر لجيّ، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقربان من أجل ولا ينقصان من رزق، وأفضل من ذلك كلمة عدل عند إمام جائر).

14- وعن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): (إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب وتحل المكاسب وترد المظالم وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر).

15- وفي تحف العقول في مواعظ السيد المسيح (عليه السلام): (بحقٍّ أقول لكم: إن الحريق ليقع في البيت الواحد فلا يزال ينتقل من بيت إلى بيت حتى تحترق بيوت كثيرة إلا أن يستدرك البيت الأول فيهدم من قواعده فلا تجد فيه النار معملاً، وكذلك الظالم الأول لو يؤخذ على يديه لم يوجد من بعده إمام ظالم فيأتمّون به كما لو لم تجد النار في البيت الأول خشباً وألواحاً لم تحرق شيئاً.

بحقٍّ أقول لكم: من نظر إلى الحيّة تؤمُّ أخاه لتلدغه ولم يحذّره حتى قتلته فلا يأمن أن يكون قد شرك في دمه، وكذلك من نظر إلى أخيه يعمل الخطيئة ولم يحذّره عاقبتها حتى أحاطت به فلا يأمن أن يكون قد شرك في

ص: 116

إثمه، ومن قدر على أن يغيّر الظلم ثم لم يغيّره فهو كفاعله، وكيف يهاب الظالم وقد أمن بين أظهركم لا ينهى ولا يغيّر عليه ولا يؤخذ على يديه فمن أين يقصّر الظالمون أم كيف لا يغترّون! فحَسِبَ أن يقول أحدكم: لا أظلم ومن شاء فليظلم، ويرى الظلم ولا يغيّره؟ فلو كان الأمر على ما تقولون لم تعاقبوا مع الظالمين الذي لم تعملوا بأعمالهم حين تنزل بهم العثرة في الدنيا).

وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق (عليه السلام) (كان المسيح (عليه السلام) يقول: إن التارك شفاء المجروح من جرحه شريك جارحه لا محالة).

(الثاني) المنزلة العظيمة للقائم بها وثواب فاعلها:-

16- عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في الأرض وخليفة رسوله).

أقول: هذان وسامان شريفان للقائمين بهذه الفريضة المباركة.

17- وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): (أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر، أفضل الجهاد كلمة حكم عند إمام جائر).

وفي رواية عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): (أحب الجهاد إلى الله عز وجل كلمة حق تقال لإمام جائر).

18- وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجلٌ قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله). أقول: أرقى مصاديق هذا الحديث الإمام أبو عبد الله الحسين (عليه السلام).

19- وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (من آثر رضا ربٍّ قادر فليتكلم بكلمة عدل عند سلطان جائر).

ص: 117

20- وعنه (عليه السلام) قال: (من أحدّ سنان الغضب لله قوي على قتل أشداء الباطل).

21- عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: (من مشي إلى سلطان جائر فأمره بتقوى الله ووعظه وخوفه كان له مثل أجر الثقلين الجن والإنس، ومثل أعمالهم). أقول: يبيّن الحديث الشريف المنزلة العظيمة للعلماء الربانيين الذين وقفوا في وجه الطغاة وأسمعوهم كلمة الحق وأنقذوا الناس من الضلالة وقدّم البعض أرواحهم على هذا الطريق.

22- وعن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يأتي على الناس زمان يذوب فيه قلب المؤمن في جوفه كما يذوب الإنك في النار، يعني الرصاص، وما ذاك إلا لما يرى من البلاء والإحداث في دينهم ولا يستطيعون له غيراً).

23- وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (ألا أحدثكم عن أقوام ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم يوم القيامة الأنبياء والشهداء بمنازلهم من الله عز وجل على منابر من نور؟ قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: هم الذين يحبّبون عباد الله إلى الله ويحبّبون الله إلى عباده، قلنا: هذا حبّبوا الله إلى عباده فكيف يحببون عباد الله إلى الله؟ قال: يأمرونهم بما يحب الله وينهونهم عما يكره الله فإذا أطاعوهم أحبهم الله).

24- وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (إني رأيت البارحة عجائب، قال الراوي: فقلنا يا رسول الله، وما رأيت؟ حدّثنا به فداك أنفسنا وأهلونا وأولادنا (إلى أن قال:) ورأيت رجلاً من أمتي قد أخذته الزبانية من كل مكان فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فخلّصاه من بينهم وجعلاه مع ملائكة الرحمة) الخبر.

ص: 118

25- وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ» (البقرة: 207) قال: (إن المراد بالآية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

(الثالث) ذم تاركها وعقوبته والآثار السلبية في الدنيا والآخرة لتركها:-

26- عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (لرجلٍ قال له في وقعة صفين: ترجع إلى عراقك ونرجع إلى شامنا، قال (عليه السلام): لقد عرفتُ أنما عرضت هذا نصيحة وشفقة .. إن الله تبارك وتعالى لم يرضَ من أوليائه أن يُعصى في الأرض وهم سُكوتٌ مذعنون لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فوجدت القتال أهون عليّ من معالجة الأغلال في جهنم) أي فيما لو ترك القيام بهذه الفريضة.

27- وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله ليبغض المؤمن الضعيف الذي لا دين له، فقيل له: وما المؤمن الذي لا دين له؟ قال: الذي لا ينهى عن المنكر). أقول: وصفه في هذا الحديث أنه مؤمن إلا أنه حقيقة لا دين له إذا لم يقم بهذه الوظيفة.

28- وعنه (عليه السلام): (إذا رأى المنكرَ فلم يُنكره وهو يقدر (يقوى) عليه فقد أحب أن يُعصى الله ومن أحب أن يعصى الله فقد بارز الله بالعداوة).

29- وعنه (عليه السلام): (لقومٍ من أصحابه: إنه قد حقّ لي أن آخذ البريء منكم بالسقيم، وكيف لا يحق لي ذلك وأنتم يبلغكم عن الرجل منكم القبيح ولا تنكرون عليه ولا تهجرونه ولا تؤذونه حتى يتركه؟!).

ص: 119

30- وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (إن الله سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم إلا لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلعن الله السفهاء لركوب المعاصي، والحلماء لترك المناهي).

31- وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى لمّا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعنهم الله على لسان أنبيائهم ثم عُمُّوا بالبلاء).

32- وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (لا تزال (لا إله إلا الله) تنفع من قالها وتردّ عنهم العذاب والنقمة ما لم يستخفّوا بحقها، قالوا: يا رسول الله، وما الاستخفاف بحقّها؟ قال: يظهر العمل بمعاصي الله فلا يُنكر ولا يُغيِّر). أقول: هكذا ينبغي أن تؤخذ الأحاديث بشروطها ولا تترك مطلقة كروايات (من بكى على الحسين (عليه السلام) ) لأنها ما لم تؤخذ بشروطها تغرّر العامة.

33- وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) من وصيته للحسنين (عليهما السلام) بعد أن ضربه ابن ملجم، قال: (لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولّى عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم).

34- وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (ما أقرّ قومٌ بالمنكر بين أظهرهم لا يغيّرونه إلا أوشك أن يعمّهم الله عز وجل بعقاب من عنده).

35- وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا يُحَقِّرن أحدكم نفسه، قالوا: يا رسول الله، وكيف يُحقِّر أحدنا نفسه؟ قال: يرى أن عليه مقالاً ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟ فيقول: خشية الناس، فيقول: فإياي كنتَ أحقَّ أن تخشى).

ص: 120

36- وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (إلى الله أشكوا من معشر يعيشون جهّالاً ويموتون ضلالاً.. ولا عندهم أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر).

37- عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) قال: (ويل لقوم لا يدينون الله بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر).

38- عن الإمام الرضا (عليه السلام): (لتأمرن بالمعروف، ولتنهن عن المنكر، أو ليستعملن عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم).

39- وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه (خطب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإنه إنما هلك من كان قبلكم حيثما عملوا من المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار عن ذلك، وأنهم لما تمادوا في المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار عن ذلك نزلت بهم العقوبات، فأْمروا بالمعروف ونهوا (انهوا) عن المنكر، واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لن يقربا أجلاً ولن يقطعا رزقاً).

40- كتب الإمام الصادق (عليه السلام) إلى شيعته: (ليعطفنّ ذووا السنّ منكم والنهى على ذوي الجهل وطلاب الرياسة أو لتصيبنكم لعنتي أجمعين).

41- عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ما قدست أمة لم يؤخذ لضعيفها من قويها غير متعتع).

42- وفي تحف العقول عن الحسين (عليه السلام) قال: (ويروى عن علي عليه السلام: اعتبروا أيها الناس بما وعظ الله به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار، إذ يقول: «لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم» وقال: «لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل» إلى قوله: «لبئس ما كانوا يفعلون» وإنما عاب الله ذلك عليهم لأنهم كانوا يرون من الظلمة المنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك رغبة فيما كانوا ينالون منهم، ورهبة مما يحذرون، والله يقول: «فلا تخشوا الناس واخشوني» (المائدة:44) )،

ص: 121

وقال: («وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ» (التوبة:71) فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه لعلمه بأنها إذا أُدّيت وأقيمت استقامت الفرائض كلها هيّنها وصعبها، وذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام مع رد المظالم ومخالفة الظالم. وقسمة الفيء والغنائم، وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقها).

43- وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (من ترك إنكار المنكر بقلبه ولسانه (ويده خ) فهو ميت بين الأحياء).

44- وعنه (عليه السلام) قال: (فمنهم المنكر للمنكر بقلبه ولسانه ويده فذلك المستكمل لخصال الخير، ومنهم المنكر بلسانه وقلبه التارك بيده فذلك متمسك بخصلتين من خصال الخير ومضيع خصلة، ومنهم المنكر بقلبه التارك بيده ولسانه فذلك الذي ضيّع أشرف الخصلتين من الثلاث وتمسك بواحدة، ومنهم تارك لإنكار المنكر بلسانه ويده فذلك ميت الأحياء).

45- عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين عليه السلام إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصة إذا عملت الخاصة بالمنكر سراً من غير أن تعلم العامة، فإذا عملت الخاصة بالمنكر جهاراً فلم تغير ذلك العامة استوجب الفريقان العقوبة من الله عز وجل).

وزاد في (عقاب الأعمال): (وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن المعصية إذا عمل بها العبد سرّاً لم يضرّ إلا عاملها، وإذا عمل بها علانية ولم يغيّر عليه أضرَّت بالعامة، قال جعفر بن محمد (عليهما السلام): وذلك أنه يُذلّ بعمله دين الله ويقتدي به أهل عداوة الله).

أقول: ذيل الرواية يبيّن غرضاً آخر لهذه الفريضة غير هداية المأمور وهو إعزاز دين الله تعالى وتقوية المؤمنين وخذلان المنافقين.

ص: 122

46- وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إن الله بعث ملكين إلى أهل مدينة ليقلباها على أهلها، فلما انتهيا إلى المدينة فوجدا فيها رجلاً يدعو ويتضرع، إلى أن قال: فعاد أحدهما إلى الله، فقال: يا ربّ إني انتهيت إلى المدينة فوجدت عبدك فلاناً يدعوك ويتضرع إليك، فقال: امضِ لما أمرتك به، فإن ذا رجل لم يتمعّر وجهه غيظاً لي قط).

47- عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (يكون في آخر الزمان قوم يُتّبع (وفي نسخة: ينبع) فيهم قومٌ مراؤون يتقرّؤون ويتنسّكون حدثاء سفهاء لا يوجبون أمراً بمعروف ولا نهياً عن منكر إلا إذا أمنوا الضرر، يطلبون لأنفسهم الرخص والمعاذير يتبعون زلات العلماء وفساد عملهم، يقبلون على الصلاة والصيام وما لا يكْلمهم في نفس ولا مال ولو أضرّت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها كما رفضوا أسمى الفرائض وأشرفها، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، هناك يتمّ غضب الله عز وجل عليهم فيعمهم بعقابه فيهلك الأبرار في دار الفجار والصغار في دار الكبار..

فأنكروا بقلوبكم وألفظوا بألسنتكم وصكوا بها جباههم ولا تخافوا في الله لومة لائم، فإن اتعظوا وإلى الحق رجعوا فلا سبيل عليهم «إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ» هنالك فجاهدوهم بأبدانكم وأبغضوهم بقلوبكم غير طالبين سلطاناً ولا باغين مالاً ولا مريدين بظلم ظفراً حتى يفيئوا إلى أمر الله ويمضوا على طاعته.

48- وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يأتي أهل الصفة، وكانوا ضيفان رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إلى أن قال: فقام سعد بن أشج فقال: إني أشهد الله واشهد رسوله ومن حضرني أن نوم الليل عليّ حرام، والأكل بالنهار علي حرام ولباس

ص: 123

الليل علي حرام، ومخالطة الناس علي حرام..، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا سعد لم تصنع شيئاً، كيف تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر إذا لم تخالط الناس؟ وسكون البرية بعد الحضر كفر للنعمة، .. ثم قال: بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، بئس القوم قوم يقذفون الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، بئس قوم لا يقومون لله تعالى بالقسط بئس القوم قوم يقتلون الذين يأمرون الناس بالقسط في الناس. الحديث)(1).

49- عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) في الورِع، قال: (الذي يتورع من محارم الله ويجتنب هؤلاء، وإذا لم يتق الشبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه وإذا رأى المنكر فلم ينكره وهو يقدر عليه، فقد أحب أن يعصى الله، ومن أحب أن يعصى الله فقد بارز الله بالعداوة، ومن أحب بقاء الظالمين فقد أحب أن يعصى الله عز وجل، إن الله تعالى حمد نفسه على هلاك الظالمين فقال: «فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُ-واْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ».

50- وعنه (عليه السلام) قال: (كان رجل شيخ ناسك يعبد الله في بني إسرائيل، فبينا هو يصلي وهو في عبادته، إذ بصُر بغلامين صبيين، قد أخذا ديكاً وهما ينتفان ريشه، فأقبل على ما هو فيه من العبادة ولم ينههما عن ذلك، فأوحى الله إلى الأرض: أن سيخي بعبدي، فساخت به الأرض، فهو يهوي في الدردور(2) أبد الآبدين ودهر الداهرين).

51- في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السلام) عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث قال: (لقد أوحى الله إلى جبرائيل

ص: 124


1- بحار الأنوار: 22/310.
2- الدردور: موضع في البحر يجيش ماؤه ويدر، ويخاف فيه الغرق.

وأمره أن يخسف ببلد يشتمل على الكفار والفجّار، فقال جبرائيل: يا ربّ أخسف بهم إلا بفلان الزاهد ليعرف ماذا يأمره الله فيه، فقال: اخسف بفلان قبلهم، فسأل ربه فقال: يا ربِّ عرّفني لمَ ذلك وهو زاهد عابد، قال: مكّنتُ له وأقدرته فهو لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، وكان يتوفر على حبّهم في غضبي، فقالوا: يا رسول الله فكيف بنا ونحن لا نقدر على إنكار ما نشاهده من منكر؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو ليعمنّكم عذاب الله، ثم قال: من رأى منكم منكراً فلينكر بيده إن استطاع، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه فحسبه أن يعلم الله من قلبه أنه لذلك كاره).

(الرابع) من يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر ولا يجتنبه:-

52- عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (يؤتى بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان، مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟! فيقول: بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه).

53- عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (أظهر الناس نفاقاً: من أمر بالطاعة ولم يعمل بها، ونهى عن المعصية ولم ينته عنها).

54- وعنه (عليه السلام): (من كان فيه ثلاث سلمت له الدنيا والآخرة: يأمر بالمعروف ويأتمر به، وينهى عن المنكر وينتهي عنه، ويحافظ على حدود الله جلّ وعلا).

55- وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (لما قيل له: لا نأمر ولا ننهى إلا بما عملنا به أو انتهينا عنه كله، قال: لا، بل مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به كله، وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه كله).

ص: 125

أقول: يظهر أن الحديث الشريف المتقدم (يؤتى بالرجل) ونحوه ولّد موقفاً لدى البعض بأن لا يتوجه إلى الآخرين ويدعوهم إلى الخير ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر حتى تكتمل عنده تطبيقاتها مائة بالمائة، ولما لا يتيسر ذلك لغير المعصومين فالنتيجة توقف عملية الإصلاح؛ لذا جاء هذا الحديث ليعالج هذا الموقف ويحث على ممارسة الدعوة إلى الخير وإن لم يكن مطبقاً له ما دام محباً لفعل الخير وساعياً له لكن منعته بعض الصوارف قصوراً أو تقصيراً فإن الله تعالى سيوفقه إليه، كما تقدم في الحديث (رقم 3): (تكن من أهله) أي أنه حين الأمر به لم يكن من أهله لكنه بالدعوة إليه وفقه الله تعالى فكان من أهله.

(الخامس) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أوسع من فعلهما فيشمل الرضا بهما والإعانة عليهما:-

56- وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) (عليه السلام) قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو دلّ على خير أو أشار به فهو شريك، ومن أمر بسوء أو دل عليه أو أشار به فهو شريك).

أقول: فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يصدق على أوسع من فعلهما بالمباشرة فيشمل التسبيب لهما.

57- وعنه (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من شهد أمراً فكرهه كان كمن غاب عنه، ومن غاب عن أمر فرضيه كان كمن شهده).

أقول: الحديث يلفت النظر إلى اتساع دائرة المسؤولية عن المعروف والمنكر إلى أوسع من الفعل لتشمل الرضا والإعانة، فعلى الإنسان أن

ص: 126

يحاسب نفسه على مواقفه، فهل رضاه عن شخص ما أو فعل ما هو لله أم لغيره؟ وهل أن غضبه كذلك؟.

58- وعن الإمام الرضا (عليه السلام) (وقد قيل له: ما تقول في حديث روي عن الصادق (عليه السلام) قال: إذا خرج القائم قتل ذراري قتلة الحسين (عليه السلام) بفعال آبائهم؟ فقال (عليه السلام): هو كذلك، فقيل له: قول الله عز وجل: «وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى» ما معناه؟ قال: صدق الله في جميع أقواله، ولكن ذراري قتلة الحسين (عليه السلام) يرضون بفعال آبائهم ويفتخرون بها، ومن رضي شيئاً كان كمن أتاه، ولو أن رجلاً قُتل بالمشرق فرضي بقتله رجل بالمغرب لكان الراضي عند الله عز وجل شريك القاتل، وإنما يقتلهم القائم (عليه السلام) إذا خرج لرضاهم بفعال آبائهم).

59- وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (العامل بالظلم والراضي به والمعين عليه شركاء ثلاثة).

60- وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (الساعي قاتل ثلاثة: قاتل نفسه، وقاتل من سعى به، وقاتل من سعى إليه). أقول: السعاية إلى السلطان أو إلى ذي النفوذ عموماً يؤدي إلى ترتيب الأثر عليها فيقتل من سُعي به أو يسجن ونحو ذلك، فالساعي يكون قد أودى بثلاثة، ولعله من مصاديق قوله تعالى: «وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ» (يس:12).

61- في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (عليه السلام) قال: (في خطبة له يذكر فيها أصحاب الجمل: فوالله لو لم يصيبوا من المسلمين إلا رجلاً واحداً معتمدين لقتله بلا جرم لحلَّ لي قتلُ ذلك الجيش كله إذ حضروه ولم ينكروا ولم يدفعوا عنه بلسان، ولا يد، دع ما أنهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدة التي دخلوا بها عليهم).

ص: 127

62- عن محمد بن الأرقط عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (قال لي (عليه السلام): تنزل الكوفة؟ فقلت: نعم، فقال: ترون قتلة الحسين عليه السلام بين أظهركم؟ قال: قلت: جعلت فداك ما بقي منهم أحد، قال: فأنت إذن لا ترى القاتل إلا من قتل، أو من وليَ القتل؟! ألم تسمع إلى قول الله: «قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين» فأي رسول قتل الذين كان محمد صلى الله عليه وآله بين أظهرهم، ولم يكن بينه وبين عيسى رسول، وإنما رضوا قتل أولئك فسموا قاتلين).

63- عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (وأوحى الله عز وجل إلى شعيب النبي (عليه السلام): إني معذّب من قومك مائة ألف، أربعين ألفاً من شرارهم، وستين ألفاً من خيارهم، فقال (عليه السلام): يا ربّ هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ فأوحى الله عز وجل إليه: داهنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي).

(السادس) بعض مظاهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:-

64- وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة).

65- وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (والله ما الناصب لنا حرباً بأشد علينا مؤونة من الناطق علينا بما نكره، فإذا عرفتم من عبد إضاعة فامشوا إليه فردّوه عنها، فإن قبلوا منكم وإلا فتحملوا عليه بمن يثقل عليه ويسمع منه، فإن الرجل منكم يطلب الحاجة فيلطف فيها حتى تقضى، فالطفوا في حاجتي كما تلطفون في حوائجكم، فإن هو قبل منكم وإلا فادفنوا كلامه تحت أقدامكم).

ص: 128

66- وعنه (عليه السلام) قال في حديث: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبته يوم الغدير: ألا وإني أجدد القول: ألا فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، ألا وإن رأس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن تنتهوا إلى قولي وتبلّغوه من لم يحضر وتأمروه بقبوله وتنهوه عن مخالفته فإنه أمر من الله عز وجل ومنّي، ولا أمرٌ بمعروف ولا نهي عن منكر إلا مع إمام معصوم).

الفريضة في صحاح العامة:

رغم إقرارهم بعظمة هذه الفريضة كقول الغزالي وابن الأخوة القرشي: ((أما بعدُ فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله به النبيين أجمعين، ولو طوي بساطه وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة وعمت الفترة وفشت الضلالة وشاعت الجهالة واستشرى الفساد واتسع الخرق وخربت البلاد، وهلك العباد،... فمن سعى في تلافي هذه الفترة وسد هذه الثلمة إما متكلفاً بعلمها أو متقلداً لتنفيذها مجرداً عزيمته لهذه السُنة الدائرة ناهضاً باعتنائها ومشمراً في إحيائها، كان مستأثراً من بين الناس باحتسابه ومستنداً بقرينة ينال بها درجات القرب. روى الحسن عن النبي (صلى الله عليه وآله): (من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه) وعن درّة بنت أبي لهب قالت: (جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وهو على المنبر

ص: 129

فقال: مَن خير الناس يا رسول الله؟ قال: آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم).))(1).

أقول: رغم ذلك إلا أنه لم ترد روايات كثيرة في صحاح العامة عن هذه الفريضة وأحكامها التفصيلية، ولعلها لا تزيد عن عشرة في جميع الصحاح بعد حذف المكرر، ولم يُصنَّف لهذه الفريضة كتاب مستقل، وبعضهم –كالبخاري- لم يعقد لها باباً، في حين عقد لها البعض باباً في كتاب الإيمان –كصحيح مسلم- وآخرون في كتاب الفتن والملاحم –كسنن الترمذي وابن ماجة وأبي داود-.

وورد بعضها في أبواب لا تناسب هذا المعنى، فقد أورد البخاري في صحيحه في كتاب الشركة، باب 6 ((هل يُقرع في القسمة والاستهام فيه؟)) قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (مثل القائم على حدود الله والواقع ((وفي سنن الترمذي (والمدهن) )) فيها كمثل قومٍ استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)(2).وقد استقرأت تلك الروايات ووجدت بعضها متطابقاً مع ما عندنا من نصوص، ففي صحيح مسلم عقد باباً في كتاب الإيمان بعنوان ((باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان)) وأورد فيه قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه

ص: 130


1- إحياء علوم الدين: 2/391، معالم القربة في طلب الحسبة لابن الأخوة محمد بن أحمد القرشي: 15.
2- صحيح البخاري: 286، ح 2493.

وذلك أضعف الإيمان)(1)، وجعل باباً في كتاب الزهد بعنوان ((عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر ويفعله)) وأورد فيه الحديث المتقدم رقم (20) عن أسامة بن زيد حين قيل له: ((ألا تدخل على عثمان فتكلمه))(2).

وأورد ابن ماجة في سننه عشرة أحاديث تحت باب ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر))، ومما جاء فيه:-

1- عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطانٍ جائر).

2- عن أبي أمامة قال: عرض لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل عند الجمرة الأولى فقال: يا رسول الله، أيُّ الجهاد أفضل؟ فسكت عنه، فلما رمى الجمرة الثانية سأله فسكت عنه، فلما رمى جمرة العقبة، وضع رجله في الغرز ليركب، قال: (أين السائل؟) قال: أنا يا رسول الله، قال: (كلمة حق عند سلطانٍ جائر).

3- عن جابر قال: رَجَعَتْ إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مهاجرة البحر، قال: (ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة؟) قال فتية منهم: بلى يا رسول الله، بينا نحن جلوس، مرّت بنا عجوز من عجائز رهابينهم تحمل على رأسها قلّة من ماء، فمرّت بفتى منهم، فجعل إحدى يديه بين كتفيها، ثم دفعها، فخرَّت على ركبتيها، فانكسرت قُلّتها، فلما ارتفعت، التفتت إليه فقالت: سوف تعلم يا غُدَر! إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخرين وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غداً،

ص: 131


1- صحيح مسلم: 41، كتاب الإيمان، باب 20، ح 78.
2- صحيح مسلم: 1054، كتاب الزهد، باب 7، ح 2989.

قال: يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (صَدَقَتْ صَدَقَتْ، كيف يُقدِّس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم؟)(1).وروى الترمذي أيضاً بعض الأحاديث المتقدمة(2)، وأورد أبو داود عشرة أحاديث على نحو ما تقدَّم في كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي(3).

أما كتب العامة الأخرى فقد أوردت أحاديث أكثر من ذلك بعضها مطابق لروايات أهل البيت (عليهم السلام) كما في كنز العمال والدر المنثور(4).

تتميم: فيه فائدتان:

(الأولى) وجوب مقدمات الوجوب: بالرغم مما التزم به المشهور من عدم وجوب تحصيل مقدمات الوجوب، إلا أن هذه الكبرى منقوضة هنا، لوجوب جملة مما جعلوه من مقدمات وجوب هذه الفريضة.

ونظراً لارتباط البحث بشروط هذه الفريضة فإننا سنؤخره إلى الفصل الخاص بالشروط وسيأتي (صفحة 343) بإذن الله تعالى، وسنجد موارد أخرى للنقض على هذه الكبرى، مما يؤكد ما ذهبنا إليه من عدم صحة القول بإطلاقها.

(الثانية) إلحاق الدفع بالرفع: إن النهي عن المنكر وإن قيل بظهوره في إزالة ورفع ما هو موجود من المنكر، إلا أن الغرض من الفريضة أوسع من ذلك وهو المنع من وجود المنكر حتى قبل وقوعه أي بمنع مقدماته، وهو معنى موجود في الروايات. كما في رواية علي بن أبي حمزة عن أبي عبد الله (عليه السلام) (لولا أن بني أمية وجدوا لهم من يكتب ويجبي لهم الفيء ويقاتل عنهم ويشهد

ص: 132


1- سنن ابن ماجة: 4/186، كتاب الفتن، باب 20، ح 4010، 4011، 4012.
2- سنن الترمذي: 551-552.
3- سنن أبي داود: 2/360 -362، ح4336 وما بعده.
4- راجع كتاب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في الأحاديث المشتركة بين السنة والشيعة) تصنيف مهدي رستم نجاد، ضمن سلسلة الأحاديث المشتركة.

جماعتهم لما سلبونا حقنا، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلا ما وقع في أيديهم)(1).

إن قلتَ: إن رواية ابن أبي حمزة ((أجنبية عن رفع المنكر فضلاً عن دفعه لاختصاصها بحرمة إعانة الظلمة))(2).

قلتُ: نعم، لكن ملاك الحرمة ما ذكرناه بحسب صريح التعليل في الرواية.

وكما في رواية السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام): (إن ثلاثة نفر رُفعوا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام): واحد منهم أمسك رجلاً، وأقبل الآخر فقتله والآخريراهم، فقضى في صاحب الرؤية أن تسمل عيناه وفي الذي أمسك أن يسجن حتى يموت كما أمسكه، وقضى في الذي قتل أن يقتل)(3).

أقول: تدل الرواية على وجوب المنع من حصول المنكر على من علم به ولذا استحق العقوبة لعدم الامتثال، ولا يفرق في ما نحن فيه من جهة كون مورد الرواية الأولى فعلاً لو تركه لم يقع المنكر، ومورد الثانية تركاً لو فعله لم يقع المنكر.

وهذه السعة في المعنى موجودة في كلمات الفقهاء (قدس الله أرواحهم) لذا حكى إجماعهم على حرمة المعاونة على الإثم عملاً بالآية الشريفة وملاك الحرمة هو هذا الإلحاق، مثلاً المحقق الأردبيلي (قدس سره) استدل بأدلة النهي عن المنكر على حرمة تأجير المساكن للمحرمات وبيع العنب ليعمل خمراً(4).

ص: 133


1- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب ما يُكتسب به، الباب 47، ح1.
2- مصباح الفقاهة من موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 35/285.
3- وسائل الشيعة: كتاب القصاص، أبواب القصاص في النفس، باب 17، ح3.
4- مجمع الفائدة والبرهان: 8/49، 51.

ونقل المحقق النائيني (قدس سره) هذا الاستدلال وردّ عليه، قال (قدس سره): ((ثم إنه قد يستدل بحرمة بيع العنب ممن يعلم أنه يعمله خمراً: بأن دفع المنكر كرفعه واجب، ولا يتم إلا بترك البيع فيجب تركه، فيحرم فعله.

ولا يخفى أن هذا الاستدلال يصح إذا فرضنا أن ترك البيع يؤثر في ارتداع الخمار عن التخمير، فبناء على تأثيره فيه يمكن دعوى حرمة البيع من باب ثبوت الملازمة عرفاً بين وجوب رفعه بعد تحققه والمنع عن تحققه، ولذا يقال بحرمة تنجيس المسجد من جهة استكشافها عن وجوب إزالة النجاسة عنه.

وأما لو لم يؤثر ترك البيع في ترك التخمير لوجود العنب عنده أو وجود مائع آخر، فلا وجه لحرمته.

ولا يقال: إن بيع بائع آخر لا يوجب حلية بيع هذا، فإن ظلم ظالم لا يسوغ الظلم.

لأنا نقول: فرق بين ما كان الشيء واجباً على نحو الكفائي، وبين ما كان واجباً على جماعة بوصف الاجتماع، فإنه لو كان ترك البيع واجباً على كل أحد كفائياً فيحرم البيع على كل من باع استقلالاً.

وأما لو كان قائماً بالمجموع، فلا وجه لحرمته على كل أحد. وفي المقام لم يقم دليل على وجوب ترك البيع على كل واحد كفائياً، بل لا يمكن أن يدل دليل كذلك، فإنه لا معنى لتعلق النهي على شيء كفائياً، ولا على وجوب الترك كذلك، بل لا بد إما أن يقوم دليل على وجوب الفعل كفائياً، أو حرمته استقلالياً، أو وجوب الترك مجموعياً وفي المقام لا مناص عن الأخير، فإن النهي عن المنكر إنما يكون واجباً إذا كان مؤثراً، وتأثير ترك البيع في دفع المنكر متوقف على ترك الجميع، لأن ببيع واحد على البدل يتحقق المنكر))(1).

ص: 134


1- منية الطالب: 1/40-41.

أقول: جوابه (قدس سره) مبني على اشتراط الجزم بالتأثير في وجوب النهي عن المنكر، وقد منعناه في مبحث الشروط من هذا الكتاب، بل المستفاد من القرآن الكريم أن الجزم بعدم التأثير لا يسقط الوجوب وهو قوله تعالى: «وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» (الأعراف:164) فعلى المكلف أن يقوم بما يدفع المنكر ويمنع من وقوعه، أما وقوعه بعد ذلك بفعل غيره أو عدم وقوعه فليس داخلاً في تكليفه.

وفصّل السيد الخوئي (قدس سره) في إلحاق الدفع بالرفع قائلاً: ((إن دفع المنكر إنما يجب إذا كان المنكر مما اهتم الشارع بعدم وقوعه كقتل النفوس المحترمة، وهتك الأعراض المحترمة، ونهب الأموال المحترمة، وهدم أساس الدين وكسر شوكة المسلمين وترويج بدع المضلين ونحو ذلك فإن دفع المنكر في هذه الأمثلة ونحوها واجب بضرورة العقل واتفاق المسلمين وأما في غير ما يهتم الشارع بعدمه من الأمور فلا دليل على وجوب دفع المنكر))(1).

وقال (قدس سره): ((وأما النهي عن المنكر فإنه وإن كان سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء وفريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتحل المكاسب وترد المظالم، إلا أنه لا يدل على وجوب دفع المنكر، فإن معنى دفع المنكر هو تعجيز فاعله عن الإتيان به وإيجاده في الخارج سواء ارتدع عنه باختياره أم لم يرتدع، والنهي عن المنكر ليس إلا ردع الفاعل وزجره عنه على مراتبه المقررة في الشريعة المقدسة، وعلى الإجمال: إنه لا وجه لقياس دفع المنكر على رفعه)).

أقول: اتضح مما تقدم عدم صحة هذا التفريق، وأن إزالة المنكر شاملة للدفع والرفع، وممن قال بهذا المحقق الإيرواني (قدس سره) فنقل السيد الخوئي (قدس سره) كلامه وردّ عليه، قال المحقق الإيرواني (قدس سره): ((الرفع هنا ليس إلا

ص: 135


1- مصباح الفقاهة من موسوعة السيد الخوئي: 35/284.

الدفع، فمن شرع بشرب الخمر فبالنسبة إلى جرعة شرب لا معنى للنهي عنه، وبالنسبة إلى ما لم يشرب كان النهي دفعاً عنه))(1).

وردّ السيد الخوئي (قدس سره) عليه بأن ((مرجع الرفع وإن كان إلى الرفع بالتحليل والتدقيق، إلا أن الأحكام الشرعية وموضوعاتها لا تبتنى على التدقيقات العقلية، ولا شبهة في صدق رفع المنكر في العرف والشرع على منع العاصي عن إتمام المعصية التي ارتكبها بخلاف الدفع))(2).أقول: ما أجاب به (قدس سره) صحيح في نفسه إلا أنه لا يصلح للمنع من إلحاق الدفع بالرفع بل هو إقرار به.

وفي الحقيقة فإن التفريق بين الدفع والرفع لو كان له منشأ فإنه من قصر النظر في ملاك هذه الفريضة وجعل المطلوب منها إزالة المنكر، ولكن الأمر أوسع من ذلك فالمطلوب الغضب لله تبارك وتعالى ورفض المنكر مطلقاً وإن لم يكن موجوداً، ففي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) عن علي (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من شهد أمراً فكرهه كان كمن غاب عنه، ومن غاب عن أمر فرضيه كان كمن شهده)(3)، وعلى هذا فلا يكون للتفريق معنى.

والتزم السيد الخميني (قدس سره) بالإلحاق بلا فرق بين كون الوجوب عقلياً أو شرعياً، قال (قدس سره): ((إن العقل لا يفرّق بين الرفع والدفع بل لا معنى لوجوب الرفع في نظر فإن ما وقع لا ينقلب عما هو عليه، فالواجب عقلاً

ص: 136


1- حاشية المكاسب للإيرواني: 1/102.
2- مصباح الفقاهة من موسوعة السيد الخوئي: 35/285.
3- وسائل الشيعة: 11/409، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب5، ح2.

هو المنع عن وقوع المبغوض سواء اشتغل به الفاعل أو همَّ بالاشتغال به وعلم بكونه بصدده وكان في معرض التحقق))(1).

وقال (قدس سره): ((ولو بنينا على أن وجوب النهي عن المنكر شرعي فلا ينبغي الإشكال في شمول الأدلة للدفع أيضاً لو لم نقل بأن الواجب هو الدفع، بل يرجع الرفع إليه حقيقةً، فإن النهي عبارة عن الزجر عن إتيان المنكر، وهو لا يتعلق بالموجود إلا باعتبار ما لم يوجد، فإن الزجر عن إيجاد الموجود محال عقلاً وعرفاً، فإطلاق أدلة النهي عن المنكر شامل للزجر عن أصل التحقق واستمراره، فلو علم من أحد إرادة إيجاد الحرام وهمّ به واشتغل بمقدماته مثلاً، وجب نهيه عنه، فإن المراد بالمنكر الذي يجب النهي عنه طبيعته لا وجوده.

بل لو فُرض عدم إطلاق فيها من هذه الجهة وكان مصبّها النهي عن المنكر بعد اشتغال الفاعل به، لا شبهة في إلغاء العرف خصوصية التحقق بمناسبات الحكم والموضوع.

فهل ترى من نفسك أنه لو أخذ أحد كأس الخمر ليشربها بمرأى ومنظر من المسلم يجوز له التماسك عن النهي حتى يشرب جرعة منها ثم وجب عليه النهي؟.

وهل ترى عدم وجوب النهي عن المنكر في الدفعيات والوجودات الصرفة الدفعية؟ ولعمري إن التشكيك فيه كالتشكيك في الواضحات))(2).شبهة ودفع: أورد المحقق العراقي (قدس سره) إشكالاً على نحو خاتمة في نهاية كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد وجدت هذا الموضع مناسباً لعرضه لارتباطه بالوجوب، ويمكن أن يوضع في فصل الشروط لارتباطه بالمأمور المنهي.

ص: 137


1- المكاسب المحرمة: 1/205.
2- المكاسب المحرمة: 1/205-206.

وحاصل الشبهة: أن وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شاملة للعبادات والمعاملات والشبهة تتعلق بالأول لأن ((صحة الأمر من الآمر إنما هي في صورة صلاحيته للدعوة، وبه يشهد أيضاً ما في النصوص من التعليل باستقامة الفرائض، ولازم دعوة هذا الأمر في العبادة كونها مأتية بداعي أمر غيره تعالى، فلا يكون مخلصاً في عمله، فتبطل، فيستحيل حينئذٍ الأمر المزبور، لاستحالة دعوته إلى المعروف))(1).

وتوضيحه: أن صحة امتثال فريضة الأمر بالمعروف تتحقق بكون هذا الأمر باعثاً إلى تحقق متعلقه بالصورة الصحيحة التي أمر بها الشارع حتى يتحقق الغرض وهو استقامة الفرائض. وهذا الغرض لا يمكن تحقيقه لأن تحرك المأمور المنهي سيكون امتثالاً لأمر الآمر الناهي وليس أمر الله تعالى فلا يكون قريباً وتكون العبادة المأتي بها باطلة.

ثم قال (قدس سره): ((وربما أوردوا مثل هذه الشبهة في النيابة في العبادة، بتقريب أن متعلق الإجارة لا بد أن يكون قابلاً لأن يؤتى به بعنوان الوفاء بعقد إجارته، ومثل العبادات يستحيل أن يؤتى بها بمثل هذا العنوان، المستتبع لعدم الخلوص في العبادة، بل ولانغراس مثل هذه الشبهة في الأذهان، صار منشأ التزامهم بإضرار الرياء بالخلوص، ولو بنحو الداعي إلى الداعي))(2).

ثم قال (قدس سره): ((وتوهم الاكتفاء في المقام بهذا المقدار من العبادة الصورية، كالاكتفاء في باب الزكاة أيضاً بصرف الأخذ من الممتنع بلا قربة: مدفوع بمنع صحة المقايسة؛ لإمكان دعوى أن في الزكاة جهة حق الناس، فلا يسقط بمحض عدم القربة من الممتنع، بخلاف غيرها، الذي لا يكون في البين إلا

ص: 138


1- شرح تبصرة المتعلمين: 4/471-473.
2- شرح تبصرة المتعلمين: 4/471-473.

حق الباري تعالى، المتعلق بعبوديته، المنوط بقربية عمله، مع إمكان دعوى أن الحاكم ولي الممتنع، فهو يتولى القربة، لأنها شأن من يعيّن الزكاة في مال عزلاً أو أداءً، وهذا الشأن في صورة الامتناع يكون للحكام أو السعاة، فهم المتولون للنية أيضاً، وهذا بخلاف ما في سائر العبادات، حيث لا تكون في البين جهة مالية، وتعيين حق، لتكون ولاية للغير، فلا يكون المتكفل للقربة إلا العامل)).

وذكر (قدس سره) في جواب الشبهة وجهين قال إنه ((لا محيص في دفع الشبهة في المقام عن الالتزام بهما)) للتخلص من عدم الخلوص في النيابة في العبادة:أولهما: ((عدم إضرار الدواعي الطولية في الخلوص. إذ المعتبر منه عدم دعوة شيء غير أمر الله في عرضه لا مطلقاً. ويؤيده انتهاء أمر الداعي –في غالب العبادات بنحو الطولية- إلى غير داعي الله.

وتوهم أن الآثار المترتبة من قبله تعالى وداعويتها على العمل غير مضرة بالخلوص: مدفوع بأن لازمه عدم الإضرار ولو كانت داعوية الآثار في عرض داعوية الأمر، ولا أظن التزامه من أحد، فيكشف ذلك عن أن ما هو مضر من غير دواعي القربة عرضاً غير مضر بالعبادة طولاً)).

ثانيهما: ((أن المعتبر في صحة العبادة صدورها عمن له العبادة –أي المنوب عنه- خالصاً، وفي المقام يصدق عليه الخلوص من تلك الجهة، وإن كان من حيث إضافته إلى النائب غير خالص وكان بداعي الوفاء بالإجارة.

ففي الحقيقة منشأ حل الإشكال في باب النيابة هو التفكيك بين الفعل من حيث إضافته إلى المنوب عنه وإلى النائب)).

أقول: نجيب أولاً عن أصل الإشكال ثم نناقش كلمات المحقق العراقي (قدس سره)، فيجاب أصل الإشكال ثبوتاً وإثباتاً.

أما إثباتاً فبجوابين حَلّي ونقضي:

ص: 139

أما الحلّي فلأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة إلهية شرّعها الله تعالى وهو الذي أمر بالأمر والنهي، ولازمه أخذ الآخر بمقتضاهما؛ فالإشكال عليه خروج عن زي العبودية.

وأما النقض فلوجود أوامر بالأمر بالعبادات كقوله تعالى: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا» (طه:132) وما ورد في أمر أولياء الأمور صبيانهم بالصلاة والصوم إلى حد ضربهم عليها، كما أن بعض مراتب وظيفة الأمر والنهي تقتضي ذلك والمفروض أن هذا أوضح في الإشكال لاحتمال صدور الفعل مكرهاً ونحو ذلك.

فمع الإذن الشرعي لا نحتاج أن نسأل كيف؟

وأما ثبوتاً فبوجهين أيضاً:-

1- إن أمر الآمر الناهي هنا هو مجرد واسطة وطريق لإيصال الحكم الشرعي، فمحركية المأمور المنهي تأتي من نفس الأمر الشرعي الأول لا من أمر الآمر الناهي لذا فإنه كان بإمكان المأمور المنهي أن يتحرك من ذاته لرفع المعصية من دون أمر الآمر الناهي.

والأحكام الشرعية كلها وردتنا هكذا عن طريق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام) ونحن نطيعهم باعتبارهم وسائط لتبليغ الأحكام الشرعية من الله تعالى.

وتفصيل ذلك يحرر في علم الأصول في مطلب عنوانه ((الأمر بالأمر بفعلٍ هل هو آمر بذلك الفعل أم لا؟)) ولأجل إثبات الطريقية سنفرد له ملحقاً إن شاء الله تعالى.

2- لو تنزلنا وافترضنا كون أمر الآمر الناهي داعياً للفعل فإنه في طول الداعي القربي ولا دليل على إضراره بخلوص النية إلا أن يكون في عرضه، بل الدليل على خلافه فقد وردت روايات كثيرة تحث على عبادات معينة كالصلاةوالصوم لأجل أغراض شخصية كسعة الرزق وطلب الولد والصحة ودفع الهم والتفريج عن الكرب فهذه الدواعي

ص: 140

الطولية لا تضر في العبادة، وبه يجاب عن إشكال النيابة في العبادات فما ذكره (قدس سره) في الجواب الأول صحيح.

والآن نناقش جملة من كلماته (قدس سره).

المناقشة الأولى: في الجواب الثاني الذي ذكره (قدس سره) فإنه غير تام لعدم صلاحية التفكيك لتصحيح الفعل باعتبار أن المتقرب بالعمل هو الأجير لأن العبادة صادرة منه ويترتب على عمله براءة ذمة المنوب عنه، فخلوص نية المنوب عنه لا تصحح العبادات إذا لم تكن قربية.

الثانية: في تشبيه هذه المسألة بمسألة الإجارة في العبادات وهما وإن تشابهتا في أصل الإشكال إلا أنهما تختلفان من عدة جهات، فطريقية الأمر بالأمر في مسألتنا أوضح، وداعوية الغرض غير القربي في تلك المسألة أأكد، والنص الدال على الصحة هنا موجود بخلاف تلك فقد استدل هناك بعمومات صحة عقد الإجارة ووجوب الوفاء به القابل للتخصيص في العبادات لمثل هذا الإشكال، فالإشكال في مسألتنا شبهة مقابل البديهة بعكس تلك المسألة، فإثارتها هناك أولى.

الثالثة: ظهر أيضاً عدم انحصار الجواب بما ذكره (قدس سره) كما قال. بل توجد أجوبة أخرى صحيحة خصوصاً في مسألتنا.

الرابعة: الوجهان اللذان صحّح بهما زكاة الممتنع فغير تامين؛ لأن تعلق حق الناس المسوِّغ لأخذ الزكاة قهراً لا يصحح الفعل المشروط بالقربة إذا لم يؤت به قربياً، ونية القربة من غير المالك لا تنفع، ولو أفادت صحة الفعل بمعنى حلية المال المأخوذ للزكاة فإنها لا تبرئ ذمة المالك.

فالصحيح في جوابه أن يقال: أن في إخراج الزكاة حكمين أحدهما: وضعي وأثره حلّيّة المال المتبقي وفراغ الذمة من التبعة المالية وهذا لا يحتاج إلى نية القربة ويتحقق تلقائياً بأخذ الجهة المتولية لجبايتها من الممتنع؛ لذا اعتبر الأئمة المعصومون (عليهم السلام) ما تجبيه السلطة منها مجزية.

ص: 141

والآخر تكليفي: وهو امتثال هذا الوجوب وطاعة أمر الله تعالى وما يتعقبه من الثواب وهذا هو المشروط بقصد القربة فالممتنع الذي تؤخذ منه الزكاة لا يكون ممتثلاً لهذا الحكم التكليفي لذا فهو عاصٍ ويستتاب ويطلب منه عدم العود، إلا أن ذمته المالية برأت وحلَّ له التصرف في كل المال المتبقي من جهة الحكم الوضعي.

فما ذكره (قدس سره) من كفاية الأخذ من الممتنع مطلقاً يرد عليه هذا التفصيل.

ملحق: في الأمر بالمستحب والنهي عن المكروه

لا شك في شمول المعروف للمستحبات بل هي الأكثر في مصاديقه، أما شمول المنكر للمكروهات فهذا محل خلاف سنشير إليه إن شاء الله تعالى، والآن بعد أن فرغنامن كون الأمر بالواجب واجباً وكذا النهي عن الحرام، ينقدح السؤال عن حكم الأمر بالمستحب والنهي عن المكروه.

والكلام تارة يكون في الأمر بالمعروف المستحب وأخرى في النهي عن المنكر المكروه، فالبحث في جهتين:-

(الجهة الأولى) الأمر بالمعروف المستحب:

لا إشكال في رجحان الأمر بالمستحب لشمول عنوان المعروف للمستحب كما تقدم؛ فالأمر بالمعروف يشمله، كما أن الأحاديث التي تحث على الدعوة إلى فعل الخير تشمله أيضاً.

قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((بل جميع ما في الكتاب والسنة من المدح على الأمر بالمعروف شامل لهما –أي الواجب والمستحب-)) وقال (قدس سره) في تقريب الاستدلال بها: ((ولو على إرادة مطلق الرجحان من

ص: 142

صيغة الأمر، اللهم إلا أن يقال أن مجاز التخصيص أولى من ذلك، ولكن في رجحانه عليه هنا بحث لقوة إرادة ما يشملهما من المعروف))(1).

بيان: إن هذا الاستدلال بإطلاقات الأمر بالمعروف على استحباب الأمر بالمستحب يواجه إشكالاً عند من خص مادة الأمر بالدلالة على الوجوب فقط؛ لأن الأمر بالمعروف حينئذٍ يدل على وجوب مطلق المعروف وهو يشمل المستحبات ونتيجته وجوب الأمر بالمستحبات وهو خلاف الإجماع المحكي.

وللتخلص منه يقال بأن المعروف المقصود بوجوب الأمر به هي الواجبات خاصة وإن كان العنوان بنفسه شاملاً للمستحبات لكن الضرورة جوّزت هذا المجاز، لكن أدلة الأمر بالمعروف تبقى حينئذٍ دالة على وجوب الأمر بالواجبات فقط ولا تصلح للاستدلال على رجحان الأمر بالمستحب كما يراد في المقام.

فأمامنا تجوّزان (أحدهما) حمل الأمر على مطلق الرجحان ليشمل الوجوب والاستحباب مع أن دلالته على الوجوب بالوضع ليبقى عنوان المعروف على عمومه وتصلح أدلة الأمر بالمعروف حينئذٍ للاستدلال بها على رجحان الأمر بالمستحبات، (ثانيهما) تخصيص المعروف بالواجبات فقط ليبقى الأمر على معناه في خصوص الوجوب.

ومقتضى القواعد تقديم التجوز الثاني لأن دلالة مادة الأمر على الوجوب بالوضع، وشمول المعروف للمستحبات بالإطلاق والأول مقدم على الثاني، أي نتصرف في إطلاق المعروف ونخصّه بالواجبات ونحافظ على دلالة الأمر على الوجوب، ولكن لما كان الإشكال في عموم المعروف للمستحبات هو كالشبهة مقابل البديهة، لذا فالتجوز الأول هو الأرجح هنا في المقام ولو على خلاف القاعدة، ويحمل الأمر على مطلق الرجحان.

ص: 143


1- جواهر الكلام: 21/363.

ومع قطع النظر عن الإجماع المحكي الذي كانت مخالفته سبباً للإشكال، فإن هنا عدة ملاحظات:-

1- إن صاحب الجواهر (قدس سره) ذكر هذا الكلام ضمن الاستدلال للمشهور على أن الأمر بالمندوب مندوب، وهو يدل على أصل الرجحان من دون تعيين في كونه واجباً أو مستحباً.

2- إن حمل الأمر على أصل الرجحان لا يبقي للمستدل ما يثبت به وجوب الأمر والنهي في الواجبات، وإن قلت: إن ذلك يثبت بالقرائن، قلنا: هذا خلاف الظاهر والوجدان وهذا خلاف المجمع عليه من استظهار الوجوب منها من دون تتميمها بأي دليل آخر.

3- إن حمل المعروف على خصوص الواجبات هنا لا تجوّز فيه؛ لأنه وإن كان شاملاً للمستحبات بحسب مدلوله وتعريفه إلا أن تخصيصه هنا بقرينة مادة الأمر الدالة على الوجوب، فالدلالة سياقية تدخل في باب الاستظهارات وليس من باب معاني الألفاظ فلا منافاة بين المعنيين.

4- لا مانع من الالتزام بدلالة الأمر على الوجوب من دون أن يلزم وجوب الأمر بالمستحبات؛ لأن الواجب حينئذٍ الأمر بالمعروف بحسب ما يقتضيه مورده من الوجوب أو الاستحباب كالذي نقوله في وجوب التدين والالتزام بما شرّع الله تبارك وتعالى بأن نلتزم بوجوب الواجب واستحباب المستحب وكراهية المكروه وهنا فلم يلزم من وجوب التدين وجوب متعلقاتها كلها، فيكون ((المراد وجوب الأمر بالمعروف كل على حاله نحو ما قيل في آية «أَوْفُوا بِالعُقُودِ» (المائدة:1) على تقدير تناولها للجائز، فيكون المراد حينئذٍ من الوفاء بها إعطاء كل منها ما يقتضيه))(1).

ص: 144


1- جواهر الكلام: 21/364.

ومثاله من وهب هبة غير لازمة فليس له أن يتصرف بالموهوب من دون إذن الموهوب له، نعم له إبطال العقد ما دام غير لازم ومن ثم التصرف فيها.

ما قيل من أنه يلزم منه استعمال اللفظ في أكثر من معنى فيدل الأمر على الوجوب في الواجبات وعلى الاستحباب في المستحبات.

وأجيب بأنه استعمل في معنى واحد وهو أصل الطلب والرجحان وإنما يتعين في حصة الوجوب والاستحباب بحسب حكم العقل أو الإطلاق –بناءً على المختار في كيفية دلالة الأمر على الوجوب- ((ويترتب عليه: أنه إذا أمر المولى بشيئين، كغسل الجنابة والجمعة، ورخص في ترك أحدهما دون الآخر، حكم بوجوب ما لم يرخص في تركه واستحباب الآخر من دون أن يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى أو يلزم استعمال الأمر في غير الطلب غير المتفصل بفصل، أو غير محدود بحد الشدة والضعف، أو يلزم خلاف ظاهر من الظهورات المتبعة))(1).1- أقول: هذا الجواب غير سديد لأنه إنما يصح في حالة تعدد الموضوع إذ يلزم منه تعدد الأمر كما في المثال المذكور إذ أنه يتحلل إلى (اغتسل للجنابة، واغتسل للجمعة) فيمكن أن تختلف دلالتهما، أما في المقام فالموضوع واحد وهو المعروف ويراد للأمر به أن يدل على الوجوب في الواجبات وعلى الاستحباب في المستحبات وهذا فعلاً من استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

أما الشهيد الثاني (قدس سره) فقد حاول التخلص من الإشكال بأسلوب آخر قال (قدس سره): ((ويستحب الأمر بالمندوب والنهي عن

ص: 145


1- فقه الصادق: 19/352.

المكروه، ولا يدخلان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنهما واجبان في الجملة إجماعاً، وهذان غير واجبين.. وإن أمكن تكلّف دخول المندوب في المعروف؛ لكونه الفعل الحسن المشتمل على وصف زائد على حسنه من غير اعتبار المنع من النقيض. أما النهي عن المكروه فلا يدخل في أحدهما، أما المعروف فظاهر، وأما المنكر فلأنه الفعل القبيح الذي عرف فاعله قبحه أو دل عليه، والمكروه ليس بقبيح))(1). أقول: يرد عليه:-

1- لقد قبّح الشارع المقدس مكروهات كثيرة كالتنخم(2)

في المسجد بل لعن فاعلي بعضها كمن تسبّب في عقوق ولده وربما أخرج بعضهم من ربقة الإسلام كمن لم يهتم بأمور المسلمين وسنشير إليها، ويمكن تعميم الوجه بعدم القول بالفصل.

2- لم يذكر (قدس سره) دليل الاستحباب بعد أن أخرجهما من أدلة الأمر والنهي، وربما اكتفى بأدلة أخرى هي روايات الدلالة على الخير والدعوة إليه كما سنشير إليه في الاستدلال ببعض الروايات الشريفة وتكون هي الدليل على استحباب الأمر بالمستحب والنهي عن المكروه لا إطلاقات الأمر والنهي ونتجنب الإشكال.

وفي ذلك قال صاحب الجواهر (قدس سره) عن روايات الدال على الخير كفاعله ونحوها مما يأتي: ((أن هذه النصوص

ص: 146


1- الروضة البهية: 1/454.
2- التَنَخُّم: إخراج النخامة (البلغم) من الجوف أو الأنف، يتنخَّم، تنخُّمًا، فهو مُتنخِّم، تنخَّم الرَّجُلُ: نخِم، لَفَظَ ما في فمه من بلغم. وهو مكروه في المسجد بمقتضى الروايات.

تشمل الأمر بالمندوبات فتفيد استحبابه من دون الحاجة إلى مطلقات أدلة وجوب الأمر بالمعروف))(1).أقول: يُشم من قوله (قدس سره): ((من دون الحاجة إلى مطلقات..)) أنه يتهرب من ضغط الإشكال الذي يمكن أن يصوَّر بشكلين:

أحدهما: ما تقدم من لزوم حمل الأمر على أصل الرجحان، وسجّلنا ملاحظاتنا عليه.

ثانيهما: أنه بعد التسليم بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه خاص بالواجبات –للإجماع على عدم وجوب الأمر بالمستحبات- ولو بتقييد المعروف للقرينة وهنا قد يتصور عدم مطلوبية الأمر بالمندوب أصلاً ((إذ لا سبيل إلى القول بوجوبه ولا دليل عليه بالخصوص))(2)

بعد إخراجه من أدلة الأمر والنهي.

أقول: سنذكر الدليل الخاص على رجحان الأمر بالمندوب مع وضوح استدلال الأصحاب على رجحان الأمر بالمستحب من نفس أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وعلى أي حال فيوجد للجواب عن حكم الأمر بالمستحب قولان:-

(القول الأول) وهو المشهور، وحاصله أن الأمر بالمستحب مستحب، وحكى في الجواهر تصريح الحلي والديلمي والفاضل والشهيدين وغيرهم به، بل عن المفاتيح الإجماع(3)

عليه؛ لذا قسّموا الأمر بالمعروف إلى قسمين واجب

ص: 147


1- جواهر الكلام: 21/363.
2- فقه الصادق: 19/350.
3- وذهب إليه بعض أعلام المعاصرين كالسيد الحكيم (قدس سره) في منهاج الصالحين: 1/306، مسألة (3) و السيد الخوئي (قدس سره) في منهاج الصالحين: 1/350، المسألة (1271) والسيد الخميني (قدس سره) في تحرير الوسيلة: 1/418، المسألة (1) والسيد السبزواري (قدس سره) في مهذب الأحكام: 15/141، المسألة (1)، والسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في منهج الصالحين: 2/235، المسألة (874).

ومستحب كما في الشرائع، قال المحقق (قدس سره): ((والمعروف ينقسم إلى الواجب والندب فالأمر بالواجب واجب، وبالمندوب مندوب)) وقال أبو الصلاح: ((الأمر والنهي وكلٌّ منهما على ضربين واجب وندب، فما وجب فعله عقلاً أو سمعاً الأمر به واجب، وما ندب إليه فالأمر به مندوب، وما قبح عقلاً أو سمعاً النهي عنه واجب، وما كره منهما النهي عنه مندوب))(1)

واستجوده العلامة (قدس سره).

واستُدل عليه:-

1- بالإجماع.

2- السيرة.

3- وببعض الروايات الشريفة بتقريبات متعددة، (منها) قوله (عليه السلام): (الدال على الخير كفاعله)(2)

و (من أمر بمعروف ونهى عن منكر أو دلّ على خير أو أشار به فهو شريك) و (لا يتكلم الرجل بكلمة حق يؤخذ بها إلا كان له مثل أجر من أخذ بها)(3)، بتقريب المطابقة بين حكم الآمر بالشيء وحكم الشيء نفسه بمقتضى التشبيه.

(ومنها) قوله (عليه السلام): (لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له) بتقريب ((استبعاد أن يكون الآمر بالمندوب التارك له مستحقاً للعن))(4).

4- وبأصالة عدم وجوب الأمر بالمندوب.

ص: 148


1- مختلف الشيعة: 4/474، المسألة (84) عن الكافي في الفقه: 264.
2- الحديث والذي بعده تجده في وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب 1، ح19، 21.
3- المصدر السابق، باب 16، ح4.
4- الفقه: 48/173.

5- ولعل دليلهم الرئيسي على استحباب الأمر بالمستحب هو ما عبّر عنه الشيخ الطوسي بقوله: ((لأن الأمر لا يزيد على المأمور به نفسه))(1)

وهو الوجه الذي استدل به الأصحاب وإن اختلفت عباراتهم كقول صاحب الجواهر (قدس سره): ((من عدم زيادة الفرع على أصله))(2)، فدليلهم اعتباري هو هذه الاستبعاد ((إذ كيف يمكن أن نفس العمل يكون مستحباً والأمر به يكون واجباً، وإن شئت قلت إن الأمر بالمعروف مقدمة لتحققه والمفروض أنه لا إلزام بالنسبة إلى تحققه وحصوله فكيف يمكن أن تكون مقدمته واجبه؟ أضف إلى ذلك: أن الأمر بالشيء أمر بذلك الشيء كما قرر في الأصول، فيلزم أن يكون المستحب واجباً فيلزم الخلف))(3).

أقول: يمكن مناقشة هذه الوجوه جميعاً:-

1- أما الإجماع فإنه محكي مضافاً إلى احتمال كونه مدركياً مستنداً إلى الوجه الاعتباري المتقدم (رقم 5) فقد تكرر في كلماتهم كما نقلنا فلا يكون حجة.

2- وأما السيرة فكذلك، بل لعلها ثابتة في العكس لذا لا يرى العلماء والوعّاظ والدعاة إلى الخير فرقاً في اللزوم بين ما يتعلق بالواجبات أو المستحبات كإقامة الشعائر أو زيارة المعصومين وإحياء أمرهم (عليهم السلام) أو صلاة الجماعة أو الإنفاق في سبيل الله أو قضاء حوائج الناس ونحو ذلك، فيرون أن الدعوة إلى هذه الأمور لازمة بل من صلب عملهم مع أن متعلقاتها مستحبة.

ص: 149


1- الاقتصاد: 238.
2- جواهر الكلام: 21/363.
3- مباني تكملة المنهاج: 7/145.

3- أما روايات الشراكة بين الدال على الخير وفاعله فهي تعني الشراكة في الأجر كما نص عليه بعضها، لا المطابقة من حيث الوجوب والاستحباب، فلا تنافي الوجوب، وأما روايات اللعن فهي أجنبية عن المقام لأن منشأ اللعن هو عدم مطابقة القول للفعل وهي من سيماء المنافقين، وفي حديث عن الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) (إن المنافق ينهى ولا ينتهي، ويأمر بما لا يأتي)(1)

وسيأتي تفصيل الكلام في مبحث الشروط.

4- أما الأصل فالتمسك به فرع عدم وجود الدليل والخصم يدّعي وجوده.

5- وأما زيادة الفرع على الأصل وهو أصل استدلالهم إذ لم يتعقلوا كون الأمر بالمستحب واجباً مع أن حكم الأمر بالشيء فرع حكم ذلك الشيء فلا يزيد عليه، ويمكن رد الاستبعاد بوجوه:

أ- إننا لا نسلّم أن حكم الأمر بالمستحب فرع حكم المستحب وأن ملاكه متفرع عن ملاكه بل هما أمران مستقلان ولكل منهما ملاكه المستقل عن الآخر، كالصدقة التي ملاكها مساعدة المحتاج والفقير وسدّ احتياجهم، وتطهير نفس معطيها، أما ملاك الأمر بها فهو خلق الأمة المتراحمة المتكافلة التي تكون كالجسد الواحد، وكعبادة الصبيان فإن ملاكها التدريب على الطاعة ونحو ذلك أما ملاك أمر الوالدين بها فهو تحملهم مسؤولية تربية الأبناء وخلق المجتمع الصالح، والنتيجة أن الأمر بالشيء ليس فرع الشيء حكماً وملاكاً.

ب- لو تنزلنا وقلنا أن النسبة بين المستحب والأمر به هي كالأصل والفرع، فإننا لا نجد مانعاً من زيادة الفرع على الأصل إلا إذا

ص: 150


1- أصول الكافي: ج2، باب (صفة النفاق)، ح3.

استلزم كون الجزء أعظم من الكل وهو غير متحقق في المقام، فلا مانع من أن يكون الفرع واجباً والأصل مستحباً.

ج-- النقض عليها بوجود موارد يكون فيها حكم الفرع إلزامياً والأصل ليس كذلك كإلزام الآباء بأمر صبيانهم بالصلاة والصوم وهي ليست واجبة عليهم وسيأتي ذكر عدد من تلك الروايات (صفحة 278) في مبحث الشروط، وكالاعتكاف فإنه مستحب إلا أن صوم الثالث فيه واجب، وكوجوب الوفاء بالعقد الجائز كما قربنا (صفحة 144)، وكحرمة الرجوع بالهبة إلى ذي الرحم الذي هو فعل مستحب، وكذا حرمة الرجوع بالوقف مع أنه فعل مستحب.

وقد تقدم (صفحة 132) مطلب يصلح للنقض أيضاً وهو قولهم بوجوب دفع المنكر قبل وقوعه مع أن نيّة فعل المعصية دون تنفيذها ليست معصية إلا أن النهي عنه واجب.والنتيجة عدم تمامية ما استدلوا به على الاستحباب، ونستطيع التقدم خطوة فنقول بأن هذا القول بعيد؛ لأن لازمه جواز ترك الأمر بالمستحبات والدعوة إليها، ومن البعيد التزام الشارع بقبوله على إطلاقه لأنه يلزم منه ضياع الدين وانحلاله.

(القول الثاني) ما احتمله صاحب الجواهر (قدس سره) وغيره من وجوب الأمر بالمستحب قال (قدس سره): ((لولا الإجماع الذي قد عرفت أمكن القول بوجوب الأمر بالمعروف الشامل لهما، وإن لم يجب المندوب على المأمور)).

أقول: دليله واضح وهو إطلاق ما دلّ على وجوب الأمر بالمعروف بعد معلومية كون المستحب من المعروف وعدم تمامية التجوز الذي قيل فيه للاستدلال به على الاستحباب، وقد تقدم (صفحة 143).

ص: 151

مضافاً إلى إطلاقات آيات وروايات أخرى كقوله تعالى: «وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ» (آل عمران:104) والمستحبات من الخير فالدعوة إليها لازمه للأمة، وقوله تعالى: «وَتَوَاصَوا بِالحَقِّ» (الشورى:13) والمستحب من الحق، وقوله تعالى: «اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ» (الأنفال:24) ومقتضى التأسي دعوة الآخرين لما فيه حياتهم. وتقدم توجيه الاستدلال بالسيرة على الوجوب وهي شاملة قطعاً للمستحبات.

وأضاف بعض الأعلام الاستدلال ((بما دلّ على وجوب إقامة الدين في قوله سبحانه: «أنْ أَقِيمُوا الدِينَ» (الشورى:13) ومن المعلوم أن إقامة الدين بالأمر بالمستحبات، فإن أغلب المظاهر الدينية هي المستحبات مثلاً زيارة الرسول والأئمة (عليهم السلام) وبناء المساجد والحسينيات وإقامة المآتم والاحتفالات وصلاة الجماعة وما أشبهها، مما إذا لم تكن لم يكن للدين مظاهر كلها مستحبات وإذا لم تكن لم يكن الدين قائماً فإقامة الدين إنما هي بإقامة هذه الأمور وذلك لا يمكن إلا بالأمر والنهي ولذا نرى أن أهل العلم والوعظ يأمرون بهذه الأمور كأمرهم بالواجبات))(1).

أقول: لا مانع من العمل بمقتضى هذه الوجوه عدا ما قاله صاحب الجواهر (قدس سره) من مخالفة الإجماع، وقد علمنا المناقشة فيه.

ولكن تبقى مشكلتان في القول بوجوب الأمر بالمستحب:-

1- إن القول بالوجوب يلزم منه تحقق المعصية بتركه، ومن البعيد الالتزام بعصيان من لم يأمر غيره بفعل المستحب.

2- إن ذهاب المشهور الذي ادعي عليه الإجماع إلى القول بالاستحباب إذا فهم على أنه استظهار لهؤلاء الأساطين من الأدلة فإنه يعزز هذا الظهور ويضعف استظهار الوجوب، وهو ليس قولاً بالإجماع كما هو واضح فلا يتوهم التنافي مع ما ذكرناه.

ص: 152


1- الفقه للسيد محمد الشيرازي (قدس سره): 48/173-174.

وربما أمكن التصالح بين الطرفين بأن يقال بوجوب الأمر والنهي مطلقاً مع مراعاة حال متعلقه كما تقدم في (صفحة 143).

وسنبين القول المختار في نهاية الجهة الثانية إن شاء الله تعالى.

(الجهة الثانية) في النهي عن المنكر:

وهنا قالوا بالوجوب بلا تفصيل بناءً على أن المنكر لا يطلق إلا على الحرام.

قال الشيخ (قدس سره): ((الأمر بالمعروف ينقسم بانقسام المعروف إلى الواجب والندب، والمنكر كله قبيح، فالنهي عنه واجب لا غير))(1).

لكن من توسع في معنى المنكر ليشمل المكروه قسَّم النهي عنه بنفس التقسيم فالخلاف مبنائي يرجع إلى مرادهم من المصطلح، قال ابن حمزة: ((النهي عن المنكر يتبع المنكر، فإن كان المنكر محظوراً، كان النهي عنه واجباً، وإن كان مكروهاً كان النهي عنه مندوباً)).

وعلّق العلامة (قدس سره): ((وقول الشيخ أحق؛ لأن المنكر هو كل فعل قبيح عرف فاعله قبحه أو دُلَّ عليه، فإن فسّر المنكر بغير ذلك أمكن، لكن يجب أن يفيدنا أولاً تصوّره وما قصده)).

ونفى في التذكرة الخلاف عن اختصاص المنكر بالحرام، قال (قدس سره): ((وأما المنكر فكله حرام، فالنهي عنه واجب، ولا خلاف في ذلك))(2).

واستنكره غيره أيضاً قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((إن إطلاق المنكر على المكروه غير معروف))(3).

ص: 153


1- مختلف الشيعة: 4/474 عن الاقتصاد: 148 والجمل والعقود: 245.
2- التذكرة: 9/439.
3- جواهر الكلام: 21/365.

أقول: يمكن توسيع معنى المنكر إلى غير المحرمات الشرعية بتقريبين:-

1- بناءً على ما وسّعناه من معنى المعروف والمنكر ليشمل ما قبّحه العقل والعقلاء من دون معارض شرعي.

وجود أحاديث شريفة دلّت على استنكار أمور ليست من المحرمات الشرعية المتعارفة، بل ورد فيها لعن فاعلها كلعن من لا يعين ولده على برّه(1) أو آكل زاده وحده أو راكب الطريق وحده(2)، ودلّت بعضها على إخراجه من ربقة الإسلام كمن لا يسعى بقضاء حوائج المؤمنين أو الاهتمام بأمور المسلمين، وهذه مشمولة بالنهي عن المنكر.

القول المختار:

هذا كله على مباني الأصحاب ومناهجهم في التفكير والبحث، وهو مبني على ملاحظة الموارد الجزئية للوظيفة كلاً على انفراد، أي ملاحظة هذا المستحب والبحث في حكم الأمر به، وذاك المكروه وحكم النهي عنه.

أما على مبانينا ومنهجنا في البحث فنقول بالوجوب في الجملة ونقرّبه بشكلين:

الأول: بناءً على ما قدمناه في البحث القرآني من أن المطلوب والواجب هو اتصاف الأمة بخاصية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحيث تكون ملكة

ص: 154


1- عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: رحم الله والدين أعانا ولدهما على برهما) وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب أحكام الأولاد، باب 86، ح4. الكافي: 6/48، ح 3.
2- عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وآله ثلاثة: الآكل زاده وحده، والنائم في بيت وحده، والراكب في الفلاة وحده) وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب آداب السفر إلى الحج وغيره، باب 30، ح7، وفي رواية أخرى (كره) بدل (لعن).

عندهم فحينئذٍ يزول الإشكال من أصله؛ لأن الواجب أن تقوم الأمة بوظيفة الأمر والنهي في الواجبات والمستحبات التي بها قوام الدين والأمة المسلمة، والفرد جزء من هذه الأمة فقد لا يجب عليه الأمر بهذا المستحب خاصة وذاك خاصة، لكن عليه في الجملة أن يشارك في حركة المجتمع تجاه الأمر بالمستحبات التي بها قوام الدين كصلوات الجماعة وبناء المساجد وإقامة الشعائر والنهي عن المكروهات المضرة بذلك، بحيث لو تركت الدعوة إلى المستحبات المهمة خصوصاً الاجتماعية فإن الأمة محاسبة على ذلك، وعلى هذا التقريب يكون الوجوب كفائياً أو (اجتماعياً) على مصطلحنا بالمعنى الذي شرحناه.

وانقدح في ذهني مورد شبيه بهذا وهي زيارة البيت الحرام وزيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنه حتى لو فُرض عدم وجوب الحج والعمرة على أحد لعدم استطاعة الجميع مثلاً أو لسقوط الحج والعمرة عنهم جميعاً لأدائهم الفريضة سابقاً فإنه يجب على البعض أن يذهبوا وعلى ولي الأمر إجبارهم على ذلك، ففي رواية من أصحّ الأسانيد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (لو أن الناس تركوا الحج لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك وعلى المقام عنده، ولو تركوا زيارة النبي (صلى الله عليه وآله) لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك وعلى المقام عنده، فإن لم يكن لهم أموال أنفق عليهم من بيت مال المسلمين)(1)

ويعلّل (عليه السلام) ذلك فيرواية أبي بصير عن الإمام الصادق قال (عليه السلام): (لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة)(2)، وهو نفس العنوان الذي أردناه من إقامة الدين.

الثاني: إنه لا يجب عليه الأمر بالمستحبات كلها على نحو الأمر بالواجبات، وإنما يجب عليه في الجملة بمقدار إقامة الدين وحفظ كيان الأمة

ص: 155


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب وجوب الحج وشرائطه، باب 5، ح 2.
2- المصدر، باب 4، ح5.

الإسلامية ولازمه أنه يحرم عليه ترك الأمر بالمستحبات كلياً، فيكون الوجوب هنا على نحو الوجوب التخييري كخصال الكفارة لا تعيينياً كالأمر بالواجبات.

ونستطيع التوافق مع المشهور بأن نعبِّر عن المختار باستحباب الأمر بالمستحبات إلا التي بها قوام الدين فيجب، ويؤدي نفس ما أردناه بعد تخصيص قول المشهور بذلك، لكن التعبير ب-(يجب كذا في الموارد الفلانية) محرك أكثر من التعبير ب-(يستحب إلا في الموارد الفلانية فيجب).

وهذه الأفكار من تطبيقات المنهج القرآني وخطوة عملية على طريق إصلاح مناهج التفكير في الحوزة العلمية الشريفة.

فائدة: قد يحرم ما يظن البعض أنه أداء وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لفقدان شرط من شروط وجوبها كما لو نهى عن المنكر بالضرب وكان يمكن رفعه بالزجر القولي فتصبح الممارسة على خلاف القاعدة والأصل؛ أو لعنوان ثانوي يطرأ عليها كالتوهين والتحقير في ظرف عدم الوجوب ونحو ذلك، وحينئذٍ لا تصبح أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، بل هو المنكر بعينه، وسنذكر جملة من تلك الموارد في نهاية الفصل الخاص ببحث الشروط لأنه أليق.

ص: 156

الفصل الثالث: في نوع الوجوب

اشارة

انتهينا في الفصل السابق من كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً بلا خلاف ولا إشكال، وفي هذا الفصل نبحث في نوع الوجوب، هل هو عيني أم كفائي، ونتممه بالبحث في كونه تعبدياً أو توصلياً.

وسيظهر من البحث أن هذا التقسيم إلى العينية والكفائية ليس من تقسيمات الوجوب –كما هو المشهور- بل هو من تقسيمات الواجب، وتترتب على ذلك نتائج مهمة بفضل الله تبارك وتعالى.

قال العلامة (قدس سره) في المختلف: ((إنهما هل يجبان على الأعيان أو على الكفاية؟ فقال الشيخ: أنهما من فروض الكفاية، وقال قوم: هما من فروض الأعيان، قال: وهو الأقوى عندي. وبه قال ابن حمزة.

وقال السيد المرتضى: أنهما من فروض الكفاية، وهو اختيار أبي الصلاح وابن إدريس.

وقال ابن البرّاج: أنهما فرضان من فرائض الإسلام، وربما انتهت الحال في ذلك إلى أن يكون فرضهما فرضاً على الكفاية، وربما لم ينته إلى ذلك، فيكون فرضاً على الأعيان.

وفسّر الأول: بأن يكفي في الانتهاء عن المنكر وإيقاع المعروف أمر بعض المكلفين ونهيه، والثاني: بأن لا يكفي إلا الجميع فيجب عامّاً.

وهذا الذي اختاره مذهب السيد بعينه، لأن واجب الكفاية هو الذي إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وإن لم يقم به البعض وجب على الجميع))(1).

ص: 157


1- مختلف الشيعة: 4/472-473.

أقول: تعريف العلامة (قدس سره) للواجب الكفائي في ذيل كلامه هو حاصل ما سيأتي في تفسير الوجوب الكفائي بأنه ملقى في عهدة الجميع على نحو العموم الاستغراقي وأنها وجوبات متعددة بعدد المكلفين إلا أن كلاً منها مشروط بعدم إتيان الغير، وستأتي مناقشته إن شاء الله تعالى، لكنه لا يتوافق مع ما فسَّر به مراد ابن البرّاج؛ لأن العلامة فسَّر التفصيل بلحاظ امتثال من يتحقق بفعلهم الغرض وعدمه فإذا امتثل البعض سقط عن الباقين، وإن لم يقم به البعض وجب على الجميع، بينما ظاهر ما شرح به مراد ابن البراج أنه بلحاظ موارد المعروف والمنكر، فإن بعضها مما يكفي في امتثاله قيامالبعض، ومنها ما لا يكون كذلك إلا بامتثال الجميع، ولعله لهذا حكي عن الشيخ البهائي قوله: ((فقول العلامة .. محل نظر))(1).

وقد يكون مراده التفصيل بلحاظ المراتب كما يأتي إن شاء الله تعالى، فيكون قول ابن البراج التفصيل بأحد هذين اللحاظين، وهو قول ثالث في المسألة، لكنه يمكن أن يؤول إلى الوجوب العيني؛ لأن اتصاف وجوب بعض الموارد أو بعض المراتب بالعينية كافٍ للقول بأن وجوب هذه الفريضة عيني في الجملة، وسيأتي (صفحة 215) نقل كلام ابن البراج وتقريبه على الكفائية.

واختار القول بالوجوب الكفائي العلامة وحكي عن ((الشهيدين والمحقق الطوسي في التجريد والأردبيلي والخراساني وغيرهم على ما حكي عن بعضهم)) وممن قال بالوجوب العيني أيضاً المحقق الحلّي و((فخر الإسلام والشهيد في غاية المراد والسيوري على ما حكى بعضهم))(2).

وفي مقابل هذين القولين المشهورين يمكن تصور أقوال بالتفصيل (تارة) بلحاظ مراتب هذه الوظيفة، فقد احتمل صاحب الجواهر (قدس سره) التفصيل

ص: 158


1- فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 186 عن الأربعون حديثاً، 215.
2- جواهر الكلام: 21/359.

بين مرتبة الإنكار القلبي فتجب عيناً قطعاً، والإنكار باليد فيقطع بعدم العينية، أما الإنكار اللساني فلم يقطع فيه بأحدهما(1).

(وتارةً) بلحاظ موارد هذه الفريضة، فبعض مواردها يكون وجوبه عينياً، وبعضها يكون كفائياً، وسيأتي تفصيله بإذن الله تعالى.

حقيقة الوجوب الكفائي:

وقبل البحث في نوع وجوب هذه الفريضة، ينبغي التعرف على حقيقة الوجوب الكفائي لنتأكد من انطباق الواجب الكفائي على هذه الفريضة بكل خصائصه، فقد ذكروا(2)

أن للواجب الكفائي خصائص تميّزه عن الواجب العيني، وهي مسلّمة ومشهورة، فقهياً وأصولياً:-

1- إذا امتثله البعض على النحو الذي يتحقق به غرض المولى سقط عن الآخرين.

2- لو تركه الجميع عصوا جميعاً وأثموا واستحقوا العقوبة مع تنجّز موجبها.

3- إنه لو كان مما يقبل التعدد والتكثر –كالصلاة على الميت- وامتثل أكثر من واحد عُدُّوا جميعاً ممتثلين ويثابون عليه، وإن كان مما لا يقبل التكثر فحينئذٍ لو تعاون جمعٌ على إنجازه حصل بهم الامتثال وأجزأهم.وسنتحقق في المباحث الآتية من كون هذه خصائص للواجب الكفائي تميّزه عن الواجب العيني.

مضافاً إلى وجود تساؤل وإشكالات كبروية على أصل الوجوب الكفائي.

ص: 159


1- جواهر الكلام: 21/362.
2- بحوث في علم الأصول: 2/424، المباحث الأصولية: 5/203.

أما التساؤل فحاصله: أن الطلب نسبة متقوّمة بثلاثة أركان: الطالب والمطلوب والمطلوب منه، وهنا الأولان محددان، فالطالب هو الشارع المقدس، والمطلوب هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويسمى (المتعلق)، أما المطلوب منه فهو هنا غير معروف أو غير محدد أو غير موجود أصلاً على بعض الأقوال؛ لأن من خصائص الواجب الكفائي سقوطه إذا تحقق الامتثال بالبعض، وهذا البعض غير محدد، بخلاف الواجب العيني فإنه متعلق بذمة كل فرد على نحو العموم الاستغراقي.

وبتعبير آخر: إن الأمر الذي يصدر من المولى حقيقته إنشاء يراد منه بعث وتحريك المأمور نحو المأمور به وإيجاد الداعي لديه للتحرك وإلقاء عهدة التكليف عليه ونحوها من المعاني، وعلى هذا فلا بد من وجود المأمور لتصدق حقيقة الأمر، وهنا يثار التساؤل على الواجب الكفائي بأنه من هو المأمور؟.

ونفس التساؤل يثار في الواجب التخييري، ولكن التساؤل هناك عن المأمور به لتعدد خياراته.

وأما الإشكالات فقد أشكل على الواجب الكفائي من جهة كيفية تصور سقوط الوجوب عن الآخرين إذا قام به البعض، مع أن إطلاق الوجوب يقتضي عدم سقوطه عن الفرد إلا بامتثاله هو.

ويُشكل أيضاً من جهة استحقاق الجميع الإثم لو لم يمتثل أحد، مع أن الملاك واحد والغرض واحد، وهو يستدعي جعلاً واحداً وخطاباً واحداً.

ويُشكل أيضاً من جهة عدم استحقاق الإثم والعقوبة بمجرد الترك إلا إذا ترك الجميع، أي أن الموجب للإثم والعقوبة هو الترك المطلق لا مطلق الترك مع أن مقتضى كون الفعل واجباً حرمة تركه مطلقاً.

فهذه الإشكالات يجب حلها من خلال تفسير صحيح للوجوب الكفائي.

ص: 160

وينبغي الالتفات إلى أنه إذا أريد بالإشكال هنا ما يؤدي إلى استحالة الوجوب الكفائي لعدم تمامية أركانه، فهذا مما يكذّبه الواقع لوجود الواجبات الكفائية، والوقوع أدلّ دليل على الإمكان، وإن أريد فهم وتصور حقيقة الوجوب الكفائي كمقدمة لمعرفة بعض الآثار المترتبة على ذلك فهو بحث له معنى.

وقد قيل في تصوير الوجوب الكفائي وحقيقته عدة وجوه، وسنجد من خلالها ومما أجيبت به أن أذهان الأصوليين انطلقت من واجب كفائي محدد- وهو الصلاة على الميت ودفنه كما صرّحوا به في أمثلتهم- وبنوا عليه رؤاهم ثم عمموها إلى كل الواجبات الكفائية، مع اختلافها وتنوعها، وهذا أحد أسباب عدم صحة جملة من التفاسير الآتية.

وعلى أي حال فالوجوه التي قيلت لتفسير الوجوب الكفائي هي:(التفسير الأول) بأن ((لا يكون للوجوب الكفائي إلا طرف واحد وهو المكلف به المتعلق به الإيجاب، وأما بلحاظ المكلفين فلا طرف له أصلاً فهو إيجاب للفعل دون أن يلحظ في جعله مكلف أصلاً))(1).

وفيه:-

1- فقده لأحد مقومات الطلب وهو المطلوب منه، فلا طلب حقيقة بدونه؛ لأنه نسبة لا تتقوم إلا بأطرافها، فإذا لم يكن هناك مكلف فمن هو المخاطب بالوجوب، وفي عهدة مَنْ يُلقى الواجب؟.

2- ولو تنزّلنا وقلنا بإمكانه ولو بتقريب إمكان تصوره على مستوى مبادئ الحكم كمرتبة الملاك أو الحب والبغض أو الإرادة فإنه في هذه المراتب يمكن تصوره لكفاية وجود الحب والمحبوب، أو المريد والمراد ولا مدخلية

ص: 161


1- بحوث في علم الأصول: 2/423، وهي تقريرات السيد محمود الهاشمي لبحوث السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره).

لمن يتحقق به المراد، وحينئذٍ يقال بكفاية هذا التحقق لألقائه في عهدة المكلفين واشتغال ذممهم به لحكم العقل بوجوب طاعة المولى في هذه المرتبة. أقول: هذا التقريب تصور نظري فقط لأن خطابات الواجب الكفائي موجودة-ومنها ما نحن فيه- فنقل الكلام إلى مبادئ الحكم لا موضوع له، مضافاً إلى عدم تمامية كبرى حكم العقل، للعجز عن اكتشاف إرادة المولى وحبّه وبغضه قبل أن يبرزه بالخطاب «تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ» (المائدة:116)، ولو تنزّلنا فإنه غير كافٍ لعدم وجوب الطاعة حتى يصدر الخطاب فلا وجه لاشتغال ذمم المكلفين به.

3- عدم توجّه التكليف لأي أحد، يعني عدم إلزام أي مكلف بالتحرك نحو الامتثال، وبالتالي عدم امتثال أي واجب كفائي، وفيه مخالفة قطعية للوجوب نظير إجراء أصالة البراءة في أطراف العلم الإجمالي.

نعم إذا أرجعنا هذا الوجه إلى عدم وجود طرف بعينه للوجوب أي لم يخاطب به فرد معين ولا غير معين، وإنما ألقي التكليف في عهدة الجميع لينجز، أي أن مطلوب المولى تحقق الواجب الكفائي خارجاً من دون تعلق غرضه بصدوره من أحد أو جماعة بأعيانهم، فهذا التفسير يرجع إلى بعض الوجوه الآتية.

(التفسير الثاني) ((أن يقال إن التكليف متوجّه إلى واحد معين عند الله، ولكنه يسقط عنه بفعل غيره لفرض أن الغرض واحد فإذا حصل في الخارج فلا محالة يسقط الأمر))(1).

ص: 162


1- محاضرات في أصول الفقه: 45/237 من الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سره).

وفيه:-

1- إنه مخالف لظواهر الأدلة من كون التكليف موجهاً إلى عدد غير معين خصوصاً فيما نحن فيه –أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر-.

2- لما كان كل مكلف شاكاً في كونه الفرد المعين فيحصل عنده شك في أصل ثبوت التكليف عليه، ويكون مجرى لأصالة البراءة، والعلم الإجمالي بتوجه التكليف إما إليه أو إلى غيره لا أثر له، لأن تكليف الغير ليس داخلاً في عهدته، فلا يكون هذا علماً إجمالياً منجزاً، بل هو احتمال وشك بدوي تجري فيه أصالة البراءة، وحينئذٍ تكون خطابات الوجوب الكفائي غير منجّزة للتكليف، ويكون صدورها لغواً وهو قبيح.

3- إن افتراض توجّه التكليف إلى الواحد المعين ترجيح بلا مرجح؛ لأن كل المكلفين متساوو النسبة إزاء الواجب.

4- منافاته لبعض خصائص الوجوب الكفائي، كاستحقاق الجميع العقوبة إذا لم يمتثل أحد، واستحقاق الفاعلين الثواب وإن تعددوا فكيف يفسّرهما هذا الوجه إذا كان المخاطب بالتكليف واحد؟.

5- ما قاله السيد الخوئي (قدس سره) من أنه ((لو كان الأمر كذلك فلا معنى لسقوط الواجب عنه بفعل غيره، فإنه على خلاف القاعدة فيحتاج إلى دليل، وإذا لم يكن دليل فمقتضى القاعدة عدم السقوط. ودعوى أن الدليل في المقام موجود، لفرض أن التكليف يسقط بإتيان بعض أفراد المكلف وإن كانت صحيحة من هذه الناحية، إلا أنه من المعلوم أن ذلك من ناحية أن التكليف متوجّه إليه ويعمّه، ولذا يستحق الثواب عليه، لا من ناحية أنه يوجب سقوط التكليف عن غيره كما هو

ص: 163

ظاهر))(1).

أقول: يمكن مناقشة جواب السيد الخوئي (قدس سره) بوجوه:-

أ- إن هذا الرد لا يختص بهذا التفسير لأنه إشكال على أصل الوجوب الكفائي، باعتبار أن مقتضى إطلاق الوجوب العينية، فسقوطه عن البعض بفعل الغير على خلاف القاعدة ويحتاج إلى دليل.

نعم يمكن توجيه كلامه (قدس سره) بأنه بناءً على هذا التفسير يكون الوجوب على هذا الواحد المعيَّن عند الله تعالى عينياً، وسقوطه بفعل الغير يحتاج إلى دليل والمفروض عدمه.ب- يمكن القول أن ما أورده (قدس سره) فرض غير متصور بناءً على أن هذا الواحد المعيَّن هو أول ممتثل يتحقق الغرض بفعله، وأوّليّته كاشفة عن كونه المعيَّن المخاطب بالتكليف، فلا يوجد فاعل قبله حتى يصحّ فرض كلام السيد الخوئي (قدس سره).

ج- إن سقوط الوجوب بفعل الغير متصوَّر من جهة انتفاء الموضوع كما لو دُفن الميت، وزوال الموضوع أحد مسقطات التكليف بغضّ النظر عن خصائص الوجوب الكفائي.

فائدة: عرض السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) هذا الوجه في بحثه الشريف (محاضرة 24/ع2/1417) واكتفى بالرد عليه بأنه غير محتمل إطلاقاً، فأضفت له بعد الدرس رداً آخر وهو أنه بناءً عليه لا يستحق الجميع الإثم بل الفرد المعين فقط وهو مخالف لإحدى خصائص الواجب الكفائي، وقد أيّد (قدس سره) ذلك وقال إنه فاته ذكر ذلك، إلا أنه لم يدوّنه في منهج الأصول

ص: 164


1- محاضرات في أصول الفقه: 45/237، وتبنّاه أيضاً الشيخ الفياض في المباحث الأصولية: 3/213.

هنا (ج4/206) لكنه أضافه بعد ذلك إلى مناقشته لمختار السيد الخوئي (قدس سره) بأن المكلف هو الفرد غير المعيَّن (منهج الأصول:4/221) وهناك أشكلت عليه بإمكان استحقاق الجميع للعقوبة من باب التجري أو قلة المبالاة بأمر الله تعالى بعد احتمال كلٍّ منهم أنه هو المقصود، ولا يجري الأصل المؤمِّن في حقهم جميعاً لوجود العلم الإجمالي وقد أشرنا إليه في النقطة (3) (صفحة 162) وسنبيّنه إن شاء الله تعالى، فسلّم (قدس سره) الإشكال وقال لكننا نتكلم في عقوبة العصيان، فأجبت أنها عقوبة في الجملة، وهو كافٍ (محاضرة 2/ج1/1417).

وعلى أي حال فقد يقال في تعديل هذا الوجه: إننا نفترض ((أن يكون موضوعه هو الواحد المعيّن مطلقاً حتى عند المكلفين)) أي الواحد المعيَّن أعم من أن يكون عند الله تعالى أو عند المكلفين.

وأجيب بأنه ((يلزم التخصيص بلا مخصص والترجيح من غير مرجّح، فإن نسبة ذلك الغرض الواحد إلى جميع المكلفين على صعيد واحد، وعليه فتخصيص الواحد المعيَّن منهم بتحصيله لا محالة يكون بلا مخصص))(1).

أقول: بناءً على ما افترضناه آنفاً من كون تعيين الواحد يكون بسبقه إلى الامتثال، فليس إذن هو تخصيص بلا مخصص؛ لأن المخصِّص هو السبق. وليس هو من الترجيح بلا مرجح؛ لوجود المرجّح وهو استحقاق الألطاف الإلهية الخاصة أكثر من غيره، ولو كان المورد من الترجيح بلا مرجّ-ح لأحد الفردين أو الأفراد فإننا لا نجد إشكالاً فيه؛ لأن المرجح هو نفس الحاجة إلى الترجيح وإرادة تحقق الفعل، كأحد قرصي الجائع وطريقي الهارب، مضافاً إلى أننا نتحدث عن طاعات وأوامر إلهية يُرجىمنها الثواب والقرب من الله تعالى وقد أمرنا باستباقها والمسارعة إليها، فالمرجح هو الاستحقاق الذي يكشف عنه السبق،

ص: 165


1- محاضرات في أصول الفقه: 45/238.

قال تعالى: «فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ» (البقرة:148) وقال تعالى: «إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ» (الأنبياء:90) وقال تعالى: «وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَ-ئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ» (آل عمران:114) وقال تعالى: «أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ» (المؤمنون:61) وقال تعالى: «وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ» (آل عمران:133).

ولا يمكن إجراء البراءة هنا –بعد أن افترضنا أن المعيَّن هو الفاعل الأول- للعلم الإجمالي بوجوب تحقق الفعل خارجاً، واستحقاق الجميع للعقوبة لو ترك، رغم أن الشبهة غير محصورة هنا على طبق تعريفاتهم لها وعلى طبق نظرية الاحتمالات، إلا أن العلم الإجمالي يدعو الجميع إلى التحرك والانبعاث هنا، وهذا نقض عليهم.

نعم يرد على هذا التقريب مخالفته لظواهر النصوص فإنها تخاطب عموم المكلفين، مضافاً إلى إشكالية مخالفته لخصائص الوجوب الكفائي كما قرّبنا.

ولإنصاف القائل بهذا التقريب أقول: لعل مراده أحد الوجوه الآتية من توجه الخطاب إلى الجميع وتعيّنه بأحدهم –وهو الفاعل- بالامتثال كما قرّبنا، ولكن الإشكال يبقى من جهة كون هذا التفسير ناظراً إلى حال الامتثال والمفروض أن البحث في مرتبة الخطاب، وهذا الخلط بين المرتبتين منشأ آخر لعدم صحة التفاسير المعروضة للوجوب الكفائي.

ومن لطيف ما نستشهد به على هذا التقريب وظيفة النبوة والإمامة فإنها لطف من الله تعالى بعباده يختاره لمن يشاء بفضله، والخلق مكلفون بالاستعداد لحملها على نحو الوجوب الكفائي، وتعيّنت عند الله تعالى ببعض عباده لسبقهم إلى الإقرار في الربوبية كما ورد في روايات كثيرة في تفسير قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ

ص: 166

قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ» (الأعراف:172) ومن تلك الروايات ما في الكافي بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن بعض قريش قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): بأي شيء سبقت الأنبياء وأنت بُعثت آخرهم وخاتمهم؟ فقال: إني كنت أول من آمن بربي وأول من أجاب حين أخذ الله ميثاق النبيين وأشهدهم على أنفسهم: ألستُ بربكم؟ قالوا: بلى، فكنت أنا أوّل نبي قال بلى، فسبقتهم بالإقرار بالله)(1).(التفسير الثالث) ما اختاره السيد الخوئي (قدس سره) ووصفه بأنه الصحيح، وحاصله: ((أن يكون التكليف متوجهاً إلى أحد المكلفين لا بعينه المعبر عنه بصرف الوجود))

أقول: أي أن الوجوب متعلق بالمكلفين على نحو العموم البدلي أي بأحدهم على نحو البدل كما لو قال: (أكرم عالماً) لا على التعيين، كما سيوضّح ذلك، وهذا الوجه حكاه صاحب الجواهر، قال (قدس سره): ((ما ذهب إليه غيرنا من أن المخاطب في الكفائي البعض المبهم))(2).

ثم قال (قدس سره) في بيانه: ((إن غرض المولى كما يتعلق تارة بصرف وجود الطبيعة، وأخرى بمطلق وجودها، كذلك يتعلق تارة بصدوره عن جميع المكلفين وأخرى بصدوره عن صرف وجودهم، فعلى الأول: الواجب عيني فلا يسقط عن بعض بفعل بعض آخر،... وهكذا، وعلى الثاني: فالواجب كفائي، بمعنى: أنه واجب على أحد المكلفين لا بعينه، المنطبق على كل واحد واحد منهم، ويسقط بفعل بعض عن الباقي، وهذا واقع في العرف والشرع، ولا مانع منه أصلاً.

ص: 167


1- الكافي: 1/366، ح6، راجع تفسير البرهان: 4/133.
2- جواهر الكلام: 21/361.

أما في العرف فلأنه لا مانع من أن يأمر المولى أحد عبيده أو خدّامه بإيجاد فعل ما في الخارج من دون أن يتعلق غرضه بصدور هذا الفعل من خصوص هذا وذاك، ولذا فأي واحد منهم أتى به وأوجده فقد حصل الغرض وسقط الأمر لا محالة، كما إذا أمر أحدهم بإتيان ماء – مثلاً - ليشربه فإنه من المعلوم أن أي واحد منهم قام به فقد وفى بغرض المولى.

وأما في الشرع فأيضاً كذلك، ضرورة أنه لا مانع من أن يأمر الشارع المكلفين بإيجاد فعل في الخارج كدفن الميت – مثلاً - أو كفنه أو ما شاكل ذلك، من دون أن يتعلق غرضه بصدوره عن خصوص واحد منهم، بل المطلوب وجوده في الخارج من أي واحد منهم كان، فإن نسبة ذلك الغرض الواحد إلى كل من المكلفين على السوية.

فعندئذ تخصيص الواحد المعين منهم بتحصيل ذلك الغرض خارجاً بلا مخصص ومرجح، وتخصيص المجموع منهم بتحصيل ذلك مع أنه بلا مقتض وموجب باطل بالضرورة كما عرفت، وتخصيص الجميع بذلك على نحو العموم الاستغراقي أيضاً بلا مقتض وموجب، إذ بعد كون الغرض واحداً يحصل بفعل واحد منهم، فوجوب تحصيله على الجميع – لا محالة - يكون بلا مقتض وسبب، فإذا يتعين وجوبه على الواحد لا بعينه المعبر عنه بصرف الوجود.

ويترتب على ذلك أنه لو أتى به بعض فقد حصل الغرض – لا محالة - وسقط الأمر، لفرض أن صرف الوجود يتحقق بأول الوجود ولو أتى به جميعهم، كما إذا صلوا على الميت – مثلاً - دفعة واحدة كان الجميع مستحقاً للثواب، لفرض أن صرف الوجود في هذا الفرض يتحقق بوجود الجميع دون خصوص وجود هذا أو ذاك، وأما لو تركه الجميع لكان كل منهم مستحقاً للعقاب، فإن صرف الوجود يصدق على وجود كل منهم من ناحية، والمفروض أن كلاً منهم قادر على إتيانه من ناحية أخرى.

ص: 168

فالنتيجة: هي أن الواجب الكفائي ثابت في اعتبار الشارع على ذمة واحد من المكلفين لا بعينه، الصادق على هذا وذاك، نظير ما ذكرناه في بحث الواجب التخييري: من أن الواجب أحدهما لا بعينه المنطبق على هذا الفرد أو ذاك، لا خصوص أحدهما المعين، فلا فرق بين الواجب التخييري والواجب الكفائي إلا من ناحية أن الواحد لا بعينه في الواجب التخييري متعلق الحكم، وفي الواجب الكفائي موضوعه))(1).

أقول: يرد عليه شكلاً ومضموناً.

أما (شكلاً) –أي الصياغة والتعبير- ففيه:-

1- قوله: ((متوجهاً إلى أحد المكلفين)) وهذا بلحاظ المثال الذي ينطلقون منه للواجب الكفائي كتغسيل الميت أو دفنه، لكنه لا يصح في واجبات كفائية أخرى كالمسألة محل البحث وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

2- الالتباس في عباراته (قدس سره)، ففي أول التفسير جعل غرض الوجوب الكفائي متعلقاً بصدوره من صرف الوجود بالنسبة للمكلفين، وقال لاحقاً أن الغرض يتعلق بصرف وجود الفعل نفسه حين قال: ((لفرض أن صرف الوجود يتحقق بأول الوجود ولو أتى به جميعهم))، وهذا الثاني هو الصحيح؛ لأن مطلوب المولى تحقق الواجب الكفائي خارجاً من دون لحاظ مكلف أو مكلفين بأعيانهم، وهو الذي يناسب كلامه في المثال الشرعي الذي ذكره (قدس سره).

3- قوله (قدس سره): ((فعندئذٍ تخصيص الواحد المعيَّن ..)) وما بعده، هو عرض للتفاسير الأخرى وردَّها، وقد ناقشنا الأول منها وسنناقش الباقي

ص: 169


1- محاضرات في أصول الفقه: 45/240-242.

بإذن الله تعالى، وسيظهر أن إلقاء عهدة الواجب في ذمة الجميع ليس بلا مقتضٍ وسبب.

4- قوله (قدس سره): ((لو أتى به بعضٌ فقد حصل الغرض)) يمكن التسليم به في بعض موارد الوجوب الكفائي كدفن الميت،وتغسيله، أما غيره كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه لا يمكن إحراز تحقق الغرض، لعدم الإحاطة به إما من جهة عدم معرفة جميع الأغراض أو لسعتها وتنوعها، ففي مسألتنا يمكن تحديد أغراض عديدة لهذه الفريضة، منها ما في الآية الشريفة «مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» (الأعراف: 164) وفي الروايات الشريفة المتقدمة، أنه لإقامة الشريعة (ح2) أو لكي تكون من أهله (ح3) أو لمضاعفة الثواب (ح5، 21) أو لتحصيل الآثار المباركة في (ح7، 11، 13، 14، 23) مثلاً أو لتحصيل المنزلة العظيمة عند الله تعالى (ح16) أو لإظهار الغضب لله تعالى والرفض لمعصيته كما في (ح27، 28) أو لما قال (عليه السلام) في (ح45) عن تاركهما (أنه يذلّ بعمله دين الله ويقتدي به أهل عداوة الله) ونحو ذلك مما سنفصّله إن شاء الله تعالى، فكيف يمكن القطع بتحقق الغرض حتى يسقط التكليف عن الآخرين؟.

5- المثالان العرفي والشرعي اللذان ذكرهما هما مثالان لأصل الواجب الكفائي لا للتصوير الذي قرّبه (قدس سره)، ويمكن لكل الوجوه الأخرى أن تذكرهما فلا يعززان تفسيره كما أراد (قدس سره). مع ملاحظات أخرى على بعض فقرات النص سنعرضها ونناقشها بعد الانتهاء من مناقشة الوجه بإذن الله تعالى.

وأما (مضموناً) –أي نفس التفسير- فيرد عليه:-

ص: 170

1- إنه مخالف لظواهر الآيات والروايات في توجيه الخطاب إلى الجميع وليس إلى واحد كما يفترض التقريب، بل مخالف لصريحها كقوله تعالى: «وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ» (آل عمران:104).

2- إمكان إجراء أصالة البراءة في حق كل مكلف لأن احتمال كونه هو الواحد غير المعين من دون عموم المكلفين من الشبهة غير محصورة بناءً على تعريفاتهم بل تقرب قيمته من الصفر، فلا يكون العلم الإجمالي منجَّزاً فيسقط عنه التكليف، وتكون هذه الخطابات لغواً لأنها لا تنجّز تكليفاً، وإن قال بتنجّزه فهذا نقض على تعريفهم للشبهة غير المحصورة.

3- إنه لا يفسِّر لنا جملة من خصائص الواجب الكفائي، فلماذا يؤثم الجميع إذا لم يقم به أحد ما دام المخاطب(1)

واحداً؟ وبأي وجه يصح الامتثال من المتعددين، كما لو صلّى مجموعة على الميت، إذا كان المخاطب واحداً؟ إذ مع عدم وجود الأمر لغير الواحد غير المعين لا يصح التقرب بالعمل إلى الله تعالى، وما ذكره من تقريب حصول الامتثال من الجميع بقوله: ((ويترتب على ذلك ..)) ينافي مضمون الوجه الذي ذكره (صفحة 167) وفيه الالتباس الذي ذكرناه (صفحة 163) حيث قرّب التفسير بصرف وجود المكلف وفي هذا المقطع استدل بتحقق صرف وجود الفعل.

4- إنه ينافي ما ذكره في الإيراد على الوجه السابق ونقلنا كلامه (صفحة 163) واعترف فيه بتوجّه التكليف لأكثر من واحد بقوله: ((إن التكليف متوجه إليه –أي غير الواحد المعين- ويعمّه)).

5- إن الغرض من إنشاء الأمر والطلب هو إشغال ذمة المكلف، وإلقاء التكليف في عهدته، وتحريكه نحو تحقيق المطلوب، والمفروض في هذا

ص: 171


1- راجع الأطروحة التي أوردناها في الفائدة (صفحة 164).

التفسير أنه مكلف واحد غير معين، وهذا لا يجعل الأمر يرجع إلى معنى صحيح، لأن احتمالات المراد من الواحد لا بعينه عديدة.

فإن أريد به إشغال ذمة الواحد المصداقي وهو الفرد المردد في الخارج، فقد أجمعوا(1) في جوابه: على أن الفرد المردد مستحيل لا وجود له حتى يمكن تصور إشغال ذمته، بتقريب أن الوجود مساوق للوحدة والتعيّن والتشخّص، والمساوقة مع الواقعية الواحدة، وما هو مردد –أي هذا أو ذاك- لا واقعية له ولا ثبوت، وما هو موجود في الخارج هو هذا وحده وذاك وحده وليس عندنا وجود هذا أو ذاك لا في الخارج ولا في الذهن.

وإن أريد به العنوان الاعتباري فإنه ليس له ذمة حتى تشتغل به فافتراض تعلق الوجوب به لغو لا معنى له.

وإن أريد به طبيعي المكلف القابل للانطباق على جميع الأفراد بهدف إشغال ذمة كل فرد من المكلفين باعتباره مصداقاً لهذا العنوان، فهذا وإن كان ظاهر بعض كلماته (قدس سره) كقوله (صفحة 169): ((الصادق على هذا وذاك)) واعترف ضمن ردّه على التفسير الثاني

ص: 172


1- بحوث في علم الأصول: 2/428، منهج الأصول: 4/206، المباحث الأصولية: 5/211. فائدة: حينما أورد السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) هذا الجواب على السيد الخوئي في بحثه الشريف (محاضرة بتأريخ 2/ج1/1417) قلت له: إن الفرد المردد له مصاديق يمكن أن تكون موضوعاً للأحكام الشرعية كما لو كان مردداً ضمن مقدار معين على نحو الكلي في المعين فهذا المقدار من التعيّن يصدق معه تحقق الموضوع رغم أنه مردد، كمقدار الزكاة في المال الزكوي قبل عزله، وقد أوجب أحكاماً شرعية كعدم جواز التصرف في تمام المال الزكوي، فهو غير مستحيل ما دامت بعض أفراده غير مستحيلة، فأجاب (قدس سره) بالإيجاب.

بقوله (صفحة 163): ((من ناحية أن التكليف متوجه إليه ويعمه))، وسيأتي (صفحة 212) قوله (قدس سره) في الرسالة العملية بعموم الوجوب.

أقول: إلا أن هذا خلاف ظاهر مراده (قدس سره) من عنوان الوجه من كون المكلف واحداً؛ لانحلال الوجوب إلى وجوبات بعدد أفراد المكلّفين، وهو وجه آخر مستقل غير ما ذكره (قدس سره) فإنه صرّح بأن المكلف واحد لا بعينه.

وإن قيل أن المراد إشغال ذمة أحدهم تعييناً، فهذا مخالف لفرضه (قدس سره) من كونه غير معين، وهو ترجيح بلا مرجح مضافاً إلى أنه الوجه الثاني المتقدم، وقد ناقشناه.

6- أما تنظيره بالواجب التخييري في ذيل كلامه (قدس سره) وأنهما معاً أخذا على نحو الواحد لا بعينه غير أن المأخوذ في الوجوب التخييري متعلق الحكم وفي الكفائي موضوعه، فهذا لا ينفعه في تصحيح التفسير وهو قياس مع الفارق؛ لأن المطلوب في متعلق الوجوب –مطلقاً- هو تحققه في الخارج بإنشاء الوجوب لتحريك المكلف نحو إيجاده، وإيجاد الداعي نحو أحد فعلين أو أكثر –كما هو مقتضى الوجوب التخييري- معقول ولا استحالة فيه، أما المطلوب في موضوع الوجوب –وهو المكلف- فهو إشغال الذمة وإلقاء العهدة، وقد علمنا آنفاً أن توجيهه إلى فرد مردد –كما هو مقتضى هذا الوجه- لا يرجع إلى معنى صحيح. هذا ثبوتاً، والفرق واضح إثباتاً أيضاً لاختلاف أدلة الوجوب التخييري عن الكفائي، فالأولى تدل على أن الواجب هو أحد البدائل المعطوفة ب-(أو)، بينما الثانية ليس فيها العطف بين أفراد المكلفين وإنما أخذ موضوعها طبيعي المكلف.

نعم يمكن تصحيح هذا التفسير بلحاظ مرتبة الامتثال كما صحّحنا

ص: 173

التفاسير السابقة، وذلك بحمل المراد منه أن متعلق التكليف هو فعل واحد، الذي يكفي في تحققه امتثال البعض –واحداً أو أكثر-، ولكن المولى لم يعيّن هذا البعض وإنما ألقاه في عهدة الجميع ليقوم به هذا البعض غير المعين به، وهذا التفسير يعود إلى بعض الوجوه الآتية.

(التفسير الرابع) أن يكون الخطاب بالوجوب متوجهاً إلى مجموع المكلفين بما هم مجموع وجماعة، فالوجوب واحد متعلق بالمكلفين على نحو العموم المجموعي، وكأن مجموع المكلفين مكلف واحد.

وقد أفاد السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) بأن هذا يمكن تصوره على صورتين، وسنرى أنهما في الحقيقة صورة واحدة، لوحظت بلحاظين، ففي الأولى لوحظت طبيعة الواجب، وفي الثانية لوحظت طبيعة المكلف وهم المجموع:-

أولاهما: ((تفسير الواجب الكفائي وتنظيره بما إذا كلِّف مجموع العشرة مثلاً بتحريك هذا الحجر الذي لا يمكن لكل فرد منهم مستقلاً تحريكه فكما أنه في المثال يوجد تكليف واحد على المجموع بتحريك الحجر فكذلك في الواجب الكفائي إن أُريد هذا المعنى.

ورد عليه:-

أولاً: إن بعض الواجبات الكفائية لا يتعقل فيه فعل واحد يصدر من الجميع بنحو الاشتراك كالصلاة على الميت مثلاً. فإن صلاة كل مكلّف عليه غير صلاة المكلف الآخر.

وثانياً: إن هذا المعنى راجع بحسب الحقيقة إلى وجوبات عديدة بالنسبة لكل مكلف ولكن متعلقه ليس هو رفع الحجر بل المشاركة فيه ولهذا يكون هناك

ص: 174

امتثالات عديدة وعصيانات متعددة أيضاً وتطبيق هذا على الواجب الكفائي لا ينسجم مع خصائصه المتقدمة حيث يسقط التكليف بامتثال فرد واحد))(1).

أقول: هذا التفسير متصور بل واقع في بعض الواجبات الكفائية كما في الجهاد فإن التكليف يتوجه إلى المجموع الذي يتحقق به الامتثال كأنه واحد، قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ» (الصف: 4) والبنيان ينظر إليه كشيء واحد ولا تلحظ أفراده المكونة له.والمثال الآخر بناء مؤسسات الدولة الكريمة، فإن المجموع مكلف بما هو مجموع؛ لأن طبيعة التكليف تستلزم قيام الجماعة كرجل واحد، إذ لا يستطيع واحد أو أفراد دون العدد المعتبر بإنجاز العمل المطلوب، فإما أن تنهض الجماعة التي يتحقق بها الامتثال لمجموعها، أو لا يتحقق امتثال أصلاً، بل قد يحرم إذا كان من الإلقاء في التهلكة.

ومن موارده روايات الظهور المبارك التي اشترطت اكتمال عدد الأنصار (313) الذين يتحقق بهم الغرض، فالتكليف متوجه إليهم على نحو المجموع، لذا فإن الامتثال لا يتحقق إلا بقيام تمام العدد.

أما إيراده (قدس سره) على هذا التفسير فإنه غير تام:

أما –أولاً- فإنه (قدس سره) انطلق فيه من مورد محدد وهو كافٍ للنقض على إطلاق التفسير وعمومه إلا أنه لا ينتج امتناع التفسير ولا يمنع من صحته في الجملة، وقد قرّبنا إمكانه بل لزومه في الموارد المذكورة.

وأما –ثانياً- فمنشأه تحليل الواجب الواحد إلى أجزائه وبسط وجوبه عليها، وإلا فإن الواجب المراد إنجازه واحد وهو رفع الحجر في المثال، لكنه (قدس سره) جزّأه بلحاظ المكلفين، ونظرنا في البحث إلى نفس الواجب الواحد، ولا ضير في تصور تجزئه التكليف على عدد من يتحقق بهم الغرض؛

ص: 175


1- بحوث في علم الأصول: 2/427.

لأنه هو مقتضى هذا التفسير، ولا يضر هذا بكون الواجب واحداً، كما أن وجوب الوضوء واحد لكنه يتضمن واجبات عديدة كغسل الوجه واليدين والمسح كما في الرسائل العملية، وكذا غسل الجنابة، وهذا الانبساط على الأجزاء لا ينافي كونه واحداً بلحاظ المجموع.

ثانيهما: ((جعل مجموع المكلفين مكلفاً واحداً بالوحدة الاعتبارية يكون منه امتثال واحد وعصيان واحد، فلو فعل أحدهم فكأن هذا المجموع قد صدر منه الفعل ولو بجزء منه، نظير المكلف الواحد قد يحرك الحجر بيده وقد يحركه برجله، فكما أنه لا ينافي ذلك صدور الامتثال الواحد منه كذلك في المقام.

ورد عليه: أن هذه الوحدة الاعتبارية إنما تتعقَّل في طرف متعلق التكليف أي المكلف به كما في الأمر بمجموع أجزاء مركب اعتباري كالصلاة لأن المقصود منه إيجاده، وإيجاد المركب كذلك معقول، حيث يمكن انقداح الداعي نحوه، وأمّا في جانب المكلف فعنوان مجموع المكلفين الواحد بالاعتبار ليس مكلّفاً حقيقة صالحاً لتشغيل ذمته بالتكليف وإنما المكلّف حقيقة إنما هو كل فرد فرد فلا يعقل افتراض امتثال واحد وعصيان كذلك للمجموع))(1).

أقول: وهذا التقريب أيضاً ممكن، ويوجد ما يدل عليه في النصوص القرآنية والروايات الشريفة من اعتبار الأمة كياناً واحداً كقوله تعالى: «مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَايَسْتَأْخِرُونَ» (الحجر:5) وقوله تعالى: «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ» (الأعراف:34) فللأمة أجل بغضّ النظر عن أفرادها، وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ» (الصف:4) والبنيان يلحظ فيه مجموع الأجزاء كشيء واحد ولا تلحظ أجزاؤه ومكوناته، وكذا ما

ص: 176


1- مباحث الدليل اللفظي: 2/427.

ورد في الروايات من اعتبار المؤمنين كالجسد الواحد(1)، وراكبي السفينة (تقدم الحديث صفحة 78، 130).

ومن مصاديق هذا التفسير الواجبات النظامية التي يحفظ بها النظام الاجتماعي العام، فإن الفرد عليه تكليفان، أحدهما: بما هو فرد، وهي الواجبات العينية، وثانيهما: بما هو جزء من المجتمع، فيوجّه التكليف إلى المجموع بما هو عنوان للأفراد من دون نظر خاص إلى أحدهم وإنما يراد من المجموع أن يصدر منهم هذا الفعل بأي نحوٍ كان، فإذا فعل وتحقق الغرض فيكون المجموع قد أدى ما عليه، وإن لم يتحقق الفعل خارجاً أثم الجميع لإلقاء التكليف في عهدتهم.

وفي ضوء ذلك يعلم الرد على إيراده (قدس سره)؛ لأن عنوان مجموع المكلفين ممكن بل مستعمل في النصوص الشرعية، ويكون له عهدة يمكن إلقاء التكليف عليها بحيث يكون تعلق التكليف به طريقاً لتحميل أفراده إنجاز الفعل المطلوب عندما لا يوجد غرض للمولى بتكليف أعيان الأفراد وإنما مراده تحقق الفعل خارجاً.

ومن أمثلتها مؤسسات الدولة وسائر المؤسسات التي لها عنوان مسؤول فإن الأنظمة الحاكمة قد تسقط وتتبدل وربما يتبدل الشعب أيضاً عبر أجيال وتبقى الدولة والمؤسسات مسؤولة عن الوفاء بالتزاماتها وما تعلق بذمتها، فقوله (قدس سره): ((فعنوان مجموع المكلفين الواحد بالاعتبار ليس مكلفاً حقيقة لتشغيل ذمته)) لا يساعد عليه اعتبار العقلاء.

ص: 177


1- عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) ميزان الحكمة: 4/2837 عن كنز العمال: 765، 737. وورد نفس المضمون بألفاظ قريبة في بحار الأنوار: 58/150، ح28 و ج109/173.

ولإيضاح الفكرة أكثر راجع خطاب (الفقه الاجتماعي ضرورة حضارية)(1)، ومما قلناه هناك تعقيباً على حديثي الجسد وراكبي السفينة: ((فلو كانت الأمة مجرد عدد رقمي للأفراد لما نّبه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى هذه الرابطة، فإن الجسد ليس مجرد مجموع عدد من الأجزاء، بل هو مركب له وجود وحقيقة وماهية، وكذا السفينة، وهما مثالان واضحان يُقرّبان فكرة أن الأمة أيضاً كيان مركب من عدد من الأفراد، وكما إن للفرد خصائص ومميزات تُكسبه الصورة الخاصة به، كذلك المجتمع.

وكما إن الفرد يُولد ويموت ويمتلك مقومات القوة والبقاء ثم يضعف ويموت، كذلك الأمم تولد وتنمو وتحصل لها عناصر الديمومة والبقاء، أو تنخر في جسدها آفاتالعلل والأمراض فتموت، وهي كما أشارت إليه الآية المتقدمة، والتأريخ أمامنا يشهد على حصول ذلك قديماً وحديثاً، فكم من أمة أو حضارة ولدت وازدهرت ثم نخرت في جسدها الآفات والأدران الاجتماعية حتى فتكت بها واندثرت.

وكما إن للفرد مصالحه وملاكاته -- بحسب التعبير العلمي -- التي أوجبت أن يُكلف بأحكام شرعية، فأوجب المولى تبارك وتعالى عليه الصلاة لتنهاه عن الفحشاء والمنكر، وأوجب عليه الصوم ليقوي إرادته ويتدرب على أن يملك زمام نفسه مثلا، فكذلك الأمة لها مصالح وملاكات توجب أن يكون لها أحكام من نوع آخر متوجهة إليها كأمة مجتمعة لا كأفراد، غير ما ألفناه في الأحكام الفردية، والفرد مسؤول عن التكليفين معاً، ولكنه في أحدهما مسؤول عنه شخصياً بغض النظر عن قيام غيره به وعدمه كالصلاة والصوم، أما الآخر --

ص: 178


1- خطاب المرحلة: 1/287-296.

أعني تكليف الأمة -- فهو مسؤول عنه بما هو جزءٌ من هذا الكل المركب الذي سميناه الأمة أو المجتمع))(1).

ومما تقدم يُعلم النظر في ردّ السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) على هذا التفسير بأنه ((غير معقول)) و ((أن مقتضى الدليل هو أن كل واحد من أفراد المكلف موضوع للتكليف، وجعل الموضوع له مجموع أفراده على نحو العموم المجموعي، بحيث يكون كل فرد من أفراده جزءاً له لا تمامه: خلاف الإطلاق، وأن المجموعية تحتاج إلى قرينة والمفروض عدمها))(2).

أقول: قد رأينا أن هذا التفسير معقول وواقع في بعض موارد الوجوب الكفائي، وأن القرينة عليه نفس طبيعة الواجبات الكفائية كالأمثلة التي ذكرناها.

(التفسير الخامس) أن يكون الوجوب متعلقاً بجميع المكلفين على نحو العموم الاستغراقي، ونتيجته وجود وجوبات متعددة بعددهم، أي أن التكليف متوجه إلى كل مكلف.

وهذه الوجوبات المتعددة بعدد المكلفين مطلقة غير مشروطة كما تفترض بعض الصياغات الآتية، وإلى هنا يكون كالوجوب العيني.

وهذا التفسير صحيح في الجملة، وتتحقق فيه خصائص الواجب الكفائي.

ويدل على هذا النحو من العموم:-

1- إن غرض المولى لم يتعلق بصدور الفعل من بعض دون بعض وإنما غرضه تحقق هذا الفعل خارجاً من أي مكلف كان، فهو متوجه إلى جميعهم على حد سواء بلا تعيين لأحدهم دون آخر؛ لأنهم متساوو

ص: 179


1- خطاب المرحلة: 1/288.
2- منهج الأصول: 4/215-216.

النسبة إزاء هذا الوجوب، فلا يمكن تعلقه ببعضهم دون بعض سواء كان هذا البعض معيّناً أو غير معين كما افترضت بعض التفاسير السابقة فلا بد أن يتوجه الوجوب إليهم جميعاً على حد سواء.

2- ما التزموا به من استحقاق الجميع للإثم إذا لم يقم به البعض، وهذا كاشف عن تعلق الوجوب بذمم الجميع، وإلا فلا موجب للإثم بدون تكليف.

وكانت هذه الخصيصة للواجب الكفائي التي اتفقوا عليها مانعاً قوياً من قبول أي تفسير لا يقول بالعموم الاستغراقي.

3- ظاهر نصوص الواجبات الكفائية، فإنها لا تختلف عن خطابات الواجبات العينية في توجّه الخطاب إلى الجميع، فإن خطاب الصلاة اليومية أو الصوم أو الحج كخطاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالإيراد على العموم الاستغراقي بأنه ((لا يمكن الأخذ بظاهره، وإلا فلا فرق حينئذٍ بين الواجب الكفائي والواجب العيني))(1)

من لزوم ما لا يلزم بعد كون ظاهر النصوص في الواجبين متحدة.

فالمبرر أو المقتضي لكون الوجوب على نحو العموم الاستغراقي موجود، وسنبحث في وجود المانع لاحقاً إن شاء الله تعالى.

نعم يكمن الفرق بين الواجبات العينية والكفائية في عدم تعلق إرادة المولى بصدور الفعل –أي الواجب الكفائي- خارجاً من كل فرد فرد، وإنما يكتفي بما يحقق به غرضه، كتغسيل الميت والصلاة عليه فإنه يتحقق بامتثال واحد، أو الجهاد أو النفر لطلب العلوم الدينية أو تحصيل ملكة الاجتهاد أو الواجبات النظامية التي تتحقق بامتثال جماعة معينة من المجتمع وهكذا، فإذا تحقق غرض المولى انتفى موضوع الوجوب وسقط عن الآخرين.

ص: 180


1- المباحث الأصولية: 5/204.

وبتعبير آخر: إن طبيعة الواجبات الكفائية تقتضي عدم تحقق المخالفة بتركه الفعل خاصة ما دام يمتثل غيره ويتحقق بذلك غرض المولى وينتفي متعلق الوجوب، وإنما تتحقق المخالفة بترك الجميع، فاستحقاق العقوبة مشروط بترك الجميع.

وهذه الصياغة توفّر الخصائص المذكورة للوجوب الكفائي، فسقوطه عن الآخرين بامتثال البعض متحقق لانتفاء موضوع الوجوب، وعصيان الجميع لو لم يحصل الامتثال يترتب لمخاطبتهم جميعاً بالتكليف، ولا مانع من امتثال الجميع إذا كان الفعل قابلاً للتعدد –كالصلاة على الميت- لتوجه الأمر المصحح للعبادات إليهم جميعاً.

فالفرق بين العيني والكفائي ليس في خطاب التكليف أي الوجوب، وإنما في طبيعة الواجب وسنخه وشأنيته المعروفة لدى الجميع، حتى تسالموا فقهياً وأصولياً على خصائصه، فإن الواجبات الكفائية مما يتحقق فيها غرض المولى بامتثال البعض، أما العينية فلا يتحقق غرض المولى إلا بامتثال كل فرد فرد.

ونصل بذلك إلى نتيجة مهمة، وهي أن التقسيم إلى العيني والكفائي هو من تقسيمات الواجب لا الوجوب، وعدم وجود فرق بينهما على مستوى التكليف والوجوب، وإنما الفرق في مرتبة الامتثال والإتيان بالواجب.وهذه النتيجة المهمة قد توصلنا لنتيجة أهم منها في مسألتنا وهي أن بعض ما قيل من شروط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي شروط للواجب لا للوجوب كما سيأتي في الفصل الخاص بالشروط إن شاء الله تعالى.

وإذا صحّت هذه النتيجة فإنها تصحح منظومة فكرية أسست لسيرة عملية للفقهاء والحوزات العلمية اعتبرت الشروط المذكورة شروطاً للوجوب فهو يسقط بعدم تحققها، وبما أن تلك الشروط صعبة التحقق ولا يتحقق القطع بها غالباً، فتلاشى العمل بهذه الفريضة بعد أن أقنعنا أنفسنا بسقوط الوجوب، وهذه المنظومة وجَّهت مسيرتهم خلال قرون من الزمن، والله المستعان.

ص: 181

الإشكال على هذا التفسير:

ويمكن الإشكال على هذا التفسير بأن العموم الاستغراقي يعني وجوبه على كل فردٍ فردٍ، ومن لوازم الوجوب عدم جواز الترك، فهذا العموم يعني عدم جواز الترك من كل فرد فرد، وهو غير مراد قطعاً في الواجبات الكفائية؛ لسقوط الوجوب عن الآخرين إذا قام به من به الكفاية. وهذا ما سنجيب عنه (صفحة 188) عند التفريق بين قول المشهور أن الواجب يسقط بامتثال البعض وما نقوله من سقوطه بانتفاء موضوعه.

نعم الإشكال الرئيس الذي يتوجه إلى هذا التفسير والذي ادعي كونه مانعاً عن القول به هو أن الملاك الذي اقتضى جعل هذا الوجوب الكفائي يفترض فيه أنه ملاك واحد تعلّق بصرف وجود الفعل، ومعنى هذا أنه يناسبه وحدة الوجوب والخطاب أيضاً، وحينئذٍ لا موجب لتعدده كما يفترض هذا التفسير.

وهذا الإشكال دفع بعض الأصوليين إلى العدول عن القول بالعموم الاستغراقي، كالسيد الخوئي (قدس سره) حيث ورد ضمن كلماته التي نقلناها (صفحة 168) قولُه: ((تخصيص الجميع بذلك على نحو العموم الاستغراقي بلا مقتضٍ وموجب.. إلخ))، رغم أننا قرّبنا ظهور بعض كلماته في العموم الاستغراقي، الذي لم يستطع نفي ظهور الأدلة فيه.

وهذا الإشكال أيضاً مع الحرص على تقديم فرق بين الوجوب العيني والكفائي هو الذي دفع القائلين بالعموم الاستغراقي إلى تقديم أطروحات وصياغات للتخلص منه، وإن لم يصرّح البعض بأن صياغته للتخلص من هذا الإشكال، إلا أن قراءة كلماته تشهد بذلك.

وقبل عرض هذه الصياغات نقول أن الإشكال غير وارد أصلاً؛ لأن الملاك يمكن تصوره في المجعول أي متعلق الجعل كما يمكن تصوره في الجعل أي

ص: 182

في نفس إلقاء الجعل إلى المكلفين بغضّ النظر عن متعلقه وامتثاله كالأوامر الامتحانية، مثل أمر إبراهيم (عليه السلام) بذبح ولده إسماعيل فإن الملاك كان في نفس إلقاء التكليف بالذبح في عهدتهما وليس في ذبح إسماعيل، فهذا هو المراد بكون الملاك في الجعل أي في إلقاء التكليف في عهدة المكلفين وليس معناه أن الملاك في إنشاء الخطاب حتىيقال أنه يُستوفى بنفس الجعل فلا أثر لمثل هذا الجعل ولا يحكم العقل بوجوب امتثاله(1).

أما على مستوى المجعول فإن بعض الواجبات الكفائية تقبل التعدد كالصلاة على الميت فالملاك يكون متعدداً، وأما على مستوى الجعل، فإن الفعل المطلوب كفائياً –أي الواجب الكفائي- وإن كان واحداً، إلا أنه يمكن تصوُّر وجود ملاكات في الجعل بعدد الأفراد تقتضي جعل الوجوب عليهم جميعاً.

وهذا الملاك يمكن أن يكون أموراً:-

1- تحميل مسؤولية إنجاز الفعل على الجميع وإلقائه في عهدتهم، حتى لا يتكل بعضهم على بعض، متذرعين بعدم كون الوجوب تعيينياً على أشخاصهم، فيتقاعس الجميع ويضيع الواجب كما هو المرتكز في أذهان الناس ونظرتهم إلى الواجبات الكفائية.

وهذه الحالة وهي (التواكل) خلاف قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ» (الأنفال:24)، وورد التحذير منها بالنص في الأحاديث الشريفة كرواية الكليني في الكافي والصدوق في عقاب الأعمال والشيخ في التهذيب عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

ص: 183


1- كما حكي عن السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) في سياق الكلام عن شبهة القضاء ونقض الغرض.

يقول: إذا أمتي تواكلت ((تواكلوا)) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من الله))(1).

2- خلق روح التنافس واستباق الخيرات لدى عموم الناس بإعطاء فرصة القيام بالفعل بشكل متساوٍ للجميع، ودعوتهم جميعاً للامتثال، قال تعالى: «فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ» (البقرة:148) وقال تعالى: «وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ» (المطففين :26).

ولذا ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (عليكم بأعمال الخير فتبادروها ولا يكن غيركم أحق بها منكم)(2)، وعنه (عليه السلام) قال: (افعلوا الخير ولا تحقروا منه شيئا فإن صغيره كبير وقليله كثير ولا يقولن أحدكم إن أحداً أولى بفعل الخير مني فيكون والله كذلك، إن للخير والشر أهلاً فما تركتموه منهما (كفاكموه أهله))(3).

3- إعطاء الفرصة لأكبر عدد من المؤمنين للامتثال في الواجبات القابلة للتعدد وإن كان الامتثال الواحد كافياً كالصلاة على الميت أو لتوسيع دائرة النهي عن المنكر ورفضه والغضب لله تعالى إذا عُصي، وهذا الجانب –أي الرفض للمنكر- لم يلتفتوا إليه في أمثلتهم التي انطلقوا منها لتفسير الوجوب الكفائي مع أن دائرة الغضب لله تعالى واسعة لا ينحصر امتثالها بواحد أو جماعة.

ص: 184


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 1، ح5.
2- غرر الحكم: رقم (6151).
3- بحار الأنوار: 68/190 عن نهج البلاغة: 4/99، قصار الكلمات.

4- إشعار من لم يقم بالفعل بالحسرة والندامة على فوت الثواب لأنه كان يمكنه أن يكون هو الفائز به، وهو وإن سلم من العقاب لامتثال غيره، إلا أن ما فاته يستحق التأسف والحسرة لأنه تهاون ولم يسارع إلى رضا الله تبارك وتعالى، وورد ذلك في تفسير يوم القيامة بيوم التغابن، ويوم الحسرة قال تعالى: «وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» (مريم: 39)، وهذا الشعور بالحسرة يدعوهم إلى التسابق على فعل الخير فيما يأتي.

وهذا العتاب على عدم امتثال الحكم –وإن رُفِع عنهم لاحقاً- له موارد عديدة، بعد التجريد عن الخصوصية سواء كان رفعه بسبب نسخ الحكم أو بسقوطه لامتثال البعض كما في الواجبات الكفائية، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ» (المجادلة:12-13).

وقال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ، الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» (الأنفال:65- 66)(1).

ص: 185


1- مما يؤسف له خلوّ الذهنية الفقهية والأصولية المشهورية من هذه المنطلقات للتفكير حتى تحوّلت هذه البحوث إلى قوالب فارغة من ذكر الله تعالى والعبرة والموعظة.

واتضح مما سبق عدم ورود الإشكال على هذا التفسير، بل يتعين الأخذ به لعدم إمكان الأخذ بالوجوه السابقة، ومنه يظهر عدم الحاجة إلى الأطروحات التي ذكرت للتخلص من الإشكال المذكور وإنما نذكرها لتعميق البحث، وهي:

(الأولى) وهي للسيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) قال فيها: ((إن هناك وجوبات عديدة بعدد المكلفين غير أنّ الواجب بهذا الوجوب ليس هو صدور الفعل من كل واحد منهم وإنما هو جامع الفعل الصادر منه أو من غيره فالواجب هو حصول الفعل خارجاً، وبعبارة أخرى: الوجوب الكفائي معناه جعل الفعل وصدوره بالنتيجة خارجاً في عهدة كل مكلّف، وقد تقدم في أبحاث التعبدي والتوصلي أن التكليف بالجامع بين فعل المكلفنفسه وفعل الغير معقول، ولو فُرض أن فعل الغير ليس تحت اختياره حتى بالتسبيب لأن الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور))(1).

ويرد عليه:-

1- إنه لا تساعد عليه الخطابات الشرعية ولا يمكن استظهاره من النصوص الشريفة، فإن ظاهرها تعلق الخطاب بفعل الفرد نفسه لا بالجامع بينه وبين فعل غيره، عدا ما قيل في تقريب آية «وَلْتَكُنْ مِنكُم أُمَّةٌ» بناءً على التبعيضية وقد ناقشناه.

2- إنه لم يحلّ الإشكال؛ لأن الملاك ما زال واحداً يتعلق بالجامع ومقتضاه كون الوجوب واحداً، ولم يقدِّم لنا وجهاً لتعدد الخطابات بعدد المكلفين من دون تعدد الملاكات.

3- إنه غير عرفي وغير معقول، لعدم وجود جامع حقيقي بين فعل الفرد وفعل

ص: 186


1- بحوث في علم الأصول: 2/242.

غيره، لأنهما متباينان فكيف يتعلق التكليف به، وحينئذٍ لا ينفع في جوازه ما قاله (قدس سره) من إمكان تعلق التكليف بفعل الفرد وفعل غيره؛ لأن إمكانه كبروياً لا يلزم منه تحققه في المقام.

نعم قلنا أن التكليف يتعلق بصرف الوجود الذي هو القدر المشترك بين الأفراد من دون ملاحظة خصوصية صدوره من هذا الفرد أو ذاك، وهو غير الجامع الذي يتضمن القدر المشترك والخصوصيات(1).

(الثانية) ((إن الوجوبات المتعددة بعدد آحاد المكلفين وجوبات مشروطة، بمعنى أن وجوبه على كل فرد مشروط بعدم إتيان فرد آخر به، وبه يمتاز الوجوب الكفائي عن الوجوب العيني))(2).

أقول: الظاهر أن أصل هذه الوجه ما ورد في كلمات العلامة (قدس سره) في المختلف وجاء فيها ((واجب الكفاية هو الذي إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وإن لم يقم به البعض وجب على الجميع))(3).وتحاول هذه الأطروحة التخلص من الإشكال بتقريب أن الوجوبات المشروطة ترجع إلى وجوب واحد فعلاً.

وفيه:-

1- إنه مخالف لظواهر النصوص الشرعية من كون الوجوب مطلقاً كما قرّبناه، ونصوص الواجبات الكفائية تشهد بذلك.

ص: 187


1- ومثاله من الرياضيات المضاعف المشترك الأصغر والقاسم المشترك الأعظم، فالجامع كالأول لأنه يتضمن العناصر المشتركة وغير المشتركة، أما صرف الوجود والقدر المشترك فهو كالثاني لأنه يقتصر على العناصر المشتركة.
2- المباحث الأصولية: 5/204، مباحث الدليل اللفظي: 2/424، محاضرات في أصول الفقه من الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سره): 45/238.
3- مختلف الشيعة: 4/472.

2- لازمه كون سقوط الوجوب عند امتثال البعض لانتفاء شرطه وهو عدم إتيان الآخر، بينما الصحيح بالدقة أن سقوطه بسبب انتفاء موضوعه كدفن الميت أو الصلاة عليه ونحوها.

لا يقال: أنهما واحد لأن انتفاء الوجوب بانتفاء شرطه وهو عدم إتيان الآخر يعني إتيان الآخر ومعه يتحقق الغرض وينتفي الموضوع فهذا الإشكال غير وارد.

فإنه يقال: إنهما ليسا واحداً من خلال الالتفات إلى أكثر من أمر:-

أ- إن الامتثال قد لا يلزم منه انتفاء الموضوع كما في مسألتنا فلو نهى شخصٌ صاحبَ المنكر ولم يرتدع العاصي فإن الناهي امتثل لكن الغرض لم يتحقق ولم ينتفِ الموضوع فعلى غيره أن ينهى هذا العاصي أيضاً، أو يكرّر النهي نفس الشخص الناهي.

ب- النقض عليه بسقوط الوجوب فيما لو ارتدع العاصي من تلقاء نفسه فهنا سقوط للوجوب لانتفاء الموضوع بدون امتثال، فالأول أوسع من الثاني.

ومن ثمرات هذا التفريق أنه يحلُّ به إشكال على الوجوب الكفائي حاصله أنه إذا كان الوجوب موجهاً إلى الجميع ولازم الوجوب عدم جواز الترك فكيف يسقط الوجوب عن الفرد بامتثال غيره، أما بناءً على هذا التفريق فيكون المسقط للوجوب هو انتفاء الموضوع وهو فعلاً من مسقطات التكليف، وليس امتثال الغير.

نعم في مثل دفن الميت والصلاة عليه هما واحد بحسب النتيجة ويبقى الفرق بينهما بحسب اللحاظ والسبب المباشر وهذا أيضاً يكفي لتسجيل الإشكال، مع فرق دقيق سنذكره في مبحث التعبدية والتوصلية إن شاء الله تعالى.

ص: 188

3- إنه لا يحل الإشكال؛ لأنه على فرض ترك الجميع يكون الوجوب متعلقاً بذمم الجميع وهذا يعني تعدد الوجوبات من دون مبرر بعد فرض الملاك واحداً.

4- إن شرطهم وهو عدم إتيان الآخر به لا يرجع إلى معنى محصَّل؛ لأنهم إن قصدوا مطلق الإتيان حتى وإن لم يتحقق به الامتثال فإنه لا يسقط وجوباً؛ لأن بعض الواجبات لا يتحقق فيها الامتثال بإتيان واحد كالجهاد وغيره مما ذكرناه.

وإن قصد الإتيان المحقق للامتثال الموجب لتحقق الغرض فيرد عليه ما ذكرناه (صفحة 183) من تعدد الأغراض في مسألتنا مما لا يهتدي إليه أحد، وإنما بنوا نظرياتهم على فرد معين من الواجبات الكفائية وهو دفن الميت والصلاة عليه.

5- يمكن القول حينئذٍ بعدم تنجّز الواجب على أي مكلف، لعدم إحراز العلم بالشرط –وهو عدم إتيان الآخر- في مثل مسألتنا إذ لعله أمره ونهاه أحد ولا نعلم به، وهو احتمال معتد به في المجتمع المسلم، فيحصل الشك بتحقق الشرط والأصل عدمه فلا يتنجّز الواجب.

6- ما قاله السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) من ((أنه في فرض إتيان أكثر من مكلّف بالواجب يلزم أن لا يكون هناك امتثال أصلاً إذ الشرط هو عدم إتيان الآخر وقد أتى بحسب الفرض وهذا الاعتراض لا محيص عنه)).

وفيه: أنه إن أتيا به سوية كالصلاة على الميت فإن الشرط متحقق فيهما معاً ويصح امتثالهما لأنه حين مباشرة كل منهما للفعل لم يكن قد أتى به آخر فالوجوب فعلي في حقه، وإن أتيا به على التعاقب صحّ امتثال الأول لتحقق شرطه.

نعم يمكن صياغة الإشكال بأنه لا يصح على طبقه تعدد الامتثال

ص: 189

على التعاقب –كالصلاة على الميت مكرراً- لعدم وجود المصحِّح له بعد امتثال الأول وانتفاء الشرط، اللهم إلا أن يقال إن المصحح هو دليل خارجي.

7- إن جعل الوجوبات مشروطة في حين أن الأصل فيها أن تكون مطلقة، لا بد أن يكون لنكتة تسوّغه، وما قيل في تبريره من وجوه غير صالح، وقد ذُكر بهذا الصدد وجهان:

الأول: ما قرّبه السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) على مباني المحقق الأصفهاني (قدس سره) واعتبره اتجاهاً ثالثاً لتقريب العموم الاستغراقي وهو في الحقيقة ليس تقريباً مستقلاً عن تقريب الوجوبات المشروطة، وإنما يصلح تقريباً لنكتة الأخذ به، قال (قدس سره): ((الاتجاه الثالث: الاستعانة بنظرية المحقق الأصفهاني المتقدمة في الواجب التخييري وتطبيقها على المقام، وذلك بافتراض أن الفعل واجب على كل المكلفين إلا أن هناك ترخيصاً في الترك لكل منهما مشروطاً بفعل الآخر حفاظاً على مصلحة التسهيل، وهذه الفرضية معقولة بناءً على مسلك الميرزا (قدس سره) في تفسير الوجوب، فإنها تفي حينئذٍ بتفسير الوجوب الكفائي مع خصائصه إذ لو كان أحد المكلفين قد جاء بالواجب أمكن للآخرين الترك باعتبار فعلية الترخيص في حقهم، وإلا كان الكل معاقبين لفعلية الطلب في حقهم جميعاً من دون ترخيص في الترك ولو فعل1- الكل كان امتثالاً للطلب أيضاً وإن كان يصح أن يترك بعضهم. ولا تحتاج إلى افتراض مصلحة ثالثة هي التسهيل في الترخيص))(1).

وفيه:-

ص: 190


1- بحوث في علم الأصول: 2/425.

1- إنه لم يبين لنا علة حكم العقل هنا لمراعاة مصلحة التسهيل والإرفاق فيرخّص إذا أتى به الغير، دون الوجوبات العينية مثلاً والمصلحة واحدة.

أما على مختارنا فالأمر واضح لأن الترخيص في الترك إذا أتى به البعض تقتضيه نفس طبيعة الواجب من جهة تعلق غرض المولى بإيجاد صرف المأمور به من أي فرد كان فينتفي موضوعه ويسقط التكليف عن الآخرين، ولا حاجة حينئذٍ إلى جعل الوجوبات مشروطة بأي نكتة ومنها التسهيل والإرفاق.

2- إن هذه النكتة تم تقريبها على مسلك الميرزا النائيني (قدس سره) المبني على استفادة الوجوب من حكم العقل عند عدم الترخيص، ونحن لا نوافق عليه إذ اخترنا كونه مستفاداً من الإطلاق، وكذا لا يستقيم على المسلك الآخر القائل باستفادته من الوضع

3- نفيه (قدس سره) الحاجة في ذيل كلامه إلغاء للنكتة وبدونها يبقى هذا الاتجاه مجرد شرح وبيان لخصائص الواجب الكفائي وترسيخ للإشكال.

الثاني: ما يوجد في كلمات السيد الخوئي (قدس سره) وعبّر عنه الشيخ الفياض (دام ظله الشريف) بأنه ((افتراض وجود التضاد بين الملاكات بحيث لا يمكن الجمع بين اثنين منها، فإذا حصل واحد منها بفعل أحدهم فات إمكان تحصيل الباقي بفعل الآخرين))(1).

وأجاب (دام ظله الشريف) بأنه ((لا يمكن الأخذ به، فقد تقدم أنه لا يعقل التضاد بين ملاكات الأحكام الشرعية، لأنها أمور معنوية لا مادية حتى يتصور التضاد والتزاحم بينها، لأنها تزيد في قرب العباد إلى

ص: 191


1- المباحث الأصولية: 5/205-206.

الله تعالى وتخلق فيهم الصفات الكمالية والملاكات الفاضلة الإنسانية وتنمو(1)

الإيمان في نفوسهم، ومن الواضح إنه لا يتصور التضاد فيها، وقد سبق تفصيل ذلك)).وفيه: أنه جواب ناقص، إذ كان يجب أن يفصِّل بين الملاك في الجعل وبينه في المجعول، وما ذكره ناظر إلى ملاك الجعل وقد ذكرنا (صفحة 182-185) عدة ملاكات متصورة، أما الملاك في المجعول فيمكن تصوّر التضاد فيه عندما لا يكون قابلاً للتعدد ومثاله الشرعي وجوب دفن الميت فإنه إذا دفن فلا معنى لتكليف الآخرين به، ومثاله العرفي ما لو طلب المولى ماءً لريّ عطشه، وقد جيء به وارتوى فلا ملاك في امتثال الآخر.

وقصر النظر على الملاك في المجعول هو الذي أوجب ورود الإشكال عليهم حيث تكلموا كثيراً عن تحقق الغرض بالامتثال، وحينئذٍ يسأل عن ملاك فعل الآخر المبرّر لتوجيه الخطاب إليه، فإن الميت إذا دُفن فما ملاك تكليف الآخرين به؟.

نعم على ما فصلنا بين ملاك الجعل والمجعول يمكن دفعه بإمكان تعدد الملاكات في مرتبته وإن كان الفعل غير قابل للتعدد كالمثال المذكور، ولا يضر حينئذٍ عدم الإمكان هذا لأنه في مقام الامتثال ومنشؤه طبيعة الواجب كما ذكرنا، وإن إشكالنا في مقام الخطاب والتكليف.

فائدة: ذكر الشيخ الفياض (دام ظله الشريف) أن نكتة جعل الوجوبات مشروطة، أحد الأمرين المذكورين وكأنها قضية مانعة خلو، هذا وقد قرّبنا غير ذلك وهي طبيعة الواجبات الكفائية، فإنها على نحو لو أتي بها فلا يمكن توجيه الخطاب لآخر بالإتيان بها كالمثالين الشرعي والعرفي اللذين ذكرناهما آنفاً.

ص: 192


1- لعله يريد: وتنمّيَ.

(الثالثة) ما اختاره الشيخ الفياض (دام ظله الشريف)، وهي في الحقيقة ليست أطروحة مستقلة بل هي –بحسب تعبيره- توجيه ثالث لأطروحة الوجوبات المشروطة، وسنعتمد طريقة التعليقات المباشرة على فقرات كلامه، قال (دام ظله الشريف): ((إن الملاك في المقام واحد(1)، وهذا الملاك الواحد قائم بطبيعي الفعل الجامع(2)

بين أفراده، وحيث أن نسبته إلى جميع أفراد المكلف نسبة واحدة فهي تتطلب إيجاب الفعلعلى الجميع بإيجاب مشروط(3)، ومرد هذه الإيجابات المشروطة لبّاً إلى إيجاب واحد(4)

روحاً وملاكاً وأثراً، أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلأنه يسقط عن الجميع بفعل واحد منهم(5)، وعلى هذا فلا يقال(6) إن

ص: 193


1- تقدّم أنه إذا صحّ هذا فهو بلحاظ المجعول، أما بلحاظ الجعل فهي متعددة وقد قرّبنا جملة منها، وافتراض وحدة الملاك مع تعدد الجعل هو الذي أورد الإشكال عليهم.
2- لا يوجد جامع حقيقي بين فعل هذا الفرد وذاك حتى يتعلق التكليف به، وقد تقدّم أن تعلق التكليف بهذا الجامع غير مفهوم عرفاً ولا شرعاً، نعم يوجد قدر مشترك بينها وهو المعبَّر عنه بصرف الوجود، ويوجد التباس في عبارته (دام ظله الشريف) بين الجامع وبين الطبيعي، فإن الطبيعي المعبَّر عنه بصرف الوجود هو القدر المشترك بين الأفراد، إذ فعل كل فرد هو طبيعي الفعل زائداً خصوصية صدوره من هذا الفرد أو ذاك، أما الجامع فهو شامل للطبيعي وخصوصيات الأفراد.
3- هذه النكتة تصحح كون الوجوب على نحو العموم الاستغراقي كما قرّبنا، أما كونه إيجاباً مشروطاً فيحتاج إلى بيان نكتة غيرها.
4- لو صحّ هذا لصحّح أطروحة الوجوبات المشروطة من أصلها ولا حاجة حينئذٍ إلى نكتة لتبريره باعتباره على خلاف الأصل، ومما يكشف عن عدم رجوعها لبّاً إلى إيجاب واحد فيما لو لم يمتثل أحد فإن الوجوب يكون منجزاً بحق الجميع فتكون الوجوبات متعددة فعلاً.
5- سقوطه بانتفاء موضوعه، ولا يكفي فيه امتثال الآخر، كما تقدم إيضاحه في النقطة (2) (صفحة 152)، إذ قد يتحقق الملاك بالنسبة للممتثل ولا يتحقق بلحاظ الفعل، كما لو قام الفرد بواجبه إزاء حالة معينة لكن الفعل المطلوب للمولى لم يتحقق لعدم امتثال الآخرين.
6- من هذا ونحوه يظهر أن دافعهم لهذه الصياغات والأطروحات التخلص من الإشكال الذي حررناه وإن لم يصرحوا بذلك، وقد أجبنا بعدم ورود الإشكال أصلاً، فلا حاجة لهذه الأطروحات.

وحدة الملاك تتطلب وحدة الجعل، وحيث إنه في المقام واحد فهو يتطلب جعلاً واحداً ولا مبرر لجعول متعددة، وذلك لأن وحدة الملاك وإن كانت تتطلب وحدة الجعل إلا أن الالتزام بتعدد الجعل المشروط في المقام إنما هو على أساس أن نسبة ذلك الملاك الواحد إلى الكل على حد سواء(1)، فلهذا لا يمكن إيجاب تحصيله على بعض دون بعض لأنه ترجيح من غير مرجح، فيجب حينئذٍ على الجميع لا محالة بإيجاب مشروط، ومن الواضح أن إيجابه مشروطاً على الجميع لا يكون لغواً، فإنه(2) بلحاظ أن بإمكان كل فرد إيجاده وتحصيله في الخارج، فإذا أوجده فيه يسقط عن الباقي أيضاً.

والخلاصة: إن جعل الوجوب على الكل بهذه الغاية المشروطة لا يكون لغواً، فإذن لا مانع من الالتزام بهذا التوجيه ثبوتاً وإثباتاً، وأما ثبوتاً(3) فلأنه لا محذور في الالتزام بجعل إيجابات متعددة بعدد أفراد المكلف المشروطة رغم وحدة الملاك في المقام وقيامه بطبيعي الفعل الجامع، لما عرفت من أن نسبة هذا الملاك الواحد إلىجميع المكلفين، حيث إنها نسبة واحدة بنفسها تتطلب جعل الإيجاب للكل مشروطاً، وقد تقدم أن منشأ هذا الاشتراط لا يمكن أن يكون فرض وجود التضاد بين الملاكات في الواقع، لما مرّ من أنه مجرد افتراض لا واقع

ص: 194


1- تقدم جوابه في التعليقة الثالثة.
2- هذه النكتة تصحّح كون الوجوب على نحو العموم الاستغراقي ولا تصلح لتوجيه كونه مشروطاً.
3- تقدم في التعليقة الثالثة عدم صحة النكتة الثبوتية.

موضوعي له، كما لا يمكن أن يكون فرض وجود مصلحة التسهيل والإرفاق، وأما إثباتاً(1)

فلأن خطابات الواجبات الكفائية كصلاة الميت مثلاً التي هي مجعولة في الشريعة المقدسة بنحو القضية الحقيقية موجهة إلى كل فرد مشروطاً بعدم قيام الآخرين بها. فالنتيجة، إنه لا مانع من حمل روايات الباب على ذلك))(2).

والخلاصة: إن ما أفاده (دام ظله الشريف) توجيه ضمن الأطروحتين السابقتين أي تعلق التكليف بالجامع وكون الوجوبات مشروطة فيرد عليه ما أوردناه عليهما كما يظهر من التعليقات المتقدمة.

وفي الحقيقة فإن المشروط في الواجبات الكفائية بالدقة ليس الوجوب بعدم إتيان الآخر، بل استحقاق العقوبة بترك الجميع وهذا غير ذلك، كما هو واضح وهذا ما تقتضيه طبيعة الواجبات الكفائية كما تقدم، وسيأتي بيانه في الأطروحة الرابعة.

(الرابعة) ((أن يكون الوجوب الكفائي مرجعه إلى تحريم ترك الفعل المنضم إلى ترك الآخرين لا مطلق الترك وبهذا التحويل نستطيع التحفظ على كل خصائص الوجوب الكفائي إذ يكون ترك الجميع عصياناً من الجميع لصدور الترك المذكور من كل واحد منهم وعلى تقدير مجيء واحد منهم أمكن للآخرين الترك وعلى تقدير مجيء أكثر من واحد كان كل منهم قد حقق الملاك وامتثل حيث تجنب الحرام.

ص: 195


1- الدليل الإثباتي الذي ذكره يدل على عكس المراد لأن أدلة الوجوبات الكفائية مطلقة لا مشروطة كما تشهد عليه النصوص، فكيف استظهر منها توجه الوجوب إلى كل فرد مشروطاً بعدم قيام الآخرين، نعم طبيعة الواجبات الكفائية تقتضي السقوط عن الآخرين عند انتفاء الموضوع كما تقدّم.
2- المباحث الأصولية: 5/207-208.

وهذا التفسير صياغة تشريعية معقولة للإيجاب بناءً على افتراض المسلك المشهور من كون الوجوب مجعولاً شرعياً ولعل الإيجاب على الجميع بنحو الوجوب الكفائي يكون تعبيراً عرفياً عن هذه الصياغة التشريعية كما أن هذا التفسير معقول في الوجوب التخييري بلحاظ المتعلق. ولكنه لا يفي بتفسير روح الوجوب إذا أُريد به الإرادة والحب كما لا يخفى))(1).

أقول: حاصل هذه الأطروحة أن الموجب للإثم والعقوبة الترك المطلق لا مطلق الترك، وحينئذٍ نقول: ليس في هذا الوجه أي معالجة للإشكال وإنما هو بيان لواحدة منخصائص الواجب الكفائي، إذ لم يبيّن (قدس سره) لنا نكتة عدم تحريم ترك الفعل إلا إذا انضم إلى ترك الآخرين، مع أن مقتضى إطلاق الوجوب حرمة الترك مطلقاً.

أما قياسه (قدس سره) على الوجوب التخييري فهو قياس مع الفارق كما أوضحنا في موضع سابق.

وأما ما ذكره في ذيل كلامه من أنه لا يفي بتفسير روح الوجوب فإنه صحيح وموافق لجملة مما ذكرناه من ملاكات الجعل، إلا أن المشهور يدفعه عادة بعدم وجوب الطاعة على هذا المستوى، أي في مرتبة مقدمات الحكم.

القول المختار:

(التفسير السادس) إن الوجوبات الكفائية موجهة إلى جميع الأمة على نحو يشابه العموم الاستغراقي والعموم المجموعي من جهة ويخالفهما من جهة أخرى، ولا مانع من طرح نحو جديد للوجوب وللعموم غير ما ذكروه لأن حصرهم استقرائي.

ص: 196


1- بحوث في علم الأصول: 2/426.

فهو يشابه العموم الاستغراقي من حيث تعلقه بجميع الأفراد وإلقاء عهدته في ذممهم، والاجتزاء من أي فرد قام به صحيحاً محققاً للغرض واستحقاق الجميع الإثم والعقوبة لو لم يأتِ به أحد؛ لأن المخاطب به طبيعي المكلف، ويخالفه من جهة عدم مطلوبية إتيان كل فرد فرد به، لسقوط الوجوب عن الغير إذا قام به البعض على نحو يحقق غرض المولى.

ويشابه العموم المجموعي من جهة توجهه إلى الأمة بما هي أمة لأن لها كياناً قابلاً لتحمل المسؤولية وإلقاء العهدة واشتغال الذمة كالأفراد على ما قربناه، ويختلف معه من جهة عدم مطلوبية إتيان المكلفين به على نحو الاشتراك والانضمام إلى بعضهم –كما هو مقتضى الاصطلاح- إذ يصح منه القيام بالفعل سواء اشترك معه غيره أم لا.

وقد أطلقنا على متعلق مثل هذه الوجوبات: الواجبات الاجتماعية، وقد ذكرتُ في رسالة(1)

مستقلة معنى التكاليف الاجتماعية، والفروق بينها وبين التكاليف الفردية من حيث الملاكات والمبادئ والآثار وطبيعة الخطاب والأصول والقواعد التي تستند إليها، وكيفية التمييز بينها، والأغراض الموجبة لتأسيس أطروحة الفقه الاجتماعي، ومبررات وضع هذا المصطلح بدل الواجبات الكفائية ونحوها من المطالب.

وهذا التفسير يوفّر خصائص الوجوب الكفائي المسلّمة فقهياً وأصولياً كما هو واضح.

نعم تختلف آليات امتثال الأمة لهذه التكاليف الاجتماعية أو الكفائية، فبعضها يجب تحققها من جميع الأفراد كإنكار المنكر بالقلب واللسان، وبعضها يكون امتثاله من البعض غير المعيّن بالأشخاص إلا أنه معيّن بالصفات كوظائف المجتهد الجامع للشرائط أو العدد الكافي للجهاد أو للتبليغ والإرشاد والدعوة إلى

ص: 197


1- خطاب المرحلة: 1/286-304.

الإسلام. وبعضها بتصدي مختصين لها كالمهن التي بها قوام حياة الناس، وعلى الأمة أن تهيئ الظروف المناسبة والمقدمات المطلوبة لإيجاد هؤلاء المختصين وتمكينهم من ممارسة مهنهم الضرورية كالطبيب والسياسي والمعلم والقاضي ونحوها، من دون انتفاء المسؤولية عن عموم الأمة، فلو حصل نقص أو تقصير في بعض هذه الجوانب فعليها سد هذا الفراغ وإلا تكون مسؤولة بأجمعها.

ملحق فيه فائدتان:

الأولى: في نهاية هذا البحث نذكّر بما تحصّل لدينا من مناشئ لاضطراب القول في تفسير الوجوب الكفائي، ومنها:-

1- الانطلاق من أمثلة محددة كالصلاة على الميت ودفنه كما صرّحوا به جميعاً، ففصّلوا نظرياتهم على مقاسات هذه الموارد الجزئية، وخرجوا منها بنظرية كلية، والمفروض توسيع أفق النظر ليشمل التفسير كل الواجبات الكفائية.

2- الخلط بين مقام الخطاب بالوجوب ومقام الامتثال فالبحث في الأول لكن الذي لوحظ الثاني، فظهر القول بالوجوب على واحد بعينه أو لا بعينه، وهي إنما تصح بلحاظ الامتثال.

3- التنظير العلمي الصرف بعيداً عن روح القرآن الكريم والسنة المطهرة وعدم استنطاق هذين المصدرين الوحيدين للتشريع.

الثانية: بمَ يعرف كون هذا الواجب كفائياً:

اشارة

العينية والكفائية عناوين انتزاعية متشرعية لا نتوقع ورودها في النصوص الشريفة حتى يمكن تصنيف الواجبات إلى هذا وذاك اعتماداً على ورود العنوان في النص، وإنما هي مصطلحات وضعها العلماء للتعبير عن معانيها، فإذا ورد في

ص: 198

النصوص الشريفة ما يفيد معنى الواجب الكفائي، أي سقوطه إذا امتثل الغير أخذنا به، كآية النفر فإن الغرض يتحقق بنفر البعض إلى الحوزات والمعاهد العلمية ليحصِّلوا العلوم والمعارف والأخلاق والعقائد ويعلمونها الناس، والقرينة على كفاية نفر البعض قوله تعالى: «مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ» (التوبة:122) حيث أن (من) هنا للتبعيض وقوله تعالى: «وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ» وهذا يقتضي وجود قوم لا يجب عليهم النفر يكونون هم المنذرين ونحو ذلك من القرائن والاستظهارات.وإن لم يرد في النصوص شيء من ذلك، فكيف نعرف أن هذا الواجب كفائي أو عيني؟ وقد قلنا أن الكفائية تقتضيها نفس طبيعة الواجبات، ويمكن الاستفادة من عدة مؤشرات لمعرفة كون الواجب كفائياً، منها:-

1- كون الواجبات مما يُعلم تعلق إرادة المولى بمحض تحققها في الخارج المعبَّر عنه بصرف الوجود بغضّ النظر عن فاعلها كالواجبات النظامية والمهن التي يتعلق بها قوام المجتمع الإنساني.

2- كون الفعل مما لا يقبل صدوره من الجميع كدفن الميت، ولا ينافي هذا ما اخترناه من تفسير الوجوب الكفائي بتوجه الخطاب إلى الجميع على نحو العموم الاستغراقي؛ لأن هذا التفسير لا يعني قيام كل فرد فرد به بل يعني توجهه إليهم على حد سواء وأنهم متساوو النسبة للفعل والاجتزاء بصدوره من أي واحد منهم.

3- الارتكاز المتشرعي الذي يميز –من خلال قرائن داخلية وخارجية- بين الخطابات فيستظهر من خطاب (صلِّ) و (صمْ رمضان) أنه عيني على كل فرد، لكنه يستظهر من آيات الجهاد مثلاً كفاية امتثال البعض وهكذا.

ص: 199

الاستدلال على كون وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عينياً أو كفائياً

يوجد عدم وضوح في مرادهم هنا من الوجوب الكفائي والعيني، مما سبَّب الاعتراض على هذا وذاك.

فيظهر من البعض أن المراد بالكفائي وجوبه على فرد أو جماعة دون الآخرين كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وهو معنى مخالف لما عليه الوجدان والارتكاز والفتوى، حيث لا يشعر أحد من المسلمين أن هذا واجبه دون غيره أو بالعكس، وتُذكر هذه الوظيفة في الفتاوى على أنها وظيفة كل أحد وليست وظيفة فئة دون فئة(1)، مضافاً إلى أن تخصيص البعض بالوجوب دون غيره ترجيح بلا مرجِّح، وثبت بطلان هذا التفسير للوجوب الكفائي.

ولا أستبعد أن يكون هذا المعنى مما تسرّب إلى فقهنا من فقه العامة للارتباط الذي كان حاصلاً في زمن القدماء، وقد احتكرت السلطات منذ وقتٍ مبكّر هذه الوظيفة لنفسها ثم استحدثت لها في العصر العباسي ولاية خاصة باسم (الحسبة) يكون على رأسها وزير، قال القرطبي في تفسيره: ((ثم إن الأمر بالمعروف لا يليق بكل أحد، وإنما يقوم به السلطان إذا كانت إقامة الحدود إليه، والتعزير على رأيه، والحبس والإطلاق له، والنفي والتغريب، فينصب في كل بلدة رجلاً صالحاً قوياً عالماً، أميناً ويأمره بذلك ويمضي الحدود على وجهها من غير زيادة قال تعالى: «الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ» (الحج:41) ))(2).

ص: 200


1- راجع مثلاً الرسائل العملية للمتأخرين، وسيأتي (صفحة 212) كلام السيد الخوئي (قدس سره) في ذلك.
2- تفسير القرطبي: 4/165.

وقال الرازي في تفسيره: ((إن هذا التكليف مختص بالعلماء))(1).

وهذا التأثير متوقّع بل واقع فقد تعرّض الشيخ الصدوق في الهداية والشيخ الطوسي (قدس الله سريهما) في الاقتصاد إلى فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الاعتقادات، ويحتمل في سبب ذلك ما ذهب إليه ((بعض المعتزلة من اعتبار هذه الفريضة من أصول الدين والميل إلى التعامل معها على نهج التعامل مع القضايا العقدية، ولهذا طرح العلماء المتكلمون هذا البحث في كتبهم الاعتقادية لتحديد موقف من هذه النظرية المعتزلية)) وإن كان ((الظاهر أن ذلك منهما اعتماداً على أنمعرفتهما مما تتوقف عليه معرفة عدل الله تعالى، كما صرّح به الشيخ الطوسي عند حديثه عما يلزم المكلف))(2).

وقيل في المراد بالوجوب العيني للفريضة هنا أنه يجب على كل فرد القيام به وإن قام الآخرون كقول صاحب الجواهر (قدس سره): ((وأما الحمل عليه –أي المعروف- بضرب ونحوه فيمكن القطع بعدم العينية فيه، فيكفي حينئذٍ وقوعه من البعض فيسقط عن الآخر ولا إثم عليه وإن كان قادراً على ما وقع من غيره أيضاً))(3)، ولذا اعترض عليه بمخالفته للسيرة القطعية لدى العقلاء والمتشرعة خصوصاً في مرتبة الإنكار باليد إذ لا يتصور قيام الجميع به.

والفهم الصحيح أن يكون المراد من الوجوب الكفائي أن الامتثال إذا تحقّق وحُصِّل الغرض فإنه يسقط الوجوب عن الآخرين، وإذا لم يتحقق الامتثال عصى الجميع، والظاهر أن هذا المعنى هو الموجود في أذهان الأصحاب حينما استعملوا المصطلح أولاً، قال الشيخ (قدس سره): ((اختلفوا في كيفية

ص: 201


1- تفسير الرازي: 4/182.
2- موسوعة الفقه الإسلامي: 17/153 عن الهداية: 56 والاقتصاد: 236، 24.
3- جواهر الكلام: 21/362.

وجوبه، فقال الأكثر: إنهما من فروض الكفايات إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وقال قوم: هما من فروض الأعيان، وهو الأقوى عندي))(1).

والمراد بالوجوب العيني للفريضة هنا توفّر عدة جهات فيه:

(منها) توجّه الخطاب بالوجوب إلى الجميع على حد سواء، لا بمعنى وجوب إتيان كل فرد فرد به، بل بمعنى أن المخاطب بالتكليف طبيعي المكلف المنطبق على كل فرد، ونسبة الفعل إليهم جميعاً على حد سواء.

(ومنها) وقوع الاجتزاء بالفعل المحقِّق للغرض من أي شخص كان أي بغضّ النظر عن فاعله؛ لأنهم جميعاً متساوو النسبة إليه.

(ومنها) استحقاق العقوبة على الجميع إذا لم يقم به أحد، لا أن المراد وجوب الإتيان به من كل فرد فرد.

وممن التفت إلى هذا التصحيح الشهيد الأول (قدس سره) قال: ((واعلم أنه ليس المراد بوجوبهما عيناً وجوبهما بعد تأثير الإنكار، لفقد الشرط وهو إصرار العاصي، بل وجوب مبادرة الكل إلى الإنكار وإن علم قيام غيره مقامه، وهذا هو الأصح))(2).

وقال المحقق الكركي (قدس سره): ((بل الأصح أن الوجوب عيني، ولا محذور لأن الواجب على الجميع المبادرة إلى الأمر والنهي، ولا يكفي بعض عن بعض،فلو تخلّف بعضٌ كان آثماً وإن حصل المطلوب بالبعض الآخر، ولا كذلك الوجوب الكفائي، وليس المراد أنه بعد التأثير يبقى وجوب الأمر والنهي على الباقين))(3).

أقول: لا يخفى أن كلامه (قدس سره) يستبطن المعنى غير الصحيح للكفائية.

ص: 202


1- الاقتصاد: 147.
2- موسوعة الفقه الإسلامي: 17/165 عن غاية المراد: 1/507.
3- جامع المقاصد:3/485.

وإذا اتضح هذا فحينئذٍ لا تكون ثمرة للبحث بناءً على ما حققناه في البحث الأصولي من كون الوجوب على نحو العموم الاستغراقي؛ لأن الخطاب موجّه إلى الجميع على كلا القولين، كما أنهما متفقان على سقوط الوجوب عن الآخرين إذا امتثل البعض وتحقق الغرض، لانتفاء الموضوع حينئذٍ كما لو ارتدع العاصي.

ومنه يعلم النظر في ما قاله صاحب الجواهر (قدس سره): ((وإنما يظهر فائدة القولين في وجوب قيام الكل به قبل حصول الغرض، وإن قام به من فيه كفاية على الوجوب العيني، وسقوط الوجوب عمن زاد على ما فيه الكفاية من القائمين على القول الآخر، وحينئذٍ فلو أمر أو نهى بعض وتخلّف بعض كان آثماً وإن حصل المطلوب بالبعض الآخر))(1).

الأقوال في المسألة:

اشارة

ذكرنا في بداية هذا الفصل (صفحة 157) الأقوال في المسألة، والمشهور قولان:

(الأول) القول بالوجوب الكفائي، وعليه الأكثر على ما صرّح به الشيخ الطوسي في الاقتصاد وهو الأظهر بين أصحابنا على ما ذكر ابن إدريس في السرائر، وهو الذي استقر عليه مشهور المتأخرين بعد الشهيد الثاني (قدس سره):

استُدل على كون وجوب هذه الفريضة كفائياً بوجوه:-

أولاً- من القرآن الكريم قوله تعالى: «وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ» (آل عمران:104) بتقريب أنها تدل على كون الوجوب متعلقاً ببعض الأمة لكون (من) في «منكم» تبعيضية.

ص: 203


1- جواهر الكلام: 21/362.

وفيه: ما تقدم من الوجوه العديدة في البحث القرآني من كون (من) بيانية وليست تبعيضية، ولو تنزلنا فإنها لا تنافي العموم الاستغراقي للوجوب في قوله تعالى: «كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ» (آل عمران:110) وأنها لا تخصص وجوب الفريضة بفئة معينة من الأمة دون بعض، مضافاً إلى ما ذكرناه آنفاً من عدم المساعدة على كون معنى الوجوب الكفائي هو تعلّقه بذمة بعض دون بعض.ثانياً- ومن الروايات الشريفة رواية مسعدة بن صدقة(1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سمعته يقول: وسُئل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أواجب على الأمة جميعاً؟ فقال: لا، فقيل له: ولم؟ قال: إنما هو على القوي المطاع العالم بالمعروف من المنكر، لا على الضعيف الذي لا يهتدي سبيلاً إلى أي من أي يقول من الحق إلى الباطل، والدليل على ذلك كتاب الله عز وجل قوله: «وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ» فهذا خاص غير عام، كما قال الله عز وجل: «وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ» (الأعراف:159) ولم يقل: على أمة موسى ولا على كل قومه، وهم يومئذٍ أمم مختلفة، والأمة واحد فصاعداً، كما قال الله عز وجل: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ» (النحل:120) يقول: مطيعاً لله عز وجل، وليس على من يعلم ذلك في هذه الهدنة من حرج إذا كان لا قوة له ولا عدد ولا طاعة، قال مسعدة، وسمعت أبا عبد الله يقول: وسُئل عن الحديث الذي جاء عن النبي (صلى الله عليه وآله): إن أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر، ما

ص: 204


1- لم يرد فيه توثيق وبقية السند صحيح.

معناه؟ قال: هذا على أن يأمره بعد معرفته، وهو مع ذلك يقبل منه وإلا فلا) الحديث(1).

وفيه: أن الرواية لا تصلح للاستدلال على مطلوبهم لأمرين:-

1- إنها ضعيفة السند فإن مسعدة لم يرد فيه توثيق، فلا تكون حجة على مبانيهم، وإن كان مختارنا عدم طرح روايته لمجرد هذا فتقبل إذا لم يوجد لها معارض قوي.

2- إنها لو تمت فغاية ما تدل عليه أن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشروط بالقوة والطاعة والعلم فتكون من أدلة شرائط الفريضة كاشتراط وجوب الحج بالاستطاعة والزكاة ببلوغ النصاب والصلاة بدخول الوقت، وهذا لا يخرجها عن العينية، فلا تدل الرواية على الكفائية ووجوب الفريضة على بعض دون بعض كما أرادوا.

ومع ذلك فإننا نمضي مع المشهور الذي استدل بالرواية، ونقول أنها لا تصلح أيضاً لتخصيص وجوب الفريضة ببعضٍ دون بعض كما يريد القائل بالكفائية؛ لأنها ليست بصدد بيان من تجب عليه الفريضة على إطلاقها، فإن الظاهر منها أن موردها خاص لأكثر من وجه:-

إن الكثير من موارد الأمر والنهي الشخصية والفردية كأمر الغير بالصلاة أو المرأة بالحجاب أو نهي الآخرين عن شرب الخمر وهكذا لا تحتاج إلى1- كون الآمر الناهي قوياً مطاعاً عالماً كما هو واضح ومتسالم عليه، فلا بد أن المراد بهذه الشروط مورد خاص.

2- ظاهر الخطاب أنه موجه إلى خاصة المؤمنين وليس جميعهم فضلاً عن عموم الناس ولا يمكن ادعاء أن وجوب الفريضة بجميع

ص: 205


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب 2، ح1.

مواردها مختص بهذا النطاق الضيق، إذ من المقطوع به وجوب الفريضة على كل من يرى معروفاً قد ترك كإخراج الحقوق الشرعية أو صلة الرحم أو حسن الجوار وعلى كل من يرى منكراً يرتكب كشرب الخمر أو سفور المرأة ونحوها.

3- إن نظر الفقهاء (قدس الله أرواحهم) مقتصر على الموجود على أرض الواقع من معروف متروك يراد الأمر به، ومنكر معمول به يراد النهي عنه، بينما المطلوب في الفريضة أوسع من ذلك لشمولها تهيئة مقدمات المعروف وتوفير بيئة مناسبة للعمل به ونموه وازدهاره، وسد أبواب المنكر وتجفيف منابعه –كما يقال- الاقتصادية والفكرية والاجتماعية وغيرها، وهذا لا شك واجب على الجميع، فالأصحاب حينما قالوا بالكفائية على هذا النحو فإنهم بنوا قولهم على مصاديق محدودة.

4- ما حققناه من كون خطاب الوجوب الكفائي موجهاً إلى الجميع على نحو يشبه العموم الاستغراقي والعموم المجموعي.

وحينئذٍ: يمكن تصور أن مورد الرواية مرتبط بنحو من الأنحاء الخاصة التالية:-

1- إنها ناظرة إلى مواقع محددة من مواقع المسؤولية في الأمة كالإمامة والخلافة ونيابة العلماء عن المعصوم (عليه السلام) في وظائفه، بدليل استشهاده (عليه السلام) بقوله تعالى: «وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ» وهذه وظيفة فئة في قمة الصلاح والكمال تجتمع فيها شروط معينة.

2- إنها ناظرة إلى موارد معينة من المعروف الذي يراد إقامته والمنكر الذي يراد إزالته والنهي عنه وهي تلك الواجبات التي سميناها بالواجبات الاجتماعية المرتبطة بالقيادة كالجهاد وقتال البغاة وإقامة الحدود أو

ص: 206

القضاء بين الناس أو إقامة صلاة الجمعة، أو جمع الحقوق الشرعية وإيصالها إلى مستحقيها، أي كل ما يتعلق بولاية أمر الأمة وإدارة شؤونها، ووجوب هذه مختص أيضاً بشريحة معينة من الأمة لها صفاتها وشروطها.

3- لا يبعد أن يكون السؤال في الرواية عن مدى مشروعية أو لزوم الخروج على السلطة بعنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلحاظ ما أسّسه الإمام الحسين (عليه السلام) بخروجه لطلب الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما تلاه من ثورة زيد الشهيد وخروج بعض العلويين بعده.

فحصل توهّم لدى الكثيرين بوجوب الانضمام لتلك الثورات لإيمانهم بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتغيير الواقع الفاسد.

فيكون جواب الإمام (عليه السلام) حماية لقطاع واسع من الشيعة والمسلمين عموماً ليحافظوا على أنفسهم ويحفظوا الإسلام والتشيع بوجودهم؛ لأن الإمام (عليه السلام) يريدهم لمسؤوليات أخرى.

ويكون جوابه (عليه السلام) أيضاً تعريضاً ببعض الحركات المسلحة التي خرجت لمواجهة السلطات الحاكمة بعنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح الاجتماعي إلا أنها لم تكن كلها مخلصة في نواياها وإنما هدفها الوصول إلى السلطة، مما يعرّض شيعة أهل البيت (عليهم السلام) إلى القتل والاعتقال والتشريد على نحو قوله (عليه السلام): (ما خَرَجَ ولا يخرُجُ منّا أَهل البيت إلى قيام قائمنا أَحدٌ ليدفع ظلماً أَو ينعش

ص: 207

حقاً إلا اصطلمتْهُ البليَّةُ؛ وكان قيامهُ زيادةً في مكروهنا وشيعتنا)(1). وذيل رواية مسعدة شاهد على أنها بصدد هذه الأمور العامة.

4- إن الرواية بصدد بيان من يحق له الامتثال والقيام بالفريضة، لا من تجب عليه، أي أنها تتعرض لذكر شروط الواجب لا شروط الوجوب، فامتثال الفريضة لا يصح من كل أحد وإن كان الجميع مخاطباً بها، كالصلاة الواجبة على الجميع إلا أنها لا تصح إلا من المتطهر القاصد ونحوها من الشروط، وسنبحث هذه الشروط في بحث مستقل بإذن الله تعالى.

5- ما احتمله صاحب الجواهر (قدس سره) من كون المقصود بالخطاب الإمام الجامع للشرائط خاصة، قال (قدس سره): ((بل يمكن كون المراد من الخبر للآية الإمام العادل، بل كاد يكون صريح قوله (عليه السلام): (والأمة واحد) إلى آخره، بل يمكن القطع به))(2).

أقول: على هذا تكون تعريضاً بالمتقمصين للخلافة.

6- يحتمل صدور الرواية من جهة التقية لجريانها على مذاق القوم من انحصار هذه الوظيفة بيد السلطان القوي المطاع كما تقدم في كلمة القرطبي، وإن كان سياقها بعيداً عن لسان التقية خصوصاً بلحاظ الاستدلال بالآية الكريمة.

وتحصّل مما تقدم أن رواية مسعدة التي هي دليلهم الرئيسي على القول بالكفائية لا تصلح لإثبات مطلوبهم.

ويمكن أن نستدل لهم بروايات أخرى يظهر منها انحصار الوجوب بفئة من الناس كالعلماء أو العدول كالرواية عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

ص: 208


1- شرح الصحيفة السجّاديّة، لفيض الإسلام، المقدّمة، صفحة 22.
2- جواهر الكلام: 21/361.

(إنما يأمربالمعروف وينهى عن المنكر من كانت فيه ثلاث خصال: عالم بما يأمر به وتارك لما ينهى عنه عادل فيما يأمر، عادل فيما ينهى، رفيق فيما يأمر، رفيق فيما ينهى)(1).

أقول: سيأتي الكلام عنها في الفصل الخاص ببحث الشروط.

ثالثاً- بعض الموانع عن القول بالوجوب العيني الآتي كمعلومية عدم إرادة صدوره من الكل، بعد ضم مقدمة حاصلها انحصار القول في المسألة بأحدهما على نحو مانعة الخلو.

وفيه: إنه لم يثبت صحة ما أشكل به على الوجوب العيني، ولو صحّ فإن الأقوال في المسألة لا تنحصر بالقولين بل يمكن تصور أقوال أخرى بالتفصيل بلحاظ المراتب أو الموارد كما قرّبنا وسيأتي إن شاء الله تعالى.

رابعاً- سيرة المتشرعة على كون الوجوب كفائياً، ونسبوه إلى صاحب الجواهر، لقوله (قدس سره) في الفريضة على مستوى اللسان واليد ((كما أنه يمكن القطع بملاحظة السيرة المستمرة في سائر الأعصار والأمصار بعدم الوجوب العيني فيهما)) إلى آخر كلامه الآتي (صفحة 217).

وفيه:-

1- عدم العلم بإمضاء المعصوم (عليه السلام) لسيرة الأمة وكيفية تعاطيها مع هذه الفريضة العظيمة في الجملة حتى تكون حجة، بل نعلم اعتراضه (عليه السلام) عليها وتحذيره منها كما ورد في الكثير من الروايات؛ لأنها سيرة ناشئة من ترك هذه الفريضة العظيمة وإهمالها.

ص: 209


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب 2، ح10، وباب 10، ح3.

2- ولو فرضنا أنها سيرة متشرعة فلعل مستندها شهرة القول بالوجوب الكفائي فبنى المتشرعة عليها وأنتجت حالة (التواكل).

3- إن هذه السيرة جارية في مقام الامتثال وتنفيذ حكم الفريضة فيجتزى بعضٌ بامتثال بعض، ولا يلزم منه كون الوجوب متعلقاً بذمة هذا البعض المتصدي بل هو عامٌ كما حققنا، وهذا المعنى واضح في المثال الذي ذكره صاحب الجواهر (قدس سره).

4- ولو تنزلنا فإنها تدل على القول بالتفصيل بين مرتبة الإنكار القلبي فتجب عيناً واليد واللسان فتجب كفائياً وهو تفصيل صاحب الجواهر (قدس سره) ولا تنتج القول بالوجوب الكفائي مطلقاً كما هو المدعى.خامساً- مناسبات الحكم والموضوع بأن يقال: إن الغرض من الواجبات الكفائية –ومنها مورد مسألتنا- يتعلق بتحقق الفعل خارجاً، فإذا امتثل البعض وحصل الغرض فيسقط الوجوب ولا معنى لتكليف الآخرين به.

وفيه:-

1- إن هذا لا ينافي عموم الوجوب، لكنه يسقط بانتفاء موضوعه، فهذا التبعيض في الامتثال لا ينافي عموم الوجوب.

2- ما قدمنا من تعدد الأغراض في وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يجعل الحديث عن تحقق الغرض لا موضوع له.

سادساً- جريان أصالة البراءة عند امتثال البعض وحصول الشك ببقاء الوجوب ثابتاً في حق الآخرين بتقريب أن الشك هنا في سعة الوجوب وشموله لما بعد امتثال البعض.

وفيه: إن امتثال البعض إذا كان محققاً لغرض المولى فلا معنى للشك، لحصول القطع بسقوط الوجوب لانتفاء موضوعه.

ص: 210

وإن لم يُعلم تحقق الغرض فالمورد مجرى لأصالة الاحتياط لاشتغال ذمة الجميع بالوجوب على ما حققناه من معنى الوجوب الكفائي، ولا تفرغ الذمة إلا بالبراءة اليقينية.

وسيأتي إن شاء الله تعالى البحث في أن الأصل في الوجوب العينية عند الشك بينها وبين الكفائية.

سابعاً- ما يظهر من كلمات علماء العامة من كون هذه الفريضة وظيفة فئة خاصة من المسلمين، كالسلطان –كما نقلنا عن تفسير القرطبي- مستدلاً بآية «الذِينَ إنْ مَكّنَّاهُم» أو العلماء خاصة –كما عن تفسير الرازي- وذكر لذلك وجهين:

أحدهما: اشتراط الوجوب بالعلم فيثبت أن هذا التكليف متوجه إلى العلماء وهم بعض الأمة.

ثانيهما: قوله: ((إنا أجمعنا على أن ذلك واجب على سبيل الكفاية بمعنى أنه متى قام به البعض سقط عن الباقين، وإذا كان كذلك كان المعنى ليقم بذلك بعضكم فكان في الحقيقة هذا إيجاباً على البعض لا على الكل))(1).

وفيه: أما الآية فإنها تدل على خصائص الحكومة العادلة ومعالم ولايتها ولا تدل على اختصاص الوجوب بها وإلا كان وجوب إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة خاصاً بها وهو كما ترى.وأما وجها الرازي فيرد عليهما أن العلم لا ينحصر بالعلماء فإن الكثير من موارد المعروف والمنكر معلومة لدى غيرهم أيضاً، نعم الامتثال متوقع منهم أكثر من غيرهم لمضاعفة الحجة عليهم، فإذا امتثلوا وتحقق الغرض سقط عن الآخرين وليس أن التكليف منحصر بهم.

ص: 211


1- تفسير الرازي: 8/ 177، تفسير القرطبي: 4/165.

وأما الثاني فيردّ عليه عدم الإجماع على الكفائية، وإن هذا المعنى من الكفائية لا ينافي عموم الوجوب على الكل كما حققنا في تفسير الوجوب الكفائي، ورددنا على كونه إيجاباً واحداً روحاً عندما قرَّب الشيخ الفياض (دام ظله الشريف) مثل ذلك.

وحاصل البحث في هذا القول عدم تمامية أدلته على معنى الكفائية الذي أرادوه من الأدلة، أما المعنى الصحيح للكفائية فلا إشكال عليه.

ولذلك تجد أشد القائلين بالكفائية إغراقاً في التبعيض –كالسيد الخوئي الذي تقدم تفسيره للوجوب الكفائي بأنه متعلق بواحد لكنه غير معيّن- يلتزمون بعموم الوجوب، قال (قدس سره): ((لا يختص وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصنف من الناس دون صنف، بل يجب عند اجتماع الشرائط المذكورة على العلماء وغيرهم، والعدول والفسّاق، والسلطان والرعية، والأغنياء والفقراء، وقد تقدّم أنه إن قام به واحد سقط الوجوب عن غيره وإن لم يقم به أحد أثم الجميع، واستحقوا العقاب))(1).

(الثاني) القول بالوجوب العيني:

اشارة

وهو مختار جماعة من فقهائنا كالشيخ الطوسي في الاقتصاد والنهاية وابن حمزة في الوسيلة والمحقق الحلي في الشرائع والمختصر النافع والمحقق الكركي في جامع المقاصد وغيرهم.

وقد تقدم بيان المراد بالوجوب العيني هنا ومظاهر هذا الوجوب من اشتغال ذمة الكل والاجتزاء بالفعل من أي فاعل وأثم الجميع لو لم يمتثل أحد، وأنه لا يعني لزوم إتيان كل فرد فرد بالواجب.

ص: 212


1- منهاج الصالحين: 1/352، مسألة (1272)، الطبعة (29).

ويدل عليه عموماً ما حققناه في تفسير الوجوب الكفائي وأنه ينطبق على هذه المعاني، أما الأدلة الخاصة في المقام فهي عديدة:-

1- عمومات الآيات الكريمة التي قرّبنا الاستدلال بها كقوله تعالى: «كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ» (آل عمران: 110) وغيرها.

2- خصوص قوله تعالى: «وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ» (الأعراف:165) المتقدمة (صفحة 96) بتقريب ذكرناه هناك وحاصله أن الوجوب لو كان كفائياً فقد تحقق النهي عن المنكر بالموعظة التي قالها بعضهم «وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً» فلماذا عُذّبت هذه الأمة التي لم تعظ؟.

3- عمومات وإطلاقات الروايات الشريفة المتقدمة، ومنها النبوي (لتأمرنّ بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليعمّكم عذاب الله (ح51)، والنبوي الآخر (مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به كله، وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه كله) (ح54) و (ح 27، 28) وغيرها. بل ورد النهي عن البناء على كون هذه الفريضة وظيفة بعض دون بعض في الحديث النبوي الشريف (إذا أمتي تواكلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من الله).

4- إن المطلوب في هذه الفريضة كون الفرد متصفاً ومتحركاً بهذه الفريضة وهذا مطلوب من كل أحد، وليس محل البحث منكراً معيناً نريد تغييره حتى يقال بالتبعيض ونحوه.

5- إن الوجوب العيني هو مقتضى الأصل في المقام كما سنبيّن إن شاء الله تعالى.

وأجيب عن الإطلاقات بوجود المقيِّد وهي آية «وَلْتَكُنْ مِنكُم» ورواية مسعدة ونحوها من الأدلة على الكفائية، وقد ناقشنا دلالتها في نفسها على

ص: 213

التبعيض فضلاً عن صلاحيتها لتقييد ما دلّ على عموم الوجوب، لذا قال المحقق الكركي (قدس سره): ((لأن إيجابه على بعض لا ينافي إيجابه على البعض الآخر))(1).

وادعي وجود المانع من الأخذ بالعمومات بعد الاعتراف بوجودها، والمانع هو ((معلومية كون الغرض منهما حصول ذلك في الخارج لا أنهما مرادان من كل شخص بعينه، بل يمكن دعوى عدم تعقل إرادة الحمل على المعروف باليد مثلاً من الجميع، كما أنه يمكن القطع بكون المراد من هذه العمومات مثل ما ورد منها في تغسيل الميت ودفنه ونحوهما))(2).

أقول: يتضمن كلامه (قدس سره) عدة موانع (منها) ما سميناه في القول بالكفائية بمناسبات الحكم وقد ناقشناها، (ومنها) عدم تعقل صدور التغيير باليد من الجميع (ومنها) عدم قبول الفعل نفسه للصدور من الجميع كتغسيل الميت، ودفنه مع التجريد عن الخصوصية إلى كل الواجبات الكفائية.

والملاحظ أن عدَّها مانعاً من القول بالوجوب العيني غير صحيح لأنه مبني على الفهم غير الصحيح لمعنى الوجوب العيني وهو لزوم صدور الفعل من كل فرد فرد وهو ما نفيناه، وقد شرحنا المراد منه، ولذا طالبنا بطرح المفهوم الصحيح للوجوب العيني الذي لا يأتي عليه الإشكال اللازم على العينية والعموم الاستغراقي.

مضافاً إلى عدم صحة التجريد عن الخصوصية لاختلاف الواجبات الكفائية في قبول صدورها من الجميع.والنتيجة أن المقتضي للقول بالوجوب العيني موجود والمانع مفقود، ولكن الذي يهوِّن الخطب ما قرّبناه من عدم وجود فرق بين القولين فيما نحن فيه.

ص: 214


1- جامع المقاصد: 3/484.
2- جواهر الكلام: 21/360.

وبناءً على ما شرحناه من المراد بالوجوب العيني هنا فإنه لا يقتضي دائماً تصدي كل فرد لفعله كما لو كان التغيير بالضرب باليد، إذ لا يتصور قيام الجميع به على نحو الاشتراك.

ولا يقتضي أيضاً التصدي لكل مورد؛ لمعلومية اشتراط بعضها بإذن الحاكم الشرعي كالضرب الجارح فضلاً عن القتل، كما أن بعضها لا يقوم به إلا ذوو الاختصاص كمداواة الجريح والمريض أو القيام بسائر المصالح العامة بل حتى مثل تغسيل الميت ودفنه.

ولكن هذه الاشتراطات لا تضرّ بعينية الوجوب بالمعنى الذي ذكرناه لأنها من لواحقه لتعلقها بالواجب حين الامتثال أي أنها من باب تنوع آليات تنفيذ الواجب، وهذا البحث سنفصله في الفصل المختص بالشروط إن شاء الله تعالى.

أقوال بالتفصيل:

(الأول) للقاضي ابن البرّاج حيث قال: ((وربما كان ذلك فرضاً على الكفاية، وربما تعلق بالأعيان، فأما كونه فرضاً على الكفاية فمثل أن يأمر بعض المكلفين بمعروف أو ينهى عن منكر، فيؤثر أمره أو نهيه في ذلك، فيقع المعروف أو يرتفع المنكر، فسقط الوجوب عن الباقين، فأما ما يتعلق بالأعيان فأن يأمر بمعروف أو ينهى عن المنكر، فلا يؤثر أمره ولا نهيه فيما أمر ونهى عنه ولا غيره على وجه الانفراد والوحدة دون الباقين، فيكون فرضاً على الأعيان، فيجب على كل واحد من المكلفين، كما يجب على غيره منهم إلى أن يحصل المعروف أو يرتفع المنكر، فإذا كان كذلك سقط الفرض عن الجميع. هذا مع تمكن الجماعة من

ص: 215

ذلك، (وأما) إن اختص التمكن ببعض المكلفين دون بعض آخر منهم، فإن فرض ذلك لازم للمتمكنين دون من ليس بمتمكن))(1).

أقول: يرد عليه:-

1- إن هذا التفصيل –بين ما لو أثّر كلام المكلف الأول الذي أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو كفائي ولا يجب على غيره، وبين ما لم يؤثر فيجب على غيره أيضاً إلى أن يحصل المطلوب- هو مقتضى القول بالكفائية بالمعنى الصحيح الذي ذكرناه من الاجتزاء بامتثال البعض وإثم الجميع لو لم يتحقق الامتثال وليس قولاً جديداً بالتفصيل، ولذا ردّ عليه العلامة (قدس سره) بقوله: ((وهذا الذي اختاره مذهب السيد بعينه؛ لأن واجب الكفاية هو الذي إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وإن لم يقم به البعض وجب على الجميع))(2).

أقول: وهذا لا ينافي توجّه الخطاب إلى الجميع واشتغال ذممهم به وهو الذي أوجب استحقاقهم العقاب عند عدم الامتثال، وليس أن الوجوب كان موجهاً إلى البعض ثم توجّه إلى الكل عند عدم الامتثال فقد أبطلناه مراراً.

2- إنه مبني على القول بالوجوب المشروط؛ لأنه اشترط في الوجوب على الجميع عدم امتثال البعض وقد أبطلناه.

3- بل إن نفس هذا القول يلزم منه الوجوب على الجميع لأن العدم متحقق من أول الأمر ثبوتاً بالعدم الأزلي وإثباتاً بالأصل، فالوجوب ثابت على الجميع بمقتضى هذا القول.

ص: 216


1- موسوعة الفقه الإسلامي: 17/165 عن المهذب: 1/340.
2- المختلف: 4/473.

وكأن التعبير الصحيح لمراده هو العكس أي أن الوجوب عيني على كل أحد إلا إذا امتثل البعض فيكون كفائياً بمعنى سقوطه عن الآخرين.

(الثاني) التفصيل في المراتب فالوجوب عيني بلحاظ الإنكار القلبي وكفائي بلحاظ اللسان واليد أو في خصوص اليد، قال أبو الصلاح الحلبي: ((فما يتعلق منه بأفعال القلوب من إرادة الواجب وكراهية القبيح فرض يعم كل مكلف علمهما، وما عدا ذلك من الأقوال والأفعال المؤثرة في وقوع الحسن وارتفاع القبيح يقف وجوبه على شروط خمسة ... وإذا تكاملت هذه الشروط ففرضهما على الكفاية، إذا قام به بعض من تعيّن عليه سقط عن الباقين..))(1).وقال صاحب الجواهر (قدس سره): ((ويمكن أن يقال بعينية الإنكار القلبي على كل مكلف، ودونه في الاحتمال الأمر اللساني، وأما الحمل عليه –أي المعروف- بضرب ونحوه فيمكن القطع بعدم العينية فيه، فيكفي حينئذٍ وقوعه من البعض فيسقط عن الآخر ولا إثم عليه وإن كان قادراً على ما وقع من غيره أيضاً، كما أنه يمكن القطع بملاحظة السيرة المستمرة في سائر الأعصار والأمصار بعدم الوجوب العيني فيهما، ولذا يكتفي ذو القدرة عليهما بإرسال من يقوم بهما عن مضيه بنفسه وعن مضي غيرهم ممن هو مشترك معهم في التكليف كما هو واضح))(2).

أقول: ويرد عليه:-

1- في ضوء ما تقدّم يعلم النظر في هذا القول، وأنه تفصيل في كيفية الامتثال في المرحلة اللاحقة للوجوب ولا يصح أن يكون تفصيلاً في الوجوب؛

ص: 217


1- الكافي في الفقه: 365، 367، نقلاً عن موسوعة الفقه الإسلامي: 17/166-167.
2- جواهر الكلام: 21/362.

لأنه تعلّق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أما كيف يكون ذلك؟ ومن الذي يقوم به؟ وهل يتمكن الجميع من فعله فهذا من شؤون الواجب.

2- مضافاً إلى أن هذا لو كان قولاً بالتفصيل لما بقي قائل بالكفائية، إذ أنهم يجمعون(1)

على عينية الإنكار القلبي لأنه من الإيمان، ومن لا ينكر بقلبه معصية لا إيمان له.

3- إن لازم القول بالتفصيل استعمال اللفظ في أكثر من معنى الذي هو مستحيل عندهم، لأن دلالة أدلة وجوب هذه الوظيفة واحدة، فكيف أفادت الوجوب العيني في بعض الموارد والوجوب الكفائي في موارد أخرى؟

وبتعبير آخر: إن إطلاق الوجوب أو عمومه يعني سعة مفاده وانحلاله بحسب موارده، ولا يعني تعدد مفاده حسب موارده.

4- ما سنعرضه في فصل مراتب الوظيفة من أن الإنكار القلبي بحد ذاته أي من دون إبرازه ليس مصداقاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنه أمر آخر ويرتبط بالاعتقاد بالله تبارك وتعالى لاختصاصه بصاحبه وعدم تعدّيه إلى غيره، فكيف يُقسَّم وجوب الفريضة له ولغيره؟

وإن أريد به مع ما يبرزه إلى الآخر فيكون القول بالعينية فيه مصادرة على المطلوب وأن ما يجري في اللسان واليد يجري فيه حينئذٍ.

5- ((وأما إذا كان مردّ هذا التفصيل إلى أن مرتبة اليد يُعلم فيها أنها لا تعطى للجميع للزوم الهرج والمرج من ذلك فلا بد أن تكون منضبطة، فهذا الكلام لا يساوق الكفائية، بل يفرض –لو تم- وضع شروط على من يستخدم مرحلة اليد بحيث لا يسمح لأي إنسان بإعمال هذه المرتبة،

ص: 218


1- راجع مثلاً الرسائل العملية للمعاصرين.

سواء أراد إعمالها لأنها واجبة عيناً عليه أم لوجوبها عليه على نحو الكفائية مع عدم قيام غيره بذلك))(1).

6- وقد تقدم الجواب عن السيرة، أما ما ذكره (قدس سره) من الشاهد على السيرة القطعية فهو على خلاف ما أراد (قدس سره) لأن الامتثال أعمّ من أن يكون بالمباشرة أو التسبيب أو التوكيل أو الدلالة أو المأذونية ونحوها، فهذا الذي أرسل غيره يُعدّ ممتثلاً بالتوكيل، كمن يوكّل غيره في أداء بعض مناسك الحج التي يعجز عنها.

وتبعهم على هذا التفصيل بعض الأعلام قائلاً: ((لا ينبغي لك أن تستبعد كون الواجب الواحد عينياً وكفائياً معاً، فإن لهذا الواجب موقعاً خاصاً وشؤوناً مخصوصة، وكونه ذا مراتب من أحد شؤونه، فبالنسبة إلى مرتبة منه يكون عينياً وبالنظر إلى مرتبة أخرى منه كفائياً، وصاحب الجواهر أيضاً مع ذهابه إلى كونه كفائياً ذاتاً، قال: يمكن أن يقال أنه بالنسبة إلى الإنكار القلبي واجب عيني على كل مكلف))(2).

أقول: هذه المراتب لا يختص بها واجب دون غيره فتصريحه بخصوصية المقام لا وجه له، والتفصيل بلحاظها لا يعتبر تفصيلاً في الوجوب الذي هو عيني، وإنما تفصيل في الامتثال كما تقدم.

(الثالث) ((التفصيل في المراتب أيضاً، وهو القول بالوجوب العيني على الحاكم أو من يقوم مقامه في الإنكار باليد، والوجوب الكفائي على جميع المكلفين في الإنكار باللسان وبالقلب؛ وذلك جمعاً بين ما دلّ على عصمة النفوس، وحرمة

ص: 219


1- فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 187.
2- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - بحوث فقهية للشيخ حسين النوري الهمداني: 65.

إراقة الدماء، والتصرف في نفوس الغير، وحفظ النظام، بل ما ورد في تفسير الأمة في الآيات الواردة فيها بأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو بالإمام القوي المطاع العالم، كروايتي مسعدة بن صدقة المتقدمتين))(1).

أقول: لم ينسب المصدر هذا القول إلى قائله، وقد اتضحت المناقشات فيه مما تقدم فلا نعيد، وإنما ذكرناه لتقليب الوجوه والآراء.فرع: قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((لا إشكال في سقوط المبادرة على الكفائية مع القطع بقيام الغير، حتى لو بان بعد ذلك فساد القطع ولم يكن محل بعد للتكليف لم يكن آثماً، للسيرة المستمرة في سائر الأعصار والأمصار على عدم المبادرة بمجرد العلم بموت زيد مثلاً لتغسيله مع القطع بقيام الغير به وإن ظهر بعد ذلك فساد القطع بل لا يبعد الاكتفاء بالظن الغالب المتاخم للعلم لها أيضاً، بل ربما احتمل الاكتفاء بمطلق الظن وإن كان فيه نظر أو منع، للأصل السالم عن المعارض))(2).

أقول: يمكن التعليق على كلامه (قدس سره) على مستويين:

أولهما: على المستوى الأخلاقي المستفاد من التربية القرآنية وسيرة المعصومين (عليهم السلام)، وقد تقدمت مطالبة آيات كثيرة باستباق الخيرات والمسارعة إليها ولو بالتوكيل أو التسبيب أو الدلالة باعتبار الحديث الشريف (الدال على الخير كفاعله).

وقد أشرنا في مواضع عديدة إلى ضرورة تعرض التفكير الفقهي لروح الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة وإن كان معهم حق على

ص: 220


1- موسوعة الفقه الإسلامي: 17/167.
2- جواهر الكلام: 21/362.

مستوى الشريعة الظاهرية التي يراد تربية عامة الناس عليها بالاكتفاء بالحدود الدنيا منهم.

ثانيهما: على مستوى القواعد الفقهية المعمول بها وحينئذٍ يقال أن ما ذكره (قدس سره) وأسنده إلى السيرة المستمرة من عدم وجوب المبادرة له منشآن:-

1- عدم القول بالفورية وأن إطلاق الأمر لا يقتضيها، وهذا صحيح كبروياً إلا أن المناط في وجوب المبادرة وعدمها حينئذٍ يكون في صدق التهاون بالفريضة وتضييعها، والنسبة بين هذا المناط والمناط الذي ذكره –أعني مراتب العلم والظن- عموم من وجه.

2- اشتراط وجوب الواجبات الكفائية ومنها هذه الفريضة بعدم إتيان الآخر على نحو الوجوبات المشروطة كما تقدم في تفسير حقيقة الوجوب الكفائي، فلا يكون الوجوب فعلياً محركاً للإتيان به إلا بعد إحراز هذا الشرط.

ويرد عليه: أن لازمه سقوط الوجوب عند الظن بقيام الآخر بل احتماله لتحقق الشك حينئذٍ بحصول شرط الوجوب، ولا حاجة إلى اشتراط العلم وما يقرب منه ابتداءً، لكفاية الاحتمال، مضافاً إلى أن أصل هذا المبنى في تفسير الوجوب الكفائي قد أبطلناه في البحث الأصولي المتقدم.

والنتيجة أن عدم المبادرة إلى القيام بالواجب منوط بعدم صدق الإهمال والتضييع وإلا فتجب.

مقتضى الأصل عند الشك في العينية والكفائية

اشارة

إذا علمنا بكون الواجب عينياً أو كفائياً وفق الضوابط المتقدمة (صفحة 199) فهو، وإذا شككنا فما هو مقتضى الأصل؟.

ص: 221

والبحث تارة يكون في الأصل اللفظي وأخرى في الأصل العملي، فالكلام في مقامين:

(المقام الأول) مقتضى الأصل اللفظي:

اشارة

قال صاحب الكفاية (قدس سره): ((قضية إطلاق الصيغة كون الوجوب نفسياً تعيينياً عينياً لكون كل واحد مما يقابلها يكون فيه تقييد الوجوب وتضييق دائرته، فإذا كان في مقام البيان ولم ينصب قرينة عليه فالحكمة تقتضي كونه مطلقاً وجب هناك شيء آخر أو لا، أُتي بشيء آخر أو لا، أتى به آخر أو لا)).

أقول: محل البحث هو الأخير من الثلاثة، ومقتضى الإطلاق كون الوجوب عينياً؛ لأن الكفائية بمعنى سقوط الوجوب بفعل الغير يحتاج إلى مؤونة زائدة، إذ الظاهر من توجيه الأمر إلى فرد أو مجموعة بالقيام بفعل معين إرادة أمرين: تحقق نفس الفعل ومدخلية صدوره من المخاطب، كما لو أمر زيداً بالذهاب إلى السوق فإنه يريد الذهاب إلى السوق لا غيره، ويريد صدوره من زيد لا غيره، أما عدم مدخلية المخاطب التي هي مقتضى الكفائية فإنها خلاف المتفاهم العرفي وتحتاج إلى بيان.

وبهذا يتضح أن المراد بالإطلاق هنا ظهور الصيغة لو خلّيت وطبعها، وليس الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة كما ذهب إليه في الكفاية، وستأتي الإشارة إلى ثمرة لهذا التفريق الدقيق.

وهنا فصّل السيد(1)

الخوئي (قدس سره) ومن تبعه البيان بعدم الفرق في هذه القضية بين أنحاء تفسير الوجوب الكفائي، ثم ذكروا تلك الأنحاء، وهو كلام لا فائدة فيه لأن المراد نفيه بالإطلاق واحد في الجميع وهو هذه الخصيصة للوجوب الكفائي وهو سقوطه بامتثال الغير، ولا دخل لوجوه تفسير الوجوب

ص: 222


1- الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي: 44/8، المباحث الأصولية: 3/332.

الكفائي لأن المفروض احتفاظ جميع التفاسير بهذه الخصوصية وإلا خرجت عن كونها تفسيراً للوجوب الكفائي.

ولعل الذي دفعه إلى ذلك تعبير صاحب الكفائية (قدس سره) المتقدم : ((فالحكمة –أي مقدماتها- تقتضي كونه مطلقاً .. أتى به آخر أو لا)) ففهم منه أنه تقريب للإطلاق بناءً على تفسير الوجوب الكفائي بالوجوبات المشروطة، وهذا الظن واضح في عبارة السيد الحكيم (قدس سره)، قال (قدس سره): ((ومعنى كونه كفائياًأنه منوط بعدم فعل مكلّف آخر، وهذه الإناطة تقييد في الوجوب ينفيه إطلاق دليله))(1)

فرأى من واجبه تعميم التقريب إلى كل التفاسير الأخرى.

وهذا الفهم غير صحيح لأن المطلوب إثبات الإطلاق بلحاظ خصوصية الوجوب الكفائي وهي سقوطه إذا أتى به الغير وهو التقييد المدعى، وتعبير صاحب الكفاية صريح بذلك؛ لأن هذه الخصوصية هي محل البحث والشك، وليس الإطلاق بلحاظ الوجوب المشروط الذي هو عكس هذا التعبير وحاصله: يجب إذا لم يأتِ به الآخر، وأين هذا من ذاك؟ فلا بد أن ينصبّ تقريب الإطلاق على نفي هذه الخصوصية للواجب الكفائي الثابتة بغضّ النظر عن تفسير حقيقته.

احتمال آخر في المقام:

نفى البعض(2)

وجود شبهة في كون مقتضى الإطلاق العينية، لذلك لم يتعرضوا للاحتمال المقابل لهذا الإطلاق(3)، مع أنه يرى أن للوجوب العيني حداً خاصاً كالكفائي كما سيأتي، لذا يحتمل في مقابل مقتضى الإطلاق هذا أن

ص: 223


1- حقائق الأصول: 1/180.
2- المباحث الأصولية للشيخ الفياض: 3/332.
3- محاضرات في أصول الفقه من الموسوعة الكاملة للسيد الخوئي (قدس سره): 44/8، المباحث الأصولية: 3/332.

يقال: ((إن كلاً من التعيينية والنفسية والعينية خصوصية في الوجوب كخصوصية التخيير والغيرية والكفائية وكل من الوجوب التعييني والنفسي والعيني فرد خاص كالوجوب التخييري والغيري والكفائي، فكيف يكون مقتضى الإطلاق إرادة هذه الخصوصية دون تلك وتعيين هذا الفرد دون ذاك؟. فإن كلاً منها فرد يقابل الآخر، وليس الوجوب العيني النفسي التعييني هو نفس طبيعة الوجوب بحيث تطرأ عليها الغيرية والكفائية كما لا يخفى))(1).

وقرّب سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) هذا الاحتمال بقوله: ((إن العينية خصوصية زائدة تحتاج إلى قرينة كالكفائية، وحيث يفترض عدمها يكون الظهور بخلافها. ولا أقل من تعارض الظهورين بعدم العنوانين: العيني والكفائي وتساقطهما))(2).

ويرد عليه: ما تقدم من أن المراد بالإطلاق هنا الظهور لو خلي وطبعه بلا قرينة فإنه يقتضي العينية ويثبت بلا حاجة إلى مؤونة زائدة وليس الإطلاق المبنيعلى مقدمات الحكمة حتى يرد عليه الإشكال، ويعامل كالكفائي بالاحتياج إلى القرينة لأن العينية ليست خصوصية زائدة على أصل الوجوب.

وبتعبير آخر: إننا قلنا أن العينية والكفائية ليسا عنوانين شرعيين، وإنما هما مصطلحان منتزعان من صفات وخصائص في الواجبات، والواجبات ظاهرة في العينية لو خليت وطبعها فهي مقتضى الأصل، وأن الكفائية تحتاج إلى مؤونة زائدة والمفروض عدمها.

وقد قرّبنا في الصفحة السابقة كيفية هذا الظهور، بل يمكن دعوى أن طبيعة الوجوب هي نفس الوجوب العيني خلافاً لما ادعاه المستشكل في ذيل كلامه، وسيأتي تقريبه عند إجراء الاستصحاب.

ص: 224


1- منتقى الأصول: 1/509.
2- منهج الأصول: 4/221.

لا يقال: يلزم على هذا أن يكون تقسيم الوجوب إلى عيني وكفائي من تقسيم الشيء إلى نفسه وغيره وهو ممنوع.

فإنه يقال: إننا قلنا أن التقسيم إلى العيني والكفائي هو من تقسيمات الواجب لا الوجوب فلا يرد الإشكال.

أما على صعيد الوجوب فهما واحد، وكلاهما موجه إلى الجميع ويجتزأ بإتيانه من الجميع، ويشتركان في سقوطهما بانتفاء الموضوع، إلا أن اختلافهما من جهة طبيعة الواجب أي متعلق الوجوب فإن الكفائي مما ينتفي موضوعه بفعل الغير دون العيني، فتكون النسبة بين الواجب الكفائي والعيني كالنسبة بين الخاص والعام، وهذه الأفكار تطرق أسماع المشهور لأول مرة.

وأجاب في منتقى الأصول عن الإشكال الذي أورده بقوله (قدس سره): ((إن التعيينية والنفسية والعينية وإن كان كل منها خصوصية طارئة على الوجوب، إلا أنها سنخ خصوصية تتلاءم مع نحو من أنحاء الإطلاق في الوجوب وتلازمه، فإذا ثبت ذلك الإطلاق ثبت هذا الفرد الخاص بالملازمة، فحيث أن خصوصية العينية تلازم ثبوت الوجوب مطلقاً سواء أتى به آخر أو لم يأتِ به كان إثبات إطلاق الوجوب في حال إتيان الغير بالمتعلق وعدم إتيانه ملازماً لثبوت خصوصية العينية وكون الوجوب عينياً، كما أن خصوصية التعيينية ملازمة لإطلاق الوجوب من جهة وجوب شيء آخر وعدمه، فمع التمسك بالإطلاق في إحدى هذه الجهات تثبت الخصوصية الملازمة له فلاحظ))(1).

أقول: تقدم أن العينية ليست خصوصية طارئة على الوجوب،مضافاً إلى أن هذا الجواب يبقى دعوى ما لم يوجّه بدليل إذ يمكن دعوى الملاءمة مع الوجوب الكفائي أيضاً لما قلناه من أن سقوطه بسبب انتفاء موضوع الوجوب وهو أمر يشترك فيه مع الوجوب العيني، والفرق بينهما في طبيعة الواجب، كما أن

ص: 225


1- منتقى الأصول: 1/509-510.

الطلب مثلاً ملائم للوجوب والاستحباب معاً فلا يصح جعل هذه الملاءمة دليلاً على إفادتها للوجوب.نعم إذا كان قصده من الملاءمة ظهوره فيه أو مطابقته له كان كافياً كما قرّبنا.

أما التعارض الذي ذكره سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) فقد ظهر جوابه:-

1- لعدم وجود تعارض أصلاً؛ لظهور الوجوب في العيني،وأنه هو من دون الحاجة إلى قرينة.

2- ولو فُرض عدم وجود قرينة على كلتا الخصوصيتين فهو يعني الإجمال وليس التعارض لعدم تحقق ظهور في أي منهما.

وأجاب (قدس سره) بقوله: ((إن هذا التعارض لا يمكن أن يتحقق لأنه:- أ- بنحو القرائن المتصلة، وفيها لا يكون مقتضى الظهور موجوداً ليقع طرفاً للمعارضة، بل تكون الكلمة مجملة رأساً. ب- مع التنزل فإن الإطلاقين المتنافيين المتصلين لا يتعارضان. إما لوجود المانع، وهو صلاحية كل منهما لتقييد الآخر والقرينية عليه، وإما لعدم المقتضي؛ لأن المتكلم الذي يكون هكذا لا يحتمل أن يكون في محل البيان من كلتا الجهتين. فلو كان المستند هو الإطلاق لم يتعارضا، بل يرجع الأمر إلى الإجمال. وكذلك لو كان المستند هو الظهور السياقي، غير أن المانع هنا هو وجود المانع بعد تمامية المقتضي الذي هو الدلالة الوضعية، إلا أن المانع المتصل موجود، فلا يعمل المقتضي عمله.

وهذا لا يفرق فيه بين ما يكون التعارض فيه بين الظهور بالعينية والكفائية، أو بين الظهور بالعينية والظهور بعدمها، كما هو محل الشاهد))(1).

ص: 226


1- منهج الأصول: 4/221-222.

أقول: لا تخلو عباراته (قدس سره) من تسامح في التعبير كقوله: ((بنحو القرائن المتصلة)) والمفروض عدم وجود قرائن، وقوله: ((فإن الإطلاقيين)) والمفروض عدمهما، وقوله (قدس سره): ((وهذا لا يفرق فيه)) مع وجود الفرق لأن الثاني ليس الأول إلا على القول بالأصل المثبت.

أما كبرى استفادة الإطلاقين من مقدمات الحكمة كما يظهر من كلامه (قدس سره) فإنها غير تامة في مدرسة الشهيد الصدر الأول (قدس سره) التي ينتمي إليها، وإن لم يصل ببحثه الشريف إلى مباحث المطلق والمقيد حيث استشهد قبل ذلك، وقد شرحنا ذلك في كتاب الصوم(1)، وقلنا أن الإطلاق يستفاد من الدلالة السياقية، أما مقدمات الحكمة فثمرتها إثبات أن تمام المراد الجدي للمتكلم في عالم الثبوت هو ما صدر منه في عالم الإثبات، وهو ما يعرف بأصالة تطابق عالمي الإثبات والثبوت.

(المقام الثاني) مقتضى الأصل العملي:

اشارة

ونبحث فيه عن الأصل العملي الجاري عند الشك في واجب أنه كفائي أو عيني، أي هل أن الوجوب يسقط بإتيان الغير أم لا؟ وإذا نقلنا السؤال إلى مبادئ الحكم فنقول: هل أن غرض المولى متعلق بصرف وجود هذا الفعل بغض النظر عن فاعله فيتحقق غرضه بمجرد وقوعه خارجاً؟ أم أن غرضه يتعلق بصدور الفعل من الأفراد فلا يسقط إذا امتثل البعض؟

ولم تتعرض بعض المصادر(2)

لمناقشة الأصل العملي أصلاً.

ويحتمل فيه جريان عدة أصول:

(الأصل الأول: الاستصحاب):
اشارة

لم أجد من قرّب هذا الأصل هنا واكتفوا بمناقشة أصلي البراءة والاشتغال مع وجود وجه لجريانه باعترافهم كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ومع

ص: 227


1- الفقه الباهر: 146، فقه الخلاف، كتاب الصوم: 3/ 146، ط. الثانية.
2- بحوث في علم الأصول: 2/114، منتقى الأصول: 1/512.

أهميته؛ لأنه لو تم فلا موضوع للأصلين الآخرين الذي هو الشك، أو قل إن موضوعهما عدم وجود حالة سابقة.

نعم تعرّض له سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) ضمن عدة تقريبات للأصول العملية واحتمل جريانه، قال (قدس سره): ((أنه بعد امتثال البعض يجري استصحاب اشتغال الذمة لأنه لو كان كفائياً فقد سقط، ولو كان عينياً فلا زال موجوداً، وهو منتج للعينية، لأنه عندئذٍ يجب على الباقين الامتثال أيضاً))(1).

وأجاب (قدس سره) بأن ((هذا من استصحاب الكلي من القسم الثالث، كمثال البقة والفيل، والصحيح جريانه)).

أقول: يمكن التعليق بعدة نقاط:-

1- لم يبيّن (قدس سره) كيف أن استصحاب كلي الوجوب منتج للعينية مع أنه (قدس سره) يفترض أنها فرد خاص منه، واستصحاب الكلي لا ينتج ترتيب آثار الفرد الخاص.

2- المناقشة في الكبرى إذ لا نقول بجريان الاستصحاب في الكلي من القسم الثالث، والقول بجريانه خلاف التحقيق، ولم يمتد عمره الشريف ليباحث الاستصحاب حيث عاجلته الشهادة.

3- إن المورد ليس من القسم الثالث بل من القسم الثاني؛ لأن الشك في بقاء الكلي –الذي هو الوجوب- سببه الشك في نوع فرد الوجوب المتيقن سابقاً، لتردده بين ما هو باقٍ جزماً بعد امتثال الغير فيما لو كان الوجوب عينياً، وبين ما هو مرتفع جزماً بامتثال الغير فيما لو كان الوجوب كفائياً، وهذا هو القسم الثاني من استصحاب الكلي.

ص: 228


1- منهج الأصول: 4/223.

وهذا الذي عبروا عنه بأن الفرد الواقعي مردد بين أن يكون له عمر طويل فهو باقٍ جزماً في الزمان الثاني وبين أن يكون له عمر قصير فهو مرتفع جزماً في الزمان الثاني، ومن أجل هذا الترديد يحصل له الشك في بقاء الكلي.

ولإنصاف سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره) نقول: لعل ورود لفظ الثالث في منهج الأصول(1)

هو من سهو القلم، وإلا فإنه (قدس سره) يريد به الثاني، وذِكر مثال البقة والفيل شاهد على هذا، والشاهد الآخر أنه (قدس سره) لا يقول بجريان الاستصحاب في القسم الثالث كما صرّح في مواضع متعددة من كتابه، كقوله في نهاية مبحث التعييني والتخييري: ((لكنه من استصحاب الكلي من القسم الثالث، والمشهور والصحيح بطلانه))(2).

أما القسم الثالث فإن منشأ الشك في وجود الكلي احتمال وجود فرد آخر غير الفرد المعلوم حدوثه وارتفاعه يقوم مقامه ويستمر وجود الكلي وإلا فإن وجود الكلي ينقطع بارتفاع الفرد الأول، والمورد الذي نحن فيه ليس من هذا القبيل بل على نحو القسم الثاني كما قرّبنا.

ونحن نقول بجريان الاستصحاب في القسم الثاني فيجري هنا استصحاب اشتغال الذمة بالوجوب.

لكن تصوير الاستصحاب على هذا النحو يتوقف على أمرين على الأقل:-

1- تفسير الوجوب الكفائي على نحو العموم الاستغراقي ليكون اشتغال ذمة الآخر بكلي الوجوب متيقناً، وإلا فإنه ليس كذلك على بعض التفاسير الأخرى كاشتغال ذمة الواحد المعين أو غير المعين، فيكون القول مبنائياً.

ص: 229


1- راجعت تقريراتي فوجدته (قدس سره) يذكر استصحاب الكلي مجرداً عن وصفه بالثاني أو الثالث.
2- منهج الأصول: 4/202.

2- كون الوجوب الكفائي والعيني فردين متباينين يجمعهما كلي الوجوب لنبحث استصحاب الكلي دون الفرد الخاص، لكننا قرّبنا أن الأمر ليس كذلك لأن الوجوب حقيقة هو الوجوب العيني وظاهر فيه بكل مقتضياته، فيكون المورد من استصحاب الفرد ويتبعه الكلي، وهذا من القسم الأول المتفق على جريانه.

أما الوجوب الكفائي فغاية ما يمكن أن يقال فيه أنه تخصيص في الوجوب، لأنه يستثني خصوصية واحدة وهي اقتضاء توجّه الوجوب إلى كل فرد فرد على نحو العموم الاستغراقي لزوم صدوره من كل فرد فرد وإن ما قام به من يتحقق بهم الغرض، فبهذا التخصيص حصل الاكتفاء بامتثال البعض الذي يسقط به الغرض، فإذا شككنا في الخاص استصحبنا العام.والنتيجة إلى الآن جريان استصحاب اشتغال الذمة، إما لجريانه في الفرد الخاص –أي القسم الأول- أو لجريانه في الكلي على نحو القسم الثاني وهو ملازم لحصة العينية.

وإذا أردنا تصويره على نحو الكلي من القسم الثالث فيمكن تقريبه بأن يقال: إن القدر المتيقن من الوجوب ابتداءً هو تحققه مشروطاً بعدم إتيان الآخر، فإذا أتى به الغير سقط الوجوب، لكننا نحتمل وجود فرد جديد من الوجوب المشروط إما لاحتمال عدم تحقق الغرض بالامتثال الأول ونحوه، فيكون من القسم الثالث الذي لا نقول بجريانه.

لكن هذه كلها مجرد فروض علمية لشحذ الذهن، وإلا فإن الوجوب ثابت في ذمم الجميع من أول الأمر على كل تقدير سواء كان الوجوب عينياً أو كفائياً كما قرّبنا وليس عند ارتفاع الفرد الأول، وأنه مطلق غير مشروط فيجري الاستصحاب كما قرّب سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره).

ص: 230

وجه لمنع جريان الاستصحاب:

لكن يمكن المنع من جريان الاستصحاب من جهة أخرى بناءً على القول بالتفصيل في حجيته بين كون منشأ الشك قصور المقتضي عن الاستمرار بالبقاء أو حصول المانع منه، فيجري في الثاني دون الأول.

فيقال هنا أن منشأ الشك هو في سعة الوجوب وشموله لما بعد الامتثال فيكون من الشك في المقتضي ولا يجري فيه الاستصحاب، وأنا ممن يميل إلى هذا القول بهذا التفصيل.

ويصلح هذا المورد للنقض في مباحث الأصول على من قال بالإطلاق في حجية الاستصحاب إذا كان ممن لا يقول بنتيجة العينية عند الشك؛ لأن استصحاب كلي الوجوب جارٍ كما سننقل اعترافهم بذلك، وهو مثبت للعينية، فلماذا كانت نتيجة الأصل عندهم الكفائية؟ وإذا كان جوابهم بالاعتماد على جريان أصالة البراءة –كالسيد الخوئي (قدس سره) والشيخ الفياض- فيرد عليهم أن الاستصحاب مقدَّم.

تقريبان آخران للاستصحاب:

ثم قرّب (قدس سره) الاستصحاب بوجهين آخرين:

أولهما: ((إجراء الأصل العملي في اللفظ، وهذا ما لم أره في كتب أسلافي(1)

لأن الأصل كما يجري في عالم الخارج كذلك في الذهن وفي اللفظ، وفتح هذا الباب شيء جيد بغضّ النظر عن ترتب أثر عملي عليه))(2).

ص: 231


1- عرضت عليه (قدس سره) بعد الدرس فكرة متعلقة بهذا الباب قلت فيها كما هو مسجل في هامش تقريراتي: ((إن جريان بعض القواعد والأصول في الألفاظ مما انقدح في ذهني سابقاً ولم أحقق فيه، فمثلاً ذكر الشهيد في اللمعة خلافاً حاصله أن المبطل للصلاة هل هو (البكاء) أم (البكا) والأول خروج الدمع بصوت، والثاني بدونه، فعندنا هنا قدر متيقن من اللفظ وهو (البكا) فهل نأخذ به ونجري البراءة من الزائد وهي الهمزة، كما نفعل في دوران الأمر بين الأقل والأكثر. قال (حفظه الله): لا ثمرة في ذلك لأن النظر قبل إجراء هذا الأصل في الأمارات وهو النص المفروض وجوده. قلتُ: أما الثمرة العملية فموجودة كما في المثال، وأما النص فالمفروض اختلاف النسخ فيه بحيث لم يترجح أحدها. قال (حفظه الله): فتتعارض وتتساقط. ثم قلت: على القول بجريان القاعدة فيه أي نفي الزيادة في اللفظ، فكيف نتصرف عندما تكون نتيجة إجراء القواعد في مدلول اللفظ أي الحكم عكس ذلك، كما في المثال، فإن القدر المتيقن من المبطل خروج الدمع بصوت وهو يثبت معنى البكاء، وإجراء القاعدة في اللفظ يثبت (البكا) فأيهما يقدَّم؟ قال (حفظه الله): تجري في اللفظ لأنه بمنزلة العلة للمعنى. قلت: لكن اللفظ غير ملحوظ بنفسه بل لحاظه طريقي للمعنى وهو قالب له وفانٍ فيه، أما الملحوظ أولاً وبالذات فهو المعنى فهو المقدَّم. قال (حفظه الله): بل في اللفظ لمدخلية القالب في اللحاظ، والقالب إنما هو اللفظ)). أقول: انتهى الحوار إلى هنا وسجّلت في ذيله: ((يقوى في نفسي عدم جريان ذلك في اللفظ لأن أفراده دائماً متباينة وليست من الأقل والأكثر فلا يوجد قدر متيقن، وربما تجرأت وقلت بعدم جريان مثل هذه القاعدة في الموضوعات وإنما في الأحكام فقط)).
2- من تقريراتي لبحثه الشريف، محاضرة بتأريخ 4/ج1/1417.

لكنه (قدس سره) أقرّ بأن هذا الاتجاه من البحث يواجه عدة مشاكل:

((1- عدم ترتب أثر مباشر على الأصل لأن الأصل لا ينقح ظهوراً فتكون حجيته فرع إثبات اللازم العقلي.

2- وجود ظهور في الألفاظ سابق رتبة على الشك وإجراء الأصل العملي لأن الظهورات من الأمارات وهي مقدمة)).

وعلى أي حال فقد قرَّب (قدس سره) جريان الاستصحاب بقوله: ((مع الشك في ظهور اللفظ بمنشأ انتزاع العينية، نستصحب عدمها، ولو بالأصل الأزلي، وهو أصل عملي جار في اللفظ، فلا تثبت العينية))(1).

ص: 232


1- منهج الأصول: 4/224.

وبتوضيح من تقريراتي لبحثه الشريف ((إن عندنا صيغة نفترض إجمالها وعدم ظهورها في العينية أو الكفائية، ولكننا نحتمل أنها مقيدة ثبوتاً بأحد القيدين، إما قيد أو قرينة تنتج العينية، أو قرينة تنتج الكفائية، فحينئذٍ نقول أن تلك القرينة المحتمل وجودها في اللفظ نستصحب عدمها، وهذا استصحاب لا بأس به لكنه متوقف على القول بحجية استصحاب العدم الأزلي؛ لأن الألفاظ منذ وجدت إما مع القرينة أو بدونها، كالمرأة إما توجد هاشمية أو عامية فلا بد إذا كان هناك استصحاب يجري فمن صورة العدم إلى صورة الوجود فإنها عندما لم تكن، لم تكن هاشمية ثم وجدت، فهنا اللفظ عندما وجد لم يكن له قرينة تفيد العينية فالآن كذلك)).

وفي تقريراتي توضيح للحاجة إلى إجراء استصحاب العدم الأزلي بتقريب ((أن القرائن المتصلة تختلف بمقدار اتصالها لأنها إن كانت من ضمن كلمة واحدةكنسبة المادة إلى الهيأة وبالعكس فله باب وجواب، فعندما يصدر اللفظ يصدر مادة واحدة بهيأة ولا ينفكان فنحتاج إلى استصحاب العدم الأزلي، لكن إذا كانت متصلة لا بمنزلة الكلمة الواحدة باعتبار أن للمتكلم أن يلحق بكلامه ما يشاء فيكون من الاستصحاب الاعتيادي، فحينما قال صيغة الأمر ونحتمل إلحاقها بالقرينة ننفي هذا الاحتمال بالاستصحاب)).

وقال (قدس سره) في منهج الأصول: ((جوابه: إن الظهور بمنشأ انتزاع العينية موجود وقاطع للاستصحاب. نعم لو تنزلنا عن ذلك كما هو المفروض أمكن جريانه)).

أقول: يرد عليه:-

1- جوابه (قدس سره) في منهج الأصول صحيح لأن الظهور متحقق وهو قاطع للاستصحاب، ولكنه خروج عن الفرض الذي هو الشك في ظهور اللفظ.

ص: 233

2- لو تنزلنا فإن استصحاب العدم الأزلي لا يجري؛ لأنه قبل صدور اللفظ لا يوجد موضوع للظهور حتى يستصحب فيكون من القضية السالبة بانتفاء الموضوع، فلا يدخل مثله في دائرة حجية الاستصحاب،ومع ورود اللفظ ينعقد ظهور في العينية لأن إطلاق الوجوب ظاهر فيها، وهذا استدلال بالأصل اللفظي لا العملي.

3- ولو قلنا بجريانه تنزلاً وأنه ينتج أصالة عدم العينية فإنها لا تثبت الكفائية لإشكالين:-

أ- إنه مبتنٍ على القول بالأصل المثبت حيث أن لازم نفي العينية ثبوت الكفائية وهو (قدس سره) لا يقول به.

ب- إنه معارض باستصحاب عدم الكفائية فيتساقطان ولا ينتج شيئاً منهما، فلا يثمر إجراء هذا الأصل القول بالكفائية.

لكنه (قدس سره) ملتفت إلى الإشكالين فحاول الإجابة عنهما فأجاب عن الأول في منهج الأصول بقوله: ((ولا يكون مثبتاً باعتباره جارياً في موضوع الظهور، بل يكفينا عدم الظهور وسقوطه عن الحجية فلا تثبت العينية، ويكفي الإجمال اللفظي)).

أقول: كأن هذه الصياغة غير واضحة ولا تنهض برد الإشكال، فرجعت إلى تقريراتي ووجدت فيها إيضاحاً حاصله ((إننا لا نحتاج إلى الأصل المثبت لأننا لا نحتاج أصلاً إلى إثبات الضد، بل يكفينا إجراء استصحاب عدم العينية، وحينئذٍ نضم إليها ما تقتضيه الأصول المتأخرة رتبة فإذا لم يكن عينياً فإن أصالة البراءة تجري، فينضم هذان الأصلان وينتجان براءة الذمة من العينية)).

أقول: نذكر هذه الأفكار كإثارات علمية وإلا فإنها غير مجدية لعدم جريان الاستصحاب أصلاً كما تقدم، والضمّ الذي ذكره (قدس سره) لا حاجة إليه لتمكّنه حينئذٍ من إجراء أصالة البراءة مباشرة كما ذهب إليه السيد الخوئي (قدس سره) وغيره، ونحو ذلك من الإشكالات.

ص: 234

وأجاب (قدس سره) في منهج الأصول عن الثاني بقوله: ((إنه لا يعارض بأصالة عدم الكفائية؛ لأنه عنوان انتزاعي، وأما منشأ انتزاعه فهو القرينة، فيجرياستصحاب عدمها. إلا أنه لا يثبت العينية إلا باللازم، فيبقى استصحاب عدم الظهور بالعينية أو بمنشأ انتزاعها جارياً))(1).

أقول: في تقريراتي قرّب الإشكال كالتالي: ((إن العينية والكفائية عنوانان انتزاعيان لم يؤخذا في مواضيع الأحكام الشرعية بل ينبغي البحث عن منشأ انتزاعه، فننفي القرينة الدالة على منشأ انتزاع عنوان العينية والكفائية لا الدالة على العينية والكفائية مطابقة)).

وأجاب (قدس سره) عنه بالتفريق بينهما في منشأ الظهور ((لأن منشأ انتزاع الكفائية دائماً قرينة منفصلة ومنشأ انتزاع العينية –أي ظهور القرينة فيها- متصلة كالعموم الاستغراقي فنستصحب عدمه، فأصالة عدم الظهور بالكفائية أصالة عدم ظهور منفصلة لعدم الاستغراق مثلاً، ومعه قد يقال بالتعارض؛ لأننا نحتاج في استصحاب عدم العينية استصحاب العدم الأزلي، ولا نحتاج ذلك في القرينة الدالة على الكفائية، فلعلنا نقدّم الكفائي ويثبت لا العينية.

إلا أن يقال: أن استصحاب العدم الأزلي بعد القول بحجيته مقدم على الاستصحاب الاعتيادي؛ لأن الأزل منظور فيه فاستصحابه يجري، ولسنا ملزمين بتحصيل النتيجة الكاملة؛ لأن الجهة الأولى تامة، وليس هذا إلا تنبيهاً ذهنياً)).

أقول: أقل ما فيه أنه جعل الوجوب العيني فقط على نحو العموم الاستغراقي بينما اختار (قدس سره) تفسير الوجوب الكفائي به أيضاً ولا فرق بينهما من هذه الناحية.

ص: 235


1- منهج الأصول: 4/224.

ثانيهما: ((استصحاب عدم تعلق الإرادة من قبل المولى بالعينية، لفرض كون الكلام مجملاً من هذه الناحية))(1).

وفي تقريراتي ((أن ننظر إلى مرتبة إرادة المولى التي أصبحت علة في صدور هذا الأمر الذي ترددنا في كونه عينياً أو كفائياً، فهي محرزة لكننا نشك في كونها مقيدة بمنشأ انتزاع العينية أم الكفائية، فنجري أصالة عدم تقييد الإرادة بمنشأ انتزاع العينية فنضم لها أصلاً آخر في مقام الامتثال وهو البراءة عن التكليف الزائد فتثبت نتيجة الكفائية)).

أقول: يشكل عليه بما أورد على نفسه (قدس سره) بأن أصالة عدم تقييد الإرادة بمنشأ انتزاع العينية يعارضه أصالة عدم تقييد الإرادة بمنشأ انتزاع الكفائية.

وأجاب في منهج الأصول: ((قلنا: كلا لأن الكفائية مرجعها إلى إسقاط التكليف (إن كان الشك بعد الامتثال) فأصالة عدمها لا يكون سبباً لثبوت التكليف، أو قل لثبوت العينية؛ لأنه لازم عقلي، بخلاف أصالة عدم العينية، فإنها تعني بالمطابقة فراغ الذمة)).أما في تقريراتي فقد اعترف (قدس سره) بوجاهة الإشكال في عالم الثبوت إذا اعتبرنا كلا منهما قيداً، أما في عالم الإثبات فأجاب عن الإشكال ((بسقوط المعارضة لأن التكليف الكفائي ليس له امتثال أكثر من امتثال واحد والمفروض تحققه –لأن الشك بعد امتثال الغير- فتكون أصالة عدم تقييد الإرادة بمنشأ انتزاع الكفائية مما لا أثر له شرعاً، في حين يكون في مقابله أثر شرعي لأن العينية اشتغال ذمم كثيرة فينتج إفراغ الذمة)).

أقول: يكفي أن نناقشه بنقطتين:-

1- إنه لم يأخذ بنظر الاعتبار ما اختاره من تفسير الوجوب الكفائي على نحو العموم الاستغراقي فيكون شاغلاً لذمم الجميع أيضاً.

ص: 236


1- منهج الأصول: 4/224.

2- إننا على يقين بوجود إرادة المولى وتعلقها بصدور هذا الفعل ونشك بارتفاعها عند امتثال البعض فنستصحب بقاءها وهو يقتضي العينية.

هذا ولكن أصل الأطروحة وهي إجراء الأصل في مبادئ الحكم لا جدوى منه لأمرين على الأقل:-

1- إن هذا الاستصحاب لا ثمرة فيه لأن الإرادة وسائر مبادئ الحكم مما لا تجب طاعته، فلا ثمرة تترتب على استصحاب بقائها.

2- تقدم في مناقشة التفسير الأول للوجوب الكفائي أنه على مستوى مبادئ الحكم –كالإرادة- يمكن تعلق إرادة المولى بالفعل دون ارتباطه بالفاعل لعدم وجود تكليف حتى يتطلب عهدة وذمة لإلقائه عليه، ففي هذه المرتبة لا توجد ذمة مشغولة بأي نحو من الأنحاء حتى تستصحب.

وبنفس التقريب يصوَّر على مستوى الغرض ويأتي عليه نفس الرد أيضاً.

(الثاني: قاعدة الاشتغال):
اشارة

وتقريبه ((أن الأمر إذا كان متوجهاً إلى فرد وشك في أنه كفائي أو عيني، فيرجع هذا الشك إلى الشك في السقوط بقيام الغير به وهو من موارد قاعدة الاشتغال دون البراءة))(1).

ص: 237


1- المباحث الأصولية: 4/333.

أقول: هذا التقريب له وجه خصوصاً على مختارنا في الوجوب الكفائي من كونه على نحو العموم الاستغراقي، وتتفق نتيجته مع الأصل السابق أعني الاستصحاب بتقريباته المتقدمة بغضّ النظر عن المانع الذي ذكرناه.

لكن السيد الخوئي (قدس سره) منع منه من دون أي تقريب وأحال التفصيل إلى مباحث البراءة والاشتغال(1)، وتبعه تلميذه الشيخ الفياض (دام ظله الشريف) معللاً دفع هذه الدعوى ((بأن سنخ الوجوب العيني غير سنخ الوجوب الكفائي روحاً وملاكاً، وعلى هذا فإذا توجه أمر إلى فرد وشك في أنه عيني أو كفائي، فهو حينئذٍ وإن كان يعلم بثبوت الوجوب الجامع بين العيني والكفائي ولكن لا يعلم بثبوت كل من الوجوب العيني أو الكفائي بحده الخاص؛ لأن حدوث كل منهما مشكوك فيه والعلم بالجامع لا أثر له إلا فيما إذا لم يقم غيره بالعمل، فإنه حينئذٍ يجب عليه القيام به، سواءً كان كفائياً أم عينياً، وأما إذا قام غيره به فهو عندئذٍ وإن كان شاكاً في سقوطه، إلا أن مرد هذا الشك إلى الشك في حدوث الوجوب العيني واشتغال ذمته به، ومن الواضح أن المرجع فيه أصالة البراءة))(2).

وفيه: إنه ما دام سلّم بثبوت الجامع –أي كلي الوجوب كما قرّبنا في جريان الاستصحاب، ويلزم منه ترتب آثاره- فإن الوجوب العيني ثابت لأن آثار الكلي تعني لوازم الوجوب العيني، ولا نعني بآثار كلي الوجوب إلا العينية وأن عنوان العينية والكفائية انتزاعية والملحوظ منشأ انتزاعها، ولا حاجة حينئذٍ إلى إثبات الوجوب العيني بحدّه الخاص وبعنوانه حتى يقال أن استصحاب الكلي لا يلزم منه ترتب آثار الفرد الخاص فتقريب جريان قاعدة الاشتغال تام.

ص: 238


1- الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سره): 44/11 وذكر في الهامش: ((لكنه لم يصرّح هناك بالدوران بين العيني والكفائي)).
2- المباحث الأصولية: 4/333.
وتوجد تعليقات أخرى على كلامه (دام ظله الشريف):-

1- قوله: ((سنخ الوجوب العيني غير سنخ الوجوب الكفائي)) ظاهر بكونهما متباينين، وأنهما فردان خاصان من كلي الوجوب، وقد تقدم عدم تمامية ذلك وأن خطابهما واحد، والفرق بينهما في طبيعة الواجب.

2- قوله: ((فهو وإن كان يعلم بثبوت الوجوب الجامع بين العيني والكفائي)) اعتراف منه بجريان استصحاب الكلي، ولا نعلم وجهاً لعدم ذكره له.

ويمكن القول بعدم وجود جامع أصلاً بين الوجوب المطلق والمشروط إلا اللفظ لعدم فعلية المشروط، فالتزامه بالوجوب المشروط لا يصحّح وجود الجامع.

3- قوله: ((والعلم بالجامع لا أثر له إلا فيما إذا لم يقم به غيره)) يرد عليه:- أ- ما قدمناه من عدم تمامية تفسير الوجوب الكفائي بالوجوب المشروط. ب- إن هذا الأثر خلاف الفرض لأن موضعه قبل امتثال الغير، وفرض الكلام في الأصل العملي بعد امتثال الغير، فهذا الأثر لا موضوع له. ج-- إن في قوله هذا تقييداً لآثار الوجوب؛ لأنه يعني لزوم الفعل مطلقاً سواء قام به غيره أو لا كما حررنا في الأصل اللفظي وسلّم به، أما هذا الذي ذكره فهو الوجوب الكفائي نفسه بناءً على تفسيره بالوجوب المشروط بعدم إتيان الغير، وبذلك فقد وقع في المحذور الذي فرّ منه، إذ أراد نفي الحد الخاص للعينية فوقع في الحد الخاص للكفائية دون دليل على هذه المؤونة الزائدة.

4- قوله: ((لأن حدوث كل منهما مشكوك)) حدوث الوجوب العيني ليس مشكوكاً، فإنه متيقن وثابت بنفس ثبوت الوجوب الذي قلنا بأنه هو هو.

ص: 239

ومنه يعلم النظر في قوله الآتي: ((إلا أن مرد هذا الشك إلى الشك في حدوث الوجوب العيني)).

(الثالث: أصالة البراءة):

واختاره السيد الخوئي (قدس سره) وتبعه الشيخ الفياض (دام ظله الشريف) قائلاً في توجيهه: ((فالصحيح أن مقتضاه نفي العينية عند الشك فيها، باعتبار أن فيها كلفة زائدة، فإذا فرضنا أن المولى أمر فئة بالقيام بعمل وشككنا بأنه واجب كفائي يسقط بقيام غيرهم به أو عيني لا يسقط به، ففي مثل ذلك لا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عن العينية))(1).

وفيه: إن العينية عنوان انتزاعي والملحوظ منشأ انتزاعها، وحينئذٍ لا فرق بين الوجوب العيني والكفائي على القول بالعموم الاستغراقي لاشتغال ذمم الجميع بالوجوب على كلا التقديرين، فإذا امتثل البعض وشككنا في بقاء الوجوب في ذمم الآخرين فقد قلنا أن مقتضى الاستصحاب ثبوته فلا مجال لجريان البراءة، لكن إذا تنزلّنا عن ذلك وشككنا في بقاء الوجوب لاحتمال سقوطه بامتثال البعض فلا مانع من إجراء البراءة لأن مرجع الشك في أصل سعة الوجوب لما بعد امتثال البعض.ومما تقدم يظهر أن مقتضى الأصل العملي وفق مبانيهم يمكن أن يكون مطابقاً للأصل اللفظي، فقول الشيخ الفياض (دام ظله الشريف): ((مقتضى الأصل العملي نفي العينية، ولهذا تكون نتيجته على عكس نتيجة الأصل اللفظي))(2) لا يتم على إطلاقه.

ص: 240


1- المباحث الأصولية: 3/333.
2- المباحث الأصولية: 3/334.
تتميم: هل هذا الواجب تعبدي أو توصّلي؟

دأب الفقهاء المتأخرون على جعل كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قسم العبادات، مما قد يُجعل دليلاً على كون هذا الواجب تعبدياً مشروطاً بقصد القربة.

لكنهم لم يشيروا إلى هذا الشرط في المسائل بل صرّح بعضهم بأنه واجب توصّلي لا يشترط فيه قصد القربة، نعم لو قصد ذلك أثيب عليه(1).

أما المتقدمون فيظهر ميلهم إلى كون هذا الواجب من التعبديات عندهم؛ لأن جملة منهم كالكليني في الكافي والشيخ في التهذيب جعلوه باباً من كتاب الجهاد وهو مشروط بقصد القربة، وإن الشيخ الطوسي والصدوق في الهداية والشيخ الطوسي في الاقتصاد تعرضا للفريضة في الاعتقادات لأكثر من وجه تقدم (صفحة 201).

((ووضع الشيخ الطوسي في كتاب (مصباح المتهجد) هذا البحث في إطار العبادات التي لا تختص بوقت، وفي الجمل والعقود أتى به ضمن باب الجهاد))(2).

وحكي عن ((ظاهر بعض كلمات الشهيد الثاني أن هذه الفريضة من العبادات))(3).

ص: 241


1- تحرير الوسيلة للسيد الخميني (قدس سره): 1/419، المسألة (13). منهج الصالحين للسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره): 2/242، مسألة (898). الأحكام الشرعية للشيخ المنتظري (قدس سره): 367، المسألة (2147).
2- موسوعة الفقه الإسلامي: 17/153.
3- فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 221 حكاه عن (الشهيد الثاني، حقائق الإيمان: 192).

أما علماء العامة فقد شدّد المعتزلة منهم على هذه الفريضة وجعلوها من أصولهم الاعتقادية وكانوا ((يرون أن الواجب على كل مسلم العمل على إقامة المعروف وتحطيم المنكر، فإن استطاعوا فبالسيف، ويسمى جهاداً، وإن لم يستطيعوا بالسيف فبما دونه، فلا فرق عندهم بين مقاومة الكافرين والفاسقين))(1)، كما ويظهر من بعض علماء العامة ((في حق عمل المحتسب –مثل الشيزري الشافعي وابن الإخوة القرشي –حيث أوجب على المحتسب قصد القربة إلى الله تعالى))(2).

ففي المسألة احتمالان بل قولان:

أولهما: كونه واجباً توصلياً:

واستدل عليه:-

1- بعدم ورود دليل في النصوص الشرعية يلزم بإتيانها بقصد القربة، والأصل عدمه.

ويرد عليه: أن هذا الوجه إن قبلنا جزأه الأول فإن جزأه الثاني لا يخلو من إشكال؛ لأن الأصل إن أريد به اللفظي فيصطدم بإشكال استحالة التمسك بالإطلاق لإثبات التوصلية المحرّر في علم الأصول وإن كنا نحن نقول بإمكانه. وإن أريد به الأصل العملي، فإن مرتبته متأخرة عن الأمارات فلا بد من النظر أولاً في أدلة القول بالتعبدية، مضافاً إلى احتمال جريان قاعدة الاشتغال للشك بفراغ الذمة إن أتى بالواجب من غير قصد القربة.

ص: 242


1- حكي عن المقالات: 1/278.
2- فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 222 عن نهاية الرتبة في طلب الحسبة للشيزري: 7، ومعالم القربة في أحكام الحسبة للقرشي: 57.

2- بما سمّاه البعض ((مناسبات الحكم والموضوع، إذ حيث كان الغرض هو تحقق المعروف وعدم تحقق المنكر فلا تلازم بين هذين وبين قصد القربة فلا يستدعي نوع الوجوب المأخوذ فيهما التعبدية في التكليف))(1).

ويظهر هذا من كلمات بعض أعلام العصر قال السيد الخميني (قدس سره): ((بل هما توصليان لقطع الفساد وإقامة الفرائض)) وقال الشيخ المنتظري (قدس سره): ((الأقوى أنه لا يعتبر قصد القربة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل المقصود منهما إقامة الواجب والمنع من الحرام)).

أقول: تقدّم مراراً أن هذا الذي بُني على أساسه القول بالتوصلية هو بعض الغرض، وهو ما يمكن الرد عليه حلاً ونقضاً:أما حلاً فلأن جملة من الأحاديث المتقدمة أفادت أن من أسرار تشريعه هو إظهار الغضب لله تعالى إذا عُصي بفعل المنكر وترك المعروف وإن من لم يتصف بذلك مؤمن ضعيف لا دين له وأنه ميت الأحياء، حتى ولو افترضنا أن غيره قام به وسقط عنه الوجوب وأقيم الواجب ومنع من الحرام، فتكون الفريضة بهذا اللحاظ من التعبديات.

وأما نقضاً، فلأن نفس التقريب يأتي في الجهاد فإنه أيضاً لإقامة الدين ونشره وقطع دابر الظلم والفساد فهل نقول أنه توصلي؟

بل يمكن اعتبار هذا الوجه دليلاً على التعبدية؛ لأننا لا نقصد بالتعبدية إلا انتساب الفعل إلى الله تعالى وقصده تبارك وتعالى به، ويندرج فيه قصد إقامة الدين والفرائض والقضاء على معصية الرحمن، فهذا الغرض الذي ذكروه من وجوه التعبدية.

ص: 243


1- موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت (عليهم السلام): 17/168.

ومما يبعّد القول بالتوصلية وجدان وارتكاز متشرعي يفرّق بين ما يقوم به المتشرعة من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وبين ما يقوم به غير المتشرعة من أفراد أو حكومات ومؤسسات ومنظمات المجتمع المدني وأمثالها من إقامة لأمورٍ حسنة وقضاء على أمور قبيحة، كما لو اتخذت الحكومة قراراً بمنع حانات الخمور والملاهي أو منع التبرج والتحرش بالنساء، أو قيام منظمات حقوق الإنسان بمكافحة العنف الأسري ضد النساء والأطفال، أو ما تقوم به منظمات حماية البيئة وغيرها كثير من موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن المتشرعة لا يعتبرونها مصاديق لهذه الفريضة ولا يعتبرون هذا الفعل أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وما ذلك إلا لأنه خالٍ من قصد القربة.

ويبقى السؤال أنه إذا كان عندهم من التوصليات فما نكتة جعل كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في العبادات، ولعل الوجه في ذلك أن هذا الكتاب كان باباً من أبواب كتاب الجهاد كما في الكافي والتهذيب، ولما فصل عنه بكتاب مستقل لم يشاؤوا جعله بعيداً عنه لتقارب أهدافه ووسائله كما ذكرنا في مقدمة الكتاب والأبحاث التمهيدية فجعل معه مباشرة، ولما كان الجهاد من التعبديات كان هذا الكتاب معه في نفس القسم.

ولعله لهذا الترديد عبّر السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) بالأظهر والشيخ المنتظري (قدس سره) بالأقوى لكن السيد الخميني (قدس سره) جزم بالتوصلية.

ثانيهما: كونه من التعبديات:

ويمكن الاستدلال عليه بعدة وجوه يمكن تقريبها من المناقشات المتقدمة للقول بالتوصلية:-

1- ما ذكرناه آنفاً من سر تشريعه وهو الغضب لله تعالى، وهذا الارتباط بالله تعالى سيجعله تعبدياً.

ص: 244

2- تداخله مع كتاب الجهاد روحاً وأهدافاً ووسائل، والجهاد من التعبديات فهو مثله، خصوصاً على القول بوحدتهما حتى عُدَّ كل منهما مظهراً للآخر لأحد الوجوه المتقدمة كإطلاق عنوان أحدهما على الآخر كما تقدم (صفحة 31).

3- مناسبات الحكم والموضوع كما قرّبنا أعلاه على العكس مما أفاده المستدل بها على التوصلية.

4- الارتكاز الوجداني بالتفريق بين أمر ونهي المتشرعة وما يقوم به غيرهم مع اتحاد الموارد، وما ذلك إلا لشعورهم الوجداني باشتراط قصد القربة.

5- إن نية التعبدية مقترنة تلقائياً بهذه الوظيفة وملازمة لها ولا تنفك عنها، ولو تجردت الوظيفة منها فإنها لا تبقى أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر؛ لأن الفاعل لم يأمر ولم ينه إلا لأن الشارع المقدس طلب منه ذلك ولأنه قصد إقامة أمر الشارع المقدس وإزالة ما يبغضه، فنية التعبد حاضرة عنده، ولو لم يكن غرضه هذا لما كان فعله مصداقاً لهذه الفريضة كما قدمنا.

وقد قال السيد السبزواري (قدس سره) كلاماً قريباً من هذا إلا أنه لم يشترط قصد القربة، قال (قدس سره): ((لا يعتبر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قصد القربة (للأصل والإطلاق والعموم) ولا يبعد عدم اعتباره في ترتب الثواب أيضاً، فيثاب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر مطلقاً ما لم يقصد الرياء)) وعلّله بأن ((نفس هذه الأمور كالجهاد من الأمور القربية ما لم يقصد الخلاف))(1).

ص: 245


1- مهذب الأحكام: 15/188، مسألة (7).

6- جريان قاعدة الاشتغال عند الشك في تحقق الامتثال عند من يقول بها كما قرّبنا؛ لأن الشك وإن كان على نحو الأقل والأكثر إلا أنهما ارتباطيان ونحن نقول بجريان قاعدة الاشتغال فيهما.

وبحسب المعطيات المتقدمة فإن الأقرب كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من التعبديات وأن الامتثال لا يتحقق إلا بقصد القربة.

لكن هذه النتيجة تصطدم مع ارتكاز المتشرعة وسيرتهم العملية على تحقق الامتثال وصدقه خارجاً على الفعل بأي نحو كان ولو لم يكن بقصد القربة؛ لأن المطلوب تحقق المعروف وامتناع المنكر، وأن الذمة تبرأ إذا تحققت هذه النتيجة ولو من دون قصد القربة، كما لو نهى عن المنكر لغيرة شخصية أو نخوة عشائرية أو نزعة إنسانية.

إلا أن هذا العائق يمكن التغلب عليه بوجهين:-

1- إن الفرض غير واقعي للملازمة التي ذكرناها بين هذا الواجب والتعبدية، ولو انفك عنها فلا يبقى الفعل أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر.

إن براءة الذمة عند تحقق الفعل خارجاً –ولو من دون قصد القربة- لا لتحقق الامتثال، بل لسقوط الوجوب بانتفاء موضوعه لارتداع العاصي ونحوه، فلا1- يكون الآمر الناهي الخالي من قصد القربة ممتثلاً، لكن الوجوب سقط عنه فلا يعاقب، لكن تترتب عليه آثار عدم الامتثال من المؤاخذة بالإهمال والتأخير لو كان الفعل مما يستحق المبادرة ونحوها.

ومثله الجهاد المتفق على كونه من التعبديات فإنه لو وجد مورد له كدفع المعتدين الكفار وقام به بعضٌ من دون قصد القربة فإن الوجوب سقط لتحقق المطلوب، لكن الامتثال من هذا البعض لم يتحقق.

ص: 246

ولعل عدم الالتفات إلى هذه الخصوصية الدقيقة الموجودة في فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر –دون غيره من التعبديات الفردية المعروفة- هو الذي أوجد ارتكازاً لدى البعض بكونه من التوصليات.

نكتة دقيقة: تكرّر قول الأصحاب أن الواجب الكفائي يسقط إذا امتثل البعض، وقلنا (صفحة 188) أن سقوط الوجوب بالدقة هو بسبب انتفاء الموضوع لا للامتثال وذكرنا وجهاً للتفريق، والآن يتضح وجه آخر للتفريق مبني على مطلب التعبدية والتوصلية، إذ على القول بالتعبدية لو أمر بالمعروف ونهى عن المنكر من دون نية القربة واستجاب الآخر، فإن الوجوب يسقط عن الآخرين مع أن الامتثال لم يتحقق لعدم قصد القربة، فالسقوط إذن لانتفاء الموضوع، وليس للامتثال مضافاً إلى ما ذكرناه هناك.

ص: 247

الفصل الرابع: شروط الفريضة

اشارة

ذكر الفقهاء (قدس الله أرواحهم) شروطاً عديدة تصل إلى خمسة تحت عنوان شروط وجوب هذه الفريضة بمعنى أن وجوبها يسقط عند عدم تحققها، ولا شك في وجود مثل هذه الشروط، لكن الكلام في كونها كلها شروط وجوب، إذ أننا نحتمل إلحاق أمور بها وهي ليست كذلك مما أدى بمرور الوقت إلى نتائج خطيرة بعد أن تحولت إلى مبررات للتقاعس عن أداء الفريضة، بل تعطيلها كما حصل فعلاً؛ باعتبار عدم تحقق تلك الشروط جميعاً أو الشك في ذلك ولو احتمالاً فيسقط الوجوب، لذا كان للبحث في هذه الشروط ثمرة عملية وميدانية كبيرة.

وظاهر كلماتهم انحصار الشروط بهذه الأربعة أو الخمسة، قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((ظاهر حصرهم الشرائط في الأربعة عدم اشتراط غيرها))(1)

إلا أن كلماتهم تضمنت بعض الفروع الفقهية التي أوردوها على شكل مسائل لكنها مما يصلح أن يكون شرطاً، من دون التنويه إلى أنه شرط وجوب أم شرط واجب. وسنقوم باستعراض هذه الشروط والاستدلال على أصل حجيتها وثبوتها، ومن ثم فرز شروط الوجوب عن شروط الواجب.

ولاتساع الشروط عما ذكره المشهور في شرائط الوجوب، فسنتّبع منهجاً آخر في عرضها، ويمكن تصنيف هذه الشروط على عدة محاور:

ص: 248


1- جواهر الكلام: 21/374.

(المحور الأول – ما يتعلق بالآمر الناهي)

اشارة

وهي أمور:

(الأمر الأول) التكليف

قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((يعتبر في الآمر التكليف))(1)

فلا يجبان على الصبي والمجنون؛ لحديث الرفع، عن علي (عليه السلام) أنه قال: (إن القلم يرفع عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ)(2).

قال السيد الخميني (قدس سره): ((لا يجب الأمر والنهي على الصغير ولو كان مراهقاً مميزاً))(3).

أقول: إذا كان الدليل على الوجوب شرعياً من كتاب وسنة فإن حديث الرفع مخصّص له، أما إذا كان الدليل عقلياً أو عقلائياً –وقد استدللنا بذلك- فإنهما لا يأبيان تحميل غير المكلف خصوصاً المراهقين مسؤولية أمر الغير بالمعروف ونهيهم عن المنكر في الموارد المناسبة لهم، لذا فإن العقلاء يحاسبون الصبي المميز القريب إلى المراهقة إذا أضرّ أخوه الصغير بنفسه أو ارتكب فعلاً غير صحيح وهو قادر على منعه وزجره ولم يفعل، ولا شك أن هذه الوظيفة من الفقرات المهمة في برنامج تأديب الصبيان، نعم لا عقوبة أخروية عليه إذا تركها لحديث الرفع المتقدم.

وبناءً على الاشتراط فإنه لا مانع من صحة صدورهما من غير البالغ لعدم الملازمة، ولما ورد من أن الحسنات تكتب للصغير قبل بلوغه(4) إلا بدليل

ص: 249


1- جواهر الكلام: 21/374.
2- وسائل الشيعة: أبواب مقدمة العبادات، باب 4، ح11.
3- تحرير الوسيلة: 1/428، مسألة (21).
4- في رواية طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن أولاد المسلمين موسومون عند الله شافع ومشفَّع، فإذا بلغوا اثنتى عشرة سنة كتبت لهم الحسنات، فإذا بلغوا الحلم كتبت عليهم السيئات) وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب مقدمة العبادات، باب 4، ح1.

على المنع كما في الموارد التي سنذكرها إن شاء الله تعالى، فيصحّ صدور الفعل من الصبي.

وأورد جملة من الفقهاء (قدس الله أسرارهم) في هذا الباب شرط القدرة والتمكن(1) لقبح التكليف من دونه عقلاً وسمعاً.

وعرّف الشرط بأنه ((تمكن الإنسان من إنكار المنكر بيده ولسانه، فلو عجز عن ذلك عقلاً أو شرعاً سقط الوجوب عنه)).

أقول: من المعلوم عدم سقوط الفريضة بذلك لإمكان الإتيان بها على مستوى الإنكار القلبي كما في الروايات، فالتمكن من مرتبة معينة شرط لوجوب تلك المرتبة بغض النظر عن الشروط الأخرى، فمن لا يتمكن بهذه الكيفية يؤديها بتلك وهكذا ولا يسقطالوجوب، كصلاة غير القادر على الإتيان ببعض أجزائها فإنه يمتثل بالمقدور، فإذن هذا في الحقيقة شرط للواجب لأنه يتعلق بكيفية الأداء والامتثال أما الوجوب فثابت.

قال الشيخ المفيد: ((فالواجب على أهل الإيمان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب الإمكان وشرط الصلاح، فإذا تمكن الإنسان من إنكار المنكر بيده ولسانه، وأمن في الحال ومستقبلها من الخوف بذلك على النفس والدين والمؤمنين وجب عليه الإنكار بالقلب واليد واللسان))(2).

ص: 250


1- حكاه عنهم في موسوعة الفقه الإسلامي: 17/179.
2- موسوعة الفقه الإسلامي: 17/179 عن المقنعة: 809، واستدل به الغزالي في إحياء علوم الدين: 2/398.

(الأمر الثاني) الإسلام

((ظاهر بعض الفقهاء اشتراط الإسلام في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) وقيل في وجهه: ((وذلك لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نصرة للدين فكيف يكون من أهله من هو جاحد لأصله ومن أعدائه))(1)

ول-((عدم تأتّي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الكافر)).

أقول:-

1- هذا التعليل استحسان فلا يكون حجة.

2- إن نصرة الدين قد تتحقق على يد غير أهله كما ورد في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): (فمن أراد الجنة فليجاهد في سبيل الله على هذه الشرائط وإلا فهو من جملة من قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ينصر الله هذا الدين بقوم لا خلاق لهم)(2)

وتأريخ الإسلام مليء بالشواهد على ذلك.

3- إن الدين المراد نصرته بهذه الفريضة هو دين الإسلام بالمعنى الأعم فيشمل ديانات التوحيد كلها ولا يختص بدين الإسلام بالمعنى الأخص ليقتصر على أهله، وهذا المعنى واضح في القرآن الكريم من خلال عدة آيات كريمة منها قوله تعالى: «وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ» (البقرة:132).

4- إن الأغراض من الفريضة عديدة كما ذكرنا في أبحاث سابقة ومنها اجتثاث الفساد والظلم والانحراف والمعصية وهي قابلة للتحقق بأيدي

ص: 251


1- موسوعة الفقه الإسلامي: 17/179 عن المقنعة: 809.
2- جامع أحاديث الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 16، ح15 عن دعائم الإسلام: 1/341.

غير المسلمين، ونحن نرى المجتمع المتحضر اليوم يقوم بكثير منها لاتفاق العقلاء على الأمور الحسنة وحفظ النظام الاجتماعي العام.

5- إن هذا الاشتراط خلاف مقتضى التحقيق من كون الكفار مكلفين بالفروع وأن أدلة الأحكام مطلقة شاملة لهم وهذا منها.

نعم الإسلام شرط للواجب وليقع الفعل صحيحاً بتقريبين:-

أ- ما تقدم من أن صدور هذه الأفعال من غير المسلمين لا يطلق عليه أمر بالمعروف ونهي عن المنكر بالمصطلح، فلا موضوع لهذه الفريضة من غير المسلمين.

ب- ما قويناه من كون هذا الواجب تعبدياً مشروطاً بقصد القربة فلا يقع صحيحاً من غير المسلمين، قال المحقق الراوندي: ((فإن قيل: فمن يباشر؟ قلنا: كل مسلم تمكَّن منه واختص بشرائطه))(1).

أقول: كلامه (قدس سره) ظاهر في كون الإسلام شرط واجب أي له مدخلية في تحقق الامتثال، وما ذكر من عدم تأتّي الوظيفة منه ينافي الصحة ولا ينافي الوجوب، فلو أتى به الكافر لم يكن صحيحاً خصوصاً على القول بأنه واجب تعبدي.

ص: 252


1- موسوعة الفقه الإسلامي: 17/179 عن فقه القرآن: 1/359.

(الأمر الثالث) العدالة

حكي عن بعض الفقهاء (قدس الله أرواحهم) أنهم ذهبوا إلى اعتبار العدالة في الآمر الناهي(1)، قال السيد السبزواري (قدس سره): ((لا بد من العمل بالمعروف ثم الأمر به وترك المنكر ثم النهي عنه))(2)، واستدل لهذا الاشتراط بوجوه:أولاً- النهي الوارد في كتاب الله، قال تعالى: «أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ» (البقرة:44) وقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ» (الصف : 2-3).

ثانياً- الروايات، وهي عديدة، منها:-

1- مرسلة ابن أبي عمير قال: (إنما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من كانت فيه ثلاث خصال: عامل بما يأمر به، وتارك لما ينهى عنه، وعادل في ما يأمر، عادل في ما ينهى، رفيق في ما يأمر، رفيق في ما ينهى)(3).

ص: 253


1- حكي في جواهر الكلام: 21/373 عن الشيخ البهائي (قدس سره) في الأربعين: 217 نسبته إلى بعض العلماء كما حكي الاشتراط عن بعض العامة ((وفهم بعضهم من الفقه السني أنه يفصّل بين الآمر المتطوع والآمر المحتسب، ففي الأول لا تشترط العدالة أما في الثاني فهي شرط لزاماً)) فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 378. ولعله من جهة أن للمحتسب ولاية ووظيفة رسمية يكلّف بها.
2- مهذب الأحكام: 15/166، المسألة (8).
3- الحديث والذي بعده تجدهما في وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب 10، ح3، 8.

2- قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة: (وأمروا بالمعروف وائتمروا به، وانهوا عن المنكر وتناهوا عنه، وإنما أُمرنا بالنهي بعد التناهي).

3- خبر أبي عمرو الزبيري عن الإمام الصادق قال (عليه السلام): (.. ولا يأمر بالمعروف من قد أُمر أن يؤمر به –أي أُمِر الناس أن يأمرونه بالمعروف-، ولا ينهى عن المنكر من قد أُمر أن ينهى عنه)(1).

4- ما رواه الحسن بن محمد الديلمي في الإرشاد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (مررت ليلة أسري بي إلى السماء بقوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار ثم ترمى، فقلت: يا جبرائيل من هؤلاء؟ فقال: خطباء أمتك، يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون)(2).

5- ما روي عن علي (عليه السلام) قال: (لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له، والناهين عن المنكر العاملين به)(3).

6- ما ورد في وصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي ذر: (يا أبا ذر، يطَّلِع قوم من أهل الجنة إلى قوم من أهل النار فيقولون: ما أدخلكم النار وإنما دخلنا الجنة بفضل تعليمكم وتأديبكم؟ فيقولون: إنا كنا نأمركم بالخير ولا نفعله).

ص: 254


1- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 9، ح1.
2- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 10، ح11. وفي البحار: 69/223 نقله عن المجمع عن أنس.
3- الحديث والذي يليه تجدهما في وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 10، ح9، 12.

ثالثاً- الاعتبار ((فإن هداية الغير فرع الاهتداء، والإقامة بعد الاستقامة))(1)

((ولهذا قيل: إن الإصلاح زكاة نصاب الصلاح))(2).

أقول: أما الآيات والروايات فيمكن أن تناقش تفصيلاً كحمل آية سورة الصف على الذين يعدِون بشيء ولا يوفون به وفي ذلك وردت رواية هشام بن سالم قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: عدَةُ المؤمن أخاه نذر لا كفارة له، فمن أخلف فبخلف الله بدأ ولمقته تعرّض، وذلك قوله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ»)(3).

أو يكون النهي من جهة الكذب بأن يكون معناها: لا تنسبوا إلى أنفسكم ما لم تفعلوه على نحو قوله تعالى: «لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ» (آل عمران: 188)، والإيراد عليه بأن المناسب استعمال (لم) وليس (لا) مردود بإرادة الاستمرار في النهي، أما استعمال (لم) فقد يقتصر على الماضي.

وتناقش الروايات من جهة السند لضعفها، وتناقش الآيات والروايات جملةً بأنها ليست بصدد بيان اشتراط العدالة وإنما ذم الذين يدعون الناس إلى العمل بالمعروف ولا يفعلونه، وينهون عن المنكر ولا يتركونه وهذان أمران مختلفان وبينهما فرق، وهذا النهي ورد في كثير من الروايات، كصحيحة ابن أبي يعفور عنأبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن من أعظم الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلاً ثم خالفه إلى غيره)(4).

ص: 255


1- جواهر الكلام: 21/373.
2- إحياء علوم الدين للغزالي: 2/399، ونقله عنه في جامع السعادات: 2/187 وجامع المدارك: 5/406.
3- الكافي: 2/363-364.
4- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب 38، ح1.

ولم تم استدلالهم لكانت العدالة شرطاً للجواز أيضاً وليس فقط الوجوب لحرمة الأمر بالمعروف دون العمل به.

فهي دعوة لتحقيق مقدمات الكيفية الصحيحة لأداء هذه الوظيفة واستثمارها في نيل رضا الله تبارك وتعالى من دون أن تكون شرطاً للوجوب الذي هو مطلق من هذه الناحية، ويشبه –من وجه- الأمر بالطهارة من الحدث والخبث قبل الدخول في الصلاة، ولذا قيل في رد الاستدلال بهذه الآيات والروايات أن ((جهة الذم ليست الأمر حال الترك، بل الترك حال الأمر))(1)

وهو كلام مختصر لطيف، فحينما تقول لشخص: أتأمر فلاناً بالصلاة وأنت لا تصلي، فإن ظاهره استنكار تركه للصلاة وهو يأمر بها لا استنكار أمره بالصلاة وهو تارك لها، والشاهد قوله تعالى: «أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ» (البقرة:44)، فهو مأمور بأن يأمر نفسه بالمعروف وينهاها عن المنكر كما يفعل ذلك مع غيره، وليس أنه يسقط عنه أمر الغير إن لم يكن ملتزماً بمقتضاه؛ لأن كلاً منهما واجب، وعدم أحدهما لا يسقط الآخر.

على أن غاية ما تفيده الآيات والروايات النهي عن أمر الآخرين بفعل معين هو تاركه، ونهي الآخرين عن عمل هو فاعله وهو أخص من اشتراط العدالة التي تعني الملكة الداعية إلى العمل بمجموع الطاعات واجتناب مجموع المحرمات.

وأما دليل الاعتبار فهو مجرد دعوى، أو أنه استحسان نابع من الشفقة على الآمر الناهي ليحصل على أجر عمله، وإلا ما المانع من أن يقوم الأب بتهيئة الظروف المناسبة لقيام الأولاد بالصلاة أو الصوم في شهر رمضان ويجنبهم المعاصي والمنكرات رغم أنه غير ملتزم بذلك كما يتفق في حالات كثيرة.

ص: 256


1- انظر مصادرها في موسوعة الفقه الإسلامي: 17/181.

ومما تقدم يظهر أن الصحيح عدم اشتراط العدالة لوجوه:-

1- إطلاقات أدلة الوجوب بعد عدم تمامية ما قيل من الأدلة على الاشتراط.

2- إنه ورد صريحاً في الروايات النهي عن فهم الاشتراط من مثل هذه الآيات والروايات حينما توهم بعض أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك فحثّهم على أداء هذه الوظيفة وإن لم يكونوا من العاملين بها، ففي الحديث النبوي المتقدم (صفحة 125، ح55) (لما قيل له: لا نأمر ولا ننهى إلا بما عملنا به أو انتهينا عنه كله، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): لا، بل مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به كله، وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه كله).1- ما هو مرادهم من عدم وجوب الأمر عليه حتى يعمل به؟ فإذا أريد بالشرط هنا العمل بمطلق المعروف (واجباته ومستحباته) فلا يجب عليه الأمر بالمعروف إلا بعد أن يعمل به مطلقاً، ولا النهي عن المنكر إلا إذا اجتنبه كذلك، فإنه يؤدي إلى اقتصار عملية الإصلاح والعمل بهذه الفريضة على المعصومين (عليهم السلام) ومن لا يرتكب المعصية؛ لأن العدالة كلّي مشكك ويتحقق معناه المطلق وأعلى درجات العدالة في العصمة، وفي ذلك تعطيل للفريضة.

وإن أريد بالشرط أن لا يأمر بمعروف معين إلا وهو يؤديه، ولا ينهى عن المنكر المعين إلا وهو مجتنبه لتطهيره من النفاق، على نحو قول الشاعر:

لا تنهَ عن خُلُقٍ وتأتيَ مثلهُ *** عارٌ عليكَ إذا فعلتَ عظيمُ

فهو معنى صحيح ونطقت به الروايات لكنه أخصّ من المدعى وهي العدالة، فلا بد أن يغيروا تعبيرهم.

4- ما ورد في الحديث رقم (3) (صفحة 113) من وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لولده محمد بن الحنفية (وأمر بالمعروف تكن من أهله)، بتقريب

ص: 257

أن هذا الآمر بالمعروف لم يكن من أهله حينما أمر فجزاه الله خيراً على عمله بان وفّقه وجعله من أهله.

فالعدالة شرط قبول الفعل والإثابة عليه، وتكون شرط واجب لمن يتصدى للأمر والنهي الاجتماعيين المنوطين بولاية أمور الأمة.

(الأمر الرابع) علم الآمر الناهي

اشارة

هذا هو الشرط الأول الذي ذكره المشهور لوجوب الفريضة، ويراد به في كلماتهم اشتراط علم الآمر الناهي بأن الآخر قد فعل منكراً، وأن معروفاً قد ترك.

وعلينا أن نثبت أولاً أنه لا إشكال ولا خلاف في أصل هذا الشرط وهو عدم جواز الأمر بفعل أو النهي عن فعل من غير علمٍ باستحقاق الفعل ذلك الأمر والنهي، وقد نهت كل الأدلة عن هذه الممارسة.

فمن القرآن الكريم قوله تعالى: «وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» (الإسراء: 36) وقوله تعالى: «آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ» (يونس:59).

ومن الروايات الشريفة صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): إياك وخصلتين ففيهما هلك من هلك: إياك أن تفتي الناس برأيك أو تدين بما لا تعلم)(1)، وفي رواية أبي يعقوب إسحاق بن عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن الله خصَّ عباده بآيتين من كتابه، أن لا يقولوا حتى يعلموا ولا يردُّوا ما لم يعلموا، وقال عز وجل: «أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ»).

ص: 258


1- الرواية والتي بعدها في أصول الكافي: ج1، باب النهي عن القول بغير علم، ح2، 8.

والعقل يستقبح اقتحام الأمور والتصدي للأمر والنهي بغير علمٍ، والعقلاء يستقبحون ذلك أيضاً ويلومون الفاعل حتى يعلم أن ما يأمر به هو معروف وما ينهى عنه هو منكر.

مضافاً إلى عدم تنجّز الوظيفة عليه لعدم تحقق موضوعها قبل أن يعلم أن هذا معروفٌ وذاك منكرٌ فلا يتنجز الحكم ولا يحق له القيام به، كما لا يجوز له الإتيان بها رجاء المطلوبية لاحتمال الوقوع في المخالفة؛ لذا علل المحقق (قدس سره) ومن تبعه الاشتراط بأنه ((ليأمن الغلط في الإنكار)).

هذا كله مما لا خلاف فيه ولا إشكال، وإنما الخلاف في كون هذا العلم شرطاً للوجوب أم للواجب؟ وقد جعله المشهور أول شروط الوجوب، ونفى العلامة (قدس سره) الخلاف في كونه كذلك.

قال المحقق الحلي (قدس سره) في الشرائع: ((ولا يجب النهي عن المنكر ما لم يكمل شروط أربعة، الأول أن يعلمه منكراً ليأمن الغلط في الإنكار)) وقال العلامة (قدس سره): ((وشرائط وجوبهما أربعة، الأول: أن يعلم المعروف معروفاً والمنكر منكراً؛ ليأمن الغلط في الإنكار والأمر، إذ مع الجهل جاز أن يأمر بالمنكر أو ينهى عن المعروف، ولا خلاف في ذلك))(1) وذكر غيرهم مثل ذلك.

وأضاف صاحب الجواهر (قدس سره): ((ومقتضاه كون ذلك شرطاً للوجوب كالاستطاعة للحج وحينئذٍ فالجاهل معذور))(2).

أقول: هذا تصريح منهم (قدس الله أرواحهم) بأن هذا العلم شرط للوجوب، فلا يجب الأمر والنهي إذا انتفى العلم بالمعروف والمنكر.

ص: 259


1- منتهى المطلب: 15/238.
2- جواهر الكلام: 21/366.

لكن يظهر من جملة من الأساطين أنه ليس شرطاً للوجوب بل شرط للواجب أي لصحة الامتثال لا للوجوب كالمحقق الكركي والشهيد الثاني (قدس الله سريهما).

قال في جامع المقاصد: ((وفي اشتراطه –أي الوجوب- بالأول –وهو العلم- نظر، فإن من علم أن زيداً قد صدر منه منكر، وترك معروفاً في الجملة بنحو شهادة عدلين، ولا يعلم المعروف والمنكر، يتعلق به وجوب الأمر والنهي، ويجب تعلّم ما يصح معه الأمر والنهي، كما يتعلق بالمحدث وجوب الصلاة، ويجب عليه تحصيل شروطها))(1).

وقال الشهيد الثاني (قدس سره) في المسالك: ((وقد يناقش في اعتبار الشرط الأول؛ نظراً إلى أن عدم العلم بالمعروف والمنكر لا ينافي تعلق الوجوب بمن لم يعلم، وإنما ينافيه نفس الأمر والنهي، حذراً من الوقوع في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف. وحينئذٍ فيجب على من علم بوقوع المنكر أو ترك المعروف، من شخص معين في الجملة، بنحو شهادة عدلين، أن يتعلم ما يصح معه الأمر والنهي، ثم يأمر أو ينهى، كما يتعلق بالمحدث وجوب الصلاة، ويجب عليه تحصيل شروطها. وحينئذٍ فلا منافاة بين عدم جواز أمر الجاهل ونهيه حالة جهله، وبين وجوبهما عليه، كما يجب الصلاة على المحدث والكافر، ولا يصح منهما على تلك الحالة))(2).

أقول: قد يقال بعدم مخالفة كلامهما للمشهور والجديد فيه أنه يفترض وجود العلم بوجود معروف متروك ومنكر مفعول ولو إجمالاً، وهذا العلم الإجمالي ينجّز وجوب تعلم المعروف والمنكر تفصيلاً.

ص: 260


1- جامع المقاصد: 3/486.
2- مسالك الأفهام: 3/101.

ولعل هذا ما أراده المحقق الأردبيلي (قدس سره) في جوابه على مضمون كلامهما الذي نقله كإشكال، قال (قدس سره): ((قد يقال هناك أيضاً قد حصل الشرط إذ قد يكون المراد به العلم في الجملة، وإن لم يكفِ ذلك للفعل، بل يجب له التعيين والتفصيل))(1).

وعلى أي حال فإننا بعد أن عرضنا أصل القولين في المسألة نستعرض أدلتهما:

القول الأول: أنه شرط وجوب:

استدل لكونه شرطاً للوجوب بعدة وجوه ذكرها صاحب الجواهر (قدس سره) في معرض ردّه على المحقق الكركي والشهيد الثاني بقوله: ((وفيه – مع أنه منافٍ لما سمعته من الأصحاب من دون خلاف فيه بينهم كما اعترف به في المنتهى - أنه منافٍ أيضاً لما في خبر مسعدة(2) السابق الذي حصر الوجوب فيه

ص: 261


1- مجمع الفائدة والبرهان: 7/535.
2- عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سمعته يقول وسُئل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أواجب هو على الأمة جميعاً؟ فقال: لا، فقيل له: ولمَ؟ قال إنما هو على القوي المطاع، العالم بالمعروف من المنكر، لا على الضعيف الذي لا يهتدي سبيلاً) قال مسعدة: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول –وسُئل عن الحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وآله أن أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر ما معناه؟- قال: هذا على أن يأمره بعد معرفته، وهو مع ذلك يقبل منه، وإلا فلا) وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب2، ح1. وتقريب الاستدلال في عدة مواضع:- 1- حصر الوجوب بالعالم. 2- وحصره بالقوي أي قوي الحجة والدليل والعلم لأنه فَسَّر الضعيف بالذي لا يهتدي سبيلاً. 3- قوله (عليه السلام): (أن يأمره بعد معرفته). 4- قوله (عليه السلام): (وإلا فلا) التي تنفي الوجوب عند انتفاء شيء مما تقدم.

على القوي المطاع العالم بالمعروف من المنكر، بل يمكن دعوى أن المنساق من إطلاق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو ما علمه المكلف من الأحكام من حيث كونه مكلفاً بها، لا أنه يجب أن يتعلم المعروف من المنكر زائداً على ذلك مقدمة لأمر الغير ونهيه اللذين يمكن عدم وقوعهما ممن يعلمه من الأشخاص، وأما ما ذكراه من المثال فهو خارج عما نحن فيه، ضرورة العلم حينئذ بتحقق موضوع الخطاب بخلاف من فعل أمراً أو ترك شيئاً ولم نعلم حرمة ما فعله ولا وجوب ما تركه، فإنه لا يجب تعرف ذلك مقدمة للأمر والنهي لو فرضنا كونهما منه، بل أصل البراءة محكم، وهو مراد الأصحاب بكونه شرطاً للوجوب، والله العالم))(1).

أقول: يُتحصَّل من كلامه (قدس سره) عدة وجوه للاستدلال على كون العلم شرط وجوب، نعرضها ونناقشها بإذن الله تعالى:-

1- نفي الخلاف في ذلك، ويرد عليه أنه غير تام صغرى وكبرى، أما صغرى فلوجود المخالف كما نقلنا، مضافاً إلى أنه يمكن استظهار أن محل الوفاق هو أصل اشتراط ذلك في الآمر الناهي، من دون التفصيل بين كونه شرطاً للوجوب أو الواجب، وهو مما لا خلاف فيه كما قدّمنا، بل قد يكون الأقرب من تعليلهم –كالذي ذكره المحقق الحلي (قدس سره) ومن كرر عبارته وهو الاحتراز من الوقوع في الغلط- أنه شرط للواجب. وأما كبرى فلأنها دعوى محكية لم نتحققها، وإن عدم وجود مخالف

ص: 262


1- جواهر الكلام: 21/367.

لا يكون حجة حتى يتحقق الإجماع، وهو لا يكون حجة حتى يكون تعبدياً، وهذه كلها أمور غير ثابتة كما هو واضح.

2- أما خبر مسعدة بن صدقة، فقد تقدم النقاش فيه (صفحة 204-208) ويمكن أن نلخّص جملة منها وبيانها بما يناسب محل الحاجة بنقاط:-

أ- ضعف السند؛ لأن مسعدة لم يوثق على مبانيهم.

ب- احتمال صدورها على نحو التقية لموافقتها لما يراه جملة من علماء العامة من انحصار هذه الوظيفة بالسلطة القائمة بالأمر.

ج-- لو تنزّلنا وسلّمنا بأن مفاد الرواية الاشتراط، فإنها ليست عامة شاملة لكل موارد الأمر والنهي بل هي خاصة إما بمواقع متقدمة في قيادة الأمة كالإمامة والخلافة بدليل استشهاده (عليه السلام) بقوله تعالى: «وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ» (الأعراف:159).

وإما بموارد معينة من عملية التغيير والإصلاح الاجتماعي التي هي من وظائف ولي أمر المسلمين أو بالخروج بالسيف لإزالة الأنظمة الظالمة.

وقد مال صاحب الجواهر (قدس سره) نفسه إلى أحد هذه الاحتمالات قال (قدس سره): ((بل يمكن كون المراد من الخبر للآية الإمام العادل، بل كاد يكون صريح قوله (عليه السلام): (والأمة واحد) إلى آخره، بل يمكن القطع به))(1) فما حدا مما بدا حتى استدل بالرواية على اشتراط العلم في وجوب الفريضة؟.

ص: 263


1- جواهر الكلام: 21/361.

د- ما احتمله(1)

البعض من كون هذه الأوصاف كناية عن القدرة التي هي من الشرائط العامة للتكليف، وليست شرطاً مستقلاً للوجوب فلا تنفع المستدل.

ه-- إن ظاهر الرواية كون العلم شرطاً للواجب أي للامتثال ليقع صحيحاً وليس للوجوب فهي بصدد بيان من يحق له الامتثال والقيام بالفريضة وإن كان الجميع مخاطباً بالوجوب.

و- يمكن القطع بعدم إرادة اشتراط وجوب الفريضة بهذه الشروط للعلم بأن كثيراً من موارد الأمر والنهي الفردية كالأمر بالصلاة أو المرأة بالحجاب أو نهي الآخرين عن شرب الخمر ونحو ذلك مما لا يتوقف وجوبه على كون الآمر الناهي قوياً مطاعاً عالماً، فهذا نقض على المستدل.

ز- إن الخبر لو كان صالحاً للاستدلال على الاشتراط لاشترطوا المطاعية للآمر الناهي في الوجوب بحيث أن الشك فيها يسقط الوجوب لأن المطلوب إحراز الشرط وتحققه، ولا قائل بذلك، واكتفوا باحتمال التأثير، وأن الوجوب يسقط عند القطع بعدم التأثير والاستجابة.

3- أما ((دعوى أن المنساق من إطلاق الأمر بالمعروف..)) فهي غير تامة لأكثر من وجه:-

أ- إنها تعبير آخر عن الانصراف، وهو لا يصلح لتقييد إطلاقات الأمر والنهي.

ب- إن هذا الانسياق موجود في أدلة الأحكام الأخرى ولم يقيدوها بالعلم.

4- وأما الاستدلال بالبراءة بتقريب أنه مع الشك في حرمة ما يفعله الغير أو

ص: 264


1- حكاه في موسوعة الفقه الإسلامي: 17/183.

وجوب ما تركه يحصل الشك في الأمر والنهي وهو مجرى أصالة البراءة(1).

فيرد عليه:-

أ- إن الخصم يدّعي وجود الدليل، ومعه لا مجال لإجراء الأصل، ونقصد بالدليل إطلاقات وجوب الأمر والنهي بعد فرض تحقق موضوعهما وأن الآخر قد ترك معروفاً أو ارتكب منكراً لكن الآمر الناهي لا يعلم بذلك، فهذا هو متعلق الشك، وليس حكم الفعل في نفسه من حيث كونه حراماً أو واجباً، فإن هذا الشك من شؤون المأمور المنهي وسنبحثه في المحور الثاني بإذن الله تعالى.

ب- إن الشك في وجوب الأمر والنهي مسبَّب عن الشك في حكم فعل الآخر، فلا يعلم الآمر الناهي أنه معروف حتى يأمره به أو منكر حتى ينهاه عنه، ولا تجري البراءة في هذا الشك السببي ولا يسقط الوجوب مع هذا الجهل ولا تجري أصالة البراءة، وإلا لزم سقوط كل التكاليف الإلزامية التي لا يعلم بها صاحبها وهو باطل، ولذا اشترطوا الفحص قبل إجراء أصالة البراءة.

وغاية ما يقال فيه أنه معذِّر لصاحبه، بل قد يقال بعدم المعذِّرية أيضاً لما دلَّ على وجوب التعلم وعدم معذورية الجاهل(2).

ص: 265


1- مباني منهاج الصالحين: 7/146.
2- كصحيحة مسعدة بن زياد التي رواها الشيخ في (الأمالي) قال: (سمعت جعفر بن محمد (عليه السلام) وقد سئل عن قوله تعالى: «قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ» (الأنعام:149) فقال: إن الله تبارك وتعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي أكنت عالماً؟ فإن قال: نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال: كنت جاهلاً، قال له: أفلا تعلّمت حتى تعمل؟ فيخصمه، فتلك الحجة البالغة).

ومما تقدم يظهر أن الشبهة وإن كانت موضوعية بالنظر الأولي إلا أنها حكمية بالدقة، فإجراء البراءة على أساس أنها موضوعية كما عن البعض ليس صحيحاً.

هذا جملة ما استدلوا به على كون الشرط للوجوب.

هذا ويمكن إضافة دليلين للمشهور:

1- إن التمسك بإطلاقات وجوب الأمر والنهي في محل البحث الذي يفترض فيه عدم العلم بمعروفية ما ترك ومنكرية ما فعل يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية وهو غير صحيح، فلا تشمل العمومات هذا المورد الذي يخرج من وجوبها، فتحققت نتيجة الاشتراط؛ لأن الوجوب أصبح مشروطاً بالعلم.

ويرد عليه: إن هذا صحيح لو أريد بالوجوب الوجوب العيني ومعرفة تكليف كل شخص مستقلاً عن الآخر، لكن الوجوب هنا كفائي ولا يتعين بشخص محدد، وسيأتي تفصيله عند بيان أدلة القول الثاني.

2- ما نستطيع أن نسميه قراءة في فكر ونفسية المشهور فنقول:

إن الدافع للالتزام بهذا القول يمكن تصويره بناءً على مقدمتين:

أولاهما: أن أصل هذا الشرط ثابت عند الجميع إذ أن الجاهل بكون ما تركه الآخر معروفاً وما فعله منكراً لا يصح منه القيام بهذه الوظيفة لأنه لا يؤتمن منه الغلط فقد يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف.

ثانيهما: أن هذا الشرط لو كان للواجب فإنه يجب التعلم مقدمة للواجب؛ لأن شروط الواجب يجب تحصيلها، ولما كان هذا التعلم غير واجب،

ص: 266

فهذا ليس شرطاً للواجب، والقضية مانعة خلو، فهو شرط للوجوب لأن شروط الوجوب لا يجب تحصيلها.

أقول: لا إشكال في المقدمة الأولى وهي ثابتة كما قدمنا.

لكن المقدمة الثانية قابلة للمناقشة من وجوه:-

1- ما حررناه في كتاب الصوم(1) من عدم تمامية كبرى ((شروط الواجب يجب تحصيلها وشروط الوجوب لا يجب تحصيلها)) على إطلاقها وإنما هي على نحو الموجبة الجزئية، فلا ملازمة بين كون العلم شرط واجب ووجوب التعلم.

2- لو تنزلنا وقلنا بوجوب التعلم فإن أحكام أفعال الغير هي نفس أحكام الآمر الناهي لاشتراك الأحكام بين الناس، وقد أشرنا قبل قليل إلى وجوب تعلم الأحكام الابتلائية، أما غيرها فسنبين كيفية انحلال هذا العلم.

ومن هذا يظهر أن عدم جعل العلم شرط وجوب لا يعني الإلزام بالفريضة حال الجهل؛ لأن القائل به يلزم غير العالم بالتعلم مقدمة للقيام بالأمر والنهي، وليس أنه لما ينفي كون العلم شرط وجوب يلتزم بوجوب الأمر والنهي في حال جهله بالأحكام حتى يرد عليهم محذور الوقوع في الغلط، لذا فقد شبهوه بالوضوء بالنسبة للصلاة فكما أن غير المتطهر لا تجوز له الصلاة إلا أنه مأمور بالطهور ثم الصلاة.

القول الثاني: إنه شرط واجب

ويستدل له بوجوه:-

1- ما ذكره المحقق الثاني (قدس سره) بقوله: ((والأصل في ذلك أنه لا دليل على اشتراط الوجوب بهذا الأمر الواقع، بخلاف غيره، وتقييد الأمر المطلق بشيء ليصير الواجب مشروطاً بالنسبة إلى ذلك الشيء يتوقف

ص: 267


1- فقه الخلاف: 3/ 45، ط. الثانية.

على الدليل))(1)، وقال بعض المعاصرين: ((إن مقتضى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوبهما ولا وجه لاشتراط العلم والمعرفة))(2).

وقال أحد الأعلام المعاصرين: ((وظاهر الأمر الوجوب المطلق كما لا يخفى، فالقول بأن العلم شرط الوجوب لا شرط الواجب محل إشكال، بل يمكن أن يقال بأن كلمات الفقهاء كلها تدل على هذا القول))(3).

أقول: المفروض عدم تحقق مصداق المعروف والمنكر لدى الآمر الناهي فلا يحق له التمسك بإطلاقات الأمر والنهي ولا يجوز إلزامه به ولا مؤاخذته عليه، فتقييد الوجوب الذي ذكره الفريق الأول جاء نتيجة الشك في تحقق مصداق المعروف والمنكر ولا يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فلا يصح الاستدلال بإطلاقات الأمر والنهي.

لكن هذا يجاب بأن نتيجته عدم جواز تصدي الآمر الناهي للوظيفة وعدم جواز مؤاخذته على تركها، وهو أعم من كونه شرط وجوب أو شرط واجب لأن النتيجة تترتب على كلا التقديرين.

لكن هذا الرد على الاستدلال يتم فيما لو كان الوجوب المقصود عينياً، والمقام ليس منه لأن المدعى أنه وجوب كفائي يتحقق بحصول موضوعه وقد قرّبنا آنفاً أنه متحقق بحسب الفرض لكن الآمر الناهي لا يعلم به، فوجوب الأمر والنهي فعلي بتحقق موضوعه وهو ثابت بالإطلاقات، نعم لا يؤاخذ الجاهل مع المجموع إذا كان جهله معذّراً.

ص: 268


1- جامع المقاصد: 3/486.
2- مباني تكملة المنهاج: 7/146.
3- الفقه: 48/179.

2- إن المناط في كون هذا مما يؤمر به وهذا مما ينهى عنه غير مرتبط بالآمرالناهي، وإنما يرتبط بأمرين: ذات الفعل وحال المتلبس به –وهو ما سنذكره في المحور الثاني-، أما علم الآمر الناهي وعدم علمه فإنه غير ملحوظ في فعلية الموضوع حتى يقيد به الوجوب ويجعل شرطاً فيه.

نعم علم الآمر الناهي مرتبط بتنجيز الفعل عليه أي باستحقاق العقوبة على الترك إذا كان عالماً، ومعذوريته إن لم يكن عالماً، أما فعلية الوجوب فهي ثابتة في ذممهم جميعاً، كمن لم يعلم بدخول شهر رمضان، أو كان جاهلاً بأن من عاد إلى بلده من السفر قبل الزوال ولم يتناول مفطراً فعليه تجديد نيّة الصوم، فإن وجوب الصوم ثابت في ذمته، وعليه قضاء ذلك اليوم، لكنه لا يستحق العقوبة لعدم علمه ولا كفارة عليه.

3- يلزم من القول بكون علم الآمر الناهي شرط وجوب: تفشي المنكرات وضياع الواجبات في المجتمعات غير المتفقهة بلا رادع لعدم وجوب الأمر والنهي عليهم، ولعدم وجوب التعلم كما التزم المشهور، وفي هذا نقض لغرض هذه الوظيفة العظيمة التي بالغ الشارع المقدس في وجوب إقامتها، ولعل هذا ما أراده المحقق الأردبيلي (قدس سره) بقوله: ((اشتراط العلم قد يؤول إلى تعطيل الآمر، إذ قد يترك الكل، لعدم العلم الذي هو شرط في الوجوب، فلا يجب على أحد ولا يحصل المطلوب))(1).

4- إنه لو تنزّلنا مع المشهور وقلنا بأن علم الآمر الناهي شرط للوجوب فإنه لا أثر له؛ لأن هذا العلم متحقق فالوجوب فعلي؛ لأننا نقطع بوجود المنكر

ص: 269


1- مجمع الفائدة والبرهان: 7/536.

في المجتمع إجمالاً وأن واجبات كثيرة متروكة فهذا العلم يحقق شرط الوجوب ويكون فعلياً، ولا ينفعه عدم العلم التفصيلي الشخصي لأن الوجوب المدعى ليس عينياً حتى يدفعه عن شخصه بل هو كفائي، فيلزم الآمر الناهي بتعلم الأحكام مقدمة لأداء هذه الوظيفة العظيمة وهو قول المخالفين للمشهور.

5- يلزم من قول المشهور أن يكون فعل واحد واجباً وغير واجب في آن واحد، وهو لازم باطل فالملزوم مثله ويتعين كون الشرط للواجب.

بيانه: لو فرض أن زيداً فعل منكراً أو ترك معروفاً، وكان هناك اثنان أحدهما عالم بالمعروف والمنكر والثاني غير عالم فيكون الأمر والنهي عن هذا الفعل واجباً عند الأول وغير واجب عند الثاني مع أن فعل زيد واحد وله حكم واحد فإما أن يجب الأمر والنهي فيه أو لا يجب، والفعل الواحد لا يقبل الحكمين المتناقضين.

إن قلتَ: هذا ممكن كما أن الحج واجب بلحاظ هذا لأنه مستطيع وغير واجب بلحاظ ذاك لأنه غير مستطيع، وهنا الفعل متعد بتعدد اللحاظ.قلتُ: هذا قياس مع الفارق لأن في الحج أفراداً متعددة بعدد المكلفين، أو قل إن حكم الحج بلحاظ هذا الفرد يختلف عن حكمه بلحاظ الآخر، ففرد الحج المنسوب إلى المستطيع يمكن أن يتصف بالوجوب دون الفرد المنسوب إلى غير المستطيع، أما هنا فالفعل واحد وحكمه واحد واللحاظ لا يعدده لعدم مدخلية اللحاظ كما قدمنا في النقطة السابقة.

وبتعبير آخر: إن الوجوب في الحج –لو اجتمعت شرائطه- عيني يمكن أن يختلف من فرد إلى آخر، أما الوجوب هنا فهو كفائي مرتبط بالفعل نفسه فمتى وجد منكر وجبت إزالته أو معروف متروك وجب الأمر به.

ص: 270

القول المختار:

الصحيح أن هذا العلم شرط للواجب لعدم ارتباط الوجوب بعلم الآمر الناهي وإنما بوقوع المنكر وترك المعروف وهما مفروضان، وأن هذا العلم بالوجوب ولو إجمالاً ينجّز وجوب التعلم لكن لا على النحو الذي ذكره في جامع المقاصد والمسالك بأن يتعلّم الآمر الناهي حكم أفعال الغير ثم يأمر وينهى وشبّهوه بالوضوء للصلاة، مما أوجب منع المشهور لجزمهم بعدم وجوب تعلم أحكام الغير، وإنما يكون هذا الوجوب على نحوين ينحل بهما العلم الإجمالي بوجود منكر وترك معروف مما ينجز وجوب التعلم:

أحدهما: عيني بأن يتعلم الآمر الناهي المسائل الابتلائية التي تعنيه هو في حياته الشخصية والاجتماعية، وهي مشتركة بينه وبين غيره فتصبح له القدرة على ممارسة وظيفة الأمر والنهي ضمن هذه المساحة، ولا يجب عليه أن يتعلم ما يخصّ الآخرين دونه كما لو كانت لهم مهنة تختلف عن مهنته، فلا يجب على التاجر أن يتعلم فقه الطب أو التعليم أو القضاء وغيرها ليأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر.

ثانيهما: على نحو الوجوب الكفائي، بمعنى أنه يجب على جماعة من الأمة أن تتعلم أحكام الدين لتميّز بين المعروف والمنكر ويكون وظيفتها تشخيص موارد الأمر والنهي وتعليم الآخرين ما يحتاجون إليه وما يبتلون به من مسائل الأمر والنهي، ولو لم تمتثل الأمة هذا الوجوب ووقعت في المنكر وتركت المعروف لجهلها فإنها غير معذورة في هذا الجهل.

ويتأكد هذا الوجوب في القضايا الاجتماعية، فلو ابتلي المجتمع بوجود منكرات لا يعرفها ولا يميّزها، لكنهم يجدون آثارها التدميرية في أخلاق المجتمع فهل يقال بعدم وجوب التعلّم لمعرفتها، وتشخيصها ومن ثم معالجتها وحماية

ص: 271

الأمة منها؟ كالذي يجري في بعض الصالات والمقاهي والمواقع الإلكترونية المخرِّبة للأخلاق، أو شركات التسويق الشبكي، أو عدم جعل حدود لربح البيع بالآجل المدمّرة للاقتصاد، أوبعض الخدع والتحايلات السياسية التي تمهّد للفساد والاستئثار والاستبداد ونحو ذلك من القضايا الاجتماعية.

وهذا الوجوب هو عينه الذي دعت إليه الآية الشريفة «فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» (التوبة : 122) وهذا الوجوب منجّز حتى لو لم نعلم بوجود منكر أو معروف متروك، لوجوب وجود المتفقه في الدين في المجتمع.

وبذلك يزول المانع لدى المشهور من القول بأنه شرط واجب؛ وأعني به عدم وجوب تعلم كون ما فعله الآخر منكراً وما تركه معروفاً، وإنما تحقق زواله بوجهين على الأقل:-

أ- إن تكاليف الآخر الابتلائية هي نفس تكاليف الآمر الناهي لاشتراكهما في الأحكام؛ فتعلّمها واجب عليه من جهة أنها تكاليفه أيضاً، مما يؤهله لممارسة وظيفة الأمر والنهي.

ب- إن كبرى ((مقدمات الواجب يجب تحصيلها)) غير تامة فالالتزام بكون العلم شرط واجب لا يقتضي وجوب التعلم.

وبهذا التحقيق المفصل دفعنا مانع المشهور وهو عدم قبولهم الوجوب العيني لتعلم تكاليف الآخرين مقدمة للأمر والنهي، وأيضاً صححنا التزام المخالفين لهم بأن وجوب التعلم ليس على نحو تحصيل الطهور مقدمة للصلاة لأن ذاك في الواجبات العينية وواجبنا في المقام كفائي.

وظهر أن الصحيح كون العلم شرط واجب بل لا يستطيع المشهور أن يقول بأنه شرط وجوب لأن لازمه تفشّي المنكرات وإهمال الفرائض في المجتمعات غير المتفقهة من دون رادع ولا آمر ولا ناهي باعتبار عدم الوجوب

ص: 272

على الجاهل وعدم وجوب التعلم أصلاً، وهذه نتيجة يرفضها الشارع المقدس قطعاً.

تتميم: لم يتعرض المشهور لاحتمال آخر في متعلق هذا العلم، وهو علم الآمر الناهي بأن منكراً قد ارتكب وأن معروفاً قد تُرك، ولكنه لا يعرفه ما هو حتى يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويظهر الفرق بين المتعلقين من طريقة معالجتهما والموجب لتحصيل العلم فيهما.

فإن الموجب لتحصيل العلم الأول تعلّم الأحكام الشرعية والتفقه في الدين لمعرفة المعروف والمنكر، أما الموجب لتحصيل العلم الثاني فهو الفحص والتفتيش عن المعروف المهجور والمنكر الموجود، والفرق بينهما كالفرق بين الوقاية والعلاج، فالأول من قبيل الثاني والثاني من قبيل الأول.

وهذا العلم الإجمالي بوجود منكرات في المجتمع وواجبات متروكة ينجّز على المجتمع وجوب الفحص عن هذه المعروفات والمنكرات، ولكن لا على كل المجتمع وإنما على الجماعة المؤهلة القادرة على ذلك، ولو لم تفعل أثم الجميع لأن الوجوب كفائي.

وهذه السيرة معمول بها لدى العقلاء والدول المتحضرة فتنشئ أجهزة الاستخبارات للكشف عن مسببي الإخلال بالأمن، وأجهزة الرقابة المالية والنزاهة والتفتيش للكشف عن الفساد المالي وهكذا.وقد حث الشارع المقدس على العمل بهذا البحث والتفتيش وجعل الخطوة الأولى على صعيد النفس فأمر بمحاسبتها ومراقبتها وتعاهدها.

فروع:-

1- قال المحقق الأردبيلي في مسألة وجوب التعلم مع وجود من يعلم: ((ثم إن الظاهر عدم وجوب التعلم أيضاً مع وجود من يعلم، وقدرته على الأمر والنهي مثل من لا يعلم، أو أشد قدرة منه. نعم، لو لم يكن عالم

ص: 273

قادر كافٍ –مع وجود الجاهل كذلك منفرداً أو منضماً، وعلم تحقق ترك المأمور وفعل المنكر مجملاً، وعلم وجوب الأمر والنهي على الإجمال على الكل- يجب عليه التعلم على التفصيل؛ لتحصيل الغرض، وهو نادر))(1).

أقول: لا يكفي وجود العالم القادر ما لم تتحقق نتيجة الأمر والنهي وهو فعل المعروف وارتفاع المنكر فلو تطلبت القضية التعلم لوجب؛ لأن الوجوب كفائي كما اعترف (قدس سره) في نهاية كلامه. وهذا منه (قدس سره) دليل على أنه شرط واجب وإلا لم يجب مطلقاً.

وقوله: ((وهو نادر)) ربما بلحاظ المدينة التي هو فيها وإلا فإن هذه الحالة هي الغالبية في بلدان العالم.

2- العلم المشترط هنا لا يراد به القطع خاصة فيشمل ما يقوم مقامه مما اعتبر شرعاً كالاجتهاد والتقليد، فلو قلدا مجتهداً يقول بوجوب الحضور في صلاة الجمعة فلم يحضر أحدهما وجب على الآخر أمره بالحضور، وإن كانت المسألة خلافية.

3- يكفي في تحقق الشرط حصول العلم بالجامع كما لو علم رجحان الموضوع فأمر به من دون أن يعلم أنه واجب شرعاً أو مستحب كان فعله في محله، أو علم بمرجوحية فعل فنهى عنه من دون أن يعلم أنه حرام شرعاً أم مكروه، بناءً على توسعة دائرة الوظيفة للأحكام غير الإلزامية كما تقدم بفضل الله تعالى.

4- لو أمر بشيء تحتمل حرمته فظهر أنه راجح شرعاً صحّ عمله وتترتب عليه آثار المتجري، وكذا لو نهى عن شيء يحتمل وجوبه فظهر أنه مرجوح شرعاً كصلاة الجمعة في زمن الغيبة عند البعض أو بسبب اختلاف الظروف والملابسات.

ص: 274


1- مجمع الفائدة والبرهان للأردبيلي: 7/536.

وسنذكر فروعاً أخرى في المسائل الملحقة بالكتاب بإذن الله تعالى.

(الأمر الخامس) عدم العلم بفعل الغير

وهو شرط للوجوب على مبانيهم كان ينبغي عليهم ذكره؛ لأنهم بنوا –صريحاً أو اقتضاءً- في تفسير الوجوب الكفائي على كون الوجوب مشروطاً بعدم إتيان الغير كما تقدم.

وقد تعرض المحقق الأردبيلي (قدس سره) لهذا الشرط وحكاه عن الشهيد الأول (قدس سره) في الدروس، ولكنه اختلط في كلامه مع أمر آخر، قال (قدس سره): ((ثم إنه لا يبعد كفاية العلم بأن الغير يقوم، في جواز التأخير، وعدم وجوب المبادرة فيما نحن فيه وفي جميع الكفائيات، إذا كان العلم بحيث أن الواجب يسقط بتلك الإقامة، إما بحصول المطلوب، أو لتحقق عدم الوجوب على الباقي لعدم شرطه: مثل أن يعلم أنه لو لم يؤثر كلام من قام وأمره، لم يؤثر غيره، أو حصول الضرر.

بل يكفى الظن المتاخم للعلم المأخوذ من القرائن والعادات، مثل تهيؤ جماعة مقيدين بالشرع، متعينين في بلاد المسلمين لتجهيز الأموات، فإذا علم شخص منا موت مسلم لا يجب عليه المبادرة، للعلم العادي أو الظن المتاخم له بارتكاب الغير ذلك.

ص: 275

ولهذا ترى أن العلماء والصلحاء يتركون ذلك في ساير البلدان والأعصار إلى الآن من غير إنكار أحد ذلك.

وكذا كانوا يبعثون من يمنع منكراً، أو يأمر بالواجبات مثل إقامة الصلوات وأخذ الزكوات من غير أن يروحوا بأنفسهم، ولا أن يبعثوا إلى ذلك كل أحد يمكنه ذلك.

وكذا في تعليم ساير الواجبات والمحرمات، وذلك ظاهر من آثار الماضين وفعل المعاصرين بل من فعله صلى الله عليه وآله وأوصيائه صلوات الله عليهم أجمعين.

وعدّ في الدروس عدم الظن بقيام الغير مقامه على الأقوى، شرطاً من شرايط وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وكذا يظهر من المنتهى كما سيأتي.

وهذا يدل على كفاية مطلق الظن.

فتأمل، فإن الأدلة غير مقيدة به، وسقوط الواجب المحقق بمطلق الظن مشكل: نعم لا يبعد الظن المتقدم(1).

ولكن لا يسقط ذلك الواجب في نفس الأمر إلا بحصول المطلوب، أو بعدم وجود شرط آخر من ساير شروطه، والاحتياط واضح فلا يترك مهما أمكن))(2).

أقول: توجد عدة مناقشات:-

إن جواز التأخير غير مرتبط بكون الوجوب كفائياً والعلم بتصدي الغير، وإنما هو بحث أصولي مبني على كون مقتضى الأمر الفور أم التراخي، ولو اقتضى الأمر الفورية وجبت.

اللهم إلا أن يريد بجواز التأخير الناشئ من الشعور بسقوط الوجوب أصلاً1- فيكون مناسباً للمقام كما يظهر من قرينتين:

إحداهما: استدلاله بالسيرة فإنها جارية على البناء على عدم الوجوب إذا حصل العلم بقيام الغير وليست مقتصرة على جواز التأخير.

ص: 276


1- أي المتاخم للعلم.
2- مجمع الفائدة والبرهان: 7/533-534.

ثانيتهما: قوله في أول النص ((إذا كان العلم بحيث أن الواجب يسقط..)) وقوله بعد كلام الدروس: ((وسقوط الواجب..)) ومن ذلك يتضح التداخل بين المطلبين.

2- ذكرنا في بحث ((حقيقة الوجوب الكفائي)) المتقدم أن الوجوب الكفائي مطلق وما قيل من وجوه لتفسيره بالمشروط ليست تامة، ومنها أدلة هذه الفريضة فإنها مطلقة غير مقيدة بالعلم بقيام الغير، وسقوطها بفعل الغير لا يعني أنها مشروطة به بل لانتفاء الموضوع. ومنه يظهر أن الخوض في كفاية الظن المتاخم للعلم أو مطلقاً لا معنى له.

3- إن العلم بقيام الغير لا يكفي لسقوط الوجوب فضلاً عن الظن؛ لأن المطلوب في هذه الفريضة تحقق متعلقها في الخارج ولا يسقط الوجوب إلا به.

4- ما حكاه عن الدروس صريح في محل البحث، ولم أجد في المنتهى ما يشير إلى هذا الشرط، إلا أن يكون طبّقه على مباني العلامة في القول بالوجوب المشروط.

ص: 277

(المحور الثاني – شروط المخاطب بالأمر والنهي)

اشارة

وتذكر هنا أمور:

(الأمر الأول) التكليف

لم يتعرض كثير من الفقهاء (قدس الله أرواحهم) لهذا الشرط، ولعله لرسوخ الاعتقاد عندهم أن ما يؤمر به وينهى عنه هي الأحكام الإلزامية، ولا إلزام على غير المكلف لرفع القلم عنه بحديث الرفع، لهذا ذكر صاحب الجواهر (قدس سره): ((أنه –أي التكليف- يعتبر في المأمور والمنهي))(1)، واستدل عليه ب-((أن المنكر المحرم والمعروف الواجب، ولا واجب ولا محرم بالنسبة إلى غير المكلف)).

أقول: ظاهر كلامه (قدس سره) أن اشتراطهم التكليف هنا، أو قل تقييد إطلاقات وجوب الأمر والنهي بشرط التكليف لمانعين:-

1- اختصاص المعروف والمنكر بالأحكام الإلزامية (الوجوب والحرمة) وعدم شمولهما للمستحبات والمكروهات، وأحكام غير المكلف من الثاني فلا تدخل في عمومات الأمر والنهي.

2- حديث الرفع.

وكلاهما غير تام، فإطلاق القول بالاشتراط غير صحيح، أما الأول فلأن الصحيح القول بعموم وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للأحكام غير

ص: 278


1- جواهر الكلام: 21/374.

الإلزامية من المستحبات والمكروهات، وقد استدللنا في موضعه على القول بالعموم.

وأما الثاني فإن حديث الرفع مخصَّص بعدة موارد ثبت فيها عدم سقوط الجزاء عن الصغير كالقتل والسرقة، ففي صحيحة يزيد الكناسي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) (قلت: الغلام إذا زوّجه أبوه ودخل بأهله وهو غير مدرك، أتقامُ عليه الحدود على تلك الحال؟ قال: أما الحدود الكاملة التي يؤخذ بها الرجال فلا، ولكن يُجلد في الحدود كلها على مبلغ سنّه ((وفي رواية الشيخ: فيؤخذ بذلك ما بينه وبين خمس عشرة سنة)) ولا تبطل حدود الله في خلقه ولا تبطل حقوق المسلمين بينهم)(1)

وما ورد في تعزير الصبيان إذا سرقوا بقطع الأنامل وحك الأصابع(2)

فالصغير إذن يُنهى عن المنكر في الجملة.مضافاً إلى وجود موارد شرعية كثيرة ثبت فيها أمر الصبيان ونهيهم كالإضرار بالغير أو بعض الأمور التي عُلم من الشارع إرادتها من غير المكلفين أيضاً.

وما دام لا يوجد مانع من التوجه بالأمر والنهي نحو غير المكلف في الجملة فإطلاقات وجوبهما شاملة للمقام.

واستبعاد تعلق وجوب الأمر والنهي بأمور غير واجبة، أجبناه عند البحث عن وجوب الأمر بالمستحبات والنهي عن المكروهات.

لذا اختار عدد من الأعلام عدم اشتراط التكليف، قال المحقق الراوندي: ((فإن قيل: فمن يؤمر وينهى؟ قيل: كل مكلف، وغير المكلف إذا هم بضرر غيره منع كالصبيان والمجانين، وينهى الصبيان عن المحرمات حتى لا يتعودوها كما ويؤخذون بالصلاة ليتمرنوا عليها))(3).

ص: 279


1- وسائل الشيعة: كتاب الحدود والتعزيرات، أبواب مقدمات الحدود، باب 6، ح1.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحدود والتعزيرات، أبواب حد السرقة، باب 28.
3- فقه القرآن: 1/359.

وقال المقداد في كنز العرفان: ((لا يشترط في المأمور والمنهي أن يكون مكلفاً، فإن غير المكلف إذا علم إضراره للغير منع من ذلك وكذا الصبي ينهى عن المحرمات لئلا يتعودها، ويؤمر بالطاعات ليتمرن عليها))(1).

وذكر السيد الخميني (قدس سره) الجواز كاستثناء، قال (قدس سره): ((لا يجب نهي غير المكلف كالصغير والمجنون ولا أمره، نعم لو كان مما لا يرضى المولى بوجوده مطلقاً يجب على المكلف منع غير المكلف عن إيجاده))(2).

وقد ردّ صاحب الجواهر (قدس سره) على ما في كنز العرفان بأنه ((واضح الفساد بعد ما عرفت من أن المنكر المحرم والمعروف الواجب، ولا واجب ولا محرم بالنسبة إلى غير المكلف))(3)

وأنَّ ((منع الصبي والمجنون عن إضرار الغير ليس من الأمر بالمعروف بل هو كمنع الدابة المؤذية)).

وبيانه: بأن ((يكون الخطاب فيه للبالغ نفسه في الحيلولة دون وقوع الضرر على الغير من أي جهة صدر، وللمحافظة على الأموال والأعراض والدماء المحترمة.كما أن أمرهم بالقيام ببعض الأعمال الواجبة كالصلاة والصوم، ومنعهم عن ارتكاب بعض الأعمال المحرمة على المكلفين إنما ورد من باب التربية والتعليم، وهذا غير باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر))(4).

أقول:-

ص: 280


1- كنز العرفان: 1/408.
2- تحرير الوسيلة: 1/428، مسألة (21).
3- جواهر الكلام: 21/374.
4- موسوعة الفقه الإسلامي: 17/188.

1- تعنون منع الصبي من الأفعال الضارة بالآخرين بهذا العنوان لا يخرجه عن كونه أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر لأن واقعه ذلك، فإن دفع الضرر عن الغير كالداعي أو الغرض أو الغاية أما الوسيلة فهي هذه الوظيفة.

وانطباق عنوان آخر على المورد –كالتربية وحماية حقوق الآخرين- لا يضر، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متداخل مع عناوين أخرى بحسب موارده –كالجهاد أو الدعوة إلى الخير أو الإرشاد مما تقدم في البحوث التمهيدية- من دون أن يلغى عنوانه الخاص، وقد أطلقت بعض الروايات عنوان الأمر والنهي على تعليم الجاهل كما في رواية الكافي والتهذيب عن صاحب المنقري قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (إنما يؤمر بالمعروف ويُنهى عن المنكر مؤمن فيتعظ، أو جاهل فيتعلم)(1)

الحديث.

2- إن الأمر والنهي فعل الآمر الناهي وتعود مصلحته إليه أو للمجتمع عموماً كالغضب لله تعالى أو إقامة النظام الاجتماعي أو الإصلاح واجتثاث أصول الفساد، بغضّ النظر عن هوية الفاعل، فالسرقة والزنا وشرب الخمر والقتل منكرات ويجب منعها والنهي عنها وإن كان فاعلها صغيراً.

وتمثيله للحالة بالدابة دليل للخصم وليس له لأنه شاهد على ما ذكرناه من أنه تكليف الآمر الناهي.

3- إن تمثيل منع الصغير بمنع الدابة فيه مجافاة للحقيقة؛ لأن الصغير مشروع لإنسان كامل مستقبلاً، ويجب تأديبه وتهذيبه؛ لذا صحّ أمره ونهيه، فكيف يقاس بالدابة.

ص: 281


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب 2، ح2.

4- لو لم يجب أمر غير المكلف ونهيه مطلقاً فإنه يلزم جواز خوضه في المنكرات بلا رادع حتى تلك التي عُلِم منع الشارع من حصولها من أي فاعل كان، وهذه نتيجة غير مقبولة.

إن الروايات الشريفة عبّرت بالأمر عن تدريب الصبيان على العبادات فهذا تصريح بأنه من موارد الأمر والنهي، ففي صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله1- (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) قال: (إنا نأمر صبياننا بالصلاة إذا كانوا بني خمس سنين، فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين)(1)

وفي صحيحة الفضيل بن اليسار قال: (كان علي بن الحسين (عليهما السلام) يأمر الصبيان يجمعون بين المغرب والعشاء، ويقول هو خير من أن يناموا عنها)(2)

وفي صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إنا نأمر صبياننا بالصيام إذا كانوا بني سبع سنين بما أطاقوا من صيام اليوم، فإن كان إلى نصف النهار أو أكثر من ذلك أو أقل، فإذا غلبهم العطش أو الغرث –أي الجوع- أفطروا حتى يتعودوا الصوم ويطيقوه، فمروا صبيانكم إذا كانوا بني تسع سنين بالصوم ما أطاقوا من صيام فإذا غلبهم العطش أفطروا)(3).

وفي بعض الروايات إجازة بضرب الطفل على الوضوء والصلاة، وهي من أوضح مصاديق هذه الوظيفة.

ص: 282


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أعداد الفرائض،باب 3، ح5.
2- المصدر السابق، باب 4، ح1.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه، باب 29، ح 3.

(الأمر الثاني) عدم كون المأمور أو المنهي معذوراً لتنجز التكليف في حقه

اشارة

لم يتعرض أغلب الفقهاء المتقدمين لهذا الشرط ولعله للتسالم عليه باعتبار أن القضية تصبح للمعذور سالبة بانتفاء الموضوع، إذ مع عدم تنجز التكليف لا يصدق عنوان المعروف والمنكر، ولا يتحقق موضوع الأمر والنهي فاكتفوا بذكر أربعة شروط للوجوب.

لكن جملة من الفقهاء المعاصرين أضافوا هذا الشرط ضمن شرائط الوجوب فأصبحت عندهم خمسة، قال السيد الحكيم (قدس سره): ((الخامس –من شروط الوجوب-: أن يكون المعروف منجزاً في حق الفاعل، فإذا كان معذوراً في فعله المنكر أو تركه المعروف لاعتقاد أن ما فعله مباح وليس بحرام، أو أن ما تركه ليس بواجبوكان معذوراً في ذلك للاشتباه في الموضوع أو الحكم اجتهاداً أو تقليداً لم يجب شيء))(1).

وذهب بعضهم إلى عدم الجواز، قال السيد الخميني (قدس سره): ((لو كان المرتكب للحرام أو التارك للواجب معذوراً فيه شرعاً أو عقلاً لا يجب بل لا يجوز الإنكار))(2).

وأكّد (قدس سره) ذلك فيما لو احتمله أيضاً، قال (قدس سره): ((لو احتمل كون المرتكب أو التارك للواجب معذوراً في ذلك لا يجب الإنكار عليه، بل يشكل، فمع احتمال كون المفطر في شهر رمضان مسافراً مثلاً لا يجب النهي بل يشكل، نعم لو كان فعله جهراً موجباً لهتك الإسلام أو لجرأة الناس على ارتكاب المحرمات يجب نهيه لذلك)).

ص: 283


1- منهاج الصالحين للسيد الحكيم: 1/306، م 4، ومنهاج الصالحين للسيد لخوئي: 1/351، مسألة (1271)، ومهذب الأحكام: 15/149.
2- تحرير الوسيلة: 1/428، مسألة (22).

أقول: هنا عدة ملاحظات عامة منها:-

1- إطلاق عدم وجوب الأمر والنهي للمعذور غير صحيح، لذا يجب التفصيل في العذر بين كونه واقعياً أو ظاهرياً فالأول كالتقية أو الضرر أو الحرج ونحوها من العناوين الثانوية، وأما الثاني فكالجهل والاشتباه في الموضوع أو الحكم، والموقف مختلف تجاه أحدهما والآخر كما سنبين إن شاء الله تعالى.

2- لو قلنا بعدم الوجوب هنا فإنه ليس مطلقاً فتجب الإشارة حتى لا يتوهم السقوط مطلقاً؛ لأن عدم الوجوب هنا من هذه الجهة لا ينافيه ثبوته من جهة أخرى كالإرشاد وتعليم أحكام الدين، قال (قدس سره): ((وإن كان جاهلاً بالحكم الذي كان وظيفته العمل به يجب رفع جهله وبيان حكم الواقعة، ويجب الإنكار عليه))(1).

أقول: لا بد أنه (قدس سره) يريد بقوله: ((ويجب الإنكار)) الترتيب، وإلا فإنه سينافي المسألة السابقة.

3- أما حرمة أمره ونهيه فهي لعناوين ثانوية، وسنتعرض لموارد أخرى في نهاية الفصل بإذن الله تعالى.

المثال الذي ذكره (قدس سره) وكذا غيره لا يصلح لهذا الشرط؛ لأن كلامنا في المعروف والمنكر في ذاتهما لكنه معذور في فعلهما، وسنشير إلى جملة من1- الأمثلة إن شاء الله تعالى، أما ما ذكره من إفطار المسافر فهو شك في أصل كونه منكراً وموضعه الصحيح الشرط المتقدم في المحور الأول بأن يوجد علم بأن ما يفعله منكر وأن ما تركه معروف.

ص: 284


1- تحرير الوسيلة: 1/428، مسألة (24).
الاستدلال على هذا الشرط:

((واستدلوا على اشتراطه بأمرين، هما:-

((1- عدم تحقق المعروف والمنكر من المعذور؛ لانتفاء الحسن والقبح المأخوذ قيداً فيهما مع العذر))(1).

وفيه: ما تقدم من وجوب التفصيل في الأعذار، ففي بعضها –كالجهل والاشتباه- لا يتوقف اتصاف الفعل بالحسن والقبح على عدم معذورية الفاعل، وإن ما يتوقف عليها هو الحسن والقبح الفاعلي، وأثره استحقاق الفاعل العقوبة والمثوبة وعدمه.

بيانه: إن المعروف والمنكر وصفان للفعل منشأهما حسن الفعل وقبحه، أو قل المصلحة والمفسدة الموجودتان فيه بلحاظ ذات الفاعل وواقعه(2) لا بلحاظ اعتقاده وعلمه، فلو شرب خمراً جهلاً بالحكم أو الموضوع فإنَّ فعله منكر والفعل قبيح وأما كونه معذوراً فينفي عنه القبح الفاعلي، وعليه لا دخل لحال صاحبهما من هذه الحيثيات في هذا التوصيف، فكون الفاعل معذوراً لأحد الأسباب المذكورة لا ينافي صدق عنوان ترك المعروف وفعل المنكر عليهما، فتعليل عدم ذكر الشرط بعدم صدق العنوان لا وجه له.

ومع صدق عنوان المعروف والمنكر يجب الأمر والنهي تمسكاً بإطلاقاتهما، نعم بما أنه معذور فيجب إرشاده وتعليمه أولاً ثم أمره ونهيه.

((2- فحوى أدلة شرط الإصرار على الإثم إذ المعذور لا إثم عليه)).

ص: 285


1- موسوعة الفقه الإسلامي: 17/188.
2- لإخراج ما لو اختلفا اجتهاداً أو تقليداً فمعروفية الفعل ومنكريته عند أحدهما غير الآخر فلا يجب الأمر والنهي لأن ما فعله معروف بلحاظ واقعه.

أقول: تقريبه أنه مع ارتكاب الفاعل الإثم دون إصرار لتوبته وندمه ونحو ذلك فإنه لا يجب أمره ونهيه فكيف بالمعذور الذي لم يرتكب الإثم أصلاً فإنه أولى بعدم وجوب الأمر والنهي.

وفيه: أن هذا شرط مستقل سيأتي البحث فيه بإذن الله تعالى.

صور العذر:

قلنا إنه يجب التفصيل في العذر بين كونه واقعياً أو ظاهرياً، والظاهري يمكن أن يتعلق بالموضوع أو الحكم، فالصور عديدة ويكون المعذور على عدة أشكال:

الأول: أن يكون عالماً بالموضوع والحكم إلا أن عذره كان لعناوين واقعية ثانوية كالتقية والاضطرار كما لو أفطر تقية أو أكل الميتة اضطراراً غير باغٍ ولا عادٍ أو وقف في عرفة مع الناس في غير اليوم الذي قامت عليه البيّنة، وهنا لا يجب أمره ونهيه، بل إن خروج هذا المورد من التخصص لا التخصيص لعدم تحقق عنوان ترك المعروف وفعل المنكر هنا بعد ترخيص الشارع المقدس فيها.

ومما يرتبط بهذا العذر ما لو كانت المسألة مختلفاً فيها بين الفقهاء وكان الفاعل يرجع إلى من يرخّص فيها، أو احتمل ذلك في حقه فلا يجب الأمر والنهي بل قد يحرم إذا استلزم هتكه أو إيذاءه أو الانتقاص منه(1).

لأن كون الفعل معروفاً أو منكراً يلاحظ على أساس تكليف الفاعل اجتهاداً أو تقليداً وما يجب عليه من الفعل والترك.

الثاني: أن يكون جاهلاً بالحكم، وقد تقدم عن السيدين الحكيم والخوئي (قدس الله سريهما) عدم الوجوب أيضاً، وذهب السيد الخميني (قدس سره) إلى الوجوب خصوصاً إذا كان مقصراً، قال (قدس سره): ((لو

ص: 286


1- تحرير الوسيلة: 1/420، مسألة (3).

كانت المسألة غير خلافية واحتمل أن يكون المرتكب جاهلاً بالحكم فالظاهر وجوب أمره ونهيه سيما إذا كان مقصراً، والأحوط إرشاده إلى الحكم أولاً ثم إنكاره إذا أصرَّ سيما إذا كان قاصراً))(1).

أقول: هذا هو الصحيح لعدم مدخلية العلم في الوجوب كما بيّنا مراراً، ولأن الترك لم يكن منكراً ينهى عنه فإن الفعل معروف يؤمر به، والاحتياط الذي ذكره (قدس سره) في محله، للمحافظة على مورد استعمال كل مصطلح.

الثالث: أن يكون جاهلاً بالموضوع، كمن تناول ما في الكأس جاهلاً أنه خمر أو أكل شيئاً جاهلاً أنه نجس، وهنا قالوا بعدم وجوب الأمر والنهي(2)

وعدم وجوب إعلامه بحقيقة الأمر، والوجه فيه فحوى أدلة عدم وجوب الفحص في الشبهة الموضوعية؛ لأنه لا يجب عليه شخصياً الفحص في الشبهات الموضوعية فكيف يجب على غيره توجيهه إلى إحراز الموضوع.

وقد ناقشنا في بعض أبحاثنا السابقة في تعميم القاعدة لأن الرخصة الواردة في الروايات خاصة بما لو احتمل النجاسة أو احتمل الحرمة من أجل الاشتباهبالموضوع وهما موردان خاصان راعى الشارع المقدس فيهما مصلحة التسهيل على الناس لأن الفحص يلزم منه الحرج والمشقة واختلال النظام، فالتجريد عن الخصوصية والتعميم إلى كل الشبهات الموضوعية لا دليل عليه، بل ذكرنا هناك الدليل على عدم التعميم ووجوب الفحص في جملة من الموارد، لذا فقد ناقشنا المشهور في إطلاقها.

فمن الصحيح ما فعله البعض من تقييده بما سوى ((الأمور المهمة التي لا يرضى الشارع بتحقيقها في الخارج مطلقاً لو ارتكبها أحد جهلاً أو نسياناً

ص: 287


1- تحرير الوسيلة: 1/420، مسألة (3).
2- مهذب الأحكام: 15/194، مسألة (28)، وتقدم كلام السيدين الحكيم والخوئي (قدس الله سريهما).

كالنفوس والأعراض المحترمة))(1)، ومثاله ما لو همّ بقتل نفس محترمة ظناً منه أنه حيوان ضارّ، أو دخل على امرأة ظنّها زوجته وهي ليست كذلك، فهذه ليست من موارد (دعوا الناس على غفلاتهم).

أقول: هذا التقييد جيد وضروري، ونستطيع أن نتقدم خطوة أخرى في التقييد وذلك فيما لو كان الجهل غير نافع له في الاجتزاء بالعمل أي أن الشارع المقدس لم يعتبر العمل صحيحاً حتى مع الجهل كما لو توضّأ أو اغتسل بماء نجس جاهلاً بالنجاسة؛ فإن ذمته تبقى مشغولة بالطهارة والصلاة وعليه إعادة العمل وتطهير الملاقي، ومثل ما لو كان الجهل غير نافع في دفع الكفارة كما في بعض أفعال مناسك الحج؛ فيكون من الإحسان إليه واللطف به إعلامه، وقد أمرنا بالتخلق بأخلاق الله تعالى ومن أسمائه الحسنى المحسن واللطيف، فهذا أمر راجح، ويصلح أن يدخل في عنوان (الأمر بالمعروف) لأن أداء هذه الواجبات بالنحو المبرئ للذمة معروف.

وبتعبير آخر: إننا لو افترضنا أن ما صدر من الجاهل بالموضوع في الموارد التي ذكرناها ليس منكراً حتى يجب النهي عنه، لكن حمايته من الوقوع فيه معروف يجب الأمر به، وهذا ما ينبغي للمشهور أن يلتفت إليه لأنهم يركّزون على تحقق موضوع المنكر ليكون وجوب النهي عنه فعلياً، ولا يطبقون الوجوب على إمكان كونه معروفاً يجب القيام به، لا سيما على ما هو الصحيح من أن الدفع واجب كالرفع.

والخلاصة أن الجهل بالموضوع له شكلان:

1- جهل يصح معه العمل ويقع مجزياً كمن صلى بثوب عليه نجاسة لا يعلم بها أو اغتسل ظانّاً استيعاب البدن ولم يعلم بأن بعضه لم يصل إليه الماء (راجع الروايات في الوسائل، أبواب النجاسات، باب 47) أو أكل لحماً

ص: 288


1- مهذب الأحكام: 15/194، مسألة (30).

لا يعلم أنه غير مذكى.

فمثل هذا الجهل لا يجب رفعه بل ورد النهي عن إعلام صاحبه به.

2- جهل لا يُجتزأ معه بالعمل إن قام به؛ كالأمثلة التي ذكرناها أو لو جهل أن اليوم من شهر رمضان فلم يعزم على صومه، فهنا يجب رفع الجهل عنه وإعلامه؛ لأنه معروف متروك يجب الأمر به.لكنهم صرحوا بعدم الوجوب في هذه الحالة أيضاً، قال السيد الخميني (قدس سره): ((لو كان الفاعل جاهلاً بالموضوع لا يجب إنكاره ولا رفع جهله، كما لو ترك الصلاة غفلة أو نسياناً))(1).

وقال السيد السبزواري (قدس سره): ((لو أفطر في صوم شهر رمضان نسياناً عن الصوم لا يجب على غيره الملتفت إرشاده))(2).

أقول: يأبى ذوق الشارع المقدس ذلك، وقد قرّبنا أنه إن لم يكن منكراً يجب رفعه، فهو من المعروف الذي يجب الأمر به أو الإرشاد إليه، وعدم رفع مثل هذا الجهل قبيح ويلوم عليه المتشرعة كما أن العقلاء يستقبحون هذا الإهمال منه.

نعم يمكن الموافقة على بعض ما قالوا إذا اعتبرنا طهارة ماء الوضوء والغسل شرطاً علمياً لا واقعياً فيكون الوضوء والغسل المشار إليهما صحيحين، كما لو اغتسل وجهل بعدم وصول الماء إلى بعض بدنه كظهره مثلاً. لكن المشهور لا يرضى بذلك ويجزم بأن الشرط واقعي.

وفي الحقيقة فإننا لا نحتاج إلى تضييق دائرة عدم وجوب الإعلام في حالة الجهل بالموضوع لأن أصل توسيعهم محل إشكال كما قرّبنا آنفاً، فتبقى أدلة الإرشاد والنصيحة والإحسان والأمر بالمعروف جارية بلا معارض.

ص: 289


1- تحرير الوسيلة: 1/420، المسألة (4).
2- مهذب الأحكام: 15/194، المسألة (30).

نكتة: وأبعدُ من التفصيل في الجهل الذي ذكرناه في مخالفة المشهور ما حكاه صاحب الحدائق (قدس سره) عن العلامة (قدس سره) من وجوب الإعلام حتى في الأول أي ما يصح معه فعل الجاهل، فقد حكى ما نُسب إلى بعض الفضلاء من وجوب إعلام إمام الجماعة إذا رأى على ثوبه نجاسة لا يعفى عنه وعدم صحة الائتمام به، ثم قال: ((ما ذكره هذا الفاضل المجيب من وجوب الإعلام قد صرّح به العلامة في أجوبة مسائل السيد السعيد مهنا بن سنان المدني محتجّاً على ذلك بكونه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) ورد عليه بأن ((أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تشمله لعدم توجّه الخطاب للجاهل والناسي كما ذكروه فلا منكر بالنسبة إليهما ولا معروف))(1).

أقول: هذا الوجوب تنفيه الروايات التي أشرنا إلى بابها لأنها تنهى صريحاً عن هذا الإعلام، فكان لصاحب الحدائق (قدس سره) أن يجيب بذلك، أما تعليله فغير صحيح لأن الجاهل والناسي مخاطبان بالتكليف الذي يوجَّه لعنوان المكلّف من دون مدخليةلأحواله من النوم والجهل والنسيان؛ لذا فإنه يطالب بقضاء ما فاته حالهما من صلاة وصوم وغيرهما، وغاية الأمر أن كلاً منهم معذور لا يستحق العقوبة.

مدخلية الاختلاف في الاجتهاد والتقليد في هذه الفريضة:
اشارة

تقدم أن من مسقطات وجوب الأمر والنهي الاختلاف في الاجتهاد والتقليد، وأن من شروط ممارسة الأمر والنهي كون ما يأمر به معروفاً، وما ينهى عنه منكراً، فإذا اتحدا في النظر إلى الموارد فلا كلام، ولكن قد يختلف الآمر الناهي مع المأمور المنهي في مورد ثبت عند أحدهما أنه مما يؤمر به ولم يثبت ذلك عند الآخر أو شك به، وكذا في ما يجتنب عنه.

ص: 290


1- الحدائق الناضرة: 5/261.

والاختلاف قد يكون في الاجتهاد وقد يكون في التقليد فالكلام في جهتين:-

الجهة الأولى: في ما لو اختلفا في الاجتهاد

ومقتضى القاعدة فيه عدم وجوب الأمر والنهي لأن الآخر أفتى بما يعتقده حجة بينه وبين ربّه، ويكون ذلك واضحاً في الموارد التي يغتفر فيها عدم الإصابة كالاجتزاء بتسبيحة واحدة في الركعتين الأخيرتين وكفاية بعض السورة بعد الفاتحة ونحو ذلك فإنه لا يجب على أحدهما شيء تجاه الآخر، خصوصاً إذا كان الرأي والاستدلال عليه معروضاً في الكتب الفقهية ولا يحتمل غفلة الآخر عنه.

ولكن قد يكون مورد الخلاف ذا أهمية عند الشارع المقدس، بأن يكون للحكم الذي يعتقده الآمر الناهي غير صحيح أهمية وتتأكد في الدماء كما لو أفتى بعضهم بوجوب العمل المسلح لطرد القوات الأجنبية مع وجود فرصة لطردهم بالوسائل السياسية والدبلوماسية، أو تجنيد الشباب للقتال في بعض البلدان بعنوان الدفاع عن بعض العتبات المقدسة وبين يديه موقف الإمام السجاد من حرق الأمويين للكعبة الشريفة إثر تحصّن ابن الزبير بها، أو أفتى بحرمة المشاركة في الانتخابات مع إمكان أن يكون للتشيع وجود نافع من خلال المشاركة فيها، وهكذا.

فهنا يجب تبيين وجهة النظر للطرف الآخر وإرشاده وإقناعه بما يراه الآمر الناهي صواباً ولا يكفي وجود مقدمات المسألة وأدلتها في الكتب الفقهية والروائية لاحتمال الخلل في الذوق الفقهي والقدرة على الاستنباط وفهم حيثياتها وظروفها وملابساتها.

وبالرغم من أن القاعدة في المقام عدم إلزام المجتهد الآخر بما يراه صواباً والاكتفاء بإقناعه وتصحيح مقدمات الاستدلال على الحكم عندهم، إلا أنه قد

ص: 291

تتخذ إجراءات رادعة بحقه إذا كان لعدم أهليته وقصور نظره يعبث بمصير الأمة وتضر أفعاله بوجودها وهويتها.

وفي ضوء ما تقدم يُعلم النظر في إطلاقات بعض الفقهاء (قدس الله أرواحهم) كالسيد السبزواري، قال (قدس سره): ((لو اعتقد تارك المعروف أو فاعل المنكر جوازهما لشبهة موضوعية لم يجب الأمر والنهي، كما لو كان مجتهدا ًمخطئاً فياجتهاده بزعم الغير)) وعلله بأنه ((من موارد العذر وتقدم اعتبار عدم العذر في وجوبهما))(1).

أقول: تقدم مراراً لزوم التفصيل في العذر، وإن كونه معذوراً لا يلزم منه سقوط معروفية المعروف ومنكرية المنكر.

وهذا التقنين لوجوب الأمر والنهي مع المجتهد الآخر يعطينا وجهاً مبنياً على فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لوجوب تصدي الأعلم والأقدر على إدارة شؤون الأمة وولاية أمورها لوجود علم إجمالي بل تفصيلي بتحمل صاحب هذا الموقع الشريف لمواقف مصيرية، ومن الفقهاء الواعين لهذه المسؤولية الوحيد البهبهاني (قدس سره) فقد حفلت حياته بشاهدين على كلا الاتجاهين من الوعي:

الأول: إنه بعد عودته من بهبهان إلى النجف وحضوره عند الأعلام لم يجد من هو أعلم منه ثم ذهب إلى كربلاء فكان الأبرز يومئذٍ الشيخ يوسف البحراني (قدس سره) صاحب الحدائق، وبعد أن حضر عنده واطلع على بحثه، وقف في الصحن الشريف منادياً بأعلى صوته: ((أيها الناس أنا حجة الله عليكم))، فاجتمع الناس حوله وقالوا: ماذا تريد؟ فقال: أريد أن يعطيني الشيخ يوسف فرصة التدريس من على منبره ويأمر تلامذته أن يحضروا عند منبري لأبيّن حجتي، فأخبر الشيخ يوسف بذلك، فتلقى ذلك الطلب برحابة صدر

ص: 292


1- مهذب الأحكام: 15/201. ط النجف، المسألة (46).

ورجاحة عقل وأجابه إلى مطلبه(1)، فلما حضر طلبة الشيخ عنده أيقنوا بصحة دعواه، فإعلانه لاستحقاقه لم يكن بدوافع شخصية وأنانية وإنما لشعوره بالمسؤولية، وقابله المحقق البحراني بنفس الشعور.

الثاني: عندما امتد العمر به (قدس سره) وتجاوز الثمانين شعر بأن المسؤوليات العلمية والمرجعية والاجتماعية أصبحت أكبر من قدراته الذهنية والعلمية فوزّع مسؤوليات المرجعية على أبرز تلامذته المجتهدين ورجع يدرس السطوح كشرح اللمعة.

ناهز عمره التسعين حين توفي عام 1208 ه- تقريباً ولُقّب بأستاذ الكل لأنه ربّى جيلاً من الأساطين لم يتحقق مثله لغيره(2).

الجهة الثانية: الاختلاف في التقليد

لو قام المكلف بفعلٍ أو ترك آخر وكان ذلك جائزاً في تقليده؛ بينما لم يكن كذلك على تقليد الآمر الناهي كما لو ترك الحضور في صلاة الجمعة

ص: 293


1- نقلتها المصادر عن تنقيح المقال: 2/85.
2- نذكر منهم السيد مهدي بحر العلوم والشيخ جعفر كاشف الغطاء والسيد علي صاحب الرياض والنراقي الأب صاحب جامع السعادات والنراقي الابن صاحب مستند الشيعة والسيد محمد جواد العاملي صاحب مفتاح الكرامة والسيد محسن الأعرجي الكاظمي صاحب المحصول والشيخ أسد الله التستري الكاظمي صاحب المقابيس والشيخ محمد تقي الأصفهاني صاحب الحاشية على المعالم والشيخ محمد إبراهيم الكلباسي صاحب الإشارات في الأصول وحجة الإسلام الشفتي صاحب مطالع الأنوار والميرزا القمي صاحب القوانين والشيخ جمال الدين البهبهاني شارح القوانين والشيخ الرجالي أبي علي الحائري صاحب منتهى المقال والسيد محمد مهدي الشهرستاني ونظراءهم من الأفذاذ قدس الله أرواحهم جميعاً.

لاعتقاد حرمة إقامة الجمعة في زمن الغيبة بينما يعتقد الآمر الناهي بوجوب الحضور وحرمة التخلف فهل يأمره وينهاه أم لا؟.

وما هو المناط في تحقيق موضوع الأمر والنهي هل مطابقة الفعل والترك لتقليد الفاعل أي المأمور المنهي بحسب الفرض أم مطابقة تقليد الآمر الناهي؟.

ونفترض في تحرير محل النزاع قيام الحجة المعتبرة على صحة تقليد الآخر وإلا وجب إرشاده إلى ما يصحح تقليده.

وصريح كلماتهم أن المناط فيه هو مطابقة فعل الفاعل لتقليده، قال السيد السبزواري (قدس سره): ((يعتبر في المسائل الخلافية إحراز اتحاد تكليف الآمر والناهي مع التارك للمعروف والفاعل للمنكر، فلو كان تكليف الفاعل –اجتهادا أو تقليداً- جواز شيء وتكليف المتصدي لهما – اجتهاداً أو تقليداً- حرمته لا يجوز له النهي عن المنكر وكذا لو كان تكليف الفاعل عدم الوجوب وكان تكليفه الوجوب لا يجوز له الأمر بالمعروف))(1).

وذهب السيد الخميني (قدس سره) إلى حرمة الأمر والنهي أيضاً وليس فقط عدم الوجوب، وكفاية الاحتمال في ذلك؛ قال (قدس سره): ((لو كانت المسألة مختلفاً فيها واحتمل أن رأي الفاعل أو التارك أو تقليده مخالف له ويكون ما فعله جائزاً عنده لا يجب، بل لا يجوز إنكاره فضلاً عما لو علم ذلك))(2).

ومنشأ سقوط الوجوب في ما ذكره الأصحاب عدم تحقق موضوع وجوب الأمر والنهي الذي هو المعروف والمنكر، وأرجعه البعض إلى تقييدهم تعريفهما بمعرفة الفاعل أو الدلالة عليهما، وبناءً على تقليده فإن ما فعله كان حسناً وما تركه كان قبيحاً، فلم يترك معروفاً ولم يفعل منكراً أو شك في ذلك بناءً على الاختلاف ومعه لا يتحقق موضوع الوجوب.

ص: 294


1- مهذب الأحكام: 15/192. ط. النجف، المسألة (22).
2- تحرير الوسيلة: 1/420، المسألة (2).

أقول: لا داعي لتصحيح إدخال هذا التقييد في التعريف بالاستعانة بمثل هذه الفروع لوضوح عدم صدق المعروف على ما ترك ولا المنكر على ما فعل ما دام ممتثلاً لفتوى مرجع تقليده فلا يصح أمره ونهيه، حتى وإن كان عمله غير صحيح وفق مباني الآمر الناهي، إلا أن المخالفة شيء وكون ما قام به منكراً يجب نهيه عنه شيء آخر وبينهما فرق.

وتقدّم عدم الموافقة على هذا التقييد بمعرفة الفاعل حسن الفعل بنفسه أو الدلالة عليه، وإنما أرادوا بهذا التقييد إخراج الجاهل لأن الوظيفة حينئذٍ تندرج في تعليم الجاهل وإرشاد الضال لا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن يمكن قبوله بحمل مرادهم من معرفة الفاعل حسن الفعل أو دلالته عليه على ثبوت ذلك الحسن في حقه وإن لم يلتفت إليه باعتباره مقتضى تقليده والتكليف الفعلي في حقه.

نعم للآمر الناهي إرشاده وتوجيهه بما يصحح أصل تقليده.

وقد وسّع السيد الخميني (قدس سره) القول بعدم الوجوب إلى الاحتمال الآخر قال: ((لو كان ما تركه واجباً برأيه أو رأي من قلده أو ما فعله حراماً كذلك، وكان رأي غيره مخالفاً لرأيه فالظاهر عدم وجوب الإنكار، إلا إذا قلنا بحرمة التجري أو الفعل المتجرى به))(1).

وقال البعض في توجيهه: ((فكأن مبناه في المعروفية والمنكرية على الصدق الواقعي وانطباق عنواني الطاعة والمعصية عليهما))(2).

وقرّب البناء بأنه مع وقوع الاختلاف فيهما لا تحرز مطابقة أي منهما للواقع ولا تكون مخالفة أي منهما موجبة لتحقق عنوان المنكر فلا يجب الأمر والنهي فيهما.

ص: 295


1- المصدر السابق، المسألة (5).
2- موسوعة الفقه الإسلامي: 17/190.

أقول: يرد على هذا التوجيه:-

1- أن نتيجته سقوط هذه الفريضة لأن أغلب الأحكام –إلا ما ندر- هي محل خلاف فلا يحرز مطابقة المعروف والمنكر للواقع فيسقط الوجوب.

2- إن الله تعالى لم يتعبدنا بإصابة الواقع لأنه مستحيل بالنسبة لنا في الأحكام الشرعية ولم يشذ عنه صدق المعروف والمنكر، وإنما جعل الله تعالى لنا أمارات وطرق وعبّدنا باتباعها وليس علينا بعد ذلك إصابة الواقع.

3- يلزم منه سقوط الفريضة حتى لو اتفق الآمر الناهي مع الفاعل في التقليد ما دام يوجد مخالف في المسألة لعدم إحراز الصدق الواقعي وهذا لا يقول به أحد.

إن موضوع الوجوب هو المعروف والمنكر وهو غير موافقة ومخالفة الواقع، فعلينا أن نبحث عن موضوع الوجوب هنا، فمن اعتقد أن ما في الكأس خمر وتعمد شربه فإن فعله قبيح ويجب النهي عنه ولا يغير انكشاف كونه ماءً فيما1- بعد، فالمنكر هنا يتحقق بنفس التجري لا بناءً على القول بحرمة التجري كما أفاد (قدس سره) لأن التجري قبيح خصوصاً على ما وسّعنا من مصادر الحكم بالقبح.

ولعل السيد الخميني (قدس سره) لم يبنِ على الصدق الواقعي كما فصّله هذا المصدر، وإنما على صدق تحقق موضوع الوجوب شرعاً، وهو غير ثابت إذا عمل على وفق تقليده وهذا واضح. ولا إذا عمل على وفق تقليد الآمر الناهي لأن هذا لا يراه منكراً من وجهة نظر مرجعه حتى يأمر وينهى.

وهذا أيضاً لا يمكن المساعدة عليه لأمور:-

1- النقض عليه بما اختاره من وجوب الأمر والنهي عند مخالفة الاحتياط الوجوبي، والمورد منه لأن العمل بالقولين المتعارضين في المسألة الواحدة مخالف للاحتياط الوجوبي، للعلم بالوقوع في المخالفة القطعية.

ص: 296

2- سقوط وجوب الفريضة عندما يكون في المسألة قولان عند مراجع التقليد لأن الفاعل التارك سيكون موافقاً لتقليده أو تقليد الآخر فلا يجب أمره ونهيه على كل حال.

3- إن الآمر الناهي ليس له أن يعامل الآخر على طبق تقليده هو وإن كان يراه صحيحاً، لأن تكليف الآخر أن يعمل وفق تقليده الذي يراه حجة عليه، لما قلناه من أن معروفية ومنكرية الفعل متقومة بصفة ذات الفعل بلحاظ ما ثبت من تكليف في حق الفاعل، نعم للآمر الناهي أن يصحح تقليد الآخر أولاً إذا امتلك الأدلة المعتبرة على ذلك ومن ثمَّ يطالبه بالعمل على وفق هذا التقليد الجديد.

لذا لم يجوزوا إجراء العقد المنقطع مع أبناء العامة لأنهم يرون بطلانه، وإذا أراد إجراءه فلا بد أن يقنع الطرف الآخر بالعدول إلى المذهب الحق ثم العمل بهذه المسألة.

ولذا أيضاً صحح الأئمة (عليهم السلام) عبادات أتباع المذاهب الأخرى ولم يطالبوهم بالإعادة والقضاء إذا استبصروا واستثنوا الزكاة لملاك ذكروه، وقد وردت في ذلك روايات معتبرة منها صحيحة الفضلاء الأجلاء زرارة وبكير والفضيل ومحمد بن مسلم وبريد العجلي كلهم عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) (أنهما قالا في الرجل يكون في بعض هذه الأهواء الحرورية والمرجئة والعثمانية والقدرية ثم يتوب ويعرف هذا الأمر ويحسن رأيه، أيعيد كل صلاة صلاها أو صوم أو زكاة أو حج؟ أو ليس عليه إعادة شيء من ذلك؟ قال: ليس عليه إعادة شيء من ذلك غير الزكاة، ولا بد أن يؤديها لأنه وضع الزكاة في غير موضعها وإنما موضعها أهل الولاية)(1).

ص: 297


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب المستحقين للزكاة، باب 3، ح2.

والخلاصة أن المكلف إذا عمل بموجب تقليده فلا يستحق الأمر والنهي؛ لأن المعروفية والمنكرية متقومة بذات الفعل بلحاظ ما ثبت في حق الفاعل من تكليف؛ لذا لم يكن للعلم والجهل مدخلية لأنها من أحوال المكلف فلا تؤثر على وصف الفعل.

وعلى هذا فإذا خالف المكلف مقتضى تقليده ووافق تقليد الآمر الناهي فلهذا أن يرشده إلى تصحيح تقليده أولاً إذا كانت حجته أقوى، وإن كان متعمداً المخالفة كان متجرياً وهو قبيح يجب نهيه عنه، مع ملاحظة ما قلناه في موارد الخلاف بين المجتهدين في الجهة الأولى من البحث.

وعلى أي حال فالمسألة عملية ميدانية تتأثر مواردها بالظروف والملابسات والعناوين الثانوية.

فرع: في ما لو خالف مقتضى الاحتياط الوجوبي، وقد أثاره السيد الخميني (قدس سره) قال: ((لو كان ما ارتكبه مخالفاً للاحتياط اللازم بنظرهما أو نظر مقلدهما فالأحوط إنكاره، بل لا يبعد وجوبه))(1).

ووافقه السيد الشهيد الصدر الثاني(2)

(قدس سره) واستدل عليه السيد السبزواري (قدس سره) ((بإطلاقات الأدلة وعموماتها ولا منشأ للتشكيك إلا احتمال الانصراف عنها وهو بدوي غير معتنى به))(3).

أقول: نحن نوافق على ما قالوه لكن مع ملاحظة ما يلي:-

ص: 298


1- تحرير الوسيلة: 1/421، المسألة (6).
2- منهج الصالحين: 2/243، المسألة (910).
3- مهذب الأحكام: 15/193، ط. النجف، المسألة (25).

1- الظاهر من أدلة الأمر والنهي انصرافها عن الأحكام الاحتياطية أي أن المنكر الوارد فيها منصرف عن ارتكاب أحد أطراف العلم الإجمالي، فالتمسك بها غير تام والإشكال الذي ذكره صحيح، نعم يمكن الاستدلال بقبح التجري على أطراف العلم الإجمالي واقتحام موارد الاحتياط الوجوبي؛ لأن وجوب الأمر والنهي ليس بلحاظ المعروفية والمنكرية الثابتة لهما واقعاً، بل بلحاظ مخالفة الحكم الظاهري الثابت في حق الفاعل.

وهذا من ثمرات الفرق بين الاستدلال على الوجوب بخصوص الدليل الشرعي وبين من أضاف إليه الاستدلال بالعقل والسيرة العقلائية، وإلا وجب عدم القول بوجوب الأمر والنهي باقتحام الطرف الأول لعدم تحقق موضوع الأمر والنهي.

2- من المعلوم أن الأحكام الاحتياطية على نحوين: فتوى بالاحتياط واحتياط بالفتوى، وهم لم يفصلوا بينهما لأن كلامهم هنا ظاهر في الأول حين يكون الدليل الجاري في المورد أصالة الاحتياط، ولا يظهر منهم النظر إلى الثاني حينما يمتلك الفقيه الدليل على الترخيص لكنه يتردد لأمر أو آخر فيحتاط، وهنا قد يقال بعدم تحقق موضوع الأمر والنهي حتى يجبا.

والنتيجة أن مخالفة الاحتياط الوجوبي توجب الأمر والنهي إلا أن ذلك خاص بمورد الفتاوى بالاحتياط لا الاحتياط بالفتوى.

وفرّع السيد الخميني (قدس سره) على هذا الحكم المسألة التالية، قال (قدس سره): ((لو ارتكب طرفي العلم الإجمالي للحرام أو أحد الأطراف يجب في الأول –أي ارتكاب الطرفين- نهيه، ولا يبعد ذلك في الثاني –أي ارتكاب أحد الأطراف- أيضاً، إلا مع احتمال عدم منجزية العلم الإجمالي عنده مطلقاً، فلا يجب مطلقاً بل لا يجوز، أو –أي عدم منجزيته- بالنسبة إلى

ص: 299

الموافقة القطعية فلا يجب بل لا يجوز في الثاني، وكذا الحال في ترك أطراف العلم المعلوم بالإجمال وجوبه))(1).

أقول: لا يؤثر المبنى الأصولي من وجوب الموافقة القطعية أو حرمة المخالفة القطعية في وجوب الأمر والنهي في ارتكاب الطرف الثاني أيضاً لأن المفروض عدم امتثاله للأمر والنهي الأولين فيبقى مقتضي الوجوب وهو قبح الإقدام ناجزاً.

(الأمر الثالث) الإصرار على المعصية أو قصدها

اشارة

ذكر الفقهاء (قدس الله أرواحهم) أن من جملة شروط وجوب النهي عن المنكر أن يكون الفاعل مصراً على ارتكاب المنكر أو ترك المعروف، قال المحقق الحلي (قدس سره): ((الثالث – من شروط النهي عن المنكر- أن يكون الفاعل له مصراً على الاستمرار، فلو لاح منه أمارة الامتناع سقط الإنكار)) وعلق صاحب الجواهر (قدس سره) بقوله: ((بلا خلاف مع فرض استفادة القطع من الأمارة، بل ولا إشكال ضرورة عدم موضوع لهما، بل هما محرمان حينئذٍ كما صرّح به غير واحد))(2)

وحكى السيد السبزواري (قدس سره) الإجماع عليه(3) ولعله فسّر به كلام الجواهر الآنف أوتوهّمه من كلام المحقق الأردبيلي(4)(قدس سره). أما ذهابه إلى الحرمة فلا وجه له إلا حصول عناوين ثانوية محرمة كتحقير المؤمن وتوهينه.

ص: 300


1- تحرير الوسيلة: 1/421، المسألة (7).
2- جواهر الكلام: 21/370.
3- مهذب الأحكام: 15/147، ط. النجف.
4- مجمع الفائدة والبرهان: 7/538.

قال الشهيد الأول (قدس سره): ((ولو لاح من المتلبس أمارة الندم حرم قطعاً))(1).

وعلق عليه المحقق السبزواري (قدس سره) بقوله: ((وهو حسن إن أفادت الأمارة غلبة الظن))(2).

المراد من الإصرار:

ويقع مرادهم من شرط الإصرار على عدة معانٍ:-

1- الاستمرار والمداومة على الفعل كمن غصب داراً ولا زال مقيماً على غصبها.

2- العزم على تكرار الفعل بعد ارتكابه وإن لم يكن مقيماً عليه كمن شرب خمراً أو سرق ولا يجد مانعاً من تكراره.

3- وجود الاستعداد والقصد لفعل المنكر وترك المعروف متى سنحت الفرصة وإن لم يقم به فعلاً، ومورد كلامهم فعلاً المعنيان الأوّلان وسنلحق به الثالث إن شاء الله تعالى.

وبناءً على هذا الشرط فإنه إذا ترك واجباً أو فعل منكراً وعُلِم –بالمراتب التي سنتعرض لها إن شاء الله- عزمه على عدم التكرار والعود إلى الفعل سقط وجوب أمره ونهيه.

وهذا الشرط –لو تم- لا يختص بالنهي عن المنكر خلافاً لما صرّح به المحقق الحلي وابن إدريس بل يجري في الأمر بالمعروف لعدم الفرق بينهما، ولعلهما أرادا ذلك؛ لما قلناه في البحوث التمهيدية بأنهما واحد إذا ذكر أحدهما، وقد صرّح جمعٌ بجريان الشرط فيهما كالعلامة في القواعد والمحقق الثاني في جامع المقاصد.

ص: 301


1- الدروس: 2/47.
2- عن كفاية الأحكام: 1/405.
الاستدلال عليه:

إن كون الإصرار على فعل المنكر وترك المعروف موجباً للأمر والنهي متيقن ولا يحتاج إلى اشتراط والاستدلال عليه من تحصيل الحاصل، بل إن الإصرار هو بالدقة قبيح آخر يوجب الردع عنه، فهم أرادوا بالشرط مفهومه وهو عدم الوجوب عند عدم الإصرار، لذلك تراهم عند ذكرهم الشرط يشرحون مفهومه كما في كلمة المحقق الحلي (قدس سره) المتقدمة وتعليق صاحب الجواهر (قدس سره) فإنه ناظر إلى المفهوم لا أصل الشرط، وتجدهم يذكرون الشرط ويستدلون على مفهومه كما في التقريب الآتيفلا بد من ملاحظة ذلك في كلماتهم؛ كاستدلال صاحب الجواهر (قدس سره) المتقدم فإنه بلحاظ مفهوم الشرط لا الشرط نفسه.

وعلى أي حال فلا إشكال في وجوب الأمر والنهي مع الإصرار، لكن جعْله شرطاً للوجوب على نحو ينتفي عند عدمه أو الشك فيه كما هو مقتضى الاشتراط مما لا يوجد نص شرعي يستند إليه هذا الشرط وإنما نشأ من وجوه عقلية أو اعتبارية بتقريبٍ ورد في كلماتهم –كقول صاحب الجواهر (قدس سره): ضرورة عدم موضوع لهما- بيانه: أن الغرض من تشريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إقامة الأول وإزالة الثاني ومع عدم الإصرار يتحقق الغرض من الفريضة ولا يبقى موضوع للوجوب لأنه من تحصيل الحاصل، أو قل يصبح تشريع الوجوب لغواً يمنعه العقل على الحكيم.

وهذا تقريب لسقوط الوجوب عند عدم الإصرار وليس لاشتراط الإصرار في الوجوب فالدليل لا ينطبق على المدعى، لكننا وجدنا عند بعض آخر ما يصلح أن يكون دليلاً على الشرط نفسه أي لكون الإصرار شرطاً للوجوب حاصله ((أن الغرض من إيجاب الأمر والنهي عدم وقوع المنكر وارتفاع المعروف

ص: 302

في المستقبل، ومع الإصرار يقعان، أو أن نفس العزم والإصرار معصية واجبة الترك فيؤمر له))(1).

ويرد على الاشتراط والاستدلال عليه أمور:-

1- إن هذا الاشتراط مخالف لظواهر الأدلة الشرعية لأن مقتضى إطلاقات الأمر والنهي كون وجوبهما فعلياً عند تحقق ترك المعروف وفعل المنكر، ولا حاجة لاشتراط الإصرار على ذلك مرة أخرى ليثبت الوجوب، فالخروج من إطلاقات الكتاب والسنة –أي جعل الإصرار على الذنب وليس الذنب نفسه موجباً للأمر والنهي- بهذه الاعتبارات غير صحيح.

2- إن جعل عدم الإصرار مسقطاً للوجوب أمرٌ لا يمكن التعويل عليه مع وجود النفس الأمارة بالسوء والميّالة إلى اتباع الشهوات إلا أن يتداركها الله تعالى بلطفه.

3- لازم كون الإصرار شرطاً عدم تحقق الوجوب إلا بإحرازه أي أن الوجوب لا يتحقق عند الشك في الإصرار وعدمه، وهو خلاف مقتضى التحقيق من ثبوت الوجوب عند الشك كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى.

4- إذا أمكن تصور تحقق الغرض من الفريضة بعدم الإصرار لدفع المنكر، فكيف يمكن تصور إقامة المعروف بعدم الإصرار وهو غير كافٍ ما لم تلحقه خطوة إيجابية أخرى.

وبتعبير آخر: إن عدم الإصرار غير كافٍ لوحده لتحقيق الغرض من الفريضة فلا يسقط الوجوب.

5- إن الإصرار الذي اعتبروه شرطاً للوجوب أمر باطني –عدا الاستمرار على الفعل الذي هو نفس المنكر- فكيف يمكن إحرازه؟ والمشروط عدم

ص: 303


1- موسوعة الفقه الإسلامي: 17/192 عن الذخيرة: 555 والكافي في الفقه: 265.

عند عدم شرطه، وإذا قالوا بأنه يعرف من ضده وهي أمارة الامتناع والتوبة، قلنا إذن الصحيح جعل الامتناع مسقطاً للوجوب وليس الإصرار شرطاً له، وسيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى.

6- إن ملاك الاشتراط هو لدفع محذور اللغوية ونحوه مما ذكرناه في تقريب الاستدلال عليه وهو لا يقتضي هذا الاشتراط لكفاية صدور موجب الأمر والنهي –وهي المعصية الأولى- لتحقيق وجوبهما.

7- ما احتملناه في بعض أبحاثنا السابقة من أن نفس إنشاء الأمر والنهي يتعلق به الوجوب بملاك خلق حالة الرفض في الأمة لترك المعروف وفعل المنكر بغضّ النظر عن حصول متعلقهما خارجاً، فما استدلوا به من تحصيل الحاصل ولزوم اللغوية لا موضوع له.

8- إن الأغراض من إيجاب الفريضة كثيرة كما عدّدناها في بعض المباحث السابقة ولا يقتصر على الغرض المذكور وبعضها –كإظهار الغضب لله تعالى ودفع الناس بعضهم ببعض(1)

أو أأمر بالمعروف تكن من أهله ونحو ذلك- لا يتأثر بالإصرار وعدمه، فلا يصح ملاحظة الغرض الذي ذكروه وحده.

9- النقض عليهم بوجوب دفع المنكر مضافاً إلى رفعه أي أنه يجب المنع من المنكر قبل وقوعه إذا وجدت المقدمات المنتجة له، فوجوب رفعه بعد وقوعه أأكد.

فهذا المعنى للشرط الذي ذكره المشهور –أعني انتفاء الوجوب عند انتفاء شرط الإصرار- لا وجه له ولا دليل عليه، بل الدليل على خلافه، أعني عدم سقوط وجوب الأمر والنهي الثابت بترك المعروف وفعل المنكر إلا بالعلم بالارتداع والعزم على الترك؛ لجملة أمور:-

ص: 304


1- قال تعالى: «وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ» (البقرة:251).

1- إطلاقات أدلة وجوب الأمر والنهي عند فعل المنكر وترك المعروف من دون تقييدها بالإصرار ونحوه.

2- استصحاب الوجوب الثابت بترك المعروف وفعل المنكر.

وقد نوقش هذان الوجهان بما سنذكره لاحقاً ونرد عليه إن شاء الله تعالى.

3- فحوى النقض الذي ذكرناه أعلاه، فإن دفع المنكر قبل حصوله بمنع مقدماته إذا كان واجباً فرفعه بعد وقوعه أأكد في الوجوب بغضّ النظر عن الإصرار وعدمه.

4- ((للحكم بفسقه ما لم تُعلم توبته، فيجري عليه حينئذٍ جميع الأحكام التي منها أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ما لم تتحقق التوبة ولو بالطريق الذي يتحقق بها مثلها من إظهار الندم ونحوه))(1).والى هذا ذهب سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) قال: ((المشهور فقهياً اشتراط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بكون الفاعل مصراً على ترك المعروف أو ارتكاب المنكر إلا أن ذلك بمجرده ليس بصحيح بل يجب الأمر والنهي بمجرد مشاهدة الإقدام على الفعل أو الترك من قبل الفاعل مع اجتماع الشرائط الأخرى. نعم يرتفع هذا الوجوب مع إحراز الندامة والترك، يعني أن يعلم الآمر بندامة الفاعل ونحوها من الأسباب الموجبة لتركه العصيان، ولا يكفي احتمال الندامة أو الإقلاع على الأحوط))(2).

ص: 305


1- جواهر الكلام: 21/370.
2- منهج الصالحين: 2/237، المسألة (879)، الأمر الرابع.
حقيقة الشرط وما يثبته:

مما تقدم تظهر الحاجة إلى إعادة صياغة عنوان هذا الشرط، لوجود خلاف في فهم حقيقة هذا الشرط وماهيته بغضّ النظر عن تعابيرهم، فمنهم من جعل الإصرار واستمرار العزم على فعل المنكر وترك المعروف شرطاً للوجوب كابن إدريس الذي قال: ((وثانيها: أن يكون هناك أمارة الاستمرار عليه)).

ومنهم من اعتبر الإقلاع عنه مسقطاً للوجوب، قال المحقق الحلي (قدس سره): ((فلو لاح منه أمارة الامتناع أو أقلع عنه سقط الإنكار)) وقال العلامة (قدس سره) في القواعد: ((ج- إصرار المأمور والمنهي على ما يستحق بسببه أحدهما فلو ظهر الإقلاع سقط)).

ويظهر الفرق عند الشك، فإذا كان الإصرار شرط الوجوب فمع الشك فيه لا وجوب لعدم إحراز الشرط، أما إذا كان عدم الإصرار والإقلاع والتوبة مسقطين فيجب الأمر والنهي عند الشك في الإصرار.

وقد ذكرنا في الفقرة السابقة أن اعتبار الإصرار شرطاً للوجوب مما لا وجه له فالصحيح اعتبار التوبة مسقطاً، ووجهه أنه بالتوبة تحقق الامتثال وانتفى موضوع الأمر والنهي فسقط الوجوب، غاية الأمر أن الامتثال تحقق من نفس تارك المعروف وفاعل المنكر على نفسه ولا بأس به لأنه من المكلفين المخاطبين بوجوب الأمر والنهي، فلو تأمل المشهور لوجد أن المسقط للوجوب هو هذا الامتثال وليس عدم الإصرار ونحوه من العناوين المخترعة. وهذا هو منشأ الشرط في ارتكازهم.وممن ذهب إلى الوجوب عند الشك الشهيد الثاني (قدس سره) قال في المسالك: ((ويلحق بعلم الإصرار اشتباه الحال، فيجب الإنكار وإن لم يتحقق الشرط الذي هو الإصرار، ومثله القول في الأمر بالمعروف))(1).

ص: 306


1- مسالك الأفهام: 3/103.

قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((ومن ذلك ينقدح الإشكال في ما عن السرائر والإشارة والجامع من كون شرط وجوبهما ظهور أمارة الاستمرار، بل وفي ما عن جماعة من كون الشرط الإصرار، ولعل الأولى جعل الشرط عدم ظهور أمارة الإقلاع، بل لا بد من تقييد الأمارة بما يكتفى بمثلها في تحقق التوبة، بل لعل هذا هو المراد مما في الدروس من القطع بالسقوط لو لاح منه أمارة الندم، ولذا قال في الكفاية بعد حكايته عنه: وهو حسن إن أفادت الأمارة غلبة الظن، وحينئذٍ فلو شك في امتناعه وعدمه اتجه الوجوب))(1).

والسؤال هنا: هل يكفي مجرد الامتناع أولا بد من التوبة؟

قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((استظهر بعض الناس من أكثر الأصحاب السقوط بالأول، ثم قال: نعم إن ظهر استمراره على ترك التوبة كان اللازم أمره بها، ولكن هذا غير الأمر بالمعروف الذي وجب عليه التوبة بتركه، وفي الكفاية قالوا: لو ظهر الإقلاع سقط، ولا ريب فيه إن كان المراد بالإقلاع الندم، ولو كان مجرد الترك ففيه تردد، قلت: لا ريب في أولوية مراعاة التوبة كما أشرنا إليه سابقاً، والله العالم))(2)

وهو محتمل الدروس والكفاية(3).

ووافقه السيدان الحكيم والخوئي (قدس الله سريهما) قالا: ((إذا صدرت المعصية من شخص من باب الاتفاق، وعُلِم أنه غير مصرّ عليها لكنه لم يتب منها وجب أمره بالتوبة، فإنها من الواجب، وتركها كبيرة موبقة، هذا مع التفات الفاعل إليها، أما مع الغفلة ففي وجوب أمره بها إشكال، والأحوط استحباباً ذلك))(4).

ص: 307


1- جواهر الكلام: 21/370.
2- جواهر الكلام: 21/371.
3- موسوعة الفقه الإسلامي: 17/196 عن الدروس: 2/47 وكفاية الأحكام: 1/405.
4- منهاج الصالحين للحكيم: 1/309، المسألة (9)، وللخوئي: 1/303، المسألة (1275).

أقول: ما اختاره صاحب الجواهر والآخرون هو الصحيح لوجود واجبين تجاه فاعل المنكر هما: نهيه عن المنكر الذي فعله حتى يرتدع عنه، وأمره بالمعروف وهي التوبة حتى يقوم بها، ولئن سقط الأول بالامتناع والإقلاع فيبقى الثاني لا سيما إذا كان الامتناع والإقلاع لا يكشف عن التوبة كما لو كان خوفاً أو حياءً من الآخرين أو عجزاً، ولذا قلنا بأن شرط الإصرار للوجوب لا معنى له، وإنما التوبة هي المسقط للوجوب.وقد حكى البعض(1)

عن السيد الخميني (قدس سره) المخالفة في ذلك إذ لم يشترط التوبة لسقوط الوجوب ونقل قوله: ((لا يشترط في عدم وجوب الإنكار إظهار ندامته وتوبته، بل مع العلم ونحوه على عدم الاستمرار لم يجب وإن علم عدم ندامته من فعله))(2).

أقول: يمكن الدفاع عنه (قدس سره) بأن نفيه للوجوب بلحاظ وجوب النهي عن المنكر لا مطلقاً، لأنه (قدس سره) قال في مسألة أخرى: ((من الواجبات التوبة من الذنب، فلو ارتكب حراماً أو ترك واجباً تجب التوبة فوراً، ومع عدم ظهورها منه وجب أمره بها، وكذا لو شك في توبته، وهذا غير الأمر والنهي بالنسبة إلى سائر المعاصي فلو شك في كونه مصراً أو علم بعدمه لا يجب الإنكار بالنسبة إلى تلك المعصية، لكن يجب بالنسبة إلى ترك التوبة))(3).

أقول: ذيل كلامه (قدس سره) صريح بأن نفيه نسبي بلحاظ الواجب الأول، بل قال في ذيل نفس المسألة المنقولة: ((وقد مرّ أن وجوب الأمر بالتوبة غير وجوب النهي بالنسبة إلى المعصية المرتكبة)).

ص: 308


1- موسوعة الفقه الإسلامي: 17/196.
2- تحرير الوسيلة: 1/424، المسألة (7).
3- تحرير الوسيلة:1/424، المسألة (5).
حكم مراتب ما يثبت به الإصرار وعدمه:

تحصّل مما تقدم أن ما يثبت به الإصرار وعدمه له مراتب عديدة، وتختلف أحكامها تبعاً لذلك:-

1- لو حصل العلم بالإصرار على فعل المنكر وترك المعروف وجب الأمر والنهي قطعاً.

2- ولو حصل العلم بالإقلاع والندم والعزم على عدم العود سقط الوجوب قطعاً بل يحرم إذا لزم تحقير المؤمن وتوهينه والسخرية منه.

لو قامت أمارة على الإقلاع والامتناع أو الندم وقد اختلفوا هنا فمنهم من اكتفى بمطلق الأمارة لسقوط الوجوب كما في كلام المحقق الحلي (قدس سره) المتقدم (صفحة 300)، وقال الشهيد الأول (قدس سره) في الدروس: ((ولو لاح من المتلبس أمارة الندم حرم قطعاً)).

ومنهم من خصّها كالمحقق السبزواري (قدس سره) في الكفاية، فقد علّق1- على كلام الشهيد (قدس سره) بقوله: ((وهو حسن إن أفادت الأمارة غلبة الظن)).

ومنهم من اشتراط أن تكون مفيدة للاطمئنان، قال السيد الخميني (قدس سره): ((لو ظهرت منه أمارة الترك فحصل منه القطع فلا إشكال في سقوط الوجوب، وفي حكمه الاطمئنان، وكذا لو قامت البينة عليه إن كان مستنده المحسوس أو قريباً منه))(1).

لكن بعضاً آخر لم يكتف بالأمارة لإسقاط الوجوب الثابت كالشهيد الثاني قال (قدس سره): ((وإنما الكلام في سقوطه بمجرد ظهور أمارة الامتناع فإن الأمارة ضعيفة يشكل معها سقوط الواجب المعلوم))(2).

ص: 309


1- تحرير الوسيلة: 1/424، المسألة (1).
2- مسالك الأفهام: 3/102.

أقول: تقدم البيان مفصلاً في عدم كفاية الامتناع ما لم يقترن بالندم المستلزم لعقد العزم على عدم العود، ويكفي في إثبات ذلك الأمارة المفيدة للاطمئنان، وربما كان هذا مراد المحقق والشهيد (قدس الله أسرارهم) من إطلاق العبارة.

لكن المحقق الأردبيلي اكتفى بمطلق الأمارة ولو كانت ضعيفة في إسقاط الوجوب لأنه (قدس سره) بنى على اشتراط الوجوب بالعلم بالإصرار فيكفي وجود أمارة ولو ضعيفة على الترك لسقوط الوجوب لعدم تحقق شرطه وهو العلم بالإصرار، قال (قدس سره): ((قول المنتهى والدروس: ولو ظهر أمارة الندم سقط الوجوب، مشعر بعدم السقوط ما لم تظهر الندامة، وصريح في السقوط بمجرد ظهور الأمارة.

وذلك غير بعيد؛ للأصل، وعدم ظهور الوجوب إلا مع الإصرار المعلوم، فلا يضر كون الأمارة علامة ضعيفة فيشكل السقوط بها، كما قال في شرح الشرائع))(1)، يعني به كلام الشهيد الثاني (قدس سره) المتقدم.

أقول: ناقشنا في اشتراط العلم بالإصرار، أما التمسك بالأصل فلا مسوّغ له مع وجود الدليل الشرعي، وسنعرضه ونناقشه إن شاء الله تعالى، وإذا أردنا إجراء المصالحة فنحمل كلام المحقق الأردبيلي على الضعف الذاتي للأمارة في إفادة العلم فلا ينافي اشتراط كونها مفيدة للاطمئنان وغلبة الظن.

4- لو احتمال لعدم الإصرار، فهل يسقط به وجوب الأمر والنهي؟ اكتفى به البعض، قال السيدان الحكيم والخوئي (قدس الله سريهما): ((إذا كانت أمارة على الإقلاع وترك الإصرار لم يجب شيء بل لا يبعد عدم الوجوب بمجرد احتمال ذلك، فمن ترك واجباً أو فعل حراماً ولم يُعلم أنه

ص: 310


1- مجمع الفائدة: 7/538.

مصرّ على ترك الواجب أو فعل الحرام ثانياً، أو أنه منصرف عن ذلك، أو نادم عليه، لم يجب عليه شيء))(1).

أقول: هذا واحد من الأمور التي أدّت إلى تعطيل هذه الفرضة العظيمة إذ –على هذا القول- لا يجب نهي من فعل المنكر إذا احتملنا أنه ليس مصرّاً عليه وبما أن هذا الاحتمال ممكن في حق كل العاصين فلا يبقى مورد لوجوب الفريضة.

ووافقهما السيد الخميني قال (قدس سره): ((لو ظهرت منه أمارة ظنية على الترك فهل يجب الأمر أو النهي أو لا؟ لا يبعد عدمه، وكذا لو شك في استمراره وتركه))(2)

واستثنى من ذلك ما لو كانت الحالة السابقة الإصرار قال (قدس سره): ((نعم لو علم أنه كان قاصداً للاستمرار والارتكاب وشك في بقاء قصده يحتمل وجوبه على إشكال)).

أقول: لا دليل على سقوط الوجوب عند احتمال عدم الإصرار، وإن دليلهم على أصل هذا الشرط –وهو تحقق الغرض وانتفاء موضوع الوجوب- لا يشمل المورد كما هو واضح.

وقيل في وجه سقوط وجوب الأمر والنهي عند الشك في الإصرار وعدمه: ((إنه مع الإقدام على الطاعات والاجتناب عن المعاصي، كان نهيه عن المنكر توهيناً في حقه، والأصل في مثله الحرمة، لاحترام عرض المسلمين كدمه وماله إلا ما خرج، وهو ليس إلا من كان بصدد ترك الطاعات.

ص: 311


1- منهاج الصالحين للسيد الحكيم: 1/306، مسألة (4)، منهاج الصالحين للسيد الخوئي: 1/351، مسألة (1271).
2- تحرير الوسيلة: 1/424، مسألة (2).

وأما مع الشك في كون الفاعل مصراً فأصالة عدم كونه من العاصين تقتضي عدم جواز مثل هذا الهتك المحتمل في حقه، فما لم يحرز في حقه كونه من العصاة لا يكاد يجوز نهيه وهتكه، ولازمه إناطة جواز الإنكار عليه بالأمارة على كونه عاصياً)) (1).

أقول: آلت بنا الأمور إلى اشتراط الوجوب بأمارة على الإصرار، وليس اشتراط سقوط الوجوب بأمارة على الندم والتوبة.ويرد عليه: أن الأصل السابق انقطع بفعل المعصية الموجب للأمر والنهي بمقتضى إطلاقات أدلة وجوب الأمر والنهي بفعل المنكر وترك المعروف وبهما يثبت عنوان العاصي ولا يحتاج إلى موجب جديد، وليس في أمره ونهيه هتك بعد أمر الشارع المقدس وبعد أن هتك الفاعل ستره بنفسه.

ولعل هذا الجواب مبني على كون الغرض من الأمر والنهي منع موجبهما مستقبلاً ومع عدم وجود أمارة على الاستمرار لا يتحقق ملاك الوجوب، وقد رددنا عليه سابقاً بأن وقوع الموجب سابقاً كافٍ لإيجابهما.

ومال المحقق العراقي (قدس سره) إلى التفصيل معتبراً إياه وجهاً لإيقاع التصالح بين الفريقين، بحمل كلام من اشترط لسقوط الوجوب حصول أمارة قطعية على الندم أو كونها مفيدة للاطمئنان يتكل عليها العقلاء على من سبق منه الإصرار، قال (قدس سره): ((نعم ما أفيد –من كون الأمارة قطعية أو مما يتكل عليها العقلاء في استظهار الحال-: صحيح بالنسبة إلى من كان مسبوقاً بالإصرار على الارتكاب، ولا يبعد حمل كلماتهم أيضاً على ذلك، إذ مقتضى الأصول وجوب الأمر بالمعروف في حقه إلى أن يثبت خلافه، وفي مثله لا يكفي

ص: 312


1- حكاه المحقق العراقي (قدس سره) في شرح التبصرة: 4/452.

مجرد الظن بالخلاف، ما لم يكن حجة شرعية، من كونه مستنداً إلى ظهور أو بيّنة عادلة، وإلا فلا يغني الظن عن الحق شيئاً))(1).

أقول: يرد عليه ظهور أدلة الأمر والنهي في الإطلاق.

وفي ضوء هذا يُعلم النظر في مناقشة البعض في التمسك بالإطلاقات ((لأنه بعد تقييد الإطلاق بما لو أصرَّ يكون التمسك به من قبيل التمسك بالعام والمطلق في الشبهة المصداقية، وهو لا يجوز))(2).

والمناقشة في الاستصحاب لعدم تمامية أركانه ((فإن الاستصحاب يتقوّم ببقاء الموضوع)) وتوصلوا إلى أن ((وصفوة القول: أنه مع الشك لا مجال لهما –أي الإطلاقات والاستصحاب- بل مقتضى القاعدة عدم الوجوب للبراءة الجارية في الشبهات الموضوعية))(3).وتقريب عدم التمامية أن موضوع الوجوب هو العزم والقصد إلى المعصية، والمتيقن منه ارتفع بالمعصية الأولى واللاحق مشكوك لفرض الشك في الإصرار وعدمه، فيكون استصحاباً للكلي من القسم الثالث وهو غير تام فلا يجري.

ويرد على الأول بعدم وجود دليل على التقييد، ويرد على الثاني أن موضوع الوجوب هو وقوع المعصية وقد ثبت فسقوط الوجوب يحتاج إلى دليل.

وخلاصة البحث: أن وجوب الأمر والنهي يثبت بمجرد فعل المنكر وترك المعروف ولا يشترط فيه الإصرار، ولا يسقط الوجوب إلا بظهور الندم والتوبة حيث يتحقق الامتثال وينتفي الموضوع، أما بدونها وإن حصل الترك والإقلاع والامتناع فإن وجوب النهي ووجوب المطالبة بالتوبة والاستغفار ثابتان

ص: 313


1- شرح تبصرة المتعلمين للمحقق العراقي: 4/452.
2- فقه الصادق: 19/388.
3- مباني منهاج الصالحين: 7/149.

ويشهد له تفسير أمير المؤمنين (عليه السلام) لمعنى الاستغفار المزيل للذنب والمسقط لوجوب الأمر والنهي بأنه: (اسم واقع على ستة معان: أولها الندم على ما مضى، والثاني العزم على ترك العود إليه أبداً)(1).

خاطرة: أريد هنا أن أقترب من الرأي الذي اكتفى باحتمال عدم الإصرار لسقوط وجوب الأمر والنهي ورأي المحقق الأردبيلي (قدس سره) الذي اكتفى بالأمارة الضعيفة، خصوصاً بالنسبة للمعاصي الفردية فيحسُن بالمربين من أولياء الأمور أن يكتفوا بذلك فإنه أسلوب ناجح لحفظ كرامة المقابل وأدعى لإصلاحه أما نهيه بمجرد وقوعه في المعصية غفلةً أو ضعفاً ونحو ذلك، فإن فيه جرحاً لمشاعره وقد يؤدي به إلى التمرد من باب قول الشاعر: (دع عنك لومي فإن اللوم إغراءُ).

إن قلتَ: تقدم أن هذا القول ينافي إطلاقات أدلة الوجوب ونتيجة الاستصحاب.

قلتُ: يمكن الخروج من هذا الإشكال بدعوى عدم شمول الإطلاق لهذا المورد، ويمكن أن يكون الدليل على التقييد مقيّد لبّي هو الارتكاز المتشرعي بأن الله تعالى خير الساترين وأنه تعالى حليم وعفوّ غفور ويحبّ هذه الخصال في عباده ولازمها عدم المبادرة إلى الأمر والنهي إلى من لا يعلم إصراره على المعصية.

أما الاستصحاب فنقول بعدم جريانه لأن الشك في سعة عموم الوجوب لحالة احتمال وظن عدم الإصرار يعني قصور المقتضي للوجوب عن الاستمرار إلى الزمان اللاحق ونحن لا نقول بجريان الاستصحاب عند الشك في المقتضي.

ص: 314


1- نهج البلاغة: قسم قصار الكلمات، رقم (417).

تتميم: ما تقدم من البحث بلحاظ من فعل المنكر وترك المعروف وهو قاصد للاستمرار وعدمه، والكلام الآن في حكم من لم يصدر منه ذلك إلا أنه عُلم عزمه على فعل المنكر –وهو غير الخطور القلبي- فهل يجب أمره ونهيه؟.قال السيد الخوئي (قدس سره): ((أما من يريد ترك المعروف أو ارتكاب المنكر فيجب أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وإن لم يكن قاصداً إلا المخالفة مرة واحدة))(1).

وقال السيد الخميني (قدس سره): ((لو ظهر من حاله علماً أو اطمئناناً أو بطريق معتبر أنه أراد ارتكاب معصية لم يرتكبها إلى الآن فالظاهر وجوب نهيه))(2).

أقول: هذا شاهدٌ على أن ملاك الأمر والنهي أوسع في الجملة من ملاك الطاعة والمعصية فقد دلّت الروايات الشريفة على أن من نوى فعل معصية لكنه لم يرتكبها لم تكتب عليه سيئة، فوجوب النهي هنا موضوعه غير محرَّم.

ونظير ذلك في النقض عليهم ما لو ترك المهم لمزاحمته الأهم ولم يكن بمقدوره الجمع بين التكليفين، وكان هذا التزاحم بسوء اختياره، فإن وظيفته عقلاً صرف قدرته في امتثال الأهم لحكمه بوجوب ارتكاب أخف الضررين، إلا أنه مع ذلك لا يكون معذوراً ويستحق الأمر والنهي.

لكن المحقق الأردبيلي (قدس سره) استوجه عدم الوجوب، قال (قدس سره): ((ولولا توهم الإجماع، لكان القول بعدم الوجوب مع عدم الفعل مطلقاً متوجهاً، إذ ليس هنا إلا العزم على فعل حرامٍ، وحرمة ذلك غير ظاهر، إذ قد نوقش تحريمه فكيف في وجوب النهي عن ذلك))(3).

ص: 315


1- منهاج الصالحين: 1/351، شروط الوجوب، الشرط الثالث.
2- تحرير الوسيلة: 1/424، المسألة (6).
3- مجمع الفائدة: 7/538.

أقول: يرد عليه:-

1- إن من المقطوع به تعلق غرض الشارع المقدس بمنع المنكر قبل وقوعه وعدم الانتظار حتى يقع ليرفع، فالدفع أولى من الرفع، وقد قال العقلاء: ((الوقاية خير من العلاج))، فإذا عُلم من المقدمات والقرائن بحصول المنكر فلا بد من العمل على منع حصوله بمنع مقدماته المفضية ابتداءً كمنعه استدامة واستمراراً، كما تجب بعض مقدمات فعل المعروف والهداية إليه كتأسيس الحوزات العلمية لأجل التبليغ والإرشاد.

2- إن ملاك الأمر والنهي القبح والحسن وهو قد لا ينطبق على عنوان الطاعة والمعصية ولا شك أن العزم على فعل المنكر وترك المعروف قبيح يجب الردع عنه وإن لم يكن فعلاً محرماً في نفسه، كالذي قلناه في قبح التجري ووجوب النهي عنه وإن لم نقل بحرمته، فلو قلنا بعدم حرمة العزم على المعصية قبل فعلها لكن النهي عن ذلك واجب لعدم الملازمة بينهما.وهذا مورد يصلح للنقض على ما أسسوه من عدم زيادة الفرع على الأصل، فالأصل هنا –وهو العزم- ليس محرماً، إلا أن النهي عنه واجب.

فروع:

أورد السيد الخميني (قدس سره) عدة مسائل(1)

تفريعاً على هذا الشرط نذكر منها:-

ص: 316


1- تحرير الوسيلة: 1/425، المسائل (8-12).

1- ((لو علم عجزه أو قام الطريق المعتبر على عجزه عن الإصرار واقعاً وعلم أن من نيته الإصرار لجهله بعجزه لا يجب النهي بالنسبة إلى الفعل غير المقدور، وإن وجب بالنسبة إلى ترك التوبة والعزم على المعصية لو قلنا بحرمته)).

أقول: وجه عدم الوجوب تحقق الغرض وهو زوال المعصية خارجاً بعجزه عن تكرارها.

وبقاء الوجوب ولو بالنسبة للتوبة شاهد على عدم اشتراط الإصرار في وجوب الأمر والنهي في الجملة لعدم وجود موضوع له.

ويرد على قوله: ((لو قلنا بحرمته)) ما تقدم من عدم الملازمة بين الملاكين والحكمين وأن التجري والعزم على المعصية موجب للنهي مطلقاً وإن لم نقل بحرمته؛ لأنه قبيح.

2- ((لو كان عاجزاً عن ارتكاب حرام وكان عازماً عليه لو صار قادراً فلو علم ولو بطريق معتبر حصول القدرة له فالظاهر وجوب إنكاره، وإلا فلا إلا على عزمه على القول بحرمته)). أقول: لا فرق بين من تحصل عنده القدرة وغيره لأن العزم على المعصية قبيح يستحق النهي والتوبيخ مطلقاً، ولو لم نقل بحرمته كما تقدم. ولو قبلنا التفصيل فإنه بلحاظ من لم تصدر منه المعصية، أما بلحاظه فقد تقدم الوجوب مطلقاً إلا مع توبته وندمه.

3- ((لو اعتقد العجز عن الاستمرار وكان قادراً واقعاً وعلم بارتكابه مع علمه بقدرته فإن علم بزوال اعتقاده فالظاهر وجوب الإنكار بنحو لا يعلمه بخطأه، وإلا فلا يجب)). أقول: هذا شاهد آخر على عدم اشتراط الإصرار لقوله بالوجوب مع اعتقاد الفاعل العجز فلا يوجد موضوع للإصرار، وفرض المسألة استمرار جهله لاشتراط عدم إعلامه بخطأ اعتقاده، ومجرد العلم بزوال

ص: 317

اعتقاده لا يحقق الموضوع، وعلى ما اخترناه فالأقوى وجوب نهيه مطلقاً، أما عدم إعلامه بخطأ اعتقاده فهو صحيح لأن فيه إغراءً بالمعصية وتعاوناً على الإثم، إلا إذا قطع بأن نهيه عن المنكر سيثمر وينتج إقلاعه عن المنكر نهائياً فلا يضرُّ إعلامه.

4- ((لو علم إجمالاً بأن أحد الشخصين أو الأشخاص مصرّ على ارتكاب المعصية وجب ظاهراً توجّه الخطاب على عنوان منطبق عليه بأن يقول من كان شارب الخمر فليتركه، وأما نهي الجميع أو خصوص بعضهم فلا يجب، بل لا يجوز، ولو كان في توجّه النهي على العنوان المنطبق على العاصي هتك عن هؤلاء الأشخاص فالظاهر عدم الوجوب، بل عدم الجواز)). أقول: هذا تداخل بين شروط الوجوب والواجب، فإن الوجوب ثابت مطلقاً بحصول مقتضيه لكن امتثاله يجب أن يكون بنحو لا يستتبع معصية وما ذكره من العنوان المنطبق أحد الحلول لهذه المشكلة ولا ينحصر به، كما تدخل هنا قضية تقديم الأهم على المهم.

5- ((لو علم بارتكابه حراماً أو تركه واجباً ولم يعلم بعينه وجب على نحو الإبهام، ولو علم إجمالاً بأنه إما تارك واجباً أو مرتكب حراماً وجب كذلك أو على نحو الإبهام)).

(الأمر الرابع) شروط أخرى

ذكر الشيخ كاشف الغطاء (قدس سره) شروطاً للوجوب انفرد بذكر بعضها منها: ((كون المأمور ممن يجوز له النظر إليه أو اللمس له إذا توقف عليهما))(1).

ص: 318


1- كشف الغطاء: 4/429.

ويرد عليه: أنه لا خصوصية لهذه الحالة إذ يجب مناقشتها ضمن مطلب ما لو استلزم الأمر والنهي ارتكاب محرم شرعي وهو شرط يأتي بإذن الله تعالى عنوانه: انتفاء المفسدة.

وحينئذٍ يُنظر إلى جانبين: الانحصار والأهمية، فمع انحصار الامتثال به وكون المنكر المدفوع أهم من المنكر المرتكب يجب عليه القيام بالوظيفة، كما لو استلزم منعهما من الزنا دفع المرأة وضربها الموجب للمسها، فتكون المسألة من صغريات تقديم الأهم على المهم، ومثله شرط ((عدم معارضة واجب مضيق من صلاة ونحوها)).

وذكر السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) مسألة في هذا المجال قال (قدس سره): ((لو توقف الأمر أو النهي على ارتكاب محرم كما لو توقف نهي امرأةعن الخلاعة على النظر إليها بشهوة –أي الذي يحتمل فيه إثارة الشهوة-، فالظاهر ملاحظة الأهمية بين التكليفين في نظر الشارع))(1).

فملاحظة هذه الأحوال من شؤون الامتثال وليست هي من شروط الوجوب، ولعله لذلك لم يشر غيره من الفقهاء إلى هذا الشرط بعنوانه في الوجوب، وسيأتي الكلام عنها مفصلاً في مسألة توقف الأمر والنهي على فعل محرّم.

ملحق: الأمر بالأمر بفعل هل هو أمر بذلك الفعل أم لا؟

بيان المطلب باختصار: أن مدخلية الأمر الأول في طلب الفعل من المأمور الثاني له عدة أنحاء:

أولها: على نحو الطريقية المحضة بأن يكون غرض الآمر الأول وهو المولى من إصدار الأمر هو إيصاله إلى المأمور الثاني ليتحرك نحو إيجاد الفعل، ولا دور للمأمور الأول إلا هذا الإيصال فلو علم المأمور الثاني بالتكليف عن

ص: 319


1- منهج الصالحين: 2/242، المسألة (896).

غير طريق المأمور الأول فإن التكليف منجز عليه، وإنما وضع المولى الواسطة لسبب ما كقصور المأمور الثاني مثل الصبيان أو تقصيره كالعاصي الذي يراد انتهاؤه عن المنكر، فهنا يلزم من الأمر الأول طلب الفعل من المأمور الثاني ومن أمثلته أمر المولى أولياء الأمور بأمر صبيانهم بالعبادات وقد تقدمت جملة من الروايات في ذلك، ولو أن الصبي أخذ الدين من غير والديه فقد تحقق المطلوب.

ثانيهما: أن يكون الأمر الأول مأخوذاً على نحو الموضوعية المحضة بأن يتعلق غرض المولى بإنشاء المأمور الأول الأمر للمأمور الثاني وليس له غرض بصدور الفعل من المأمور الثاني، فهنا لا يلزم من الأمر الأول طلب الفعل من المأمور الثاني، ومثاله العرفي: ما لو أراد الملك أن يدرب ولي عهده على إدارة المملكة وسياسة الناس فيطلب منه توجيه الأوامر إلى المسؤولين لكنه يبلّغ هؤلاء بعدم جواز تنفيذ تلك الأوامر لأن غرضه التدريب فقط.

ثالثها: الطريقية المشوبة بالموضوعية: وذلك بأن يأمر المولى الواسطة بتوجيه الأمر إلى المأمور الثاني، والمولى يريد إيجاد الفعل من المأمور الثاني إلا أنه لا يقبله إلا إذا كان الباعث له أمر المأمور الأول (وهو الآمر الثاني) أي يريد من المكلف أن يأخذه من هذه الواسطة لا غير لغرض في نفسه كتشريف المأمور الأول وإظهار كرامته أو عدم استعداد المأمور الثاني لتلقي الأمر، وهنا الآمر بالأمر بشيء يقتضي طلب ذلك الشيء لكن لا مطلقاً وإنما بعد صدور الأمر من الآمر الثاني.

ومثاله العرفي ما لو عيّن المرجع الديني وكيلاً له في مدينةٍ ما وأمر بإيصال الحقوق الشرعية وتلقي الفتاوى الدينية بواسطته لإظهار فضيلته ومكانته ولتمكينه في أداء دوره فلا يقبل المرجع تواصل المكلف معه مباشرة.ومثاله الشرعي لزوم أخذ تعاليم الدين عن طريق النبي وأهل بيته الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) فهم الباب الذي لا يؤتى إلا منه وهم واسطة الفيض الإلهي وتلقي المعارف الإلهية، ولذا قرن الله تعالى طاعة نبيه

ص: 320

(صلى الله عليه وآله) بطاعته تبارك وتعالى؛ لأنه يريد عبادته عن هذا الطريق المبارك فحسب.

والذي يستظهره العرف من الأمر بالأمر هو القسم الأول أما القسمان الآخران فهما بحاجة إلى القرينة، لذا اخترنا في هذا المطلب أن الأمر بالأمر يقتضي طلب الفعل من المأمور الثاني حتى لو تجرد عن القرينة؛ لأنه ظاهر عرفاً في الأول.

خلافاً لصاحب الكفاية (قدس سره) فإنه جعل الأقسام الثلاثة في عرض واحد ولا مرجح لبعضها على بعض إلا بالقرينة، قال (قدس سره): ((وقد انقدح بذلك أنه لا دلالة بمجرد الأمر بالأمر على كونه أمراً به، ولا بد في الدلالة عليه من قرينة عليه))(1).

وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من القسم الأول لأن الغرض من الأمر بها إقامة الفرائض والسنن كما في الروايات الشريفة، ولو أن المأمور المنهي ندم وتاب وأقلع عن المنكر وفعل المعروف فقد تحقق الغرض وسقط وجوب الأمر والنهي.

إن قلتَ: تقدمت الإشارة في أكثر من موضع إلى أن إنشاء الأمر والنهي له جهة موضوعية وهذا ينافي جعل الفريضة من القسم الأول الذي يفترض الطريقية المحضة.

قلتُ: لا توجد منافاة لأن ما ذكرناه هنا بلحاظ فعل المأمور الثاني فأمر الآمر الناهي مجرد واسطة إليه لتحقق متعلق الأمر والنهي، وما قلناه هناك بلحاظ فعل المأمور الأول أي إنشاء الأمر والنهي، فهنا أمران ومتعلقان، وتكليف الآمر

ص: 321


1- كفاية الأصول: 144.

الناهي خارج عن محل كلامنا الذي هو في الأمر بالأمر لأنه أمر مباشر، لذا فلا حاجة إلى جعله قسماً رابعاً كما يظهر من بعض الأعاظم(1)

والتفريق دقيق.

ومن الغريب أخذ السيد الخوئي (قدس سره) فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على النحو الثاني، قال (قدس سره): ((الأول: أن يكون غرض المولى قائماً بخصوص الأمر الثاني باعتبار أنه فعل اختياري للمكلف، فلا مانع من أن يأمر الشارع بإيجاد أمر بشيء أو إيجاد نهي عن آخر كما هو الحال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)).ويشرح (قدس سره) مراده من خصوص الأمر الثاني بقوله: ((فإن غرض المولى في القسم الأول متعلق بالأمر الصادر من المأمور الأول دون الفعل الصادر من الثاني فيكون المأمور به هو الأمر فقط)) وقال (قدس سره): ((على الوجه الأول لا يجب الفعل على الثاني لفرض أن غرض المولى يحصل من صدور الأمر من الأول سواء صدر الفعل من الثاني أيضاً أم لا؟ فإذا صدر الأمر منه فقد حصل الغرض))(2).

أقول: وجه الغرابة أنهم يلتزمون بأن الغرض من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحقيق متعلقهما خارجاً بأي نحو كان والأمر والنهي وسيلة وطريق لتحقيق ذلك.

ملاحظة: وإنما عبّرت بأن الأمر بالأمر يقتضي طلب الفعل ولم أعبِّر بإيجاب الفعل كما ذكر بعض الأصحاب(3) (قدس الله أسرارهم) لعدم الملازمة بين

ص: 322


1- بحوث في علم الأصول: 2/381.
2- محاضرات في أصول الفقه من الموسوعة الكاملة: 45/261-262.
3- محاضرات في أصول الفقه من الموسوعة الكاملة: 45/261، بحوث في علم الأصول: 2/311، قال في الثاني: ((وقع البحث في دلالة الأمر بالأمر على وجوب الفعل على المأمور الثاني وعدمه)).

دلالة الأمر الأول على الوجوب ودلالة الثاني عليه فيمكن أن يدلّ على أصل الرجحان كأمر الآباء والأمهات بأمر صبيانهم بالعبادات فإن الأول لو كان واجباً فإن الثاني مستحب لرفع القلم عن الصبي، وهذا مما نقضنا به على ما اشتهر بينهم من أن الفرع لا يمكن أن يزيد على الأصل؛ لأن غرض المولى يتحقق بصدور الفعل من المأمور الثاني وهو مستحب إلا أن الأمر واجب على المأمور الأول.

ص: 323

(المحور الثالث – شروط نفس الفريضة)

اشارة

وفيه أمور:

(الأمر الأول) وجود احتمال التأثير

اشارة

أي أن تترتب على امتثال الفريضة ثمرة في إقامة المعروف وإزالة المنكر ولو احتمالاً، وإلا فلا يجب، وظاهر العلامة (قدس سره) في المنتهى(1)

الإجماع عليه لأنه نسبه إلى الأصحاب، ونفى صاحب الجواهر (قدس سره) الخلاف عن سقوط الوجوب في حالة العلم بعدم التأثير(2).

وهذا هو القدر المتيقن من اتفاقهم على الشرط. واقتصر عليه الشهيدان، فعلق ثانيهما (قدس سره) على قول المحقق (قدس سره): ((أن يجوّز تأثير إنكاره)) بقوله (قدس سره): ((المراد بالتجويز في هذا المحل أن لا يكون التأثير عنده ممتنعاً، بل يكون ممكناً بحسب ما يظهر له من حاله، وهذا يقتضي الوجوب ما لم يعلم عدم التأثير وإن ظن عدمه، لأن التجويز قائم مع الظن))(3)وحكى عن الشهيد الأول (قدس سره) في الدروس أنه ((جعل شرط الوجوب إمكان التأثير وأطلق)) وقال: ((وهو أجود))، وإطلاق الاحتمال يعني عدم سقوط الوجوب إلا في حالة العلم بعدم التأثير.

وخالفا بذلك المحقق والعلامة الحليين (قدس الله سريهما) فقد ذهبا إلى سقوط الوجوب عند ظن العدم، قال في الشرائع: ((فلو غلب على ظنه أو علم

ص: 324


1- منتهى المطلب: 15/239.
2- جواهر الكلام: 21/367.
3- مسالك الأفهام: 3/102.

أنه لا يؤثر لم يجب)) وقال العلامة (قدس سره) في التذكرة(1)

مثله فهما يخالفانهما في حكم الظن.

لكن هذا التفريع من المحقق والعلامة يخالف ما ذكراه في عنوان الشرط بقولهما ((الثاني: أن يجوِّز تأثير إنكاره)) والتجويز شامل لكل احتمال حتى الذي يجتمع مع ظن العدم، لذا تصدّى جملة من الأعلام كالمحقق الكركي وصاحب الجواهر (قدس الله سريهما) للدفاع عن المحقق والعلامة (قدس الله سريهما) بحمل مرادهما من غلبة الظن على العلمي أي الاطمئنان المتاخم للعلم الذي لا يبقي الاحتمال المقابل معتداً به فلا يصدق عليه التجويز، قال المحقق الكركي (قدس سره): ((واعلم أنه يكفي في معرفة عدم المطاوعة الظن الغالب كما صرّح به المصنف في التذكرة والمنتهى ولا بُعد في ذلك فإن إطلاق المعرفة على ما غلب عليه الظن أمر شائع في الشرعيات))(2)

وقال صاحب الجواهر (قدس سره): ((ويمكن حمل عبارة المصنف ونحوها –كعبارة التذكرة- على أن المراد بغلبة الظن الطمأنينة العادية التي لا يُراعى معها الاحتمال لكونه من الأوهام فيها، لا أن المراد عدم وجوبه مع الاحتمال المعتد به عند العقلاء))(3)وقال (قدس سره): ((ظاهر جماعة بل صريح آخرين الاكتفاء بالتجويز الذي معناه الإمكان الذي يخرج عنه الامتناع خاصة، بل هو مقتضى عنوان المتن أولاً، وإن كان قد فرّع عليه غلبة الظن))(4)­­­.

أقول: يمكن قبول هذا التوجيه أي أن شرطهم لسقوط الوجوب العلم بعدم التأثير ولما كان هذا متعذراً فاكتفوا بالعلمي للدلالة عليه كما في تقريب جامع

ص: 325


1- تذكرة الفقهاء: 9/443.
2- جامع المقاصد: 3/486.
3- جواهر الكلام: 21/369.
4- جواهر الكلام: 21/368.

المقاصد الذي فسّر به قول العلامة (قدس سره) في القواعد: ((فلو عرف عدم المطاوعة سقط)) وعلى هذا يكون الاحتمال كافياً لثبوت الوجوب مطلقاً.

وفي مقابل ذلك يمكن القول أن التجويز الذي أراده بالعنوان ليس مطلق الاحتمال وإنما الاحتمال المعتد به الذي لا يقاسم الظن والتفريع قرينة عليه، وحينئذٍ يكفي مطلق ظن عدم التأثير لسقوط الوجوب وليس أحد الحملين أولى من الآخر، وفهمه على هذا النحو المحقق الأردبيلي، قال (قدس سره): ((الثاني: تجويز التأثيرعند الآمر، فلو لم يجوّز التأثير –علماً أو ظناً متاخماً للعلم ويحتمل الظن مطلقاً- قال في المنتهى: لم يجب الأمر، بل يجوز الفعل والترك معاً)) واستدل بالأخبار ثم قال (قدس سره): ((ويكفي عدم الخلاف فيها))(1)­­­، ((ونسب الشيخ الطوسي إلى البعض القول بسقوط الوجوب حتى مع صورة الشك في التأثير))(2).

وتحصّل مما تقدم أن الأقوال بسقوط الوجوب بسبب هذا الشرط لها مراتب:-

1- كفاية مطلق الظن بعدم التأثير واحتمله المحقق الأردبيلي (قدس سره)، وهو مبني على كون العلم بحصول التأثير شرطاً للوجوب فإذا شك في التأثير وعدمه يكون مقتضى أصل البراءة عدم الوجوب لعدم تحقق شرط الوجوب، وهذا القول بعيد بل هو في الحقيقة يلغي وجوب الفريضة من أساسه.

ص: 326


1- مجمع البرهان والفائدة: 7/537.
2- موسوعة الفقه الإسلامي: 17/202 عن الاقتصاد: 239.

2- كفاية الظن الغالب أو المفيد للاطمئنان وهو ظاهر المحقق والعلامة الحليين.

3- لا يسقط الوجوب إلا عند العلم بعدم التأثير وهو مختار الشهيدين وصاحب الجواهر (قدس الله أسرارهم)، وظاهر السيد الخوئي قال (قدس سره): ((الثاني –من شروط الوجوب-: احتمال ائتمار المأمور بالمعروف بالأمر، وانتهاء المنهي عن المنكر بالنهي، فإذا لم يحتمل ذلك، وعلم أن الشخص الفاعل لا يبالي بالأمر أو النهي، ولا يكترث بهما لا يجب عليه شيء))(1)­­­.

فكأنه يعتقد أن مقتضى القاعدة الأولية الوجوب مطلقاً وإنما دلّ الدليل على عدم الوجوب في مورد عدم احتمال التأثير.

والمختار عدم السقوط مطلقاً، وحكى عن أبي الصلاح الحلبي في الكافي احتماله عدم السقوط حتى مع العلم بعدم التأثير.

ولا شك أن اشتراط احتمال التأثير منافٍ لإطلاقات وجوب الأمر والنهي، فما الذي دعاهم إلى هذا الاشتراط؟.

وقد ذكروا لذلك وجوهاً:-أولاً: مقيِّد يستند إلى حكم العقل أو سيرة العقلاء أو ما يصطلح عليه بمناسبات الحكم والموضوع حاصله ((أن الغرض من الإنكار لا يكاد يترتب على أمر لا يؤثر في إحداث الداعي، فمع الجزم بعدم التأثير يكون لغواً محضاً))(2)­­­.

أقول: يرد عليه:-

1- إنه دليل لبي يقتصر على القدر المتيقن منه للخروج من إطلاقات وجوب الأمر والنهي، وهي حالة العلم بعدم التأثير بحيث يكون الأمر والنهي

ص: 327


1- منهاج الصالحين: 1/351.
2- شرح تبصرة المتعلمين للمحقق العراقي: 4/450.

لغواً محضاً، فيكون الدليل أخصّ مما ادعاه القولان الأولان بل الثالث إلا أن يريد بالعلم امتناع حصول التأثير.

وبمثله يرَد على الإجماع المدعى لو لم نفترض مدركيته، قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((إن الأوامر مطلقة، ومقتضاها الوجوب على الإطلاق حتى في صورة العلم بعدم التأثير، إلا أنه للإجماع وغيره سقط في خصوصها، أما غيرها فباقٍ على مقتضى الإطلاق من الوجوب)).

2- أنى لنا أن نحصّل العلم بعدم التأثير فإنه بيد مدبّر الأمور خصوصاً على المدى الواسع للتأثير المطلوب كما سنبينه في النقطة (5) إن شاء الله، قال تعالى: «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ» (الغاشية:21- 22) وقال تعالى: «لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَ-كِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ» (البقرة:272) «وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا» (السجدة:13). ولا يحصل هذا العلم بعدم التأثير إلا بوحي إلهي كالذي خوطب به النبي نوح (عليه السلام) «وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ» (هود:36).

3- إن سيرة الدعاة إلى الله تعالى الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر عدم التوقف وإن انعدم احتمال التأثير حتى أشفق عليهم ربهم فقال: «أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاءُ اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً» (الرعد:31). وفي بعض الروايات أن سبب ما حلّ بالنبي يونس (عليه السلام) من العذاب هو يأسه من هداية قومه حتى دعا الله تعالى أن ينزل عليهم العذاب(1)، قال تعالى: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ

ص: 328


1- تفسير القمي: 2/369-370.

إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ» (القلم:48) قال الطبرسي (قدس سره): ((أي لا تكن مثل يونس (عليه السلام) في استعجال عقاب قومه ولا تخرج من بين قومك قبل أن يأذن الله لك)) وقال تعالى: «وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ» (الأنبياء:87-88) لكن أهل قريته رجعوا إلى ربهم وآمنوا، قال تعالى: «فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ» (يونس :98).

4- لو فرضنا حصول العلم بعدم تأثير الوظيفة في المأمور المنهي، فإن غرض الوظيفة لا ينحصر بهذا وإنما للفريضة غرض أهم وهو خلق خير الأمم الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر التي تتواصى بالحق وتتواصى بالصبر فإن في ذلك ضمان استقامتها وحفظ وحدتها وعزّتها، فثمرة امتثال الفريضة لا يقتصر على لحاظ تأثيرها على الشخص المخاطب بها بل بلحاظ المجتمع ككل.

5- لو سلّمنا باشتراط التأثير فإنه لا يختص بتغيير المخاطب مباشرة بفعله المعروف المتروك واجتنابه للمنكر وإنما للتأثير أشكال عديدة، منها:

أ-

التأثير التدريجي بتكرار الأمر والنهي.

ب- التأثير بانضمام آمر ناهي آخر إليه أو أكثر.

ج-- التأثير بالتسبيب كما لو حرّك جهة أو شخصاً مؤثراً عليه.

د- التأثير الاستقبالي بأن تحصل الثمرة لاحقاً بعد أن يختمر الأمر والنهي عند المخاطب أو تتهيأ ظروفه كما أن وقوف أصحاب الكهف في وجه دولة الشرك أثمر أمة مؤمنة بعد عقود من السنين.

ه-- التأثير بتحجيم المنكر ومنع اتساعه.

ص: 329

و- التأثير بتقليل المنكر وإن لم يرتفع نهائياً.

ز- التأثير غير المباشر بأن ينهى زيداً فينتهي عمرو عند سماعه.

ح- وقد يكون الامتثال لأجل أن السكوت يؤدي إلى تمكّن الباطل والاستئناس به وظهور البدع أو يكون موجباً لسوء الظن بالعلماء والانفضاض عنهم.

والنتيجة أن اللغوية المدعاة لا وجه لها، ويكفي في حصول الثمرة إتمام الحجة على الفاعل.

ولو تنزّلنا وقلنا بإمكان حصول العلم بعدم التأثير بحيث تتحقق اللغوية المذكورة ويصبح الأمر والنهي عبثاً يقبّحه العقلاء فهذا خاص بالمنكرات الفردية لا الاجتماعية التي تكون مصالحها ومفاسدها عامة في المجتمع.

ثانياً: عدد من الآيات الكريمة:

كقوله تعالى: «وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» (الأعراف :164) بتقريب ((أنها تشير إلى كفاية احتمال التقوى والاتعاظ مع قلته لوجود المؤشرات على نزول العذاب عليهم))(1).أقول: الآية تدل على العكس؛ لأنه مع اليأس من هدايتهم والجزم بنزول العذاب والهلاك عليهم فقد امتدح الله تعالى الأمة التي استمرت بوظيفة الهداية والإصلاح ونجّاها من العذاب وعاقب الآخرين ووصفهم بالذين ظلموا كما تقدم في البحوث القرآنية.

أما (لعل) فمستعملة هنا في مطلق الاحتمال والرجاء المقابل للاستحالة والامتناع وهو موجود دائماً لحسن الظن بالله تعالى، وهو غير احتمال التأثير الذي اشترطه المشهور، فلا يتم استدلالهم بالآية.

ص: 330


1- موسوعة الفقه الإسلامي: 17/200.

قال الشيخ الطوسي (قدس سره) في تفسيره للآية: ((والتقدير: واذكر إذ قالت أمة منهم لطائفة منهم لم تعظون قوماً علمتم أنهم هالكون في الدنيا ويعذبهم الله عذاباً شديداً في الآخرة، فقالوا في جوابهم وعظناهم إعذاراً إلى الله أي نعظهم اعتذاراً إلى ربكم لئلا يقول لنا: لِمَ لم تعظوهم ولعلهم أيضاً بالوعظ يتقون ويرجعون. وفي ذلك دليل على أنه يجب النهي عن القبيح وإن علم الناهي أن المنهي لا ينزجر ولا يقبل، وأن ذلك هو الحكمة والصواب الذي لا يجوز غيره))(1).

نعم قُرِّب الاستدلال بآيات أخر كقوله تعالى: «فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى» (الأعلى : 9) وقوله تعالى: «فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ» (ق:45) وقوله تعالى: «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ» (الذاريات : 55) وقوله تعالى: «مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى، إِلا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى» (طه:2-3) بتقريب أن ((هذه الآيات كأنها تجعل التذكير لمن يرجى منه التأثّر والاستجابة لا مطلقاً، حيث وصفت المذكَّر بأنه من المؤمنين وممن يخشى ويخاف الوعيد الإلهي))(2).

ويرد عليه:-

1- إن التقريب مبني على وجود المفهوم لهذه الآيات الشريفة كمفهوم الشرط في الأولى ومفهوم اللقب في بعضها، وهي جميعاً لا مفهوم لها، فالآية الأولى ليست شرطية وإن كانت صورتها ذلك وإنما هي مسوقة للتعبير عن الذم والتقريع والكناية واليأس من الهداية لأن الذكرى تنفع بذاتها دائماً، وهو استعمال مألوف للتعبير عن عدم انتفاعهم بالتذكير، أما الآيات الأخرى فظاهرها الحث على الكون من أولئك الذين

ص: 331


1- التبيان: 5/13.
2- فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 40.

يستفيدون من القرآن الموعظة والخشية والتذكر، وإن التذكير وإن كان يجب توجيهه للجميع إلا أنه لا ينتفع به إلا المؤمنون ومن يخشى ومن يخاف يوم الوعيد.

2- إن النتيجة التي انتهى إليها التقريب لا يقول بها أحد لأنها تشترط درجة عالية من التأثير والتأثر؛ لأنها تشترط في من يجب تذكيره أن يكون من المؤمنين الذين يخشون يوم الوعيد.

3- منافاة هذا الفهم لآيات كثيرة تبيّن أن وظيفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمبلغين الرساليين هي تذكير جميع الناس ودعوتهم إلى الحق وإن كانوا في غاية البعد عنه، والهداية بيد الله تعالى، قال سبحانه: «وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» (البقرة:221) وقال تعالى: «وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» (إبراهيم:25) لذلك واصل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دعوته لطواغيت قريش المشركين ولم يتوقف رغم اليأس من رشدهم، قال تعالى: «بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ، وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ» (الصافات:12-13).

ثالثاً: الاستدلال بالروايات:

أورد العلامة (قدس سره) في المنتهى وصاحب الجواهر(1) (قدس سره) وغيرهما عدة روايات للاستدل على هذا الشرط:-

1- ما في رواية مسعدة بن صدقة قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول وسئل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أواجبٌ هو على الأمة جميعاً؟ فقال: لا، فقيل له: ولمَ؟ قال: إنما هو على القويّ المطاع العالم بالمعروف من المنكر، لا على الضعيف الذي لا يهتدي سبيلاً).

قال مسعدة: وسمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول، وسُئل عن

ص: 332


1- منتهى المطلب: 15/239، جواهر الكلام: 21/368.

الحديث الذي جاء عن النبي (صلى الله عليه وآله): (إن أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر) ما معناه؟ قال: (على أن يأمره بعد معرفته وهو مع ذلك يقبل منه، وإلا فلا)(1).

وتقريب الاستدلال في جزئَي الرواية بفقرتين: الأولى: قوله (عليه السلام): (إنما هو على القوي المطاع) ومفهومها سقوط الوجوب عند عدم المطاوعة والامتثال والتأثر بالأمر والنهي، وأكدها بالحصر المستفاد من (إنما).

الثانية: قوله (عليه السلام): (وهو مع ذلك يقبل منه) ومفهومه عدم الوجوب عند عدم القبول وقد صرّح بالمفهوم في قوله: (وإلا فلا).

2- خبر يحيى الطويل صاحب المقرّي أو المنقري أو المصري أو البصري بحسب اختلاف النسخ قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): إنما يؤمر بالمعروف1- وينهى عن المنكر مؤمن فيتّعظ، أو جاهل فيتعلم، فأما صاحب سوط أو سيف فلا)(2).

بتقريب ((أنه مع حصر وجوب الأمر والنهي بالمؤمن والجاهل مرتباً الغرض من أمرهما ونهيهما على الاتعاظ والتعلم الدال بإطلاقه على عدم ترتب غرض آخر غيرهما فيما يخصّ المؤمن والجاهل، ومع عدم مأمور غيرهما يعلم انحصار الأمر والنهي بتحقق الغرضين المذكورين، فمع انتفائهما لا يجب أمر ولا نهي))(3).

ص: 333


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب2، ح1.
2- المصدر السابق: ح2.
3- موسوعة الفقه الإسلامي: 17/201.

3- خبر داوود الرقي: (لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، قيل له وكيف ذلك؟ قال: يتعرض لما لا يطيق)(1).

بتقريب: أن أمر ونهي من لا يأتمر هو من التعرض لما لا يطيق وهو منهي عنه.

4- خبر الحارث بن المغيرة عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (ما يمنعكم إذا بلغكم عن الرجل منكم ما تكرهون وما يدخل علينا به الأذى أن تأتوه فتؤنبوه وتعذلوه وتقولوا له قولاً بليغاً؟ قلتُ جعلتُ فداك: إذن لا يقبلون منا، قال: اهجروهم واجتنبوا مجالستهم)(2).

5- خبر أبان بن تغلب عنه (عليه السلام) قال: (كان المسيح عليه السلام يقول: إن التارك شفاء المجروح من جرحه شريك جارحه لا محالة، وذلك أن الجارح أراد فساد المجروح والتارك لشفائه لم يشأ صلاحه، فإذا لم يشأ صلاحه فقد شاء فساده اضطراراً، فكذلك لا تحدثوا بالحكمة غير أهلها فتجهلوا، ولا تمنعوها أهلها فتأثموا وليكن أحدكم بمنزلة الطبيب المداوي إن رأى موضعاً لدوائه وإلا أمسك)(3).وموضع الاستدلال ذيل الرواية حيث شبهت الآمر الناهي بالطبيب المعالج فإنه إذا لم يرَ نفعاً في دوائه توقّف عن إعطائه للمريض، فكذلك الآمر الناهي إذا لم يجد تأثيراً لفعله.

ص: 334


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب13، ح1.
2- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب7، ح3.
3- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب2، ح5. وفي الكافي: 8/345، وفي فقه الأمر بالمعروف: 344.

أقول: يرد أولاً على هذه الروايات أنها جميعاً ضعيفة السند لنكات لا تخفى على المتأمل فيها، حتى الرواية الأولى لأن مسعدة لم يوثّق على مبانيهم ولا يتحصل من مجموعها مضمون يمكن الوثوق بصدوره من المعصوم (عليه السلام) مضافاً إلى أن دلالتها جميعاً غير تامة، وقد تقدمت المناقشات في دلالة رواية مسعدة في مواضع عديدة (صفحة 204-208) و (صفحة 262) نذكر منها:-

أ - أنها خاصة بموارد معينة للأمر والنهي وهي القيام بعنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتغيير الأنظمة الحاكمة.

ب- لازم هذا الاستدلال جعل المطاعية شرطاً للوجوب أي سقوط الوجوب عند عدم إحرازها وهذا ما لا يقول به المستدل لأنه يقول بالوجوب عند احتمال التأثير وعدمه.

ج-- الجزم بوجوب موارد للأمر والنهي من دون اشتراط المطاعية في الأمور الفردية كأمر تارك الصلاة ونهي شارب الخمر وأمر المرأة السافرة بالحجاب ونحو ذلك.

د- ويرد على خصوص الفقرة الثانية أن النهي إضافي بلحاظ التعرض لعقوبة السلطان بلا جدوى بسبب التهوّر والاندفاع، وليس النهي بلحاظ عدم التأثير، قال المحقق النراقي (قدس سره) وغيره ((أن النهي عن ذلك حينئذٍ لما فيه من مظنة الضرر حيث كان الكلام مع الإمام الجائر، كما صرّح به في رواية مفضل (من تعرض لسلطان جائر فأصابته بلية لم يؤجر عليها، ولم يرزق الصبر عليها)(1)(2).

وأما الثاني فيرد عليه:-

ص: 335


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب2، ح3.
2- مستند الشيعة: 18/251 شروط الشاهد.

أ - ما ذكرناه في الفقرة (د) أعلاه من أن النهي إضافي بقرينة ذيل الحديث.

ب- إن الاتعاظ والتعلم غاية للأمر والنهي وليست شرطاً، ولو كانت شرطاً لسقط الوجوب عند عدم الإحراز وهم لا يقولون به.ج-- النقض عليه بما قام به الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) والصالحون وعلى رأسهم أبو عبد الله الحسين (عليه السلام) من الوقوف في وجه الطاغية يزيد المعروف ببطشه وقسوته.

د- منافاة هذا المعنى للحديث النبوي الصحيح (أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر) ومن هو صاحب السيف والسوط غير الإمام الجائر، وسنتعرض لمعالجة هاتين الطائفتين من الروايات المتعارضة ظاهراً في الفصول التالية بإذن الله تعالى.

ويرد على الثالث مثله فإن الذلة المنهي عن التعرض لها بالتعرض للسلطان الجائر في غير الحال والمورد المناسبين.

وأما الرابع فإنه أجنبي لأن ظاهره معالجة حالة مما ابتلي به الشيعة لتعبير الإمام عن الرجل بأنه (منكم) وهي كشف بعض الأمور التي أوصى الأئمة بإخفائها لحماية الإمام (عليه السلام) والشيعة من الأذى فيذيعها هؤلاء ولا ينتهون إذا نُهوا فأمر الإمام (عليه السلام) بمقاطعتهم واجتنابهم وعزلهم لكيلا يعمّ ضررهم على بقية الشيعة.

ويرد على الخامس:-

أ – إن الإمساك عن العلاج خاص بحالة العلم بعدم التأثير وهو موضع الاتفاق بينهم كما ذكرنا.

ب- يمكن القول أنها أدلّ على العكس لأن الطبيب غالباً ما يصف الدواء مع احتمال الشفاء ولو ضئيلاً.

ص: 336

ج-- سياق الرواية صريح في المعارف والمواعظ الأخلاقية والحكمة فلا تعطى إلا إلى أهلها فلا يمكن تعميمها إلى موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

د- ما قيل من أن بعض العبارات لا تناسب كلام الإمام (عليه السلام) وإنما كلام الفلاسفة والحكماء كقوله: (فإذا لم يشأ صلاحه فقد شاء فساده اضطراراً) مما يضعف الوثوق بصدوره عن المعصوم (عليه السلام)، ولكن يمكن ردّه بأن عدم الوثوق بعبارة من الرواية لا يسقطها جميعاً.

ونتيجة المناقشة: أن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلق لإطلاق أدلته، كإطلاق أدلة الجهاد حيث لم يقيدوا وجوبه بظن التأثير ونحوه مع أنه أولى لشدة مؤونته.

ويكفي لثبوت الوجوب مطلق احتمال التأثير وهو موجود، لعدم وجود دليل يوثق به على اشتراط كون الاحتمال المشترط أزيد من ذلك إلا الدليل الأول وهو لبّي فيؤخذ منه بالقدر المتيقن وهي حالة العلم باستحالة التأثير، ولما كان تحصيل هذا العلم غير ممكن لأن ثمرة هذه الوظيفة تتعدى الفرد المأمور المنهي إلى المجتمع ككل بل إلىالأجيال اللاحقة ولو بالتكرار، كما أن موعظة الإمام الحسين (عليه السلام) وأمره ونهيه الذي جعله هدفاً لخروجه لم يؤثر في وقته على الجيش المعادي(1)

إلا أنه كان زلزالاً ظلت هزاته الارتدادية إلى الآن وإلى يوم القيامة.

ص: 337


1- قال الشيخ عبد الحسين الأعسم (رحمه الله): قست القلوب فلم تملْ لهدايةٍ *** تباً لهاتيك القلوب القاسيةْ وقال السيد رضا الهندي (رحمه الله): لم أنْسه إذ قام فيهم خاطباً *** فإذا همُ لا يملكون خطابا فغدوا حيارى لا يرون لوعظه *** إلا الأسنة والرماح جوابا

وإلى الآن انتهينا من الاستدلال على عدم صلاحية الأدلة المدعاة لتقييد إطلاقات الأمر والنهي بهذا الشرط، والآن نتقدم خطوة إذ نستطيع إضافة وجوه للاستدلال على عدم صحة هذا الاشتراط، أي تنتقل من مرحلة عدم الدليل –وهي كفاية التمسك بإطلاقات وجوب الأمر والنهي- إلى الدليل على العدم، وهذه الوجوه هي:-

1- لو كان هذا الشرط للوجوب كما يرى المشهور، لما وجبت مقدمات تحصيله بحسب ما التزموا من عدم وجوب مقدمات الوجوب، لكنهم قالوا هنا بوجوب المقدمات كما سيأتي في الملحق إن شاء الله تعالى، وأن التأثير إذا أمكن تحقيقه بالتسبيب كاشتراك جماعة أو استدعاء ذي نفوذ أو تكرار المحاولة ونحو ذلك وجب، فإما أن يقولوا بأن شرط الوجوب هذا ليس كغيره إذ أنه يجب تحصيله وهم لم يذكروا هذا الاستثناء من الكبرى، أو يقولوا أنه شرط واجب بمعنى أن للقدرة على التأثير دخلاً في تعيّن المتصدي للامتثال وإن كان الوجوب ثابتاً على الجميع باعتبار كفاية قيام البعض كشرط العلم والقوة في ما تقدم، وهذا ما نختاره. وحينئذٍ لا يتحقق مرادهم من انتفاء الوجوب عند انتفائه.

2- ما دلّ على لزوم القيام بهذه الوظيفة مع عدم وجود مخاطب معين بها مما يعني عدم وجود موضوع لاشتراط التأثير، كروايات وجوب إظهار الحق عند وقوع الفتن واستحداث البدع وشيوع المنكرات، قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَ-ئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ» (البقرة:159)، في تفسير الصافي في ذيل هذه الآية وفي الاحتجاج وتفسير العسكري، قال أبو محمد (عليه السلام): (قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام): من خير خلق الله بعد أئمة الهدى ومصابيح الدجى؟ قال: العلماء إذا صلحوا، قيل:

ص: 338

فمن شر خلق الله بعد إبليس وفرعون وثمود؟ قال: العلماء إذا فسدوا هم المظهرون للأباطيل الكاتمون للحقائق وفيهم قال الله عز وجل: «أُولَ-ئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُون»).وكالحديث النبوي الشريف (إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله)(1).

والمروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (إن العالم الكاتم لعلمه يُبعث أنتن أهل القيامة ريحاً، تلعنه كل دابة حتى دواب الأرض الصغار).

وما رواه يونس بن عبد الرحمن قال: روينا عن الصادقين (عليهم السلام) أنهم قالوا: (إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه، فإن لم يفعل سُلب نور الإيمان).

3- إن جعل تجويز التأثير شرطاً يعني سقوط الوجوب عند الشك في إحرازه؛ لجريان البراءة من الوجوب وهذا اللازم بعيد إذ بناءً عليه لا يثبت الوجوب إلا عند العلم بالتأثير وهو خلاف بناء الأصحاب كما اعترف به المحقق العراقي(2)

(قدس سره)، ويكون الإشكال أأكد على من جعل الشرط هو التأثير لإطلاق أدلة وجوب الأمر والنهي ولا يخرج منها إلا حالة العلم بعدم التأثير.

4- بناءً على ما تقدّم مراراً من كون الأمر والنهي مأخوذين على نحو الموضوعية للملاكات التي ذكرناها هناك، فيجبان بنفسيهما بغضّ النظر عن التأثير وعدمه.

ص: 339


1- تجد الروايات في وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب 40، ح 1، 2، 9.
2- شرح تبصرة المتعلمين: 4/451.

5- من المتفق عليه تعلق غرض المولى من تشريع الفريضة بتحقيق التأثير، فإذا ظنّ أو احتمل عدم التأثير فليس الموقف أن يسقط الوجوب ويهمل غرض المولى، بل أن يبذل جهده لتشخيص أسباب عدم التأثير ومن ثم العمل على إزالة هذه الموانع إذا فرضت. وهذا هو الذي يأمله الشارع المقدس من العباد وليس التذرع بهذه الدعاوى للتنصل من المسؤولية. ويوجد هنا كلام مفيد لأحد الأعلام المعاصرين قال فيه: ((إنه بمجرد عدم تأثير أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر لا يسقط عنا هذا الفرض ولا يصح منا الاعتذار بعدم التأثير بل يلزم علينا الإقدام والسعي في تهيئة وإعداد وتوفير مقدمات التأثير وتحصيل القدرة الموجبة له والواجب علينا قبل ذلك كله هو التفكير في أن المانع من التأثير ماذا؟ هل هو الخلاف والتنازع الموجود بين المسلمين في مقابل اتحاد خصومهم من المستعمرين والمستثمرين وأعداء الدين؟ فالعلاج حينئذٍ إنما يحصل بالسعي البالغ والحثيث في إزالة هذا الاختلاف وإيجاد وحدة الكلمة فإن للاتحاد والتعاون أثراً عظيماً في حصول القدرة كما أن للتنازع تأثيراً بالغاً في تحقق الفشل وذهاب الريح.

وإن كان المانع من التأثير هو ضعفهم وفقدان قدرتهم من جهة التجهيزات1- المالية أو الأنظمة الاقتصادية والعسكرية فلا بد حينئذٍ من السعي في رفع هذا المانع بتقوية المجال المالي وإيجاد النظام الاقتصادي الكامل وبالإعداد ما استطاعوا من قوة ومن رباط الخيل والتجهيز وتهيئة الأسباب لتحصل لهم القوة والقدرة.

وإن كان المانع من تأثير أمرهم ونهيهم هو جهلهم وعدم تقدمهم العلمي والثقافي فالعلاج حينئذٍ هو تحصيل العلم والسعي في تحقيق التقدم العلمي والثقافي، وإن كان المانع من التأثير عدم وجود أشخاص مفكرين باحثين وذوي الخبرة والصلاحية بينهم أو قلة وجودهم فالواجب

ص: 340

حينئذٍ تأسيس المراكز التربوية لتربية الأشخاص ذوي الصلاحية والاستعداد.

وإن كان المانع هو عدم وجود برنامج وأنظمة في أمورهم فاللازم عليهم حينئذٍ تنظيم الأنظمة والقوانين في سبيل الوصول إلى أهدافهم.

وبالجملة لا بد لهم من التفكير أولاً ثم الإقدام والسعي ثانياً لإزالة الموانع للتأثير وإيجاد الأسباب مقدمة لتأثير الأمر والنهي من جهة حكم العقل الحاكم به في هذا الباب وتأسياً بسيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) والأئمة الهداة (عليهم السلام) أيضاً كما هو واضح لمن سبر التأريخ))(1).

أقول: شخّصنا في جملة من خطاباتنا أسباب تردي المسلمين وضعف كيانهم وانتشار الفسق والانحراف، وذكرنا عدداً منها وعلى رأسها تقاعس القيادة الدينية وسلبيتها واهتمامها بأنانيتها ومداهنتها، وأثبتت التجارب تفاعل الأمة مع حركة العلماء العاملين الرساليين.

وعلى أي حال ففي ضوء ما تقدم يُعلم بُعد القول الثالث عن الصواب وكذا الثاني لأن غلبة الظن بعدم التأثير يجتمع معه احتمال التأثير وقد علمنا كفايته أما الأول فيمكن تقريبه إلى ما ذكرناه.

فالصحيح أن نقول هنا ما قلناه في شرط الإصرار من أن جعل احتمال التأثير شرطاً للوجوب غير صحيح، فلو قالوا إن من مسقطات الوجوب العلم بعدم التأثير لكان أليق.

ونضيف هنا عدة فوائد لتتميم البحث:

ص: 341


1- الشيخ حسين نوري الهمداني، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، 86-87.

الأولى: تظهر ثمرة لهذا الشرط في البحث الآتي (صفحة 394) عن شرط الأمن من الضرر وانتفاء المفسدة حيث نختار جريان قواعد باب التزاحم بين الضرر ومفسدة ترك الأمر والنهي، وهذا إنما يجري في حالة إحراز التأثير، أما مع عدم إحرازه فإنه يضعف من ملاك تقديم الأمر والنهي.الثانية: إن هذا الشرط –لو قلنا به بمرتبة ما- هو للوجوب وليس للجواز فلو انتفى احتمال التأثير سقط الوجوب لا الجواز، قال الشهيد الثاني (قدس سره): ((قيل هنا أن الوجوب عند عدم تجويز التأثير يندفع دون الجواز بل الاستحباب))(1)

وحكى صاحب الجواهر (قدس سره): ((تصريح غير واحد بأن الساقط مع العلم بعدم التأثير الوجوب دون الجواز، بل عن بعض الأصحاب استحبابه))(2).

وعلى هذا فمن ترك هذه الوظيفة المباركة متذرعاً بدرجة ما من هذا الشرط فقد ترك فعلاً محبوباً ومطلوباً لله تعالى إما على نحو الوجوب أو الاستحباب.

هذا ولكنهم لم يذكروا وجهاً لبقاء الاستحباب بعد سقوط الطلب بانتفاء الشرط، وقد يُعدّ حينئذٍ لغواً محضاً فما وجه استحبابه؟.

نعم يمكن تقريب وجهين للاستحباب:-

1- أخذ إطلاقات الأمر والنهي على نحو تعدد المطلوب وأن شرط تجويز التأثير قيد للوجوب فقط لا لأصل الطلب فإذا انتفى الشرط بقيت الإطلاقات دالة على الاستحباب.

2- ما قلناه في تقريب قوله تعالى: «وَإذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنهُم» وتشهد له السيرة العملية لمبلغي رسالات ربهم والداعين إلى الله تبارك وتعالى.

ص: 342


1- مسالك الأفهام: 3/102.
2- جواهر الكلام: 21/369.

الثالثة: كما اختلفوا في مراتب ظن عدم التأثير المسقط للوجوب كذلك اختلفوا في شمول هذه الشرائط لمراتب الأمر والنهي، قال العلامة (قدس سره) في المنتهى: ((وقد جعل أصحابنا هذا شرطاً على الإطلاق، والأولى أن يجعل شرط الأمر بالمعروف والنهي عن المكر باليد واللسان دون القلب))(1).

أقول: ربما جعل خبر الحارث بن المغيرة المتقدم دليلاً عليه.

وفي الحقيقة فإن هذا التفصيل يكون له وجه لو اعتبرنا الإنكار القلبي المجرد من مراتب النهي عن المنكر وهو أمر قابل للمناقشة لعدم صدق الأمر والنهي عليه بذاته ما لم يقترن بشيء من إظهار عدم الرضا والكراهة والامتعاض ونحو ذلك، وسيأتي في الفصل الآتي إن شاء الله تعالى، وإلا فهو واجب مستقل مرتبط بأصل الإيمان لذلك جعل البعض هذا الواجب في كتاب الإيمان كما تقدم في البحوث التمهيدية وغيرها، فهو غير مشمول بهذا الشرط ولا غيره إلا الشروط العامة للتكليف كأي من الواجبات المطلقة.وصرّح المحقق الأردبيلي بأن ذلك لا يختص بهذا الشرط، بل يعمّ جميع الشروط(2).

ملحق: وجوب مقدمات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

قال سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره): ((يجب إيجاد مقدمات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك:

أولاً: بتعلم الأحكام الشرعية الضرورية في الحياة ليعرف الفرد المعروف والمنكر من نفسه وغيره.

ثانياً: بإيجاد المجتهد المطلق الذي يجوز تقليده. وذلك بتصدي جماعة كافية لتعلم العلوم الدينية ليحصل بعضهم على هذه الدرجة الرفيعة. ولا يجوز لأي مجتمع إهمال ذلك بحيث يحصل في المستقبل زوال المجتهدين كلهم وعدم تعويضهم بآخرين.

ص: 343


1- منتهى المطلب: 15/239.
2- مجمع الفائدة: 7/539.

ثالثاً: بإيجاد القاضي الشرعي الجامع للشرائط. ليمكنه حل المخاصمات بين الناس: وذلك بتعلم العلوم الدينية، كما قلنا ولا يجوز إهمال ذلك أيضاً، بحيث يعود الأمر كله إلى القضاء الدنيوي))(1).

أقول: المورد الأول الذي ذكره (قدس سره) مما جعلوه من شروط الوجوب، وعندهم كبرى أن مقدمات الوجوب لا يجب تحصيلها، فالقول بوجوبها على خلاف القاعدة، أما عندنا فلا إشكال لأننا لا نسلّم بإطلاق هذه الكبرى، مضافاً إلى أننا اعتبرنا هذه الشروط للواجب وليس للوجوب الذي هو مطلق، بمعنى أن الجميع مخاطب بالوجوب، إلا أن من يتصدى له لا بد أن يكون عالماً بالمعروف والمنكر.

وهكذا الشروط الأخرى التي ذكروها للوجوب ومنها ما نحن فيه أعني احتمال التأثير فإنه تجب مقدمات تحقيقه، وهذا المطلب لم يتعرضوا له هنا(2)، لكنهم ذكروا له مورداً في باب المكاسب المحرمة عند التعرض لولاية الجائر.

قال المحقق الحلي (قدس سره) في المسألة الرابعة في ذيل المكاسب المكروهة: ((الولاية من قبل السلطان العادل جائزة وربما وجبت كما إذا عيّنه إمام الأصل، أو لم يمكن دفع المنكر أو الأمر بالمعروف إلا بها)).

وعلق صاحب الجواهر (قدس سره) بعد أن وصف هذا الوجوب بالعيني وأضاف إلى السلطان نائبه قائلاً: ((مع فرض الانحصار في شخص مخصوص فإنه يجب عليه حينئذٍ قبولها بل تطلبها والسعي في مقدمات تحصيلها حتى لو توقفت على إظهار ما فيه من الصفات أظهرها، كل ذلك لإطلاق ما دلّ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتجب مقدماته كما انه يجب السعي فيها إلى أن يحصل العجز من غير فرق بين ما كان من فعل الغير وعدمه)).

ص: 344


1- منهج الصالحين: 1/236، المسألة (877).
2- وجدت أن الشيخ حسين النوري الهمداني أشار إلى المطلب هنا في كتابه: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 82.

أقول: هذا شاهد على أن عدم احتمال التأثير لا يسقط الوجوب وإنما يوجب السعي لإزالة الموانع منه. ثم ردّ (قدس سره) على إشكال أن هذه من مقدمات الوجوب التي لا يجب تحصيلها، قال (قدس سره): ((ودعوى أن الولاية من مقدمات القدرة التي هي شرط الوجوب، فلا يجب تحصيلها ولا قبولها لعدم إطلاق التكليف بالنسبة إليها، يدفعها أن إطلاق الأمر بالمعروف يقتضي وجوب سائر المقدمات، ولا يسقط إلا بالعجز فيندرج فيها الولاية وغيرها بعد فرض القدرة عليها، وبذلك يفرق بين المقام والحج المشروط وجوبه بالاستطاعة التي لا يدخل فيها غير المالك، وإن تمكن من تكسب ما يستطيع به، ولذا قلنا هناك بعدم الوجوب عليه ضرورة عدم صدق الاستطاعة عليه بذلك، بخلاف المقام الذي لم يعلق وجوبه على لفظ يرجع فيه إلى العرف، بل أطلق الوجوب ومقتضاه عقلاً الامتثال حتى يتحقق العجز، ولا ريب في انتفائه هنا بعد فرض وجود القدرة على الولاية مثلاً على وجه لا تنافيه شيء من الأدلة الشرعية التي تقتضي سقوط التكليف بتحصيلها من العسر والحرج والضرر ونحوها كما هو واضح بأدنى تأمل))(1).

أقول: لا يفرق فيما نحن فيه بين الولاية للسلطان العادل أو الجائر إذا توقف إقامة المعروف وإزالة المنكر عليها سوى التزاحم مع الحرمة الذاتية والعارضة في الثانية وهذا غير مرتبط بمحل الشاهد وتجري فيه قواعد باب التزاحم.

وقال الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((ولا إشكال في وجوب تحصيل الولاية إذا كان هناك معروف متروك أو منكر مركوب، يجب فعلاً الأمر بالأول والنهي عن الثاني))(2).

ص: 345


1- جواهر الكلام: 22/155-156.
2- المكاسب: 2/84.

أقول: وجود هذه المصلحة والملاك الراجح في الولاية للجائر مع ملاك المفسدة الثابتة فيها يعطي وجهاً لحل التعارض في روايات الولاية للجائر بين التغليظ بالحرمة والحث الأكيد، والأول معروف فنذكر روايتين للثاني:

أولاهما: مصححة زيد الشحام في الأمالي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من تولى أمراً من أمور الناس فعدل فيهم، وفتح بابه ورفع ستره، ونظر في أمور الناس، كان حقاً على الله أن يؤمّن روعته يوم القيامة ويدخله الجنة)(1).

ثانيهما: ما رواه النجاشي في رجاله في ترجمة محمد بن إسماعيل بن بزيع عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: (إن لله تعالى في أبواب الظالمين من نوَّر الله به البرهان، ومكّن له في البلاد؛ ليدفع بهم عن أوليائه ويصلح الله بهم أمور المسلمين، إليهم ملجأ المؤمنين من الضر، وإليهم مرجع ذوي الحاجة من شيعتنا، بهميؤمن الله روعة المؤمنين في دار الظلمة، أولئك المؤمنون حقاً، أولئك أمناء الله في أرضه، أولئك نور الله في رعيته يوم القيامة، ويزهر نورهم لأهل السماوات كما يزهر نور الكواكب الدرية لأهل الأرض، أولئك من نورهم يوم القيامة تضيء القيامة، خلقوا –والله- للجنة وخلقت الجنة لهم فهنيئاً لهم، ما على أحدكم أن لو شاء لنال هذا كله؟ قلت: بماذا، جعلت فداك؟ قال: يكون معهم فيسرنا بإدخال السرور على المؤمنين من شيعتنا، فكن منهم يا محمد)(2).

أقول: ذكرنا هذا المطلب المختصر هنا لتأكيد العنوان وسنبحثه مفصلاً في فصل خاص بإذن الله تعالى.

ص: 346


1- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب 46، ح7.
2- رجال النجاشي: 331، ذيل ترجمة محمد بن إسماعيل بن بزيع (رقم 893)، مع اختلاف في بعض الألفاظ.
فروع في احتمال التأثير وفي ممارسة الوظيفة عموماً:

أورد بعض الأعلام المعاصرين فروعاً على هذا الشرط نذكر جملة منها لنكات سنشير إليها:

(منها) بيان تعدد أشكال وأساليب التأثير المحتمل مما يجعل افتراض عدمه لا معنى له.

(ومنها) النقض على المشهور الذي قال بهذا الشرط.

(ومنها) تنمية الوعي الحركي والعمل الاجتماعي بإلفات النظر إلى عدد من أساليب العمل الرسالي التي حصل الالتفات لها بعد النهضة الإسلامية المعاصرة.

الفرع الأول(1):

لو ارتكب شخص حرامين أو ترك واجبين وعلم أن الأمر بالنسبة إليهما معاً لا يؤثران واحتمل التأثير بالنسبة إلى أحدهما بعينه وجب بالنسبة إليه دون الآخر، ولو احتمل التأثير في أحدهما لا بعينه تجب ملاحظة الأهم، فلو كان تاركا للصلاة والصوم وعلم أن أمره بالصلاة لا يؤثر واحتمل التأثير في الصوم يجب، ولو احتمل التأثير بالنسبة إلى أحدهما يجب الأمر بالصلاة، ولو لم يكن أحدهما أهم يتخير بينهما، بل له أن يأمر بأحدهما بنحو الإجمال مع احتمال التأثير كذلك.

أقول: على المختار فإن الوجوب مطلق فيجب الأمر بهما معاً بغضّ النظر عن التأثير وعدمه ويمكن أن يوصل المطلوب بكلام جامع للأمرين كوجوب أداء الفرائض وترك المحرمات ونحو ذلك، ويترك الآخر وتوفيقه في الأخذ وعدمه.

ص: 347


1- الفروع من الأول إلى الرابع عشر مع ما تضمنته من مسائل في تحرير الوسيلة: المسائل: 4 إلى 20. الصفحتان: 422-423.

نعم إذا دار الأمر بين الاثنين بحيث أنه لو أمره بهما معاً عاند وارتكب المخالفتين فإنه يعمل بهذه التفاصيل وهذه مسألة أخرى تأتي إن شاء الله تعالى.

الفرع الثاني: لو علم أو احتمل أن أمره أو نهيه مع التكرار يؤثر وجب التكرار.

أقول: وجهه أن مقتضى إطلاق الأدلة وجوب الفرد الثاني إذا لم ينجح الفرد الأول وهكذا، وفي هذا مخالفة للمشهور؛ لأن الوجوب يسقط عندهم بعدم التأثير الأول، فيكون نقضاً عليهم إما من جهة عدم اشتراط التأثير أو من جهة وجوب مقدمات الوجوب.

وتقريب الأول: أنه يظهر من هذا الفرع أن القدر المتيقن مما يسقط به الوجوب هو العلم المطلق بعدم التأثير ولا يستطيع أن يدعيه أحد؛ لإمكان تحقيقه بالتكرار ونحوه مما يأتي إن شاء الله تعالى.

وتقريب الثاني: أن من شروط الوجوب احتمال التأثير وهو متوقف على التكرار بحسب فرض المسألة فأصبح التكرار من مقدمات الوجوب وقد أوجبه.

الفرع الثالث: لو علم أو احتمل أن إنكاره في حضور جمع مؤثر دون غيره فإن كان الفاعل متجاهراً جاز ووجب، وإلا ففي وجوبه بل جوازه إشكال.

أقول: الإشكال في جوازه بلحاظ غير المتجاهر للزوم مفسدة وهي الهتك وإشاعة الفاحشة ونحو ذلك ونحن لا نؤمن بأن الغاية تبرر الوسيلة، ولا بد أن تكون الآلية مشروعة لامتثال الفريضة، وحينئذٍ تجري قواعد التزاحم من تقديم الأهم، وليس سقوط الوجوب مطلقاً.

وفي هذا الفرع نقض على المشهور كسابقه لإيجابه الأمر والنهي أمام الجمع وهو من المقدمات لتحصيل التأثير.

ويمكن توسعة هذا الفرع لنقول أنه يجب تهيئة الظرف والمناخ المناسبين والبيئة الملائمة لإنجاح عملية الأمر والنهي ومنها المورد المذكور أي كون الممارسة في جمع، ومن موارده اختيار الزمان المناسب كشهر رمضان أو محرم، واختيار

ص: 348

المكان المناسب كالمسجد أو العتبات المقدسة، أو الحالة المناسبة كرقّة قلبه في مناسبة حزينة ونحو ذلك.

كما يمكن إضافة فرع هنا بلحاظ الجمع، بأنه لو علم أنه لوحده لا يؤثر لكنه احتمل أنه لو اجتمع مع آخرين فإنهم يؤثرون ويغيّرون ويصلحون ولو بالتدريج وجب عليهم هذا التجمع ووجبت مقدماته.

وهذا ما جعلته في بعض (خطابات المرحلة) وجهاً لوجوب تشكيل الكيانات السياسية والجمعيات الإصلاحية للتمكن من التأثير في إصلاح الأمة ووجوبها بنفس أدلة وجوب هذه الفريضة المباركة.

الفرع الرابع: لو علم أن أمره أو نهيه مؤثر لو أجازه في ترك واجب آخر أو ارتكاب حرام آخر فمع أهمية مورد الإجازة لا إشكال في عدم الجواز وسقوط الوجوب، بلالظاهر عدم الجواز مع تساويهما في الملاك وسقوط الوجوب، وأما لو كان مورد الأمر والنهي أهم فإن كانت الأهمية بوجه لا يرضى المولى بالتخلف مطلقا كقتل النفس المحترمة وجبت الإجازة وإلا ففيه تأمل وإن كان لا يخلو من وجه.

أقول: فرض المسألة أن المأمور المنهي مرتكب لعدة مخالفات لا يستطيع الآمر الناهي نهيه عنها جميعاً، وأنه لا يستجيب للأمر والنهي عن أحدها إلا إذا رخّص له في الأخرى فهل يجوز هذا الترخيص؟.

ونعلّق هنا بأن التعبير بالإجازة فيه مسامحة ولعله يريد بها غضّ الطرف وعدم أمره ونهيه عن مورد من أجل إنجاح الوظيفة في الفرد الآخر ولمنع عناده والإصرار على الموردين المخالفين، وحينئذٍ يكون التفصيل المذكور لا معنى له؛ لأن الآمر الناهي يعمل ما في وسعه فيأمر وينهى بالمقدار المتيسر له، وإذا كان كل منهما متيسّراً قُدّم الأهم.

أما إذا أراد من الإجازة ظاهر معناها أي تجويز الفعل له فضلاً عن تأييده ودعمه فهذا مما لا يحل له حتى لو كان الفعل المجتنب أهم، فما استوجهه

ص: 349

(قدس سره) في ذيل كلامه غير تام، وإلا حصلت جرأة على ارتكاب المحرمات بحجة المصلحة الأهم، وسيأتي في الفرع الثامن قوله بهذا.

أما الجواز في حالة ما إذا كان المورد مما لا يرضى الشارع بتخلفه كقتل النفس فهذا صحيح إلا أنه يمكن القول أنه واجب مستقل وهو أجنبي عن الموضوع لدخوله في اهتمام الشارع المقدس بحفظ النفس المحترمة والعرض.

الفرع الخامس: لو علم أن إنكاره غير مؤثر بالنسبة إلى أمر في الحال لكن علم أو احتمل تأثير الأمر الحالي بالنسبة إلى الاستقبال وجب، وكذا لو علم أن نهيه عن شرب الخمر بالنسبة إلى كأس معين لا يؤثر لكن نهيه عنه مؤثر في تركه فيما بعد مطلقا أو في الجملة وجب.

أقول: هذا الفرع لا وجه له على المشهور لأنه إذا علم عدم التأثير في الفرد الحالي سقط الوجوب، وقد يحرم أمره ونهيه لبعض العناوين الثانوية، والفرد المستقبلي لم يتنجز موضوعه حتى يجب الأمر والنهي بلحاظه، فما هو مسوّغ الوجوب؟

ومنه يُعلم عدم تمامية ما قيل في توجيهه من أنه ((واضح بناءً على طريقية الأمر والنهي المحضة، إذ المدار على تحقق المعروف وترك المنكر فهما الواجبان بالأصالة، والأمر والنهي إنما وجبا مقدمة))(1).

أما بناءً على ما اخترناه فالوجوب بلحاظ الأول مطلق لعدم صحة الاشتراط ويكون تأثيره لاحقاً ثمرة أخرى للامتثال.الفرع السادس: لو علم أن أمره أو نهيه بالنسبة إلى التارك والفاعل لا يؤثر لكن يؤثر بالنسبة إلى غيره بشرط عدم توجه الخطاب إليه وجب توجهه إلى الشخص الأول بداعي تأثيره في غيره.

ص: 350


1- موسوعة الفقه الإسلامي: 17/204.

أقول: يأتي هنا نفس الإشكال السابق على المشهور من جهة عدم وجود المسوّغ لأمر ونهي الأول.

وفرّع عليه بعضهم بقوله: ((وأما لو فرض الأثر المترتب على الأمر والنهي غير وقوع المعروف وارتفاع المنكر، سواء من المأمور والمنهي أم من غيره كتعلّم الحكم الشرعي وغيره فعلى الموضوعية يجب، وعلى الطريقية لا، ولذا نفى السيد الكلبايكاني العلم بالوجوب في هذا الفرض ما لم يعد السكوت إمضاءً لتوهين فاعل المنكر وتارك المعروف بحكم الله فقد لا يؤثر أحياناً النهي عن المنكر في الشخص حسب ما تدلّ عليه القرائن، لكن يمكن أن يلتفت الآخرون الحاضرون، فيذكّرهم الناهي بهذا الحكم وأنه حكم الله، مثلاً: قد يشغّل سائق الحافلة الموسيقى والنهي لا يؤثر فيه، لكن بالنهي يتجدد في أذهان المسافرين أن الموسيقى في الإسلام حرام.

وفي هذه الحالة لا يحرز الوجوب إلا إذا كان ذلك استهانة بحكم الله عرفاً، وكان السكوت إمضاءً له وموافقة على فعله، ففي هذه الحال يجب الإعلام وتبرئة النفس))(1).

أقول: هذا التردد في الحكم بالوجوب لا مبرر له، لكن موضوعه غير محل الكلام.

الفرع السابع: لو علم أن أمر شخص خاص مؤثرٌ في الطرف دون أمره وجب أمره بالأمر إذا تواكل فيه مع اجتماع الشرائط عنده.

أقول: قوله (قدس سره): ((إذا تواكل)) يعني أنه علم بمورد الوجوب واشتغلت ذمته به لكنه لم يمتثل فكأنه يقيّد الوجوب في هذا الفرع بتنجّز الوجوب على الآخر بأن يكون عالماً به وبوقوعه ونحو ذلك، وأكدها بقوله: ((مع اجتماع الشرائط عنده)) بناءً على أن المقصود شرائط الوجوب، فيكون

ص: 351


1- موسوعة الفقه الإسلامي: 17/204، عن مجمع المسائل.

مورد هذا النهي تواكل الآخر عن أداء وظيفته وليس متعلق النهي المفروض ويخرج عن محل الكلام.

والصحيح الوجوب مطلقاً لوجوب التسبب إلى حصول التأثير مطلقاً.

وتشهد له رواية الكليني بسنده عن عبد الأعلى قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (والله مَا النَّاصِبُ لَنَا حَرْباً بِأَشَدَّ عَلَيْنَا مؤُونَةً مِنَ النَّاطِقِ عَلَيْنَا بِمَا نَكْرَهُ فَإِذَا عَرَفْتُمْ مِنْ عَبْدٍ إِذَاعَةً فَامْشُوا إِلَيْهِ وَرُدُّوهُ عَنْهَا فَإِنْ قَبِلَ مِنْكُمْ وَإِلا فَتَحَمَّلُوا عَلَيْهِ بِمَنْ يُثَقِّلُ عَلَيْهِ وَيَسْمَعُ مِنْهُ فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ يَطْلُبُ الْحَاجَةَ فَيَلْطُفُ فِيهَا حَتَّى تُقْضَى لَهُ فَالْطُفُوا فِي حَاجَتِي كَمَا تَلْطُفُونَ فِي حَوَائِجِكُمْ فَإِنْ هُوَ قَبِلَ مِنْكُمْ وَإِلا فَادْفِنُوا كَلامَهُ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ وَلا تَقُولُوا إِنَّهُ يَقُولُ وَيَقُولُ فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْمَلُ عَلَيَّ وَعَلَيْكُمْ أَمَا وَاللَّهِ لَوْ كُنْتُمْ تَقُولُونَ مَا أَقُولُ لأَقْرَرْتُ أَنَّكُمْ أَصْحَابِي هَذَا أَبُو حَنِيفَةَ لَهُ أَصْحَابٌ وَهَذَا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لَهُ أَصْحَابٌ وَأَنَا امْرُؤٌ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ وَلَدَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وَعَلِمْتُ كِتَابَ اللَّهِ وَفِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ شَيْ ءٍ بَدْءِ الْخَلْقِ وَأَمْرِ السَّمَاءِ وَأَمْرِ الأَرْضِ وَأَمْرِ الأَوَّلِينَ وَأَمْرِ الآخِرِينَوَأَمْرِ مَا كَانَ وأَمْرِ مَا يَكُونُ كَأَنِّي أَنْظُرُ إلى ذَلِكَ نُصْبَ عَيْنِي)(1).

أقول: ذكرت الرواية بطولها لعرض معاناة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) من أصحابهم وغربتهم، ولبيان عظمتهم وعلو مقامهم عند الله تبارك وتعالى، ومحل الشاهد قوله (عليه السلام): (وإلا فتحملوا عليه بمن..) وظاهره أن الأمر بإشراك الآخر المؤثر مطلق سواء كان ممن تنجّز الوجوب عليه أم لا.

وفي هذا نقض على المشهور؛ لأن المفروض سقوط الوجوب عن الأول لعدم تأثيره وسقوطه عن الثاني لعدم تنجزه عليه فلماذا وجب أمر الثاني بالأمر

ص: 352


1- أصول الكافي: ج2، باب الكتمان، ح5.

والنهي؟ مع أننا لا يمكن أن نقول بعدم الوجوب لعلمنا بإمكان تحصيل التأثير بالتسبيب.

الفرع الثامن: لو توقف تأثير الأمر أو النهي على ارتكاب محرم أو ترك واجب لا يجوز ذلك، وسقط الوجوب، إلا إذا كان المورد من الأهمية بمكان لا يرضى المولى بتخلفه كيف ما كان كقتل النفس المحترمة ولم يكن الموقوف عليه بهذه المثابة، فلو توقف دفع ذلك على الدخول في الدار المغصوبة ونحو ذلك وجب.

أقول: تقدم وجه هذا الفرع، واقتصر فيه هنا على القدر المتيقن من الرخصة خلافاً لما استوجهه في ذيل الفرع الرابع.

الفرع التاسع: ((لو كان الفاعل بحيث لو نهاه عن المنكر أصرّ عليه ولو أمره به تركه يجب الأمر مع عدم محذور آخر، وكذا في المعروف)).

أقول: بيان هذا الفرع أن العاصي لا يستجيب إذا نهاه عن منكر أو أمره بمعروف، ويصرّ على معصيته، لكن لو تصرّف بالعكس وأمره بفعل المنكر الذي يفعله وباجتناب المعروف الذي تركه استجاب: وجب أمره ونهيه بهذه الصيغة المؤثرة.

والتعليق: أن هذا الحكم صحيح من حيث المبدأ كما يقال؛ لعدم انحصار امتثال الفريضة بصيغة محددة للأمر والنهي أي لا ينحصر بصيغتي الطلب والزجر لأن المطلوب تحصيل متعلقهما ولو بعكس الصيغتين، ولكن ما ذكره (قدس سره) من الصيغة قد توجب تغريراً وشبهة عند المخاطب أو غيره فلا بد من الحذر في إلقاء مثل هذه الأحكام، ولذا قيّد بعدم وجود محذور آخر.

الفرع العاشر: لو علم أو احتمل تأثير النهي أو الأمر في تقليل المعصية لا قلعها وجب، بل لا يبعد الوجوب لو كان مؤثراً في تبديل الأهم بالمهم، بل لا إشكال فيه لو كان الأهم بمثابة لا يرضى المولى بحصوله مطلقاً.

أقول: القول بالوجوب عند تحقق التقليل فُسِّر بانحلال الكثرة إلى تعدد صدور المعصية من الفاعل، فالتأثير متحقق بلحاظ الأفراد التي يمكن تقليلها فيجب

ص: 353

الأمر والنهي بمقدارها، وتجري فيه قاعدة الميسور لا يُترك بالمعسور. وقوله (قدس سره): ((لا يبعد)) لا بد أن يلحظ فيه ما ذكره في الفرع الرابع المتقدم.الفرع الحادي عشر: لو احتمل أن إنكاره مؤثر في ترك المخالفة القطعية لأطراف العلم لا الموافقة القطعية وجب.

أقول: يريد (قدس سره) أن الأمر والنهي لو لم يؤثرا في تحقيق الموافقة القطعية لكنهما يؤثران في ترك المخالفة القطعية لم يسقط الوجوب، وكأن مناطه وجوب تحصيل المتيسّر، فإذا لم يتمكن من تحصيل الموافقة القطعية فليعمل على تحصيل الموافقة الاحتمالية بترك المخالفة القطعية، وهذا صحيح بلحاظ المورد الواحد لأن الميسور لا يترك بالمعسور كما يقال ولدخوله في عنوان تقليل المعصية، فلو فرض أنه كان عازماً على تناول قطعتي لحم من حيوانين يُعلم إجمالاً بعدم تذكية أحدهما فيقع في المخالفة القطعية، فلو تحقق بالأمر والنهي ترْكه لأحدهما كفى في عدم سقوط الوجوب لأن المخالفة الاحتمالية أهون من المخالفة القطعية.

أما إذا كانا لموردين مختلفين بأن دار الأمر بين المخالفة القطعية في مورد –كحلق اللحية- والمخالفة الاحتمالية في مورد آخر –كشرب الخمر- فيمكن مناقشة إطلاقه بأن الموافقة الاحتمالية تقترن بالمخالفة الاحتمالية وهو من القبيح الذي يحكم العقل باجتنابه فلا فرق بينها وبين المخالفة القطعية من حيث وجوب النهي عنهما، ولا ترتيب بينهما من هذه الجهة، أي لا نلتزم بتقديم المخالفة الاحتمالية على المخالفة القطعية مطلقاً، ولا بد –حين التزاحم- من تقديم الأهم بغضّ النظر عن كون المخالفة قطعية أو احتمالية.

ولذا قال في المسألة (16): ((لو علم أن نهيه مثلاً مؤثر في ترك المحرم المعلوم تفصيلاً وارتكاب بعض أطراف المعلوم بالإجمال مكانه فالظاهر وجوبه)) لكنه (قدس سره) استدرك قائلاً: ((إلا مع كون المعلوم بالإجمال من الأهمية بمثابة ما تقدم دون المعلوم بالتفصيل فلا يجوز)).

ص: 354

أقول: في هذا تأييد لما قلناه.

نعم بناءً على ما هو ظاهر المشهور من انصراف عنوان المنكر عن مورد المخالفة الاحتمالية يكون لإطلاق الترتيب المذكور وجه.

الفرع الثاني عشر: لو احتمل التأثير واحتمل تأثير الخلاف فالظاهر عدم الوجوب.

أقول: يمكن أن يكون وجهه انصراف أدلة وجوب الأمر والنهي عن المورد لدوران الأمر بين المحذورين مضافاً إلى ما يقال من أن دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة وإن كانت هذه الكبرى ليست مطلقة ولا بد من مراعاة تقديم الأهم على المهم(1).

وهذا يعني أننا قد نضطر إلى ترك ممارسة الوظيفة عندما نحتمل حصول ردة فعل عكسية وحصول نقيض الغرض، وهذا وجه لتفسير صحيحة الريان بن الصلتقال: (جاء قوم بخراسان إلى الرضا (عليه السلام) فقالوا: إن قوماً من أهل بيتك يتعاطون أموراً قبيحة، فلو نهيتهم عنها، فقال: لا أفعل، قيل: ولمَ؟ قال: لأني سمعت أبي (عليه السلام) يقول: النصيحة خشنة)(2).

فترك الواجب هنا ليس مطلقاً وإلا أدى إلى تعطيل الفريضة وإنما هو لحماية المأمور المنهي من الأسوأ ولانتظار الظرف المناسب من قبيل قوله تعالى: «وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (الأنفال:16).

ص: 355


1- تأمل في قوله تعالى: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ» (البقرة : 30).
2- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب 2، ح7.

الفرع الثالث عشر: لو احتمل التأثير في تأخير وقوع المنكر وتعويقه فإن احتمل عدم تمكنه في الآتية من ارتكابه وجب، وإلا فالأحوط ذلك، بل لا يبعد وجوبه.

أقول: جزمه (قدس سره) بالوجوب أولاً لأن احتمال عدم التمكن من المعصية لاحقاً مساوق لاحتمال التأثير وهو يقتضي الوجوب.

أما تردده ثانياً فلأن التأخير لا ينفع مع وقوعه في المعصية لاحقاً، لكن الوجوب أقرب لإطلاق الأدلة، ولأن تمكنه اللاحق معصية أخرى غير هذه الحالية التي وجب النهي عنها.

الفرع الرابع عشر: لو علم شخصان إجمالاً بأن إنكار أحدهما مؤثر دون الآخر وجب على كل منهما الإنكار، فإن أنكر أحدهما فأثر سقط عن الآخر، وإلا يجب عليه.

أقول: وجه الوجوب تحقق احتمال التأثير عندهما معاً؛ لأن احتمال كون كل منهما أن يكون هو المؤثر مساوق لاحتمال التأثير في الآخر.

وأورد (قدس سره) مسألتين أخريين أيضاً في العلم الإجمالي (هما 17، 20) يفرض فيهما احتمال التأثير في دفع المنكر واحتمال الإصرار عليه (تارة) بلحاظ نفس فعل الآمر الناهي و (تارة) بلحاظ فعل شخصين فقال في الأولى: ((لو احتمل التأثير واحتمل تأثير الخلاف فالظاهر عدم الوجوب)) وقال في الثانية: ((لو علم إجمالاً أن إنكار أحدهما مؤثر والآخر مؤثر في الإصرار على الذنب لا يجب)).

أقول: وجه عدم الوجوب هنا لأن احتمال التأثير معارض باحتمال الإصرار فيكون الحكم عدم الوجوب أي التخيير لدوران الأمر بين المحذورين، أو يريد بعدم الوجوب الحرمة لسقوط المسوّغ لولاية الأمر والنهي أو لقاعدة (دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة).

ونعلّق بأن هذا الحكم لا يمكن الأخذ به على إطلاقه، ففي المسألة الأولى يختلف الحكم بحسب الموارد فقد يكون المورد شخصاً تاركاً للصلاة فهنا يكون

ص: 356

أمره واجباً لأن ترك أمره ونهيه لا يغير شيئاً، وقد يكون المورد شخصاً عازماً على القتل ونهيه قد ينفع في ثنيه وقد يغريه بالقتل لأنه يرى نفسه متهماً بالقتل على أي حال فهنا يكون النهي محرماً.

وكذا بالنسبة للمسألة الثانية إذ قد يجب الأمر والنهي عليهما معاً إذا فرض ((إن إنكار أحدهما المؤثر في ارتفاع الذنب يؤثر في ارتفاعه ولو مع سبق الإنكارالآخر المؤثر في الإصرار فيجب الإنكار عليهما أيضاً لمعلومية التأثير في النتيجة))(1).

وقد يحرم عليهما معاً إذا فُرض العكس أي أن إنكار أحدهما المؤثر في الإصرار على الذنب يؤثر ولو مع لحوق الإنكار المؤثر في ارتفاع الذنب للعلم بالوقوع في المخالفة في النتيجة.

وذكر (قدس سره) فروعاً أخرى في الشرط التالي(2)

وهو انتفاء الضرر والمفسدة، نورد بعضاً منها بنفس التسلسل:

الفرع الخامس عشر: ((لو كان في سكوت علماء الدين والمذهب أعلى الله كلمتهم تقوية للظالم وتأييد له والعياذ بالله يحرم عليهم السكوت، ويجب عليهم الإظهار ولو لم يكن مؤثراً في رفع ظلمه)).

الفرع السادس عشر: ((لو كان سكوت علماء الدين والمذهب أعلى الله كلمتهم موجباً لجرأة الظلمة على ارتكاب سائر المحرمات وإبداع البدع يحرم عليهم السكوت، ويجب عليهم الإنكار وإن لم يكن مؤثراً في رفع الحرام الذي يرتكب)).

الفرع السابع عشر: ((لو كان سكوت علماء الدين ورؤساء المذهب أعلى الله كلمتهم موجباً لإساءة الظن بهم وهتكهم وانتسابهم إلى ما لا يصح ولا يجوز

ص: 357


1- موسوعة الفقه الإسلامي: 17/206.
2- تحرير الوسيلة: 1/427، المسائل (9، 10، 11).

الانتساب إليهم ككونهم –نعوذ بالله- أعوان الظلمة يجب عليهم الإنكار لدفع العار عن ساحتهم ولو لم يكن مؤثراً في رفع الظلم)).

أقول: هذه المفاسد وغيرها مما يترتب على سكوت العلماء ومراجع الدين تفسّر العهد الذي أخذه الله تعالى عليهم والذي قال عنه أمير المؤمنين (عليه السلام) في الخطبة الشقشقية: (وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم).

الفرع الثامن عشر(1):

لو كان تنظيم أمور الروحانية –أي الحوزة العلمية- من حيث التبليغ والدرس موجباً لتقدمهم في مقاصدهم الدينية ولازدياد توجه المسلمين إلى علماء الدين وإقبالهم على الدين وجب عليهم ذلك التنظيم.

ولو كان تحديد لباس الروحانية –أي الحوزة العلمية- ومنع الأشخاص الغير اللائقين من التلبّس بزي الروحانيين موجباً لازدياد اعتبار هذا اللباس في الأنظار ولمزيد إقبال الناس على الإسلام ومزيد تأثير لكلامهم في قلوب المتدينين وجب على القادر منهم ذلك التحديد.الفرع التاسع عشر: حيث أن ائتلاف علماء الدين ووحدة كلمتهم يورثان القوة والقدرة ولهما تأثير تام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب عليهم في كل البلدان والقرى أن يسعوا في رفع الاختلاف لو كان بينهم وإيجاد أسباب الاتحاد وحفظه.

الفرع العشرون: إذا كان تعلم علم أو فن مخصوص موجباً لمزيد التأثير في التبليع الديني وجب على المحصِّل القادر عليه الغير المشتغل بما يعادله أو يزيد عليه تعلم ذلك العلم والفن لهذا الغرض.

ص: 358


1- الفروع من الثامن عشر إلى الثالث والعشرين من كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للشيخ حسين نوري الهمداني: 80، 88، 89.

أقول: من أمثلته تعلم فن إدارة المجتمع وتنظيم المؤسسات والسياسة والاستفادة من تكنولوجيا المعلومات واستعمال الحواسيب الإلكترونية والدخول إلى مواقع التواصل الاجتماعي.

الفرع الحادي والعشرون: لو كانت كتابة المطالب الدينية بإنشاء خاص وأسلوب معين موجباً لمزيد التأثير في توجّه المسلمين إلى المعروف وإقصائهم عن المنكر أو تقليل المنكر وجب تعلم الكتابة على القادر عليها الغير المشتغل بما يعادلها.

الفرع الثاني والعشرون: لو كان تعلم اللغة الخاصة موجباً لمزيد نشر الدعوة الإسلامية وازدياد تأثير الدعوة وجب تعلم تلك اللغة على المحصِّل القادر عليه الغير المشتغل بما يعادله أو يزيد عليه.

الفرع الثالث والعشرون: لو كانت إقامة بعض العلماء في الحوزات العلمية بدون أثر حيث أنه بلغ من العلم ما استطاع أن يَبْلُغَ ولا تؤثِّر إقامته في الحوزات شيئاً في تقدمه العلمي وليس فيها مشتغلاً بالتدريس أيضاً وكانت مهاجرته إلى بعض البلدان أو القرى مؤثّرة في إقبال ساكني تلك البلاد أو القرى إلى الإسلام وتعلّم أحكامه والعلم بها وجبت عليه المهاجرة.

الفرع الرابع والعشرون(1):

((إذا توقف النهي عن المنكر على تشكيل جمعية وتهيئة أسباب، وما شاكل وجب على الجميع ذلك، قال تعالى: «وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ» (الأنفال:60) )).

الفرع الخامس والعشرون: ((إذا لم يمكن النهي عن المنكر أو الأمر بالمعروف إلا مع تصدي شخص لرئاسة الأمة وزعامة الطائفة، وجب ذلك مقدمة للأمر والنهي، كما أنه لو علم بأنه يتوقف الأمر والنهي والدعوة إلى الخير على كونه معاوناً للرئيس والزعيم: وجب ذلك)).

ص: 359


1- هذا الفرع والفروع الثلاثة بعده من فقه الصادق: 19/380، 384.

الفرع السادس والعشرون: ((إذا قام عالم جامع للشرائط بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوقف أداؤه على مشاركة الآخرين معه وتأييدهم له: وجب ذلك)).

الفرع السابع والعشرون: ((إذا تصدى لمنصب الزعامة والمرجعية من لا يهتم بأمور المسلمين ولا يقوم بهذه الفريضة العظيمة، وكان مائلاً إلى الدنيا، ومختلفاً إلى باب السلطان، وجب على آحاد المسلمين –وفي طليعتهم العلماء والمدرسون والفضلاءوالمحصلون- أمره بالقيام بالوظيفة، ونهيه عما هو فيه، وعدم الصلاة خلفه، وعدم الاختلاف إلى بابه.

ففي النبوي: (العلماء أمناء الرسل على عباد الله عز وجل ما لم يخالطوا السلطان، فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل، فاحذروهم واعتزلوهم)(1).

وفي الخبر: (العلماء أحباء الله ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولم يميلوا في الدنيا، ولم يختلفوا أبواب السلاطين، فإذا رأيتهم مالوا إلى الدنيا واختلفوا أبواب السلاطين فلا تحملوا عنهم العلم، ولا تصلّوا خلفهم، ولا تعودوا مرضاهم، ولا تشيعوا جنائزهم فإنهم آفة الدين وفساد الإسلام، يفسدون الدين كما يفسد الخل العسل)(2).

وفي حديث ابن عباس: إن أناساً من أمتي يتفقهون في الدين ويقرأون القرآن، ويقولون: نأتي الأمراء فنصيب من دنياهم ونعتزلهم بديننا، ولا يكون

ص: 360


1- المحجة البيضاء: 1/144، وأورده المتقي الهندي في كنزالعمال: 10/204، وقريباً منه في الكافي: 1/46.
2- السراج الوهاج للفاضل القطيفي: 22.

ذلك، كما لا يجتنى من القتاد إلا الشوك كذلك لا يجتني من قربهم إلا الخطايا)(1).

وفي النبوي: (إذا رأيت العالم يخالط السلطان مخالطة كثيرة فاعلم أنه لص)(2).

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة)).

(الأمر الثاني) عدم الضرر وانتفاء المفسدة

اشارة

(الأمر الثاني) عدم الضرر وانتفاء المفسدة(3)

عنون بعض الأصحاب هذا الشرط بعدم حصول الضرر وأطلقوا العنوان(4)

سواء لحق بالنفس أو العرض أو المال، لنفس الآمر الناهي أو لغيره من المحترمينفي العاجل أو المستقبل، ومقتضى إطلاقهم عدم الفرق بين كون الضرر يسيراً أو كبيراً ومن دون ملاحظة فإذا خاف على شيء من ذلك سقط الوجوب، وقد يحرم الأمر والنهي في بعض الحالات كما سنذكر إن شاء الله تعالى.

وعنون آخرون الشرط بانتفاء المفسدة كالحلبي في الكافي والمحقق الحلي في الشرائع، وهو أعم من الضرر الذي ينصرف إلى الشخصي عادة، بينما قد يُلحق الأمر والنهي مفسدة عامة بالمجتمع أو بالنظام الاجتماعي العام أو يشوّه صورة الإسلام وينفّر منه أو يهدد كيان المسلمين أو الحوزة العلمية ونحو ذلك،

ص: 361


1- سنن ابن ماجة: 1/94، تأريخ دمشق: 64/314. قال السيوطي: ((رواه ابن ماجة بسند رواته ثقات، وكذا ابن عساكر)) مما رواه الأساطين في عدم المجيء للسلاطين: 1/1-2.
2- الجامع الصغير للسيوطي: 1/97، ورواه الديلمي في مسند الفردوس: 1/276.
3- مر الأمر الأول (احتمال التأثير) صفحة 324، في شروط نفس الفريضة.
4- راجع النهاية للشيخ الطوسي (قدس سره): 299.

قال الشيخ (قدس سره) في كتاب الاقتصاد: ((سواء كان ما يقع عنده من القبيح صغيراً أو كبيراً من قتل نفس أو قطع عضو أو أخذ مال كثير أو يسير فإن الكل مفسدة))(1).

وقال ابن إدريس (قدس سره) في السرائر: ((ورابع الشروط أن لا يخاف على نفسه، وخامسها أن لا يخاف على ماله، وسادسها أن لا يكون فيه مفسدة)) ثم قال: ((فإن اقتصرت على أربعة شروط كان كافياً، لأنك إذا قلت: لا يكون فيه مفسدة، دخل فيه الخوف على النفس والمال لأن ذلك كله مفسدة)).

ومقتضى إطلاقهم عدم الفرق بين كون الضرر يسيراً أو كبيراً، ومن دون مراعاة حال الآمر الناهي واستعداده لتحمل الضرر، ولا ملاحظة حال المأمور المنهي، وهذا الإطلاق محل إشكال عند التحقيق ونبدأ أولاً ببيان:

الاستدلال على الاشتراط وعدمه:

استدل على هذا الاشتراط بوجوه:

(الأول) الإجماع الذي عبّر عنه بعض الأعلام بنفي الخلاف(2).

ويناقش صغروياً بالفرق بين الإجماع ونفي الخلاف، والثاني لا يلزم منه الأول ((سيما مع عدم تعرض جم غفير منهم كالصدوق في المقنع والسيد في الانتصار والناصريات والقاضي في الجواهر وابن زهرة في الغنية وابن سلار في المراسم لمسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أبداً ومع عدم ذكر بعضهم للشرائط إطلاقاً كالصدوق في الهداية))(3).

ص: 362


1- الاقتصاد: 149، فصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
2- الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان: 7/539، جواهر الكلام: 17/371.
3- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للشيخ الهمداني: 93.

وكبروياً لأنه ظاهر المدركية والاستناد إلى ما يأتي.

(الثاني) قال أبو الصلاح في الكافي: ((فالأمر والنهي متى ما كان سبباً لوقوع قبيح من المأمور المنهي أو من غيره، بالآمر الناهي أو بغيره، يزيد على المنكر أو ينقص، لولاه لم يقع، يجب الحكم بقبحه وبوجوب اجتنابه لأنه لا يجوز عقلاً ولا سمعاً من المكلف أن يختار القبيح ليرتفع من غيره))(1).

وقال المحقق الأردبيلي (قدس سره): ((لأنه قبيح، والضرر أيضاً قبيح، ودفع القبيح بالقبيح قبيح، ووجوب إدخال الضرر على نفسه أو المسلمين لدفع حرام غير ظاهر، وإن فرض كونه أقل من الأول))(2).

ويرد عليه:-

1- ((إن مورد بحثنا ليس مصداقاً لهذا اللون من التزاحم بين قبيحين؛ لأن رفع قبح العصيان ليس بارتكاب عصيان آخر بل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا ليس فيه قبح. نعم لازم الأمر والنهي الوقوع في المفسدة إلا أن هذا الفرد لا يعلم اندراجه تحت حكم العقل بقبح ذلك الفعل ووجوب اجتنابه))(3).

وحكم العقل دليل لبّي يقتصر منه على القدر المتيقن وهو دفع المفسدة بمفسدة أخرى لا دفعها بأمر حسن شرعاً وعقلاً ولكنه استلزم مفسدة بسبب طغيان المأمور المنهي.

2- إن المفسدة هنا يراد بها الضرر الحاصل من امتثال الأمر والنهي، وسيأتي إن شاء الله تعالى أنها ليست مفسدة وأن الشارع المقدس أمر بتحملها.

ص: 363


1- سلسلة الينابيع الفقهية: 9/46 عن الكافي.
2- مجمع الفائدة والبرهان: 7/539.
3- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للشيخ نوري حاتم الساعدي: 86.

3- لو تنزّلنا فإن هذا القبيح غير مسلَّم على إطلاقه إذ أن العقل لا يمانع من تحمّل بعض الضرر لتغيير المنكر بل يجده ضرورياً وفق قواعد باب التزاحم والشاهد على عدم القبح وجود تشريعات تتضمن التضحية بالنفس والمال كالجهاد والخمس، فهذا الدليل أخص من المدّعى.

(الثالث) ((بالأولوية من إظهار الكفر الذي جوّزته الآية الكريمة: «إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ، مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْأُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَ-كِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ» (النحل:105-106) بالإكراه))(1).

وفيه: إن الأولوية لا بأس بها، لكن المشكلة في الفرق بين الضرر الذي يتحقق معه الإكراه الوارد في الآية، والضرر الذي يقصدونه هنا في باب الأمر والنهي والثاني عندهم أوسع من الأول الذي يختص بالخوف على النفس ونحوه، فالدليل أضيق من المدعى.

(الرابع) ((نفي الضرر والضرار والحرج في الدين وسهولة الملة وسماحتها))(2).

وجوابه باختصار: إنه أخصّ من المدعى أيضاً؛ لأن الأخذ به على إطلاقه يلغي وجوب الفريضة أو يلزم منه تخصيص الأكثر لأن امتثال هذه الفريضة يقترن غالباً بالضرر المادي أو المعنوي «وَلَكِنَّ أَكثَرَهُم لِلحَقِّ كَارِهُونَ» (الزخرف:78) وتقدم قول الإمام الرضا (عليه السلام): (النصيحة خشنة)، ولا شك أن التعب وتحمل المشاق في طاعة الله تعالى محمود ومثمر حتى تداول القول (أفضل الأعمال أحمزها)(3)، وقد ضحى الإمام الحسين (عليه السلام)

ص: 364


1- موسوعة الفقه الإسلامي:17/209، عن الذخيرة في علم الكلام: 557.
2- جواهر الكلام: 17/371.
3- حديث نبوي مرفوع متداول لدى العامة، ليس في كتبهم الستة، واستغربه بعضهم، ونسبه ابن الأثير إلى ابن عباس، ومن ذكره من رواة الشيعة تسامح فيه أو نقله عرضاً أو من خلفيات ثقافته الأخلاقية. استدركه النمازي على سفينة البحار آخذاً له من شروحات المجلسي وبيانه لبعض الأمور دون أن يذكره المجلسي في البحار كرواية.

بنفسه الشريفة وأهل بيته وأصحابه لإقامة هذه الفريضة كما صرح (عليه السلام)، وهكذا زيد الشهيد بحسب ما ورد في ثناء الإمام الرضا (عليه السلام) عليه.

فلا بد من تقنين هذا الدليل وفق قواعد باب التزاحم، وأما ما ذكره (قدس سره) من سهولة الدين وسماحته فهو أجنبي عن المقام؛ لأنها واردة في مقابل التشدد والتضييق والغلو الذي ابتدعه اليهود والرهبانية التي ابتدعها النصارى، ولا تعني عدم وجود الصعوبات والمكاره في الشريعة الإسلامية، فمن كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة: (إن الجنة حُفَّت بالمكاره وإن النار حُفّت بالشهوات، واعلموا أنه ما من طاعة الله شيء إلا ويأتي في كره، وما من معصية الله شيء إلا يأتي في شهوة، فرحم الله رجلاً نزع عن شهوته وقمع هوى نفسه)(1).فما قاله (قدس سره) لا يصلح دليلاً حاكماً ولا تنفي سماحة الدين الأحكام إلا إذا رجعت إلى نفي الضرر والحرج، وسيأتي البحث في علاقة أدلة نفي الضرر والحرج بأدلة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن شاء الله تعالى.

(الرابع) الروايات:

منها: رواية مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وفيها (إنما هو على القوي المطاع، العالم بالمعروف من المنكر) إلى أن قال (عليه

ص: 365


1- نهج البلاغة: الخطبة (175).

السلام): (وليس على من يعلم ذلك في هذه الهدنة من حرج إذا كان لا قوة له ولا عذر (عدد) ولا طاعة).

أقول: تقدمت مناقشة هذه الرواية في مواضع عديدة وهي ضعيفة السند على مباني المشهور واستظهرنا أن موردها خاص بالخروج على السلطة في زمان الغيبة الذي يوصف بأنه زمن هدنة، والتحرك لتغيير الوضع الفاسد بعنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لذا اشترط الإمام (عليه السلام) القوة والعدد والطاعة.

وقد يناقش في دلالتها لكون سقوط الوجوب ((فيها من حيث عدم القدرة على تحقيق الغرض من الأمر والنهي للعجز، لا من حيث الضرر اللاحق على الآمر الناهي))(1).

ومنها: ما رواه يحيى الطويل صاحب المقري قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (إنما يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر مؤمن فيتّعظ، أو جاهل فيتعلم، فأما صاحب سوط أو سيف فلا)(2).

بتقريب أن سقوط الأمر والنهي مع صاحب السوط والسيف لخوف الضرر منه.

أقول: يمكن المناقشة بأنها ضعيفة السند، ومن حيث الدلالة فيظهر أنها رواية خاصة بمورد الموعظة والإرشاد والتعليم لا مطلق الفريضة، ((وقد يناقش فيها بأنها واردة في مورد عدم احتمال التأثير لا احتمال الضرر، بقرينة المؤمن الذي يتعظ والجاهل الذي يتعلم، ولا أقل من الإجمال، فيكون عنوان صاحب السوط كناية عن شدة قسوة القلب بحيث لا يحتمل تأثره))(3).

ص: 366


1- موسوعة الفقه الإسلامي: 17/210.
2- وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 2، ح2.
3- موسوعة الفقه الإسلامي: 17/210.

ولو افترضنا دلالتها على سقوط الوجوب للضرر فإنه بمستوى القتل فيكون الدليل أخص من المدعى.ومنها: رواية داود الرقي (الذي وصفه النجاشي بأنه ضعيف جداً) قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (لا ينبغي للمؤمن أن يُذلّ نفسه، قيل له: وكيف يذل نفسه؟ قال (عليه السلام): يتعرض لما لا يطيق)(1).

أقول: الرواية غير ظاهرة الدلالة على مطلوبهم ورويت بطريق آخر أجاب الإمام (عليه السلام): (يدخل فيما يعتذر منه).

ومنها: خبر الأعمش عن الإمام الصادق (عليه السلام) –في حديث شرائع الدين- قال: (والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان على من أمكنه ذلك، ولم يخف على نفسه ولا على أصحابه)(2).

ومنها: قوله (عليه السلام) في خبر مفضّل بن يزيد قال: قال لي: (يا مفضّل، من تعرّض لسلطان جائر فأصابته بليّة لم يؤجر عليها، ولم يرزق الصبر عليها)(3).

أقول: هذان الخبران وبقية أخبار الباب ضعيفة السند، وغير ظاهرة الدلالة على المطلوب لاحتمال كون موردها الخروج على السلطة لتغييرها بالقوة تحت عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وللأئمة (عليهم السلام) موقف من هذه الحركات المسلحة.

ويمكن حملها ((على صورة عدم القوة والقدرة وهي شرط عقلي، أو تحمل على صورة عدم إعداد المقدمات بحيث يقع عمله لغواً لا يترتب عليه أي

ص: 367


1- وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 13، ح1، 2.
2- وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 1، ح22.
3- وسائل الشيعة، أبواب الأمر والنهي، باب 2، ح3.

أثر إلا هلاك نفسه، أو على كون المورد جزئياً لا يجوز بسببه إيقاع النفس في المهالك أو نحو ذلك من المحامل))(1).

والخلاصة أن روايات هذه الطائفة ضعيفة السند وغير ظاهرة في المعنى الذي ذكروه، والأهم من ذلك وجود معارض قوي لها سيأتي إن شاء الله تعالى.

والنتيجة: عدم وجود أي دليل تام على الاشتراط إلا ما قيل من حكومة أدلة نفي الضرر والحرج والعسر وضرورة حفظ النظام الاجتماعي العام، وجريانها لا يختص بالمورد بل في سائر الأحكام الشرعية، فجعل عدم الضرر والمفسدة شرطاً لوجوب هذه الفريضة لا وجه له، وسيأتي أن الصحيح كونه شرطاً للتنجيز يلحظ عند الامتثال فيحصل التزاحم بين الضرر المتوقع والمفسدة المحتملة من ترك فريضة الأمر والنهي، وحينئذٍ تجري قواعد باب التزاحم بمراعاة الأهم، فإن كان الأهم مورد الأمر والنهي وجب تقديمه وإن كان فيه ضرر، وكلما ازدادت الأهمية اتسع حجم الضرر المرتكب.وقد أورد صاحب الجواهر (قدس سره) إشكالاً على تقديم أدلة لا ضرر وردّ عليه حاصله توهم وجود تعارض بين أدلة وجوب الأمر والنهي وأدلة نفي الضرر والحرج لأن النسبة بينهما من وجه كقوله تعالى: «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» (الحج:78) والحديث النبوي الشريف في موثقة زرارة وغيرها (فإنه لا ضرر ولا ضرار)(2)، وقال (قدس سره): ((والمناقشة بأن التعارض بينها وبين ما دل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من وجه يدفعها أولاً أن مورد جملة منها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نعم هو كذلك بالنسبة إلى نحو قوله صلى الله عليه وآله: (لا ضرر ولا ضرار) وقوله تعالى «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» ونحوهما، ومن التخصيص في

ص: 368


1- دراسات في ولاية الفقيه للشيخ المنتظري (قدس سره): 2/255.
2- وسائل الشيعة: كتاب إحياء الموات، باب 12، ح3.

السابقة يعلم الرجحان حينئذ في هذه العمومات، خصوصاً بعد ملاحظة غير المقام من التكاليف التي تسقط مع الضرر كالصوم ونحوه))(1).

توضيح كلامه (قدس سره): أن جملة من الروايات الدالة على سقوط الوجوب عند الضرر كرواية مسعدة وخبر الأعمش واردة في فريضة الأمر والنهي فهي دليل خاص على حكومة أدلة نفي الضرر، ومن هذه الموارد الخاصة نعمّم الحكومة إلى سائر الموارد مما هي ظاهراً من قبيل العموم من وجه، مؤيدة بحكومتها في التكاليف الأخرى كالصوم.

أقول: يمكن الجواب عن الإشكال لمصلحة صاحب الجواهر (قدس سره) بأكثر من وجه:-

1- إن أدلة الأحكام الثانوية مقدمة دائماً على أدلة الأحكام الأولية وإن كانت النسبة بينهما العموم من وجه، ولو افترضنا التعارض والتساقط لم يسلم دليل للأحكام الثانوية لأن النسبة دائماً هي هذه.

2- لو تنزلنا وقلنا بالتعارض والتساقط فإن نتيجته عدم الوجوب وهو عين ما يريده القائل بحكومة أدلة لا ضرر.

أما ما أجاب به (قدس سره) فإنه قابل للنقاش في عدة مواضع:

فقوله: ((إن مورد جملة منها)) معارض بأن مورد جملة أكثر منها تقديم الأمر والنهي على الضرر وسنوردها إن شاء الله تعالى مضافاً إلى المناقشة في أصل صحة الاستدلال بما ذكر.

وقوله: ((ومن التخصيص)) يناقش كبروياً بعدم وجود وجه للتعميم كعدم الفصل ونحوه، ولم تحرر كبرى في الأصول أنه لو كانت حصة من دليل نسبتها العام والخاص مع دليل آخر وحصة نسبتها العموم من وجه فهل تعمم

ص: 369


1- جواهر الكلام: 21/372.

نتيجة الأولى علىالثانية؟ بل الدليل على خلاف التعميم لوجود الطائفة الثانية الآتية التي فيها تقديم الأمر والنهي على الضرر.

فهذا الجواب غير كافٍ لحل الإشكال؛ لوجود أدلة معارضة لهذه الحكومة وتدل على وجوب إقامة هذه الفريضة مع وجود الضرر بأعلى درجاته والحث على الإقدام عليه، وذم المتخاذل عنه، مضافاً إلى عدم صلاحية أدلة لا ضرر للحكومة على أدلة وجوب الأمر والنهي بشكل مطلق.

ونكتفي هنا بذكر جملة من الروايات الدالة على عدم الاشتراط، وهي كثيرة نبدأ أولاً ببعضها التي فسّرت جملة من الآيات الكريمة بما نحن فيه، ومنها:-

1 – قوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ » (البقرة:207)، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) (أن المراد بقوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ» (البقرة:207) الرجل الذي يقتل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)(1).

2- ما ورد في تفسير قوله تعالى: «يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ» (لقمان:17) عن علي (عليه السلام) أنه قال: (اصبر على ما أصابك من المشقة والأذى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)(2)

وقال الشيخ الطوسي في التبيان في تفسير الآية: ((وفي ذلك دلالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كان فيه بعض المشقة))(3).

ص: 370


1- مجمع البيان: 2/301.
2- تفسير الصافي: 2/312.
3- التبيان: 8/279.

3- ما ورد في تفسير قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ» (آل عمران: 21) عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه سُئل: أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة؟ قال: رجل قتل نبياً أو رجلاً أمر بمعروف أو نهى عن منكر، ثم قرأ: «وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ» ثم قال: قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل واثنا عشر رجلاً من عبّاد بني إسرائيل فأمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً في آخر النهار في ذلك اليوم وهو الذي ذكره الله تعالى.ومن الواضح أن قيام مائة واثنى عشر رجلاً من العبّاد بعد قتل ثلاثة وأربعين نبياً لا يتحقق إلا بعد أن كان كل واحد منهم يظن أو يعلم بالضرر في حقه فقتلوا في هذه السبيل عن آخرهم.

وفي مجمع البيان في تفسير هذه الآية عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر يُقتل عليه)(1).

4- خبر جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: (يكون في آخر الزمان قوم يُتَّبع فيهم قوم مراؤون يتقرؤون ويتنسكون، حدثاء سفهاء لا يوجبون أمراً بمعروف ولا نهياً عن منكر إلا إذا أمنوا الضرر، يطلبون لأنفسهم الرخص والمعاذير، يتبعون زلات العلماء(2)

وفساد عملهم، يقبلون على الصلاة والصيام وما لا يكلِمهم في نفس ولا مال، ولو

ص: 371


1- المصدر السابق: 97-98.
2- يظهر من قرينة السياق أن مصاديق قول الإمام (عليه السلام) هو ما يفعله بعض المتزيين بزي الدين من تسقيط وتشويه وافتراء بحق العلماء العاملين الرساليين والشواهد على ذلك كثيرة.

أضرت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها كما رفضوا أتم الفرائض وأشرفها... فأنكروا بقلوبكم والفظوا بألسنتكم وصكّوا بها جباههم ولا تخافوا في الله لومة لائم)(1).

5 - وفي خبر آخر لجابر، عن أبي جعفر (عليه السلام): (من مشى إلى سلطان جائر فأمره بتقوى الله ووعظه وخوفه كان له مثل أجر الثقلين: الجن والإنس ومثل أعمالهم).

بتقريب: أن من نتائج تخويف السلطان الجائر غالباً العقوبة والتضييق والتنكيل.

6- وفي رواية تحف العقول عن السبط الشهيد (عليه السلام): (وإنما عاب الله ذلك عليهم لأنهم كانوا يرون من الظلمة المنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك رغبة فيما كانوا ينالون منهم ورهبة مما يحذرون، والله يقول: «فَلا تَخْشَوا النَاسَ وَاخْشَونِي»).

7 - وفي رواية نهج البلاغة: (وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقربان من أجل ولا ينقصان من رزق. وأفضل من ذلك كله كلمة عدل عند إمام جائر).

ويمكن أن يقال في تقريبه: أن الحديث يفيد أن الآجال والأرزاق مقدرة وثابتة ولا يغيرها القيام بهذه الفريضة وعدمها «لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ» (الرعد:38)فالضرر مقدَّر على الإنسان ولا يتأثر بامتثال الفريضة، وفي هذا تطمين للآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، وعليهم القيام بالفريضة من دون التفات للضرر.

لكن قد يناقش بعدم إمكان إرادة الأثر التكويني لأنهما يتسببان فعلاً

ص: 372


1- وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 2، ح6. وقد تقدمت جملة من هذه الروايات في الاستدلال بالروايات على الوجوب.

بالقتل وقطع الرزق والشواهد على ذلك كثيرة كما لا يخفى وقائمة الشهداء طويلة وعلى رأسهم الإمام الحسين (عليه السلام) وقائمة قطع الأرزاق مثلها؛ كأبي ذر الغفاري.

فالمراد الأثر التشريعي أي عدم سقوطهما بهذين الأثرين المتوقع حصولهما من امتثال هذه الفريضة، فيقطع الحجة على من يسقط الوجوب بسبب هذه الأضرار، فالحديث يأمر بوجوب القيام بهذه الفريضة وإن أصاب صاحبها هذان الأمران نظير قوله تعالى: «الطَيّبَاتُ لِلطَيّبِينَ وَالطَيِّبُونَ لِلطَيّبَاتِ» (النور:26) وقوله تعالى: «وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً» (آل عمران97) إذ لا يمكن حمله على الإخبار عن الواقع، بل المراد زوّجوا الطيبين من الطيبات وبالعكس.

فالحديث ((من قبيل (لا شك لكثير الشك) أي لا حكم لشك كثير الشك، وهنا: لا حكم بالسقوط للمقرّب والقاطع، فهما إذا كانا محكومين بحكم المقرب والقاطع لم يجبا لكن الشارع لا يحكم عليهما بهذا الحكم فهما على وجوبهما))(1).

8 - وفي رواية مسعدة، عن جعفر بن محمد (عليه السلام)، قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن الله لا يعذّب العامة بذنب الخاصة إذا عملت الخاصة بالمنكر سراً من غير أن تعلم العامة، فإذا عملت الخاصة بالمنكر جهاراً فلم تغير ذلك العامة استوجب الفريقان العقوبة من الله عز وجل).

9 - وفي نهج البلاغة أيضاً: (ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى وقام على الطريق ونور في قلبه اليقين).

ص: 373


1- الفقه: 48/187.

10 - وخطب السبط الشهيد أصحابه وأصحاب الحر فقال: (أيها الناس، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله. ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان). الحديث.

11 - وخطب (عليه السلام) أيضاً بذي حسم فقال: (ألا ترون أن الحق لا يُعمل به وأن الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً فإني لا أرى الموت إلا شهادة ولا الحياة مع الظالمين إلا برماً).

وهكذا في كلماته وخطبه (عليه السلام) الأخرى فقد كان يصرح فيها أن خروجه بكل ما كلّفه من تضحيات كان لإقامة هذه الفريضة العظيمة، فمن بداية خروجه (عليه السلام) كتب في وصيته (عليه السلام): (وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (صلى الله عليه وآله) أريد أن أأمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب). وفي زيارة الأربعين المروية في التهذيب عن صفوان الجمال عن الإمام الصادق (عليه السلام) (ومنح النصح وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة) وبمثل الحسين (عليه السلام) فليتأس العلماء العاملون، كما أن على مثله فليبك الباكون.

فهل بعد هذا الفعل من المعصوم (عليه السلام) وسيد شباب أهل الجنة وسبط رسول الله (صلى الله عليه وآله) نحتاج إلى دليل على عدم الاشتراط؟.

ص: 374

وجوه الجمع بين الطائفتين:-

وعلى هذا يحصل تعارض بدوي بين الطائفتين من الروايات، وقد عرض الأصحاب (قدس الله أرواحهم) وجوهاً للجمع بينهما، منها:

1- ما ذكره صاحب الوسائل (قدس سره) في ذيل خبر جابر عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) بقوله: ((الضرر هنا محمول على فوات النفع))(1).

ويرد عليه أنه مخالف لظاهر بل لصريح الرواية لأن فيها (وما لا يكلِمهم في نفسٍ ولا مال) وفيها (ولو أضرّت الصلاة بأموالهم وأبدانهم)

2- ما قاله (قدس سره) مِن ((حمله على وجوب تحمل الضرر اليسير)).

وفيه: لا دليل على تقييد إطلاق الضرر في الرواية، بل إنها صريحة في ضرر الأنفس والأبدان ولا يمكن وصفه باليسير.

3- ما حكاه (قدس سره) عن بعض الأصحاب من ((حمله على حصول الضرر للمأمور والمنهي كما إذا افتقر إلى الجرح والقتل)).

وفيه: إنه مخالف لظاهر الرواية من تعلق الضرر بالآمر والناهي.

4- حمله (قدس سره) ((على استحباب تحمل الضرر العظيم)).

ويرد عليه: أن هذه الموارد من مقولة (ما لو جاز وجب) أي لو جاز ترك العمل فإنه يجب تركه، والقيام به حرام لأنه يدخل في إلقاء النفس في التهلكة عند عدم المسوّغ، فلو سقط الوجوب فالحكم الحرمة، وصرّح به جمعٌ، قال الشهيد الثاني (قدس سره): ((مع ظن الضرر فإن الجواز يرتفع أيضاً مع الوجوب)) وجعل المحقق الأردبيلي (قدس سره) الأمن من الضرر شرطاً للجواز وبدونه يحرم وحكاه عن البعض))(2). ونقل

ص: 375


1- وسائل الشيعة: 16/129، ح6، ط. أهل البيت.
2- مسالك الأفهام: 3/102، مجمع الفائدة والبرهان: 7/539.

صاحب الجواهر (قدس سره) هذا الوجه عن صاحب الوسائل لكنه علق عليه بقوله: ((وإن كان لا يخلو من نظر بل منع ضرورة ثبوت الحرمة حينئذٍ كما صرّح به الشهيدان والسيوري))(1).

5- إن الإقدام على الضرر من أجل امتثال الأمر والنهي تكليف الخاصة، وهو مختار صاحب الجواهر (قدس سره) حيث قال عن خبر جابر وأمثاله أنه ((محمول على أناس مخصوصين موصوفين بهذه الصفات)) وقال (قدس سره): ((ما وقع من خصوص مؤمن آل فرعون وأبي ذر وغيرهما في بعض المقامات فلأمور خاصة لا يقاس عليها غيرها))(2).

وقد سبقه إلى هذه الفكرة العلامة المجلسي (قدس سره) في مرآة العقول فإنه بعد أن ذكر يحيى بن أم الطويل وأنه أحد الثلاثة الذين ثبتوا بعد الحسين (عليه السلام) مع الإمام السجاد (عليه السلام) وأورد الرواية عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): أن الحجاج طلبه وقال تلعن أبا تراب وأمر بقطع يديه ورجليه وقتله، قال (قدس سره): ((كأن هؤلاء الأجلاء من خواص أصحاب الأئمة (عليهم السلام) كانوا مأذونين من قبل الأئمة (عليهم السلام) بترك التقية لمصلحة خاصة خفية، أو إنهم كانوا يعلمون أنه لا ينفعهم التقية وأنهم يقتلون على كل حال بإخبار المعصوم أو غيره، والتقية إنما تجب إذا نفعت)).

هذا ولكنه (قدس سره) لم يغفل الإشارة إلى ما سنذكره من جريان مرجحات باب التزاحم فقال (قدس سره): ((مع أنه يظهر من بعض الأخبار أن التقية إنما تجب إبقاءً للدين وأهله، فإذا بلغت الضلالة حداً توجب اضمحلال الدين بالكلية فلا تقية حينئذ وإن أوجب القتل، كما

ص: 376


1- جواهر الكلام: 21/372.
2- جواهر الكلام: 21/372-373.

أن الحسين (عليه السلام) لما رأى انطماس آثار الحق رأساً ترك التقية والمسالمة))(1).

ويرد على هذا الوجه:

أ- إن الرواية بصدد ذم من تخلّف عن امتثال الفريضة ملتمساً الأعذار باحتمال الضرر ونحوه وأنه لا يمكن الأخذ به على إطلاقه، فما قاله (قدس سره) لا يصلح لتوجيه الرواية ورفع التعارض مع شرط المشهور، وإنما يصلح لتبرير مخالفة هذه الثلة الصالحة لشرط المشهور، فما ذكره (قدس سره) أجنبي وفي الطرف الآخر من الرواية ...

ب- إن قائمة الشهداء والمعذبين على طريق ذات الشوكة طويلة ومفتوحة على مدى الأزمان وقف على رأسها الأئمة المعصومون (عليهم السلام) إذ ما منهم إلا مقتول أو مسموم، ومن تبعهم إلى اليوم وإلى قيام يوم الساعة ولا تقتصر على أبي ذر ومؤمن آل فرعون حتى يبرر لهما.

ص: 377


1- مرآة العقول: 11/98 في ذيل الحديث (16) من باب مجالسة أهل المعاصي من كتاب الإيمان والكفر من أصول الكافي وهو مروي عن اليمان بن عبيد الله قال: (رأيت يحيى بن أم الطويل وقف بالكناسة ثم نادى بأعلى صوته: معشر أولياء الله: إنا براء مما تسمعون، من سبَّ علياً عليه السلام فعليه لعنة الله، ونحن براء من آل مروان وما يعبدون من دون الله، ثم يخفض صوته فيقول: من سبَّ أولياء الله فلا تقاعدوه ومن شك في ما نحن عليه فلا تفاتحوه ومن احتاج إلى مسألتكم من إخوانكم فقد خنتموه، ثم يقرأ: «إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً» (الكهف:29) ).

ج-- ويتبع ما قلناه آنفاً أنه لا خصوصية في فعل أبي ذر (رضوان الله تعالى عليه) ومواقفه غير العمل بهذه الفريضة العظيمة التي وصفها الإمام الباقر (عليه السلام) بأنها منهاج الأنبياء وسبيل الصالحين، وهو تكليف عام كما أفادت به الآيات الكريمة والروايات الشريفة فوجوب الفريضة منجّز ما دام موضوعها متحققاً.

6- ما نختاره من تقديم الطائفة الثانية لوضوح دلالتها ولكثرتها إلى درجة حصول الاطمئنان بصدورها مضافاً إلى موافقتها للكتاب الكريم كما قدمنا.

أما الأولى فضعيفة السند غير ظاهرة الدلالة، نعم لها جهة قوة بموافقتها لقاعدة لا ضرر؛ لذا لا بد من وضع كل منهما في موضعهما المناسب، ولكن بعد البحث في:

النسبة بين أدلة لا ضرر وأدلة وجوب الأمر والنهي:-

ونقدّم ببيان مختصر عن مفاد القاعدة، فنقول:

الروايات التي وردت فيها قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) كثيرة(1)

نذكر منها معتبرة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إن سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار، وكان منزل الأنصاري بباب البستان، فكان يمر به إلى نخلته ولا يستأذن، فكلمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء فأبى سمرة، فلما تأبى جاء الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فشكا إليه وخبّره الخبر، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وخبّره بقول الأنصاري وما شكا وقال: إذا أردت الدخول فاستأذن فأبى فلما أبى ساومه حتى بلغ به

ص: 378


1- وسائل الشيعة: 25/427-433، كتاب إحياء الموات، الأبواب 12، 13، 14، 15، 16، وفي نفس الجزء صفحة 399: الباب 5 من أبواب الشفعة، ح1.

من الثمن ما شاء الله فأبى أن يبيع، فقال: لك بها عذق يمد لك في الجنة فأبى أن يقبل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله للأنصاري: اذهب فاقلعها وارم بها إليه فإنه لا ضرر ولا ضرار).

أقول: اختلف الفقهاء في مفاد قاعدة لا ضرر ولا ضرار، ولكننا لو عدنا إلى الروايات لنستنطقها ونجعل سياق الرواية قرينة على مفاد القاعدة لوجدنا أنها ظاهرة في حكمين:

أولهما: وضعي حاصله أن حق المالك في التصرف بملكه ليس مطلقاً وإنما يقيّد بما ليس فيه ضرر على الغير، فإما أن يجعل تصرفه غير مضارّ وإلا يسقط حقه.

ثانيهما: تكليفي يقتضي حرمة القيام بفعل مضرٍّ بالغير، والجملة وإن كانت خبرية بلسان النفي إلا أن حقيقة معناها إنشاء النهي عن الإضرار بالغير نظير ما في قوله تعالى: «فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ» (البقرة:197) والحديث النبوي الشريف (لا تعرّب بعد الهجرة)(1)، فيكون هذا الظهور حجة على السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) الذي احتمل أنه ((لا يصح في لغة العرب استعمال (لا) الداخلة على الاسم في النهي مجازاً))(2)

وحكي هذا المعنى الثاني للقاعدة عن ((شيخ الشريعةالأصفهاني في رسالته المعمولة في شرح هذه القاعدة وأصرّ عليه غاية الإصرار))(3)وربما النراقي(4)(قدس سره).

ص: 379


1- بحار الأنوار: 79/280.
2- مباحث الأصول (تقريرات أبحاث السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) بقلم السيد كاظم الحائري)، القسم الثاني: 4/551.
3- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للشيخ النوري الهمداني: 94.
4- مباحث الأصول: 4/536.

ويرد على هذا الإشكال ما حاصله: أن القاعدة ظاهرة في نفي الضرر المستند إلى الشارع المقدس، أما المعنى المذكور فينفي الضرر الصادر من الفرد ولا يمكن الجمع بينهما.

وجوابه: أن استعمال القاعدة في الرواية بهذا المعنى خير دليل على إمكانه بل وقوعه.

لكن الأصحاب (قدس الله أرواحهم) ذكروا وجوهاً أخرى ربما كان أحد مناشئها دراسة القاعدة بمعزل عن سياق الرواية، ومن تلك الوجوه:-

1- إن مفادها نفي الحكم الضرري أي أنها تنفي الحكم الذي ينشأ منه الضرر لكن بلسان نفي الموضوع، وهذا له فهمان: -

أ- نفي الحكم الضرري مطلقاً وإن لم يكن موضوعه ضررياً ((وهذا يعم فرض كون الضرر ناشئاً من نفس الحكم، كما في الحكم بصحة البيع الغبني ولزومه مثلاً، أو من الجري على طبقه والعمل به، كما في وجوب الوضوء حينما يكون الوضوء ضررياً، من دون فرق –أيضاً- بين أن يكون الضرر ناشئاً من نفس متعلق الحكم بالذات، كما في هذا المثال، أو ناشئاً من مقدمات له))(1)

وهذا القول محكي عن الشيخ الأنصاري والمحقق النائيني (قدس الله سريهما).

ب- نفي الحكم الضرري الناشئ من كون الموضوع ضررياً، أي أن الموضوعات التي لها أحكام بعناوينها الأولية تسقط إذا صارت ضررية ((فلا يشمل مثلاً: ما إذا لم يكن الموضوع الذي تعلق به الحكم ضررياً، بل كانت مقدماته ضررية)) فهذا القول أخص من سابقه، وهو مختار الشيخ الآخوند (قدس سره)، فيكون من قبيل (لا شك لكثير الشك) أو قول أمير المؤمنين (عليه السلام): (يا أشباه الرجال ولا رجال)(2).

ص: 380


1- مباحث الأصول: 4/536.
2- الكافي: 5/6، ح 6.

أقول: ظاهر هذا القول تعلقه بالواجبات، فلو عُمِّم إلى الحقوق لأصبح مطابقاً للمعنى الأول الذي استظهرناه من الرواية.

ونسجل على أصحاب هذا القول أن مقتضاه كون هذه الأخبار يراد بها الإنشاء أي أن نفي الحكم الضرري في الشريعة يراد به النهي عن تطبيق الحكم الشرعي إذا كان ضررياً فلا يصح منهم الإشكال الذي قالوه عن القول المختار.

2- ((إن مفاده نفي الضرر غير المتدارك، وهذا ما ذهب إليه الفاضل التوني (رحمه الله)، وبعض المحققين عنه. وهذا له جناحان: 1- نفي الضرر غير المتدارك بمعنى جعل التدارك، فمن أضرّ بأحد كما لو أتلف ماله وجب عليه تداركه. 2- نفي الضرر غير المتدارك سواء أكان ذلك بنفي الحكم الضرري، أم بتدارك الضرر الواقع، فإذا كان الضرر مربوطاً بالحكم رفع ذلك الحكم الضرري، وإذا كان مربوطاً بعمل شخص خارجاً بغضّ النظر عن الحكم، كما إذا أتلف شخص مال غيره حكم بالتدارك))(1).

أقول: يمكن تقريب المعنيين على نحو يوضح الفرق بينهما أن أحدهما نفي وجود ضرر بلا تدارك في الشريعة، والآخر النهي عن القيام بفعل فيه ضرر بلا تدارك فيفيد وجوب تداركه كوجوب دفع الجعالة عند إنجاز الآخر للعمل.

والسؤال الآن: هل يمكن تعميم مفاد القاعدة ليشمل بعض أو كل المعاني المذكورة؟.

ص: 381


1- مباحث الأصول: 4/537.

والجواب: نعم، خصوصاً وأن المعاني التي تضمنتها تلك الأقوال صحيحة في نفسها وتدل عليها أدلتها الخاصة وإن لم تدل عليها روايات لا ضرر، فلا مانع من قبولها بشرط أن لا ينفوا المعنيين اللذين استظهرناهما من استعمال القاعدة في الرواية.

ويمكن تقريب التعميم بعدة وجوه:-

1- التمسك بعموم التعليل الذي أفادته القاعدة في ذيل الرواية، حيث طُبِّقت القاعدة العامة على الحادثة المذكورة، وذكرت لتعليل الحكم، ويشهد لعموميتها ما ورد في بعض النصوص للقاعدة (لا ضرر ولا ضرار فيالإسلام) و (على مؤمن)، ووقوعها في سياق الرواية لا يخصصها؛ لأن المورد لا يخصص الوارد.

2- إن العلماء –فقهاء وأصوليين- (قدس الله أرواحهم) تعاملوا مع القاعدة على نحو الاستقلال وبحثوا في مفادها، ولم يتوقفوا عن قبول أي معنى تفيده القاعدة وإن لم يكن ظاهراً من الرواية ، وهذا بحد ذاته يحصّل إجماعاً على إمكان النظر في القاعدة مستقلة عن الرواية.

3- إن قاعدة لا ضرر تشترك مع قاعدة نفي الحرج في الملاكات والآثار، وقد وردت تلك القاعدة في بعض هذه المعاني وهو سقوط الحكم إذا كان في تطبيقه ضرر، فيكون لقاعدة الضرر نفس المعنى؛ كما في رواية عبد الأعلى مولى آل سام قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): عثرت فانقطع ظفري، فجعلت على إصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟ قال: يُعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عز وجل، قال الله عز وجل: «مَا جَعَلَ عَلَيكُم فِي الدِينِ مِنْ حَرَجٍ» (الحج:78)، امسح عليه)(1).

ص: 382


1- وسائل الشيعة: 1/464، آل البيت، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، باب39، ح5.

أقول: بعد تجريد قاعدة الحرج عن الخصوصية ينتج صحة القول الأول على الأقل وهو رفع الحكم الضرري في الشريعة وإسقاطه عن المكلف.

ومما تشتركان فيه أن كليهما امتنانيتان لذا يذكر الضرر والحرج في هذا السياق مقترنين، ويمكن دخولهما معاً في بعض فقرات الحديث النبوي الشريف (رفع عن أمتي تسعة)(1).

وأشكل على كون معنى القاعدة ((نفي الحكم الذي يلزم منه الضرر بأنه مستلزم لتخصيص الأكثر لأن الحكم المستلزم للضرر موجود في الإسلام بلا ريب كثيراً كما في أبواب الحج والخمس وأبواب الجهاد والضمان بواسطة اليد والإتلاف إلى غير ذلك.

والجواب عن هذا الإشكال بأن خروج هذه الموارد عن هذه القاعدة إنما يكون بالتخصص لا بالتخصيص لأن مفاد قاعدة نفي الضرر وكذا نفي الحرج نفي الأحكام الضررية والحرجية في مقابل الأدلة الأولية التي لها إطلاق أو عموم يشمل كلتا الحالتين أي حالة كونه ضررياً وغير ضرري فالقاعدة تخرج حالة كونه ضررياً عن مفاد الإطلاق والعموم فنتيجة هذه الحكومة لبّاً تقييد ذلك الإطلاق أو تخصيص ذلك العموم بغير حالة كون ذلك الحكم ضررياً.

وأما إذا كان الحكم المجعول على موضوع ضررياً دائماً كوجوب الجهاد وإعطاء الخمس والزكاة والضمان في مورد الإتلاف فهو خارج عن محور هذهالقاعدة وبعبارة أخرى إن هذه القاعدة ناظرة إلى تضييق المجعول الأولى وتخصيصه بإحدى حالتيه فلا بد وأن يكون حينئذٍ لذلك المجعول الأولى حالتان حتى تتوجه إليه هذه القاعدة وتوجب تخصيصه

ص: 383


1- الخصال: 314، أبواب التسعة، ح9.

بإحدى الحالتين وأما الحكم الذي ليس له إلا حالة واحدة وهو الحكم الضرري فلا علاقة لهذه القاعدة به أصلاً))(1).

أقول: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من هذه الموارد الخارجة تخصصاً كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

المنع من حكومة أدلة لا ضرر بشكل مطلق:

ومما تقدم نحصل على عدة وجوه لمنع حكومة قاعدة لا ضرر على أدلة وجوب الأمر والنهي بشكل مطلق، ومنها:-

1- مخالفة هذا التصرف لكتاب الله تعالى حيث قدمنا (صفحة 370) تفسير عدة آيات تحث على تحمل الضرر البليغ في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتثني على الذين ضحوا على هذا الطريق وإقامة دين الله تعالى.

2- الروايات المتقدمة في الطائفة الثانية، والتي تضمنت الدعوة إلى إقامة الفريضة رغم وجود الضرر الجسيم، وذمّ من يجد الرخص والمعاذير عند وجود الضرر.

3- سيرة الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم) والعلماء الصالحين من أصحابهم ومن تبعهم، حيث ضحّوا بأنفسهم وأموالهم وأوضاعهم الاجتماعية التزاماً بهذه الفريضة ولم يجدوا في هذا ضرراً مبرراً لترك هذه الفريضة.

إن قلتَ: إن غاية ما تدل عليه هذه السيرة والروايات قبلها الجواز بالمعنى الأعم فتحمل على التخيير أو الاستحباب ولا تدل على

ص: 384


1- كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للشيخ النوري الهمداني:95-96.

الوجوب.

قلتُ: تقدم جوابه وأن الوجوب إذا سقط كان الفعل حراماً.

4- إن فريضة الأمر والنهي خارجة تخصصاً من قاعدة لا ضرر كما قرّبنا في الإشكال الآنف (صفحة 383)؛ لأنها متضمنة في أصل تشريعها للضرر بعد ملاحظة جهتين:-

أ- الآثار التي يراد تحصيلها من إقامة الفريضة مما وردت في الروايات كقول أبي جعفر الباقر (عليه السلام): (بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب وتحل المكاسب وترد المظالم وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر) ونحوها. وتحصيل مثل هذه النتائج يتطلب اقتحام مخاطر كبيرة.ب- إن المخاطب بها يكون في كثير من الأحوال من الناس السيئين في المجتمع.

لذا فإنها لا تنفك غالباً عن لحوق الأضرار البدنية والمالية والنفسية بفاعلها وذويه، ومع ذلك فقد أوجبها الشارع المقدس وهذا يعني أنه لم يلحظ جملة من هذه الأضرار.

5- إن قاعدة لا ضرر لا تجري في موارد الأمر والنهي بناءً على بعض الوجوه التي ذكروها لمفاد قاعدة لا ضرر كالذي اختاره الشيخ الآخوند (قدس سره) فإن موضوع الأمر والنهي ليس ضررياً وإنما جاء الضرر من رد فعل المأمور المنهي، وكذا على مختار الشيخ الأنصاري باعتبار أن الضرر لم يحصل من متعلقات الحكم ولا من امتثاله أي أنها لم تكن سبباً مستقلاً لحصول الضرر على الآمر الناهي.

6- ((إن قاعدة لا ضرر قد شرعت في مقام الامتنان على الأمة، ومن المعلوم أنه لا امتنان عليها في رفع وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن

ص: 385

المنكر عن شخص أو أشخاص فيما إذا كان رفع الوجوب الموجب لترك الأمر والنهي مستلزماً لجرأة التاركين للمعروف والمرتكبين للمنكر والظلم ولفتح المجال لهم الموجب لتدمير ألوف من النفوس وإشاعة الفساد وتعطيل أحكام الله تعالى وإتلاف الأموال والغلول والخيانة في بيت المال))(1).

7- إن مقتضى إطلاقهم شرط الأمن من الضرر وانتفاء المفسدة وعدم التفريق بين كون الضرر يسيراً أو كبيراً في النفس أو المال أو العرض، ومن دون مراعاة قابلية الآمر الناهي وقدراته، ولا وضع المأمور والمنهي وتأثير فعله على الناس، يعني تعطيل الفريضة وإلغاء هذا الحشد الهائل من النصوص الشرعية وهو ما لا يقبل به فقيه منتم لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ويعرف ذوقهم.

8- ما ذكرناه في البحوث التمهيدية(2) من اتحاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الجهاد من جهة الغرض وطريقة الامتثال في الجملة ولورود أحدهما محل الآخر في النصوص التي ذكرناها، والجهاد غير محكوم بقاعدة لا ضرر، ففريضة الأمر والنهي كذلك.

مضافاً إلى أن جملة من الآيات الكريمة التي دعت إلى الجهاد بالنفس والمال كان موردها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعناهما العام الشامل لمباينة المختلفين معنا في الاعتقاد ودعوتهم إلى الحق والخير، كقوله تعالى في سورة الفرقان: «فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداًكَبِيراً» (الفرقان : 52) والسورة مكية ولم يكن الجهاد بمعنى القتال مشرعاً يومئذٍ.

ص: 386


1- كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للشيخ النوري الهمداني:99.
2- صفحة 34-35 من هذا الكتاب.

9- إن الضرر المراد تأمينه أمر شخصي يحيق بالفرد، أما ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ففيه مفاسد اجتماعية عامة أشارت إليها الأحاديث الشريفة كتسلط الأشرار الذي هو منبع كل شر، ومن المعلوم في ذوق الشريعة تقديم الثاني على الأول، ولذا أوجب الله تعالى الجهاد والخمس والزكاة ونحوها مما فيه نقص بالأنفس والأموال لأنها تعود بالنفع على المجتمع عامة «إلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ» (الأنفال:73)، وقد استشهد بها الأئمة (عليهم السلام) في بعض موارد الأمر والنهي(1).

10- لو تنزلنا وقلنا بأن بعض درجات الضرر تسقط وجوب الأمر والنهي فقد تقدم في الشرط السابق –وهو تجويز التأثير- أن الموقف الصحيح هو معرفة سبب حصول الضرر ومن ثم العمل على تلافيه ومنعه بتهيئة الأسباب المزيلة له وليس سقوط الوجوب إلا إذا خرج عن القدرة.

قال بعض المعاصرين: ((فإن الضرر الوارد من العصاة والجبابرة على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر إنما يرد عليهم غالباً من جهة ضعفهم واختلاف كلمتهم وعدم توفيرهم للمقدمات الدفاعية فلو أنهم تنبهوا لذلك واتحدوا ومهدوا التمهيدات اللازمة لحصل

ص: 387


1- كما في صحيحة علي بن مهزيار عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (كتب علي بن أسباط إلى أبي جعفر (عليه السلام) في أمر بناته وأنه لا يجد أحداً مثله، فكتب إليه أبو جعفر (عليه السلام): فهمت ما ذكرت من أمر بناتك وأنك لا تجد أحداً مثلك فلا تنظر في ذلك رحمك الله، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوِّجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب مقدماته وآدابه، باب 28.

لهم الأمن من الضرر وارتفع عنهم الاضطراب وتمكنوا من الأمر والنهي من دون أن يصيبهم الضرر. وعليه فيجب عليهم توفير الوسائل والأسباب وتمهيد المقدمات المانعة من الضرر لو تمكنوا منه. ويتفرع على ذلك أن الاعتذار عن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بوجود الضرر في هذا المجال مع التمكن من تحصيل المقدمات الدفاعية المانعة من الضرر غير مسموع عند الشارع المقدس))(1).والخلاصة أن تحكيم أدلة لا ضرر على أدلة وجوب الأمر والنهي بشكل مطلق يعني تعطيل الفريضة التي يراد لها أن تحمي كيان المسلمين من الانحراف والفساد ومنع تسلّط الأشرار، ومثل هذا العمل لا ينفك عن الضرر.

والصحيح أن يقال أن مورد جريان قاعدة لا ضرر يكون في ظرف كون الأمر والنهي إلقاءً للنفس في التهلكة أو لغواً وعبثاً لا معنى له، أي أن الضرر المتوقع بدرجة تهون معها مصلحة الأمر والنهي، كأمر رجلٍ شرير قاتل فاعل للكبائر بأداء الصلاة مما يوجب إزهاق روح الآمر الناهي ونحو ذلك، ويلاحظ في تقديم أحدهما على الآخر مرجحات باب التزاحم.

ويظهر من السيد الخميني (قدس سره) اختيار هذا القول وإن ذكر هذا الشرط للوجوب وفاقاً للمشهور.

قال (قدس سره) في المسألة (6): ((لو كان المعروف والمنكر من الأمور التي يهتم به الشارع الأقدس كحفظ نفوس قبيلة من المسلمين وهتك نواميسهم أو محو آثار الإسلام ومحو حجته بما يوجب ضلالة المسلمين أو امّحاء بعض شعائر الإسلام كبيت الله الحرام بحيث يمحى آثاره ومحله وأمثال ذلك لا بد من

ص: 388


1- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للشيخ حسين النوري الهمداني: 108.

ملاحظة الأهمية، ولا يكون مطلق الضرر ولو النفسي أو الحرج موجباً لرفع التكليف، فلو توقفت إقامة حجج الإسلام بما يرفع بها الضلالة على بذل النفس أو النفوس فالظاهر وجوبه فضلاً عن الوقوع في ضرر أو حرج بدونها)).

وقال في المسألة (7): ((لو وقعت بدعة في الإسلام وكان سكوت علماء الدين ورؤساء المذهب أعلى الله كلمتهم موجباً لهتك الإسلام وضعف عقائد المسلمين يجب عليهم الإنكار بأية وسيلة ممكنة سواء كان الإنكار مؤثراً في قلع الفساد أم لا، وكذا لو كان سكوتهم عن إنكار المنكرات موجباً لذلك، ولا يلاحظ الضرر والحرج بل تلاحظ الأهمية)).

وقال (قدس سره) في مسألة (8): ((لو كان سكوت علماء الدين ورؤساء المذهب أعلى الله كلمتهم خوف أن يصير المنكر معروفاً أو المعروف منكراً يجب عليهم إظهار علمهم، ولا يجوز السكوت ولو علموا عدم تأثير إنكارهم في ترك الفاعل، ولا يلاحظ الضرر والحرج مع كون الحكم مما يهتم به الشارع الأقدس جداً))(1).

واختار الشيخ المنتظري (قدس سره) القول بالتزاحم، فقال (قدس سره): ((إنه ليس الغرض من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحصيل المثوبة مثلاً، بل هما شرعاً مفهوم وسيع لإصلاح المجتمع وقطع جذور المنكر والفساد. ومقتضى رعاية ملاكات الأحكام ومصالحها، واختلاف مراتب الضرر، ومراتب المنكر أن يعامل مع الدليلين معاملة التزاحم فيقدم الأهم منهما ملاكاً، فلربما يريد أحد قتل واحد أو جماعة أو التجاوز على امرأة مسلمة محترمة مثلاً ويكون نهيه وردعه موجباً لخسارةما على الناهي، فهل يمكن القول بعدم وجوب النهي عن المنكر حينئذٍ؟! وربما يكون المنكر منكراً فظيعاً يتجاهر به ويكون في معرض السراية إلى المجتمع وربما يفسد المجتمع بسببه، أو يكون

ص: 389


1- تحرير الوسيلة: 1/426-427.

المرتكب له ذا شخصية اجتماعية أو دينية يقتدي به الناس طبعاً، أو يكون عمله موجبا لهدم أساس الدين، أو يريد بعمله تغيير قانون من قوانين الإسلام أو تحريفه، أو يريد إقامة السلطة الظالمة الغاصبة على شؤون المسلمين وسياستهم واقتصادهم وثقافتهم، ونحو ذلك من الأمور المهمة التي لا يجوز السكوت في قبالها، وكان الناهي ممن يقبل قوله، أو يوجب إقدامه ونهيه لا محالة وحشة المرتكب أو خفته أو التزلزل في وضعه الاجتماعي، فهل لا يجب النهي والردع بظن ضرر مالي أو حبس أو تضييق أو نحو ذلك؟! يشكل جداً الالتزام بذلك)).

وقال (قدس سره): ((وبالجملة، فالواجب في المقام إجراء باب التزاحم، وتقديم ما هو الأهم ملاكاً، وهكذا كانت سيرة أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) الملتزمين بالموازين الشرعية أمثال أبي ذر، وميثم التمار، وحجر بن عدى، ورشيد، ومسلم، وهاني، وقيس بن مسهر، وزيد بن علي، وحسين بن علي شهيد فخ، وقد استشهدوا في طريق الدفاع عن الحق)).

ثم حاول (قدس سره) أن يضع الأمور في مواضعها فقال: ((إن الظاهر أن محل بحث المحقق وأمثاله هو الأمر والنهي الصادران عن الأشخاص العاديين في الموارد الجزئية. وأما صاحب المقام المسؤول من قبل الحاكم لذلك فعليه تفويض الأمر إلى العالم بالمعروف والمنكر القادر على الأمر والنهي ولو بالقدرة الحاصلة من قبل الحكومة. ولعله المراد أيضاً بقوله (عليه السلام) في خبر مسعدة: (إنما هو على القوي المطاع العالم) )).

وقال سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره): ((قد يكون الأمر والنهي أحياناً غير مشترط بهذا الشرط، وذلك عند إحراز بل احتمال أهمية الفعل والفاعل، أعني من حيث تأثيره الضار في المجتمع. وعندئذٍ فقد

ص: 390

يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع العلم بترتب الضرر فضلاً عن الظن به أو احتماله))(1).

والخلاصة أنه لا حكومة مطلقة لأدلة لا ضرر على أدلة وجوب الأمر والنهي، واعتبار الأمن من الضرر وانتفاء المفسدة شرطاً للوجوب بقول مطلق غير صحيح، وإنما تجري قواعد باب التزاحم من تقديم الأهم على المهم وقد ترخّص التضحية بالنفس فضلاً عن المال وغيره عندما يكون في ترك الأمر والنهي مفسدة اجتماعية كتحريف الدين وإفساد المسلمين وانتشار البدع وتسلّط أئمة الضلال وخير مثال على هذا قيام الإمام الحسين (عليه السلام).وقد يجب التحرك أحياناً –إذا توفرت أدواته- لإيجاد حكومة السلطان العادل وإقامة الحق والعدل بكل ما يتطلبه ذلك من تضحيات جسيمة، قال الشيخ المنتظري (قدس سره): ((ولو لم يوجد هنا حكومة عادلة ملتزمة فعلى المسلمين التعاضد والتعاون والتجمع والتشكل وتهيئة الأسباب مقدمة لتحصيل القدرة على ذلك والقيام في قبال الطغاة))(2).

فوائد:

الأولى: يلاحظ هنا أن مراعاة المصالح والمفاسد وتقديم الأهم على المهم موجود في الفقه الإسلامي وعلى صعيد التطبيقات العملية، ولا يختص بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ملاك حكومة قاعدة لا ضرر ونفي الحرج والأخذ بالتقية ونحوها من الأدلة الحاكمة، ومن مواردها في الأحكام النهي عن إقامة الحد على من كان في أرض العدو وخشية التحاقه بمعسكر

ص: 391


1- منهج الصالحين: 2/238، المسألة (881).
2- دراسات في ولاية الفقيه للشيخ المنتظري (قدس سره): 2/256.

الأعداء(1) مع أنه لا تأخير في الحد(2)، فقد روى إسحاق بن عمار عن الصادق (عليه السلام) قوله: (إن علياً (عليه السلام) كان يقول: لا تقام الحدود بأرض العدو مخافة أن تحمله الحميّة فيلتحق بأرض العدو)(3).

الثانية: ذكرنا في البحث عدة عناصر تلحظ لتمييز الأهم والمهم بين الضرر ومفسدة ترك الأمر والنهي كقوة احتمال الضرر وأهمية متعلقه كالنفس وموقعية المأمور والمنهي وقدرات الآمر والناهي ونحو ذلك، ونضيف الآن:

إن من العناصر التي تلاحظ في الترجيح بين المتزاحمين هنا: احتمال تأثير الأمر والنهي في المأمور المنهي، فالقدر المتيقن مما قلناه من إعمال المرجحات مورده إحراز تأثير الأمر والنهي فتلاحظ تلك المرجحات، أما مع عدم إحراز التأثير فإنه يضعّف من ملاك تقديمه عند التزاحم، ويكون الإقدام على الضرر في تلك الحالة قبيحاً عند العقلاء، ولا يكون محلاً للترجيح إلا إذا كان المحتمل من الأهمية بحيث يعمل بمطلق الاحتمال فيه.

الثالثة: إن تنفيذ قواعد باب التزاحم في العمل الاجتماعي يواجه صعوبتين، نظرية وعملية:

أما النظرية: فنقصد بها التمييز بين الأهم والمهم وتحديد قائمة الأولويات وهذا يحتاج إلى ذوق فقهي سليم وسعة اطلاع على أحكام الشريعة وكيفية تعاطي المعصومين (عليهم السلام) معها وموقف الفقهاء منها، فمثلاً تجد الذهنية التقليدية تلحظ المنكرات الفردية ولا تلتفت إلى المنكرات الاجتماعية سواء كانت عقائدية أو سياسية أو اقتصادية ونحو ذلك عدا ما رأينا من بعض العلماء

ص: 392


1- مسالك الأفهام: 14/381.
2- وسائل الشيعة: أبواب مقدمات الحدود، باب 25.
3- وسائل الشيعة: 18/318، أبواب مقدمات الحدود، باب 10، ح2.

العاملين كالشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والسيد الخميني والشهيدين الصدرين الأول والثاني (قدس الله أسرارهم جميعاً) في العصر الحديث.

وأما العملية: فنعني بها ظروف التطبيق وملابساته الزمانية والمكانية وظروفه الأخرى، فقد يكون أهم فقهياً من الناحية النظرية لكن العمل به يلزم منه مفاسد أكبر؛ فمثلاً يقرّون أن صلاة الجمعة أفضل من صلاة الظهر إلا أنهم لا يقيمونها بدعوى خوف الفتنة وحصول التنافس ونحو ذلك.

أو تراهم يلحظون التزاحم على صعيد الفرد ولا يلتفتون إلى تأثيره على الإسلام أو التشيع أو المسلمين كبعض الطقوس الدخيلة على الشعائر الحسينية فيناقشون جواز الإضرار بالبدن ونحوه مع أن المشكلة أكبر من ذلك.

وورد عن المعصومين (عليهم السلام) في هذا المجال قول الإمام الصادق (عليه السلام): (العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس)(1).

واللوابس هي الأمور المتشابهة المتلبسة ببعضها.

ووجود هاتين الصعوبتين وجه لاشتراط الفقهاء (قدس الله أسرارهم) إذن الفقيه العارف بزمانه في ممارسة الأمر والنهي على بعض مستويات اليد وكذا الجهاد ولا يجوز لأي أحد غيره التصدي لهذه الأعمال؛ لأن المكلف لا يقدّر الأهم والمهم، وهذا أيضاً يفسّر مواقف الأئمة (عليهم السلام) من الحركات المسلحة التي كانت تخرج على الأنظمة الحاكمة بعنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وهذا مجال واسع للبحث وأخذ الشواهد من الواقع ومراعاة اختلاف الأنظمة السياسية القائمة مما يسمّى ديمقراطية تعددية أو دكتاتورية مستبدة ونحو ذلك، فقد يكون التحرك الشعبي بإقامة المهرجانات أو التظاهرات والاحتجاجات هو الطريق الوحيد لإيصال صوت المطالبة برفع الظلم والفساد

ص: 393


1- الكافي: 1/27.

وإصلاح أحوال الرعية إذا كان النظام مستبداً لا يستمع لصوت الحكمة والعدل ومحجوب عن الشعب مع ما يتسبب ذلك فيه من الضحايا والخسائر، وقد يكون ذلك غير صحيح عندما يكون النظام ديمقراطياً يمكن التغيير فيه من خلال صناديق الاقتراع، وهذا كله يحدده الفقيه العالم بزمانه.

في صحيحة العيص بن القاسم قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له وانظروا لأنفسكم، فوالله إن الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلاً هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه ويجيء بذلكالرجل الذي هو أعلم(1)

بغنمه من الذي كان فيها، والله لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرّب بها ثم كانت الأخرى باقية يعمل على ما قد استبان لها، ولكن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة فأنتم أحقّ أن تختاروا لأنفسكم، إن أتاكم آتٍ فانظروا على أي شيء تخرجون)(2).

ملاحق:
الأول: هل يلحظ ظن الضرر واحتماله بالعلم به؟

بناءً على صياغة المشهور من كون الأمن من الضرر وانتفاء المفسدة شرطاً للوجوب فإن ظن الضرر بل احتماله بمقدار لا يلحقه بالعدم يجعل شرط الوجوب غير محرز فلا يتحقق وجوب الأمر والنهي لمجرد مثل هذا الاحتمال، فتذهب الأدلة المتواترة على وجوب الأمر والنهي أدراج الرياح كما يقال، وهذا نقض عليهم.

ص: 394


1- يغفل الفقهاء التقليديون عن هذه (الأعلمية) التي هي في إدارة شؤون الأمة ورعاية مصالحها.
2- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 13، ح1.

أما على ما اخترناه في هذا الشرط وغيره من كون الضرر مسقطاً للوجوب عندما يكون أهم من مفسدة ترك الأمر والنهي فإن الأمر سيختلف وتتضيق دائرة سقوط الفريضة.

قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((ظاهر الأصحاب اعتبار العلم أو الظن بالضرر، ويقوى إلحاق الخوف المعتد به عند العقلاء))(1).

أقول: هذا خروج عن إطلاقات أدلة وجوب الأمر والنهي بلا وجه، لذا ردَّ عليه المحقق العراقي (قدس سره) بقوله: ((إن في إلحاق خوف الضرر بصورة اليقين به، حتى في المال إشكال. نعم لا يبعد الإلحاق في النفسي والعرضي؛ لأنه يجب حفظ نفسه عن المضار المزبورة، ومع الشك فيه فقاعدة الاشتغال تقتضي وجوب الحفظ.

نعم لو قلنا بأن الهتك(2)

حرام، لا يبعد المصير إلى البراءة، ولكن في الجواهر: إن ظاهر الأصحاب إلحاق الظن بالضرر باليقين، وقوّى إلحاق مطلق الخوف واستبعد عدم مساعدة العقل عليه كما توهّم.وعليه فيحتاج إثباته إلى دليل متيقن، فإن كان في البين إجماع –ولو بتسرية مناط خوف الضرر من باب الوضوء والصوم وأمثالهما إلى المقام- فهو، وإلا فللنظر فيه مجال، والله العالم))(3).

أقول:-

ص: 395


1- جواهر الكلام: 21/373.
2- حكي عن المحقق الداماد (قدس سره) في (كتاب الصلاة: 2/499) مخالفته للمشهور وأن المحرم هتك النفس وليس الواجب حفظها (فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:374) ولا أعلم فرقاً بين القولين في ما نحن فيه لصدق الهتك عند الإقدام على احتمال الضرر بالنفس إذا كان معتداً به.
3- شرح تبصرة المتعلمين: 4/454.

1- لم يكن للمحقق العراقي (قدس سره) الاعتراض على الإلحاق لأن مقتضى الاشتراط في الوجوب ذلك كما قرّبنا، وهو (قدس سره) ممن قال بالاشتراط.

2- إن ما ذكره (قدس سره) من التسرية غير صحيح لوضوح الفرق بين التكاليف الفردية –كالصوم والصلاة- والتكاليف الاجتماعية –كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- لعدم وجود مفسدة في سقوط الأولى وغاية ما يحصل فوات المنفعة –لو قلنا به-، أما الثانية ففي تركها ضرر كبير؛ لما فيه من مفاسد اجتماعية ونوعية عامة تأتي على نفس الدين وكيان المسلمين فالتجريد عن الخصوصية غير تام.

أما الإجماع فهو غير موجود بل غير محتمل.

فالصحيح هو ملاحظة درجة الاحتمال مضافاً إلى أهمية المحتمل(1)

لحساب الضرر عند إجراء مرجحات التزاحم مع مصالح القيام بفريضة الأمر والنهي ومفسدة تركهما، فإذا تعلق الضرر بالنفس فإن المحتمل كبير الأهمية وحينئذٍ قد يكفي مجرد الاحتمال لسقوط واجب الأمر والنهي عندما لا تكون المفسدة المقابلة تتعلق بذهاب الدين وتهديد كيان المسلمين؛ لأن خوف الضرر بحد ذاته ضرر عرفاً وعقلائياً على هذا المستوى.

فإلحاق ظن الضرر واحتماله بالعلم به يكون له منشآن: قوة المحتمل، وصدق عنوان الضرر على نفس خوف الضرر واحتماله عرفاً وعقلائياً.

ص: 396


1- يوجد بحث في كتاب (الرياضيات للفقيه) عن دخول عنصري الاحتمال والمحتمل في حساب الاحتمالات.

الثاني: قد يقال بإلحاق قاعدة التقية بقاعدة لا ضرر في حكومتها على وجوب الأمر والنهي ولكن هذا الإلحاق قابل للمناقشة لوجود فروق بين الضرر والتقية من وجوه:-

عدم المنافاة بين التقية والأمر والنهي وإمكان الجمع بينهما، بأن يعمل بمقتضى التقية ويؤدي وظيفة الأمر والنهي كمؤمن آل فرعون فإنه كان يكتم إيمانه ويظهر للفرعونيين أنه منهم ولم يمنعه من القيام بهذه الوظيفة، قال تعالى: «وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً1- يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ، يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ» (غافر:28-29).

ويعم هذا الوجه ما لو ((كان مورد التقية فعلاً ومورد الأمر والنهي فعلاً آخر كما لو كان يتقي في مسألة الجمع بين الصلاتين وكان ينهى عن ترك الصلاة))(1)

وهذا واضح.

وكذا لو كانا في مورد واحد فلا يصح توهم المنافاة باعتبار أن مقتضى التقية ترك الفعل ومقتضى الفريضة وجوبه كما لو كان يأمر بالصلاة ولا يستطيع فعلها تقية فلا يسقط الوجوب لإمكان التظاهر بعدم الصلاة والإتيان بها واقعاً، أي أنّ ((المنافاة إنما تقع بين الأمر بالصلاة مثلاً مع عدم الصلاة واقعاً ولا تقع مع الأمر بالصلاة مع التظاهر بعدم الصلاة وكان واقعاً مؤدياً للصلاة)).

ص: 397


1- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للشيخ نوري حاتم الساعدي: 66.

2- عدم وجود مسوّغ للتقية في ممارسة الأمر والنهي في أغلب الأحكام الشرعية لاتفاق المدرستين عليها كوجوب الصلاة والصوم والحج والحجاب وحرمة الخمر والغيبة والسرقة ونحو ذلك.

3- قد يسقط وجوب الأمر والنهي لأمور أخرى مرتبطة بالقوم من دون الحاجة إلى إسقاطه بالتقية، ومنها:-

أ- وجود الاختلاف في الاجتهادات الفقهية بين المدرستين مما يعطي معذرية للطرف الآخر، فقد يكون فعل الآخر حراماً بالنسبة لفقهنا نحن الإمامية لكنه حلال بالنسبة إليه فلا يجب نهيه خصوصاً إذا وافق مذهبه قولاً لأحد علماء الإمامية في هذه المسألة، نعم يوجد تكليف آخر غير هذه الفريضة إذا أمكن القيام به وهو إرشاده إلى المذهب الحق فإذا اعتقد به وجب أمره ونهيه، وقد تقدم البحث في هذا الشرط.

ب- قد يسقط الوجوب لأمر آخر وهو شرط احتمال التأثير الذي يقول به المشهور حيث يحتمل الإمامي بدرجة كبيرة عدم قبول الآخر بأمره ونهيه فيسقط الوجوب لعدم احتمال التأثير.

(الثالث) يوجد من يناقش في ما قام به الإمام الحسين (عليه السلام) وأنه من إلقاء النفس في التهلكة وهو محرم، ولا يستحق هذا الكلام أن يُذكر لأنه لا يتلاءم مع عقيدتنافي الإمام المعصوم، لولا أننا وجدنا لهذه المناقشة حضوراً في ذهنية بعض علماء الإمامية بشكل أوسع حيث عدّ الإقدام على الأمر والنهي مع خوف الضرر على النفس من إلقاء النفس في التهلكة، وإن أَخْرَج الإمام الحسين (عليه السلام) عن دائرة الإشكال.

فقد أورد العلامة الطبرسي (قدس سره) كلاماً يجب التوقف عنده في معنى قوله تعالى: «وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ

ص: 398

وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (البقرة : 195) قال (قدس سره): ((وفي هذه الآية دلالة على تحريم الإقدام على ما يخاف منه على النفس، وعلى جواز ترك الأمر بالمعروف عند الخوف، لأن في ذلك إلقاء النفس إلى التهلكة.

وفيها دلالة على جواز الصلح مع الكفار والبغاة، إذا خاف الإمام على نفسه، أو على المسلمين كما فعله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عام الحديبية، وفعله أمير المؤمنين (عليه السلام) بصفين، وفعله (عليه السلام) مع معاوية من المصالحة لما تشتت أمره، وخاف على نفسه وشيعته.

فإن عورضنا بأن الحسين (عليه السلام) قاتل وحده؟ فالجواب: إن فعله يحتمل وجهين أحدهما: إنه ظن أنهم لا يقتلونه لمكانه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والآخر: إنه غلب على ظنه أنه لو ترك قتالهم قتله الملعون ابن زياد صبراً، كما فعل بابن عمه مسلم، فكان القتل مع عز النفس والجهاد، أهون عليه))(1).

ولعله استند في ذلك إلى رواية ذكرها الشيخ الصدوق في الأمالي بسند غاية في الضعف ينتهي إلى أنس قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): طاعة السلطان واجبة، ومن ترك طاعة السلطان فقد ترك طاعة الله عز وجل، ودخل في نهيه، إن الله عز وجل يقول: «وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ»)(2).

ويرد عليه:-

1- هذا الكلام على إطلاقه ليس صحيحاً، وقد اتضح مما تقدم محل صحة الإقدام على الضرر حتى لو كان على نحو إزهاق الأرواح، ومتى لا يصح الإقدام بل يكون قبيحاً مستهجناً لدخوله في عنوان العبث أو إلقاء النفس في التهلكة بحسب الضرر المتصور.

ص: 399


1- مجمع البيان: 1/516.
2- وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 27، ح2.

إن التهلكة تعني التلف والضياع بلا فائدة تناسب العمل، وتحمل الضرر في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى وإقامة دينه وإصلاح الأمة فيه مصلحة تستحق تحمل المشقة والأذى والتضحية بحسب ما تفيده الآيات الكريمة والروايات الشريفة التي أمرت به وبينت عظيم أجره كالحديث النبوي الشريف (أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر)، فتكون أدلة وجوب الأمر والنهي –في مواضع تقديمها على أدلة لا ضرر- واردة بحسب المصطلح على موضوع1- التهلكة ومزيله له، ويكون ما فعله الإمام الحسين (عليه السلام) على القاعدة في مورده وليس استثناءً حتى يحاول تبريره.

2- إن الآية تدل على عكس ما ورد في التوهم؛ لأنها بصدد الأمر بالإنفاق في سبيل الله وإلا ألقوا أنفسهم في التهلكة، فالتهلكة في التخلف عن امتثال أوامر الله تعالى، وليس في امتثالها كما توهم المتكلم، وبالتجريد عن الخصوصية تدل الآية على أن التهلكة في ترك الأمر والنهي وليس في امتثاله وهذا ما أكدته الروايات الشريفة: من تسلّط الأشرار وفساد أمور الأمة وعدم استجابة الدعاء.

ما تقدم من أن أي مورد يسقط فيه وجوب الأمر والنهي للضرر الكبير يكون العمل به حراماً وليس جائزاً كما ورد في كلامه (قدس سره)، خصوصاً في محل البحث وهو الخوف على النفس لأنه من إلقاء النفس في التهلكة الذي هو حرام.

أما ما ذكره (قدس سره) من صلح النبي (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين والحسن المجتبى (عليهم السلام) فله أسبابه ومصالحه المعروفة وليس مبنياً على ما نحن بصدده، ولقد وصف القرآن الكريم صلح الحديبية بالفتح المبين «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً».

وأما ما أجاب به عن قيام الإمام الحسين (عليه السلام) فترده الروايات والحوادث التأريخية فقد أخبر الإمام الحسين (عليه السلام)

ص: 400

عن مقتله وهو في مكة (كأني بأوصالي هذه يتقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا)(1).

وننقل هنا رواية جليلة فيها عدة معطيات، كالمقام الرفيع لأئمتنا (عليهم السلام) عند الله تعالى، ومعاناتهم من قصور فهم شيعتهم، وفيها شاهد على ما قدمناه، روى الشيخ الكليني (قدس سره) في الكافي بسند صحيح عن ضريس الكناسي قال: (سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول –وعنده أناس من أصحابه-: عجبت من قوم يتولونا ويجعلونا أئمة ويصفون أن طاعتنا مفترضة عليهم كطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله ثم يكسرون حجتهم ويخصمون أنفسهم بضعف قلوبهم، فينقصونا حقنا ويعيبون ذلك على من أعطاه الله برهان حق معرفتنا والتسليم لأمرنا(2).

أترون أن الله تبارك وتعالى افترض طاعة أوليائه على عباده، ثم يخفي1- عنهم أخبار السماوات والأرض ويقطع عنهم مواد العلم فيما يرد عليهم مما فيه قوام دينهم(3)؟!.

فقال له حمران: جعلت فداك أرأيت ما كان من أمر قيام علي بن أبي

ص: 401


1- بحار الأنوار: 44/376.
2- يبيّن الإمام (عليه السلام) في هذا المقطع صحة اعتقادهم، لكن هذا الإيمان الذي ينعقد عليه القلب لا بد أن تكون له حقيقة تجعل الإيمان تاماً، لكن هؤلاء الذين يتعجب منهم الإمام لا تتوفر فيهم هذه الحقيقة فينقضون إيمانهم بهذا التقصير ولا يلتزمون بمقتضيات هذا الإيمان.
3- بعد ذلك الكلام العام يحدد الإمام (عليه السلام) في هذا المقطع مورد العجب من شيعته والنقص في معتقدهم فيتصورون أن الأئمة (عليهم السلام) كالناس العاديين لا يعلمون إلا ما تعلموه من الآخرين والحال أنهم موصولون بربهم فيلهمهم كل ما يحتاجون إليه في أداء وظائفهم ولبلوغ الكمال.

طالب والحسن والحسين عليهم السلام وخروجهم وقيامهم بدين الله عز ذكره، وما أصيبوا من قتل الطواغيت إياهم والظفر بهم حتى قتلوا وغلبوا(1)؟.

فقال أبو جعفر عليه السلام: يا حمران إن الله تبارك وتعالى قد كان قدر ذلك عليهم وقضاه وأمضاه وحتمه على سبيل الاختيار ثم أجراه فبتقدمِ علمٍ إليهم من رسول الله صلى الله عليه وآله قام علي والحسن والحسين عليهم السلام، وبعلمٍ صمت من صمت منا، ولو أنهم يا حمران حيث نزل بهم ما نزل من أمر الله عز وجل وإظهار الطواغيت عليهم سألوا الله عز وجل أن يدفع عنهم ذلك وألحوا عليه في طلب إزالة ملك الطواغيت وذهاب ملكهم إذا لأجابهم ودفع ذلك عنهم، ثم كان انقضاء مدة الطواغيت وذهاب ملكهم أسرع من سلك منظوم انقطع فتبدد، وما كان(2)

ذلك الذي أصابهم يا حمران لذنب اقترفوه ولا لعقوبة معصية خالفوا الله فيها ولكن لمنازل وكرامة من الله، أراد أن يبلغوها، فلا تذهبن بك المذاهب فيهم)(3).

ص: 402


1- كأن حمران انقدح في ذهنه سؤال بأنه إذا كان الأمر كذلك فهل ما فعله الأئمة (عليهم السلام) من إلقاء النفس في التهلكة حين أقدموا على الموت؟ أم أنهم كانوا لا يعلمون بما سيجري عليهم خلافاً لما أسّسه الإمام (عليه السلام) في كلامه؟.
2- من هنا يريد الإمام (عليه السلام) أن يبيّن أن ما أصاب الأئمة (عليهم السلام) من بلاء ليس لتخفيف الذنوب وتكفيرها وإنما لأن لهم (عليهم السلام) مقامات عند الله تعالى لن ينالوها إلا بالمرور بهذه البلاءات.
3- الكافي: 1/261-262.

(المحور الرابع- شروط متعلق الأمر والنهي)

اشارة

وهي أمور تقدمت بعض تفاصيلها في المحاور السابقة ونذكرها على نحو الاختصار:

(الأمر الأول) كون المأمور به معروفاً والمنهي عنه منكراً

وهذا مما لا إشكال فيه، ونلفت هنا إلى عدة نقاط تقدمت في البحوث التمهيدية:

أولاها: ما به يُعرف المعروف والمنكر والحاكم في ذلك، وقد تقدم في البحوث التمهيدية أنه أوسع من حكم الشرع فقد لا يثبت بحكمه معروفية معروف ومنكرية منكر، أو يقال أن أدلة وجوب الأمر والنهي منصرفة عنه، ومع ذلك يقال بوجوب الأمر والنهي بناءً على حكم العقل بذلك.

ومن الأمثلة التي ذكرناها لحكم العقل وجوب النهي عن ترك الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي (تقدم صفحة 298) أو تبديل الأهم بالمهم ونحو ذلك.

وقد ذكرنا لهذه التوسعة أكثر من وجه:-

أ- الملازمة بين حكم الشرع وحكم العقل فما حكمَ به العقل حكم به الشرع، فترجع القضية إلى حكم الشرع

ب- ما قربناه من أن ملاك الأمر والنهي هو الحسن والقبح وهما داخلان في مساحة تحكيم العقل، وليس الملاك الطاعة والعصيان حتى نقتصر على حكم الشرع وقد ذكرنا نقوضاً على الثاني الذي بنى عليه المشهور.

ثانيها: ظاهر إطلاق النصوص عدم الفرق في المنكر بين الصغيرة والكبيرة، وقد صرّح بعض الفقهاء (قدس الله أرواحهم) بذلك(1).

ص: 403


1- منهج الصالحين: 2/242، المسألة (899)، وتحرير الوسيلة: 1/419، المسألة (14).

ثالثها: على المشهور يجب أن يكون المعروف المتروك والمنكر الواقع إلزامياً ليجب الأمر والنهي فلا يجبان في المستحب والمكروه. وقد ناقشنا في ذلك من أكثر من جهة.

(الأمر الثاني) أن يكون للأمر والنهي موضوع

بأن يكون الفاعل قد ارتكب ما يتعلق به الأمر والنهي، أو أنه عازم عليه، وليس مجرد تمنّي منه أو فضول من الكلام، ولا يجوز البناء على الظن أو الشبهة.

وقد قيدوا الوجوب بكون الموضوع حاضراً أو قريب الوقوع بحصول مقدماته القريبة، وهذا تضييق لموضوع الأمر والنهي إذ أنه يشمل الموضوع البعيد إذا كان عازماً عليه لأن نفس العزم قبيح يقتضي النهي عنه، وإنما أخرجوه لأنهم جعلوا ملاك الأمر والنهي الطاعة والعصيان، ومثاله ما لو كان عازماً على قتل زيد من الناس فيما لو تمكن منه أو ورد إلى مدينتهم ولا يُعلم متى يحصل ذلك، فإن عزمه هذا منكر يجب نهيه عنه.

وقد ذكروا في موارد هذا الشرط سقوط الأمر والنهي عند انعدام الموضوع.

قال السيد الخميني (قدس سره): ((لو عُدم موضوع الفريضة أو موضوع المنكر سقط الوجوب وإن كان بفعل المكلف، كما لو أراق الماء المنحصر الذي يجب حفظه للطهارة أو لحفظ نفس محترمة))(1).

أقول: هذا صحيح بناءً على فهم المشهور من كون غرض الأمر والنهي إيجاد متعلقهما في الخارج، أما بناء على ما اخترناه من تعدد أغراض الفريضة كإظهار الغضب لله أو لخلق أمة آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر فإن الوجوب قائم، بل

ص: 404


1- تحرير الوسيلة: 1/419، مسألة (8).

لا يبعد الوجوب بناءً على المشهور ولكن بعنوان الإرشاد أو تعليم الحكم أو الموعظة أو النهي عن إعادة مثلها ونحو ذلك بحسب حال الفاعل من العلم والجهل والعمد والإصرار.

(الأمر الثالث)

((اشترط بعض الفقهاء في المنكر أن يكون ظاهراً غير مستور، ومن هنا حكموا بعدم جواز التجسس على من أغلق بابه بوضع الأذن والأنف لإحساس الصوت والريح، وقد نهى الله تعالى عن ذلك بقوله: «وَلا تَجَسَّسُوا» (الحجرات:12) ))(1).

أقول: لا إشكال في حرمة التجسس وعدم جواز كشف بيوت الناس لاستعلام ارتكابهم المعاصي وتحقق موضوع الأمر والنهي فهذه المقدمة العلمية محرمة، ولذا يحرم التنصت على المكالمات الهاتفية وفتح الرسائل المغلقة والاطلاع على الحواسيب الإلكترونية الخاصة ونحو ذلك. لكن هذا حرام مستقل لا ينافي وجوب الأمر والنهي لو علم الآمر الناهي بذلك وكان الآخر متستراً وإن حصل هذا العلم بالتجسس لتحقق موضوع وجوب الأمر والنهي.

نعم إذا كان متستراً فيجب أن يكون الأمر والنهي على نحو لا يؤدي إلى هتكه وفضح سرِّه لأن هذا محرم.

ونضيف هنا أن الحاكم الشرعي العادل عندما يكون مبسوط اليد قد يستثني بعض الموارد كالتجسس فيكون جائزاً بل واجباً إذا تعلق بأمور يهتم بها الشارع المقدس ولا يرضى بإهمالها أو كان فيها صلاح المجتمع وحفظ حقوقه في الحياة كالكشف عن خلايا الإرهابيين وأوكارهم أو بؤر الفساد والضلال بعد تجميع المعلومات اللازمة، وباختصار وجود مصالح عليا للبلاد والعباد تذوب أمامها حرمة التجسس.

ص: 405


1- موسوعة الفقه الإسلامي: 17/198.

وهذه القضية تحتاج إلى تقنين ووضع ضوابط؛ لذا قيدناها بظرف سلطة الحاكم العادل، لئلا يساء استخدام هذه الرخصة، لذا لا بد من التوقف في الفتوى التي حكيت عن السيد الخوئي (قدس سره) بجواز التجسس على مهرّبي المخدرات ومتعاطيها(1)

فمثل هذه الفتوى لا ينفع إلقاؤها في زمن الطواغيت، لكننا نتفهم ما نقله نفس المصدر من فتوى السيد الخميني (قدس سره) في رسالة وجهها إلى أجهزة ملاحقة المخالفات القضائية والإدارية قال فيها: ((إن التجسس على أحوال الأشخاص غير المفسدين، وعلى ما عدا الفئات المخرّبة ممنوع مطلقاً، وتوجيه الأسئلة إلى الأفراد حول عدد المعاصي التي ارتكبوها –كما تفيده بعض التقارير- مخالف للإسلام، والمتجسس عاصٍ))(2).

ومنه يُعلم النظر في قوله (قدس سره): ((لو توقفت إقامة فريضة أو قلع منكر على ارتكاب محرم أو ترك واجب فالظاهر ملاحظة الأهمية))(3).

أقول: هذا الكلام على إطلاقه ليس صحيحاً لما قلناه من فتح باب واسع للتلاعب في الأحكام، فلا بد من الاقتصار على ما إذا كان متعلق الأمر والنهي من قبيل الأمور التي يهتم الشارع المقدس بها كالمثال الذي ذكرناه آنفاً.

ويلاحظ هنا أن عنوان التجسس المحرم لا يشمل عمل أجهزة الرقابة المالية والإدارية ومكافحة الفساد وتدقيق السجلات والوثائق ونحوها مما فيه حفظ النظام.

ص: 406


1- حكاه في (فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 446) عن صراط النجاة: 3/218.
2- حكاه نفس المصدر: 448 عن بيان له بتأريخ 15/10/1361 ه-. ش. المصادف 1982.
3- تحرير الوسيلة: 1/419، مسألة (9).

خاتمة

اشارة

فيها مطلبان:

(الأول) توجد بعض المسائل التي تقترب من مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة) كالتي نقلناها في الصفحة السابقة عن السيد الخميني (قدس سره) وهو مبدأ لا يقرّه الشارع المقدس، وقد نبهنا في أكثر من موضع في البحث إلى وجوب التفريق بين ما أسسهالشارع المقدس من مراعاة المصالح والمفاسد وتقديم الأهم على المهم عند التزاحم وبين مبدأ ((الغاية تبرر الوسيلة)) التي يعتمدها الوصوليون والانتهازيون سواء أكانوا أفراداً أو أحزاباً أو حكومات للوصول إلى أغراضهم ومآربهم. ويتضح الفرق من أكثر من جهة:-

1- إنهم يعملون بهذا المبدأ لتحقيق مآربهم الشخصية ومصالحهم الذاتية بينما يتحرى الفقهاء من تطبيق هذه القواعد مرادات الشارع المقدس والملاكات والمصالح العليا التي يتوخّاها.

2- إن ما أسسه الشارع المقدس مستند إلى قوانين إلهية وأحكام عقلية وسيرة عقلائية أما أولئك فلا مستند لعملهم إلا اتباع الهوى والأنانية.

3- إن الشارع المقدس يهتم بمشروعية الوسيلة ونظافتها كما يهتم بسمو الغاية ومشروعيتها؛ لأن هدفه إقامة العدالة والحياة الكريمة، ولا يطلب الحق بالجور كما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (عليه السلام)، أما أولئك فلا يهمهم شرعية الوسيلة لبلوغ الغاية، ولا أهميتها فقد يرتكبون أفظع الجرائم من أجل نزوة أو شهوة أو طمع.

4- إن استعمالهم لهذه المقولة مطلق أما عند الشارع المقدس فإن الرخصة مقيدة بالموارد التي لا يرضى الشارع المقدس والعقلاء بإهمالها كحفظ النفس المحترمة ونحو ذلك.

ص: 407

5- ومن الفروق محافظة الشارع المقدس على حرمة الطرف الآخر وكرامته وعدم إهانته وجرح مشاعره ومراعاة ألين الطرق وأرفقها وأيسرها كما سيأتي في الفصل الآتي إن شاء الله تعالى.

وهذه كلها لا يلتزم بها أهل تلك المقولة.

(الثاني) موارد حرمة الأمر والنهي

بعد الانتهاء من استعراض شروط وجوب الأمر والنهي وظهر أن بعضها شروط للوجوب، أي أن الوجوب ينتفي بانتفائها، وبعضها شروط للجواز أي أن الفعل يصبح حراماً عند عدم توفرها؛ لحصول الإيذاء أو الضرر للمؤمن بغير حق ونحو ذلك، بل إن الشك كافٍ للحرمة لأصالة البراءة ولعدم جواز التمسك بإطلاقات الوجوب عند عدم إحراز موضوعه أو عند الشك في شمول الإطلاق للمورد كما لو شك في اقتضاء الوظيفة الجرح والضرب والكلام الجارح ونحو ذلك، وعلى أي حال فإننا سنفي الآن إن شاء الله تعالى بما وعدنا به من الإشارة إلى موارد حرمة الأمر والنهي، وذلك حينما يكون الشرط للجواز دون الدخول في التفاصيل لأنها تقدمت، ومن موارده:-

1- عندما يتسبب الأمر والنهي في حصول ضرر على الآمر الناهي أو غيره يكون أكبر من مفسدة ترك الأمر والنهي، بحيث يكون الفعل من إلقاء النفس في التهلكة أو من العبث.

2- لا يجوز الأمر بالمعروف ما لم يعلم أنه معروف، ولا النهي عن المنكر ما لم يعلم أنه منكر.

3- لا يجوز الأمر والنهي في ما لو كان الفاعل للمنكر والتارك للمعروف معذوراً لتقية أو اضطرار أو أن مرجع تقليده لا يرى بأساً في ذلك.

4- لو عزم الفاعل للمنكر والتارك للمعروف على التوبة وندم على فعله فلا يجوز أمره ونهيه.

ص: 408

5- لا يجوز الأمر والنهي بمجرد ظن أو احتمال قيام الآخر بفعل موجبهما، أو كان ناوياً لذلك من دون العزم عليه فإن في ذلك إغراءً له بارتكابه.

6- لا يجوز الأمر والنهي بما يوجب هتك الفاعل كما لو كان متستراً بفعله أو أن الأمر والنهي كان بمحضر جماعة ونحو ذلك.

7- ما ذهب إليه بعض من اشترط العدالة في الآمر الناهي، فقد ذهب بعضهم إلى أنه يحرم عليه الأمر بالمعروف قبل العمل به والنهي عن المنكر ما لم يجتنبه باعتباره كذباً عملياً ونفاقاً (تقدم صفحة 253).

8- لا يجوز الأمر والنهي على نحو الدرجة الأشد إذا أمكن تحقيق الغرض بالمرتبة الأخف، سواء على مستوى المراتب (القلب، اللسان، اليد) أو ضمن المرتبة الواحدة.

ومما تقدم يظهر أن البعض يكون –من حيث يعلم أو لا يعلم- من أهل الآية الكريمة «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» (الكهف: 103-104) لأنه يظن أنه يؤدي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولكنه في الواقع يسقط في كبيرة إيذاء المؤمن وإهانته وهدر كرامته أو بسبب جهله وحب الاستعلاء والظهور من خلال النكاية بالآخرين ونحو ذلك، وهذه الحرمة ثابتة بالأدلة الأربعة لأنها ظلم والظلم قبيح عقلاً والإجماع قائم على ذلك، ومن الكتاب قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً» (الأحزاب:58)، أما الروايات فيمكن دعوى تواترها ومنها ما في الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: من المؤذون لأوليائي؟ فيقوم قومٌ ليس على وجوههم لحم، فيقال: هؤلاء الذين آذوا المؤمنين ونصبوا لهم وعاندوهم وعنّفوهم في دينهم، ثم يؤمر بهم إلى النار)(1)، وعن

ص: 409


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العشرة، باب 145، ح2.

الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (لا تؤذي المؤمن ولا تجهل على الجاهل، فتكون مثله)(1).

ص: 410


1- بحار الأنوار: 71/158، عن الخصال: 1/26، وفي النسخة (ولا تجهل الجاهل) وما أثبتناه في المتن أوفق؛ لأن الجهل المنهي عنه في الحديث يتعدى بعلى، والفعل اللازم (جهل) بمعنى عدم المعرفة، ويصبح المعنى غريباً هنا، فالأرجح حصول خطأ في النسخ.

الفصل الخامس: آليات امتثال الفريضة ومراتبها

اشارة

القيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحصل بوسائل عديدة ومتنوعة، وهذا التنوع في الأدوات حالة طبيعية اقتضاها اختلاف الناس –آمرين ومأمورين- في مستوياتهم الدينية والفكرية والثقافية والاجتماعية، وكذلك التباين الواسع في أهمية ودرجات المعروف والمنكر، وتنوع الظروف المحيطة بعملية الأمر والنهي، والقدرات المتوفرة للعاملين بهذه الفريضة، ونحو ذلك من العوامل المؤثرة.وقد عبّر الفقهاء (قدس الله أرواحهم) عن هذه الآليات بالمراتب للتعبير عن ترتّبيّتها فيبدأ بالأيسر والأخف ثم إلى ما هو أشد منها إذا لم يحصل التأثير، والبحث فيها يتضمن الكثير من العقد التي تحتاج إلى حل، منها:-

1- عدم استقصاء هذه الأدوات لأن ما ذكروه غير مستوعب لها خصوصاً بعد استحداث وسائل جديدة للأمر والنهي كالمقاطعة الاقتصادية والسياسية أو الاعتصامات والتظاهرات والإضرابات ونحو ذلك، بل غير مستوعب حتى لما ورد في كلماتهم كتأثير الأسوة الحسنة، قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((من أعظم أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأعلاها وأتقنها وأشدها تأثيراً خصوصاً بالنسبة إلى رؤساء الدين أن يلبس رداء المعروف واجبه ومندوبه، وينزع رداء المنكر محرمه ومكروهه))(1)

ففي أي مرتبة نضع هذه المسائل؟.

ص: 411


1- جواهر الكلام: 21/382.

2- من حيث أصل الترتيب، فإن بعض المراتب متداخلة فقد يتقدم بعض الإنكار القلبي كعبوس الوجه على اللساني كما لو كان بالكلمات الطيبة، كما أن تحقيق الغرض قد يتطلب كون بعضها مجتمعة كاللسان واليد أو هما والقلب ونحو ذلك، مضافاً إلى الاختلاف في نفس الترتيب بين كلمات الفقهاء وصريح الروايات في أيّها المتقدم وأيها المتأخر، فالفقهاء قدموا القلب ثم اللسان ثم اليد، والترتيب في الروايات عكس ذلك.

3- من حيث تفاصيل كل مرتبة فهل يشمل عنوان اليد الضرب والجرح فضلاً عن القتل؟، وما هو الدليل على كل ذلك؟.

4- تقديم الأيسر والأخف هل هو مطلق أم يجوز البدء بالأشد مباشرة إذا كان هو الوسيلة المناسبة كما في مكافحة الإرهاب والفساد المالي ونحو ذلك.

وعلى أي حال، نبدأ ببيان بعض المطالب التي تنفعنا في البحث:

(الأول) الترتب في أساليب الإصلاح –وهو العنوان العام الذي يشمل فريضة الأمر والنهي- مبدأ قرآني، وقد أقرّه في آيات عديدة.

منها: قوله تعالى: «وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلى أَمْرِ اللَّهِ» (الحجرات:9).

ومنها قوله تعالى: «وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً» (النساء : 34).

ومنها قوله تعالى: «ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (النحل:125).

بتقريب أن الجدال غير الموعظة والنصيحة.

ص: 412

والترتب مبدأ عقلائي أيضاً، فإذا أمكن التأثير والمعالجة بالأخف والأسهل فإنهم يستقبحون استعمال الوسيلة الأشد والأغلظ، ومن أمثالهم في ذلك (العقدة التي تُفَلُّ بالأنامل لا حاجة لاستعمال الأضراس فيها).

(الثاني) اختلف في حقيقة المراد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهل هو مجرد إنشائهما، أم وجوب حمل المأمور المنهي على مقتضاهما بما أمكن من الوسائل المشروعة؟، ولا نريد بالحمل إجبار الطرف الآخر أو إكراهه على مقتضى الأمر والنهي، وإنما نريد عدم سقوط التكليف بالأمر والنهي بمجرد إبلاغ الآخر وإنما علينا الاستمرار والمواصلة واتخاذ سائر التدابير والوسائل لدفع الآخر إلى الالتزام بهما، وهنا قولان بغض النظر عن التفاصيل.

قال صاحب الجواهر: ((لا يخفى على من أحاط بما ذكرناه من النصوص وغيرها أن المراد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الحمل على ذلك بإيجاد المعروف والتجنب من المنكر لا مجرد القول، وإن كان يقتضيه ظاهر لفظ الأمر والنهي، بل وبعض النصوص الواردة في تفسير قوله تعالى: «قُوا أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَاراً وَقُودُهَا النَاسُ وَالحِجَارَةُ» المشتملة على الاكتفاء بالقول للأهل افعلوا كذا واتركوا كذا، قال الصادق عليه السلام في خبر عبد الأعلى مولى آل سام: (لما نزلت هذه الآية «يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَاراً» جلس رجل من المسلمين يبكي وقال: أنا عجزت عن نفسي وكُلّفت أهلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: حسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك، وتنهاهم عما تنهى عنه نفسك) وخبر أبي بصير في الآية (قلت كيف أقيهم؟ قال: تأمرهم بما أمر الله، وتنهاهم عما نهاهم الله، فإن أطاعوك فقد وقيتهم وإن عصوك كنت قد قضيت ما عليك) وفي خبره الآخر عن أبي عبد الله عليه السلام في الآية أيضاً (كيف نقي أهلنا؟ قال تأمرونهم وتنهونهم) لكن ما سمعته من النصوص

ص: 413

والفتاوى الدالة على أنهما يكونان بالقلب واللسان واليد صريح في إرادة حمل الناس عليهما بذلك كله))(1).

أقول: صريح كلامه (قدس سره) أن ظاهر لفظ الأمر والنهي الاقتصار على إنشائهما، لكن النصوص أوجبت توسيع المعنى.

وهذه مصادرة على المطلوب لإمكان دعوى عدم شمول عنوان اليد لمعنى حمل الآخر بقرينة اقتصار معنى الأمر والنهي على إنشائهما فتحمل اليد على الاكتفاء بالإشارة أو الالتزام العملي بفعل المعروف واجتناب المنكر المعنون بالدعوة الصامتة ونحو ذلك، فهذا الاستدلال غير تام.

أما ما ذكره (قدس سره) من الروايات الدالة على الاكتفاء بمجرد الأمر والنهي فهي غير تامة لأنها مجملة من ناحية الوسائل والأدوات والمراتب ودالة علىأصل وجوب الأمر والنهي فهي كغيرها من هذه الناحية مع إضافة عدم تحمل المسؤولية عن عصيان الآخرين.

وإلى هذا الذي ذكره (قدس سره) (من دلالة لفظي الأمر والنهي وبعض الروايات) استند أصحاب القول الآخر بالاقتصار على إنشائهما، وربما يظهر من المحقق الأردبيلي (قدس سره) الميل إلى هذا، قال في معرض ردّه على افتقار الأمر والنهي إلى الجرح والقتل: ((هذا غير صحيح لو سًلِّم وجوب المنع بمهما أمكن مع الشرائط، والدليل عليه غير واضح، ودليل الأمر والنهي لا يدل عليه، لأن الجرح والقتل ليسا بأمر ولا نهي، ودلالة دليلهما على أكثر من ذلك غير ظاهر))(2).

قال بعض الأعلام: ((المستفاد من الدليل اللفظي وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن شئت قلت: لا دليل على منع حصول المنكر

ص: 414


1- جواهر الكلام: 21/381-382.
2- مجمع الفائدة والبرهان: 7/542.

في الخارج، بل الدليل إنما دلّ على الأمر والنهي فلا بد من الاقتصار عليهما والزائد عنهما يحتاج إلى دليل ولم نجده، فلا بد من إتمام المدعى بالإجماع والتسالم بين الأصحاب إن تمّا))(1)

ووصف كلام صاحب الجواهر بأنه دعوى بلا دليل.

وقال معاصر آخر: ((كلمتا الأمر والنهي ظاهرتان في الجانب اللساني عرفاً ولغةً ولا تشملان حالة فرض المعروف ومنع المنكر بالقوة فضلاً عن العنف الجسدي))(2).

وعلقّ عليه الناقل بالتأييد إلا أنه ذكر وجهاً للقول بالتفصيل قائلاً: ((وهذا الكلام لا بأس به، لا أقل في طرف الأمر بالمعروف، إذ لا يشمل هذا المفهوم صورة ضربه أو جرحه أو ما شابه ذلك بوصف هذا الفعل أمراً، فالمطلوب هو الأمر، وليس سوى طلب الفعل لا القهر عليه، والمطلوب هو النهي وهو طلب الترك أو الزجر اللساني عنه، وإن كان مفهوم النهي يمكن أن يتصور شموله للنهي بالقوة، بخلاف مفهوم الأمر، لكن مقتضى انصراف التعبير عرفاً إلى الجانب اللساني ما لم يبرز دليل على ما هو أزيد))(3).أقول: الصحيح هو الأول أي أن معنى الأمر والنهي إلزام الآخر وحمله على متعلقهما فيقيم المعروف ويجتنب المنكر، أما الثاني فقد استظهر قوله من استعمال الشارع المقدس لفظي الأمر والنهي للتعبير عن هذه الفريضة، مع أن مراد الشارع المقدس ليس حاق هذين اللفظين أي الاكتفاء بإنشاء الأمر والنهي،

ص: 415


1- مباني منهاج الصالحين: 7/157.
2- فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 485 نقلاً عن يوسف صانعي: أمر به معروف ونهي آز منكر:15.
3- المصدر السابق: 485.

وإنما أراد الحقيقة التي وراءهما وهي تحقيق متعلقهما في الخارج أي إلزام الآخر عملاً بفعل المعروف وترك المنكر.

وقد استُعمِلَ هذان اللفظان لنكات ربما سنذكرها إن شاء الله تعالى.

ونذكر هنا وجوهاً للاستدلال على ما اخترناه:-

التعبير عن الفريضة في روايات عديدة بغير لفظ الأمر والنهي فلا يصح التقيد نتقيد بمفادهما، فقد ورد بلفظ التغيير وهو صريح في السعي لتحقيق النتائج المطلوبة:

منها: ما رواه الشيخ الطوسي في أماليه بسنده عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (كان يقال: لا يحل لعين مؤمنة ترى الله يعصى فتطرف حتى تغيره)(1).

ومنها: ما رواه الشيخ الصدوق في العلل بسند معتبر عن جعفر بن محمد (عليه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين: إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصة إذا عملت الخاصة بالمنكر سراً من غير أن تعلم العامة، فإذا عملت الخاصة بالمنكر جهاراً فلم تغيّر ذلك العامة استوجب الفريقان العقوبة من الله عز وجل)(2).

ومنها: ما رواه الصدوق أيضاً في ثواب الأعمال بسند معتبر عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهم السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن المعصية إذا عمل بها العبد سراً لم يضر إلا عاملها، فإذا عمل بها علانية ولم يغير عليه أضرت بالعامة، قال جعفر بن محمد (عليه

ص: 416


1- أمالي الشيخ الطوسي: 55، ح 75، وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 1، ح25.
2- علل الشرائع: 2/522، ح6، وسائل الشيعة: 16: 135-136، أبواب الأمر والنهي، باب 4، ح1، 2.

السلام): وذلك أنه يذل بعمله دين الله ويقتدي به أهل عداوة الله)(1).

ومنها: قول الإمام الحسين (عليه السلام): (أيها الناس إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان1- حقاً على الله أن يدخله مدخله)(2).

ومنها: رواية عقاب الأعمال مسندة عن محمد بن سنان رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ما أقرّ قوم بالمنكر بين أظهرهم لا يغيرونه إلا أوشك أن يعمهم الله العقاب من عنده)(3).

ومنها: ما رواه الطوسي في أماليه بسنده عن الإمام الرضا عن آبائه (عليهم السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يأتي على الناس زمان يذوب فيه قلب المؤمن في جوفه كما يذوب الإنك في النار يعني الرصاص، وما ذاك إلا لما يراه من البلاء والإحداث في دينهم ولا يستطيعون له غيراً)(4).

وورد أيضاً التعبير عن الفريضة بلفظ التأديب الذي هو أوسع من إنشاء الأمر والنهي كما في رواية عقاب الأعمال بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (أيما ناشئ نشأ في قومه ثم لم يؤدب على معصية كان الله أول ما يعاقبهم به أن ينقص في أرزاقهم)(5).

ص: 417


1- ثواب الأعمال: 261، وسائل الشيعة، نفس الموضع السابق.
2- موسوعة كلمات الإمام الحسين (عليه السلام): 438.
3- وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 4، ح3.
4- وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 5، ح8.
5- وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 3، ح6.

2- ظهور جملة من الروايات في هذا المعنى إما بصريح العبارة أو بالسلوك العملي الدال على الحمل، فمن الأول قول السيدة الزهراء (عليها السلام) في خطبتها على نساء المهاجرين والأنصار في حق أمير المؤمنين (عليه السلام): (وتالله لو مالوا عن المحجة اللائحة، وزالوا عن قبول الحجة الواضحة لردّهم إليها وحملهم عليها)(1).

وعلى النحو الثاني عدة روايات:

(منها) رواية المناقب عن الباقر (عليه السلام) في خبر أنه (رجع علي (عليه السلام) إلى داره في وقت القيظ فإذا امرأة تقول: إن زوجي ظلمني وأخافني وتعدّى عليّ وحلف ليضربني، فقال (عليه السلام): يا أمة الله، اصبري حتى يبرد النهار ثم أذهبُ معك إن شاء الله، فقالت: يشتد غضبه وحرده –أي غيظه- عليّ، فطأطأ رأسه ثم رفعه وهو يقول: لا والله أو يؤخذ للمظلوم حقه غير متعتع –أي من غير أن يصيبه أذى يقلقه ويزعجه- أين منزلك؟ فمضى إلى بابه فوقف فقال: السلام عليكم، فخرج شاب فقال (عليه السلام): يا عبد الله، اتق الله فإنك قد أخفتها وأخرجتها، فقال الفتى: وماأنت وذاك والله لأحرقنها لكلامك، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): آمرُك بالمعروف وأنهاك عن المنكر فستقبلني بالمنكر وتنكر المعروف! قال: فأقبل الناس من الطرق يقولون: سلام عليكم يا أمير المؤمنين فسقط الرجل في يديه، فقال: يا أمير المؤمنين أقلني عثرتي فوالله لأكوننّ لها أرضاً تطؤني، فأغمد علي (عليه السلام) سيفه، وقال: يا أمة الله ادخلي منزلك ولا تلجئي زوجك إلى مثل هذا وشبهه)(2).

أقول: في ذيل الرواية دلالة على أن أمير المؤمنين (عليه السلام) استل سيفه لحمل الزوج على ترك المنكر، ولم يكتفِ بإنشاء الأمر والنهي.

ص: 418


1- الاحتجاج للطبرسي: 1/139.
2- مناقب آل أبي طالب: 2/106.

(ومنها) ما تقدم (صفحة 52) من أن عمر بن الخطاب لما قال: لو صرفناكم عما تعرفون إلى ما تنكرون ما كنتم صانعين؟ كان جواب أمير المؤمنين (عليه السلام): (إذن نضرب الذي فيه عيناك)، ولم يكتف (عليه السلام) بالأمر والنهي واللسانيين.

(ومنها) ما عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: (إنه قد حقّ لي أن أأخذ البريء منكم بالسقيم، وكيف لا يحق لي ذلك وأنتم يبلغكم عن الرجل منكم القبيح فلا تنكرون عليه ولا تهجرونه ولا تؤذونه فيتركه)(1).

بتقريب التعبير بالإيذاء حتى يتركه.

(ومنها) مصححة ابن أبي عمير عن أبي عبد الله قال: (ما قُدِّست أمة لم يؤخذ لضعيفها من قويّها بحقه غير متعتع)(2).

أقول: تقريب الاستدلال بقوله (عليه السلام): (يؤخذ) الصريح بما قلناه.

(ومنها) رواية قرب الإسناد عن أبي البختري عن الصادق (عليه السلام) عن أبي (عليه السلام) قال: (أُتي علي (عليه السلام) برجل كسر طنبوراً لرجل فقال: بُعداً)(3).

أقول: تقريب الاستدلال بتأييد الإمام (عليه السلام) لما قام به الرجل من كسر الطنبور. والطنبور من آلات الملاهي كما في المجمع ولعله الدف.

3- مناسبة الحكم والموضوع، وتقريبه: أن الروايات الشريفة ذكرت آثاراً إيجابية مباركة وعظيمة لإقامة هذه الفريضة –كإقامة الفرائض وحلية المكاسب وحفظ الحقوق وإعمار البلاد والانتصاف من الأعداء- وعواقب سيئة وخيمة لتركها –كتسلط الأشرار وعدم استجابة الدعاء-

ص: 419


1- وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 7، ح4.
2- الكافي: 5/56، والتهذيب: 6/180.
3- بحار الأنوار: 75/100، ح 18.

وهذه لا تترتب على مجرد إنشائهما، بل على الالتزام العملي بمقتضاهما أو تركه، فلو وقع العمل أو لم يقع تحققت الآثار سواء حصل الإنشاء أو لم يحصل.

4- إن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مأخوذ على نحو الطريقية لتكليف الشارع المقدس لمتعلقهما، وقد تقدم تقريبه في مبحث ((الأمر بالأمر بشيء أمر بذلك الشيء))، وتكليف الشارع المقدس إلزام بالعمل فهذا الأمر والنهي مثله، أي أن أمر الآمر الناهي لتارك الصلاة بإقامتها ولشارب الخمر بتركها هو كأمر الشارع المقدس بقوله: (صلِّ) و (لا تشرب الخمر)، وقد التزم المشهور بالطريقية فنستغرب اختلافه هنا.

5- إن أي نظام اجتماعي –سواء أكان إلهياً أو وضعياً- يحتاج إلى سلطة تنفيذية لإقامته وإلزام الناس به وإلا يكون التشريع فاقداً للقدرة على التطبيق على أرض الواقع، والأداة التنفيذية لإقامة الشريعة في المجتمع المسلم هي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالإلزام العملي روحها ومضمونها وحقيقتها؛ لأنها بها تقام الفرائض وتحيى السنن كما دلّت عليه الروايات الشريفة فكيف لا يراد منها الإلزام العملي.

6- تصريح الروايات بوجود مرتبة اليد في مراتب امتثال الفريضة، وقد تسالم الفقهاء بل حكي إجماعهم على شمول معنى عنوان اليد لمعنى التغيير العملي بالتفاصيل التي سنذكرها لمعنى اليد بإذن الله تعالى، وهذا يكشف عن أن المراد بالفريضة هو التغيير.

وبتعبير آخر: إن نفس تسليمهم بوجود مراتب هو دليل على أن المراد هو التغيير وحمل الآخر، إذ لو كان مجرد الإنشاء كافياً لما احتجنا إلى أزيد من مرتبة واحدة لإنشائهما.

إن قلتَ: نورد هنا نفس الإشكال السابق على صاحب الجواهر (قدس سره) بأن توسيع مفاد الأمر بدلالة شموله لليد ليس أولى من

ص: 420

تضييق معنى اليد بدليل مفاد الأمر والنهي.

قلتُ: هذا الإشكال لا يأتي هنا لقيام الدليل على شمول اليد للضرب والجرح –كما تقدم وسيأتي إن شاء الله تعالى- فتكون أقوى ظهوراً بل صريحة وتتصرف في معنى الأمر والنهي.

7- إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تعبيران قرآنيان، وقد استعمل القرآن الكريم لفظ الأمر في حمل الآخر على متعلقه ولو من دون إنشاء أمر ونهي كما في قوله تعالى: «وَيَأمُرُونَ النَاسَ بِالبُخْلِ» (النساء:37)، قال السيد الطباطبائي (قدس سره): ((أمْرهم الناس بالبخل إنما هو بسيرتهم الفاسدة وعملهم به، سواء أمروا به لفظاً أو سكتوا))(1).

8- لزوم نتائج باطلة إذا أريد بهما مجرد إنشاء الأمر والنهي، لأنه ((لو لم يكن المراد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الإلزام العملي فهو لا يخلو: إما أن يكون من باب إلقاء الحجة أو من باب الوعظ والإرشاد، والأول: تحصيل للحاصل لفرض قيام الحجة على المكلف بإلزامه الأول –أي بالإلزام الشرعي-.

والثاني: مستحب وهو خلاف المفروض للإجماع والتسالم على وجوب هذه الفريضة الشريفة بالجملة))(2).

والخلاصة: إن المراد بالأمر والنهي إلزام الطرف الآخر بالعمل بمقتضاهما عند ارتكابه للمنكر وتركه للمعروف أو عند ظهور عزمه على ذلك بكل وسيلة عملية ممضاة من قبل الشارع المقدس، ومنها نفس صيغة الأمر والنهي إذا كانت منتجة لذلك الغرض.

ص: 421


1- الميزان في تفسير القرآن: 4/355.
2- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للمرحوم الشيخ طالب الخليل شهيد الانتفاضة الشعبانية في العراق: 154.

وقد وصف السيد اليزدي (قدس سره) حقيقة الفريضة بالإجبار، قال ده: ((إن مجرد الطلب الشرعي لا يقتضي جواز إجباره عليه إلا من باب الأمر بالمعروف مع وجود شرائطه)) ((وأما مع مجرد الوجوب الشرعي فلا يختص الإجبار به، بل لكل واحد من المكلفين إجباره من باب الأمر بالمعروف))(1).

فائدة: اتضح مما تقدم أن حقيقة الأمر والنهي أوسع مما يدل عليه المعنى الذي وضع له اللفظ وهو إنشاء البعث والزجر، ولا بد أن يكون ذلك لنكتة؛ لأن استعمال لفظي الأمر والنهي في هذه الحقيقة قرآنيان، وهذا يعني أنهما يمثلان القمة في تأدية الغرض بحيث لا يمكن أن يقوم مقامهما أي لفظ أو جملة.

ويمكن أن نذكر عدة وجوه في نكتة اختيارهما:-

1- إن الأمر والنهي لا يصح إلا من العالي إلى الداني، فكأن الشارع المقدس منح مقاماً عالياً للآمر الناهي استحقه بطاعته لله تعالى، فيكون مصداقاً للعزة بلا عشيرة والهيبة بلا سلطان التي تتحقق بطاعة الله تعالى.

2- وبنفس الوقت يشعر المأمور المنهي بالذل والإهانة التي حصلت له نتيجة وضعه الداني مما يشكل ضغطاً نفسياً عليه يدعوه إلى إصلاح حاله ومعالجة أسباب ما وقع فيه.

3- إن تضمّن الأمر والنهي للإلزام العملي يعني تضاعف الحجة عليه بعد أصل الحكم الشرعي مما يلزمه بدافع إضافي للمراجعة واستعادة وضعه الطبيعي.

4- إن الأمر والنهي يمثّلان سلطة وضعها الشارع بيد الآمر الناهي لتنفيذ الأحكام لأنهما لا يصدران إلا ممن له سلطة، وقد دأب العقلاء على إعطاء الصفة الإلزامية للقوانين والقرارات التي تحفظ نظام معيشتهم ومصالحهم وسلطة تقوم عليها ليلتزم الناس بها.

ص: 422


1- حاشية السيد اليزدي (قدس سره) على المكاسب: 1/146، التعليقة (200).

5- ((هذا فضلاً عما يستلزمه استعمال هذه الصيغة الأمر والنهي في مواردهما المختلفة باختلاف الأشخاص والظروف والحالات من معرفة كثير من القضايا العلمية والاجتماعية كعلم اللغة والبلاغة ومعرفة نفسيات الناس وتقلب أحوالهم وأمزجتهم وأخلاقياتهم وعاداتهم المتأصلة وارتداء لباس المعروف فعلاً وقولاً، ونزع رداء المنكر حقاً وصدقاً، والتمسك بالأخلاق الكريمة والمثل العليا كي يكون لهذا الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يطبق هذه الوظيفة الشريفة في موردها بشكل متناسب ومتطابق))(1).

(الثالث) يُوهم قول الأصحاب بأن مراتب الإنكار ثلاثة أن هذه المراتب خاصة بالنهي عن المنكر ولا تشمل الأمر بالمعروف، وذلك تبعاً لظاهر أكثر نصوص الباب.

وقد حكي عن بعض الأعلام المعاصرين التفصيل ((بين النهي عن المنكر وإنكار المنكر، فالثانية تثبت لها مرتبة اليد، ويراد منها التغيير العملي للواقع بخلاف الأولى))(2)

((وقد ذهب القاضي عبد الجبار المعتزلي إلى التفصيل هنا بين الأمر بالمعروف فيجب باللسان، والنهي عن المنكر فيرقى إلى مرتبة اليد واستخدام العنف))(3).

وقد استدل بعض المعاصرين –كما تقدم (صفحة 415)- على التفصيل بدلالة لفظي الأمر والنهي فالثاني يشمل التغيير العملي دون الأول.

ص: 423


1- المصدر السابق: 158-161.
2- نقله في فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 503 عن أمر به معروف ونهي أز منكر للشيخ الصانعي: 46-50.
3- المصدر السابق عن شرح الأصول الخمسة: 505.

هذا ولكن الصحيح عدم الفرق بينهما لوجهين:-

ما تقدم في المطلب السابق وما ذكرناه من وجوه تدل على اتحاد الملاك فيهما وأن حقيقة الأمر والنهي معاً إيجاد متعلقهما في الخارجأ- على حد سواء، فكما أن اليد وسيلة لردع شارب الخمر فكذلك هي وسيلة لإلزام تارك الصلاة بإقامتها بلا أدنى فرق بينهما.

ب- إن عنوان المنكر يشمل ترك المعروف فلو تنزّلنا وقلنا باقتصار مرتبة اليد على عنوان النهي عن المنكر فإن المنكر ترك المعروف، فالنهي عن ترك المعروف هو الأمر به خارجاً.

(الرابع) في ذكر مجموعة من الروايات التي ورد فيها ذكر المراتب، ومنها:-

1- خبر جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) ((في حديث)) قال: (فأنكروا بقلوبكم، والفظوا بألسنتكم، وصكوا بها جباههم ولا تخافوا في الله لومة لائم، فإن اتعظوا وإلى الحق رجعوا فلا سبيل عليهم إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم، هنالك فجاهدوهم بأبدانكم وابغضوهم بقلوبكم غير طالبين سلطاناً، ولا باغين مالاً ولا مريدين بالظلم ظفراً حتى يفيؤوا إلى أمر الله ويمضوا على طاعته)(1).

2- رواية يحيى الطويل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ما جعل الله بسط اللسان وكف اليد، ولكن جعلهما يبسطان معاً ويُكفان معاً).

3- ما في نهج البلاغة من قول أمير المؤمنين (عليه السلام): (من ترك إنكار المنكر بقلبه ولسانه (ويده خ) فهو ميت بين الأحياء).

ص: 424


1- الأحاديث من (1- 7) تجدها في وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 3، ح1، 2، 4، 8، 9، 10، 12، بنفس الترتيب.

4- وفي نهج البلاغة أيضاً عن تأريخ الطبري عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: (إني سمعت علياً عليه السلام يقول يوم لقينا أهل الشام: أيها المؤمنون إنه من رأى عدواناً يُعمل به ومنكراً يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكره بلسانه فقد أجر، وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى، وقام على الطريق، ونور في قلبه اليقين).

5- وقال الشريف الرضي: (وقد قال (عليه السلام) في كلام له يجري هذا المجرى: فمنهم المنكر للمنكر بقلبه ولسانه ويده فذلك المستكمل لخصال الخير، ومنهم المنكر بلسانه وقلبه التارك بيده فذلك متمسك بخصلتين من خصال الخير، ومضيع خصلة، ومنهم المنكر بقلبه والتارك بيده ولسانه فذلك الذي ضيع أشرف الخصلتين من الثلاث وتمسك بواحدة، ومنهم تارك لإنكار المنكر بلسانه وقلبه ويده فذلك ميت الأحياء).

6- وفي نهج البلاغة عن أبي جحيفة (سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول: إن أول ما تُغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم، ثم بألسنتكم، ثم بقلوبكم، فمن لم يعرف بقلبه معروفاً ولم ينكر منكراً قُلب فجعل أعلاه أسفله).

7- وفي تفسير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله) في حديث إلى أن قال: (فقالوا يا رسول الله فكيف بنا ونحن لا نقدر على إنكار ما نشاهده من منكر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لتأمُرُنَّ بالمعروف، ولتنهن عن المنكر، أو ليعمنّكم عذاب الله، ثم قال: من رأى منكم منكراً فلينكر بيده إن استطاع، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه فحسبه أن يعلم الله من قلبه أنه لذلك كاره).

8- وفي نهج البلاغة عن (أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال في خطبة له يذكر فيها أصحاب الجمل: فوالله لو لم يصيبوا من المسلمين إلا رجلاً واحداً

ص: 425

معتمدين لقتله بلا جرم لحلّ لي قتل ذلك الجيش كله إذ حضروه ولم ينكروا ولم يدفعوا عنه بلسان، ولا يد، دع ما أنهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدة التي دخلوا بها عليهم)(1).

9- وفي رواية الدعائم عن علي بن الحسين ومحمد بن علي (عليهم السلام) أنهما ذكرا وصية علي (صلوات الله عليه) فقالا: (أوصى إلى ابنه الحسن (عليه السلام) –إلى أن قال:- إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) عهد إليّ فقال: يا عليّ مُرْ بالمعروف وانهَ عن المنكر بيدك فإن لم تستطع فبلسانك فإن لم تستطع فبقلبك وإلا فلا تلومنّ إلا نفسك)(2).

10- وفي خبر العوالي عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ليس وراء ذلك شيء من الإيمان) وفي صحاح العامة بالإسناد عن أبي سعيد الخدري (وذلك أضعف الإيمان).

11- وفي أمالي الطوسي بسنده عن عبادة بن الصامت عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (ستكون فتن لا يستطيع المؤمن أن يغيّر فيها بيد ولا لسان، فقال علي بن أبي طالب صلوات الله عليه: يا رسول الله وفيهم يؤمئذٍ مؤمنون؟ قال: نعم، قال: فينقص ذلك من إيمانهم شيئاً؟ قال: لا، إلا كما ينقص القطر من الصفا، إنهم يكرهونه بقلوبهم).

12- وفي نهج البلاغة: في وصية أمير المؤمنين للحسن (عليهما السلام) قال: (وأمر بالمعروف تكن من أهله، وأنكر المنكر بيدك ولسانك وباين من فعله بجهدك وجاهد في الله حق جهاده ولا تأخذك في الله لومة لائم).

13- وفي الغرر، قال (عليه السلام): (إذا رأى أحدكم المنكر ولم يستطع أن ينكره بيده ولسانه وأنكره بقلبه وعلم الله صدق ذلك منه فقد أنكر)(3).

ص: 426


1- وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 5، ح11.
2- الروايات من 9 -12 في جامع أحاديث الشيعة: 18/237-238، ح 49-53.
3- المصدر السابق: 18/242، ح 64.

14- قول الإمام الحسين (عليه السلام) المشهور: (أيها الناس إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله)(1).

15- عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إنه قد حقّ لي أن أأخذ البريء منكم بالسقيم، وكيف لا يحقُّ لي ذلك وأنتم يبلغكم عن الرجل منكم القبيح فلا تنكرون عليه ولا تهجرونه ولا تؤذونه حتى يتركه)(2).

16- رواية الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيها: (ما يمنعكم إذا بلغكم عن الرجل منكم ما تكرهون وما يدخل علينا به الأذى أن تأتوه فتأنبوه وتعذلوه وتقولوا له قولاً بليغاً، قلت جُعلت فداك، إذن لا يقبلون منا، قال: اهجروهم واجتنبوا مجالسهم)(3).

17- في صحيح مسلم عن ابن مسعود: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (ما من نبي بعثه الله في أمته قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)(4).

ص: 427


1- موسوعة الإمام الحسين (عليه السلام): 438.
2- وسائل الشيعة، أبواب الأمر والنهي، باب 7، ح4.
3- وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 7، ح3، 5.
4- صحيح مسلم: 1/50-51.

مراتب الامتثال

اشارة

لا خلاف بين الفقهاء (قدس الله أرواحهم) في أن للفريضة مراتب ثلاث وقد دلّت عليها النصوص الشريفة:

(الأولى) القلب

وما ذكر أو يمكن أن يُذكر له عدة معانٍ:-1- العلم بمعروفية المعروف ومنكرية المنكر لقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (ثم بقلوبكم فمن لم يعرف معروفاً ولم ينكر منكراً قُلب فجُعل أعلاه أسفله)(1).

2- عقد القلب على وجوب المعروف وحرمة المنكر، فلا يكفي أن يعلم أن هذا معروف وهذا منكر بل يعتقد بوجوب إقامة المعروف واجتناب المنكر، وحكي عن الشيخ في النهاية وهو حينئذٍ أمر اعتقادي من لوازم الإيمان وآثاره، لذا جعله البعض في كتاب الإيمان من الاعتقادات.

3- حديث القلب بإنكار المنكر وإقامة المعروف، فللنفس كلام في الباطن كما أن كلام الظاهر باللسان، ولذا اشتهر استدلالهم في علم الأصول بقول الشاعر:

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جُعل اللسان على الفؤاد دليلا

4- أن يكون المراد عدم الرضا بفعل المنكر وترك المعروف، لأن الراضي بالفعل شريك فاعله كما دلّت عليه الروايات(2).

5- المراد بغضُ المنكر وفاعله وتارك المعروف، وهي خطوة متقدمة على سابقتها، فعدم الرضا عدم فعلٍ أما البغض فهو فعل.

ص: 428


1- وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 3، ح10.
2- مسالك الأفهام: 3/103.

6- التفسير ببعض ما تقدم مع الابتهال إلى الله تعالى في هداية العاصي إلى فعل المعروف والانتهاء عن المنكر حتى تكون له مدخلاً في الأمر والنهي وإن لم يكن منهما، وحكي عن الفاضل المقداد(1).

7- إظهار الكراهة في الوجه بالتقطيب والاشمئزاز ونحوهما.

وبضم بعض الأقوال إلى بعض وإهمال ما لا يرتبط بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ترجع هذه الأقوال إلى اثنين هما اللذان يردان في كلام المشهور:

أولهما: الاكتفاء بإيجاد الإنكار القلبي لفعل المنكر وترك المعروف وبغضه وعدم الرضا على الفاعل وهو ظاهر المحقق الحلي في الشرائع لوصفه له بأنه يجب وجوباً مطلقاً أي أنه غير مشروط بتجويز التأثير والأمن من الضرر وهو خاص بهذا المعنى، حيث لا يوجد موضوع لهذه الشروط، وصرّح به العلامة (قدس سره) كقوله في المختلف: ((فإن خاف وعجز عن ذلك كله –أي اليد واللسان- اعتقد وجوب المعروف وتحريم المنكر، وذلك مرتبة القلب))(2).ثانيهما: إظهار هذا الإنكار القلبي بعلامات خارجية كعبوس الوجه وتقطيب الجبين مع ما يُفهِم بأن هذا لأجل أمره ونهيه، وهذا المعنى مشروط عند المشهور بالشروط المذكورة.

ص: 429


1- التنقيح الرائع: 1/593-594.
2- مختلف الشيعة: 4/475.

والأول ظاهر معنى الإنكار بالقلب الذي ورد في النصوص(1)، إلا أنه أشكل عليه –كما في المسالك والجواهر وغيرهما- بأنه ((من مقتضى الإيمان وأحكامه، إلا أنه لا يكاد يدخل في معنى الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر، لاقتضائهما طلب الفعل أو الترك، ولا طلب في هذا المعنى، فلا يُعدّ معتقده آمراً ولا ناهياً))(2)، ولذا عدل إلى الثاني، قال (قدس سره): ((بخلاف المعنى الثاني، فإن الإنكار والطلب يتحققان في ضمنه، ووجوبه مشروط بالشرائط المذكورة، لأنه يظهر على فاعله حتماً، ويجري فيه خوف ضرر وعدمه، وتجويز التأثير وعدمه)).

وقال صاحب الجواهر (قدس سره): ((ومن هنا كان المتجه للمصنف والفاضل تفسيره بذلك مع ترك إطلاق وجوبه)) أي ترك وصفه الوجوب بأنه مطلق لأنه لا يناسب الثاني.

ويدل على المعنى الثاني ما رواه في الكافي بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرة) وفي رواية الشيخ في التهذيب بسنده عن الكليني، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): أدنى الإنكار أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرة).

ص: 430


1- نسب صاحب الجواهر (قدس سره) (21/104) وغيره إلى الشهيد الثاني الاستدلال بإطلاق لفظ القلب على المعنى الأول، لكن ذلك قراءة غير صحيحة للفظ الإطلاق في عبارته (قدس سره) في (مسالك الأفهام: 3/104) إذ أنها تفيد استدلاله بإطلاق الوجوب في كلام المحقق والعلامة (قدس سره) على إرادتهما المعنى الأول.
2- مسالك الأفهام: 3/103، ومثله في جواهر الكلام: 21/377.

وفي الرواية الأخرى في الكافي بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام)، ومنها قوله: (امض لما أمرتك به فإن ذا رجل لم يتمعرّ وجهه غيظاً لي قط)(1).أقول: ورود هذا المعنى لا ينافي صدق العنوان الأول وإنما يمثل مستوى من مستويات هذه المرتبة.

ويلاحظ هنا أن الفقهاء ذكروا ضمن هذا المعنى الثاني الهجران والمقاطعة وحينئذٍ يقال أن هذا مما لا دليل عليه بحسب الروايات المذكورة، بل الدليل على خلافه لما سنذكره في الإلفات (صفحة 435) إن شاء الله تعالى.

وعلى أي حال فإن هذا الإشكال –أعني ورود مطلق الإنكار القلبي في النصوص مع عدم كونه من الأمر والنهي – محكَّمٌ في كلمات الفقهاء (قدس الله أرواحهم) قال المحقق الكركي (قدس سره): ((والذي يقتضيه التحقيق هو أن يقال: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يعقل كونه بالقلب وحده؛ إذ لا يعدّ ذلك أمراً ولا نهياً، لا لغةً ولا عرفاً؛ إذ لا يعد من اعتقد ذلك آمراً ولا ناهياً، فوجوبه من هذا الباب لا يتجه، وإنما هو اعتقاد ذلك بالقلب من توابع الإيمان بجميع ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله)، فلا بد من اعتبار أمر آخر في المرتبة الأولى بضميمته يعد في الأمر والنهي، وهو إظهار عدم الرضا بضرب من الإعراض، وإظهار الكراهة أو الهجران))(2).

وقال صاحب الجواهر (قدس سره) وهو يردّ على المعاني المذكورة للإنكار القلبي: ((لكن لا يخفى عليك ما في جملة من هذه التفاسير؛ إذ الأول –عنده هو عقد القلب- ليس من الأمر بالمعروف، ولا من النهي عن المنكر لغة ولا عرفاً، وإنما هو من أحكام الإيمان حال وجود موضوعهما وعدمه. وكذا زيادة

ص: 431


1- وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 6، ح1، 2.
2- جامع المقاصد: 3/486.

عدم الرضا بالمعصية معه، فإن الرضا وإن كان محرماً في نفسه لكن عدمه ليس أمراً ولا نهياً، وكذا البغض ما لم يظهر. وأغرب من ذلك زيادة الابتهال الذي لا مدخلية له في الأمر بالمعروف، بل لا قائل بوجوبه. نعم، إظهار الكراهة والهجر ونحوهما دالان على طلب الفعل أو الترك، ومن هنا قلنا: إنه لا بد من ضميمة في الإنكار بالقلب يكون بها داخلاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا أنه بهذا المعنى مشروط أيضاً بتجويز التأثير وبعدم الضرر))(1).

ولذا وصف الشهيد الثاني وغيره كلام المحقق والعلامة بأن فيه تهافتاً؛ لأن ظاهر إطلاقهما الوجوب إرادة المعنى الأول وهو لا يصح كونه أمراً ونهياً، والمعنى الثاني الداخل في الأمر والنهي مشروط كبقية المراتب وهو ظاهر عبارتهما التالية، قال المحقق (قدس سره): ((ويجب دفع المنكر بالقلب أولاً، كما إذا عرف أن فاعله ينزجربإظهار الكراهة، وكذا إن عرف إن ذلك لا يكفي، وعرف الاكتفاء بضرب من الإعراض والهجر، وجب واقتصر عليه)).

أقول: الظاهر أن مختار المحقق (قدس سره) المعنى الثاني بدليل التفصيل الذي ذكره لاحقاً وإنما ذكر إطلاق الوجوب للمعنى الأول للإشارة إلى ما يلزم بناءً عليه، مع إمكان قبول هذا المعنى دون الاكتفاء به لوحده.

وأريد الآن أن أجيب عن الإشكال السابق المستحكم عند الأساطين، وأُقرِّب وجوهاً لصدق الأمر والنهي على الإنكار القلبي المجرد ومنها:-

1- وروده مطلقاً في الروايات كمرتبة من مراتب الأمر والنهي فلا بد من التسليم والإذعان للروايات وعدم الإشكال, وتصريح بعض الروايات بملاقاة أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة لا يقيِّد الإطلاق لعدم التنافي كما هو واضح.

ص: 432


1- جواهر الكلام: 21/376.

2- إن إنكار المنكر ورفضه وبغضه من لوازم الإيمان وآثاره الدالة على صدقه فوجوبه ثابت ومستقل، لكن يصح عدّه من مراتب الفريضة استطراداً بعد تعذر المراتب السابقة عليه؛ لنكتة التذكير به كحدّ أدنى، أي أنك إن عجزت عن التغيير والتأثير في المقابل فلا تغفل عن إنكار المنكر في باطنك لأنه من لوازم الإيمان.

وهذه النكتة تسوّغ دخوله، كما جاز الاستثناء المنقطع لنكتة مع أن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه والمفروض عدم وجود موضوع الاستثناء.

3- إن الإنكار القلبي ورفض المنكر أو قل الغضب لله تعالى هو الباعث لامتثال هذه الفريضة فهو روحها وأصلها وبهذه العناية يعدُّ منها وإن لم يكن منها بحسب الفعل الخارجي، كالنية في العبادات فإنها ركن وواجب فيها ولا حقيقة لها بدونها وإن كان حضورها قبل الفعل.

4- يمكن اعتبار الإنكار القلبي من الأمر والنهي فعلاً، لأن باطن الإنسان مؤثر على ظاهره وعلى الآخرين، أما تأثيره على نفسه فمثل قوله تعالى: «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ» (العنكبوت:45) فالحالة المعنوية للمصلي تنهاه عن اقتراف الذنوب، فهذا تأثير خارج الوسائل التي يذكرها الفقهاء (قدس الله أرواحهم)، عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً)(1)، وقد أثبت العلم الحديث ذلك بما يعرف بالباراسايكولوجي بل السايكولوجي، ولا يهمنا الآن أن نعرف كيف يكون ذلك، لكن

ص: 433


1- بحار الأنوار: 75/198.

الشواهد عليه كثيرة(1)

من النصوص كقولهم (عليه السلام): (النظر إلى وجه العالم عبادة) أو وصفهم للعالم بأنه (من تذكّر رؤيته الآخرةَ) فهذه كلها من تأثيرات الباطن وإن لم تظهر عليه أي حركة خارجية، فعندما يكره الشخص المنكر في قلبه ويرفضه ويغضب لله تعالى تنطلق منه إشعاعات أو موجات أو أي شيء يدعوه إلى اجتناب المنكر وإقامة

ص: 434


1- أفاد بعض المطلعين أنه: قد أصبح مقبولاً في الفيزياء الحديثة اليوم تأثير وعي الراصد على سلوك الجسيمات دون الذرية في ميكانيك الكم حيث لاحظ العلماء أن الجسيمات الدقيقة كالإلكترونات تسلك سلوكاً جسيمياً إذا كان الراصد يريد رصد صفة جسيمية، وسلوكاً موجياً إذا لم يكن في نيته ذلك. بل في ما هو أكبر منه كما في نظرية الأكوان المتوازية، التي يرى صاحبها أن هناك عوالم متعددة تُخلق بمجرد توقفنا أمام عدة احتمالات ورصدنا للعالم وقتها. وهناك ملاحظات خارجية من تأثير النفوس في العالم الخارجي كاللبث في العبادة بين الطلوعين، والتوكل والتشاؤم والعين. وفي كلمات الأئمة (عليهم السلام) ما يساعد على ذلك مثل ما ورد في تفسير قوله تعالى: «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض» قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إن الله يدفع بمن يصلي عمن لا يصلي وبمن يحج عمن لا يحج)، وقوله (عليه السلام): (من قرأ آية الكرسي في ليلة آمنه الله على داره والدويرات حوله) وتوصيته لأحد أصحابه أن لا يهاجر من بلدته (فإن الله يدفع عنهم البلاء لمكانك) وفي ثواب من قرأ سورة صاد في ليلة الجمعة أن الله يشفعه في أهله وخادمه) وقولهم (عليهم السلام): (أنه إذا ترك العالم علمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل الماء عن الصفا) وغيرها من الأحاديث. وكذلك يفهم من بعض النصوص أن النفوس متواصلة في ما بينها وإن بدا من ظاهر هذا العالم أنها منفصلة مثل ما ورد في الحديث: (إذا مات المؤمن انقطع عمله إلا من ثلاث .. وولد صالح يدعو له) وفي الدعاء (اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات.. وتابع اللهم بيننا وبينهم بالخيرات).

المعروف. وقد حكيت حالات كثيرة من هذا القبيل عن تأثير العرفاء والصالحين، وربما دفعوا الآخر إلى إنجاز ما يريدون بهذه الإيحاءات من دون أي حركة خارجية بإذن الله تعالى

والخلاصة أن تأثيرات العوالم مما لا يسع إنكاره، ومجرد عدم قدرتنا على تفهمه لا ينفيه.

إلفات: ذكر الفقهاء –كما تقدم في كلمات المحقق الكركي وصاحب الجواهر- أن من مظاهر هذه المرتبة: ((الإعراض والصد عن فاعل المنكر وهجرانه)) وهو معنى دلّت عليه روايات عديدة (منها) رواية الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيها: (ما يمنعكم إذا بلغكم عن الرجل منكم ما تكرهون وما يدخل علينا به الأذى أنتأتوه فتأنبوه وتعذلوه وتقولوا له قولاً بليغاً، قلت جُعلت فداك، إذن لا يقبلون منا، قال: اهجروهم واجتنبوا مجالسهم)(1).

ورواية هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لو أنكم إذا بلغكم عن الرجل شيء تمشيتم إليه فقلتم: يا هذا إما أن تعتزلنا وتجتنبنا، وإما أن تكف عن هذا، فإن فعل وإلا فاجتنبوه).

وقوله (عليه السلام) في رواية أخرى: (وأنتم يبلغكم عن الرجل منكم القبيح فلا تنكرون عليه ولا تهجرونه ولا تؤذونه حتى يترك).

وحينئذٍ يرد إشكال على ترتيبهم؛ لأن صريح هذه الروايات أن الهجران بعد الأمر والنهي اللسانيين ومرتبة القلب قبلهما عند المشهور، ويمكن أن يُجاب الإشكال بعد اعتبار الهجران والمقاطعة ونحوهما من مراتب القلب وإنما تدخل في مرتبة اليد باعتبارها حركة خارجية، أو أنهم لا يلتزمون بترتبية هذه المراتب على إطلاقها.

ص: 435


1- وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 7، ح3، 5.

(الثانية) اللسان

اشارة

إقامة المعروف وإزالة المنكر باللسان أي القدرة البيانية هو القدر المتيقن من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لصدق عنوان الأمر والنهي على البيان اللساني.

وقد ذكرته النصوص السابقة صريحاً.

كما أنه مقتضى التدرج في المراتب أي قانون الأيسر فالأيسر الذي سنبحثه إن شاء الله تعالى، قبل الانتقال إلى اليد في الجملة.

ولو لم يكن هذا ولا ذاك فإنه تقدم أن المطلوب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحقيق متعلقهما خارجاً بأي وسيلة مشروعة قادرة على تحقيق الغرض، ولا شك أن اللسان والبيان له هذه القدرة فيكون من مراتب امتثال الفريضة.

وهنا أمور تستدعي البيان:-

الأول: إن الوسيلة اللسانية لا تقتصر على صيغة الأمر والنهي لما ذكرناه من أن المهم هو تحقيق غرض الوظيفة أي أن نُفهم الآخر أن المطلوب منه ترك المنكر وفعل المعروف، فقد يكون بالوعظ والإرشاد أو التذكير بالحكم الشرعي مع قرينة تفهم أن ذلك كله بقصد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو بذكر الحوافز والمرغبات الدنيوية والأخروية كدفع تارك الخمس إلى إخراجه بإقناعه أنه يزيد في رزقه، وقد يكون بذكر العقوبة والعذاب كدفع السافرة إلى الحجاب بذكر عذابها يوم القيامة أو سقوط سمعتها في المجتمع، وفي هذا الإطار يدخل الاستدلال بالنتائج العلمية لدفع المأمور المنهي إلى التغيير كزيادة نسبة إصابة السافرات بسرطان الجلد وتعداد الأمراض الخطيرة التي تصيب شارب الخمر ونحو ذلك.

ص: 436

قال الشيخ في النهاية: ((يكون الإنكار باللسان بالوعظ والإنذار والتخويف من فعله بالعقاب والذم))(1).

أقول: صدق امتثال الفريضة على هذه الأساليب واضح خلافاً لما قاله بعض الأعلام: ((الظاهر أنه لا دليل على وجوب النصح ونحوه بل الدليل قائم على وجوب الأمر والنهي، وهذان العنوانان مفهومان عرفيان لا إجمال فيهما ولا ينطبقان على الوعظ والنصيحة))(2).

أقول: إذا كان الوعظ والنصيحة في مقام الأمر والنهي فيدخلان في مصاديقهما.

الثاني: إن المشهور وإن جعل اللسان مرتبة ثانية بعد القلب إلا أن هذا الترتيب لا يمكن التسليم به مطلقاً وإنما في الجملة، والقانون الحاكم هو تقديم الأيسر، وقد تكون بعض المراتب اللسانية –كالحديث اللين الرفيق- أيسر من بعض المراتب التي ذكروها في القلب –كالصدود والإعراض-، وقد لا توجد حاجة للترتيب أصلاً إذا لم يكن في الأسلوبين المراد التقديم بينهما –أي القلب واللسان- عنوان محرم وهو إيذاء الآخر وهتك حرمته لأن ملاك تقديم الأيسر الاقتصار على القدر المتيقن في الخروج عن العنوان المحرم.

لذا قال السيد الخميني (قدس سره): ((لو كان بعض مراتب القول أقل إيذاءً وإهانة من بعض ما ذكر في المرتبة الأولى يجب الاقتصار عليه، ويكون مقدماً على ذلك، فلو فرض أن الوعظ والإرشاد بقول ليّن ووجه منبسط مؤثر أو محتمل التأثير وكان أقل إيذاء من الهجر والإعراض ونحوهما لا يجوز التعدي منه إليهما، والأشخاص آمراً ومأموراً مختلفون جداً، فربّ شخص يكون

ص: 437


1- النهاية: 300.
2- مباني منهاج الصالحين: 7/ 156.

إعراضه وهجره أثقل وأشد إيذاءً وإهانة من قوله وأمره ونهيه، فلا بد للآمر والناهي ملاحظة المراتب والأشخاص، والعمل على الأيسر ثم الأيسر))(1).

وقال (قدس سره): ((لو فرض تساوي بعض ما في المرتبة الأولى مع بعض ما في المرتبة الثانية لم يكن ترتيب بينهما بل يتخير بينهما، فلو فرض أن الإعراض مساوٍ للأمر في الايذاء وعلم أو احتمل تأثير كل منهما يتخير ولا يجوز الانتقال إلى الأغلظ))(2).وهذا وجه اعتبار السيد الخوئي (قدس سره) وغيره عدم الترتيب بين القلب واللسان، قال (قدس سره): ((المشهور الترتب بين هذه المراتب، فإن كان إظهار الإنكار القلبي كافياً في الزجر اقتصر عليه، وإلا أنكر باللسان، ولكن الظاهر أن القسمين في مرتبة واحدة فيختار الآمر أو الناهي ما يحتمل التأثير منهما)).

الثالث: قد يقتضي تحصيل الغرض الجمع بين المرتبتين فيجب حينئذٍ، قال السيد الخميني (قدس سره): ((لو احتمل التأثير وحصول المطلوب بالجمع بين بعض درجات المرتبة الأولى أو المرتبة الثانية، أو بالجمع بين تمام درجات الأولى أو الثانية مما أمكن الجمع بينها، أو الجمع بين المرتبتين مما أمكن ذلك وجب ذلك بما أمكن، فلو علم عدم التأثير لبعض المراتب واحتمل التأثير في الجمع بين الانقباض والعبوس والهجر والإنكار لساناً مشفوعاً بالغلظة والتهديد ورفع الصوت والإخافة ونحو ذلك وجب الجمع))(3).

ص: 438


1- تحرير الوسيلة: المسألة 6، صفحة 431.
2- المصدر السابق: المسألة 7
3- المصدر السابق: المسألة 8، صفحة 431.
فروع:

ذكر السيد الخميني (قدس سره) مسائل فرعية لهذه المرتبة يحسن ذكرها:-

1- ((لو توقف رفع المنكر وإقامة المعروف على غلظة القول والتشديد في الأمر والتهديد والوعيد على المخالفة تجوز بل تجب مع التحرز عن الكذب))(1).

2- ((لا يجوز إشفاع الإنكار بما يحرم وينكر كالسب والكذب والإهانة، نعم لو كان المنكر مما يهتم به الشارع ولا يرضى بحصوله مطلقاً كقتل النفس المحترمة وارتكاب القبائح والكبائر الموبقة جاز، بل وجب المنع والدفع ولو مع استلزامه ما ذكر لو توقف المنع عليه)).

3- ((لو حصل المطلوب بالمرتبة الدانية من شخص وبالمرتبة التي فوقها من آخر فالظاهر وجوب ما هو تكليف كل منهما كفائياً، ولا يجب الإيكال على من حصل المطلوب منه بالمرتبة الدانية)).

4- ((لو كان إنكار شخص مؤثراً في تقليل المنكر وإنكار آخر مؤثراً في دفعه وجب على كل منهما القيام بتكليفه، لكن لو قام الثاني بتكليفه وقلع المنكر سقط عن الآخر، بخلاف قيام الأول الموجب للتقليل فإنه لا يسقط بفعله تكليف الثاني)).

5- ((لو علم إجمالاً بأن الإنكار بإحدى المرتبتين مؤثر يجب بالمرتبة الدانية، فلو لم يحصل بها المطلوب انتقل إلى العالية)).

ص: 439


1- تحرير الوسيلة: 1/431-432.

(الثالثة) اليد

اشارة

وهي منصوصة في الروايات المتقدمة، كما أن مقتضى كون حقيقة الأمر والنهي حمل الآخر على متعلقهما استعمال أي وسيلة مشروعة لتحقيق الغرض، والأمر والنهي يصدق على الحركة والسلوك العملي كما تقدم في قوله تعالى: «الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ» (الحديد:24).

إذن لا خلاف ولا إشكال في وجود مرتبة بعنوان اليد، إلا أن الخلاف في مفهوم اليد هنا وقد نتفق على عنوان جامع ويقع الخلاف في مصاديقها تبعاً لاختلاف معانيها في الاستعمال، فإنها تطلق على العضو البدني الخارجي، وتطلق على القدرة والغلبة والقوة «يَدُ اللهِ فَوقَ أَيدِيهِمْ» (الفتح:10) وتطلق على الإحسان والعطاء وإسداء المعروف للآخرين كقوله تعالى: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ» (المائدة:64) «وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ» (الإسراء:29) وما روي من قول أمير المؤمنين (عليه السلام): (أطل يدك في مكافأة من أحسن إليك)(1)، وتطلق على الحيازة والتملك، قال تعالى: «أو يَعفُوَ الذِي بِيَدِهِ عُقدَةُ النِكَاحِ» (البقرة:237)، وتطلق على التدبير وتولي الامور «مِمَّا عَمِلَتْ أيْدِينَا» (يس:71) «لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ» (ص:75).

وانعكس هذا الخلاف على فهم المراد من اليد في محل البحث، فقيل أنه:-

بناء السلوك العملي على إقامة المعروف واجتناب المنكر مما يوفّر الأسوة الحسنة للآخرين ليقتدوا به ويغيروا حياتهم وهو ما يُعرف بالدعوة الصامتة وقد تقدم (صفحة 421) عن تفسير الميزان الاستعمال القرآني لهذا المعنى في الأمر والنهي.

ص: 440


1- غرر الحكم: 2383.

وحكي هذا المعنى لليد عن جملة من الأعلام، قال الشيخ (قدس سره) في النهاية: ((فأما باليد فهو أن يفعل المعروف ويجتنب المنكر على وجه يتأسّى1- به الناس))(1)

وحكي عن ابن البراج(2).

وحمل العلامة (قدس سره) كلام سلار عليه إذ وجّه قوله: ((وهو مرتب باليد أولاً، فإن لم يمكن فباللسان، فإن لم يمكن فبالقلب))(3)

على هذا الأساس، قال (قدس سره): ((والقائل بتقديم اليد يريد أنه يفعل المعروف ويجتنب المنكر بحيث يتأسى به الناس، فإن أفاد ذلك الانقياد إلى التأسي وإلا وعظ وزجر وخوّف باللسان، فإن عجز عن الجميع: اعتقد الوجوب))(4).

2- إعداد أسباب القوة والقدرة والنفوذ لمنع حصول المنكر كإغلاق حانات الخمور وأماكن الفسق والفجور وتكسير آلات الحرام أو الحيلولة بين المنكر وفاعله، أو الإدلاء بالأصوات في الانتخابات لتمكين الصالحين ونحو ذلك، من دون اللجوء إلى ممارسة ما يسمى بالعنف ضد فاعل المنكر وتارك المعروف كضربه فضلاً عن جرحه وتعويقه.

3- استعمال اليد بمعنى ضرب الآخر أو جرحه أو كسره وربما قتله على خلاف في التفاصيل والشروط، وهذا المعنى هو المشهور عند الأصحاب كما يتضح لمن راجع كلمات الأساطين من القدماء والمتأخرين، وقد يتسع هذا المعنى لدى البعض ليشمل القيام بحركات مسلحة لأجل تغيير الأنظمة الطاغوتية الحاكمة.

ص: 441


1- النهاية: 300.
2- المهذب البارع: 1/341.
3- المراسم: 260.
4- مختلف الشيعة: 4/475.

وفي ضوء ما تقدم فإن شمول عنوان اليد للضرب فضلاً عمّا هو أشد منه الذي يرسله المشهور إرسال المسلمات ليس محل اتفاق، وممن استشكل فيه المحقق الأردبيلي (قدس سره)، وهذا موافق لمبانيه من عدم كون المطلوب في الأمر والنهي حمل الآخر على مقتضاهما، ولذا قال (قدس سره) هنا: ((بل لا يجوز الإيلام إلا بدليل شرعي لقبحه عقلاً وشرعاً، بل لو لم يكن جوازهما بالضرب إجماعياً، لكان القول بجواز مطلق الضرب بمجرد أدلتهما المذكورة مشكلاً))(1).

أقول: وجه الإشكال في الأدلة المذكورة أنها لا إطلاق لها من ناحية الآليات والوسائل حتى يمكن التمسك به لإثبات شمول اليد للضرب فضلاً عما فوقه؛ لأن تلك الأدلة ليست بصدد البيان من هذه الجهة وإنما هي بلحاظ أصل العنوان والمراتب.ولو سُلِّم الإطلاق فإن أدلة حرمة إيذاء المؤمن وإهانته تقيدها، ولا تشمل الوسائل المحرمة، أي أن الإطلاقات منصرفة عن الوسائل المحرمة، كما لو قال المولى: (أكرم الضيف ولو كان غير مسلم) فإنه لا يمكن التمسك بإطلاق الإكرام لتجويز تقديم الخمر له.

وقال المحقق العراقي (قدس سره): ((بل لولا الإجماعات في الكلمات كان يشكل ثبوت أصل مشروعية هذه الدرجات من الإنكار في أمر فروع الدين، بالنسبة إلى المسلمين))(2).

ص: 442


1- مجمع الفائدة والبرهان: 7/543.
2- شرح التبصرة: 4/460.

وإذا لم يتم الدليل على جواز الضرب بهذه الأدلة، فإن الأصل عدم جوازه للأدلة المؤكدة من القرآن والسنة على حرمة إيذاء الغير والاعتداء عليه، مما يتطلب دليلاً تاماً للخروج منها.

وبنى على هذا الأصل الأولي جملة من المعاصرين، قال بعضهم: ((يشكل الحكم بالجواز مع عدم جوازه على طبق القواعد الأولية إلا في مورد قيام الدليل على الجواز، وصفوة القول أن المستفاد من الدليل اللفظي وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا المقدار لا يكفي لجواز الضرب، بل لا يقتضي جواز الشتم والسب))(1).

مضافاً إلى ما يمكن أن يقال من لزوم الهرج والمرج واختلال النظام بتجويز استعمال اليد بالضرب فضلاً عما فوقه ودفاع الآخر عن نفسه ورد الصاع صاعين كما يقال.

فتحصّل مما تقدم عدم الدليل على شمول عنوان اليد للضرب فضلاً عما هو أشد منه، بل الدليل على عدمه؛ لذا فالمشهور مطالب بتقديم الأدلة على جواز الضرب للأمر والنهي؛ لإخراج المورد من حرمة إيذاء الآخر وإهانته.

أدلة شمول اليد للضرب ونحوه:

ونعرض الآن ما قيل أو يمكن أن يقال من الأدلة على جواز الضرب ونحوه في الأمر بالمعروف إذا لم تنفع الأساليب الأخف منه:-

1- إطلاق عنوان اليد في أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتشمل الضرب وما فوقه. وممن تمسك به الشيخ الطوسي، قال وهو يستدل على جواز القتل والجرح فضلاً عن الضرب: ((فإن قيل هل يجب في إنكار المنكر حمل السلاح؟ قلنا: نعم إذا احتيج إليه بحسب الإمكان لأن الله

ص: 443


1- مباني تكملة المنهاج: 7/157.

تعالى قد أمر به))(1).

وقال الشهيد الثاني (قدس سره) في شرح اللمعة مستدلاً على جواز التدرّج من الضرب إلى الجرح والقتل ((لعموم الأوامر وإطلاقها وهو يتم في الجرح دون القتل، لفوات معنى الأمر والنهي معه، إذ الغرض ارتكاب المأمور وترك المنهي))(2).

وتمسك به آخرون(3).

ويرد عليه: بعدم تمامية الإطلاق من هذه الناحية كما قرّبنا.

2- ظهور لفظ اليد في هذا المعنى، قال المحقق العراقي (قدس سره): ((ثم المراد بالجهاد باليد في مثل هذه النصوص هو الردع باليد، التي هي كناية عن التحريك إلى العمل بيده ولو بتوسط الضرب، وهو المتيقن المستفاد منه عرفاً))(4).

ويرد عليه: بالتشكيك في هذا الظهور لاحتمال أن هذا الحضور الذهني لهذا المعنى ناشئ من غلبة هذا الفرد في الخارج أو لجريان العادة عليه ونحو ذلك بما لا يعدّ ظهوراً يُحتجّ به.

3- الإجماع الذي صرّح به الأردبيلي (قدس سره) وحكاه عنه مستدلاً به صاحب الجواهر (قدس سره)، واستظهره من كلام المحقق الحلي (قدس سره) قال (قدس سره): ((ثم إن ظاهر المصنف وغيره الإجماع على عدم توقف الضرب الخالي عن الجرح على إذن الإمام (عليه السلام)،

ص: 444


1- التبيان: 2/549.
2- الروضة البهية: 1/456.
3- كما في جواهر الكلام: 21/382. فقه الصادق: 19/415.
4- شرح تبصرة المتعلمين: 4/459.

أو القائم مقامه))(1)، ويمكن بأكثر من وجه:-

أ- عدم ثبوته لعدم تعرض جملة من الأساطين لهذا المطلب كبعض كتب القدماء والمدارك ومفتاح الكرامة والرياض والمستند والحدائق وغيرهم. ب- إنه محتمل المدركية بالاستناد إلى الوجهين المتقدمين.

4- ورود الضرب في عدد من موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كنشوز الزوجة في قوله تعالى: «فَاضْرِبُوهُنَّ» وضرب الصبي على الصلاة كما في خبر عبد الله بن فضالة عن أبي عبد الله (عليه السلام) أو أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: (ثم يترك حتى يتم له تسع سنين فإذا تمت له عُلّم الوضوء وضرب عليه وأمر بالصلاة وضرب عليها)(2).

وبالتجريد عن الخصوصية تشمل غيرها من الموارد.

ويرد عليه أن الخصوصية محتملة جداً لأن الزوجة والولد داخلان تحت ولايته ورعايته وقد أُمر بوقايتهم من النار، قال تعالى: «قُوا أَنفُسَكُم وَأهلِيكُم نَاراً» فتحتمل الخصوصية من هذه الجهة فلا تعمم إلى كل فاعل للمنكر وتارك للمعروف.

5- ما تقدم من أن حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حمل الآخر على مقتضاهما، ومع عدم تحقق الغرض بالمراتب السابقة على الضرب يتعين الأخذ به.

قال صاحب الجواهر (قدس سره) بعد أن تنظر في اشتراط الشيخ الطوسي للإذن، واستغرب كلام المحقق الأردبيلي المتقدم: ((إذ لا يخفى على من أحاط بما ذكرناه من النصوص وغيرها أن المراد بالأمر

ص: 445


1- جواهر الكلام: 21/380.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أعداد الفرائض، باب 3، ح7.

بالمعروف والنهي عن المنكر الحمل على ذلك بإيجاد المعروف والتجنب عن المنكر لا مجرد القول)) وقال (قدس سره): ((لكن ما سمعته من النصوص والفتاوى الدالة على أنهما يكونان بالقلب واللسان واليد صريح في إرادة حمل الناس عليهما بذلك كله، فيمكن إرادة ما يشمل الضرب ونحوه))(1).

أقول: إننا وإن اخترنا هذا المعنى في حقيقة الأمر والنهي إلا أن هذا بمجرده غير كافٍ لشمول الضرب؛ لأن الحمل لا يعني تجويز الضرب لوجود معاني أخرى يمكن حملها عليها بلا تكلّف كمنعه من ممارسة المنكر ونحو ذلك، خصوصاً مع وجود الحرمة المشددة في إيذاء الآخرين والاعتداء عليهم فيقيد بها، كما أن الحمل لا يعني الإكراه أكيداً.

6- فحوى ما دلّ على جواز الكسر والجرح، بل دلالة جملة من الروايات المتقدمة على تغيير المنكر بالسيف فضلاً عما هو دونه كموقف أمير المؤمنين (عليه السلام) مع الخليفة الذي سبقه أو مع الرجل الذي آذى زوجته وما في صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا يستقيم الناس على الفرائض والطلاق إلا بالسيف)(2).

وفيه: أنه سيأتي عرض الأدلة على جواز ما هو أشد من الضرب ومناقشتها، أما الروايات المتقدمة فهي أخص من المدعى لإمكان اختصاص المورد الأول بتغيير الظلم الاجتماعي العام أو تحريف الدين ونحو ذلك من المنكرات العامة، واختصاص المورد الثاني والثالث بصلاحيات حاكم الدولة وليس في عموم تطبيق الفريضة.

7- ما ذكرناه في البحوث التمهيدية من اتحاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الجهاد في عدة جهات حتى أدرجت هذه الفريضة في كتاب الجهاد في عدة مصادر كما بيّنا، ولا شك أن الجهاد يتضمن استعمال

ص: 446


1- جواهر الكلام: 21/382.
2- وسائل الشيعة: 26/69 كتاب الميراث، أبواب موجبات الإرث، باب 3، ح1.

القوة فهذه الفريضة كذلك لوحدة الملاك بينهما وهو إزالة الفساد والظلم والانحراف والعصيان.

وفيه: أن التطابق بين الجهاد والأمر بالعروف والنهي عن المنكر من بعض الجهات لا يلزم منه اشتراكهما في جميع الأحكام بدليل اختلافهم مثلاً في جواز الجرح أو القتل في الأمر والنهي حتى يأذن الإمام، وقد تقدم في البحوث التمهيدية أنهما تكليفان متغايران من حيث الوظيفة التي يؤديانها، والجهة المستهدفة في كل من الوظيفتين، فمن الطبيعي أن تختلف أدواتها.

8- تشريع الحدود والتعزيرات كوسيلة للقضاء على المنكر فهي من هذه الناحية تتحد مع الأمر والنهي وتعتبر شاهداً على إقرار الشارع المقدس لمثل هذه الوسائل في سبيل إقامة المعروف وإزالة المنكر.

ويرد عليه أنه قياس مع الفارق لأن الحدود عقوبات محددة على جرائم محددة وليس من حق أي أحد تنفيذها إلا بأمر الحاكم الشرعي وبإثباتات، بينما وظيفة الأمر والنهي ليس فيها هذه التحديدات مضافاً إلى أن الحدود والتعزيرات عقوبة ولا يظهر من وظيفة الأمر والنهي كذلك، وإن هذه الوظيفة تسقط بانتفاء موضوعها بينما لا تسقط الحدود، واختلافهما في الشروط كتجويز التأثير.

قال المحقق العراقي (قدس سره): ((ومجرد مشروعية الحدود لهم والجهاد في أمر الدين والعقائد في حقهم(1)

لا يقتضي التعدي إلى هكذا إنكار شديد لمحرم فرعي، خصوصاً مع كونه –فعلاً أو تركاً- من أضعف المحرمات))(2).

ص: 447


1- كقتال البغاة.
2- شرح التبصرة: 4/460.

هذا ولكن لا يمكن إلغاء وسيلة الضرب من آليات الأمر والنهي؛ لإمكان تصحيح وجوه:-

1- ما تقدم من ظهور لفظ اليد في كون الضرب من مصاديقها.

2- الإجماع بعد عدم قدح المخالف؛ لمناقشات لا تخفى.

3- الوجوه التي ذكرناها في فهم حقيقة الأمر والنهي على أنها حمل الآخر على مقتضاهما، ومنها المطالبة بالتغيير التي تشمل اليد.

4- ظهور بعض الروايات كقوله (عليه السلام) في خبر جابر: (فجاهدوهم بأبدانكم) وفي نهج البلاغة (ولم يدفعوا عنه بلسان ولا يد) وفي رواية يحيى الطويل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ما جعل الله بسط اللسان وكف اليد ولكن جعلهما يبسطان معاً ويكفّان معاً)(1).

ولكن هذه الوجوه لا تصلح للخروج من الحرمة المغلّظة لإيذاء المؤمن والاعتداء عليه ومشكلة حصول الهرج والمرج واختلال النظام، فيحصل تعارض أو تزاحم.

وعلى تقدير التعارض(2)

فإن الترجيح يكون بموافقة الكتاب ولا توجد لدينا آيات كريمة تفيد ترجيح أي منهما بشكل مباشر، إلا أنه يمكن تقريب ترجيح عدم الجواز بنكتة وقوع آيات الأمر والنهي في السياقات القرآنية، فقوله تعالى: «وَلْتَكُنْ مِنكُم أُمّةٌ..» في الآيتين (103، 104) من سورة آل عمران وقعت في سياق الاعتصام بحبل الله تعالى وعدم التفرق والتذكير بنعمة الوحدة والألفة بعد التفرق والعداوة، وهذا السياق لا يناسبه استعمال وسائل العنف من

ص: 448


1- وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 3، ح2.
2- على مبنى السيد الخوئي (قدس سره) لا يكون المورد من التعارض لأنه بين الإطلاقين وليس بين الخطابين، وقد عرضنا هذا المطلب وناقشناه في كتاب الصوم، فقه الخلاف: 3/ 144، ط. الثانية. (الفقه الباهر في صوم المسافر: 145).

الضرب والجرح والكسر ونحوه. وتلتها في نفس السياق الآية (110) «كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ» وكذلك الآية (71) من سورة التوبة «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ» والولاية تتضمن معنى المحبة والمودة والرفق، ونحو ذلك وهو ينافي استعمال العنف.

وهذا المعنى نظير ما حكي عن الأصمعي وقيل غيره انه قرأ آية السرقة (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله غفور رحيم) وبجنبه إعرابي، فقال: كلامُ مَن هذا؟ قال: كلام الله، قال: ليس هذا كلام الله فانتبهت فقرأت «وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»، فقال: أصبت هذا كلام الله، فقلت: أتقرأ القرآن؟ قال: لا، قلت: من أين علمت؟ قال: يا هذا عزَّ فحكم فقطع، ولو غفر ورحم لما قطع(1).

أقول: ذكرنا هذه الحكاية لتقريب الفكرة على مذاق أهل اللغة فإن الله تعالى رحيم بعباده حتى وهو يأمر بإقامة الحد على من أذنب منهم وهو سبحانه لا يعاقب على ذنب مرتين إذا عاقب عبداً في الدنيا غفر له في الآخرة، وربما أراد الله عز وجل أن يتجلى لعبادهفي مورد إقامة الحد بالحكمة ويهدد من تسول له نفسه السرقة بالعزة تخويفاً وذيادة له عن الذنب.

مضافاً إلى ما سنذكره إن شاء الله تعالى في آداب امتثال الفريضة من أنه يكون بالرفق واللين كما في قوله تعال: «ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (النحل:125) وكقول الإمام الصادق (عليه السلام): (إن إمارة بني أمية كانت بالسيف والعسر والجور، وإن إمامتنا بالرفق والتآلف والوقار والتقية وحسن الخلطة والورع والاجتهاد)(2).

ص: 449


1- التحرير والتنوير: 2/264 عن الكشاف.
2- وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 14، ح9.

ونتيجة التعارض أو التزاحم(1)

بين الأدلة السابقة إلى الآن حصر جواز الضرب عند عدم تأثير الوسائل السابقة، في الموارد الآتية:

1- إذا كانت للآمر الناهي ولاية شرعية أو قيمومة ونحو ذلك كالحاكم الشرعي والأب والزوج والمربّي، في حدود ما تسمح به هذه الولاية.

2- إذا استأذن الحاكم الشرعي، وإن كان المشهور عدم الاشتراط على مستوى الضرب وفرك الأذن أو الحبس ونحوها، ولو من خلال إطلاقهم الجواز مع اشتراطهم إذن الحاكم الشرعي في الكسر والجرح والقتل كقول العلامة (قدس سره) في التبصرة: ((وينكر أولاً بالقلب ثم باللسان ثم باليد ولو افتقر إلى الجراح لم يفعله إلا بإذن الإمام))(2).

3- إذا كان متعلق الأمر والنهي من النوع الذي لا يرضى الشارع المقدس بإهماله وتفويته فإن مصلحته أهم من مصلحة مراعاة حرمة المأمور المنهي، وفق ما هو ثابت في الشريعة أو بتحديد الفقيه العالم بزمانه، كما لو كان عازماً على الالتحاق بالجماعات الإرهابية أو المنحرفة ونحو ذلك.

ولعله لهذا اشترط الشيخ الطوسي إذن الحاكم الشرعي، قال (قدس سره): ((وإنكار المنكر يكون بالأنواع الثلاثة التي ذكرناها، فأما باليد فهو أن يؤدب فاعله بضرب من التأديب: أما الجرح أو الألم أو الضرب، غير أن ذلك مشروط بالإذن من جهة السلطان حسب ما قدمناه، فمتى فُقد الإذن من جهته اقتصر على الإنكار باللسان والقلب))(3).

ص: 450


1- لأن التنافي في مقام الامتثال، فنحن نرجح كون المورد من التزاحم لا التعارض ولكن لا من جهة مبنى السيد الخوئي (قدس سره) الذي أشرنا إليه.
2- التبصرة: 83.
3- النهاية: 300.

واحتاط فيه استحباباً السيد الخميني (قدس سره) قال: ((لو لم يحصل المطلوب إلا بالضرب والإيلام فالظاهر جوازه مراعياً للأيسر فالأيسر والأسهل فالأسهل، وينبغي الاستئذان من الفقيه الجامع للشرائط، بل ينبغي ذلك في الحبس والتحريج ونحوهما))(1).

وكذلك الشيخ المنتظري، قال (قدس سره): ((إذا توقف المنع عن المعصية على ضرب العاصي، وأخذه بشدة والتضييق عليه، فهو جائز، ولكن يجب أن لا يفرّط في ذلك، والأفضل في هذه الحالة وأمثالها أن يُستأذن من المجتهد الجامع للشرائط))(2).

أقول: قد يُرد على هذا التقييد بأنه لم يرد في النصوص أو أن ((مقتضى إطلاق الأدلة الدالة على الأمر والنهي بالقلب واللسان واليد عدم توقف الضرب الخالي عن الجرح على إذن الإمام (عليه السلام) أو من يقوم مقامه))(3)، إلا أن التمسك بالإطلاق غير تام لما ذكرناه غير مرة، وإن التقييد بني على المقيدات الخارجية التي ذكرناها وهي:-

1- عدم ثبوت ولاية لأحد على أحد بهذا المستوى إلا في موارد مخصوصة كما قدّمنا.

2- حماية المجتمع من حصول الفوضى والاضطراب والصراعات.

لو احتاج الأمر والنهي إلى الجرح أو الكسر أو القتل:

فهل يجوز ذلك أم لا؟ وهل هو مشروط بشيء كإذن الإمام أو لا؟

وللفقهاء (قدس الله أرواحهم) حينئذٍ أقوال عديدة:

ص: 451


1- تحرير الوسيلة: 433، المسألة (10).
2- الأحكام الشرعية: 373، المسألة (2182).
3- كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للشيخ حسين النوري الهمداني: 251.
(القول الأول) الجواز مطلقاً

حكاه الشيخ الطوسي في الاقتصاد عن السيد المرتضى، قال (قدس سره): ((وكان المرتضى يخالف في ذلك –أي اشتراط الإذن في الجواز- ويقول: يجوز فعل ذلك بغير إذنه، لأن ما يفعل بإذنهم يكون مقصوداً، وهذا بخلاف ذلك؛ لأنه غير مقصود وإنما قصده المدافعة والممانعة، فإن وقع ضرر فهو غير مقصود))(1).أقول: تقريب دليله: أن القتل إنما يكون مشروطاً بالإذن إذا كان مقصوداً أولاً وبالذات، والمقام ليس منه؛ لأن المقصود هنا الأمر والنهي ويقع الضرر عرضاً، على طريقة ما حكاه القرآن الكريم عن فعل النبي موسى (عليه السلام): «فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ» (القصص:18).

وتقدم قول الشيخ الطوسي (قدس سره) في التبيان: ((فإن قيل هل يجب في إنكار المنكر حمل السلاح؟ قلنا: نعم إذا احتيج إليه بحسب الإمكان لأن الله قد أمر به))(2).

أقول: استدل (قدس سره) بإطلاقات الأمر، واختاره ابن إدريس (قدس سره) قال: ((وإن لم يؤثر وجب باليد، بأن يمنع منه ويدفع عنه، وإن أدى ذلك إلى إيلام المنكر عليه، والإضرار به، وإتلاف نفسه بعد أن يكون القصد ارتفاع المنكر، وأن لا يقع من فاعله، ولا يقصد إيقاع الضرر به))(3).

ص: 452


1- الاقتصاد:241 وحكاه ابن إدريس في السرائر: 2/24 والعلامة في المنتهى: 15/243.
2- التبيان: 2/549.
3- السرائر: 2/24.

وقال العلامة (قدس سره) عن قول السيد المرتضى: ((وكلام السيد عندي قوي))(1) وحكاه صاحب الجواهر (قدس سره) عن الحلبي والعجلي ويحيى بن سعيد والشهيد في النكت))(2).

واستدل لهذا القول بعدة وجوه:

أولها: يتحصل من قول السيد المرتضى المتقدم واحتجاج العلامة (قدس سره) له في المختلف ب-((عموم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر))(3).

بيانه: أن أدلة وجوب الأمر والنهي مطلقة من هذه الناحية، فالوجوب مطلق ولا يتوقف على الإذن، ويجب امتثاله بكل الوسائل الممكنة حتى يتحقق الغرض وهو حمل الآخر على مقتضاه، فإذا توقف على الجرح والكسر والقتل جاز بل وجب لأن مقدمة الواجب واجبة، فالمقتضي –وهي إطلاقات الأمر- موجود، والمانع مفقود ((لأن الجرح والقتل مرتب على المنع والدفع، لا أنه مقصود أصالة، والموقوف على إذنه هوالذي يكون مقصوداً بالذات مثل الحدود والتعزيرات، لا الذي يحصل بالعرض بسبب الدفاع مثل الدفع عن المال والنفس الذي يؤول إلى الجرح))(4).

ويرد عليه: ما تقدم من عدم تمامية الإطلاق، قال المحقق الأردبيلي: ((هذا صحيح لو سُلِّم وجوب المنع مهما أمكن مع الشرائط)) ولو تم فإنه لا يقتضي تجويز كل وسيلة حتى القتل لما عُلِم من اهتمام الشارع المقدس بالدماء، ((وليس العقل مستقلاً بحيث يجد قبح المنكر الواقع وحسن الجرح والقتل

ص: 453


1- منتهى المطلب: 15/243.
2- جواهر الكلام: 21/383.
3- مختلف الشيعة: 4/476.
4- مجمع البرهان: 7/542.

لدفعه))(1)

((مضافاً إلى ما في جواز ذلك لسائر الناس عدولهم وفساقهم من الفساد العظيم والهرج والمرج المعلوم عدمه في الشريعة، خصوصاً في مثل هذا الزمان الذي غلب النفاق فيه على الناس، وبالجملة لا يكاد ينكر اقتضاء تجويز ذلك لسائر الناس على مقتضى إطلاق وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فساد النظام))(2).

أما ما ذكروه من أن الضرر غير مقصود فلا يكون مشروطاً بالإذن فلا نعلم له وجهاً لأن محل البحث الضرب المؤدي إلى الجرح أو الكسر أو القتل المقصود.

ثانيها: ما قاله المحقق الأردبيلي من ((أنه لو لم يكن ذلك –أي الجواز مطلقاً- يلزم كثرة الفساد في زمان الغيبة لأمن الناس من الجرح والقتل)) وأجاب (قدس سره): ((وقد يمنع فإن الضرب ونحوه مانع، مع أن الحد ممنوع من غير لزوم محذور، مع أن موجبه أكثر فساداً لتعلقه بالنفس والبضع والمال))(3).

أقول: مضافاً إلى ما ذكره (قدس سره) فإن الجواز مطلقاً يؤدي إلى مفسدة أكبر وهي فساد النظام الاجتماعي العام فيضحي الشارع المقدس بمصلحة الأمر والنهي من أجل مصلحة حفظ النظام.

ثالثها: قول العلامة (قدس سره): ((إنهما واجبان لمصلحة العالم فلا يقعان على شرط كغيرهما من المصالح)).

وفيه: ما تقدم من لزوم فساد أعظم من إطلاق الجواز لحصول الفوضى واختلال النظام تذوب معه مصلحة الأمر والنهي خصوصاً في الأحكام الفردية.

ص: 454


1- مجمع البرهان: 7/543.
2- جواهر الكلام: 21/383.
3- مجمع البرهان: 7/543.

رابعها: قول العلامة (قدس سره) أيضاً: ((إنهما واجبان على الإمام والنبي (صلوات الله عليهما) فيجب علينا كما وجب عليهما لوجوب التأسّي)).

أقول: وجوب التأسي مقيد بالفرق بين الموردين؛ لأن النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام (عليه السلام) له ولاية على الناس وهو أولى من أنفسهم، وليس لغيرهم ذلك إلا ما ثبت بدليل كالنائب الخاص، أما غيرهم فلا دليل عليه بل الدليل على العدم.

خامسها: بعض الروايات، كرواية عبد الرحمن بن أبي ليلى المتقدمة وفيها (ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى وقام على الطريق ونوّر في قلبه الإيمان) وخبر جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) وفيه قوله (عليه السلام): (فأنكروا بقلوبكم والفظوا بألسنتكم وصكّوا بها جباههم) وقوله (عليه السلام): (هنالك فجاهدوهم بأبدانكم وابغضوهم بقلوبكم غير طالبين سلطاناً ولا باغين مالاً ولا مريدين بالظلم ظفراً حتى يفيئوا إلى أمر الله ويمضوا على طاعته)(1).

ويرد عليه:-

1- ظاهر السياق أنها خاصة بالمنكرات الاجتماعية العامة التي تصدر من الحكام ويترتب عليها تحريف الدين وتسلّط الظالمين.

2- ما قاله صاحب الجواهر (قدس سره) من ((أنه أشار بذلك إلى نفسه ومن يقوم مقامه من أولاده (عليهم السلام) لا سائر الناس كخطابات الحدود وقتال البغاة وجهاد الكفار ونحو ذلك)).

أقول: هذا خلاف الظاهر لقوله (عليه السلام): (فأنكروا بقلوبكم والفظوا بألسنتكم وصكوا بها جباههم..) إلخ، ولا ينكر ظهور الخطاب في العموم، نعم

ص: 455


1- وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 3، ح1.

يصح قوله (قدس سره): ((على أنه ظاهر في الجواز دون الوجوب الذي هو مقتضى الأمر بالمعروف))(1)

بقرينة براءة ذمة من عمل بالأسلوبين الآخرين وحصوله على الأجر؛ لقوله (عليه السلام) فيهما: (سلم وبرئ) وقوله (عليه السلام): (فذلك متمسك بخصلتين من الخير) وقوله (عليه السلام): (وتمسَّكَ بواحدة)، وهذا الجواب يحتاج إلى ضميمة أننا نتحدث عن فريضة واجبة فإما أن تكون كذلك وإلا فيكون الفعل حراماً فإذا لم تجب بحسب هذا التقريب فإنها تكون حراماً وهذا خلاف الفرض.

واستدل العلامة (قدس سره) في المختلف أيضاً بمرسلة ابن أبي عمير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ما قُدِّسَتْ أمة لم تأخذ لضعيفها من قويّها بحقه غير متعتع).أقول: الاستدلال بها غير تام لأنها ليس لها إطلاق من هذه الناحية خصوصاً مع كون الوسيلة المفروضة هي الجرح والقتل.

وأشكل فخر المحققين (قدس سره) على هذا القول بأنه ((لو جاز الجرح والقتل لجاز الجهاد بلا إذن الإمام والتالي باطل إجماعاً فالمقدم مثله والملازمة ظاهرة))(2).

أقول: تقريب الملازمة أن المنع عن الجهاد بلا إذن الإمام إنما شُرِّع لاستلزامه الجرح والقتل فمنع عن ذلك فلو جاز ذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لجاز في الجهاد وهو خلاف الإجماع.

ويرد عليه: أنه من تنقيح المناط وهو ليس حجة، إذ المنع من الجهاد قد يكون –بحسب ما يستفاد من الروايات(3)-

من جهة جور الحكام المتصدين له،

ص: 456


1- جواهر الكلام: 21/385.
2- إيضاح الفوائد: 1/399.
3- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 12.

وعدم تفقههم في أحكامه، وارتكابهم المظالم خلال حركاتهم ولسوء التصرف بالفيء، وأن في ذلك نصرة لهم ونحو ذلك.

وعلى أي حال فإن هذا القول لا يمكن المصير إليه لعدم تمامية الدليل ولمخالفته لأصالة احترام دم المسلم وللزوم الفوضى واختلال النظام مضافاً إلى ما ذكرنا من موانع في البحث الآنف عن الضرب المجرد فورودها هنا أولى.

(القول الثاني) المنع منه مطلقاً

ونُسب إلى صاحب الجواهر (قدس سره)، قال بعضهم: ((ذهب المحقق النجفي إلى عدم الجواز مطلقاً مع إذن الإمام أو بدونه))(1).

أقول: هذه النسبة فيها توهم منشأه سوء فهم قوله (قدس سره): ((لا ريب في أن القول بعدم الجواز مطلقاً أقوى))(2) إذ أن ظاهر العبارة بملاحظة سياق الكلام أنه يريد بالإطلاق أن كل ما فوق الضرب المجرد مطلقاً سواء كان مؤدياً إلى الكسر والجرح والقتل غير جائز إلا بإذن الإمام، ولا يقتصر الاشتراط على القتل في مقابل تفصيل الشهيد الثاني الآتي.

نعم قوّاه السيدان الحكيم والخوئي (قدس الله سريهما) وجمع من تلامذتهما، قالا: ((في جواز الانتقال إلى الجرح والقتل، وجهان: بل قولان أقواهما العدم، وكذا إذاتوقف على كسر عضو من يد أو رجل أو غيرهما، أو إعابة عضو كشلل أو اعوجاج أو نحوهما، فإن الأقوى عدم جواز ذلك))(3)

ص: 457


1- موسوعة الفقه الإسلامي: 17/229.
2- جواهر الكلام: 21/385.
3- منهاج الصالحين للسيد الحكيم: 1/308، المسأل (7)، منهاج الصالحين للسيد الخوئي: 1/353، المسألة (1273).

لكنهما استدركا فقالا: ((نعم يجوز للإمام ونائبه ذلك إذا كان يترتب على معصية الفاعل مفسدة أهم من جرحه أو قتله)).

أقول: إذا كان مرادهما من الإمام ونائبه الإمام المعصوم ونائبه الخاص، فإن في ما ذكراه خروجاً عن أدب طاعة المعصومين (عليهم السلام) والتسليم لأوامرهم، فإن ما استدركا به إنما هو تقييد لإذن الإمام بالمورد وليس تقييد المورد بإذن الإمام، وأن تسليمهم بالجواز في بعض الموارد كما لو توقف دفع شره وفساده عن الناس على قتله يعني الجواز في الجملة.

مضافاً إلى أنهم لم يقيّدوا جواز الضرب بدرجة دون أخرى فما الفرق حينئذٍ بين الضرب المبرّح وإصابته بجرح خفيف حتى قالوا بجوازه في الأول دون الثاني، والدليل في الاثنين واحد؛ لأن الإطلاقات التي تمسّكوا بها في الأول جارية في الثاني أيضاً إذا افترضنا خروج القتل لمانع، إلا أن يقال بظهور اليد ونحو (فجاهدوهم بأبدانكم) في الضرب دون ما هو أشد كالجرح كما عن المحقق العراقي(1).

وتبنى بعض المعاصرين(2)

الدفاع عن هذا القول وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ((يقتصر على البيان اللساني والسلوكي الذي لا يرقى إلى استخدام العنف)) وإنه ((يتلخّص في الدعوة إلى الأعمال الحسنة، والتحذير من التورط في الأعمال السيئة)) وإن الفريضة ((قد تنزّلت إلى مستوى لا يمكن اعتباره من سيرة الأنبياء ونهجهم في شيء))، ويقصد من تنزّلها ((تفسيرها بحركة سطحية ضحلة تتخلص بالتعرض للناس بالضرب والجرح في الأزقة والشوارع.

واستدل على ذلك بعدة وجوه، ملخّصها:-

ص: 458


1- شرح التبصرة: 4/460.
2- الشيخ يوسف صانعي في مجلة الاجتهاد والتجديد، العدد 25، ص 113-140.

1- ظهور لفظ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في النصوص فإنها لا تدل على أكثر من التلفّظ والأمر والنهي اللساني الشفهي، ونقل كلام صاحب الجواهر (قدس سره) في ذلك(1)

لولا أن النصوص وسّعته.

سياق الآيات الكريمة: فإن الضرب والجرح لا يمكنه أن يدخل في أي مرتبة من مراتب الأمر والنهي كقوله تعالى: «وَلتَكُنْ مِنكُم أُمَّةٌ» فإنه جاء بعد آية1- «وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً» (آل عمران:103) ولا يتم الجمع بين الأمر بالاتحاد وبين ما يلزم منه الاختلاف ويثير الأضغان والأحقاد.

2- الاستعمال العرفي لكلمة الأمر فإنه لم يوضع للدلالة على الضرب ولا يفهم العرف منه ذلك.

3- انصراف أدلة الواجبات عن المحرمات، فلو كان للأمر والنهي ظهور لفظي بدوي في جميع أنواع الأمر القولي والسلوكي حتى الإلجاء بالضرب والجرح فإنه منصرف قطعاً عن الأنواع المحرمة منه المتمثلة بالضرب والجرح وغيرهما من الأساليب المحرمة.

4-

ثم أيدها بالروايات الدالة على ممارسة الوظيفة بالرفق واللين.

أقول: هذه الوجوه لا تصلح لإخراج الضرب والجرح أو حتى القتل من وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا دلت الآيات والروايات على جوازه حتى لو سلّمنا بعدم ظهور الأمر والنهي لغةً وعرفاً فيها، فالآية الكريمة «وَاضرِبُوهُنَّ» دلت على هذا الجواز بحدوده وشروطه ونحن لا نقول أكثر من ذلك، وكذا مجموعة من الروايات ناقشناها عند البحث عن آلية اليد، وأدلّ دليل على الإمكان الوقوع، وقد حصلت وقائع استُعمل فيها العنف من المعصومين

ص: 459


1- جواهر الكلام: 21/382.

كالأمر بإحراق مسجد ضرار أو تهديد النبي (صلى الله عليه وآله) من لم يحضروا صلاة الجماعة بإحراق بيوتهم وأمره (صلى الله عليه وآله) بإخراج من لم يدفع الزكاة من المسجد، واختراط أمير المؤمنين (عليه السلام) سيفه لردّ ظلم الرجل عن زوجته المشتكية عليه، وكأمر الإمام الهادي (عليه السلام) بقتل فارس بن حاتم القزويني الذي كان فتّاناً وصاحب بدعة(1)

ونحو ذلك، هذا غير مثل قوله تعالى: «فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ» (الحجرات:9) القاضي بقتال الباغين من المسلمين بحسب وصف الآية.

وهذا كله لا ينافي أمر الشارع المقدس بالرفق واللين، فإن كل هذه الإجراءات رحمة به وخير له «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ» (البقرة:216)، وهكذا كل العقوبات من الحدود والتعزيرات في الدنيا والنار في الآخرة فإنها كلها رحمة بالعباد لسوقهم إلى الهداية والصلاح، وسنتعرض لبعض ما له صلة بهذا المطلب في مواضع أخرى من البحث.

(القول الثالث) التفصيل بين القتل فيشترط فيه إذن الإمام وما دونه فلا يشترط فيه

وهو مختار الشهيد الثاني (قدس سره) في شرح اللمعة، قال (قدس سره): ((وفي التدرج في الجرح والقتل حيث لا يؤثِّر الضرب ولا غيره من المراتب، قولان: أحدهما الجواز، ذهب إليه المرتضى وتبعه العلامة في كثير من كتبه؛ لعموم الأوامر وإطلاقها وهو يتم في الجرح دون القتل، لفوات معنى الأمر والنهي معه، إذ الغرض ارتكاب المأمور وترك المنهي، وشرطه تجويز التأثير وهما

ص: 460


1- راجع تفاصيلها في رجال الكشي، رقم (391)، ومناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب في باب إمامة الهادي (عليه السلام)، ومعجم رجال الحديث: 14/258 ط. طهران رقم الترجمة (9311).

منتفيان معه، واستقرب في الدروس تفويضهما إلى الإمام وهو حسن في القتل خاصة))(1).

أقول: هذا يعني أن عدم شمول أدلة وجوب الأمر والنهي للقتل ليس من جهة قصور المقتضي وإنما لوجود المانع ويتمثل بأمرين، أحدهما: انتفاء موضوع الأمر والنهي الذي هو إصلاح المأمور المنهي وبقتله لا يبقى موضوع للإصلاح، وثانيهما: انتفاء الشرط المشهوري القاضي بتجويزالتأثير، واستشعر صاحب الجواهر (قدس سره) أيضاً من الثاني ضرورة بقاء الموضوع.

وفيه:-

1- إنه مخالف للإجماع المركب على الجواز مطلقاً أو المنع مطلقاً أو الاشتراط مطلقاً.

2- وجود محذور اختلال النظام وحصول الفوضى بتجويز الجرح والكسر من دون إذن الإمام.

3- إن المانع الذي ذكره أمر ثبوتي ومقتضى القواعد عدم إمكان تصحيحه بأمر إثباتي وهو الإذن، فالأنسب بملاك المنع الذي ذكره أن يكون التفصيل بين القتل فلا يجوز مطلقاً وبين ما هو دونه من الجرح والكسر فيجوز بإذن الإمام أو مطلقاً إذا تمت عنده الإطلاقات.

4- ما أفاده صاحب الجواهر (قدس سره) من ((ضرورة عدم انحصار الجرح في غير المؤدي للقتل))(2)، أي أنهم أطلقوا جواز الجرح والكسر من دون إذن الإمام ولم يقيدوه بمرتبة، والجرح في بعض مراتبه قد يؤدي إلى القتل الذي منعوه فيحصل تهافت في كلامهم.

ص: 461


1- الروضة البهية: 1/456.
2- جواهر الكلام: 21/383.

أقول: يمكن رد كلامه (قدس سره) بأنهم قيدوا هذا الإطلاق بمنعهم القتل فيكون الجرح الجائز مقيداً بما لا يؤدي إلى القتل.

إن ما ذكره (قدس سره) من المانع عن تجويز العقل قتل الشخص غير تام؛ لأن القتل قد يكون فيه صلاح له لمنع وقوعه في المزيد من الجرائم والموبقات بحق الدين والمجتمع ويزداد عقابه في الآخرة كحكمة قتل الغلام في قصة العبد الصالح مع النبي موسى (عليه السلام) لمصلحة الغلام ومصلحة والديه، قال1- تعالى: «فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً» (الكهف:80).

قال سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره): ((القتل في سبيل النهي عن المنكر، في مورد وجوبه لا يعني ارتداع الفاعل، بل نتائج أخرى كارتداع غيره أو تخليص المجتمع من مآثمه أو تخليصه من ذنوبه المحتملة في المستقبل لو بقي حياً، أو التسبيب إلى غفران ما سبق منه من المعاصي بصفته قتيلاً، فقد ورد: ما ترك القاتل على المقتول من ذنب، وهذا يحصل على أي حال ما لم يمت معانداً، والعياذ بالله))(1).

وأشكل بعض الأعلام على المانع الذي ذكروه وهو فوات موضوع الإصلاح بالقتل قائلاً: ((إن الفريضة التي شرعت وفرضت لغرض إصلاح المجتمع لا بد أن يلاحظ أثرها بالنسبة للمجتمع وعليه فتأثير الاجتماع كافٍ في حصول الغرض وإن أدى القيام بها إلى انتفاء الفرد التارك للمعروف والفاعل للمنكر، وذلك كالقصاص فإنه وإن أوجب انتفاء الفرد أحياناً ولكن حيث أنه فرض لحياة المجتمع وإصلاحه، كما قال تعالى: «وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ» (البقرة:179) فلا يضره ذلك))(2).

ص: 462


1- منهج الصالحين: 2/239، المسألة (885).
2- كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للشيخ حسين النوري الهمداني: 253.

أقول: كأنه يرى كفاية حصول الصلاح للمجتمع دون الفرد.

ويمكن مناقشته بأن صلاح الفرد مطلوب ومقصود بهذه الفريضة كصلاح المجتمع بل إن الثاني فرع الأول فلا يصح التفريط بالأول من أجل الثاني، وبتعبير آخر إن صلاح المجتمع وإن كان مقصوداً إلا أن المراد منه حصوله في طول صلاح الفرد لا بإعدام وجوده.

وأما القياس على القصاص فإنه مع الفارق كما بيّنا في بعض المطالب السابقة، فكان الأولى بصاحب هذا القول أن يستدل بقصور أدلة وجوب الأمر والنهي عن شمول القتل وانصرافها عنه شرعاً وعرفاً، فإن المولى إذا أمر بمنع شخص عن منكر فهذا لا يفيد قطعاً التوصل لذلك بقتله.

(القول الرابع) اشتراط جواز الجميع بإذن الإمام أو نائبه الخاص

قال الشيخ (قدس سره) في الاقتصاد: ((الظاهر من مذهب شيوخنا الإمامية أن هذا الجنس من الإنكار لا يكون إلا للأئمة أو لمن يأذن له الإمام فيه))(1).أقول: استشعر منه المحقق الأردبيلي (قدس سره) وجود إجماع على هذا الحكم(2).

ونسبه الراوندي إلى الأكثر، قال (قدس سره): ((وليس لنا أن نترك أحداً يعمل بالمعاصي إذا أمكننا منعه منها، ثم ينظر فإن كان أمكننا إزالته بالقول فلا مزيد عليه، وإن لم يمكن إلا بالمنع من غير إضرار لم يزد على ذلك، فإن لم

ص: 463


1- الاقتصاد: 150.
2- مجمع الفائدة والبرهان: 7/542.

يتم دفعه إلا بالحرب فعلناه، وإن كان عند أكثر أصحابنا هذا الجنس موقوفاً على إذن السلطان فيه))(1).

وقال سلار: ((فأما القتل والجراح في الإنكار فإلى السلطان ومن يأمره))(2).

وقال المحقق الحلي (قدس سره) في الشرائع: ((ولو افتقر إلى الجراح أو القتل هل يجب؟ قيل: نعم، وقيل: لا إلا بإذن الإمام (عليه السلام) وهو الأظهر)) وعن صاحب الجواهر (قدس سره): ((وهو قول الشيخ والديلمي والقاضي وفخر الإسلام والشهيد والمقداد والكركي، بل في المسالك هو الأشهر، بل في مجمع البرهان هو المشهور))(3).

أقول: هذا القول أحوط وأوفق بذوق الشارع المقدس لوجوه:-

1- الأصل الأولي الذي يقتضي الحرمة المشددة للدماء وعدم جواز إيذاء وإهانة الآخرين إلا بدليل تام، ولا توجد إطلاقات لأدلة وجوب الأمر والنهي حتى يتمسك بها للجواز، ولو قلنا بوجودها تنزلاً فإنها منصرفة عن مثل هذه الأساليب.

2- لزوم الفوضى واختلال النظام وفوات المصالح العامة التي ملاكاتها أقوى من الملاكات الجزئية في موارد الأمر والنهي.

هل للفقيه الجامع للشرائط حق إعطاء هذا الإذن:

في ثبوت هذا الحق للنائب العام أي الفقيه الجامع لشرائط النيابة العامة، وعدمه قولان:

ص: 464


1- فقه القرآن: 1/362.
2- المراسم: 260.
3- جواهر الكلام: 21/385.

أحدهما: المنع؛ لعدم ثبوت هذه الولاية له، وإن أدلة جعل الفقهاء حكاماً في مقبولة عمر بن حنظلة وأبي خديجة وأمثالها تعني ثبوت ما للقضاة من وظائف لهم وليس عموم ما ثبت للمعصومين (عليهم السلام) ولا وظائف ولاة الأمر، قال المحققالعراقي (قدس سره): ((وفي ثبوت الإذن لنائبه في الغيبة حينئذٍ بمقتضى عمومات الولاية إشكال، وأشكل منه إثبات ذلك لهم بمقتضى المقبولة الدالة على ثبوت وظائف القضاة لهم، إذ ذلك فرع كون ذلك من وظائفهم، وإلا فلو احتمل كونه من وظائف ولاتهم، فلا يكاد يثبت ذلك من المقبولة))(1).

وهذا القول قوّاه السيدان الحكيم والخوئي (قدس الله سريهما) بحسب عبارتهما المتقدمة (صفحة 457) حيث أجازوا ذلك للإمام ونائبه الخاص فقط.

ثانيهما: ثبوت هذا الحق للفقيه الجامع للشرائط، وقال به جماعة ثم اختلفوا في إمكان العمل به صغروياً.

وقال صاحب الجواهر (قدس سره): ((نعم في جوازه لنائب الغيبة –مع فرض حصول شرائطه أجمع التي منها أمن الضرر والفتنة والفساد لعموم ولايته عنهم (عليهم السلام)- قوة، خصوصاً مع القول بجواز إقامة الحدود له، وإن كان ذلك فرضاً نادراً بل معدوماً في هذا الزمان))(2).

أقول: مشكلته إذن ليست كبروية فإن من استحقاقات موقع ولاية الفقيه والنيابة العامة عن المعصومين (عليهم السلام) القيام بهذه الوظائف الاجتماعية العامة، إلا أن المشكلة صغروية أي إما من جهة عدم توفّر الظروف المناسبة لأداء هذه الوظائف لعدم وجود الحكومات العادلة وحصول الضرر عند امتثال هذه الأحكام، وإما من جهة عدم الثقة بقدرة الفقهاء المتصدين لممارسة هذه الصلاحيات لا أقل من جهة عدم إحاطة معرفتهم بالزمان حتى لا تهجم عليهم

ص: 465


1- شرح التبصرة: 4/460.
2- جواهر الكلام: 21/385.

اللوابس كما أفاد الحديث الشريف، أو من جهة عدم سيطرتهم على تصرفات الحواشي التي تنافي تعاليم الإسلام وأخلاق أهل البيت (عليهم السلام) إذا اقتضت مصلحتهم مخالفتها، ونحو ذلك.

وقال السيد الخميني (قدس سره): ((لو كان الإنكار موجباً للجرح أو القتل فلا يجوز إلا بإذن الإمام (عليه السلام) على الأقوى، وقام في هذا الزمان الفقيه الجامع للشرائط مقامه مع حصول الشرائط))(1).

وقال الشيخ المنتظري (قدس سره): ((إذا توقف المنع عن المنكرات وإقامة الواجبات على الجرح والقتل، فلا يجوز ذلك إلا بإذن المجتهد الجامع للشرائط، وبحصول شرائط ذلك))(2).وأجازا القتل حتى من دون إذن الإمام ونائبه فيما لو كان يترتب على ترك الأمر والنهي مفسدة أعظم عند الشارع المقدس من مفسدة قتل الفاعل، قال السيد الخميني (قدس سره): ((لو كان المنكر مما لا يرضى المولى بوجوده مطلقاً كقتل النفس المحترمة جاز بل وجب الدفع ولو انجر إلى جرح الفاعل أو قتله، فيجب الدفاع عن النفس المحترمة بجرح الفاعل أو قتله لو لم يمكن بغير ذلك من غير احتياج إلى إذن الإمام (عليه السلام) أو الفقيه مع حصول الشرائط، فلو هجم شخص على آخر ليقتله وجب دفعه ولو بقتله مع الأمن من الفساد وليس على القاتل حينئذٍ شيء))(3).

أقول: هذا الاستثناء لا مضمون له لأن المورد الذي ذكره واجب مستقل آخر وهو الدفاع عن النفس أو الآخرين أو العرض أي أن الوجوب ثابت له بعنوانه

ص: 466


1- تحرير الوسيلة: 1/433، المسألة (11).
2- الأحكام الشرعية: 373، المسألة (2183).
3- تحرير الوسيلة: 1/433، المسألة (12).

وليس بعنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما في الرواية عن أبي عبد الله عن أبيه (عليهما السلام) أنه قال: (إذا دخل عليك رجل يريد أهلك ومالك فابدره بالضربة إن استطعت، فإن اللص محارب لله ولرسوله، فما تبعك منه شيء فهو عليّ)(1)، فلا يوجد إذن استثناء يمكن إيكاله إلى غير الإمام ونائبه الخاص أو العام؛ لأن غيرهم قاصر عن معرفة الملاك الأهم فتحدث الفوضى، فموارد الأمر والنهي حينئذٍ مشروطة كلها بإذنِ الإمام ونائبيه، والاستثناء واجب بعنوانه لا بعنوان الأمر والنهي.

والرأي المختار: اشتراط جواز الجرح والكسر والقتل بإذن الإمام المعصوم (عليه السلام) ونائبه الخاص، أما النائب العام فلا يثبت له هذا الحق إلا بشرطين:-

1- أن يكون المورد مما عُلم اهتمام الشرع المقدس به بحيث تكون مصلحة الأمر والنهي أعظم من مصلحة حفظ دم الفاعل كما لو حاول القتل أو أن عمله يؤدي إلى اختلال النظام الاجتماعي وحصول الفوضى، خصوصاً مع كون النظام السياسي القائم مما يجب الحفاظ عليه.

2- إحراز اجتماع الشروط سواءٌ المتعلقة بالفقيه أو بالظروف المحيطة به، كتعذر تحقيق الغرض بالوسائل الأخف وكون الفقيه مخلصاً حازماً حكيماً عالماً بزمانه غير خاضع لإرادات أخرى، وأن يكون هو والمؤمنون في سعة من تنفيذ الأمر من دون حصول ضرر عام كالتسبب في قتل المؤمنين أو اعتقالهم وتشريدهم ونحو ذلك.

ولكي يقوم الفقيه بهذه الوظيفة على أحسن صورة لا بد أن يكون له مستشارون أمناء من أهل الخبرة في هذه المجالات، أو أن ينشئ مؤسسة تتكفل تشخيص الحالات المراد علاجها، والآليات المناسبة لتحقيق الغرض.

ص: 467


1- وسائل الشيعة: ج11، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 46، ح3.
فروع

فروع(1):

1- إن أمكنه المنع بالحيلولة بينه وبين المنكر وجب الاقتصار عليها لو كان أقل محذوراً من غيرها.

2- لو توقفت الحيلولة على تصرف في الفاعل أو آلة فعله –كما لو توقفت على أخذ يده أو طرده أو التصرف في كأسه الذي فيه الخمر أو سكبه ونحو ذلك- جاز بل وجب.

3- لو توقف دفع المنكر على الدخول في داره أو ملكه والتصرف في أمواله كفرشه وفراشه جاز لو كان المنكر من الأمور المهمة التي لا يرضى المولى بخلافه كيف ما كان كقتل النفس المحترمة، وفي غير ذلك إشكال وإن لا يبعد بعض مراتبه في بعض المنكرات. أقول: يرد هنا إشكال من جهة الفرق بين المسألتين حتى جاز بل وجب في الأولى، وأشكل الجواز في الثانية –مع أن الموضوع فيهما واحد بحسب الظاهر وهو التصرف في مال الغير- أن التصرف الأول يقتضيه نفس الأمر والنهي وهو جزء من نفس العملية، وبتعبير آخر أن أخذ الكأس والسكين بنفسه من مصاديق النهي عن المنكر فيكون داخلاً في الإذن الشرعي بتقديم وجوب الأمر والنهي على حرمة التصرف في مال الآخر وبدنه، كما لو اقتضى الواجب الضرب أو الحبس ونحو ذلك، أما في الثاني فإن التصرفات من مقدمات الواجب التي يتوقف عليها امتثاله، وقد قلنا أن وجوب الأمر والنهي لا يسوّغ التوصل إلى امتثاله بمقدمات محرمة، ولا تجري فيها قواعد باب التزاحم على إطلاقه وإنما في خصوص الموارد التي عُلم اهتمام الشارع المقدس بها على نحو لا يرضى بإهماله.

ص: 468


1- المسائل (2-13) في تحرير الوسيلة: 1/432.

وهذا التفريق بين المسألتين وإن كان دقياً لا يلتفت إليه العرف، إلا أن ذلك لا يبرر إجراء الحكم في المسألتين على حد سواء؛ للمائز الذي ذكرناه.

وهذا كله مبني على أن حقيقة الأمر والنهي حمل الآخر على مقتضاهما كما اخترنا، أما لو أريد بهما إنشاؤهما فلا يجوز هذا التصرف في المسألتين معاً.

4- لو انجرت المدافعة إلى وقوع ضرر على الفاعل ككسر كأسه أو سكينه بحيث كان من قبيل لازم المدافعة فلا يبعد عدم الضمان، ولو وقع الضرر على الآمر والناهي من قبل المرتكب كان ضامناً وعاصياً. أقول: سيأتي البحث في ضمان ما يحدثه الآمر الناهي إن شاء الله.

5- لو تعدى عن المقدار اللازم في دفع المنكر وانجرَّ إلى ضرر على فاعل المنكر، كما لو كسر القارورة التي فيها الخمر مثلاً أو الصندوق الذي فيه آلات القمار مما لم يكن ذلك من قبيل لازم الدفع، ضمِن وكان التعدي حراماً.

6- لو توقفت الحيلولة على حبسه في محل أو منعه عن الخروج من منزله جاز، بل وجب مراعياً الأيسر فالأيسر والأسهل فالأسهل، ولا يجوز إيذاؤه والضيق عليه في المعيشة.

7- لو لم يحصل المطلوب إلا بنحو من الضيق والتحريج عليه فالظاهر جوازه بل وجوبه مراعياً للأيسر فالأيسر.

8- لا يجوز التعدي إلى القتل مع إمكان الدفع بالجرح، ولا بد من مراعاة الأيسر فالأيسر في الجرح، فلو تعدى ضمن، كما أنه لو وقع عليه من فاعل المنكر جرح ضمن أو قتل يقتص به.

ص: 469

ملاحق:

الملحق الأول: قاعدة تقديم الأيسر

اشارة

المعروف بين الفقهاء (قدس الله أسرارهم) لزوم مراعاة الترتيب في وسائل امتثال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيبدأ بأيسر الوسائل، فإن لم تؤثر انتقل إلى التي تليها وهكذا، قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((صرح الفاضل وابن سعيد والسيوري والشهيدان وغيرهم على ما حكي عن بعضهم بوجوب مراعاة الأيسر فالأيسر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل نسبه بعض الأفاضل إلى الشهرة، بل لم أجد من حكى الخلاف في ذلك))(1).

أقول: وهذا الترتيب تجب مراعاته بين المراتب الثلاث، وفي ضمن كل مرتبة أيضاً، فإذا حصل المطلوب بالكلام اللين فلا يجوز الأمر والنهي بالكلام الخشن، وإذا أمكن النهي عن المنكر بالحيلولة بينه وبين فاعله فلا يجوز ضربه، مع أن الأسلوبين من مرتبة واحدة وهكذا.

وهنا عدة أمور ينبغي التعرض لها:

(الأول) الترتيب الذي ذكرناه والذي اشتهر في كلمات الفقهاء ليس متفقاً عليه وإن تسالموا على أصل المراتب، فقد ورد اختلاف في ترتيب الوسائل في كلمات الفقهاء فعن الشيخ وابن حمزة ((يجب أولاً باللسان ثم باليد ثم بالقلب)) وعن سلار ((باليد أولاً فإن لم يمكن فباللسان، فإن لم يمكن فالقلب)) وبعضها غير ظاهر في الترتيب أصلاً وإنما يكتفي بذكر وسائل الامتثال)).

وعن الحلبي في إشارة السبق ((يجب باليد واللسان، فإن فقدت القدرة أو تعذّر الجمع فيه بين ذلك فباللسان والقلب خاصة، فإن لم يمكن الجمع فيه

ص: 470


1- جواهر الكلام: 21/378.

بينهما لأحد الأسباب المانعة فلا بد منه باللسان، ولا يسقط الإنكار به شيء))(1).

(الثاني) في الاستدلال عليه

ونقرّب الاستدلال على ترتيب المشهور بوجوه:

أولها: الإجماع، وهو مخدوش صغروياً لما ذكرناه من الخلاف، وكبروياً لاحتمال استناده إلى الروايات كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ثانيها: الروايات:

فإنها ذكرت المراتب على هذا النحو كالروايات (3، 4، 5 صفحة 417-418)، لكن هذا الاستدلال غير تام؛ لأن الروايات –مضافاً إلى كون بعضها غير ظاهر في الترتيب أصلاً (كالرواية 3) وأن بعضها غير ظاهر في اللزوم كما هو المفروض (كالروايتين 4، 5) فإنها مختلفة من هذه الناحية، وفي بعضها تقديم اللسان ثم القلب ثم اليد، كالرواية (14) إذ بدأت بالإنكار باللسان ثم الهجران، وقد ذكروه في مراتب القلب، ثم الإيذاء حتى الترك وهو من مراتب اليد.

وفي خبر يحيى الطويل (رقم 2) جمع اليد واللسان معاً في مرتبة واحدة، وقدّم بعضها اليد ثم اللسان ثم القلب كما في الروايات (7، 9، 10).

نعم يمكن افتراض التعارض بينها والترجيح بموافقة الكتاب، ويستفاد هنا من قوله تعالى: «وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» (الحجرات:9) بتقريب أن الآية قدّمت الإصلاح أولاً وهو عنوان واسع يشمل المراتب القلبية أولاً كالهجران والصد وعبوس الوجه ثم المراتب اللسانية لإنشاء الأمر والنهي، فإن لم تؤثر التجأ إلى مراتب اليد ومنها القتل.

ص: 471


1- جواهر الكلام: 21/379.

والآية تؤدي هذا المقدار من الدلالة وإن لم يصح الاستدلال بها على الترتيب التفصيلي الذي ذكروه، وبذلك نتجنب الإشكال الذي أثير على من استدل(1)

بالآية على لزوم التدرج بالمراتب فأشكل عليه بأن الآية أجنبية لأنها خاصة بالباغين الخارجين عن الطاعة ولا تعم كل موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما نحن فجعلناها مرجحاً فيمكن أن تكون وافية بهذا المقدار لأن فحواها ذلك، لكن هذا في الحقيقة استدلال بنفس الآية.

وللمحقق العراقي مسلك آخر في جواب الإشكال، قال (قدس سره): ((وهذا المعنى –أي القتال- وإن لم نقل بمشروعيته في غير مورد البغي، لكن هذا المقدار لا ينافي الاستشهاد به على تقديم مراتب الأسهل على الأشد، فيلاحظ مثل هذه المراتب في جميع المقامات، المتعلقة بزجر الغير وردعه عن المنكر بالفحوى))(2).

أقول: هذه الاستفادة الإجمالية لا تصلح للاستدلال على ترتيب المشهور.

ثالثها: ((قاعدة حرمة إيذاء المؤمن وإضراره المقتصر في الخروج منها على مقدار ما ترتفع به الضرورة)):

وتقريبه أن ((التعارض بين إطلاق الأمر بالمعروف وبين النهي عن الإضرار بالمؤمن والإيذاء له من وجه، والمعلوم من تخصيص الأخير بالأول حال الترتيب الذي ذكرناه، وحينئذٍ فالمتجه الاقتصار فيهما على أول مراتب الإنكار بالقلب على وجه يظهرللمأمور والمنهي ذلك، ثم المرتبة الأخرى منه الأيسر فالأيسر إلى أن تنتهي مراتبه بأقسام الهجر وتغير الوجه ونحوهما فإن لم يجد

ص: 472


1- كما في جواهر الكلام: 21/379 وغيره.
2- شرح التبصرة: 4/459.

استعمل اللسان أيضاً بمراتبه الأيسر فالأيسر، فإن لم يجد استعمل اليد أيضاً بمراتبها))(1).

أقول:-

1- هذا التقريب خاص بما لو اجتمع مع الأمر والنهي عنوان محرم فلزوم الترتيب غير مطلق.

2- إنه (قدس سره) لم يبين لنا وجه تقديم إطلاقات الأمر والنهي مع أن التعارض من وجه، إذ يمكن أن يكون التقديم بالعكس ونتيجته عدم جواز استعمال أي وسيلة محرمة في الأمر والنهي، ويمكن أن يقال بعدم وقوع التعارض أصلاً لأنه بين إطلاقين –كما هو مبنى السيد الخوئي (قدس سره)- فيرجع إلى أدلة أخرى أو الأصل العملي، ويمكن اعتبار المورد من التزاحم فيقدَّم الأهم ملاكاً كما قرّبنا سابقاً.

رابعها: سيرة المتشرعة ويمكن أن يكون هذا الوجه مدركياً مبنياً على الوجه السابق، ويأتي عليه ما قلناه هناك من اختصاص لزومه بحالة الاجتماع مع عنوان محرم، نعم يمكن تطوير هذا الوجه لتجنّب المدركية فيعنون بسيرة العقلاء وبنائهم على ذلك فيكون دليلاً مستقلاً ولكن مفاده غير مطلق أيضاً كما هو واضح.

خامسها: الأصل العملي:

قال المحقق العراقي (قدس سره): ((إن الإطلاقات من هذه الحيثية بعد ما لم تكن في مقام البيان، فينتهي الأمر حينئذٍ إلى التعيين والتخيير، والأصل في مثله التعيين))(2).

ص: 473


1- جواهر الكلام: 21/378.
2- شرح التبصرة: 4/459.

أقول: بيان ما قاله (قدس سره) أن الروايات لما لم تكن في مقام البيان من حيث ترتيب الوسائل والآليات كما قدمنا فلا يمكن التمسك بإطلاقها لإثبات الترتيب المشهوري، فنتوجه إلى الأصل العملي، وما قاله (قدس سره) صحيح كبروياً، ومراده بالتعيين لا بد أن يكون الترتيب المشهوري إلا أنه لم يبين لنا وجه أخذ هذا الترتيب بنظر الاعتبار في طرفي الدوران، وبدونه يمكن جعل ترتيب آخر طرفاً في الأصل وتكون النتيجة الأخذ به وهكذا، فهل المنشأ وروده في الروايات فيرد عليه أنها غير متفقة على ترتيب معين، وإن أراد به مقتضى القاعدة في الوجه الثالث فإنه يصلح دليلاً مستقلاً ولا حاجة إلى الأصل.

وللإنصاف فإنني لم أجد من أشار إلى هذا الأصل، نعم وجدت من وصف هذا القانون بأنه أحوط وهو كذلك.

(الثالث) في ظرف جريان قانون تقديم الأيسر

تبيّن مما تقدم أن لزوم تقديم الأيسر ليس مطلقاً لأنه جاء بسبب ظروف معينة، فجريانه يكون في ظل تلك الظروف، وهي:-

1- أن يكون الفقيه ممن يجيز استعمال الوسائل المحرمة ذاتاً كالضرب أو الكلام الجارح، وعندئذٍ يجري دليل القاعدة من لزوم الاقتصار على المتيقن وهو الأيسر، أما إذا كان ممن لا يجيز أصلاً استخدام وسيلة محرمة ويقتصر على الحيلولة مثلاً أو خلق البيئة الصالحة أو إقامة النظام الاجتماعي المساعد على المعروف أو من خلال الأسوة الحسنة، فيكون جريان القاعدة سالبة بانتفاء الموضوع.

2- أن يكون الفقيه ممن يرى بقاء الوسيلة المحرمة على حكمها عند وقوعها في طريق الأمر والنهي فيحصل التعارض أو التزاحم وتجري قاعدة لزوم تقديم الأيسر، فلو كان ممن يرى تغير حكمها بالعنوان الثانوي لأنها أصبحت بجعل الشارع وسيلة محللة بل واجبة لأنها من مصاديق الأمر

ص: 474

والنهي فلا تعارض ولا ترتيب؛ لأن ما كان محرماً يصبح واجباً، ويظهر هذا الفهم من أصحاب القول الأول في جواز الجرح والقتل مطلقاً بدون إذن الإمام (عليه السلام) كالسيد المرتضى وقواه العلامة (قدس الله سريهما).

3- أن يكون الفقيه ممن يرى قبول حكم الحرمة للشدة والضعف ليلزم بالأيسر فالأيسر، أما لو كان يرى الحرمة كلها بمرتبة واحدة من باب (لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت) ونحوه فإنه لا يجب حينئذٍ التدرج ما دام الحكم بالحرمة قد سقط لوجوب الأمر والنهي فترتفع الحرمة عن الجميع بلا فرق.

وبتعبير آخر إن الدليل الذي اعتمدوه يقتضي الخروج من أصل الحرمة فقط على هذا المبنى ولا يقتضي التدرج إلا بدليل آخر.

وفي الحقيقة فإن الالتزام بالتدرج يُعدُّ نقضاً على هذا المبنى.

4- أن يتوقف امتثال وظيفة الأمر والنهي على استعمال وسيلة محرمة للوصول إلى الغرض كإيذاء المسلم وإهانته فيتعارضان، فلو لم يقتض ذلك كما لو كان الأمر والنهي بالكلمة الطيبة أو بتقديم باقة ورد أو إخفاء الوسيلة المحرمة عن الفاعل أو بمنع المقدمات الموصلة إلى المحرم، فلا حاجة إلى الترتيب، وعلى القول به فإن هذه الوسائل التي هي من المرتبة الثانية والثالثة تتقدم على بعض ما ذكروه في القلب مما فيه إيذاء كالصد والهجران وعبوس الوجه.

5- مقتضى القاعدة التي استدلوا بها جريان قانون الأيسر فالأيسر في الأمر والنهي الفرديين أي أمر ونهي الأشخاص لأنه مورد احتمال إهانة الآخر وإيلامه، أما المنكرات الاجتماعية فلا يأتي هذا الاحتمال ولا موضوع للتعارض حينئذٍ حتى نقتصر على المتيقن، وسيأتي مزيد بيان في الوجه السادس من المطلب الآتي إن شاء الله تعالى.

ص: 475

6- إن الترتيب إنما تجب مراعاته إذا كان الآمر الناهي جاهلاً من أول الأمر بالوسيلة المؤثرة التي يتعين بها تحقق الغرض دون الوسائل الأخرى فيتدرج، في الامتثال، وإلا أخذ مباشرة بالمتعينة، قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((لو علم من أول الأمر أنه لا يجدي إلا المرتبة الأخيرة من المراتب استعملها من غير تدرج، إذ هو في مجهول الحال))(1).

7- ويوجد ظرف آخر إلا أنه ليس لأصل الالتزام بالتدريج، وإنما لوجوب الأخذ بترتيب المشهور: القلب ثم اللسان ثم اليد، فإننا لو قلنا بلزوم التدرج فإنه لا يقتضي نفس الترتيب المشهوري إلا إذا افترضنا كون العنوان المحرم مترتباً على هذا النحو من الدرجات فلو كان على نحو آخر وجب الأخذ به، كما لو فرض أن الهجران والصد والحرمان أشد إهانةً وإيلاماً من الأمر والنهي اللسانيين، أو حتى من استعمال اليد (فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي وربي صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك، وهبني يا إلهي صبرت على حرّ نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك)(2).

8-

ولذا قالوا بالتخيير بين الأفراد مع فرض تساويها في المرتبة.

(الرابع) توجيه الاختلاف في المراتب

الترتيب المشهور في روايات الفريقين: اليد أولاً فمن لم يستطع فبلسانه فمن لم يستطع فبقلبه، لاحظ الروايات (7، 9، 10) ويمكن استظهاره من الروايات (11، 12، 13، 14، 16 وكذلك 4، 5) وهو على عكس الترتيب المشهور

ص: 476


1- جواهر الكلام: 21/379.
2- مفاتيح الجنان، دعاء أمير المؤمنين (عليه السلام) المعروف بدعاء كميل.

في كلمات الفقهاء (قدس الله أسرارهم)، فيوجد تنافي بين ما تقتضيه القواعد –وهو ما ذكره المشهور- وترتيب الروايات.

ولم يتعرض أكثر الفقهاء لهذا الإشكال وجوابه، عدا ما ذكره العلامة (قدس سره) في المختلف من توجيه لاختلاف أقوال الفقهاء في الترتيب، واعترف به صاحب الجواهر، قال (قدس سره): ((ودعوى أن إطلاق الامر بالمعروف والنهي عن المنكر يقتضي الترتيب المزبور (أي البدء بالأشد)– بل قد سمعت ما في بعض الأخبار السابقة من التزام ارتكاب الأثقل من الإنكار - يدفعها ما يستفاد من غيرها من مراعاة الترتيب –أي المشهوري- مضافاً إلى قاعدة حرمة إيذاء المؤمن وإضراره المقتصر في الخروج منها على مقدار ما ترتفع به الضرورة))(1).نعم يوجد في كلماتهم ما يمكن عرضه كجواب على الإشكال، لذا نستطيع تقريب عدة وجوه لدفع الإشكال:-

1- ما ذكره صاحب الجواهر (قدس سره) آنفاً من وجود روايات معارضة تفيد الترتيب المشهور لدى الفقهاء (كالروايات 3، 4، 5) فيتساقطان.

ويرد عليه: أن الترتيب المشهور في روايات الفريقين هو عكس فتوى المشهور على نحو يفيد الاطمئنان بصدوره، وما يعارضها لا يصلح للمعارضة لأنها إما ليست بصدد الترتيب أو لبيان أفضلية بعض الدرجات على بعض كما هو واضح لمن تأمل فيها، وهي مع ذلك تدل على أفضلية ترتيب الروايات لا مشهور الفقهاء.

2- إن الروايات ليست بصدد الترتيب، وإنما تبين أصل المراتب ووسائل الأمر والنهي في الجملة، فلا تنافي ترتيب المشهور.

ويرد عليه: أن هذا ممكن في بعضها كالرواية (3) لكن توجد روايات أشرنا إليها صريحة في الترتيب كالروايات (7، 9، 10).

ص: 477


1- جواهر الكلام: 21/378.

3- إن الترتيب الموجود في الروايات استحبابي وهو الأفضل لمن يريد الدرجات العلى كما هو صريح الروايتين (4، 5) وليس ملزماً بعكس ترتيب المشهور. أقول: ظاهر الروايتين ذلك، لكنه لا يحل الإشكال لأننا علمنا من مقتضى القواعد لزوم تقديم الأيسر وعدم جواز الانتقال إلى المرحلة الأشد مع إمكان الأيسر، فضلاً عن كونه الأكمل والأفضل.

4- ما قاله العلامة (قدس سره) بعد نقل اختلاف الأصحاب في الترتيب: ((والتحقيق: إن النزاع لفظي فإن القائل بوجوبه باللسان أولاً ثم باليد أشار بذلك إلى الأمر بالمعروف بأن يعد فاعله الخير ويعظه بالقول ويزجره عن الترك، فإن أفاد وإلا ضربه وأدبه، فإن خاف وعجز من ذلك كله اعتقد وجوب المعروف وتحريم المنكر وذلك مرتبة القلب. والقائل بتقديم القلب يريد أنه يعتقد الوجوب ثم يأمر به باللسان، أو بأن فاعل المنكر ينزجر بإظهار الكراهة أو بالاعراض والهجر. والقائل بتقديم اليد يريد أنه يفعل المعروف ويجتنب المنكر بحيث يتأسى به الناس، فإن أفاد ذلك الانقياد إلى المتأسّي وإلا وعظ وزجر وخوّف باللسان، فإن عجز عن الجميع اعتقد الوجوب))(1).

أقول: هذا جمع تبرعي للمتناقضات ولا شاهد عليه بل هو خلاف الظاهر من معنى اليد لذا قال عنه في التنقيح أنه مجرد تخمين لا دليل عليه(2)، أو أنه يرجع إلى الوجه التالي.

5- ما حكي في بعض المصادر من أن مرجع اختلاف الروايات في الترتيب هو1- اختلاف الحالات والأوضاع والسائلين(3).

ص: 478


1- مختلف الشيعة: 4/475.
2- التنقيح الرائع: 1/594.
3- حكاه في فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 519 عن شرح مسلم للنووي: 2/77.

وفيه: أنه لا شاهد عليه من نفس الروايات، بل لسان بعضها عموم الخطاب.

أقول: نضيف هنا وجوهاً للجمع أولى مما ذكروه:

6- إننا قسّمنا المعروف والمنكر إلى اجتماعي وفردي فترتيب الروايات وارد بلحاظ المنكرات الاجتماعية العامة كظلم وجور الحكام الطغاة وتحريف الدين وإلقاء الشبهات والبدع وإشاعة الفاحشة والفساد والمنكرات في المجتمع، وهذا معنى ظاهر من سياق الروايات التي أفادت هذا الترتيب، فيجب التصدي لها بكل ما أوتي من قوة وإمكانات المعبَّر عنها باليد، وهنا لا موضوع لقاعدة حرمة إيذاء المؤمن، وهذا المعنى ظاهر من كلمة الإمام الحسين (عليه السلام)، ومثل هذه القرائن تفيد تقييد إطلاقات المنكر في الروايات.

أما ترتيب المشهور فهو بلحاظ الأفراد أي أمر ونهي الأشخاص فيكون محكوماً بحرمة إيذاء المؤمن ونحوه، أي أن مقتضى ما استدلوا به على قانون تقديم الأيسر جريانه في المنكرات الفردية فقط لوجود المعارض.

7- أن نفهم من ترتيب الروايات معاني لليد واللسان لا تأبى التقديم على القلب كما تقتضيه القواعد، فيراد باليد الحيلولة بين الفاعل والمنكر كإخفاء الآلة التي يستعملها للمنكر بذريعة معينة لا تشعره بأن الآمر الناهي قد علم بمعصيته حتى لا توجب إهانته وجرح مشاعره، أو إصدار قانون بغلق محلات الفسق والفجور، ويراد باللسان الكلام الليّن الودّي، وهاتان المرتبتان مقدمتان على بعض ما ذكر في القلب كالصد والإعراض والهجر.

وهذا الوجه يظهر من بعض الروايات.

8- إن الروايات ناظرة إلى ما لا يمكن تغييره الا باليد كالفساد المالي والإداري المستشري في الدولة، أو المعاملات المصرفية المحرمة والمرتبتان

ص: 479

الأخريان (اللسان والقلب) إنما ذكرتا من باب إبراء الذمة وعدم السكوت عن امتثال التكليف لمن عجز عن التغيير باليد فيواصل حملة الاستنكار باللسان على مواقع التواصل الاجتماعي والصحف والفضائيات وهكذا، والشاهد على ذلك قولهم (عليهم السلام) فيها: (فإن لم يستطع)، وحينئذٍ لا تنافي مع ترتيب المشهور؛ لأننا ذكرنا أن ظرف تطبيقه مع مجهولية الوسيلة المؤثرة.

9- إن الأصل في التغيير أن يكون بالفعل (لاحظ الروايتين 10، 14) بكل الوسائل حتى لو اقتضى الجمع (لاحظ الروايتين 12، 13 وكذا الرواية 1) لذا ذهب الحلبي في إشارة السبق إلى التغيير بها جميعاً ولو لم يستطع فباثنتين وإلا فواحدة.1- نعم إذا عارضه عنوان محرم وجب الأخذ بقانون تقديم الأيسر، فالروايات ناظرة إلى الأصل، وترتيب المشهور إلى العارض والاستثناء.

وخلاصة البحث: أنه لا دليل على وجوب الالتزام بالترتيب المشهوري بعينه مطلقاً، وأن المطلوب هو تحصيل الغرض المقصود من وظيفة الأمر والنهي بالوسائل المتيسرة وقد يقتضي ذلك الجمع بين الوسائل، أو اتخاذ بعضها دون بعض، أو تقديم بعضها على بعض من دون تعيين، أي يحصل تداخل بينها، أو التخييير بينها دون ترجيح لبعضها على بعض، وقد تتعين وسيلة دون غيرها للعلم بعدم جدوى ما سواها.

نعم قد تتعدد الوسائل ويجتمع معها عنوان محرم، ولا يوجد انحصار بأحدها لعدم علمه بالمؤثر دون غيره فيبدأ بالأيسر فالأيسر اقتصاراً على الأقل في الاستثناء من العنوان المحرم.

ص: 480

الملحق الثاني: لو توقف الأمر والنهي على وسيلة أو مقدمة محرمة

اشارة

تعرّضنا لهذا العنوان في الأبحاث المتقدمة من خلال فروع فقهية متناثرة ونريد الآن أن نلملم شتات العنوان فنقول:

إذا لم يتعين امتثال فريضة الأمر والنهي بوسيلة محرمة فمن المقطوع به عدم جواز اتخاذ الوسيلة المحرمة، وإنما الكلام فيما لو انحصر الامتثال باتخاذ وسيلة محرمة، وقد ورد في كلمات الفقهاء (قدس الله أرواحهم) ذكر ثلاثة موارد للعنوان:

(الأول) لو لزم دفع المنكر التوصل إليه بوسيلة محرمة

كما لو تطلب نهيه عن المنكر دخول داره بغير إذنه مثلاً، أو توقف نهي أهل الفسق على ارتكاب معصية كالاستماع إلى الغناء أو النظر إلى المحرمات ونحو ذلك.وهذا غير جائر إجماعاً حتى اشتهرت كلمتهم (لا يطاع الله من حيث يعصى)(1)

وتقدمت عدة فروع له، ولذا اقتصروا على القدر المتيقن من الوسائل المستثناة من حرمة إهانة المؤمن وإيلامه في لزوم التدرج.

ونعلّق هنا بأن مرادهم من (لا يجوز) إن كان عدم صحة الامتثال بالوسيلة المحرمة فهذا مما لا وجه له على مبناهم من كون وجوب الأمر والنهي توصلياً فيتحقق الامتثال إذا حصل الغرض بوسيلة محرمة، وإن كان مرادهم حرمة الوسيلة المحرمة فهذا ثابت لها من دون مدخلية الأمر والنهي.

ص: 481


1- هي كلمة متداولة في كلمات الفقهاء أجروها مجرى القاعدة الفقهية، واشتبه بعض المتأخرين بنسبتها إلى أحاديث المعصومين (عليهم السلام)، كما لم نجدها في كلمات المتقدمين فلا يحتمل أنها موروثة من عصر الأئمة (عليهم السلام).

وقد تقدّم بعض البيان عندما ناقشنا الكلمة المعروفة (الغاية تبرر الوسيلة).

نعم يستثنى(1)

منها المورد الذي تذوب فيه مفسدة الوسيلة المحرمة في مصلحة ذي المقدمة، خصوصاً إذا كان مورد الأمر والنهي مما عُلم اهتمام الشارع المقدس به على نحو لا يرضى بتفويته مطلقاً كما لو توقف حفظ النفس المحترمة أو اكتشاف خلايا الإرهابيين على ارتكاب محرم كحلق اللحية، أو توقف حماية النظام الاجتماعي العام من الفساد الأخلاقي والفكري، ومن التخريب الاقتصادي والاجتماعي على مثل ذلك.

فالاستثناء إذن محدد وليس مطلق ما كان أهم ملاكاً كما يظهر من قول السيد الخميني (قدس سره): ((لو توقفت إقامة فريضة أو قلع منكر على ارتكاب محرم أو ترك واجب فالظاهر ملاحظة الأهمية))(2).

وعلق عليه البعض بأن ((المعيار في ذلك كله قانون التزاحم وملاحظة الأهمية وحجم المصالح والمفاسد))(3).

أقول: هذا من تنقيح المناط وتجريد المورد السابق عن الخصوصية بلا دليل مضافاً إلى عدم إمكان التعرف على الملاكات والمصالح والمفاسد الواقعية فضلاً عن معرفة ما هو الأهم فيها.

لذا يجب التوقف في إدراج غيبة فاعل المنكر لردعه ضمن المستثنيات من الحرمة، قال صاحب الجواهر (قدس سره) ((ومنها –أي المستثنيات من حرمة الغيبة- ما دخل في النهي عن المنكر، لتوقفه عليه، فيجب الوقيعة في بعض

ص: 482


1- هذا بغضّ النظر عما تسقط حرمته بالعناوين الثانوية كالتقية والاضطرار والعسر والحرج ونحو ذلك.
2- تحرير الوسيلة: 1/419، المسألة (9).
3- موسوعة الفقه الإسلامي: 17/236.

العصاة حتىيرتدعوا عن معصيتهم))(1)

وتبعه آخرون كالسيد الخوئي (قدس سره) وتلامذته(2) من دون أن يفصلوا في ماهية المنكر المراد ردع فاعله عنه، مع أن الوارد في شناعة الغيبة مما لا ينسجم مع هذا الإطلاق.

(الثاني) التوسل بالظالم لدفع المنكر

هذا الفرع الفقهي له أهمية في رسم بعض ملامح العلاقة وشكل التعاطي مع السلطات غير الشرعية، وربما نوفق بإذن الله تعالى للبحث فيه مفصلاً لاحقاً إن شاء الله، أما هنا فنذكره كتطبيق للمسألة التي ذكرناها.

قال السيد الخميني (قدس سره): ((لو توقف دفع المنكر أو إقامة منكر أو إقامة معروف على التوسل بالظالم ليدفعه عن المعصية جاز بل وجب))(3).

أقول: هذا صحيح لكن يجب تقييده بأمرين، ذكر (قدس سره) أحدهما وذكر غيره الآخر، وهما:-

1- قوله (قدس سره): ((مع الأمن عن تعديه مما هو مقتضى التكليف)).

2- ((إذا لم يكن في التوسل به وتقوية لظلمه))(4).

وبدونهما فقد تقع مفسدة أكبر بتقويته على الظلم أو بارتكابه ظلماً أفحش بحق المأمور المنهي أو غيره.

ص: 483


1- جواهر الكلام: 22/69.
2- منهاج الصالحين للسيد الخوئي: 1/11، المسألة (29)، منهاج الصالحين للسيد السيستاني: 1/14، المسألة (30)، منهاج الصالحين للشيخ الفياض: 1/20، المسألة (31).
3- تحرير الوسيلة: 1/432، المسألة (9).
4- مجمع المسائل: 1/386.

ومثال الجواز: ما لو انحصر غلق الملاهي ومحلات الخمور وصالات القمار ونحو ذلك باستصدار قرار من الحكومة غير العادلة أو الاستعانة بقوته الإجرائية لتنفيذ هذه القرارات ونحو ذلك.

والدليل على الجواز بل الوجوب أن هذا الظالم مكلّف كالآخرين بوجوب الأمر والنهي، نعم إذا وجدت مفسدة أخرى مما بيّناه فلا بد من الاقتصار على الاستثناء الذي ذكرناه في المورد السابق.

ونلفت النظر هنا إلى أمرين:-

إن هذا المطلب أقرب إلى فرع ذكرناه سابقاً وهو امتثال الأمر والنهي إذا تعيّن بشخص وجب أمره بالامتثال إذا تهاون به مع اجتماع الشرائط عنده، فالظالم1- مشمول بإطلاقات الأمر والنهي، فما قيل في هذا المورد من التوسل به هو أمره بأن يأمر وينهى، ويجب عليه ما يجب على غيره من لزوم مراعاة الأيسر فالأيسر.

2- ينبغي للفقهاء أن يتذكروا هنا ما قالوه في كتاب الاجتهاد والتقليد من حرمة التحاكم إلى قضاة غير السلطان العادل ومن نصّبه في القضاء حتى لو كان محقاً واستثنوا مورد الحق المعلوم المشخّص، بينما في الفرع محل البحث أعطوا مساحة أوسع للرجوع إلى الظالم ولم يقيّدوه من هذه الناحية، مع أن فيه رجوعاً للحاكم من بعض الجهات.

(الثالث) حضور مجالس المنكر للتمكن من الأمر والنهي

وردت نصوص عديدة في حرمة حضور مجالس المنكرات كقوله تعالى: «وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ

ص: 484

غَيْرِهِ» (الأنعام:68) وقد يناقش الاستدلال من جهة أنه ((خاص بمورد الخوض بآيات الله لا مطلق المعصية، على أنه قد يكون لردعهم))(1).

أقول: التجريد عن الخصوصية وارد لأن كل معصية هي استهزاء بآيات الله تعالى، وكون ترك المجلس لردعهم –كما يظهر من رواية العيون الآتية- لا ينافي دلالة الآية على حرمة مجالستهم بل إنها تؤكدها لإضافة حرمة جديدة من جهة ترك واجب النهي عن المنكر المتعين بالإعراض عنهم.

وتوجد روايات عديدة تدل على الحرمة:

(منها) صحيحة عمر بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا تصحبوا أهل البدع ولا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحد منهم، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): المرء على دين خليله وقرينه)(2).

(ومنها) صحيحة أبي حمزة عن علي بن الحسين (عليهما السلام) –في حديث طويل- قال: (وإياكم وصحبة العاصين ومعونة الظالمين ومجاورة الفاسقين، احذروا فتنتهم وتباعدوا عن ساحتهم).

(ومنها) رواية عبد الله بن صالح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا ينبغي للمؤمن أن يجلس مجلساً يعصى الله فيه ولا يقدر على تغييره).

(ومنها) ما في الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام): (والجالس على اللعب بها –أي الشطرنج- يتبوأ مقعده من النار، ومجلسها من المجالس التي باء أهلها بسخط من الله، يتوقعه في كل ساعة فيعمّه معهم)(3).

ص: 485


1- موسوعة الفقه الإسلامي: 17/238.
2- هذه الروايات الثلاث في وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 38، ح1، 3، 4.
3- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب ما يُكتسب به، باب 103، ح 4.

(ومنها) ما رواه الصدوق في العيون بسند صحيح إلى عمير بن يزيد وفي الرواية بيان لبعض ملاكات الحكم بالمقاطعة قال: (كنت عند أبي الحسن الرضا عليه السلام فذكر محمد بن جعفر بن محمد عليهما السلام فقال: أني جعلت على نفسي أن لا يظلني وإياه سقف بيت، فقلت في نفسي: هذا يأمرنا بالبر والصلة ويقول: هذا لعمّه فنظر إليّ فقال: هذا من البر والصلة إنه متى يأتيني ويدخل عليّ فيقول فيَّ يصدّقه الناس، وإذا لم يدخل عليّ ولم أدخل عليه لم يُقبل قوله إذا قال)(1).

أقول: هذا كله بلحاظ الحكم الأولي لهذه العناوين وكلامنا فيما لو طرأ عليه عنوان ثانوي بأن أصبح حضور مجلس المنكر وسيلة للأمر والنهي الواجبين، قال الشيخ في المبسوط: ((إذا كان في الدعوة مناكير وملاهي مثل شرب الخمر على المائدة، وضرب العود والبرابط والمزامير وغير ذلك، وعلم، فلا يجوز له حضورها، وإن علم أنه إن حضر قدر على إزالته، فإنه يستحب له حضورها ليجمع بين الإجابة والازالة. وإن لم يعلم حتى حضر فإن أمكنه إزالته أزاله، لأن النهي عن المنكر واجب، وإن لم يمكنه إزالته فالواجب أن لا يقعد هناك بل ينصرف)).

أقول: كلامه (قدس سره) صريح في حرمة حضور هذه المجالس، لكنه إن علم بتمكنه من إزالة المنكر بحضوره استحب، وهذا الاستحباب لا نعلم له وجهاً لأن الفعل إما يجوز فيجب لوجوب النهي عن المنكر، أو لا يجوز.

وأضاف (قدس سره): ((وقال قوم ذلك –أي ترك المجلس- مستحب ولو جلس لم يكن عليه شيء. فإن أمكنه أن لا يحضر أصلاً إذا علم فالأولى ذلك، وإن لم يمكنه أن ينصرف فإنه يجلس ولا إثم عليه بأصوات المناكير متى لم

ص: 486


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): 415، باب 47 في (دلالات الرضا عليه السلام).

يستمع إليها، لأن هذا سماع وليس باستماع، فهو بمنزلة من سمع من الجيران فإنه لا يأثم به، ولا يلزمه أن يخرج لأجله))(1).

أقول: لعل صاحب الجواهر (قدس سره) عرّض ببعض هذه الفتاوى بقوله: ((لا يبعد القول بحرمة الجلوس، في مجالس المنكر، ما لم يكن للرد أو للضرورة، بل كان للتنزه ونحوه، مما يندرج به في اسم اللاهين واللاعبين، خصوصاً في مثل حضور مجلس الطبل والرقص ونحوهما، من الأفعال التي لا يشك أهل الشرع والعرف في تبعية حاضريها في الإثم لأهلها، بل هم أهلها في الحقيقة، ضرورة أن الناس لو تركواحضور أمثال هذه المجالس، لم يكن اللاهي واللاعب يفعلها لنفسه، كما هو واضح والله أعلم))(2).

أقول: صريح الشيخ وصاحب الجواهر (قدس الله سريهما) جواز الحضور لدفع المنكر مطلقاً(3)، وهو مخالف لسيرة الفقهاء والمتشرعة الجارية على الحرمة فلا يبيحون الدخول مع أهل المنكرات من أجل ردعهم عنها، وإلا وقعنا في عموم مقولة: ((الغاية تبرر الوسيلة)) وقد ناقشنا في بعض الأبحاث السابقة الفرق بينها وبين قانون التزاحم، نعم يستثنى منها ما استثنيناه في المورد السابق، ولذا قيَّد السيد الخميني (قدس سره) الجواز بكون ملاك دفع المنكر أهم كما هو مقتضى العموم في المسألة التي نقلناها عنه (قدس سره) (صفحة 482)، وقد منعنا من اعتبار معيار مطلق الأهمية مطلقاً وإلا كان هذا باباً ينفذ منه الشيطان

ص: 487


1- المبسوط: 3/590-591.
2- جواهر الكلام: 22/111.
3- في (فقه الصادق:19/382) وجوب الدخول إلى محافل الطرب التي كانت تفسد عقائد بعض الشباب للتعرف عليهم ومن ثم هدايتهم، وفيه أيضاً أن ملاك المصلحة والمفسدة إذا تساويا تخيّر، أي يجوز له ارتكاب المساوي في الملاك من أجل الأمر والنهي.

بفخوخه ومزالقه فيفسد دين الإنسان من حيث هو يريد أن يصلح، فالصحيح هو المنع حتى لو كان متعلق الأمر والنهي أهم إلا فيما استثنيناه في العنوانين السابقين. ومنه يُعلم النظر في قول البعض: ((على تقدير عدم الإمكان بغير هذه الوسيلة يفترض إجراء قانون التزاحم، فتلاحظ المصالح والمفاسد ويقدَّم الأهم على المهم، فإن المورد من صغريات التزاحم))(1).

ص: 488


1- موسوعة الفقه الإسلامي: 17/238.

الملحق الثالث: آداب امتثال الفريضة

اشارة

المراد بالآداب ما يزيّن امتثال الفريضة ويجعله أكمل، وإن كان بعض الآداب المذكورة أو كلها واجباً في نفسه، ومن تلك الآداب:

(الأول) أن يبدأ بنفسه فيأمرها وينهاها بأن يفعل ما يأمر به –واجباً ومستحباً- ويترك ما ينهى عنه –محرماً ومكروهاً-؛ ليكون آمراً ناهياً بفعله قبل قوله ويكون قدوة للغير.

وقد أكد القرآن الكريم على اتخاذ الأسوة الحسنة، وهو من دعا الناس إلى فعل المعروف واجتناب المنكر بتجسيده في سلوكه العملي وتطبيقه على نفسه قبل أن يأمرهم وينهاهم بلسانه، قال تعالى: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» (الأحزاب : 21) وقال تعالى: «قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ» (الممتحنة:4) وقال تعالى: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ» (الممتحنة:6).

وذم الله تبارك وتعالى من يخالف قوله عمله، قال تعالى: «أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ» (البقرة:44) وقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ» (الصف:2-3).

وأما الروايات فكثيرة، كقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة قال: (من نصب نفسه للناس إماما فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكنتأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم)(1).

ص: 489


1- الأحاديث السبعة تجدها في وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 10، ح 6، 2، 3، 7، 9، 11، 5، 4.

ومن وصيته (عليه السلام) لولده محمد بن الحنفية: (يا بنى اقبل من الحكماء مواعظهم، وتدبر أحكامهم، وكن آخذ الناس بما تأمر به، وأكف الناس عما تنهى عنه، وأمر بالمعروف تكن من أهله، فإن استتمام الأمور عند الله تبارك وتعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

وفي (الخصال) عن بن أبي عمير رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إنما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من كانت فيه ثلاث خصال: عامل بما يأمر به، تارك لما ينهى عنه، عادل فيما يأمر، عادل فيما ينهى، رفيق فيما يأمر، رفيق فيما ينهى).

وقال (عليه السلام) لرجل سأله أن يعظه: (لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير العمل – إلى أن قال: - ينهى ولا ينتهي ويأمر بما لا يأتي... الحديث).

وقال (عليه السلام) في خطبة له: (فإنا لله وإنا إليه راجعون، ظهر الفساد فلا منكر مغير، ولا زاجر مزدجر، لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له، والناهين عن المنكر العاملين به).

وفي إرشاد الديلمي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في خبر المعراج قال (صلى الله عليه وآله): (رأيت ليلة أسري بي إلى السماء قوماً تقرض شفاههم بمقاريض من نار، ثم ترمى، فقلت: يا جبرئيل من هؤلاء؟ فقال: خطباء أمتك، يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون).

وعن أبي حمزة الثمالي عن علي بن الحسين (عليه السلام) في خبر وصف المؤمن والمنافق قال: (والمنافق ينهى ولا ينتهي، ويأمر بما لا يأتي).

وعن المفضل بن عمر قال: (قلت لأبي عبد الله الصادق (عليه السلام): بم يعرف الناجى؟ فقال: من كان فعله لقوله موافقاً فهو ناج، ومن لم يكن فعله لقوله موافقاً فإنما ذلك مستودع).

قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((من أعظم أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأعلاها وأتقنها وأشدها تأثيراً خصوصاً بالنسبة إلى رؤساء

ص: 490

الدين أن يلبس رداء المعروف واجبه ومندوبه، وينزع رداء المنكر محرمه ومكروهه، ويستكمل نفسه بالأخلاق الكريمة وينزهها عن الأخلاق الذميمة، فإن ذلك منه سبب تام لفعل الناس المعروف، ونزعهم المنكر وخصوصاً إذا أكمل ذلك بالمواعظ الحسنة المرغبة والمرهبة، فإن لكل مقام مقالاً، ولكل داءٍ دواء، وطب النفوس والعقول أشد من طب الأبدان بمراتب كثيرة وحينئذ يكون قد جاء بأعلى أفراد الأمر بالمعروف))(1).وقال السيد الخميني (قدس سره): ((من أعظم أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأشرفها وألطفها وأشدّها تأثيراً، وأوقعها في النفوس؛ سيّما إذا كان الآمر أو الناهي من علماء الدين ورؤساء المذهب –أعلى اللّه كلمتهم- هو الصادر عمّن يكون لابساً رداء المعروف، واجبه ومندوبه، ومتجنّباً عن المنكر بل المكروه، وأن يتخلّق بأخلاق الأنبياء والروحانيّين، ويتنزّه عن أخلاق السفهاء وأهل الدنيا، حتّى يكون بفعله وزيّه وأخلاقه آمراً وناهياً، ويقتدي به الناس، وإن كان –والعياذ باللّه تعالى- بخلاف ذلك ورأى الناس أنّ العالم المدّعي لخلافة الأنبياء وزعامة الأُمّة غير عامل بما يقول صار ذلك موجباً لضعف عقيدتهم، وجرأتهم على المعاصي، وسوء ظنّهم بالسلف الصالح، فعلى العلماء –سيّما رؤساء المذهب- أن يتجنّبوا مواضع التّهم، وأعظمها التقرّب إلى سلاطين الجور، والرؤساء والظلمة. وعلى الأُمّة الإسلاميّة أن لو رأوا عالماً كذلك حملوا فعله على الصحّة مع الاحتمال، وإلاّ أعرضوا عنه ورفضوه؛ فإنّه غير روحانيّ تلبّس بزيّ الروحانيّين، وشيطان في رداء العلماء، نعوذ باللّه من مثله ومن شرّه على الإسلام))(2).

ص: 491


1- جواهر الكلام: 21/382-383.
2- تحرير الوسيلة: 1/434، المسألة (15).

وترقى بعض الفقهاء باعتبار هذا الأمر حتى جعله شرطاً في وجوب الفريضة مستدلين ببعض الروايات كقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له، والناهين عن المنكر العاملين به) وكقول الإمام الصادق (عليه السلام): (إنما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من كانت فيه ثلاث خصال: عامل بما يأمر به، تارك لما ينهى عنه، عادل فيما يأمر، عادل فيما ينهى).

وقد تقدّم عرض هذا القول ومناقشته وأن الصحيح عدم توقف وجوب الفريضة على هذا الأمر وأن وجوبها مطلق من هذه الناحية، وأنه واجب مستقل ولا يتوقف امتثال الواجب عليه، فهذا الأمر ليس من شروط الوجوب ولا الواجب.

(الثاني) أن يثنّي بأهله وذويه فيأمرهم وينهاهم، حيث يتأكد وجوب ممارسة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الأهل والأقرباء بأن يرشدهم إلى الطاعة ويقرّبهم منها ويزيّنها لهم ويقنعهم بها ويكافئهم على فعلها، وبنفس الوقت يحذّرهم من المعصية ويردعهم عنها ويحميهم من الوقوع فيها.

وقد نبه القرآن الكريم إلى هذه العناية الخاصة في آيات كثيرة، كقوله تعالى مخاطباً نبيه الكريم (صلى الله عليه وآله): «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا» (طه:132) وكان من أوائل ما نزل عليه (صلى الله عليه وآله) في بداية الدعوة الإسلامية: «وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ» (الشعراء:214) وحكى عن إسماعيل صادق الوعد بقوله تعالى: «وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ» (مريم:55). فهناك إذن مسؤولية خاصة عن الأهل جمعها قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْنَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ» (التحريم:6) فالآية تقرن الأهل بالنفس من حيث وجوب الوقاية

ص: 492

من النار، ولا تعني هذه الدعوة إكراههم على شيء، فقد شرحت حدود هذه المسؤولية روايات عديدة رواها الشيخ الكليني في الكافي(1):

(منها) عن أبي بصير عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قول الله عز وجل: «قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً»، قلتُ: كيف أقيهم؟ قال: تأمرهم بما أمر الله، وتنهاهم عما نهى الله، فإن أطاعوك كنت قد وقيتهم، وإن عصوك كنت قد قضيت ما عليك).

(ومنها) عن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لما نزلت هذه الآية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً» جلس رجلٌ من المسلمين يبكي، وقال: أنا عجزت عن نفسي وكُلّفت أهلي! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): حسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك، وتنهاهم عما تنهى عنه نفسك).

قال الشيخ الطوسي (قدس سره) في تفسير الآية: ((هذا خطاب من الله تعالى للمؤمنين الذين صدّقوا بتوحيد الله وإخلاص العبادة له، وأقرّوا بنبوة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) يأمرهم بأن يقوا أنفسهم، أي يمنعونها، ويمنعون أهليهم ناراً، وإنما يمنعون نفوسهم بأن يعملوا الطاعات، ويمنعون أهليهم بأن يدعوهم إليها ويحثّوهم على فعلها، وذلك يقضي أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينبغي أن يكون للأقرب فالأقرب))(2).

وقال السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره): ((يتأكد وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حق المكلف بالنسبة إلى أهله، بل هو مأمور به شرعاً بعنوانه التفصيلي في نص القرآن الكريم في قوله تعالى: «قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ» (التحريم:6)، وكون ذلك مشروطاً

ص: 493


1- الكافي:5/62، ح1، 2.
2- التبيان:10/50.

بالشروط المتقدمة محل إشكال وإن كان غير بعيد.غير أن الغالب توفر تلك الشروط داخل الأسرة، وإن كان قد يوجد فيها من لا يُحتمل فيه التأثير أو من يخاف من ضره. إذن فيجب عليه إذا راى من أهله التهاون في الواجبات، كالصلاة وأجزائها وشرائطها بأن لا يأتون بها على وجهها لعدم صحة القراءة والأذكار الواجبة منهم، أو أنهم لا يتوضأون وضوءاً صحيحاً، أو لا يطهرون أبدانهم ولباسهم من النجاسة على الوجه الصحيح، فيجب عليه تعليمهم وأمرهم ونهيهم على الترتيب المتقدم حتى يأتوا بها على وجهها الصحيح. وكذا الحال في بقية الواجبات، وكذلك في المعاملات وسائر الأحكام. وكذا إذا رأى منهم التهاون في المحرمات كالغيبة والنميمة والعدوان بين بعضهم على بعض أو علىغيرهم أو الزنا أو شرب الخمر أو السرقة، فإنه يجب عليه أن ينهاهم عن المنكر، حتى يرتدعوا عن المعصية))(1).

ويشهد لهذا الوجوب المؤكد نصوص شريفة أخرى تجري وتنطبق على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدّبوهم)(2) والتأديب إنما يحصل بالأمر والنهي، كما يشهد له ورود تطبيقات لهذه المسؤولية الخاصة كتأديب الصبيان على الصلاة من عمر ست أو سبع سنين(3)، أو ما ورد في قصة مقتل أمير المؤمنين (عليه السلام) أن من مكارم أخلاقه (عليه السلام) أنه كان يتفقد النائمين فيوقظهم لصلاة الصبح، وفي أعمال ليلة القدر أن السيدة الزهراء (عليها السلام) كانت لا

ص: 494


1- منهج الصالحين: 2/240، المسألة (888)، منهاج الصالحين للسيد الحكيم (قدس سره): 1/490، مسألة (8)، وللسيد الخوئي (قدس سره): 1/353، مسألة (1274).
2- كنز العمال:2/539، ح 4676.
3- وسائل الشيعة: 4/18، أبواب أعداد الفرائض، باب 3.

تدع أهلها ينامون في تلك الليلة وتعالجهم بقلة الطعام وتتأهب لها من النهار أي كانت تأمرهم بالنوم نهاراً لئلا يغلب عليهم النعاس ليلاً، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوقظ أهله في تلك الليلة ويرشّ وجوه النيام بالماء(1).

ويمكن أن نفهم لهذه المسؤولية المؤكدة عدة ملاكات ومناشئ:-

1- إن هذا التأكيد وقرن الأهل بالنفس في الخير والشر يلاحظ أمراً فطرياً ونزعة لدى الإنسان فإنه يعتبر أهله كنفسه يصيبه ما يصيبهم، من وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لولده الحسن (عليه السلام) قال: (ووجدتك بعضي، بل وجدتك كلي، حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني، وكأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي)(2).

وقد حكى القرآن الكريم عن جملة من الأنبياء (عليهم السلام) هذه الغريزة الإنسانية، قال تعالى عن إبراهيم (عليه السلام): «قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي» (البقرة:124) وقال عن النبي نوح (عليه السلام): «وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ» (هود:45) وقال تعالى عن النبي لوط (عليه السلام): «رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ» (الشعراء:169). ومن الأدعية التي وردت في القرآن الكريم «رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي» (الأحقاف:15) والخلاصة أن الأمر بوقاية الأهل ينبّه الإنسان على أنك إن أردت الخير لأهلك وأن يلتحقوا بك في الجنة فعلّمهم ما يتقون.

2- إن للشخص سلطنة وقيمومة وولاية عرفية واجتماعية وشرعية خاصة على أهله وذويه مما تعطيه قوة في التأثير ومن غير المتوقع وجود موانع من

ص: 495


1- مفاتيح الجنان عن دعائم الإسلام.
2- نهج البلاغة: 616، قسم الرسائل والكتب، العدد 31.

ممارسة الفريضة كالتي يمكن أن تحصل مع الغير مثل حصول الضرر أو اختلال النظام ونحو ذلك، فتكون مسؤوليته أكبر لأن وجود المقتضي أقوى والمانع يكاد يكون مفقوداً.

3- إن الأسرة هي الوحدة الأساسية للمجتمع فإذا صلحت هذه الأسرة وتلك وتلك صلح المجتمع، فصلاح المجتمع –الذي هو الهدف- يتحقق بقيام كل فرد بإصلاح أسرته، فكأن الشارع المقدس بتأكيده على إصلاح الأسرة يضع لنا المنهج والطريق لإصلاح المجتمع.

4- إن الفرد مسؤول اجتماعياً عن أسرته فإذا صدر منهم ما يزين كان له، وإذا صدر منهم ما يشين كان عليه؛ لذلك ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) مخاطباً شيعته: (كونوا زيناً لنا ولا تكونوا علينا شيناً)(1)

لأنهم محسوبون على الإمام (عليه السلام) يتسمون باسمه، فإصلاح الفرد لأسرته إنما هو عمل يقدّمه لنفسه لأن الثناء يعود إليه فيما لو صلحوا وأحسنوا، كما أن الولد المنحرف يعيَّر به ويعتذر عن إساءته.

وقد ورد مثل هذا الوجه في تعليل اشتراط إذن ولي الأمر في الدخول بالباكر (في زواج المتعة) لأن عارها يرجع على أهلها قال (عليه السلام): (يكره للعيب على أهلها) وقال (عليه السلام): (كراهية العيب على أهلها)(2).

ص: 496


1- من لا يحضره الفقيه: 1/383، ح 1128وفيه: (يا زيد خالقوا الناس بأخلاقهم، صلّوا في مساجدهم، وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، وإن استطعتم أن تكونوا الأئمّة والمؤذنين فافعلوا فإنّكم إذا فعلتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية ما كان أحسن ما يؤدّب أصحابه، وإذا تركتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية فعل بجعفر ما كان أسوأ ما يؤدّب أصحابه).
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب 11.

5- إن عدم صلاح الأهل يضعف موقف الفرد عند قيامه بواجبه في ممارسة الأمر والنهي في المجتمع؛ لأنهم سيردّون عليه بأنه ليبدأ أولاً بإصلاح أهله، مما يجعله في حرج من ممارسة هذه الفريضة العظيمة.

6- إن الأسرة وحدة مصغرة من المجتمع وفيها تنوع نفسي وفكري وثقافي فتصلح أن تكون معسكراً تدريبياً –كما يقال- لأداء الوظيفة في المجتمع1- فيستفيد العامل من كيفية التعاطي مع الأهل مع تنوعهم في التعاطي مع المجتمع وهو أحد وجوه فهم الحديث النبوي الشريف (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهله) وكذلك حديث (من عرف نفسه فقد عرف ربّه).

وما أكثر مصاديق هذا الوجوب المؤكد اليوم كتوفير البيئة الصالحة لهم في البيت بدءاً من اختيار الزوجة المؤمنة العفيفة المتفقهة، وأن يكون لهم أسوة حسنة لأن رب الأسرة يكون المثل الأعلى لهم، وأن يجنبهم أصدقاء السوء، وأن يعلمهم ويرشدهم إلى كل ما فيه صلاح الدنيا والآخرة، وأن لا يهمل أمر متابعتهم وتفقد شؤونهم بعذر الانشغال بالكسب أو أي أمر آخر، وأن ينبههم إلى أوقات الصلاة برفع الأذان في البيت –وقد ورد فيه عن الإمام الرضا (عليه السلام): أنه مما يوجب كثرة الولد والشفاء من الأمراض(1)-

ويصلي بهم جماعة إن استطاع، وأن يختار لهم أحمد السبل وأرشدها في دراستهم وكسبهم ونحو ذلك.

(الثالث) الرفق واللين:

الرفق واللين أدب عام من آداب المعاشرة مع الناس، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء

ص: 497


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب أحكام الأولاد، باب 11، ح10.

الفرائض)(1)

وعنه (صلى الله عليه وآله): (مداراة الناس نصف الإيمان، والرفق بهم نصف العيش)(2)

وعنه (صلى الله عليه وآله) (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف)(3)

وروي عنه قوله (صلى الله عليه وآله): (خذوا بالناس الميسَّر ولا تملّوهم)(4).

وهو من آداب الدعوة إلى الله تعالى وإلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الرفق واللين، قال تعالى مخاطباً نبيه الكريم موسى وأخاه هارون (عليهما السلام): «اذْهَبَا إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى» (طه:43-44)، وهذا الأدب له آثار نفسية واجتماعية كبيرة(5)

ويزيد من فرص التأثيروالترغيب، أما الشدة والغلظة فتوجب النفور والعناد(6)، وقال

ص: 498


1- الكافي: 2/117.
2- الكافي: 2/117.
3- الكافي: 2/120.
4- كنز العمال: ح 5393.
5- من الفوائد المرتبطة بالآية ما رواه الشيخ (قدس سره) في التهذيب بسنده عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (إن الحرب خدعة.. واعلم أن الله عز وجل قال لموسى (عليه السلام) حين أرسله إلى فرعون: «فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى» وقد علم أنه لا يتذكر ولا يخشى ولكن ليكون ذلك أحرص لموسى (عليه السلام) على الذهاب) (التهذيب: 6/163/299)، قال تعالى: «إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ» (النساء:142) –أي مجازيهم بالخداع-. والخداع كما عن مفردات الراغب: ((إنزال الغير عما هو بصدده بأمر يبديه على خلاف ما يخفيه)) والمكر: ((صرف الغير عما يقصده بحيله وهو محمود ومذموم بحسب ما يراد منه، والاستدراج والإمهال من مكر الله)).
6- هذا بحسب الغالب أو بحسب ما يناسب مع مراعاة المراتب وبعضها غليظ كما هو واضح، كما عبّر الشاعر بقوله: ووضع الندى في موضع السيف في العلا مُضِرٌٌّ كوضع السيف في موضع الندى.

تعالى: «ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (النحل:125) وقال تعالى: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» (فصلت:34).

وتوجد هنا رواية مفصّلة عن عمار بن أبي الأحوص قال: (قلت لابي عبد الله (عليه السلام): إن عندنا قوماً يتولون بأمير المؤمنين (عليه السلام) ويفضلونه على الناس كلهم، وليس يصفون ما نصف من فضلكم، أنتولاهم؟ فقال لي: نعم في الجملة، أليس عند الله ما لم يكن عند رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولرسول الله (صلى الله عليه وآله) عند الله ما ليس لنا، وعندنا ما ليس عندكم، وعندكم ما ليس عند غيركم إن الله وضع الإسلام على سبعة أسهم: على الصبر والصدق واليقين والرضا والوفاء والعلم والحلم، ثم قسم ذلك بين الناس، فمن جعل فيه هذه السبعة الأسهم فهو كامل محتمل، ثم قسم لبعض الناس السهم، ولبعضهم السهمين، ولبعضٍ الثلاثة الأسهم ولبعضٍ الأربعة الأسهم، ولبعضٍ الخمسة الأسهم، ولبعضٍ الستة الأسهم، ولبعضٍ السبعة الأسهم، فلا تحملوا على صاحب السهم سهمين، ولا على صاحب السهمين ثلاثة أسهم، ولا على صاحب الثلاثة أربعة أسهم، ولا على صاحب الأربعة خمسة أسهم ولا على صاحب الخمسة ستة أسهم، ولا على صاحب الستة سبعة أسهم فتثقلوهم وتنفروهم، ولكن ترفقوا بهم وسهلوا لهم المدخل، وسأضرب لك مثلاً تعتبر به إنه كان رجل مسلم، وكان له جار كافر، وكان الكافر يرافق المؤمن، فلم يزل يزين له الإسلام حتى أسلم، فغدا عليه المؤمن فاستخرجه من منزله فذهب به إلى المسجد ليصلي معه الفجر جماعة، فلما صلّى قال له: لو قعدنا نذكر الله حتى تطلع الشمس، فقعد معه، فقال له: لو تعلمت القرآن إلى أن تزول الشمس وصمت اليوم كان أفضل، فقعد معه وصام حتى صلى الظهر والعصر، فقال له: لو صبرت حتى تصلي المغرب والعشاء الآخرة كان أفضل، فقعد معه حتى صلى المغرب والعشاء الآخرة ثم نهضا، وقد

ص: 499

بلغ مجهوده، وحمل عليه ما لا يطيق، فلما كان من الغد غدا عليه وهو يريد مثل ما صنع بالأمس، فدق عليه بابه، ثم قال له: اخرج حتى نذهب إلى المسجد، فأجابه أن انصرف عني فإن هذا دين شديد لا أطيقه. فلا تخرقوا بهم، أما علمت أن إمارة بني أمية كانتبالسيف والعسف والجور، وأن إمامتنا بالرفق والتألف والوقار والتقية وحسن الخلطة والورع والاجتهاد، فرغبوا الناس في دينكم وفي ما أنتم فيه)(1).

قال السيد الخميني (قدس سره): ((ينبغي أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر في أمره ونهيه ومراتب إنكاره كالطبيب المعالج المشفق، والأب الشفيق المراعي مصلحة المرتكب، وأن يكون إنكاره لطفاً ورحمة عليه خاصة، وعلى الأمة عامة، وأن يجرد قصده لله تعالى ولمرضاته، ويخلص عمله ذلك عن شوائب أهوية نفسانية وإظهار العلو، وأن لا يرى نفسه منزهة، ولا لها علو أو رفعة على المرتكب، فربما كان للمرتكب ولو للكبائر صفات نفسانية مرضية لله تعالى أحبه تعالى لها وإن أبغض عمله، وربما كان الآمر والناهي بعكس ذلك وإن خفي على نفسه))(2).

((ومنه يُعلم أن المطلوب من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والعاملين في سبيل الله بالموعظة والنصح والخطابة والكتابة والتأليف والتبليغ وغير ذلك أن يستخدموا الأساليب التي لا تنفّر الناس من الدين، بل تجذبهم إليه، وهذا أمر يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والظروف، لا سيما في مثل عصرنا، وبالأخص مع جيل الشباب، حيث ينبغي استعمال الأساليب المرغبة لهم، لا إعادة استنساخ الأساليب القديمة فيما إذا صار بعضها منفّراً

ص: 500


1- وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 14، ح9.
2- تحرير الوسيلة: 1/434، المسألة (14).

اليوم، ولو كان ناجحاً سابقاً، وهذا مقصد هام يلزم به الناشطون وهيئات الوعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر))(1).

فروع:-

1- للوالدين حق عظيم أكّد عليه القرآن الكريم والروايات الشريفة فلا بد من مراعاته في أداء وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معهما، فقوله تعالى: «وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ» (الإسراء:23-24) وأمثالها شاملة لموارد أمرهما ونهيهما.

إن قلتَ: النسبة بين إطلاقات وجوب الأمر والنهي وإطلاقات حرمة إيذاء الوالدين هي العموم من وجه فتقديم الثاني على الأول في مورد الاجتماع تحكم بلا دليل.قلتُ: هذا التقديم مبني على عدة قرائن ووجوه منها قوله تعالى: «وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً» (لقمان:15) بتقريب أنه لا يُتصوَّر ذنب أعظم من الشرك «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» (لقمان:13) ومن الدعوة إليه إلى حد المجاهدة عليه، ومع ذلك لم يرخص الله تعالى إلا في عدم إطاعتهما وأن يصاحبهما بالمعروف، فالموجبات الأخرى للأمر والنهي أولى بعدم الرخصة في الأزيد من ذلك.

مضافاً إلى الموارد العديدة التي تمنع مباشرة الابن لما يؤذي أباه حتى لو كان بحق كمنع النبي (صلى الله عليه وآله) عبد الله بن عبد الله بن

ص: 501


1- موسوعة الفقه الإسلامي: 17/243.

أبي سلول من قتل والده زعيم المنافقين بعد نزول سورة المنافقون في بيان بعض أفعاله والنبي (صلى الله عليه وآله) يكرر (لا تقتل أباك)(1)، أو ما دل على عدم اقتصاص الولد من أبيه كما في صحيحة حمران عن أحدهما (عليهما السلام) قال: (لا يُقاد والد بولده) ونحوها روايات عديدة، كل ذلك يصلح لتقييد مطلقات الأمر والنهي.

قال الشيخ كاشف الغطاء (قدس سره): ((يجب الاقتصار في حق الوالدين على الكلام اللين))(2)، وحكي عن المحقق القمي (قدس سره) تجويزه في حدود اللسان مع اللين ولم يجوّزه بغيره(3).

ووجدت هذا التفصيل عند علماء العامة، قال الغزالي: ((فإن قيل أفتثبت ولاة الحسبة للولد على الوالد.. أو بينهما فرق؟ فاعلم أن الذي نراه أنه يثبت أصل الولاية ولكن يثبت بينهما فرق في التفصيل، فللولد الحسبة بالوعظ والنصح باللطف، وليس له الحسبة بالسب والتعنيف والتهديد، ولا بمباشرة الضرب.

وهل له الحسبة بحيث تؤدي إلى أذى الوالد وسخطه بأن يكسر مثلاً عوده ويريق خمره ويرد إلى الملاك ما يجده في بيته من المال الحرام الذي غصبه أو سرقه؟ هذا فيه نظر فإن فعله في هذه الأمور ليس يتعلق بذات الأب بخلاف الضرب والسب ولكن الوالد يتأذى به ويسخط بسببه، إلا أن فعل الولد حق، وسخط الأب منشأه حبه للباطل وللحرام، والأظهر في القياس أنه يثبت للولد ذلك بل يلزمه أن يفعل ذلك، ولا يبعد أن ينظر فيه إلى قبح المنكر وإلىمقدار الأذى والسخط فإن كان المنكر

ص: 502


1- الدر المنثور: 8/175.
2- كشف الغطاء: 4/429.
3- جامع الشتات: 1/424.

فاحشاً وسخطه عليه قريباً كإراقة خمر من لا يشتد غضبه فذلك ظاهر، وإن كان كان المنكر قريباً والسخط شديداً كما لو كانت له آنية من بلور أو زجاج على صورة حيوان وفي كسرها خسران مال كثير، فهذا مما يشتد فيه الغضب وليس تجري هذه المعصية مجرى الخمر وغيره فهذا كله مجال للنظر)).

ثم أورد إشكالاً وجوابه: ((فإن قيل ومن أين قلتم ليس له الحسبة بالتعنيف والضرب والإرهاق إلى ترك الباطل، والأمر بالمعروف ورد في الكتاب والسنة عاماً من غير تخصيص؟ وأما النهي عن التأفيف والإيذاء فقد ورد وهو خاص فيما لا يتعلق بارتكاب المنكرات؟

فنقول: قد ورد في حق الأب على الخصوص ما يوجب الاستثناء من العموم إذ لا خلاف في أن الجلاد ليس له أن يقتل أباه في الزنا حداً، ولا له أن يباشر إقامة الحد عليه بل لا يباشر قتل أبيه الكافر، بل لو قطع يده لم يلزمه قصاص ولم يكن له أن يؤذيه في مقابلته))(1).

أقول: ذكرت هذا كله شاهداً على فائدة التلاقح بين فقهي المدرستين، وأن القطيعة ليست مفيدة وقد استفاد القدماء في كثير من تفريعاتهم الفقهية مما هو موجود في كتب فقهاء العامة.

وعلى أي حال فلا بد لبعض الشباب المتحمسين المندفعين في العمل الرسالي أن ينتبهوا إلى علاقاتهم مع والديهم ويفهموا خصوصيتها ولا يضروا بها تحت عنوان هذه الفريضة أو تلك فيقعوا في كبيرة عقوق الوالدين.

2- لا يجوز لرب الأسرة أن يسيء استخدام حقه في القيمومة على الأسرة فيضطهدهم ويهينهم ويؤذيهم، ويجب عليه أن يلتزم بآليات امتثال

ص: 503


1- إحياء علوم الدين: 2/406.

الفريضة مع زوجته وأولاده، وهم أولى باتباع الأسلوب الذي عبّر عنه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: (ازجر المسيء بثواب المحسن). وعلى الزوجة أن تراعي حقوق زوجها ولا تقصّر فيها أو تتجاوز حدود الأدب معه إذا ارتكب ما يوجب الأمر والنهي، قال السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره): ((إذا أمر الفرد أو نهى بعض أهله فلم يرتدع وكرر عليه فلم يؤثر فيه، فقد سقط تكليفه مع حسن أدائه للمراتب السابقة للإنكار، ولا يجب عليه بعد ذلك ترك الأسرة أو الانتقال إلى مكان آخر أو طرد الفاعل ونحو ذلك، ما لم تقتض مصلحة ثانوية مهمة لذلك. وأولى الناس بالسكوت بعد التكرار الزوجة إذا رأت زوجها عاصياً لا يرتدع، فإنه لا يجوز لها عندئذٍ حرمانه من حقوقه الواجبة أو الخروج بغير إذنه، بل يبقى (جهاد المرأة حسن التبعل) شاملاً لها، وليس الأمر بأشد من فرعون المذكور في القرآن الكريم، وقد صبرت زوجته على مظالمه حتى أصبحت من النساء الأربعة الزاكيات في العالم، وقالت: «رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ» وهذه النجاة تعني النجاة المعنوية أو الأخروية وليست النجاة الدنيوية وإلا لم تكن مكتوبة من المجاهدين))(1).

3- لا تختص المسؤولية المؤكدة بالنفس والأهل وإنما تشمل كل الموارد التي يزداد فيها مقتضي التأثير وتتلاشى أو تضعف فيها الموانع كإمام المسجد بالنسبة لمن حوله أو من هم في منطقته، وكالمعلم في مدرسته أو المدير في دائرته أو الوزير في وزارته أو رئيس العشيرة مع أتباعه، وهكذا كل من له علاقة خاصة به كجيرانه أو زملائه في العمل والدراسة أو زبائنه في السوق. وسيأتي مزيد من التفصيل في الملحق الرابع بإذن الله تعالى.

ص: 504


1- منهج الصالحين: 2/240، المسألة (889).

الملحق الرابع: المسؤول عن امتثال الفريضة والقيام بها

اشارة

والكلام تارة يكون على فقه أهل العامة وأخرى على فقه أهل البيت (عليهم السلام) فالكلام في جهتين:

(الجهة الأولى) على فقه أهل العامة
اشارة

قيل إن المشهور لدى العامة اختصاص مسؤولية امتثال فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسلطة الحاكمة وأسسوا لها ولاية –أي وزارة- خاصة تسمى بولاية الحسبة وميّزوها عن ولاية المظالم وولاية القضاء.

قال ابن خلدون: ((أما الحسبة فهي وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين، يعين لذلك من يراه أهلاً له فيتعين فرضه عليه، ويتخذ الأعوان على ذلك ويبحث عن المنكرات، ويعزر ويؤدب على قدرها، ويحمل الناس على المصالح العامة في المدينة، مثل المنع من المضايقة في الطرقات، ومنع الحمالين وأهل السفن من الإكثار في الحمل، والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها و إزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة، والضرب على أيدي المعلمين في المكاتب وغيرها في الإبلاغ في ضربهم للصبيان المتعلمين، ولا يتوقف حكمه على تنازع أو استعداء، بل له النظر والحكم في ما يصل إلى علمه من ذلك و يرفع إليه وليس له إمضاء الحكم في الدعاوي مطلقاً، بل في ما يتعلق بالغش والتدليس في المعايش وغيرها في المكاييل والموازين، ولهأيضاً حمل المماطلين على الإنصاف وأمثال ذلك مما ليس فيه سماع بينة ولا إنفاذ حكم، وكأنها أحكام ينزه القاضي عنها لعمومها وسهولة أغراضها فتدفع إلى صاحب هذه الوظيفة ليقوم بها، فوضعها على ذلك أن تكون خادمة لمنصب القضاء. وقد كانت في كثير من الدول الإسلامية مثل العبيديين بمصر والمغرب والأمويين بالأندلس داخلة في عموم ولاية القاضي يولي فيها باختياره ثم لما انفردت وظيفة السلطان عن

ص: 505

الخلافة وصار نظره عاماً في أمور السياسة اندرجت في وظائف الملك وأفردت بالولاية))(1).

فولاية الحسبة إحدى تشكيلات حكومة الدولة الإسلامية أو ((الخلافة التي هي في الحقيقة نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا))(2)، وقال ابن خلدون في وجه دخولها في وظائف السلطان: ((إن الخطط الدينية الشرعية من إمامة الصلاة والفتيا والقضاء والجهاد والحسبة كلها مندرجة تحت الإمامة الكبرى التي هي الخلافة، فكأنها الإمام الكبير والأصل الجامع، وهذه كلها متفرعة عنها وداخلة فيها لعموم نظر الخلافة، وتصرفها في سائر أحوال الملة الدينية والدنيوية، وتنفيذ أحكام الشرع فيها على العموم))(3).

أقول: هذا قريب مما التزمنا به من أن بعض هذه الوظائف سميناها بالواجبات الاجتماعية وجعلناها من مختصات الولي الفقيه أي الفقيه الجامع لشرائط قيادة الأمة والتحرك بمشروع الإسلام العظيم.

وكان الملوك يرسّخون في أذهان الأمة أن هذا الواجب من وظيفة السلطان ومن يأمرهم به حصراً، والهدف واضح وهو تسخيرها لمصالحهم وتحييد دور الأمة في الرقابة والشهادة على السلطة.

روى الغزالي ((عن المأمون أنه بلغه أن رجلاً محتسباً يمشي في الناس يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ولم يكن مأموراً من عنده بذلك فأمر بأن يُدخَل عليه، فلما صار بين يديه قال له: إنني بلغني أنك رأيت نفسك أهلاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير أن نأمرك)) إلى أن قال: ((لِمَ تأمر بالمعروف وقد جعل الله ذلك إلينا –أهل البيت- ونحن الذين قال الله تعالى فيهم: «الَّذِينَ

ص: 506


1- مقدمة ابن خلدون: 255-226، ط دار الشعب بالقاهرة.
2- الفقه الإسلامي وأدلته: 6/665، ط6.
3- مقدمة ابن خلدون: 195.

إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ»؟ فقال: صدقت))(1).

معنى الحسبة:والمعنى المعروف للحسبة أنها مأخوذة من الاحتساب، بمعنى احتساب الأجر عند الله تعالى ففي مجمع البحرين ((يقال: احتَسَبَ فلان عمله: طلباً لوجه الله وثوابه، ومنه الحِسبة بالكسر وهي الأجر.. والحسبة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) وقال ابن الأثير: ((الاحتساب من الحسب، كالاعتداد من العد، وإنما قيل لمن ينوي بعمله وجه الله: احتسبه؛ لأن له حينئذٍ أن يعتد عمله، فجعل في حال مباشرة الفعل كأنه معتد به. والحسبة اسمٌ من الاحتساب، كالعدّة من الاعتداد، والاحتساب في الأعمال الصالحة وعند المكروهات وهو البدار إلى طلب الأجر(2)

وتحصيله بالتسليم والصبر، أو باستعمال أنواع البر والقيام بها على الوجه المرسوم فيها طلباً للثواب المرجو منها))(3).

وذكر معنيان آخران، أحدهما عن ابن فارس قال: أنها بمعنى التدبير ((فيقال: رجل حسن الحسبة بمعنى حسن التدبير))(4).

والآخر احتمله الشيخ المنتظري (قدس سره) قال: ((ويحتمل أن تكون الحسبة من المحاسبة بمعنى مراقبة أحد الرجلين للآخر وحسابه عليه، ولعل منه

ص: 507


1- إحياء علوم الدين: 2/405.
2- لكن من دون الابتداع في الدين واختراع ما ليس له أصل في الشريعة، مثل ما روي أنه قيل لأبي عصمة المروزي (توفي 173 ه-): ((من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضل سور القرآن سورة سورة؟ فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة، ومغازي محمد بن إسحق، فوضعت هذا الحديث حسبة))، تفسير القرطبي: 1/78.
3- النهاية في غريب الحديث: 1/382.
4- معجم مقاييس اللغة لابن فارس: 2/60.

أيضاً الحسيب بمعنى المحاسب، قال الله تعالى: «وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيباً» (النساء:6))).

ونعود إلى تعريفهم للحسبة فقالوا: أن ((قاعدة الحسبة وأصلها: هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي بعث الله به رسله وانزل به كتبه، ووصف به هذه الأمة، وفضلها لأجله على سائر الأمم التي أخرجت للناس)).

وقالوا: أن ((أساسها: قول الله تعالى: «وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (آل عمران:104) وقول النبي (صلى الله عليه وآله): (من غشّنا فليس منا). فهي من قواعد الأمور الدينية وهي ولاية دينية ناشئة من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) ((وتنحصر اختصاصات المحتسب في أمرين: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر))(1).وقد فصّلوا الكلام عنها في الكتب التي تتحدث عن النظام السياسي وإدارة السلطة وسياسة الرعية وتنظيم القوانين كالأحكام السلطانية للماوردي ولأبي يعلى الفراء. وأوردوا الفروق بين ولاية الحسبة وولاية المظالم وولاية القضاء، ((فهي من جهة تتصل بولاية القضاء دون أن تتحد معها، كما ترتبط بولاية المظالم دون أن يلتحما))(2).

كما ألفوا كتباً مستقلة في الحسبة ككتاب ((معالم القربة في أحكام الحسبة)) لابن الإخوة القرشي، وهو كتاب نافع لتناوله منكرات ومفاسد كل شرائح المجتمع والصنائع والأعمال الموجودة على نحو ما سميناه بالفقه المتخصص أو الفقه الاجتماعي فعقد كل باب من أبوابه السبعين لواحدة منها.

ص: 508


1- الفقه الإسلامي وأدلته: ج6، في المواضع المتقدمة.
2- الأحكام السلطانية للماوردي: 2/486.
تأريخ الحسبة:

ونسبوا تأسيس ولاية الحسبة إلى عمر بن الخطاب فقالوا: ((واضع نظام الحسبة تنفيذاً لواجب أو مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المقرر في الإسلام وشرعه: هو عمر بن الخطاب، فإنه كان يقوم بنفسه بمراقبة أحوال السوق لمنع الغش ويتعسس في الليل لتفقّد أحوال المسلمين ومقاومة الظلمة والمنحرفين وتعقب المجرمين، ولكن عُرفت التسمية في عهد الخليفة العباسي المهدي))(1).

أقول: هذه النسبة ليست صحيحة لما ورد في روايات الفريقين أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقوم بهذه الوظيفة، ونذكر بعض الشواهد على ذلك ففي خبر سعد الاسكاف عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (مرّ النبي (صلى الله عليه وآله) في سوق المدينة بطعام فقال لصاحبه: ما أرى طعامك إلا طيباً، وسأله عن سعره، فأوحى الله عز وجل إليه أن يدسّ يده في الطعام ففعل فأخرج طعاماً ردياً، فقال لصاحبه: ما أراك إلا وقد جمعت خيانة وغشاً للمسلمين)(2).

وفي رواية حذيفة بن منصور (أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: يا فلان إن المسلمين ذكروا أن الطعام قد نفد إلا شيء عندك فأخرجه وبعه كيف شئت)(3).وفي رواية (أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مرّ بالمحتكرين فأمر بحكرتهم أن تخرج إلى بطون الأسواق وحيث تنظر الأبصار إليها)(4).

ص: 509


1- الفقه الإسلامي وأدلته: 6/669.
2- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب ما يُكتسب به، باب 86، ح8.
3- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، باب 29، ح1.
4- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب التجارة، باب 30، ح1.

أما في مصادر العامة فتوجد روايات كثيرة أيضاً كما في صحيح البخاري بسنده عن ابن عمر (أنهم كانوا يشترون الطعام من الركبان في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) فيبعث عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروه حتى ينقلوه حيث يباع الطعام)(1).

وفي سنن الترمذي بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مرّ على صبرة من طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال: (يا صاحب الطعام ما هذا؟) قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: (أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس؟) ثم قال: (من غش فليس منا)(2).

وفي الاستيعاب لابن عبد البر ((استعمل رسول الله (صلى الله عليه وآله) سعيد بن سعيد بن العاص بعد الفتح على سوق مكة))(3)، وما ذاك إلا لإرشاد أهل السوق وترشيد أفعالهم وإصلاح ما يحصل من منكر.

أقول: وتأسى به (صلى الله عليه وآله) أجلاء أصحابه كما روينا في البحث الخاص عن تأريخ الفريضة ضمن البحوث التمهيدية، وفي الاستيعاب ((سمراء بنت نهيك أدركت النبي (صلى الله عليه وآله) وعمّرت وكانت تمرّ في الأسواق تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتنهى الناس عن ذلك بسوط معها))(4).

الاستدلال على انحصار الوجوب بالسلطان:

واستدلوا على ذلك بوجهين:

ص: 510


1- صحيح البخاري: 2/14، كتاب البيوع، باب 49، ما ذُكر في الأسواق.
2- سنن الترمذي: 2/389، أبواب البيوع، باب 72، ح 1329.
3- الاستيعاب المطبوع بهامش الإصابة: 2/86.
4- نفس المصدر: 4/335.

(الأول) –وهو المعروف- قوله تعالى: «الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ» (الحج:41)))، بتقريب أن الآية علقت امتثال الفريضة على التمكين في الأرض الذي هو بحسب المصطلح القرآني ظاهر في الاستحواذ على السلطة أو أن من أبرز مصاديق التمكين في الأرض هي الحاكمية والإمساك بالسلطة السياسية.

أقول: يرد على هذا الاستدلال أمور:-

1- إن هذا التقريب يدل على وجوب إقامة هذه الواجبات على من مكّنهم الله تعالى من السلطة، وهو لا ينفي ثبوت الوجوب على غيرهم كما هو واضح من كلمات جملة منهم، إذ لا يظهر منها القول بانحصار الوجوب بالسلطان، فقد نقل القرطبي في تفسيره قول الضحاك: ((هو شرط شرطه الله على من آتاه الملك)) وعلق عليه قائلاً: ((وهذا حسن))(1)

وحكى قول سهل: ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على السلطان وعلى العلماء الذين يأتونه وليس على الناس أن يأمروا السلطان لأن ذلك لازم له واجب عليه ولا يأمروا العلماء فإن الحجة وجبت عليهم)).

وقال الفخر الرازي: ((إن الله تعالى وصف المهاجرين بأنه إن مكّنهم من الأرض وأعطاهم السلطنة فإنهم أتوا بالأمور الأربعة وهي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن قد ثبت أن الله تعالى مكّن الأئمة الأربعة من الأرض وأعطاهم السلطة عليها فوجب كونهم آتين بهذه الأمور الأربعة))(2).

ص: 511


1- تفسير القرطبي: 12/45.
2- راجع تفسير الفخر الرازي: 12/42.

2- إن التمكين في الأرض لا ينحصر بالنفوذ السياسي والاستيلاء على السلطة فيمكن أن يكون التمكين بالنفوذ الديني كالمرجعية، أو الاجتماعي كرئيس العشيرة، أو الإعلامي كالقنوات الفضائية والمواقع الإعلامية القادرة على صناعة الرأي العام وتوجيهه، أو المالي كأصحاب رؤوس الأموال المؤثرة وهكذا، فتدعو الآية إلى استخدام كل أشكال النفوذ والتأثير في إقامة هذه الواجبات.

3- إن التقريب مبني على توقف إقامة هذه الواجبات على التمكين في الأرض، وهو غير تام لوجوب الصلاة والزكاة حتى مع عدم التمكين. وبتعبير آخر: إن القول بالتوقف يلزم منه كون الجملة لها مفهوم وهي ليست كذلك فالمراد بالجملة بيان صفة هؤلاء القوم ومنهجهم في الحياة، وأهدافهم من السعي للتمكن في الأرض أن يقيموا هذه الأمور لا توقف إقامة الواجبات عليه.

4- ولو تنزلنا عن كل ما سبق فإن الآية تتحدث عن مرتبة من مراتب هذه الطاعات وشكل من أشكالها يتوقف على التمكين في الأرض وهي ذات المظهر الاجتماعي، فيريد بإقامة الصلاة إعطاءها كياناً اجتماعياً كإقامة الجمعة ويريد بإيتاء الزكاة ما يشبه تأسيس جهاز لجمع الزكاة وتوزيعها، ويريد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مواردها الاجتماعية كالفساد المالي والإداري وخلق البيئة الصالحة والقضاء على المنكرات العامة، ولا تعني سقوط هذه الأمور بالكلية عند عدم التمكين، وإنما قيّدنا بهذه للقطع بعدم توقف الامتثال الفردي والشخصي لوجوب إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة على التمكين في الأرض.

(الثاني) ما ذكره الغزالي كإشكال ويصلح أن يكون وجهاً هنا، قال: ((إن في الأمر بالمعروف إثبات سلطنة وولاية واحتكام على المحكوم عليه ولذلك لم يثبت

ص: 512

للكافر على المسلم مع كونه حقاً فينبغي أن لا يثبت لآحاد الرعية إلا بتفويض من الوالي وصاحب الأمر)).

وأجاب عليه بأن ((الكافر ممنوع لما فيه من السلطنة وعز الاحتكام، والكافر ذليل فلا يستحق أن ينال عن التحكم على المسلم، وأما آحاد المسلمين فيستحقون هذا العز بالدين والمعرفة))(1).

أقول: هذه الولاية والسلطنة جعلها الشارع المقدس للآمر الناهي وصرحت بها الآية الكريمة «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ» (التوبة:71)، وشرحنا بعض صور العلو للآمر الناهي من خلال تسمية الفريضة أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر.

مناقشة إناطة الفريضة بالسلطة:

إن تنظيم الأمور وتوجيهها ومأسستها –كما يقال- شيء جيد وفيه فوائد كثيرة لا تخفى كالاستفادة من القوة الإجرائية التي تتمتع بها السلطة، إلا أن حصر التنفيذ والقيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالجهاز الحكومي مطلقاً من خلال ولاية الحسبة تسجل عليه عدة ملاحظات:-

1- إنه عدول عن المصطلح القرآني الذي هو (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، حتى أصبح عنوان هذه الفريضة في كتبهم ب-((الحسبة))، وقد شرحنا في بعض الأبحاث السابقة نكات اختيار القرآن لهذا العنوان، فالعدول فيه تفويت لهذه الملاكات.

2- إن فيه توسيعاً وتضييقاً لدائرة الفريضة، أما التوسيع فلأن جملة من الأمور الحسبية لا تدخل في فريضة الأمر والنهي اصطلاحاً كرعاية أموال القاصر والمفقود، وأما التضييق فلأن جملة من موارد الأمر والنهي لا

ص: 513


1- إحياء علوم الدين: 2/402.

تتوقف على التمكن في الأرض وهي الموارد الفردية والشخصية للأمر والنهي، أي أن بين العنوانين عموماً من وجه.

3- في هذه الخطوة تسييس للفريضة وإلحاقها بركب السلطة وهي بذلك تتحول إلى أداة من أدواتها في فرض سياساتها وسلوكها من دون الالتفات إلى أغراضها الأصلية، كما حصل فعلاً.

قال بعض المفكرين المعاصرين: ((يوجد في الإسلام مبدأ وفريضة أساسية تم تخريبها، وهي ذات دور فاعل في إقامة السلطة العادلة، وهي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالذي فعله معاوية أن حول هذه الفريضة التي هي شكل من أشكال السلطة التي يقوم بها المجتمع، كما يقال اليوم: الصحافة هي السلطة الرابعة، وفي الإسلام: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي السلطة التي يمارسها الناس فلما جاءت السلطة ذات النزعة الامبراطورية حولت هذا المرفق من سلطة حرة إلى وظائف في الدولة، أي أصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة تحددها الدولة وسيف من سيوفها، من هنا نشأ شكل للسلطة يختلف عن الهدف الذي يسعى إليه الإسلام))(1).

أقول: للإنصاف أنهم وإن جعلوا ولاية حكومية للحسبة إلا أنهم لم يجمعوا على حصر القيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمنتسبين لهذه الولاية لا نظرياً ولا عملياً.

أما نظرياً –أي فقهياً- فقد قال الغزالي عن شرط إذن الإمام أو الوالي: ((شرَط قومٌ هذا الشرط ولم يثبتوا للآحاد من الرعية الحسبة، وهذا الاشتراط فاسد، فإن الآيات والأخبار تدل على أن كل من رأى منكراً فسكت عليه عصى

ص: 514


1- حوار أجرته مجلة الاجتهاد والتجديد مع السيد محمد حسن الأمين، العدد 8، ص15.

إذ يجب نهيه أينما رآه وكيفما رآه على العموم، فالتخصيص بشرط التفويض من الإمام تحكّم لا أصل له))(1).

وقال عن مراتب النهي عن المنكر: ((السابعة: مباشرة الضرب باليد والرجل وغير ذلك مما ليس فيه شهر سلاح وذلك جائز للآحاد.. فإن احتاج إلى شهر السلاح وكان يقدر على دفع المنكر بشهر السلاح وبالجرح فله أن يتعاطى ذلك ما لم تثر فتنة))(2)

ثم قال: ((الدرجة الثامنة: أن لا يقدر عليه بنفسه ويحتاج إلى أعوان يشهرون السلاح، وربما يستمد الفاسق أيضاً بأعوانه ويؤدي ذلك إلى أن يتقابل الصفّان ويتقاتلا، فهذا قد ظهر الاختلاف في احتياجه إلى إذن الإمام، فقال قائلون: لا يستقل آحاد الرعية بذلك لأنه يؤدي إلى تحريك الفتن وهيجان الفساد وخراب البلاد، وقال آخرون: لا يحتاج إلى الإذن –وهو الأقيس- لأنه إذا جاز للآحاد الأمر بالمعروفوأوائل درجاته تجر إلى ثوان والثواني إلى ثوالث وقد ينتهي لا محالة إلى التضارب فلا ينبغي أن يبالي بلوازم الأمر بالمعروف، ومنتهاه تجنيد الجنود في رضا الله ودفع معاصيه))(3).

وأما عملياً فلأنهم جعلوا المجال واسعاً لمن يريد التطوع بإقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعيداً عن الانتساب لولاية الحسبة، وذكروا فروقاً بين المحتسب والمتطوع، فأورد الفرّاء في الأحكام السلطانية تسعة فروق، وكذا الماوردي، ومنها:

((1- إن فرضه متعين على المحتسب بحكم الولاية، وفرضه على غيره داخل في فرض الكفاية.

ص: 515


1- إحياء علوم الدين: 2/402.
2- المصدر: 2/424.
3- المصدر: 2/425.

2- إن عليه أن يبحث عن المنكرات الظاهرة ليصل إلى إنكارها، ويفحص عما ترك من المعروف الظاهر ليأمر بإقامته، وليس على غيره من المتطوعة بحث ولا فحص.

3- إن له أن يرتزق من بيت المال على حسبته ولا يجوز لمتطوع أن يرتزق على إنكاره))(1).

وقبل أن ننهي الكلام في هذه الجهة نذكر ما سجّله الغزالي من ألم وأسف لضياع هذه الفريضة العظيمة، وكان عليه أن يأسف أكثر ويلتفت إلى أصل المشكلة وهي تقمّص الخلافة ممن لا يستحقها وأن يسعى لمعالجة تلك المشكلة لأن هذه الكوارث من آثار وتداعيات ذلك الانحراف وذلك النكوص عن أداء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فحصلت النتائج التي حذّر منها النبي (صلى الله عليه وآله) عند ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن نتائجه: (سُلّط عليكم شراركم)، قال الغزالي: ((إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوي بساطه وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة وعمّت الفترة وفشت الضلالة وشاعت الجهالة واستشرى الفساد واتسع الخرق وخربت البلاد وهلك العباد ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد.

وقد كان الذي خفنا أن يكون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، إذ قد اندرس من هذا القطب عمله وعلمه، وانمحت بالكلية حقيقته ورسمه، فاستولت على القلوب مداهنة الخلق وانمحت عنها مراقبة الخالق واسترسل الناس في اتباع

ص: 516


1- دراسات في ولاية الفقيه للشيخ المنتظري (قدس سره): 2/262 عن الأحكام السلطانية للفراء: 284 وللماوردي: 240.

الهوى والشهواتاسترسال البهائم، وعزّ على بساط الأرض مؤمن صادق لا تأخذه في الله لومة لائم))(1).

نسأل الله تعالى أن لا نضيعها نحن أتباع أهل البيت (عليهم السلام) كما ضيّعها الآخرون تحت تأثير بروق المطامع والمداهنات والمجاملات على حساب الحق.

(الجهة الثانية) على فقه أهل البيت (عليهم السلام)
اشارة

يمكن استنتاج عدة أقوال في المسألة من كلمات الأصحاب تخصِّص الوجوب بواحد أو جماعة دون العموم، وإن لم يصرحوا بها إلا أنها لازمة لمبانيهم، فمن اشترط العلم في الوجوب –مستدلاً برواية مسعدة بن صدقة- فإنه يقصره على العلماء، ومن اشترط العدالة في الآمر الناهي فإنه يجعل امتثال الفريضة من واجب العدول دون غيرهم وقد ناقشناها في شروط الآمر الناهي، هذا على صعيد العناوين المعينة.

أما العناوين غير المعنية فتعرف من قولهم أن وجوب الفريضة كفائي وأن معنى الكفائية أن المخاطب بالوجوب واحد بعينه أو لا بعينه، أو أن المخاطب بها جماعة أي بعض الأمة لا كلها مستدلين بكون معنى الوجوب الكفائي ذلك.

ومن قوله تعالى: «وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (آل عمران:104)، وقد ناقشناها جميعاً عند البحث عن حقيقة الوجوب الكفائي والاستدلال بالآيات الكريمة على الوجوب.

ص: 517


1- إحياء علوم الدين: 2/391.

ولم أجد في كلمات الأصحاب ما يفيد حصر امتثالها بالإمام أو السلطان العادل، نعم تقدم الخلاف في اشتراط إذن الإمام ونائبه في بعض مراتبها الموجبة للجرح والكسر والقتل.

لذا يكون مستغرباً اتهام بعض علماء العامة للشيعة بتعطيل الفريضة إلى ظهور الإمام المهدي (عليه السلام) لأن الشيعة يرون انحصار وجوبها بالإمام!، منهم ((القاضي عبد الجبار المعتزلي بصيغة (حُكي) وسيف الدين الآمدي وعبد الملك الجويني والشيخ عبد الرحمن الحنبلي الدمشقي الصالحي في (الكنز الأكبر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، صفحة 177). وقد ذكر ابن حزم في (الملل والنحل: 3/ صفحة 88) أن الروافض يرون سقوط المرتبة الثالثة من الأمر بالمعروف في حال الغيبة ولو قتلوا كلهم.

وقال النووي في (شرح مسلم:2/صفحة 22): ولم يخالف في ذلك –أي الإجماع على وجوب الأمر والنهي- إلا بعض الرافضة ولا يعتد بخلافهم))(1).وأورد الغزالي نفس التهمة، فإنه بعد أن انتهى إلى أن ((تخصيص الوجوب بشرط التفويض من الإمام تحكّم لا اصل له)) قال: ((والعجب أن الروافض زادوا على هذا فقال: لا يجوز الأمر بالمعروف ما لم يخرج الإمام المعصوم وهو الإمام الحق عندهم، وهؤلاء أخس رتبة من أن يكلّّموا بل جوابهم أن يقال –إذا جاؤوا إلى القضاء طالبين لحقوقهم في دمائهم وأموالهم- إن نصرتكم أمر بالمعروف واستخراج حقوقكم من أيدي من ظلمكم نهي عن المنكر وطلبكم لحقكم من جملة المعروف وما هذا زمان النهي عن الظلم وطلب الحقوق لأن الإمام الحق بعد لم يخرج))(2).

ص: 518


1- نقل هذه الأقوال في فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 216.
2- إحياء علوم الدين: 2/402، ط. مؤسسة الحلبي، 1967.

أقول: بغض النظر عن غفلته في النقض المذكور الذي هو من متعلقات القضاء وقد فرّقوا بين ولاية الحسبة التي يندرج فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وولاية القضاء، فإن هذه النسبة محض افتراء ولا يوجد من يقول بهذا كما قدمنا. ومن باب حسن الظن فإننا نريد أن نبحث الآن عما يمكن أن يكون منشأ لتوهم الغزالي في حكايته عن الشيعة وهنا عدة احتمالات:-

1- رواية مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سمعته يقول –وسُئل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر-: أواجب هو على الأمة جميعاً؟ فقال: لا، فقيل له: ولمَ؟ قال: إنما هو على القوي المطاع العالم بالمعروف من المنكر) بتقريب أن ذكر هذه الشروط كناية عن السلطان، مضافاً إلى نفي الوجوب عن غيره في ذيل الرواية بقوله (عليه السلام): (وليس على من يعلم ذلك في هذه الهدنة من حرج إذا كان لا قوة له ولا عدد ولا طاعة)(1)

وزمان الهدنة هو زمان غيبة الإمام (عجل الله فرجه).

أقول: قد ناقشنا هذه الرواية من عدة جهات، وأحدها أنها لا إطلاق لها لعموم الفريضة لأنها ناظرة إلى من يخرجون على السلطات الحاكمة باسم فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

2- الروايات المانعة من الخروج قبل قيام القائم (عليه السلام) كرواية ابي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كل راية ترفع قبل القائم فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله عز وجل)(2) ومرفوعة ربعي عن علي بن الحسين (عليه السلام): (والله لا يخرج أحدٌ منا قبل خروج

ص: 519


1- وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 22، ح1.
2- الرواية والتي بعدها تجدهما في وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 13، ح2، 6.

القائم إلا كان مثله كمثل فرخ طار من وكره قبل أن يستوي جناحاه فأخذه الصبيان فعبثوا به) بتقريب أن هذه الروايات شاملة للأمر والنهي أو أنها بلحاظ الجهاد، والأمر والنهي منه بالتقريبات المتقدمة. أقول: هذه الروايات ناظرة إلى القيام في وجه السلطات الحاكمة لقلب نظام الحكم من دون اكتمال المقدمات المطلوبة، إذ يطلق الخروج على حركات التمرد ضد أنظمة الحكم، وموارد الأمر والنهي أوسع من ذلك، فهذه الروايات لا تجري على ما نحن فيه.

3- ذهاب جملة من علماء الشيعة إلى سقوط وجوب الجهاد الابتدائي وصلاة الجمعة والعيدين في زمان الغيبة، فعمم المتوهم الحكم بنحو من تنقيح المناط أو القياس إلى فريضة الأمر والنهي لاشتراكها مع سابقاتها في كونها من وظائف الإمام أو ما سميناها بالواجبات الاجتماعية.

ويرد عليه أنه قياس مع الفارق لأن سقوط الوجوب في الجهاد والجمعة كان بالأدلة الخاصة عندهم وليس بملاك ظهور الإمام.

4- الروايات الكثيرة الواردة في التقية بتقريب أن موردها الرئيسي هي فريضة الأمر والنهي، وهذا موجود في ارتكاز بعض علماء الإمامية أيضاً، حيث تلاحظ مثلاً أن صاحب الوسائل ادرج حوالي مائة رواية في تسعة أبواب عن التقية في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وجوابه: ما تقدم من البحث في عدم التعارض بين وجوب التقية ووجوب الأمر والنهي.

5- ذهاب مشهور الفقهاء الشيعة إلى اشتراط وجوب الأمر والنهي بالأمن من الضرر، فربما يتصور أنه في عصر الغيبة يكون هناك خوف ضرر فيسقط، خصوصاً عند من وسّع دائرة الخوف من الضرر إلى مطلق الاحتمال.

أقول: جوابه عدم الملازمة إذ بينهما عموم من وجه كما هو واضح، بل

ص: 520

إن الضرر كان في زمان الأئمة المعصومين (عليهم السلام) أكثر مما في زمان الغيبة

6- ما احتمله بعضهم فنسبه إلى ((النصوص الداعية إلى ترك الناس وعدم دعوتهم للتشيع))(1).

أقول: هذه الروايات لو تمت سنداً ودلالة فإن لها ظروفها وملابساتها الزمانية والمكانية، ولو تنزّلنا ((فهي توجب التقييد في نوع المأمور به والمنهي عنه، أي أن الأمر والنهي يظلان ثابتين في غير قضية الإمامة وأمثالها))(2).

القول المختار:

اخترنا فيما سبق عموم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنالخطاب موجه إلى الجميع ولا يختص بأحد أو فئة، لإطلاق الروايات وعمومها، ولا يمنع منه كونه واجباً كفائياً؛ لأن عموم الخطاب هو ما فهمناه من حقيقة الوجوب الكفائي، وأن الشروط التي ذكرها المشهور للوجوب غير تامة، نعم قد يتعين الامتثال بفرد أو جماعة لاجتماع شرائط الواجب فيه من دون تخصيص للوجوب.

تفصيل ذلك: أننا أشرنا مراراً إلى أن المعروف والمنكر يقسمان إلى قسمين: فردي واجتماعي، وقد بُني فقه الإمامية على لحاظ الأول كما هو واضح من الأمثلة والفروع الفقهية، بينما غلب الثاني على فقه العامة، حتى جعلوه من وظائف الإمام والسلطان ومقتضيات الإمامة والخلافة فدخلت هذه الفريضة في مسائل علم الكلام وبحثوها في الأحكام السلطانية.

ص: 521


1- فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 220.
2- فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 220.

وانعكس هذا الانقسام على وسائل الامتثال والجهة القائمة به، فكان هذا التقسيم الشامل الذي ذكرناه ضرورياً للإحاطة بالمسألة.

ونقصد بالفردي ما يتعلق بأحكام الفرد كشخص لا يصلي فيؤمر بها أو يشرب الخمر فينهى عنها، أو امرأة غير محجبة فتؤمر به، أو تُظهر زينتها فتنهى عنها، وهكذا.

أما الاجتماعي فهو ما يتعلق بالوضع العام للدين وشؤون الأمة والبلاد كإقامة شريعة الله تعالى على الأرض والجهاد وصلاة الجمعة، وكمكافحة الفساد المالي والإداري، ومعالجة الفقر والبطالة والأمية، والوقوف في وجه الهيمنة الأجنبية والإرهاب، ودفع حكم الأنظمة الديكتاتورية الظالمة، وضمان الحقوق العامة للمجتمع في الأمن والخدمات والتنمية، والتوزيع الأمثل لثروات الشعب، ومواجهة الإفساد الاخلاقي والتضليل الفكري والعقائدي وفضح مؤسساته وفعالياته، ومنع التخريب الاقتصادي، ونحو ذلك.

وهذا التقسيم ظاهر في الآيات والروايات كما سنبين إن شاء الله تعالى، اما الفردي فأمثلته واضحة وكثيرة كقوله تعالى: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا» (طه:132)، وقوله تعالى: «يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ» (لقمان:17).

وأما الاجتماعي فكقول الإمام الحسين (عليه السلام) المشهور: (ايها الناس إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لرسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله)(1)

فهذا التغيير واجب اجتماعي على الأمة، ولا يتغير سلوك السلطان ومنهجه ووجوده بعمل فردي.

ص: 522


1- موسوعة كلمات الإمام الحسين (عليه السلام): 438.

وعلى أساس هذا التقسيم يُعرف جواب السؤال عن من يجب عليه امتثال الفريضة والقيام بها:(القسم الأول) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الفرديين:

ووجوبهما ثابت على الجميع بلا استثناء، وقد شرحنا معنى ذلك عند البحث عن حقيقة الوجوب الكفائي، واخترنا فيه أن الوجوب الكفائي لا يختلف عن العيني في توجه خطابه إلى جميع المكلفين، والفرق بينهما ناشئ من طبيعة متعلق الوجوب أي الواجب، فإنه في الكفائي يسقط بفعل البعض وينتفي موضوع الوجوب.

ووجدنا أيضاً أنه حتى مثل السيد الخوئي (قدس سره) الذي ذهب إلى تفسيره بأن ((يكون التكليف متوجهاً إلى أحد المكلفين لا بعينه المعبَّر عنه بصرف الوجود))(1)

قال بإطلاق وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو كفائي، ففي منهاج الصالحين له (قدس سره): ((لا يختص وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصنف من الناس دون صنف، بل يجب عند اجتماع الشرائط المذكورة على العلماء وغيرهم، والعدول والفساق، والسلطان والرعية، والأغنياء والفقراء))(2).

أقول: تقدم في فصل الشروط استنتاج عدم صحة ما ذكره المشهور من شروط الوجوب، وأن الوجوب مطلق على المكلفين، وأن ما ذكروه يمكن أن يكون شروطاً للواجب، فقوله (قدس سره): ((عند اجتماع الشرائط)) لا موضوع له.

(القسم الثاني) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الاجتماعيين:

وهذا له أنواع وبلحاظها تختلف الوسائل والآليات والجهة القائمة به:

ص: 523


1- محاضرات في أصول الفقه: المجلد 45 من موسوعة آثار السيد الخوئي، صفحة 240.
2- منهاج الصالحين: 1/352، المسألة (1272).

النوع الأول: ما يكون وظيفة المجتمع كله كوجوب تمكين الفقيه الجامع لشرائط القيادة وولاية أمر الأمة من إقامة شريعة الله تعالى وتطبيق الإسلام(1)، ومنها التعاون على البر والتقوى، وكالمشاركة في الانتخابات لاختيار القيادة الصالحة، وكالمشاركة في التظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات للمطالبة بحق معين أو الاعتراض على ظلم أو إلفات النظر لقضية معينة، وورد فيه قوله تعالى: «كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ» (آل عمران:110) وقوله تعالى: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ» (التوبة:71)، ومرسلة الطوسي والمفيد عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر والتقوى، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات وسُلِّط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء)(2).وفي رواية مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصة إذا عملت الخاصة بالمنكر سرّاً من غير أن تعلم العامة، فإذا عملت الخاصة بالمنكر جهاراً فلم تغيّر ذلك العامة استوجب الفريقان العقوبة من الله عز وجل)(3).

النوع الثاني: ما يكون وظيفة جماعة من الامة تتصف بقدرتها على العمل في هذه المساحة أو تلك وتقدم في البحث القرآني أن هذا النوع يمكن أن نحمل عليه قوله تعالى: «وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ».

ص: 524


1- وقد ذكره الفقهاء في نهاية كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعنوان تمكينه من إقامة الحدود وهو قابل للتجريد عن الخصوصية.
2- وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 1، ح18.
3- وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 4، ح1.

ومن أمثلته وظيفة التبليغ والوعظ والإرشاد والدعوة إلى الله تبارك وتعالى، أو التصدي للعمل السياسي للإصلاح والتغيير والمحاسبة والمراقبة، أو تشكيل المؤسسات الإعلامية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية ومنظمات المجتمع المدني ونحو ذلك، بحسب ما تتعرض له الأمة من احتياجات وتحديات.

وهذا النوع له حضور في الكتب الفقهية من خلال ما يسمى بمجلس أهل الخبرة الذين يشيرون إلى المجتهد الجامع لشرائط المرجعية ليقلده الناس، ومقتضى هذا الموقع اتساع صلاحياتهم ومسؤولياتهم ليكون لهم دور المراقبة والمحاسبة وتقييم العمل باستمرار، والفحص عن الأكفأ في كل مدة زمنية محددة، أو عند حصول احتمال لوجوده؛ لأن مسؤوليتهم ثابتة ابتداءً واستدامة كما هو واضح.

وهذا كله من المصاديق المهمة لوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتعلقها بالقيادة الدينية العامة للشيعة وحماية مذهب أهل البيت (عليهم السلام) والانطلاق بمشروع الإسلام العظيم، فالحوزة العلمية من اهم ساحات هذه الوظيفة المباركة ولا يجوز التعتيم على ما يجري فيها بحجج واهية يستخدمها البعض بانتقائية لصالحه فقط، قال الغزالي: ((أن يعلم أنه إن أنكر لم يلتفت إليه ولم يترك المنكر ونُظر إليه بعين الاستهزاء، وهذا هو الغالب في منكرات ترتكبها الفقهاء ومن زعم أنه من أهل الدين، فهاهنا يجوز السكوت))(1).

أقول: هذا تبرير غير مقبول فقد كان ائمة المسلمين يحاسبون أنفسهم أولاً قبل الناس ويدعون الأمة إلى مراقبتهم ومحاسبتهم، وكلمات ومواقف أمير المؤمنين (عليه السلام) مشهورة في هذا المجال(2).

ص: 525


1- الأربعين في اصول الدين: 54.
2- من عهد الإمام (عليه السلام) للأشتر النخعي لما ولاه مصر: (وإن ظنّت الرعيّة بك حيفاً فأصحر لهم بعذرك، واعدل عنك ظنونهم بإصحارك فإنّ في ذلك رياضة منك لنفسك و رفقاً برعيّتك و إعذاراً تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق) نهج البلاغة: ج3، الرسائل والعهود.

النوع الثالث: ما يكون واجباً سلطوياً أو حكومياً أي من مختصات السلطة الحاكمة والقوى النافذة؛ لحاجته إلى إقرار قوانين وقوة إجرائية تنفذها وتعاقب الخارج عليها كالقوانين المعتمدة في القضاء والمحاكم، أو تشكيل شرطة الآداب للمحافظة على البيئة الصالحة، ومنع المظاهر المنحرفة، وسائر الأمور الأخرى المتوقفة على السلطة والتمكين في الأرض المقصود بقوله تعالى: «الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ» (الحج : 41)، وقد تكون السلطة النافذة سياسية كالحكومات أو اجتماعية –كرؤساء العشائر الذين يضعون السنائن العشائرية وينظرون في النزاعات.

والنوعان الثاني والثالث يرجعان إلى الأول؛ لأن الأمة ككل مسؤولة عن إيجاد النوعين الثاني والثالث فهي التي توجد الجماعة الداعية إلى الخير والآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر وهي التي تنتخب السلطة الحاكمة.

وخلاصة الكلام أن القول في المسألة واحد وهو عموم الوجوب لكل أفراد الأمة، وهي مصدر كل الأنواع الأخرى، كما يقال في الدساتير الحديثة (الشعب مصدر السلطات) لكن طريقة الامتثال وتحصيل الواجب تختلف بحسب حال متعلقه كما شرحنا.

وهنا ملاحظتان:-

1- يتطلب توزيع هذه الأدوار والمسؤوليات في كثير من موارده الرجوع إلى الفقيه الجامع لشرائط القيادة لما في تجاوزه من اختلال النظام والوقوع في المهالك ولما ورد في العلماء أنهم في زمان الغيبة تكون (بيدهم مجاري

ص: 526

الأمور) وهم (حصون الإسلام) وهم (خلفاء الرسول) ومثل (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا)(1) ونحو ذلك.

2- إن هذا التنويع هو توزيع وتقسيم لموارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وليست خيارات متعددة أمام القائم بالفريضة حتى نفكر في الأسلوب الأفضل ونذكر نقاط القوة والضعف في كل منها للترجيح بينها كما حكاه البعض عن مصدر معاصر(2)، فالمورد هو الذي يحدد الآلية التي تناسبه.

إلى هنا ينتهي القسم الأول من الكتاب

ابتدأ طرح هذه المحاضرات يوم 4/رجب/1435 الموافق 4/5/2014 وانتهى في 20/شعبان /1436 الموافق 8/6/2015، وقد تخللتها محاضرات قرآنية وأخلاقية وفكرية، والفضل لله وحده.

ص: 527


1- راجع وسائل الشيعة: كتاب القضاء.
2- فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 214 عن كتاب بالفارسية للدكتور عبد الحسين رضائي راد.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.